حاجتنا إلى الصبر
لفضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط
إمام الحرم المكي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
أيّها المسلمون، دَيدنُ المؤمن الحقّ
وسِمَته التي يمتاز بها ونهجُه الذي لا يحيدُ عنه شكرٌ على النّعماء وصَبر على
الضراء، فلا بَطَرَ مع النعَم، ولا ضَجر مع البلاء، ولِمَ لا يكون كذلك وهو
يتلو كتابَ ربه الأعلى وفيه قوله سبحانه: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد
[إبراهيم:7]، وفيه قولُه عزّ اسمه: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10]، وقولُه سبحانه: واصبروا إن الله مع الصابرين [الأنفال:46]، إلى غير ذلك من الآياتِ الكثيرة
الدالّة على هذا المعنى.وبيَّن رسول الله جميلَ حال المؤمن في مقامِ الشكر
والصبر وكريمَ مآله، فقال: «عجبًا لأمرِ المؤمن، إنّ أمره كلَّه خير، وليس ذلك
لأحدٍ إلاّ للمؤمن، إن أصابَته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر
فكان خيرًا له» [أخرجه مسلم في صحيحه]، فالعَبد ما دام في دائرة التكليف فمناهج
الخير مُشرَعَةٌ بَين يديه، فإنّه متقلّبٌ بين نِعمةٍ وَجب شُكرُها ومُصيبة
وجَب الصبر عليها، وذلك لازمٌ له في كلِّ أشواط الحياة.
ولقد كان للسَّلف رضوان
الله عليهم أوفَرُ الحظّ وأروع الأمثال في الشّكر والصبر، ممَّا جعل منهم
نماذجَ يُقتَدَى بها ومناراتٍ يُستَضاء بها وغاياتٍ يُنتهَى إليها في هذا
البابِ، حيث كان لهم في صدرِ الإسلام وقفاتٌ أمام صولةِ الباطل وما نالهم منه
من أذى ونكال وما صبَّ عليهم هذا الباطل من عَذاب، فلم يزِدهم الأذى والنّكال
والعذاب إلا صبرًا وثباتًا على الحقّ وصمودًا وإصرارًا على مقارعةِ
المبطلين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشحَذ عزائِمَهم ويحفز هممَهم إلى لزومِ الجادّة
والاستمساك بالهدى وعدَم الحيدة عن صراطِ الله مهما اعترَض سبيلَهم من عوائق
ومهما نزلَت بهم المحن ونجمَتِ الخطوب، فلمّا سأل خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدّ عليه وعلى أصحابه الأذى، حين سألَه أن يدعوَ لهم
ويستنصرَ لهم، قال صلوات الله وسلامه عليه: «لقد كان من قَبلكم يؤخَذ الرجل
فيحفر له في الأرض حفرة، فيجعَل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضَع على رأسه فيجعَل
نصفين، ويمشَط بأمشاطِ الحديد ما دونَ لحمه وعَظمه، ما يصدّه ذلك عن دينه»
[أخرجه البخاري في صحيحه]
وأورثهم ذلك تمكينًا في الأرض وعزًّا وانتصارًا
تهاوَت معه عروش الأكاسرَة والقياصِرة تحت أقدامهم، فكانت لهم الحياة الطيّبةُ
التي كتَبها الله لهم كِفاءَ ثباتهم وصبرهم وشكرِهم على ما خوّلهم ربهم من
وافرِ النِّعَم وكريم الآلاء.
ثم خلف من بعدهم خلفٌ فَتّ في عضدهم صروفُ الدهر
ونوائب الأيام، ونالت من عزائِمهم وحادَت بهم عن الجادّة مضلاَّت الفِتن، فإذا
هم لا يعرَفون بشكر إزاءَ نِعمة، ولا بصبرٍ أمام محنةٍ، فهم داخلون فيمن وصف
سبحانه واقعَه بقوله: ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب
على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [الحج:11].
فترى منهم الذي يجوِّز على الله الظلمَ في حكمه
ويتَّهمه في عدلِه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لا حديثَ له في غير الاعتراض
على ربِّه أن أغنى فلانًا أو أفقرَ فلانًا أو رفَع هذا ووضَع ذاك، وربما قال:
لِمَ هذا يا ربّ؟! وكأنّه يتغافل أو يغفل عن قوله سبحانه: أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون
[الزخرف:32]، وعن قوله عز من قائل: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [الأنبياء:23].
وترى منهم من استولى عليه اليأسُ واستبدَّ به
القنوط، فحين تنزل به نازلة أو تؤرِّق ليلَه مشكلةٌ أو تثقل كاهِلَه ديونٌ أو
يصاب بخسارةٍ ماليّة في صفقة عقَدَها أو حكِمَ عليه بحكمٍ في قضية أو مُنِيَ
بفشل في حياته الزوجيّة أو فَقدَ حبيبا في سقوطِ طائرة أو غرق سفينة أو حادثِ
سَير فربما مضى مندفِعًا بقصدِ وضع حدٍّ لشقائِه في زعمِه ونهايةٍ لمتاعبه
وآلامه، ويتبعُ خطوات الشيطان، ويقَع فريسةً لتزيِينه وتسويله، ويقتل نفسَه،
ويتجرَّع كأس الموت بيده، إمّا بشنقٍ أو باحتساءِ سمٍّ أو بالتردّي من شاهق أو
بغير ذلك من الوسائل، ولا يكون من وراء ذلك إلا غضَب الله سبحانه وسخَطه وأليم
عقابه؛ إذ ظنَّ هذا أنّه بقتل نفسه يفضِي إلى عيش لا نغصَ فيه وحياةٍ لا كَدَر
فيها، لكن الله تعالى بمقتضى عدله وحكمته عامَله بنقيض مقصودِه، فأعدّ له
عقابًا من جنس عمله، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: «من قتل نفسَه بحديدة فحديدتُه في يده
يتوجّأ بها في بطنه في نار جهنّم خالدًا مخلّدا فيها أبدًا، ومن شرب سمًّا(/1)
وقَتل نفسَه فهو يتحسّاه في نار جهنم خالدًا مخلَّدا فيها أبدًا، ومن تردّى من
جبل فقَتل نفسَه فهو يتردّى في نار جهنّم خالدًا مخلَّدا فيها أبدا»، وقال عليه
الصلاة والسلام أيضًا: «كان فيمن كان قبلَكم رجلٌ به جُرحٌ فجزِع، فأخذ سكّينًا
فحزّ بها يدَه، فما رَقأ الدّم حتى مات، فقال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسِه،
حرّمتُ عليه الجنة». [أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما]
وإنه ـ يا عبادَ الله ـ
لوعيدٌ تقضّ له مضاجعُ أولي النهى وتهتزّ له أفئدة أولي الألبَاب، فأيُّ وعيدٍ
وأيّ حِرمان أعظم من هذا الوعيد وهذا الحرمان؟!
فاتّقوا الله عبادَ الله،
واقطعوا أشواطَ الحياة بإيمان راسخٍ ويقين ثابتٍ وتوكّل على ربّكم الأعلى
وتسليمٍ له وإنابةٍ إليه وتصدِيق بأن كلّ قضاءٍ يقضي الله به ففيه الخير لعبده
عاجلاً كان ذلك أو آجلا، فإنّه سبحانه أرحم بعبادِه من الأمّ بولدها، وأعلَمُ
بما ينفعُهم على الحقيقةِ ممّا يضرُّهم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم
والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:216].
واذكروا أنَّ من آياتِ الإيمان الصبرَ على البلاء والشكرَ على النعماء، وصدَق سبحانه إذ يقول:
ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم [التغابن:11].
جاء في تفسيرِها قولُ بعضِ السّلَف: "هو العبدُ تصيبه المصيبةُ
فيعلَم أنها من عند الله فيرضَى ويسلّم".
إنّه ـ يا عباد الله ـ معيارُ الإيمان
الصادِق الذي لا يتزلزَل واليقينِ الكامل الذي لا تُضَعضِعه صروف الدّهر
وفواجعُ الأيام.
فاتقوا الله عباد الله، واذكروا على الدَّوام أنَّ الله تعالى
قَد أمَركم بالصّلاةِ والسّلام على خير خلقِ الله محمد بن عبد الله، فقال
سبحانه في كتاب الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِىّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ
تَسْلِيماً << [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم علَى عَبدِك ورَسولِك محَمَّد،
وَارضَ اللَّهمَّ عَن أصحاب النبي أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين.(/2)
حادثة الإسراء والمعراج
...
عبد العظيم بدوي الخلفي
... ...
ملخص المادة العلمية
1- شرح الأحاديث والآيات الواردة في ذلك. 2- بيان الحكمة من هذه الآية العظيمة.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا نبأتهم، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي. فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلي. أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي. أشبه الناس به صاحبكم (يعني نفسه) فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد! هذا مالك صاحب النار فسلّم عليه، فالتفت إليه بعد فبدأني بالسلام )).
في هذا الحديث مفردات غريبة لابد من شرحها:
فالحجر: حجر إسماعيل ببيت الله الحرام بمكة المكرمة، وهو هناك معروف، وكان في أصله من البيت، فلما جدّدت قريش البيت وقل المال اقتصرت في البناء فبقى الحجر خارج البناء.
وقوله : ((لم أثبتها)) أي لم أحفظها، لانشغالي بما هو أهم منها، لأن النبي حين أسرى به إلى المسجد الأقصى ما أريد بهذا الإسراء أن يتفقد أحواله وبنيانه ومداخله ومخارجه حتى يسأل عنها، ولذلك لم يهتم بحفظ أوصاف بيت المقدس.
وقوله : ((فكربت كربة ما كربت مثله قط)) الضمير عائد على المعنى وهو الكرب والهم والغم، وليس عائدا على الكربة، لأن الضمير لو عاد على الكربة لقال: مثلها، ولكنه قال: ((مثله)).
وقوله في وصف موسى عليه السلام: ((فإذا رجل ضَربٌ)) يعني بين السمين والنحيف وقوله: ((جعد)) الجعد ضد السبط، والسبط الشعر المسترسل، وقوله: ((كأنه من رجال شنوءة)) شنوءة قبيلة معروفة بالطول.
وهكذا شبه النبي لأصحابه موسى وعيسى وإبراهيم بمن يعرفونهم حتى كأنهم ينظرون إليهم.
أما الإسراء فالمراد به تلك الرحلة العجيبة التي كانت من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى بيت المقدس بفلسطين، قال تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [الإسراء:1].
وهكذا مجّد الله نفسه ونزه ذاته عما لا يليق بجلاله سبحانه وتعالى من النقائص والمعايب، ومدح نفسه على قدرته على ما لا يقدر عليه غيره، فقال: سبحان الذي أسرى .
والإسراء هو السير ليلا، وإنما كان الإسراء ليلا لأن الليل هو وقت السر والنجوى، ووقت التجلي الأسمى، ولذلك كانت أكثر عبادته بالليل استجابة لأمر ربه، حيث قال له: يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قليلا [المزمل:1-6].
سبحان الذي أسرى بعبده والعبد يطلق على الإنسان عموما، والمملوك خصوصا، والمراد بالعبد المذكور خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد وفي إضافة العبد إلى ضمير الرب ما فيه من التكريم والتشريف، والتنبيه والتنويه، على جلالة قدره واختصاص ربه عز وجل به، وانقياده لأوامر ربه سبحانه وتعالى.
والعبودية لله عز وجل شرف عظيم، ومرتبة عالية، وأكمل الخلق أكملهم عبودية، وأشرفهم قدرا أكثرهم اجتهادا في تعبيد نفسه لله عز وجل، ولذلك كان النبي أكمل الخلق وأشرفهم وأفضلهم، وأرفعهم عند الله منزلة، وأقربهم إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاها، لأنه بلغ القمة العليا في العبودية لله رب العالمين.
ولقد وصفه الله تعالى بها في مقامات التشريف كلها:
فقال سبحان الله في مقام التنزيل: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [الكهف:1].
وقال في مقام الدعوة: وأنه لما قام عبد الله يدعوه [الجن:19].
وقال في مقام التحدي: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا [البقرة:23].
وقال في مقام الإسراء: سبحان الذي أسرى بعبده [الإسراء:1].
ومع ذلك فقد كان سيد المتواضعين، وكان ينهى عن إطرائه ويحذر من الغلو فيه، خوفا من أن يخرجوه من مرتبة العبودية إلى مرتبة الربوبية التي لا تنبغي إلا لله عز وجل، فكان يقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)).
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام والمراد مسجد مكة، بيت الله الحرام، سمى الله تعالى المسجد حراما باسم البلد الحرام، لأنه لا يجوز أن تنتهك حرمته لا بقتال، ولا بصيد صيد، ولا بقطع شجر، ولا كلأ: من المسجد الحرام بمكة: إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس.
والأقصى هو الأبعد، سمي مسجد بيت المقدس بالأقصى لبعده عن مسجد مكة: الذي باركنا حوله فجوانبه كلها مباركة، وكل ما حوله مبارك، وكل أرض وصفت بالبركة في القرآن الكريم فالمراد بها الأرض المذكورة.
هنا في قوله تعالى: الذي باركنا حوله .(/1)
قال تعالى: ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها [الأنبياء:81].
وقال تعالى: ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيه [الأنبياء:71].
وقال تعالى: وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها [سبأ:18].
ثم ذكرت الآية الكريمة الحكمة من الإسراء، فقال سبحانه: لنريه من آياتنا الحسية بعد ما رأى من آياتنا العقلية، وهذه سنة الله في الأنبياء، قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض [الأنعام:75].
وقال سبحانه في حق موسى عليه السلام: لنريك من آياتنا الكبرى [طه:23].
وقد ذكر الله تعالى الحكمة من هذه السنة في قوله في حق إبراهيم عليه السلام: وليكون من الموقنين [الأنعام:75].
وذلك أن الأنبياء عليهم السلام عندما يرون من آيات الله ما يطلعهم الله عليه يحصل لهم من عين اليقين ما يجعلهم يصبرون على كل ما يلاقون في سبيل الله عز وجل، ويتحملون بسبب ما رأوا ما لا يستطيع غيرهم أن يتحمله من المشاق والصعاب، وإذا دال عليهم أعداءهم بالمحن والعذاب لم يعبؤا بهم ولم يهتموا، فهم لما رأوا من آيات الله الكبرى عندهم من اليقين العظيم ما يجعلهم يرون قوة الدنيا بأجمعها كأنها جناح بعوضة.
ولقد رأى النبي من آيات ربه في هذه الرحلة ما رأى: لقد عُرض عليه إناء من خمر وإناء من لبن، فاختار اللبن، فقال جبريل عليه السلام: اخترت الفطرة. أما إنك لو أخذت الخمر لغوت أمتك.
ولقد رأى عليه الصلاة والسلام الجنة والنار، ورأى مالكا خازن النار ورأى الذي يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم لهم أظافر من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم.
ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة، لا يستطيعون التحول عن أماكنهم من ثقلها وكبرها، وآل فرعون يمرون عليهم كلما عرضوا على النار صباح مساء فيطأونهم بأقدامهم.
ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب، وإلى جواره لحم خبيث منتن، فيتركون السمين الطيب ويأكلون من الخبيث المنتن.
ورأى جزاء أعمال الصالحين وجزاء أعمال الفاسقين.
(إنه) سبحانه (هو السميع) لأقوال عباده، لا يخفى عليه شيء من الأصوات وقت الاجتماعات، على اختلاف اللغات واللهجات.
(البصير) بأحوالهم: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [يونس:61].
وبعد: فهذا هو حديث القرآن عن الإسراء: من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وقد تلت هذه الرحلة رحلة أخرى إلى السماء وهي المعروفة بالمعراج، وقد تحدث عنها القرآن الكريم أيضا في قول الله عز وجل: ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى [النجم:13-15].
يعني: ولقد رأى النبي جبريل على أصل خلقته الملائكية مرة أخرى بعد المرة الأولى التي كانت في مكة قبل أجياد، وذلك أن النبي اشتاق إلى رؤية جبريل على أصل خلقته الملائكية، فبدا له في الأفق بمكة قبل أجياد له ستمائة جناح قد سد بها الأفق، وإلى هذه المرة الأولى أشار ربنا سبحانه بقوله: ولقد رآه بالأفق المبين [التكوير:23].
فكانت هذه هي المرة الأولى: ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى في السماء السابعة: عندها جنة المأوى فهي إذن صريحة في العروج به إلى السماء.(/2)
ولقد تواترت الأحاديث عن مجموعة من الصحابة وهم ينقلون عن النبي خبر الإسراء والمعراج، ومن هذه الأحاديث حديث أنس قال: قال النبي: ((أتيت بالبراق (وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه) فركبته حتى أتيت بيت المقدس. فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل عليه السلام: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا صلوات الله عليهما، فرحبا ودعوا لي بخير، ثم عرج بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد ، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإدريس، فرحب بي ودعا لي بخير، قال الله عز وجل: ورفعناه مكانا عليا . ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بي إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد ، قيل: وقد بعث إليه. قال: قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، قال: لما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسناها، فأوحى الله إلي ما أوحى.
ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى ، فقال: ما فرض ربك على أمتك، قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك. فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. قال: فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب! خفف على أمتي، فحط عني خمسا، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمسا، قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك. فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال: يا محمد! إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة. ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا. فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله . فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه)).
وبعد: فقد أصبح النبي بين أهل مكة، فجلس كما كان يجلس في الحجر، فمر عليه أبو جهل فقال: ما عندك يا محمد؟ فقال : ((لقد أسري بي الليلة إلى المسجد الأقصى، قال: وأصبحت بيننا؟! قال: نعم، قال: لو دعوت لك قريشا تخبرهم بما أخبرتني به؟ قال: نعم، فنادى أبو جهل في الناس فاجتمعوا، فقال : لقد أسرى بي الليلة إلى المسجد الأقصى، قالوا: وأصبحت بيننا؟ قال: نعم، فارتد أناس، وأخذوا يضربون على رؤوسهم تعجبا. ثم قالوا: يا محمد! لقد جئنا بيت المقدس وخبرناه، فهل تستطيع إذا سألناك عنه أن تجيبنا؟ قال: نعم، فجعلوا يسألونه فيجيبهم، فسألوه عن أشياء لم يثبتها، فكرب كربة شديدة، ما كرب مثلها قط، وإذا برب العزة سبحانه الذي يقول للشيء كن فيكون، يرفع المسجد الأقصى، ويجعل النبي ينظر إليه، فجعل ينظر إلى المسجد الأقصى بعينيه، ويسألونه فيجيبهم، فقالوا: أما الوصف فقد صدقك، وأما الخبر فقد كذّب: وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذّبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنبياء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر [القمر:2-5]))
نعوذ بالله من الخذلان.
وبعد:
فلقد كان في الإسراء والمعراج حكم وأسرار: فمنها: أن الإسراء بالنبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى قبل المعراج فيه إشارة إلى أن النبي سيرث قيادة الأمة، وسترث أمته هذه البلاد، ذلك أن المسجد الأقصى كان بيد بني إسرائيل قبل أن يبعث النبي ، حتى إذا حرّفوا وغيّروا وبدّلوا لم يعودوا يصلحون للقيادة فأسري بالنبي إلى المسجد الأقصى تبشيرا له بأن قيادة هذا البيت ستنتقل إليه، وأن هذه الأرض سترثها أمته.(/3)
ومنها: أن النبي عرج به إلى السماوات العلى، فرفعه الله تعالى مكانا عليا فوق جميع البشر، وكأن الله تبارك وتعالى يريد أن يقول: يا نبينا انظر كيف رفعتك فوقهم، فوعزتي وجلالي لأرفعن كلمتك فوق كلمتهم ولأظهرن دينك فوق دينهم.
ومنها: أن النبي رأى في الجنة نهرين ظاهرين، ونهرين باطنين، فسأل عنهما، فقيل: أما الظاهران فالنيل والفرات، ومعنى ذلك أن أصل النيل والفرات من الجنة، وفي هذه الرؤية تبشير له بأن أمته سترث أرض هذان النهرين أرض النيل وأرض الفرات. وفيها أيضا بشارة لأهل هذه النهرين أنهم سيكونون حملة الدعوة وحملة الدين، والمجاهدين في سبيل الله عز وجل.
ومنها: أن في صلاته بالأنبياء جميعا إشارة إلى أنهم وهم في عالم البرزخ قد اقتدوا به، وائتموا به، فلو كانوا أحياء في الدنيا لاتبعوه، وذلك أن الله تعالى قد أخذ من النبيين جميعا العهد والميثاق لئن جاء محمد وهم أحياء ليؤمنن به وليتبعنه، فأعطوا الله عز وجل على ذلك عهودهم ومواثيقهم، وكأن الأنبياء عليهم السلام بصلاتهم خلف النبي يريدون أن يقولوا لمن لم يتبعه من اليهود والنصارى وغيرهم: لو كنا أحياء لاتبعناه، فما بالكم لا تتبعونه وهو بين أظهركم، والجواب معروف: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزّل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين [البقرة:89-90].(/4)
حافظوا على الصلوات
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الصلاة وغسل الذنوب. 2- رفع الدرجات في المحافظة على الصلاة. 3- محافظة رسول الله وأصحابه على الصلاة. 4- حكم تارك الصلاة. 5-الأحكام المترتبة على كفر تارك الصلاة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيقول الله سبحانه وتعالى: حَافِظُواْ عَلَى الصلاتِ والصلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]. الصلاة عمود الدين، ومفتاح الجنة وخير الأعمال، وقد ذكرت في نحو مائة آية في القرآن وفي السنة عشرات الأحاديث النبوية التي تأمر بالصلاة وتحث عليها وتحذر أشد التحذير من تركها أو التهاون بها. وهي وصية الله وأمره للنبيين والمرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين، قال إبراهيم عليه السلام: رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصلاةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]. وكان إسماعيل عليه السلام يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا، وقال عيسى عليه السلام: وَأَوْصَانِى بِالصلاةِ وَالزكاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [مريم:31]. وأمر الله محمداً بقوله: أَقِمِ الصلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا [الإسراء:78-79].
وقال له: وَأَقِمِ الصلاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ [هود:114]. إلى غير ذلك من الآيات التي تبين أهمية الصلاة.
وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة قال رسول الله : ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله)) [صحيح الجامع].
وهي صلة بين العبد وربه، ينقطع فيها الإنسان عن مشاغل الدنيا، ويتجه بها إلى ربه، يطلب منه الهداية والعون والرشاد.
وقد جعل الله لها أوقاتاً مكتوبة فقال: إِنَّ الصلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً [النساء:103].
فأمرهم بإقامتها حين يمسون وحين يصبحون وحين يُظهرون وقدرها خمس مرات في اليوم والليلة لتكون فرصة للمسلم يتطهر بها من غفلات قلبه وكثرة خطاياه وقد مثَّل هذا المعنى في قوله: ((مثل الصلوات المكتوبات كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات)) [الإحسان: 1725].
لهذا في الصلوات الخمس فرصة عظيمة كي يثوب فيها المخطئ إلى رشده، ويرجع الإنسان إلى ربه، ويطفئ هذا اللهيب الذي يشتعل فيه نتيجة لانغماسه في الشهوات والملذات، وقد قال رسول الله في ذلك: ((إن لله ملكاً ينادي عند كل صلاة فيقول: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها)).
وفعلاً فالشهوات والملذات والمعاصي نار موقدة تشعل القلوب والعقول، والصلاة بالنسبة لها هي مضخة الإطفاء التي تخمد هذه النار وتطفئها، وهذا واضح تماماً في قوله : ((تحترقون تحترقون فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا، بل إن أمر الصلاة أعظم))، يقول: : ((إن العبد إذا قام يصلي أُتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقيه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه)).
والصلاة سبب في رفع منزلة المسلم في الجنة لقوله لأحد الصحابة أكثر من السجود فإنه ليس من مسلم يسجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله بها درجة في الجنة، وحط بها خطيئة، والصلاة هي الباب الذي تبث فيه شكواك وهمك إذا أحاطت بك الخطوب، فخانك الصديق وانقلب الحبيب عدواً، وعقك الولد، وأنكرتْ جميلَك الزوجةُ، فمَالِك الأمر هو الله، فإذا ضاقت عليك الدنيا فقل:يا الله، وإذا ادلهمت الخطوب فقل يا الله وإذا مرضت فقل يا الله، لذا كان رسول الله إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة وقال، أقم الصلاة يا بلال لكي نرتاح.
وهي أمانة عندك إذا حفظتها حفظك الله وإذا ضيعتها ضيعك الله، ورد أن أعرابياً جاء المدينة وهو يركب ناقته فلما وصل المسجد ربط الناقة ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار والتعظيم لله سبحانه فلما خرج لم يجد ناقته فرفع يده وقال: اللهم إني أديت إليك أمانتك فاردد إلي أمانتي فجاءته الناقة تسعى إليه.
وللأهمية العظمى للصلاة، أنه عندما أراد الله فرضها لم يرسل ذلك مع جبريل عليه السلام ككل الفرائض الأخرى، ولكنه أخذ محمداً إلى السموات العلى وخاطبه سبحانه، وفرض عليه الصلوات هناك، كما في الإسراء والمعراج.(/1)
لذا لا تستغرب أبداً العقاب الشديد الذي توعد الله به تارك الصلاة أو المتهاون فيها كقوله عن أهل النار أنهم يُسئلون ما سلكم في سقر فيجيبون: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ [المزمل:43]. وقال سبحانه: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ [الماعون:4]. وهم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها. وقال رسول الله : ((من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة إلى يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)). يقول ابن القيم معلقاً على هذا الحديث: إن في هذا الحديث معجزة نبوية تدل على كرامة رسولنا محمد، فتارك الصلاة إما يشغله عنها ماله، أو ملكه أو رياسته أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رياسته فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف، بل إن النبي قال: ((لا تترك الصلاة متعمداً فإنه من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ورسوله)) [الترغيب/813].
وقال: ((من ترك الصلاة لقي الله وهو عليه غضبان)) [الترغيب/803].
وإذا غضب الله على إنسان فمن ذا الذي يرضى عنه بعد ذلك.
لذا كان نبينا يهتم بالصلاة وإقامتها والحث عليها اهتماماً عظيماً حتى أن آخر كلمة قالها قبل الانتقال إلى الرفيق الأعلى آخر كلمة أنه أوصى المسلمين بالصلاة وقال : ((الصلاة الصلاة)). وكذلكم كان صحابته رضوان الله عليهم مع أنفسهم ومع أهليهم فقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إذا صلى من الليل ما شاء الله له، أيقظ أهله آخر الليل، يقول لهم: (الصلاة الصلاة، ثم يتلو هذه الآية: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]. بل إنه عندما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي - لعنه الله - وأغمي عليه وأراد الصحابة أن يوقظوه قال أحدهم: أيقظوه بالصلاة فإنكم لن توقظوه بشيء إلا الصلاة فقالوا الصلاة الصلاة يا أمير المؤمنين: فإذا به يستيقظ ويقول: الصلاة الصلاة لاحظ للإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وإن جرحه لينزف دماً.
أيها الأخوة: مع كل هذا الاهتمام بالصلاة في الإسلام إلا أن نظرة إلى الواقع تكشف لنا الحال الذي لا يبشر بالخير أبداً، فمن الناس من يترك الصلاة إهمالاً لها، وقد يكون احتقاراً لها، وبخاصة بين صغار السن والشباب من الجنسين، وبعضهم صارت الصلاة لديه ألعوبة يؤديها وقتما يشاء ويتركها متى يشاء، فلا يصلي إلا من جمعة إلى جمعة، وهناك من الكبار من لا يصلي فهل تصدقون ذلك، هناك من الشباب والأولاد من يلعبون الكرة حتى في أوقات الصلاة.
ومنهم من يتجول في سيارته حتى انتهاء الصلاة، أو يقضي الوقت عند هواتف العملة، ومنهم من إذا سمع الأذان دخل بيته أو دكانه وأقفل على نفسه وهو لا يدري أن الله قادر على أن يهدم عليه الجدران والأسقف التي يختبئ فيها، إنهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم.
ومنهم من تصل بهم الجرأة إلى أن يجلس على الأرصفة في الشوارع جهاراً نهاراً في أوقات الصلاة وكأنه ليس بمسلم، وكأنه ليس في بلد إسلامي - سبحان الله - الله أكبر تجلجل في الآذان وهم في اللعب لاهون، وفي الطرقات يتسكعون وفي المنازل نائمون أو مختبئون، ترى لمن يقول المؤذن حي على الصلاة؟ لمن يقول المؤذن حي على الفلاح؟ لمن؟
يا ناس ماذا في الصلاة يجعلكم لا تلبون النداء؟ ماذا في الصلاة من ضرر؟ ماذا في الصلاة من مشقة؟ كم تأخذ هذه الصلاة من أوقاتهم الطويلة جداً، إنها لا تأخذ أكثر من ساعة في الأوقات الخمس.
أثقيلة عليهم هذه الساعة - سبحان الله – ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6-7]. الحقيقة أن طبائع بعض الناس دناءة غريبة لأنهم يستسهلون أخذ النعمة؟ ثم يستثقلون تقديم الشكر، يدبرون من الله أن ينعم عليهم بالمال والصحة والأمن ولكنهم ليسوا مستعدين لأن يشكروه على هذه النعم بأداء الصلاة والمحافظة عليها، لذا يقول سبحانه في هؤلاء وأمثالهم: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59]. قال سعيد بن المسيب عن غي هو واد في جهنم بعيد قعره، خبيث طعمه، شديد عقابه، لمن؟ للذين تركوا الصلاة وتهاونوا بها. فاتقوا الله عباد الله في أمور دينكم عامة وفي صلاتكم خاصة بأن من تركها ترك الدين.
الخطبة الثانية
أما بعد:
إن من أهمية الصلاة في الإسلام أن لا عذر في تركها لأحد من الناس أبداً، لا عذر سواء في السلم أو في الحرب، في الصحة أو في المرض، فمن لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً، أو على جنب أو بالإشارة أو على أي حال كما قال ونكرر ليس هناك عذراً أبداً لترك الصلاة أبداً، لا عذر إلا عذرين أولهما الجنون وثانيهما دم الحيض والنفاس للمرأة.(/2)
بل إن الحكم الشرعي في تارك الصلاة أنه كافر لماذا؟ لأن الله يقول عن الكفار: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَءاتَوُاْ الزكاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]. وقال: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَءاتَوُاْ الزكاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ [التوبة:11]. وقال رسول الله : ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة))، وقال : ((بين الكفر والإيمان ترك الصلاة))، ((بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك))، وقال : ((عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام، من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم - شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة وصوم رمضان)).
وقال علي بن أبي طالب: (من لم يصل فهو كافر)، وقال ابن عباس: (من ترك الصلاة فقد كفر)، وقال ابن مسعود: (من ترك الصلاة فلا دين له)، وعن جابر بن عبد الله قال: (من لم يصل فهو كافر)، وعن أبي الدرداء قال: (لا إيمان لمن لا صلاة له)، وقال إسحاق: (صح عن النبي أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر). وعن حماد بن زيد عن أيوب: (ترك الصلاة كفر لا نختلف فيه)، وعن عبد الله: (كان أصحاب محمد لا يعرفون شيئاً من الإعمال تركه كفر غير الصلاة) فماذا بعد ذلك كله؟
يقول الشيخ ابن عثيمين: وأما أقوال الصحابة، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: (لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة)، وعن عبد الله بن شفيق قال: (كان أصحاب رسول الله لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة)، وإذا تبين أن تارك الصلاة كافر فإنه يترتب عليه أحكام، منها:
أولاً: أنه لا يصح أن يزوج فإن عقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل، ولا تحل له الزوجة لقوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10]. وأنه إذا ترك الصلاة بعد أن عقد له فإن نكاحه ينفسخ ولا تحل له الزوجة.
ثانياً: أن هذا الرجل الذي لا يصلي إذا زُوِّج لا تؤكل ذبيحته لماذا؟ لأنه كافر لا تحل ذبيحته. ولو ذبح يهودي أو نصراني فذبيحته يحل لنا أن نأكلها، فتكون - والعياذ بالله - ذبيحته أخبث من ذبح اليهود والنصارى فإن ذبيحتهم تحلُّ، وذبيحتهم لا تحل.
ثالثاً: لا يحل له دخول مكة المكرمة أو حدود حرمها لقوله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا [التوبة:28].
رابعاً: إنه لو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث فلو مات رجل وله ولد لا يصلي، وله ابن عم بعيد يصلي. فمن يرثه؟ يرثه ابن عمه البعيد لقوله لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.
خامساً: إنه إذا مات لا يُغسَّل ولا يُكفَّن ولا يُصلَّي عليه، ولا يُدفن مع المسلم فماذا نصنع به؟ نخرج به إلى الصحراء ونحفز له وندفنه لأنه لا حرمة له، وعلى هذا فلا يحل لأحد مات عنده ميِّت، وهو يعلم أنه لا يصلي أن يقدمه للمسلمين يصلون عليه.
سادساً: إنه يحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، أئمة الكفر، ولا يدخل الجنة ولا يحل لأحد من أهله أن يدعو له بالرحمة والمغفرة، لأنه كافر. انتهى كلام الشيخ.
ومنه يتضح لنا أيها الأخوة أن الأمر خطير جداً جداً، وأنتم الآن سمعتم هذا الكلام وهو حجة على الجميع فمن كان مفرط أو متهاوناً بالصلاة فليستغفر الله، وليتب إليه، ويبدأ حياة جديدة أساسها المحافظة على الصلوات الخمس في الجماعة.ثم لأنكم الآن قد سمعتم هذا الكلام فعليكم أن تبلغوه لأهليكم وأولادكم وأقاربكم ولكل من تعرفونه من الذي يتركون الصلاة أو يتهاونون بها لأنكم ستسألون عن هذا أمام الله يوم القيامة في ذلك اليوم العظيم. وللعلم بأن موضوع الصلاة لم ينته بعد وسيكون لنا معه موقف آخر الجمعة القادمة إن شاء الله.
وفقنا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه.(/3)
حال السلف مع القرآن
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
الناظر إلى أحوال أمة الإسلام يرى كثيراً من البشائر ، ويلمح عدداً من المبشرات .. من أوبة صادقة إلى الإيمان ، ورجعة حقيقية إلى الإسلام ، ولهج بذكر الله - سبحانه وتعالى - إلى غير ذلك من صور عديدة ، غير أن ذلك أيضاً لا يجعلنا نظن أن كل أسباب القوة قد حصلت ، وأن جميع صور العودة والرجعة الصادقة قد تحققت ؛ فإن في الأمة ضعفاً ظاهراً ، وإن في صفوفها خللاً بيّناً ، وإن هناك عديدٌ وعديد من الأسباب والصور التي لا تتفق مع ما ينبغي أن تكون عليه الأمة .
وقد أسلفنا فيما مضى شيئاً من الحديث الذي ربط الماضي بالحاضر ؛ لنكتشف من وهج الماضي وضياءه بعض ظلمة الحاضر ، ولنرى فيما مضى ما يصلح بإذن الله - عز وجل - ما نحن فيه .
ولعلنا نتساءل كما تساءل إخواننا : أين الطريق ؟ وما هو الحل ؟ وكيف يكون الإصلاح وبعث الأمة من جديد وعودتها إلى سالف مجدها ؟ ولعل الجواب يضرنا جميعاً وهي كلمات قليلة يسيرة ألفناها وسمعناها كثيراً حتى صرنا كأننا لا نقنع بها ، ونطلب غيرها أو نظنها شيءٌ يقال لتهدئة الخواطر ، أو لدغدغة العواطف لا أقل ولا أكثر ، ونحن كلنا نقول : إن الحل والبعث والعودة والنهضة في الرجعة إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - : ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي ) .
لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، وهذا الكلام لو زدت فيه ما زدت ؛ فإنه محفوظٌ عندكم بهذه الألفاظ مكرور عندما يأتي هذا السؤال ولكننا نريد أن نقف وقفات نهدف منها إلى شيءٍ من الوضوح والصراحة ، وإلى بعض من التنقيب والتنقير عن وجوه الخلل والنقص ؛ فإن القرآن كما هو بين أيدينا ما تغير منه لفظٌ واحد ، ولا حرف واحد ، ولا حركة واحدة ، وإن سنة محمد – صلى الله عليه وسلم - بين أيدينا ترسم لنا من حياته ما يجعلنا كأننا نراه رأي العين وكأننا نبصره – صلى الله عليه وسلم - في غدوه ورواحه ، وسلمه وحربه ، وفي بيته ومع أصحابه ، كأننا نعيش معه - عليه الصلاة والسلام - بل ربما قد تهيأ للأمة اليوم من انتشار القرآن كتابةً وسماعاً ، وكذلك السنّة ما لم يتهيأ لها في ظروف سابقة ، وتواريخ ماضية .
ونهدف أيضاً إلى أن نحرّك العواطف والمشاعر ، وإلى أن نحاول أن نغزو القلوب والنفوس ؛ لينبعث فيها ذلك الشعور الذي انبعث في صحب النبي – صلى الله عليه وسلم - وسرى في أوصال الأمة وجرى مع الدماء في العروق فغيّر كل شيء في هذه الحياة ؛ لأنه غيّر كل شيء في تلك النفوس : { إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } .
ونهدف كذلك أيضاً إلى مخاطبة العقل الذي ربما ألمّ به في عصرنا الحاضر من الشبهات ما جعله في بعض الحيرة والتردد ومن إكثار القول من أهل الباطل حتى تشكك الناس في الحق الذي بين أيديهم ، وربما التمسوا لهذا التشكك حينئذٍ أبواباً يبحثون فيها أو من خلالها عن حلول أخرى ،وعن سبل أخرى غير ما جاء في كتاب الله ، وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فلم يكون ثمّة جديد إلا أن نقول : إن الحل والنهضة والعودة بالكتاب والسنة وإلا أن نقول : بأن قوة الأمة ووحدتها وعزتها لا تكون إلا بما كانت عليه هذه الصور والمظاهر كلها عبر تاريخ الأمة .
ولنا وقفات مع القرآن الكريم ، ومن بعدها وقفات أخرى مع سنة الرسول – صلى الله عليه وسلم - .
نحن نريد أولاً أن نقف مع القرآن في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم -- والرعيل الأول ؛ لننظر إلى الصورة المؤثرة المغيِّرة التي جاء بها القرآن ، فغيّر وجه الأرض ، وغيّر القلوب والنفوس ، وغيّر الأفكار والعقول ، وغيّر الألفاظ والكلمات ، وغيّر مع ذلك الأفعال والسلوكيات ، فكان له الأثر الأعظم الذي كان هو القائد والموجه ، ليس للفرد وحده ، ولا للأسرة وحدها ، ولا للمجتمع لوحده وإنما كان الموجه للأمة في مجموعها ، في كل شأن من شؤونها صغيراً كان أو كبيراً .
ثم سننتقل إلى ما بعد ذلك - بمشيئة الله تعالى - ، فلننظر إلى حال الأمة العربية التي نزل فيها هذا القرآن كيف كانت عقولاً سخيفة ، وأفكاراً ضالة ، ومناهج منحرفة ، كان ضلال العقل فيها يتجسد في كل صغيرة وكبيرة من مناحيها ، أليست كانت تسجد للأصنام من حجرٍ وهي التي صنعتها ؟ أليست كانت تسجد للأصنام من تمرٍ وهي من بعد تأكلها ؟ أليست كانت ترى أن لإنسانٍ على إنسان شرفاً وفخراً بلون أو بحسب أو بمال أو بجاه ؟ أليست .. أليست .. إلى غير ذلك من صور كثيرة .(/1)
لننظر أيضاً إلى هذه الأمة ، كيف كانت مِزقاً ممزعة وأشلاءً مقطعة ، وكيف كانت حروباً متناحرة ، وكيف كانت أفئدة متباغضة ؟ وكيف كانت أنفساً متباعدة ؟ كيف كان لا يربط بين الفرد والفرد شيءٌ إلا مصلحة أو عصبية ، ثم لننظر أيضاً إلى ما كان فيها من سفاسف الأخلاق والفجور والخنا وشر الخمور وغير ذلك من كل ما نحن ملمّون به وعارفون بكثيرٍ منه .
ثم ما الذي غيّر ذلك كله ، لم يتغير في حال الأمة ، أو في حال العرب في ذلك الوقت شيءٌ إلا بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم - وتنزل الوحي الكريم عليه - عليه الصلاة والسلام - في غار حراء .. { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم ، الذي علّم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } .
أول نورٍ نزل من السماء لينشر الضياء ، ويبدد الظلمة وأول هداية نزلت لتلغي الضلالة ، ولترشد إلى الحق وإلى الطريق المستقيم ، هذا هو التغير الوحيد ، وهو الذي يفسر به كل ما تحول به كل العرب من ضعف إلى قوة ، ومن فرقةٍ إلى وحدة ومن ذلةٍ إلى عزة ، ومن سفاسف الأخلاق إلى مكارمها ، ومن مساوئ الأفعال إلى محاسنها ، إلى غير ذلك مما تغيّر به وجه الأرض .
ولننظر إلى ما نحن نريد أن نصوّره ونجسّده في ربط الأمة بالقرآن .. بهدي الرسول – صلى الله عليه وسلم - كيف ربطها به ؟، وكيف تحقق ذلك حيّاً في واقعها هو القائل - عليه الصلاة والسلام - : ( خيركم من تعلّم القرآن وعلمه ) .
فجعل الشرف الأعظم والخيرية الكبرى ، وكل تقدم وعلو ورفعة في هذه الأمة مقياسه مرتبط بالقرآن الكريم .. مقياسه مرتبط بكتابه - عز وجل - ليكون هذا الكتاب وهذا القرآن هو محور الحياة ، وجوهر التقويم والرفعة والضعة في هذه الأمة ، ولكي يُلغي حينئذٍ كل اعتبار من حسب أو نسب أو جاه أو مال أو قوة أو سلطان إلى غير ذلك مهما تنوع .. ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) .
ثم يجعل النبي – صلى الله عليه وسلم - خير الدنيا أو منزلة الدنيا العظيمة ومنزلة الآخرة العظيمة مرتبطٌ بكتاب الله - سبحانه وتعالى - . فها هو - عليه الصلاة والسلام - يقول : ( يقال لقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وارق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها من كتاب الله ) .
وهاهو – صلى الله عليه وسلم - يبيّن أن القرآن يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ، وهاهو من بعد يكشف لنا ما علمه لأصحابه فاتخذوه منهجاً ، فهذا عمر الفاروق - رضي الله عنه - يلتقي أمير مكة في موسم الحج فيقول : من خلفت على أهل مكة ؟ فيقول : خلفت عليهم ابن أبزى ،فيقول الفاروق - رضي الله عنه - : ومن ابن أبزى هذا ؟ فيقول :مولىً من موالينا ، فيقول :خلفت عليهم مولى من الموالي !! -كأنه ما استحسن صنيعه - فجاءه حينئذٍ أمير مكة بالمؤهلات العظيمة التي كانت لهذا الرجل حتى يُولي أمر الأمة ، ويكون مسؤولاً عن مصالحها نيابة عنه . قال : يا أمير المؤمنين إنه قارئٌ لكتاب الله " شهاداته العليا وخبراته العظمى مرتبطة بالقرآن الكريم حفظاً له ، وفهماً لمعانيه .. تدبراً في آياته .. تطبيقاً لأحكامه .. خوفاً من وعده وتعلقاً بوعيده " فينطق عمر - رضي الله عنه - بقول النبي – صلى الله عليه وسلم - يدّوي في سمع الزمان ، وينبّه الأمة إلى كل خلل أو نقص في هذا الميزان : أما إني سمعت رسولكم – صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين ) .
وهكذا نجد أن الربط بالقرآن في كل شيء . فأعظم وأجّل وأكبر مهمّة في الإسلام في أعظم فريضة من فرائضه بعد التوحيد وهي الصلاة ، جعل التقدم فيها والإمامة لها مرتبطٌ استحقاقها بكتاب الله - عز وجل - : ( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله ؛ فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ؛ فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم سلماً ؛ فإن كانوا في السِلم سواء فأقدمهم هجرة ؛ فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سناً ) .
انظر المراتب كيف تكون ؟ والمقاييس كيف تؤصل كما جاءت في سنة النبي – صلى الله عليه وسلم - .
ومن هنا قال أنس - رضي الله عنه -كما في صحيح ابن حبان : " كان الرجل منا إذا حفظ البقرة وآل عمران جدّ في أعيننا " . أي عظمت منزلته ، وارتفعت مكانته ، وصار يُشار إليه بالبنان ، وينظر إليه الناس نظرة التقدير والاحترام .
ومن هنا ورد في الموطأ أيضاً عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه حفظ البقرة في ثمان سنوات ، حفظ معرفة وتفسير وأحكام وفقه وتطبيق على ما كان من منهج السابقين ،كما قال عبد الرحمن السُلمي : " كان الذين يقرئوننا القرآن من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لا يتجاوزون بنا العشر من الآيات حتى نتعلم ما فيها من العلم والعمل فتعلمنا العلم والعمل جميعاً " .
هنا يظهر الفرق ، وهنا تتجسد الموازيين المختلفة التي تغيرت في حال الأمة عما كانت عليه في عهد الصحابة - رضوان الله عليهم - .(/2)
ويجعل النبي – صلى الله عليه وسلم - القرآن في صميم الحياة ، عندما يبيّن أن له قيمته الحقيقية الواقعية في كل شأن من شؤون الحياة ، ولعل مثلاً نضربه في شأن الحياة الاجتماعية وقع في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( أن امرأة جاءت تهب نفسها للنبي – صلى الله عليه وسلم- ليتزوجها ، ولم يكن له - عليه الصلاة والسلام - بها حاجة فسكت ،وبقيت المرأة واقفة ، وكان الموقف محرجاً ، فقال رجل : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ، فكان مخرجاً من هذا الموقف المحرج ، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم - : التمس شيئاً - أي ليكون مهراً - فقال يا رسول الله : لا أجد شيئاً ، قال : التمس ولو خاتماً من حديد ، فذهب وقال : ولا أجد ولا خاتماً من حديد ، فقال - عليه الصلاة والسلام - بعد أن ولّى الرجل : ردّوه عليّ ، ثم قال له هل معك شيءٌ من القرآن ؟ قال : نعم معي سورة كذا وكذا ، قال : اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن ) .
وسعيد بن المسيّب -رحمه الله - إمام التابعين ، جاءه الخلفاء والأمراء واحداً إثر الآخر يخطبون ابنته ، فردهم ثم زوجّها لأبي وداعة ، تلميذ من تلاميذه .. قرآني سني من أهل العلم والإيمان .. من أهل الفقر في الدنيا ، ومن أهل الغنى في الآخرة . ردّ أولئك وقبل هذا ، بل هو الذي عرض عليه ابنته ثم أخذ بيدها حتى طرق عليه بابه قبل أن يستعد وقبل أن يُهيئ أمور الحياة الدنيا كما يقال ، ثم قال : "خذ زوجتك " .
لأنهم كانوا يعرفون المقياس الحقيقي ، بل إن النبي – صلى الله عليه وسلم - كان يربط الأمّة بالقرآن ، ويبيّن فضيلته ومزيته ؛ لتكون القلوب والعقول والأفئدة والأفكار والمناهج والموازيين مرتبطة به في كل شأن من شؤون الحياة يجعل ذلك النبي في أمر قد لا يتصوره الناس ويكون بعيداً عن أذهانهم في غالب الأحوال .
عندما انجلى غبار المعركة يوم أُحد ، وشرع النبي – صلى الله عليه وسلم - في دفن الشهداء ، وكانوا سبعين ، فكان ربما دفن الرجلين والثلاثة في قبرٍ واحد ، فكان إذا جاءوا بالشهداء يسأل عن أيهم أقرأ للقرآن ، فإذا علم به قدّمه قي لحده وفي دفنه إشارة إلى هذه المزية المستمرة إلى بعد الوفاة ، وإلى بعد انقطاع الحياة حينئذٍ كانت الأمة مرتبطة بالقرآن من خلال هذا المنهج النبوي الذي وضحه النبي – صلى الله عليه وسلم - حتى كان ارتباطهم به ارتباطاً وطيداً وثيقاً ، صورته لنا أحداث السيرة في حياته - عليه الصلاة والسلام - وجسدته مواقف كثيرة من بعد ذلك في حياة الأمة .
فهذا حديث النبي – صلى الله عليه وسلم - يذكر لنا أنه كان يعرف قدوم الأشعريين وهم قوم أبو موسى الأشعري من أهل اليمن بقوله : ( إني لأعلم قدوم الأشعريين - أي إلى المدينة - ومنازلهم بها ولما أرهم ، كانوا يُدوون بالقرآن كدوي النحل في الليل ) . فيعلم النبي – صلى الله عليه وسلم قدومهم .
وننتقل إلى القادسية لنرى سعداً وهو يبعث إلى الفاروق مبشراً بفتح القادسية كتاباً له : " ذهب فلان وفلان من الناس ممن لا تعلمهم والله بهم عالم ،كانوا يدوون بالقرآن بالليل كدوي النحل " وهم - أي في صفوف المعركة وفي وقت الجهاد - ما انشغلوا عنه ، بل كانوا يجدون أنه قوة عزيمتهم ، وأنه حياة قلوبهم ، وأنه بإذن الله - عز وجل - سبب نصرهم ، فكانت الرايات تُعقد وكان مع كل كتيبة قارئ إذا حمي الوطيس وجدّ الجد ، والتحمت الصفوف ، انطلقوا القراء بآيات الأنفال وآيات القرآن ، حتى إذا القلوب تشتعل وإذا النفوس ترتفع همتها وعزيمتها ، وإذا الشوق إلى الشهادة والثبات على دين الله - عز وجل - يكون هو الحكم والفيصل في مثل هذه المعارك الإيمانية الإسلامية .
وهكذا نجد أن صبغة الحياة الإسلامية في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم - محورها الأساس ، ونبعها الثرّ الذي لا ينضب ، وخطاها الذي يرجع إليه كل شيء ، ومقياسها الذي يحكم كل شيء هو القرآن الكريم ، فحينما نقول الرجوع إلى القرآن والسنة ؛ فإنما نريد أن نصوّر هذا المعنى كيف كان ، حتى إذا كان عمر -رضي الله عنه- يفعل فعلاً فيأتيه من يعترضه ، ويتلو عليه آية من القرآن ، يطأطئ رأسه ويُذعن ، وكان القرآن حكَماً في كل شيء ، وكان ميزاناً لكل شيء ، وكان محرِّكاً ومقدماً في كل شيء ، هكذا كانت الأمة ، وهكذا ينبغي أن تكون .
نسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً ، وأن يجعلنا من أهل القرآن ، من الذين يتلونه حق تلاوته ، ومن الذين يتدبرون في معانيه ، ويعرفون تفسيره ، ويعملون بأحكامه .
الخطبة الثانية
وإن من أعظم التقوى الارتباط بالقرآن الكريم ، والنهل من نهله ، والانتفاع به ، والإكثار من الصلة الدائمة غير المنقطعة به ، تلاوة وحفظاً .. تدبراً وفهماً .. تطبيقاً وعملاً .. نشراً ودعوةً .. جهاداً في سبيل إعلاء كلمة الله ، ونشر آيات القرآن في كل مكان . فنسأل الله - عز وجل - ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .(/3)
وإن الذي يتأمل أيها الأخوة تاريخ الأمة يرى أنها متى التفت حول كتابها مثل ذلك الالتفات الذي شرع نهجه وبيّن صورته وأوجد حقيقته رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أنها حينئذٍ كانت في مواقع التقدم والريادة والقيادة ، وأنها متى تحللت عُرى ارتباطها بالقرآن ، ومتى لم يكن له عندها قيمة عظيمة كما ينبغي أن يكون ، ومتى كان شيئاً ليس له أثرٌ في واقع الحياة تقويماً أو حُكماً ، أو تأثيراً في النفوس والقلوب أو غير ذلك ؛ فإنها حينئذٍ تكون في أجلى صور ضعفها ، وأعظم صور ذلتها ، وأكثر صور تفرقها حزناً وألماً وهذا الذي ربما نشكو منه في واقع حالنا ، والقرآن حديثه لا ينتهي ، ووصفه عجيبٌ عجب ، وما ذكر الله - عز وجل - في القرآن عن القرآن هو أمر يستدعي منا أن نتنبه له ، وقد يعجب البعض ؛ هل نحن في حاجة إلى أن نعرف القرآن ؟ وأقول : نحن في أمسِّ الحاجة إلى أن نعرفه ، وأن نقدره قدره ، وأن نرى حقيقته فيما كان من سير أسلافنا - رضوان الله عليهم - ، ثم بعد ذلك ننظر ما الواجب على وجه الإجمال والتفصيل تجاه هذا القرآن الكريم ، ليتحقق لنا به العز والنصر والتمكين - بإذن الله سبحانه وتعالى - .
فالله الله في كتاب الله ، والله الله في الصلة بكتاب الله ، والله الله في تطبيق أحكام الله ، فقد كانت الآية واحدة تنزل من السماء فيها حكم الله ، فإذا بالأمة كلها عن بكرة أبيها تستجيب استجابة واحدة في لحظة دون تأخر ولا تلكأ ولا إبطاء ..كما ورد في حديث أنس في تحريم الخمر لما جاءوا بها ، فإذا هناك من مجّها ، وهناك من قذف ما في كأسه ، وهناك من كسر الدنانة ، وهناك ... ، ثم لم يأت الصباح حتى كان أمر الخمر قد انتهى من النفوس والقلوب قبل أن ينتهي من الأيدي والأفواه .
وكذلك لما قالت عائشة - رضي الله عنها - تثني على نساء الأنصار : " رحم الله نساء الأنصار لما نزلت آية الحجاب عمدن إلى مروطهن فشققنها ثم ائتزرن بنصفها ، واعتجرن بنصفها ، فما أصبح الصباح إلا وعلى أمثال رؤوسهن كالغربان مما أسدلن من الحجاب . هكذا تكون أمة الإسلام هي أمة القرآن .
نسأل الله - عز وجل - أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً ، ونسأله - سبحانه وتعالى - أن يحيي قلوبنا بالقرآن ، وأن ينير بصائرنا بالقرآن ، وأن يقوّم سلوكنا على منهج القرآن ، ونسأله - سبحانه وتعالى - أن يجعلنا ممن يحفظونه ويرتلونه ويتدبرونه ويفهمونه ويعملون به .(/4)
محاضرة
حال السلف مع القرآن
لفضيلة الشيخ
www.almosleh.com
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين أما بعد ..
فإن نعم الله جل وعلا على هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم نعماً عظيمة متنوعة متعددة لا حصر لها ولا يمكن لإنسان أن يحيط بها في مجلس أو مجالس إلا أن أعظم ما أنعم الله به جل وعلا على هذه الأمة وعلى الناس عامة إنزال الكتاب الحكيم إنزال هذا القرآن العظيم الذي امتن الله جل وعلا بإنزاله على الناس أجمعين فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب خاتمة للكتب وجعله حجة على الخلق فهو أعظم آيات الأنبياء أعظم ما جاءت به الأنبياء هو هذا الكتاب العظيم لأنه المعجزة الآية العظيمة الباقية التي لا يحد أثرها زمان ولا مكان بل هي آية ما تعاقب الليل والنهار حتى إذا حيل بين الناس وبين القبول وصرفت قلوبهم عن الإقبال على الكتاب وتعطل الانتفاع به يرفعه الله جل وعلا في آخر الزمان عندما لا ينتفع الناس به فإن من تعظيم الله لكتابه أن يرفعه من المصاحف والصدور.
أيها الإخوة الكرام. . بشر الله جل وعلا بإنزال هذا الكتاب الحكيم بشر الله سبحانه وتعالى الناس عامة بإنزال هذا الكتاب فقد قال جل وعلا: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ?(1) ثم قال سبحانه وتعالى بعد هذه البشارة والبيان لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله جل وعلا: ?قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ?(2) هذه البشارة أيها المؤمنون أيها الإخوة الكرام تلقاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقاها بالفرح فكان فرحاً بكتاب الله جل وعلا فرحاً بنعمه سبحانه وتعالى وما خصه الله به من هذا الفضل العظيم فرحت به الأمة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان هذا الكتاب من أعظم النعم عليهم وكان انقطاع الوحي بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعظم ما أصيبوا به لما في ذلك من انقطاع المدد من السماء وانقطاع هذا الخير هذا الكتاب فرح به التابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين لما تمتع به من الأوصاف العظيمة التي تكفل للناس سعادة الدارين سعادة الدنيا وفوز الآخرة فإن هذا الكتاب لا يقتصر نفعه على دار القرار على الدار الآخرة بل يجد المؤمن ثماره في الدنيا قبل الآخرة فهو الكتاب الذي تصلح به أمور الناس تستقيم به أحوالهم في الدنيا وفي الآخرة ولذلك بشر الله به الناس عامة فهو رحمة وهدى وشفاء قال الله جل وعلا: ?وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ?(3) وإنما خص المؤمنين بهذا لكونهم المنتفعين من هذا القرآن وإلا فإن القرآن رحمة لكل أحد ففيه الهدى والنور فيه ترتيب شؤون حياة الناس وإقامة معادهم وإصلاح دنياهم وآخرتهم ولذلك هذا الكتاب بهر عقول كثير من الناس حتى من لم يؤمنوا به فإن ما فيه من البيان وما فيه من الإعجاز وما فيه من الأسرار التي لا يحيط بها عقل ولا يدركها بيان ولا يحيط بوصفها لسان أمر يفوق الوصف أمر يتجاوز التصور وذلك لأنه كلام رب العالمين والله جل وعلا قد قال في محكم التنزيل: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ?(4) فليس كمثل ربنا شيء لا في صفاته ولا في ذاته ولا في أفعاله ولا فيما يجب له سبحانه وتعالى ومن جملة ما وصف الله به نفسه الكلام، فكلام ربنا جل وعلا ليس كمثله شيء كما أن صفاته سبحانه وتعالى ليس كمثلها شيء كما أن سائر ما يتعلق به جل وعلا ليس له نظير.
__________
(1) يونس: 57.
(2) يونس: 58. ...
(3) الإسراء: 82.
(4) الشورى: 11.(/1)
أيها الإخوة الكرام هذا الكتاب كما ذكرت لكم فرح به السلف فرحاً عظيماً أقبل عليه لم يشبع من تلاوته ولا من قراءته ففي أحوالهم وأمورهم وما نقل عنهم وما نقلته كتب السير من أعمالهم ما يتبين به عظيم فرحهم بهذا الكتاب وعظيم إقبالهم عليه وعظيم ما كانوا عليه من تعظيم لهذا الكتاب العظيم إن السلف الصالح أيها الإخوة هم الصحابة بالدرجة الأولى هم الذين شهدوا التنزيل وأخذوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا واسطة هم الذين اصطفاهم الله جل وعلا وخصهم بأن جعلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، هؤلاء هم السلف بالدرجة الأولى ويلحقهم في الفضل من أثبت لهم الفضل رسزول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" (1) فالتابعون وتابعوهم ممن يندرج في مسمى السلف لأنهم ممن أثبت لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الخيرية على سائر قرون الأمة والخيرية في هذه الأمة لا يحصرها مكان ولا زمان بل هي باقية فالله جل وعلا قد أثبت الخيرية لمن اتبع المهاجرين والأنصار بإحسان فقال جل وعلا: ?وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ?(2) فاتباع سلف الأمة بإحسان ينظمك في سلكهم ويضمك إلى حزبهم ولو لم تكن معهم في زمانهم ولو افترقت عنهم في مكانهم بل تشاركهم في الفضائل إذا شاركتهم في الأعمال أيها الإخوة الكرام إن هذا القرآن بين الله جل وعلا شأنه في كتابه الحكيم وكفى ببيان الله بياناً وكفى بوصفه وصفاً فهو جل وعلا الحكيم الخبير العليم الذي لا تخفى عليه خافية ولا يبلغ الخلق مهما أوتوا ومهما اجتمعوا من وصف الكتاب كما وصف الله جل وعلا كتابه قال الله جل وعلا في وصف كتابه: ?ق * وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ?(3) فوصفه الله سبحانه وتعالى بالمجد والمجد في لغة العرب أيها الإخوة السعة في أوصاف الكمال فكل ما اتسع في أوصاف الكمال أثبت له هذا الوصف وأطلق عليه هذا اللفظ فالمجيد أي الذي كمل في صفاته واتسع في صفات الكمال والشرف حتى بلغ منتهاها وبلغ غايتها كيف لا وهو الروح كيف لا وهو النور كيف لا وهو الهدى كيف لا وهو شفاء لما في الصدور كما قال الله جل وعلا: ?وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ?(4) وقوله سبحانه وتعالى: ?مِنَ الْقُرْآنِ ? من هنا ليست للتبعيض بل هي لبيان الجنس أي إن كل القرآن شفاء لما في الصدور وهو يشفي من الأمراض الحسية ويشفي في الأصل وفي الأساس وبالدرجة الأولى من أمراض القلوب من أمراض الشبهات من أمراض الشهوات.
أيها الإخوة. . إن سلف الأمة أقبلوا على هذا القرآن وإن وقفةً مع بعض أحوالهم يتبين بها ما كانوا عليه رحمهم الله من حسن التعامل مع هذا القرآن وليس عجباً فإن السلف الذين نتندر بما كانوا عليه من الفضائل ونتعجب مما كانوا عليه من السبق كانوا رضي الله عنهم على هذه المنزلة وبلغوا هذه المرتبة بما ارتسموه من قول الله جل وعلا وتوجيه رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس إنما خرجت من بين دفتي المصحف الكريم من بين هذا القرآن الحكيم خرجت على ضوء توجيهات هذه الآيات المبينات وهذا القرآن العظيم، قال الله جل وعلا في وصف هذه الأمة وأول من يدخل فيها الصحابة رضي الله عنهم: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ?(5) هذه الأمة إنما خرجت من ذلك أي خرجت على هذه الصفة وعلى هذا النحو من هذا القرآن الكريم ولا عجب بعد هذا أن تنقل السير والسنن والكتب والدواوين عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن تلقوا عنهم من التابعين وتابعيهم أن تنقل العجائب في التعامل مع القرآن الحكيم. .
__________
(1) أخرجه البخاري برقم 651 وأخرجه مسلم برقم 2535. ...
(2) التوبة: 100.
(3) ق: 1. ...
(4) الإسراء: 82.
(5) آل عمران: 110.(/2)
إن وقفة مع بعض ما حفظته السنة من تعامل الصحابة وتلقيهم الحي للقرآن العظيم يعجب منها الإنسان ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول الله جل وعلا: ?لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ?(1) هذه الآية يحفظها كثير منا ويقرؤها كثير منا لكنها لا تستوقف أكثرنا وذلك لأننا نقرأ القرآن لا على وجه التلقي لما فيه من المعاني نقرأ القرآن طلباً للأجر بقراءة لفظه دون نظر إلى ما تضمنه من المعنى، صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أنزل الله جل وعلا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية التي فيها إثبات الملك لله عز وجل إثبات ما في السماوات وما في الأرض له سبحانه وتعالى وأنه جل وعلا يحاسب الناس على ما دار في صدورهم وما جال في نفوسهم ولو لم يتكلموا به و لو لم يعملوا صحابة رسول الله لما سمعوا هذا اشتد عليهم الأمر فأتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين ثم بركوا على الركب أي جلسوا على الركب من شدة ما جاءهم في هذه الآية فقالوا: يا رسول الله كلفنا من العمل ما نطيق: الصلاة، الصيام، الجهاد، الصدقة –أي كل هذا نطيقه- وقد نزلت علينا آية لا نطيقها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤدباً هؤلاء معلماً لهم كيف يتلقون القرآن، كيف يتلقون كلام رب العالمين، قال لهم - صلى الله عليه وسلم -: " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا "(2) فما كان منهم رضي الله عنهم إلا أن انقادوا إلى توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم وتكلموا بها وقرؤوها وقبلوها قبولاً تاماً جاء التخفيف من رب العالمين جاء الفرج من الله جل وعلا الذي قال: ?مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ?(3) ما يفعل الله بعذابكم أي بإلحاق المشقة بكم إن شكرتم وآمنتم جاء الفرج من الله جل وعلا لهذه الأمة ونزل في كتاب الله جل وعلا تزكيتها وبيان فضل صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال الله جل وعلا: ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا?(4) فجاء التخفيف من رب العالمين بعد إثبات إيمانهم وقبولهم لما جاء عن الله وعن رسوله.
__________
(1) ... البقرة: 284.
(2) ... أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة في كتاب الإيمان برقم 179.
(3) النساء: 147. ...
(4) البقرة: 285-286.(/3)
أيها الإخوة.. الشاهد من هذه القصة من هذا الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يتقبلون القرآن ويتلقونه على أنه شيء يتلى وتستنبط منه الأحكام ويعرف ما فيه من المعاني فقط بل قرؤوه رضي الله عنهم على أنهم هم المخاطبون هم المعنيون بما فيه من المعاني ولذلك شق عليهم فراجعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الذي شق عليهم من هذا القرآن وهذا النبأ وهذه القصة ليست الفريدة وليست الوحيدة التي حفظتها كتب السنة في فعل الصحابة رضي الله عنهم عندما أنزل الله جل وعلا ما وجد الصحابة رضي الله عنهم فيه مشقة وفيه عسراً وصعوبة في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن الله جل وعلا لما أنزل قوله سبحانه وتعالى على رسوله: ?الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ?(1) (2) هذه الآية فيها البشارة من الله جل وعلا لمن آمن وسلم من أن يخلط إيمانه بظلم فقوله تعالى ?وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ? أي لم يخلطوه بظلم، ?أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ? لهم الأمن في الدنيا والآخرة، وهم مهتدون أيضاً في الدنيا والآخرة لأن الهداية المسؤولة والمثبتة لأهل الإيمان ليست فقط في الدنيا بل الهداية في الدنيا والآخرة وهداية الآخرة أعظم من هداية الدنيا لكنها لا تكون إلا لمن اهتدى في الدنيا لأن هداية الآخرة بها النجاة من أهوال ذلك الموقف العظيم الذي تشيب فيه الولدان ?وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ?(3) ذلك اليوم يحتاج به الإنسان إلى هداية يخرج بها من تلك الأهوال ينجو بها من تلك المزالق يجوز بها الصراط فإنه لو لم يهده الله جل وعلا إلى اجتياز الصراط لما اجتاز ولما تمكن من السلامة من صراط ورد في وصفه أنه أدق من الشعر وأحد من السيف.
أيها الإخوة. . صحابة رسول الله لما نزلت عليهم الآية أتوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد شق عليهم الأمر فقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه يعني مَن منا ما وقع في الظلم؟ كلنا واقع في الظلم وهذه الآية لا يحصل فيها الأمن ولا الاهتداء إلا بالإيمان الذي لم يخلط فيه الإنسان إيمانه بظلم فشرط حصول الأمن والاهتداء أن لا يقع الإنسان في الظلم ففهم الصحابة أن هذا يشمل كل ظلم الدقيق والجليل الصغير والكبير الشرك فما دونه فجاؤوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكوا له أنه لا سلامة من الظلم بل كل إنسان ظالم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون "(4) وكما قال الله جل وعلا قبل ذلك: ?وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً?(5) حيث حمل الأمانة وقد أعرض عن حملها السماوات والأرض والجبال ?إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً? وهذا الوصف لا يختص بفرد من الناس ولا بجنس منهم بل هو لعموم الإنسان لعموم الناس فكلهم ظالم جهول لا يسلم الإنسان من هذين الوصفين إلا بالاهتداء بكتاب الله وبما جاءت به الرسل عن الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) ... الأنعام: 82.
(2) ... أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم 3110 وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم 178.
(3) ... الحج: 2.
(4) ... أخرجه الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك في كتاب صفة القيامة برقم 2423.
(5) ... الأحزاب: 72.(/4)
أيها الإخوة الكرام. . لما جاء الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكون ما في هذه الآية ويبينون مشقتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: ليس الذي تظنون. أي ليس الظلم هو الذي ذهبتم إليه إنما هو قول الله جل وعلا في قول لقمان لابنه وهو يعظه: ?يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ?(1)(2) فالظلم الذي في الآية هو الشرك فهان الأمر على الصحابة رضي الله عنهم والشاهد أيها الإخوة أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتلقوا القرآن تلقياً بارداً بل تلقوه للعمل وأخذوا به على أنهم هم المعنيون يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله جل وعلا في كتابه يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا? فأرعها سمعك يعني أصغ إليها وأعطها أذنك فهي إما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه"، وهذا لكونهم أخذوا القرآن للتلقي والعمل وأن كل ما فيه خطاب لكل من سمعه خطاب لكل من بلغه وليس المخاطب فيه قوم مضوا ولم يبقَ لنا منه إلا أن نتعبد ونتقرب إلى الله جل وعلا بما فيه من الألفاظ وما فيه من الكلام الذي جرّد عن معناه ولم يقصد بما تضمنه. إن الصحابة رضي الله عنهم ضربوا في هذا أمثلة رائعة وانقادوا لما في كتاب الله جل وعلا انقياداً تاماً: هذا أبو بكر رضي الله عنه تتهم إبنته عائشة بالزنى ويبرئها الله جل وعلا في سورة النور في قصة الإفك يبرئها الله سبحانه وتعالى ويتبين أن من جملة من رمى عائشة وتكلم فيها مسطح بن اثاثة وهو قريب لأبي بكر رضي الله عنه كان فقيراً كان أبو بكر يصله بالإعانة ثم لما تبين الأمر وتبين براءة عائشة رضي الله عنها حلف أن لا يصله شيئاً من عطاياه بعد أن فعل ما فعل فأنزل الله جل وعلا قوله سبحانه وتعالى ?أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ?(3) فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى بلى. فانتهى أن يمتنع مما جرت به يده رضي الله عنه من الصدقة والإحسان على مسطح بسبب ما كان منه من إساءة لعائشة رضي الله عن الجميع.
أيها الإخوة الكرام. . إن الصحابة رضي الله عنهم تعاملوا مع القرآن تعاملاً ليس في جانب واحد ليس في جانب التلقي، فاقوا الأمة في جوانب عديدة من ذلك قراءتهم للقرآن فإن الصحابة رضي الله عنهم لازموا قراءة هذا القرآن كان أحدهم يلقى أخاه في الطريق فيقول: اجلس بنا نؤمن ساعة فيقرأ أحدهم على الآخر سورة العصر كانوا إذا اجتمعوا كما ثبت عنهم رضي الله عنهم كانوا إذا اجتمعوا جعلوا أحدهم يقرأ والبقية يستمعون للقرآن فالقرآن كان مخالطاً لحياتهم في قلوبهم في مجالسهم في تذكرتهم وموعظتهم فالقرآن دخل معهم في كل أمر وكانوا رضي الله عنهم مقترنين به مقبلين عليه مشتغلين به عن غيره فلذلك فاقوا غيرهم في الفقه فاقوا غيرهم في العمل فاقوا غيرهم في الجهاد فاقوا غيرهم فيما كتب الله على أيديهم من النصر كل هذا كان بسبب ما كانوا عليه من تعاهد القرآن والإقبال عليه والأخذ به والاستكثار منه. .
إن الصحابة رضي الله عنهم كان أحدهم يقرأ القرآن في مجلسه يقرأ القرآن في صلاته ولا إشكال يقرأ القرآن في طريقه يقرأ القرآن في كل شأنه وقد كان عثمان رضي الله عنه ليلة مقتله تالياً لكتاب الله جل وعلا حتى أنه ذكر أن الذي قتله -عليه من الله ما يستحق-قتله وكان في يديه كتاب الله جل وعلا.
__________
(1) ... لقمان: 13.
(2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم 3110 وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم 178.
(3) ... النور: 22.(/5)
أيها الإخوة الكرام. . سار السلف الصالح التابعون ومن بعدهم على منوال أولئك في قراءة الكتاب الحكيم في الأخذ به رضي الله عنهم فهذا عثمان بن عفان يقول: قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة لكن ما رأيت أشد مواظبة على الخير وقراءة القرآن والعمل لله تعالى منه رضي الله عنه وقال آخر: ما رأيت أحسن انتزاعاً لما أراد من آي القرآن من أبي سهيل بن زياد وكان جارنا وكان يديم صلاة الليل والتلاوة فلكثرة درسه صار القرآن كأنه بين عينيه يعني في الاستشهاد والاستفادة مما في هذا القرآن من الأحكام يقول أيضاً آخر في وصف ما كان عليه مالك بن أنس إمام دار الهجرة: قيل لأخت مالك بن أنس: ما كان شغل مالك بن أنس في بيته بماذا يشتغل في بيته بماذا يعمل في بيته قالت: المصحف والتلاوة. هذا شغل الإمام مالك رحمه الله في بيته المصحف والتلاوة والآثار في ذلك كثيرة ومن العجيب أن بعض السلف كان إذا اجتمع إليه أصحابه أوصاهم عند التفرق بأن لا يجتمعوا في سيرهم بل يمشي كل واحد منهم بمفرده قال لهم: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه ومتى اجتمعتم تحدثتم فانشغلتم عن القرآن. هكذا كان السلف رحمهم الله في قراءتهم القرآن وإقبالهم عليه وحرصهم على تلاوته لكن هذه التلاوة لم تكن مجرد قراءة للألفاظ فإن الله سبحانه وتعالى أثنى على الذين يتلون الكتاب ثناءً حسناً في كتابه ولكنه أيضاً ذمّ قوماً يقرؤون الكتاب لكنهم لا يفقهون ما تضمنه الكتاب من التوجيه فقال الله جل وعلا في وصف طائفة من بني إسرائيل: ?وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ?(1) يعني إلا قراءة ليس عندهم من معرفة كتاب الله ولا من نصيب من هذا الكتاب إلا مجرد التلاوة ليس عندهم فقه ولا معرفة ولا فهم للمعنى ولا تدبر ولذلك حث الله جل وعلا في كتابه على النظر في الآيات ومن جملة ذلك الآيات التي تضمنها الكتاب الحكيم قال الله جل وعلا: ?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ?(2) فهذا الكتاب أنزله الله جل وعلا ووصفه بأنه مبارك ثم بين الطريق الذي تحصل به بركة هذا الكتاب والطريق الذي تنال به خيرات هذا الكتاب فقال الله سبحانه وتعالى: ?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ? أي ليحصل لهم التدبر ولا سبيل لتحصيل بركة الكتاب إلا بهذا وقد أمر الله جل وعلا رسوله - صلى الله عليه وسلم - في أول البعثة أمره بقيام الليل فقال الله جل وعلا لرسوله: ?يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً?(3) أي ترسل في قراءته ورتل القرآن ترتيلاً ?إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً?(4) وهو القرآن فالقرآن قول ثقيل يحتاج إلى تهيئته ?إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً?(5) أمره بقيام الليل وعلل ذلك بقوله: ?إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً? يعني يتفق فيها قول اللسان مع تدبر القلب ونظره وتأمله وتفكره ?إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً? وناشئة الليل قيل في تفسيرها: أوقات الليل وقيل في التفسير أيضاً: عمل الليل وكلا القولين يؤيد ما استشهدنا به من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره الله عز وجل بما أمره ووجهه بأن يكون ذلك في الليل قياماً لكونه أدعى لمواطأة القلب اللسان بالتدبر وقد امتثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توجيه الله جل وعلا وأمره ففي صحيح مسلم عن أبي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ((صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة))(6) كل هذا من نبينا - صلى الله عليه وسلم - في ركعة في ليلة، وما هي صفة هذه القراءة هل هي قراءة الهذّ والنثر الذي لا يعقل له معنى ولا يعرف له مقصود؟ لا والله، يقول حذيفة رضي الله عنه في وصف قراءته - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح أو سؤال سأل أو تعوذ تعوذ))(7) هكذا كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قراءة تدبر ونظر وتفكر ليست قراءة هذّ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في وصف القراءة التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن قال: " لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذّ الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب " هذا القرآن فيه من العجائب والأسرار ما لا ينفتح للذي يقرؤه قراءة عجلى قراءة لا تدبر فيها ولا
__________
(1) ... البقرة: 78.
(2) ... ص: 29.
(3) ... المزمل: 1-2-3-4.
(4) ... المزمل: 5.
(5) ... المزمل:5-6.
(6) ... أخرجه أبوداود في كتاب الصلاة برقم 740.
(7) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم 1291. ...(/6)
نظر فإن الله جل وعلا يمنع من امتهن القرآن ولم يعطه حقه من أن يقف على أسراره وعجائبه السلف رحمهم الله من الصحابة ومن بعدهم كان أحدهم يجلس في تعلم سورة من القرآن سنين متطاولة، فابن عمر رضي الله عنه جلس في تعلم سورة البقرة ثمان سنين وقيل: جلس اثنتي عشرة سنة في تعلم سورة البقرة، وكانوا رضي الله عنهم كما قال أبو عبدالرحمن السلمي: " كان الذين يقرؤننا القرآن من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان وأبي بن كعب وغيرهم ممن كانوا يقرؤن التابعين يقولون: " كنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نتجاوز العشر آيات حتى نعرف ما فيها من القرآن والعلم والعمل فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً" هكذا كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهم ابن مسعود يقول: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.
وروى مالك أن ابن عمر رضي الله عنه تعلم البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزوراً رضي الله عنه وطول هذه المدة ليست فقط لحفظ ذلك وضبطه من جهة اللفظ بل إن المظنون فيهم رضي الله عنهم أنهم أسرع حفظاً من المتأخرين لكنهم كانوا يتفقهون وينظرون إلى ما تضمنه هذا الوحي من الخير العظيم الذي حصل لهم الفقه فكلامهم رضي الله عنهم قليل لكنه كثير البركة لأنه نابع عن فقه ونظر دقيق أما كلام المتأخرين فهو كثير لكنه قليل البركة.(/7)
أيها الإخوة الكرام. . الصحابة رضي الله عنهم كان أحدهم يقيم الليل بآية واحدة وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في حديث أبي ذر فإنه قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية يرددها حتى أصبح وهي قوله تعالى: ?إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?(1)(2) هذه الآية أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة تامة في ترديدها وقراءتها، وورد ذلك عن جمع من الصحابة فعن تميم الداري رضي الله عنه أنه كرر قوله تعالى: ?أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ?(3) ردد هذه الآية حتى أصبح، وورد ذلك أيضاً عن أسماء رضي الله عنها أنها قرأت قوله تعالى: ?فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ?(4) فوقفت رضي الله عنها عندها فجعلت تعيدها وتدعو فطال عليّ ذلك هذا الراوي يقول: فطال عليّ ذلك فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو رضي الله عنها. هذا التدبر للقرآن، فالتكرار في آيات القرآن ليس تكراراً لطلب الأجر بقراءة الأحرف إنما هو لطلب ما فيها من المعاني وطلب ما فيها من الخير وورد أن ابن مسعود رضي الله عنه ردد قوله تعالى: ?وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً?(5) وورد عن سعيد بن جبير رحمه الله أنه ردد قول الله تعالى: ?وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ?(6) وورد ذلك عن جمع من التابعين والصحابة رضي الله عنهم. والترديد للآية ليس أمراً مشروعاً في الفرائض لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك ولم ينقل عنه إنما هو في النوافل كما جاء ذلك في أثر حديث أبي ذر الذي رواه النسائي وغيره هذا الترداد للآيات هو من شواهد أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتدبرون القرآن لأن الترداد والتكرار لهذه الآيات إنما هو للنظر في معانيها، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطيلون البكاء عند آيات الكتاب ولا عجب فقد رأوا ذلك من رسولهم - صلى الله عليه وسلم - وقبل ذلك فإن الله جل وعلا أثنى في كتابه على الأنبياء وعلى أولي العلم الذين يخرون للأذقان سجداً والذين يخرون للأذقان يبكون مما في هذا الكتاب من المواعظ قال الله جل وعلا في وصف جماعة من الأنبياء: ?أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً?(7) وانظر إلى قوله: ?خَرُّوا? الذي يدل ويشعر بالمسارعة إلى السجود وأن السجود سجود ذل وخضوع وانكسار وتضرع ?خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً? أيضاً أخبر الله جل وعلا عن قوم من أهل الكتاب فقال سبحانه وتعالى: ?وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ?(8) فشواهد ثناء الله جل وعلا على الباكين عند تلاوة القرآن كثيرة وهي من الفضائل التي امتدح الله بها من امتدح من النبيين ومن أولي العلم وممن تعقلوا وتدبروا ما في هذا الكتاب من الحكم ولذلك كان سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الخلق نصيباً في ذلك ففي حديث عبدالله بن الشخير قال: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا -أي يصلي بالصحابة- وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء"(9) والأزيز هو الحركة والحنين الناتج عن التدبر والتأثر بالقرآن الحكيم وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن مسعود: "اقرأ علي". فقال عبدالله رضي الله عنه: "أقرأ عليك وعليك أنزل؟ " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فإني أحب أن أسمعه من غيري" يقول: فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت قوله تعالى: ?فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً?(10) قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمسك فإذا عيناه تذرفان بكاءاً من تأثره - صلى الله عليه وسلم - بما سمع))(11).
__________
(1) ... المائدة: 118.
(2) ... أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح برقم 1000.
(3) ... الجاثية: 21.
(4) ... الطور: 27.
(5) ... طه: 114.
(6) ... البقرة: 281.
(7) ... مريم: 58.
(8) ... المائدة: 83.
(9) ... أخرجه أحمد في من برقم 15722.
(10) ... النساء: 41.
(11) ... أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن برقم 4662.(/8)
وهذا أيها الإخوة ليس في هذين فقط بل في مواضع عديدة من هديه - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان كثير البكاء لهذا القرآن وما تضمنه من الحكم وما تضمنه من العبر والآيات وقد سار على ذلك صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبو بكر الصديق رضي الله عنه ابتنى بيتاً وهو بمكة ابتنى مسجداً بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فتتقصف عليه نساء المشركين أي تجتمع وأبناؤهم يتعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً بكّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن وهذا ليس خاصاً بأبي بكر رضي الله عنه بل إن عمر رضي الله عنه مع ما عرف به من الشدة والقوة كان رضي الله عنه بكّاءً، يقول من روى من أصحاب السير: إن عمر رضي الله عنه صلى بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته. وفي رواية كان في صلاة العشاء أي كان يقرأ ذلك في صلاة العشاء فهذا يدل على كثرة تكراره لهذه السورة وأنه رضي الله عنه كثير البكاء ويقول عبدالله ابن شداد بن الهاد قال: سمعت نشيج عمر بن الخطاب وأنا في آخر الصفوف في صلاة الصبح يقرأ في سورة يوسف: ?قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ?(1) .
أيها الإخوة. . إن الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في البكاء والتأثر بتلاوة القرآن عديدة وكثيرة لكن هنا وقفة مع حال السلف في التأثر والبكاء عند قراءة القرآن البكاء نوعان: نوع يأتي بلا طلب وبدون تكلف وهو ما يكون من تأثر طبيعي لا يطلبه الإنسان إنما هو ناتج عن تدبره وتأمله لما في هذه من الآيات من الترهيب أو الترغيب أو عظيم صنع الله جل وعلا أو عظيم وصفه وهذا لا شك أنه الذي كان عليه حال السلف رضي الله عنهم وهو دال على سلامة القلب ولينه وصحته وحياته النوع الثاني: وهو البكاء الذي يكون بطلب منه ما يكون بطلب ينظر فيه الإنسان ويحث نفسه على النظر في معاني الكتاب ليتأثر ومنه قول عمر رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر لما رآهما يبكيان قال لهما رضي الله عنه: يا رسول الله أخبرني ما يبكيك وصاحبك فإن وجدت بكاءً بكيت معكما وإن لم أجد تباكيت وليس المقصود أنه يتكلف البكاء إنما يطلب أسباب البكاء التي من أجلها حصل البكاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعليه يحمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ))(2) فهذا الحديث يدل على مشروعية التباكي لكنه التباكي الذي ليس فيه تكلف وليس فيه طلب رياء ولا سمعة إنما فيه طلب التأثر بالكتاب إذا كان القلب قد منعه مانع أو عرض وحال دون حصول البكاء منه حائل. فينبغي لنا أن نطهر قلوبنا وأن نطيبها ليحصل بها التأثر بالقرآن دون تكلف.
__________
(1) ... يوسف: 86.
(2) ... أخرجه ابن ماجه من حديث سعد بن أبي وقاص في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها برقم 1327.(/9)
أيها الإخوة. . هذا التدبر وهذا الترداد وهذا البكاء ليس آنياً محصوراً بوقت القراءة لا يثمر أثراً ولا يحصل به ثمر لما بعد القراءة بل إن حال الصحابة رضي الله عنهم حال تأثر ممتد حال تأثر غير منقطع ولذلك كانت أعمالهم رضي الله عنهم على خير حال وعلى خير مطلوب لأنهم رضي الله عنهم أثمر هذا التأثر في حياتهم، والواقع في حياة الناس اليوم أنك تجد في بعض الصلوات من يبكي عند قراءة القرآن بكاءً خاشعاً إلا أن هذا ولا يتجاوز حدود المسجد الذي حصل فيه التأثر وحصل فيه البكاء فليس لهذا البكاء أثر في العمل ولا أثر في السلوك ولا أثر في الأخلاق ولا أثر في ترك المعصية ولا أثر في الإقبال على الطاعة ولا شك أن هذا قصور وأن هذا تقصير فيما ينبغي أن يكون عليه أثر القرآن قال الله جل وعلا في بيان أثر القرآن على من اتبعه وأخذ به قال جل وعلا: ? فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى?(1) لا يضل في عمله ولا يشقى في مآله ولا في حاله فهو سالم من الضلال وسالم من الشقاء فلذلك ينبغي لقارئ القرآن وسامعه أن يكون للقرآن أثر في سلوكه وخلقه قال ابن مسعود رضي الله عنه: ينبغي لحامل القرآن - ولا يلزم هذا أن يكون من الحافظ فقط بل هو لكل حامل له ولو حمل شيئاً منه - أن يعرف بليله إذا الناس نائمون وبنهاره إذا الناس مفطرون وبحزنه إذا الناس يفرحون وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخلطون وبخشوعه إذا الناس يختالون وينبغي أن يكون باكياً محزوناً حكيماً عليماً سكيناً -أي ساكناً- ولا يكون جافياً ولا غافلاً ولا صاخباً ولا صياحاً ولا حديداً - أي ولا شديداً في مطالبة الخلق ولا معاملتهم-. وقد ورد مثل هذا التوجيه وبيان أثر القرآن على حامله وعلى القارئ له في عدة أقوال من أقوال الصحابة رضي الله عنهم منها ما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: " يا حملة القرآن - أو قال: يا حملة العلم - اعملوا به فإنما العلم من عمل علم ووافق علمه عمله وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم" أي لا يجاوز رؤوسهم لا يجاوز حناجرهم بل مجرد قول على اللسان ليس له أثر على القلب ولا شك أن هذا الحاجز وهذا المانع يمنع من التأثر بالقرآن والانتفاع به.
أيها الإخوة الكرام. . إن الصحابة رضي الله عنهم نزل القرآن معالجاً لأمراضهم وما كان من الوقائع ولذلك كانوا يتوقعون القرآن ويرقبون ويجلون ويخافون أن ينزل شيء يبين شيئاً من عوراتهم أو يكشف شيئاً مما يكرهونه أو يكون سبباً لهلاك بعضهم فكانوا رضي الله عنهم على غاية الحذر والوجل في نزول القرآن وفي تلقيه ولذلك كانت أحوالهم مستقيمة رضي الله عنهم.
الصحابة أيها الإخوة كانوا إذا نزلت الآية تلقوها على الوصف السابق ثم كان العمل وكان الإقبال على سائر العمل الصالح وكان إذا عاتبهم الله جل وعلا وجد منهم الانزجار كما قال الله جل وعلا في قوله: ?أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ?(2) () فكان الصحابة رضي الله عنهم يعاتبون بالقرآن فيحصل منهم الاستعتاب يحصل منهم المراجعة يحصل منهم إصلاح الخطأ إذا نزلت بهم مصيبة أو نزلت بهم هزيمة كما جرى في أحد وطلبوا السبب جاءهم الجواب كما قالوا في غزوة أحد ?أَنَّى هَذَا? أي من أين أتينا؟ قال الله جل وعلا في بيان ذلك: ?قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ?(3) () فالقرآن في حياة الصحابة يختلف عنه تماماً في حياة غيرهم ولذلك تميزوا عن غيرهم تميزاً سابقاً واضحاً لا يلحق مقامهم ولا يدرك شرفهم رضي الله عنهم لكن كل من سلك سبيلهم ممن اتبعهم بإحسان وسار على طريقهم فإنه يحصل من الفضل والخير مثل ما حصلوا أو قريباً منه.
__________
(1) ... طه: 123.
(2) ... الحديد: 16.
(3) ... آل عمران: 165.(/10)
أيها الإخوة الكرام.. الصحابة رضي الله عنهم اهتدوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في قراءة القرآن وفي تلاوته وفي العمل به وفي جعله منهجاً للحياة سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - ما خلقه؟ كما في الصحيح فقالت للذي سألها مستغربة ومنبهة قالت: أولست تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قالت في جملة مختصرة تجمل مسلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه وخلقه فقالت: كان خلقه القرآن. كان خلقه - صلى الله عليه وسلم - القرآن يعمل به في نهاره ويقوم به في ليله فهو قائم به عامل به آناء الليل وآناء النهار لا يتركه لحظة من اللحظات بل كان يترجم القرآن ويبينه للناس بقوله وعمله وسائر شأنه - صلى الله عليه وسلم - الصحابة رضي الله عنهم ساروا على هذا المنوال فكانوا ينظرون إلى القرآن في كل أحوالهم وفي كل أعمالهم ولذلك لما سئل ابن عمر رضي الله عنه عن مسألة من مسائل الحج قال لهم: ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ?(1) () لما طلبوه عن دليل فعل من الأفعال لم يجبهم بأن النبي فعل أو ترك إنما لفت أنظارهم إلى الدليل الأكبر الذي ينتظم كل فعل فعله - صلى الله عليه وسلم - وكل قول قاله، قال لهم: ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ?.
القرآن أيها الإخوة منزلته عند السلف مقدمة على سائر العلوم ولذلك كانوا لا يشتغلون مع القرآن بشاغل وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه منع كتابة الحديث حتى استقر الأمر وميز القرآن عن غيره وحفظ القرآن عن غيره وقيل: إن منع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة غير القرآن في وقته - صلى الله عليه وسلم - إنما كان ليتميز القرآن عن غيره ولئلا يشتغل الناس بغير القرآن حتى بقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد تنبه الصحابة إلى هذا الأمر فكان القرآن عندهم بالدرجة الأولى حتى إنهم كانوا يقولون: "إذا حفظ الرجل فينا سورة البقرة جد عندنا"، أي عظم وارتفع قدره وكان له من المنزلة ما ليس لغيره، لأنها السورة التي تضمنت الأحكام الكثيرة والأوصاف العظيمة لرب العالمين ففيها آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله جل وعلا المهم أيها الإخوة أن الصحابة كانوا لا يعدلون بالقرآن شيئاً والناظر في أحوال كثير ممن يشتغلون بالعلم في هذه الأزمنة يجد أنهم عن القرآن معرضون والإعراض ليس إعراض هجر وبعد إنما هو إعراض ترتيب في أولويات طالب العلم إن أولى وأعظم ما اشتغل به من أراد العلم أن يشتغل بالقرآن العظيم حفظاً وتلاوة وتدبراً وفهماً للمعنى وإقبالاً على ما قاله أهل العلم في هذا الكتاب الحكيم.
وقد سار على هذا السلف الصالح فكانوا يقدمون القرآن على كل أحد واستمع إلى ما جرى لابن خزيمة رحمه الله وهو الملقب بإمام الأئمة يقول ابن خزيمة: استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة - ليتلقى عنه – قال: اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك فاستظهرت القرآن أي حفظته فقال: امكث حتى تصلي بالختمة - يعني حتى تصلي بنا وتختم بالقرآن - يقول: ففعلت فلما عيدنا أي انتهى رمضان وختمت بهم القرآن أذن لي فخرجت إلى مرو - يطلب هذا المحدث ليتلقى عنه - وسمعت بمرو من فلان وفلان فنعي إلينا قتيبة أي إنه لم يدركه ولم يتلقّ عنه، والشاهد من هذا أن السلف رحمهم الله ومن سلك سبيلهم ومن سار على طريقهم كانوا يجعلون القرآن في المرتبة الأولى في التعلم وحال الناس اليوم أنهم يشتغلون بعلوم الآلات وبالعلوم الأخرى عن القرآن فليس لهم نصيب من التفسير ليس لهم نصيب من علم القرآن وما فيه من الأحكام بل حتى الذين يشتغلون بالقرآن تفسيراً ليس لهم نصيب من القرآن في استنباط الأحكام فالقرآن مشتمل على أحكام وحكم كثيرة تحتاج إلى استنباط تحتاج إلى نظر ولا يمكن أن تستنبط ولا أن تحصل ولا أن تدرك إلا بإمعان النظر والتأمل والقراءة في كلام العلماء وجمع ما تفرق من كلام أهل العلم في آيات الكتاب الحكيم ليحصل للإنسان الخير وليحصل له الفقه في كتاب الله عز وجل والمعرفة بالقرآن الحكيم.
__________
(1) ... الأحزاب: 21.(/11)
أيها الإخوة الكرام. . النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطانا معياراً دقيقاً وميزاناً واضحاً قسطاً في مسألة الخيرية فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))(1) وهذه شهادة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن لا ينطق عن الهوى في فضيلة تعلم القرآن وتعليمه خيركم أي خير هذه الأمة من تعلم القرآن وليس التعلم هنا فقط تعلم الألفاظ إنما هو تعلم اللفظ مع المعنى خيركم من تعلم القرآن وعلمه فإقبال الناس وإقبال المرء على القرآن دليل واضح على خيريته وله من الخيرية بقدر هذا الإقبال فالذي يقبل فقط على حفظ القرآن فيه من الخيرية ما يقابل الحفظ فقط والذي يقبل على حفظه وفهم معناه وتدبره واستنباط الحكم والأحكام منه هذا فيه من الخيرية ما ليس في غيره، من يقبل على هذا كله حفظاً وفهماً وتدبراً ويعقد ذلك بالعمل هذا فيه من الخير ما ليس في غيره وهلم جرّاً.. فبقدر أخذك للقرآن علماً وعملاً بقدر ما يكون معك من الخير وبقدر ما يحصل لك الكمال إذا استكملت مراتب التعلم ثم انتقلت إلى مراتب التعليم، فالتعليم للقرآن العظيم من خير الأعمال لأنه به تحفظ الشريعة وليس فقط كما ذكرنا التعليم للفظ بل التعليم للفظ والمعنى، والعجيب أيها الإخوة أنك إذا نظرت إلى سير العلماء على اختلاف أزمانهم ودرجاتهم في العلم ونفعهم للأمة تجد أنهم في آخر أوقاتهم يتحسرون على عدم الاشتغال أو يندمون على عدم الاشتغال بالقرآن ودوا لو أنهم أعطوا القرآن من النظر والبحث والتأليف والقراءة ما ليس لغيره من العلوم وذلك لما وجدوا في القرآن من الأثر والنفع والبقاء فإن في القرآن من العلم ما ليس في غيره يكفي قول الله جل وعلا في ذكر القرآن ?بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ?(2) () وقد طلب الكفار من النبي - صلى الله عليه وسلم - الآيات والمعجزات فجاءهم الجواب في قوله تعالى: ?أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ?(3) () فالكتاب أعظم آيات الأنبياء أعظم حجة وأعظم برهان لكنه حجة وبرهان لمن تدبره وتأمله وأقبل عليه.
القرآن أيها الإخوة يرفع الله به أقواماً ويضع به آخرين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أدل ولا أصدق من وقوع هذا الحديث في واقع الأمة من رفع الله جل وعلا لسلف الأمة بأخذهم القرآن فإن الله رفع القرون المفضلة لما كانوا عليه من الإقبال على هذا القرآن قراءة وعلماً وعملاً وتعليماً ودعوة وغير ذلك من أوجه الانتفاع بالقرآن الحكيم.
أيها الإخوة إننا في هذه الأزمان المتأخرة التي بليت فيها الأمة بالمصائب والرزايا من عدة جهات فيما يتعلق بعلاقتها بربها وبعلاقتها بالخلق وعلاقتها مع دينها تحتاج الأمة إلى أن تراجع هذا الكتاب الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله))(4) فالواجب على المسلمين أفراداً وجماعات أن يعودوا إلى هذا المعين الصافي إلى هذا المنبع الصافي الذي لا تنضب فوائده ولا تنتهي عجائبه ولا تنقضي أسراره وأسباب النجاة فيه فينبغي لنا أن نقبل على هذا الكتاب فيه القصص فيه العبرة فيه العظة فيه التثبيت فيه الهداية فيه النور كما قال الله جل وعلا في وصفه: ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ?(5) فهذا القرآن نور وروح فهذه أوصاف تبعث الحياة في الفرد كما أنها تبعث الحياة في الجماعة وكما أنها تبعث الحياة في الأمة فإن الأمة إذا أقبلت على الكتاب بشرت بهذين الروح والنور، الروح يحصل به الحياة والنور يحصل به التمييز بين الحق والباطل الخروج من هذه الظلمات التي أحلكت بالأمة وأحاطت بها من كل جانب لا مخرج منها إلا بالكتاب المبين والقرآن العظيم قال الله جل وعلا: ?أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا?(6) نسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يصلح أحوال المسلمين وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته فإنهم أهل الله لإقبالهم على صفة من صفاته وخاصته لأنهم عظموا ما عظم و أقبلوا على كتابه أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن تعلم القرآن وعلمه.
__________
(1) ... أخرجه البخاري من حديث عثمان بن عفان في كتاب فضائل القرآن برقم 4639.
(2) ... العنكبوت: 49.
(3) ... العنكبوت: 51.
(4) أخرجه مالك في مسنده من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلفظ: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه)) برقم 1395. ...
(5) ... الشورى: 52
(6) ... الأنعام: 122.(/12)
حتمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إعداد/ د. حسن حجاب
الحمد لله، والصلاة
والسلام على رسوله ومن والاه، أما بعد:
فيقول ربنا تبارك وتعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون [آل عمران: 104].
ولتكن فصل مضارع دخلت عليه لام الأمر وبدخولها عليه صار للأمر، والأمر يفيد الوجوب، وقوله تعالى: أولئك هم المفلحون معناها: هم المفلحون دون غيرهم.
وقد قرن ربنا سبحانه وتعالى بين الإيمان وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال جل شأنه: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [آل عمران: 110].
من الآية نعلم أن خيرية أمة الإسلام مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال تعالى في معرض وصايا لقمان لابنه: يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك [لقمان: 17].
قال العلماء عليهم رحمة اللَّه: قوله تعالى: واصبر على ما أصابك معناها: واصبر على ما أصابك من
الأذى بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». رواه مسلم.
قال العلماء عليهم رحمة اللَّه: قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا» معناها: كل من رأى منكم منكرًا.
ويكون التغيير باليد واجب السلطان مع جميع الرعية، وواجب الوالد مع أولاده، وواجب كل أحد مع كل من له سلطان
عليه.
أما التغيير باللسان فهو واجب العلماء، وواجب كل من يستطيع أن يغير المنكر بلسانه شريطة أن يكون ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وألا يترتب على محاولة تغيير المنكر باللسان منكر أكبر منه.
أما تغيير المنكر بالقلب فيكون في حالة العجز عن تغييره باليد ثم العجز عن تغييره باللسان، ويكون ذلك بعدم الرضا
عن هذا المنكر، ومن ثم عدم التعاون مع أصحاب هذا المنكر، بل وعدم مجالستهم أو التعامل معهم قدر المستطاع ماداموا مقيمين على هذا المنكر، لأن اللعنات تتنزل على أصحاب المعاصي، ويخشى على كل من يجالسهم أن يصيبه مثل ما أصابهم. ولا يحل لمسلم أن يسكت عن المنكرات بدعوى أنه ليس هو الذي يفعلها وأن اللَّه تعالى يقول: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [المائدة: 105]، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وضح معنى هذه الآية بقوله: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم اللَّه بعقاب منه».
رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه الألباني. ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من التقصير في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن اللَّه أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم». رواه الترمذي وصححه الألباني.
كذلك روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال: «نعم إذا كثر
الخبث».
وليعلم كل أحد أن النقم لا تحل بالظالمين وحدهم، وإنما تصيب كل من سكت على صنيعهم وعلى كل من جاورهم. يقول ربنا تبارك وتعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [الأنفال: 25].
ولقد استحق بنو إسرائيل الطرد من رحمة اللَّه بسبب تقصيرهم في النهي عن المنكر، قال تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون [المائدة: 78، 79]. أما الرحمات فإنها تتنزل على أهل الصلاح - بل وعلى جلسائهم - يقول المولى تبارك وتعالى: يختص برحمته من يشاء [البقرة: 105]. روى البخاري ومسلم: أن الملائكة تقول لله تعالى عن مجالس الذكر: ويقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه العزيز: أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين
ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون [الأعراف: 165].
وعلى المسلم ألا تدفعه كثرة المنكرات التي يراها في كل مكان إلى التوقف عن النهي عن المنكر. يقول العلماء عليهم رحمة اللَّه: ما لا يُدْركُ كله لا يُتْركُ كله.
ولقد أرشدنا ربنا تبارك وتعالى إلى ذلك في خطابه إلى كفار مكة: أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين [الزخرف: 5].
فإذا رأيت يا أخي المسلم من يرتكب عشر منكرات فإن استطعت أن تجعلها تسعًا فافعل، وفيما يلي بيان ببعض المنكرات التي شاعت في أيامنا هذه حتى في المساجد- فما بالك بما يحدث خارج المساجد بين غير المصلين:
1- بعض المصلين يشرب بيده اليسرى.
2- كثير من رواد المسجد يمرون أمام المصلين، بل وأحيانًا يصطدمون بهم.
3- الإمام في الجماعة الثانية وكذلك المنفرد والمتنفل لا يتخذ سترة أثناء الصلاة.
4- كثرة الكلام بصوت مرتفع في المسجد بمجرد انتهاء صلاة الجماعة، وذلك يؤدي إلى التشويش على المسبوقين والمتنفلين.(/1)
5- انكشاف الظهر أثناء السجود (لبعض المصلين) إلى ما تحت مستوى السرة، وذلك يبطل الصلاة، والسبب
في ذلك هو ارتداء الملابس الإفرنجية.
6- الإسبال في ملابس الرجال (الإفرنجية
والعربية)، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار».
رواه البخاري.
7- كثرة الحركة أثنا الصلاة حتى إنك لتعد للمصلي حركتين في
التشهد الأوسط وأربع حركات في التشهد الأخير، وحركة في السجود وحركة في الركوع،
وحركة بين السجدتين وحركة أثناء التسليم وحركات كثيرة أثناء قراءة الفاتحة
والسورة. وبعض الحركات تكون مدتها طويلة بحيث لو رأيت هذا المصلي لظننت أنه لا يصلي، ثم إذا كلمته في ذلك بعد فراغه من الصلاة ينفي أنه تحرك، أو يقول إنها حركات عصبية!!
8- خروج المرأة للصلاة بالمسجد وهي تلبس ملابس غير ساترة، أو ملابس إفرنجية تشبه ملابس الرجال أو تشبه ملابس الكافرات، وأحيانًا تزين وجهها (المكشوف) بالمساحيق والأصباغ، وأحيانًا تتعطر، أين وليها؟
فالمنكرات كثيرة جدًا (داخل المساجد وخارجها)، وليعلم الجميع أن من يرى أخاه المسلم يخطئ ولا
ينهاه يعتبر آثمًا؛ لأن المخطئ يجب تعليمه إن كان جاهلاً، أما إن كان عامدًا فيجب منعه من الخطأ (أو اعتزاله إن أبى). ولذلك يتعين على كل من رأى منكرًا أن يغيره بالطريقة التي تتيسر له بشروط منها:
أ- أن يكون عنده شيء من العلم، فلا ينكر معروفًا، ولا يسكت عن منكر، يقول رب العزة جل جلاله: قل هذه
سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني [يوسف: 108]، والبصيرة هي العلم.
ب- أن يكون هو نفسه لا يقع في هذا المنكر حتى يستجيب الناس له، يقول ربنا جل جلاله: أتأمرون الناس بالبر
وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون [البقرة: 44].
جـ- ألا يترتب على النهي عن هذا المنكر مفسدة أكبر منه، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
د- أن يكون ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة؛ لقوله تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة
الحسنة [النحل: 125]، ولقوله تعالى: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك [آل عمران: 159].
هـ- اتباع الأَوْلى في الدعوة، فتبدأ بالأهم ثم المهم، لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله إلى اليمن: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه تعالى افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك...» متفق عليه.
و- الحذر الحذر من اختلاط الرجال بالنساء حال الدعوة إلى الخير أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، لأن القلوب تمرض، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وحبذا لو اقتصر الرجال على دعوة الرجال واقتصر النساء على دعوة النساء، فإذا علمت يا أخي أن امرأة من غير محارمك ترتكب بعض المخالفات فكلف زوجتك أو إحدى محارمك بالنصح لها، فإن تعذر ذلك فكلف أحد معارفك من أهل العلم ليكلف زوجته أو إحدى محارمه بذلك أو ينبه على ذلك في دروسه إن كانت تحضر دروسه، أو يكلم وليها إن كان لها ولي، فإن تعذر ذلك فادع لها بظهر الغيب في وقت السَّحَر عسى اللَّه أن يهديها، لأنها لو سلمت من الافتتان بك ربما لم تسلم أنت من الافتتان بها، والعاقل من اتعظ بغيره، واحذر يا أخي من أن تكون من الذين ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، أو تكون من الذين يتعاونون على الإثم والعدوان وأنت تحسب أنك تتعاون على البر والتقوى، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل [الأحزاب: 4].والحمد لله رب العالمين.(/2)
حتى تغيروا ما بأنفسكم
خطبة :
حتى تغيروا ما بأنفسكم
فضيلة الشيخ : عبد الوهاب الطريري
الحمدُ لله معزِ من أطاعَه ومذلِ من عصاه. وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، لا ربَ غيرُه ولا معبودَ بحقٍ سواه.
وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوله أفضلَ نبي وأشرفَه وأزكاه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن أتبعَ سنتَه واهتدى بهداه.
أما بعد أيها الناس اتقوا اللهَ حق التقوى.
أمة الإسلامِ وحملةِ الرسالة وأبناءَ العقيدة:
إن وضعَ هذه الأمة وما تعانيه من فواجعَ ومواجعَ، وما تعايشُه من نكباتٍ وإحباطات، والتعثرُ الذي يصاحبُ خطاها، كلُ ذلك أمرُ يشرَحُه الحالُ بأبلغِ من كلِ مقال، ويحسُه كلُ من يعرفُ حقيقةَ هذه الأمةَ وهويتَها ورسالتَها والموقعَ الذي بوئها اللهُ إياه بين الأمم.
أما من كان التقويمُ عندَه متعةَ الأكلِ ولذةُ الرفاهية فله حساباتُه الخاصةَ ونتائجُه الخاصةُ من هذه الحسابات.
وبكلِ حالٍ فإن الحاجةَ إلى تغيير هذا الوضع، وزحزحةَ الأمةَ عن هذه الهاوية، مطلبُ حقُ مُلح لا يحتملُ الانتظارَ ولا التأخير، ولكن هذا التغييرَ لا يهبطُ من السماء، ولا يستوردُ من الأرض ولا يتمُ في أروقةِ الأممِ المتحدة، ولا يستجدىَ بالمساوماتِ التنازلات.
إن التغييرَ خاضعُ لقانونِ إلهي : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ).
فالذي يريدُ التغييرَ، ويريدُ إحداثَ التغيير عليه أن يغيرَ هو من داخلِه، عليه أن يغيرَ من نفسه حتى يغير اللهُ ما به.
إن التغيير المطلوبَ في ذواتِ الأنفسِ هو انقلاب، انقلابُ يعيدُ بناء النفوسِ بالإيمان ليحدثَ هذا الإيمانُ أثرَه في التغيير.
ولنُشرف على مثلينِ خالدينِ يريانِ ما يصنع التغييرُ بالإيمانِ في واقعِ الحياة:
أما المثلُ الأول فالقصةُ العجب في قصةِ السحرةِ مع فرعون:
هذه القصةُ التي لا تفنى عجائبُها، السحرةُ الذينَ أتوا إلى فرعونَ باستجداءٍ يقولونَ له:
(أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ).
ويخاطبونَ فرعونَ بعبوديةٍ فيقولون: (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ).
فلما استبانَ لهم الحقَ وأشرقت لهم الرسالةَ، وآمنت قلوبُهم بعبوديةِ الله، فخالطَ الإيمانُ بشاشةَ القلوب حدثَ تغيرُ عجيبُ وانقلابُ غريبُ فإذا الذين كانوا يقولون بعزةِ فرعون إنا لنحنُ الغالبون، إذا بهم يقولون: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ).
وإذا الذينَ كانوا يقولونَ باستجداءٍ: (أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ).
إذا بهم يقولون لفرعونَ باستعلاء : ( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا).
وإذا بهم يستقبلونَ تهديدَه ووعيدَه: ( لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ).
إذا بهم يستقبلونه قائلين: (قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ).
ما الذي نفخ في هذه الروح فاشرأبت واستعلت؟
بل ما المطرُ الذي نزلَ على هذه الأرضِ الهامدةِ فاهتزت وربت وأنبتت من كلِ زوجٍ بهيج؟ إنه الإيمان، الإيمانُ الذي لا يفزعُ ولا يتزعزعُ، الإيمانُ الذي لا يخضعُ ولا يخنعُ، الإيمانُ الذي يطمأنُ إلى النهايةِ فيرضاها، ويستيقنُ من الرجعةِ إلى ربهِ فيطمأنُ إلى جواره، ويقفُ الطغيانُ عاجزا أمام الإيمان، وأمام الوعي، وأمام الاطمئنان.
يقفُ الطغيانُ الفرعونيُ عاجزا أمام القلوبُ التي خُيّل إليه أنه يملكُ الولايةَ عليها كما يملكُ الولايةَ على الرقاب، وأنه يملكُ التصرفَ فيها كما يملكُ التصرفَ في الأجسام، فإذا هي مستعصيةُ عليه.
وماذا يملكُ الطغيانُ إذا رغبتِ القلوبُ في جوارِ الله، وماذا يملكُ الجبروت إذا اعتصمتِ القلوبُ بالله.
واشرف على مثالٍ آخر:
أشرف على مثالٍ خالدٍ يبينُ لك ماذا يحدثُه التغيرُ الإيمانيُ في القلوبِ والنفوس والأممِ والشعوب.
قبلَ بعثةِ النبي (صلى الله عليه وسلم) بثلاثً وستينَ سنةً أرسلَ القيصرُ من الشامِ إلى عملائِه في الحبشة يكلفُهم أن يكلفوا عملائَهم في اليمن بهدمِ الكعبة.
اليمن كانت دولةً عميلةً للحبشة، والحبشةُ كانت دولةً عميلةً للروم، ومر الأمرُ من القيصرِ بهذا المسار كلِه، وسارت الأفيالُ من اليمنِ إلى مكةَ تطأُ أوديةَ العربِ و وِهادَها وشعوبَها وبلادَها لا يردُها رادُ ولا يصُدوها صاد حتى وصِلت إلى منى.
أما أهلُ مكةَ فاستجمعوا كلَ قواهم للفرار إلى رؤؤسَ الجبالِ إلا رجلاً واحدا جاء إلى أبرهةَ يقول: إبلي، أعطوني إبلي، أنا ربُ الإبل وللبيتِ ربُ يحميه.(/1)
وبعد سبعين سنةً من هذا الحادثِ انتفضت مكةُ برجالٍ غيروا الجزيرةَ كلَها، فإذا بهم يسيرونَ من الجزيرةِ لا إلى اليمن، فاليمنُ قد فُتحت برسالة، ولا إلى الحبشةَ، ولكن ذهبوا إلى القيصرِ ذاتهِ في بلاده في الشام ليدكوا عرشَه ويقوضوا قوتَه.
ما الذي تغيرَ؟
هل اكتشفَ العربُ سلاحا جديدا؟
أم هل دخلوا في حلفٍ جديد؟
ما الذي جعل الذينَ كانوا يفرونَ أمامَ عملاءَ القيصرِ يغزونَ القيصرَ في عقرِ داره ويقوضونَ قوتَه، وإذا مكةَ التي أنقذتها من أقدامِ الفيلَة معجزةُ إلهيةُ تصبحُ أمنعَ مدينةُ في العالم، ما الذي تغيرَ ؟
لقد تغير العربُ فمات ذلك الإنسانُ الجاهليُ وولد ذاك الإنسانُ المسلمُ، فتغير كلُ شيء: هل تطلبونَ من المختارِ معجزةً..... يكفيه شعبُ من الأجداثِ أحياهم
غيّر العربُ ما بأنفسِهم فغّير اللهُ ما بهم.
إن الوضوحَ في هذين المثلين الخالدين لا يحتاجُ إلى إسهابٍ وشرح.
ولكن ما مدى هدايتِنا نحن إلى هذا التغييرِ على مستوى الأمة ليس على مستوى دولةٍ ولا على مستوى إقليم.
لقد أنهكتِ الأمةُ وهي تجُرجرُ بين إحباطاتِ التجاربُ الشرقيةِ والغربية حتى أصيبتُ الشعوبُ الإسلاميةُ بالدوار دون أن يظهرَ في الأفقِ توجه جادُ ليحدثَ التغييرَ في الأنفسِ وليكونَ التغييرُ إلى الإسلام:
( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
جُرجرتِ الأمةُ وامتُحِنت وسُخِرت وقهِرت لتطبقَ عليها أنواعا من النظرياتِ والأيديولوجيات المستوردةَ التي ليست على مقاسِها أبدا.
إنها –أمتي- متاهاتُ من المساراتِ المعوجة، والحلولِ المفلسة، والآمالِ الدنيويةِ التافهة، وصدق الله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
هذا التذبذبُ في إيديولوجيةِ الحياة أنتجَ تخبطاً وتذبذبا في إستراتيجيةِ التعاملِ مع الأعداء، والعدو المتفقُ عليه هو إسرائيل.
وإن الإحباطَ والتقلباتِ في التعاملِ مع العدو هي نتيجةُ تلقائيةُ للتخبطِ في مناهجِ الحياةِ للأمة.
هُزمتِ الأمةُ في المواجهاتِ العسكرية، لأنهَا كانت مهزومةً في داخلِها، مهزومةً في فكِرها، مهزومةً في وجدانِها، أمةُ مضللةُ مغرّبة.
كانت أحلامُ اليهودِ تقصر عن الواقعِ الذي تحقق، نعم إن الأممَ لا تهزمُ عند خط النار، ولكن تعلنُ هزيمتَها هناك لأنها هُزمت قبل الصدامِ المسلح، هزمت قبلَه بسنوات وبعيدا عن ميدانِ القتال. ( وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ).
إن إنسانَ الهزيمة لا يقوى إلا على وضعِ المزيدِ من الهزائمِ مهما تمنى ومهما ادعى.
إن إنسانَ الهزيمة الذي يتحدثُ عن التغييرِ في كلِ شيء إلا في ذاتِه لا يغيرُ شيئا على الإطلاق، وإن الأمةَ التي تفتشُ عن الخلاصِ في كلِ مكان إلا في ذاتِها تهوي من هزيمةِ إلى هزيمة.
ولذا فإن الحاجةَ ماسةُ إلى الجديةِ في التحولِ إلى منهجٍ إسلاميٍ حقٍ حي، يعيدُ بناءَ الذات، وترميمَ النفسِ، ورصدُ منهجٍ متكاملٍ للحياة له خصوصيتُه وله شموليتُه حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ.
وعندما توجدُ الدعوةُ للإسلام والعودةُ إليه وتحقيقه وتحكيمه فليست تلك دعوةً إلى الدروشةِ والعزلة والسلبيةِ في مواجهةِ الحياةِ والناس، ولكنها الدعوةُ إلى أن نعيشَ حيتَنا ونحنُ نمدُ أعينَنا لمصيرٍ نؤمنُ به يقينا وهو الخلودُ بعد الموت، فإذا هذا الإيمانُ يضبطُ حياتَنا وسلوكياتِنا ومعاملاتِنا.
وأن تعيشَ الأمةُ كي تكونَ على مستوى دينَها، وكي تنجحَ في المحافظةِ عليه، وكي تستطيعَ إفهامَه للآخرين وتقديمَه للأمم.
فلا بد أن تكونَ راسخةَ القدمِ في شؤون الحياةِ كلِها، بل سباقةُ في كل الميادين مسموعةَ الكلمةِ في آفاقِ العلم.
إن الدعوةَ إلى العودةِ إلى الإسلام حقيقةً تعني الدعوةَ إلى التخلصِ من إرثِ التخلفِ الذي تعيشُه الأمة، والذي هو خطيئةُ ترتكبُها الأمةُ في حق نفسِها وحقِ دينِها.
إن أي دعوةِ لإعادةِ بناءِ الذات والعودةِ إلى الهويةِ وتحكيمِ الشريعة، والشموليةَ في تناولِ الدين بعيدا عن أخذِه انتقاءً، وإنما أخذُه كلا، إن الدعوةَ حينئذٍ ينبغي أن يحتفى بها وأن ينظرَ لها على أنها دعوةُ لعصمةِ الأمةِ من الهلاك، وعلى أنها دعوةُ لانتشالِ الأمةِ من الهاوية.
ينبغي أن تسمى الأمورُ بمسميتِها، فهي دعواتُ للإصلاح وليست دعواتِ لزعزعتِ الأمنِ، وليست دعواتِ تنتجُ القيامَ بالأعمالِ التخريبية.
إن الإرجافَ بهذا النوعِ من المسميات هو إرجافُ فرعونيُ سبق إليه فرعونُ يومَ اتهمَ موسى قائلاً: ( إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ).(/2)
موسى الذي يأتي بالفساد، ما الفسادُ الذي يعنيه فرعون، إنه فسادُ كيانِه وطغيانِه واستبدادِه وجبروتِه.
يجبُ أن ينظرَ إلى دعواتِ الإصلاح، ودعواتِ تحكيمِ الشريعةِ على أنها دعواتُ تمد طوقَ النجاةِ للأمة، وينبغي أن ينتهيَ ترديدُ العباراتِ الساذجةِ التي استُهلِكت يومَ يُنظرُ إلى كلِ دعوةِ إصلاحٍ أو حركةٍ إلى تحيكمِ الشريعة على أنه اكتُشفت محاولةُ لقلب نظامِ الحكم.
ألم نسأم بعدُ من هذه التهمِ السامجة؟
الدعوةُ إلى تحكيمِ الشريعة يعبرُ عنها باكتشافِ محاولةُ لقلب نظام الحكم، لقد اسُتهلكت هذه الدعاوى، انتهت مدةُ صلاحيتِها، ملتُ الأذنُ من ترديدِها، مجتها الآذانُ وعافتها النفوس، ولكن الخزيَ أن تروجَ هذه التهمٌ الكاسدةِ الفاسدةِ في صحافتنا.
خزيُ تصفعنا به صحافتُنا يوم تكرر ُ التهمةَ الفرعونيةَ مرةً أخرى التي قال فيها فرعونُ لموسى: ( أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ).
جئتَ يا موسى لقلبِ نظام الحكم، هذه التهمةُ سنظل نرددُها إلى متى، إلى متى توصفُ التوجهاتُ في البلادِ الإسلامية لتحكيمِ الشريعةَ على أنها محاولاتُ لقلب نظامِ الحكم.
إن الدعواتَ إلى تحكيمِ الشريعةَ ينبغي أن تكونَ محل الحفاوة، ومحل الاحترام، وكلُ محاولةٍ بتحكيمِ شرعِ الله ينبغي أن تكون صادرةً من كل قلب، وناطقا بها كلُ لسان:
( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
أما هذه السلسلةُ من التهمِ الفاسدةُ الكاسدة، والتي بدأت صحافتُنا تقطرُها علينا تارةً وتغمُرَنا بها حينا، فإننا نردُها إلى الصحافةِ مع التحيةِ ونقولُ انتهت مدةُ صلاحيتِها، فقد جُربت في الستينات والخمسينات أما اليومُ في الناسُ غير الناس والوعي غير الوعي.
اللهم أمبرم لهذه الأمةِ أمر رشدٍ يعزُ فيه أهلُ طاعتِك ويذلُ فيه أهلُ معصيتِك ويؤمرُ فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكرِ وتقالُ فيه كلمةُ الحقِ لا يخشى قائلُها في اللهِ لومةَ لائم وأستغفرُ الله لي ولكم.
....…………………………
واحات الهداية ...(/3)
حجاب التبرج ومواصفاته
أيتها الأخت المسلمه:
عليك ان تصغي باذن قلبك, وتستجمعي شارد فكرك, وتجلسي مع هذه الكلمات جلسة صدق مع الله ومع النفس, واستمعي معي الي قول الله تبارك وتعالي لأن القرآن انما هو كلام الله عز وجل, فمن أراد أن يكلمه الله عز وجل فليقرأ القرآن الكريم, فاني سمعت الله عز وجل يقول {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} (57) سورة الكهف ويقول الله عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} (20) سورة لقمان.
ويقول الله عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} (3) سورة الحج
أيتها الأخت المسلمة:
لقد عاهدت الله عز وجل أن لا أخدعك بباطل, ولا أزيف لك الحقيقة أمام عينيك وبين يديك صافية صفاء السماء, نقية نقاء الماء, لا كدر فيها ولا شبهات, حتي وان كانت هذه الحقيقة مرة مؤلمة لأنه لا يجب علينا أن نتغاضي عنها وتتركها ليستفحل خطرها
ويشتد ضررها بل يجب أن نواجهها بصدق وثبات وايمان وصبر حتي نخرج بزاد ينير لنا الطريق - بزاد يحول بينك وبين الوقوع في أحبال الدنيا وأهوائها وينجيك من شر همسات الصديقات والقريبات التي ترجعك الي الوراء مع الشيطان والأهواء-أيتها الأخت, فلتعلمي أن نعيم الدنيا غرض زائل, وأن سكر الدنيا مهما كان لذيذا يوشك أن ينتهي, وتذهل عقلك ساعة يقظة وانتباه وان هذه الساعة ان شار الله لقريبة منك. فهيا أقبلي علي ربك استمعي الي كلام الصدق والحق واتركي هؤلاء جميعاً لأن الجميع يريد خداعك ويريد أن يزيف لك الحقيقة بأن يجعل لك الحرام حلالاً والحلال حراماً. ولكن شرع الله سفينة النجاه في وسط هذه الفتن وهذه الامواج المتلاطمة في جانبي محيط مدمر من الفتن والشهوات.
لا تنخدعي أيتها الأخت المسلمة بالأكاذيب والأباطيل ولا تجادلي بالباطل, لتدحضى به الحق, فان الحلال بين و الحرام بين والباطل في حساب الزمن لحظات. أما الحق فباق بقاء الأرض والسموات.
ان هذا التقليد الأعمي للفاجرات من الشيوعيات واليهوديات من كشف للرءوس والرقاب والصدور والأيدي والأرجل واظهار الزينة حرام وكبيرة في حق الله جل وعلا.
ولما علم الله عز وجل بخطورة هذا التبرج ( كما أسلفنا) أمرنا بالحجاب صونا لك أولا ثم صوناً لكرامة هذا المجتمع المسلم. فأمر الله بالحجاب من محاسن هذه الشريعى الغراء زفضائلها ونعمها لما يترتب عليه من الصيانه والعفاف والبعد عن الأدناس والرذائل والمعاصي.
وفي حديث سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لفاطمه رضي الله عنها: ما خير للنساء؟ قالت: أن لا ترين للرجال ولا
يرونهن, فذكره للنبي صلي الله عليه وسلم فقال: (انما فاطمة بضعه مني).
بل وقد أمر الله عز وجل بعدم الاختلاط والتبذل والتبرج فقال: ( {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } (33)
سورة الأحزاب قال ابن كثير أي الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة ,وقال تعالي وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } (31) سورة النور قالت الاخت الفاضلة في كتابها (التبرج): ان الله قد أنزل هذه الايه وهو يعلم أن من النساء من تختمر للزينة والفتنة, وتتجمل بالخمار لأنها تديره علي رأسها مائلا ذات اليمين أو ذات الشمال وتحليه ببعض الخليه, وبارسال خصلات من شعرها اللامع علي جبينها أو تجعله علي شكل تاج يزيد في جمال وجهها, وحتي يكون الخمار نفسه زينة للناظرين عكس ما أراد اللع عز وجل من جعله سائراً لزينتها وفتنتها وزعمت أنها أطاعت الله واختمرت كما أمر.
ألا فلتعلم هذه المخادعة ان الله عليم بما في نفسها من شهوه التجمل والتبرج, وأنه لا يخفي عليه ما في قلبها من الاحتيال والمخادعة, فرغبتها في أن تبدو جميله, وأن تحوز اعجاب من يراها ولو بالخمار, تبرج يمقته الله عز وجل, ومعصية يعاقب عليها ولذلك عقب قوله تعالي (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) قوله (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) أي أن الخمار وحده لا يكفي مع التجميل والتزين, ثم تدبرن قوله تعالي{ وَلَا يَضْرِبْنَ ِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } (31) سورة النور ان الله تعالي ينهي عن استلفات النظر الي الزينة وان كانت مستورة. ثم تدبرن قوله تعالي {فلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (32) سورة الأحزاب حتي التبرج في الصوت نهي الله عنه.(/1)
انني أسمي هذا النوع من الحجاب الذي ظهر اليوم في عصر التطور والتحرر حتي امتدت أيدي هذا التطور لتطوير شرائع الله وتعاليم دينة فغيرت أوامرة وطورتها بما يلائم روح العصر!! اسميه (( حجاب التبرج)).
أيتها المخدوعة أو المخادعة اتقي الله وراقبي ربك واعلمي بأنك ستقفين بين يديه وستقدمين للعرض عليه.
ما هذا الذي تلبسينة لتشوهي صورة من أبهي وأجمل صور الاسلام ألا وهي ( الحجاب الشرعي).
أتزعمين بهذا الذي تلبسينة وهذا الذي تخترعينة ( أتزعمين أنه الحجاب الشرعي) ألم يعجبك شروط الله في حجابه الشرعي فأردت أن تضيفي علي هذا الحجاب العتيق والقديم بعض اللمسات الفنية الجميلة بحيث يتفق ويتمشي مع روح هذا العصر الذي أصبح السائد فيه هو مذهب التبرج والسفور. فتصبحين أحسن حالاً من هؤلاء اللائي كشفن كلية عن صدورهن وزينتهن.
ولكنني أصارحك القول بأنك أشد فتنة من هذه المتبرجة العارية وأنت خادعة ومخدوعة وأنت في معصية الله عز وجل.
نحن نرفض تماماً مبدأ (الحلول الوسط) في أحكام الله وشرائع الله علي حد زعم هؤلاء الذين ينادون ويتشدقون بقولهم ( خير الأمور الوسط) ليس في أحكام الله الواضحة لصريحة التي أمرانا الله بها وحذرنا من البعد عنها وعدم الامتثال والالتزام بها.
شرح الله صدرك بالحجاب. اذن فلابد أن يكون هذا الحجاب بمواصفاتة الشرعية والتي سنذكرها في الفصل المقبل بمشيئة الله عز وجل.
أما أن تتفنني في هذا الذي تسمينه حجاباً فهذا خداع وتزييف لا أصل لهما في دين الله جل وعلا.
يا أختاه!!
اياك أن تظني أن الله لا يعلم السر وأخفي! أو لا يعلم بما يدور في خلجات نفسك!!كلا.. فان الله عز وجل يقول وقوله الحق والصدق {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (16) سورة ق.
فاسألي نفسك أيتها المسلمة بصدق, ما هو الدافع الحقيقي وراء لبس هذا الحجاب المتبرج. هل تريدين طاعة الله عز وجل وتنفيذ وامرة, أم تريدين أن تهربي من العري الفاضح الي العري المستور؟! اذا كنت تريدين أمر الله وشرع الله فالحجاب الشرعي له شروط وله مواصفات.
أما هذا الحجاب المتبرج بمواصفاته التي نراها فليست من دين الله عز وجل. فالهدف كله من عدم التبرج في دين الله هو ابطال
العري وتعيين العورات للرجال والنساء.
فلا يوجد دين أو تشريع علي ظهر هذه الأرض, قد شدد علي الستر وعدم العرى. كدين محمد صلي الله عليه وسلم. فسبحان الله حتي في لحظات المعاشرة بين الزوج وزوجته يقول النبي صلي الله عليه وسلم (إذا أتي أحدكم أهله فليستتر, ولا يتجرد تجرد العيرين)رواه ابن ماجه.
ربما قلت ان هذا التحذير من الله ما هو الا للعاريات المتبرجات ولكن الحقيقة أيتها الأخت المسلمة, أن هذا (الحجاب العصري) بمواصفاته انما هو أشد فتنة من التبرج والعري.
لأنك في الحقيقة (كاسية عارية) ولقد حذر النبي من هذا الثوب الكاسي العاري بأن أصحابه من أهل النار.
فعن أبي هريره رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم( صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضريون بها الناس, ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات, رءوسهن كأسنمة البخت المائلة, لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وان ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) وفي رواية أخري(وان ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام)رواه الامام مسلم.
ومعني قوله علية الصلاة والسلام, كاسيات عاريات أي كاسيات في الصورة والمظهر ولكن الحقيقة انهن عاريات لأن هذا الثوب
لا يخفي عورة, بل يظهرها في شكل ملفت للأنظار مثير للفتن والشهوات والغرض من الثوب أو اللباس هو الستر فاذا لم يكن الثوب ساتراً للعورات فصاحبيتة عارية وحتي تتضح الصورة فاليك أوصاف هذا (الحجاب العصري) ثم توضيح الخطأ والصواب والحق والباطل في هذا الحجاب.
الصفة الأولى (لحجاب التبرج):
الابتكار والاتقان في اظهار الزبينة:
إن هذا (الحجاب العصري) لعجيب وغريب أمر أصحابه وأحبابه وأتباعه, فلو نظرت واحدة منهن لوجدتها قد خرجت كالعروس المزينة المزخرفة,وعليك أن تنظر إلي رأسها والي هذا الخمار الحديث والمتطور التي تحمله علي رأسها الفارغ لتري الألوان الصارخة كالأحمر والأصفر والأزرق والي غير هذه الألوان التي تشد الأنظار من بعيد وياليت هذه (الطرحه) الملونة قد اقتصرت علي لونها ولكن للأسف فقد أضيف إليها هي الأخرى ما زينه إلي زينه من هذا الشريط الذهبي أو هذا الشريط الفضي الذي يلتف علي هذه الطرحه في شكل تاج, ثم تزعم صاحبته بأنها تلبس الحجاب !!
أي حجاب هذا الذي تزعمين, أنه خمار الخداع والتزييف انه حجاب الزينة والجمال, انه حجاب الفتن والشهوات, ثم ماذا... هذا الوجه الذي نزع برقع الحياء وهتك ستر الله هتكاً وللأسف بحمل هذا الحجاب المتبرج علي رأسه. ماذا وضع عليه من مساحيق ومن ألوان.(/2)
لا مانع أبداً من وضع قليل من (المكياج) مع هذا (الحجاب العاري)(قليل من الروج) علي الشفاه (وقليل من البودرة) علي الخدين, وقليل من لمسة القلم الأزرق أو الأحمر علي العينين, ثم لا مانع من هذا (التخفيف للحواجب).
هذا وصف كامل بمنتهي الصراحة والوضوح لرأس فارغ حمل حجاباً عارياً متبرجاً ثم زعمت أنها محجبة بالله عليكم أهذا هو الحجاب.
أهذا هو أمر الله وحكمة الله من الحجاب.
يا سيدتي الأنيقة, يا صاحبة الإتقان والإبداع والابتكار يا من تقفين الساعات الطويلة أمام المرآة من أجل إبراز جمال هذا الحجاب ومن أجل إثارة الفتن والشهوات بالله عليك. أهذا يرضي الله عز وجل بالله عليك أهذا يرضيك أنت إذا ما جلست لحظة صدق مع نفسك؟!!
إذا كنت حقاً تريدين الستر وتردين العفة والكرامة وتردين تنفيذ أوامر ربك والحرص علي طاعته. فلم هذا كله, لم هذا التفنن والتزين, وأنت قد قرأت معي سابقاً أن من حكمة هذا الحجاب الذي أمر الله به هو الحفاظ علي الرجال والصيانة لكرامه المرأة من أن تجعل من نفسها سلعة مزينة للعرض في أسواق الشوارع وتعرض نفسها لغضب الله عز وجل فلقد أمر الله النساء بعدم إظهار أي زينة تكون سببا في تدهور الأخلاق إذا كنت علي هذه الحال وعلي هذا الوضع فأنت ملعونة لأن الله عز وجل كما ورد في الحديث الصحيح قد لعن النامصة والمتنمصه.
فعن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال ( لعن الله الواصلة والمستوصله, والواشمة والمستوشمة, والنامصة والمتنمصة, والمتقلجات للحسن المغيرات لخلق الله)رواه البخاري ومسلم.
والواصله: هي التي تقوم بعملية توصيل شعرها أو شعر غيرها بشعر آخر (الباروكة).
والمستوصلة: الني تسأل من يفعل ذلك لها.
والواشمة: الوشم هو أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشى بكحل فيزرق أثره أو يخضر, ومن تفعل ذلك وتقوم به فهي الواشمة.
والمستوشمة: هي من يفعل بها ذلك.
والنامصة: هي التي تأخذ من شعر الحاجب لغيرها من النساء مني نرفع الحاجب وترققه.
والمتنمصة: هي التي تطلب ذلك وتصنعه وتفعله.
الصفة الثانية من صفات حجاب التبرج:
((فتنة في ذاته))
إن مما اتصف به (حجاب التبرج) أنه فتنة في ذاته نعم هذا هو لسان الحال والمقال. انظر إلي هذا الحجاب المزعوم لتري صاحبته أشد فتنة وخلاعة من المتبرجة العارية.
ولا أعتقد أن يجادلني أحد في هذا الأمر الواضح والملموس لأنه دائماً (الممنوع المرغوب) فهذه الني أظهرت وكشفت عن لحمها وعورتها بلا خجل أو حياء أصبحت تتأذي وتنفر منا النفوس الطيبة وتحتقرها الأعين المؤمنة أما هؤلاء (الكاسيات العاريات ) أصبحن أشد فتنة وإثارة وخطورة لأنها في معتقدات الناس وأفكارهم (محجبة) أبداً والله ولا تمت إلي الحجاب الشرعي بصلة لا من قريب ولا من بعيد بل هي أشد خطر اليوم علي المجتمع المسلم ممن أظهرت لحمها !!
لأن مل من وصفها بأنها ملنزمة ومحجبة واعتقد صحة ذلك علي هذ1 الوضع من (الحجاب العاري ) فانما هو آثم ولا بد من أن يصحح فهمه وفكره.
إن المرأة التي ترتدي هذا الحجاب تتفنن اليوم في إظهار فتنتها ولذا فان الله الأعلم بطبائع البشر ونفوس الناس.
قد حذر من هذه النوايا الخبيثة ونهي النساء عن إظهار مفاتنهن ومحاسنهن وزينتهن. فقال تعالي وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } (31) سورة النور. فليس هذا الحجاب لإبراز الجمال والزينة وليس هذا الحجاب لاثارة الشهوات والفتن ولكن الحجاب أولا وأخيراً ستر للعورات وسد لباب الفتن والشهوات.
*-*-*-*-*-*-*-**************--*-*-*-*-*-*
الصفة الثالثة من صفات (حجاب التبرج):
الوصف الدقيق والواضح للعورات:
إن مما اتصف به هذا الحجاب المشئوم أنه ضيقاً ملتصقاً بالجسم التصاقاً وثيقاً يثير الشهوة بصوره أبشع وأفظع مما لو كان الجسد عارياً. فربما نفرت عنه الأعين. ولكن هذا الثوب يظهر كل فتنة من مفاتن المرأة وصدق قول النبي السابق ( كاسيات عاريات) صدقت يا سيدي يا رسول الله إنها كاسيه وفي الحقيقة عارية لأنه يجسم العورة من أعلي إلي أسفل –دون توضيح أو تحديد- فالمرأة أدري بعورتها وأعلم بمفاتنها التي تتحري الدقة في إبرازها وإطلاق سهام سمومها لقلوب الشباب والرجال تحت شعار (الحجاب العصري المتطور) هذا الثوب الضيق الذي يجعلها تمشى تتراقص وتتمايل فتحرك الشهوة في قلوب الرجال (مائلات مميلات).
(مائلات) في مشينهن يتبخترن ويتراقصن بقصد الفتنة والإغراء, فيكون ذلك سبباً لميل قلوب الرجال (مميلات) لقلوب الرجال الذين ينظرون إليهن.
فلتعلمي أيتها الكاسية العارية حتى وان كان تحت ستار هذا الحجاب المزعوم أنك من أهل النار بنص الحديث إذا لم تتوبي وترجعي إلي الله عز وجل وتستغفري الله تبارك وتعالي واعلمي بأن الله غفور رحيم.
الصفة الرابعة من حجاب التبرج:
لا بد وأن يكون معطراً(/3)
إن من هذه الصفات البارزة في هذا الحجاب المزعوم؟ أن يكون هذا اللباس وهذا الثوب معطراً !! فإذا مرت إلي جوارك امرأة من هؤلاء الكاسيات العاريات المتحجبات المتبرجات سوف يصل إلي أنفك أرقي (البرفانات) والعطور الجذابة التي أصبحت سهماً من سهام الشهوة وإثارة الفتنة بل إن هذا العطر أصبح من ألطف وسائل المخابرة والمراسلة ولعم الله العليم الخبير ما لهذا الثوب المعطر من خطورة علي أخلاقيات هذا المجتمع فلقد حرم وحذر من هذه المعصية فلا يسمح الإسلام للمرأة بأن تمر علي مجلس من مجالس الرجال وهي معطرة ومتطيبة, لأنها حتى وان سترت زينتها وجمالها فسوف ينتشر عطرها وطيبها في الجو وعلي الفور سيلفت الأنظار ويحرك الانتباه ويثير العواطف, ومن هذا المنطلق كان لهذا الأمر بشاعته وخطورته التي جعلت رسول الله يحذر منه بل ويصف المرأة التي تعمل وتصنع ذلك بأنها (زانية).
فقال صلي الله عليه وسلم في الحديث (المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا يعني زانية) رواه الترمذي.
ويقول صلي الله علية وسلم ( إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تسن طيباً ) رواه مسلم.
ويقول صلي الله علية وسلم (طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه, وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه)رواه الترمذي.
الصفة الخامسة من حجاب التبرج
:
أن يكون مزركشاً ومزخرفاً !!
نعم إن من صفات هذا الحجاب المزعوم أيضاً أنك تري ما يتعب الأعين ويهيج الأعصاب ويثير النفوس, فهذا التكلف الصارخ في زخرفة الثوب وإبراز زينته نوع خطير من أنواع التبرج الممقوت بل هو من تبرج الجاهلية الأولي وبريد الشيطان. وسبب من أسباب انتشار الغاز في الهشيم وإشاعة الفاحشة بين الشباب والرجال ويحذرنا القرآن من كل هؤلاء فيقول الله تبارك وتعالي {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (19) سورة النور.
فاتقي الله واحذري من غضب الله عز وجل ولا تكوني ممن كان سبباً من أسباب الفاحشة وليس ممن يحبون أن تشيع الفاحشة لأنك بهذا التبرج الصارخ سبب بل وسبب خطير في إشاعة الفاحشة بين المؤمنين فان لم ترجعي إلي ربك وتتوبي إليه فلك من الله العذاب الأليم في الآخرة بنص القرآن.
الصفة السادسة من صفات حجاب التبرج:
( شفاف يظهر ما يجب سترة من العورات )
إن من هذه الصفات أيضاُ لهذا الحجاب العاري أن يكون هذا الثوب سواء كان الخمار أو اللباس خفيفاً شفافاً يظهر ما تحته من عورات دون أي تعب أو عناء لمن ينظر إليه وكل هذا لغريزة التبرج وإظهار الزينة التي تتفنن المرأة في إظهارها , تارة في اللباس , وتارة في تجميل الشعر والخمار واختيار الأزياء الرقيقة الجذابة, ولا يستطيع أحد أن يحرمك هذا الحق , وأن يطلب منك أن تكوني مهملة في مظهرك وفي لباسك للحد الذي يقذذ وينفر حتى أقرب الناس إليك ... لا علي الإطلاق.
ولكن نقول ما أمر الله به وما شرع لعبادة وما فيه صلاحك و فلاحك وتقواك كما أسلفنا الذكر. فالغرض من الحجاب الشرعي هو الستر فكيف إذن تسمينه حجاباً وهو مظهر لكل عورات جسدك وثوبك الداخلي الذي لا يحب أن يراه إلا زوجك !!
فهذا اللباس الخفيف الذي لا يمنع رؤية ولا يحجب نظرا هو سهم ملوث مسموم.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت علي رسول الله صلي الله علية وسلم وعليها ثياب رقاق, فأعرض عنها رسول الله وقال : ( يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يري منها إلا هذا وهذا وأشار إلي وجهه وكفيه) رواه أبو داود.
وأن كان هذا الحديث (مرسل) لأن فيه خالد بن دريك وهو لم يدرك السيدة عائشة وفية علة أخري في السند وهي أن في إسناده ( سعيد بن بشير الأزدرى ) وهو منكر الحديث وضعفه الإمام أحمد.
الشاهد الذي نريد أن نوضحه هو أن الثوب الشفاف الرقيق يظهر ما تحته من ثوب داخلي فيحرك الغرائز ويثير الشهوات وهذا يتنافى مع الوقار والحشمة والصوان والعفاف.
الصفة السابعة من صفات حجاب التبرج:
(لباس شهره وتفاخر)
أيضاُ من هذه الصفات الذميمة لهذا الحجاب المتبرج أن تحرص المرأة علي أن تتفنن علي طريقة (خالف تعرف) وكأن هناك فيما بينهن سباق حاد في عرض الأزياء مستتر فهذا تلبس الحجاب الفاقع, وهذا تلبس الثوب الضيق الذي يكاد يشل حركتها عن المشي والحركة ثم تضع حول خصرها هذا الحزام الذهبي أو الفضي اللامع. والكل يتبارى في إبداء الحسن والجمال والشهرة.
وقد حذر الني صلي الله علية وسلم من هذا الثوب فقال : ( من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسة الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه نارا) رواه أبو داود وابن ماجه وإسناده حسن كما قال المنذرى.
والله الذي لا اله غيره لو أن في قلبك ذرة واحدة من ذرات الإيمان وقرأت هذا الحديث لانخلع قليك واضطرب فؤادك وارتعدت فرائصك.(/4)
يا من تلبسن اللباس للتفاخر والإشهار والجمال هذا الحجاب ينفق ويتمشى مع هذا الثوب لا يليق إلا علي هذا (القرط) وهذا كله يتمشى مع ذلك (الحذاء الطويل ) ولابد من تكملة هذا الديكور بأن تكون هذه الحقيبة (شنطه اليد) بنفس اللون وبعد ذلك كله يأتي دور (البرفان) ثم توقيع العقد مع الشيطان للخروج إلي الشوارع بعدها علي هذا الحال من التبرج والتهتك, ولا قيمة إذن لغضب وانتقام الواحد الجبار.
فيا من هذا هو حالك انتظري وعيد الله عز وجل فكما عصيت أمر الله ولبست لباس شهرة وزينة وفتنة فسوف يلبسك الله عز وجل في يوم القيامة ثوب مذلة وهوان ولا يكفي ذلك ولكن يلهب الله عز وجل فيه النيران.
فذكري نفسك وحاسبي نفسك قبل أن تحاسبي أمام من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وقبل فوات الأوان, وقبل الندم. في وقت لا ينفع فيه الندم.
الصفة الثامنة من صفات حجاب التبرج:
لا مانع من أن يكون قصيراً
هذا المنظر المضحك المبكي الذي هو من صفات هذا الحجاب الممقوت أن تري النصف الأعلى للمرأة مغطي (وإن كان بحجاب تبرج!) ثم تنظر فتري النصف الأسفل عارياً أو ربما كان اللباس قصيراً ومعالجة لهذا الموقف تلبس (حذاء طويلاً) برقبة طويلة فيغطي الساق من تحت الركبة ولا ضرر في أن يكون هناك فارق كبير ما بين طول الثوب وارتفاع رقبة الحذاء لأن هذا الجزء اليسير ( معفي عنه) !!
هذا لون جديد ونوع آخر من الحجاب المتبرج المزعوم وكثيراً ما نري هذا المشهد المؤلم وللأسف أن تعتقد أنها متحجبة وأنها متحشمة وملتزمة, ولكن هذا خداع وهذا باطل لا أصل له في دين الله عز وجل.
فيا أيتها الأخت المسلمة:
ماذا تريدين. هل تريدين رضا الله أم رضا الشيطان ؟! إذا كنت تريدين رضا الله فهذا كله مخالف لأمر الله وخارج عن شرع الله لأن الأصل في دين الله بأن الحجاب لستر الزينة وعدم إظهار العورة حتى لا تسرى الفتنة في قلوب الرجال كسريان السم في اللذيع.
أما إذا كنت تريدين رضا الشيطان فهذا بعينه كمال الرضا وتمامه, بل أنت علي هذا الوضع وبهذه الحال جندي خطير من جنود وأعوان الشيطان.
فكيف تقبلين رفقة الشيطان ومصاحبة الشيطان وترفضين رفقة الرحمان, وترفضين تعاليم سيد ولد عدنان صلي الله علية وسلم والله إننا نريد لك العفة, ونريد لك الكرامة, نريد لك العزة, ولا يمكن أبداً أن تجدي هذا الخير إلا في إتباع شرع الله وتعاليم الله عز وجل, فأصلحي ما بينك وبين الله وعمري ما بينك وبين الناس وتكونين من الفالحين السعداء في الدنيا والآخرة {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (70) سورة الفرقان
الفصل الخامس
شروط الحجاب الشرعي
بعد أن تحدثنا بالتفصيل عن مواصفات ( حجاب التبرج ) وخطورتة فلابد إذن من الحديث حتي ولو في عجالة عن الحجاب الشرعي وشروطة, وإن كنت قد أشرت إلي تلك الشروط مع كل صفة من صفات حجاب التبرج, ولكن في صورة ضمنية حينما كنا نذكر الصفة وما يقابلها من الصواب والحق.
الشرط الأول: أن يستر البدن كله
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (59) سورة الأحزاب. وهذه هي آيه الحجاب ومعناها صريح بوجوب ستر الزينة كلها وعدم اظهار أي شئ منها أمام الأجانب.
الشرط الثاني: أن لا يكون زينة في نفسه
لقوله تعالى (ولا يبدين زينتهن) بمعني أن لا يظهرن أي زينة فما بالك بالثوب ذاتة إذا كان زينة والمقصود من الأمر بالجلباب والحجاب إنما هو ستر زينة المرأة فلا يعقل حينئذ أن يكون الجلباب في ذاتة زينة فهذا بعينه هو التبرج ولقد شدد الإسلام في أمر التبرج إلي درجة أنه قرنه بالشرك والزني والسرقة وغيرها من المحرمات وذلك حين بايع النبي صلي الله علية وسلم النساء علي أن لا يفعلن ذلك.
فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال: جاءت أميمة بنت رقيقة إلي رسول الله صلي علية وسلم تبايعة علي الاسلام فقال : أبايعك علي ان لا تشركي بالله شيئاً, ولا تسرقي, ولا تزني, زلا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك, ولا تنوحى ولا تتبرجي تبرج الجالهية الأولي )رواه أحمد بسند حسن ورواه الطبراني وقال الهيثمي في المجمع (رواته ثقات).
الشرط الثالث: أن يكون صقيقاً لا يشف
لأن الستر لا يتحقق إلا به, وأما الشفاف فانه يزيد المرأه فتنة وإثارة.
ولقد ورد في الحديث الصحيح:
عن أم علقمة قالت: ( رأيت حفصة بنت عبدالرحمن ابن أبي بكر دخلت علي عائشة وعليها خمار رقيق يشف عن جبينها فشقتة عائشة عليها وقالت: أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور؟ ثم دعت بخمار فكستها ) رواه مالك والبيهقي وأخرجه ابن سعد.
الشرط الرابع:(/5)
أن يكون فضفاضاً غير ضيق فيصف شيئاً من الجسم لأن الغرض من الثوب هو دفع الشهوه والاثارة والفتنة وهذا لا يتحقق في الثوب الضيق الذي يبرز الأعضاء والعورات ويصورها في أعين الرجال تصويرا واضحاً وقد تكلمت عن هذا بوضوح في الفصل السابق.
الشرط الخامس: أن لا يكون معطراً مطيباً
ولقد أسلفنا الذكر عن خطورة الطيب إذا هبت رائحته من المرأه لتشعل نيران الشهوة في قلوب الرجال.
ويكفي هذا الحديث الذي يحرك الجبال ( أيما إمرأة استعطرت فمرت علي قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية) رواه النسائي وابو داود والترميذي والحاكم وأحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما.
ويقول النبي صلي الله علية وسلم ( إذا خرجت إحداكن إلي المسجد فلا تقربن طيباً ) رواه مسلم.
فإذا كان ذلك الطيب حراماً علي من تريد الذهاب إلي مجلس علم أو إلي أداء فرض الصلاة في المسجد, فماذا يكون علي من تخرج إلي العمل وإلي السوق وإلي الشارع وهي متعطرة؟! لا شك أنه أشد حرمة وأكبر إثماً وذنباً.
وقد ذكر الهيثمي في (الزواجر)(2/37 ) أن خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر ولو إذن لها زوجها.
الشرط السادس: أن لا يشبه لباس الرجل
فعن عبدالله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلي الله علية وسلم يقول: ( ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبة بالنساء من الرجال)رواه أحمد والطبراني وأبو نعيم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( لعن رسول الله صلي علية وسلم الرجلس يلبس لبسة المرأة, والمرأة تلبس لبسة الرجال)أخرجة أبو داود وابن ماجة والحاكم وأحمد وقال الحاكم صحيح علي شرط مسلم.
ومن أخطر الأحاديث التي وردت عن رسول الله في هذا الأمر الخطير.
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله علية وسلم ( ثلاث لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله اليهم يوم القيامة العاق والديه, والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال , والديوث) أخرجة الحاكم والبيهقي وأحمد وقال الحاكم: صحيح الاسناد ورواه النسائي والبزار.
الشرط السابع: أن لا يشبه لباس الكافرات
فلقد نهي الشرع الحنيف عن التشبه بالكفار سواء في عبادتهم أو أعيادهم أو أزيائهم الخاصة بهم. ولكن للأسف الشديد قد خرج عن هذه القاعدة كثير من المسلمين والمسلمات حتي من الذين يعنون بأمر دينهم جهلاً بهذا الدين واتباعاً لأهوائهم وانحرافاً مع عادات وتقاليد العصر الحاضر تمشياً مع روح التطور والتحرر.
الشرط الثامن: ألا يكون لباس شهرة
وقد تحدثنا عن هذا الشرط في الفصل الماضي وكفي بحديث النبي صلي الله علية وسلم المروى عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلي الله علية وسلم ( من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسة الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه نارا)
هذه هي الشروط الواجب توافرها في الحجاب الشرعي الذي أمر الله عز وجل به وحذرنا من تركه والخروج عليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (6) سورة التحريم(/6)
حجب الغفلة وأسرار الاغترار
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
حُجب الغفلة كثيرة ، وأسباب الاغترار عظيمة ، وفتن تسري في حياة الناس تسلب منهم كثيراً من عقولهم الراشدة وفطرهم السوية .
ومن أعظم ما يقع به الاغترار القوة والسلطان والقدرة الذي يتولد عنه الطغيان والجبروت والهيمنة والغفلة عن حقيقة القوة العظمى لرب الأرض والسماوات سبحانه وتعالى ..كم نرى من الناس من اغتر بقوى البشر وبالقوى العظمى والتقدم العلمي وبالأسلحة الفتاكة والتقنية المتطورة ، ألست تسمعهم وهم يقولون أن أجهزة من التصنت تسمعك وأنت في عقر دارك ! وأنها ربما سمعت همسك وهي على بعد مسافات طويلة ، ألست تسمع من يقول لك إن الأجهزة تصوّرك وأنت تقرأ الجريدة في مكتبك ! وأن هناك أجهزة يمكن أن تعرف أين تذهب وأين تجيء ومع من تلتقي وماذا تفعل ؟ وأن هناك بعد ذلك أسلحة عظيمة وعابرات للقارات ونحو ذلك من العظمة المتناهية التي فُتن بها كثير من الناس ، فظنوا أن لأربابها أمر كل شيء والتصرف في كل شيء والقدرة على كل شيء ، ونسى وغفل أولئك عن القدرة المطلقة والمشيئة النافذة والجبروت العظيم ، والبطش القاهر لجبار السماوات والأرض سبحانه وتعالى .
ولقد جاءنا في كتاب الله - عز وجل - ما يحول دون هذه الغفلة ، وما يمنع من تلك الزلة ، وما يعصم من الاغترار والافتنان والافتتان بقوى الأرض مهما عظمت وبأحوال البشر مهما كبرت ، ويبقى للمؤمن التعلّق الأعظم بالله - جل وعلا - الذي أمره بين الكاف والنون .. الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء سبحانه وتعالى .
المثل الظاهر البيّن للقوة الباغية الطاغية في القرآن الكريم في نموذج فرعون .. فرعون الذي صوّرته آيات القرآن تصويراً عندما نتدرج معه ونقف مع آيات الله - عز وجل - المعجزة في وصفه وبيانه نوى حقيقة كثير مما يخطئ فيه الناس ويضعف لأجله يقينهم ، ويخافون من غير الله ، ويتعلقون ويرجون غير الله ، ويثقون ويتوكلون على غير الله اغتراراً بتلك القوة ، وخوفاً من تلك السطوة قال فرعون :
{آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } .
انظر إلى صورة الطغيان المغتر بقوته المستند إلى سطوته المعتمد على جنده المرتكز على آلته : { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } .
صورة واضحة من صور البغي والجبروت ،كان أتباع فرعون وأذياله وملأه قد أذعنوا لها فامتلأت قلوبهم رعباً منه وذلاً له وخضوعاً بين يديه وزلفى بكل تقرب وتضرع إليه واستمع إلى وصف الآيات القرآنية المعزة :
{ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } .
فماذا قال صاحب القوة والجبروت في ميزان قوى الأرض ومقياس البشر قال :
{ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } .
ليس هناك أبلغ ولا أكثر توضيحاً وتصويراً لقوة فرعون وبغيه وصورة انتفاخهِ وغروره بتلك القوة من مثل هذه الآيات العظيمة المعجزة ، وهذه صورة أخرى أعظم وأوسع في طغيانه واغتراره :
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } .
تأمل هذه الصورة الطغيانية التي يتحدى فيها المخلوق الضعيف الحقير ربه وخالقه والقادر عليه وعلى الكون كله سبحانه وتعالى :
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } .
كأنه يتحدى قوة الله - سبحانه وتعالى - ويظن أن الأمر والدنيا قد دانت له ، وأن بيده مقاليد الأمور ، وأنه يطال كل شيء يريده وأنه يعرف كل شيء يحيط به ثم انظر إلى الصورة الأعظم والغاية التي انتهى إليها فرعون :
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } .
لقد بلغ في طغيانه ادعائه للألوهية وأنه إله الخلق :
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } .(/1)
إنها الآيات القرآنية لا تحتاج منا إلا أن نتدبر فيها ، وأن ننظر إلى حكمة الله البالغة وكلماته المعجزة وسننه الماضية وحكمته البالغة جل وعلا لنعرف حقائق الأمور في ميزان الله عز وجل وبمقياس القرآن الكريم وفي هدي ونورِ هدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيده الأمر كله .. إنه الله مَن يرجع إليه الأمر كله .. إنه الله هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور هو الذي صوّرت لنا عائشة - رضي الله عنها - صورة جميلة تنبئ عن انبهار المؤمن بعظمة قدرة الله - عز وجل - يوم جاءت المجادلة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعائشة تقول : " إنها لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزء من البيت ما أسمع ما تقول وقد سمع الله قولها من فوق سبع سنوات سبحانه وتعالى " .
{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } .
آيات القرآن دروس ناطقة ، وعبر شاهدة تزيل الغفلة ، وتعمق اليقين ، وتوضح الرؤية ، وتجعل الميزان عند المؤمن واضح بيّن .
القوة الربانية هي القوة الحقيقية المستندة إلى العلم المحيط الشامل .. هي الظاهرة في القدر النافذ الماضي .. هي المتجلية في القدرة التي لا يعجزها شيء قوة الله - سبحانه وتعالى - تتجلى في كثيرٍ وكثير ٍ من الآيات وفي كثيرٍ وكثيرٍ ،وكثيرٍ من الصور والمشاهد والقصص التي وردت في القرآن الكريم :
{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } .
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} .
تأمل هذه الآيات :
{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } .
قال السعدي في تفسيره في شأن هذه الآيات :
" يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وتمام رحمته وسعة حلمه ومغفرته ليعلموا من عظيم سلطانه وقوة قدرته ما به تمتلئ قلوبهم إجلالاً له وتعظيماً ومحبة وتكريماً ، وليعلموا كمال حلمه ومغفرته بإمهال المذنبين وعدم معالجة العاصيين مع أنه لو أمر السماء لحصبتهم ولو أذن للأرض لابتلعتهم " .
كل شيء بأمره - سبحانه وتعالى - ولو شاء لفجّر الأرض ينابيعاً ، وأنزل السماء مدراراً كما فعل لنوح - عليه السلام -حتى أغرق كل مخالفيه وجميع مناوئيه ، ولم ينجو إلا نوح والذين آمنوا معه ، وكما كان ذلك في شأن كثير وكثير من قصص الرسل والأنبياء .
{ اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } .
قال السعدي :
" استكباراً في الأرض على الخلق وعلى الحق ، يريدون به المكر والخداع ، وأنهم أهل الحق الحريصون على طلبه فيغتروا بهم المغترون ويمشي خلفهم المقتدون ، فلما جاءهم العذاب لم تنفعهم قوتهم ولم تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ونفذت فيهم قدرة الله ومشيئته " .
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } .
واستمع لقول الحق - جل وعلا - في بيان هذه القدرة العظيمة الرهيبة :(/2)
{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
فأما عاد وهم مضرب مثل في القوة والجبروت وفي التمكّن من أسباب هذه القوة الأرضية ..
{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
ولو مضينا لرأينا في ذلك عِبراً كثيرة وآيات عديدة ، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - يخبرنا في الصحيح عنه : ( إن الله ليمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ، ثم يتلو قول الحق جل وعلا : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } .
والمتأمل في آيات القرآن يظهر له ما تنبئ عنه مما ينبغي الإيمان به واليقين به من قوة الله - عز وجل - المطلقة ، ومشيئته النافذة ، فالله - جل وعلا - على كل شيءٍ قدير ، وهو الذي لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء ، وهو الذي أمره بين الكاف والنون ، وهو الذي يجري كل شيءٍ بأمره وقدره - سبحانه وتعالى -.
إن الإنسان المؤمن حينئذٍ يتعظ ويعتبر ويدرك ويوقن ما ينبغي أن يكون حاضراً في قلبه وإيمانه من عظمة قوة الله - سبحانه وتعالى - وأن كل قوى الأرض مهما بلغت لا تعادل شيئاً مذكوراً في قوة الله سبحانه وتعالى ، وأنه - جل وعلا - إذا كان هو كما أخبر - جل وعلا - الرزّاق ذو القوة المتين ، والذي أخبر أنه ينصر عباده وعقّب بأنه هو القوي العزيز ، فحينئذٍ لابد أن تتعلق قلوب المؤمنين والمسلمين به ثقة به ، وتوكلاً عليه ، واعتماداً عليه ، ورجاءً فيه ، وخوفاً منه ، وإنابة إليه ، وتعلّقاً به ، فلا خوف إلا منه ، ولا رجاء إلا فيه ، ولا ثقة إلا به ، ولا توكل إلا عليه ..
ينفض المؤمن - إذا تيقن بذلك - كل اعتمادٍ على أسباب الأرض ، وإنما يأخذ بها بسنة الله - سبحانه وتعالى - ويرفض أن يكون ذليلاً أو خاضعاً لغير قوة الله - سبحانه وتعالى – وجبروته .
نسأل الله - عز وجل - أن يعظّم الإيمان في قلوبنا ، وأن يزيد اليقين في نفوسنا ، وأن يجعلنا معتمدين متوكلين على قوة الله ، مستعينين بنصرة الله ، خائفين من بطش الله ، راجين في نعيم الله إنه ولي ذلك والقادر عليه .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
إن ما جرى في الدولة العظمى والقوة الكبرى يعطينا كثيراً من الدروس لعل من أجلاها وأبرزها هذا الدرس العظيم في بيان قوة الله وقدرته - سبحانه وتعالى - وحقيقة ضعف البشر وذلّهم وعدم قدرتهم الحقيقية إزاء قوة الله سبحانه وتعالى ، فكم مُلئت قلوب بالتعظيم الزائف ، وبالتخوف الهائل ، وبكثيرٍ من صور الاغترار والافتتان التي لا تتفق مع حقيقة الإيمان ومع عزة الإسلام ، وكذلكم نرى كثيراً من المواقف التي تستدعي الانتباه ، والتي ينبغي لفت النظر إليها والادكّار بها من غير ما تعلّق بأمور تتشفى بها النفوس أو نحو ذلك ؛ فإن المعاني الإنسانية أعظمها وأولها وأجدرها هي في دين الإسلام .
وإن حقيقة هذا الدين العظيم في كل شرائعه وفي سائر أحكامه يمثل القمة العظمى في مراعاة الحقوق وتحقيق العدالة والإنصاف ومراعاة الإنسانية في كل مجالاتها ، ألسنا علمنا ونعلم وصية أبي بكر رضي الله عنه عند الجهاد والقتال في شأن مراعاة الشيوخ الكبار والنساء الضعاف والأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة مراعاة وإن كان ذلك في مواجهة ! فكيف وأنّ ذلك في غيرها؟ وأن هذه المعاني لا يزايد فيها أحد على أهل الإيمان والإسلام إذا عرفوا قيمتها وعرفوا دينهم حقيقة المعرفة ثم كذلك ننظر إلى عاقبة الظلم الوخيمة ..
لا تظلمن إذا كنت مقتدراً **** فالظلم عقباه تفضي إلى الندمِ
تنام عيناك والمظلوم منتبهٌ **** يدعو عليك وعين الله لم تنمِ(/3)
والله - سبحانه وتعالى - قد قال : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } .
والمسلم الحق يعرف أنه لا يتصرف في أي أمر ولا يُقدم على أي فعل إلا أن يستبصر حِكَم الله - سبحانه وتعالى - فيه ، والأمور بعواقبها والأفعال بمآلاتها ، فإذا كثرت مفاسدها وعظمت أضرارها وترتب عليها من الأذى والبلاء ما لا يوازي ما فيها من المصلحة ؛ فإن ذلك يمنعه ويردعه من فعله ؛ لأن الإنسان المسلم لا يندفع مع عاطفته وإنما ينضبط مع شريعته ويلتزم قرآن الله - عز وجل - وهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفي السيرة من الدروس والعبر والمواقف ما يُنبئ عن كثير من هذه المعاني العظيمة .
ولكننا نقول : " إن العدل والإنصاف إنما هو في الإسلام وإن إحقاق الحقوق وإقرار المعاني الإنسانية إنما هو في القرآن ، ومن يقول غير ذلك فإنما هو مدّعي ومغالط ، وإن الحقائق الواقعية تكشف ذلك وتبيّنه وتجليه بما لا يحتاج إلى برهان ولا دليل ؛ لأنه مما تراه الأعين وتسمعه الأذان وينتقل خبره في كل مكان ، ولذلك فإننا نحتاج دائماً وأبداً أن نقوي ارتباطنا بالقرآن الكريم وبهدي رسولنا - صلى الله عليه وسلم - وأن نجعل كل ما يحل بنا أو يجري حولنا سبباً من أسباب عودتنا إلى الله - عز وجل - وشدة تعلّقنا به ، وعظيم ارتباطنا بمنهجه ، وعظيم إقتدائنا برسوله - عليه الصلاة والسلام - وإن ذلك يكون لنا به الخير ويكون لنا به النصر والعز ، وإن فقدنا كثيراً من الأسباب المادية والقوة البشرية ؛ فإن المسلمين على مدى كل الأزمان والأعصار إنما نصروا بإيمانهم بالله - عز وجل - واعتصامهم بكتابه ووحدتهم على منهجه واقتفائهم لهدي رسوله صلى الله عليه وسلم .(/4)
حجة الوداع ووفاته صلى الله عليه وسلم ... ...
مازن التويجري ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- مائة وأربعون ألفاً يحجون حجة الوداع. 2- خطبة يوم التروية. 3- وداع النبي للأحياء من أصحابه ، وزيارة الأموات منهم. 4- بدء الوجع مع النبي صلى الله عليه وسلم. 5- ما جرى زمن مرض النبي صلى الله عليه وسلم. 6- اليوم الأخير من حياة النبي. 7- حال الصحابة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. 8- دفن النبي صلى الله عليه وسلم. 9- رثاء حسان للنبي. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أيها الناس، افسحوا وتباعدوا عن الطرقات، ألا ترون ذلكم الركب المبارك، في يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة سنة عشر من الهجرة المباركة.
نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصده الحج لهذا العام، فاجتمع حوله مائة وأربعة وأربعون ألفًا من الناس في مشهد عظيم، فيه معان العزة والتمكين، ألقى الرعب والفزع في قلوب أعداء الدعوة ومحاربيها، وكان غصة في حلوق الكفرة والملحدين.
قبل ثلاثٍ وعشرين سنة من ذلكم الوقت كان فردًا وحيدًا، يعرض الإسلام على الناس فيردوه، ويدعوهم فيكذبوه، في ذلكم الحين كان المؤمن لا يأمن على نفسه أن يصلي في بيت الله وحرم الله.
ها هم اليوم مائة وأربعة وأربعون ألفًا يلتفون حول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم في مشهدٍ يوحي بأكمل معان النصر والظفر، ويجسد صورة رائعة، تحكي بأن الزمن وإن طال، فإن الغلبة لأولياء الله وجنده، مهما حوربت الدعوة وضيق عليها، وسامها الأعداء ألوان العداء والاضطهاد، فإن العاقبة للحق ولأهل الحق العاملين المصلحين: وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
سار ذلكم الركب المبارك يدوس الأرض، التي عذّب من عذّب فيها، وسحب على رمضائها مَنْ سُحِب، ساروا يمرّون على مواضع لم تزل ولن تزال عالقة في ذكراهم، سيموا فيها ألوان العذاب والقهر والعنت، سار صلى الله عليه وسلم ليدخل المسجد الحرام الذي لطالما استقسم فيه بالأزلام، وعبدت فيه الأصنام، دخله طاهرًا نقيًا، تردد أركانه وجنباته لا إله إلا الله، ورجع الصدى من جبال بكة ينادي: لبيك اللهم لبيك.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة نزل بطن الوادي من منى فخطب في ذلكم الجمع الغفير: ((أيها الناس، اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا.. إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله.
فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله.
أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) أخرجه ابن ماجه.
وأخرج مسلم أنه قال: ((وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد)) ثلاث مرات.
ولما فرغ من خطبته نزل عليه قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
وعندما سمعها عمر رضي الله عنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. أخرجه البخاري.
ولما قضى مناسكه حث المسير عائدًا إلى طيبة الطيبة.
في أوائل صفر سنة إحدى عشرة للهجرة خرج عليه الصلاة والسلام إلى أحد، فصلى على الشهداء، كالمودع للأحياء والأموات.
ثم انصرف إلى المنبر فقال: ((إني فرطكم، وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ـ أو مفاتيح الأرض ـ وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها)) متفق عليه.
وخرج ليلة مع غلامه أبي مويهبة إلى البقيع فاستغفر لهم وقال: ((السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. وبشرهم قائلاً: إنا بكم للاحقون)).(/1)
وفي يوم الإثنين آخر أيام شهر صفر شهد عليه السلام جنازة في البقيع، فلما رجع وهو في الطريق، أخذه صداع في رأسه واتقدت الحرارة، حتى إنهم كانوا يجدون سورتها فوق العصابة التي تعصب بها رأسه، فدخل على عائشة وقالت: وارأساه! قال: ((بل أنا وارأساه، وما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك)). فقالت: لكأني بك ـ والله ـ لو فعلت ذلك لرجعت إلى بيتي فعرّست فيه ببعض نسائك. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض فجعل يسأل أزواجه: أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟ ففهمن مراده، فأذنّ له أن يكون حيث شاء، فانتقل إلى عائشة، يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، عاصبًا رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتها، وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ بالمعوذات والأدعية تنفث على نفسه وتمسحه بيده رجاء بركته.
وفي يوم الأربعاء اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع، فقال: هريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس، فأقعدوه في مخضب[1] لحفصة، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول: ((حسبكم، حسبكم))، وعند ذلك أحس بخفة فدخل المسجد وهو معصوب الرأس حتى جلس على المنبر خطب الناس فقال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وقال: لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد ثم قال: من كنت جَلَدْتُ له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستقد منه)).
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم. فقال: ((أعطه يا فضل))، ثم أوصى بالأنصار قائلاً: ((أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي[2]، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم))، وفي رواية: ((إن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرًا يضر فيه أحدًا أو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) البخاري.
ثم قال: ((إن عبدًا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده)).
قال أبو سعيد الخدري: (فبكى أبو بكر، قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا)، فعجبنا له، فقال الناس: انظروا هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)) متفق عليه.
وفي يوم الخميس أوصى عليه السلام بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم.
ومع ما كان عليه من شدة المرض إلا أنه كان يصلي بالناس جميع الصلوات، فصلى بالناس صلاة المغرب من يوم الخميس وقرأ بالمرسلات، وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد.
قالت عائشة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أصلى الناس؟!)) قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، قال: ضعوا لي ماء في المخضب، ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس؟!)) قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، فاغتسل فخرج لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس؟)) قلنا: لا يا رسول الله وهم ينتظرونك. فاغتسل فخرج لينوء فأغمي عليه. ثم الثالثة فأغمي عليه، فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام.
وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبا بكر رجل أسيف[3]، وإنه متى يقوم مقامك لا يُسمِع الناسَ، فلو أمرت عمر، قال: ((مروا أبا بكر فليصلّ بالناس))، فقالت لحفصة في ذلك فراجعته كما راجعته عائشة، فقال: ((إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس)).
وفي يوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بأن لا يتأخر، قال: ((أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع الناس التكبير)) رواه البخاري.
وفي يوم الأحد أعتق عليه الصلاة والسلام غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت عائشة الزيت من جارتها للمصباح، وكانت درعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من الشعير.
وفي يوم الاثنين بينا المسلمون في صلاة الفجر ـ كما روى البخاري عن أنس ـ وأبو بكر يصلي بهم، لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم وضحك فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة.(/2)
قال أنس: وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
إنها النظرة الأخيرة، نظرة الوداع وهو يبتسم ويضحك رضًا وسرورًا بثبات أصحابه على الحق، إنها البسمة الأخيرة التي لن يراها صحبه وأحباؤه بعدها في الدنيا.
إنها طَلَّة[4] الفراق، لن ينعموا برؤية هذا الوجه الكريم في الدنيا بعد اليوم أبدًا، ولما ارتفع الضحى دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها فسارّها بشيء فبكت ثم دعاها فسارَّها بشيء فضحكت، قالت عائشة: فسألنا عن ذلك، أي: فيما بعد، فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، فسارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت. رواه البخاري.
وبشرها بأنها سيدة نساء العالمين.
ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب فقالت: واكرب أباه، فقال لها: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)).
ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرًا، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن، وطفق الوجع يشتد عليه ويزيد، وهو يقول لعائشة: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أَبْهَرِي[5] من ذلك السم)).
فأوصى الناس فقال: ((الصلاة. الصلاة، وما ملكت أيمانكم))، كرر ذلك مرارًا. أخرجهما البخاري.
وبدأ الاحتضار، فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته.
دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك، فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه وقلت: ألينه لك، فأشار برأسه أن نعم، فلينته فاستن بها كأحسن ما كان مستنًا، وبين يديه ركوة[6] فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)) أخرجه البخاري.
وما إن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: ((مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى))، كررها ثلاثًا، ثم مالت يده ولحق بالرفيق الأعلى.
إنا لله وإنا إليه راجعون. مات الشفيق الرحيم بأمته، مات شمس الحياة وبدرها، مات الداعية الناصح، مات صاحب القلب الكبير الذي وسع المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والصغير والكبير.
مات من كان للأيتام أبًا، وللأرامل عونًا وسندًا، مات مهرَبُ الفقراء والمساكين، وملاذ المعوزين المحتاجين، مات الإمام المجاهد، مات نبي الأمة، وقدوة الخلق، مات خير البشر، وأحب الخلق إلى الله، مات الذي نعمت برؤياه الأبصار، وتشنّفت بسماع جميل حديثه الأسماع والآذان.
قال أنس بن مالك: ما رأيت يومًا قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما مات قالت فاطمة: يا أبتاه أجاب ربًا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل نفاه.
[1] المِخضب – بالكسر -: شبه المِرْكَن، وهي إِجَّانَةٌ تغسل فيها الثياب. النهاية في غريب الحديث، مادة (خضب).
[2] أراد أنهم بطانته وموضع سرّه وأمانته، والذي يعتمد عليهم في أموره. واستعار الكرش والعيبة لذلك؛ لأن المجترّ يجمع علفه في كرشه، والرجل يضع ثيابه في عيبته. وقيل: أراد بالكرش الجماعة، أي: جماعتي وصحابتي. ويقال: عليه كرشٌ من الناس، أي: جماعة. النهاية في غريب الحديث، مادة (كرش).
[3] أَسِيْف، أي: سريع البكاء والحزن. وقيل: هو الرقيق. النهاية في غريب الحديث، مادة (أسف).
[4] الطَلّة: اللذيذة من الروائح. القاموس المحيط، مادة (طلل).
[5] الأبْهَر: عِرْق في الظهر، وهما أبهران. وقيل: هما الأكحلان اللذان في الذراعين. وقيل: هو عرق مستبطن القلب، فإذا انتقطع لم تبق معه حياة. وقيل: الأبهر عرق منشئوه من الرأس ويمتد إلى القدم وله شرايين تتصل بأكثر الأطراف والبدن، فالذي في الرأس منه يسمى: النأمة، ومنه قولهم: أسكت الله نأمته، أي: أماته، ويمتد إلى الحلق فيسمى فيه الوريد، ويمتد إلى الصدر فيسمى الأبهر، ويمتد إلى الظهر فيسمى الوتين، والفؤاد معلق به، ويمتد إلى الفخذ فيسمى النَّسا ويمتد إلى الساق فيسمى الصافن. النهاية في غريب الحديث، مادة (أبهر).
[6] الرَّكْوة: إناء صغير من جلد يُشرب فيه الماء، والجمع: رِكاء. النهاية في غريب الحديث، مادة (ركا). ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...(/3)
أصيب الصحابة بالذهول لفقد نبيهم ومن ذلك ما كان من موقف عمر بن الخطاب، يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال يزعمون أنه مات.
وأقبل أبو بكر من بيته بالسنح فدخل المسجد ولم يكلم أحدًا، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشي بثوب حِبَرة[1]، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبّله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتها.
ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [عمران:144].
قال ابن عباس: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها، فأهوى إلى الأرض، وعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
وفي يوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، وغسله العباس وعليَّ، والفضل وقُثَم ابنا العباس وشُقْران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسامة بن زيد، ثم كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سَحُولية[2] من كرسف[3] ليس فيها قميص ولا عمامة أدرجوه فيها إدراجًا، فحفروا تحت فراشه وجعلوه لحدًا، حفره أبو طلحة ودخل الناس الحجرة أرسالاً، عشرة عشرة، يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرين، ثم الأنصار، ثم النساء، ثم الصبيان.
فمما قال حسان رضي الله عنه يبكي به رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بطيبةَ رَسْمٌ للرسول ومَعْهَدُ منير وقد تعفو الرسوم وتهمدُ
ولا تمتحي الآيات من دار حُرمة بها منبر الهادي الذي كان يصعد
وواضحُ آثار وباقي معالم وربعٌ له فيه مصلى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نورٌ يستضاء ويوقد
معارف لم تُطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منها تجدّد
إلى آخر القصيدة...
وهكذا طويت أعظم صفحة في تأريخ البشرية جمعاء، مات القدوة الناصح، وخير البشر، مات أفضل الأنبياء، لتبقى حياته نبراسًا لأبناء الأمة من بعده، تنير لهم طريق السير إلى الله، عبادته وأخلاقه، توحيده وجهاده، تعامله وزهادته، أخذه وعطاؤه، بيعه وشراؤه.
إنها المصيبة التي ما مر على الأمة لها مثيل ولن يمر، فَلْيَتَعَزَّ أهل المصائب بها.
[1] حِبَرَة: بُرْدٌ يمانٍ، والجمع: حِبَرٌ وحبرات. النهاية في غريب الحديث، مادة (حبر).
[2] سحولية: يُروى بفتح السين وضمها، فالفتح منسوب إلى السَّحول، وهو القصّار؛ لأنه يَسْحَلُها، أي: يغسلها. أو إلى سَحُول وهي: قرية باليمن. وأما الضم فهو جمع سَحْل وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلا من قطن وفيه شذوذ؛ لأنه نسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضاً. النهاية في غريب الحديث، مادة (سحل).
[3] الكُرْسُف: القُطْن. النهاية في غريب الحديث، مادة (كرسف). ... ...
المصدر: http://www.alminbar.net(/4)
حدائق الموت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين .. الرحمن الرحيم .. مالك يوم الدين ..
الحمد لله الكريم الوهاب .. الحمد لله الرحيم التواب .. الحمد لله الهادي إلى
الصواب .. مزيل الشدائد وكاشف المصاب ..
الحمد لله فارج الهم .. وكاشف الغم .. مجيب دعوة المضطر .. فما سأله سائل فخاب ..
يسمع جهر القول وخفي الخطاب .. أخذ بنواصي جميع الدواب .. فسبحانه من إله عظيم ..
لا يماثل .. ولا يضاهى .. ولا يرام له جناب .. هو ربنا لا إله إلا هو .. عليه
توكلنا .. وإليه المرجع والمتاب ..
وسبحان من انفرد بالقهر والاستيلاء ..
واستأثر باستحقاق البقاء ..
وأذل أصناف الخلق بما كتب عليهم من الفناء ..
وأشهد أن لا إله إلا الله ..
أما بعد ..
حدائق الموت ؟
تلك القبور التي غيبت فيها أجساد تحت التراب .. تنتظر البعث والنشور وأن ينفخ في
الصور ..
اجتمع أهلها تحت الثرى .. ولا يعلم بحالهم إلا الذي يعلم السر وأخفى ..
نعم ..
إنه الموت ..
أعظم تحدٍّ تحدى الله به الناس أجمعين ..
الملوك والأمراء .. والحُجّاب والوزراء .. والشرفاء والوضعاء .. والأغنياء والفقراء
..
كلهم عجزوا أن يثبتوا أمام هذا التحدي الإلهي { قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت
إن كنتم صادقين }
أين الجنود ؟ أين الملك ؟ أين الجاه ؟
أين الأكاسرة ؟ أين القياصرة ؟
أين الزعماء ؟
أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من مُلكٍ ومن مَلِكٍ كما حكى عن خيال الطيف وسنان
مرض أبو بكرة رضي الله عنه واشتد مرضه .. فعرض عليه أبناؤه أن يأتوه بطبيب .. فأبى ..
فلما نزل به الموت صرخ بأبنائه وقال : أين طبيبكم ؟ .. ليرّدها إن كان صادقاً ..
ووالله لو جاءه أطباء الدنيا .. ما ردوا روحه إليه ..
{ فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن
لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين * فأما إن كان من
المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم * وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من
أصحاب اليمين * وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن
هذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم } ..
إنه الموت ..
هادم اللذات .. ومفرق الجماعات .. وميتم البنين والبنات ..
المنايا تَجُوسُ كلّ البِلادِ والمنايَا تَبيدُ كلّ العِبَادِ
لَتَنالَنّ من قُرونٍ أراها مثلَ ما نِلْنَ من ثَمُودٍ وعادِ
هل تذكّرْتَ من خلا من بني الأصْـ ـفَرِ أهْلِ القِبابِ والأطْوادِ
هلْ تذكّرْتَ من خَلا من بني سَا سانَ أرْبابِ فارِسٍ والسّوَادِ
أينَ داوُدُ أينَ ؟ أينَ سُلَيْمَا نُ المنيعُ الأعراضِ والأجنادِ ؟!
أينَ نُمرُودُ وابْنُهُ أينَ قارُو نُ وهامانُ أينَ ذو الأوتادِ
وَرَدوا كلهم حِياضَ المنايَا ثمّ لم يَصْدِروا عَنِ الإيرادِ
أتَنَاسَيْتَ أمْ نَسيتَ المنايَا؟ أنَسيتَ الفِراقَ للأوْلادِ ؟
أنَسيتَ القُبُورَ إذْ أنتَ فيها بَينَ ذُلٍّ وَوَحشَةٍ وانفِرادِ
أي يَوْمٍ يَومُ الممات وإذْ أنْـ ـتَ تُنادى فَما تُجيبُ المنادي
أيّ يَوْمٍ يوم الفِراقِ وإذْ نَفْسُكَ تَرْقَى عَنِ الحَشا والفُؤادِ
أيّ يَوْمٍ يَوْمُ الفراقِ وإذْ أنْـ ـتَ من النّزْعِ في أشَدّ الجِهادِ
أيّ يَوْمٍ يَوْمُ الصّراخِ وإذْ يَلْطِمن حُرّ الوّجُوهِ والأجيَادِ
باكِياتٍ عَلَيكَ يَندُبنَ شَجواً خافِقاتِ القُلُوبِ والأكْبادِ
يَتَجاوَبْنَ بالرّنينِ ويَذْرِفْـ ـنَ دُمُوعاً تَفيضُ فَيضَ المَزادِ
أيّ يَوْمٍ يوْمُ الوُقوفِ إلى الله ويَوْمُ الحِسابِ والإشْهادِ
أيّ يَوْمٍ يوم المَرور عَلى النّا رِ وأهْوَالِها العِظامِ الشّدادِ
أيّ يَوْمٍ يَوْمُ الخَلاصِ من النّا رِ وهَوْلِ العَذابِ والأصْفادِ
كم وكم في القُبُورِمن أهلِ ملكٍ كمْ وكمْ في القُبورِمن قُوّادِ
كمْ وكم في القُبورِمن أهلِ دُنْيا كمْ وكم في القُبورِ من زُهّادِ
وَرَدوا كلهم حِياضَ المنايَا ثمّ لم يَصْدِروا عَنِ الإيرادِ
* * * * * * * * * *
ومن تأمل في الموت علم أنه أمر كبّار .. وكأس تدار .. على من أقام أو سار .. يخرج
به العباد من الدنيا إلى جنة أو نار ..
ولو لم يكن في الموت إلا الإعدام .. وانحلال الأجسام .. ونسيان أجمل الليالي
والأيام ..
لكان والله لأهل اللذات مكدراً .. ولأصحاب النعيم مغيراً ..
* * * * * * * * * *
وليست المشكلة في الموت .. فالموت باب وكل الناس داخله ..
لكن المشكلة الكبرى .. والداهية العظمى ..
ما الذي يكون بعد الموت ..
أفي { جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر } ..
أم في { ضلال وسعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر} ..
* * * * * * * * * *
ولأجل ذلك .. فالصالحون يشتاقون إلى لقاء ربهم .. ويعدون الموت جسراً يعبرون عليه
إلى الآخرة ..
نعم .. يفرحون بالموت ما دام يقربهم إلى ربهم ..
ذكر بعض المؤرخين ..(/1)
أن العدو أغار على ثغر من ثغور الإسلام .. فقام عبد الواحد بن زيد وكان خطيب البصرة
وواعظها .. فحث الناس على البذل والجهاد .. ووصف ما في الجنة من نعيم .. ثم وصف
الحور العين .. وقال :
غادة ذات دلال ومرح
خلقت من كل شيء حسن
أترى خاطبها يسمعها
يا حبيباً لست أهوى غيره
لا تكونن كمن جدّ إلى
لا فما يخطب مثلي من سها يجد الواصف فيها ما اقترح
طيب فالليت عنها مطرح
إذ تدير الكأس طوراً والقدح
بالخواتيم يتم المفتتح
منتهى حاجته ثم جمح
إنما يخطب مثلي من ألحَّ
فاشتاق الناس إلى الجنة .. وارتفع بكاء بعضهم ..ورخصت عليهم أنفسهم في سبيل الله ..
فوثبت عجوز من بين النساء .. هي أم إبراهيم البصرية ..
وقالت :
يا أبا عبيد .. أتعرف ابني إبراهيم !
الذي يخطبه رؤساء أهل البصرة .. إلى بناتهم .. وأنا أبخل به عليهن ..
قد والله أعجبتني هذه الجارية وقد رضيتها عروساً لابني إبراهيم .. فكرر ما ذكرت من
أوصاف .. لعله يشتاق ..
فقال أبو عبيد :
إذا ما بدت والبدر ليلة تمه رأيت لها فضلا مبينا على البدر
وتبسم عن ثغر نقى كأنه من اللؤلؤ المكنون في صدف البحر
فلو وطئت بالنعل منها على الحصى لأزهرت الأحجار من غير ما قطر
ولو شئت عقد الخصر منها عقدته كغصن من الريحان ذي ورق خضر
ولو تفلت في البحر حلو لعابها لطاب لأهل البر شرب من البحر
أبى الله إلا أن أموت صبابة بساحرة العينين طيبة النشر
فاضطرب الناس ..وكبروا ..
وقامت أم إبراهيم .. وقالت :
يا أبا عبيد .. قد والله رضيت بهذه الجارية .. زوجة لإبراهيم ..
فهل لك أن تزوجها له في هذه الساعة ؟ وتأخذَ مني مهرها عشرة آلاف دينار ..
لعل الله أن يرزقه الشهادة .. فيكون شفيعاً لي ولأبيه في القيامة ..
فقال عبد الواحد : لئن فعلت .. فأرجو والله أن تفوزوا فوزاً عظيماً ..
فصاحت العجوز : يا إبراهيم .. يا إبراهيم ..
فوثب شاب نضر .. من وسط الناس .. وقال : لبيك يا أماه ..
فقالت : أي بنيَّ .. أرضيت بهذه الجارية .. زوجة لك .. ومهرها أن تبذل مهجتك في
سبيل الله .. ؟
فقال : أي والله يا أماه ..
فذهبت العجوز مسرعة إلى بيتها .. ثم جاءت بعشرة آلاف دينار ..
فوضعتها في حجر عبد الواحد .. ثم رفعت بصرها إلى السماء ..
وقالت : اللهم إني أشهدك .. أني زوجت ولدي من هذه الجارية ..
على أن يبذل مهجته في سبيلك .. فتقبله مني يا أرحم الراحمين ..
ثم قالت : يا أبا عبيد .. هذا مهر الجارية مني عشرةُ آلاف دينار ..
تجهَّز به وجهز الغزاة في سبيل الله ..
ثم انصرفت .. واشترت لولدها فرساً جيداً .. وسلاحاً حسناً ..
وأخذت تعد الأيام لرحيله ..
وهي تودعه غي كل نظرة تنظرها .. وكلمة تسمعها ..
والمجاهدون يعدون العدة للخروج ..
فلما حان وقت النفير خرج إبراهيم يعدو .. والمجاهدون حوله يتسابقون ..
والقراء حولهم يقرؤون :{ إن الله اشترى من .. }..
فلما أرادت فراق ولدها .. دفعت إليه كفناً .. وطيباً يطيب به الموتى
.. ثم نظرت إليه .. وكأنما هو قلبها يخرج من صدرها ..
ثم قالت :
يا بنيَّ .. إذا أردت لقاء العدو .. فالبس بهذا الكفن .. وتطيب بهذا الطيب ..
وإياك أن يراك الله مقصراً في سبيله ..
ثم ضمته إلى صدرها .. وكتمت من عبرتها .. وأخذت تشمه .. وتودعه .. وتقبله ..
ثم قالت : اذهب يا بنيّ .. فلا جمع الله بيني وبينك .. إلا بين يديه يوم القيامة ..
فمضى إبراهيم .. والعجوز تتبعه بصرها .. حتى غاب مع الجيش ..
فلما بلغوا بلاد العدو وبرز الناس للقتال .. أسرع إبراهيم إلى المقدمة ..
فابتدأ القتال .. ورميت النبال .. وتنافس البطال ..
أما إبراهيم .. فقد جال بين العدو وصال .. وقاتل قتال الأبطال ..
حتى قتل أكثر من ثلاثين من جيش العدو ..
فلما رأى العدو ذلك .. أقبل عليه جمع منهم .. هذا يطعنه .. وهذا يضربه .. وهذا
يدفعه .. وهو يقاوم .. ويقاتل .. حتى خارت قواه ووقع من فرسه .. فقتلوه ..
وانتصر المسلمون .. وهزم الكافرون ..
ثم رجع الجيش إلى البصرة ..
فلما وصلوا البصرة تلقاهم الناس .. الرجال .. والعجائز .. والأطفال ..
وأم إبراهيم بينهم .. تدور عيناها في القادمين ..
فلما رأت عبد الواحد .. قالت : يا أبا عبيد !
هل قبل الله هديتي فأهنا ؟ أم رُدت علي فأعزى ؟
فقال لها : بل قبل الله هديتك ..
وأرجو أن يكون ابنك الآن مع الشهداء يرزق ..
فصاحت قائلة :
الحمد لله .. الذي لم يخيب فيه ظني .. وتقبل نسكي مني .. وانصرفت إلى بيتها وحدها
.. بعدما فارقت ولدها .. يشتد شوقها .. فتأتي إلى فرشه فتشمها .. وإلى ثيابه
فتقلبها .. حتى نامت ..
فلما كان الغد :
جاءت أم إبراهيم إلى مجلس أبي عبيد وقالت :
السلام عليك يا أبا عبيد .. بشراك .. بشراك ..
فقال : لا زلت مبشرة بالخير يا أم إبراهيم .. ما خبرك ..؟
فقالت : رأيت البارحة ولدي إبراهيم .. في روضة حسناء ..
وعليه قبة خضراء .. وهو على سرير من اللؤلؤ .. وعلى رأسه تاج يتلألأ .. وإكليل يزهر
..(/2)
وهو يقول : يا أماه .. أبشري .. قد قُبل المهر .. وزُفت العروس ..
نعم ..
هؤلاء أقوام .. أيقنوا أنه لا مهرب من نزول الموت .. فسعوا إليه قبل أن يسعى إليهم
..
أحبّوا لقاء الله فأحبّ الله لقاءهم .. وبذلوا مهجهم رخيصة في سبيل الله تعالى ..
فما هو الجزاء ؟
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون *
فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف
عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين
* الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر
عظيم } ..
* * * * * * * * * *
نعم والله .. ذلك الفوز الكبير ..
إذا أوقفهم ربهم بين يديه .. فرحوا بما ماتوا عليه .. فيبيض وجوههم .. ويرفع
درجاتهم ..
* * * * * * * * * *
بل كان الصالحون يفتنون في دينهم .. ويهددون بالموت .. فلا يلتفتون إليه ..
نفوسهم صامدة .. على غاية واحدة .. هي الموت على ما يرضي الله ..
فهم كما قال الله لهم : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ..
نعم .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ..
- لما ربط الكفار خبيب بن عدي رضي الله عنه على جذع نخلة ليقتلوه .. لم يفزع .. ولم
يجزع .. بل أخذ ينظر إليهم ويقول :
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأعداء لي عند مصرعي ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وان يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع - ولما دخل سعد بن أبي وقاص على ملك الفرس .. صرخ في وجهه وقال : جئتك بقوم يحبون الموت .. كما تحبون أنتم الحياة ..
- وفي معركة أحد يكثر القتل بالمسلمين .. وتتسابق سهام الكفار إلى رسول صلى الله عليه وسلم ..
فكان أبو طلحة رضي الله عنه يرفع صدره ويقول :
يا رسول الله لا يصيبك سهم .. نحري دون نحرك ..
نعم ما دام أن الموت في رضا الرحمن فمرحباً بالموت ..
* * * * * * * * * *
بل كانت المعاصي والشهوات .. والآثام والملذات ..
تعرض على الصالحين .. فلا يلتفتون إليها .. فيهددون بالموت .. فيختارونه .. فربهم
أعظم عندهم من كل شيء ..
ذكر ابن كثير وغيره :
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث جيشاً لحرب الروم ..
وكان من ضمن هذا الجيش .. شاب من الصحابة .. هو عبد الله بن حذافه رضي الله عنه ..
وطال القتال بين المسلمين والروم .. وعجب قيصرُ ملكُ الروم من ثبات المسلمين ..
وجرأتهم على الموت ..
فأمر أن يحضر إليه أسير من المسلمين ..
فجاءوا بعبد الله بن حذافة .. يجرونه .. الأغلال في يديه .. والقيود في قدميه ..
فأوقفوه أمام الملك ..
فتحدث قيصر معه فأعجب بذكائه وفطنته ..
فقال له : تنصر .. وأطلقك من الأسر ..
فقال عبد الله : لا ..
فقال قيصر : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي ..
فقال : لا ..
فقال : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي .. وأشركك في الحكم معي ..
فقال عبد الله : والله لو أعطيتني ملكك .. وملك آبائك .. وملك العرب والعجم .. على
أن أرجع عن ديني طرفة عين ما فعلت ..
فغضب قيصر .. وقال : أذن أقتلك ..
قال : اقتلني ..
فأمر قيصر به فسحب .. وعلق على خشبة ..
وجاء قيصر .. وأمر الرماة .. أن يرموا السهام حوله ولا يصيبوه ..
وهو في أثناء ذلك يعرض عليه النصرانية .. وهو يأبى .. وينتظر الموت ..
فلما رأى قيصر إصراره ..
أمر أن يمضوا به إلى الحبس ..
ففكوا وثاقه ومضوا به إلى الحبس .. وأمر أن يمنعوا عنه الطعام والشراب .. فمنعوهما
..
حتى إذا كاد أن يهلك من الظمأ والجوع ..
أحضروا له خمراً .. ولحم خنزير ..
فلما رآهما عبد الله .. قال : والله إني لأعلم أن ذلك يحل لي في ديني .. ولكني لا
أريد أن يشمت بي الكفار .. فلم يقرب الطعام ..
فأخبر قيصر بذلك .. فأمر له بطعام حسن ..
ثم أمر أن تدخل عليه امرأة حسناء تتعرض له بالفاحشة ..
فأدخلت عليه .. وجعلت تتعرض له وهو معرض عنها ..
وهي تتمايل أمامه ولا يلتفت إليها ..
فلما رأت المرأة ذلك .. خرجت غضبى وهي تقول :
والله لقد أدخلتموني على رجل .. لا أدري أهو بشر أم حجر ..
وهو والله لا يدري عني أأنا أنثى أم ذكر ..
فلما يئس منه قيصر .. أمر بقدر من نحاس .. فأغلي فيها الزيت ..
ثم أوقف عبد الله بن حذافة أمامها ..
وأحضروا أحد الأسرى المسلمين موثقاً بالقيود .. حتى ألقوه في هذا الزيت .. وغاب
جسده في الزيت .. ومات .. وطفت عظامه تتقلب في فوق الزيت ..
وعبد الله ينظر إلى العظام .. فالتفت قيصر إلى عبد الله .. وعرض عليه النصرانية ..
فأبى ..
فاشتد غضب قيصر .. وأمر بطرحه في القدر ..
فلما جروه إلى القدر .. وشعر بحرارة النار .. بكى .. ودمعت عيناه ..
ففرح قيصر .. وقال :
تتنصر .. وأعطيك .. وأمنحك ..
قال : لا ..
قال : إذاً .. لماذا بكيت ..(/3)
فقال عبد الله : أبكي لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القدر .. فتموت ..
ولقد وددت والله أن لي مائة نفس كلها تموت في سبيل الله .. مثل هذه الموتة ..
فقال له قيصر : قبل رأسي وأخلي عنك ؟
فقال له عبد الله : وعن جميع أسارى المسلمين عندك ..
قال : نعم ..
فقبل رأسه .. ثم أطلقه مع الأسرى ..
عجباً !! لله دره !!
أين نحن اليوم من مثل هذا الثبات .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ..
إن من المسلمين اليوم .. من يتنازل عن دينه .. لأجل دراهم معدودات .. أو تتبع
الشهوات .. أو الولوغ في الملذات .. ثم يختم له بالسوء والعياذ بالله ..
* * * * * * * * * *
ومن عدل الله تعالى أن العبد يختم له في الغالب على ما عاش عليه ..
فمن كان في حياته يشتغل بالذكر والقيام .. والصدقات والصيام .. ختم له بالصالحات ..
ومن تولى وأعرض عن الخير .. خشي عليه أن يموت على ما اعتاد عليه ..
ولأجل هذا الفرق العظيم .. كان الصالحون يستعدون للموت قبل نزوله ..
بل يغتنم أحدهم آخر الأنفاس واللحظات .. في التزود ورفع الدرجات ..
فتجده يجاهد .. ويأمر بالمعروف .. وينهى عن المنكر .. ويشتغل بالطاعات .. إلى آخر
نفس يتنفسه ..
ثبت الصحيحين وغيرهما ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع من حجة الوداع ..
جعل مرض الموت يشتد عليه .. يوماً بعد يوم .. وهو في كلمة يتكلمها .. ونظرة ينظرها
.. يودع هذه الدار ..
ولما اشتدت عليه الحمى .. وأيقن النقلة للدار الأخرى ..
أراد أن يودع الناس ..
فعصب رأسه ..
ثم أمر الفضل بن العباس أن يجمع الناس في المسجد .. فجمعهم .. فاستند صلى الله عليه وسلم
إليه .. حتى رقى إلى المنبر .. ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال :
أما بعد ..
أيها الناس .. إنه قد دنى مني خلوف من بين أظهركم ..
ولن تروني في هذا المقام فيكم ..
ألا فمن كنت جلدت له ظهراً .. فهذا ظهري فليستقد منه ..
ومن كنت أخذت له مالاً .. فهذا مالي فليأخذ منه ..
ومن كنت شتمت له عرضاً .. فهذا عرضي فليستقد منه ..
ولا يقولن قائل إني أخشى الشحناء ..
ألا وإن الشحناء ليست من شأني .. ولا من خلقي ..
وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً .. إن كان له علي ..
أو حللني فلقيت الله عز وجل .. وليس لأحد عندي مظلمة ..
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..ومضى إلى بيته .. وبدأت الحمى تأكل جسده .. وهو يتحامل
على نفسه ويخرج إلى الناس ويصلي بهم ..
حتى صلى بأصحابه المغرب .. من يوم الجمعة ..
ثم دخل بيته .. وقد اشتدت عليه الحمى .. فوضعوا له فراشاً فانطرح عليه ..
وظل على فراشه تكوي الحمى جسده ..
ثم ثقل به مرض الموت .. وهو على فراشه ..
واجتمع الناس لصلاة العشاء .. وجعلوا ينتطرون إمامهم صلى الله عليه وسلم ليصلي بهم ..
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد هده المرض .. يحاول النهوض من فراشه .. فلا يقدر .. فأبطأ
عليهم ..
فجعل بعض الناس ينادي : الصلاة .. الصلاة ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى من حوله وقال : أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك ..
فإذا حرارة جسده صلى الله عليه وسلم تمنعه من النهوض ..
فقال : صبوا لي ماء في المخضب .. وهو إناء كبير ..
فصبوا له الماء .. وجعلوا يصبون الماء البارد من القرب .. فوق جسده ..
فلما برد جسده .. وشعر بشيء من النشاط .. جعل يشير لهم بيده .. فأوقفوا الماء عنه
..
فلما اتكأ على يديه ليقوم أغمي عليه ..
فلبث ملياً .. ثم أفاق .. فكان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك ..
قال : ضعوا لي ماء في المخضب .. فاغتسل .. وجعلوا يصبون عليه الماء ..
حتى إذا شعر بشيء من النشاط .. أراد أم يقوم .. فأغمي عليه ..
فلبث ملياً .. ثم أفاق .. فكان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟
قالوا : لا .. يا رسول الله .. هم ينتظرونك ..
قال : ضعوا لي ماء في المخضب .. فوضعوا له الماء .. وجعلوا يصبون الماء البارد على
جسده .. وأكثروا الماء .. حتى أشار لهم بيده .. ثم اتكأ على يديه ليقوم .. فأغمي
عليه ..
وأهله ينظرون إليه .. تضطرب أفئدتهم .. وتدمع أعينهم ..
والناس عكوف في المسجد ينتظرونه ..
فلبث مغمى عليه ملياً .. ثم أفاق ..
فقال : أصلى الناس ؟ قالوا : لا .. هم ينتظرونك يا رسول الله ..
فتأمل صلى الله عليه وسلم في جسده .. فإذا الحمى قد هدته هداً ..
ذاك الجسد المبارك ..
الذي نصر الدين .. وجاهد لرب العالمين ..
ذلك الجسد .. الذي ذاق من العبادة حلاوتها .. ومن الحياة شدتها ..
الجسد الذي تفطرت منه القدمان .. من طول القيام ..
وبكت العينان .. من خشية الرحمن ..
عذب في سبيل الله .. وجاع .. وقاتل ..
لما رأى صلى الله عليه وسلم حاله .. وتمكن المرض مند جسده .. التفت إليهم وقال :
مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ..
فيقيم بلال الصلاة .. ويتقدم أبو بكر .. في محراب النبي صلى الله عليه وسلم .. فيصلي بالناس(/4)
.. ولا يكادون يسمعون قراءته من شدة بكائه وحزنه ..
وانتهت صلاة العشاء ..
ثم اجتمع الناس لصلاة الفجر .. فيصلي بهم أبو بكر .. ويجتمع الناس بعدها للصلوات ..
ويصلي أبو بكر بهم .. أياماً .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم على فراشه ..
فلما كانت صلاة الظهر أو العصر من يوم الاثنين .. وجد رسول صلى الله عليه وسلم خفة في
جسده .. فدعا العباس وعليّاً .. فأسنداه عن يمينه ويساره ..
ثم خرج يمشي بينهما .. تخط رجلاه في الأرض ..
وكشف الستر الذي بين بيته وبين المسجد .. فإذا الصلاة قد أقيمت .. والناس يصلون ..
فرأى أصحابه صفوفاً في الصلاة .. فنظر إليهم ..
وجوه مباركة .. وأجسادٌ طاهرة ..
ما منهم أحدٌ إلا وقد أصيب في سبيل الله .. منهم من قطعت يده ..
ومنهم من فقئت عينه .. ومنهم من ملأت الجراحات جسده ..
طالما صلى بهؤلاء الأخيار .. وجاهد معهم .. وجالسهم ..
كم ليلة قامها وقاموها .. وأيام صامها وصاموها ..
كم صبروا معه على البلاء .. وأخلصوا معه الدعاء ..
كم فارقوا لنصرة دينه .. الأهل والإخوان .. وهجروا الأحباب والأوطان ..
منهم من قضى نحبه .. ومنهم من ينتظر .. وما بدلوا تبديلاً ..
ثم هاهو اليوم يفارقهم .. إلى تلك الدار .. التي طالما شوقهم إلى سكناها ..
فلما رآهم في صلاتهم ..
تبسم .. حتى كأن وجهه فلقة من قمر ..
ثم أرخى الستر .. وعاد إلى فراشه .. وبدأت تصارعه سكرات الموت ..
قالت عائشة :
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء .. فيدخل يده في القدح ثم يمسح
وجهه بالماء .. ثم يقول : لا إله إلا الله .. إن للموت سكرات ..
وجعلت فاطمة تبكي وتقول : واكرب أبتاه .. فيلتفت إليها ويقول : ليس على أبيك كرب
بعد اليوم ..
فجعلت أمسح وجهه .. وأدعو له بالشفاء ..
فقال : لا .. بل أسأل الله الرفيق الأعلى .. مع جبريل وميكائيل وإسرافيل ..
ثم لما ضاق به النفس .. واشتدت عليه السكرات .. جعل يردد كلمات يودع بها الدنيا ..
بل كان يتكلم فيما أهمه ..
ويحذر من صور الشرك ويقول :
" لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ..
" اشتد غضب الله على قوم جعلوا قبور أنبيائهم مساجد " ..
وكان من آخر ما قال صلى الله عليه وسلم : " الصلاة الصلاة .. وما ملكت أيمانكم " ..
ثم مات صلى الله عليه وسلم .. نعم ..
مات .. سيد المرسلين .. وإمام المتقين .. وحبيب رب العالمين ..
مات وليس أحد يطالبه بمظلمة .. ولا آذى أحداً بكلمة ..
لم يتدنس بأموال حرام .. ولا غيبة ولا آثام ..
بل كان إلى الله داعياً .. ولعفو ربه راجياً ..
يأمر بالصلاة وعبادة الرحمن .. وينهى عن الشرك والأوثان ..
{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف
رحيم } ..
* * * * * * * * * *
وكذلك كان الصالحون من بعده صلى الله عليه وسلم .. يستعدون للموت .. بالإكثار من الطاعات ..
والمسارعة إلى القربات ..
وهم مع كثرة أعمالهم .. وحسن أفعالهم .. إذا فجأهم الموت .. رجوا رحمة ربهم ..
وخافوا من عقابه .. ولم يركنوا إلى أعمالهم ..
عمر بن الخطاب .. الخليفة الراشد ..
الذي نصر الدين .. وجاهد لرب العالمين .. وأطفأ نيران دولة المجوس ..
حقد عليه الكافرون ..
وكان من أكثرهم حقداً .. أبو لؤلؤة المجوسي ..
وكان عبداً نجاراً حداداً في المدينة .. وكان يصنع الرحاء .. جمع رحى وهي آلة لطحن
الشعير .. وهي حجران مصفحان يوضع أحدهما فوق الآخر ويطرح الحب بينهما .. وتدار
باليد .. فيطحن ..
أخذ هذا العبد يتحين الفرص للانتقام من عمر ..
فلقيه عمر يوماً في طريق فسأله وقال :
حدثت أنك تقول لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح ؟!
فالتفت العبد عابساً إلى عمر ..
وقال : بلى .. لأصنعن لك رحى يتحدث بها أهل المشرق والمغرب ..
فلتفت عمر إلى من معه .. وقال :
توعدني العبد ..
ثم مضى العبد وصنع خنجراً له رأسان .. مقبضه في وسطه .. فهو إن طعن به من هذه الجهة
قتل .. وإن طعن به من الجهة الأخرى قتل .. وأخذ يطليه بالسم ..
حتى إذا طعن به .. يقتل إما بقوة الطعن أو السم ..
ثم جاء .. في ظلمة الليل .. فاختبأ لعمر في زاوية من زوايا المسجد ..
فلم يزل هناك حتى دخل عمر إلى المسجد ينبه الناس لصلاة الفجر ..
ثم أقيمت الصلاة .. وتقدم بهم عمر .. فكبر ..
فلما ابتدأ القراءة ..
خرج عليه المجوسي .. وفي طرفة عين .. عاجله .. بثلاث طعنات ..
وقعت الأولى في صدره والثانية في جنبه .. والثالثة تحت سرته ..
فصاح عمر .. ووقع على الأرض ..
وهو يردد قوله تعالى : وكان أمر الله قدراً مقدوراً ..
وتقدم عبد الرحمن بن عوف وأكمل الصلاة بالناس ..
أما العبد فقد طار بسكينه يشق صفوف المصلين .. ويطعن المسلمين .. يميناً وشمالاً ..
حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً .. مات منهم سبعة ..
ثم وقف شاهراً سكينه ما يقترب منه أحد إلا طعنه .. فاقترب منه رجل وألقى عليه رداءً
غليظاً ..(/5)
فاضطرب المجوسي .. وعلم أنهم قدروا عليه .. فطعن نفسه ..
وحُمِل عمر مغشياً عليه إلى بيته .. وانطلق الناس معه يبكون ..
وظل مغمى عليه .. حتى كادت أن تطلع الشمس ..
فلما أفاق .. نظر في وجوه من حوله .. ثم كان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟ قالوا : نعم ..
فقال : الحمد لله .. لا إسلام لمن ترك الصلاة ..
ثم دعا بماء فتوضأ .. وأراد أن يقوم ليصلي فلم يقدر ..
فأخذ بيد ابنه عبد الله فأجلسه خلفه .. وتساند إليه ليجلس ..
فجعلت جراحه تنزف دماً ..
قال عبد الله بن عمر .. والله إني لأضع أصابعي .. فما تسد الجرح ..
فربطنا جرحه بالعمائم .. فصلى الصبح ..
ثم قال : يا ابن عباس انظر من قتلني ..
فقال : طعنك الغلام المجوسي .. ثم طعن معك رهطاً .. ثم قتل نفسه ..
فقال عمر : الحمد لله .. الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط ..
ثم دخل الطبيب على عمر .. لينظر إلى جرحه .. فسقاه ماءً مخلوطاً بتمر ..
فخرج الماء من جروحه ..
فظن الطبيب أن الذي خرج دم وصديد .. فأسقاه لبناً ..
فخرج اللبن من جرحه الذي تحت سرته .. فعلم الطبيب أن الطعنات قد مزقت جسده ..
فقال : يا أمير المؤمنين .. أوص .. فما أظنك إلا ميتاً اليوم أو غداً ..
فقال عمر : صدقتني .. ولو قلت غير ذلك لكذبتك ..
ثم قال :
والله لو أن لي الدنيا كلها .. لافتديت به من هول المطلع .. يعني الوقوف بين يدي
الله تعالى ..
فقال ابن عباس : وإن قلت ذلك .. فجزاك الله خيراً ..
أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أن يعز الله بك الدين والمسلمين .. إذ يخافون
بمكة ؟
فلما أسلمت .. كان إسلامك عزاً .. وظهر بك الإسلام ..
وهاجرت .. فكانت هجرتك فتحاً .. ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم .. من
قتال المشركين ؟
ثم قبض وهو عنك راضٍ ..
ووازرت الخليفة بعده .. وقُبض وهو عنك راض ..
ثم وليت بخير ما ولي الناس .. مصّر الله بك الأمصار ..
وجبا بك الأموال .. ونفى بك العدو ..
ثم ختم لك بالشهادة .. فهنيئا لك ..
فقال عمر : أجلسوني ..
فلما جلس .. قال لابن عباس : أعد عليَّ كلامك ..
فلما أعاد عليه ..
قال : والله إن المغرور من تغرونه ..
أتشهد لي بذلك عند الله يوم تلقاه ؟
فقال بن عباس : نعم .. ففرح عمر .. وقال : اللهم لك الحمد …
ثم جاء الناس فجعلوا يثنون عليه .. ويودعونه ..
وجاء شاب ..
فقال : أبشر يا أمير المؤمنين .. صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم وليت فعدلت .. ثم
شهادة ..
فقال عمر : وددت أني خرجت منها كفافاً .. لا عليَّ ولا لي ..
فلما أدبر الشاب .. فإذا إزاره يمس الأرض .. فقال عمر : ردوا علي الغلام ..
قال : يا ابن أخي .. ارفع ثوبك .. فإنه أنقى لثوبك .. وأتقى لربك ..
ثم اشتد الألم على عمر .. وجعل يتغشاه الكرب .. ويغمى عليه ..
قال عبد الله بن عمر : غشي على أبي فأخذت رأسه فوضعته في حجري ..
فأفاق .. فقال : ضع رأسي في الأرض ثم غشي عليه فأفاق ورأسه في حجري ..
فقال : ضع رأسي على الأرض ..
فقلت : وهل حجري والأرض إلا سواء يا أبتاه ..
فقال : اطرح وجهي على التراب .. لعل الله تعالى أن يرحمني ..
فإذا قبضت .. فأسرعوا بي إلى حفرتي ..
فإنما هو خير تقدموني إليه .. أو شر تضعونه عن رقابكم ..
ثم قال : ويل لعمر .. وويل لأمه .. إن لم يغفر له .. ثم ضاق به النفس .. واشتدت
عليه السكرات .. ثم مات صلى الله عليه وسلم ..
ودفنوه بجانب صاحبيه ..
نعم .. مات عمر بن الخطاب .. لكن مثله في الحقيقة لم يمت ..
قدم على أعمال صالحات .. ودرجات رفيعات ..
صاحبه في قبره قراءته للقرآن .. وبكاؤه من خشيته الرحمن ..
تؤنسه صلاته في وحشته .. ويرفع جهاده من درجته ..
تعب في دنياه قليلاً .. لكنه استراح في آخرته طويلاً ..
بل قد عده النبي صلى الله عليه وسلم من العشرة المبشرين بالجنة ..
بل قد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً :
بينا أنا نائم رأيتني في الجنة .. فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر .. فقلت :
لمن هذا القصر ؟ قالوا : لعمر .. فذكرت غيرته فوليت مدبراً ..
فبكى عمر وقال : أعليك أغار يا رسول الله !! ..
* * * * * * * * * *
نعم ..
هكذا الصالحون .. أيقنوا بنزول الموت فاستعدوا للقائه في كل لحظة ..
لما نزل الموت بالعابد الزاهد عبد الله بن إدريس .. اشتد عليه الكرب .. فلما اخذ
يشهق .. بكت ابنته ..
فقال : يا بنيتي .. لا تبكي .. فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة ..
كلها لأجل هذا المصرع ..
أمّا عامر بن عبد الله بن الزبير .. فلقد كان على فراش الموت .. يعد أنفاس الحياة
.. وأهله حوله يبكون ..
فبينما هو يصارع الموت .. سمع المؤذن ينادي لصلاة المغرب .. ونفسه تحشرج في حلقه ..
وقد أشتدّ نزعه .. وعظم كربه ..
فلما سمع النداء قال لمن حوله : خذوا بيدي ..!!
قالوا : إلى أين ؟ ..
قال : إلى المسجد ..
قالوا : وأنت على هذه الحال !!(/6)
قال : سبحان الله .. !! أسمع منادي الصلاة ولا أجيبه ..
خذوا بيدي .. فحملوه بين رجلين .. فصلى ركعة مع الإمام .. ثمّ مات في سجوده ..
نعم .. مات وهو ساجد ..
فمن أقام الصلاة .. وصبر على طاعة مولاه .. ختم له برضاه ..
اصبر لمر حوادث الدهر فلتحمدن مغبة الصبر
وامهد لنفسك قبل ميتتها واذخر ليوم تفاضل الذخر
فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر
وكأنهم قد هيئوك بما يتهيأ الهلكى من العطر
وكأنهم قد قلبوك على ظهر السرير وظلمة القبر
يا ليت شعري كيف أنت على ظهر السرير وأنت لا تدري
أم ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر
أم ليت شعري كيف أنت إذا وضع الحساب صبيحة الحشر
ما حجتك فيما أتيت وما قولك لربك بل وما العذر
ألا تكون أخذت عذرك أو أقبلت ما استدبرت من أمر
* * * * * * * * * *
بل كان الصالحون يتحسرون عند الممات .. على فراق الأعمال الصالحات ..
ويودون لو طالت بهم الحياة للتزود في رفع الدرجات .. وتكثير الحسنات ..
احتضر عبد الرحمن بن الأسود .. فبكى .. فقيل له :
ما يبكيك !! وأنت .. أنت ..
يعني في العبادة والخشوع .. والزهد والخضوع ..
فقال : أبكي والله .. أسفاً على الصلاة والصوم .. ثمّ لم يزل يتلو حتى مات ..
أما يزيد الرقاشي فإنه لما نزل به الموت .. أخذ يبكي ويقول :
من يصلي لك يا يزيد إذا متّ ؟ ومن يصوم لك ؟
ومن يستغفر لك من الذنوب .. ثم تشهد ومات ..
هذه مشاهد الاحتضار .. لأرباب التعبدّ والأسرار ..
فلوا رأيتهم تجافوا عن دفء فرشهم في الأسحار ..
يخافون يوماً تنقلب فيه القلوب والأبصار ..
فدفنوا تحت الثرى .. وقد أرضوا من يعلم السرّ وأخفى ..
هذا هو احتضار المؤمنين .. وما عند الله خير وأبقى ..
* * * * * * * * * *
الموت لا يفرق بين كبير وصغير .. ولا غني وفقير .. ولا عبد وأمير ..
هارون الرشيد
ذاك الذي ملك الأرض وملأها جنوداً ..
ذاك الذي كان يرفع رأسه .. فيقول للسحابة : أمطري في الهند أو في الصين .. أو حيث
شئت .. فوالله ما تمطرين في أرض إلا وهي تحت ملكي ..
هارون الرشيد .. خرج يوماً في رحلة صيد فمرّ برجل يقال له بُهلول ..
فقال هارون : عظني يا بُهلول ..
قال : يا أمير المؤمنين !! أين آباؤك وأجدادك ؟ من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيك
؟
قال هارون : ماتوا ..
قال : فأين قصورهم ..؟ قال : تلك قصورهم ..
قال : وأين قبورهم ؟ قال : هذه قبورهم ..
فقال بُهلول : تلك قصورهم .. وهذه قبورهم .. فما نفعتهم قصورهم في قبورهم ؟
قال : صدقت .. زدني يا بهلول .. قال :
أما قصورك في الدنيا فواسعة * فليت قبرك بعد الموت يتسع
فبكى هارون وقال : زدني .. فقال :
يا أمير المؤمنين :
هب أنك ملكت كنوز كسرى وعُمرت السنين فكان ماذا
أليس القبر غاية كل حيٍ وتُسأل بعده عن كل هذا ؟
قال : بلى ..
ثم رجع هارون .. وانطرح على فراشه مريضاً .. ولم تمضِ عليه أيام حتى نزل به الموت
..
فلما حضرته الوفاة .. وعاين السكرات .. صاح .. بقواده وحجابه :
اجمعوا جيوشي .. فجاؤوا بهم .. بسيوفهم .. ودروعهم .. لا يكاد يحصي عددهم إلا الله
.. كلهم تحت قيادته وأمره ..
فلما رآهم .. بكى .. ثم قال :
يا من لا يزول ملكه .. ارحم من قد زال ملكه ..
ثم لم يزل يبكي حتى مات .. فلما مات ..
أخذ هذا الخليفة .. الذي ملك الدنيا وأودع حفرة ضيقة ..
لم يصاحبه فيها وزراؤه .. ولم يساكنه ندماؤه ..
لم يدفنوا معه طعاماً .. ولم يفرشوا له فراشا
ما أغنى عنه ملكه وماله ..
سل الخليفة إذ وافت منيته * أين الجنود أين الخيل والخول
أين الكنوز التي كانت مفاتحها * تنوء بالعصبة المقوين لو حملوا
أن الجيوش التي أرصدتها عدداً* أين الحديد وأين البيض والأسل
لا تنكرن فما دامت على أحد * إلا أناخ عليه الموت والوجل
أما عبد الملك بن مروان ..
فإنه لما نزل به الموت ..جعل يتغشاه الكرب .. ويضيق عليه النفس .. فأمر بنوافذ
غرفته ففتحت .. فالتفت فرأى غسالاً فقيراً في دكانه ..
فبكى عبد الملك ثم قل : يا ليتني كنت غسالاً .. يا ليتني كنت نجاراً .. يا ليتني
كنت حمالاً .. يا ليتني لم ألِ من أمر المؤمنين شيئاً .. ثم مات ..
عجباً ..
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم * فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا * أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل
أين الرماة ألم تُمنع بأسهمهم * لما أتتك سهام الموت تنتصل
أين الأحبة والجيران أجمعهم * أين الأطباء ما اغنوا ولا الحيل
ما ساعدك ولا واساك أقربهم * بل سلموك لها يا قبح ما فعلوا
ما بال ذكرك منسياً ومطرحاً * وكلهم باقتسام المال قد شغلوا
ما بال قبرك وحشاً لا أنيس به * يغشاك من جانبيه الروع والوهل
ما بال قبرك لا يأتي به أحد * ولا يمرّ به من بينهم رجل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل(/7)
قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا* فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا
وطالما كنزوا الأموال وادخروا * فخلفوها على الأعداء وارتحلوا
وطالموا شيدوا دوراً لتحصنهم * ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
ـــــــــــــــــــ
نعم ..
انتقلوا .. إلى دور ليس فيها خدم يخدمون .. ولا أهل يكرمون .. ولا وزراء ينادمون ..
انتقلوا إلى دور .. تجالسهم فيها أعمالهم .. وتخاصمهم صحائفهم .. وما ربك بظلام
للعبيد ..
* * * * * * * * * *
وهناك فريق من الناس ..وسع الله عليهم في أرزاقهم .. وعافاهم في أبدانهم ..
فغفلوا عن الاستعداد للموت حتى باغتهم ..
فبدد شملهم .. وأخذهم على قبيح فعلهم .. فلما عاينوا الموت طلبوا الرجوع للدنيا ..
لا لتجارة ولا مال .. ولا أهل ولا عيال .. ونما لإصلاح الأحوال .. وإرضاء القوي
المتعال ..
ولكن قد حكم الخالق العظيم أنهم إليها لا يُرجعون ..
أولئك العصاة والمذنبون .. اللاهون المضيعون ..
غلب عليهم حبهم لدنياهم .. فكان لهم في احتضارهم عذاب وتهويل .. وحيل بينهم وبين
الخالق الجليل ..
* * * * * * * * * *
ذكر القرطبي :
أن أحد المحتضرين .. ممّن بدنياه انشغل .. وغرّه طول الأمل .. لما نزل به الموت ..
واشتد عليه الكرب ..
اجتمع حوله أبناؤه .. يودعونه .. ويقولون :
قل لا إله إلا الله .. فأخذ يشهق .. ويصيح .. فأعادوها عليه ..
فصاح بهم وقال :
الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا .. والبستان الفلاني ازرعوا فيه كذا ..
والدكان الفلاني اقبضوا منه كذا .. ثمّ لم يزل يردد ذلك حتى مات ..
نعم .. مات ..
وترك بستانه ودكانه .. يتمتع بهما ورثته .. وتدوم عليه حسرته ..
* * * * * * * * * *
وذكر ابن القيم :
أن أحد تجار العقار .. ذُكّر بلا إله إلاّ الله عند احتضاره فجعل يردّد :
هذه القطعة رخيصة .. وهذا مشترى جيّد .. وهذا كذا .. وهذا كذا .. حتى خرجت روحه ..
وهو على هذا الحال ..
ثم دفن تحت الثرى .. بعدما مشى عليه متكبراً ..
قد جمع الأموال .. وكثر العيال .. فما نفعوه في قبره ولا ساكنوه ..
* * * * * * * * * *
قال ابن القيم :
واحتضر رجل ممن كان يجالس شراب الخمور .. فلما حضره نزعُ روحه ..
اقبل عليه رجل ممن حوله .. وقال : يا فلان .. يا فلان .. قل لا إله إلا الله ..
فتغير وجهه .. وتلبد لونه .. وثقل لسانه ..
فردد عليه صاحبه : يا فلان .. قل لا إله إلا الله ..
فالتفت إليه وصاح :
لا .. اشرب أنت ثمّ اسقني .. اشرب أنت ثمّ اسقني ..
وما زال يردّدها .. حتى فاضت روحه إلى باريها ..
نعوذ بالله .. { وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل} .
* * * * * * * * * *
وذكر الصفدي :
أن رجلاً كان يشرب الخمر ويجالس أهلها .. وكان إذا سكر ونام .. يمشي ولا يعقل ..
فكان ينام في السطح ويشد رجله بحبل كي لا يقع ..
فسكر ليلة ونام .. فقام يمشي .. وسقط من السطح .. فأمسكه الحبل .. فبقي معلقاً
منكساً .. حتى أصبح ميتاً ..
* * * * * * * * * *
وذكر في أنموذج الزمان :
أن محمد بن المغيث كان رجلاً فاسقاً .. مفتوناً بشرب الخمر .. ولا يكاد يخرج من بيت
الخمار ..
فلما مرض .. ونزل به الموت .. وخارت قواه ..
سأله رجل ممن حوله .. هل بقي في جسمك قوة ؟ هل تستطيع المشي ..؟
فقال : نعم .. لو شئت مشيت من هنا إلى بيت الخمار ..
فقال صاحبه : أعوذ بالله أفلا قلت أمشي إلى المسجد ؟
فبكى .. وقال :
غلب ذلك عليَّ لكل امرئ من دهره ما تعودا .. وما جرت عادتي بالمشي إلى المسجد ..
* * * * * * * * * *
وقال ابن أبي رواد :
حضرت رجلاً عند الموت .. فجعل من حوله يلقّنونه لا إله إلا الله .. فحيل بينه
وبينها .. وثقلت عليه .. فجعلوا يعيدون عليه .. ويكررون .. ويذكرونه بالله .. وهو
في كرب شديد ..
فلما ضاق عليه النفس .. صاح بهم وقال : هو كافر بلا إله إلاّ الله .. ثم شهق ومات
..
قال : فلما دفناه .. سألت أهله عن حاله : فإذا هو مدمن للخمر ..
نعوذ بالله من سوء الخاتمة ..
بل نعوذ بالله من أم الخبائث .. ورأس الفواحش ..
ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة .. ومن شرب الخمر في الدنيا كان حقاً
على الله أن يسقيه من طينة الخبال .. قيل : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟
قال : عصارة أهل النار ..
إلا أن يتوب قبل موته ..
* * * * * * * * * *
أما أهل المعازف والغناء .. فلهم عند الموت كربة وبلاء ..
ذكر ابن القيم :
أن رجلا من أهل الغناء والمعازف حضرته الوفاة .. فلما اشتدّ به نزع روحه ..
قيل له : قل لا إله إلا الله .. فجعل يردد أبياتاً من الغناء ..
فأعادوا عليه التلقين ..: قل لا إله إلا الله .. فجعل يردد الألحان ويقول : تنتنا
.. تنتنا ..
حتى خرجت روحه من جسده .. وهو إنمّا يلحّن ويغني ..
* * * * * * * * * *
أما أهل الجريمة الكبرى .. والداهية العظمى ..
فهم أنصار الشيطان .. وأعداء الرحمن ..
وخصوم المؤمنين .. وإخوان الكافرين ..(/8)
الذين يحشرون مع فرعون وهامان ..ويتقلبون معهم في النيران ..
هم تاركو الصلاة .. وبين الرجل وبين الكفر أو الشرك .. ترك الصلاة ..
وحالهم عند الموت وبعده أدهى وأفظع ..
ذكر ابن القيم :
أن أحد المحتضرين .. كان صاحب معاص وتفريط .. فلم يلبث أن نزل به الموت .. ففزع من
حوله إليه .. وانطرحوا بين يديه .. وأخذوا يذكرونه بالله .. ويلقنونه لا إله إلا
الله ..
وهو يدافع عبراته .. فلما بدأت روحه تنزع .. صاح بأعلى صوته .. وقال :
أقول : لا إله إلا الله !!
وما تنفعني لا إله إلا الله ؟!! وما أعلم أني صليت لله صلاة !!
ثمّ مات ..
* * * * * * * * * *
هذا هو الموت .. أول طريق الآخرة ..
وما بعده أفظع وأكبر ..
* * * * * * * * * *
أما أحوال أهل القبور .. فهي أدهى وأخطر ..
فكم من جسد صحيح .. ووجه صبيح .. ولسان فصيح .. هو اليوم في قبره يصيح ..
على أعماله نادم .. وعلى الله قادم ..
خرج عمر بن عبد العزيز .. في جنازة بعض أهله فلما أسلمه إلى الديدان .. ودسه في
التراب .. التفت إلى الناس فقال :
أيها الناس :
إن القبر ناداني من خلفي .. أفلا أخبركم بما قال لي ؟
قالوا : بلى ..
فقال : إن القبر قد ناداني فقال :
يا عمر بن عبد العزيز .. ألا تسألني ما صنعت بالأحبة ؟
قلت : بلى .
قال : خرقت الأكفان .. ومزقت الأبدان .. ومصصت الدم .. وأكلت اللحم ..
ألا تسألني ما صنعت بالأوصال ؟
قلت : بلى .
قال : نزعت الكفين من الذراعين .. والذراعين من العضدين .. والعضدين من الكتفين ..
والوركين من الفخدين .. والفخدين من الركبتين .. والركبتين من الساقين .. والساقين
من القدمين .
ثم بكى عمر فقال :
ألا إن الدنيا بقاؤها قليل .. وعزيزها ذليل ..
وشبابها يهرم .. وحيها يموت .. فالمغرور من اغترَّ بها ..
أين سكانها الذين بنوا مدائنها ..
ما صنع الترابُ بأبدانهم ؟
والديدانُ بعظامهم وأوصالهم ؟
كانوا في الدنيا على أسرةٍ ممهدة .. وفرشٍ منضدة ..
بين خدم يخدمون .. وأهلٍ يكرمون ..
فإذا مررت فنادهم .. وانظر إلى تقارب قبورهم من منازلهم ..
وسل غنيَّهم ما بقي من غناه ؟
وسل فقيرَهم ما بقي من فقره ؟
سلهم .. عن الألسن .. التي كانوا بها يتكلمون .. وعن الأعين التي كانوا إلى اللذات
بها ينظرون ..
وسلهم عن الجلود الرقيقة .. والوجوه الحسنة .. والأجساد الناعمة ..
ما صنع بها الديدان ؟
محت الألوان .. وأكلت اللحمان .. وعفرت الوجوه .. ومحت المحاسن ..
وكسرت القفا .. وأبانت الأعضاء .. ومزقت الأشلاء ..
أين خدمهم وعبيدهم ..أين جمعهم ومكنوزهم ؟
والله ما زودوهم فَرْشا .. ولا وضعوا هناك متكئاً ..
أليسوا في منازل الخلوات .. وتحت أطباق الثرى في الفلوات ؟
أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟
قد حيل بينهم وبين العمل .. وفارقوا الأحبة والأهل ..
قد تزوجت نساؤهم .. وترددت في الطرق أبناؤهم ..
وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم ..
ومنهم والله الموسع له في قبره .. الغض الناضر فيه .. المتنعم بلذته ..
ثم بكى عمر وقال :
يا ساكن القبر غداً ..
ما الذي غرك من الدنيا ! ..
أين رقاق ثيابك .. أين طيبك .. أين بخورك ..
كيف أنت على خشونة الثرى ..
ليت شعري بأي خديك يبدأ الدود البِلى ..
ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا .. وما يأتيني به من
رسالة ربي ..ثم بكى بكاءً ..
ثم انصرف فما بقي بعد ذلك إلا جمعة .. ومات .. رحمه الله ..
* * * * * * * * * *
أهلُ القبور إما معذبون أو منعّمون ..
بل لعله في القبر الواحد دُفن عدة أشخاص .. هذا إلى الجنة وهذا إلى النار ..
بل يا أُخَيَّ ..إن الأمر أعجب من ذلك ..
لعل تحت قدميك الآن أقوام يُعذبون أو ينعمون ..
بل لعل تحتك في غرفة نومك أقواما محبوسين في حفر من جهنم ..
يعرضون على النار بكرة وعشياً ..
من يدري فالناس كثير .. والأرض قد تضيق عنهم ..
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب * فأين القبور من عهد عاد
خفف الوَطْء ما أظن أديم الأرض * إلا من هذه الأجساد
رُبَّ قبر قد صار قبراً مراراً * ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
ودفين على رفات دفين * من قديم الزمان والآماد
تعب كلها الحياة فلا أعجب * إلا من راغب في ازدياد
فأي عيش صفا وما كدّره الموت ؟
أي قدم سعت وما عثّرها الموت ؟
أما أخذ الآباء والأجداد ؟ أما سلب الحبيب وقطع الوداد ؟
أما أرمل النسوان .. وأيتم الأولاد ؟
عزاءٌ فما يصنع جازعُ ودمع الأسى أبد ضائعُ
بكى الناس من قبل أحبابهم فهل منهم أحدٌ راجعُ
فدلى ابن عشرين في قبره وتسعون صاحبها رافعُ
يُسلِّم مهجته راغماً كما مدّ راحته البائعُ
ولو أن من حدث سالما لما خسف القمر الطالع
وكيف يوقّى الفتى ما يخاف إذا كان حاصده الزارع
* * * * * * * * * *
فالقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
فإن يكُ خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّ ويل لعبد عن سبيل الله صد
* * * * * * * * * *(/9)
روى الإمام أحمد في مسنده :
عن البراء بن عازب قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة .. فجلس رسول الله
صلى الله عليه وسلم على القبر .. وجلسنا حوله .. كأن على رؤوسنا الطير .. وهو يلحد له ..
فقال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر ..
قال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر ..
قال : تعوذوا بالله من عذاب القبر .. قلنا : نعوذ بالله من عذاب القبر ..
ثم قال :
إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا .. وإقبال من الآخرة ..
نزل إليه ملائكة من السماء .. بيض الوجوه .. كأن وجوههم الشمس ..
معهم كفن من أكفان الجنة .. وحنوط من حنوط الجنة ..
حتى يجلسوا منه مد البصر ..
ثم يجئ ملك الموت عليه السلام .. حتى يجلس عند رأسه .. فيقول :
أيتها النفس الطيبة .. أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ..
فتخرج تسيل .. كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء .. فيأخذها .. فإذا أخذها .. لم
يدعوها في يده طرفة عين .. حتى يأخذوها فيجعلوها .. في ذلك الكفن .. وفي ذلك الحنوط
.. ويخرج منها كأطيب نفحة مسك .. وجدت على وجه الأرض ..
فيصعدون بها .. فلا يمرون على ملأ من الملائكة .. إلا قالوا :
ما هذا الروح الطيب ؟
فيقولون : فلان بن فلان .. بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ..
حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا .. فيستفتحون له .. فيفتح لهم .. فيشيعه من كل
سماء مقربوها .. إلى السماء التي تليها .. حتى يُنتهى به إلى السماء السابعة ..
فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتاب عبدي في عليين .. وأعيدوه إلى الأرض .. فإني منها
خلقتهم .. وفيها أعيدهم .. ومنها أخرجهم تارة أخرى ..
فتعاد روحه في جسده ..
فيأتيه ملكان .. فيجلسانه .. فيقولان له :
من ربك ؟ فيقول : ربي الله ..
فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام ..
فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فيقولان له : وما علمك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله .. فآمنت به .. وصدقت ..
فينادى مناد في السماء : أن صدق عبدي .. فافرشوه من الجنة .. وألبسوه من الجنة ..
وافتحوا له باباً إلى الجنة ..
فيأتيه من روحها .. وطيبها .. ويفسح له في قبره .. مَدَّ بصره ..
ويأتيه رجل حسنُ الوجه .. حسنُ الثياب .. طيب الريح ..
فيقول : أبشر بالذي يسرك .. هذا يومك الذي كنت توعد ..
فيقول له : من أنت ؟ فوجهك الوجه يجئ بالخير ..
فيقول : أنا عملك الصالح .. كنت والله سريعاً في طاعة الله .. بطيئاً عن معصية الله
.. فجزاك الله خيراً ..
نعم .. أيها الإخوة والأخوات ..
يقول له : أنا عملك الصالح ..
أنا صلاتك وصومك .. أنا برك وصدقتك ..
أنا بكاؤك وخشيتك .. أنا حجك وعمرتك ..
أنا قراءتك للقرآن .. وحبك للرحمن ..
أنا قيامك في الأسحار .. وصومك في النهار .. وخوفك من العزيز الجبار ..
أنا برك لوالديك ..أنا طلبك للعلم ..
أنا دعوتك إلى الله .. أنا جهادك في سبيل الله ..
فإذا رأى العبد المؤمن .. هذا الوجه الصبوح يبشره ..
والتفت حوله فرأى قبره قد أصبح واسعاً .. فيه فرش من الجنة .. ونظر إلى لباسه فإذا
هو من الجنة ..
علم أن هذا النعيم لا يساوي شيئاً بجانب ما ينتظره في الجنة .. فيدعوا ربه ويقول :
رب أقم الساعة .. حتى أرجع إلى أهلي ومالي ..
قال :
وإن العبد الكافر أو الفاسق .. إذا كان في انقطاع من الدنيا .. وإقبال من الآخرة ..
نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه .. معهم المسوح ..
فيجلسون منه مد البصر .. ثم يجئ ملك الموت .. حتى يجلس عند رأسه .. فيقول :
يا أيتها النفس الخبيثة .. أخرجي إلى سخط من الله وغضب ..
فتفرق في جسده .. فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ..
فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض .. وكل ملك في السماء ..
فيأخذها .. فإذا أخذها .. لم يدعوها في يده طرفة عين .. حتى يجعلوها في تلك المسوح
.. ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ..
فيصعدون بها .. فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة .. إلا قالوا :
ما هذا الروح الخبيث ؟
فيقولون : فلان بن فلان .. بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ..
حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا .. فيستفتح له .. فلا يفتح له .. ثم قرأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم : { لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في
سم الخياط } ..
فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتابه في سجين .. في الأرض السفلى .. فتطرح روحه طرحاً
.. ثم قرأ : { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } ..
فتعاد روحه في جسده .. ويأتيه ملكان .. فيجلسانه .. فيقولان له :
من ربك ؟ فيقول : هاه .. هاه .. لا أدرى ..
فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : هاه .. هاه .. لا أدرى ..
فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه .. هاه .. لا أدرى ..(/10)
فيقولان : لا دريت .. ولا تلوت ..
فينادى مناد من السماء : أن كذب .. فافرشوا له من النار .. وافتحوا له باباً إلى
النار .. فيأتيه من حرها .. وسمومها .. ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ..
ويأتيه رجل قبيح الوجه .. قبيح الثياب .. منتن الريح ..
فيقول : أبشر بالذي يسوءك .. هذا يومك الذي كنت توعد .. كنت بطيء عن طاعة الله
سريعا في معصية الله فجزاك الله شراً ..
فيقول : من أنت ؟ فوجهك الوجه يجئ بالشر .. فيقول : أنا عملك الخبيث ..
نعم .. أنا عملك الخبيث ..
أنا وقوعك في الشرك .. أنا حلفك بغير الله .. أنا طوافك على القبور .. وشربك للخمور
..
بل .. أنا وقوعك في الزنا .. وأكلك للربا .. وسماعك للغناء ..
أنا تكبرك على الناصحين .. وجرأتك على رب العالمين ..
عندها يتحسر هذا العبد .. وهل تغني الحسرات ..!!
ويشتد ندمه .. وهل تنفعه العبرات ..!!
أين كان هذا البكاء .. وأنت تنظر إلى المحرمات ؟ وتواقع الفواحش والشهوات ؟
كم نُصحت بحفظ فرجك .. وصيانة سمعك وبصرك ..
فابكِ اليوم أو لا تبكِ .. فلن تنجو من العذاب ..
{ اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون } ..
عندها يوقن هذا العبد .. أن ما يلقاه بعد القبر أشد وأبقى ..
فيقول : رب لا تقم الساعة ..
ثم يقبض له أعمى .. أصم .. أبكم .. في يده مرزبة .. لو ضرب بها جبل كان تراباً ..
فيضربه ضربة .. حتى يصير تراباً .. ثم يعيده الله كما كان .. فيضربه ضربة أخرى ..
فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين ..
* * * * * * * * * *
أيها الأخوة والأخوات ..
وقبل الختام .. أنبه على تسع مسائل هامة تتعلق بالجنائز والقبور ..
المسألة الأولى :
أن الموت إذا جاء فلا يؤخر لحظة واحدة .. ولا يقدم ..
قال الله : { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً } ..
ولا أحد يعلم متى يموت .. ولا أين سيموت ..
ذُكر أن وزيراً جليل القدر .. كان عند داود عليه السلام ..
فلما مات داود .. صار وزيراً عند سليمان بن داود ..
فكان سليمان عليه السلام يوماً .. جالساً في مجلسه في الضحى ..
وعنده هذا الوزير ..
فدخل عليه رجل يسلّم عليه ..
وجعل هذا الرجل يحادث سليمان .. ويحدّ النظر إلى هذا الوزير ..
ففزع الوزير منه ..
فلما خرج الرجل .. قام الوزير وسأل سليمان .. وقال :
يا نبي الله ! من هذا الرجل .. الذي خرج من عندك ؟ ..
قد والله أفزعني منظره ؟
فقال سليمان : هذا ملك الموت .. يتصور بصورة رجل .. ويدخل عليَّ ..
ففزع الوزير .. وبكى .. وقال :
يا نبي الله .. أسألك بالله .. أن تأمر الريح فتحملني إلى أبعد مكان .. إلى الهند
..
فأمر سليمان الريح فحملته ..
فلما كان من الغد .. دخل ملك الموت على سليمان يسلم عليه كما كان يفعل ..
فقال له سليمان : قد أفزعت صاحبي بالأمس .. فلماذا كنت تحد النظر إليه ؟
فقال ملك الموت : يا نبي الله .. إني دخلت عليك في الضحى .. وقد أمرني الله أن أقبض
روحه بعد الظهر في الهند فعجبت أنه عندك ..
قال سليمان : فماذا فعلت ؟
فقال ملك الموت : ذهبت إلى المكان الذي أمرني بقبض روحه فيه .. فوجدته ينتظرني ..
فقبضت روحه ..
{ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب
والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } ..
ومن مات فإنه لا يرجع من موته .. ولا يخرج من قبره حتى ينفخ في الصور يوم القيامة
..
فمن ادعى أن أحداً من الأئمة أو الأولياء أو الأنبياء .. يرجع بعد موته .. فقد قال
بأعظم البهتان .. وصار من أنصار الشيطان ..
* * * * * * * * * *
المسألة الثانية :
أن عذاب القبر ونعيمه ثابت بالكتاب والسنة ..
قال تعالى : { وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدواً وعشياً
ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } ..
وقال تعالى عن المنافقين : { سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم }
.. قال ابن مسعود وغيره : العذاب الأول في الدنيا .. والثاني عذاب في القبر .. ثم
يردون إلى عذاب عظيم في النار ..
أما الأحاديث في إثبات عذاب القبر ونعيمه .. فهي كثيرة .. بل قد صرح ابن القيم
وغيره أنها متواترة .. وبين يدي أكثر من خمسين حديثاً في ذلك ..
فمنها ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين .. فقال : إنهما ليعذبان وما
يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة )
..
ومنها ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه في الصلاة : ( اللهم
إني أعوذ بك من عذاب القبر .. ) ..
* * * * * * * * * *
المسألة الثالثة :
أن عذاب القبر ونعيمه أمور غيبية .. لا تقاس بالعقل .. والإيمان بالغيب من أهم صفات
المؤمنين .. كما قال تعالى : { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين *الذين يؤمنون بالغيب } ..
قال ابن القيم رحمه الله : ومما ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ .. فكل(/11)
من مات وهو مستحق للعذاب .. ناله نصيبه منه .. قُبر .. أو لم يُقبر .. فلو أكلته
السباع .. أو أحرق حتى صار رماداً .. ونسف في الهواء .. أو صلب .. أو غرق في البحر
.. وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور ..
* * * * * * * * * *
المسألة الرابعة :
من المحرمات التي تقع من بعض الناس .. والنساء خاصة .. ما يقع من العويل والنياحة
والصراخ ..
ففي الصحيحين .. قال صلى الله عليه وسلم : ليس منا من ضرب الخدود .. وشق الجيوب .. ودعا
بدعوى الجاهلية ..
وفيهما .. قال صلى الله عليه وسلم: ( النائحة إذا لم تتب قبل موتها .. تقام يوم القيامة .. وعليها سربال من قطران .. ودرع من جرب ) ..
فعلى من أصيب بموت حبيب .. أن يصبر ويحتسب .. وليبشر بالأجر العظيم على صبره ..ففي
الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : ما لعبدي المؤمن عندي جزاء .. إذا قبضت
صفيه من أهل الدنيا .. ثم احتسبه .. إلا الجنة ..
* * * * * * * * * *
المسألة الخامسة :
زيارة القبور مشروعة .. ويكون قصده من الزيارة الاعتبار والاتعاظ .. دون قصد التبرك
بالقبر .. أو بتربة القبر .. أو الانتفاع بالمقبور ..
ولا يجوز أن يخصص يوماً معيناً للزيارة .. لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خصص
أياماً للزيارة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) .
وبعض الناس يقرأ الفاتحة عند زيارة القبور.. وهذه من البدع .. إذ لم يثبت عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قرأ شيئاً من القرآن عند القبور .. بل كان يدعو للأموات ويستغفر لهم .
ولا يجوز السفر لزيارة قبر من القبور ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى
ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ) متفق عليه .
* * * * * * * * * *
المسألة السادسة :
من المخالفات والبدع في الجنائز :
• وضعُ الزهور على الجنازة أو القبر ، وهذا تشبه بالكفار في دينهم وشعائرهم ، وقد
قال صلى الله عليه وسلم : من تشبه بقوم فهو منهم .. رواه أحمد .
• وكذلك الحداد على أرواح الشهداء أو غيرهم .. بالوقوفُ والصمت لمدة دقيقة ترحماً
عليهم .. فهذه بدعة منكرة .. وإنما يكتفى بالدعاء والاستغفار لهم ..
• وكذلك لا يجوز تعليقُ صورٍ لأموات بل ولا الأحياء ، للذكرى أو لغيرها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعلي : لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته .. رواه مسلم
.
ومن المخالفات :
• رفع الصوت أثناء تشييع الجنازة بالتهليل أو التكبير الجماعي .. والمشروع أن يدعو
المرء ويذكر الله مع نفسه .
• وكذلك الأذان في القبر .. أو بعد وضع الميت في قبره .. ولم يثبت ذلك عن النبي
صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم .. وقد قال صلى الله عليه وسلم : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ..
• وكذلك من البدع : الدعاء الجماعي بعد صلاة الجنازة .. أو بعد دفن الميت .. بل
المشروع أن يدعو كل واحد مع نفسه ..
• ومن المخالفات دفن الميت في تابوت .. والأصل أن يدفن الميت بكفنه في القبر .. من
غير تابوت .. إلا إذا دعت الحاجة إلى دفنه في تابوت كتقطع الجسم مثلاً ..أو كان
نظام الدولة يُلزم بدفنه بتابوت ولا يستطيع أصحاب الجنازة المخالفة .. فيدفن
بالتابوت .
* * * * * * * * * *
المسألة السابعة :
فعل القربات من الحي وإهداءُ ثوابها للميت جائز .. في حدود ما ورد الشرع بفعله
..كالدعاء له .. والحج .. والعمرة .. والصدقة .. والأضحية .. وصومِ الواجب عمن مات
وعليه صوم واجب .
أما قراءة القرآن أو الصلاة بنية أن يكون ثوابها للميت فلا تجوز ؛ لأنها لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك من البدع استئجار قارئ يقرأ القرآن للأموات في المآتم .
* * * * * * * * * *
المسألة الثامنة :
قبل توزيع التركة يجب إخراج تكاليف تجهيز الميت .. وسداد ديونه .. وتنفيذ وصيته ..
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد : ( نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ) .
* * * * * * * * * *
المسألة الأخيرة :
وهي المسألة الكبرى .. والمصيبة العظمى ..
وهي الشرك الواقع عند القبور .. كمن يطوف على القبور .. أو يسأل أهلها الحاجات ..
واعتقاد أن الأولياء الموتى .. يقضون الحاجات ..
والله يقول : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
} ..
وبعض عُبَّاد القبور يطوفون بها .. ويستلمون أركانها .. ويتمسَّحون بها ..
ويقبِّلون أعتابها .. ويسجدون لها .. ويقفون أمامها خاشعين .. سائلين حاجاتهم .. من
شفاء مريض .. أو حصولِ ولد ..
وربما نادى الزائرُ صاحب القبر : يا سيدي ! جئتك من بلد بعيد فلا تخيبني .. !!(/12)
والله يقول : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } ..
وفي البخاري قال صلى الله عليه وسلم : ( من مات وهو يدعو من دون الله ندًّا دخل النار ) ..
ولا تغتر بما يشاع أن فلاناً الفقير دعا عند القبر الفلاني فاغتنى .. أو فلاناً
المريض دعا فشفي .. أو رزق بولد ..
ويحرم بناء المساجد على القبور ..
بل لا تجوز الصلاة في المسجد إذا كان فيه أو في ساحته أو قبلته قبر .. لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : ( ألا وإنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم
وصالحيهم مساجد .. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) .
بل يحرم البناء على القبور .. على أي شكل كان .. ففي صحيح مسلم : نهى النبي
صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه .. ، والمشروع أن يدفن الميت
ثم يعاد على القبر التراب الذي أخرج منه .. ولا يزيد ارتفاعه عن الشبر .
كما يحرم بناء القباب على القبور لقوله صلى الله عليه وسلم لعلي : لا تدع صورة إلا طمستها ،
ولا قبراً مشرفاً إلا سويته .. رواه مسلم .
وقال جابر رضي الله عنه : نهى النبي أن يجصص القبر .. وأن يقعد عليه .. وأن يبنى عليه
.. رواه مسلم .
ومن على القبر سراجاً أوقداً أو ابتنى على الضريح مسجداً
فإنه مجدد جهاراً لسنن اليهود والنصارى
كم حذر المختار عن ذا ولعن فاعله كما روى أهل السنن
بل قد نهى عن ارتفاع القبر وأن يزاد فيه فوق الشبر
وكل قبر مشرف فقد أمر بأن يسوى هكذا صح الخبر
فانظر إليهم قد غلو وزادوا ورفعوا بناءها وشادوا
بالشيد والآجرِّ والأحجارِ لا سيما في هذه الأعصارِ
وللقناديل عليها أوقدوا وكم لواء فوقها قد عقدوا
ونصبوا الأعلام والرايات وافتتنوا بالأعظم الرفاْت
بل نحروا في سوحها النحائرْ فعل أولي التسييب والبحائرْ
والتمسوا الحاجات من موتاهمْ واتخذوا إلههم هواهم
سبحان الله ..
{ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون * إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين * ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون * إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين * والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } ..
* * * * * * * * * *
أسأل الله أن يخلص توحيدنا له وحده لا شريك له ..
وأن يهدي ضال المسلمين ..
اللهم اجعلنا بطاعتك عاملين .. وعلى ما يرضيك مقبلين ..
وتوفنا وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين ..
وآمنا من الفزع الأكبر يوم الدين ..
ـــــــــــــ
كتبه / د. محمد بن عبد الرحمن العريفي(/13)
حدث في مثل هذا الشهر (جمادى الآخرة) غزوة العشيرة سنة 2 هـ
ثم خرج صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة في مائة وخمسين من المهاجرين يعترضون عيرا لقريش ذاهبة إلى الشام . وخرج في ثلاثين بعيرا يتعاقبونها . فبلغ ذات العشيرة من ناحية ينبع . فوجد العير فاتته بأيام . وهي التي خرجوا لها يوم بدر لما جاءت عائدة من الشام .
زواج عثمان بأم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم سنة 3 هـ
تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أختها رقية وأدخلت عليه في جمادى الآخرة من هذه السنة . [البداية والنهاية]
غزوة ذات السلاسل سنة 8 هـ
وهي وراء وادي القرى وبينها وبين المدينة عشرة أيام وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان . قال ابن سعد : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف المدينة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص فعقد له لواءً أبيض وجعل معه راية سوداء وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار ومعهم ثلاثون فرسًا وأمره أن يستعين بمن مر به ، فسار الليل وكمن النهار فلما قرب من القوم بلغه أن لهم جمعا كثيرا فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده ، فبعث إليه صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في مائتين وعقد له لواء وبعث له سراة المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمر وأمره أن يلحق بعمرو وأن يكونا جميعا ولا يختلفا فلما لحق به أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو : إنما قدمت علي مددا وأنا الأمير فأطاعه أبو عبيدة فكان عمرو يصلي بالناس وسار حتى وطئ بلاد قضاعة فدوخها حتى أتى إلى أقصى بلادهم . ولقي في آخر ذلك جمعا فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقفولهم وسلامتهم وما كان في غزاتهم . .
فائدة فقهية : وفي هذه الغزوة احتلم أمير الجيش عمرو بن العاص وكانت ليلة باردة فخاف على نفسه من الماء فتيمم وصلى بأصحابه الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟». فأخبره بالذي منعه من الاغتسال وقال إني سمعت الله تعالى يقول:«ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما» فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا .
استخلاف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 13 هـ
استخلف عمر بن الخطاب في يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة . ولي الخلافة بعهد من أبي بكر قال الزهري : استخلف عمر يوم توفي أبو بكر وهو يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة وقام بالأمر أتم قيام ، وكثرت الفتوح في أيامه :ففي سنة أربع عشرة فتحت دمشق ما بين صلح وعنوة وحمص وبعلبك صلحا والبصرة والأبلة كلاهما عنوة . [البداية والنهاية - تاريخ الخلفاء]
وفاة الخليفة المجاهد الوليد بن عبد الملك سنة 96 هـ
قال الذهبي: أقام الجهاد في أيامه وفتحت فيها الفتوحات العظيمة كأيام عمر بن الخطاب.إ.هـ ومع هذه الفتوحات العظيمة كان يختن الأيتام (يعني مجانا)، ويرتب لهم المؤدبين (المعلمين)، ويرتب «أصحاب الأمراض المزمنة» من يخدمهم، وللأضراء (جمع ضرير وهو الأعمى) من يقودهم وعمَّر المسجد النبوي ووسعه، ورزق الفقهاء والضعفاء والفقراء وحرم عليهم سؤال الناس، وفرض لهم ما يكفيهم، وضبط الأمور أتم ضبط .
وقال ابن أبي علبة : رحم الله الوليد! وأين مثل الوليد؟ افتتح الهند والأندلس وبنى مسجد دمشق وكان يعطيني قطع الفضة أقسمها على قراء مسجد بيت المقدس . ولي الوليد الخلافة بعهد من أبيه في شوال سنة 86 ، وفي سنة 87 شرع في بناء جامع دمشق وكتب بتوسيع المسجد النبوي وبنائه، وفيها فتحت بيكند وبخارى وسردانية ومطمورة وقميقم وبحيرة الفرسان عنوة .وفي سنة 88 فتحت جرثومة وطوانة . وفي سنة 89 فتحت جزيرتا منورقة وميورقة ، وفي سنة 91 فتحت نسف وكش وشومان ومدائن وحصون من بحر أذربيجان . وفي سنة 92 فتح إقليم الأندلس بأسره ومدينة أرماييل وقتربون . وفي سنة 93 فتحت الديبل وغيرها ثم الكرح وبرهم وباجة والبيضاء وخوارزم وسمرقند والصفد . وفي سنة 94 فتحت كابل وفرغانة والشاش وسندرة وغيرها . وفي سنة 95 فتحت الموقان ومدينة الباب ، وفي سنة 96 فتحت طوس وغيرها .. ثم مات في نصف جمادى الآخرة من السنة نفسها وله 51 سنة ، بعد عشر سنوات هي عمر خلافته . رحم الله الوليد! وأين مثل الوليد ؟؟؟ [تاريخ الخلفاء]
انتثار الكواكب كيوم القيامة سنة 300 هـ(/1)
وورد الخبر بانخساف جبل بالدَّيْنُور يعرف بالتل، وخروج ماء كثير من تحته أغرق عدة من القرى، ووصل الخبر بانخساف قطعة عظيمة من جبل لبنان وسقوطها في البحر، وورد كتاب من صاحب البريد يذكر أن بغلة وضعت فلوة، وفيها كثرت الأمراض والعلل والعفن، ببغداد في الناس، وكلبت الكلاب والذئاب في البادية، وكانت تطلب الناس والدواب والبهائم فإذا عضت إنسانا أهلكته، ومدت دجلة مدا عظيما، وكثرت الأمطار، وتناثرت النجوم في ليلة الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة تناثرا عجيبا كلها إلى جهة واحدة نحو خراسان. [المنتظم لابن الجوزي]
بلاء شديد بذنوب الناس سنة 322 هـ
قال ابن الجوزي في المنتظم: وفي شهر آيار تكاثفت الغيوم واشتد الحرُّ جدا فلما كان آخر يوم منه وهو الخامس والعشرون من جمادى الآخرة منها هاجت ريح شديدة جدا وأظلمت الأرض واسودت إلى بعد العصر ثم خفَّت ثم عادت إلى بعد العشاء الآخرة. [البداية والنهاية]
تحكم العبيديين الروافض في تغيير الأذان سنة 360 هـ
أعلن المؤذنون في الجامع بدمشق وسائر مآذن البلد وسائر المساجد (حي على خير العمل) بعد حي على الفلاح أمرهم بذلك جعفر بن فلاح أول نائب للعبيديين على دمشق ولم يقدروا على مخالفته ولا وجدوا من المسارعة إلى طاعته بُدا ، وفي يوم الجمعة الثامن من جمادى الآخرة أمر المؤذنون أن يثنوا الأذان والتكبير في الاقامة مثنى مثنى وأن يقولوا في الاقامة حي على خير العمل فاستعظم الناس ذلك وصبروا على حكم الله تعالى. [البداية والنهاية]
عجيبة في وفاة بديع الزمان الهمذاني سنة 398 هـ
صاحب المقامات أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد أبو الفضل الهمذاني الحافظ المعروف ببديع الزمان صاحب الرسائل الرائقة والمقامات الفائقة وعلى منواله نسج الحريري واقتفى أثره وشكر تقدمه واعترف بفضله وقد كان أخذ اللغة عن ابن فارس ثم برز، وكان أحد الفضلاء الفصحاء ، ويقال إنّهُ سُمَّ وأخذ سكتة فدُفن سريعا ثم عاش في قبره وسمعوا صراخه فنبشوا عنه فإذا هو قد مات وهو آخذ على لحيته من هول القبر وذلك يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الآخرة منها رحمه الله تعالى . [البداية والنهاية]
عجائب وغرائب سنة 448 هـ
قال ابن الجوزي : وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة ظهر وقت السحر كوكب له ذؤابة طولها في رأي العين نحو من عشرة أذرع وفي عرض نحو الذراع ولبث كذلك إلى النصف من رجب ثم اضمحل وذكروا أنه طلع مثله بمصر فملكت وخطب بها للمصريين وكذلك بغداد لما طلع فيها ملكت وخطب بها للمصريين ، وفيها ألزم الروافض بترك الأذان بحي على خير العمل وأمروا أن ينادي مؤذنهم في أذان الصبح بعد حي على الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين وأزيل ما كان على أبواب المساجد ومساجدهم من كتابة محمد وعلي خير البشر ودخل المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ ينشدون بالقصائد التي فيها مدح الصحابة وذلك أن نوء الرافضة اضمحل لأن بني بويه كانوا حكاما وكانوا يقوونهم وينصرونهم فزالوا وبادوا وذهبت دولتهم وجاء بعدهم قوم آخرون . [البداية والنهاية](/2)
حدثوا الناس بما يعرفون
إن ثمرة دعوتنا للناس وخطابنا لهم تتحقق حين يفهمون الخطاب ويعقلونه ، ثم يتحول الأمر إلى سلوك عملي واستجابة .
وما لم يكن الخطاب مناسباً للناس تبلُغُه عقولهم وتدركه أفهامهم فلن يتحقق المقصود منه .
لذا صح عن علي رضي الله عنه أنه قال : ( حدِّثوا الناس بما يعرفون ؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ ) [1] .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) [2] .
وتحديث الناس بما يعرفون له جانبان :
الأول : يتعلق بأسلوب الخطاب ؛ وذلك بأن يُخاطب الناس بلغة سهلة واضحة ، وأن يبتعد المتحدث عن التقعُّر والتكلُّف والبحث عن الألفاظ الغريبة ، وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسلك فقال : ( إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها ) [3] .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (الحياء والعي شعبتان من الإيمان ، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق )[4]
قال الترمذي : والعي قلة الكلام ، والبذاء : هو الفحش في الكلام ، والبيان : هو كثرة الكلام ، مثل هؤلاء الخطباء الذين يخطبون فيوسعون في الكلام ويتفصحون فيه من مدح الناس فيما لا يرضي الله .
وأحياناً يدفع التكلف صاحبه إلى هجر المصطلحات الشرعية ، والبحث عن مصطلحات حادثة .
الثاني : يتعلق بمضمون الخطاب، فليس كل ما يُعلم يقال ، والعامة إنما يُدعون للأمور الواضحة من الكتاب والسنة ، بخلاف دقائق المسائل سواء أكانت من المسائل الخبرية ، أم من المسائل العملية .
وما يسع الناس جهله ولا يكلفون بعلمه أمر نسبي يختلف باختلاف الناس ، وهو في دائرة العامة أوسع منه في دائرة طلبة العلم .
وها هو النبي صلى الله عليه وسلم إمام الدعاة وقائدهم حين يأتيه رجل يسأله عما يدعو إليه ، أو يسأله عما يجب عليه أن يفعله ، يجيبه النبي صلى الله عليه وسلم بالجمل الثابتة الظاهرة من دعوته صلى الله عليه وسلم : توحيد الله تبارك وتعالى ، إقام الصلاة ، إيتاء الزكاة ، الصوم ، الحج، صلة الأرحام ، كسر الأوثان ... إلخ ، ولم يَدْعُ النبي صلى الله عليه وسلم أمثال هؤلاء إلى مسائل فرعية أو خفية .
ومن ذلك ترك تحديث الناس بما يُشكِلُ عليهم فهمُه ، أو يُخشى أن ينزلوه على غير تنزيله ويتأولوه على غير تأويله . قال الحافظ ابن حجر في شرحه لخبر علي رضي الله عنه : ( وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ، ومالك في أحاديث الصفات ، وأبو يوسف في الغرائب ، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين ، وأن المراد ما يقع من الفتن ، ونحوه عن حذيفة
وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين ؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي ) [5] .
فحري بالدعاة إلى الله تبارك وتعالى أن يتدارسوا هذه الآداب ، ويعتنوا برعايتها وتطبيقها .
________________________
الهوامش
(1) رواه البخاري (127) .
(2) رواه مسلم في مقدمة الصحيح .
(3) رواه أحمد (6507) ، وأبو داود (5005) ، والترمذي (2853) .
(4) رواه أحمد (21809) ، والترمذي (2027) .
(5) فتح الباري ، ج 1 ، ص 272 .
محمد بن عبد الله الدويش(/1)
حر الصيف من فيح جهنم
الحمد لله الذي خلق الحياة الدنيا، وجعل فيها عبراً وذكرى لقوم يعقلون، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.. أما بعد:
فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير".1
لا شك أن الله -تعالى- خلق لعباده دارين يجزيهم فيها بأعمالهم مع البقاء في الدارين من غير موت، وخلق داراً معجلة للأعمال، وجعل فيها موتاً وحياة وابتلى عباده فيها بما أمرهم به ونهاهم عنه وكلفهم فيها الإيمان بالغيب ومنه: الإيمان بالجزاء والدارين المخلوقتين له، وأنزل بذلك الكتب، وأرسل به الرسل، وأقام الأدلة الواضحة على الغيب الذي أمر بالإيمان به، وأقام علامات وأمارات، تدل على وجود داري الجزاء، فإن إحدى الدارين المخلوقتين للجزاء دار نعيم محض لا يشوبه ألم. والأخرى دار عذاب محض لا يشوبه راحة.
وهذه الدار الفانية ممزوجة بالنعيم والألم، فما فيها من النعيم يذكر بنعيم الجنة، وما فيها من الألم يذكر بألم النار، وجعل الله -تعالى- في هذه الدار أشياء كثيرة تذكر بدار الغيب المؤجلة الباقية، فمنها ما يذكر بالجنة من زمان ومكان..
أما الأماكن فخلق الله بعض البلدان وفيها من المطاعم والمشارب والملابس، والمناظر الرائعة، والأجواء النقية، والوديان الخضراء الشاسعة، وغير ذلك من نعيم الدنيا ما يذكر بنعيم الجنة.
وأما الأزمان: فكزمن الربيع فإنه يذكر طيبه بنعيم الجنة وطيبها، وكأوقات الأسحار، فإن بردها يذكر ببرد الجنة..
ومنها ما يذكر بالنار فإن الله -تعالى- جعل في الدنيا أشياء كثيرة تذكر بالنار المعدة لمن عصاه وما فيها من الآلام والعقوبات من أماكن وأزمان وأجسام وغير ذلك.. أما الأماكن فكثير من البلدان مفرطة الحر أو البرد، فبردها يذكر بزمهرير جهنم، وحرها يذكر بحر جهنم وسمومها، وبعض البقاع يذكر بالنار كالحمَّام، قال أبو هريرة: "نعم البيتُ الحمام، يدخله المؤمن فيزيل به الدرن، ويستعيذ بالله فيه من النار".
كان السلف يذكرون النار بدخول الحمام فيحدث لهم ذلك عبادة.. دخل ابن وهب الحمام فسمع تالياً يتلو: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} غافر:47. فغشي عليه!.
وتزوج صلة بن أشيم فدخل الحمَّام، ثم دخل على زوجته تلك الليلة، فقام يصلي حتى أصبح وقال: دخلت بالأمس بيتا أذكرني النار، ودخلت الليلة بيتاً ذكرت به الجنة، فلم يزل فكري فيهما حتى أصبحت.
وكان بعض السلف إذا أصابه كرب الحمَّام يقول: يا برُّ يا رحيم مُنَّ علينا، وقنا عذاب السموم.
وصب بعض الصالحين على رأسه ماءً من الحمام فوجده شديد الحر فبكى وقال: ذكرت قوله -تعالى-: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} الحج:19.
وأما الأزمان فشدة الحر والبرد يذكر بما في جهنم من الحر والزمهرير، وقد دل هذا الحديث الصحيح على: أن ذلك من تنفس النار في ذلك الوقت، قال الحسن: كل برد أهلك شيئاً فهو من نفس جهنم، وكل حر أهلك شيئاً فهو من نفس جهنم، وفي الحديث الصحيح أيضاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم".2
أبواب النار مغلقة وتفتح أحياناً.. فتفتح أبوابها كلها عند الظهيرة، ولذلك يشتد الحر حينئذ، فيكون في ذلك تذكرة بنار جهنم، وأما الأجسام المشاهدة في الدنيا المذكرة بالنار فكثيرة.. منها: الشمس عند اشتداد حرها، وقد روي أنها خلقت من النار وتعود إليها.
كان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حر الظهيرة يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار، فإن الساعة تقوم في يوم الجمعة، ولا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، قاله ابن مسعود، وتلا قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} الفرقان:24.
و ينبغي لمن كان في حر الشمس أن يتذكر حرها في الموقف، فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة، ويزاد في حرها.. وينبغي لمن لا يصبر على حر الشمس في الدنيا أن يجتنب من الأعمال ما يستوجب صاحبه به دخول النار، فإنه لا قوة لأحد عليها ولا صبر، قال قتادة: -وقد ذكر شراب أهل جهنم، وهو ماء يسيل من صديدهم من الجلد واللحم- فقال: هل لكم بهذا يدان! أم لكم عليه صبر! طاعة الله أهون عليكم! يا قوم فأطيعوا الله رسوله.
نسيتَ لظى عند ارتكانك للهوى ... وأنت تَوقَّى حرَّ شمس الهواجر
كأنك لم تَدفِن حميماً ولم تكن ... له في سياق الموت يوماً بحاضر!
رأى عمر بن عبد العزيز قوماً في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل وتوقَّوا الغبار، فبكى! ثم أنشد :
من كان حين تصيب الشمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشَّين والشعثا
ويألف الظل كي يُبقي بشاشته ... فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا
في ظل مقفرة غبراء مظلمة ... يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا(/1)
تجهزي بجهاز تبلغين به ... يا نفس قبل الردى لم تُخلقي عبثا
و مما يُضاعَف ثوابه في شدة الحر من الطاعات: الصيام؛ لما فيه من ظمأ الهواجر؛ ولهذا كان معاذ بن جبل يتأسف عند موته على ما يفوته من ظمأ الهواجر، وكذلك غيره من السلف، وروي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه كان يصوم في الصيف ويفطر في الشتاء، ووصى عمر -رضي الله عنه- عند موته ابنه عبد الله فقال له: عليك بخصال الإيمان، وسمى أولها: الصوم في شدة الحر في الصيف، قال القاسم بن محمد: كانت عائشة -رضي الله عنها- تصوم في الحر الشديد، قيل له: ما حملها على ذلك؟ قال: كانت تبادر الموت. وكان مجمع التيمي يصوم في الصيف حتى يسقط. كانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حراً فتصومه، فيقال لها في ذلك، فتقول: إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد، تشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس؛ لشدته عليهم. وهذا من علو الهمة.
قال الحسن: تقول الحوراء لولي الله وهو متكىء معها على نهر الخمر في الجنة تعاطيه الكأس في أنعم عيشه: أتدري أي يوم زوجنيك الله؟ إنه نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين، وأنت في ظمأ هاجرة من جهد العطش، فباهى بك الملائكة، وقال: انظروا إلى عبدي ترك زوجته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي رغبة فيما عندي، اشهدوا أني قد غفرت له، فغفر لك يومئذ وزوجنيك..
لما سار عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام كان معاوية يسأله أن يرفع إليه حوائجه فيأبى فلما أكثر عليه قال: حاجتي أن ترد عليَّ من حر البصرة؛ لعل الصوم أن يشتد علي شيئاً، فإنه يخف علي في بلادكم.
نزل الحجاج في بعض أسفاره بماء بين مكة والمدينة، فدعا بغدائه ورأى أعرابياً فدعاه إلى الغداء معه، فقال: دعاني من هو خير منك فأجبته، قال: ومن هو؟ قال: الله -تعالى- دعاني إلى الصيام فصمت، قال: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم صمت ليوم أشد منه حراً، قال: فافطر وصم غداً، قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد! قال: ليس ذلك إليَّ، قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه؟!
خرج ابن عمر في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم، فمر بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم، قال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟ فقال: أبادر أيامي هذه الخالية! فعجب منه ابن عمر، فقال له ابن عمر: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك ونطعمك من لحمها ما تفطر عليه، ونعطيك ثمنها، قال: إنها ليست لي إنها لمولاي، قال: فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب؟ فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول: فأين الله؟ فلم يزل ابن عمر يردد كلمته هذه، فلما قدم المدينة بعث إلى سيد الراعي فاشترى منه الراعي والغنم، فأعتق الراعي وهب له الغنم.
نزل روح بن زنباع منزلاً بين مكة والمدينة في حر شديد فانقض عليه راع من جبل، فقال له: يا راع هلم إلى الغداء، قال: إني صائم، قال: أفتصوم في هذا الحر؟ قال: أفأدع أيامي تذهب باطلاً؟ فقال روح: لقد ضننت بأيامك يا راعي إذ جاد بها روح بن زنباع!!
وكان أبو الدرداء يقول: صوموا يوماً شديداً حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور!.
وفي الصحيحين: عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره في اليوم الحار الشديد الحر، وإن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله بن رواحة. و في رواية: أن ذلك كان في شهر رمضان.
لما صبر الصائمون لله في الحر على شدة العطش والظمأ أفرد لهم باباً من أبواب الجنة وهو باب الريان، من دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ بعدها أبداً، فإذا دخلوا أغلق على من بعدهم فلا يدخل منه غيرهم.
ومن أعظم ما يذكر بنار جهنم: النار التي في الدنيا، قال الله -تعالى-: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} الواقعة:73. يعني: أن نار الدنيا جعلها الله تذكرة تذكر بنار جهنم.
مر ابن مسعود بالحدادين وقد أخرجوا حديداً من النار فوقف ينظر إليه ويبكي. وروي عنه أنه مر على الذين ينفخون الكير فسقط.
وكان أويس يقف على الحدادين فينظر إليهم كيف ينفخون الكير ويسمع صوت النار فيصرخ ثم يسقط. وكذلك الربيع بن خيثم.. وكان كثير من السلف يخرجون إلى الحدادين ينظرون إلى ما يصنعون بالحديد فيبكون ويتعوذون بالله من النار. ورأى عطاء السليمي امرأة قد سجرت تنورها فغشي عليه. قال الحسن: كان عمر ربما توقد له النار ثم يدني يده منها ثم يقول: يا ابن الخطاب هل لك على هذا صبر؟!
كان الأخنف بن قيس يجيء إلى المصباح فيضع إصبعيه فيه ويقول: حس، ثم يعاتب نفسه على ذنوبه.
نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم!.(/2)
قال بعض السلف: لو أخرج أهل النار منها إلى نار الدنيا لقالوا فيها ألفي عام يعني أنهم كانوا ينامون فيها ويرونها برداً.. كان عمر يقول: أكثروا ذكر النار، فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها حديد.. كان ابن عمر وغيره من السلف إذا شربوا ماءً بارداً بكوا وذكروا أمنية أهل النار، وأنهم يشتهون الماء البارد، وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، ويقولون لأهل الجنة: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} الأعراف:50
فيقولون لهم: {إن الله حرمهما على الكافرين} والمصيبة العظمى حين تطبق النار على أهلها وييأسون من الفرج وهو الفزع الأكبر الذي يأمنه أهل الجنة: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الأنبياء:101.
لو أبصرت عيناك أهل الشقا ... سيقوا إلى النار وقد أحرقوا
شرابهم المهل في قعرها ... إذ خالفوا الرسل وما صدقوا
تقول أخراهم لأولاهم ... في لُجج المهل وقد أغرقوا
قد كنتموا خُوفِتمو حرها ... لكن من النيران لم تفرقوا
وجيء بالنيران مذمومة ... شرارها من حولها محدق
وقيل للنيران أن أحرقي ... وقيل للخُزَّان أن أطبقو3
أخي الكريم: كم يَلْفحُ حرُّ الصيف أناساً فيتألمون منه ويتضايقون، ويستخدمون كافة المكيفات والمبردات لهذا الحر الذي هو فيح من حر جهنم! فكيف بها؟ ثم بعد ذلك لا يتذكرون ولا هم يعقلون، بل لقد وصل الحال بكثير من بني قومنا أنهم يتركون جو الجزيرة العربية الحار ويقضون عطلهم في البلدان الباردة في الشرق والغرب، ويا ليتهم يقضونها في السياحة المباحة، ولكن البعض منهم يذهب للفساد في الأرض.. ولا يسلم من ذلك إلا من عصمه الله وهداه.
فنسأل الله العلي الكبير أن يجعل ما في الكون من مصائب وأكدار وتقلبات تذكيراً لنا بما في اليوم الآخر من الأحوال والأهوال، ونعوذ به من الغفلة عن الدار الآخرة.. إنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
000000000000
1- رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة.
2- رواه البخاري ومسلم.
3- انظر كل ما سبق في لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي.. بتصرف كبير.(/3)
حركة تحرير المرأة
سليمان بن صالح الخراشي
دار القاسم
التعريف :
حركة تحرير المرأة: حركة علمانية، نشأت في مصر في بادئ الأمر، ثم انتشرت في أرجاء البلاد الإسلامية. تدعوا إلى تحرير المرأة من الآداب الإسلامية والأحكام الشرعية الخاصة بها مثل الحجاب، وتقييد الطلاق، ومنع تعدد الزوجات والمساواة في الميراث وتقليد المرأة الغربية في كل أمر … ونشرت دعوتها من خلال الجمعيات والاتحادات النسائية في العالم العربي.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
قبل أن تتبلور الحركة بشكل دعوة منظمة لتحرير المرأة ضمن جمعية تسمى الاتحاد النسائي .. كان هناك تأسيس نظري فكري لها .. ظهر من خلال كتب ثلاثة ومجلة صدرت في مصر.
- كتاب: المرأة في الشرق، تأليف مرقص فهمي المحامي، نصراني الديانة، دعا فيه إلى القضاء على الحجاب وإباحة الاختلاط وتقييد الطلاق، ومنع الزواج بأكثر من واحدة، وإباحة الزواج بين النساء المسلمات والنصارى.
- كتاب: تحرير المرأة، تأليف قاسم أمين، نشره عام 1899م، بدعم من الشيخ محمد عبده وسعد زغلول، وأحمد لطفي السيد. زعم في أن حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام، وقال إن الدعوة إلى السفور ليست خروجاً على الدين.
- كتاب: المرأة الجديدة، تأليف قاسم أمين أيضاً - نشره عام 1900م يتضمن نفس أفكار الكتاب الأول ويستدل على أقواله وادعاءاته بآراء الغربيين.
- مجلة السفور: صدرت أثناء الحرب العالمية الأولى، من قبل أنصار سفور المرأة، وتركز على السفور و الاختلاط.
سبق سفور المرأة المصرية، اشتراك النساء بقيادة هدى شعراوي ( زوجة علي شعراوي ) في ثورة سنة 1919م فقد دخلن غمار الثورة بأنفسهن، وبدأت حركتهن السياسية بالمظاهرة التي قمن بها في صباح يوم 20 مارس سنة 1919م.
وأول مرحلة للسفور كانت عندما دعا سعد زغلول النساء اللواتي تحضرن خطبته أن يزحن النقاب عن وجوههن. وهو الذي نزع الحجاب عن وجه نور الهدى محمد سلطان التي اشتهرت باسم: هدى شعراوي مكونة الاتحاد النسائي المصري وذلك عند استقباله في الإسكندرية بعد عودته من المنفى. واتبعتها النساء فنزعن الحجاب بعد ذلك.
تأسس الاتحاد النسائي في نيسان 1924م بعد عودة مؤسسته هدى شعراوي من مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي الذي عقد في روما عام 1922م .. ونادى بجميع المبادئ التي نادي بها من قبل مرقص فهمي المحامي وقاسم أمين.
مهد هذا الاتحاد بعد عشرين عاماً لعقد مؤتمر الاتحاد النسائي العربي عام 1944م وقد حضرته مندوبات عن البلاد العربية. وقد رحبت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بانعقاد المؤتمر حتى أن حرم الرئيس الأمريكي روزفلت أبرقت مؤيدة للمؤتمر.
ومن أبرز شخصيات حركة تحرير المرأة:
الشيخ محمد عبده، فقد نبتت أفكار كتاب تحرير المرأة في حديقة أفكار الشيخ محمد عبده. وتطابقت مع كثير من أفكار الشيخ التي عبر فيها عن حقوق المرأة وحديثه عنها في مقالات الوقائع المصرية وفي تفسيره لآيات أحكام النساء. ( التفاصيل في كتاب المؤامرة على المرأة المسلمة د. السيد أحمد فرج ص 63 وما بعدها. دار الوفاء سنة 1985م كتاب عودة الحجاب الجزء الأول، د.محمد أحمد بن إسماعيل المقدم ).
سعد زغلول، زعيم حزب الوفد المصري، الذي أعان قاسم أمين على إظهار كتبه وتشجيعه في هذا المجال.
لطفي السيد، الذي أطلق عليه أستاذ الجيل وظل يروج لحركة تحرير المرأة على صفحات الجريدة لسان حال حزب الأمة المصري في عهده.
صفية زغلول، زوجة سعد زغلول وابنة مصطفى فهمي باشا رئيس الوزراء في تلك الأيام وأشهر صديق للإنكليز عرفته مصر.
هدى شعراوي، ابنة محمد سلطان باشا الذي كان يرافق الاحتلال الإنكليزي في زحفه على العاصمة وزوجة علي شعراوي باشا أحد أعضاء حزب الأمة ( حالياً الوفد ) ومن أنصار السفور .
سيزا نبراوي ( واسمها الأصلي زينب محمد مراد )، وهي صديقة هدى شعراوي في المؤتمرات الدولية والداخلية. وهما أول من نزع الحجاب في مصر بعد عودتهما من الغرب إثر حضور مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي الذي عقد في روما 1923م.
درية شفيق، من تلميذات لطفي السيد، رحلت وحدها إلى فرنسا لتحصل على الدكتوراه، ثم إلى إنكلترا، وصورتها وسائل الإعلام الغربية بأنها المرأة التي تدعوا إلى التحرر من أغلال الإسلام وتقاليده مثل: الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات.
- لما عادة إلى مصر شكلت حزب ( بنت النيل ) في عام 1949م بدعم من السفارة الإنكليزية والسفارة الأمريكية .. وهذا ما ثبت عندما استقالت إحدى عضوات الحزب وكان هذا الدعم سبب استقالتها. وقد قادت درية شفيق المظاهرات، وأشهرها مظاهرة في عام 19 فبراير 1951م و 12 مارس 1954م بالتنسيق مع أجهزة عبد الناصر فقد أضربت النساء في نقابة الصحافيين عن الطعام حتى الموت إذا لم تستجب مطالبهن. وأجيبت مطالبهن ودخلت درية شفيق الانتخابات ولم تنجح. وانتهى دورها. وحضرت المؤتمرات الدولية النسائية للمطالبة بحقوق المرأة - على حد قولها.(/1)
سهير القلماوي، تربت في الجامعة الأمريكية في مصر، وتخرجت من معهد الأمريكان، وتنقلت بين الجامعات الأمريكية والأوربية، ثم عادت للتدريس في الجامعة المصرية.
أمينة السعيد، وهي من تلميذات طه حسين، الأديب المصري الذي دعا إلى تغريب مصر .. ترأست مجلة حواء. وقد هاجمت حجاب المرأة بجرأة - ومن أقوالها في عهد عبد الناصر: " كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق ؟ ". تقصد ميثاق عبد الناصر الذي يدعو فيه إلى الاشتراكية - وسخرت مجلة حواء للهجوم على الآداب الإسلامية .. وهي لا تزال تقوم بهذا الدور ..
د . نوال السعداوي، زعيمة الاتحاد المصري حالياً.
الأفكار والمعتقدات:
نجمل أفكار ومعتقدات أنصار حركة تحرير المرأة فيما يلي:
تحرير المرأة من كل الآداب والشرائع الإسلامية وذلك عن طريق:
- الدعوة إلى السفور والقضاء على الحجاب الإسلامي.
- الدعوة إلى اختلاط الرجال مع النساء في كل المجالات في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية، والأسواق.
- تقييد الطلاق، والاكتفاء بزوجة واحدة.
- المساواة في الميراث مع الرجل.
- الدعوة العلمانية الغربية أو اللادينية بحيث لا يتحكم الدين في مجال الحياة الاجتماعية خاصة.
- المطالبة بالحقوق الاجتماعية والسياسية.
- أوروبا والغرب عامة هم القدوة في كل الأمور التي تتعلق بالحياة الاجتماعية للمرأة: كالعمل، والحرية الجنسية، ومجالات الأنشطة الرياضية والثقافية.
الجذور الفكرية والعقدية:
بعد تبلور حركة تحرير المرأة على شكل الاتحادات النسائية في بلادنا خاصه والدول عامة، أصبحت اللادينية أو ما يسمونه ( العلمانية ) الغربية هي الأساس الفكري والعقدي لحركة تحرير المرأة. وهي موجهة وبشكل خاص في البلاد الإسلامية إلى المرأة المسلمة؛ لإخراجها من دينها أولاً. ثم إفسادها خلقياً واجتماعياً .. وبفسادها، يفسد المجتمع الإسلامي وتنتهي موجة حماسة العزة الإسلامية التي تقف في وجه الغرب الصليبي وجميع أعداء الإسلام وبهذا الشكل يسهل السيطرة عليه.
ومن الأدلة على أن جذور حركة تحرير المرأة تمتد نحو العلمانية الغربية مايلي:
- في عام 1894م ظهر كتاب للكاتب الفرنسي الكونت داركور ، حمل فيه على نساء مصر وهاجم الحجاب الإسلامي، وهاجم المثقفين على سكوتهم.
- في عام 1899م ألف أمين كتابه تحرير المرأة أبدا فيه آراء داركور.
- وفي نفس العام هاجم الزعيم الوطني المصري مصطفى كامل ( زعيم الحزب الوطني ) كتاب تحرير المرأة وربط أفكاره بالاستعمار الإنكليزي.
- ألف الاقتصادي المصري الشهير محمد طلعت حرب كتاب تربية المرأة والحجاب في الرد على قاسم أمين ومما قاله: " إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوروبا ".
- ترجم الإنكليز - أثناء وجودهم في مصر - كتاب تحرير المرأة إلى الإنكليزية ونشروه في الهند والمستعمرات الإسلامية.
- الدكتورة ( ريد ) رئيسة الاتحاد النسائي الدولي التي حضرت بنفسها إلى مصر لتدرس عن كثب تطور الحركة النسائية.
- اغتباط الدوائر الغربية بحركة تحرير المرأة العربية وبنشاط الاتحاد النسائي في الشرق وتمثلت ببرقية حرم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية للمؤتمر النسائي العربي عام 1944م.
- صلة حزب ( بنت النيل ) بالسفارة الإنكليزية والدعم المالي الذي يتلقاه منهما - كما رأينا عند حديثنا عن درية شفيق.
- ترحيب الصحف البريطانية بدرية شفيق زعيمة حزب ( بنت النيل ) وتصويرها بصورة الداعية الكبرى إلى تحرير المرأة المصرية من أغلال الإسلام وتقاليده.
- برقية جمعية ( سان جيمس ) الإنكليزية إلى زعيمة حزب بنت النيل تهنئها على اتجاهها الجديد في القيام بمظاهرات للمطالبة بحقوق المرأة.
- مشاركة الزعيمة نفسها في مؤتمر نسائي دولي في أثينا عام 1951م ظهر من قرارته التي وافقت عليها أنها تخدم الاستعمار أكثر من خدمتها لبلادها.
- إعلان ( كاميلا يفي ) الهندية أن الاتحاد النسائي الدولي واقع تحت زيادة الدول الغربية ولاستعمارية واستقالتها منه.
- إعلان الدكتورة نوال السعداوي رئيسة الاتحاد النسائي المصري عام 1987م أثناء المؤتمر أن الدول الغربية هي التي هيأت المال اللازم لعقد مؤتمر الاتحاد النسائي والدول الإسلامية لم تساهم في ذلك.
هذه بعض الوقائع التي تدل دلالة لا ريب فيها على صلة حركة تحرير المرأة بالقوى الاستعمارية الغربية.
ويتضح مما سبق:(/2)
أن حركة تحرير المرأة هي حركة علمانية، نشأت في مصر، ومنها نشرت في أرجاء البلاد الإسلامية، وهدفها هو قطع صلة المرأة بالآداب الإسلامية والأحكام الشرعية الخاصة بها كالحجاب، وتقييد الطلاق ومنع تعدد الزوجات والمساواة في الميراث وتقليد المرأة الغربية في كل شيء. ويعتبر كتاب المرأة في الشرق لمرقص فهمي المحامي، وتحرير المرأة والمرأة الجديدة لقاسم أمين من أهم الكتب التي تدعوا إلى السفور والخروج على الدين، وتمتد أهداف هذه الحركة لتصل إلى جعل العلمانية واللادينية أساس حركة المرأة والمجتمع. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=33 ...(/3)
حرمة مكة المكرمة
الآيات الواردة في تعظيم مكة والبيت الحرام:
1- قال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:125، 126].
قال ابن جرير الطبري: "والأمن مصدر, من قول القائل: أمِن يأمن أمنا, وإنما سمّاه الله أمنا لأنه كان في الجاهلية مَعاذًا لمن استعاذ به, وكان الرجل منهم لو لقِيَ به قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرجَ منه, وكان كما قال الله جل ثناؤه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]" ([1]).
وقال ابن كثير: "إن الله تعالى يَذكر شرفَ البيت وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه مثابة للناس, أي: جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحنّ إليه ولا تقضي منه وطرًا ولو تردّدت إليه كلَّ عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37]، إلى أن قال: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} [إبراهيم:40]، ويصفه تعالى بأنه جعله أمنًا, من دخله أمِن ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا"([2]).
2- قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِنًا وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:96، 97].
قال ابن جرير الطبري: "معنى ذلك: ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذًا به كان آمنا ما كان فيه, ولكنه يخرج منه فيُقام عليه الحدّ إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثمّ لجأ إليه, وإن كان أصابه فيه أقيم عليه فيه, فتأويل الآية إذًا: {فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ}, ومن يدخله من الناس مستجيرا به يكن آمنا مما استجار منه ما كان فيه حتى يخرج منه"([3]).
3- قال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلَائِدَ ذالِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} [المائدة:97].
قال القرطبي: "{قِيَامًا لّلنَّاسِ} أي: صلاحا ومعاشا لأمن الناس بها, وعلى هذا يكون قياما بمعنى يقومون بها, وقيل: قياما أي: يقومون بشرائعها, وقرأ ابن عامر وعاصم قِيَما, وهما من ذوات الواو، فقلبت الواو ياءً لكسر ما قبلها, وقد قيل: قوام. قال العلماء: والحكمة في جعل الله تعالى هذه الأشياء قياما للناس أن الله سبحانه خلق الخلق على سليقة الآدميّة من التحاسد والتنافس والقتل والثأر، فلم يكن بدّ في الحكمة الإلهية من كافّ يدوم معه الحال ووازعٍ يحمَد معه المآل, قال الله تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، فأمرهم الله سبحانه بالخلافة, وجعل أمورهم إلى واحد يَزَعهم عن التنازع, ويحملهم على التآلف من التقاطع, ويرد الظالم عن المظلوم, ثم عظّم الله سبحانه في قلوبهم البيتَ الحرام, وأوقع في نفوسهم هيبَتَه وعظّم بينهم حرمته, فكان من لجأ إليه معصوما به, وكان من اضطُهد محميًّا بالكون فيه"([4]).
4- قال الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا} [التوبة:28].
قال ابن كثير: "أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتا بنَفي المشركين الذين هم نجس دينًا عن المسجد الحرام, وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية, وكان نزولها في سنة تسع, ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا مع أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ, وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحجَّ بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فأتم الله ذلك وحكم به شرعا وقدرا"([5]).
5- قال الله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217].(/1)
6- قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:35-37].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: و اذكر ـ يا محمد ـ إذ قال إبراهيم: ربِّ اجعل هذا البلد آمنا، يعني الحرَمَ بلدًا آمنا أهلُه وسكّانه"([6]).
7- قال الله تعالى: {وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص:57].
قال قتادة: "كان أهل الحرم آمنين يذهبون حيث شاؤوا, إذا خرج أحدهم فقال: إني من أهل الحرم لم يُتعرَّض له, وكان غيرهم من الناس إذا خرج أحدهم قتِل"([7]).
قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبرا عن اعتذار بعض الكفار عن عدم اتباع الهدى حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57], أي: نخشى إن اتَّبعنا ما جئتَ به من الهدَى وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى والمحاربة ويتخطفونا أينما كنا, قال الله تعالى مجيبا لهم: {أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا} [القصص:57]، يعني: هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل, إن الله تعالى جعلهم في بلد آمن وحرم معظّم آمن منذ وُضع, فكيف يكون هذا الحرم آمنا لهم في حال كفرهم وشركهم ولا يكون آمنا لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق؟!"([8]).
8- قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في قوله عز وجل: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}: (لو أنَّ رجلا همّ فيه بإلحاد وهو بِعَدَن أَبيَن لأذاقه الله عز وجل عذابا أليما)([9]).
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: إن الذين جحدوا توحيد الله وكذّبوا رسله وأنكروا ما جاءهم به من ربهم، {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يقول: ويمنعون الناس عن دين الله أن يدخلوا فيه وعن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس الذين آمنوا به كافة لم يخصّص منها بعضا دون بعض, {سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} يقول: مُعْتدِلٌ في الواجب عليه من تعظيم حرمة المسجد الحرام وقضاء نسكه به والنزول فيه حيث شاء {الْعَاكِفُ فِيهِ} وهو المقيم به {وَالْبَادِ} وهو المُنْتاب إليه من غيره.
وقوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، يقول تعالى ذكره: ومن يرد فيه إلحادًا بظلم نذقه من عذاب أليم, وهو أن يميل في البيت الحرام بظلم, واختلف أهل التأويل في معنى الظلم الذي من أراد الإلحاد به في المسجد الحرام أذاقه الله من العذاب الأليم، فقال بعضهم: ذلك هو الشرك بالله وعبادة غيره به أي: بالبيت, وقال آخرون: هو استحلال الحرام فيه أو ركوبه, وقال آخرون: بل معنى ذلك الظلم استحلال الحرَم متعمّدا, وقال آخرون: بل ذلك احتكار الطعام بمكة, وقال آخرون: بل ذلك كلّ ما كان منهيا عنه من الفعل حتى قول القائل: لا والله وبلى والله.
وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عباس من أنه معنيٌّ بالظلم في هذا الموضع كلّ معصية لله, وذلك أن الله عمّ بقوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}، ولم يخصّص به ظلما دون ظلم في خبر ولا عقل, فهو على عمومه, فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم فيعصي الله فيه نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له"([10]).(/2)
وقال ابن القيم: "ومن خواصِّ البلد الحرام أنّه يعاقب فيه على الهمّ بالسيئات وإن لم يفعلها, قال تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، فتأمل كيف عدّى فعل الإرادة ها هنا بالباء, ولا يقال: أردت بكذا إلا لما ضُمِّن معنى فِعل: هَمّ, فإنه يقال: هممت بكذا, فتوعّد من همّ بأن يظلم فيه بأن يذيقه العذاب الأليم, ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه لا كمياتها, فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن سيئة كبيرة وجزاؤها مثلها, وصغيرة جزاؤها مثلها, فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض, ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه, فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات، والله أعلم"([11]).
9- قال الله تعالى: {ذالِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ} [الحج:30].
قال مجاهد في قوله: {ذالِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} قال: "الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلِّها"([12]).
وقال ابن القيم: "قال جماعة من المفسرين: حرمات الله ها هنا مَغاضِبه وما نهى عنه، وتعظيمها ترك ملابستها, وقال قوم: الحرمات هي الأمر والنهي, وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه, وقال قوم: الحرمات ها هنا المناسك ومشاعر الحج زمانا ومكانا, والصواب أن الحرمات تعمّ هذا كلَّه, وهي جمع حرمة, وهي ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن, فتعظيمها تَوفِيَتها حقَّها وحفظها من الإضاعة"([13]).
10- قال الله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ} [البلد:1، 2].
قال ابن عباس: ({وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ} يعني بذلك نبيَّ الله, أحلَّ الله له يومَ دخل مكةَ أن يقتل من شاء ويستحيي من شاء, فقتل يومئذ ابن خطل صبرًا وهو آخذٌ بأستار الكعبة, فلم تحلّ لأحد من الناس بعدَ رسول الله أن يقتلَ فيها حراما حرمه الله, فأحلّ الله له ما صنع بأهل مكة, ألم تسمع أن الله قال في تحريم الحرم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]؟! يعني بالناس أهل القبلة)([14]).
قال القرطبي: "والبلد هي مكة، أجمعوا عليه، أي: أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه لِكَرامتك عليَّ وحبِّي لك"([15]).
11- قال الله سبحانه: {وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَاذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1-3].
قال ابن عباس وغيره: (البلد الأمين مكة)([16]).
وقال ابن جرير الطبري: "وقوله: {وَهَاذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} يقول: وهذا البلد الآمن من أعدائه أن يحاربوا أهله أو يغزوهم, وقيل: الأمين ومعناه الآمن, كما قال الشاعر:
ألم تعلمي يا أَسمَ ويحَك أنني حلفتُ يمينا لا أخون أميني
يريد: آمني, وهذا كما قال جل ثناؤه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]"([17]).
12- قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} [سورة الفيل].
قال ابن كثير: "هذه من النعم التي امتنّ الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحوِ أثرها من الوجود, فأبادهم الله وأرغم آنافهم وخيّب سعيَهم وأضلّ عملهم وردّهم بشرّ خيبة, وكان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال, ولسان الحال يقول: لم ينصركم ـ يا معشر قريش ـ على الحبشة لخِيريّتكم عليهم, ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرّفه ونعظمه ونوقّره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء"([18]).
13- قال الله تعالى: {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ} [سورة قريش].
قال ابن جرير الطبري: "اختلف أهل التأويل في معنى قوله: {وَءامَنَهُم مّنْ خَوْفٍ}، فقال بعضهم: معنى ذلك أنه آمنهم مما يخاف منه من لم يكن من أهل الحرم من الغارات والحروب والقتال والأمور التي كانت العرب يخاف بعضها من بعض, وقال آخرون: عنى بذلك وآمنهم من الجذام.(/3)
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه آمنهم من خوف, والعدو مخوف منه, والجذام مخوف منه, ولم يخصّص الله الخبر عن أنه آمنهم من العدو دون الجذام, ولا من الجذام دون العدو, بل عمّ الخبر بذلك, فالصواب أن يعمّ كما عمّ جل ثناؤه, فيقال: آمنهم من المعنيَين كليهما"([19]).
14- قال الله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىء وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل:91].
قال القرطبي: "قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا} يعني مكة التي عظم الله حرمتها, أي: جعلها حرما آمنا لا يسفَك فيها دم, ولا يظلم فيها أحد, ولا يصاد فيها صيد، ولا يعضد فيها شجر"([20]).
(1) جامع البيان (1/534).
(2) تفسير القرآن العظيم (1/169).
(3) جامع البيان (4/14).
(4) الجامع لأحكام القرآن (6/325) باختصار.
(5) تفسير القرآن العظيم (2/347).
(6) جامع البيان (13/228).
(7) أخرجه الطبري في جامع البيان (20/94).
(8) تفسير القرآن العظيم (3/396).
(9) أخرجه أحمد ( 4071), وابن أبي شيبة (3/268), وأبو يعلى (9/263), والحاكم (2/240) وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه".
(10) جامع البيان (17/136- 142) باختصار.
(11) زاد المعاد (1/51).
(12) أخرجه الطبري في جامع البيان (17/153).
(13) مدارج السالكين (2/74) باختصار.
(14) أخرجه الطبري في جامع البيان (30/193).
(15) الجامع لأحكام القرآن (20/60).
(16) أخرجه الطبري في جامع البيان (30/242).
(17) جامع البيان (30/241).
(18) تفسير القرآن العظيم (4/549-550) باختصار.
(19) جامع البيان (30/308-309) باختصار.
(20) الجامع لأحكام القرآن (13/246).
الأحاديث الواردة في تعظيم مكة والبيت الحرام:
1- عن أبي شريح العدويّ أنّه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكّة: ائذن لي ـ أيّها الأمير ـ أحدّثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم للغد من يوم الفتح، فسمعَته أذناي ووعاه قلبي وأبصرَته عيناي حين تكلّم به، إنّه حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: ((إنّ مكّة حرّمها الله ولم يحرّمها النّاس، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ولا يعضد بها شجرةً، فإن أحدٌ ترخّص لقتال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقولوا له: إنّ الله أذن لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يأذن لكم، وإنّما أذن لي ساعةً من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلّغ الشّاهد الغائب))، فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إنّ الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخربة، خربة بليّة([1]).
قال ابن حجر: "وقد تشدّق عمرو في الجواب وأتى بكلام ظاهره حقّ, لكن أراد به الباطل, فإنّ الصحابي أنكر عليه نصب الحرب على مكة, فأجابه بأنها لا تمنع من إقامة القصاص, وهو صحيح, إلا أن ابن الزبير لم يرتكب أمرا يجب عليه فيه شيء من ذلك, وفي الحديث شرف مكة"([2]).
2- عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إنّ الله حرّم مكّة فلم تحلّ لأحد قبلي، ولا تحلّ لأحد بعدي، وإنّما أحلّت لي ساعةً من نهار، لا يُختَلَى خلاها، ولا يعضَد شجرها، ولا ينفَّر صيدها، ولا تلتَقَط لقطتُها إلا لمعرّف))، قال العبّاس: يا رسول الله، إلاّ الإذخر لصاغتنا وقبورنا؟ فقال: ((إلاّ الإذخر))([3]).
قال ابن حجر: "قال ابن المنير: قد أكد النبي التحريم بقوله: ((حرمه الله))، ثم قال: ((فهو حرام بحرمة الله))، ثم قال: ((ولم تحلّ لي إلا ساعة من نهار))، وكان إذا أراد التأكيد ذكر الشيء ثلاثا, وقال القرطبي: ظاهر الحديث يقتضي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالقتال لاعتذاره عمّا أبيح له من ذلك, مع أن أهل مكة كانوا إذَّاك مستحقين للقتال والقتل لصدّهم عن المسجد الحرام وإخراجهم أهله منه وكفرهم, وهذا الذي فهمه أبو شريح كما تقدّم, وقال ابن دقيق العيد: يتأكد القول بالتحريم بأن الحديث دال على أن المأذون للنبي صلى الله عليه وسلم فيه لم يؤذن لغيره فيه, وأيضا فسياق الحديث يدلّ على أن التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم سفك الدماء فيها وذلك لا يختصّ بما يستأصل"([4]).
3- عن ابن عبّاس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أبغض النّاس إلى الله ثلاثة: ملحِد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنّة الجاهليّة، ومطّلب دمَ امرئ بغير حقّ ليهريق دمه))([5]).(/4)
قال ابن حجر: "قال المهلّب وغيره: المراد بهؤلاء الثلاثة أنهم أبغض أهل المعاصي إلى الله، فهو كقوله: ((أكبر الكبائر))، وإلا فالشرك أبغض إلى الله من جميع المعاصي. قوله: ((ملحد في الحرم)) أصل الملحد هو المائل عن الحق, والإلحاد العدول عن القصد, واستشكل بأن مرتكب الصغيرة مائل عن الحق, والجواب أن هذه الصيغة في العرف مستعملة للخارج عن الدين, فإذا وصف به من ارتكب معصية كان في ذلك إشارة إلى عظمها, وقيل: إيراده للجملة الاسمية مشعر بثبوت الصفة، ثم التنكير للتعظيم, فيكون ذلك إشارة إلى عظم الذنب"([6]).
4- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أعتى الناس على الله عز وجل من قَتَل في حرم الله, أو قتل غيرَ قاتله, أو قتل بذُحول الجاهلية([7])))([8]).
5- عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم النّحر قال: ((أتدرون أيّ يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه قال: ((أليس يوم النّحر؟!)) قلنا: بلى، قال: ((أيّ شهر هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه، فقال: ((أليس ذو الحجّة؟!)) قلنا: بلى، قال: ((أيّ بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه، قال: ((أليست بالبلدة الحرام؟!)) قلنا: بلى، قال: ((فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربّكم، ألا هل بلّغت؟!)) قالوا: نعم، قال: ((اللّهمّ اشهد، فليبلّغ الشّاهد الغائب، فربّ مبلّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقابَ بعض))([9]).
قال النووي: "هذا السؤال والسكوت والتفسير أراد به التفخيم والتقرير والتنبيه على عظم مرتبة هذا الشهر والبلد واليوم, وقولهم: (الله ورسوله أعلم) هذا من حسن أدبهم, وأنهم علموا أنه صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب, فعرفوا أنه ليس المراد مطلق الإخبار بما يعرفون"([10]).
6- عن عروة بن الزّبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدّق كلّ واحد منهما حديث صاحبه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم زمن الحديبية، ثم ذكرا ما جرى من قصة صلح الحديبية، وفيها: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((والّذي نفسي بيده، لا يسألوني خطّةً يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إيّاها))([11]).
قال ابن حجر: "قوله ((خُطّة)) بضم الخاء المعجمة, أي: خصلة, ((يعظمون فيها حرمات الله)) أي: مِن ترك القتال في الحرم, ووقع في رواية ابن إسحاق: ((يسألونني فيها صلة الرحم)) وهي من جملة حرمات الله, وقيل: المراد بالحرمات حرمة الحرم والشهر والإحرام, قلت: وفي الثالث نظر؛ لأنهم لو عظموا الإحرام ما صدّوه, قوله: ((إلا أعطيتهم إياها)) أي: أجبتهم إليها"([12]).
7- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((يبايع لرجلٍ ما بين الرّكن والمقام، ولن يستحلّ البيت إلا أهله، فإذا استحلّوه فلا يسأل عن هَلَكة العرب، ثمّ تأتي الحبشة فيخرّبونه خرابًا لا يعمَر بعده أبدًا، وهم الّذين يستخرجون كنْزه))([13]).
8- عن سعيد بن عمرو قال: أتى عبد الله بن عمر عبدَ الله بن الزبير فقال: يا ابن الزبير، إياك والإلحادَ في حرم الله تبارك وتعالى, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه سيلحد فيه رجل من قريش, لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت))، قال: فانظر لا تكونه([14]).
9- عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن إبراهيم حرّم مكة ودعا لها, وحرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة))([15]).
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض))، وفي الأحاديث التي ذكرها مسلم بعد هذا أن إبراهيم حرم مكة, فظاهرها الاختلاف, وفي المسألة خلاف مشهور ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية وغيره من العلماء في وقت تحريم مكة, فقيل: إنها من يوم خلق السموات والأرض, وقيل: ما زالت حلالا كغيرها إلى زمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثم ثبت لها التحريم من زمن إبراهيم, وهذا القول يوافق الحديث الثاني, والقول الأول يوافق الحديث الأول, وبه قال الأكثرون, وأجابوا عن الحديث الثاني بأن تحريمها كان ثابتا من يوم خلق الله السموات والأرض, ثم خفي تحريمها واستمرّ خفاؤه إلى زمن إبراهيم, فأظهره وأشاعه, لا أنه ابتدأه, ومن قال بالقول الثاني أجاب عن الحديث الأول بأن معناه أن الله كتب في اللوح المحفوظ أو في غيره يوم خلق الله تعالى السموات والأرض أن إبراهيم سيحرّم مكة بأمر الله تعالى, والله أعلم"([16]).(/5)
10- عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحلّ لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح))([17]).
11- عن سعيد بن جبير قال: كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمص قدمه, فلزقت قدمه بالركاب, فنزلت فنزعتها, وذلك بمنى, فبلغ الحجاج فجعل يعوده, فقال الحجاج: لو نعلم من أصابك؟ فقال ابن عمر: أنت أصبتني، قال: وكيف؟! قال: حملت السلاح في يوم لم يكن يحمَل فيه, وأدخلتَ السلاحَ الحرم, ولم يكن السلاح يدخل الحرم([18]).
قال الشوكاني: "هذا النهي فيما عدا من حمله للحاجة والضرورة, وإلى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم, فإن كانت حاجة جاز, فإنه قد دخل صلى الله عليه وآله [بالسلاح] مرة كما في دخوله يوم الفتح هو وأصحابه ودخوله صلى الله عليه وآله وسلم للعمرة"([19]).
(1) أخرجه البخاري (1735), ومسلم (1354).
(2) فتح الباري (1/198) باختصار.
(3) أخرجه البخاري (1737) واللفظ له, ومسلم (1353).
(4) فتح الباري (4/48) باختصار.
(5) أخرجه البخاري (6488).
(6) فتح الباري (12/210).
(7) الذَّحْل:ُ الحقد والعداوة, يقال: طلب بذحله أي: بثأره, والجمع ذُحُولٌ. انظر: مختار الصحاح (92) .
(8) أخرجه أحمد (6757), وله عدة شواهد, وقد حسنه محققو طبعة الرسالة.
(9) أخرجه البخاري (1654) واللفظ له, ومسلم (1679).
(10) شرح صحيح مسلم (11/169).
(11) أخرجه البخاري (2581).
(12) فتح الباري (5/336).
(13) أخرجه أحمد (7897) واللفظ له, وابن أبي شيبة (37244), وصححه ابن حبان (6827)، والحاكم (8395)، وهو في السلسلة الصحيحة (579، 2743).
(14) أخرجه أحمد (6200) , وابن أبي شيبة (30687), وصححه الحاكم (3462)، وهو في السلسلة الصحيحة (3108)
(15) أخرجه البخاري (2022) واللفظ له, ومسلم (1360).
(16) شرح صحيح مسلم (9/124).
(17) أخرجه مسلم (1356).
(18) أخرجه البخاري (923).
(19) نيل الأوطار (5/76).
من أقوال السلف في حرمة مكة:
1- قال عبد الرحمن بن زيد: "كان الرجل يلقى [في الحرم] قاتلَ أبيه أو أخيه فلا يعرض له"([1]).
2- قال الضحاك بن مزاحم: "إن الرجل ليهمّ بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها فتكتب عليه"([2]).
3- عن مجاهد قال: كان عبد الله بن عمرو له فسطاطان أحدهما في الحلّ والآخر في الحرم, فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحلّ, فسئل عن ذلك فقال: "كنّا نحدَّث أنّ من الإلحاد فيه أن يقول الرجل: كلا والله وبلى والله"([3]).
4- قال محمد بن شهاب: "جعل الله البيت الحرام والشهر الحرام قياما للناس يأمنون به في الجاهلية الأولى، لا يخاف بعضهم بعضا حين يلقونهم في البيتِ أو في الحرم أو في الشهر الحرام"([4]).
5- قال قتادة في قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلَائِدَ} [المائدة:97]: "حواجز أبقاها الله في الجاهلية بين الناسِ, فكان الرجل لو جرّ كلَّ جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يقرب, وكان الرجل لو لقي قاتلَ أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه, وكان الرجل لو لقي الهدي مقلَّدا وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه, وكان الرجل إذا أراد البيت تقلّد قلادة من شعر فأحمته ومنعته من الناسِ, وكان إذا نفر تقلّد قلادة من الإذخر أو من السمر فمنعته من الناس حتى يأتي أهله, حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية"([5]).
6- عن سعيد بن جبير قال: "شَتمُ الخادم في الحرم ظلمٌ فما فوقه"([6]).
7- عن عكرمة قال: "ما مِن عبد يهمّ بذنب فيؤاخذه الله بشيء حتى يعمله إلا من همّ بالبيت العتيق شرّا, فإنه من همّ به شرّا عجل الله له"([7]).
(1) أخرجه الطبري في جامع البيان (1/534).
(2) أخرجه الطبري في جامع البيان (17/141).
(3) أخرجه الطبري في جامع البيان (17/141).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور (3/202).
(5) أخرجه الطبري في جامع البيان (7/77).
(6) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور (6/28).
(7) أخرجه عبد بن حميد كما في الدر المنثور (6/28).(/6)
حرمة مكة والبيت الحرام
إعداد/ محمد أحمد سيد أحمد
الحمد لله القائل: ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون [البقرة: 229].
والقائل: ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه [الطلاق: 1]، والصلاة والسلام على المبعوث بالدين القويم، والخلق العظيم، الموعود يوم القيامة مقاما محمودا، وحوضا مورودا، وشرفا مشهودا، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، ومن اقتفى أثرهم وسلك سبيلهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله تعالى، خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه، ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على كبريائه ليهابوه، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليسارعوا إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه.
إن المتأمل لأحوال الناس اليوم، يجد أن البعض منهم، عمدوا إلى محارم الله فارتكبوها، ومنهياته فاستباحوها، ومأموراته فاجتنبوها ونبذوها، وقطعوا الأسباب بينهم وبين خالقهم ورازقهم، وعادوا بمر الشكوى من تغير الأحوال والأزمان، وانتزاع البركة من الأرزاق والآجال، وهم مع ذلك معتمدون على رحمة الله وعفوه وكرمه، ونسوا أن الله تعالى يغار على أوامره أن تجتنب، ومحارمه أن ترتكب، وأنه تعالى شديد العقاب لا يرد بأسه عن القوم المجرمين، توعد عباده الذين يخالفون أمره، ويعرضون عن مراقبته وينصرفون عن عبادته وذكره ويجترئون على معاصيه، بشديد غضبه وعظيم سخطه، وحذرهم بأسه وانتقامه.
إن التعدي على حدود الله وانتهاك حرماته من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وهي تورث الذل والهوان على الله أولا، ثم على الخلق ثانيا، قال تعالى: ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [النساء:14]، وقال سبحانه: تلك حدود الله فلا تقربوها [البقرة:187]، قال ابن الأثير رحمه الله: الانتهاك: المبالغة في خرق محارم الشرع وإتيانها، قال ابن القيم رحمه الله محذرا من انتهاك حرمات الله: لم يقدر الله حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه، وذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم من طاعته، فلله الفضلة من قلبه وقوله وعمله، هواه مقدم في ذلك كله، المهم أنه يستخف بنظر الله إليه، وإطلاعه عليه، وهو في قبضته، وناصيته بيده ويعظم نظر المخلوق إليه، وإطلاعه عليه، بكل قلبه وجوارحه، يستحي من الناس ولا يستحي من الله، ويخشى الناس ولا يخشى الله، ويعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه وإن عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام في خدمة من يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد وبذل النصيحة وقد أفرغ له قلبه وجوارحه، وقدمه على كثير من مصالحه حتى إذا قام في حق ربه قام قياما لا يرضاه مخلوق من مخلوق مثله، وبذل له من ماله ما يستحي أن يواجه به مخلوقا مثله. فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه، وهل قدره حق قدره من شارك بينه وبين عدوه في محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذل والخضوع والرجاء.
[الداء والدواء (ص167، 168)]
ومن صور انتهاك حرمات الدين:
1- القتل بغير حق، وترويع الآمنين:
إن القتل من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب وأشد الآثام، بل هو أغلظها جميعا بعد الإشراك بالله ولذا نهى الله عز وجل عن القتل بغير حق وترويع الآمنين، قال سبحانه: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما [النساء:93]، وقال سبحانه: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق [الإسراء:33].
وقال سبحانه: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا [المائدة:32].
إن جريمة القتل تعد مروعة لأمن الحياة واستقرارها، وهدما لعمارة الكون.
ولقد جاء في السنة المباركة كثير من الأحاديث التي تنهى عن القتل وتحرمه وتجرمه، وتنهى عن ترويع الآمنين وإخافتهم وإدخال الذعر والهلع إلى قلوبهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيصلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه». رواه البخاري، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبيصلى الله عليه وسلم: «أول ما يقضى بين الناس في الدماء».
[رواه البخاري]
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما». [رواه البخاري]
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما». رواه البخاري.(/1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي، يضرب برها وفاجرها ولا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني، ولست منه».
[رواه مسلم]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات». قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات». [رواه البخاري ومسلم]
2- الإلحاد في الحرم والظلم فيه:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الإلحاد أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك، من قتل من لم يقتل وظلم من لم يظلم. وقال النيسابوري في تفسير قوله تعالى:ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم قال: ومن يرد فيه مرادا ما، جائرا عادلا عن القصد ظالما فتدل هذه الآية على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه بمكة وإن لم يعمله.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا: لو هم رجل بقتل رجل وهو في هذا البيت- يعني البيت الحرام- وهو بعدن أبين- مكان بأقصى اليمن- لعذبه الله.
قال النيسابوري: وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله سبحانه على النية السيئة فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة.
[انظر تفسير الطبري (17- 104)، وتفسير القرطبي (12- 24)]
ومن الأحاديث التي تنهى عن الإلحاد في الحرم وغيره من الأراضي المقدسة قوله صلى الله عليه وسلم: «ستة لعنتهم لعنهم الله وكل نبي كان: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت ليعز بذلك من أذل الله ويذل من أعز الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي».
[رواه الطبراني وهو حديث حسن]
وعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا». قال ثوبان: يا رسول الله، جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: «أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها».
[رواه ابن ماجه وإسناده صحيح]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرام، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه». [رواه البخاري]
وعن أبي شريح العدوي رضي الله عنه أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم للغد من يوم فتح مكة فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرا، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إن الله أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب». [رواه البخاري ومسلم]
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «ألا أي شهر تعلمون أعظم حرمة؟ قالوا: ألا شهرنا هذا. قال: ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا بلدنا هذا. قال: ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا يومنا هذا. قال: فإن الله- تبارك وتعالى- قد حرم دماءكم وأخوالكم وأعراضكم إلا بحقها كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت ثلاثا؟ كل ذلك يجيبونه: ألا نعم». قال: ويحكم أو ويلكم لا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».
[رواه البخاري ومسلم]
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل منه صرف ولا عدل». [رواه الطبراني بإسناد جيد]
عن جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح». [رواه مسلم]
3- ترويع الأمنين وتخويف المسالمين:
إن الأمن نعمة عظيمة امتن الله بها على عباده، قال تعالى: فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف [قريش:3-4].
إن الأمن لا يتحقق ولن يتحقق إلا بتحقيق الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [الأنعام: 288].
وقال الشاعر:
إذا الإيمان ضاع فلا أمانا
ولا دنيا لمن لم يحيي دينه
ومن رضي الحياة بغير دين(/2)
فقد جعل الفناء لها قرينا
لقد رهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر وأنذر من ترويع الآمنين فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلام فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار». [رواه مسلم]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه». [رواه مسلم]
وعن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعاطى السيف مسلولا».
[رواه الترمذي وقال: حديث حسن]
فعلى كل مسلم ومسلمة وكل مؤمن ومؤمنة أن يعظم حرمات الله، وتعظيم الحرمات هو العلم بوجوبها والقيام بحقوقها، وقيل تعظيم الحرمات يعني اجتناب المرء ما أمر الله باجتنابه في حال حله وإحرامه تعظيما منه لحدود الله أن يواقعها، وحرمة أن يستحلها، قال تعالى: ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه [الحج: 30]، وقال سبحانه: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج: 32]، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يوما بعد أن نظر إلى الكعبة: ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمنون عند الله أعظم حرمة منك.
قال ابن الجوزي رحمه الله: بقدر إجلال العبد لله يجله الله عز وجل وبقدر تعظيمه قدره واحترامه يعظم قدر العبد وحرمته، وكم من رجل أنفق عمره في العلم حتى كبرت سنة ثم تعدى الحدود فهان عند الخلق ولم يلتفقوا إليه غزارة علمه، وأما من راقب الله عز وجل في صبوته فقد يكون قاصر الباع بالنسبة المصادف الأول، ومع ذلك عظم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس، ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير. [انظر صيد الخاطر لابن الجوزي ص491]
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجنب هذه البلاد خاصة وبلاد المسلمين عامة كل سوء ومكروه، وأن يحفظ جميع بلاد المسلمين أمنها واستقرارها، وأن يحفظها من كيد الكائدين وعبث العابثين، وأن يصلح شباب المسلمين، وأن يرد العاصين منهم ردا جميلا، وأن يهديهم سبل الرشاد، إنه أعظم مسئول وأكرم مأمول.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/3)
حرية التعبير في الغرب الحقيقة والوهم
د. أحمد محمد الدغشي
\ أسطورة حق التعبير في الغرب:
حقّاً إنها أسطورة مخجلة أن يظل بعض مثقفينا يردد بلا إدراك حصيف أن الغرب قِبلة الحُرّيات، ومهوى أفئدة المضطَهَدين على نحو من المبالغة المفرطة، والتقديس الفجّ. ولئن كان لذلك بعض البريق ذي الأساس المقدّر قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م ؛ فإن الأمر اختلف بعد تلك الأحداث إلى حدّ كبير؛ حيث كانت ذريعة حق الدفاع عن أمن الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبية ـ ولا سيما مع تكرار حدوث أعمال مشابهة جزئياً في بعض تلك البلدان ـ من وراء ذلك الانقلاب الكبير في الحقوق والحرّيات بمختلف تصنيفاتها. ومع أن العديد من النصوص والوقائع التي سنأتي على ذكرها توّاً تسبق أحداث سبتمبر، إلا أن القيود على حركة الحرّيات ازدادت أضعافاً مضاعفة بعد ذلك.
وإليك الآن الشواهد التالية:
ـ في أمريكا تم منع عرض مجموعة من الأفلام الوثائقية التي قام بإعدادها الصحفي البريطاني البارز (روبرت فيسك)، لأنها أثارت غضب اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، الذي هدّد شبكة التلفزيون بسحب الإعلانات ذات المردود المادي منها.
أما إذا سألت عن سرّ هذا الغضب فيأتيك الجواب أن مجموعة تلك الأفلام كان عنوانها (جذور غضب المسلمين)، حيث اتهمت الصهيونية بأنها السبب الرئيس وراء نقمة المسلمين على الغرب. ولاحظ أن (فيسك) حاصل على جائزة الصحافة البريطانية لعام 1995م كأحسن صحفي بريطاني قادر على عرض الأخبار السياسية الدولية وتحليلها.
ليس ذلك فحسب بل إن كاتباً بحجم (نعوم تشومسكي) الذي حصل كتابه (الهيمنة أم البقاء: سعي أمريكا للسيطرة العالمية) على مرتبة أكثر الكتب مبيعاً عام 2002م، وتصفه بعض الصحف الأمريكية كصحيفة (نيويورك تايمز) بأنه يمكن اعتباره أهم مفكّر في العالم اليوم، هذا الكاتب وبهذا المستوى قلّما تتجرأ شبكات التلفزة الأمريكية على استضافته، بسبب آرائه الشهيرة التي عادة ما تزعج القادة والساسة الأمريكيين والصهيونيين على حد سواء. وقد حدث له في عام 1972م وبعد أن طبع أحد كتبه أن أوقف توزيع الكتاب وتم سحبه من السوق وإتلافه، بعد أن اطلع بعض أعضاء مجلس إدارة الشركة المالكة على محتوى الكتاب، الذي لم يَرُقْ لهم.
وهل يتعارض مع حرية التعبير ما أقدم عليه رئيس مجلس النواب الأمريكي الأسبق (نيوت جنجرييتش) من فصل مؤرخة تعمل بالمجلس حين علم أنها سبق أن قالت: «وجهة نظر النازيين بصرف النظر عن عدم شعبيتها لا تزال وجهة نظر، ولا تأخذ حقها في التعبير».
وفي عام 1986م لم يستطع المؤلف (جورج جيلبرت) أن يجد ناشراً ليعيد طباعة كتابه (الانتحار الجنسي) على الرغم من أن كتب (جيلبرت) المنشورة في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي تصدرت قوائم المبيعات العالمية. والسبب في إعراض الناشرين هو الاحتجاج الصاخب الذي قامت به رائدات حركة تحرير المرأة ضدّه؛ لأن «اختلافات الرجل عن المرأة لا ينبغي حتى أن تدرس» حسب تعبير إحداهن في مقابلة عرضت على شبكة (A B C ) الأمريكية.
أما الممثلة البريطانية الشهيرة (فانيسا ريد جريف) فلم يسمح لها بأداء دورها في مسرحية كوميدية بريطانية أثناء عرضها في الولايات المتحدة بسبب تصريحاتها المعادية للتدخل الأمريكي ضدّ العراق في حرب الخليج.
الجدير ذكره أن أعمال (جريف) كثيراً ما تتعرض للمقاطعة أو الإلغاء من العرض في الولايات المتحدة بسبب آرائها المعادية للصهيونية وسياسات الدولة العبرية.
وإذا كانت (جريف) قد منعت من أداء دورها المسرحي فقط؛ فقد منع من دخول الولايات المتحدة مفكّرون وعلماء ومشاهير، من أمثال: أحمد ديدات، ويوسف القرضاوي، ويوسف إسلام؛ ناهيك عن آلاف غيرهم!
أما حرية الإعلام المباشر ونشر المعلومة فقد انكشف ذلك بلا أدنى ريب من خلال التعتيم الذي مارسته الإدارة الأمريكية على حظر نقل وقائع الحرب الأخيرة على أفغانستان والعراق، وقصف قناة (الجزيرة) في كابول، وقتل العديد من الصحفيين في العراق، وأبرزهم (طارق أيّوب)، ثم إغلاق مكتب (الجزيرة) في بغداد، والأمر بسجن مذيعها الشهير (تيسير علّوني) في مدريد ومصوِّرها (سامي الحاج) في جوانتنامو. وأخيراً ما كشفته صحيفة (ديلي ميرور) البريطانية، وتأكيد رئيس تحريرها المشارك (كيفين ماغواير) من أن لدى صحيفته محاضر موثقة تكشف أن الرئيس الأمريكي (جورج بوش) أبلغ رئيس وزراء بريطانيا (توني بلير) خطة قصف قناة (الجزيرة). وحين تزايدت المطالبة بكشف الحقيقة أُوعِز إلى النائب العام البريطاني بإصدار قرار يمنع الكشف عن الوثيقة أو نشرها.(/1)
ويستغرب المرء حين يجد أن مقدّسات المسلمين وحدها هي الكلأ المباح الذي لا يعاقب القانون مقترفه بأية عقوبة، بل يُردّ عليه بممارسة أسطورة حق (حرّية التعبير). فحين تقدم صحيفة دانماركية (جيلاندس بوستن) في 26 شعبان 1426هـ الموافق 30 أيلول/ سبتمبر 2005م ـ وهي صحيفة ذائعة الصيت، وذات مصداقية كبيرة لدى الشعب الدانماركي ـ على إعلان مسابقة لرسم أحسن كاريكاتير للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وبالفعل أرسل القراء أكثر من مائة صورة، تصور رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يلبس عمامة مليئة بالقنابل والصواريخ، وتصوره وهو يصلي في أوضاع مهينة للغاية. وتم نشر حوالي 12 كاريكاتيراً علناً، وعلى مدار عدة أسابيع، وبمعرفة من الحكومة الدانماركية، وموافقتها بل وتأييدها، وبتفاعل الرأي العام الدانماركي معها.
وحين حاولت الجالية الإسلامية هناك، الدفاع عن الإسلام ومقدساته، وذلك بوقف نشر هذه الصور، رفض رئيس تحرير الصحيفة حتى مجرد مقابلتهم، بل وتضامنت كل الهيئات الحكومية مع الصحيفة، ورُفضت كل محاولات الجالية الإسلامية، حتى مع تطوّر الأمر إلى إعلان جملة إجراءات دبلوماسية كسحب السفراء أو استدعائهم من قِبَل بعض الدول الإسلامية، إلى جانب إعلان المقاطعة للمنتجات الدانماركية والنرويجية (إذ كانت صحيفة «مغازينات» النرويجية أعادت في 10 يناير 2006م ما نشرته الصحيفة الدانماركية سالفة الذكر) فإن عقيرة غلاة العلمانية تُرفع، وشعارات حرية التعبير والإبداع تُلقى في وجه كل معترض. وعلى هذا الأساس الهشّ تجاوبت صحف مماثلة في كراهية الإسلام في فرنسا وألمانيا التي تقوم الدنيا في أيّ منهما ولا تقعد إذا حدث أدنى تشكيك في حكاية المحرقة (الهولوكست) التي يصرّون ـ في دوغمائية لافتة ـ أنها حدثت لليهود، ثم تفاعل معهم في منطقتنا بعض المفتونين، أو المهووسين بفن (الإثارة) بأي ثمن، ومهما كانت النتائج، كما فعلت بعض الصحف في كل من الأردن ومصر واليمن.
هذا في حين أن القانون الدانماركي يحظر أي تهديد أو إهانة أو حط من شأن أي إنسان بصورة علنية، بسبب الدين أو العرق أو الخلفية الإثنية، أو التوجّه الجنسي. وبسبب ذلك القانون تعرّضت امرأة تعمل محرّرة صحفية لمحاولات تقديمها للمحاكمة، لأنها كتبت خطاباً للصحيفة تصف فيه الشذوذ الجنسي بأنه أسوأ أنواع الزنى. وكأن هذا القانون يشمل أي إنسان باستثناء النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ومما له دلالة مباشرة على هذا ـ حسبما أورده موقع إسلام أون لاين في 8/ 2/ 2006م ـ أنه في الوقت الذي نشرت فيه صحيفة (جيلاندس بوستن الدانماركية) رسوماً كاريكاتيرية مسيئة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بدعوى حرية التعبير، رفضت الصحيفة نفسها نشر رسومات تسيء إلى المسيح عيسى ـ عليه السلام ـ خشية ردود الفعل الغاضبة من جانب قراء الصحيفة، حسبما نشر الموقع الإلكتروني لصحيفة (جارديان) البريطانية.
وقالت (جارديان) إنه في إبريل 2003م تبرع الرسام الدانماركي (كريستوفر زيلير) للصحيفة بسلسلة من الرسوم الساخرة تتعلق ببعث السيد المسيح من جديد.
غير أنها أشارت إلى أن الصحيفة الدانماركية «رفضت نشر الرسومات التي تسيء إلى المسيح، بدعوى أن نشر الرسوم لن يسعد القراء، وربما يؤدي إلى تعرض الصحيفة لانتقادات شديدة».
وتسلم (زيلر) رسالة بريد إلكتروني من رئيس تحرير صحيفة «جينز كيسر» الدانماركية تقول: «لا أعتقد أن قراء الصحيفة ستروق لهم هذه الرسوم، بل أعتقد أنها ستثير مشاعر الغضب لديهم؛ لذا فلن أنشر الرسوم»، وذلك بحسب الصحيفة البريطانية. ونقلت (جارديان) عن (زيلر) قوله تعليقاً على الرسوم: «الرسوم مجرد مزحة بريئة لدرجة أنها أضحكت جدي».
غير أن رئيس تحرير الصحيفة الدانماركية أوضح من جهته أن الرسومات الكاريكاتيرية كانت سخيفة للمضي قدماً في نشرها في ذلك الوقت.
ـ في بريطانيا يتم التعامل مع المقدّسات وفق قانون خاص يسمى (BIASPHEMY LAW ) الذي يمنع سب المقدّسات؛ إذ يسري العمل بالقانون في كل من إنجلترا وويلز. ولكنه خاص بالمقدّسات المسيحية وحدها. ولذلك فعندما أعلن المخرج الدانماركي (جينز ثور سن) (لاحظ الدانماركي) اعتزامه إخراج فيلم في إنجلترا عن الحياة الجنسية للمسيح فقد أدى ذلك إلى موجة غضب عارمة في المؤسسات الدينية الأوروبية وعلى رأسها الفاتيكان وأسقفية (كانتر بري)، وعلى الفور قام رئيس الوزراء البريطاني حينذاك (جيمس كالاهان) بالتحذير من أن أي محاولة لإخراج ذلك الفيلم في إنجلترا سوف تكون عرضة للمحاكمة تحت طائلة قانون (سب المقدّسات) مما أثنى المخرج عن إتمام إنتاج الفيلم.(/2)
وفي يونيو 1976م قامت صحيفة (News Gay ) الخاصة بأخبار الشواذ جنسياً من الرجال بنشر قصيدة للشاعر البريطاني (جيمس كيركوب) يصف فيها المسيح ـ عليه السلام ـ في أوضاع غير لائقة، مما أثار غضب اتحاد المشاهدين والمستمعين الإنجليز، الذي يتولى الرقابة الشعبية على كل ما ينشر في الصحف أو يعرض في وسائل الإعلام والأفلام السينمائية، وقامت رئيسة الاتحاد بمقاضاة رئيس تحرير الصحيفة والشركة التي تملكها وتتولى نشرها بتهمة سبّ المقدّسات.
وبالفعل تمت المحاكمة في شهر يوليو عام 1977، وبالرغم من محاولات الدفاع المستميتة في إقناع المحلّفين أن القصيدة لم تعنِ أو تضمر أيّة إساءة للدين النصراني، بل بالعكس كانت تصوّر العلاقة العاطفية التي تربط الشاعر بشخص المسيح ـ عليه السلام ـ إلا أن هيئة المحلّفين لم تقبل هذا الدفاع وأدانت الصحيفة بأغلبية عشرة أصوات مقابل صوتين بتهمة امتهان مشاعر المسيحيين في إنجلترا، والإساءة إلى مقدّساتهم، بعد قرار هيئة المحلّفين القاضي على رئيس التحرير بالسجن لمدّة تسعة أشهر مع وقف التنفيذ ودفع غرامة مقدارها (خمسمائة جنيه إسترليني)، وعلى الناشر بغرامة مقدارها (ألف جنيه إسترليني)، بالإضافة إلى تحمّل تكاليف القضية. وعلى الرغم من استئناف الصحيفة الحكم عام 1978م أمام القسم القضائي بمجلس اللوردات البريطاني، الذي يمثل أعلى سلطة قضائية في بريطانيا إلا أنها خسرت للمرّة الثالثة، حيث أقرّت المحكمة البريطانية العليا الأحكام السابقة الصادرة ضدّ رئيس التحرير.
بعد حكم المحكمة العليا جرت محاولات عِدّة لإنهاء العمل بقانون سبّ المقدّسات من خلال مجلس العموم البريطاني، إلا أن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل، حيث لم يقبل مجلس العموم ولا مجلس اللوردات أي مساس بذلك القانون بالرغم من أنه يحمي الديانة المسيحية فقط من السبّ ويهمل بقيّة الديانات المنتشرة داخل بريطانيا، وأنه يعاقب على المساس بالمقدّسات المسيحية دونما نظر أو مراعاة لقصد أو نيّة الشخص المتهم بسبّ المقدّسات.
ومع محاولات أخرى تمت في الاتجاه الذي يجعل من القانون عامّاً لكل المقدّسات في كل دين يوجد في إنجلترا إلا أنها باءت كذلك بالفشل. لذلك لم يفلح المسلمون في بريطانيا في أن يرفعوا دعوى قضائية ضدّ (سلمان رشدي) صاحب كتاب (آيات شيطانية)؛ إذ القانون الذي يحظر سبّ المقدّسات خاص بالمسيحية فقط. فلم يكن (سلمان رشدي) خارجاً عن القانون البريطاني حين أهان المقدّسات الإسلامية، بل ذلك أمر يندرج في إطار حرّية التعبير رغم أنه سخر من المقدّسات الإسلامية وأهانها. غير أن الطريف حقاً أن حرّية التعبير هذه لم َتحْمِ (فيلماً) باكستانياً سخر من (سلمان رشدي)، بل منعت دخوله.
إن الشخصيات الدينية في حصانة (مقدّسة) كذلك بموجب قانون حظر (سبّ المقدّسات)، لذلك فقد قامت هيئة الرقابة على المصنّفات الفنية البريطانية برفض عرض فيلم وثائقي على شاشات التلفاز البريطاني عن الراهبة (تيريزا) التي عاشت في بريطانيا في القرن السادس عشر، بسبب محتوى الفيلم الذي يمكن تأويله على أنه إهانة للدين النصراني.
ـ وفي إيطاليا يمنع عرض الفيلم الأمريكي (الإغراء الأخير للسيد المسيح)، لما فيه من استثارة مشاعر المسيحيين، لذا لم يُكْتَفَ بمنع عرضه فقط في العديد من البلاد الأوروبية بل قُدِّم مخرج الفيلم في المهرجان للمحاكمة في روما بسبب الفيلم.
ـ وفي فرنسا يقر مجلس الشعب الفرنسي قانون فابيوس ـ جيسو في عام 1990م الذي يحظر مجرّد مناقشة حقيقة وقوع الهولوكست في الحرب العالمية الثانية. وقد عوقب المفكر الفرنسي الشهير (روجيه جارودي) عام 1998م بسبب كتاب (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية)، وحكم عليه بغرامة (20) ألف دولار.
ولم تصمد حريّة التعبير أمام حق قناة (المنار) اللبنانية التابعة لحزب الله في بث أفكارها ورؤاها، بل عملت فرنسا على منع بثّها، لأنها قدمت مسلسلاً عن جرائم إسرائيل، غير أن السؤال الأهم لماذا الوقوف هنا ضدّ حق التعبير؟!
ولماذا تعمل دولة الحرية والمساواة والإخاء ـ وهي الشعارات الشهيرة للثورة الفرنسية عام 1787م ـ بإيقاف (400) إمام وخطيب مسجد في فرنسا تحت دعاوى متهافتة تسقط جميعها أمام أسطورة حرّية الرأي والتعبير.
ولماذا يتم تغريم (برنارد لويس) الأستاذ بجامعة (برنستون) مبلغ (10) آلاف فرنك فرنسي (حوالي 2062 دولاراً أمريكياً) عام 1995م لأنه أنكر أن الأرمن تعرضوا لإبادة جماعية على يد الدولة العثمانية في بداية القرن العشرين الميلادي.(/3)
ـ وفي ألمانيا يحظر بيع أو شراء أو طباعة كتاب (كفاحي) لـ (هتلر)، كما تحظر طباعة أو توزيع أي مقال أو كتاب يؤيد النازية بأي شكل من الأشكال، بل تحظر حتى الهتافات النازية، ولو على سبيل المزاح. وهذا الحظر يفسّر المشكلة التي تعرض لها لاعب الكرة المصري (هاني رمزي) في ألمانيا، حين قام بإلقاء التحية النازية المشهورة على سبيل المزاح في إحدى الحفلات.
في عام 1991م قام (جنتر ديكارت) زعيم الحزب الوطني الديمقراطي الألماني (يمين متطرّف) بعقد محاضرة استضاف فيها محاضراً أمريكياً أشار فيها إلى أن رواية قتل اليهود بالغاز غير صحيحة. وترتب على ذلك أن قُدّم (ديكارت) للمحاكمة، وعوقب طبقاً للقانون الذي يحظر الأحقاد بين المجموعات العرقية.
وفي شهر مارس 1994م حوكم (ديكارت) مرة أخرى وحكم عليه بالسجن لمدة عام واحد مع وقف التنفيذ، بالإضافة إلى غرامة خفيفة، مما أدى إلى تعرّض القضاة الذين حاكموا (ديكارت) لموجة من الغضب والنقد من القضاة الآخرين، بسبب ضآلة العقوبة التي حكموا بها، مما أدّى إلى تدخل المحكمة الفيدرالية التي أبطلت الحكم وأمرت بإعادة المحاكمة.
وفي إبريل 1994م أعلنت المحكمة الدستورية الألمانية أن أية محاولة لإنكار حدوث (الهولكوست) لا تتمتع بحماية حق حرّية التعبير التي يمنحها الدستور الألماني، مما دفع البرلمان الألماني أن يسن قانوناً يجرّم أيّة محاولة لإنكار وقوع (الهولكوست)، ويوقع بمرتكب هذه الجريمة عقوبة حُدّدت بالسجن خمس سنوات بغض النظر عمَّا إذا كان المتحدّث ينكره أم لا.
وفي عام 1993م تم نشر ترجمة ألمانية لكتاب أمريكي عنوانه (العين بالعين)، غير أن الناشر تنبّه إلى خطورة الأمر فقام على الفور بسحبه وإتلاف كل نسخ الطبعة الألمانية رغم توزيعها في السوق، تحاشياً للوقوع تحت طائلة القانون أو إثارة غضب الرأي العام، وذلك لأن الكتاب يورد أن (ستالين) كان يتعمّد اختيار اليهود للقيام بالأعمال البوليسية السريّة في بولندا بعد الحرب العالمية الثانية.
ـ وفي النمسا من المتعارف عليه قانونياً معاقبة كل من أنكر وجود غرف الغاز التي أقامها النازيون أثناء الحرب العالمية الثانية بالسجن، غير أنه في العام 1992م تم تعديل القانون ليطال التجريم أية محاولة تنكر أو تخفّف أو تمدح أو تبرّر أيّاً من جرائم النازية، سواء بالكلمة المكتوبة أو المذاعة.
ـ وفي كندا على الرغم من أن القانون الكندي ينص على حق كل مواطن في التعبير الحرّ إلا أنه يحظر ـ في الوقت ذاته ـ أيّ نوع من أنواع التعبير من شأنه أن يؤدي إلى إثارة الكراهية ضدّ أية مجموعة عرقية أو إثنية أو دينية، ويمنح القانون المجالس التشريعية في كندا تقييد حريّة التعبير أو غيرها من الحريّات الدستورية إذا استدعت الضرورة ذلك، وبناء على هذا أقرّت المحكمة الكندية العليا العقوبة التي أقرّت بها إحدى محاكم مقاطعة (ألبرتا) ضدّ (ناظر) مدرسة اتهم بمعاداة السامية والترويج لكراهية اليهود.
ولكون السيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام في الغرب حقيقة ساطعة فإن شبكة تلفاز (CTV) الكندية قامت باستضافة (جوزيف ليبد) المعلّق السياسي الإسرائيلي صباح يوم 15/ 10/ 1994م الذي دعا مباشرة وعلى الهواء يهود كندا لأن يتولى أحدهم اغتيال (فيكتور أوستروفوسكي) ضابط الموساد الذي ألف كتابين كشف فيهما عن العمليات السريّة للموساد، دون أن تُحدث هذه الدعوة أي ردّ فعل على أي مستوى إعلامي في كندا. ولم يُسمع عن الكُتّاب والمعلّقين الذين دافعوا بحماس بالغ عن حق (سلمان رشدي) في التعبير الحرّ دفاع أقل من ذلك في حق (أوستروفوسكي) في التعبير الحُرّ كذلك.
قارن هذا بما حدث في عام 1996م عندما قام قاضٍ كندي بمقاطعة (كيوبيك) بالحكم بالسجن مدى الحياة على امرأة قامت بذبح زوجها بسكين، وقال تعقيباً على الحكم الذي أصدره: «لقد أثبت أن المرأة تستطيع أن تكون أكثر عنفاً من الرجل، حتى النازي لم يُعذّب ضحاياه اليهود قبل قتلهم».
هذا التعقيب أثار زوبعة من الاحتجاج ضدّ القاضي من قِبَل الجمعيات النسائية واليهودية في كندا، فاضطر القاضي للاعتذار، ولكنه أعلن أنه مؤمن بكل كلمة قالها في ذلك التعقيب، مما ضاعف موجة الاحتجاج ضدّه، وتعالت الأصوات مطالبة باستقالته، ولكنه رفض الاستقالة. عندئذ تدخّل المجلس القضائي الكندي وقام بالتحقيق مع القاضي، ثم أوصى المجلس البرلماني الكندي بإقالة القاضي بسبب التعليق الذي صدر عنه. وحين وصلت الأمور إلى ذلك الحدّ اضطر القاضي أن يقدّم استقالته بدلاً من أن تأتي الإقالة من البرلمان، حيث كان واضحاً أنه سيقبل توصية مجلس القضاة الكندي بالإقالة.
ـ وفي أستراليا ينص قانونها على اعتبار أية مادة مكتوبة من شأنها الحطّ من قدر أية مجموعة عرقية محظورة طبقاً للقانون المانع للتفرقة العنصرية الصادر عام 1998م، وقد يعاقب الكاتب والناشر بغرامات تصل إلى (40) ألف دولار أمريكي.(/4)
ـ وفي سويسرا قامت مقاطعة (دي تور) بمنع كتاب (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) لـ (روجيه جارودي) من التداول، وحكمت محكمة على ناشر عرض الكتاب بالسجن أربعة أشهر.
وقد سرى رعب التشكيك في حكاية (الهولوكست) حتى في بلد صناعي (عريق) غير أوروبي هو اليابان؛ إذ حدث أن نشرت مجلة (ماركوبولو) في عددها الصادر في شهر فبراير 1995م مقالاً يزعم عرض الحقيقة التاريخية الجديدة، ويوضّح أن غرف الغاز التي أقيمت في الحرب العالمية الثانية ليس لها أساس تاريخي موثّق. وقد أدّى المقال إلى ردود فعل عنيفة وسريعة، حيث قامت المؤسسات الصناعية الكبرى ـ مثل: (فولكس واجن) و (ميتسوبيشي) ـ بإلغاء عقود الدعاية مع المجلة، احتجاجاً على المقال، مما أدّى بناشر المجلة إلى سحب كل أعداد المجلة من الأسواق وفصل كل أعضاء تحرير المجلة، بل واضطر ذلك المقال المجلة إلى إغلاق نفسها نهائياً.
وفي هذه الأجواء تعلن صحيفة (همشهري) الإيرانية ـ حسب موقع الجزيرة نت في 9/2/2005م ـ دعوتها لمسابقة عالمية لرسم (كاريكاتيري) يسخر مما يسمى المحرقة النازية (الهولكوست) لليهود، معلنة أنها بهذا تهدف إلى اختبار ردود الفعل الأوروبية والأمريكية، وهو ما سيفضح أسطورة (حريّة التعبير). وتأتي (الفضيحة) الأولى حين يُستدعى السيد (دياب أبو جهة) رئيس الرابطة العربية الأوروبية للمحاكمة، لكونه دعا إلى نشر رسوم (كاريكاتيرية) ضدّ المحرقة (الهولكوست)، بهدف كشف حقيقة (حريّة التعبير) الغربية!!
والآن: أرأيتم كيف أن الحديث عن حرّية التعبير في الغرب مجرّد أسطورة باهتة، ووهم طغى بسبب طغيان الحضارة الغربية على تفكيرنا ومسالكنا في كل اتجاه، حتى بات بعض المشتغلين بالثقافة والفكر والسياسة يعتقدون حقيقتها، وأن المناقشة فيها نقاش في (المقدّس) أو (التابو) الممنوع التطرّق إليه والحديث عنه؟
_____________
(ü) أستاذ أصول التربية المشارك، كلية التربية، جامعة صنعاء، اليمن.(/5)
حزب البعث
1- التعريف بالحزب.
2- التعريف بمؤسسه:
ميشيل عفلق: مولده، ونشأته، ونشاطه، وفاته.
3- مقومات الحزب ودعائمه:
أ- الوحدة:
- مفهوم الوحدة.
- غاية الحزب من الوحدة.
ب- الحرية:
- مفهوم الحرية.
- مهزلة الحرية عند الحزب.
- بعض الحقائق عن هذه الحرية المزعومة من قتل وتعذيب وتصفية.
ج- الاشتراكية:
- مفهوم الاشتراكية.
- البعث والاشتراكية وجه واحد.
4- مبادئ حزب البعث:
المبدأ الأول: وحدة الأمة العربية وحريتها.
المبدأ الثاني: شخصية الأمة العربية.
المبدأ الثالث: رسالة الأمة العربية.
5- عقائد حزب البعث:
1. البعث حركة عقائدية.
2. البعث حركة نضالية.
3. البعث حركة ثورية.
4. البعث حركة جماهيرية.
5. البعث حركة قومية.
6. البعث حركة اشتراكية.
7. البعث حركة إنسانية.
8. البعث ثورة شاملة.
6 ـ دستور حزب البعث:
7 ـ العلاقة بين حزب البعث والعلمانية:
8 ـ العلاقة بين حزب البعث والشيوعية الماركسية:
9 ـ موقف حزب البعث من الإسلام:
10 ـ موقف الإسلام من حزب البعث:
11 ـ أقوال الشيخ ابن باز في النظام البعثي وحاكمه:
1- التعريف بالحزب:
حزب البعث: حزب قومي علماني، يدعو إلى الانقلاب الشامل في المفاهيم والقيم العربية؛ لصهرها وتحويلها إلى التوجه الاشتراكي. شعاره المعلن: "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، وهي رسالة الحزب().
وبعبارة أخرى: هي حركة قومية شعبية انقلابية تناضل في سبيل الوحدة العربية والحرية والاشتراكية().
ابتدأت هذه الحركة عام 1943م، ولكن على شكل تجمع دون وضوح فكري معين، أما تأسيسها الحقيقي فقد كان فعلاً عام 1947م وفي السابع من نيسان منه().
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة (1/474).
الحركات القومية العربية، لمنير محمد نجيب (ص34).
الحركات القومية الحديثة في ميزان الإسلام، لمنير محمد نجيب (ص33).
1 ـ التعريف بمؤسس الحزب:
مؤسس الحزب هو ميشيل عفلق.
ولد سنة1331هـ / 1912م، ودرس في الثانوية الأرثوذكسية()، وأتم دراسة الحقوق والتاريخ في باريس ما بين سنة (1930م-1933م)، واطلع فيها على أعمال الكتاب والفلاسفة الأوربيين أمثال لنيتشه وماركس ودوستويفسكي وتولوستوي وبيرغسون وأناتول فرانس وأندريه جيد().
كان أستاذاً في التعليم الثانوي بدمشق، وسرعان ما برز بتحرره الفكري، ودخل معارك الأدب، وشارك في تأسيس (ندوة المأمون)، وساهم في إخراج مجلة (الطليعة) في السنوات الأولى من عمله التدريسي، بالتعاون مع الماركسيين سنة1934م()، ثم اتصل عن قرب بالنضال السياسي عن طريق طلابه، وأسس مع زميله صلاح الدين البيطار منظمة سرية باسم (شباب الإحياء العربي) أواخر سنة 1939م، والحرب الثانية في مطلعها، ثم أسسا (حزب البعث العربي) في سبيل الوحدة والحرية والاشتراكية، وخاضا معاً منذ تلك السنة جميع المعارك السياسية في سورية، سواء مع القوى الأجنبية أو مع السلطات المحلية، وتعرّض للسجن والنفي.
تولى منصب وزارة المعارف في سورية سنة1949م، ونشأت صداقة قوية بينه وبين جمال عبد الناصر، بعد أن أمضى عدة أسابيع في مصر عام 1957م، وحلّ حزبه بعد إعلان الوحدة تلبية لأوامر عبد الناصر، لكنه سرعان ما انفصل الحزب عن الناصرية، وما أن أطلّ عام 1960م حتى اضطر إلى اللجوء إلى بيروت.
وتمكن رفاقه من تسلّم الحكم في كل من بغداد ودمشق عام 1963م، فبرز نجمه عالياً، لكنه اضطر إلى الاستقالة من أمانة الحزب العامة عام 1965م بعدما عارضه حزبيون من رفاقه.
وما أن وقع الانقلاب عام 1966م بقيادة البعث، حتى لجأ في آخر لحظة إلى لبنان بتاريخ 23/2/1966م، وبقي فيه حتى تموز 1968م وهو التاريخ الذي استولى فيه مؤيدوه مجدَّداً على السلطة في بغداد، فانتقل إليها، وتولى حتى مماته الأمانة العامة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، ينوب عنه فيها الرئيس صدام حسين().
وفاته: توفي قبل حرب الخليج في باريس بتاريخ 24 حزيران (يونيو)().
الأرثوذكسية من الطوائف المسيحية المشهورة. انظر: دراسات في اليهودية والمسيحية، للدكتور: محمد ضياء الرحمن الأعظمي (ص473).
انظر: حزب البعث تاريخه وعقائده، لسعيد الغامدي (ص12).
انظر: حزب البعث (ص13).
الأستاذ: قصة حياة ميشيل عفلق، لزهير المارديني (ص193-195)، بتصرف. وانظر: دليل الإعلام والأعلام (ص516).
انظر: تتمة الأعلام، لمحمد خير رمضان يوسف (2/196). وللمزيد من ترجمته ينظر: الأستاذ: قصة حياة ميشيل عفلق، وميشيل عفلق لذوقان قرقوط، و عفلق والبعث: نصف قرن من النضال لجوزيف إلياس، ودولة البعث وإسلام عفلق: حقائق تاريخية وقضايا معاصرة لمطيع النونو.
3ـ مقومات الحزب ودعائمه:
قال ميشيل عفلق: "إن التفكير في البعث العربية يقوم على ثلاث دعائم هي: الحرية، والاشتراكية، والوحدة العربية. فالتنظيم يقوم على أساس الجيل الجديد الذي يمثل الوعي وقوة النفس والإرادة والعقيدة.(/1)
والإيمان بالاشتراكية وحدها يتطلب الانفصال عن الأوضاع الرجعية، فكيف إذا دعمناها بجناحين لا يقلان عنها قيمة هما الحرية والوحدة العربية؟!"().
أ- الوحدة:
- مفهوم الوحدة:
الوحدة في العقيدة البعثية أمر لا بد منه، ولا مفرّ من الوصول إليه من خلال الطابور الخامس في الأقطار العربية، وهم كل بعثي وقومي وعلماني وإباحي من الكتّاب والمثقفين والصحفيين وذوي المناصب، ممن يؤمن بفكرتهم ومنهجهم، أو يشاركهم في بعض المرامي والأهداف.
غير أن ما يطرحه البعث من أساليب لإيجاد الوحدة لا يتوقف عند هذا الحد، بل هناك أسلوب الانقلاب العسكري، وأسلوب الثورة المسلحة، وأسلوب التدخل العسكري البعثي المباشر؛ لإيجاد حكومات بعثية أو ضمّ الأقطار أو بعضها إليه، وأسلوب التحالفات السياسية والعسكرية والاقتصادية والتعليمية وغيرها، وأسلوب إقامة الوحدة بين البلدان العربية على أساس علماني إذا كان للبعث فيها وجود من خلال أفراده أو مؤيديه ومناصريه وإن لم يكن حاكماً؛ لأن في ذلك تمهيداً واضحاً لمبدأ الوحدة تحت سيطرة البعث وحكمه().
يقول ميشيل عفلق: "الوحدة هي أعمق من كل شيء، وهي قادرة على أن تصحّح الأخطاء، وما هذا الإصرار والاستعجال في تحقيق خطوة عملية نحو الوحدة إلا دليل على حاجة الأمة إلى أن تشق طريق الوحدة لأنه طريقة القوة، والوحدة ما زالت تحتاج إلى جيل يؤمن بها يناضل من أجلها، يتابع رسالته على الأسس الصحيحة على المبادئ الديمقراطية والاشتراكية لكي يجد فيها الشعب ما يطمح إليه... وما زالت تحتاج إلى جيل يؤمن بها مناضل يخلق وعيها وينمي نضالها ويكافح عقلية التجزئة ورواسبها، والمصالح الآنية للتجزئة.
إن السبيل إلى جعل الوحدة وحدة شعبية اشتراكية ديمقراطية هو الإيمان بها وتبنيها والعمل لها لا الخوف منها وتركها للصدف والظروف. ولا يتم لنا بعث عربي حقيقي إذا لم توحّد جميع أقطارنا"().
وقال أيضا: "إن الوحدة هي شرط لازم للنضال الشعبي التحرري ضد الاستعمار وضد الاستغلال، فثورة الوحدة إن لم يتبناها الشباب العربي الثوري ويخلقوا فكرتها خلقاً وينمو وعيها ويُخلصوا لنضالها فإنها ستبقى مادة للتضليل، وبالتالي لن ينجح لا النضال التحرري ولا الاشتراكي.
إنها الوحدة الثورية في هذا العصر، وحدة تنهض على أكتاف الجماهير، وتمتزج بالنضال الاشتراكي"().
ويقول أيضا: "فكرة الوحدة العربية هي الفكرة الانقلابية بالمعنى الصحيح، لا يدانيها في انقلابيتها التحرر من الاستعمار على ما فيه من جدية وقسوة، ولا التحرر الاجتماعي الاشتراكي الذي يصدم في المجتمع أضخم المصالح وأقوى العادات والنظم"().
- غاية الحزب من الوحدة:
يقول ميشيل عفلق: "إن استكمال صورة البناء الاشتراكي للمجتمع لا يمكن أن يتم إلا في إطار الوطن الكبير، ولكن كل خطوة يسيرها القطر نحو البناء الاشتراكي هي خطوة نحو الوحدة العربية.
والوحدة العربية التي تتحقق من خلالها الاشتراكية العربية هي التي تسوغ للاشتراكي العربي أن يقول: (اليوم أكملت لكم اشتراكيتكم)"().
ب- الحرية:
- مفهوم الحرية:
كلامهم في المجال السياسي عام ومبهم ومتناقض، وواقعهم أبعد ما يكون عنها. أما في المجال الديني والاجتماعي فيصرحون بحرية التدين وحريّة المرأة().
يقول عفلق: "الحرية على كل اتساعها وأبعادها: التحرر من الاستعمار، ومن الأجنبي ونفوذه واستغلاله بكل أشكاله، والتحرر في الداخل الذي يشمل النواحي السياسية والاجتماعية والفكرية"().
جاء في موسوعة العراق الحديث ما نصه: "إن النضال العسكري ضروري للحرية حتى ولو أدى ذلك إلى التدخل في أي بلد عربي يرزخ تحت أي سياسة غير السياسة البعثية"، وتقرر الموسوعة أن النظام البرلماني هو طريقة برجوازية ومناقضة للحرية، وأن الحكم الديني ـ الثيوقراطية ـ تخلف ورجعية().
وجاء فيها عن حرية المرأة: "إن المجتمع الاشتراكي هو وحده الذي يوفر ظروفاً موضوعية لتحرير المرأة على نحو سريع وجذري.
إن الحزب والسلطة الثورية يجب أن يعملا على مكافحة السلبية تجاه المرأة، وأن يعملا على تصفية آثار الأفكار الرجعية"().
ويقول ميشيل عفلق: "البعث العربي: حركة قومية تتوجه إلى العرب كافة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وتقدس حرية الاعتقاد، وتنظر إلى الأديان نظرة مساواة في التقديس والاحترام"().
إن حرية الاعتقاد ونظرة المساواة بين الأديان لديهم ليست إلا لنزع عقيدة الإسلام من نفوس المسلمين، لأن العرب ليس لهم ديانة إلا الإسلام، وإن وجدت بعض البثور النصرانية واليهودية فهي لا تشكل شيئاً بالنسبة لأعداد المسلمين. إنّ الإسلام هو المستهدف بهذا الكلام الكفري المناقض تمام المناقضة لصريح القرآن الكريم().(/2)
ويقول أيضا: "الرسالة العربية إيمان قبل كلّ شيء، ولا يعيبها هذا أو ينقص من قدرها، فالحقيقة العميقة الراهنة هي أن الإيمان يسبق المعرفة الواضحة، وأن من الأشياء ما هو بديهي لا يحتاج إلى براهين ودراسات، إنه يدخل القلب ويمتلك العقل دفعة واحدة"().
إذن الحرية الاعتقادية للأمة العربية ينادي بها البعث إذا كان الكلام عن الدين والعرب ليس لهم سوى دين الإسلام، أما إذا كان الكلام عن العقيدة البعثية القومية الاشتراكية فإن حرية الاعتقاد والانتماء تتلاشى، ويصبح الكلام حينئذٍ عن الحتمية القومية والرسالة البعثية الخالدة، والقدر القومي الاشتراكي اللازم().
- مهزلة الحرّية عند الحزب:
جاء في المادة رقم (200) من قانون العقوبات العراقي، وهي خاصة بعقوبة القتل ما يلي:
- كل من ينتمي إلى حزب البعث الاشتراكي إذا أخفى عن عمد انتماءاته وارتباطاته الحزبية والسياسية السابقة.
- كل من انتمى أو ينتمي إلى حزب البعث العربي الاشتراكي إذا ثبت أنه يرتبط أثناء التزامه الحزبي بأي جهة حزبية أو سياسية أخرى، أو يعمل لحسابها أو لمصلحتها [التعديلات التي أدخلت على المادة (200) من قانون العقوبات العراقي في عام 1974م].
- كل من كسب إلى أي جهة حزبية أو سياسية شخصاً له علاقة تنظيمية بحزب البعث العربي الاشتراكي، أو كسبه إلى تلك الجهة بعد انتهاء علاقته بالحزب بأي شكلٍ من الأشكال، وهو يعلم بتلك العلاقة().
- بعض الحقائق عن هذه الحرية المزعومة من قتل وتعذيب وتصفية:
مارس الحزب عملية القتل والتعذيب والسجن في أفراد الحزب نفسه، وفي الناس عامة.
قُتل 22 من رفاقهم وأعوانهم في الحزب وأكثر، وقد ورد أن أعداداً كبيرة من المدنيين الأكراد، من بينهم نساء وأطفال، مصابون بجروح نتيجة لهجمات كيميائية شنتها قوات الحكومة عام 1987م، وفي وقت سابق من هذا العام احتجزوا وأن الكثيرين منهم أعدموا في وقت لاحق، وفي شهر آذار مارس من هذا العام عدة مئات من الأشخاص ربما يبلغ عددهم أربعمائة شخص اعتُقلوا وهم في طريقهم إلى مدينة السليمانية سعياً وراء العلاج الطبي للجروح التي أنزلتها بهم القوات العراقية باستعمالها الأسلحة الكيميائية في منطقة قرداغ بمحافظة السليمانية، وأخذوا في معسكر تانجروا على مسافة 4 كيلومترات خارج المدينة، وأُعدموا رمياً بالرصاص في 2 نيسان أبريل.
وفي حادث آخر وقع في منتصف نيسان أبريل 1987م في أعقاب هجوم كيميائي على وادي باليسان في محافظة أربيل، نقل إلى مستشفيات أربيل للعلاج نحو 360 شخصاً من قرية شيخ وسانان أصيبوا بجروح نتيجة للهجوم.
وفي تشرين الأول أكتوبر 1985م ورد أن ما يزيد على 300 كردي قتلوا في مدينتي السليمانية وأربيل، وجرى صفهم وقتلهم رمياً بالرصاص، وأن آخرين دُفنوا أحياء أو فارقوا الحياة.
واعتُقل 15 طالباً وأُعدموا رمياً بالرصاص علانية في أربيل، ولدى منظمة العفو الدولية أسماء 46 كردياً، بينهم ثمانية أطفال، كانوا بين حوالي 150 سجيناً ذكر أنهم أعدموا في سجن أبو غريب في بغداد خلال اليومين الأخيرين.
وورد أن ما يربو على 6000 شخص، أعلبيتهم من المدنيين العزل، قتلوا عمداً على أيدي قوات الحكومة، كما وردت معلومات عن قتل مئات آخرين عمداً خلال عام 1987م، وكان كثيرون من هؤلاء ضحايا إعدامات خارجة عن نطاق القضاء.
وورد أن حوالي 400 مدني كردي بينهم نساء وأطفال أعدموا في 2 نيسان إبريل في معسكر تانجروا العسكري بمحافظة السليمانية، وقُتل عمداً ما يقدر عددهم بحوالي 5000 شخص في 16 و17 آذار مارس، وأُصيب آلاف غيرهم بجروح ناجمة عن هجمات بالأسلحة الكيماوية شنتها القوات العراقية على بلدة حلبجة بمحافظة السليمانية بعد دخول قوات المعارضة الكردية إلى البلدة.
وهناك أرقام كثيرة وإحصاءات مثيرة غير ما هو مذكور، وما خفي فهو أعظم، كان الضحية في تلك التصفيات أناس أبرياء لا حول لهم ولا قوة().
قام صدام حسين بقتل 47 عالماً وداعية نشرت أسماؤهم في تقارير منظمة العفو الدولية، وعلى رأسهم الشيخ عبد العزيز البدري من أهل السنة، واغتيل عدد كبير من العلماء الذين أرسلهم للتفاوض مع مصطفى البرزالي الزعيم الكردي، حيث أجبرهم على ارتداء ملابس مفخخة انفجرت فيهم، وقتلت عدداً كبيراً منهم.
أما التعذيب فلونٌ آخر من ألوان القمع، لقد جلب العراق من وسائل التعذيب في سجون ومعتقلات بلاده ما تقشعرّ لهوله الأبدان، وعرف عن جلاودته أنهم يلجؤون إلى الوسائل البشعة التالية:
1- ثقب الآذان بآلة كهربائية.
2- قطع جسد السجين نصفين بالمنشار الكهربائي.
3- إرغام السجين أو المعتقل على السير حافي القدمين على سلالم مغطاة بالزجاج المكسر حتى تنزف قدماه دماً غزيراً وعندما يصل المعتقل إلى آخر درجة من السلم يصعقه تيار كهربائي.
4- يضربون المعتقل أو المسجون بالأسلاك الكهربائية والأنابيب البلاستيكية، ويغطسونه في المياه القذرة، ويرشونه بالماء الحار ثم بالماء البارد.(/3)
5- يعلقونه بمراوح السقف ثم يطلقون التيار الكهربائي، ويكوونه بالسجائر المشتعلة والمسامير المحماة في النار.
6- يترك السجين لعدة أيام بدون طعام أو شراب ثم يقدمون له كوباً من الماء المثلج، فإذا هم بشربه لقي ضربة قوية تحطم الكوب الزجاجي على شفتيه وأسنانه، فتتحطم أسنانه ويمتلئ فمه بقطع الزجاج المكسور.
7- إحضار أقارب المتهمين من الزوجات والأخوات والبنات، واغتصابهن أمامهم، لكي يرغموا المتهمين على الاعتراف بما اقترفوه وما لم يقترفوه().
وقد أصدر صدام أوامره بإحالة الكثيرين من أساتذة الجامعات من أصحاب الأفكار المتحررة إلى التقاعد، ثم قدّمهم إلى المحاكمة، وصدرت بحقهم أحكام مختلفة بعد طردهم من وظائفهم، وتحديد إقاماتهم، أو سجنهم لفترات طويلة.
وأصدر أوامره أيضاً بإغلاق مئات المساجد في العراق؛ لمجرد أن الشباب المسلم يلتقي فيها.
وأمر أيضاً بمحاربة الكتاب الإسلامي، وعدم السماح به في المكتبات العامة، وفي تعليل ذلك يقول سعدون حمادي: أسهل على الرقيب أن يمنع من أن يجيز؛ لأنه إذا منع مائة كتاب فإننا لن نحاسبه، ولكنه عندما يجيز كتابًا وتظهر فيه كلمة ممنوعة فيمكن أن تقوم القيامة().
ج- الاشتراكية:
- مفهوم الاشتراكية:
قال ميشيل عفلق: "القومي العربي يدرك أن الاشتراكية هي أنجع وسيلة لنهوض قوميته وأمته"().
وقال أيضاً: "حزب البعث العربي الاشتراكي اشتراكيّ يؤمن بأن الاشتراكية ضرورة منبعِثة من صميم القومية العربية؛ لأنها النظام الأمثل الذي يسمح للشعب العربي بتحقيق إمكانياته، وتفتح عبقريته على أكمل وجه"().
وفي المجال الاقتصادي قالوا: "حزب البعث العربي الاشتراكي اشتراكي يؤمن بأن الثروة الاقتصادية في الوطن ملك للأمة"().
يقول ميشيل عفلق: "فتحقيق الاشتراكية في حياتنا شرط أساسي لبقاء أمتنا ولإمكان تقدمها"().
يترتب على ذلك مسخ حقيقة الإرث الذي شرعه الله سبحانه وتعالى.
جاء في موسوعة العراق الحديث: "أما الإرث فإن اشتراكية البعث تعترف به لكونه يرمز للصلة الروحية بين الأجيال، مما يبقي على الجوّ النفساني الذي ألفه الإنسان وعلى روابطه العاطفية، وذلك يقوي الروابط الاجتماعية ويحفظ للعائلة تماسكها ويغذي جوها الروحي والاجتماعي، ولكنها ترى أيضاً أن الإرث يؤدي إلى ترسيخ تفاوت الفرَص أمام الأفراد، وإلى استمرار الطبقية من جيل إلى الجيل الذي يليه، وإلى الحصول على دخل بدون القيام بأيّ جهد، لذلك تحدّده بشكل صارم وتجعله في كثير من الأحيان رمزياً لمنع الأبناء من عيش البطالة والكسل غير المنتج والفساد، ونسبة الإرث المباح تحدّدها الدولة بقوانين تناسب الظروف، وهي على العموم تقتصر على وسائل الاستهلاك، ووسائل الإنتاج اليدوي التي يستطيع الابن وعائلته استعمالها بأنفسهم.
والخلاصة: يعترف بحق التملك وحق الإرث في حدود ضيقة جداً، لا تسمح بالاستغلال ولا تخل بانسجام المجتمع"().
- البعث والاشتراكية وجه واحد:
يقول ميشيل عفلق: "لو سئلت عن أسباب ميلي للاشتراكية لأجبت: إن ما أطمع به منها ليس زيادة في ثروة المعمل بل في ثروة الحياة.
إن الذي يظنّ الاشتراكية ديناً للشفقة مخطئ أيما خطأ، وما نحن رهبان نلوذ بالرحمة.
إذا سئلت عن تعريف للاشتراكية فلن أنشده في كتب ماركس ولينين، وإنما أجيب: إنها دين الحياة، وظفر الحياة على الموت"().
في سبيل البعث، لميشيل عفلق (ص43) بتصرف.
حزب البعث، للغامدي (ص56).
في سبيل البعث (ص196).
في سبيل البعث (ص193).
في سبيل البعث (ص205).
في سبيل البعث (ص265).
حزب البعث (ص48-49).
في سبيل البعث (ص264).
انظر: موسوعة العراق الحديث (2/406)
موسوعة العراق (2/410).
في سبيل البعث (ص174).
حزب البعث للغامدي (ص51).
في سبيل البعث (ص105).
حزب البعث للغامدي (ص52).
انظر حزب البعث للغامدي ص53.
انظر: حزب البعث (ص28-34).
انظر: الموسوعة الميسرة (1/481).
الموسوعة الميسرة (1/480). وللاطلاع على المزيد من الجرائم المرتكبة انظر: حقوق الإنسان في العراق من تقارير المنظمة العربية لحقوق الإنسان، تقديم أحمد رائف.
في سبيل البعث (ص285).
الموسوعة (2/411).
موسوعة العراق الحديث (2/411).
في سبيل البعث (ص292).
موسوعة العراق الحديث (2/415).
في سبيل البعث (ص17-19).
4 ـ مبادئ حزب البعث:
المبدأ الأول: وحدة الأمة العربية وحريتها:
العرب أمة لها حقها الطبيعي في أن تحيى في دولة واحدة، وأن تكون حرة في توجيه مقدراتها، ولهذا فإن حزب البعث العربي الاشتراكي يعتبر:
1- الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ، ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل شروط حياته منعزلاً عن الآخر.
2- الأمة العربية وحدة ثقافية، جميع الفوارق القائمة بين أبنائها عرضية زائفة، تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي.
3- الوطن العربي للعرب، ولهم وحدهم حق التصرف بشؤونه وثرواته ومقدراته.
المبدأ الثاني: شخصية الأمة العربية:(/4)
الأمة العربية تختص بمزايا متجلية في نهضاتها المتعاقبة، وتتسم بخصب الحيوية والإبداع وقابلية التجدد والانبعاث، ويتناسب انبعاثها دوماً مع نمو حرية الفرد، ومدى الانسجام بين تطوره وبين المصلحة القومية، ولهذا فإن حزب البعث العربي الاشتراكي يعتبر:
1- حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفنّ مقدسة، لا يمكن لأي سلطة أن تنتقصها.
2- قيمة المواطنين تقدر بعد منحهم فرصاً متكافئة بحسب العمل الذي يقومون به في سبيل تقدم الأمة العربية وازدهارها دون النظر إلى أيّ اعتبار آخر.
المبدأ الثالث: رسالة الأمة العربية:
الأمة العربية ذات رسالة خالدة تظهر بأشكال متجددة متكاملة في مراحل التاريخ، وترمي إلى تجديد القيم الإنسانية، وحفز التقدم البشري، وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم.
ولهذا كان حزب البعث العربي الاشتراكي يعتبر:
1- الاستعمار وكل ما يمت إليه عمل إجرامي يكافحه العرب بجميع الوسائل الممكنة، وهم يسعون ضمن إمكانياتهم المادية والمعنوية إلى مساعدة جميع الشعوب المناضلة في سبيل حرّيتها.
2- الإنسانية مجموع متضامن في مصلحته، مشترك في قيمه وحضارته، فالعرب يتغذون من الحضارة الإنسانية ويغذونها، ويمدون يد الإخاء إلى الأمم الأخرى، ويتعاونون معها على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع الشعوب الرفاهية والسلام والسمو في الخلق والروح().
الحركات القومية العربية (ص34-35).
5 ـ عقائد حزب البعث:
1- البعث حركة عقائدية:
والعقيدة عندهم هي حصيلة الدراسة العلمية للتاريخ للقوى الفاعلة فيه، وصاحب العقيدة مضطر إلى أن يطور عقيدته ـ أي قوانينه ـ مع تطور التاريخ.
فالبعث عقائدي، ولكنه ليس مذهباً جامداً.
البعث ينطلق من أن العالم بشكل عام والتاريخ بشكل خاص حركة دائبة.
والحركة هي نتيجة تصارع قوى، وليست مجرد تصاعد مستمر.
2- البعث حركة نضالية:
نضال البعثي نابع من وعيه للتاريخ، ومن كونه قوة فاعلة فيه، لا متفرجاً على أحداثه.
ونضاله عقائدي، بمعنى أن نضاله ليس أعمى، بل يسترشد بتجارب الإنسان الماضية، فيدرك غايات نضاله، ويدرك وسائل نضاله، ويستعملها، والنضال عندهم يعمّق معنى العقيدة ويوضّحها ويطوّرها.
وواجب الحزب الأول تنظيم الشعب، وتعبئته حول العقيدة التاريخية السليمة، واستنفار قواه وتحريكها ثورياً من أجل المشاركة الفعالة في الثورة.
3- البعث حركة ثورية:
الثورة هي رفض لوضع، وانفتاح على نقيضه.
والثورة تستهدف بناء مجتمع عربي موحد، تسوده علاقات اجتماعية تقدمية، ويختفي فيه الاستغلال الطبقي، وتتفتح فيه طاقات الجماهير.
من خلال ثورتها على وضع تاريخها تحقق ثورة في ذاتها، فتحقق ذاتاً جديدة، مبدعة خلاقة، منصهرة في حركة التاريخ.
4- البعث حركة جماهيرية:
كل ثورة لا تكون الجماهير أداتها ثورة ناقصة ثورة فوقية.
كل ثورة لا يكون الجماهير غايتها ثورة محرفة ثورة كاذبة.
5- البعث حركة قومية:
في النضال ضد الاستعمار الواضح الهوية يجب أن تتضح هوية المناضل.
يؤمن بوحدة الأمة، ووحدة اللغة والتاريخ والأرض كانت الأساس الذي بنيت عليه وحدة الأمة العربية.
6- البعث حركة اشتراكية:
الاشتراكية مصير حتمي.
الاشتراكية ليست مجرد نظام اقتصادي يتحقق في مستقبل الأيام، إنها قبل ذلك وعي على القوى الفاعلة في المجتمع، ووعي على مكان هذه القوى من المعركة القومية.
الإيمان بالاشتراكية إذن ليس إيماناً بالمستقبل، بل هو إيمان اليوم، إيمان في قلب المعركة.
7- البعث حركة إنسانية:
البعث حركة عربية لا عالمية، قومية لا أممية، ولكنه حركة تقدمية، ترفض الاستعمار، والتخلف فكرياً ونضالياً.
لذلك فالبعث يعي معنى التحالف الطبيعي بينه وبين جميع قوى الثورة والتقدم والاشتراكية في كل أنحاء العالم.
8- البعث ثورة شاملة:
الهدف الأساسي للبعث هو تحريك قوى التاريخ التقدمية في الوطن العربي تحريكاً ثورياً يحقق من خلال النضال ضد الاستعمار والتجزئة والتخلف.
خلق أمة عربية واحدة تضمها دولة عربية واحدة، في مجتمع اشتراكي متقدم، تستعمل فيه الجماهير كل طاقاتها، وتتمتع بحرياتها.
ومن هنا كان شعار البعث: وحدة، حرية، اشتراكية().
وملخّص عقيدة حزب البعث ما يلي:
1- يجعل حزب البعث الاشتراكية ديناً، والعلمانية اللادينية مسلكاً ومنهجاً.
2- يجعل حزب البعث الرابطة بين العرب رابطة الدم والقرابة واللغة والتاريخ والأرض، ويلغي تماماً رابطة الدين والتقوى بحجة أنها تمزق الأمة.
3- يدعو الحزب إلى تحرير الإنسان العربي من الرجعية والخرافات والغيبيات، ويريدون بذلك الإسلام.
4- يرى حزب البعث أن الحركات الإسلامية والمؤسسات الإسلامية والشخصيات الإسلامية والتي تدعو إلى تطبيق شرع الله والدول التي تحكم بالإسلام عقبات يجب التخلّص منها من أجل بناء المستقبل العربي.(/5)
5- يرى حزب البعث أن الوحدة العربية حقيقة حتمية لا بدّ من تحقيقها بالانقلاب والثورة والعدوان العسكري، والاحتواء التنظيمي للشخصيات السياسية والعسكرية المؤثرة، أو الشخصيات ذات النفوذ الثقافي والمكانة الثقافية، وبناء على حتمية الوحدة العربية عنده فإنه يرى أن الوحدة الإسلامية حلمٌ وهراء، وأسلوب عدائي ضد القومية العربية.
6- يرى حزب البعث أن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم وشخصياته البارزة إنما هم شكل من أشكال التعبير عن القومية العربية.
7- يرى حزب البعث أن الإسلام مجرد قيم روحية وشعائر عبادية لمن أراد ذلك.
8- يقول حزب البعث: إن العروبة هي ديننا نحن العرب من مسلمين وغيرهم؛ لأن العروبة وجدت قبل الإسلام والمسيحية، ويجب أن نغار عليها كما يغار المسلمون على قرآن محمد، والنصارى على إنجيل المسيح.
9- يترسم حزب البعث الخطوات الماركسية في الأفكار والممارسة، والخلاف بينهما أن الماركسية أممية، وأما البعث فقومي، وما عدا ذلك فإن الأفكار الماركسية تمثل العمود الفقري في فكر الحزب ومعتقده.
10- يرى الحزب أن الحدود بين أجزاء البلدان العربية يجب أن تزول، وتقوم دولة العرب الواحدة بحكومة واحدة على أساس بعثي، وعلى قيادة علمانية.
11- كان الحزب ولا يزال واجهة انضوت تحته كل الاتجاهات الطائفية المعادية للإسلام درزية ونصيرية وإسماعيلية ونصرانية، وأخذ هؤلاء يتحركون من خلال حزب البعث بدوافع باطنية، يطرحونها ويطبقونها تحت شعار الوحدة والحرية والاشتراكية والقومية والثورية والتقدمية.
12- لافتة حزب البعث هي: "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، ويعنون بالرسالة الخالدة أن الأمة العربية ذات رسالة تظهر بأشكال متجددة متكاملة في مراحل التاريخ، وأنه مرة عبّرت عن نفسها بشريعة حمورابي، ومرة بالشعر الجاهلي، ومرة بعبقرية محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإسلام لا يعدو أن يكون نبتة ظهرت في أرض القومية العربية().
ألف باء البعث، لمنيف الرزاز (3/149-162/ضمن أعماله الفكرية والسياسية) بتصرف.
حزب البعث (ص112-113).
6ـ دستور حزب البعث:
لم يكتف حزب البعث بطرح العلمانية مبدأ للحكم؛ بل جعلها مطبقة في دستوره، ونلاحظ في الدستور البعثي ما يلي:
1- انطلق الحزب في دستوره من منطلق كافر يتمثّل في العلمانية والاشتراكية.
2- انسلخ الحزب في دستوره من الإسلام تمام الانسلاخ.
3- مبادئ الدستور ليست مخالفة لشرع الله فحسب؛ بل مناقضة له تمام المناقضة().
وهذه مقتطفات من دستور الحزب:
المادة الأولى: العراق جمهورية ديمقراطية شعبية ذات سيادة، هدفه الأساسي تحقيق الدولة العربية الموحدة، وإقامة النظام الاشتراكي().
المادة الثانية عشرة: تتولى الدولة تخطيط وتوجيه وقيادة الاقتصاد الوطني بهدف:
أ - إقامة النظام الاشتراكي على أسس علمية وثورية.
ب - تحقيق الوحدة الاقتصادية العربية().
المادة التاسعة والثلاثون: يؤدي رئيس مجلس قيادة الثورة ونائبه والأعضاء أمام المجلس اليمين التالية:
أقسم بالله العظيم وبشرفي ومعتقدي أن أحافظ على النظام الجمهوري، وألتزم بدستوره وقوانينه لتحقيق أهدافه العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية().
حزب البعث (ص76).
العراقي الاشتراكي، للدكتور: مجيد خدوري (ص295).
العراقي الاشتراكي (ص299).
العراقي الاشتراكي (ص310).
7 ـ العلاقة بين حزب البعث والعلمانية:
يقول ميشيل عفلق: "الدين في الأوضاع الحاضرة هو الذي يخلق المشكلة، وهو الذي يساعد على بؤسهم وعبوديتهم"().
ويقول أيضاً: "المشكلة الدينية هي بلا شك من أبرز المشكلات في المجتمع العربي الحديث، لذلك لا يعقل أن يتجاهل حزبنا وأن يتهرب من إيجاد الحلول لها"().
وقال: "وكان التفكير السطحي قبل ظهور حركتنا يوحي أو يوهم بوجود التضادّ بين القومية وبين هذا التراث الروحي بحجة الحرص على العلمانية، ولكن وجدنا أن لا تعارض بين العلمانية وبين الاعتراف بما يغذي روح حضارتنا من تجارب ماضي شعبنا الغنية، فكانت هذه النظرة الجديدة إلى تراثنا القومي نظرة حية واقعية عميقة، أرجعت إلى نفوس الشباب الاستقرار الذي فقدوه زمناً وصالحتهم مع ماضي أمتهم دون أن تجمدهم في هذا الماضي"().
وقال أيضاً: "فالدولة إذن تقوم على أساس اجتماعي هو القومية، وأساس أخلاقي هو الحرية.
إن هذه الدولة بهذا المعنى ليست إلاّ إمعاناً في الحرص على اتجاهها الروحي والأخلاقي"().
في سبيل البعث (ص122).
في سبيل البعث (ص125).
في سبيل البعث (ص192).
في سبيل البعث (ص175).
8 ـ العلاقة بين حزب البعث والشيوعية الماركسية:
لما فكر عفلق في تأسيس حزب البعث وجد أن رفاقه من الشيوعيين قد سبقوه في التأسيس والانتشار، وأنهم قد أصبح لهم من الوجود ما يحسب له حسابه، فما الموقف الفكري والعملي الذي اتخذه البعثيون من الشيوعيين فكراً وتنظيماً؟(/6)
الواقع يثبت أن البعث قد أخذ كثيراً من الأفكار الشيوعية ونادى بها وجعلها أساساً لعقيدة، وإن كان قد حاول أن يلوّن هذه الأفكار بلونٍ قومي، وأن يلبسها عقلاً عربياً فوق القبّعة الغربية.
وطبيعي أن يتبنى البعث هذه الأفكار الماركسية ويدعو إليها تحت صبغة أخرى غير الصبغة اللينينية السْتالينية"().
ذلك أن ميشيل عفلق يبتدئ تاريخه الفكري بماركس، كما يقول البعثيون، وأن البعثيين عندما يذكرون ريادة ميشيل عفلق في ندواتهم فإنهم كانوا يرددون: "إن تاريخ ميشيل عفلق الحقيقي هو تاريخه الفكري، لقد التقى على الانسجام والوفاق أخصب تيارات الفكر الإنساني من ماركس إلى نيتشه، ومن جيد إلى دستويفسكي وأهرنبورغ"().
ويمكن إجمال القضايا التي اشترك فيها البعث مع الماركسية فيما يلي:
1- العلمانية: وهي فصل الدين عن الحياة، وإن كان الماركسيون ينكرون الأديان أصلاً ويحاربونها صراحة، بينما يتبنى البعث أسلوباً آخر لمحاربة الدين الإسلام.
2- الجدلية الديالكتيكية.
3- الثورية.
4- الحتمية، لكنها عند الماركسيين أممية، أما عند البعث فهي قومية عربية.
5- الاشتراكية، وهي كذلك أممية عند أولئك، وقومية عربية عند هؤلاء.
أما في الممارسة فإن أوجه الشبه كثيرة جداً، وأظهرها الفتك والدموية بين أعضاء الحزب الواحد، والسفك المتواصل بين الرفاق، ومن أقرب الأمثلة إعدام صدام لرفيقه ووزير دفاعه حردان التكريتي وأعوانه.
وما حصل بين الرفاق الشيوعيين في عدن عام 1986م بين أنصار عبد الفتاح إسماعيل، وأنصار علي ناصر محمد.
ومن أوجه الشبه في الممارسات بين البعث والشيوعية الاضطهاد للشعوب التي يحكمونها، وانعدام الحرية في البلدان التي يتسلّطون عليها، بيد أن هناك أوجه افتراق بين البعثية والشيوعية().
حزب البعث (ص85).
الأستاذ: حياة ميشيل عفلق (ص88).
حزب البعث (ص86-87).
9 ـ موقف حزب البعث من الإسلام:
انتقد ميشيل عفلق الماركسيين في هجومهم على الدين؛ ذلك لأنه يرى أنه بالإمكان توظيف الدين لحساب مآربهم وأهدافهم.
يقول: "والفهم السطحي هو أن نستنتج بسرعة بأنه مادام مظهر الدين في هذا الوقت وما دام ممثلو الدين الرسميون هم في صفّ الواقع الفاسد، وليسوا في صفّ الثورة على الفساد؛ فإذن الدين من أساسه فاسد، ولا وجود له، ولا خير فيه، ولذلك يجب التخلّص من الدين؛ لأنه سلاح بيد الظالمين والمفسدين.
هذه هي النظرة السطحية والاستنتاج الخاطئ جداً، وهذه هي النظرة التي توقف عندها الشيوعية، ولذلك فالشيوعية ليست عميقة في كل نواحيها، ولو أنها في كثير من نواحيها جدّ عميقة"().
ويقول: "ونحن لا نرضى عن الإلحاد، ولا نشجع الإلحاد، ونعتبره موقفاً زائفاً في الحياة، موقفا باطلاً وضاراً وكاذباً، إذ إن الحياة معناها الإيمان، والملحد كاذب، إنه يقول شيئاً ويعتقد شيئاً آخر، إنه مؤمن بشيء مؤمن ببعض القيم، ولكننا ننظر للإلحاد كظاهرة مرضية يجب أن تعرف أسبابها لتداوى، ولا ننظر إليه كشرٍ يجب أن يُعاقب، لأن الملحد إنسان متناقض، يدّعي شيئاً ويعمل خلافه، فالثورة على الدين في أوربا هي دين، هي إيمان بمثل وبقيم إنسانية رفيعة"().
ومن هذا المقال يتبين لنا ما يلي:
1- أن مراده بالإلحاد هو إنكار وجود الله، وعلى ذلك فالبعث يؤمن بوجود الله سبحانه، وأنه الخالق المدبر للكون، هذا على أحسن التأويلات.
2- أن حقيقة الدين تتمثل في الإيمان بالمُثل والقيم الإنسانية الرفيعة ليس غير، وعلى ذلك فإذا تدين الإنسان بالعلمانية أو البعثية وهو يحمل قيمها ومُثُلها فهو مؤمن بدين، ولذلك قال عفلق بأن الثورة على الدين في أوربا هي دين وإيمان().
ويرى عفلق أن الدين عند العرب شيء أساسي، وغير عارض، وأنه يمتلك في حسّ العرب تاريخاً طويلاً وأثراً بعيداً، ولذلك أوجدوا له الحلول المفيدة بحيث لا يصطدم الحزب بالدين الإسلامي فيخسر كما خسرت الأحزاب الماركسية.
يقول عفلق: "المشكلة الدينية هي بلا شك من أبرز المشكلات في المجتمع العربي الحديث، لذلك لا يعقل أن يتجاهلها حزبنا، وأن يتهربّ من إيجاد الحلول لها... هل الدين شيء ثانوي؟ إن الحزب لا يرى هذا، بل يرى أن الدين تعبير صادق عن إنسانية الإنسان، وأنه يمكن أن يتطور ويتبدّل في أشكاله وأن يتقدّم أو يتأخّر ولكنه لا يمكن أن يزول.
إذن؛ فالدين في صميم القضية العربية والمواطن العربي الذي نعمل لتكوينه... فنحن مع تبنّينا للنظرة السلبية إلى الدين، أي: رغم معرفتنا الطريقة الرجعية التي استخدم الدين بها ليكون داعماً للظلم والتأخر والعبودية، نثق رغم ذلك بأن الإنسان يستطيع أن يثور على هذه الكيفية في استخدام الدين. ونحن لا نجهل بأنّ نظرتنا هذه تتطلب من الجهد والحذر أضعاف ما تتطلبه النظرة الشيوعية"().
والإسلام الذي يريده الحزب باختصار:(/7)
1- يعتبر البعثيون الإسلام فترة من فترات القومية العربية، ومرحلة من مراحل تعبيرها عن نفسها، وأنه ليس سوى نبتة ظهرت في التربة القومية لتكون مشخصة لآمال وآلام العروبة().
يقول ميشيل عفلق: "هذه الأمة التي أفصحت عن نفسها وعن شعورها بالحياة إفصاحاً متعدداً متنوعاً في تشريع حمورابي، وشعر الجاهلية، ودين محمد، وثقافة عصر المأمون"().
ويقول: "لقد أفصح الدين في الماضي عن الرسالة العربية التي تقوم على مبادئ إنسانية"().
ويقول: "فرسالة الإسلام إنما هي خلق إنسانية عربية، إن العرب بنفردون دون سائر الأمم بهذه الخاصية، إن يقظتهم القومية اقترنت برسالة دينية، أو بالأحرى كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية"().
2- يعتقد البعثيون أن الإسلام مجرد قيم روحية، وإيمان وجداني، وشعور نفسي، ومُثُل عالية، وأنه يكفي الإنسان أن يؤمن بوجود الله، وأن تكون علاقته بالله علاقة فردية، كأن يصلي إذا أراد، أو يصوم أو يحج. أما أن يكون الإسلام حاكماً لحياة الناس وشؤونهم فتلك الجريمة الكبرى والرجعية والتخلف والظلامية().
يقول عفلق: "على المناضل العربي عندما يحارب الرجعية ويصمد أمام هجماتها وافتراءاتها وتهيجاتها وإثاراتها أن يتذكر دوماً أنه مؤمن بالقيم الإيجابية والقيم الروحية"().
ويقول: "وكان التفكير السطحي قبل ظهور حركتنا يوحي أو يوهم بوجود التضادّ بين القومية وبين هذا التراث الروحي، بحجة الحرص على العلمانية، ولكن وجدنا أن لا تعارض بين العلمانية وبين الاعتراف بما يغذي روح حضارتنا من تجارب ماضي شعبنا الغنية، فكانت هذه النظرة الجديدة إلى تراثنا القومي نظرة حية واقعية عميقة، أرجعت إلى نفوس الشباب الاستقرار الذي فقدوه زمناً، وصالحتهم مع ماضي أمتهم دون أن تجمدهم في هذا الماضي"().
3- يأخذ البعثيون من الإسلام ما يخدم عقيدتهم ويعين على نشرها بين المسلمين، تماماً كما فعلت حركات الزندقة المعاصرة كالقاديانية والبهائية، ويرون أن الإسلام قوة ضدّ الظلم والانحراف يمكن أن تستخدم هذه القوة في تأجيج الروح الثورية عند البعثيين أنفسهم، وعند عموم المسلمين، فهم من هذه الزاوية يعتبرون الإسلام قوّة ثورية ونضالية، وفق مفهومهم للثورة والانقلاب والنضال، ووفق مخططهم الساعي لاستخدام الإسلام في بثّ شعور الحماس والفاعلية في أوساط الناس().
يقول عفلق: "هل يفكر الشباب أن الإسلام عند ظهوره هو حركة ثورية ثائرة على أشياء كانت موجودة ومعتقدات وتقاليد ومصالح؟! وبالتالي: هل يفكرون بأنه لا يفهم الإسلام حق الفهم إلا الثوريون؟! وهذا شيء طبيعي؛ لأن حالة الثورة هي حالة واحدة لا تتجزأ، وهي حالة خالدة لا تتبدل، فالثورة قبل ألف سنة وقبل ألفي سنة وقبل خمسة آلاف سنة والآن وبعد ألوف السنين الثورة واحدة.
إن المدافعين الظاهرين عن الإسلام الذين يتظاهرون بالغيرة أكثر من غيرهم وبالدفاع عن الإسلام هم أبعد العناصر عن الثورة في مرحلتنا الحاضرة، لذلك لا يعقل أن يكونوا فهموا الإسلام، ولذلك من الطبيعي جداً أن يكون أقرب الناس إلى الإسلام فهماً وتحسساً وتجاوباً هو الجيل الثوري"().
في سبيل البعث (ص119).
في سبيل البعث (ص121-122).
حزب البعث (ص88-89).
في سبيل البعث (ص125-127).
حزب البعث (ص90).
في سبيل البعث (ص106).
في سبيل البعث (ص107).
في سبيل البعث (ص145).
حزب البعث (ص92-93).
في سبيل البعث (ص129).
حزب البعث (ص192).
حزب البعث (ص95).
في سبيل البعث (ص117) بتصرف.
عاشرًا: موقف الإسلام من حزب البعث:
قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
قال ابن كثير: "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم، المشتمل على كلّ خير، الناهي عن كل شر، وعدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم (الياسق)، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير"().
وقال أيضاً: "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر؛ فكيف بمن تحاكم إلى (الياسق) وقدّمه عليها؟! ومن فعل ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين"().(/8)
وقال ابن تيمية: "والإنسان متى أحلّ الحرام المجمع عليه، أو حرّم الحلال المجمع عليه؛ أو بدّل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً، باتفاق الفقهاء"().
وقال أحمد شاكر: "إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح لا خفاء ولا مداورة، ولا عذر لأحدٍ ممن ينتسب للإسلام ـ كائناً من كان ـ في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها"().
وقال محمد بن إبراهيم: "إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربيٍ مبين في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]"().
وقال محمد حامد الفقي: "من اتخذ كلام الفرنجة قوانين يتحاكم إليها في الدماء والفروج والأموال ويقدمها على ما علم وتبين له من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصرّ عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه أيّ اسم تسمّى به ولا أيّ عملٍ من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها"().
وقال عبد العزيز بن باز: "إن الدعوة إلى القومية العربية والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بدّ إلى رفض القرآن؛ لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية تخالف حكم القرآن حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام، وهذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردة السافرة.
وكل دولة لا تحكم بشرع الله ولا تنصاع لحكم الله فهي دولة جاهلية كافرة ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله"().
وقال أيضاً: "وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله أو أن غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحدٍ من الناس الخروج على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال"().
تفسير القرآن العظيم (2/67).
البداية والنهاية (13/19).
مجموع الفتاوى (3/267).
عمدة التفسير (2/172-174).
تحكيم القوانين (ص1).
التعليق على فتح المجيد (ص406).
نقد القومية العربية على ضوء الكتاب والسنة (ص50) بتصرف.
مجموع فتاوى ومقالات (1/274).
11 ـ أقوال الشيخ عبد العزيز ابن باز في النظام البعثي وحاكمه:
قال رحمه الله: "إن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تستنكر ما أصدرته الحكومة العراقية من القرارات الاشتراكية، وتضم صوتها إلى صوت علماء العراق وغيرهم من العلماء في إنكار النظام الاشتراكي، وتؤكد بأنه نظام كفري يصادم نظام الإسلام ويناقضه، وتنصح حكومة العراق بالرجوع إلى نظام الإسلام وتطبيقه في البلاد، لكونه أعدل نظام وأصلح تشريع عرفته البشرية، وهو كفيل بتحقيق العدالة الاجتماعية السليمة، وحل المشاكل الاقتصادية وغيرها، وإيصال حق الفقير إليه على وجه إذا أخلص المسلمون في تطبيقه.
والإسلام يحرم على المسلم دم أخيه وماله وعرضه، ويعطيه حرية التصرف الكامل في ماله في ظل الحكم الشرعي، وتصرح تعاليمه بأن ما يزعمه بعض الناس من أن النظام الاشتراكي مستمد من روح الإسلام زعم باطل، لا يستند لأي أساس من الصحة.
هذا وأسأل الله أن يهدي الجميع صراطه المستقيم"().
وسئل رحمه الله السؤل التالي:
تراكض البعض في مبايعة طاغية العراق لمجرد أنه رفع بعض الشعارات الإسلامية، بالرغم من ماضيه القبيح في حربه للإسلام وفتكه بالمسلمين، وبالرغم من استمرار حاضره على منواله المعروف، فهل تقبل الشريعة الإسلامية مبايعة طاغية سفاح يعلن الكفر منهجاً له لمجرد مدحه لبعض شعارات الإسلام؟ وما رأي الشريعة فيمن بايع أو أيد أو ناصر هذا الطاغوت؟
فأجاب: "لا ريب أن مبايعة مثل هذا الطاغوت ومناصرته من أعظم الجرائم، ومن أعظم الجناية على المسلمين، وإدخال الضرر عليهم؛ لأن من شرط البيعة أن يكون المبايع مسلماً ينفع المسلمين ولا يضرهم.(/9)
أما حاكم العراق فهو بعثي ملحِد، قد أضرّ المسلمين بأنواع من الضرر في بلاده، ثم اعتدى على جيرانه، فجمع بين أنواع الظلم علاوة على ما هو عليه من العقيدة الباطلة البعثية، ولو أظهر بعض الشعارات الإسلامية، فالمنافقون يصلّون مع الناس، ويتظاهرون بالإسلام وذلك لا ينفعهم لفساد عقيدتهم، وقد أخبر الله عنهم سبحانه في كتابه العظيم بصفاتهم الذميمة وأخلاقهم المنكرة، وأخبر أن مصيرهم هو الدرك الأسفل من النار يوم القيامة كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} [النساء:142-143]، وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ} [ النساء:145-146].
نسأل الله لحاكم العراق وأنصاره من الظالمين أن يردهم إلى الهداية، وأن ينقذهم مما هم فيه من الضلال، وأن يكفي المسلمين شرهم، وشر غيرهم، إنه خير مسؤول"().
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
مجموعة فتاوى ومقالات (7/394)، في برقية بعثها لفخامة الرئيس.
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7/387).(/10)
حسرات
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول.
وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
وسلم تسليما كثيرا.
(يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، أما بعد:
عباد الله، فأعلموا أن المتأملَ لحالنِا نحنُ المسلمين اليوم.
وحالِ زماننا وما ظهر فيه الآفاتِ والفتنِ، وما حصل فيه من انفتاحٍ كبيرٍ على الدنيا وزُخرُفها حتى ظن أهلها أنهم قادرون عليها، أو مخلدون فيها.
إن المتأملَ لذلك ليشعرُ بالرهبةِ والإشفاقِ والخوفِ الشديدِ من مظاهرِ وعواقبِ هذه الحال.
إذ قد قست منا القلوب، وتحجرت العيون، وهُجرَ كتابِ علامِ الغيوب.
بل قُرأ والقلوبُ لاهيةٌ ساهيةٌ في لُججِ الدنيا وأوديتُها سابحةٌ.
كيف لا وقد زينا غير متبعين جدرانَ بيوتنا بآياتِ القرآن، ثم لم نزين حياتَنا بالعمل بالقرآن.
يقرأه البعضُ غير مقتدينَ على الأموات، ثم لا يحكمونه في الأحياء.
بل جُعلت البركةُ في مجردِ حملهِ وتلاوته.
وتُركت بركتُه الحقيقيةُ المتمثلة في إتباعه وتحكيمه امتثالاً لقولِ الله تعالى:
(وهذا كتابُ أنزلناه مباركاً فأتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون).
غفلنا ولم نشعر أننا غفلنا وهذه لعمرُ اللهِ أدهى وأمرُ فينا.
كثُر القلق وغلبَ الهمُ والحزن، وصاحبَ ذلك الأرق.
مكرَ مكراً شديداً بالليلِ والنهار بأساليبَ ووسائلَ خبيثة ماكرةٌ تزينُ الفاحشة وتصدُ عن الآخرةِ.
فشت الفواحشُ والمظالم، ونيلَ من الأعراض، وأُكلتُ الأموال.
وظهرت صورُ صارخةِ من الحسد والبغضاء والفرقةِ والخلاف، حتى بين خبراءِ الفضلِ والإحسان. وعندها أستُضعِفَ المسلمون، وتبجحَ وتسلطَ الملحدون والمجرمون.
قلنا ولم نفعل أمام عدونا…….وعلى أحبتنا نقولُ ونفعلُ
قل الاهتمامُ والعنايةُ بركيزةِ الوعظِ والتذكير، كركيزةٍ تربويةٍ مؤثرةٍ مفيدة، فصرت تسمعُ من يقللُ من أهمية كتابٍ أو خطبةٍ أو محاضرةٍ، أو درسُ يركزُ على هذا الجانبِ.
فيقالُ هذا كتابُ وعظي، ومحاضرةُ وعظيه، ومقالٌ عاطفي وكبرت من كلمة:
إن صحَ أن الوعظَ أصبحَ فضلة……..فالموتُ أرحمُ للنفوسِ وأنفعُ
فلولا رياحُ الوعظِ ما خاض زورقُ………ولا عبرت بالمبحرين البواخرُ
عندها عُطلت طاقاتُنا الإيمانية،
وكيفَ يعيشُ في البستان غرس…….إذا ما عُطلت عنه السواقيَ
هبت رياحُ المعصيةِ فأطفأت شموعَ الخشيةِ من قلوبِنا.
وطال علينا الأمدُ فعلى القلوبَ قسوةً، كما قست قلوبُ أهلِ الكتاب فهيَ كالحجارةِ أو أشدُ قسوة.
أسأنا فهم الدينِ الذي هو سرُ تميُزَنا وبقاؤنا فشُغِلنا بالشكلِ عن الجوهر، وبالقالبِ عن القلب، وبالمبنى عن المعنى، بذكرياتُ مجيدةُ وتواريخَ تليدةُ نحتفلُ غالباً مبتدعين غير متبعين.
وأحيانا نهتمُ بطبعِ الكتب الشرعيةِ مفتخرين، ثم نتمردُ على مضمونِها هازئين.
حالُنا كالذي يقبلُ يدَ والدهِ ولا يسمعُ نصحه، إن هذا لهو البلاء المبين.
وإننا نخشى أن نصبحَ في زمرةِ من قال اللهُ فيهم:
( الذين اتخذوا دينَهم لهواً ولعبا، وغرتُهم الحياةُ الدنيا)
وأسوءُ ما تمرُ به أمةُ وأتعسُ ما تمرُ به أمة أن يصبحَ اللهوُ فيها دينا، والدينُ فيها لهواً ثم لا تسمعُ نصحا:
بُح المنادي والمسامعُ تشتكي صمماً……. وأصبحتَ الضمائرُ تشترى
تاهت سفائنُها بحراً ولا……………… هيَ في الشواطئ تظهرُ
لهذا كله كان لابد من الوقوفِ بعضِ مشاهدِ الحسرةِ في الأخرى لعل النفوسَ تستيقظُ وتخشعُ وتذلُ فتبادر إلى الحسنى، فما هناك من أمر هو أشد دفعا للنفوس إلى فعل الخير من أمر الآخرة، والوقوف بين يدي من له الأولى والآخرة، فكل ضعف من أسبابه الغفلة عن الآخرة، في ذكر اليوم الآخر سعادة وطمأنينة وسد منيع دون الهم والحزن وعدم السكينة، وعلى ما يحزن طالب الآخرة؟
على أمر حقير يفنى عما قريب؟
كلا، فالآخرة خير وأبقى.
المؤمن باليوم الآخر لا تؤثر فيه المصائب لأنه موقن أن المصائب إن لم تزل عنه زال عنها بالموت لا محالة، فلا تذهب نفسه على الدنيا حسرات.
ذكر اليوم الآخر يطهر القلوب من الحسد والفرقة والاختلاف.
ذكره يهدد الظلمة ليرعووا، ويعزي المظلومين ليسكنوا فكل سيأخذ حقه لا محالة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، فلا ظلم ولا هضم:
والوزن بالقسط فلا ظلم ولا…….يأخذ عبد بسوى ما عملا
ذكر اليوم الآخر يمسح على قلوب المستضعفين والمضطهدين والمظلومين مسحة يقين تسكن معه قلوبهم، ثم تثبت شماء وهي تتطلع لما أعده الله للصابرين من نعيم يُنسى معه كل ضر وبلاء وسوء وعناء.
وتتطلع لما أعده للظالمين من بؤس يُنسى معه كل هناء.(/1)
فهيا معي يا عباد الله إلى مشاهد من الحسرة أسأل الله أن لا تكونوا من أهل الحسرة.
عل ذلك أن تصلح معه القلوب، وتتجه إلى علام الغيوب وتنقاد الجوارح إلى العمل الصالح.
إنه يوم الحسرة:
ومما أدراك ما يومُ الحسرة، يومٍ انذرَ به وخوفَ، وتوعدَ بهِ وهدد، قال الله عز وجل :
(و أنذرهم يومَ الحسرةِ إذ قضيَ الأمرُ وهم في غفلةٍ وهم لا يؤمنون)
إنذارُ و إخبار في تخويفٍ وترهيبٍ بيومِ الحسرةِ حين يقضى الأمر، يوم يجمعُ الأولون والأخرون في موقفٍ واحد، يسألون عن أعمالهم.
فمن آمنَ و أتبع سعِدَ سعادةً لا يشقى بعدها أبدا.
ومن تمردَ وعصى شقي شقاءً لا يسعدُ بعده أبدا، وخسرَ نفسَهُ وأهلَهُ وتحسرَ وندِمَ ندامةً تتقطعُ منها القلوبُ وتتصدعُ منه الأفئدةُ أسفا.
وأيُ حسرةٍ أعظمُ من فواتِ رضاء الله وجنته واستحقاقِ سخطهِ وناره على وجهٍ لا يمكنُ معه الرجوعُ ليُستأنف العملُ، ولا سبيلَ له إلى تغييرِ حالهِ ولا أمل.
وقد كان الحالُ في الدنيا أنهم كانوا في غفلةٍ عن هذا الأمرِ العظيم، فلم يخطر بقلوبِهم إلا على سبيلِ الغفلةِ حتى واجهوا مصيرَهم فيا للندمِ والحسرة، حيثُ لا ينفعُ ندمُ ولا حسرة.
وأنذرهُم يومَ الحسرة، ( يوم يجاءُ بالموت كما في صحيح البخاري كأنه كبشُ أملح فيوقفُ بين الجنةِ والنار فيقال: يا أهلَ الجنةِ هل تعرفون هذا؟
فيشرأبون وينظرونَ ويقولون نعم هذا الموت.
ثم يقالُ يا أهل النارِ هل تعرفون هذا؟
فيشرأبون وينظرونَ ويقولون نعم هذا الموت.
قال، فيأمرُ به فيذبحُ، ثم يقال يا أهلَ الجنةِ خلودُ فلا موت، ويا أهلَ النارِ خلودُ فلا موت).
(وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون).
آه من تأوه حين إذٍ لا ينفع، ومن عيونٍ صارت كالعيون مما تدمع.
إنها حسرةُ بل حسرات، أنباءٌ مهولات، نداماتٌ وتأسفاتٌ ورد ذكرها في غير ما آية من الآيات تصدرُ عن معرضين عن الآيات ولاهين ولاهيات عن يومُ الحسرة والحسرات.
نذكر بعض منها في هذه الخطبة من رسالة (قل هو نبأ عظيم) بتصرف يسير.
إنها تذكرةٌ وعظات، علنا أن نحاسبَ أنفسِنا ما دمنا في مهلةٍ من أعمارٍ وأوقات وقبلَ أن نندمَ حيث لا ينفعُ ندمُ ولا حسرات.
فمن هذه الحسرات "أجاركم الله من الحسرات":
الحسرةُ على أعمالٍ صالحةٍ:
شابتها الشوائبُ وكدرتها مُبطلاتُ الأعمالِ من رياءٍ وعُجبٍ ومنةٍ، فضاعت وصارت هباءً منثورا، في وقتٍ الإنسانُ فيهِ أشدُ ما يكونُ إلى حسنةٍ واحدةٍ:
(وبدا لهم من اللهِ ما لم يكونوا يحتسبون)
(وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاط بهم ما كانوا به يستهزئون)
فكيفَ تقيكَ من بردٍ خيامٌ………إذا كانت ممزقةَ الرواقِ
الفضل عند الله ليس بصورة الأعمال بل بحقائق الإيمان.
القصد وجه الله بالأقوال والطاعات والشكران.
بذاك ينجو العبد من حسراته ،ويصير حقا عابد الرحمن.
الحسرةُ على التفريطِ في طاعةِ الله:
وتصرمِ العمرِ القصيرِ في اللهثِ وراء الدنيا حلالِها وحرامِها، والاغترارِ بزيفِها مع نسيانِ الآخرةِ وأهوالِها:
( أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين)
( أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين)
( أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين)
( بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين)
يا ضيعة العمرِ لا الماضي انتفعتُ به…….ولا حصلتُ على علمٍ من الباقي
بلى علمتُ وقد أيقنتُ وا أسفا……..أني لكلِ الذي قدمتُه لا قي
الحسرةُ على التفريطِ في النفسِ والأهل:
أن تقيَهم من عذاب جهنم، يوم تفقدَهم وتخسرَهم مع نفسُك بعد ما فتنتَ بهم، ذلك هو الخزيُ والخسار والحسرةُ والنار، حالك:
بعضي على بعضي يجّردُ سيفه……..والسهم مني نحو صدري يرسلُ
النارُ توقد في خيام عشيرتي…………وأنا الذي يا للمصيبة أُشعلُ
( قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسَهم وأهليهم يومَ القيامة، آلا ذلك هو الخسرانُ المبين).
الحسرةُ على أعمالٍ صالحة:
كان الأمل بعد اللهِ عليها، ولكنها ذهبت في ذلك اليومِ العصيب إلى من تعديت حدودَ اللهِ فيهم فظلمتَهم في مالٍ أو دمٍ أو عرض، فكنتَ مفلساً حقا:
(وقد خابَ من حمل ظلما).
فيأخذُ هذا من حسناتِك وهذا من حسناتك، ثم تفنى الحسنات فيطرحُ عليك من سيئاتِ من ظلمتَهم ثم تطرحُ في النار، أجارك الله من سامعٍ من النار وجنبك سخطِ الجبار بفعلِ ما يرضي الواحدَ القهار.
حسرةُ جُلساءِ أهلِ السوء:
يومَ انساقوا معهم يقودونَهم إلى الرذيلةِ، ويصدونَهم عن الفضيلةِ، إنها لحسرةُ عظيمةٌ في يومِ الحسرة يعبرون عنها بعضِ الأيدي يومَ لا ينفعُ عضُ الأيدي كما قال ربي:
( ويومَ يعَضُ الظالم على يديه يقولُ يا ليتني اتخذتُ مع الرسولِ سبيلا)
( ياويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا)
( لقد أضلني عن الذكرِ بعد إذ جاءني وكان الشيطانُ للإنسانِ خذولا).
حسرةُ الأتباعُ المقلدين لكلِ ناعق:
يوم يتبرأ منهم من تبعوه بالباطل فلا ينفعهم ندم ولا حسرة:(/2)
(ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا، وأن الله شديد العذاب)
( إذا تبرأ الذين أتُبعوا من الذين أتَبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب)
( وقال الذين أتبَعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا)
( كذلك يرويهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار).
حسرة الظالمين المفسدين في الأرض:
الذينَ يصدون عن سبيلِ الله ويبغونها عوجا، حين يحملون أوزارَهم وأوزار الذين يضلونهم بغيرِ علم، وحين يسمعون عندها قول الله :
( فأذن مؤذنٌ بينهم أن لعنتُ الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيلِ الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرةِ كافرونِ ).
ومن أعظم المشاهد حسرة في يوم القيامة يوم يكفر الظالمون بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا محتدين ومتبرئين فذلك قول الله:
( قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار، كلما دخلت أمة لعنت أختها)
( حتى إذا إداركوا فيها جميعا قالت أخراهم الأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار)
( قال لكلٍ ضعف ولكن لا تعلمون)
( وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون).
فيا حسرة الظلمة وأعوانهم حين يعلمون فداحة جريمتهم في تنفيذ رغبات الظالمين، لكن حيث لا ينفعهم علم العالمين، وعندها لسادتهم يقولون:
لكن حيث لا ينفعهم علم العالمين، وعندها لسادتهم يقولون:
( إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار) ؟
فإذا بالسادة أذلة قد عنت وجوههم للحي القيوم لا يملكون لانفسهم شيئا ولا يستطيعون يقولون:
( إنا كل فيها، إنا الله قد حكم بين العباد).
إن لله غضبة لو وعاها من………. بغى ما عدا يمط اللسان
كم من ظالم يردد:
(وقال الذين كفروا للذين أمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون، وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم، وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون).
فالعقلاء بمقولتهم لا يغترون، وإن فعلوا فأنهم يوم إذ في العذاب والحسرة مشتركون.
تصور معي أخي ذلك الجو من الحسرة والخزي والندامة المخيمة على المستضعفين والمستكبرين.
أتباع ضعفاء يتهمون زعمائهم بالحيلولة بينهم وبين الإيمان.
ومستكبرون يقولون لإتباعهم أنتم المجرمون دعوناكم فكنتم مجيبين.
لو رأيتهم إذ وقفوا عند ربهم من غير إرادة ولا اختيار مذنبون ترهقهم ذلة في انتظار الجزاء لرأيت أمرا مهولا، يتراجعون، يرجع بعضهم إلى بعض القول.
يلوم بعضهم بعضا.
ويؤنب بعضهم بعضا.
ويلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض.
يقول أتباع الظلال الذين اُستضعفوا لقادة الضلال الذين استكبروا:
( لولا أنتم لكنا مؤمنين ).
يقولونها جاهرين بها صادعين في وقت لم يكونوا في الدنيا بقادرين على هذه المواجهة، كان يمنعهم الذل والضعف والاستسلام، وبيع الحرية التي وهبها الله لهم والكرامة التي منحهم الله إياها.
أما اليوم يوم الحسرة فقد سقطت القيم الزائفة وواجهوا العذاب فهم يقولونها غير خائفين:
( لولا أنتم لكنا مؤمنين ).
حلتم بيننا وبين الإيمان، زينتم لنا الكفران فتبعنكم فأنتم المجرمون وبالعذاب أنتم جديرون وله مستحقون.
ويضيق الذين استكبروا بهم ذرعا إذ هم في البلاء سواء ويريد هؤلاء الضعفاء أن يحملوهم تبعة الإغواء الذي صار بهم إلى هذا البلاء، عند إذ يردون عليهم ويجيبونهم في ذلة مصحوبة بفظاظة وفحشاء:
( أنحن صددناكم عن الهدى؟)
الله أكبر كانوا في الدنيا لا يقيمون لهم وزنا، ولا يأخذون منهم رأي، ولا يعتبرون لهم وجودا، ولا يقبلون منهم مخالفة، بل حتى مناقشة.
أما اليوم، يوم الحسرة فهم يسألونهم في استنكار الأذلاء:
( أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ؟ بل كنتم مجرمين).
زينا لكم الإجرام؟ نعم، لكنا لم نكرهكم عليه، فما لكم علينا من سلطان.
آما أنه لو كان الأمر في الدنيا لقبع المستضعفون لا ينبسون ببنت شفه.
لكنهم في الآخرة حيث سقطت الهالات الكاذبة، والقيم الزائفة، وتفتحت العيون المغلقة، وظهرت الحقائق المستورة فلم يسكت المستضعفون ولا هم يخنعون، بل يجابهون من كانوا لهم يذلون ويقولون:
( بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا).
مكركم لم يفتر ليلا ولا نهارا للصد عن الهدى.
تزينون لنا الضلال وتدعوننا إلى الفساد، وتقولون إنه الحق.
ثم تقدحون في الحق وتزعمون أنه باطل، فما زال مكركم بنا حتى أغويتمونا وفتنتمونا.
يا عباد الله:
إن صور المكر تتنوع وتختلف من عصر لآخر.
ففي وقت نزول القرآن كانت تتخذ أشكالا من الأشعار في منتديات الجاهلية توجه فيها التهم الباطلة لرسول الله صلى الله عبيه وسلم ومن معه.
أو بصد الراغبين عن سماع الحق وتفويته عليهم.
أو بإثارة نعرة الأباء والأجداد والتهويل من خطر تركها.
هذا جل ما عند الجاهلية الأولى من مكر الليل والنهار، و والله إنه لعظيم.(/3)
لكن ماذا يساوي ذلك المكر الأول عند مكر الليل والنهار في زماننا الحاضر في أكثر ديار المسلمين، والذي ينطبق تماما بلفظه ومعناه على المكر الموجود الآن الذي يعمل على مدى الأربع والعشرين ساعة:
فما يكاد المذياع يفتر من مكره حتى يأتي دور التلفاز.
وما يكاد التلفاز يفتر من مكره حتى يأتي دور الفيديو.
ثم يأتي دور البث المباشر.
ثم المجلة الهابطة، فالقصة الخليعة، وهكذا دواليك دواليكَ مكر بالليل والنهار.
هل يعذر المسلم في فتح فكره وبيته لمكر الليل والنهار؟؟؟
كلا والله لا يعذر، لأن المفسدين المتسلطين لن يعذروه بين يدي الله يوم القيامة بقولهم:
( أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ؟ بل كنتم مجرمين).
ويرد هؤلاء المستضعفون:
( بل مكر الليل والنهار).
ثم يدرك الجميع أن هذا الحوار البائس لا ينفع هؤلاء ولا هؤلاء إلا براءة بعضهم من بعض.
علم كل منهم نه ظالم لنفسه، مستحق للعذاب فندم حين لا ينفع الندم.
ويتمنى سرا أن لو كان على الحق والإيمان:
(وأسّروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا، هل يجزون إلا ما كانوا يعملون)
قطاة غرّها شرَك فباتت……تجاذبه وقد علق الجناحُ
فلا في الليل نالت ما تمنت…….ولا في الصبح كان لها براحُ
قضي الأمر وانتهى الجدل وسكت الحوار.
وهنا يأتي حادي الغواة، وهاتف الغواية يخطب خطبته الشيطانية القاصمة يصبها على أوليائه:
( وقال الشيطان لما قضي الأمر، إن الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم ).
طعنة أليمة نافذة لا يملكون أن يردوها عليه، وقد قضي الأمر وفات الأوان:
( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ).
ثم يأنبهم على أن أطاعوه:
( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم، ما أنا بمصرخكم، وما أنتم بمصرخي ).
نفض يده منهم وهو الذي وعدهم ومنّاهم ووسوس لهم.
وأما الساعة فلن يلبيهم إن صرخوا، ولن ينجدوه إن صرخ (إن الظالمين لهم عذاب أليم ).
فيا للحسرة والندم.
الحسرةُ على أعمالٍ محدثةٍ:
وعباداتٍ لم يأذن الله بها ولم يتبعُ فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ويحسبُ أهلها أنهم يحسنون صنعا:
( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ).
لكنها تضيعُ في وقتِ الحاجةِ الماسة إليها فهم الأخسرون أعمالا وساءوا أعمالا، أعمالَهم كرمادٍ اشتدت به الريحُ في يومٍ عاصف أو كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظامئانُ ماءً، حتى إذا جاءهُ لم يجده شيأً ووجد اللهَ عنده فوفاه حسابهُ.
( والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظامئان ماءً، حتى إذا جاءهُ لم يجده شيئا ووجد اللهَ عنده فوفاه حسابهُ ).
يا أيها اللاهي الذي افترش الهوى…..وبكل معنى للضلال تدثرا
إن كنت ذا عقل ففكر برهة………….ما خاب ذو عقل إذا ما فكرا
الحسرةُ على أموالٍ جمعت من وجوه الحرام:
رباً ورشِوةٍ وغشٍ غصب وسرقةٍ واحتيالٍ وغيرِها.
فيا لله أي حسرةٍ أكبر على امرؤٍ يؤتيَه اللهُ مالاً في الدنيا، فيعملُ فيه بمعصيةِ الله، فيرثَه غيرَه فيعملُ فيه بطاعةِ الله، فيكونُ وزره عليه وأجرُه لغيره.
أي حسرة أكبر على امرؤ أن يرى عبدا كان الله ملّكه إياه في الدنيا يرى في نفسه أنه خبر من هذا العبد، فإذا هذا العبد عند الله أفضل منه يوم القيامة.
أي حسرة أكبر على امرؤ أن يرى عبدا مكفوف البصر في الدنيا قد فتح الله له عن بصره يوم القيامة وقد عميَ هو، إن تلك الحسرة لعظيمة عظيمة.
أي حسرة أكبر على امرؤ علم علما ثم ضيعه ولم يعمل به فشقيَ به، وعمل به من تعلمه منه فنجى به.
أي حسرة أعظم من حسرات المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
يوم تبلى السرائر وينكشف المخفي في الضمائر ويعرضون لا يخفى منهم على الله خافية، ثم يكون المأوى الدرك الأسفل من النار ثم لا يجدون لهم نصيرا.
أما الحسرةُ الكبرى فهي:
عندما يرى أهلَ النار أهلَ الجنةِ وقد فازوا برضوانِ الله والنعيم المقيم وهم يقولون:
( أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا) ؟
( قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ).
وحسرة أعظم:
يومَ ينادي أهلُ النار أهل الجنةِ :
( أن أفيضوا عينا من الماءِ أو مما رزقكم الله)
( قالوا إن اللهَ حرمهما على الكافرين ).
وحسرة أجل:
حين ينادي أهلُ النارِ مالكاً خازن النار:
( ليقضي علينا ربك).
( قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحقِ ولكن أكثرَكم للحق كارهون ).
ومنتهى الحسرة ِوقصاراها:
حين ينادون ربَهم عز وجل وتبارك وتقدس:
( ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فأنا ظالمون ).
فيُجبَهم بعد مدة:
( اخسئوا فيها ولا تكلمون ).
فلا تسأل، لا ينبسون ببنت شفة وإنما هو الشهيق والزفير.
طال الزفيرُ فلم يُرحم تضرُعهم هيهاتَ لا رقة تغني ولا جزعُ
فيا حسرة المقصرين.
ويا خجلة العاصين.
لذات تمرٌ وتبعاتٌ تبقى.
تريدون نيل الشهواتِ والحصولَ في الآخرةِ على الدرجات.
جمع الأضدادِ غير ممكنٌ يا تراب.(/4)
هواك نجد وهواه الشامُ………وذا وذاَ يا خي لا يلتامُ
دع الذي يفنى لما هو باقي وأحذر زلل قدمِك، وخف حلول ندمك واغتنِم شبابك قبل هرمِك، واقبل نصحي ولا تخاطر بدمك، ثم تتحسرُ حين لا ينفعُ ندمك.
إذا ما نهاك امرأٌ ناصحُ عن الفاحشاتِ إنزجر وانتهِ
إن دنياً يا أخي من بعدها ظلمةُ القبرِ وصوتُ النائحِ
لا تساوي حبةً من خردلٍ أو تساوي ريشةً من جانحِ
لا تسل عن قيمةَ الربح….. وسل عن أساليبَ الفريق الرابحِ
جعلنا الله وإياكم من الرابحين السعداء، يومَ يخسرُ المبطلون الأشقياء، ويتحسرَ المتحسرون التعساء، إن ربي وليُ النعماء وكاشفَ الضرِ والبلاء.
عباد الله وبعد هذا البيانِ من كتاب الرحمنِ عن صورِ الخزي والحسرةِ والخسران.
هل آن لنا أن نعدَ لهذا الموقفِ العظيمِ عدته؟
ونعملَ جاهدين على الخلاصِ من صفاتِ أهلِ هذه المواقفِ المخزيةِ.
آن لنا أن نُخلص العبادةَ لله وحده، ونجردَ المتابعةِ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
آن لنا أن نحذرَ من كلِ ناعقٍ ملبسٍ خائنٍ يمكرُ في الليلِ والنهار قبل أن تقولَ نفسُ يا حسرتاه ولا مناة حين مناص.
آن الأوان لضعفةِ الأتباع أن يتبرءوا من متبوعيهم الظالمين المفسدين فلا يكونوا أداة لهم في ظُلمٍ في دماء أو أموالٍ أو أعراض طمعاً في جاه أو حطام.
آن الأوان للإنابةِ والبراءةِ من الظالمين قبل أن يتبرءوا من تابعيهم بين يدي الله يومَ ينقلبون عليهم فيلعن بعضَهم بعضا حيث لا ينفع لعن ولا ندم.
آن الأوان للمرأة المسكينة في زماننا اليوم أن تتنبه لهذه المواقف فتتبرأ في دنياها اليوم من كل ناعق لها بأسم الحرية والتمدن ومتابعة الأزياء والموضات.
وحتى لا تحق عليها الحسرة الكبرى حينما يتبرأ منها شياطين الأنس والجن الذين أضلوها ثم لا يغنوا عنا من عذاب الله من شيء إلا الخصام والتلاعن المذكور في كتاب الله:
( وقالوا ربنا إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا)
( ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبير).
آن الأوان لأتباع الطوائف الضالة المبتدعة أن يفيقوا ويدركوا خطر هذه المتابعة التي ستنقلبُ حسرة كبرى وعداوة ولعنة بينهم وبين متبوعيهم يوم القيامة:
(ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين).
آن الأوان لمن أعطوا قيادهم لجلساءِ السوءِ والمفسدينَ في الأرض، ومن هم دعاةُ على أبوابِ جهنمَ يسوقونهم إلى الرذيلةِ ويفتحون قلوبَهم للمكر والألاعيب والصدِ عن الفضيلة.
آن لهم أن ينتهوا ويقطعوا صلَتَهم بهم وطاعتَهم لهم ما داموا في زمنٍ من مهلةٍ وإمكان، وإن لم يقطعوها في الدنيا، فهيَ لا شكَ منقطعة يومَ القيامةِ وستنقلبُ عداوةً وخصاماً وحسرةً:
( الاخلاء يوم إذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ).
آن الأوان للمجاهرين عموما بالمعاصي.
والمجاهرين خصوصا برفع أطباق القنوات فوق البيوت غير معظمين لشعائر الله والحرمات.
من اشرعوا بيوتَهم للضلالِ والمكرِ واللهوِ والعفنِ والترهات بحجة الأخبار والمباريات:
يستقبل الأفكار في علب الهوى……. والشر فيها لوّع المستقبلُ
علب يغلفها العدو وختمه……….…فيها الصليب ونجمة والمنجل
آن لهم أن يعلونها توبةً عاجلةً نصوحاً قبل الممات وقبل يومَ الحسرات بلا مبررات واهيات فالحقائق ساطعات غير مستورات وإن تعامتها نفوس أهل الشهوات.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد……وينكر الفم طعم الماء من سقم
وكل أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما أخبر معافى إلا المجاهرين، وما من راعي يسترعيه الله رعيةً يموت يومَ يموت وهو غاشٍ لهم إلا حرم اللهُ عليه الجنة. وكلُكم راعيٍ ومسؤول. وما كل راع براع.
ما كل ذي لبد بليث كاسر……وإن ارتدى ثوب الأسود وزمجرا
يستخدم الشيطان كل وسيلة….…..لكنه يبقى الأذل الأصغرا
( والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما )
آن الأوان لمضيع وقته أمام ما تبثه هذه القنوات من محرمات أن يتوب ويؤب.
آن الأوان لمن عقلُه أصبح في أذنيه ولبه بات في عينيه من أثر البهتان فيه وانطلى الزورُ عليه أن يتوبَ قبل أن يقفَ أمام الله فتشهدُ الأعضاء والجوارح وتبدو السؤاتُ والفضائح فيختمُ عل فمه وتتكلم يده ويشهدُ سمعه وبصره وجلده بما كان يكسب ثم لا يكونُ إلا الحسرات، فما تغني الحسرات؟
( وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين، فإن يصبروا فالنار مثوى لهم، وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين).
يا ابن سبعين وعشرٍ وثمانٍ كاملات………غرضاً للموتِ مشغولاً ببث القنوات
ويكَ لا تعلمُ ما تُلقى به بعد الممات………من صغارٍ موبقات وكبارٍ مهلكات
يا ابن من قد مات من آبائهِ والأمهات…… هل ترى من خالدٍ من بين أهلِ الشهوات
إن من يبتاعُ بالدينِ خسيسِ الشهوات……. لغبي الرأيِ محفوفُ بطولِ الحسرات(/5)
عباد الله في يومِ القيامة يبحثُ كلِ إنسان عن أي وسيلة مهما كانت ضعيفة واهية لعلَها تصلُحُ لنجاته من غضبِ الله.
ولذلك تكثُر المناقشاتُ والمحاورات بين الأباء والأبناء.
والأزواج والزوجات.
والكبار المتسلطين والصغار التابعين.
بين الأغنياء الجبارين والفقراء المنافقين.
كل يحاول إلقاء التبعة على غيره، لكن حيث لا تنفع المحاورات ولا الخصومات ولا التنصل من التبعات، ثم لا يكون إلا الحسرات:
إلى الله يا قومي فما خاب راجع…….إلى ربه يوم وما خاب صابرُ
اللهم آنس وحشتنا في القبور، وآمن فزعنا يوم البعث والنشور.
اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين.
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأخرتنا التي إليها معادنا، وأجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وأنصر عبادك الموحدين.
اللهم كن للمستضعفين والمظلومين والمضطهدين.
اللهم فرج همهم ونفس كربهم وارفع درجتهم واخلفهم في أهلهم.
اللهم أزل عنهم العناء وأكشف عنهم الضر والبلاء.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء. يا سميع الدعاء.
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم.
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(/6)
حسن الخاتمة وسوؤها ... ... ... ... ...
إبراهيم الغامدي ... ... ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- أهمية ساعة الاحتضار. 2- صور لحسن الخاتمة لسلفنا الكرام. 3-أحاديث في حسن الخاتمة. 4- علامات حسن الخاتمة. 5- سوء الخاتمة وأسبابه. 6- النصيحة بع التشهير بمن توفي من المسلمين على خاتمة سوء. 7- بيان تغرير وسائل الإعلام. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
وبعد عباد الله:
فإن آخر ساعة في حياة الإنسان هي الملخص لما كانت عليه حياته كلها. فمن كان مقيماً على طاعة الله عز وجل بدا ذلك عليه في آخر حياته ذكراً وتسبيحاً وتهليلاً وعبادة وشهادة.
فهلموا ننظر كيف كانت ساعة الاحتضار على سلفنا الصالح الذين عاشوا على طاعة الله وماتوا على ذكر الله، يأملون في فضل الله ويرجون رحمة الله، مع ما كانوا عليه من الخير والصلاح.
لما رأت فاطمة رضي الله عنها ما برسول الله من الكرب الشديد الذي يتغشاه عند الموت قالت: واكرب أبتاه، فقال لها : ((ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم)).
وهذا عبد الله بن جحش عندما خرج لمعركة أحد دعا الله عز وجل قائلاً: (يا رب إذا لقيت العدو فلقني رجلاً شديداً بأسه، شديداً حرده فأقاتله فيك، ويقاتلني، ثم يأخذني ويجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً، قلت يا عبد الله من جدع أنفك وأذنك، فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول صدقت.
وبعد المعركة رآه بعض الصحابة مجدوع الأنف والأذن كما دعا.
وطعن جبار بن سًلمي الكلبي عامر بن فهيرة يوم بئر معونة، فنفذت الطعنة فيه، فصاح عامر قائلا: فزت ورب الكعبة.
وكان بلال بن رباح يردد حين حضرته الوفاة وشعر بسكرات الموت قائلا: ((غداً نلقى الأحبة: محمداً وصحبه، فتبكي امرأته قائلة: وابلالاه واحزناه فيقول : وافرحاه.
وعندما خطب رسول الله في أصحابه حاثاً لهم على الاستشهاد في سبيل الله في معركة بدر قال : ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض)).
فسمع عمير بن الحُمام هذا الفضل العظيم وقال: والله يا رسول الله إني أرجو أن أكون من أهلها. فقال ((فإنك من أهلها)).
فأخرج عمير ثمرات من جعبته ليأكلها ويتقوى بها، فما كادت تصل إلى فمه حتى رماها وقال: إنها لحياة طويلة إن أنا حييت حتى آكل تمراتي، فقاتل المشركين حتى قتل.
وعندما حضرت الوفاة معاذ بن جبل قال: مرحباً بالموت زائر مغيب، وحبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء عند حِلَقَ الذكر.
ولما احتضر عمر بن عبد العزيز قال لمن حوله: أخرجوا عني فلا يبق أحد. فخرجوا فقعدوا على الباب فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنس ولا جان، ثم قال: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعافية للمتقين ، ثم قُبض رحمه الله.
ولما حضرت آدم بن إياس الوفاة ختم ما تبقى عليه من سور القرآن وهو مسجّى، فلما انتهى قال: اللهم ارفق بي في هذا المصرع، اللهم كنت أؤملك لهذا اليوم وأرجوك. ثم قال: لا إله إلا الله وقضى.
ولما حضرت الوفاة أبا الوفاء بن عقيل بكى أهله، فقال لهم: لي خمسون سنة أعبده، فدعوني أتهنّى لمقابلته.
قال أنس بن مالك : ألا أحدثكم بيومين وليلتين لم تسمع الخلائق بمثلهن.
أول يوم يجيئك البشير من الله، إما برضاه وإما بسخطه.
واليوم الثاني يوم تعرض فيه على ربك أخذاً كتابك إما بيمينك وإما بشمالك.
وأول ليلة: ليلة تبيت فيها بالقبر.
والليلة الثانية: ليلةٌ صبيحتُها يوم القيامة.
وقال المزني دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، ولسوء عملي ملاقيا. وعلى الله تعالى وارداً، فلا أدري: روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها. ثم بكى.
ولما احتضر عامر بن عبد الله بكى وقال: لمثل هذا المصرع فليعمل العاملون.
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد من ذا الذي يصلي عنك بعد الموت، من ذا الذي يصوم عنك بعد الموت.
ثم يقول: أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم.
يا من الموت موعده، والقبر بيته والثرى فراشه، والدود أنيسه. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر كيف يكون حاله.
وكثير من السلف الصالح مات وهو على طاعة داوم عليها فترة حياته.
فهذا أبو الحسن النساج لما حضره الموت غشي عليه عند صلاة المغرب، ثم أفاق ودعا بماء فتوضأ للصلاة ثم صلى ثم تمدد وغمض عينيه وتشهد ومات.
وهذا ابن أبي مريم الغساني، لم يفطر مع أنه كان في النزع الأخير وظل صائماً فقال له من حوله: لو جرعت جرعة ماء، فقال بيده: لا، فلما دخل المغرب قال: أذّن، قالوا: نعم، فقطروا في فمه قطرة ماء، ثم مات.
ولما احتضر عبد الرحمن بن الأسود بكى فقيل له: ما يبكيك.(/1)
فقال: أسفاً على الصلاة والصوم، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
وهذا أبو حكيم الخبري كان جالساً ينسخ الكتب كعادته.
فوقع القلم من يده وقال: إن كان هذا موتاً، فوالله إنه موت طيب، فمات.
وعن الفضل بن دكين قال: مات مجاهد بن جبر وهو ساجد.
أقول قولي هذا. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
وبعد:
فإن حسن الخاتمة هي أن يوفّق العبد قبل موته للتوبة عن الذنوب والمعاصي والإقبال على الطاعات وأعمال الخير.
ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.
ومما يدل على هذا ما روى أحمد في مسنده، قال : ((إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله))، قالوا: كيف يستعمله، قال : ((يوفقه لعمل صالح قبل موته)).
ومن العلامات التي يظهر بها للعبد حسن خاتمته فهي ما يُبشّر به عند موته من رضا الله تعالى واستحقاقه كرامته تفلاً منه تعالى. كما قال جل وعلا: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون .
وهذه البشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم وفي قبورهم وعند بعثتهم يوم القيامة.
وفي الصحيحين قال : ((المؤمن إذا بُشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله، وكره الله لقاءه)).
ومن علامات حسن الخاتمة الموت على عمل صالح لما رواه أحمد في مسنده قال : ((من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله وختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوما ابتغاء وجه الله خُتم له بها دخل الجنة. ومن تصدق بصدقة ختم له بها، دخل الجنة)).
ولكي يدرك العبد المؤمن حسن الخاتمة فينبغي له أن يلزم طاعة الله وتقواه والحذر من ارتكاب المحرمات فقد يموت عليها، والمبادرة إلى التوبة من الذنوب.
أما الخاتمة السيئة فهي أن تكون وفاة الإنسان وهو معرض عن ربه جل وعلا، مقيم على ما يسخطه سبحانه، مضيع لما أوجبه الله عليه ولا ريب أن تلك نهاية بئيسة، طالما خافها المتقون، وتضرعوا إلى ربهم سبحانه أن يجنبهم إياها.
ومن أسباب سوء الخاتمة أن يصر العبد على المعاصي ويألفها، فإن الإنسان إذا ألف شيئاً مدة حياته وأحبه وتعلق به، فالغالب أنه يموت عليه.
قال ابن كثير رحمه الله: (إن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت).
يقول ابن القيم رحمه الله: وسوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه.
إنما تكون لمن له فساد في العقيدة، أو إصرار على الكبيرة ، أو إقدام على العظائم ، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل عليه الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية ويصطدم قبل الإنابة والعياذ بالله.
إخواني: فالواجب علينا إن مات أحد المسلمين ميتة سوء، وهو على معصية من المعاصي ، أن نستعيذ بالله من ميتةٍ كميتته ، وأن ندعو له، وأن لا نشهر به في المجالس ، فقد أفضى إلى ما قدّم.
ولكن مع ذلك ، فيجب علينا أن لا نمجد ميتته هذه، وأن لا نتكلم في وسائل الإعلام بأنه مات في ساحة النضال وميدان البطولة والشرف، وأن ميتتة كانت من أجمل الميتات.
لأن هذه الأمة لا تعرف إلا ساحة نضال واحدة وميدان بطولة واحد، وهو جهاد أعداء الله عز وجل، ولأن أجمل ميتة في التاريخ هي الموت على طاعة الله عز وجل.
ولكن وسائل الإعلام كعادتها درجت على خلخلة المفاهيم الصحيحة في عقول الناس وجعلت المعروف منكراً والمنكر معروفاً وخاصة تلك الفضائيات التي أمسك بزمامها من لا خلاق لهم ولا أخلاق.
وحملوا على عاتقهم إفساد هذه الأمة وتغيير ثوابها فبئس ما يقولون وما يفعلون.
ألا وصلوا وسلموا . . ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/2)
حسن الخاتمة
عبدالله بن محمد المطلق
دار الوطن
الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء، وأحصى كل شيء عددا، رحم من شاء من عباده فهيأ لهم في الدنيا ما يرفع به درجاتهم في الآخرة، فثابروا على طاعته، واجتهدوا في عبادته، إن أصابتهم سراء شكروا فكان خيرا لهم، وإن أصابتهم ضراء صبروا فكانوا ممن قال الله فيهم: .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فإن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن استغلاله فيما ينفعه في دار القرار ربحت تجارته، وإن أساء استغلاله في المعاصي والسيئات حتى لقي الله على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، وكم حسرة تحت التراب والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله، وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سببا في هلاكه، قال ابن مسعود: المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه.
وكم شخص أصر على صغيرة فألفها وهانت عليه ولم يفكر يوما في عظمة من عصاه، فكانت سببا في سوء خاتمته، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها في عهد رسول الله ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعبد ربك حتى يأتيك اليقين أن بعض الناس يجتهد في الطاعات ويبتعد عن المعاصي مدة طويلة من عمره، ولكن قبيل وفاته يقترف السيئات والمعاصي مما يكون سببا في أن يختم له بخاتمة السوء، قال أن رجلا من المسلمين في إحدى المعارك مع رسول الله : { أما إنه من أهل النار }. فقال بعض الصحابة: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟ فقال رجل من القوم: أنا صاحبه،سأنظر ماذا يفعل، فتبعه، قال: فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت، فوضع سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه، فرجع الرجل إلى رسول الله عند ذلك: { إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار } وفي بعض الروايات زيادة: { وإنما الأعمال بالخواتيم }.
وقد وصف الله سبحانه عباده المؤمنين بأنهم جمعوا بين شدة الخوف من الله مع الإحسان في العمل فقال: .
وقد كانت هذه حالة الصحابة رضي الله عنهم، وقد روى أحمد عن أبي بكر الصديق أنه قال: (وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن) وكان وقلوبهم وجلة : { من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة }.
لكن إذا قاربت وفاة الشخص وأشرف على الموت فينبغي له حينئذ أن يغلب جانب اللاجاء، وأن يشتاق إلى لقاء الله، فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، قال أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه.
وسنبين هنا الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة بإيجاز.
أولا: التسويف بالتوبة:
والتوبة إلى الله من جميع الذنوب واجبة على كل مكلف كل لحظة كما يدل عليه قوله تعالى: .
وكان : { يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فأني أتوب في اليوم مائة مرة }.
وقد بين أشد تحذير فقال: { إن أشد ما أخاف عليكم خصلتان: اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق، وأما طول الأمل فإنه الحب للدنيا }.
فإذا أحب الإنسان الدنيا أكثر من الآخرة آثرها عليها، واشتغل بزينتها وزخرفها وملذاتها عن بناء مسكنه في الآخرة في جوار الله في جنته، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
ويظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى الأعمال الصالحة واغتنام أوقات العمر، فإن الانفاس معدودة والايام مقدرة، وما فات لن يعود، وعلى الطريق عوائق كثيرة بينها بمنكبي فقال: { كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل } وكان ابن عمر يقول: ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ). وكان ابن عمر يقول: ( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك ).
وقد أرشد رسول الله قال: { أكثروا من ذكر هادم اللذات }.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله : { زوروا القبور فإنها تذكركم الموت }.
ج) أما تغسيل الموتى وتشييع الجنائز فإن في تقليب الجسد على خشبة المغسلة عظة بليغة، وربما كان شديد البطش والهيبة، وقد صار بالموت جسدا خامداً لا حراك به، يقلبه الغاسل كيف يشاء.
وقد كان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة وغفلة سريعة، يذهب الأول، والآخر لا عقل له، وكان عثمان يقول: { إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد }.
د) أما زيارة الصالحين فلأنها توقظ القلب وتبعث الهمة، فإن الزائر يرى الصالحين وقد اجتهدوا في العبادة وتنافسوا في الطاعات، لا غاية لهم إلا رضا الله، ولا هدف لهم إلا الفوز بجنته، معرضين عن التفاني على الدنيا والاشتغال بها، لأنها معوقة عن السير في ذلك الطريق الشريف. وقد أرشد الله نبيه أن يصبر نفسه مع هؤلاء: .(/1)
وقيل للحسن: يا أبا سعيد، كيف نصنع؟ أنجالس أقواما يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله إنك إن تخالط أقواما يخوفونك حتى يدركك أمن خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى يدركك خوف.
ثالثا: حب المعصية وأُلفها واعتيادها:
فإذا ألف الإنسان معصية من المعاصي ولم يتب منها فإن الشيطان يستولي بها على تفكيره حتى في اللحظات الأخيرة من حياته، فإذا أراد أقرباؤه أن يلقنوه الشهادة ليكون آخر كلامه لا إله إلا الله، طغت هذه المعصية على تفكيره فتكلم بما يفيد انشغاله بها وإليك بعض قصص هؤلاء: رجل كان يعمل دلالا في السوق ولما حضرته الوفاة لقنه أولاده الشهادة، فكانوا يقولون له: قل لا إله إلا الله، فيقول: أربعة ونصف أربعة ونصف. وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فقال:
يارب قائلة يوما وقد تعبت *** كيف الطريق إلى حمام منجاب
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فجعل يغني،وربما أدركه الموت في المعصية نفسها، فيلقى الله على تلك الحال التي تغضبه، وقد قال قال رسول الله قال: { شهد رجل مع رسول الله : الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار، فإنه قد قاتل اليوم قتالا شديدا، وقد مات، فقال النبي فقال: الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله. ثم أمر بلالاً فنادى في الناس أنه لن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر }.
بشائر تدل على حسن الخاتمة
نبه النبي : { من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة }.
2- أن يموت شهيدا من أجل إعلاء كلمة الله، قال تعالى: .
3- أن يموت غازيا في سبيل الله، أو محرما بحج، قال في المحرم الذي وقصته ناقته: { اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا }.
4- روى حذيفة : { من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام صوما ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة }.
5- الموت في سبيل الدفاع عن الخمس التي حفظتها الشريعة وهي: الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل. عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله إلى بعضها فمنها:
أ- الطاعون: روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله : { قتل المسلم شهادة، والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة، والسل شهادة }.
ج - داء البطن: روى أبو هريرة : { ومن مات في البطن فهو شهيد }.
د- ذات الجنب: روى جابر بن عتيك عن النبي أنه قال: { والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة، يجرها ولدها بسرره إلى الجنة }.
8- الموت بالغرق والحرق والهدم: عن أبي هريرة : { الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله عز وجل }.
وعن جابر بن عتيك قال: قال رسول الله قال: { ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر }.
10-عرق الجبين عند الموت: فقد روى بريدة بن الحصين قال: { المؤمن يموت بعرق الجبين }.
خاتمة:
وفي نهاية اللقاء يحسن بنا أن نوجز الوسائل التي جعلها الله سببا في حسن الخاتمة وهي:
أ- تقوى الله في السر والعلن والتمسك بما جاء به النبي يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون : { إياكم ومحقرات الذنوب كقوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود،وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه }.
ب- المداومة على ذكر الله، فمن داوم على ذكر الله وختم به جميع أعماله، وكان آخر ما يقول من الدنيا لا إله إلا الله، نال بشارة النبي : أي الأعمال أفضل؟ قال: { أن تموت يوم تموت ولسانك رطب من ذكر الله }.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك، واجعلنا مع الذين أنعمت عليهم في جنتك وجوارك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=108 ...(/2)
حصار الشِّعب
والدروس المستفادة منه
د. إبراهيم بن محمد عباس
إن الدين الإسلامي ليس مجرد تنظيم للحياة ولكنه دين واقعي يتعايش بأصوله ومبادئه
وأحكامه مع الواقع بعيداً عن الافتراضات الخيالية والمثل العائمة التي لا تتوافق مع
طبيعة النفس البشرية.
والسيرة النبوية العطرة هي المثال الحي للتطبيق العملي للمثل والأخلاق والمبادئ والأحكام
الإسلامية، بل هي المنهج الإسلامي الكامل بكل مكوناته في واقع الحياة. وهي بهذا وبكل
ما اشتملت عليه من أحداث وتوجيهات نور ساطع في سجل التاريخ البشري يقتبس منه
من أراد في أي جيل دروساً تهدي الحيارى وترشد التائهين لأحسن السبل وأقومها.
إنها منهج ينبغي أن نتربى عليه ونربي أبناءنا على ما يشمله من مفاهيم وقيم نرى أن
الناس في هذا الزمان أشد ما يكونون حاجة إليها.
وفي هذه المقالة نقلِّب النظر في حدث من أحداث السيرة النبوية المشرفة وهو (حصار
الشِّعب) لنستنبط منه بعض الدروس والعبر التي نأمل أن ينفع الله بها..
أولاً: خبر الصحيفة:
قال ابن إسحاق: "لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً
أصابوا به أمناً وقراراً، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم؛ فكان
هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام
يفشو في القبائل: اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني
المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، فلما
اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في
جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم. فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد
المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب فدخلوا معه في شِعْبه فاجتمعوا إليه، فأقاموا على
ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا، لا يصل إليهم شيء إلا سراً متخفياً به من أراد صلتهم
من قريش. وقد كان أبو جهل بن هشام ـ فيما يذكرون ـ لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن
أسد ومعه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم ومعه في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟
والله! لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة. فجاءه أبو البختري بن هشام بن
الحارث بن أسد فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم! فقال أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه؛ أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلِّ سبيل
الرجل. قال: فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لَحْيَ بعير
فضربه به فشجه، ووطئه وطئاً شديداً وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم
يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم؛ ورسول الله
صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلاً ونهاراً سراً وجهراً مبادياً بأمر الله لا يتقي
فيه أحداً من الناس"(1).
قال السهيلي: "وذكر ما أصاب المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب من
الحصار لا يبايَعون ولا يناكَحون. وفي الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط
وورق الشجر، حتى إن أحدهم ليضع كما تضع الشاة. وكان فيهم سعد بن أبي وقاص رُوي
أنه قال: لقد جعت حتى إني وطئت ذات ليلة على شيء رطب فوضعته في فمي وبلعته
وما أدري ما هو إلى الآن. وفي رواية يونس أن سعداً قال: خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت
قعقعة تحت البول فإذا قطعة من جلد بعير يابسة أخذتها وغسلتها ثم أحرقتها ثم
رضضتها وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثاً. وكانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدُهم السوقَ
ليشتري شيئاً لعياله فيقوم أبو لهب عدو الله فيقول: يا معشر التجار! غالوا على أصحاب
محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً؛ فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي؛ فأنا ضامن أن لا خسار
عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع
وليس في يديه شيء يُطعمهم به، ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من
الطعام واللباس حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعاً وعرياً"(2).
الدروس المستفادة من هذه الحادثة:
1 ـ لقد فكر الأعداء ـ كما رأيت ـ تفكيراً جماعياً جاداً منظماً ومعتمداً على التخطيط
الدقيق لضرب الحركة الإسلامية، وذلك حينما بدأت قاعدتها في الرسوخ، ونجحت في
جذب العناصر القوية إليها، وبدأت تفكر في الحماية الأمنية اللازمة حتى تؤدي رسالتها
للعالمين، عندئذ أدرك الأعداء أنه لا بد من القضاء على هذه الدعوة في مهدها، فكانت
فكرة الحصار الاقتصادي وسياسة التجويع أملاً يداعب حلمهم ويطفئ ثورة حقدهم. ولكن
الله خذلهم فأعز دينه وأتم نوره وازدادت الدعوة صلابة وقوة وازداد أصحابها يقيناً
وتضحيات؛ فلا بد إذن من اليقين بأن الله متم نوره ولو كره الكافرون، وأن هذا الدين(/1)
سيبلغ ما بلغ الليل والنهار مهما مكر الأعداء بأهله ((ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ)) [الأنفال: 30] .
2 ـ لم تقتصر معاهدة قريش وأذاها على أصحاب الدعوة وحدهم بل شملت كل من يعطف
عليهم أو يدافع عنهم أو يمدهم بصلة ولو سراً. ولهذا ينبغي لعموم المسلمين أن يكونوا يداً
واحدة مع علمائهم ودعاتهم يؤازرونهم وينصرونهم، وعلى الدعاة إلى الله تقوية صِلاتهم
بأكبر قدر ممكن مع جمهور المسلمين ومد الجسور إليهم بالطرق الشرعية الصحيحة حتى
يكونوا صفاً واحداً لا تخترقه سهام الأعداء. قال الله ـ تعالى ـ: ((واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا )) [آل عمران: 103] .
3 ـ لقد تجرع الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ مرارة هذا الحصار وتقلبوا في لظى
هذه المؤامرة الخبيثة عندما أُطبِقَ عليهم بسياج من الظلم المكشوف المتمثل في تلك الصحيفة
الجائرة، فصبروا حتى أتاهم نصر الله. لقد كانو يقدرون مسؤولية تبليغ الرسالة الملقاة على
كواهلهم، وكانوا يدركون حقيقة هذه الرسالة وطبيعتها، وأنها لا بد أن تبلَّغ للناس بجهد
من البشر، وفي حدود قدراتهم؛ فكان الصبر على مثل هذا البلاء نِعْمَ الزاد الذي يتناسب
وطبيعة الطريق. لقد كانت التربية الجادة على منهج القرآن الكريم عاملاً مهماً من عوامل
الصمود والتحدي أمام الباطل وأهله، ولقد كانت تربية النبي صلى الله عليه وسلم
لأصحابة على الصبر مقصودة في حد ذاتها؛ لأنه يعلم ـ ويريد أن يعلمهم ـ أن النصر مع
الصبر، وأن البلاء سُنَّة ماضية، وأن أهل الإيمان لا بد أن يتعرضوا للفتن تمحيصاً
وإعداداً. قال الله ـ تعالى ـ: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ))
[العنكبوت: 2].
4 ـ لقد تجلت التضحيات والمواقف النبيلة للثبات على المبدأ الحق عند الصحابة الكرام
بما يبهر العقول وتعجز عن وصفه الألسن، ولذلك لم يكن مثل هذا المكر السيئ والكيد
المسعور ليثنيهم عن واجب عظيم ورسالة قد آمنوا بها وأُشرِبوا حبها وعاهدوا الله على
الجهاد في سبيل نشرها. إن الثبات والاستمرار في الدعوة علامة على صدق الداعية
وإخلاصه وفهمه السليم لطبيعة الدعوة وحقيقتها، وإن التراجع أو الانتكاسة في منتصف
الطريق وعند المنعطفات الحرجة التي تمر بها الدعوة يعد علامة على ضعف الإيمان
وتزعزع اليقين وحب الدنيا والخلود إليها. يقول الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ:
(وفي أيام الشِّعب كان المسلمون يلقون غيرهم في موسم الحج ولم تشغلهم آلامهم عن تبليغ
الدعوة وعرضها على كل وفد؛ فإن الاضطهاد لا يقتل الدعوات؛ بل يزيد جذورها عمقاً،
وفروعها امتداداً، وقد كسب الإسلام أنصاراً كثراً في هذه المرحلة)(3). فالثباتَ الثباتَ
أيها الدعاة، وعليكم بمواصلة السير والاستفادة من كل باب مفتوح لتبليغ الدعوة بالحكمة
والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ((ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)).[آل عمران: 139] .
5 ـ لقد وقف الكفار من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً حسناً؛ إذ دخلوا معه ومع
أصحابه في الشِّعب حمية منهم وتقديراً ـ ولا شك في ذلك ـ لما تميز به الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم من حسن الخلق وحسن المعاملة معهم. فما أجمل الإحسان إلى الناس! وما
أحق الأقربين بالمعروف! وأفضلُ الإحسان إلى هؤلاء هو دعوتهم للخير والأخذ بأيديهم إلى
رياض الإيمان. والداعية ـ بلا شك ـ معرض للأذى والخطر من أهل الشر الكارهين للدعوة
ولمن يقوم بها؛ ولذلك لا بد له من حماية. وعشيرة الداعية وأقرباؤه هم أكثر الناس
استعداداً لمثل هذه الحماية؛ وخاصة إذا مَنَّ الله عليهم بنور هذه الدعوة وصبروا على ما
يلاقون في سبيل نشرها من الأذى؛ فإنهم حينئذ في مقام كريم ((ومَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَذِينَ صَبَرُوا ومَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)) [ فصلت: 35].
6 ـ لا بد أن ندرك أن الأعداء يبذلون الكثير من المال من أجل نشر باطلهم والصد عن
سبيل الله؛ فمن أجل تلكم الأزمة الاقتصادية دُفعت الأموال الطائلة للضغط على الأجساد
والبطون، ولكنهم لم يجدوا إلى القلوب المؤمنة سبيلاً، وما زال الأعداء ولا يزالون ينفقون
بسخاء في سبيل الظلم والطغيان ونشر الكفر والإلحاد وتشجيع الفجور والإباحية عن طريق
المؤسسات الإعلامية والمؤسسات التنصيرية والمؤسسات الفكرية وغيرها؛ كل ذلك ليصدوا
الناس عن الحق ((إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)) [الأنفال: 36].
وإذا كان أهل الباطل يبذلون الكثير من المال من أجل باطلهم وفجورهم فما بال الموسرين(/2)
من المسلمين يمسكون ـ إلا ما شاء الله ـ عن الإنفاق في سبيل الله لنشر الحق ودعوة الحق
ومواساة المعوزين من المسلمين؟ فالبذلَ البذلَ ـ أيها المسلمون ـ وإلا حق فينا قول الحق ـ
جل ثناؤه ـ: ((هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ومَن يَبْخَلْ فَإنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ واللَّهُ الغَنِيُّ وأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)) [محمد: 38].
ثانياً: حديث نقض الصحيفة:
قال ابن إسحاق: "ثم إنه قام في نقض تلك الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش على بني
هاشم وبني المطلب نفر من قريش ولم يَبْلُ فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو؛ وذلك
أنه ابن أخ نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، وكان هشام لبني هاشم واصلاً، وكان ذا
شرف في قومه فكان يأتي بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلاً قد أوقره طعاماً
حتى إذا أقبل به فم الشِّعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فيدخل الشعب
عليهم، ثم يأتي به قد أوقره بزاً فيفعل به مثل ذلك... ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية
بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ـ وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ـ فقال: يا
زهير! أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت
لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا
أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً. قال:
ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد! والله! لو كان معي رجل آخر لقمت في
نقضها حتى أنقضها. قال: وقد وجدتُ رجلاً. قال: من هو؟ قال أنا. قال له زهير: ابغنا
رجلاً ثالثاً، فذهب إلى المُطعِم بن عدي، فقال له: يا مطعم! أقد رضيت أن يهلك بطنان
من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه؟ أما والله لئن أمكنتموهم من
هذه لتجدنها إليها منكم سراعاً. قال: ويحك! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال: قد
وجدتُ ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال ابغنا ثالثاً، قال: قد فعلتُ، قال: من هو؟
قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعاً. فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له
نحواً مما قال لمطعم بن عدي، فقال: ابغنا خامساً. فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب
بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني
إليه من أحد؟ قال: نعم! ثم سمى له القوم. فاتَّعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة
فاجتمعوا هنالك، فأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في نقض الصحيفة حتى ينقضوها،
وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير بن
أبي أمية وعليه حلة فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة! أنأكل
الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم لا يباعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تُشَقَّ هذه
الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل ـ وكان في ناحية المسجد ـ: كذبت، والله! لا
تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت ـ والله ـ أكذب؛ ما رضينا كتابتها حين كتبت. قال أبو
البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كتب ـ والله ـ فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدي:
صدقتما، وكذب من قال غير ذلك؛ نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو
نحواً من ذلك، قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل تُشُووِر فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب
جالس في ناحية المسجد فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأَرضة قد أكلتها إلا:
(باسمك اللهم) وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، فَشُلَّت يده ـ فيما يروُون.
قال ابن هشام: وقد ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي
طالب: يا عم! إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا
أثبتته فيها ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان. فقال: أربُّك أخبرك بهذا؟ قال: نعم.
قال: فوالله! ما يدخل عليك أحد، ثم خرج إلى قريش، فقال: يا معشر قريش! إن ابن
أخي أخبرني بكذا وكذا فهلمَّ صحيفتَكم، فإن كانت كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا
وانزلوا عما فيها، وإن كان كاذباً دفعت إليكم ابن أخي؛ فقال القوم: رضينا. فتعاقدوا على
ذلك، ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزادهم ذلك شراً؛ فعند
ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا"(4).
الدروس المستفادة من هذه الحادثة:
1ـ لقد استطاع نفر من الناس بعمل يسيرٍ مواجهة أزمة دامت ثلاث سنوات خطط لها
أصحابها وأحكموا تنفيذها ودعموا استمراريتها بكامل قواهم السياسية والاجتماعية. نعم!
لقد استطاعوا تخطي هذا المأزق الصعب وهم نفر قليل كانوا يعيشون وسط المجتمع نفسه،
وذلك بالعزيمة القوية والتخطيط الدقيق؛ إذ لم يكن أحد من كبار القوم ومن أصحاب تلك(/3)
المؤامرة الخبيثة يحلم بأنه سيأتي اليوم الذي تنتهي فيه هذه المؤامرة بمثل هذه السرعة
وبمثل هذه المفاجأة؛ فقد وضعوا في حسابهم أنه لا يمكن لأحد أن يقف في وجه هذه القوة
التي تحمي هذا القرار، وإن استطاع أن يقف في وجوههم فإنه لا يستطيع أن ينتهك قداسة
القرار الذي علق في جوف الكعبة، ولكنهم نسوا أن الظلم مرتعه وخيم، وأن الحق يعلو ولا
يُعلى عليه.
واليوم وبفعل الهزيمة النفسية التي أصابت المسلمين فإنه يقع مثل هذا الحصار من الدول
الظالمة ولا يقوم أحد برد الظلم وتمزيق الصحيفة والانسحاب من القرار؛ بل لا يفكر الكثير
من المسلمين حتى في مجرد المحاولة؛ لا أقول بالعنف ولكن بالحوار والحل السلمي وهو
الأسلوب الذي ينادون به حينما تكون القضية في صالحهم؛ فأين الذين يفكرون في قضايا
إخوانهم المسلمين ويتفاعلون مع همومهم ويدركون معنى قول الله ـ تعالى ـ: ((إنما المؤمنون إخوة)) [الحجرات: 10].
5 ـ إن الحكمة وحسن التخطيط من أساسيات الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ وكم نحن في حاجة
إليه؛ لأن العشوائية وارتجال المواقف والتكبر عن طلب النصح والمشورة قد جنت الدعوة
من ويلاتها العلقم المر حتى أصبح التخطيط والتنظيم ضرورة دعوية على مختلف
المستويات لا يكاد يختلف عليها اثنان ممن يعرفون طبيعة الدعوة ومخططات أعدائها؛
وخصوصاً في مثل هذا العصر المشحون بالفتن والمغريات، ومع ذلك فإن هناك ـ للأسف
الشديد ـ من لا يكتفي بعدم القناعة بهذا؛ بل يشكك فيه ويحاربه، ولعل مثل هذا يستفيد
من الحكمة والتخطيط عند هؤلاء النفر ولعله يستفيد من موقف زهير بن أبي أمية مع قومه
وكيف اختار هيئة مناسبة وقدم للأمر بالطواف، وتكلم كلاماً موجزاً قوياً يفي بالغرض
لهذا العمل الفدائي ـ إن صح التعبير ـ في ذلك الوسط المشحون بالعداوة والموبوء بحب
الانتقام والسيطرة.. ولينظر كيف تم التشاور الثنائي في كل مرحلة حتى أحكمت الأدوار
وتم التنسيق للعرض والمواجهة، وأخذت العدة واختير الزمان والمكان المناسبين لعقد هذا
الاتفاق، ثم مُثِّل هذا الدور على أحسن صورة فكانت كلمات القوم تنطلق من وسط الصفوف
يؤيد بعضهم بعضاً بطريقة لم يجد أمامها الملأ إلا التسليم... فهل في هذا العمل الإنساني
النبيل من بأس، وهو يحقق مصلحة عامة؟ ألا فليتأمل هؤلاء ويقيسوا ـ إن كان للقياس
عندهم اعتبار ـ بدلاً من أن يجعلوا التخطيط والتنظيم في أمور الدعوة محل اتهام، ويرونه
جائزاً للكفار ومحرماً على المسلمين. ألا فاستلهموا رشدكم واعرفوا قدر عدوكم ((ولا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ))
[النساء: 104].
2 ـ إن أصحاب النفوذ والقوة كلماتهم مسموعة وأمرهم مطاع في غالب الأحيان؛ ولكن الذي
يؤسف له هو عدم الروية والتفكر فيما يأمرون به وينهون عنه؛ فهؤلاء النفر الذين سعوا في
نقض الصحيفة كانوا ـ ولا شك ـ على علم بها منذ بداية أمرها فوافقوا عليها حينئذ
مكرهين ـ إكراهاً ـ معنوياً ـ حتى لا يشذوا عن الصف ويكونوا محل اتهام من أصحاب
القرار؛ ولكنهم فيما بعد فعلوا الذي فعلوا، بل وبينوا أنهم لم يكونوا راضين عن هذه
الصحيفة عند كتابتها، ولم يستشرهم فيها أحد، بل تشاور فيها الملأ ولم يستأذنوا فيها
العامة، ولهذا أدرك هؤلاء الرهط أن هذه السابقة تنبئ عن خطر عظيم تكنه نفوس القوم
الذين سعوا في كتابة هذه الصحيفة؛ فلذلك قال هشام بن عمرو للمطعم بن عدي: (أما والله
لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنها إليها منكم سراعاً) وأدركوا أيضاً أن هؤلاء الملأ لم ينفذوا
هذا القرار إلا لرغبتهم الشخصية وليس فيه أي مراعاة للمصلحة العامة؛ ولذلك قال
صاحب المبادرة هشام بن عمرو لزهير: (أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم
بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً) وهذه سياسة أصحاب
المطامع؛ فهم في كل زمان يكيلون بمكيالين شأنهم شأن من قال الله فيهم: ((الَذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا ألَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وإن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ونَمْنَعْكُم مِّنَ المُؤْمِنِينَ )) [النساء: 141].
4 ـ لا شك أن موقف أهل الباطل من الدعوة ليس بدرجة واحدة؛ بل يتفاوت تفاوتاً
كبيراً، وكذلك ينبغي أن يكون موقف أهل الحق منهم؛ لأن منهم من يتعاطف مع الدعوة
ويقف بجانبها حتى وإن كان مقيماً على فسقه وفجوره، ومنهم من يكرهها ويحقد على
أهلها بكل حال ـ وإن كانوا مظلومين ـ استكباراً منه وعدواناً، ومنهم أناس بين ذلك
((ولِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ومَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)) [الأنعام: 132] وفي قصة الشِّعب
نجد لعمِّ النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب مواقف تستحق الذكر والإشادة وإن كان(/4)
كافراً؛ ففي بداية الأمر كان هو الذي (جمع بني عبد المطلب فأجمع لهم أمرهم على أن
يُدخِلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه شعبهم، ويمنعوه ممن أراده، وذلك حينما
أجمع المشركون من قريش على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فاجتمع
بنو المطلب كافرهم ومسلمهم؛ منهم من فعله حمية وهم الكفار، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً
وهم المسلمون؛ فلما عرفت قريش أن القوم قد اجتمعوا ومنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم
اجتمع المشركون من قريش وأجمعوا أمرهم على ما في الصحيفة)(5) كما كان في ليالي
الشِّعب (يأخذ أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فيضطجع على فراش رسول الله صلى الله
عليه وسلم ويأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها حرصاً
عليه ممن يريد به مكراً أو غائلة)(6) ثم إنه أيضاً كان صاحب المحاولة الأولى في نقض
الصحيفة ـ كما أسلفنا ـ. وفي المقابل فإن عدو الله أبا جهل كان أول من سعى في كتابة
الصحيفة وكان يمنع وصول أي مدد إلى المحاصرين وكان من أكبر المعارضين لنقض هذه
الصحيفة.. ثم تأمل في أولئك النفر من قريش كيف كانوا كارهين لهذا الأمر؛ كلما ذهب
هشام إلى واحد منهم وافقه على رأيه بسهولة ويسر ودون تردد، بل ربما لو أراد هؤلاء
الخمسة أن يستزيدوا لوجدوا كثيراً من الجماهير ممن نشؤوا على كره الظلم تتابعهم على
ذلك، ولكنهم خافوا أن يفتضح أمرهم فيدخل معهم من لا يؤمن جانبه. "والناس معادن
خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا؛ تجد من خير الناس أشدهم كراهية
لهذا الشأن حتى يقع فيه"(7).
5 ـ إن رد الجميل لأصحابه ومكافأة المحسنين على إحسانهم خُلُق رفيع حث عليه
الإسلام؛ وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أتى إليكم معروفاً فكافئوه"(8)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مقدراً لأصحاب المواقف مواقفهم الإيجابية في هذا
الحدث الهام، وكان يكافئهم عليها. فأما عمه أبو طالب فقد قال العباس بن عبد المطلب ـ
رضي الله عنه ـ للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيتَ عن عمك؛ فوالله كان يحوطك
ويغضب لك؟ قال: "هو في ضحضاح من نار؛ ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"(9).
وأما هشام بن عمرو فقد أسلم وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم معركة حنين
دون المائة من الإبل(10). وأما أبو البختري فقد كان في صف المشركين يوم بدر فنهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن قتله، قال ابن هشام: (وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وكان
لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة)(11) وهذه مجرد
أمثلة للاعتبار. وعلى الدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ أن يعرفوا لأهل الفضل فضلهم، وأن
يسجلوا لأصحاب المواقف الشريفة مواقفهم، وأن يجازوهم على الإحسان إحساناً؛ فإن من
الأفاضل من يذب عن أعراض الدعاة بلسانه وقلمه ويتصدى لأعداء الدعوة ويسد طريقهم،
ومنهم من يتفانى في نصح الدعاة وطلبة العلم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر
ويدعمهم ويقف معهم؛ فهذه الجهود ينبغي أن تكون محل رضى وتقدير من جميع الدعاة
((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً))[الأحزاب: 21].
6 ـ يجب ألا يغفل الدعاة إلى الله عن الاهتمام برؤوس الناس وقادتهم الذين يؤثرون فيهم
سلباً وإيجاباً وحسن العلاقة معهم؛ فقد يتحقق على أيديهم نفع عظيم للدعوة ولو لم
يكونوا على قدر من الاستقامة.
7 ـ ينبغي ألا يعرض عن أهل الباطل بالكلية؛ فإن منهم أناساً مأسورين إما بشهواتهم
وأهوائهم أو بتأثير من شياطين الجن والإنس، وبعض هؤلاء قد لا يحتاجون إلى كبير جهد
ليميزوا بين الحق والباطل فيتبعون الحق ويعز الله بهم الدين.
8 ـ من الحكمة اتخاذ الأسلوب الحكيم والحجة البالغة في الحوار واهتبال الوقت المناسب
له ليؤدي نتيجة مثمرة؛ فإن الرهط الذين سعى إليهم هشام ليتفق معهم على نقض الصحيفة لم يعترض منهم أحد؛ ولعله قد اختار الأشخاص المناسبين لهذا الحدث حسب
معرفته بالرجال ومواقفهم السابقة من الدعوة وحسب تقديره لما يتطلبه الموقف.
9 ـ يراعى جانب من بدرت منه بادرة طيبة وموقف حسن من الدعوة؛ فإن مثل هذا غالباً
مهيأ في مستقبل الأيام ليكون له شأن آخر ومواقف مباركة، فلا بد أن يشجع ويشكر على
مواقفه تلك لعله يكون رصيداً لمستقبل الدعوة.
ثالثاً: الحصار الحديث:
أخي القارئ الكريم: لعلك قد أدركت من خلال هذا العرض السريع لحدث تاريخي هام
من أحداث السيرة النبويةالعطرة وما تخلل ذلك من الدروس والعبر أن الأمة الإسلامية في
الوقت الراهن تعاني أربعة أنواع من الحصار:
النوع الأول: الحصار المادي لبعض الشعوب الإسلامية المنكوبة وهو أسلوب وإن استنكرته(/5)
الجاهلية الأولى فإن من يفرضونه في جاهلية اليوم ممن يسمون بالدول الكبرى يفتقدون
بعض الخصائص التي كان يتميز بها أسلافهم من المشركين مثل المروءة والشهامة والحياء،
ويفتقد كبراؤهم بعض المبادئ الإنسانية الأولية التي يمكن أن ينبثق عنها العطف والرحمة
لهذه الشعوب، ولقد بلغت بهم الكبرياء والغطرسة مثل الذي كان بفرعون من الطغيان وإن
لم يقولوا بألسنتهم ما قاله الأول بلسانه: ((أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى )) [النازعات: 24] ((مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ)) [ غافر: 29] إلا أن لسان الحال شاهد
على ذلك بما لا يقبل الشك، ومكرهم أصبح مكشوفاً، ونحن نؤمن بقول الله ـ تعالى ـ:
((ولا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ)).[ فاطر: 43].
النوع الثاني: الحصار المعنوي للشعوب المسلمة وذلك (بإغراق الناس في الشهوات بالإعلام
الماجن الذي يشيع الفواحش وينشر الرذيلة على أمل أن ينجرف أكثر الشباب في تيار
الإباحية والفجور فلا ينفعهم نصح الناصحين ووعظ الواعظين)(12).
النوع الثالث: الحصار المادي للدعاة والعلماء؛ وهذا وإن كان مما يؤلم القلوب المؤمنة إلا أن
له فوائد عظيمة وآثاراً بعيدة المدى في صقل نفوس الدعاة المأسورين فإذا هي كالذهب
الخالص. قال الله ـ تعالى ـ: ((فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)) [الرعد: 17].
النوع الرابع: الحصار الفكري للدعاة وذلك بصد الجماهير عنهم من خلال وصفهم
بالألقاب المنفرة كالتطرف والإرهاب وغيرها، وذلك بواسطة الإعلام الذي يخدر الشعوب
ويقلب الحقائق ويفرق بين القلوب؛ فهو السحر الحديث الذي أفرزه الفكر الغربي، وهو
المصيدة التي يمكن أن تؤدي الدور بالوجه المطلوب بعد أن ترفع راية الإرهاب وتلوِّح بها
وتنادي الجميع للمشاركة في زوبعتها ليجعلوها دعوى يطعنون من خلالها في الدعوة
الإسلامية، ومعولاً يضربون به حصونها، وسيفاً مصلتاً على رقاب الدعاة والمخلصين،
وتهمة جاهزة تطرح على المجاهدين الصادقين.
إن هذا المصطلح ـ أعني الإرهاب ـ مصطلح مناسب لمثل هذا الحصار الدعوي بغضِّ النظر
عن مكان منشئه وسببه. إنه مصطلح مخيف يهز قلوب الجبناء ويسيطر على أفئدة ضعفاء
العقول؛ لأنه لفظ يوحي بالنفرة والوحشية لسامعه ومن خلال وصم الدعاة بهذا اللقب
يمكن الطعن في الجهاد الإسلامي والتشكيك في حكمته.
ويهتبل الإعلام الكاذب والمزور للحقائق فرصة كل حركة نشاز وكل حادث شاذ يقع من
بعض الجهلة أو المتعجلين من المسلمين ـ أو من غير المسلمين أحياناً ـ فيضخمه ويستغل
الحدث اليسير أبشع استغلال، من أجل الكيد للدعوة ودعاة الإسلام وشن الهجوم الكاسح
عليهم والطعن في نياتهم؛ حيث يتهم دعاة المسلمين زوراً وبهتاناً وظلماً وعدواناً بأنهم وراء
كل عمل إجرامي وكل حادث تخريبي يحدث في أي مكان من الأرض حتى تثبت براءتهم
إن كان لذلك من سبيل.
لقد نجح الأعداء إلى حد بعيد ـ وعلى مدى العشرين سنة الأخيرة تقريباً ومنذ أن ظهر
مصطلح الإرهاب والتطرف ـ في عزل الدعاة عن جماهير المسلمين عزلاً فكرياً يفوق في آثاره
العزل الحسي.
لقد جعل الأعداء شبح هذا المصطلح يطارد كل مسلم مستقيم يحافظ على أصول دينه أو
يفكر في الدعوة إليه، وجعلوا هذا المصطلح مرادفاً للتعصب المذموم والتشدد في الدين والغلو
والتنطع والبعد عن حقيقة الإسلام وصفائه، واتهموا من وصموهم بهذا المصطلح بكره
الشعوب وعامة الناس والانتقام من المصالح العامة وتدمير مقدرات الأمة والعبث بها، وبعد
أن وسّعوا دائرة هذا المصطلح بما يوافق شهواتهم وأهواءهم جعلوه عنواناً على صنف من
الناس بمواصفات خاصة تزيد في مكان وتقل في مكان آخر. ومع أن التأثير يتفاوت من بلد
لآخر إلا أن العامل المشترك هو نظرة الجميع لهذه الفئة من الناس بأنهم شواذ أو على أقل
تقدير يجب التحفظ عليهم والبعد عنهم والخوف من آرائهم المنحرفة وأفكارهم المسمومة
وحمل كلامهم دائماً على المحامل الأخرى التي تتناسب مع التفسير الإعلامي الذي يطن
في الآذان صباح مساء. ومن هنا نجح هذا الحصار الدعوي الفكري الإعلامي في عزل هذا
الفئة المؤمنة المجاهدة عن التأثير المطلوب في الجماهير المتعطشة لدينها من خلال هذا التخطيط الماكر وهذه الفكرة المسمومة.
ومن أجل هذا كان لا بد من التفكير الجاد للخروج من مأزق هذا الحصار النفسي وتحدي
هذه العقبات بتوثيق الصلة بين فئات المجتمعات المسلمة، والدعوة في صفوفهم بالأساليب
المشروعة، وكشف خطط الأعداء بإجلاء الغشاوة التي وضعها الإعلام الخبيث على أعين
الكثيرين من الغافلين؛ وذلك من أجل توضيح الحقائق وتصفية القلوب وتبليغ دين الله ـ
عز وجل ـ حتى يعم الخير ويفشو الصلاح ويقطع دابر المجرمين.
الهوامش:
(1) سيرة ابن هشام 1/371 ـ 376، طبعة دار الإفتاء، الرياض.
(2) الروض الأنف للسهيلي 2/127 ـ 128.(/6)
(3) فقه السيرة، للغزالي، ص 129.
(4) سيرة ابن هشام 1/397 ـ 400.
(5) مغازي عروة بن الزبير، الأعظمي، ص114.
(6) مغازي عروة بن الزبير، الأعظمي، ص114.
(7) صحيح البخاري، حديث 3496.
(8) حديث صحيح، صحيح الجامع الصغير للألباني، رقم 5813.
(9) صحيح البخاري، حديث 3883.
(10) سيرة ابن هشام4/140.
(11) سيرة ابن هشام 2/270.
(12) وقفات تربوية مع السيرة النبوية، لأحمد فريد، ص 85.
مجلة البيان(/7)
حصار النبي صلى الله عليه وسلم في شعب بني طالب دروس وعبر
سلمان بن يحي المالكي
الدين الإسلامي ليس مجرد تنظيم للحياة ولكنه دين واقعي يتعايش بأصوله ومبادئه وأحكامه مع الواقع بعيداً عن الافتراضات الخيالية والمثل العائمة التي لا تتوافق مع طبيعة النفس البشرية. والسيرة النبوية العطرة هي المثال الحي للتطبيق العملي للمثل والأخلاق والمبادئ والأحكام الإسلامية، بل هي المنهج الإسلامي الكامل بكل مكوناته في واقع الحياة. وهي بهذا وبكل ما اشتملت عليه من أحداث وتوجيهات نور ساطع في سجل التاريخ البشري يقتبس منه من أراد في أي جيل دروساً تهدي الحيارى وترشد التائهين لأحسن السبل وأقومها. إنها منهج ينبغي أن نتربى عليه ونربي أبناءنا على ما يشمله من مفاهيم وقيم نرى أن الناس في هذا الزمان أشد ما يكونون حاجة إليها. وفي هذا اللقاء سأقلِّب النظر في حدث من أحداث السيرة النبوية المشرفة وهو (حصار الشِّعب) لنستنبط منه بعض الدروس والعبر التي نأمل أن ينفع الله بها..
أولاً: خبر الصحيفة:
قال ابن إسحاق: "لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم؛ فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل : اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم. فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب فدخلوا معه في شِعْبه فاجتمعوا إليه، فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا، لا يصل إليهم شيء إلا سراً متخفياً به من أراد صلتهم من قريش وقد كان أبو جهل بن هشام ـ فيما يذكرون ـ لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد ومعه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله! لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة. فجاءه أبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم! فقال أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه؛ أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلِّ سبيل الرجل. قال: فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لَحْيَ بعير فضربه به فشجه، ووطئه وطئاً شديداً وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلاً ونهاراً سراً وجهراً مبادياً بأمر الله لا يتقي فيه أحداً من الناس" (سيرة بن هشام )
قال السهيلي: "وذكر ما أصاب المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب من الحصار لا يبايَعون ولا يناكَحون. وفي الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر، حتى إن أحدهم ليضع كما تضع الشاة. وكان فيهم سعد بن أبي وقاص رُوي أنه قال: لقد جعت حتى إني وطئت ذات ليلة على شيء رطب فوضعته في فمي وبلعته وما أدري ما هو إلى الآن. وفي رواية يونس أن سعداً قال: خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت البول فإذا قطعة من جلد بعير يابسة أخذتها وغسلتها ثم أحرقتها ثم رضضتها وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثاً. وكانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدُهم السوقَ ليشتري شيئاً لعياله فيقوم أبو لهب عدو الله فيقول: يا معشر التجار! غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً؛ فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي؛ فأنا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يديه شيء يُطعمهم به، ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعاً وعرياً "
الدروس المستفادة من هذه الحادثة:(/1)
1ـ لقد فكر الأعداء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تفكيراً جماعياً جاداً منظماً ومعتمداً على التخطيط الدقيق لضرب الحركة الإسلامية، وذلك حينما بدأت قاعدتها في الرسوخ، ونجحت في جذب العناصر القوية إليها، وبدأت تفكر في الحماية الأمنية اللازمة حتى تؤدي رسالتها للعالمين، عندئذ أدرك الأعداء أنه لا بد من القضاء على هذه الدعوة في مهدها، فكانت فكرة الحصار الاقتصادي وسياسة التجويع أملاً يداعب حلمهم ويطفئ ثورة حقدهم. ولكن الله خذلهم فأعز دينه وأتم نوره وازدادت الدعوة صلابة وقوة وازداد أصحابها يقيناً وتضحيات؛ فلا بد إذن من اليقين بأن الله متم نوره ولو كره الكافرون، وأن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار مهما مكر الأعداء بأهله {ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} الأنفال: 30.
2ـ لم تقتصر معاهدة قريش وأذاها على أصحاب الدعوة وحدهم بل شملت كل من يعطف عليهم أو يدافع عنهم أو يمدهم بصلة ولو سراً. ولهذا ينبغي لعموم المسلمين أن يكونوا يداً واحدة مع علمائهم ودعاتهم يؤازرونهم وينصرونهم، ويكونوا صفاً واحداً لا تخترقه سهام الأعداء قال الله ـ تعالى ـ: {واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا } آل عمران: 103.
3ـ لقد تجرع الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ مرارة هذا الحصار وتقلبوا في لظى هذه المؤامرة الخبيثة عندما أُطبِقَ عليهم بسياج من الظلم المكشوف المتمثل في تلك الصحيفة الجائرة، فصبروا حتى أتاهم نصر الله. لقد كانو يقدرون مسؤولية تبليغ الرسالة الملقاة على كواهلهم، وكانوا يدركون حقيقة هذه الرسالة وطبيعتها، وأنها لا بد أن تبلَّغ للناس بجهد من البشر، وفي حدود قدراتهم {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ} العنكبوت: 2.
4- لقد تجلت التضحيات والمواقف النبيلة للثبات على المبدأ الحق عند الصحابة الكرام بما يبهر العقول وتعجز عن وصفه الألسن، ولذلك لم يكن مثل هذا المكر السيئ والكيد المسعور ليثنيهم عن واجب عظيم ورسالة قد آمنوا بها وأُشرِبوا حبها وعاهدوا الله على الجهاد في سبيل نشرها.
5ـ لقد وقف الكفار من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً حسناً؛ إذ دخلوا معه ومع أصحابه في الشِّعب حمية منهم وتقديراً ـ ولا شك في ذلك ـ لما تميز به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق وحسن المعاملة معهم. فما أجمل الإحسان إلى الناس! وما أحق الأقربين بالمعروف! وأفضلُ الإحسان إلى هؤلاء هو دعوتهم للخير والأخذ بأيديهم إلى رياض الإيمان. والداعية ـ بلا شك ـ معرض للأذى والخطر من أهل الشر الكارهين للدعوة ولمن يقوم بها؛ ولذلك لا بد له من حماية.
6 لا بد أن ندرك أن الأعداء يبذلون الكثير من المال من أجل نشر باطلهم والصد عن سبيل الله؛ فمن أجل تلكم الأزمة الاقتصادية دُفعت الأموال الطائلة للضغط على الأجساد والبطون، ولكنهم لم يجدوا إلى القلوب المؤمنة سبيلاً، وما زال الأعداء ولا يزالون ينفقون بسخاء في سبيل الظلم والطغيان ونشر الكفر والإلحاد وتشجيع الفجور والإباحية عن طريق المؤسسات الإعلامية والمؤسسات التنصيرية والمؤسسات الفكرية وغيرها؛ كل ذلك ليصدوا الناس عن الحق {إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} الأنفال: 36
وإذا كان أهل الباطل يبذلون الكثير من المال من أجل باطلهم وفجورهم فما بال الموسرين من المسلمين يمسكون ـ إلا ما شاء الله ـ عن الإنفاق في سبيل الله لنشر الحق ودعوة الحق ومواساة المعوزين من المسلمين؟ فالبذلَ البذلَ ـ أيها المسلمون ـ وإلا حق فينا قول الحق ـ جل ثناؤه ـ: {هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ومَن يَبْخَلْ فَإنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ واللَّه الغَنِيُّ وأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} محمد: 38.
ثانيا : نقض الصحيفة :(/2)
قال ابن إسحاق: "ثم إنه قام في نقض تلك الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش على بني هاشم وبني المطلب نفر من قريش ولم يَبْلُ فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو؛ وذلك أنه ابن أخ نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، وكان هشام لبني هاشم واصلاً، وكان ذا شرف في قومه فكان يأتي بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلاً قد أوقره طعاماً حتى إذا أقبل به فم الشّعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فيدخل الشعب عليهم، ثم يأتي به قد أوقره بزاً فيفعل به مثل ذلك... ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ـ وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ـ فقال: يا زهير! أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً. قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد! والله! لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها. قال: وقد وجدتُ رجلاً. قال: من هو؟ قال أنا. قال له زهير: ابغنا رجلاً ثالثاً، فذهب إلى المُطعِم بن عدي، فقال له: يا مطعم! أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنها إليها منكم سراعاً. قال: ويحك! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال: قد وجدتُ ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال ابغنا ثالثاً، قال: قد فعلتُ، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعاً. فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحواً مما قال لمطعم بن عدي، فقال: ابغنا خامساً. فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم! ثم سمى له القوم. فاتَّعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة فاجتمعوا هنالك، فأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في نقض الصحيفة حتى ينقضوها، قال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير بن أبي أمية وعليه حلة فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة! أنأكل لطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم لا يباعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تُشَقَّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل ـ وكان في ناحية المسجد ـ: كذبت، والله! لا تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت ـ والله ـ أكذب؛ ما رضينا كتابتها حين كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كتب ـ والله ـ فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك؛ نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك، قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل تُشُووِر فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأَرضة قد أكلتها إلا: (باسمك اللهم) وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، فَشُلَّت يده ـ فيما يروُون. قال ابن هشام: وقد ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: " يا عم! إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أثبتته فيها ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان". فقال: أربُّك أخبرك بهذا؟ قال: نعم. قال: فوالله! ما يدخل عليك أحد، ثم خرج إلى قريش، فقال: يا معشر قريش! إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا فهلمَّ صحيفتَكم، فإن كانت كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها، وإن كان كاذباً دفعت إليكم ابن أخي؛ فقال القوم: رضينا. فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزادهم ذلك شراً؛ فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا" سيرة بن هشام "
الدروس المستفادة من هذه الحادثة :(/3)
1ـ لقد استطاع نفر من الناس بعمل يسيرٍ مواجهة أزمة دامت ثلاث سنوات خطط لها أصحابها وأحكموا تنفيذها ودعموا استمراريتها بكامل قواهم السياسية والاجتماعية. نعم لقد استطاعوا تخطي هذا المأزق الصعب وهم نفر قليل كانوا يعيشون وسط المجتمع نفسه، وذلك بالعزيمة القوية والتخطيط الدقيق؛ إذ لم يكن أحد من كبار القوم ومن أصحاب تلك المؤامرة الخبيثة يحلم بأنه سيأتي اليوم الذي تنتهي فيه هذه المؤامرة بمثل هذه السرعة وبمثل هذه المفاجأة؛ فقد وضعوا في حسابهم أنه لا يمكن لأحد أن يقف في وجه هذه القوة التي تحمي هذا القرار، وإن استطاع أن يقف في وجوههم فإنه لا يستطيع أن ينتهك قداسة القرار الذي علق في جوف الكعبة، ولكنهم نسوا أن الظلم مرتعه وخيم، وأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه. واليوم وبفعل الهزيمة النفسية التي أصابت المسلمين فإنه يقع مثل هذا الحصار من الدول الظالمة ولا يقوم أحد برد الظلم وتمزيق الصحيفة والانسحاب من القرار؛ بل لا يفكر الكثير من المسلمين حتى في مجرد المحاولة؛ لا أقول بالعنف ولكن بالحوار والحل السلمي وهو الأسلوب الذي ينادون به حينما تكون القضية في صالحهم؛ فأين الذين يفكرون في قضايا إخوانهم المسلمين ويتفاعلون مع همومهم ويدركون معنى قول الله ـ تعالى ـ: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } الحجرات:10.
2. إن الحكمة وحسن التخطيط من أساسيات الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ وكم نحن في حاجة إليه؛ لأن العشوائية وارتجال المواقف والتكبر عن طلب النصح والمشورة قد جنت الدعوة من ويلاتها العلقم المر حتى أصبح التخطيط والتنظيم ضرورة دعوية على مختلف المستويات لا يكاد يختلف عليها اثنان ممن يعرفون طبيعة الدعوة ومخططات أعدائها؛ وخصوصاً في مثل هذا العصر المشحون بالفتن والمغريات، ومع ذلك فإن هناك ـ للأسف الشديد ـ من لا يكتفي بعدم القناعة بهذا؛ بل يشكك فيه ويحاربه .
3 . لا شك أن موقف أهل الباطل من الدعوة ليس بدرجة واحدة؛ بل يتفاوت تفاوتاً بيراً، وكذلك ينبغي أن يكون موقف أهل الحق منهم؛ لأن منهم من يتعاطف مع الدعوة ويقف بجانبها حتى وإن كان مقيماً على فسقه وفجوره، ومنهم من يكرهها ويحقد على أهلها بكل حال ـ وإن كانوا مظلومين ـ استكباراً منه وعدواناً، ومنهم أناس بين ذلك {ولِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ومَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} الأنعام: 132 وفي قصة الشِّعب نجد لعمِّ النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب مواقف تستحق الذكر والإشادة وإن كان كافراً؛ ففي بداية الأمر كان هو الذي (جمع بني عبد المطلب فأجمع لهم أمرهم على أن يُدخِلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه شعبهم، ويمنعوه ممن أراده، وذلك حينما أجمع المشركون من قريش على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فاجتمع بنو المطلب كافرهم ومسلمهم؛ منهم من فعله حمية وهم الكفار، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً وهم المسلمون؛ فلما عرفت قريش أن القوم قد اجتمعوا ومنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمع المشركون من قريش وأجمعوا أمرهم على ما في الصحيفة)كما كان في ليالي الشِّعب (يأخذ أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فيضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها حرصاً عليه ممن يريد به مكراً أو غائلة) .
4- إن رد الجميل لأصحابه ومكافأة المحسنين على إحسانهم خُلُق رفيع حث عليه الإسلام؛ وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أتى إليكم معروفاً فكافئوه" (صحيح الجامع). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مقدراً لأصحاب المواقف مواقفهم الإيجابية في هذا الحدث الهام، وكان يكافئهم عليها. فأما عمه أبو طالب فقد قال العباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيتَ عن عمك؛ فوالله كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "هو في ضحضاح من نار؛ ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"( رواه البخاري) . وأما هشام بن عمرو فقد أسلم وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم معركة حنين دون المائة من الإبل(سيرة بن هشام ). وأما أبو البختري فقد كان في صف المشركين يوم بدر فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، قال ابن هشام: (وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة) (سيرة بن هشام )
5. ينبغي ألا يعرض عن أهل الباطل بالكلية؛ فإن منهم أناساً مأسورين إما بشهواتهم وأهوائهم أو بتأثير من شياطين الجن والإنس، وبعض هؤلاء قد لا يحتاجون إلى كبير جهد ليميزوا بين الحق والباطل فيتبعون الحق ويعز الله بهم الدين. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(/4)
حظوظ النفس
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
كتب على الإنسان أن يحب ويتمنى، ويشتهي، ويسعى في تحقيق مصالحه الخاصة، غير أنه قد تبرز في نفسه دوافع حرصٍ على حصول بعضٍ من المدح والثناء، أو ما فيه عائد على نفسه وربح، وهذا لا شيء فيه، إلا أن يغلب على النفس هواها، ويسيطر عليها حبها لذاتها الحب الذي يجعل حاجتها ورغبتها أعظم وأهم مما سواها، فهاهنا يمكن القول أن حظ النفس ليس هو الأولى دائماً، فهناك ما هو أولى منه وأقدم ألا وهو حق الله، فإذا تعارض حق لله مع حق للنفس فلابد من إيثار حق الله على حق النفس، هذا أمر، والأمر الآخر أنه لابد من موازنة بين إشباع رغبات النفس وحاجاتها وبين قضاء ما النفس موكلة به تجاه غيرها.
إن النفس في هذه الحال قد تحب لنفسها شيئاً من الثناء الجميل، والذكر الحسن، فتقوم بتزيين ظاهرها، ومظاهرها، وصفاتها ومعاملتها، وتقدم على ما تهواه، فتختار الملبس الحسن والمظهر الحسن، والمركوب الحسن، وقد تؤدي هذه الأمور إلى التباهي والتفاخر، والشعور بالتميز على الآخرين، لا سيما إن ردف ذلك قول حسن وعمل حسن، ونوع من الذكاء والقدرات الذاتية، وإجادة ما لا يجيده الغير.
صحيح أننا مطالبون شرعاً بالرقي والتميز في شتى مناحي الحياة، وتحسين الشكل والمظهر، لكن أهم من ذلك تجويد الباطن أولاً، ولا غبار على من سعى في استكمال تلك الخصال، إنما يكون الأمر مذموما إذا صاحبه شيء من الرياء والعجب والغرور (فليس كل ما تهواه النفس يُذمُّ، ولا كل التزين للناس يكره، وإنما ينهى عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه، أو كان على وجه الرياء في باب الدين، فإن الإنسان يجب أن يرى جميلاً وذلك حظ النفس، ولا يلام فيه، ولهذا يُسَرِّحُ شعره وينظر في المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشن إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج، وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يذم)1.
وأما المطلوب من النفس فهو التفتيش عما يشوبها من حظوظ النفس وتمييز حق الرب منها - من حظ النفس - ولعل أكثرها أو كلها أن تكون حظاً لنفسك وأنت لا تشعر، فلا إله إلا الله كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة وأن تصل إليه! وإن العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشر البتة وهو غير خالص لله، ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقا وهو خالص لوجه الله، ولا يميز هذا إلا ذوي العقل والتفكر والمحاسبة الدائمة، فبين العمل وبين القلب مسافة وفي تلك المسافة أمور تمنع وصول العمل إلى القلب، فقد يكون الرجل كثير العمل وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه وبين الحق والباطل، ولا قوة في أمره، فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق، ورأى الحق والباطل وميز بين أولياء الله وأعدائه.
ثم أن بين القلب وبين الرب مسافة وفيها أمور تمنع وصول العمل إليه من كبر وإعجاب وإدلال ورؤية العمل ونسيان المنة، وعلل خفية لو استقصى في طلبها لرأى العجب، ومن رحمة الله تعالى: سترها على أكثر العباد إذ لو رأوها وعاينوها لوقعوا فيما هو أشد منها من اليأس والقنوط والاستحسار وترك العمل وخمود العزم وفتور الهمة ... والحاذق يعلم كيف يطب النفوس فلا يعمر قصرًا ويهدم مصرً2.
إن الإنسان له نفس أمارة بالسوء، ونوازعها خفية وظاهرة في نفس الوقت، والعاقل من أخذ بلبه في طاعة الله، وجرد نفسه من هواها، وارتدى رداء حب الله، وتدثر بدثار الإيثار، وعاش رافلاً في أثواب الخير المتعدية للغير، الخالصة لله –جل وعلا - بعيداً عن حظ النفس، ومحبَّبَات القلب.
نسأل الله العظيم أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يسدد خطانا، ويجعلنا من عباده المخلصين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
---------------
1 - تلبيس إبليس: (1/248).
2 - مدارج السالكين: (1/439)بتصرف يسير.(/1)
حرمة المسلم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:-
المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وقد حرم الإسلام كل ما يخدش هذه العلاقة الوطيدة، ورتب على تجاوز تلك الحُرم العقاب الأليم، والعذاب الشديد..
والمسلم له حرمته عند الله، ومكانته بين المسلمين، فلا يحل لأحدٍ أن يَحُط من قدره، ولا يهينه بأي وجه من الوجوه، أو أن يفعل ما يكون سبباً في انتهاك حرمته ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبِعْ بعضُكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره؛ التقوى هاهنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)1
لقد حرَّم الإسلام الاعتداء على المسلم في أموره كلها، وذلك يشمل:
1. حرمة دمه: وهذا يعنى أن دم المسلم على المسلم حرام، ولا يحل دمه إلا بإحدى ثلاث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة))2. والمسلم أعظم عند الله من الدنيا كلها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلم ))3 ونظر ابن عمر إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وما أشد حرمتك، والله للمسلم أشد حرمة عند الله منك)4.
2. حرمة عرضه: وذلك يتضمن عدة أمور منها: حرمة الحقد، والحسد، والسب، والقذف، والغيبة، والنميمة وغير ذلك، فهذه كلها مما حرمها الإسلام، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}5 . وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}6. واجتناب سوء الظن والغيبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}7.. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)).
والعرض يشمل -أيضاً- حفظ المسلم في أهله، فلا ينتهك عرضه بالوقوع في الحرام كفعل الفاحشة أو موجباتها؛ ولهذا حرم الزنا لما فيه من التعدي على أعراض الغير، مع اختلاط الأنساب، وكذا الأمراض القاتلة المنتشرة اليوم، والتمزق الإنساني المشين.
3. حرمة ماله: فقد حرم الإسلام سرقة مال المسلم أو غصبه، والتعدي عليه، وأكله بالباطل: كالربا؛ وغير ذلك، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}8 .. وقال الله عن الربا: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}9. فسمى الربا ظلماً؛ لأن فيه ضرراً على المأخوذ منه.. وكذا حرم الإسلام البيع على بيع الغير.. كأن يبع سلعة بسعر كذا، فيأتيه آخر يقول: أبيعك مثلها بأرخص منها، أو يبيع الرجل لآخر سلعة وذلك بالاتفاق بينهما؛ ثم ينقض البيع دون اتفاق، فيبيعها لآخر، وقد سبق في الحديث: ((ولا يبع بعضكم على بيع بعض)).. وحرم النجش، وهو: رفع ثمن السلعة لا لأجل شرائها؛ ولكن لمخادعة الناس، كما يحصل اليوم عند أصحاب المعارض والمحلات المختلفة..
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ((ولا تناجشوا)). وكذا حرم الغش لما فيه من الخداع وأكل الأموال بالباطل، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى السوق فوجد رجلاً يبيع طعاماً فوضع الرسول يده أسفل الطعام فوجده مبتلاً فقال: (( ما هذا يا صاحب الطعام؟)) قال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: (( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشَّ فليس مني))10.. وحرم التدليس وأكل أموال العقارات ومحاولة الزيادة فيها، فقال: ((من ظلم قِيد شِبْر من الأرض طُوِّقَه من سبع أَرَضِين))11.. وحرم المماطلة في قضاء الديون؛ إذا كان المدين غنياً، فقال: ((مَطْلُ الغنيِّ ظُلمٌ))12 ومعناه: أن تأخير الغني سداد الدين لصاحبه ظلم.. وغير ذلك من المحرمات التي لا يجوز بها أكل مال المسلم..(/1)
ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بيَّن هذا الأمر تبييناً جلياً؛ فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: (( أي يوم هذا ؟ )) قلنا: الله ورسوله أعلم، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: (( أليس ذو الحجة ؟ )) قلنا: بلى، قال: (( أتدرون أي بلد هذا ؟ )) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه، فقال: (( أليس بالبلدة ؟)) قلنا: بلى، قال: (( فإنَّ دماءكم وأموالكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت ؟)) قالوا: نعم، قال: (( اللهمَّ اشهد، ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغٍ أوعى من سامع، ألا فلا ترجعُن بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))13.
وهذه من آخر الوصايا النبوية الجامعة، من جوامع كلمه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم؛ وقد جمعت الحرمات كلها من كبار الأمور وصغارها: حرمة الدم والعرض والمال..
اللهم احفظ ألسنتنا وأيدينا وقلوبنا عن الوقوع في أعراض المسلمين.. اللهم إنا نعوذ بك أن نصيب مالاً حراماً، أو عرضاً حراماً، أو دماً حراماً.. اللهم قُرَّ أعيننا بصلاح قلوبنا، وقربها منك، ومتعها بالأنس بك، والاستغناء عن كل أحد سواك.. يا أرحم الراحمين..
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..
--------------
1- رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب برقم (4650) عن أبي هريرة.. ورواه أحمد برقم (7402) وروى نحوه الترمذي وأبو داود وابن ماجه مختصراً..
2- رواه البخاري ومسلم.
3- رواه الترمذي ( 1395 ) والنسائي ( 3987 ) وابن ماجه ( 2619 ) وهو حديث صحيح، انظر غاية المرام للألباني برقم ( 439 ).
4- رواه الترمذي برقم ( 2032 ).
5- (23) سورة النور.
6- (11) سورة الحجرات.
7- (12) سورة الحجرات.
8- (29) سورة النساء.
9- (279) سورة البقرة.
10- رواه مسلم ( 102 ). والترمذي ( 1315 ) إلا أن عند الترمذي (( ... فليس منَّا )) بدل: ((منِّي)).
11- رواه البخاري ( 2453 ) ومسلم ( 1610 ).
12- رواه البخاري ( 2287 ) ومسلم ( 1564 ).
13 رواه البخاري برقم ( 1741 ) ومسلم ( 1679 ).(/2)
حصاد السلام
للشيخ / إبراهيم الدويش
الحمد لله له العزة والجبروت، وله الملك والملكوت، ذي الطول والمن والإحسان، فضّل ديننا على سائر الأديان، أشهد أن لا إله إلا الله أعزنا بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، وأشهد أن محمد نبينا عبده ورسوله، أظهر الله دينه على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أمة الإسلام: ذكر جبير بن حبة قال: ندبنا عمر بن الخطاب واستعمل علينا النعمان بن مقرن حتى إذا كنا بأرض العدو خرج علينا عامل كسرى بأربعين ألف فقام ترجمان فقال: ليكلمني رجل منكم وفي رواية للطبري أن كسرى قال له: إنكم معشر العرب أطول الناس جوعا وأبعد الناس من كل خير وما منعني أن آمر هؤلاء الأساور أن ينتظموكم بالنشاب "أي يقتلوكم" إلا تحسبا لجيفكم. قال المغيرة رضي الله عنه وأرضاه: ما أخطأتم شيء من حقنا نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد نمصّ الجلد والنوى من الجوع، نلبس الوبر والشعر، نعبد الشجر والحجر وبينما نحن كذلك بعث رب السماوات ورب الأرضين تعالى ذكره نبياّ من أنفسنا نعرف أباه وأمه فأمرنا نبينا رسول ربنا صلوات الله عليه أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية، أمرنا نبينا صلوات الله وسلامه عليه عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم لن يرى مثله قط، ومن بقي منا ملك رقابكم.
الله أكبر... إنها عزة المسلم والثقة بالله والقوة في الدين والعقيدة، يا أمة الإسلام نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
نعم.. متى ابتغينا العزة من أعدائنا أذلنا الله، متى ابتغينا العزة بأموالنا أذلنا الله، متى ابتغينا العزة بألقابنا أذلنا الله، متى ابتغينا العزة من مجلس الأمن أو هيئة الأمم أو منظمة العدل أذلنا الله، وهل بعد هذه الذلة ذلة؟ وهل بعد هذا الهوان هوان؟
في الوقت الذي ينتظر المستسلمون من راعية السلام وهي تجيّش الجيوش لضرب العراق أن تتنازل أو تجامل ولو بمجرد الكلام لإدانة اليهود وما تفعله بفلسطين إذا بها تبغتهم وتهدي لهم صفعة قوية من صفعات الذل والاستسلام، فبالأمس القريب يتخذ الساسة الأمريكان قرارهم بكل صفاقة وجرأة وبكل سخرية واستهزاء ودون مراعاة لأي أدب سياسي أو مجاملة عربية أو حتى خداع لفظي لتمتص به غضب الشارع العربي بل تعلن وفي وضح النهار وبكل وسائل الإعلام وبعبارة صريحة واضحة أن القدس عاصمة لإسرائيل، هكذا رغم أنوف الملايين ورغم هتوف الغاضبين فالقدس عاصمة لأسرائيل، هكذا أعلنها العم سام لينسف كل مؤتمرات السلام وكل قرارات الذل والاستسلام "قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر"
فماذا ستفعلين يا أمة الإسلام؟ ربما صرخ آلاف الغاضبين "الجهاد ذروة سنام الإسلام" نقول: نعم، ولكن لا بد من وقفة إخوة الإيمان فلا تتعجلوا بل تفكروا وتأملوا وانظروا لأحوال المسلمين وحوقلوا، هل سننتصر والأمة متفرقة في صفّها، منهزمة في داخلها، مختلفة في كلمتها، غارقة في شهواتها، بعيدة عن قرآنها؟ لقد خطط أعداؤنا وبذلوا وفرقوا صفنا وعملوا وأغرقوا أمتنا بالشهوات والفضائيات ومهرجانات الأغنيات فخلا لهم الأمر ونكّلوا
لي فيك بالليل آهات أرددها أواه لو أجدت المحزون أواه
لا تحسبنّي محبّا يشتكي وصبا أهْوِن بما في سبيل الحب ألقاه
أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصا جناحاه
ولو سألتم عباد الله عن المخرج فهو واضح بيّن لا عوج فيه لا يخفى على أحد، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الداء والدواء فقال: ( لئن تركتم الجهاد وأخذتم بأذناب البقر وتبايعتم بالعينة ليلزمنّكم الله مذلّة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا على ما كنتم عليه).
إذا هي الشهوات وحب الترف الذي أغرقنا فيه وأصبحنا أسرى لها لا نستطيع حتى فكاك أنفسنا، إنه الهوان وحب الدنيا (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون).
نعم .. حب الدنيا رأس كل خطيئة - كما يقال، الحل ليس في بغض الدنيا أو طلاقها فهذا يبدو مستحيل لكنه في تسخير الدنيا للدين بجعلها مزرعة للآخرة، إنه بالرجوع الصادق لمصدر عزتنا وقوتنا أن نفخر بإسلامنا وعقيدتنا، أن نجعل الإسلام سلوك في أعمالنا ومعاملاتنا في أموالنا وتجارتنا، أن نربي شبابنا على الشجاعة لا على الجشع، وعلى النخوة لا الشهوة، أن نربيهم على الأمل وحب العمل لا على العجز والكسل، وهذا ليس بصعب ولا مستحيل فتاريخنا مليء بالبراهين، وواقعنا يشهد بهذا للجادين وإن أردتم أكبر دليل فهاهم شعب فلسطين.
كيف كانوا في بعدهم وغفلتهم وكيف أصبحوا اليوم في همتهم وعزيمتهم، فالشباب يتنافسون في أن يكون الواحد منهم قنبلة بشرية يتناثر لحمه وعظمه ودمه من أجل دينه وعقيدته، يتسابقون على هذا.(/1)
إنهم شباب الإسلام متى تربوا على العزة والكرامة لقد قلب هؤلاء الأشبال لعبة المعركة فتحول اليهود من الفعل إلى رد الفعل بل خبط عشواء مما كلفهم الكثير الكثير من الأموال والرجال والهلكى فقد ارتفع عدد الهلكى في إسرائيل جراء العمليات الاستشهادية أكثر من الضعف خلال العام الماضي. لقد نجح في مقارعة العدو وإشغاله على الرغم من التفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح بالمعايير المادية، فقد تأرجحت الإحصاءات بقدر هائل ألقت الرعب والهلع في قلوب اليهود، فخلال الستة أشهر الأخيرة قتل ثماني وتسعون ومائتي فلسطيني وسبع وسبعون ومائة إسرائيلي أي بمعدل واحد ونصف فلسطيني مقابل إسرائيلي واحد بعد أن كانت ستة فلسطينيين ونصف مقابل إسرائيلي واحد، مما أصاب العقلية اليهودية بالجنون والتخبط الذي تسمعونه وترونه كل يوم من قتل وهدم وحصار عشوائي.
سبحان الله.. كل هذا رغم الترسانة اليهودية الضخمة بدباباتها وطائراتها وجنودها، أليس لنا في هذا معتبر؟ أين الجيوش العربية؟ أين الأسلحة العسكرية التي تصرف عليها الملايين من العملات الورقية؟ أين السلاح الأول والفاعل وهو سلاح العقيدة والإيمان؟ لقد أثبت هذا شعب فلسطين يوم تخلى عنه العالم كله فقالوا: وإن كنا لا نملك طائرات مقاتلة من طراز إف 16 أو مروحيات من طراز أباتشي أو صواريخ لكن لدينا سلاح ليس بمقدورهم حتى الدفاع عن أنفسهم أو مواجهته. وكما يقول أحد قادة اليهود: إنك تواجه مقاتل مدجج بما يتراوح بين عشرين إلى ثلاثين رطل من متفجرات تي إن تي أضف إلى ذلك عقلا بشريا فتصبح أمام قنبلة ذكية إنها ساحة معركة من نوع جديد. . إلى آخر كلماته.
عباد الله .. إنها أحد البشائر في زمن الاستسلام وأرجو أن لا نظن كما يدندن بعضهم أنه مجرد حماس وتصرفات شباب فلسطيني متحمس بل هي التربية الجادة، إي والله .. التربية الجادة والرجوع الصادق إلى الله وبذل المصلحين والعاملين لأوقاتهم من أجل دينهم وعقيدتهم ممن تحاول اليهود تصفيتهم عن طريق الاغتيالات والخيانات.
فإن أردتم الطريق فلنجاهد أنفسنا ولنرجع لديننا بدءا بأنفسنا وبيوتنا ومن تحت أيدينا لنقم بدورنا تجاه قدسنا، لنبذل المستطاع لنمدهم بالمال والسلاح والدعاء وبجهاد الكلمة والنصيحة فهم لا يدافعون عن أنفسهم فقط بل ويدافعون عنا، نعم يدافعون عنا وعن بلادنا وعن أعراضنا فأي عاقل يعلم مخطط بني صهيون وأطماعهم التوسعية بل وما يحدث أخيرا من تدخل الصهيونية الأمريكية في الشأن العراقي وما تفعله للقضاء على كل قوة عربية مسلمة حماية لإسرائيل وليس كما يزعمون ويدندنون حماية للمنطقة الخليجية والعربية من العراق أو الإرهاب كما يحلو لهم تسميته.
لقد انكشفت الأقنعة لكل غافل عما تفعله الصهيونية وأمريكا التي كالت بمكيالين وذلك بمنع أي دولة عربية ومسلمة من امتلاك أي أسلحة نووية وبالمقابل السماح لإسرائيل بامتلاك أكبر ترسانة نووية تهدد كل دول الشرق الأوسط وذلك بمباركة من الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا.
إذا فلنكن معاشر المسلمين قوة خفيّة بجدّنا وبصدقنا وبعقيدتنا ، قوة خفية داعمة لإخواننا المجاهدين في فلسطين.
يا معشر التجار : إن المال أمانة وعارية عندكم إن لم تبذل لمقدساتكم ولنصرة عقيدتكم فلمن إذا ؟
يا معشر المثقفين: إن الكلمة والقلم أمانة في أعناقكم فإن لم تبذل لمقدساتكم ولنصرة عقيدتكم فلمن إذا؟
يا معشر المربين: إن تربية شباب الأمة على العزة والشجاعة والجد والعمل مسؤوليتكم فإن لم يكن اليوم فمتى إذا؟
يا معشر النساء: إن لم تهجرن الترف والكماليات وتغرسن أنتن في نفوسكن ونفوس الأجيال حب الدين والذود عن مقدسات المسلمين فمتى إذا ؟
يا معشر الشباب: إن لم تتغلبوا اليوم على أنفسكم وتجاهدوا شهواتكم ورغباتكم وتبذلوا اليوم زهرة أعماركم من أجل عقيدتكم فمتى إذا؟
يا معشر العامة: إن لم ترفعوا أكفّ الضراعة وتسددوا سهام الليل في نحور أعدائكم ويكن كل واحد منكم حصالة لفلسطين لجمع المال عصب الجهاد فمن إذا؟
يا معشر العلماء والدعاة: متى تخرجوا عن صمتكم وتعلموا أمتكم وتوفوا اليوم بعهدكم وميثاقكم فمتى إذا ؟
يا معشر الحكام والمسؤولين في كل بلاد المسلمين: إن لم تنتصروا اليوم على أنفسكم وتقولوا الآن كلمتكم وتنقذوا أمتكم ومقدساتها فمتى إذا؟(/2)
نعم عباد الله .. إن لم يقم كلا منا بما يستطيع فمتى إذا متى ؟ هاهي شرارات الحرب تتطاير وأول الحرب كلام كما يقال، وهاهي حربهم الكلامية الإعلامية عاصفة مدوية قوية على ديننا وعقيدتنا وعلى البلاد الإسلامية وخاصة هذه البلاد المباركة فلم تترك شيء إلا وأرجفت فيه نعم على مناهجنا الشرعية وعلى ثوابت عقيدتنا الإسلامية وعلى عفاف وستر المرأة العربية حتى ربما أثر ذلك على بعض النفسيات فقدمت التنازلات أو تميع الثوابت في المعتقدات إنها حرب نفسية رهيبة أخبرنا الله عن هدفها ومرادها بقوله ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) بل إن طبول الحرب العسكرية تدق على مشارف بغداد ولا يدرى الدور بعدها على أي البلاد نسأل الله أن يحفظ البلاد والعباد ولكن مهما كانت الأحوال يجب أن يستشعر كل مسلم أيا كان دوره وواجبه خاصة أنتم أهل هذه البلاد يوم أن أكرم الله أرضكم بمهبط الوحي فيها فتوجهت أنظار كل المسلمين في كل الأرض لكم فلا تخيبوا الآمال فتغرقوا في ملذاتكم وتقعوا في شباك الشهوات التي نصبها لكم عدوكم، فعلى كل فرد يطأ هذه الأرض دور وواجب فلنحافظ كلنا على ريادة هذه الدولة المسلمة التي تضم بين جنباتها بيت الله الحرام ومسجد رسوله عليه الصلاة والسلام بل هي ملتقى قلوب وأفئدة المسلمين من كل أنحاء العالم فيجب أن نثبت للجميع قوة تمسكها بكتاب ربها وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام ومواصلة دورها في كونها منبع للخير ودعوة للسلام الحقيقي في ظل الإسلام الصافي من ينبوعه الصافي وهذا هو أهم الدوافع التي دفعت أعداء الله لمهاجمة هذه البلاد المباركة وإلصاق تهمة الإرهاب بها حتى يجيزون لأنفسهم الكيفية التي يرونها والطريقة التي تريحهم للقضاء على هذه الوحدة وهذا التماسك العجيب بين الشعب والقيادة والعلماء والدعاة لدولة هي بيت كبير لكل مسلم وعربي أسأل الله أن يبارك بالجهود وأن يجمع كلمة المسلمين وولاة أمرهم على التوحيد والقرآن ونصرة هذا الدين.
أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم
لا يلام الذئب في عدوانه إن يك راعيا عدو الغنم
نعم .. لقد سطت رعاية السلام على السلام فبددت الأوهام والأحلام ولكن هل يستفيد اللاهثون من الدروس وتجارب الأيام لعل هذا القانون الذي أقره الكونجرس الأمريكي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل قد كشف القناع للمخدوعين وأن سياسة اليهود والنصارى في البدايات واحدة منبعها الكتب المحرفة العقدية التي يزعمون أنها سماوية وأن السلام مجرد خدعة للمراوغة والمخادعة وليس إقرار ساسة النصارى بأن القدس عاصمة لإسرائيل ليست مفاجئة للعقلاء والعارفين بل ولن يفاجئوا إذا عزموا اليهود ومن خلفهم ساسة النصارى على هدم المسجد الأقصى ليست هذه أسرار بل هي معتقدات مكتوبة ومعلنة في التوراة والأناجيل المحرفة لكن متى تقتنع أمتنا وساستها بحقيقة هذه المنطلقات وأنها معتقدات لا يمكن أن تزحزحها المؤتمرات والمفاوضات فاسمعوا وعوا ولا تتعجبوا إذا هدم المسجد الأقصى غدا، فشق الأنفاق والحفريات المستمرة تحته كلها تهدف إلى تفريغ الأرض تحت المسجد لتركه قائم على فراغ ليكون عرضة للانهيار السريع بفعل أي عمل تخريبي أو حتى اهتزازات أرضية طبيعية أو صناعية أو بأي سيناريو يخدعوا فيه العالم الإسلامي.
ومما يؤكد هذه النزعات الدينية عند اليهود والنصارى جديتهم في بناء الهيكل المزعوم، وبهذا يقول ابن آريون أحد ساستهم "لا قيمة لإسرائيل إلا بالقدس ولا قيمة للقدس بدون الهيكل" فالأمر جاد والنوايا مبيتة والخطوات تتسارع رغم سيرها على درب الأساطير وعلى المسلمين أن يعوا أن هدم المسجد الأقصى صار عند يهود العالم ومن شايعهم من النصارى فريضة الوقت ومسؤولية الجيل وهو فرصة العمل السانحة لأول مرة في التاريخ منذ ألفي عام وهاهم اليوم وبمثل هذا القرار يخطون خطوات جادة وخطيرة بل وجريئة على مرأى من العالم كله.(/3)
فلنحذر يا أمة الإسلام من فرض سياسة الأمر الواقع فهي محاولة لفرض واقعا سياسيا جديدا يخدم الاستراتيجية الإسرائيلية الرامية إلى تهويد المدينة المقدسة وهي محاولة أمريكية لحسم مستقبل القدس من طرف واحد قبل أن يطرح مستقبل المدينة في أي مفاوضات مستقبلية أما تحفظ الرئيس الأمريكي على القانون رغم مصادقته عليه فعملية خداع وتضليل ترمي إلى تبرير فعلته لامتصاص غض العالمين العربي والإسلامي فبإمكانه لو كان صادقا أن يخوض معركة مع الكونجرس مثل المعركة التي خاضها من أجل حربه على العراق بل بإمكانه بموجب صلاحيته الدستورية أن يحبط مثل هذا المشروع لكنها سياسة المعتقدات، نعم سياسة المعتقدات فهم ينطلقون من عقيدة من تحدي وإصرار مهما كانت الأضرار، فهل تتحرك أمة التوحيد وبإصرار واستمرار وبكل ما تستطيع من جهود فردية وشعبية ودولية لإنقاذ القدس؟ نعم بإصرار واستمرار وليست فترة حماس مؤقت سرعان ما ينطفئ ويخبو فصاحب العقيدة له هدف يصبو إليه ومبدأ يعمل لأجله يبذل له نفسه وماله ووقته وفكره أما الهدف فمحض رسالة نبينا بل جميع الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا" هذا هو هدفنا هذا هو هدف أمة التوحيد، فهل يا ترى نسعى إليه وهل هو هدف واضح تتربى عليه الأجيال والرجال وهل هو دائم أمام أعيننا أم أننا نغفل عنه ونغرق في شهواتنا، فلا بد من وضع خطة استراتيجية كاملة لمواجهة اليهود بدل ردود الأفعال وليس هذا والله صعب ولا مستحيل متى خلصت النوايا وصدقتها الأعمال على كل المستويات.
حتى أنت يا عبد الله .. بيدك الكثير الكثير، فلنخط خطوات جادة ولنثق بالله فالأمر له من قبل ومن بعد ولا نتعجل فالسنن الربانية ماضية على كل أحد فإن هذه القوة والغطرسة الغربية مهما بلغت فإن السنن آتية عليها لا ريب في ذلك وإن استبطأها الناس واستعجلوها (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) ثم تأملوا في قول الحق (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) هذه نظرية نهاية التاريخ ثم تأملوا أيضا بعد ذلك (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم) وهاهو الدور الأمريكي الوريث للاستعمار والقوة الغاشمة قبله يصول ويجول. ثم قال تعالى (وقد مكروا مكرهم) وهانحن نرى ونقرأ عن مكرهم وأساليبهم المتنوعة من إعلامية وعسكرية وسياسية وتوزيع المسميات على الدول والتنظيمات والأفراد بالإرهاب والتطرف ومحور الشر وغيرها من أساليب المكر والخبث وفنون الخداع والتي تكاد تزول منها الجبال ولكن تأملوا عباد الله في آخر الآيات كونوا على يقين بموعود رب العالمين كونوا على ثقة بقرآنكم (وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام) سبحان الله وكأننا بدأنا نشهد تحقيق ذلك الوعد، تراجع اقتصادي واختلافات سياسية ومعارضات داخل أمريكا وتفكك وانهيار اجتماعي وبغض وكره عالمي وهذا ما يؤكده الباحثون الأمريكيون المرموقون بل يرى بعضهم أن الولايات المتحدة قد انهارت بالفعل وغيرها من الدراسات والتحليلات الجادة لظاهرة الغطرسة الأمريكية.
فيا لله ما أعظم خطاب القرآن يخاطب المسلم في وجدانه وعقله وحسه وعصبه وفكره وجسده حكم قرآني لا تشوبه شهوات ولا شبهات، حقائق اليقين من رب العالمين (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) ، (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) ، (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله)، (ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين)، (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)، (وإن جندنا لهم الغالبون).
نعم .. آيات تنطق وتريد قلوب توقن وتؤمن وتعمل وتتحرك.
معاشر المسلمين: مهما انشغلنا بالنفس والمال والبنين، مهما أغرقنا بالشهوات والفضائيات، ومهما تزاحمت المناسبات والمتغيرات، فلن نستطيع أن ننسى فلسطين. إنها الجرح النازف في كل مسلم، رضينا أم أبينا، ذكرنا أو نسينا، بل لم ينساه العالم كله فقد فرضت الانتفاضة الفلسطينية نفسها رغم المكر العالمي، ورغم سيطرة الإعلام الصهيوني، ورغم إغراق وتغييب الإعلام العربي، حقا إنه شعب أبيّ فقد دخلت الانتفاضة عامها الثالث قوية صامدة أبية رغم المتغيرات العالمية ورغم الهياج الغربي الذي ملأ الدنيا ضجيجا فتعطلت كل القضايا إلا قضية 11 سبتمبر، أما شعب فلسطين الأعزل الفقير فقد آمن بقضيته فهب بكليته وحطم الطموحات الصهيونية والغربية وفضح النظم الأممية والهيئات الإنسانية ومن حق إخواننا بل ومن الواجب علينا أن يظهر جهادهم وأن يشهر، لقد استطاعوا أن يحققوا ما لم تستطع تحقيقه الدول والجيوش.
إنها بشائر في زمن الهزائم، بشائر رغم الخسائر الكبيرة في الجانب الفلسطيني والتي تجري تحت مسمع العالم كله في كل يوم ولكن هكذا الطريق لا بد فيه من تضحيات،(/4)
فتعالوا معاشر المسلمين والمسلمات تعالوا لنعدد مفاخر أهلنا في فلسطين، فبالرغم من القتل والتدمير والحصار والتجويع والتشريد إلا أن الانتفاضة والمقاومة قدمت وأثرت ومن ذلك:
أولا: نقلت العرب والمسلمين من مجرد الصراخ والشجب والاستنكار والبيانات إلى معركة حقيقية وخطوات عملية بددت القناعات العربية بأن إسرائيل دولة قوية لا تقهر.
ثانيا: فضحت حقيقة تلك الشعارات الزائفة والتنظيمات العميلة التي تردد منذ أكثر من ثلاثين سنة أنها ستحرر فلسطين ولم تخط خطوة صادقة لصالح أهلنا في فلسطين.
ثالثا: أثبتت الانتفاضة أن الحل الأمثل هو الجهاد في سبيل الله لا القوميات وغيرها من الشعارات.
رابعا: أفسدت المقاومة مؤامرات خطيرة وخطوات كبيرة لتطبيع العلاقات مع اليهود والتعايش معهم وفرض سلام على الطريقة الصهيونية لاستنزاف خيرات الدول العربية والسيطرة على قدراتها فوقانا الله هذه المؤامرات بفضل منه ثم بفضل هذه الانتفاضة.
خامسا: أكدت بالدليل الواضح مكر اليهود في العهود والمواثيق أما الدليل القاطع فقول الله عز وجل (أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم) وأكدت أن يهود اليوم هم امتداد ليهود الأمس من بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع وخيانتهم وغدرهم المستمر، أين نحن من كتاب ربنا الذي فضحهم وتاريخ أمتنا معهم.
سادسا: كبّدت الصهاينة خسائر اقتصادية موجعة ألحقت بالكيان الصهيوني أكبر أزمة داخلية في تاريخه فقد بلغت مجموع الخسائر المالية في العامين الماضيين 38 مليار دولار، وفقدت دولة اليهود 4% من إنتاجها الاقتصادي، وفقدت 80 ألف فرصة عمل في السنة الأولى، ومائة ألف فرصة عمل في السنة الثانية، وتم استقطاع خمسمائة مليون دولار من ميزانيات الوزارات الحكومية المدنية لعام 2002 وتحويلها إلى مصروفات عسكرية وأمنية، وأكثر من 258 ألف شخص يعانون من البطالة في الربع الأخير من العام 2001 حسب تقرير دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية أي بنسبة تزيد عن العام الماضي 10%، وانخفضت حجوزات السياح في الفنادق اليهودية بنسبة 65% كما تقول المصادر إن هذه النسب هي الأكثر انخفاضا منذ ثلاثين عاما.
سابعا: جعلت الانتفاضة اليهود يعيشون في رغب دائم وسط بيوتهم فهم يتحدثون للتلفزيون الإسرائيلي عن خشيتهم الخروج من بيوتهم أو الانتقال عبر الحافلات أو الذهاب إلى مراكز التسوق الرئيسية بل إن تكرار عودة المستوطنين إلى الملاجئ بفعل قذائف الهاون تشكل واحدة من عناوين الرعب الأساسية لديهم، وذكرت بعض الصحف الإسرائيلية أن نسبة تعاطي الإسرائيليين للأدوية المهدئة زادت بنسبة 22% خلال الأشهر الأخيرة الثلاثة بسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة، وذكرت أن 69% من الإسرائيليين يرون أن الوضع السياسي الأمني مغلق جدا، وأشارت بعض صحفهم إلى تزايد أعداد الهاربين من الخدمة العسكرية.
ثامنا: عطلت الانتفاضة مشروع هجرة الإسرائيليين إلى فلسطين فقد انخفضت نسبة الهجرة إلى أدنى معدل بنسبة قدرها 95% خلال السنة الأخيرة مقارنة بالعشر سنوات الماضية وتم إلغاء الزيارات الجماعية التي يقوم بها اليهود لإسرائيل وهاجر أكثر من 80 ألف يهودي من مدينة القدس نهائيا في النصف الأول من السنة الأولى من الانتفاضة، وفي استطلاع أخر وجد أن 48% من شباب اليهود من سن 18-29 سنة لديهم الرغبة بالهجرة من المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967م.
تاسعا: أوضحت الانتفاضة للشعوب أن بيدها الكثير الكثير متى نفضت غبار الذل والهوان وآمنت بعقيدتها ودينها ومبادئها واستقرأت تاريخها وتربت على الشجاعة والعزة والتضحيات وآمنت أن نصرة العقيدة وإرادة الحرية دونها بذل المهج وقوافل الشهداء.
وأخيرا وليس بآخر أثبتت الانتفاضة فيما لا يدع مجالا للشك أو التردد أن اليهود لا يفهمون إلا لغة القوة بل استطاعت الانتفاضة أن تقلب المفاهيم عند بعض من كانوا بالأمس ينظرون للسلام والتعايش مع اليهود فأصبحوا يطالبون اليوم بقتال اليهود وجهادهم وأما لغة الأرقام في الجانب العسكري فقد بلغ عدد قتلى اليهود المعلن منذ بداية الانتفاضة إلى نهاية العام الثاني 631 قتيلا، وأكدت دراسة أعدها مركز النور للدراسات والبحوث في غزة أن هذا العدد من القتلى يفوق مجموع قتلى اليهود في أكثر من 23 عاما، وبلغ عدد الجرحى من اليهود خلال هذين العامين خمسة آلاف ومائتين وسبعين جريحا، وبلغ عدد العمليات العسكرية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية خلال العامين المنصرمين من عمر الانتفاضة أربعة عشر ألفا ومائتين وواحد وتسعين عملية أي بزيادة أربعة عشر ضعفا عن العمليات التي وقعت في فترة ما بعد اتفاق أوسلو.(/5)
وخلاصة القول إن الشيء الذي بهر العالم وأعجز الفصحاء وأرهب الأعداء هو الصمود العجيب والاستمرار الغريب على مدار أكثر من عامين من قبل هذا الشعب برجاله ونسائه وأطفاله بالرغم من البطش والعذاب والهدم والقتل والنفي والاغتيالات وعلى الرغم من استخدام العدو جميع آلاته العسكرية وأكثرها تقدما وتطورا ورغم خذلان الصديق والأخ القريب، إنها إرادة شعب مؤمن يردد ويعلن إما النصر وإما الشهادة، فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا.
إنها عقيدة القرآن (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)
سكت الرصاص فيا حجارة حدثي أن العقيدة قوة لا تهزم
أيها المسلمون في كل مكان إن نتيجة واحدة نصر لهذه الانتفاضة المباركة ولأمتنا المقهورة، إنها انتصارات تمهد للانتصار الأكبر، فأين صيحات النصر يا عباد الله أين صيحات البطولة؟ لم لا نسطر هذا النصر؟ لم لا نرويه للأجيال؟ لم لا نبشر به الشعوب التي بذلت وأعطت وقدمت من أجل فلسطين.
فلتتصدع المنابر أيها الخطباء، ولتسود الصحائف أيها الأدباء، أيها الشعراء أشعروا الشعر أحيوا مشاعرنا قبل أن يموت الشعور فينا، بشروا ولا تنفروا، أيها المتخصصون في كل فن ، يا رجال أمتنا أحيوا الأمل في أمتنا لقد أثبت هذا الأطفال الصغار فقط بالمقلاع والأحجار فاعتبروا يا أولي الأبصار.
نعم .. هذه بعض إنجازات الانتفاضة المحارِبة المحارَبة من الداخل والخارج ومنسية من الأخ والقريب، فكيف لو مددنا أيدينا على الدوام؟ كيف لو استمر البذل والعطاء حتى يتحقق الهدف ويتم النصر والتمكين لأمتنا إن شاء الله (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
عباد الله إن الانتفاضة ومقاومة اليهود الغاصبين وجهادهم بالنفس والمال حق شرعي وواجب كل مسلم ومسلمة ومن ذلك:
أولا : طرد الهزيمة النفسية وملء النفس بالثقة واليقين والنصر والتفاؤل والحديث عن البشائر.
ثانيا: حمل الهم الدائم تجاه مسرى محمد صلى الله عليه وسلم حتى يتم فك أسره ومن حمل الهم عرف كيف يصنع.
ثالثا: الجهاد بالنفس واجب على كل مسلم استطاع الدخول لأرض فلسطين وهو أوجب على الفلسطينيين المقيمين في الخارج فليحذروا من الركون إلى الدنيا ونسيان قضيتهم ودعمها.
رابعا: الجهاد بالمال فمدهم بالمال واجب شرعي فقد أوهنت سياسة التجويع وهدم المنازل وتفريق الأسر عزائمهم وهدت من قوتهم فلنكن عونا لهم وجزى الله خيرا المؤسسات والهيئات واللجان الشعبية والتي يشرف عليها ولاة الأمر في هذه البلاد وفقهم الله لكل خير على ما تبذل وتقدم.
أيها الموسرون إن في قصة ذلك اليهودي المتسول الذي هلك وكان قد ترك خمسة ملايين دولار فأوصى بها كلها للجيش الإسرائيلي عبرة لنا ومعرفة قدر بذلنا من أجل ديننا وعقيدتنا.
خامسا: مازالت سياسة الاستيطان وبناء الوحدات السكنية الإسرائيلية على قدم وساق رغم القرارات الأممية التي تمنع ذلك فلم لا تقوم الدول العربية والمؤسسات الخيرية ورجال الأعمال بالسعي لبناء وترميم البيوت الفلسطينية هناك وقد سرنا ما نقلته مجلة الدعوة في عددها الثاني والستون بعد الثمانمائة والألف من صدور الموافقة السامية بتكفل المملكة 600 وحدة سكنية بكافة المرافق الصحية التعليمية وكل الخدمات والمتطلبات في ست مدن رئيسية في فلسطين، ومهما كان الدعم والعطاء فهو ليس غريب على هذه البلاد المعطاءة وولاتها وشعبها ولا شك أن الواجب عظيم وكبير تجاه إخواننا وقدسنا.
سادسا: من واجبنا تجاه الانتفاضة تفعيل الدعم الإعلامي وبكافة وسائله وتقنيتها كل بحسب قدراته سواء المؤسسية أو الفردية، ويكفي أن نتذكر ما فعلته لقطة واحدة في قضية (محمد الدرة) وكيف استثمرت فارتج لها العالم كله وإلى اليوم.
سابعا: إمداد إخواننا هناك بكل ما نستطيع من وسائل التوجيه والدعوة لنشر الوعي والعلم الشرعي من كتب ومجلات وأشرطة نافعة لبيان التوحيد الخالص والمنهج الصحيح والجهاد الأمثل.
ثامنا: مواصلة الدعاء لإخواننا وتحري أوقات الاستجابة فالدعاء سلاح المؤمن وله أثر فعال.
تاسعا: المسارعة بكفالة المجاهدين ورعاية أسرهم ومن جهز غازيا أو خلفه في أهله فقد غزا.
عاشرا: أن نذب عن أعراض أهلنا في فلسطين وما يبثه البعض من قيل وقال وغير ذلك مما يوهن العقائد ويوغر الصدور خاصة في مثل هذه الظروف.
حادي عشر: على الهيئات والجمعيات والمدارس والجامعات بل حتى النوادي أن تكثف المهرجانات واللقاءات والندوات والأمسيات من أجل فلسطين وتذكير الناس في كل مرة بقدسية المسجد الأقصى ورفع الشعارات التي تندد بالاعتداء على حرمته وما تقوم به الحكومة اليهودية من حفريات للأنفاق تحت أرضية المسجد الأقصى بغية هدمه وتداعيه.(/6)
ثاني عشر: تذكير الآباء والمدرسين والمربين الطلاب بأهمية القضية الفلسطينية وتعريفهم بحقيقة الانتفاضة وأهدافها وثمارها وواجب المسلمين نحوها وعلى كل فالمطلوب اليوم تحرك سريع ومن الجميع وخاصة المستطيع لدعم الانتفاضة ماديا ومعنويا وإعلاميا وبالمقاطعة السياسية والاقتصادية للكيان الصهيوني ومن ناصرهم بل وإجباره على التراجع عن طغيانه وإجرامه ولا شك أن العبء الأكبر إنما يقع على الحكومات والمنظمات والهيئات ومن خلفها الشعوب والأفراد لأخذ زمام المبادرة فهل نتحرك فالأبرياء يتساقطون كل يوم على أرض فلسطين المباركة.
هذا بعض الواجب تجاه هذه الانتفاضة المباركة من أجل بقائها واستمرارها والحيلولة دون وأدها والقضاء عليها كما يخطط لها.
معاشر المسلمين: هذه رسالة نوجهها من هذا المكان إلى أهلنا وإخواننا في فلسطين: -
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، سلام المؤمنين الموقنين بنصر الله وليس سلام المنهزمين المخذلين، سلام من قلوب تحبكم وتحترق من أجلكم وتدعو لكم، سلام عليكم من إخوان لكم ركع سجد ترفع أكف الضراعة لتسدد السهام إلى أهلنا وإخواننا هناك رجالا ونساء وأطفالا كبارا وصغارا وكلكم كبار، فلا ندري أنعجب من عزيمة الكبار أو همة الصغار، أنفخر بشجاعة الشهداء أو ببطولة النساء، قوما يخوضون الحمام شجاعة لا ينظرون إليه من طرف خفي، فيا أهلنا وإخواننا في فلسطين يا أهل البطولة والشجاعة إليكم كلمات أعلم أنكم تعلمونها ولكن الذكرى تنفع المؤمنين وهي كلمات محب:
أولا: اعلموا أن ما أنتم فيه إنما هو قضاء الله وقدره لكم فأعلنوا الرضا بالقضاء فالرضا جنة الدنيا ومن لم يدخل جنة الدنيا لم يدخل جنة الآخرة (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا) واعلموا أنما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم إن هذه العقيدة إذا رسخت في قلب المؤمن وقرت في ضميره صارت البلية عطية والمحنة منحة فاصبروا وصابروا ورابطوا ولا يضركم من خذلكم فحسبكم أن الله معكم وتذكروا أن أي حرب استنزاف كبيرة ستتحملونها أنتم بقوة أكبر ومكاسب أكثر لتربيتكم الإيمانية وأيضا لأنه ليس لديكم ما تخسرونه فالدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وقفوا كثيرا عند هذه الآية (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون).
ثانيا: أوصيكم بإخلاص النية لله ورفع راية لا إله إلا الله ولا شيء غيرها فتجريد التوحيد لله وحده بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته هو ركيزة النصر والتمكين في الأرض وأعلن دائما أن الصراع مع اليهود ومن يقف معهم هو صراع عقائدي ديني وعدم بعث هذه الروح يعني انتصار الكيان الصهيوني لأنه سيواجه أمة خاوية من رسالة وهدف فاحرصوا على هذا وتواصوا به وعندها أبشروا إنما هي لحظات حتى يقال فلان مات فإذا هي جنات عرضها كعرش السماوات والأرض.
ثالثا: إن مما يشهد به لكم بل هو البطولة الحقيقية وهي أعجوبة في هذا الزمن زمن الفرقة والاختلاف تماسككم ووحدة صفكم في وجه عدوكم رغم تعدد الأحزاب والآراء وهذا مصدر قوتكم وسلاحكم فتماسكوا واتحدوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب قوتكم (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه) فتواصوا يا أهلنا في فلسطين بسياسة ضبط النفس والتماسك فدهاء عدوكم ومكره تزول من الجبال فكونوا على وعي تام للمحاولات السياسية والمؤامرات الماكرة التي تريد الالتفاف على الانتفاضة والمقاومة.
رابعا: انظروا إلى ما أنتم فيه بعين إيجابية لا سلبية خاصة وأنه واقع ومقدور فالسوداوية ظلام يصيب باليأس والعجز وكما قال تعالى (لا تحسبوه شر لكم بل هو خير لكم) فكثير من الفتن ظاهرها شر وبلاء إلا أن الله حاشاه أن يقدر شرا محضا فليس هذا من حكمته فله وحده الحكمة البالغة وما من شر إلا وفيه خير فالشدة مهما زادت والمحنة مهما بلغت إنما تحمل في ثناياها الفجر والأمل والنصر فتأملوا كيف شرفكم الله بالدفاع عن المسجد الأقصى واصطفى منكم شهداء وهي أمنية يتلهف لها الكثير ورفع الله ذكركم وبطولتكم في العالمين ورجوعكم إلى الله وامتلاء المساجد وهكذا مما يوقع الله على عبادة من البلاء ففيه خيرات وتمحيص واختبار وهو فرصة للمحاسبة والمراجعة.
خامسا: لا تشغلكم مراغمة العدو عن التضرع واللجاءة إلى الله وكثرة العبادة فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث معقل ابن يسار ورده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : (العبادة في الهرج كهجرة إلىّ) قال النووي المراد بالهرج هي الفتنة واختلاط أمور الناس وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنه ويشتغلون عنها ولا يتفرغ لها إلا أفراد.. انتهى كلامه(/7)
فاعتصم ياعبد الله بكثرة العبادة والاستعانة (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة) عندها يطمئن القلب وترتاح النفس (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، فحق على المؤمن أن يكون مع ربه في السراء والضراء وفي الشدة والرخاء خاصة إذا نزلت الملمات وادلهمت الكربات وأوصدت الأبواب وأفضل العبادة الدعاء كما قال صلى الله عليه وسلم.
ولو لم يكن في فضل الدعاء إلا هذه الآية لكفى (قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم)
سادسا: اعلموا أن أعظم سلاح عند الأزمات هو سلاح العلم الشرعي ومن تأمل بالأحاديث النبوية الواردة في الفتنة علم قوة هذا السلاح ونفعه فعن حذيفة رضي الله عنه قال لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك شيء إلى قيام الساعة إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج (وهو القتل))، وقال صلى الله عليه وسلم أنه سيصيب أمتي في آخر الزمان بلاء شديد لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله فجاهد عليه بلسانه وقلبه.
إذا فالعلم الشرعي مطلب مهم بل هو أعظم سلاح للمواجهة وإذا فقد المسلم العلم الشرعي تخبط في الفتن وربما هلك، يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله (إذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن وحدثت البدع والفجور ووقع الشر بينهم) يقول سماحة الشيخ بن باز رحمه الله (فكل أنواع الفتن لا سبيل للتخلص منها والنجاة منها إلا بالتفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم ومن سلك سبيلهم من أهل الإسلام ودعاة الهدى).
فعليكم يا أهل فلسطين بالالتفاف حول علمائكم وقد أكد القرآن هذا كما في قوله تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) وكما يتمنى بل ويسعى اليهود وأعداء الإسلام أن تكون هناك فجوات بين المسلمين وبين علمائهم ولذلك فهم يبذلون كل شيء من أجل تشويه سمعتهم ونبذهم بالتطرف والانغلاق وغير ذلك.
سابعا: يا نساء فلسطين هكذا فلتكن النساء جهاد وتربية فقد أظهرت الانتفاضة دور المرأة المسلمة الحقيقي وجديتها وتحملها وأنها مدرسة يتخرج منها أطفال الحجارة بهموم الرجال والأبطال وجزاكن الله عن المسلمين خيرا وإلى المزيد والمزيد وتجملن بالصبر والإيمان واكتحلن بآيات القرآن واعلمن أن الحجاب الشرعي سلاح يفتت أكباد الأعداء فالله الله بالستر والعفاف فاصبري أختاه فالله الذي خلق الكون سيمحو كل هم.
ثامنا: تنبيه وتحذير لهؤلاء الذين باعوا أمتهم ووطنهم إلى من أصبح عينا أو أذنا يهودية جاسوسية على أهله ودينه يبيع دينه بعرض من الدنيا، عجبا لهؤلاء ألا يعلمون أن أشد الناس عداوة للذين آمنوا هم اليهود وأن الله حرم موالاتهم وشدد فيها حتى أنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم.
قال تعالى (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) فإذا كان الله قد نفى الإيمان عن من واد أخاه وأباه وعشيرته إذا كانوا محادين الله ورسوله فكيف يكون حكم من كان جاسوسا لليهود يكتب إليهم بعورات المسلمين وينسق مع العدو لاغتيال المجاهدين والجادين؟ قال سحنون رحمه الله في المسلم يكتب لأهل الحرب بأخبار المسلمين قال يقتل ولا يستتاب ولا دية لورثته كالمحارب، وقال تعالى (رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) وقال تعالى (فمن يتولهم فأولئك هم الظالمون) وقال تعالى (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا). وذكر ابن جرير في تفسير قوله تعالى (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) إنه ردة عن الإسلام فهل يفقه ذلك تلك الأعين الخائنة ومن عاد فأعماه الدينار والدرهم فليتذكر (إن ربك لبلمرصاد)
وأخيرا يا ساسة فلسطين لم لا تكونوا واضحين في التمسك بحقوق شعبكم وأمتكم مثل وضوح العدو في تمسكه بالباطل ألم يعلن صراحة أن القدس عاصمته الموحدة، ألم يؤكد بالقول والفعل أن سياسة الاستيطان لا رجعة فيها ألم يرفض بكل صفاقة عودة اللاجئين أصحاب الأرض؟ فماذا بقي لكم لكي تتفاوضوا عليه إن أطفالكم عرفوا اللعبة فشمروا عن ساعد الجد فكفى خداعكم لأنفسكم وشعبكم وأمتكم فستموتون وتحاسبون وتسألون (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(/8)
اللهم ربنا عز جارك وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك اللهم لا يرد أمرك ولا يهزم جندك سبحانك وبحمدك اللهم إنا نسألك نصرا لإخواننا المسلمين في فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين اللهم آمن خوفهم واربط على قلوبهم واحفظ ينهم وأعراضهم .(/9)
حفظ الضروريات الخمسة
محاسن الإسلام من خلال حفظه للضروريات الخمس
مقدمة:
ـ تعريف المحاسن.
ـ الضروريات الخمس:
1- الأدلة على مراعاة الضروريات الخمس.
2- ترتيب الضروريات.
3- طرق المحافظة على الضروريات.
الفصل الأول: محاسن حفظ الدين:
1) العمل بالدين.
2) الحكم بالدين.
3) الدعوة إلى الدين.
4) الجهاد في سبيل الله.
5) رد البدع والأهواء.
6) إقامة حد الردة.
الفصل الثاني: محاسن حفظ النفس:
1) تحريم الاعتداء على النفس.
2) سدّ الذرائع المؤدية للقتل.
3) القصاص في القتل.
4) العفو عن القصاص.
5) تحريم الانتحار.
6) إباحة المحظورات للضرورة.
الفصل الثالث: محاسن حفظ العقل:
1) جعل العقل مناط التكليف.
2) تحريم ما يفسد العقل.
أ- مفسدات حسية.
ب- مفسدات معنوية.
3) عقوبة شرب المسكر.
الفصل الرابع: محاسن حفظ النسل والعرض:
1) الترغيب في تكثير النسل.
2) الترغيب في النكاح.
3) التحذير من التبتل والرغبة عن النكاح.
4) تحريم قتل الأولاد وإجهاض الحوامل.
5) الوعيد الشديد على نفي النسب أو إثباته على خلاف الواقع.
6) تحريم الزنا وإيجاب الحد فيه.
7) تحريم اللواط وإيجاب الحد فيه.
8) تحريم القذف وإيجاب الحد فيه.
الفصل الخامس: محاسن حفظ المال:
1) المال مال الله استخلف فيه عباده.
2) الحث على الكسب.
3) التزام السعي المشروع في الكسب واجتناب الكسب الحرام.
4) تحريم إضاعة المال.
5) أداء الحقوق إلى أهلها.
6) حماية الأموال من السفهاء.
7) الدفاع عن المال.
8) توثيق الديون والإشهاد عليها.
9) ضمان المتلفات.
10) تحريم السرقة وإيجاب الحد فيها.
مقدمة:
- تعريف المحاسن:
قال الجوهري: "الحُسْن: نقيض القبح، والجمع محاسن على غير قياس، كأنه جمع مَحْسَن".
وقال ابن سيده: "وليس بالقوي، قال سيبويه: هو جمع لا واحد له، ولذلك إذا أضاف إليه قال محاسني".
قال: "والمحاسن في الأفعال: ضد المساوئ".
- الضروريات الخمس:
قال الشاطبي: "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية.
والثاني: أن تكون حاجية.
والثالث: أن تكون تحسينية.
فأما الضرورية: فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين... ومجموع الضروريات خمس وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل".
وقال الغزالي: "ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم؛ فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ورفعها مصلحة.
وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح".
1- الأدلة على مراعاة الضروريات الخمس:
أ- من الكتاب:
قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:151، 152].
ففي هذه الآيات تظهر العناية بحفظ هذه الضرورات ظهورا جليا واضحا.
فقد جاء في حفظ الدين نهيه سبحانه عن الشرك به، وجاء في حفظ النفس قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ} [الأنعام:151]، وقوله تعالى:{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ} [الأنعام:151]، وجاء حفظ النسل في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، ومن أعظم الفواحش الزنا الذي وصفه الله بأنه فاحشة في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء:32]، وجاء حفظ المال في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ}، وقوله: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}، وأما حفظ العقل فإنه يؤخذ من مجموع التكليف بحفظ الضرورات الأخرى؛ لأن الذي يفسد عقله لا يمكن أن يقوم بحفظ تلك الضرورات كما أمر الله، ولعل في ختام الآية الأولى: {ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] ما يدل على ذلك.(/1)
وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً * وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِى الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:23- 38].
جاء ما يدل على حفظ الدين في مطلعها في قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}.
وجاء حفظ المال في قوله: {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} وقوله: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا}.
وجاء حفظ النفس في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ} وقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقّ}.
ب- من السنة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)).
قال عبد الله قادري: "وقد سمى صلى الله عليه وسلم الاعتداء على هذه الأمور موبقاً أي مهلكاً، ولا يكون مهلكاً إلا إذا كان حفظ الأمر المعتدى عليه ضرورة من ضرورات الحياة".
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه)) فبايعناه على ذلك.
قال عبد الله قادري: "فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على حفظ هذه الضرورات، وهي حفظ الدين في قوله: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} وحفظ النفس في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقّ} وحفظ النسل والنسب والعرض في قوله: {وَلاَ يَزْنِينَ} وقوله: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} وحفظ المال في قوله: {وَلاَ يَسْرِقْنَ}".
ج- استقراء أدلة الشرع:
قال الشاطبي: "فقد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد".
2- ترتيب الضروريات:(/2)
قال ابن أمير الحاج: "ويقدم حفظ الدين من الضروريات على ما عداه عند المعارضة لأنه المقصود الأعظم، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وغيره مقصود من أجله، ولأن ثمرته أكمل الثمرات وهي نيل السعادة الأبدية في جوار ربّ العالمين، ثم يقدم حفظ النفس على حفظ النسب والعقل والمال لتضمنه المصالح الدينية لأنها إنما تحصل بالعبادات، وحصولها موقوف على بقاء النفس، ثم يقدم حفظ النسب لأنه لبقاء نفس الولد إذ بتحريم الزنا لا يحصل اختلاط النسب، فينسب إلى شخص واحد فيهتم بتربيته وحفظ نفسه، وإلا أهمل فتفوت نفسه لعدم قدرته على حفظها، ثم يقدم حفظ العقل على حفظ المال لفوات النفس بفواته حتى إن الإنسان بفواته يلتحق بالحيوانات ويسقط عنه التكليف، ومن ثمة وجب بتفويته ما وجب بتفويت النفس وهي الدية الكاملة، ثم حفظ المال".
3- طرق المحافظة على الضروريات:
قال الشاطبي: "والحفظ لها يكون بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.
والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.
فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك، والعادات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضاً لكن بواسطة العادات.
والجنايات ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم".
الصحاح (5/2099).
المخصص (2/151).
الموافقات (2/17-18).
المستصفى (2/482).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 16- 17).
الإسلام وضرورات الحياة (ص18- 19).
أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} (2615)، ومسلم في الإيمان (89).
الإسلام وضرورات الحياة (ص20).
أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار (17)، ومسلم في الحدود (1709).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 21).
الموافقات (1/31).
التقرير والتحبير (3/231).
الموافقات (2/18- 20).
الفصل الأول: محاسن حفظ الدين:
1ـ العمل بالدين:
أوجب الله تعالى حداً أدنى يحفَظ به هذا الدين على كل فرد من أفراد المسلمين، وهو فرض العين الذي لا يسقط عن أحد ما دام قادراً على إقامته قدرة عقلية وقدرة فعلية وذلك مثل أصول الإسلام والإيمان.
قال شيخ الإسلام: "والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقاً، الذي يجب لله عبادةً محضة على الأعيان، فيجب على كل من كان قادراً عليه ليعبد الله بها مخلصاً له الدين وهذه هي الخمس، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب المصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس".
وهناك حد أدنى من المحرمات حظرها الله تعالى على كل فرد فهي محرمات عينية مطلوب من كل فرد اجتنابها، وهي المحرمات التي حظرت لذاتها لما يلحق الفرد والمجتمع من الضرر بسبب ارتكابها كالزنا وشرب الخمر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وغيرها، فإنه يحرم على كل فرد من الأمة أي محرم منها إلا ما اضطر إليه مما لا حياة له بدونه مما يمكن تناوله كأكل الميتة، وقد رتب الله تعالى على امتثال أمره واجتناب نهيه السعادة في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، كما رتب على عصيانه الشقاء في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3].
قال ابن كثير: "فاستثنى من جنس الإيمان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ} وهو أداء الطاعات وترك المحرمات".
2ـ الحكم بالدين:
قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105].
قال ابن السعدي: "الحكم هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل الأحكام".
وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزلَ اللَّهُ}.
قال ابن كثير: "أي: فاحكم ـ يا محمد ـ بين الناس، عربهم وعجمهم أميِّهم وكتابيهم، بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم".
قال الشيخ عبد الله قادري: "إن المراد بحفظ هذا الدين أن يؤدي غرضه في الأرض، أن يحكم تصرفات البشر، أن يقضي لصاحب الحق بحقه ويرد على صاحب الباطل باطله. إن الناس يعتدي بعضهم على بعض في هذه الضرورات التي لا حياة لهم بدونها، ويعتدون على دينهم وعلى نسلهم وعرضهم ونسبهم وعقلهم ومالهم ونفوسهم، وليس هناك مبدأ من المبادئ الموجودة في الأرض قادر على حفظ هذه الضرورات حفظاً يكفل لهم الحياة السعيدة إلا هذا الدين، فالحكم بما أنزل الله ضرورة من ضروريات حفظ الدين".(/3)
3ـ الدعوة إلى الدين:
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
قال ابن جرير: "أي: ومن أحسن ـ أيها الناس ـ قولاً ممن قال: ربنا الله ثم استقام على الإيمان به والانتهاء إلى أمره ونهيه، ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك؟!".
وقال تعالى: {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأولئك هم المفلحون".
قال شيخ الإسلام: "إن صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110]، وقال تعالى: {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71]، وقال تعالى عن بني إسرائيل: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة:79]، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوء وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]. فأخبر الله تعالى أن العذاب لما نزل نجي الذين ينهون عن السوء، وأخذ الظالمين بالعذاب الشديد".
4ـ الجهاد في سبيل الله:
قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ} [الأنفال:39].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم حتى لا تكون فتنة، يعني: حتى لا يكون شرك بالله، وحتى لا يعبد دونه أحد، وتضمحل عبادة الأوثان والآلهة والأنداد، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان".
وقال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصلاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراًً} [الحج:40].
قال ابن سعدي: "وهذا يدل على حكمة الجهاد؛ فإن المقصود منه إقامة دين الله أو ذب الكفار المؤذين للمؤمنين البادين لهم بالاعتداء عن ظلمهم واعتدائهم، والتمكن من عبادة الله وإقامة الشرائع الظاهرة".
وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25].
قال ابن كثير: "أي: وجعلنا الحديد رادعاً لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه".
قال شيخ الإسلام: "ولن يقوم الدين إلا بالكتاب والميزان والحديد، كتاب يهدي به وحديد ينصره، فالكتاب به يقوم العلم والدين، والميزان به تقوم الحقوق في العقود المالية والقبوض، والحديد به تقوم الحدود على الكافرين والمنافقين".
5ـ رد البدع والأهواء:
عن عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه سلم ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
قال النووي: "وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات".
وظهور البدع له مضار على الدين نفسه، مثل خفاء كثير من أحكامه وتشويه جماله، والأول سبب من أسباب اندراس الشرائع، والثاني سبب من أسباب الإعراض عنها وعدم احترامها، ويتجلى هذا في بدع أهل الطرق وغيرها، مما يصوِّر الدين تصويراً يأباه ما للدين من جمال وجلال، وكثيراً ما تنشر البدع وتأخذ مكانة الدين من النفوس، وتصير هي الدين المتبع عند الناس، وبقدر ذيوعها يكون اندراس الدين، وهذا هو الطريق الذي اندرست به الشرائع السابقة وانحرف عنها المتدينون.
6ـ إقامة حد الردة:
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من بدل دينه فاقتلوه)).(/4)
قال شيخ الإسلام: "وأما المرتد فالمبيح عنده (يعني عند أحمد) هو الكفر بعد الإيمان، وهو نوع خاص من الكفر، فإنه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه، فقتله حفظ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه".
الإسلام وضرورات الحياة (ص31).
مجموع الفتاوى (7/314).
تفسير القرآن العظيم (4/585) وانظر: الإسلام وضرورات الحياة (ص 32).
تيسير الكريم الرحمن (ص 199).
تفسير القرآن العظيم (2/105).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 40) بتصرف يسير.
جامع البيان (11/109).
تفسير القرآن العظيم (1/398).
مجموع الفتاوى (28/306- 307).
جامع البيان (2/200).
تيسير الكريم الرحمن (ص 489).
تفسير القرآن العظيم (4/315).
مجموع الفتاوى (35/36).
أخرجه البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح جور (2697)، ومسلم في الأقضية (1718).
شرح صحيح مسلم (12/16).
البدعة: أسبابها ومضار (ص 57) محمود شلتوت، بواسطة علم أصول البدع ص 287 لعلي حسن عبد الحميد.
أخرجه البخاري: كتاب استتابة المرتدين والمحاربين، باب قتل المرتد والمرتدة (6922).
مجموع الفتاوى (20/102).
الفصل الثالث: محاسن حفظ العقل:
1ـ جعل العقل مناط التكليف:
قال الآمدي: "اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلاً فاهماً للتكليف، لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة، ومن وجد له أصل الفهم لأصل الخطاب دون تفاصيله من كونه أمراً ونهياً ومقتضياً للثواب والعقاب، ومن كون الآمر به هو الله تعالى وأنه واجب الطاعة، وكون المأمور به على صفة كذا وكذا كالمجنون والصبي الذي لا يميز، فهو بالنظر إلى فهم التفاصيل كالجماد والبهيمة بالنظر إلى فهم أصل الخطاب، ويتعذر تكليفه أيضاً".
وإذا كان العقل هو مناط التكليف في الشريعة الإسلامية فإن حفظه إذاً ضرورة لا غنى عنها ولا تستقيم حياة الناس بدون ذلك.
2ـ تحريم ما يفسد العقل:
مما يدل على عناية الشريعة الإسلامية بحفظ العقل أنها حرمت كل ما من شأنه إفساد العقل وإدخال الخلل عليه، وهذه المفسدات على قسمين:
أ- مفسدات حسية:
وهي التي تؤدي إلى الإخلال بالعقل بحيث يصبح الإنسان كالمجنون الذي لا يعرف صديقاً من عدو ولا خيراً من شر، فيختل كلامه المنظوم، ويذيع سره المكتوم، وهذه المفسدات هي الخمور والمخدرات وما شابهها.
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة:90، 91].
قال سيد قطب: "إن غيبوبة السكر بأي مسكر تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولاً بالله في كل لحظة مراقباً لله في كل خطوة، ثم ليكون بهذه اليقظة عاملاً إيجابياً في نماء الحياة وتجددها، وفي صيانتها من الضعف والفساد، وفي حماية نفسه وماله وعرضه وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء، والفرد المسلم ليس متروكا لِذاته ولَذَّاته، فعليه في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة، تكاليف لربه وتكاليف لنفسه وتكاليف لأهله وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها، وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف، وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتم عليه أن يكون يقظاً لهذا المتاع فلا يصبح عبداً لشهوة أو لذة، إنما يسيطر دائماً على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره، وغيبوبة السكر لا تتفق في شيء مع هذا الاتجاه.
ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار، والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق، ويريد من الناس أن يروا الحقائق وأن يواجهوها ويعيشوا فيها ويصرفوا حياتهم وفقها ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام... إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة، أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل ووهن العزيمة وتذاوب الإرادة، والإسلام يجعل في حسابه دائماً تربية الإرادة، وإطلاقها من قيود العادة القاهرة والإدمان، وهذا الاعتبار كاف وحده من عمل الشيطان مفسد لحياة الإنسان".
فالخمر من أعظم أسباب التعدي على الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية بحمايتها، فكم حصل بسببها من سفك للدماء المحرمة وانتهاك للأعراض وإتلاف للأموال وإفساد للعقول وتفويت لمصالح الدين، ومنشأ ذلك هو اختلال العقل المدرك القائد للإنسان إلى مصالحه.
ب- مفسدات معنوية:(/5)
وهي ما يطرأ على العقول من تصورات فاسدة في الدين أو الاجتماع أو السياسة أو غيرها من أنشطة الحياة، فهذه مفسدة للعقول من حيث كون الإنسان قد عطل عقله عن التفكير السليم الذي يوافق الشرع، فعقله من هذه الحيثية كأنه فاسد لا يفكر، بل كأنه معدوم بالمرة.
لذا نعى الله في كتابه على الكفار حيث عطلوا عقولهم عن التفكير في آيات الله القرآنية وآياته الكونية، فلم يستفيدوا منها في الوصول إلى الحق، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
قال ابن سعدي: "سجل تعالى على ضلالهم البليغ بأن سلبهم العقول والأسماع، وشبههم في ضلالهم بالأنعام السائمة التي لا تسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي فهم لا يعقلون، بل هم أضل من الأنعام".
فالعقل إن لم يجعل مطية للوصول إلى فهم كلام الله وكلام رسوله والتدبر في خلق الله وبديع صنعته فإن وجوده كعدمه، فيجب تسخير العقل في الوصول إلى الحق والمحافظة عليه من كل دخيل أو مذهب هدام أو نحلة باطلة تغير مفهوماته الشرعية.
3- عقوبة شرب المسكر:
قال الإمام البخاري في صحيحه: "باب ما جاء في ضرب شارب الخمر"، ثم أخرج بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين.
وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر فصدراً من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا أو فسقوا جلد ثمانين.
قال ابن قدامة: "يجب الحد على من شرب قليلاً من المسكر أو كثيراً، ولا نعلم بينهم خلافاً في ذلك في عصير العنب غير المطبوخ".
وقال ابن حزم: "واتفقوا أن من شرب نقطة خمر وهو يعلمها خمراً من عصير العنب وقد بلغ ذلك حدَّ الإسكار ولم يتب ولا طال الأمر وظفر به ساعةَ شربها ولم يكن في دار الحرب أن الضرب يجب عليه إذا كان حين شربه لذلك عاقلاً مسلماً بالغاً غيرَ مكرَه ولا سكران، سكِر أو لم يسكر".
وقال ابن حزم أيضاً: "واتفقوا أن الحد أن يكون مقدار ضربه في ذلك أربعين، واختلفوا في إتمام الثمانين، واتفقوا أنه لا يلزمه أكثر من ثمانين".
الإحكام في أصول الأحكام (1/138- 139).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 112).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص237).
في ظلال القرآن (2/977).
مقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص 223، 229) بتصرف.
تيسر الكريم الرحمن (ص 584).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص 243- 244).
صحيح البخاري: كتاب الحدود (6773)، وأخرجه مسلم أيضا في الحدود (1706).
أخرجه البخاري في الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال (6779).
المغني (12/497).
مراتب الإجماع (ص133).
مراتب الإجماع (ص133).
الفصل الرابع: محاسن حفظ النسل والعرض:
1ـ الترغيب في تكثير النسل:
عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال: ((لا))، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: ((تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم)).
قال الطيبي: "وفيه فضيلة كثرة الأولاد لأن بها يحصل ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم من المباهاة".
قال المناوي: "لا ينتظم أمر المعاش حتى يبقى بدنه سالما ونسله دائما، ولا يتم كلاهما إلا بأسباب الحفظ لوجودهما وذلك ببقاء النسل، وقد خلق الغذاء سببا للحيوان، وخلق الإناث محلا للحراثة، لكن لا يختص المأكول و المنكوح ببعض الآكلين والناكحين بحكم الفطرة، ولو ترك الأمر فيها سدى من غير تعريف قانون الاختصاصات لتهاوشوا وتقاتلوا وشغلهم ذلك عن سلوك الطريق، بل أفضى بهم إلى الهلاك فشرح الله قانون الاختصاص بالأموال في آيات نحو المبايعات والمداينات والمواريث ومواجب النفقات والمنكاحات ونحو ذلك، وبين الاختصاص بالإناث في آيات النكاح ونحوها".
2ـ الترغيب في النكاح:
قال الإمام البخاري: "باب الترغيب في النكاح لقوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء} [النساء:3]".
قال الحافظ: "ووجه الاستدلال بالآية أنها صيغة أمر تقتضي الطلب، وأقل درجاته الندب فثبت الترغيب".
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)).
قال النووي: "وفي هذا الحديث الأمر بالنكاح لمن استطاعه وتاقت إليه نفسه، وهذا مجمع عليه".
قال الغزالي في بيان فوئد النكاح: "الفائدة الأولى وهو الأصل وله وضع النكاح والمقصود إبقاء النسل وأن لا يخلو العالم عن جنس الإنس".
3ـ التحذير من التبتل والرغبة عن النكاح:(/6)
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا.
قال الحافظ: "والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النسل ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه فينقطع النسل، فيقل المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية".
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أماَ والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
قال الحافظ: "وقوله: ((فليس مني)) إن كانت الرغبة بضرب من التآويل يعذر صاحبه فيه فمعنى ((فليس مني)) أي: على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة، وإن كان إعراضاً وتنطعاً يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله فمعنى ((فليس مني)) ليس على ملتي؛ لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر، وفي الحديث دلالة على فضل النكاح والترغيب فيه".
هذا بالنسبة لمن ترك النكاح تبتلا وانشغالاً بالعبادة، فأما من تركه لعدم القدرة البدنية أو المالية فبين العلماء حكمه كما يلي.
قال ابن قدامه: "القسم الثالث: من لا شهوة له؛ إما لأنه لم يخلق له شهوة كالعنين، أو كانت له شهوة فذهبت بكبر أو مرض ونحوه ففيه وجهان:
أحدهما: يستحب له النكاح.
والثاني: التخلي له أفضل؛ لأنه لا يحصل مصالح النكاح ويمنع زوجته من التحصين بغيره ويضر بها ويحبسها على نفسه ويعرض نفسه لواجبات وحقوق لعله لا يتمكن من القيام بها ويشتغل عن العلم والعبادة بما لا فائدة فيه، والأخبار تحمل على من له شهوة لما فيها من القرائن الدالة عليها".
4ـ تحريم قتل الأولاد وإجهاض الحوامل:
قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}.
وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:31].
قال القاسمي: "{إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} لإفضائه إلى تخريب العالم، وأي خطأ أكبر من ذلك".
وقال تعالى: {ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ} الآية [الممتحنة:12].
قال ابن كثير: "قوله: {وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ} هذا يشمل قتله بعد وجوده كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتلَه وهو جنين كما يفعله بعض الجهلة من النساء تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه".
وقد أوجب الشرع الضمان على من قتل جنيناً في بطن أمه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بغرة عبدٍ أو أمة.
وعن المغيرة بن شعبة عن عمر رضي الله عنه أنه استشارهم في إملاص المرأة، فقال المغيرة: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة عبد أو أمة، قال: ائت من يشهد معك، فشهد محمد بن مسلمة أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضى به.
قال ابن تيمية في الجواب عن قضية امرأة تعمدت إسقاط الجنين إما بضرب أو شرب دواء: "يجب عليها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفاق الأئمة غُرة: عبد أو أمة، تكون لورثة الجنين غير أمه".
وينبه هنا إلى أن إسقاط الحمل على نوعين كما يأتي.
قال الشيخ محمد بن عثيمين: "أما استعمال ما يسقط الحمل فهو على نوعين:
الأول: أن يقصد من إسقاطه إتلافه، فهذا إن كان بعد نفخ الروح فيه فهو حرام بلا ريب؛ لأنه قتل نفس محرمة بغير حق، وقتل النفس المحرمة حرام بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وإن كان قبل نفخ الروح فيه فقد اختلف العلماء في جوازه، فمنهم من أجازه ومنهم من منعه، ومنم من قال: يجوز ما لم يكن علقة، أي: ما لم يمض عليه أربعون يوماً، ومنهم من قال: يجوز ما لم يتبين فيه خلق إنسان، والأحوط المنع من إسقاطه حينئذ إلا إن مضى عليه زمن يمكن أن يتبين فيه خلق إنسان فيمنع.
الثاني: ألا يقصد من إسقاطه إتلافه، بأن تكون محاولة إسقاطه عند انتهاء مدة الحمل وقرب الوضع، فهذا جائز بشرط ألا يكون في ذلك ضرر على الأم ولا على الولد ولا يحتاج الأمر إلى عملية".
والإجهاض له آثار على النسل، فمن ذلك:
1) هلاك عدد غير معلوم من أفراد البشرية قبل أن يخرجوا إلى نور الحياة.
2) ذهاب عدد غير يسير من الأمهات ضحية الموت أثناء عملية الإجهاض.(/7)
3) حدوث مؤثرات مرضية للمرأة لا يستهان بعددها تؤدي عدم الإنجاب مستقبلاً.
5ـ الوعيد الشديد على نفي النسب أو إثباته على خلاف الواقع:
قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ ءابَاءهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى الدّينِ وَمَوالِيكُمْ} [الأحزاب:5].
قال ابن كثير: "أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم إن عرفوا، فإن لم يعرفوا فهم إخوانهم في الدين ومواليهم، أي: عوضاً عما فاتهم من النسب".
وقال الشوكاني: "صرح سبحانه بما يجب على العباد من دعاء الأبناء للآباء".
وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله، ومن ادّعى قوماً ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار)).
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينه ما لم تر، أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ترغبوا عن آبائكم؛ فمن رغب عن أبيه فهو كفر)).
وعن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة رضي الله عنهما كلاهما يقول: سمعته أذناي ووعاه قلبي محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: ((من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالحنة عليه حرام)).
قال الحافظ: "وفي الحديث تحريم الانتفاء من النسب المعروف والادعاء إلى غيره".
قال بعض الشراح: "سبب إطلاق الكفر هنا أنه كذب على الله، كأنه يقول: خلقني الله من ماء فلان، وليس كذلك لأنه إنما خلقه من غيره".
6ـ تحريم الزنا وإيجاب الحد فيه:
قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء:32].
قال ابن جرير: "وساء طريق الزنا طريقاً، لأنه طريق أهل معصية الله والمخالفين أمره، فأسوِئ به طريقاً يورد صاحبه نار جهنم".
قال ابن سعدي: "ووصف الله الزنا وقبحه بأنه كان فاحشة أي: إثما يستفحش في الشرع والعقل والفطر، لتضمنه التجري على الحرمة في حق الله وحق المرأة وحق أهلها أو زوجها، وإفساد الفراش واختلاط الأنساب وغير ذلك من المفاسد".
وقد أوجبت الشريعة الحد في هذه الجريمة.
قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)).
قال شيخ الإسلام: "وأما الزاني فإن كان محصناً فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت كما رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك الأسلمي ورجم الغامدية وغير هؤلاء، ورجم المسلمون بعده، وإن كان غير محصن فإنه يجلد مائة جلدة بكتاب الله، ويغرب عاماً بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم".
ومن مقاصد الشريعة في تحريم الزنا:
1) تحقيق العبودية لله تعالى والاستقامة على شرعه.
2) تطهير المكلف من الذنوب والآثام وردع غيره من الوقوع فيها.
3) حماية الفرد والمجتمع.
7ـ تحريم اللواط وإيجاب الحد فيه:
قال شيخ الإسلام: "وأما اللواط فمن العلماء من يقول: حده كحد الزنا، وقد قيل: دون ذلك، والصحيح الذي اتفق عليه الصحابة أن يقتل الاثنان الأعلى والأسفل، سواء كانا محصنين أو غير محصنين، فإن أهل السنن رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به))، وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما في البكر يوجد على اللوطية قال: (يرجم)، ولم تختلف الصحابة في قتله ولكن تنوعه فيه، فرُوي عن الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريقه، وعن غيره قتله، وعن بعضهم أنه يلقى عليه جدار حتى يموت تحت الهدم، وقيل: يحبسان في أنتن موضع حتى يموتا، وعن بعضهم أنه يرفع على أعلى جدار في القرية ويرمى منه ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط، وهذه رواية عن ابن عباس، والرواية الأخرى قال: يرجم، وعلى هذا أكثر السلف، قالوا: لأن الله رجم قوم لوط، وشرع رجم الزاني تشبيهاً بقوم لوط، فيرجم الاثنان، سواء كانا حرين أو مملوكين، أو كانا أحدهما مملوكاً والآخر حراً إذا كانا بالغين، فإن كان أحدهما غير بالغ عوقب بما دون القتل، ولا يرجم إلا البالغ".
8ـ تحريم القذف وإيجاب الحد فيه:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23].
قال ابن كثير: "هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات".
والقذف كبيرة من الكبائر المنصوص عليها.(/8)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)).
قال الحافظ: "في الآية بيان كون القذف من الكبائر بناء على أن كل ما توُعِّد عليه باللعن أو العذاب أو شرع فيه حدٌّ فهو كبيرة وهو المعتمد، وبذلك يطابق الحديث الآية المذكورة، وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء".
ولذا شرع الله تعالى الحد في هذه الجريمة حفاظاً على أعراض المؤمنين والمؤمنات.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4].
قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة وهي الحرة البالغة العفيفة، فإذا كان المقذوف رجلاً فكذلك يجلد قاذفه أيضاً، وليس فيه نزاع بين العلماء".
وقال أيضاً: "فأوجب على القاذف إذا لم يقم البنية على صحة ما قال ثلاثة أحكام أحدها: أن يجلد ثمانين جلدة، والثاني: أنه ترد شهادته أبداً، والثالث: أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس".
قال شيخ الإسلام: "ومن الحدود التي جاء بها الكتاب والسنة وأجمع عليها المسلمون حد القذف، فإذا قذف الرجل محصناً بالزنا أو اللواط وجب عليه الحد ثمانون جلدة، والمحصن هنا هو الحر العفيف".
فالقذف فيه جناية على الرجل والمرأة المتَّهمين، وعلى أسرتهما وأقاربهما، وعلى المجتمع بأسره، وفيه طعن في نسب الولد الذي اتهمت أمه بالزنا، لذا جاء الشرع بتحريمه وإيجاب الحد فيه صيانةً لشرف الفرد والمجتمع.
أخرجه أبو داود في النكاح (2050)، والنسائي في النكاح (3227)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1784).
شرح الطيبي على المشكاة (6/226).
فيض القدير (3/242).
صحيح البخاري في كتاب النكاح (9/5) مع الفتح.
فتح الباري (9/6).
أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع الباءة فليتزوج)) (5065).
شرح صحيح مسلم (9/172).
إحياء علوم الدين (2/75)
أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتل والخصاء (5073).
فتح الباري (9/21).
أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح ( 5063).
فتح الباري (9/8).
المغني (9/343).
محاسن التأويل (10/224).
تفسير القرآن العظيم (4/379).
أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب جنين المرأة (6904)، ومسلم في كتاب القسامة (1681).
الإملاص: قال ابن الأثير: "هو أن تزلق المرأة الجنين قبل وقت الولادة" النهاية (4/356).
أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب جنين المرأة (6905).
مجموع الفتاوى (34/161).
رسالة في الدماء الطبيعية ضمن مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (11/332 ـ 333).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص 276).
تفسير القرآن العظيم (3/514).
فتح القدير (4/261).
أخرجه البخاري في كتاب المناقب، (3508)، ومسلم في الإيمان (61).
أخرجه البخاري في كتاب المناقب (3508).
أخرجه البخاري في الفرائض، باب من ادعى إلى غير أبيه (6768)، ومسلم في الإيمان (62).
أخرجه البخاري في الفرائض، باب من ادعى إلى غير أبيه (6768)، ومسلم في الإيمان (63).
فتح الباري (6/625).
فتح الباري (12/56).
جامع مع البيان (15/80).
تيسير الكريم الرحمن (ص 456).
أخرجه مسلم في كتاب الحدود (1690).
مجموع الفتاوى (28/333)بتصرف يسير.
حكم الزنا في القانون وعلاقته بمبادئ حقوق الإنسان في الغرب ص 42 وما بعدها.
أخرجه أبو داود في الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط (4462)، والترمذي في الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي (1457)، وابن ماجة في الحدود، باب من عمل عمل قوم لوط (2561)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3745).
أخرجه أبو داود في الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط (4463)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3746).
مجموع الفتاوى (28/334-335).
تفسير القرآن العظيم (3/287).
أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب في المحصنات (6857)، مسلم في كتاب الإيمان (146).
فتح الباري (12/188).
تفسير القرآن العظيم (3/275).
تفسير القرآن العظيم (3/275).
مجموع الفتاوى (28/342).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 103-104) بتصرف وزيادة يسيره.
الفصل الخامس: محاسن حفظ المال:
1) المال مال الله استخلف فيه عباده:
قال تعالى {ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} [الحديد:7].
قال ابن جرير: "أي: أنفقوا مما خولكم الله من المال الذي أورثكم عمن كان قبلكم فجعلكم خلفاؤهم فيه".(/9)
قال القرطبي: "فيه دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة".
فالذي يقع في يده المال وهو يعلم أن المالك في الأصل هو الله وأنه مستخلف فيه فلا ينفقه إلا فيما يرضيه ولا يجمعه إلا من حيث يرضيه، وأن أي تصرف يخرج عما يرضي الله في المال يكون تصرفاً غير مشروع. إن الذي يعلم ذلك ويلتزم بإذن الله في جمع المال وإنفاقه هو الجدير بحفظه، بخلاف الذي يغنيه الله ولا يشعر بهذه القاعدة فإنه يتصرف في المال تصرف السفيه وهو جدير بإضاعة المال وإن ظن أنه يحفظه.
2) الحث على الكسب:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].
قال ابن جرير: "وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض".
وقال ابن كثير: "أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم".
وقال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20].
قال ابن كثير: "أي: مسافرون يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر".
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفُّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
قال النووي: "فيه الحث على الصدقة والأكل من عمل يده والاكتساب بالمباحات بالحطب والحشيش النابتين في موات".
وقال ابن حزم: "وأجمعوا أن اكتساب المرء من الوجوه المباحة مباح".
وقال ابن مفلح: "يسن التكسب ومعرفة أحكامه حتى مع الكفاية، نص عليه في الرعاية".
إن الفرد لا يجب عليه أن يمشي في مناكب الأرض طالباً للرزق، بل يباح له ذلك إلا أنه إذا ترك السعي في طلب الزرق وترتب على ذلك فقره واضطراره إلى سؤال الناس واستجدائهم كان آثماً ووجب عليه حفظ ماء الوجه بطلب الرزق الحلال بكسب يده ما دام قادراً على ذلك، أما ترك الأمة كلها للمكاسب فإنه لا يجوز؛ لأنه خلاف مقصود الله من عمارة الأرض، فالسعي في طلب المال مشروع، وهو وإن كان مباحاً بالجزء فإنه ضرورة بالكل.
3) التزام السعي المشروع في الكسب واجتناب الكسب الحرام:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]))، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يده إلى السماء يارب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذيَبالحرام فأنى يستجاب لذلك.
قال النووي: "فيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصَه، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم)).
قال القرطبي: "وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام لأنه غير مملوك من المتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأموراً به منهياً عنه من وجه واحد وهو محال، لأن أكل الحرام يفسد القلوب فتحرم الرقة والإخلاص فلا تقبل الأعمال".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومعنى الكسب المكسوب، والمراد به ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث، وكأنه ذكر الكسب، لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطيب: الحلال لأنه صفة الكسب".
4) تحريم إضاعة المال:
قال تعالى {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26، 27].
قال عبد الله بن مسعود: (التبذير في غير حق وهو الإسراف).
وقال ابن عطية: "التبذير إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح".(/10)
وقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ} [الأعراف:31].
قال ابن عباس: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة).
قال ابن السعدي: "فإن السرف يبغضه الله ويضر بدن الإنسان ومعيشته حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفاق".
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع هات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)).
قال النووي: "وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه فساد والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومنع منه لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل فوات الآخرة ما لم يفوت حقاً أخروياً أهم منه.
فالحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعاً فلا شك في منعه.
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعاً فلا شك في كونه مطلوباً بالشرط المذكور.
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذّ النفس فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يليق به عرفاً وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف، والثاني ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف؛ لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له، وقال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال إ.هـ وقد صرح بالمنع القاضي حسين وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموماً لذاته لكنه يفضي غالباً إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس وما أدى إلى المحذور فهو محذور".
5) أداء الحقوق لأهلها:
وله أمثلة كثيرة منها:
1ـ أداء الزكاة إلى مستحقيها:
قال تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} الآية [التوبة:60].
قال ابن كثير: "بين تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، فجزأها لهؤلاء المذكورين".
قال ابن قدامة: "ولا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والقناطر والسقايا وإصلاح الطرق وما أشبه ذلك من القرب التي لم يذكرها الله تعالى لقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} و(إنما) للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ما عداه".
2ـ أداء الديون لأصحابها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريدها أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها اتلفه الله)).
قال ابن بطال: "فيه الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزه عنها وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل".
وجاء الشرع بتحذير القادر على أداء الدين من تأخيره وجعله ظالماً بالتأخير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مطل الغني ظلم ومن اتبع على مليّ فليتبع)).
قال ابن المنذر: "هذا الخبر يدل على معان منها: أن من الظلم دفع الغني صاحب المال عن ماله بالمواعيد".
وقال ابن بطال: "وفيه ما دل على تحصين الأموال".
3ـ تعريف اللقطة:
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه فقال: ((عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء أحد يخبرك بها وإلا فاستنفقها))، قال: يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب))، قال: ضالة الإبل؟ فتمعَّر وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)).
واللقطة هي المال الذي يجده المرء ساقطاً لا يعرف مالكه، فالواجب على واجده أن يعرفه ويعرف الوعاء الذي حفظ فيه من كيس ونحوه، وكذا العلامات التي يتميز بها، ويحفظ هذا المال عنده سنة كاملة يعرف به في المجامع العامة كالأسواق وأبواب المساجد ونحوها فإن جاء من يدعيها وذكر وصفها تاماً أداه إليه.
ولها أحكام أخرى كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
6) حماية الأموال من السفهاء:
قال تعالى {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء:5].
قال ابن كثير: "ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها للناس قياماً، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها".(/11)
قال ابن سعدي: "السفهاء جمع سفيه، وهو من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه ونحوها، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد، فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، ولأن الله جعل الأموال قياماً لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولاً معروفاً، بأن يعدوهم إذا طلبوها أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبراً لخواطرهم".
7) الدفاع عن المال:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
قال النووي: "فيه جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلاً أو كثيراً".
قال ابن بطال: "إنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذه الأبواب ليريك أن للإنسان أن يدافع عن نفسه وماله، فإن كان شهيداً إذا قتل في ذلك كان إذا قتل من أراده في مدافعته له عن نفسه لا دية عليه فيه ولا قود".
8) توثيق الديون والأشهاد عليها:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} [البقرة:282].
قال ابن كثير: "هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها".
وقال القرطبي: "لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، ورداً على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم وهذا الفعل مذموم منهي عنه".
9) ضمان المتلفات:
قال ابن قدامة: "فمن غصب شيئاً وجب عليه رده... فإن تلف لزمه بدله لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]؛ ولأنه لما تعذر رد العين وجب رد ما يقوم مقامها من المالية، فإن كان مما تتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته كالحبوب وجب مثله لأن المثل أقرب إليه من القيمة وإن كان غير متقارب الصفات وهو ما عدا المكيل والموزون وجبت القيمة في قول الجماعة".
ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأصل في المتلفات ضمان المثل بالمثل والمتقوم بالقيمة.
وفي لزوم الضمان على المتلف لمال غيره ضمان من التعدي على الأموال والاستهانة بها، لأن الإنسان إذا علم أنه بغصبه أو بتفريطه في حفظ الوديعة ونحوها من أموال الناس يضمن مثلها أو قيمتها عند تعذر المثلية فإن ذلك يدعوه إلى التحرز والعناية والحفظ والانتباه وعدم الغفلة عنها، فتحفظ بذلك الأموال من الضياع.
10) تحريم السرقة وإيجاب الحد فيها:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:138].
قال ابن جرير: "يقول جل ثناؤه: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا ـ أيها الناس ـ يده".
قال ابن كثير: "وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أُخر، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح".
قال القاضي عياض: "صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرق كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة فإنه تندر إقامة البنية عليها، فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها، وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة، وإن اختلفوا في فروع منه".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
جامع البيان (11/671).
الجامع لأحكام القرآن (17/238).
الإسلام وضرورات الحياة (ص133).
جامع البيان (12/169).
تفسير القرآن العظيم (4/424).
تفسير القرآن العظيم (4/468).
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (1471).
شرح صحيح مسلم (7/131).
مراتب الإجماع (ص 155).
الآداب الشرعية 3(/265).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 135، 156) بتصرف.
تفسير القرآن العظيم (1/210).
قال النووي: بضم الغين وتخفيف الذال المكسورة. شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (1015).
شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في كتاب الزكاة (1014).
المفهم (3/59).(/12)
فتح الباري (3/327- 328).
جامع البيان (15/73) ـ دار الفكر.
المحرر الوجيز (3/450).
جامع البيان (5/472).
تيسير الكريم الرحمن (ص 287).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في كتاب الأقضية (1715 ).
شرح صحيح مسلم (11/11).
فتح الباري (10/422) بتصرف يسير.
تفسير القرآن العظيم (2/378).
المغني (4/125).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أدءها أو إتلافها (2387).
شرح ابن بطال على البخاري (6/513).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب مطل الغني ظلم (400)، ومسلم في كتاب المساقاه (1465).
انظر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/415).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/416).
أخرجه البخاري في كتاب اللقطة، باب ضالة الإبل (2427)، ومسلم في كتاب اللقطة (1722).
الإسلام وضرورات الحياة (ص178).
تفسير القرآن العظيم (1/462).
تيسير الكريم الرحمن (ص164).
أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله (2480)، ومسلم في كتاب الإيمان (226).
شرح صحيح مسلم (2/165).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/607).
تفسير القرآن العظيم (1/345).
الجامع لأحكام القرآن (3/417).
المغني (7/361).
الأشباه والنظائر للسيوطي (2/2).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص302).
جامع البيان (4/569).
تفسير القرآن العظيم (2/57).
شرح صحيح مسلم للنووي (11/181).
الفصل الخامس: محاسن حفظ المال:
1) المال مال الله استخلف فيه عباده:
قال تعالى {ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} [الحديد:7].
قال ابن جرير: "أي: أنفقوا مما خولكم الله من المال الذي أورثكم عمن كان قبلكم فجعلكم خلفاؤهم فيه".
قال القرطبي: "فيه دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة".
فالذي يقع في يده المال وهو يعلم أن المالك في الأصل هو الله وأنه مستخلف فيه فلا ينفقه إلا فيما يرضيه ولا يجمعه إلا من حيث يرضيه، وأن أي تصرف يخرج عما يرضي الله في المال يكون تصرفاً غير مشروع. إن الذي يعلم ذلك ويلتزم بإذن الله في جمع المال وإنفاقه هو الجدير بحفظه، بخلاف الذي يغنيه الله ولا يشعر بهذه القاعدة فإنه يتصرف في المال تصرف السفيه وهو جدير بإضاعة المال وإن ظن أنه يحفظه.
2) الحث على الكسب:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].
قال ابن جرير: "وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض".
وقال ابن كثير: "أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم".
وقال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20].
قال ابن كثير: "أي: مسافرون يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر".
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفُّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
قال النووي: "فيه الحث على الصدقة والأكل من عمل يده والاكتساب بالمباحات بالحطب والحشيش النابتين في موات".
وقال ابن حزم: "وأجمعوا أن اكتساب المرء من الوجوه المباحة مباح".
وقال ابن مفلح: "يسن التكسب ومعرفة أحكامه حتى مع الكفاية، نص عليه في الرعاية".
إن الفرد لا يجب عليه أن يمشي في مناكب الأرض طالباً للرزق، بل يباح له ذلك إلا أنه إذا ترك السعي في طلب الزرق وترتب على ذلك فقره واضطراره إلى سؤال الناس واستجدائهم كان آثماً ووجب عليه حفظ ماء الوجه بطلب الرزق الحلال بكسب يده ما دام قادراً على ذلك، أما ترك الأمة كلها للمكاسب فإنه لا يجوز؛ لأنه خلاف مقصود الله من عمارة الأرض، فالسعي في طلب المال مشروع، وهو وإن كان مباحاً بالجزء فإنه ضرورة بالكل.
3) التزام السعي المشروع في الكسب واجتناب الكسب الحرام:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة".(/13)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]))، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يده إلى السماء يارب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذيَبالحرام فأنى يستجاب لذلك.
قال النووي: "فيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصَه، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم)).
قال القرطبي: "وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام لأنه غير مملوك من المتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأموراً به منهياً عنه من وجه واحد وهو محال، لأن أكل الحرام يفسد القلوب فتحرم الرقة والإخلاص فلا تقبل الأعمال".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومعنى الكسب المكسوب، والمراد به ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث، وكأنه ذكر الكسب، لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطيب: الحلال لأنه صفة الكسب".
4) تحريم إضاعة المال:
قال تعالى {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26، 27].
قال عبد الله بن مسعود: (التبذير في غير حق وهو الإسراف).
وقال ابن عطية: "التبذير إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح".
وقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ} [الأعراف:31].
قال ابن عباس: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة).
قال ابن السعدي: "فإن السرف يبغضه الله ويضر بدن الإنسان ومعيشته حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفاق".
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع هات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)).
قال النووي: "وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه فساد والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومنع منه لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل فوات الآخرة ما لم يفوت حقاً أخروياً أهم منه.
فالحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعاً فلا شك في منعه.
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعاً فلا شك في كونه مطلوباً بالشرط المذكور.
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذّ النفس فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يليق به عرفاً وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف، والثاني ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف؛ لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له، وقال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال إ.هـ وقد صرح بالمنع القاضي حسين وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموماً لذاته لكنه يفضي غالباً إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس وما أدى إلى المحذور فهو محذور".
5) أداء الحقوق لأهلها:
وله أمثلة كثيرة منها:
1ـ أداء الزكاة إلى مستحقيها:
قال تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} الآية [التوبة:60].
قال ابن كثير: "بين تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، فجزأها لهؤلاء المذكورين".
قال ابن قدامة: "ولا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والقناطر والسقايا وإصلاح الطرق وما أشبه ذلك من القرب التي لم يذكرها الله تعالى لقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} و(إنما) للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ما عداه".
2ـ أداء الديون لأصحابها:(/14)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريدها أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها اتلفه الله)).
قال ابن بطال: "فيه الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزه عنها وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل".
وجاء الشرع بتحذير القادر على أداء الدين من تأخيره وجعله ظالماً بالتأخير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مطل الغني ظلم ومن اتبع على مليّ فليتبع)).
قال ابن المنذر: "هذا الخبر يدل على معان منها: أن من الظلم دفع الغني صاحب المال عن ماله بالمواعيد".
وقال ابن بطال: "وفيه ما دل على تحصين الأموال".
3ـ تعريف اللقطة:
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه فقال: ((عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء أحد يخبرك بها وإلا فاستنفقها))، قال: يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب))، قال: ضالة الإبل؟ فتمعَّر وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)).
واللقطة هي المال الذي يجده المرء ساقطاً لا يعرف مالكه، فالواجب على واجده أن يعرفه ويعرف الوعاء الذي حفظ فيه من كيس ونحوه، وكذا العلامات التي يتميز بها، ويحفظ هذا المال عنده سنة كاملة يعرف به في المجامع العامة كالأسواق وأبواب المساجد ونحوها فإن جاء من يدعيها وذكر وصفها تاماً أداه إليه.
ولها أحكام أخرى كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
6) حماية الأموال من السفهاء:
قال تعالى {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء:5].
قال ابن كثير: "ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها للناس قياماً، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها".
قال ابن سعدي: "السفهاء جمع سفيه، وهو من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه ونحوها، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد، فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، ولأن الله جعل الأموال قياماً لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولاً معروفاً، بأن يعدوهم إذا طلبوها أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبراً لخواطرهم".
7) الدفاع عن المال:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
قال النووي: "فيه جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلاً أو كثيراً".
قال ابن بطال: "إنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذه الأبواب ليريك أن للإنسان أن يدافع عن نفسه وماله، فإن كان شهيداً إذا قتل في ذلك كان إذا قتل من أراده في مدافعته له عن نفسه لا دية عليه فيه ولا قود".
8) توثيق الديون والأشهاد عليها:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} [البقرة:282].
قال ابن كثير: "هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها".
وقال القرطبي: "لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، ورداً على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم وهذا الفعل مذموم منهي عنه".
9) ضمان المتلفات:
قال ابن قدامة: "فمن غصب شيئاً وجب عليه رده... فإن تلف لزمه بدله لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]؛ ولأنه لما تعذر رد العين وجب رد ما يقوم مقامها من المالية، فإن كان مما تتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته كالحبوب وجب مثله لأن المثل أقرب إليه من القيمة وإن كان غير متقارب الصفات وهو ما عدا المكيل والموزون وجبت القيمة في قول الجماعة".
ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأصل في المتلفات ضمان المثل بالمثل والمتقوم بالقيمة.(/15)
وفي لزوم الضمان على المتلف لمال غيره ضمان من التعدي على الأموال والاستهانة بها، لأن الإنسان إذا علم أنه بغصبه أو بتفريطه في حفظ الوديعة ونحوها من أموال الناس يضمن مثلها أو قيمتها عند تعذر المثلية فإن ذلك يدعوه إلى التحرز والعناية والحفظ والانتباه وعدم الغفلة عنها، فتحفظ بذلك الأموال من الضياع.
10) تحريم السرقة وإيجاب الحد فيها:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:138].
قال ابن جرير: "يقول جل ثناؤه: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا ـ أيها الناس ـ يده".
قال ابن كثير: "وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أُخر، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح".
قال القاضي عياض: "صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرق كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة فإنه تندر إقامة البنية عليها، فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها، وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة، وإن اختلفوا في فروع منه".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
جامع البيان (11/671).
الجامع لأحكام القرآن (17/238).
الإسلام وضرورات الحياة (ص133).
جامع البيان (12/169).
تفسير القرآن العظيم (4/424).
تفسير القرآن العظيم (4/468).
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (1471).
شرح صحيح مسلم (7/131).
مراتب الإجماع (ص 155).
الآداب الشرعية 3(/265).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 135، 156) بتصرف.
تفسير القرآن العظيم (1/210).
قال النووي: بضم الغين وتخفيف الذال المكسورة. شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (1015).
شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في كتاب الزكاة (1014).
المفهم (3/59).
فتح الباري (3/327- 328).
جامع البيان (15/73) ـ دار الفكر.
المحرر الوجيز (3/450).
جامع البيان (5/472).
تيسير الكريم الرحمن (ص 287).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في كتاب الأقضية (1715 ).
شرح صحيح مسلم (11/11).
فتح الباري (10/422) بتصرف يسير.
تفسير القرآن العظيم (2/378).
المغني (4/125).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أدءها أو إتلافها (2387).
شرح ابن بطال على البخاري (6/513).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب مطل الغني ظلم (400)، ومسلم في كتاب المساقاه (1465).
انظر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/415).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/416).
أخرجه البخاري في كتاب اللقطة، باب ضالة الإبل (2427)، ومسلم في كتاب اللقطة (1722).
الإسلام وضرورات الحياة (ص178).
تفسير القرآن العظيم (1/462).
تيسير الكريم الرحمن (ص164).
أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله (2480)، ومسلم في كتاب الإيمان (226).
شرح صحيح مسلم (2/165).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/607).
تفسير القرآن العظيم (1/345).
الجامع لأحكام القرآن (3/417).
المغني (7/361).
الأشباه والنظائر للسيوطي (2/2).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص302).
جامع البيان (4/569).
تفسير القرآن العظيم (2/57).
شرح صحيح مسلم للنووي (11/181).
الفصل الخامس: محاسن حفظ المال:
1) المال مال الله استخلف فيه عباده:
قال تعالى {ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} [الحديد:7].
قال ابن جرير: "أي: أنفقوا مما خولكم الله من المال الذي أورثكم عمن كان قبلكم فجعلكم خلفاؤهم فيه".
قال القرطبي: "فيه دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة".
فالذي يقع في يده المال وهو يعلم أن المالك في الأصل هو الله وأنه مستخلف فيه فلا ينفقه إلا فيما يرضيه ولا يجمعه إلا من حيث يرضيه، وأن أي تصرف يخرج عما يرضي الله في المال يكون تصرفاً غير مشروع. إن الذي يعلم ذلك ويلتزم بإذن الله في جمع المال وإنفاقه هو الجدير بحفظه، بخلاف الذي يغنيه الله ولا يشعر بهذه القاعدة فإنه يتصرف في المال تصرف السفيه وهو جدير بإضاعة المال وإن ظن أنه يحفظه.
2) الحث على الكسب:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].(/16)
قال ابن جرير: "وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض".
وقال ابن كثير: "أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم".
وقال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20].
قال ابن كثير: "أي: مسافرون يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر".
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفُّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
قال النووي: "فيه الحث على الصدقة والأكل من عمل يده والاكتساب بالمباحات بالحطب والحشيش النابتين في موات".
وقال ابن حزم: "وأجمعوا أن اكتساب المرء من الوجوه المباحة مباح".
وقال ابن مفلح: "يسن التكسب ومعرفة أحكامه حتى مع الكفاية، نص عليه في الرعاية".
إن الفرد لا يجب عليه أن يمشي في مناكب الأرض طالباً للرزق، بل يباح له ذلك إلا أنه إذا ترك السعي في طلب الزرق وترتب على ذلك فقره واضطراره إلى سؤال الناس واستجدائهم كان آثماً ووجب عليه حفظ ماء الوجه بطلب الرزق الحلال بكسب يده ما دام قادراً على ذلك، أما ترك الأمة كلها للمكاسب فإنه لا يجوز؛ لأنه خلاف مقصود الله من عمارة الأرض، فالسعي في طلب المال مشروع، وهو وإن كان مباحاً بالجزء فإنه ضرورة بالكل.
3) التزام السعي المشروع في الكسب واجتناب الكسب الحرام:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]))، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يده إلى السماء يارب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذيَبالحرام فأنى يستجاب لذلك.
قال النووي: "فيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصَه، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم)).
قال القرطبي: "وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام لأنه غير مملوك من المتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأموراً به منهياً عنه من وجه واحد وهو محال، لأن أكل الحرام يفسد القلوب فتحرم الرقة والإخلاص فلا تقبل الأعمال".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومعنى الكسب المكسوب، والمراد به ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث، وكأنه ذكر الكسب، لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطيب: الحلال لأنه صفة الكسب".
4) تحريم إضاعة المال:
قال تعالى {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26، 27].
قال عبد الله بن مسعود: (التبذير في غير حق وهو الإسراف).
وقال ابن عطية: "التبذير إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح".
وقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ} [الأعراف:31].
قال ابن عباس: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة).
قال ابن السعدي: "فإن السرف يبغضه الله ويضر بدن الإنسان ومعيشته حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفاق".
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع هات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)).
قال النووي: "وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه فساد والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس".(/17)
وقال الحافظ ابن حجر: "ومنع منه لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل فوات الآخرة ما لم يفوت حقاً أخروياً أهم منه.
فالحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعاً فلا شك في منعه.
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعاً فلا شك في كونه مطلوباً بالشرط المذكور.
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذّ النفس فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يليق به عرفاً وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف، والثاني ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف؛ لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له، وقال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال إ.هـ وقد صرح بالمنع القاضي حسين وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموماً لذاته لكنه يفضي غالباً إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس وما أدى إلى المحذور فهو محذور".
5) أداء الحقوق لأهلها:
وله أمثلة كثيرة منها:
1ـ أداء الزكاة إلى مستحقيها:
قال تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} الآية [التوبة:60].
قال ابن كثير: "بين تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، فجزأها لهؤلاء المذكورين".
قال ابن قدامة: "ولا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والقناطر والسقايا وإصلاح الطرق وما أشبه ذلك من القرب التي لم يذكرها الله تعالى لقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} و(إنما) للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ما عداه".
2ـ أداء الديون لأصحابها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريدها أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها اتلفه الله)).
قال ابن بطال: "فيه الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزه عنها وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل".
وجاء الشرع بتحذير القادر على أداء الدين من تأخيره وجعله ظالماً بالتأخير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مطل الغني ظلم ومن اتبع على مليّ فليتبع)).
قال ابن المنذر: "هذا الخبر يدل على معان منها: أن من الظلم دفع الغني صاحب المال عن ماله بالمواعيد".
وقال ابن بطال: "وفيه ما دل على تحصين الأموال".
3ـ تعريف اللقطة:
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه فقال: ((عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء أحد يخبرك بها وإلا فاستنفقها))، قال: يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب))، قال: ضالة الإبل؟ فتمعَّر وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)).
واللقطة هي المال الذي يجده المرء ساقطاً لا يعرف مالكه، فالواجب على واجده أن يعرفه ويعرف الوعاء الذي حفظ فيه من كيس ونحوه، وكذا العلامات التي يتميز بها، ويحفظ هذا المال عنده سنة كاملة يعرف به في المجامع العامة كالأسواق وأبواب المساجد ونحوها فإن جاء من يدعيها وذكر وصفها تاماً أداه إليه.
ولها أحكام أخرى كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
6) حماية الأموال من السفهاء:
قال تعالى {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء:5].
قال ابن كثير: "ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها للناس قياماً، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها".
قال ابن سعدي: "السفهاء جمع سفيه، وهو من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه ونحوها، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد، فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، ولأن الله جعل الأموال قياماً لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولاً معروفاً، بأن يعدوهم إذا طلبوها أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبراً لخواطرهم".
7) الدفاع عن المال:(/18)
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
قال النووي: "فيه جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلاً أو كثيراً".
قال ابن بطال: "إنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذه الأبواب ليريك أن للإنسان أن يدافع عن نفسه وماله، فإن كان شهيداً إذا قتل في ذلك كان إذا قتل من أراده في مدافعته له عن نفسه لا دية عليه فيه ولا قود".
8) توثيق الديون والأشهاد عليها:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} [البقرة:282].
قال ابن كثير: "هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها".
وقال القرطبي: "لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، ورداً على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم وهذا الفعل مذموم منهي عنه".
9) ضمان المتلفات:
قال ابن قدامة: "فمن غصب شيئاً وجب عليه رده... فإن تلف لزمه بدله لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]؛ ولأنه لما تعذر رد العين وجب رد ما يقوم مقامها من المالية، فإن كان مما تتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته كالحبوب وجب مثله لأن المثل أقرب إليه من القيمة وإن كان غير متقارب الصفات وهو ما عدا المكيل والموزون وجبت القيمة في قول الجماعة".
ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأصل في المتلفات ضمان المثل بالمثل والمتقوم بالقيمة.
وفي لزوم الضمان على المتلف لمال غيره ضمان من التعدي على الأموال والاستهانة بها، لأن الإنسان إذا علم أنه بغصبه أو بتفريطه في حفظ الوديعة ونحوها من أموال الناس يضمن مثلها أو قيمتها عند تعذر المثلية فإن ذلك يدعوه إلى التحرز والعناية والحفظ والانتباه وعدم الغفلة عنها، فتحفظ بذلك الأموال من الضياع.
10) تحريم السرقة وإيجاب الحد فيها:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:138].
قال ابن جرير: "يقول جل ثناؤه: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا ـ أيها الناس ـ يده".
قال ابن كثير: "وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أُخر، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح".
قال القاضي عياض: "صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرق كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة فإنه تندر إقامة البنية عليها، فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها، وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة، وإن اختلفوا في فروع منه".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
جامع البيان (11/671).
الجامع لأحكام القرآن (17/238).
الإسلام وضرورات الحياة (ص133).
جامع البيان (12/169).
تفسير القرآن العظيم (4/424).
تفسير القرآن العظيم (4/468).
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (1471).
شرح صحيح مسلم (7/131).
مراتب الإجماع (ص 155).
الآداب الشرعية 3(/265).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 135، 156) بتصرف.
تفسير القرآن العظيم (1/210).
قال النووي: بضم الغين وتخفيف الذال المكسورة. شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (1015).
شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في كتاب الزكاة (1014).
المفهم (3/59).
فتح الباري (3/327- 328).
جامع البيان (15/73) ـ دار الفكر.
المحرر الوجيز (3/450).
جامع البيان (5/472).
تيسير الكريم الرحمن (ص 287).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في كتاب الأقضية (1715 ).
شرح صحيح مسلم (11/11).
فتح الباري (10/422) بتصرف يسير.
تفسير القرآن العظيم (2/378).
المغني (4/125).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أدءها أو إتلافها (2387).
شرح ابن بطال على البخاري (6/513).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب مطل الغني ظلم (400)، ومسلم في كتاب المساقاه (1465).(/19)
انظر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/415).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/416).
أخرجه البخاري في كتاب اللقطة، باب ضالة الإبل (2427)، ومسلم في كتاب اللقطة (1722).
الإسلام وضرورات الحياة (ص178).
تفسير القرآن العظيم (1/462).
تيسير الكريم الرحمن (ص164).
أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله (2480)، ومسلم في كتاب الإيمان (226).
شرح صحيح مسلم (2/165).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/607).
تفسير القرآن العظيم (1/345).
الجامع لأحكام القرآن (3/417).
المغني (7/361).
الأشباه والنظائر للسيوطي (2/2).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص302).
جامع البيان (4/569).
تفسير القرآن العظيم (2/57).
شرح صحيح مسلم للنووي (11/181).
الفصل الخامس: محاسن حفظ المال:
1) المال مال الله استخلف فيه عباده:
قال تعالى {ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} [الحديد:7].
قال ابن جرير: "أي: أنفقوا مما خولكم الله من المال الذي أورثكم عمن كان قبلكم فجعلكم خلفاؤهم فيه".
قال القرطبي: "فيه دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة".
فالذي يقع في يده المال وهو يعلم أن المالك في الأصل هو الله وأنه مستخلف فيه فلا ينفقه إلا فيما يرضيه ولا يجمعه إلا من حيث يرضيه، وأن أي تصرف يخرج عما يرضي الله في المال يكون تصرفاً غير مشروع. إن الذي يعلم ذلك ويلتزم بإذن الله في جمع المال وإنفاقه هو الجدير بحفظه، بخلاف الذي يغنيه الله ولا يشعر بهذه القاعدة فإنه يتصرف في المال تصرف السفيه وهو جدير بإضاعة المال وإن ظن أنه يحفظه.
2) الحث على الكسب:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].
قال ابن جرير: "وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض".
وقال ابن كثير: "أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم".
وقال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20].
قال ابن كثير: "أي: مسافرون يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر".
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفُّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
قال النووي: "فيه الحث على الصدقة والأكل من عمل يده والاكتساب بالمباحات بالحطب والحشيش النابتين في موات".
وقال ابن حزم: "وأجمعوا أن اكتساب المرء من الوجوه المباحة مباح".
وقال ابن مفلح: "يسن التكسب ومعرفة أحكامه حتى مع الكفاية، نص عليه في الرعاية".
إن الفرد لا يجب عليه أن يمشي في مناكب الأرض طالباً للرزق، بل يباح له ذلك إلا أنه إذا ترك السعي في طلب الزرق وترتب على ذلك فقره واضطراره إلى سؤال الناس واستجدائهم كان آثماً ووجب عليه حفظ ماء الوجه بطلب الرزق الحلال بكسب يده ما دام قادراً على ذلك، أما ترك الأمة كلها للمكاسب فإنه لا يجوز؛ لأنه خلاف مقصود الله من عمارة الأرض، فالسعي في طلب المال مشروع، وهو وإن كان مباحاً بالجزء فإنه ضرورة بالكل.
3) التزام السعي المشروع في الكسب واجتناب الكسب الحرام:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]))، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يده إلى السماء يارب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذيَبالحرام فأنى يستجاب لذلك.
قال النووي: "فيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه".(/20)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصَه، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم)).
قال القرطبي: "وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام لأنه غير مملوك من المتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأموراً به منهياً عنه من وجه واحد وهو محال، لأن أكل الحرام يفسد القلوب فتحرم الرقة والإخلاص فلا تقبل الأعمال".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومعنى الكسب المكسوب، والمراد به ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث، وكأنه ذكر الكسب، لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطيب: الحلال لأنه صفة الكسب".
4) تحريم إضاعة المال:
قال تعالى {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26، 27].
قال عبد الله بن مسعود: (التبذير في غير حق وهو الإسراف).
وقال ابن عطية: "التبذير إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح".
وقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ} [الأعراف:31].
قال ابن عباس: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة).
قال ابن السعدي: "فإن السرف يبغضه الله ويضر بدن الإنسان ومعيشته حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفاق".
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع هات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)).
قال النووي: "وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه فساد والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومنع منه لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل فوات الآخرة ما لم يفوت حقاً أخروياً أهم منه.
فالحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعاً فلا شك في منعه.
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعاً فلا شك في كونه مطلوباً بالشرط المذكور.
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذّ النفس فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يليق به عرفاً وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف، والثاني ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف؛ لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له، وقال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال إ.هـ وقد صرح بالمنع القاضي حسين وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموماً لذاته لكنه يفضي غالباً إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس وما أدى إلى المحذور فهو محذور".
5) أداء الحقوق لأهلها:
وله أمثلة كثيرة منها:
1ـ أداء الزكاة إلى مستحقيها:
قال تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} الآية [التوبة:60].
قال ابن كثير: "بين تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، فجزأها لهؤلاء المذكورين".
قال ابن قدامة: "ولا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والقناطر والسقايا وإصلاح الطرق وما أشبه ذلك من القرب التي لم يذكرها الله تعالى لقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} و(إنما) للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ما عداه".
2ـ أداء الديون لأصحابها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريدها أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها اتلفه الله)).
قال ابن بطال: "فيه الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزه عنها وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل".
وجاء الشرع بتحذير القادر على أداء الدين من تأخيره وجعله ظالماً بالتأخير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مطل الغني ظلم ومن اتبع على مليّ فليتبع)).
قال ابن المنذر: "هذا الخبر يدل على معان منها: أن من الظلم دفع الغني صاحب المال عن ماله بالمواعيد".
وقال ابن بطال: "وفيه ما دل على تحصين الأموال".
3ـ تعريف اللقطة:(/21)
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه فقال: ((عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء أحد يخبرك بها وإلا فاستنفقها))، قال: يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب))، قال: ضالة الإبل؟ فتمعَّر وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)).
واللقطة هي المال الذي يجده المرء ساقطاً لا يعرف مالكه، فالواجب على واجده أن يعرفه ويعرف الوعاء الذي حفظ فيه من كيس ونحوه، وكذا العلامات التي يتميز بها، ويحفظ هذا المال عنده سنة كاملة يعرف به في المجامع العامة كالأسواق وأبواب المساجد ونحوها فإن جاء من يدعيها وذكر وصفها تاماً أداه إليه.
ولها أحكام أخرى كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
6) حماية الأموال من السفهاء:
قال تعالى {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء:5].
قال ابن كثير: "ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها للناس قياماً، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها".
قال ابن سعدي: "السفهاء جمع سفيه، وهو من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه ونحوها، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد، فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، ولأن الله جعل الأموال قياماً لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولاً معروفاً، بأن يعدوهم إذا طلبوها أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبراً لخواطرهم".
7) الدفاع عن المال:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
قال النووي: "فيه جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلاً أو كثيراً".
قال ابن بطال: "إنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذه الأبواب ليريك أن للإنسان أن يدافع عن نفسه وماله، فإن كان شهيداً إذا قتل في ذلك كان إذا قتل من أراده في مدافعته له عن نفسه لا دية عليه فيه ولا قود".
8) توثيق الديون والأشهاد عليها:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} [البقرة:282].
قال ابن كثير: "هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها".
وقال القرطبي: "لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، ورداً على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم وهذا الفعل مذموم منهي عنه".
9) ضمان المتلفات:
قال ابن قدامة: "فمن غصب شيئاً وجب عليه رده... فإن تلف لزمه بدله لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]؛ ولأنه لما تعذر رد العين وجب رد ما يقوم مقامها من المالية، فإن كان مما تتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته كالحبوب وجب مثله لأن المثل أقرب إليه من القيمة وإن كان غير متقارب الصفات وهو ما عدا المكيل والموزون وجبت القيمة في قول الجماعة".
ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأصل في المتلفات ضمان المثل بالمثل والمتقوم بالقيمة.
وفي لزوم الضمان على المتلف لمال غيره ضمان من التعدي على الأموال والاستهانة بها، لأن الإنسان إذا علم أنه بغصبه أو بتفريطه في حفظ الوديعة ونحوها من أموال الناس يضمن مثلها أو قيمتها عند تعذر المثلية فإن ذلك يدعوه إلى التحرز والعناية والحفظ والانتباه وعدم الغفلة عنها، فتحفظ بذلك الأموال من الضياع.
10) تحريم السرقة وإيجاب الحد فيها:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:138].
قال ابن جرير: "يقول جل ثناؤه: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا ـ أيها الناس ـ يده".
قال ابن كثير: "وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أُخر، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح".(/22)
قال القاضي عياض: "صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرق كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة فإنه تندر إقامة البنية عليها، فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها، وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة، وإن اختلفوا في فروع منه".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
جامع البيان (11/671).
الجامع لأحكام القرآن (17/238).
الإسلام وضرورات الحياة (ص133).
جامع البيان (12/169).
تفسير القرآن العظيم (4/424).
تفسير القرآن العظيم (4/468).
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (1471).
شرح صحيح مسلم (7/131).
مراتب الإجماع (ص 155).
الآداب الشرعية 3(/265).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 135، 156) بتصرف.
تفسير القرآن العظيم (1/210).
قال النووي: بضم الغين وتخفيف الذال المكسورة. شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (1015).
شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في كتاب الزكاة (1014).
المفهم (3/59).
فتح الباري (3/327- 328).
جامع البيان (15/73) ـ دار الفكر.
المحرر الوجيز (3/450).
جامع البيان (5/472).
تيسير الكريم الرحمن (ص 287).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في كتاب الأقضية (1715 ).
شرح صحيح مسلم (11/11).
فتح الباري (10/422) بتصرف يسير.
تفسير القرآن العظيم (2/378).
المغني (4/125).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أدءها أو إتلافها (2387).
شرح ابن بطال على البخاري (6/513).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب مطل الغني ظلم (400)، ومسلم في كتاب المساقاه (1465).
انظر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/415).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/416).
أخرجه البخاري في كتاب اللقطة، باب ضالة الإبل (2427)، ومسلم في كتاب اللقطة (1722).
الإسلام وضرورات الحياة (ص178).
تفسير القرآن العظيم (1/462).
تيسير الكريم الرحمن (ص164).
أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله (2480)، ومسلم في كتاب الإيمان (226).
شرح صحيح مسلم (2/165).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/607).
تفسير القرآن العظيم (1/345).
الجامع لأحكام القرآن (3/417).
المغني (7/361).
الأشباه والنظائر للسيوطي (2/2).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص302).
جامع البيان (4/569).
تفسير القرآن العظيم (2/57).
شرح صحيح مسلم للنووي (11/181).
الفصل الخامس: محاسن حفظ المال:
1) المال مال الله استخلف فيه عباده:
قال تعالى {ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} [الحديد:7].
قال ابن جرير: "أي: أنفقوا مما خولكم الله من المال الذي أورثكم عمن كان قبلكم فجعلكم خلفاؤهم فيه".
قال القرطبي: "فيه دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة".
فالذي يقع في يده المال وهو يعلم أن المالك في الأصل هو الله وأنه مستخلف فيه فلا ينفقه إلا فيما يرضيه ولا يجمعه إلا من حيث يرضيه، وأن أي تصرف يخرج عما يرضي الله في المال يكون تصرفاً غير مشروع. إن الذي يعلم ذلك ويلتزم بإذن الله في جمع المال وإنفاقه هو الجدير بحفظه، بخلاف الذي يغنيه الله ولا يشعر بهذه القاعدة فإنه يتصرف في المال تصرف السفيه وهو جدير بإضاعة المال وإن ظن أنه يحفظه.
2) الحث على الكسب:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].
قال ابن جرير: "وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض".
وقال ابن كثير: "أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم".
وقال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20].
قال ابن كثير: "أي: مسافرون يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر".
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفُّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
قال النووي: "فيه الحث على الصدقة والأكل من عمل يده والاكتساب بالمباحات بالحطب والحشيش النابتين في موات".
وقال ابن حزم: "وأجمعوا أن اكتساب المرء من الوجوه المباحة مباح".(/23)
وقال ابن مفلح: "يسن التكسب ومعرفة أحكامه حتى مع الكفاية، نص عليه في الرعاية".
إن الفرد لا يجب عليه أن يمشي في مناكب الأرض طالباً للرزق، بل يباح له ذلك إلا أنه إذا ترك السعي في طلب الزرق وترتب على ذلك فقره واضطراره إلى سؤال الناس واستجدائهم كان آثماً ووجب عليه حفظ ماء الوجه بطلب الرزق الحلال بكسب يده ما دام قادراً على ذلك، أما ترك الأمة كلها للمكاسب فإنه لا يجوز؛ لأنه خلاف مقصود الله من عمارة الأرض، فالسعي في طلب المال مشروع، وهو وإن كان مباحاً بالجزء فإنه ضرورة بالكل.
3) التزام السعي المشروع في الكسب واجتناب الكسب الحرام:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]))، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يده إلى السماء يارب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذيَبالحرام فأنى يستجاب لذلك.
قال النووي: "فيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصَه، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم)).
قال القرطبي: "وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام لأنه غير مملوك من المتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأموراً به منهياً عنه من وجه واحد وهو محال، لأن أكل الحرام يفسد القلوب فتحرم الرقة والإخلاص فلا تقبل الأعمال".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومعنى الكسب المكسوب، والمراد به ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث، وكأنه ذكر الكسب، لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطيب: الحلال لأنه صفة الكسب".
4) تحريم إضاعة المال:
قال تعالى {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26، 27].
قال عبد الله بن مسعود: (التبذير في غير حق وهو الإسراف).
وقال ابن عطية: "التبذير إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح".
وقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ} [الأعراف:31].
قال ابن عباس: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة).
قال ابن السعدي: "فإن السرف يبغضه الله ويضر بدن الإنسان ومعيشته حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفاق".
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع هات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)).
قال النووي: "وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه فساد والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومنع منه لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل فوات الآخرة ما لم يفوت حقاً أخروياً أهم منه.
فالحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعاً فلا شك في منعه.
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعاً فلا شك في كونه مطلوباً بالشرط المذكور.(/24)
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذّ النفس فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يليق به عرفاً وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف، والثاني ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف؛ لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له، وقال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال إ.هـ وقد صرح بالمنع القاضي حسين وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموماً لذاته لكنه يفضي غالباً إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس وما أدى إلى المحذور فهو محذور".
5) أداء الحقوق لأهلها:
وله أمثلة كثيرة منها:
1ـ أداء الزكاة إلى مستحقيها:
قال تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} الآية [التوبة:60].
قال ابن كثير: "بين تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، فجزأها لهؤلاء المذكورين".
قال ابن قدامة: "ولا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والقناطر والسقايا وإصلاح الطرق وما أشبه ذلك من القرب التي لم يذكرها الله تعالى لقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} و(إنما) للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ما عداه".
2ـ أداء الديون لأصحابها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريدها أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها اتلفه الله)).
قال ابن بطال: "فيه الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزه عنها وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل".
وجاء الشرع بتحذير القادر على أداء الدين من تأخيره وجعله ظالماً بالتأخير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مطل الغني ظلم ومن اتبع على مليّ فليتبع)).
قال ابن المنذر: "هذا الخبر يدل على معان منها: أن من الظلم دفع الغني صاحب المال عن ماله بالمواعيد".
وقال ابن بطال: "وفيه ما دل على تحصين الأموال".
3ـ تعريف اللقطة:
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه فقال: ((عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء أحد يخبرك بها وإلا فاستنفقها))، قال: يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب))، قال: ضالة الإبل؟ فتمعَّر وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)).
واللقطة هي المال الذي يجده المرء ساقطاً لا يعرف مالكه، فالواجب على واجده أن يعرفه ويعرف الوعاء الذي حفظ فيه من كيس ونحوه، وكذا العلامات التي يتميز بها، ويحفظ هذا المال عنده سنة كاملة يعرف به في المجامع العامة كالأسواق وأبواب المساجد ونحوها فإن جاء من يدعيها وذكر وصفها تاماً أداه إليه.
ولها أحكام أخرى كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
6) حماية الأموال من السفهاء:
قال تعالى {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء:5].
قال ابن كثير: "ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها للناس قياماً، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها".
قال ابن سعدي: "السفهاء جمع سفيه، وهو من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه ونحوها، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد، فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، ولأن الله جعل الأموال قياماً لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولاً معروفاً، بأن يعدوهم إذا طلبوها أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبراً لخواطرهم".
7) الدفاع عن المال:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
قال النووي: "فيه جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلاً أو كثيراً".
قال ابن بطال: "إنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذه الأبواب ليريك أن للإنسان أن يدافع عن نفسه وماله، فإن كان شهيداً إذا قتل في ذلك كان إذا قتل من أراده في مدافعته له عن نفسه لا دية عليه فيه ولا قود".
8) توثيق الديون والأشهاد عليها:(/25)
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} [البقرة:282].
قال ابن كثير: "هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها".
وقال القرطبي: "لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، ورداً على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم وهذا الفعل مذموم منهي عنه".
9) ضمان المتلفات:
قال ابن قدامة: "فمن غصب شيئاً وجب عليه رده... فإن تلف لزمه بدله لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]؛ ولأنه لما تعذر رد العين وجب رد ما يقوم مقامها من المالية، فإن كان مما تتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته كالحبوب وجب مثله لأن المثل أقرب إليه من القيمة وإن كان غير متقارب الصفات وهو ما عدا المكيل والموزون وجبت القيمة في قول الجماعة".
ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأصل في المتلفات ضمان المثل بالمثل والمتقوم بالقيمة.
وفي لزوم الضمان على المتلف لمال غيره ضمان من التعدي على الأموال والاستهانة بها، لأن الإنسان إذا علم أنه بغصبه أو بتفريطه في حفظ الوديعة ونحوها من أموال الناس يضمن مثلها أو قيمتها عند تعذر المثلية فإن ذلك يدعوه إلى التحرز والعناية والحفظ والانتباه وعدم الغفلة عنها، فتحفظ بذلك الأموال من الضياع.
10) تحريم السرقة وإيجاب الحد فيها:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:138].
قال ابن جرير: "يقول جل ثناؤه: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا ـ أيها الناس ـ يده".
قال ابن كثير: "وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أُخر، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح".
قال القاضي عياض: "صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرق كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة فإنه تندر إقامة البنية عليها، فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها، وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة، وإن اختلفوا في فروع منه".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
جامع البيان (11/671).
الجامع لأحكام القرآن (17/238).
الإسلام وضرورات الحياة (ص133).
جامع البيان (12/169).
تفسير القرآن العظيم (4/424).
تفسير القرآن العظيم (4/468).
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (1471).
شرح صحيح مسلم (7/131).
مراتب الإجماع (ص 155).
الآداب الشرعية 3(/265).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 135، 156) بتصرف.
تفسير القرآن العظيم (1/210).
قال النووي: بضم الغين وتخفيف الذال المكسورة. شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (1015).
شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في كتاب الزكاة (1014).
المفهم (3/59).
فتح الباري (3/327- 328).
جامع البيان (15/73) ـ دار الفكر.
المحرر الوجيز (3/450).
جامع البيان (5/472).
تيسير الكريم الرحمن (ص 287).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في كتاب الأقضية (1715 ).
شرح صحيح مسلم (11/11).
فتح الباري (10/422) بتصرف يسير.
تفسير القرآن العظيم (2/378).
المغني (4/125).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أدءها أو إتلافها (2387).
شرح ابن بطال على البخاري (6/513).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب مطل الغني ظلم (400)، ومسلم في كتاب المساقاه (1465).
انظر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/415).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/416).
أخرجه البخاري في كتاب اللقطة، باب ضالة الإبل (2427)، ومسلم في كتاب اللقطة (1722).
الإسلام وضرورات الحياة (ص178).
تفسير القرآن العظيم (1/462).
تيسير الكريم الرحمن (ص164).
أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله (2480)، ومسلم في كتاب الإيمان (226).
شرح صحيح مسلم (2/165).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/607).
تفسير القرآن العظيم (1/345).(/26)
الجامع لأحكام القرآن (3/417).
المغني (7/361).
الأشباه والنظائر للسيوطي (2/2).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص302).
جامع البيان (4/569).
تفسير القرآن العظيم (2/57).
شرح صحيح مسلم للنووي (11/181).(/27)
حق الجار على جاره
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلقد كان العرب في الجاهلية يعظمون حق الجار، ويحترمون الجوار، ويعتزون بثناء الجار عليهم، ويفخرون بذلك، وكان منهم من يحفظ عورات جاره ولا ينتهكها، وقد قال عنترة بن شداد في ذلك شعراً:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مثواها
وحينما جاء الإسلام أكد حق الجوار، وحث عليه، وجعله كالقرابة، حتى كاد أن يورث الجار من جاره؛ كما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)1.
بل أمر الله بالإحسان إلى الجار بعد أمره بعبادته ؛ فقال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ} سورة النساء(36).
بل اشترط لتمام الإيمان بالله واليوم الآخر إكرام الجار، وحسن الجوار؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره). الحديث2. بل أقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن من يؤذي جاره، ولا يُؤمَن من شروره وغوائله بأنه منتف عنه الإيمان فعن أبي شريح أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن). قيل: ومن يا رسول الله ؟ قال (الذي لا يأمن جاره بوائقه)3.
بل إن من أوليات دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمر بحسن الجوار؛ كما جاء في قصة أبي سفيان مع هرقل أن هرقل قال لأبي سفيان بما يأمركم، فقال أبو سفيان: (ويأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء)4.
ولكن من هو الجار؟ الجار الموصى به ما جاء في قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}؛ يقول ابن سعدي -رحمه الله-: "أي الجار القريب الذي له حقان حق الجوار وحق القرابة، فله على جاره حق وإحسان راجع إلى العرف. {وَ} كذلك {الْجَارِ الْجُنُبِ} أي الذي ليس له قرابة. وكلما كان الجار أقرب بابًا كان آكد حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال وعدم أذيته بقول أو فعل"5.
فمن حق الجار على جاره أن يكون له عوناً في وقت شدته في حال فقره ومرضه وحاجته، ومن حقه عليه أن يفرح له عندما تحصل منحة تفرحه، ويحزن عندما تنزل به مصيبة تحزنه، فيفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، ويحفظه في أهله، ويقوم بالواجب في حال غيبته، وينصحه إذا زل، ويذكره إذا غفل، ويعلمه إذا جهل؛ وأن يعمل بما جاء في الأثر المروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا مرض عدته، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء تحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فاهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده)6.
ومن حق الجار على جاره الهدية والعون ولو باليسير، فقد قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ألا لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسِن شاة)7. والفرسن هو ظلف الإبل أو الشاة، وقال لأبي ذر -رضي الله عنه-: (يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعهد جيرانك)8.
وهذا يدل على أهمية العناية بالجار ولو بالشيء القليل، وكل ذلك من أجل تقارب القلوب، فإن الهدية لها أثر بالغ في نفوس الآخرين.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
____________________
1 رواه البخاري ومسلم.
2 رواه البخاري ومسلم.
3 رواه البخاري ومسلم.
4 الحديث أخرجه أحمد.
5 راجع: "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" (1/347).
6 أخرجه البيهقي في الشعب. قال الألباني: ضعيف جداً (ضعيف الترغيب والترهيب 1523).
7 رواه البخاري.
8 رواه مسلم.
===============(/1)
حقوق الإنسان في الإسلام
مقدمة:
- تعريف الحقوق.
- هل هذه الحقوق مستحقة للإنسان أم هي من تفضل الله تعالى عليه؟
- مظاهر التكريم الإلهي للإنسان.
الفصل الأول: خصائص ومميزات حقوق الإنسان في الإسلام.
1- حقوق الإنسان في الإسلام تنبثق من العقيدة الإسلامية.
2- حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية.
3- حقوق الإنسان في الإسلام شاملة لكل أنواع الحقوق.
4- حقوق الإنسان في الإسلام ثابتة ولا تقبل الإلغاء أو التبديل أو التعطيل.
5- حقوق الإنسان في الإسلام ليست مطلقة بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية.
الفصل الثاني: أهم الحقوق التي كفلها الإسلام للإنسان.
أولاً: حق الحياة.
ثانياً: حق الكرامة.
ثالثاً: حق الحرية.
رابعاً: حق التدين.
خامساً: حق التعليم.
سادسا: حق معرفة الحق.
سابعا: حق التملك والتصرف.
ثامنا: حق العمل.
الفصل الثالث: مقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام وفي الوثائق الوضعية الدولية.
أولاً: من حيث الأسبقية والإلزامية.
ثانياً: من حيث العمق والشمول.
ثالثاً: من حيث الحماية والضمانات.
الفصل الرابع: مفهوم الغرب لحقوق الإنسان.
1- حرية التدين.
2- حرية إقامة العلاقات الأسرية.
3- حق الحرية.
4- حق التملك.
مقدمة:
- تعريف الحقوق:
تعريف الحقوق لغة:
قال الجوهري: "الحق: خلاف الباطل، والحق: واحد الحقوق، والحَقة أخص منه، يقال: هذه حقتي أي: حقي".
وقال الفيروز آبادي: "الحق: من أسماء الله تعالى أو من صفاته، والقرآن، وضد الباطل، والأمر المقضي، والعدل، والإسلام، والمال، والملك، والموجود الثابت، والصدق، والموت، والحزم، وواحد الحقوق".
وقال المناوي: "الحق لغة: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره".
تعريف الحقوق اصطلاحاً:
الحقوق لها معنيان أساسيان:
1- فهي أولاً تكون بمعنى: مجموعة القواعد والنصوص التشريعية التي تنظم على سبيل الإلزام علائق الناس من حيث الأشخاص والأموال.
فهي بهذا المفهوم قريبة من مفهوم خطاب الشارع المرادف لمعنى (الحكم) في اصطلاح علماء الأصول، أو لمعنى (القانون) في اصطلاح علماء القانون.
وهذا المعنى هو المراد عندما نقول مثلاً: الحقوق المدنية، أو القانون المدني.
2- وهي ثانياً تكون جمع حق بمعنى السلطة والمكنة المشروعة، أو بمعنى المطلب الذي يجب لأحد على غيره.
وهذا هو المراد في مثل قولنا: إن للمغصوب منه حق استرداد عين ماله لو قائماً، وأخذ قيمته أو مثله لو هالكاً، وإن للمشتري حق الرد بالعيب، وإن التصرف على الصغير هو حق لوليه أو وصيه ونحو ذلك.
ويمكن تعريف الحق بمعناه العام بأن يقال: الحق هو اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفاً.
- هل هذه الحقوق مستحقة للإنسان أم هي من تفضل الله تعالى؟
قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} [الروم:47].
قال ابن كثير: "أي" حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً".
وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54].
قال القرطبي: "أي: أوجب ذلك بخبره الصادق ووعده الحق".
وقال ابن كثير: "أي: أوجبها على نفسه الكريمة تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقاً زائداً على هذا كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ}.
ولكن أهل السنة يقولون هو الذي كتب على نفسه الرحمة، وأوجب هذا الحق على نفسه، لم يوجبه عليه مخلوق، والمعتزلة يدّعون أنه واجب عليه بالقياس على الخلق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه القدرية والجبرية أتباع جهم والقدرية النافية".(/1)
وقال ابن القيم: "وقد أخبر سبحانه عن نفسه أنه كتب على نفسه وأحق على نفسه، قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ}، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ} [التوبة:111]، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: ((أتدري ما حق الله على عباده؟)) وفيه: ((أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟))، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في غير حديث: من فعل كذا كان على الله أن يفعل به كذا وكذا في الوعد والوعيد، ونظير هذا ما أخبر سبحانه من قسمه ليفعلن ما أقسم عليه كقوله: {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:92]، {فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم:68]، وقوله: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:13]، وقوله: {لأمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85]، إلى أمثال ذلك من صيغ القسم المتضمن معنى إيجاب المقسِم على نفسه أو منعه نفسَه، وهو القسم الطلبي المتضمن للحظر والمنع، بخلاف القسم الخبري المتضمن للتصديق والتكذيب، قالوا: وإذا كان معقولاً من العبد أن يكون طالباً من نفسه فتكون نفسه طالبة منها لقوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوء} [يوسف:53]، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، مع كون العبد له آمر ونهاه فوقه، فالرب تعالى الذي ليس فوقه آمر ولا ناهٍ كيف يمتنع منه أن يكون طالباً من نفسه فيكتب على نفسه، ويحق على نفسه، ويحرم على نفسه؟! بل ذلك أولى وأحرى في حقه من تصوره في حق العبد، وقد أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وكتابة ما كتبه على نفسه وإحقاق ما حقه عليها متضمن لإرادته ذلك ومحبته له ورضاه به وأنه لا بد أن يفعله، وتحريمه ما حرمه على نفسه متضمن لبغضه لذلك وكراهته له وأنه لا يفعله، ولا ريب أن محبته لما يريد أن يفعله وبغضه له يمنع وقوعه منه مع قدرته عليه لو شاء، وهذا غير ما يحبه من فعل عبده ويكرهه منه، فذاك نوع وهذا نوع، ولما لم يميز كثير من الناس بين النوعين وأدخلوهما تحت حكم واحد اضطربت عليهم مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، وبهذا التفصيل سفر لك وجه المسألة وتبلج صبحها".
- مظاهر التكريم الإلهي للإنسان:
1- خلقه في أحسن تقويم:
قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4].
قال ابن عباس: (في أعدل خلق).
قال ابن كثير: "إنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل، منتصب القامة سوي الأعضاء حسنها".
2- نفخ فيه من روحه:
قال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} [السجدة:9].
وقال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72].
قال الواحدي: "وأضاف روح آدم إليه إكراماً وتشريفاً".
3- أمر الملائكة بالسجود لآدم:
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
قال ابن كثير: "وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم، امتن بها على ذريته، حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم".
4- تعليم آدم الأسماء كلها:
قال تعالى: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ e قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}. [البقرة:31، 32].
قال ابن كثير: "هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم".
5- جعل الإنسان خليفة في الأرض:
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
قال البغوي: "والصحيح أنه خليفة الله في أرضه؛ لإقامة أحكامه وتنفيذ وصاياه".
قال ابن عاشور: "وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار؛ ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما علم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس".
6- تفضيل الإنسان على كثير من المخلوقات:
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70].(/2)
قال الشوكاني: "أجمل سبحانه هذا الكثير ولم يبين أنواعه، فأفاد ذلك أن بني آدم فضلهم سبحانه على كثير من مخلوقاته... والتأكيد بقوله {تَفْضِيلاً} يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين، فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا من كفرانه".
7- تسخير المخلوقات للإنسان:
قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13].
قال ابن سعدي: "وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض ولما أودع الله فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت والسيارات وأنواع الحيوانات وأصناف الأشجار والثمرات وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو معد لمصالح بني آدم ومصالح ما هو من ضروراته".
الصحاح (4/1460).
القاموس المحيط (3/221).
التوقيف على مهمات التعاريف (ص 287).
المدخل الفقهي العام (3/9-10) لمصطفى الزرقاء.
تفسير القرآن العظيم (3/446).
الجامع لأحكام القرآن (6/435).
تفسير القرآن العظيم (2/140).
أخرجه البخاري في الجهاد، باب اسم الفرس والحمار (48)، ومسلم في الإيمان (30).
مفتاح دار السعادة (ص 430-431) ببعض اختصار.
تفسير ابن أبي حاتم (10/3448).
تفسير القرآن العظيم (4/527).
الوسيط في تفسير القرآن المجيد (3/45).
تفسير القرآن العظيم (1/80).
تفسير القرآن العظيم (1/78).
معالم التنزيل (1/79).
تفسير التحرير والتنوير (1/400).
فتح القدير (3/244-245).
تيسير الكريم الرحمن (ص 776).
الفصل الأول: خصائص ومميزات حقوق الإنسان في الإسلام:
1- حقوق الإنسان في الإسلام تنبثق من العقيدة الإسلامية:
إن حقوق الإنسان في الإسلام تنبع أصلاً من العقيدة، وخاصة من عقيدة التوحيد، ومبدأ التوحيد القائم على شهادة أن لا إله إلا الله هو منطلق كل الحقوق والحريات، لأن الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد خلق الناس أحراراً، ويريدهم أن يكونوا أحراراً، ويأمرهم بالمحافظة على الحقوق التي شرعها والحرص على الالتزام بها، ثم كلفهم شرعاً بالجهاد في سبيلها والدفاع عنها، ومنع الاعتداء عليها وهذا ما تكرر في القرآن الكريم في آيات القتال والجهاد.
فحقوق الإنسان في الإسلام تنبع من التكريم الإلهي للإنسان بالنصوص الصريحة، وهو جزء من التصور الإسلامي والعبودية لله تعالى وفطرة الإنسان التي فطره الله عليها.
2- حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية:
إن حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية منحها الله لخلقه، فهي ليست منحة من مخلوق لمخلوق مثله، يمن بها عليه ويسلبها منه متى شاء، بل هي حقوق قررها الله للإنسان.
3- حقوق الإنسان في الإسلام شاملة لكل أنواع الحقوق:
من خصائص ومميزات الحقوق في الإسلام أنها حقوق شاملة لكل أنواع الحقوق، سواء الحقوق السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية.
كما أن هذه الحقوق عامة لكل الأفراد الخاضعين للنظام الإسلامي دون تمييز بينهم في تلك الحقوق بسبب اللون أو الجنس أو اللغة.
4- حقوق الإنسان في الإسلام ثابتة ولا تقبل الإلغاء أو التبديل أو التعطيل:
من خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أنها كاملة وغير قابلة للإلغاء؛ لأنها جزء من الشريعة الإسلامية.
إن وثائق البشر قابلة للتعديل غير متأبية على الإلغاء مهما جرى تحصينها بالنصوص، والجمود الذي فرضوه على الدساتير لم يحمها من التعديل بالأغلبية الخاصة.
وقضى الله أن يكون دينه خاتم الأديان وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ومن ثم فما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باق ما دامت السماوات والأرض.
5- حقوق الإنسان في الإسلام ليست مطلقة بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية:
ومن خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أنها ليست مطلقة، بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وبالتالي بعدم الإضرار بمصالح الجماعة التي يعتبر الإنسان فرداً من أفرادها.
حقوق الإنسان في الإسلام للدكتور محمد الزحيلي (ص 132-133) بتصرف.
حقوق الإنسان في الإسلام للدكتور سليمان الحقيل (ص 53).
حقوق الإنسان في الإسلام. د.سليمان الحقيل (ص 53).
حقوق الإنسان للحقيل (ص 53).
حرمات لا حقوق، لعلي جريشة.
حقوق الإنسان للحقيل (ص 53).
الفصل الثالث: مقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام وفي الوثائق الوضعية الدولية:
أولاً: من حيث الأسبقية والإلزامية:
لقد كان للشريعة الإسلامية الغراء فضل السبق على كافة المواثيق والإعلانات والاتفاقيات الدولية في تناولها لحقوق الإنسان وتأصيلها لتلك الحقوق منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وأن ما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية اللاحقة ومن قبلها ميثاق الأمم المتحدة ما هو إلا ترديد لبعض ما تضمنه الشريعة الإسلامية الغراء.(/3)
فحقوق الإنسان المهددة اليوم والتي ندعو إلى حمايتها واحترامها قد أقرها الإسلام وقدسها منذ أربعة عشر قرناً فسبق بها سبقاً بعيداً عما قال به القرن الثامن عشر الذي عُد قرن حقوق الإنسان.
وحقوق الإنسان كما جاء بها الإسلام حقوق أصيلة أبدية لا تقبل حذفاً ولا تعديلاً ولا نسخاً ولا تعطيلاً، إنها حقوق ملزمة شرعها الخالق سبحانه وتعالى، فليس من حق بشر كائناً من كان أن يعطلها أو يتعدى عليها، ولا تسقط حصانتها الذاتية لا بإرادة الفرد تنازلاً عنها ولا بإرادة المجتمع ممثلاً فيما يقيمه من مؤسسات أياً كانت طبيعتها وكيفما كانت السلطات التي تخولها.
أما فيما يتعلق بالقيمة القانونية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان فهو ليس إلا مجرد تصريح صادر عن الأمم المتحدة غير ملزم.
فيتضح أن حقوق الإنسان في المواثيق الدولية عبارة عن توصيات أو أحكام أدبية، أما في الإسلام فحقوق الإنسان عبارة عن فريضة تتمتع بضمانات جزائية وليست مجرد توصيات أو أحكام أدبية، فللسلطة العامة في الإسلام حق الإجبار على تنفيذ هذه الفريضة، خلافاً لمفهوم هذه الحقوق في المواثيق الدولية التي تعتبرها حقاً شخصياً مما لا يمكن الإجبار عليه إذا تنازل عنه صاحبه.
ثانياً: من حيث العمق والشمول:
حقوق الإنسان في الإسلام أعمق وأشمل من حقوق الإنسان في الوثائق الوضعية، فحقوق الإنسان في الإسلام مصدرها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما مصدر حقوق الإنسان في القوانين والمواثيق الدولية فهو الفكر البشري، والبشر يخطئون أكثر مما يصيبون، ويتأثرون بطبيعتهم البشرية بما فيها من ضعف وقصور وعجز عن إدراك الأمور والإحاطة بالأشياء، وقد أحاط الله بكل شيء علماً.
إن الحقوق في الإسلام تبلغ درجة الحرمات وهي في هذا تمر بدرجات، فالحقوق مُسَلَّمة، ومن بعدها تدعمها الواجبات، ومن بعد الواجبات تحميها الحدود، ومن بعد الحدود ترتفع إلى الحرمات.
وإذا كانت المواثيق البشرية قد ضمنت بعض الحقوق فإن الإسلام بمصدريه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة شملا جميع أنواع الحقوق التي تكرم الله بها على خلقه.
ثالثاً: من حيث الحماية والضمانات:
إن حقوق الإنسان في القوانين الوضعية لم توضع لها الضمانات اللازمة لحمايتها من الانتهاك.
فبالرجوع إلى مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م نجده لم يحدد الوسائل والضمانات لمنع أي اعتداء على حقوق الإنسان وبخاصة ما يكون من هذه الوسائل والضمانات على المستوى العالمي.
كما تضمن الإعلان تحذيراً من التحايل على نصوصه أو إساءة تأويلها دون تحديد جزاء للمخالفة، وتضمنت أيضاً تشكيل لجنة لحقوق الإنسان تقوم بدراسة تقارير الدول الأطراف عن إجراءاتها لتأمين الحقوق المقررة، كما تتسلم التبليغات المقدمة من إحدى الدول الأطراف ضد أخرى بشأن أدائها لأحد التزاماتها المقررة بمقتضى الاتفاقية وذلك بشروط معينة.
وبالنظر إلى الحماية الدولية لحقوق الإنسان نجدها محاولات لم تصل إلى حد التنفيذ، وهي تقوم على أمرين:
1- محاولة الاتفاق على أساس عام معترف به بين الدول جميعاً.
2- محاولة وضع جزاءات ملزمة تدين الدولة التي تنتهك حقوق الإنسان.
إن كل ما صدر عن الأمم المتحدة والمنظمات والهيئات بخصوص حقوق الإنسان يحمل طابع التوصيات ولا يعدو كونه حبراً على ورق يتلاعب به واضعوه حسبما تمليه عليهم الأهواء والشهوات.
أما في الإسلام فقد اعتمد المسلمون في مجال حماية حقوق الإنسان على أمرين أساسين، وهما:
1- إقامة الحدود الشرعية، إذ إن من أهم أهداف إقامة الحدود الشرعية في الإسلام المحافظة على حقوق الأفراد.
2- تحقيق العدالة المطلقة التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم وحثا عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل:90].
قال ابن عطية: "والعدل هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات وترك الظلم والإنصاف وإعطاء الحق".
وقال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء:58].
قال ابن كثير: "أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس".
وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه في إقامة العدل فكانت حياته كلها عدل، وعلم أصحابه العدل وأوصى أمته به وحذرهم من الظلم، ووضع منهج الإسلام في إقرار العدل والمساواة والمحافظة على الحقوق وحمايتها.
حقوق الإنسان للحقيل (ص 87).
حقوق الإنسان للحقيل (ص 103).
حقوق الإنسان للحقيل (88-89).
حقوق الإنسان للحقيل (ص 89).
حقوق الإنسان للحقيل.
المحرر الوجيز (2/416).
تفسير القرآن العظيم (1/528).
حقوق الإنسان للحقيل (ص 103-104).
الفصل الرابع: مفهوم الغرب لحقوق الإنسان:(/4)
لم تظهر فكرة حقوق الإنسان جزئياً بشكل رسمي عند الغرب إلا في القرن الثالث عشر الميلادي، الموافق للقرن السابع الهجري، أي: بعد نزول الإسلام بسبعة قرون، وذلك نتيجة ثورات طبقية وشعبية في أوروبا، ثم في القرن الثامن عشر في أمريكا لمقاومة التميز الطبقي أو التسلط السياسي أو الظلم الاجتماعي.
1- حرية التدين في الغرب:
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن لكل شخص الحق في حرية الدين وحرية تغيير ديانته أو عقيدته وحرية الإعراب عنها بالتعليم والممارسة.
فالإنسان عند الغرب حر في أن يختار الدين الذي يريده وحر في أن يغير دينه متى شاء.
وهذا يتعارض مع تعاليم الإسلام الذي لا يجيز للمسلم تغيير ديانته، بل يعتبر ذلك ردة ويجب إقامة الحد فيها؛ لأن السماح بالردة يشكل خطراً على أمن الدولة الإسلامية، ويخالف ما قصده الإسلام من حفظ للضروريات الخمس التي على رأسها ضرورة حفظ الدين الذي تقوم الدولة الإسلامية أساساً عليه.
2- حرية إقامة العلاقات الأسرية:
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين.
فيبيح للكافر التزوج بمسلمة وللمسلم التزوج بالكافرة بدون أي قيود على ذلك.
وهذا يخالف تعاليم الإسلام التي لا تجيز للمرأة المسلمة أن تتزوج بغير المسلم، وذلك صيانة للأسرة من الانحلال بسبب الاختلاف في الدين عند احترام الزوج بموجب عقيدته لمقدسات زوجته لأن المرأة أحد عنصري الأسرة الأكثر حساسية في هذا الموضوع بسبب شعورها بالضعف أمام الرجل".
3- حق الحرية:
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق".
وفي اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية: "لكل فرد الحق في الحرية والسلامة الشخصية ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا على أساس من القانون وطبقاً للإجراءات المقررة".
وهذا الحق يكاد أن يكون نظرياً اليوم، ويعاني الأفراد والشعوب الويلات من الإفراط والتفريط بحق الحرية، والمتاجرة بها والتغني فيها وعدم ضبط الممارسات فيها وحولها، حتى قالت إحدى نسائهم: "كم من الجرائم ارتكبت باسمك أيتها الحرية".
4- حق التملك:
تفاوت مفهوم حق التملك عند الغرب تفاوتاً هائلاً.
فالرأسمالية أطلقت حرية التملك إلى أبعد الحدود وجردته من كل قيد حتى استبد الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال بمقدرات الأمم والشعوب واستنزفت خيرات البلاد وطبقات الفقراء والعمال.
بينما تمادت الشيوعية في الإفراط والغلو وألغت الملكية الفردية وفرضت ملكية الدولة الكاملة، واستولت على جميع وسائل الإنتاج، وأصبح العمال مجرد آلات للعمل.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 101).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 181).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 155-156) بتصرف.
حقوق الإنسان للحقيل (ص 82).
حقوق الإنسان للحقيل (ص 161).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 169).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 169).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 170).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 315).
.(/5)
... ... ...
حقوق الحيوان في الاسلام ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- أن الله تعالى خلق الحيوان وسخّره للإنسان وجعل له حقوق وأن هذا الحيوان يسبّح الله عزّ وجل 2- ذكر بعض خصائص الحيوان على الإنسان 3- حقوق الحيوان ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
إن الكثير من آيات القرآن تعرّض لذكر الحيوانات، إما مذكّراً ببديع خلقه سبحانه، أو منوهاً بواسع منّه وكرمه على الانسان بتسخير هذه الحيوانات له، أو مشيراً الى سابغ نعمه وآلائه عليه بجعلها غذاءً له وكساءً ومالاً ومتاعاً، إلى غير ذلك، ويكفي أن نشير إلى أن هناك سوراً في القرآن سميت بأسماء بعض الحيوانات، كسورة البقرة والأنعام والعنكبوت والفيل والنحل والنمل.
أيها المسلمون: اعلموا رحمني الله واياكم أن الحيوانات أمم شتى، وأجناس مختلفة، تأكل وتشرب وتتناسل، تصح وتمرض، تنمو وتهرم، وأيضاً تموت وتبعث ثم تحشر، إلاّ أنها لم تكلف لأنها لم تمنح نعمة التفكير كالإنسان، قال الله تعالى: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه الا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم الى ربهم يحشرون وقال جل شأنه: ومن كل شيئ خلقنا زوجين لعلكم تذّكرون . وقال تعالى: ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك .
ثم إن لهذه الحيوانات حظّها في سكنى الأرض والتنقل فيها والتمتع بخيراتها من ماء ومرعى كما قال تعالى: والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعاً لكم ولأنعامكم . وقال تعالى: وفاكهةً وأباً متاعاً لكم ولأنعامكم . وقال تعالى: فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام . إذن للحيوان الحق في سكنى الأرض والتمتع بنعم الله وخيراته، فلا يجوز التضييق عليه ولا يجوز كذلك حرمانه من نعم الله في أرضه.
ثم أظنك تعلم أخي المسلم ولا يخفاك أن الحيوانات تسبح الله وتسجد له كسائر المخلوقات من إنس وجانّ، ونبات وجماد قال الله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم . وقال تعالى: أولم يروا الى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لايستكبرون . وقال جل شأنه: ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب . وقال سبحانه: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير .
إن الحيوانات فيما يظهر لنا أنها عجماء لاتتكلم ولكنها في الحقيقة تتكلم وتخاطب بعضها بعضا، وقد تخاطب غيرها، والله جل وعز قد يطلع أحد خلقه على ذلك معجزة له أوكرامة، ومن ذلك ما حصل لنبي الله سليمان عليه السلام وغيره، قال تعالى: حتى اذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لايحطمنكم سليمان وجنوده وهم لايشعرون . والهدهد تكلم وقال: أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين وحديث البقرة التي تكلمت في البخاري ومسلم وكذلك الذئب الذي تكلم، والحديث في الصحيحين.
إن الله تبارك وتعالى جعل في الحيوانات عظة وعبرة للناس ليتفكروا وليتدبروا في عظيم خلق الله وفي عظيم قدرة الله ليزداد بذلك إيمانهم، والمشكلة أن اكثر الناس لايعلمون ولا يخطر ببالهم ذلك، قال الله تعالى: وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون . وقال تعالى: وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين وقال تعالى: الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون .(/1)
إن الله تعالى أعطى الحيوانات قدرة رؤية ما لايراه الإنسان، وسماع ما لايسمع الانسان، لحكمة هو يعلمها سبحانه، فبعض الحيوانات ترى الملائكة وبعضها يرى الشياطين، بل إنها لتسمع أصوات المعذبين في قبورهم، بل وقبل ذلك وبعده تشفق الحيوانات وتخاف من يوم الجمعة لعلمها أن القيامة لا تقوم إلا يوم الجمعة، أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فانها رأت ملكاً، وذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً)) وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل فتعوذوا بالله منهن فإنهن يرين مالا ترون)) رواه الامام أحمد وأبو داود. وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الموتى ليعذبون في قبورهم حتى أن البهائم لتسمع أصواتهم)) رواه الطبراني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تطلع الشمس ولا تغرب على أفضل من يوم الجمعة، وما من دابة الا وهي تفزع يوم الجمعة، الا هذين الثقلين: الجن والانس)) رواه ابن خزيمة وابن حبان، وفي رواية أبي داود: ((وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقاً من الساعة إلا الانس والجن)).
أيها المسلمون: إن بعض الجيوانات فضّلها الله على كثير من البشر، ممن عطلوا عقولهم واتبعوا شهواتهم، ولم يمتثلوا ما أمروا به، ولم يتبعوا ما خلقوا من أجله، فهبطوا مع كل أسف الى مستوى متدن من البهيمية ومن الحيوانية، فأصبح حياتهم أكل وشرب ولهو ولعب وسهر، واتباع للغرائز، وانغماس في الرذائل، ففضّلت البهائم عليها بتسبيحها وسجودها وخضوعها لربها، قال الله تعالى: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم وقال تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والانس لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لايسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون . انظر الى رجاحة عقل الهدهد، ذلك الطائر الصغير عندما رأى القوم يسجدون لغير الله، فأنكر ذلك الشرك فقال لسليمان عليه السلام مستنكراً غواية الشيطان لهم: وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لايهتدون ألاّ يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لااله الا هو رب العرش العظيم .
أيها الأحبة في الله: إن الله تبارك وتعالى أوجب علينا حقوقاً تجاه هذه الحيوانات، نعم أوجب حقوقاً لهم علينا، وقد تستنكر عليّ أخي المسلم أن أحدثك عن حقوق الحيوان في زمن أهدرت فيه حقوق الانسان، وأهينت فيه كرامة الانسان، بل وأريقت فيه دم هذا الإنسان بشكل عام ودماء المسلمين بشكل خاص، في أماكن كثيرة من بقاع الأرض، لقد أزهقت أرواح، وأبيدت أمم، ودمرت حضارات، ورمّلت نساء، وشرد أطفال، كل ذلك مع الأسف تحت عنوان – حماية حقوق الانسان، ورعاية حقوق الإنسان، وصيانة روحه ودمه وعرضه، والدفاع عن فكره وثقافته ومعتقده – لاأدري هؤلاء يريدون أن يضحكوا على من؟ لقد أصبحت أوراق منظمات حقوق الإنسان مكشوفة حتى للحيوانات، وهو أن المقصود به هو الإنسان النصراني، والإنسان اليهودي، أما الإنسان المسلم فالواقع يشهد لحاله، أصبح الإنسان المسلم يلاحق في كل مكان، وأصبح الإنسان المسلم ينازع حتى في اللقمة التي يضعها في فم أولاده، صار الإنسان المسلم يخاف في بيته الذي يسكن فيه وفي فراشه الذي ينام عليه.
لا بأس أخي المسلم أن أحدثك الآن عن بعض حقوق الحيوان في الاسلام، لتدرك أن هذه الشريعة حفظت حقوق الحيوانات والبهائم، مما بالكم بالانسان، وليخرس بعد ذلك أرباب منظمات حقوق الإنسان.
أولاً: الإحسان اليه حتى حال ذبحه، فعن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب الاحسان على كل شيء، فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة، واذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) راوه مسلم.
ثانياً: حرمة دم الحيوان، فدم الحيوان مصان الا ما أحل الله ذبحه لأكله ـو قتله لأذيته.(/2)
ثالثاً: لايجوز تعذيب الحيوان، أخرج الشيخان عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً. وأظن أنه لا يخفاك أخي المسلم ما تفتق عنه فكر الانسان المعاصر، المتسربل برداء المدنية المزيفة، المتحضر بحضارة القرن العشرين أن يتلذذ بمشاهدة مصارعة الثيران أو مصارعة الديكة، ومثله أكلة دماغ القردة في الفلبين، أو ما يقدم في بعض مطاعم اليابان من السمك المقلي أو المشوي وهو لايزال يتقلب حياً في الصحفة الى ذلك الزبون المفترس.
رابعاً: يحرم حبس الحيوان والتضييق عليه، ففي الصحيحين أن أمرأة عذبت ودخلت النار في هرة حبستها لاهي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
خامساً: عدم إرهاقه في العمل، فهذا حق للحيوان سوف تحاسب عنه يوم القيامة اذا حملته مالا يطيق، تأمل معي قصة الجمل الذي اشتكى ما يلاقيه من تعب وجوع الى المبعوث رحمة للعالمين صلوات ربي وسلامه عليه، فعن عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه فأسّر إلي حديثاً لا أخبر به أحداً أبداً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب ما استتر به في حاجته هدف أو حائش نخل، فدخل يوماً حائطاً من حيطان الأنصار فإذا جمل قد أتاه، فجرجر وذرفت عيناه فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم سراته وذفراه (ذفري البعير: أصل أذنه)، وهو الموضع الذي يعرق منه الإبل خلف الأذن - فسكن فقال: ((من صاحب الجمل؟ فجاء فتىً من الأنصار فقال: هو لي يارسول الله فقال (أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملككها الله! إنه اشتكى إلي أنك تجيعه وتدئبه – أي تتعبه -)) ألا فليسمع هذا دعاة حقوق الانسان وأولئك الذين يظلمون الناس ويأكلون حقوقهم، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان عنده رقيق أن لا يكلفهم مالا يطيقون وأن فعل أن يعيينهم بنفسه، فكيف بمن يرهق عماله وخدمه ومستخدميه وموظفيه الأحرار، ثم يأكل حقوقهم وأموالهم بالباطل.
نفعني الله واياكم بهدي كتابه، واتباع سنة نبينا. . . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:
سادس حقوق الحيوان الذي أوجبه الإسلام: استخدامه فيما خلق له، وعدم استخدامه في غير ما سخّر له، وفي الصحيحين أن رجلاً كان يسوق بقرةً قد حمل عليها، فالتفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا، ولكني إنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله، أبقرة تكلّم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإني أومن به وأبوبكر وعمر)).
سابعاً: احترام مشاعر الحيوان، نعم احترام مشاعره، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحد السكين بحضرة الحيوان الذي يذبح، فمرة مر على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال: ((أفلا قبل هذا! أتريد أن تميتها موتتين؟)) رواه الطبراني وغيره. بل إن الإسلام راعى حق الأمومة عند الحيوان، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرةً معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرّش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها!)).
أيها المسلمون: هذه بعض حقوق الحيوان في الاسلام، ولقد أدرك الرعيل الأول من سلف هذه الأمة حقوق الحيوان وحرمتها وأنها مسؤلية وأمانة، ولذا لمّا ولاهم الله حقوق الانسان رعوها حق رعايتها، تأمل في كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: لو أن بغلة في العراق تعثرت لخشيت أن يسألني الله عنها لمَ لمْ أسوي لها الطريق. (عمر يخشى المحاسبة أمام الله عز وجل يوم القيامة لعدم تسوية الطريق لبغلة، وأين في العراق وليست عنده، لذلك لمّا تولى أمثال عمر الخلافة لم يحتاجوا إلى إنشاء منظمات لحفظ حقوق الإنسان لأن كرامة الإنسان محفوظة ابتداءً عندهم، ولم يحتاجوا الى أن يتبجحوا في وسائل إعلامهم أنهم قد أعطوا الإنسان كامل حقوقه).
وأبو هريرة نفسه رضي الله عنه ما سمي كذلك إلا لحفاوته بهرة صغيرة كان يحملها في كمه وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هر)).(/3)
وإنه من المناسب أيها الأحبة أن أختم بهذه القصة وما فيها من عبرة لمن كان له قلب أو ألقىالسمع وهو شهيد: يحدث الامام الزمخشري عن نفسه أن إحدى رجليه كانت ساقطة، وكان يمشي في جارن خشب، فلما دخل بغدادسئل عن سبب قطع رجله – وكان يظن أن ذلك بسبب برد خوارزم الشديد لكنه قال: دعاء الوالدة: وذلك أني كنت في صباي أمسكت عصفوراً وربطته بخيط من رجله، فأفلت من يدي، فأدركته وقد دخل في خرق، فجذبته فانقطعت رجله في الخيط، فتألمت والدتي لذلك وقالت: قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله، يقول فلما وصلت الى سن الطلب، رحلت الى بخارى أطلب العلم، فسقطت عن الدابة فانكسرت رجلي، وعملت عليّ عملاً أوجب قطعها.
ألا فليتق الله أولئك الذين يقطعون حقوق الناس ويقطعون أرزاق الناس، أن تصيبهم دعوة مظلوم في ثلث الليل الآخر تكون بذلك نهايتهم.
إن الله عز وجل عاقب هذا الإمام وجعله عبرة لغيره بسبب قطع رجل عصفور، فكيف بمن يتعرض ويعرّض نفسه لقطع وهضم وإعاقة طرق يسترزق من خلالها أسر وبيوتات الله أعلم بحالهم وحال من ورائهم – رحماك ثم رحماك يارب.
ربنا لاتؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
حقيقة الإنتصار
فضيلة الشيخ د. ناصر ابن سليمان العُمر
…………………………………..
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نحمد الله جل وعلا ونثني عليه الخير كله أن وفقنا لهذا اللقاء الذي أسأل الله جل وعلا أن يجعله لقاء طيبا مباركا.
موضوعنا لهذا اليوم عن حقيقة الانتصار.
وأحب أن أبين في البداية شرحا موجزا للعنوان، فقد يتبادر إلى أذهان البعض أنني سأتحدث عن لانتصار بمعناه الشامل، الذي هو انتصار وظهور الدين.
وليس هذا هو موضوع حديثي مع أهمية هذا الموضوع، وقد تحدث فيه كثير من العلماء وطلاب العلم، وكتب فيه بعض الكتاب من الإسلاميين.
ولهذا فإن الموضوع الذي عنيته هو حقيقة انتصار الداعية، وهناك فرق بين مفهوم انتصار الدين وظهوره وبين ومفهوم انتصار الداعية، مع أن بينهما عموم وخصوص كما سيتضح بأذن الله من خلال هذا الدرس.
لهذا آمل أن ينتبه الأخوة الكرام إلى هذه القضية وأن الحديث سيدور حول موضع واحد وهو حقيقة انتصار الداعية، أما ما يتعلق بانتصار الدين وظهوره فلن أتعرض له إلا بمقدار صلته بالموضوع الأساسي.
أما سبب الحديث عن الموضوع، فهناك سبب جوهري نشأت عنه آثار أخرى:
وهو أنني رأيت خلطا بين مفهوم انتصار الداعية وبين مفهوم انتصار الدين وظهوره، بل إن كثير من الدعاة ومن طلاب العلم، وكثير من الناس جعلوا هناك تلازما بينا وظاهرا بين ظهور الدين وتمامه وبين انتصار الداعية، فإذا لم تتحقق الأهداف التي جاء الداعية من أجلها حكموا على الداعية بالفشل، إن تحققت هذه الأهداف أو تحقق بعضها اعتبروا هذا هو المقياس الحقيقي لانتصار الداعية.
ونتيجة الخلط في هذا المفهوم نشأت عنه أمور عدة أذكر أبرزها:
الأمر الأول:
وهو ما أشرت إليه قبل قليل أن كثير من الناس يتصور أن هذا الداعية لم ينجح في دعوته لأن الأهداف التي جاء من أجلها وأعلنها لم تتحقق في صعيد الواقع، فيحكمون على الداعية بالفشل، لماذا ؟
لأنه لم يتمكن من تحقيق أهدافه أو بعضها وهي المتعلقة بظهور الدين وتمامه.
ولذلك رأينا من يقول لبعض الدعاة:
ماذا استفدت من دعوتك؟ هل اهتدى الناس ؟ هل تغيرت المنكرات التي جئت لإزالتها ؟
وهم ينطلقون من هذا المفهوم أن هذا الداعية قد فشل،فلماذا يستمر في دعوته ؟
وهذا ناشئ من الوهم ومن الخلط بين حقيقة انتصار الداعية وبين ظهور الدين وتحقق الأهداف التي يدعو إليها الداعية.
الأمر الثاني:
الذي نشئ من هذا الخلط ومن الجهل في هذا المفهوم هو الاستعجال، وقد رأينا بعض الدعاة يستعجلون النتائج لأنهم وضعوا تلازما بين حقيقة ما أمروا به وبين الأهداف التي جاءوا من أجلها.
فإذا عمل أحدهم بضع سنوات وأحيانا بضعة أشهر ولم يرى أن النتائج قد تحققت تعجل، وقد يتصرف بعض التصرفات التي لا ترضي الله جل وعلا.
ولذا رأينا كثيرا من الجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي كانت تسير بخطى وئيدة ولكن سرعان ما رأينا هناك تعجلا من بعض الدعاة أو من بعض الأفراد مما جر على الأمة الكوارث والمصائب بسبب تعجل المتعجلين.
حينما دعا موسى عليه السلام على فرعون وأمن هارون:
(وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
قال الله تعالى بعد هذا الآية مباشرة:
(قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).
قال الإمام الطبري، وابن كثير قال ابن جريج أجيبت الدعوة بعد أربعين سنة، وقيل غير ذلك..
أربعين سنة مع أن الله قال (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا).
إن التعجل أيها الأحبة في هذه القضية جر على الأمة مصائب وويلات، وإن منشئ هذا التعجل أسباب كثيرة من أهمها أن الداعية يتصور أن انتصاره الحقيقي هو تحقق النتائج التي جاء من أجلها.
قد يدرك المتأني بعض حاجته....... وقد يكون مع المستعجل الزلل
اصبر قليلا وكن بالله معتصما........ لا تعجلن فإن العجز بالعجل(/1)
الصبر مثل اسمه في كل نائبة ...... لكن عواقبه أحلى من العسل
اصبر قليا فبعد العسر تيسير..... وكل وقت له أمر وتدبير
وللمهيمن في حالاتنا قدر.............. وفوق تدبيرنا لله تدبير
إن التعجل مظهر أو ملحظ نلحظه عند بعض الدعاة وله آثاره السلبية كما بينت.
الأمر الثالث:
هو أنه قد يحدث بسبب الخلط في مفهوم حقيقة الانتصار انحراف عن المنهج، فقد يسير بعض الدعاة على منهج سليم، ولكن عندما تتأخر النتائج وعندما يرون أنهم لم يتمكنوا من تحقيق بعض ما جاءوا به من الحق يبدأ الانحراف.
ومن مظاهر الانحراف التنازل وتقديم التنازلات تلو التنازلات وعندما تأتي لهؤلاء يقولون نحن نريد أن تتحقق بعض النتائج لمصلحة الأمة أو لمصلحة الدعوة وهم يرتكبون خللا في هذا الأمر.
نحن نتمنى أن يتحقق أي أمر من أمور الدعوة، بل إن تأخير الفساد بحد ذاته مطلب من المطالب، ولكن إذا كان لا يمكن أن يتم تأخير الفساد أو تحقيق بعض الأهداف إلا بالتنازل الذي هو انحراف عن المنهج فهذا لا يجوز.
ولذلك رأينا مثلا في بعض الدول الإسلامية أن بعض اللذين يدخلون البرلمانات أو لمجلس النواب أو لمجلس الأمة سموه ما سموه أنهم يقدمون تنازلات، أي يعترفوا للباطل بباطله.
فهم يؤدون اليمين والقسم والعهد ولاعتراف بهذا النظام الذي يحكم هذا البلد وتجد نظاما كافرا، فكيف يجوز للمؤمن أن يعترف ويقر مثل هذا النظام.
وتجد المداهنة وتجد أنهم يقبلون أيضا بمبدأ خطير وهو أنهم يوافقون على عرض شريعة الله ودين الله لتصويت البشر.
فيعرض في هذا البرلمان مثلا قضية تطبيق الشريعة، إن مجرد القبول بهذا المبدأ خلل خطير في المنهج، أننتظر من الناس أن يصوتوا هل تطبق شريعة الله أو لا تطبق، مجرد القبول بمبدأ تصويت البشر هل يمنع الخمر أم لا يمنع قضية خطيرة.
أقول لو استطعنا أن نمنع أي منكر من المنكرات في بلد من البلدان فهذا مطلوب، ولكن بدون تنازل.
لو استطعنا أن نمنع الدخان مثلا هذا مكسب كبير، ولكن بدون تنازل.
أما أن نأتي لنطرح هذه القضية لتصويت البشر ليقرروا هل تطبق شريعة الله أو لا تطبق فهذا خلل.
وإن من أسباب القبول بهذا المبدأ هو الربط بين انتصار الداعية وبين تحقق الدين وظهوره.
الأمر الرابع:
الذي ينشئ من الخلط في هذا المفهوم هو اليأس والقنوط ثم الاعتزال.
بعض الدعاة يسيرون زمنا في دعوتهم، ثم تفاجأ أن هؤلاء قد اعتزلوا الساحة، وتسأل ما هو السر في ذلك ؟ فتجد أن الإجابة القولية أو الفعلية أنهم يأسوا، فيقولون حاولنا وفعلنا ولكن لم نرى تأثرا، لم نرى تقدما، لم نرى استجابة، فيأسوا ثم اعتزلوا.
وهذا أيضا خلل نشئ من أمور من أبرزها الربط بين انتصار الداعية وبين انتصار الدين وظهوره.
أذكر أن أحد الزملاء بعد تخرجه من الجامعة زار أستاذا له كان قد درسه في المرحلة الثانوية.
وكان هذا الأستاذ حريصا في ما مضى على الدعوة، وممن له تأثير على هذا الزميل في تربيته وتوجيهه إلى الدعوة، وقد ترك هذا الأستاذ التدريس والدعوة وانخرط في وظيفة وانشغل بالدنيا، فذهب هذا الطالب لزيارته وبعد الحديث سأله قائلا:
يا أستاذي لقد كان لك الفضل بعد الله جل وعلا في توجيهنا إلى الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فقال الأستاذ يا أخي لو رأيت سيلا قادما وأنت في واد من الأودية فهل تقف أمامه أم تهرب منه؟
فقال له هذا الأخ يا أستاذي أنا أسألك سؤلا:
لو رأيت سيلا قادما ووجدت أناسا يسكنون الوادي وتستطيع أن تنقذ هؤلاء أتهرب وتتركهم أو تحاول أن تنقذهم قبل أن يغرقوا، فأصبح التلميذ أستاذا.
هذه القضايا الأربع:
أن الناس يحكمون على الداعية من خلال تحقق النتائج.
والاستعجال من بعض الدعاة والجماعات.
والانحراف في المنهج.
واليأس والقنوط ثم الاعتزال.
إن من العوامل المؤثرة في نشأتها هو الخلط بين هذين المفهومين مفهوم انتصار الداعية ومفهوم تحقق وظهور الدين.
لهذا سنقف هذه الليلة مع مفهوم حقيقة انتصار الداعية حتى نكون على بينة من أمرنا، وحتى لا نستعجل ولا ننحرف ولا نيأس، بل نمضي إلى الله بجد وعزيمة وصبر وثبات.
أيها الأحباب ما هو مفهوم النصر وحقيقته ؟
يقول سبحانه وتعالى:
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).
هذه الآيات فيها نص على نصر الداعية، وهنا يأتي السؤال الذي أثاره الإمام الطبري، وأثاره عدد من العلماء من بعده، ويرد إلى أذهاننا نحن عندما نقرأ هذه الآيات ونتأمل في الواقع فنجد ما يلي:
وجدنا أن بعض الأنبياء قد قتله قومه كيحيا وزكريا عليهما السلام.
نجد أن بعض الأنبياء قد طرده قومه كإبراهيم عليه السلام عندما خرج من الشام، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) خرج من مكة.(/2)
ونجد من الأنبياء من لم يستجب له من قومه إلا قلة كنوح ولوط وشعيب وصالح وهود عليهم السلام.
ونجد من الأنبياء من حاول قومه قتله وإحراقه بل ألقوه في النار كإبراهيم عليه السلام.
ونجد أن عيسى عليه السلام قد أراد قومه قتله ثم صلبه فرفعه الله جل وعلا.
وهنا يأتي السؤال الذي يفرض نفسه، ألم يقل الله تعالى:
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).
ألم يقل سبحانه:
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
فأين النصر الذي وعد الله تعالى به في الحياة الدنيا؟
والجواب أيها الأحباب:
أن منشأ السؤال حدث لأننا نقصر النصر على نوع من أنواع النصر فقط، ففسرنا النصر بجزئية واحدة من جزئياته لا بالمعنى الكلي للانتصار.
لأننا تصورنا أن الانتصار هو ظهور الدين وتمامه وتحقق إيمان القوم لهذا النبي فقلنا أين الانتصار ؟
لكن الانتصار أيها الأحبة له صور عدة ولا يقتصر على صورة واحدة، سأذكر لكم في هذه العجالة أهم هذه الصور، حتى نعلم ونوقن إيمانا حقيقيا -ونحن كذلك إن شاء الله- أن وعد الله لا يتخلف أبدا، ونصر الله متحقق للأنبياء ولعباده المؤمنين الصادقين في الحياة الدنيا أيضا.
إذا ما هو النصر الحقيقي ؟
النصر الحقيقي لا نقصره على صورة واحدة، وإنما هو صور متعددة، فقد يتحقق النصر لهذا النبي بصورة، ولذلك النبي بصورة أخرى، وللنبي الأخر بصورة ثالثة وهكذا، وكذلك لعباد الله الصادقين من الدعاة.
الصورة الأولى من صور النصر:
أن النصر قد يكون بالغلبة المباشرة والقهر للأعداء على يد هؤلاء الأنبياء والرسل والدعاة، وهو ظهور الدين وتمام الدين وقيام دولة الإسلام، كما حدث مثلا لداود وسليمان عليهما السلام وآتاه الله الملك،، وكما حدث لموسى عليه السلام بعد إغراق فرعون وقومه، وكما حدث بصورة ظاهرة بينة متكاملة لنبينا (صلى الله عليه وسلم) وبخاصة بعد فتح مكة: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).
هذه الصورة التي تتبادر إلى أذهاننا ولكنها صورة واحدة من صور النصر، وليست هي على سبيل الحصر.
الصورة الثانية من صور النصر:
وهي التي وعد الله بها وتتحقق أن النصر قد يكون بإهلاك هؤلاء المكذبين، ونجاة الأنبياء والمرسلين ومن آمن معهم، كما حدث لنوح عليه السلام، ولموسى وقومه، وكما حدث لصالح وهود ولوط مع أقوامهم.
والدليل على أن هذا نوع من أنواع النصر أن نوح عندما يأس من قومه ماذا قال ؟ قال:
(فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)، ثم ماذا ؟
(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)
إذا فإهلاك الأمم المكذبة هو نوع من أنواع النصر، مع أن الله لم يذكر لنا، ولم نجد في القرآن ماذا حدث لأولئك الأنبياء عليهم السلام بعد ذلك.، إذا هذا نوع من أنواع الانتصار.
النوع الثالث من أنواع النصر:
أن النصر قد يكون بانتقام الله من أعدائهم ومكذبيهم بعد وفات هؤلاء الأنبياء والرسل، كما حدث مع من قتل يحيا عليه السلام، فقد انتصر الله له بعد حين بتسليط بختنصر على قومه فسامهم سوء العذاب، وهذا انتصار من الله جل وعلا ليحي عليه السلام في الحياة الدنيا.
وكما حدث للذين حاولوا قتل وصلب عيسى عليه السلام، فبعد أن رفعه الله انتقم من أعدائه بتسليط الروم عليهم فساموهم سوء العذاب. هذا نوع من أنواع النصر، ووعد الله لا يتخلف.
النوع الرابع من أنواع النصر:
وآمل أن تقفوا معي وقفة مهمة في هذا النوع لأننا بأمس الحاجة في هذا العصر إلى الفقه فيه، وإلى الوقوف عنده وهو أن ما قد يتصوره الناس هزيمة قد يكون هو النصر الحقيقي.
فكم من شهيد كانت الشهادة هي الانتصار له ولدعوته، ومثل ذلك الإيقاف والسجن والطرد والأذى، فقد يتصور الناس أن الداعية قد انتهى بقتله، أو انتهى بإيقافه أو انتهى بسجنه، أو انتهى بالنيل من عرضه، وتكون هذه هي نقطة الانطلاق والانتصار لهذا الداعية، وهذا أمر يدل عليه الكتاب والسنة والواقع المشاهد، ماذا قال الله عز وجل عن نبينا (صلى الله عليه وسلم):
)إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)، متى ؟ في فتح مكة! في بدر! أبداً
( إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ)، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخرج من مكة يخرج منتصرا (صلى الله عليه وسلم).
شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أوقف وسجن ومات في سجنه، هل نقول انه انتصر؟ نعم إنه انتصر كما سأقف مع السبب الذي بعده.
كذلك إيقاف كثير من الدعاة، وقد رأينا أنه قد زاد انتصارهم واستجاب الناس لهم بعد ما تم إيقافهم، وقد رأينا أن من الدعاة من أوذي في عرضه، وتصور كثير من الناس أن هذا الداعية قد انتهى وهو حقيقة قد انطلق بعد هذه الوقفة، وهنا تحقق انتصاره:(/3)
(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
هذه حقيقة نشاهدها ونراها، وهنا يأتي واجب الدعاة، وواجب طلاب العلم، وواجب الأتباع الذين يتبعون الحق أنه في مثل هذه المواقف فالنصر للداعية ولمنهجه.
هذه حقيقة يجب أن تكون بين أعيننا جلية واضحة.
وأذكر لكم هنا قصة وإن كانت لا ترتبط بموضوعنا ارتباطا مباشرا، ولكن لعله يتبين من خلاله أن تصور الناس أحيانا يكون في غير محله.
أثناء دويلات الطوائف قتل أحد الأمراء وهو عضد الدولة خصما له من الوزراء، ثم صلبه، وبعد أن قتله وصلبه ترسخ في أذهان الناس أن هذا المقتول قد انتهى وأن هذه هزيمة نكراء له.
جاء شاعر من الشعراء، كان يحب هذا المقتول، ويعرف عنه أنه كان كريما ومعطاء فماذا حدث ؟
قال قصيدة تمنى القاتل حين سمعها أنه المقتول وأن القصيدة قيلت فيه.
واستمعوا إلى بعض أبياتها وهي تصور هذا المقتول وهو مصلوبا والناس حوله يحيطون به، والنار توقد حوله في الليل، والحرس يحيط به خوفا من أن يأخذه أتباعه، فماذا قال الشاعر:
علو في الحياة وفي الممات................. لحق تلك إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا..............وفود نداك أيام الصلات
كأنك قائم فيهم خطيبا..................وكلهمُ قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء................ كمدهما إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن ............... يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا......... عن الأكفان ثوب السافيات
لقدرك في النفوس تبيت تُرعى....... بحراس وحفاظ ثقاة
وتوقد حولك النيران ليلا................. كذلك كنت أيام الحياة
ولم أرى قبل جذعك قط جذعا............ تمكن من عناق المكرمات
عليك تحية الرحمان تترى............... برحمات غواد رائحات
طبعا نحن لا نوافق على كل ما ورد في هذه الأبيات، ولكن أريد أن أبين لكم أن التصور قد لا يكون في محله أحيانا، المهم أن الذي قتله قال، كنت أتمنى لو كنت المصلوب وأن هذه القصيدة قيلت في.
نعم هذا الأمر قد لا يرتبط مباشرة بشخص المقتول، ولكن عندما يسجن أو يوقف الداعية فهذا انتصار له وليس هزيمة.
ثقوا أن اللحظة التي يقتل أو يوقف أو يسجن أو يطرد فيها الداعية، لا يتم هذا الأمر إلا أن يكون عدوه قد ذاق المر من الغيظ والحنق والألم، وهذا هو أشد أنواع العذاب، يتقلب على جمر الغظى ألما حتى وصل إلى ما وصل إليه، ولذلك يقول الله جل وعلا:
(وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً).
وهذا واقع محسوس ومشاهد، والحجاج عندما قتل سعيد أبن جبير رحمه الله، هل حصلت السعادة للحجاج؟
أبدا، كان يقول: مالي ولسعيد، وكان يقوم من الليل فزعا حتى مات.
إذا من هو المعذب ؟ ومن هو المنهزم ؟
ولذلك قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) أي بالسعادة.
نعم الداعية وهو يقتل أين ذاهب؟ إلى الله، بخ بخٍ ما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني أحد هؤلاء.
وهو يسجن وهو يطرد وهو يوقف يعبر عن ذلك شيخ الإسلام أبن تيمية:
(ماذا ينقم من أعدائي، أنا جنتي في صدري، سجني خلوة، وتسفيري سياحة، وقتلي شهادة).
ولهذا يقول أحد السلف:
(والله أننا لنعيش لذة ونعيما لو يعلمه الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف).
هذه حقيقة يجب أن نفهمها ونحن نناقش هذا الموضوع، ونعيش معه.
النوع الخامس من أنواع الانتصار:
أن ثبات الداعية على مبدئه هو انتصار باهر، ثبوته رغم الشهوات والشبهات والعقبات، ولا يتحقق الانتصار الظاهر إلا بعد تحقق هذا الانتصار:
فإبراهيم عليه السلام وهو يقذف في النار في قمة انتصاره.
والإمام أحمد وهو توضع رجلاه في الحديد في قمة انتصاره، في محنة الدنيا والدين كان في قمة انتصاره.
بلال رضي الله عنه وهو يعذب ويردد أحدُ أحد كان والله في قمة انتصاره.
آل ياسر وهم يعذبون كانوا في قمة انتصارهم.
وهذا نلمسه من حديث خباب وسنذكره بعد قليل.
النوع السادس من أنواع الانتصار:
أن النصر قد يكون بقوة الحجة كما قال الطبري والسدي في قوله تعالى:
(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
فقوة الحجة رفع للدرجة وهو انتصار، وفي سورة البقرة في قصة الذي كفر لما حاج إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى في آخر الآيات:
( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
من الذي انتصر ؟ هو إبراهيم عليه السلام.
النوع السابع من أنواع الانتصار:(/4)
أن الداعية قد لا ينتصر الانتصار الظاهر في زمن، ثم ينتصر بعد ذلك انتصارا عظيما بعد سنوات، فشيخ الإسلام ابن تيمية مات وهو في السجن، وأتباعه أقل من معارضيه، أما الآن وبعد مئات السنين فانظروا كم الذين أخذوا ونهلوا واستفادوا من المنهج الذي رسمه وبينه شيخ الإسلام أبن تيمية وفق كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ؟
نقول ذلك لأننا أحيانا قد نقصر الانتصار على فترة محددة في الزمان والمكان وهذا خطأ.
أيضا قد لا يستجيب الناس لداعية في بلد، ويستجاب له في بلد آخر، وهذا كثير جدا، فيجب أن لا نقصر الانتصار على زمن محدد أو بلد محدد.
النوع الأخير من أنواع الانتصار:
أن الانتصار قد يكون أحيانا بمعنى المنع، يقول تعالى:
( وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).
أي يمنعون، فالنصر قد يكون بمعنى المنع من الأعداء وهذا انتصار للداعية في الحياة الدنيا.
هذه بعض صور الانتصار.
ولهذا إذا رأينا أي داعية لم يتحقق له النصر الظاهر فلا يعني هذا أنه لم ينتصر.
الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، لو وقفنا مع حياة أي واحد منهم لوجدنا أنه قد تحقق له نوع من النصر، بل أحيانا أكثر من نوع من أنواع النصر في الحياة الدنيا.
فلا نقصر النصر على نوع واحد ولا على مفهوم واحد، فمفهوم النصر أوسع وأشمل وأعمق.
بعد هذا البيان أنتقل إلى نقطة أخرى وهي ما هي مهمتنا ؟
ما هي المهمة التي كلفنا فيها والتي أمرنا بها شرعا؟
هل نحن مكلفون أنه لابد أن يتحقق ويظهر الدين في حياتنا ؟
إذا قام أحد منا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هل نحكم على هذا الداعية بالفشل لأن المنكرات تزداد ، أو لأن الناس لم يستجيبوا له؟
لو قام الداعية بالنصح للمسئولين ولولاة أمور المسلمين ولم يجد جوابا، هل نقول أنه فشل؟
إذا ما هي مهمتنا؟
مهمتنا – أيها الأحباب – هي مهمة الأنبياء والرسل، استمعوا إلى قول الله تعالى :
(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)، (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).
والآيات كثير في هذا الباب فارجعوا إليها في كتاب الله.
مهمتنا هي البلاغ، أم الانتصار فهو أثر قد يتحقق في حياتنا، وقد يتحقق بعد وفاتنا، وقد يتحقق على أيدي غيرنا، أما مهمتنا ومهمة كل داعيةف هي البلاغ كونها مهمة الرسل، ولذل جاءت آيات أخرى كثيرة توضح هذا المفهوم أقف مع بعضها:
يقول الله جل وعلا:
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).
( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً).
(فلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).
ثم استمعوا إلى هذه الآية في سورة الأنعام تبين أن الحرص على هداية الناس مطلوب، والسعي إلى هداية الناس مطلوب، ولكن على أن لا يخرجنا عن المنهج، لا بتعجل ولا بتنازل ولا بيأس أو قنوط.
استمعوا إلى هذه الآية والمخاطب فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما لم تؤمن قريش بدعوة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتأثر عليه الصلاة والسلام بذلك قال الله جل وعلا قال له الله تعالى:
)وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
بماذا ختم الله هذه الآية؟
(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، الله أكبر، لا تربط دعوتك باستجابتهم، لا أنت عليك البلاغ:
(مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ)، أما هدايتهم فلو شاء الله جل وعلا لهداهم، ولكن هذا ليس لنا.
إذا هذه مهمتنا وهذه حقيقتنا:
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ* وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
ونقف الآن مع هذه الأمثلة من كتاب الله جل وعلا تبين لنا هذه الحقيقة:
المثل الأول نوح عليه السلام:
كم لبث في قومه ؟ تسعمائة وخمسين سنة.
وماذا كانت النتيجة، كم آمن مع نوح ؟ الآلاف، مئات الآلاف!
( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ).(/5)
وعند قوله تعالى (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن ْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ)، أقرب الناس للإنسان بالسبب هي الزوجة، وأقرب الناس للإنسان بالنسب هو الولد، ونوح عليه السلام لم يؤمن أبنه ولم تؤمن زوجته.
هل نقول أن نوح عليه السلام بعد دعوة تسعمائة وخمسين سنة لم ينتصر لأن ابنه لم يؤمن ولأن زوجته لم تؤمن ولأن قومه لم يؤمن منهم إلا قليل.
(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
سفينة، ولنفترض أنها عابرة للقارات، وليت كل الذين فيها بشر:
(قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)، فيها الدواب والحيوانات، فكم يبقى فيها مكان للإنسان؟
ومع ذلك فنوح عليه السلام من أولي العزم من الرسل، وقد انتصر انتصارا عظيما باهرا عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
المثل الثاني أنبياء الله هود ولوط وصالح وشعيب عليهم الصلاة والسلام .
فقد انتصروا مع أن قومهم إهلكوا.
عندما أضرب لكم هذه الأمثلة لأن الواحد منا أحيانا وبسبب تحسره على عدم استجابة الناس وتأخر النصر قد يستعجل أو ييأس.
وفي قصة عبد الله الغلام ومن آمن معه، هو قتل والذين أمنوا معه قتلوا بل حرقوا بالنار، هل نقول أنهم لم ينتصروا! بل إنهم انتصروا أعظم الانتصار.
أيضا أصحاب القرية، تصوروا قرية صغيرة، كم يرسل الله جل وعلا لها من الرسل؟
داعية! لا، بل ثلاثة من الرسل:
(إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ).
ومع ذلك قرية واحدة كذبت الرسل الثلاثة فجاءهم رجل:
(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).
فماذا فعلوا به؟ قتلوه أيضا، فماذا كانت النتيجة؟
(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ)..
قرية واحدة يرسل لها ثلاثة من الرسل وداعية رابع ولم يستجيبوا، فهل نقول أنهم لم ينتصروا! كلا وحاشا.
إذا هذه بعض الأمثلة من كتاب الله، أما الأحاديث فأقف معكم مع بعض هذه الأحاديث.
الحديث الذي كلنا يحفظه وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عرضت علي الأمم فأخذ النبي يمر معه الأمة والنبي يمر ومعه العشرة، والنبي يمر ومعه الخمسة والنبي يمر وحده.
وفي رواية: قال عرضت علي الأمم فجعل النبي يمر ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والنبي ومعه الرهط والنبي وليس معه أحد.
وفي رواية: عرضت علي الأمم فجعل النبي يمر ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجلان والنبي وليس معه أحد.
أرأيتم هذا النبي الذي معه رجل والنبي الذي معه عشرة والنبي الذي معه خمسة والنبي الذي ليس معه أحد، فهل نقول أنه لم ينتصر! كلا وحاشا.
إذا نحتاج إلى وقفة مع هذا الحديث، أذكر أن أحد طلاب العلم هداه الله أقنعه عدد من زملائه وإخوانه ببدء درس في مسجد من المساجد، وبدأ الدرس وبعد عدة أشهر فوجئنا أن الدرس قد توقف.
فذهبت لزيارته وقلت له: يا شيخ يا أخي الكريم لماذا أوقفت الدرس؟
قال: ما يأتي أحد، قلت: ما يأتي حد؟ قال: ما يأتي إلا عشرة.
قلت: يا أخي الكريم النبي يأتي يوم القيامة وما معه إلا واحد بل والنبي وما معه أحد.
إن عددا من علمائنا ظلوا سنوات ليس عندهم إلا طالب واحد أو طالبين أو ثلاثة، سنوات طويلة.
بل ذكر لي أحد الأخوة أنه يجلس أحيانا ولا يأتي أحد إلى الدرس، وأستمر في درسه، ويحضر الآن درسه بضعة آلاف، نعم والقضية ليست بالعدد، النبي ليس معه إلا واحد أو اثنين أو ثلاثة أو ليس معه أحد ونحن نريد أن يكون معنا الآلاف وإلا نعتبر أننا قد فشلنا ولم ننتصر.
والحديث الآخر الذي وعدتكم قبل قليل وهو حديث خباب، قال:
شكونا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا أو تدعو لنا. فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يرده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الذئب والله على غنمه ولكنكم تستعجلون.
هذا الحديث حديث عظيم، الرسول (صلى الله عليه وسلم) نقال خباب حين قال ألا تستنصر لنا، نقله من نوع من أنواع النصر إلى نوع آخر حتى لا يبقى خباب رضي الله عنه أو غيره يتصورون أن النصر هو ظهور الدين وارتفاع العذاب عنهم، نقلهم إلى أن النصر الحقيقي هو ثبات الداعية، نعم كما أن النصر هو ظهور الدين فكذلك من أعظم أنواع النصر ثبات الداعية. هذه مسألة.
ومسألة أخرى، نقل الرسول (صلى الله عليه وسلم) خباب إلى أن النصر قد لا يتحقق في حياة الداعية، قد يتحقق بعد سنوات، فعندما سار الراكب من صنعاء إلى حضرموت هل حدث هذا في حيلة خباب؟
لا حضر هذا بعد سنوات، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) ولكنكم قوم تستعجلون.(/6)
نعم نحن نستعجل.
حديث آخر وهو الحديث القدسي الذي كلنا يحفظه:
(من عادا لي وليا فقد آذنته بالحرب).
هل يجوز لمؤمن يؤمن بالله ورسوله، يعلم أن الله معه إذا عاداه الأعداء ويتصور أنه قد ينهزم.
هذا خلل في الإيمان، والذي يتصور هذا التصور لا يستحق النصر.
المؤمن الصادق يعلم أن الله معه، فإذا كان الله معنا فهل يمكن أن يغلبنا أحد، ولكن قد لا يتحقق النصر الذي نتصور نحن، قد يتحقق نوع آخر من أنواع الانتصار نغفل عنه أحيانا، وإلا فوعد الله جل وعلا لا يتخلف أبدا.
ونجد أن من الأدلة على مفهوم النصر أيها الأحباب سورة كلنا يحفظها، بل الأطفال في الأولى الابتدائي يحفظونها وهي سورة العصر، وهي سورة كما قال الإمام الشافعي:
لو ما أنزل الله على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم.
ما علاقة هذه السورة بموضوعنا ؟
الله جل وعلا قال:
(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
إذا كل إنسان في خسر إلا المستثنون هنا فهم فائزون ورابحون ومنتصرون، كل إنسان خاسر، والذي لم يخسر فهو منتصر أو رابح، ولو قلنا خسر هؤلاء القوم إلا فلان، فمعناه أنه ربح، لو قلنا انهزم الناس إلا فلان فمعناه أنه انتصر.
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
هل من هذه الشروط الأربعة أنه لابد أن يتحقق النصر الظاهر للداعية وإلا فلا ينتصر ويصبح من الخاسرين؟ أبدا.
ليس من هذه الشروط الأربعة، فالمطلوب منا هو الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
ووقفت مع الشرطين الأخيرين وهو:
أن التواصي بالحق يقتضي الالتزام بالمنهج، أو منهج أهل السنة والجماعة.
والتواصي بالصبر عاصم بأذن الله عن شيئين، عاصم ومانع من الاستعجال، ومانع من اليأس أيضا.
فإذا هذا هو النصر الحقيقي أو نصر حقيقي للداعية إلى الله.
أيها الأحباب، كلنا يتمنى وكلنا يجب أن يسعى لانتصار هذا الدين وظهوره، لا شك في ذلك،، والذي لا يسعى لذلك ولا يفرح لانتصار الدين فقد تخلف منه وعنه مقوم من مقومات النصر وسبب من أسباب النصر.
(وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
إي والله نحب النصر، ونتمنى أن لا نخرج من هذا المسجد إلا ونرى جميع المنكرات قد زالت من بلادنا.
وقد سادت شريعة الله في أرضه، نفرح فرحا عظيما لو تحقق أمر واحد مما يرضي الله جل وعلا.
قرأت منذ أيام إحصائية في مجلة اليمامة صدمت والله وذهلت منها تقول:
أن قيمة ما تستورده المملكة من الدخان أكثر من قيمة ما تستورده من السيارات، مع أننا مترفون في استيراد السيارات، وذكرتها المجلة بالأرقام بل زادت قيمة الدخان المستورد عن قيمة الدخان بقرابة أربعين مليون ريال.
تأملت و تألمت فقط لزيادته فكيف لا نفرح بزو اله.
كيف لا نفرح لو زالت المنكرات العظيمة، لو زال الربا.
لو وجدنا المستشفيات الخاصة بالنساء.
لو استقام الإعلام.
لو زالت المنكرات الظاهرة والباطنة، والله نفرح.
ولكن نتسأل دائما لماذا يتأخر النصر الظاهر؟
له أسباب عدة أذكر بعضها أو أهمها محافظة على الوقت، من أسباب تخلف النصر الظاهر وهو الضفر والغلبة وتحقق الأهداف ما يلي:
1- تخلف بعض أسباب النصر المشروعة.
فقد تتخلف بعض أسباب النصر المشروع وهي كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.
2- حدوث ما يمنع النصر من مخالفة ونحوها.
وتخلف الأسباب غير حدوث الموانع، ففي أحد والرسول (صلى الله عليه وسلم) بين أظهرهم انهزموا لماذا ؟ حل الهزيمة لمخالفة أمر من أوامر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومن فئة قليلة من المسلمين:
( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ).
لماذا حلت الهزيمة؟ لأن البعض قال لن نغلب اليوم من قلة، بسبب هذا الشعور وأن الكثرة هي التي ستنصرهم انهزموا، فهذه من موانع النصر.
3- الانحراف عن المنهج والخلل فيه.
هذا من السباب كما ذكرت قبل قليل ولي معه وقفة أخرى إن شاء الله.
4- عدم التجرد لله.
فقد يشوب الدعوة حمية أو طلب مغنم أو جاه.
5- عدم نضوج الأمة وضعف استعدادها.
وهذا من أسباب عدم النصر الظاهر، ولو جاء النصر لما وجدت الأمة قادرة على المحافظة عليه لعدم اكتمال بنيتها وربما فرطت فيه بسهولة.
6- أن الباطل الذي تحاربه الأمة ويحاربه الدعاة لم ينكشف زيفه للناس تماما.
وهذا سبب مهم جدا، فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه ممن هم ليسوا على هذا الباطل ولا يقرونه، ولكنهم لم ينكشف لهم زيف هذا الباطل ولله في ذلك حكمة، وقد حدث مثل ذلك مع المنافقين.
7- عجز الأمة عن القيام بتكاليف النصر إن تحقق.(/7)
فقد يكون في علم الله جل وعلا أن هؤلاء لو انتصروا فلن يقوموا بتكاليف الانتصار، من إقامة حكم الله والأمر المعروف والنهي عن المنكر، وهذا يفهم من قول الله تعالى:
( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
8- توافر أسباب النصر للداعية وليس للمدعوين.
فقد تتوافر أسباب النصر للداعية، ولكن هناك موانع يعلمها الله تتعلق بالمدعوين كعدم تقدير الله هدايتهم وهذا يفهم من قوله سبحانه:
(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً).
والسبب هنا ليس تقصير الداعية، ولكن لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى.
وأيضا قد يكون انتصار الداعية بعد وفاته أعظم من انتصاره في حياته، لأن المراد انتصار الدعوة وانتصار المنهج، أما الأشخاص فكما قال صاحب القرية : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ).
9- من الأسباب أن تأخر النصر فيه ابتلاء وتمحيص وامتحان للدعاة.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
نعم الابتلاء والامتحان: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).
إذا هذه بعض الأسباب التي قد تمنع أو تأخر النصر الظاهر، فلا نيأس ولا نقنط...
إذا ونحن نتحدث عن مفهوم الانتصار، ذكرت لكم أن من الآثار التي تحدث عند الخلط في مفهوم حقيقة الانتصار هو الانحراف عن المنهج ومن ذلك التنازل.
ولأهمية هذه القضية سأقف معها بضع دقائق، رأينا عددا من الدعاة لا نشك في إخلاصهم ولا في صدقهم ولا في حماسهم ولا في غيرتهم في أنحاء العالم الإسلامي، وحرصا منهم على تحقق النتائج وعلى ظهور دين الله، وعندما استبطئوا النصر، وعندما استبطئوا تحقق هذه النتائج بدئوا يقدمون التنازلات تلو التنازلات ويتصورن أن هذا من المنهج الذي قد طولبوا به.
فرأينا مثلا من يميع قضية العقيدة، ويقول: لو أنني طرحت عقيدة أهل السنة والجماعة فقد يتفرق الأتباع، فحرصا على وحدة الأتباع تميع قضية العقيدة.
نعم والواحدة مطلوب شرعي ولكن على أسس شرعية.
فتجد أن لديهم حساسية مفرطة أو موانع من طرح قضية عقيدة أهل السنة والجماعة، وأذكر لكم مثالين:
المثل الأول أو القصة الأولى:
يحدثنا بها منذ أيام أحد الأخوة ممن نحسبه والله حسيبه حريصا بل ومتخصصا في العقيدة، يقول أنه جاءه شاب من الشباب يسأله: قال يا شيخ هل العقيدة مهمة؟
فيقول ذهلت من السؤال، هل العقيدة مهمة، ماذا يبقى إذا لم تكن العقيدة مهمة.
فيقول الشاب أنه يرى من لا يهتم بالعقيدة ممن يوجهنا ويدعونا، وآخر ما يفكرون فيه هو موضوع العقيدة، ومنهج أهل السنة والجماعة، وأراكم أنتم تركزون على العقيدة وعلى منهج أهل السنة والجماعة.
المثل الثاني:
وهو عندما قامت دولة الرافضة، سارع كثير من الدعاة -هداهم الله- في أنحاء العالم الإسلامي إلى تأييدها وأنها دولة إسلامية، فجاء بعض المخلصين الصادقين من الدعاة وقالوا لهم اتقوا الله.
وأذكر ن أحد الأحباب ناقش رجلا من هؤلاء وقال له:
يا أخي كيف تؤيدون هذه الدولة الرافضية ؟
قال: دولة رفعت الإسلام علينا أن نؤيدها وهذه أسقطت الشاه، وبدا يعدد مزاياها.
فقال له الأخ: هذه دولة رافضية وتعرف منهج الرافضة وأصول الرافضة.
قال: يا أخي اتركنا من العقيدة الآن.
إذا إذ تركنا العقيدة الآن فمتى تكون؟
الدخول في البرلمانات، ولا أريد التفصيل فيها ولكن أقول إذا كان الدخول في البرلمان يقتضي التنازل عن المنهج، يقتضي إقرار الظالمين على ظلمهم والاعتراف بحكم الجاهلية فلا يجوز أبدا.
إذا كانت المسألة تقبل المسومة في دين الله فهذا لا يجوز أبدا.
أحبتي في الله، مصلحة الدعوة حمّلت أكثر مما تحتمل.
سورة الكهف أرجعوا إلى تفسيرها، وكما ذكر العلماء في سبب النزول أن كبار المشركين جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقالوا نحن نريد أن نستمع منك ونجلس معك، لكن لنا شرط واحد، ما هو شرطكم؟ قالوا: شرطنا أن إذا جئنا إليك وجلسنا معك أن لا يجلس معنا هؤلاء الضعفاء أمثال صهيب وبلال وأمثالهم.
إذا مادام أن مصلحة الدعوة تقتضي ذلك، فيا صهيب ويا بلال حرصا على الإسلام ودعوة هؤلاء إذا جاءوا قوموا. هذا في نظرة الذين يحمّلون مصلحة الدعوة أكثر مما تحتمل.
فبماذا تتنزل الآيات:(/8)
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً).
(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ).
إذا القضية ليست قضية تنازلات، والذين يحتجون بصلح الحديبة يستدلون به في غير موضعه، وهذا يحتاج إلى تفصيل وبيان.
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ).
فأوجه نصيحتي إلى هؤلاء الدعاة الذين يتصورون أن المطلوب منهم أن يحققوا بعض النصر ولو حساب دين الله وعقيدة المسلمين، ولو على حساب المنهج، أقول هذا خلل.
إذا نصل إلى أن حقيقة انتصار الداعية تتمثل في ما يلي:
1- سلامة المنهج، وهو المنهج الذي عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
يقول تعالى: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (تركتم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، فسلامة المنهج أو مقوم من مقومات انتصار الداعية.
2- التجرد لله جل وعلا والإخلاص.
(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).
3- الالتزام التام بالمنهج، وعدم الحيدة عنه.
(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
ويقول (صلى الله عليه وسلم):
(تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتب الله وسنتي).
4- الصدع بالحق.
وقفوا مع هذه المسألة، فمن علامات انتصار الداعية الصدع بالحق:
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً).
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
ولهذا أقول للأخوة كلمة احفظوها وهي:
إن الأصل في الدعوة العلنية، والسرية تؤخذ بقدرها زمانا ومكانا وموضعا، والذين يتصورون أن الأصل في الإسلام هو السرية، وأن الجهر وإعلان الدعوة مرحلة طارئة هم مخطئون وواهمون، فالصدع بالحق من علامات انتصار الداعية، بل ومن مقومات انتصار الداعية.
5- الثبات على الطريق والصبر علية وعدم اليأس.
(قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
(وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
أخيرا وقفات مهمة قبل أن أودعكم:
الوقفة الأولى:
أنه لا يعني ما ذكرته عن مفهوم انتصار الداعية وحقيقة انتصار الداعية أن يتساهل الداعية في السعي لهداية الناس، ويقول مادمت ليس مطلوب مني ن يهتدي الناس أو أن تزول هذه المنكرات فيخمل ويكسل.
لا، فأنت مطالب أن تسعى إلى تغيير المنكرات، وأن تسعى إلى هداية الناس، وأن تبلغ رسالة الله بجد واجتهاد وحرص ودأب وعدم يأس.
ولكن النتيجة - وذلك ومن رحمة الله بنا وفضله علينا- أنه لم يربطها بالنتائج التي تتحقق، وإلا كم خسر من الدعاة.
من فضل الله علينا أنه يثيبنا على قدر عملنا لا على قدر عمل الناس، فلهذا إياكم أن يفهم أحد هذا المفهوم فيخمل ويتكاسل، بل ما ذكرت هذا الدرس وهذا المفهوم إلا من أجل أن نثبت على دين الله وأن نستمر في دعوة الناس استجابوا أم لم يستجيبوا، أقبلوا أو أدبروا رضوا أو غضبوا، هذا هو المطلوب منا:
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ).
الوقفة الثانية:(/9)
أن بعض الدعاة قد يحدد لنفسه منهجا جيدا ويرسم أهدافا يسعى لتحقيقها وفق المنهج الشرعي، ولكن إذا لم تتحقق هذه الأهداف يميل إلى اليأس والسأم والتعب، ثم يترك الدعوة، وهذا خلل كما قلت فيجب أن ننتبه لذلك، وكم رأينا من الذين تركوا الدعوة بعد أن ساروا فيها زمنا طويلا لأنهم يأسوا.
يونس عليه السلام وهو نبي ورسول:
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
نعم، (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) أي مذنب، وبعد ذلك بعد أن نجاه الله ورجع إلى قومه:
(وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ).
فعاقب الله جل وعلا يونس عليه السلام وهو نبي رسول لأنه يأس من قومه ولم ينتظر إذن الله جل وعلا له فترك قومه بع أن حذرهم وأنذرهم فعاقبه الله جل وعلا بالإغراق وابتلاع الحوت له. ولولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه عقابا له إلى يوم يبعثون.
هذا وهو نبي رسول، فكيف بنا أيها الأحباب، الواحد منا يدعو سنتين أو أقل أو أكثر ثم يحيل نفسه على التقاعد، ويقول عجزت وتعبت.
كم أتمنى وأقولها بحسرة أن أجد عند بعض الدعاة صبر النملة ومحاولات النملة.
تيمورلنك عندما هُزم في معركة من المعارك وتفرق جيشه ذهب إلى أحد المغارات، وهو جالس بعد هزيمة نكراء وجد نملة تحاول الصعود ثم تسقط، وتحاول ثم تسقط حتى عادت الكرة عشرات المرات ثم نجحت، فقام وخرج وجمع جيشه وحرب حتى انتصر، فالحذر من اليأس والقنوط..
الوقفة الثالثة:
الداعية الصادق ماذا يريد؟ يريد النصر لدينه والنجاة لنفسه.
أما النجاة لنفسه فقد تضمن الله بها إن كان صادقا مخلصا في دعوته.
وأما النصر للدين فليس لك بل هو لله جل وعلا، ليس لنا:
(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ).
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
ولله في ذلك حكمة كما بينت قبل قليل، قد يكون في حكمة الله أن لا ينتصر هذا الداعية في حياته، وأن يكون انتصار منهجه بعد وفاته أعظم وأكبر.
الوقفة الرابعة والأخيرة:
أن من أعظم أنواع الانتصار هو الانتصار على النفس، الانتصار على شهوات النفس وعلى رغباتها، وعلى تخاذلها، بل إنه شرط ولازم من لوازم الانتصار الحقيقي، والذي لا ينتصر على نفسه لا يمكن أن ينتصر على غيره.
فإذا انتصرنا على شهواتنا وعلى رغباتنا وعلى وساوس الشيطان في صدورنا وانتصرنا على العقبات التي تقف أمامنا فثقوا بنصر الله:
(وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).
أيها الأحباب:
هذا هو مفهوم انتصار الداعية، وهذه هي الحقيقة، فلذلك علينا أن نجد ونجتهد مهما حاول الظالمون ومهما حاول عداء الله لكبت هذا الدين:
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
محاولات الأعداء مستمرة، وهم مجتهدون ولا ييأسون ويحاولون ويكررون المحاولات وهم على باطل، ونحن على الحق ومع ذلك فمنا اليأس ومنا المستعجل، ومنا من قد يتنازل عن منهجه – وإن شاء الله لا يكون منا، ولكن أتكلم بالجملة-، والقليل القليل من يثبت على منهج الله، وعلى ما كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام، وهذا هو طريق النصر بل هذا هو النصر الحقيقي.
فيا أحبابنا ويا إخواننا تفاءلوا، الأعمى يقول لأبنه: يا بني كيف نحن من الليل؟
فإذا قال له: قد اسود الليل، قال: قد قرب الفجر:
اشتدي أزمة تنفرجي.............. قد آذن ليلك بالبلج
فصبرا أيها الأحباب، وثبات على المنهج وتواصيا بالحق وتواصيا بالصبر، وثقوا أن وعد الله لا يتخلف أبدا.
هذا ما أوجه به نفسي أولا، وأوجه به إخوتي الكرام ثانيا، وأسأل الله جل وعلا أن يثبتني وإياكم على الحق، وأن يجعلنا من المنتصرين في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
……………………………………
واحات الهداية(/10)
حقيقة الزهد
إعداد/ أسامة سليمان
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
نتناول فيما يلي بعض محاسن الأخلاق التي يجب على المسلم أن يتحلى بها، ومن هذه الأخلاق الزهد.
أولاً: المعنى:
الزهد لغة: هو القلة في كل شيء، والشيء الزهيد هو القليل، وإنسان مُزهد أي قليل المال، والزهيد هو قليل المطعم، ومنه قول الله عز وجل: وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين [يوسف: 20]، ومنه حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أفضل الناس مؤمن مزهد»، والزهد ضد الرغبة، ففلان يزهد في الشيء أي يرغب عنه، يقول الكفوي في الكليات:الزهد خلاف الرغبة.
الزهد اصطلاحًا: قيل الزهد هو بغض الدنيا والإعراض عنها، وهو ترك راحة الدنيا طلبًا لراحة الآخرة، وعرفه الجرجاني فقال: «هو أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك». ويعرفه ابن تيمية فيقول: «الزهد ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة وهو فضول المباح فيما يستعان به على طاعة الله»، ويعرفه ابن الجوزي فيقول: «هو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه». ومثال ذلك ترك الدنيا لحقارتها بالنسبة إلى نفاسة الآخرة، ومعنى ذلك أن من رغب عن شيء وليس مرغوبًا فيه ولا مطلوبًا في نفسه لا يسمى زاهدًا، ويقول ابن القيم عنه: «الزهد سفر القلب من وطن الدنيا وأخذه منازل الآخرة».
ثانيًا: متعلق الزهد:
ومتعلقات الزهد خمسة أشياء وهي:
1- المال: وليس المراد من الزهد في المال رفضه، وإنما نعم المال الصالح للعبد الصالح، فالمال قد يكون نعمة إذا أعان صاحبه على طاعة الله سبحانه وتعالى وأنفقه في رضوان الله، فعلى سبيل المثال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان من أصحاب الأموال وكان يستخدم ذلك المال في طاعة ربه، أما المال الذي يفسد صاحبه فيدفعه إلى الطغيان فإن ذلك المال يكون نقمة على صاحبه، يقول الله تعالى: كلا إن الإنسان ليطغى (6) أن رآه استغنى [العلق:6،7].
2- الملك والرياسة: ليس المراد من الزهد أيضًا رفض الملك والرياسة، فسليمان وداود عليهما السلام كانا من أزهد الناس في زمانهما، ولهما من الملك ما أخبرنا الله عز وجل، كذلك يوسف عليه السلام قال: رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث [يوسف: 101].
وإنما الملك الذي يطغى صاحبه هو الذي نهى الله عنه، يقول سبحانه: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك [البقرة:852].
3- الصورة: فليس من الزهد أن يكون الرجل أشعث أغبر، لا يحسن ما يلبس، ففي الحديث: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر». قال رجل: يا رسول الله، إني أحب أن يكون ثوبي نظيفًا ونعلي نظيفةً أذاك من الكبر! قال: «لا، الكبر بطر الحق وغمط الناس». [رواه مسلم]
4- ما في أيدي الناس: ويقصد بذلك الزهد عما في أيدي الناس وعدم استشرافه أو التطلع إليه، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم : «ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس»، فإن جاء من الناس للعبد شيء بدون استشراف نفس فلا بأس به.
5- النفس: ويقصد بذلك عدم عجب المرء بنفسه فيظن أن سيخرق الأرض، أو يبلغ الجبال طولاً، فيتكبر بمنصبه أو بما أعطاه الله من صورة على خلق الله، وإنما يتواضع ويخفض جناحه للمؤمنين، كما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم : واخفض جناحك للمؤمنين [الحجر:88]
ثالثًا: حقيقة الزهد:
قال العلماء: «هو انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، فهو إذًا يستلزم مرغوبًا عنه ومرغوبًا فيه خير من المرغوب عنه، والمرغوب عنه لابد أن يكون مرغوبًا فيه بوجه من الوجوه».
رابعًا: أقسام الزهد وأحكامه:
وقد قسم العلامة ابن القيم الزهد إلى أربعة أقسام في مدارج السالكين:
1- زهد في الحرام: وهو فرض عين على كل مسلم.
2- زهد في الشبهات: ويكون حكمه بحسب مواطن الشبهة، فإن قويت التحق بالواجب، وإن ضعفت التحق بالمستحب.
3- زهد في الفضول: وهو مستحب.
4- زهد في كل ما يشغل عن الله: هو الجامع الشامل لكل ما سبق.
خامسًا: ما يعين على الزهد:
قسم ابن رجب في جامع العلوم والحكم ما يعين على الزهد إلى:
أ- علم العبد أن الدنيا ظل زائل وخيال زائر، فهي كما قال تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [الحديد:20].
ب- علم العبد أن وراء الدنيا دارًا أعظم منها قدرًا وأجل وهي دار البقاء.
جـ- معرفة العبد وإيمانه الحق بأن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئًا كتب له منها وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يُقْضَ له منها.
آيات في الزهد
قوله تعالى: وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين [يوسف: 20].
وقوله تعالى: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى [طه: 131].(/1)
وقوله تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [الشورى: 20].
سادسًا: ورد أيضًا الزهد في كثير من الأحاديث، منها:
1- ما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة».
2- ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ألهاكم التكاثر قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي، قال: وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت».
3- ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رَضِيَ، وإن لم يُعطى لم يرضَ».
4- ما رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»، وقد كان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.
5- ما رواه ابن ماجه في سننه وصححه الألباني من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجل وقال له: دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس».
6- ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر في الآخرة».
ثامنًا: أمثلة تطبيقية في الزهد من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا».
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنا كنا آل محمد لنمكث شهرًا ما نستوقد بنار إن هو إلا التمر والماء.
3- وعنها قالت كان فراش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أدم وحشوه ليف.
4- وعنها قالت: مات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين.
5- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر في جنبه، فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء فقال:« مالي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم رحل وتركها».
6- وعن أنس رضي الله عنه قال: لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات وما أكل خبزًا مرققًا حتى مات.
تاسعًا: من أقوال السلف الواردة في الزهد:
1- قال ابن مسعود رضي الله عنه: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها جمع من لا علم له.
2- وعن محمد بن كعب القرظي قال: إذا أراد الله بعبد خيرًا أزهده في الدنيا وفقهه في الدين وبصره بعيوبه.
3- عن الربيع بن سليمان عن الشافعي قال: يا ربيع، عليك بالزهد، فالزهد على الزاهد أحسن من الحلي على المرأة الناهد.
4- قال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا هو قصر الأمل، ليس بأخذ الغليظ ولا لبس العباءة.
وخلاصة القول قول الحق عز وجل في سورة «الحديد»: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور.
والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط.(/2)
حكم أذان الفاسق
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
لا خلاف بين الفقهاء في أنه ينبغي اختيار المؤذن العدل، وقد جعلوا العدالة شرطاً في المؤذن الذي يعتمد عليه في دخول الأوقات أي الذي يؤذن ابتداءً ويعتمد عليه غيره، فالفاسق لا يرتب مؤذناً، لأن الأذان مشروع للإعلام، والفاسق لا يقبل قوله ولا يوثق به.
فإن لم يكن هو المعتمد عليه في دخول الأوقات ابتداءً، فقد اختلفوا في صحة أذانه على قولين1.
القول الأول: أنه يصح أذانه، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة.
أدلتهم:
1- أن الفاسق ذكر تصح صلاته فيعتد بأذانه كالعدل2.
2- لأن الأذان مشروع لصلاته وهو من أهل العبادة، فصح أذانه كالإقامة3.
القول الثاني: أنه لا يصح أذانه ، وهو رواية عند الحنابلة هي المذهب.
أدلتهم:
1- من السنة: حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:" الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن".
2- حديث أبي محذورة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:" أمناء المسلمين على صلاتهم وسحورهم المؤذنون".
وجه الدلالة من الحديثين: أن النبي-صلى الله عليه وسلم- وصف المؤذن بالأمانة، والفاسق غير أمين4.
3- حديث عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:" ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم أقرؤكم".
وجه الدلالة: أن الحديث دلّ على أن المؤذن يكون من خيار الناس، والفاسق ليس كذلك.5
ثانياً : من المعقول:
أن الأذان مشروع للإعلام ولا يحصل الإعلام بقوله لأنه ممن لا يقبل خبره ولا روايته6.
الترجيح: الراجح_ والله أعلم- هو القول الأوّل القائل بصحة أذان وإقامة الفاسق إذا لم يكن هو المعتمد عليه في دخول الوقت ابتداءً وذلك لوجاهة ما استدلّوا به، وأمّا ما استدلّ به أصحاب القول الثاني فيمكن مناقشته بما يلي:
1- أنّ حديثي أبي هريرة وأبي محذورة اللذين جاء فيهما وصف المؤذن بالأمانة، ليس فيهما ما يفيد عدم صحة أذان وإقامة الفاسق.
2- أن حديث عبد الله بن عباس:" ليؤذن لكم خياركم.." ضعيف.
3- الاستدلال بأن الفاسق لا يقبل خبره ولا روايته، هذا تعليل ليس بوجيه لأن الرواية تختلف عن الأذان من وجوه عديدة ليس الأذان منها.7 8.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، اللهم علمنا علماً ينفعنا وانفعنا بما علمتنا إنك سميع قريب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - راجع: المغني(2/68-69). والمجموع(3/108-109)، ومغني المحتاج(1/138).وغيرها من مراجع الفقه.
2 - المغني(2/69).
3 - المبدع(1/328).
4 - الشرح الكبير مع المغني لابن قدامة (1/428-429).
5 - أحكام الأذان والنداء ص(265).
6 - المغني(2/68).
7 - مفرادات مذهب الإمام أحمد في كتاب الصلاة ص(52).
8 - أحكام الأذان والنداء ص(266).(/1)
حكم الاحتفال بأعياد أهل الضلال
إعداد/ التحرير
الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك
والله أكبر كبيرًا، والصلاة والسلام على من بعثه الله تعالى هاديًا ومبشرًا
ونذيرًا. وبعد:
إن الله سبحانه قد أغنى المسلمين، وأنعم عليهم بشريعة كاملة
شاملة لكل مصالح الدين والدنيا. وعلق السعادة في الدنيا والآخرة على العمل بها
والتمسك بهديها. قال تعالى: من اتبع هداى فلا يضل ولا
يشقى [طه:123]، وقال تعالى: فمن تبع هداي فلا خوف عليهم
ولا هم يحزنون [البقرة:38].
وهذه الشريعة هي الصراط المستقيم الذي
هو طريق المنعَم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وما خالفها
فهو طريق المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى والمشركين.
وأنت أيها
المسلم في كل ركعة من صلاتك تدعو ربك أن يهديك الصراط المستقيم، وأن يجنبك طريق
المغضوب عليهم والضالين حينما تقرأ سورة الفاتحة - التي قراءتها ركن من أركان
الصلاة - في كل ركعة، فتأمل هذا الدعاء ومقاصده وثماره.إنه يعني أول ما يعني
الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بشريعته في العبادات وفي المعاملات وفي الآداب
والأخلاق العامة والخاصة، كما يعني مخالفة الكفار والتشبه بهم؛ لأن التشبه بهم
في الظاهر يورث محبتهم في الباطن. ولهذا تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على
الأمر بمخالفتهم، والنهي عن التشبه بهم إبعادًا للمسلم عما فيه مضرته؛ لأن
أعمال الكفار باطلة، ومساعيهم ضالة، ونهايتهم إلى الهلاك. فجميع أعمال الكافر
وأموره لابد فيها من خلل يمنعها أن تتم له بها منفعة قال تعالى: والذين
كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماء
حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [النور:39]. وقال تعالى: مثل
الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به
الريح في يوم عاصف [إبراهيم:18].
ومما أمر الله تعالى به في مخالفة
غير المسلمين مخالفتهم في أعيادهم وفي الاحتفال بها بل وتهنئتهم عليها.
أدلة
تحريم الاحتفال بأعياد الكفار:
جاءت الأدلة الشرعية تحذر من التشبه بالكافرين
عموماً، كما حذرت من المشاركة في أعيادهم خصوصاً
قال تعالى: ثم جعلناك على
شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون [الجاثية:18].
فهذا
نهي صريح عن اتباع غير المسلمين فيما يفعلون بأهوائهم.
وعن أبي سعيد الخدري عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا
جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟».
[رواه
البخاري ح 3269، ومسلم ح2669]
- قال صلى الله عليه وسلم : «من تشبه بقوم فهو منهم».
[رواه أبو
داود ح4031، وأحمد ح5093]
- قال تعالى في وصف عباد الرحمن والذين لا يشهدون
الزور [الفرقان:72]. قال ابن سيرين: هو الشعانين (عيد من أعياد النصارى). وقال
مجاهد: أعياد المشركين ونحوه مروي عن الضحاك.
- وعن عبد الله بن عمرو قال: قال
صلى الله عليه وسلم : «من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم
يوم القيامة».
[رواه البيهقي في السنن الكبرى 9/234]
- قال عطاء بن يسار (من
كبار التابعين) قال عمر: إياكم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في
كنائسهم.
الأعياد من خصائص الأديان:
وهذا يعني أن لكل أمة منسكها وأعيادها:
-
جاء في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا
عيدنا».
[رواه مسلم 892، والبخاري 952]
- وفي حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب»
[أبو داود 2418]
- وعن أنس صلى الله عليه وسلم قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون
فيهما، فقال: «ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول
الله: إن الله قد أبدلكما خيراً منهما: يوم الأضحى وعيد الفطر» [رواه أبو داود
ح 1134، والنسائي 1556، وأحمد ح 1241]
علة النهي عن التشبه بالكافرين:
إن
المشابهة ولو في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، قال ابن تيمية: "لو اجتمع
رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر
أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، وكذلك تجد
أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً ما لا يألفون غيرهم" فإذا كانت
المشابهة في أمور دينية فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة
لهم تنافي الإيمان.
نصوص الشريعة تأمر بمخالفة الكافرين واجتناب أفعالهم
الدينية والدنيوية:
لقد قطع الإسلام مادة المشابهة للكفار من أصلها، ففي
الصحيحين: «خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى»، وروى أبو داود عن
شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في(/1)
خفافهم»، وروى مسلم في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل
الكتاب أكلة السحر»، وروى أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا
يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون»، ويقول أنس
بن مالك رضي الله عنه كانت اليهود إذا حاضت فيهم المرأة لم يؤاكلوها ولم
يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله:
ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء
في المحيض [البقرة:222]، فقال صلى الله عليه وسلم : «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، فبلغ ذلك
اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه.
[رواه
مسلم في صحيحه]
لقد جاءت أوامر الشريعة ناهيةً عن كل ما فيه مشابهة حتى في أخص
عبادات المسلمين ومعاملاتهم، أفيرضى عاقل بعد ذلك أن يوافق اليهود أو النصارى
في أعيادهم وأكاذيبهم؟! لما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه جالسًا وصلى خلفه الصحابة
قيامًا أشار إليهم فقعدوا، فلما سلموا قال: «إن كدتم آنفًا تفعلون فعل فارس
والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتمّوا بأئمتكم» [رواه
الإمام مسل]. ولما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء،
فأمر الناس بصيامه، ثم قال: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود؛ صوموا يومًا
قبله أو يومًا بعده».
ومع أن الله سبحانه قد حذرنا سلوكَ سبيل المغضوب عليهم
والضالين إلا أن قضاءه نافذ بما أخبر به رسوله فيما جاء في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال:
«لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه»،
قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟!»، وفي رواية في البخاري:
«لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ»، قيل:
يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: «ومن الناس إلا أولئك؟!»، ويقول ابن مسعود
رضي الله عنه: (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتًا وهديًا، تتبعون عملهم حذو
القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا)
إن اليهود والنصارى لا
يقرّ لهم قرار حتى يفسدوا على الناس دينهم، ود كثير من أهل
الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا
من عند أنفسهم [البقرة:109]، ولن ترضى عنك اليهود
ولا النصارى حتى تتبع ملتهم [البقرة:120].
وإن المسلمين هم
أهدى الناس طريقًا وأقومهم سبيلاً وأرشدهم سلوكًا في هذه الحياة، وقد أقامهم
الله تعالى مقام الشهادة على الأمم كلها، وكذلك جعلناكم أمة
وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم
شهيدا [البقرة:143]، فكيف يتناسب مع ذلك أن يكون المسلمون أتباعًا لغيرهم
من كل ناعق، يقلدونهم في عاداتهم، ويحاكونهم في أعيادهم وتقاليدهم؟! ورسول الله
صلى الله عليه وسلم نهى المسلمين جميعًا أن يتلقوا عن أهل الكتاب، فعن.جابر أن عمر بن الخطاب رضي
الله عنهما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه، فغضب رسول
الله ثم قال: «أوَفي شكٍّ يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا
تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحقٍ فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به. والذي نفسي
بيده، لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني». [رواه أحمد وابن أبي شيبة(/2)
حكم الحج وفضله
أولاً: تعريف الحج:
1- لغة.
2- شرعاً.
3- أنواع الأنساك.
ثانياً: مشروعية الحج:
1- الكتاب.
2- السنة.
3- الإجماع.
ثالثا: متى فرض الحج؟
رابعا: فضل الحج.
مسألة: هل التطوع بالحج أفضل أم الصدقة؟
خامسا: بعض حِكم الحج ومنافعه.
سادسا: وصايا تهم الحاج.
سابعا: كيف تحج؟
أ- صفة الحج ملخصا.
ب- صفة حجة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثامنا: مسائل متعلقة بحكمه:
1- شروطه.
2- هل يجب على الفور أم على التراخي؟
أولاً: تعريفه:
1- الحج لغة: قال ابن منظور رحمه الله: "الحج: القصد. حج إلينا فلان أي: قدم، وحجّه يحُجُّه حجاً: قصده. وحججتُ فلاناً واعتمدته أي: قصدته، ورجل محجوج أي: مقصود"([1]).
2- الحج شرعا: "قصد بيت الله تعالى بصفة مخصوصة، في وقت مخصوص، بشرائط مخصوصة"([2]).
3- أنواع الأنساك: الأنساك ثلاثة: تمتع وإفراد وقرآن.
أ- فالتمتع: أن يحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج، فإذا وصل مكة، طاف وسعى للعمرة، وحلق أو قصر، فإذا كان يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج وحده، وأتى بجميع أفعاله.
ب- والإفراد: أن يحرم بالحج وحده، فإذا وصل مكة، طاف للقدوم، ثم سعى سعي الحج، ولا يحلق ولا يقصّر ولا يحلّ من إحرامه، بل يبقى محرماً حتى يحل بعد رمي جمرة العقبة ليوم العيد، وإن أخّر سعي الحج إلى ما بعد طواف الحج فلا بأس.
ج- والقِران: أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً، أو يحرم بالعمرة أولاً ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها، وعمل القارن كعمل المفرد سواء، إلاّ أن القارن عليه هدي، والمفرد لا هدي عليه"([3]).
([1]) لسان العرب (3/52).
([2]) التعريفات للجرجاني (ص 111). وانظر: مغني المحتاج للشربيني (1/459)، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي (1/472).
([3]) المنهج لمريد الحج والعمرة للشيخ ابن عثيمين (ص 116)، ضمن المجموع المفيد لكتب الحج.
ثانياً: مشروعيته:
دل الكتاب والسنة والإجماع على وجوب الحج مرة واحدة في العمر.
دليل الكتاب: قال الله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97].
قال ابن جرير رحمه الله: "يعني بذلك جل ثناؤه: وفرض واجب لله على من استطاع من أهل التكليف السبيل إلى حج بيته الحرام الحجُ إليه"([1])، وقال في تفسير قوله: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}: "يعني: ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حج بيته، فأنكره وكفر به، فإن الله غني عنه وعن حجه وعمله، وعن سائر خلقه من الجن والإنس"([2]).
وقال ابن العربي: "قال علماؤنا: هذا من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، إذا قال العربي: لفلان علي كذا فقد وكده وأوجبه، قال علماؤنا: فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب، تأكيداً لحقه، وتعظيماً لحرمته، وتقوية لفرضه"([3]).
وقال القرطبي رحمه الله: "فذكر الله الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيداً لحقه وتعظيماً لحرمته، ولا خلاف في فريضته، وهو أحد قواعد الإسلام، وليس يجب إلا مرة في العمر"([4]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وحرفُ (على) للإيجاب، لا سيما إذا ذكر المستحق فقيل: لفلان على فلان، وقد أتبعه بقوله: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ليبين أن من لم يعتقد وجوبه فهو كافر، وأنه وضع البيت وأوجب حجه {لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28]، لا لحاجة إلى الحجاج كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه؛ لأن الله غني عن العالمين"([5]).
وقال ابن كثير رحمه الله: "هذه آية وجوب الحج"([6]).
وقال الشوكاني رحمه الله: "فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه، وتعظيماً لحرمته، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل"([7]).
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}: "قيل: إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه، وقيل: المعنى: ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجباً، وقيل: إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر. وفي قوله: {فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} من الأدلة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة وخذلانه وبعده من الله سبحانه ما يتعاظمه سامعه ويرجف له قلبه، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ومصلحتهم، وهو تعالى شأنه وتقدس سلطانه غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع"([8]).
وقال ابن سعدي رحمه الله: "أوجب الله حجه على المكلفين المستطيعين إليه سبيلاً... ومن كفر فلم يلتزم حج بيته، فهو خارج عن الدين {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}"([9]).
وأما دليل السنة: فقد وردت أحاديث كثيرة تدل على ذلك منها:(/1)
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان))([10]).
2- وفي حديث جبريل المشهور وفيه: ما الإسلام؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)) الحديث([11]).
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا)) فقال رجل: أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت. حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم))([12]).
وأما دليل الإجماع: فقال ابن المنذر رحمه الله: "وأجمعوا أن على المرء في عمره حجة واحدة"([13]).
وممن نقله كذلك ابن عبد البر([14])، وابن قدامة([15])، وابن تيمية([16])، وابن كثير([17])، وغيرهم رحمهم الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فكل من لم يَر حج البيت واجباً عليه مع الاستطاعة فهو كافر باتفاق المسلمين"([18]).
([1]) جامع البيان (7/37).
([2]) جامع البيان (7/47).
([3]) أحكام القرآن (1/285).
([4]) الجامع لأحكام القرآن (4/142).
([5]) شرح العمدة (1/76- المناسك).
([6]) تفسير القرآن العظيم (2/66).
([7]) فتح القدير (1/547).
([8]) فتح القدير (1/548).
([9]) تيسير الكريم الرحمن (1/259).
([10]) أخرجه البخاري في: الإيمان، باب: دعاؤكم إيمانكم (8) واللفظ له، ومسلم في: الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16).
([11]) أخرجه مسلم في: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان ... (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
([12]) أخرجه مسلم في: الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر (1337).
([13]) الإجماع (ص16).
([14]) انظر: التمهيد (21/52).
([15]) انظر: المغني (5/6).
([16]) انظر: شرح العمدة (1/87 – المناسك).
([17]) انظر: تفسير القرآن العظيم (2/66).
([18]) التفسير الكبير لابن تيمية (3/227).
ثالثا: متى فرض الحج؟
اختلف العلماء في ذلك، فقيل: فرض سنة ست، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة عشر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وسورة آل عمران إنما نزل صدرها متأخراً لما قدم وفد نجران بالنقل المستفيض المتواتر، وفيها فرض الحج، وإنما فرض سنة تسع أو عشر، لم يفرض في أول الهجرة باتفاق"([1]).
قال ابن القيم رحمه الله: "لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة، وهي حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر. ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير. فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر"([2]).
([1]) التفسير الكبير (7/471).
([2]) زاد المعاد (2/101)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/144)، والروض المربع (3/499).
رابعا: فضل الحج:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)). قيل: ثم ماذا؟ قال: ((جهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور))([1]).
قال النووي رحمه الله: "الأصح الأشهر أن المبرور: هو الذي لا يخالطه إثم، مأخوذ من البر وهو الطاعة، وقيل: هو المقبول. ومن علامة القبول أن يرجع خيرا مما كان ولا يعاود المعاصي. وقيل: هو الذي لا رياء فيه. وقيل: الذي لا يعقبه معصية. وهما داخلان فيما قبلهما"([2]).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قال ابن خالويه: المبرور المقبول، وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإثم، ورجحه النووي، وقال القرطبي: الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، والله أعلم"([3]).
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، قال: ((لكن أفضل الجهاد حج مبرور))([4]).
قولها: (نرى الجهاد أفضل العمل) هو: بفتح النون أي نعتقد ونعلم؛ وذلك لكثرة ما يسمع من فضائله في الكتاب والسنة([5]).
قوله: ((لكن أفضل الجهاد))، قال ابن حجر رحمه الله: "اختلف في ضبط ((لكن)) فالأكثر بضمّ الكاف خطاب للنسوة، قال القابسي: وهو الذي تميل إليه نفسي. وفي رواية الحموي ((لكِن)) بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها بلفظ الاستدراك، والأول أكثر فائدة؛ لأنه يشتمل على إثبات فضل الحج وعلى جواب سؤالها عن الجهاد، وسماه جهاداً لما فيه من مجاهدة النفس"([6]).
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه))([7]).(/2)
قال النووي رحمه الله: "قال القاضي: هذا من قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة:197]، والرفث اسم للفحش من القول، وقيل: هو الجماع. وهذا قول الجمهور في الآية، قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187]، وقيل: الرفث التصريح بذكر الجماع. قال الأزهري: هي كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. وكأن ابن عباس يخصصه بما خوطب به النساء"([8]).
قوله: ((ولم يفسق)) أي: لم يأت بسيئة ولا معصية([9]).
وقوله: ((رجع كيوم ولدته أمه)) أي: بغير ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات([10]).
قال ابن باز رحمه الله: "الرفث: هو الجماع قبل التحلل، وما يدعو إلى ذلك من قول وعمل مع النساء كله رفث، والفسوق جميع المعاصي القولية والفعلية يجب على الحاج تركها والحذر منها"([11]).
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))([12]).
قال النووي رحمه الله: "ومعنى: ((ليس له جزاء إلا الجنة)): أنه لا يُقْتَصَر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لا بد أن يدخله الجنة، والله أعلم"([13]).
وقال ابن باز رحمه الله: "وهذا يدل على الفضل العظيم للحج والعمرة، وأن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. فجدير بأهل الإيمان أن يبادروا بحج بيت الله، وأن يؤدوا هذا الواجب العظيم أينما كانوا إذا استطاعوا السبيل إلى ذلك"([14]).
5- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة))([15]).
قال الطيبي رحمه الله: "أي: إذا حججتم فاعتمروا، أو إذا اعتمرتم فحجوا، وإزالته الفقر كزيادة الصدقةِ المالَ، {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]، مثّل متعة الحج والعمرة في إزالة الذنوب بإزالة النار خبث الذهب الإبريز الذي استصحبه من معدنه؛ لأن الإنسان مركوز في جبلته القوة الشهوانية والغضبية، يحتاج إلى رياضةٍ تزيلها عنه، هذا إذا كان معصوماً، فكيف بمن تابع هوى النفس، خليع العذار، منهمكاً في المعاصي؟! والحج جامع لأنواع الرياضات من إنفاق المال، وجهد النفس بالجوع والعطش والسهر، وقطع المهامة واقتحام المهالك، ومفارقة الأوطان، ومهاجرة الإخوان والأخدان"([16]).
وقال المباركفوري: "قوله: ((تابعوا بين الحج والعمرة)) أي: قاربوا بينهما، إما بالقران أو بفعل أحدهما بالآخر ... ((فإنهما)) أي: الحج والاعتمار، ((ينفيان الفقر)) أي: يزيلانه، وهو يحتمل الفقر الظاهر بحصول غنى اليد، والفقر الباطن بحصول غنى القلب، ((والذنوب)) أي: يمحوانها، وقيل: المراد بهما الصغائر، ولكن يأباه قوله: ((كما ينفي الكير)) وهو ما ينفخ فيه الحداد لاشتعال النار للتصفية، ((خبث الحديد والذهب والفضة)) أي: وسخها"([17]).
6- عن ماعز رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة برة تفضل سائر الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها))([18]).
7- عن ابن شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقه الموت، فبكى طويلاً... وفيه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله))([19]).
8- عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني جبان، وإني ضعيف، فقال: ((هلمّ إلى جهاد لا شوكة فيه: الحج))([20]).
9- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم))([21]).
قال المناوي رحمه الله: "الحاج والمعتمر وفد الله أي: قادمون عليه امتثالاً لأمره، دعاهم إلى الحج والاعتمار فأجابوه، وسألوه فأعطاهم ما سألوه، ومقصود الحديث بيان أن الحاج حجاً مبروراً لا ترد دعوته"([22]).
10- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وفد الله ثلاثة: الغازي، والحاج، والمعتمر))([23]).
11- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أهل مهل قط، ولا كبر مكبر قط، إلا بشر بالجنة))([24]).(/3)
12- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، ورجل خرج غازياً في سبيل الله تعالى، ورجل خرج حاجاً))([25]).
13- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كلمات أسأل عنهن، قال: ((اجلس)). وذكر الحديث. وفيه قال صلى الله عليه وسلم عن الحاج: ((فإن له حين يخرج من بيته، أن راحلته لا تخطو خطوة إلا كتب له بها حسنة، أو حطت عنه بها خطيئة، فإذا وقف بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً، اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم، وإن كان عدد قطر السماء ورمل عالج، وإذا رمى الجمار لا يدري أحد ما له حتى يوفاه يوم القيامة، وإذا حلق رأسه فله بكل شعرة سقطت من رأسه نور يوم القيامة، وإذا قضى آخر طوافه بالبيت خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه))([26]).
14- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج حاجاً فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة))([27]).
15- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من يوم عرفة، وإنه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟))([28]).
مسألة: هل التطوع بالحج أفضل أم الصدقة؟
قال ابن رجب الحنبلي: "قال أبو الشعثاء: نظرت في أعمال البر، فإذا الصلاة تجهد البدن دون المال، والصيام كذلك، والحج يجهدهما فرأيته أفضل.
وروى عبد الرزاق بإسناده عن أبي موسى الأشعري: أن الحاج يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فقال له رجل: يا أبا موسى، إني كنت أعالج الحج، وقد كبرت وضعفت، فهل من شيء يعدل الحج؟ فقال له: هل تستطيع أن تعتق سبعين رقبة مؤمنة من ولد إسماعيل؟! فأما الحل والرحيل فلا أجد له عدلاً أو قال: مثلا.
وبإسناده عن طاوس أنه سئل: هل الحج بعد الفريضة أفضل أم الصدقة؟ قال: فأين الحل والرحيل، والسهر والنصب، والطواف بالبيت، والصلاة عنده، والوقوف بعرفة وجمع، ورمي الجمار؟! كأنه يقول: الحج أفضل".
قال ابن رجب الحنبلي: "قد اختلف العلماء في تفضيل الحج تطوعاً أو الصدقة:
فمنهم من رجّح الحج كما قاله طاوس وأبو الشعثاء وقاله الحسن أيضاً.
ومنهم من رجّح الصدقة وهو قول النخعي.
ومنهم من قال: إن كان ثَمَّ رحمٌ محتاجة أو زمنُ مجاعةٍ فالصدقة أفضل، وإلا فالحج أفضل وهو نص أحمد، وروي عن الحسن معناه، وأن صلة الرحم والتنفيس عن المكروب أفضل من التطوع بالحج"([29]).
([1]) أخرجه البخاري في: الحج، باب: فضل الحج المبرور (1519).
([2])شرح مسلم (9/126-127).
([3]) فتح الباري (3/487).
([4]) أخرجه البخاري في: الحج، باب: فضل الحج المبرور (1520).
([5]) انظر: فتح الباري لابن حجر (3/487).
([6]) فتح الباري (3/487).
([7]) أخرجه البخاري في: الحج، باب: فضل الحج المبرور (1521) واللفظ له، ومسلم في الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1350).
([8]) شرح مسلم (9/127)، وانظر: فتح الباري (3/382).
([9]) انظر: فتح الباري لابن حجر (3/488).
([10]) انظر: فتح الباري لابن حجر (3/488).
([11]) انظر مجلة التوعية الإسلامية في الحج. (ص16) العدد (208)، ذو الحجة (1414هـ).
([12]) أخرجه البخاري في: العمرة، باب: وجوب العمرة وفضلها (1773)، ومسلم في: الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349).
([13]) شرح مسلم (9/126-127).
([14]) انظر: مجلة التوعية الإسلامية في الحج (ص12). العدد (208)، ذو الحجة (1414هـ).
([15]) أخرجه أحمد (1/25)، والترمذي في: الحج، باب: ما جاء في ثواب الحج والعمرة (810)، والنسائي في: الحج، باب: فضل المتابعة بين الحج والعمرة (2631) قال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2512)، وابن حبان (3693).
([16]) شرح المشكاة (5/227).
([17]) تحفة الأحوذي (3/454).
([18]) أخرجه أحمد (4/342)، والطبراني في الكبير (20/344). قال المنذري في الترغيب (2/110): "ورواة أحمد إلى ماعز رواة الصحيح"، وقال الهيثمي في المجمع (3/207): "ورجال أحمد رجال الصحيح". وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1103).
([19]) أخرجه مسلم في: الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة (121).
([20]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (5/807)، والطبراني في الكبير (3/135) والأوسط (4/309)، قال المنذري في الترغيب (2/108): "ورواته ثقات"، وكذا قال الهيثمي في المجمع (3/206). وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1098).(/4)
([21]) أخرجه ابن ماجه في: المناسك، باب: فضل دعاد الحاج (2893) واللفظ له، والطبراني في الكبير (12/422). وصححه ابن حبان (10/474-4613)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1108).
([22]) فيض القدير (4/409).
([23]) أخرجه النسائي في: مناسك الحج، باب: فضل الحج (2625)، وصححه ابن خزيمة (2511)، وابن حبان (3692) والحاكم (1/608)، والألباني في صحيح الترغيب (1109).
([24]) أخرجه الطبراني في الأوسط (7779) وقال المنذري في الترغيب (2/138) والهيثمي (3/224)، "رواه الطبراني في الأوسط بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح". وصححه الألباني في الصحيحة (1621).
([25]) أخرجه الحميدي (2/466)، وأبو نعيم في الحلية (9/251). وصححه الألباني في الصحيحة (598).
([26]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8830)، والطبراني (13566)، والبيهقي في الدلائل (6/294). وصححه ابن حبان (2/205-1887). وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1360).
([27]) أخرجه أبو يعلى (1/105)، والطبراني في الأوسط (5/282)، قال المنذري في الترغيب (2/111): "رواه أبو يعلى من رواية محمد بن إسحاق، وبقية رواته ثقات"، وقال الهيثمي في المجمع (5/282): "رواه أبو يعلى، وفيه ابن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات". وقال أيضاً (3/208): "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه جميل بن أبي ميمونة، وقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في الثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1114).
([28]) رواه مسلم في الحج ، باب: فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1348).
([29]) لطائف المعارف (244-245).
خامسا: بعض حِكَم الحج ومنافعه:
قال تعالى: {لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:28، 29].
قال ابن جرير رحمه الله: "وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: عنى بذلك: ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضى الله والتجارة، وذلك أن الله عمّ لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئاً من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت"([1]).
وقال القرطبي رحمه الله: "{مَنَافِعَ لَهُمْ} أي: المناسك؛ كعرفات والمشعر الحرام، وقيل: المغفرة، وقيل: التجارة، وقيل: هو عموم، أي: ليحضروا منافع لهم، أي: ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة... فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى"([2]).
وقال الشوكاني رحمه الله: "المنافع: هي التي تعمّ منافع الدنيا والآخرة"([3]).
وقال ابن سعدي رحمه الله: "أي: لينالوا ببيت الله منافع دينية من العبادات الفاضلة والعبادات التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية من التكسب وحصول الأرباح الدنيوية، وكل هذا أمر مشاهد، كُلٌّ يعرفه"([4]).
وقال الشنقيطي رحمه الله: "{مَنَافِعَ} جمع منفعة، ولم يبين هنا هذه المنافع ما هي؟ وقد جاء بيان بعضها في بعض الآيات القرآنية، وأن منها ما هو دنيوي، وما هو أخروي، أما الدنيوي فكأرباح التجارة... ومن المنافع الدنيوية ما يصيبونه من البُدن والذبائح"([5]).
وقال ابن باز رحمه الله: "فأوضح سبحانه في هذه الآيات أنه دعا عباده للحج ليشهدوا منافع لهم، ثم ذكر سبحانه منها أربع منافع: الأولى: ذكره عز وجل في الأيام المعلومات، وهي عشر ذي الحجة وأيام التشريق. الثانية والثالثة والرابعة: أخبر عنها سبحانه بقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. وأعظم هذه المنافع وأكبرها شأناً ما يشهده الحاج من توجه القلوب إلى الله سبحانه، والإقبال عليه والإكثار من ذكره بالتلبية وغيرها من أنواع الذكر، وهذا يتضمن الإخلاص لله في العبادة، وتعظيم حرماته والتفكر في كل ما يقرب لديه ويباعد من غضبه.
ومن منافع الحج وفوائده العظيمة: أنه يذكر الآخرة ووقوف العباد بين يدي الله يوم القيامة؛ لأن المشاعر تجمع الناس في زيٍّ واحد، مكشوفي الرؤوس من سائر الأجناس، يذكرون الله سبحانه ويلبون دعواته، وهذا المشهد يشبه وقوفهم بين يدي الله يوم القيامة في صعيد واحد حفاةً عراةً غرلاً خائفين وجلين مشفقين، وذلك مما يبعث في نفس الحاج خوف الله ومراقبته، والإخلاص له في العمل... وفي الحج فوائد أخرى ومنافع متنوعة خاصة وعامة، ويطول الكلام بتعدادها"([6]).
إعلاء شعار التوحيد والبراءة من الشرك:(/5)
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "فالحج بأعماله وأقواله كله ذكر لله عز وجل، وكله دعوة إلى توحيد والاستقامة على دينه والثبات على ما بعث به رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام، فأعظم أهدافه توجيه الناس إلى توحيد الله والإخلاص له، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما بعثه الله به من الحق والهدى في الحج وغيره، فالتلبية أول ما يأتي به الحاج والمعتمر يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، يعلن توحيده وإخلاصه لله وأن الله سبحانه لا شريك له".
فيه دربة على الجهاد في سبيل الله:
فتحمل المشاق فيه، وبذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيق الحج دليل واضح على تعويد الإنسان على تحمل المشاق في سبيل الله.
أنه ميدان خصب للدعوة إلى الله:
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على القبائل في منى يدعوهم إلى توحيد الله ونصرة دينه.
قال ابن باز رحمه الله: "فالحجاج في أشد الحاجة إلى الدعوة والتوجيه إلى الخير والإعانة على الحق، فإذا التقى مع إخوانه من سائر أقطار الدنيا وتذكروا فيما يجب عليهم مما شرع الله لهم كان ذلك من أعظم الأسباب في توحيد كلمتهم واستقامتهم على دين الله، وتعارفهم وتعاونهم على البر والتقوى. فالحج فيه منافع عظيمة فيه خيرات كثيرة، فيه دعوة إلى الله، وتعليم وإرشاد وتعارف وتعاون على البر والتقوى بالقول والفعل المعنوي والمادي"([7]).
وقال رحمه الله: "ولا ريب أن الحجاج في أشد الحاجة إلى الدعوة والتوجيه والإرشاد، فالواجب أن تكون دعوتهم بالأساليب الحسنة التي يرجى منها قبول الحق وترك الباطل، قال الله جل وعلا: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ} [النحل:125]"([8]).
أنه مؤتمر عالمي للمسلمين:
قال ابن باز رحمه الله: "إن الله عز وجل جعل موسم الحج مؤتمراً لعباده يجتمعون فيه من أنحاء الدنيا، ومن سائر أجناس البشر، يريدون القربة إلى الله وسؤاله والضراعة إليه، ويطلبون حطَّ ذنوبهم وغفران سيئاتهم، يرفعون إليه جميع حوائجهم ويسألونه سبحانه من فضله، ويتوبون إليه من تقصيرهم وذنوبهم، ويتعارفون فيه، ويتشاورون فيه، ويتناصحون ويأتمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، وذلك من جملة المنافع التي أشار إليها سبحانه في قوله عز وجل: {وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ * لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ} [الحج:27، 28]"([9]).
وقال الشيخ عبد الله البسام: "فهو ـ أي: الحج ـ مجمع حافل كبير يضم جميع وفد المسلمين من أقطار الدنيا في زمن واحد، ومكان واحد، فيكون فيه التآلف والتعارف والتفاهم مما يجعل المسلمين أمة واحد وصفاً واحداً فيما يعود عليهم بالنفع في أمر دينهم ودنياهم"([10]).
ويمكن تصنيف هذه الفوائد والمنافع إلى:
أ- فوائد الحج الدينية:
1- أنه يكفر الذنوب، ويطهّر النفس من شوائب المعاصي.
2- يقوي الإيمان، ويعين على تجديد العهد مع الله، ويساعد على التوبة الخالصة الصدوق، ويهذب النفس، يرقق المشاعر ويهيّج العواطف.
3- بالحج يؤدي العبد لربه شكر النعمة: نعمة المال، ونعمة العافية، ذلك لأن العبادات بعضها بدنية، وبعضها مالية، والحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال، ولهذا لا يجب إلاّ عند وجود المال وصحة البدن، فكان فيه شكر النعمتين، وشكر النعمة ليس إلاّ استعمالها في طاعة المنعم، وشكر النعمة واجب عقلاً وشرعاً.
4- في الحج إظهار للعبودية، لأن الحاج في حال إحرامه، يظهر الشعث، ويرفض أسباب التزين والارتفاق، ويظهر بصورة عبدٍ سخط عليه مولاه، فيتعرض بسوء حاله لعطف مولاه([11]).
ب- الفوائد الشخصية:
1- الحج يعوّد الإنسان الصبر، وتحمّل المتاعب، ويعلّم الانضباط، والتزام الأوامر، فيستعذب الألم في سبيل إرضاء الله تعالى، ويدفع إلى التضحية والإيثار.
2- يطهّر النفس ويعيدها إلى الصفاء والإخلاص، مما يؤدي إلى تجديد الحياة، ورفع معنويات الإنسان، وتقوية الأمل، وحسن الظن بالله.
3- يذكّر الحجّ المؤمن بماضي الإسلام التليد، وبجهاد النبي صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح، الذين أناروا الدنيا بالعمل الصالح.
4- توطين القلب على فراق الأهل والولد، إذ لا بد من مفارقتهم، فلو فارقهم فجأة يلزمه أمرٌ عظيم عند صدمة الفراق.
5- نزع مادة الشحّ عن صدر الشحيح، فإن المبتلى بالشح إذا خرج إلى هذا السفر لا يمكنه أن يبخل على نفسه، لخوف التلف، فيعتاد الجود على نفسه، فيتعدى عادته منه إلى غيره، فينال محمدة الأسخياء، وهذا أمرٌ معتاد، أن من كان من أبخل الناس، متى خرج في هذا السفر يعتاد الجود.(/6)
6- أن يعتاد التوكل بأنه لا يمكنه أن يحمل مع نفسه جميع ما يحتاج إليه، فلا بدّ من التوكل على الله تعالى، فيما لم يحمله مع نفسه، فيتعدى توكله إلى ما يحتاج في الحضرة.
7- أن الحاج وإن اشتدت مشقته، وبعدت شقته فإذا وقع بصره على بيت الله زال الكلال فلا كلال ولا ملال، وكذا في يوم القيامة، وإن طال اليوم وعاين الأهوال، واشتدت الأهوال، فإذا نظر إلى ربه المتعال زال ما به نزل، وكأنه في روح وراحة لم يزل، فسبحان الله يزول الكلال والعي والتعب ممن رأى البيت فكيف بمن رأى خالق البيت؟!([12]).
ج- فوائد الحج الاجتماعية:
1- أنه يؤدي بلا شك إلى تعارف أبناء الأمة على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأوطانهم.
2- المذاكرة في شؤون المسلمين العامة.
3- التعاون صفاً واحداً أمام الأعداء.
4- يُشعر الحجّ بقوة الرابطة الأخوية مع المؤمنين في جميع أنحاء الأرض، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ويحسّ الناس أنهم حقاً متساوون، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى.
5- يساعد الحج على نشر الدعوة الإسلامية، ودعم نشاط الدعاة في أنحاء المعمورة، على النحو الذي بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم نشر دعوته بلقاء وفود الحجيج كل عام.
6- إمكان تبادل المنافع الاقتصادية الحرة فيما بينهم([13]).
أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقاً رائجة، حيث تجبى إلى البلد الحرام ثمرات كل شيء من أطراف الأرض، ويقدم الحجيج من كل فجٍ، ومن كل قطر، ومعهم من خيرات بلادهم ما تفرق في أرجاء الأرض في شتى المواسم، يتجمع كله في البلد الحرام، في موسم واحد، فهو موسم تجارة، ومعرض نتاج، وسوق عالمية في كل عام([14]).
د- عبر ودروس ومواعظ في الحج:
1- عند السفر:
ليتذكر المسافر باليوم الذي يعيّنه لسفره اليوم الذي فيه حلول أجله، وسفره إلى آخرته، وبما بين يديه من وعثاء السفر وخطره ومشقّاته ما بين يديه في سفر الآخرة من أهوال الموت، وظُلمة القبر وعذابه، وسؤال منكر ونكير، وأهوال يوم القيامة وخطرها، وليستودع ربه ما خلّفه من أهل ومال وولد، بإخلاص وصدق نيّة([15]).
2- عند ركوب الدابة:
ليتذكر عند ركوب الدابة المركب الذي يركبه إلى دار الآخرة، وهي الجنازة التي يحمل عليها، وما يدريه لعلّ الموت قريب، ويكون ركوبه للجنازة قبل ركوبه للجمل([16]).
3- إذا جنّ الليل في السفر:
تذكّر إذا جن الليل ـ وأنت بعيد عن أهلك ومن كان يؤنسك ـ مبيتك في ظلمة القبر مفرداً عن أهلك، ومن كان يؤنسك، غريباً بين جيرانك، واحرص على فراغ قلبك للاعتبار والذكر، وتعظيم الشعائر، وعلى قطع العلائق الشاغلة عن الله، وتوجّه بقلبك كله إلى ربك، كما تتوجّه بظاهرك إلى بيته، فإن المقصود ربّ البيت([17]).
4- التأمل في مخلوقات الله:
المسافر يتأمل، ثم يتدبّر ثم يخشى، كل ذلك حينما يرى عجيب صنع الله وعظيم قدرته، وقد أنكر الله عزوجل على أناسٍ يسيحون في الأرض ولا يتأملون في خلقه فيعرفون حقه، قال تعالى: {وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105].
قال الشاعر:
تأمّل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لُجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك([18])
5- الميقات:
ليتذكر الحاج بوصوله إلى الميقات أن الله تعالى قد أهلّه للقدوم عليه، والقرب من حضرته، فليلزم الأدب معه ليصلح لإقباله عليه بمزيد الإحسان إليه([19]).
وليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات يوم القيامة، وما بينهما من الأهوال والمطالبات([20]).
6- الإحرام ولبس الإزار والرداء:
فليتذكر عنده الكفن، ولفه فيه، فإنه سيرتدي ويتزر بثوبي الإحرام عند القرب من بيت الله عز وجل، وربما لا يتم سفره إليه، وأنه سيلقى الله عز وجل ملفوفاً في ثياب الكفن لا محالة، فكما لا يلقى بيت الله عز وجل إلاّ مخالفاً عادته في الزي والهيئة، فلا يلقى الله عز وجل بعد الموت إلاّ في زي مخالف لزيّ الدنيا، وهذا الثوب قريب من ذلك الثوب، إذ ليس فيه مخيط كما في الكفن([21]).
7- التلبية:
"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة، لك والملك، لا شريك لك".
إن هذه الكلمات بمنزلة النشيد الذي ينشده الجند في ساحة الحرب، فتشع فيهم روح الحماسة والإقدام، والغاية من ترديد هذه التلبية أن يلقي الإنسان مقادته لله، وأن يتحطم كبرياؤه، لكي يعيش كما أمره الله أن يعيش مخلوقاً وديعاً، واقفاً عند الحدود التي شرعها له([22]).
وللتلبية فوائد أخر، ذكر منها ابن القيم إحدى وعشرين فائدة([23]).
8- دخول مكة:
إذا دخلت مكة فأحضر في نفسك تعظيمها وأمنها وشرفها([24]).(/7)
فليتذكر عندها أنه قد انتهى إلى حرم الله تعالى آمناً، وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله عز وجل، وليخش أن لا يكون أهلاً للقرب، فيكون بدخوله الحرم خائباً، ومستحقاً للمقت، وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالباً، فالكرم عميم، والرب رحيم، وشرف البيت عظيم، وحقّ الزائر مرعيّ، وذمام المستجير اللائذ غير مضيع([25]).
9- الطواف:
ينبغي للطائف أن يستشعر بقلبه عظمة من يطوف ببيته، فيلزم الأدب في ظاهره وباطنه، وليحذر من الإساءة في ذلك المحل الشريف.
وانْوِ إذا رملت في الطواف أنك هارب من ذنوبك، وإذا مشيت فترج من ربك الأمن من عذاب ما هربت منه بقبول توبتك([26]).
10- السعي:
وأما السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت فإنه يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائياً وذاهباً مرة بعد أخرى، إظهاراً للخلوص في الخدمة، ورجاءً للملاحظة بعين الرحمة، كالذي دخل على الملك، وخرج وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو ردّ، فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى يرجو أن يُرحم في الثانية إن لم يُرحم في الأولى([27]).
ومثِّل الصفا والمروة بكفتيّ الميزان، ناظراً إلى الرجحان والنقصان، متردداً بين خوف العذاب ورجاء الغفران([28]).
11- يوم الوقوف بعرفة:
أمّا الوقوف بعرفة فاذكر بما ترى من ازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات، واختلاف اللغات، وإتباع الفرق أئمتهم في الترددات على المشاعر، اقتفاء لهم، وسيراً بسيرهم، عرصات القيامة، وإذا تذكرت ذلك فالزم قلبك الضراعة، والابتهال إلى الله عز وجل فتحشر في زمرة الفائزين المرحومين([29]).
وتذكّر بانتظار غروب الشمس انتظار أهل المحشر فصل القضاء بشفاعة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم([30]).
ومن حكم الوقوف بعرفة تجديد الشخصية، والانخلاع من الماضي المشوب بالإثم والباطل، وتجديد العهد مع الله على استئناف حياة نظيفة مستقيمة([31]).
12- رمي الجمار:
وتذكر عند رمي الجمار كلما رميتها رمي الشيطان، والتحصن منه بكلمات الله التامات وطاعاته، فإنك في الظاهر ترمي الحصى إلى الجمرة، وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان وتقصم به ظهره، إذ لا يحصل إرغام أنفه إلاّ بامتثال أمر الله تعالى تعظيماً لمجرد أمره من غير حظ للنفس فيه([32]).
13- ذبح الهدي:
ويربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب؛ إذ أن التقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره، وهذه المناسك والشعائر إن هي إلاّ رموز تعبيرية عن التوجّه إلى ربّ البيت وطاعته، وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم عليه السلام، وما تلاه. وهي ذكريات الطاعة والإنابة، والتوّجه إلى الله منذ نشأة هذه الأمة المسلمة([33]).
14- الحلق والتقصير:
التحلل من الإحرام بالحلق، فالحلق في الإحرام بمنزلة السلام في الصلاة، فعند الحلق يزول عن ظاهره كل ما عليه من التفث، ومكروه الطبع بأمر الله تعالى، فكأنه يقول عبدي، أزلت عن ظاهرك ما تكرهه بأمري، فأولى أن أزيل عن باطنك ما أكرهه من المعاصي بعفوي([34]).
وانْوِ عند حلق شعرك أنك قد أسقطت عنك التبعات، وأدناس الخطيئات، وفارقت أصحابك في غير التقوى والطاعات([35]).
15- طواف الوداع:
إذا أراد الرجوع إلى وطنه يطوف بالبيت، كأنه يستأذن بالرجوع، فإن الضيف إذا نزل يرتحل بأمر المضيف، هذا باب الله العزيز الوهّاب، نزل العبدُ على بابه، وتعلق بحجابه بأمره، فلا يمكنه الرجوع إلاّ بإذنه، فمن رجع من ضيافة السلطان يرجع بخلعة، فمن رجع من بيت الرحمن فأدناه أن يرجع بالمغفرة([36]).
16- الفدية والدم:
إن الحاج كلما جنى جناية على إحرامه لزمه دم، فإن نقائص الحج تجبر بالدم، يشير هذا إلى أن سبيل المحبة إراقة الدم، وبذل الروح، وترك الوطن، وفراق الأهل والولد، ومجانبة الشهوات، فمن قدر على إراقة الدم أراق الدم، ومن لم يقدر أطعم، ومن لم يقدر صام للرب الأكرم([37]).
([1]) جامع البيان (10/147).
([2]) الجامع لأحكام القرآن (12/41).
([3]) فتح القدير (3/642).
([4]) تيسير الكريم الرحمن (3/317).
([5]) أضواء البيان (5/489-490).
([6]) انظر: مجلة التوعية الإسلامية في الحج (ص 11/14). العدد (209) من ذي الحجة (1414هـ).
([7]) انظر: مجلة البحوث الإسلامية العدد (29)، (ص 13-14).
([8]) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، جمع الشويعر (16/325).
([9]) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، إعداد: الطيار وأحمد ابن باز (5/2/37).
([10]) توضيح الأحكام من بلوغ المرام (3/244).
([11]) انظر: الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي (3/11-13).
([12]) انظر: محاسن الإسلام لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري (ص 28-29).
([13]) انظر: الفقه الإسلام وأدلته للزحيلي (3/13-14).
([14]) في ظلال القرآن لسيد قطب (4/2418-2419)، وانظر: التبصرة لابن الجوزي (2/152)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/413).(/8)
([15]) هداية السالك لابن جماعة الكناني (1/139). وانظر: إحياء علوم الدين للغزالي (1/355).
([16]) إحياء علوم الدين (1/354).
([17]) هداية السالك (1/150).
([18]) المنهاج للمعتمر والحاج للشريم (ص 11-12).
([19]) هداية السالك (1/152).
([20]) إحياء علوم الدين (1/355).
([21]) إحياء علوم الدين (1/354-355).
([22]) روح الدين الإسلامي لعفيف طبارة (ص 263).
([23]) انظر: تهذيب السنن (2/337-340).
([24]) هداية السالك (1/156).
([25]) إحياء علوم الدين (1/356).
([26]) هداية السالك (1/159-160).
([27]) إحياء علوم الدين (1/357).
([28]) هداية السالك (1/165).
([29]) إحياء علوم الدين (1/357) باختصار.
([30]) هداية السالك (1/165).
([31]) روح الدين الإسلامي (ص 264).
([32]) هداية السالك (1/168).
([33]) في ظلال القرآن (4/2422).
([34]) محاسن الإسلام (ص 33).
([35]) هداية السالك (1/169).
([36]) محاسن الإسلام (ص 34).
([37]) محاسن الإسلام (ص 32).
سادسا: وصايا تهمّ الحاج:
1- يستخير الله عز وجل إذا هم بالسفر.
2- ويكتب وصيته([1]).
3- أن يتعلّم أحكام الحج والعمرة، ويسأل عن ما يشكل عليه حتى لا يقع في الخطأ.
4- أن يستصحب معه كتاباً من كتب المناسب التي كتبها من هم مشهود لهم بالعلم.
5- أن يحذر من شراء ما يسمّى بـ"كتب المناسك" والتي تباع عند المواقيت، أو داخل مكة، وذلك لأن فيها مخالفات كثيرة كتخصيص أدعية لأشواط الطواف والسعي([2]).
6- أن يبدأ بالتوبة إلى الله.
7- رد المظالم، وقضاء الديون، وردّ الودائع.
8- إعداد النفقة اللازمة، ويستصحب من المال الحلال ما يكفيه لذهابه ورجوعه من غير تقتير، على وجه يمكنه معه التوسع في الزاد.
9- يستصحب ما يصلحه كالسواك، والمشط، والمرآة، والمكحلة.
10- ينبغي أن يلتمس رفيقاً صالحاً محباً للخير معيناً عليه، إن نسي ذكّره، وإن ذكّر أعانه، وإن ضاق صدره صبّره.
11- أن يؤمّر الرفقاء عليهم أحسنهم خلقاً، وأرفقهم بالأصحاب، لينتظم التدبير.
12- ينبغي للمسافر تطييب الكلام، وإطعام الطعام، وإظهار محاسن الأخلاق، فإن السفر يخرج خفايا الباطن.
13- ينبغي له أن يودّع رفقاءه وإخوانه المقيمين، ويلتمس دعاءهم.
14- يستعمل الأدعية والأذكار المأثورة عند خروجه من منزله، وفي ركوبه ونزوله([3]).
([1]) المنهاج للمعتمر والحاج للشيخ سعود الشريم (ص 14-15) باختصار.
([2]) من مخالفات الحج والعمرة والزيارة للشيخ عبد العزيز السدحان (ص 7) باختصار.
([3]) مختصر منهاج القاصدين للمقدسي (ص 50-51) باختصار.
سابعا: كيف تحج؟
أ- صفة الحج ملخصاً:
1- يلبس الحاج ثياب الإحرام، ويهل بالحج من ميقات بلده، أو من حيث هو إذا كان دون المواقيت، وفي يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة يذهب إلى منى فيبيت بها ويصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر كل صلاة في وقتها بلا جمع مع قصر الرباعية إلى ركعتين.
2- وفي اليوم التاسع يذهب إلى عرفة بعد الشروق، ويصلي الظهر والعصر جمعاً وقصراً بأذان واحد وإقامتين مع التأكد من التواجد داخل حدود عرفة.
3- يقف بعرفة يذكر ويدعو إلى غروب الشمس، فإذا غربت دفع بهدوء إلى مزدلفة، فيصلي المغرب والعشاء جمعاً بأذان وإقامتين مع قصر العشاء إلى ركعتين، ويبيت بمزدلفة ويصلي بها الفجر، ويذكر الله عند المشعر الحرام، ويجوز لأهل الأعذار الدفع منها بعد منتصف الليل.
4- ينصرف من مزدلفة قبل الشروق إلى منى، وهذا يوم العيد، فيرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات مكبراً مع كل حصاة.
5- يذبح هديه بمنى أو بمكة يوم العيد، ويأكل ويهدي ويتصدق، فإن لم يمتلك ثمن الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
6- يحلق شعره أو يقصره وبهذا يتحلل التحلل الأول، فيجوز له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا زوجته.
7- يتوجه إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة ويسعى بعده إن كان متمتعاً أو غيره ولم يكن سعى مع طواف القدوم، وبهذا يتحلل التحلل الثاني فيحل له كل شيء حتى النساء.
8- ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ليالي التشريق مع رمي الجمرات الثلاث: الصغرى والوسطى والكبرى في تلك الأيام.
9- إذا أراد الخروج من مكة طاف طواف الوداع بلا سعي وسافر مباشرة([1]).
ب- صفة حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:(/9)
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين([2]) لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج. فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر. فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: ((اغتسلي واستثفري([3]) بثوب وأحرمي)). فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد. ثم ركب القصواء([4]) حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به. فأهل بالتوحيد([5]): ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك))، وأهل الناس بهذا الذي يُهلّون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبية. قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] فجعل المقام بينه وبين البيت. فكان أبي([6]) يقول: "ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم": كان يقرأ في الركعتين (قل هو الله أحد، وقل يا أيها الكافرون). ثم رجع إلى الركن فاستلمه. ثم خرج من الباب([7]) إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]. أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات.
ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت([8]) قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا([9]) مشي حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة. فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: ((دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد)).(/10)
ويقدم عليٌّ من اليمن ببدن([10]) النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها. فقالت: إن أبي أمرني بهذا. قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً([11]) على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها. فقال: صدقت صدقت. ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك. قال: فإن معي الهدي فلا تحل. قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة. قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة([12]) فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام([13])، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز([14]) رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة. فوجد القبة قد ضربت له بنمرة. فنزل بها. حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت([15]) له. فأتى بطن الوادي([16]) فخطب الناس وقال: ((... إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به. كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد، ثلاث مرات)). ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات([17])، وجعل جبل المشاة([18]) بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق([19]) للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك([20]) رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة. كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن([21]) يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها - حصى الخذف - رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده ثم أعطى علياً فنحر ما غبر([22]) وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة([23])، فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت([24])، فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا([25]) بني عبد المطلب! فلولا أن يغلبكم الناس([26]) على سقايتكم لنزعت معكم. فناولوه دلواً فشرب منه"([27]).
([1]) مختصر شرح أركان الإسلام لبعض طلبة العلم، مراجعة الشيخ عبد الله الجبرين (ص 173-174) بتصرف.
([2]) مكث تسع سنين: أي بالمدينة.
([3]) الاستثفار: أن تشد في وسطها شيئاً وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها لمنع سيلان الدم.
([4]) القصواء: اسم ناقة النبي صلى الله عليه وسلم.
([5]) أهل بالتوحيد: الإهلال رفع الصوت بالتلبية.
([6]) هذا من كلام بعض رواة الحديث.(/11)
([7]) ثم خرج من الباب: أي من باب بني مخزوم وهو الباب الذي يسمى أيضاً باب الصفا وخروجه عليه السلام منه لأنه أقرب الأبواب إلى الصفا.
([8]) حتى إذا انصبت قدماه: أي انحدرت.
([9]) حتى إذا صعدتا: أي ارتفعت قدماه عن بطن الوادي.
([10]) ببدن: هو جمع بدنة.
([11]) محرشاً: التحريش الإغراء والمراد هنا أن يذكر له ما يقتضي عتابها.
([12]) بنمرة: وهي موضع بجنب عرفات وليست من عرفات ورجح بعضهم أنها من عرفات.
([13]) ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام: معنى هذا أن قريشاً كانت في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام وهو جبل في المزدلفة يقال له قزح، وقيل إن المشعر الحرام كل مزدلفة، وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات فظنت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف في المشعر الحرام على عادتهم ولا يتجاوزه فتجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفات لأن الله تعالى أمره بذلك في قوله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} أي سائر العرب غير قريش وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة لأنها من الحرم وكانوا يقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه.
([14]) فأجاز: أي جاز المزدلفة ولم يقف بها بل توجه إلى عرفات.
([15]) فرحلت: أي وضع عليها الرحل.
([16]) بطن الوادي: هو وادي عرنة وليست عرنة من أرض عرفات على أحد الأقوال.
([17]) الصخرات: هي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات فهذا هو الموقف المستحب.
([18]) جبل المشاة: أي مجتمعهم.
([19]) شنق: أي ضم وضيق.
([20]) المورك: الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب.
([21]) ظعن: جمع ظعينة وهي البعير الذي عليه إمرأة ثم سميت به المرأة مجازاً لملابستها البعير.
([22]) ما غبر: أي بقي.
([23]) البضعة: أي القطعة من اللحم.
([24]) فأفاض إلى البيت: أي طاف بالبيت طواف الإفاضة ثم صلى الظهر.
([25]) انزعوا: أي استقوا بالدلاء وانزعوها بالرشاء (الحبال).
([26]) لولا أن يغلبكم الناس: معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لا ستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء.
([27]) هذا الحديث العظيم رواه مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218).
ثامنا: مسائل متعلقة بحكمه:
1- شروطه:
وشروط الحج خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة.
قال ابن قدامة رحمه الله: "لا نعلم في هذا كله اختلافاً"([1]).
أ- الإسلام:
فلا يجب الحج على الكافر، ولا يصح منه لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54].
قال ابن سعدي رحمه الله: "الأعمال كلها، شرط قبولها الإيمان، فهؤلاء لا إيمان لهم ولا عمل صالح"([2]).
ب- العقل:
لأن العقل شرط للتكليف، قال صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المعتوه حتى يعقل))([3]).
ج- البلوغ:
للحديث السابق، فلا يجب على الصبي ولكن يصحّ منه فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رفعت امرأة صبياً لها فقالت: يا رسول الله ألهذا حج، قال: ((نعم، ولكِ أجر))([4]).
قال الترمذي رحمه الله: "أجمع أهل العلم أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك فعليه الحج إذا أدرك، لا تجزئ عنه تلك الحجة عن حجة الإسلام"([5]).
وقال ابن المنذر رحمه الله: "أجمع أهل العلم ـ إلا من شذ عنهم ممن لا يعتدّ بقوله خلافاً ـ على أن الصبي إذا حج في حال صغره ثم بلغ أن عليه حجة الإسلام، إذا وجد إليها سبيلاً"([6]).
د- الحرية:
فالعبد المملوك "غير مستطيع؛ لأن السيد يمنعه بشغله بحقوقه عن هذه العبادة، وقد قدم الله سبحانه وتعالى حق السيد على حقه رفقاً بالعباد ومصلحة لهم"([7]).
قال الترمذي رحمه الله: "أجمع أهل العلم ... وكذلك المملوك إذا حج في رقه ثم أعتق فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلاً، ولا يجزئ عنه ما حج في حال رقّه"([8]).
وقال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم ـ إلا من شذ عنهم ممن لا يعتد بقوله خلافاً ـ أن العبد إذا حج في حال رِقه ثم عتق أن عليه حجة الإسلام، إذا وجد إليه سبيلاً"([9]).
هـ- الاستطاعة:
أجمع أهل العلم على أن الاستطاعة شرط لوجوب الحج([10])، لقوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]، ولأن التكليف بما لا يطاق منتف شرعاً وعقلاً([11]).
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الاستطاعة العامة على قولين:
القول الأول: أن الاستطاعة هي: الزاد والراحلة، وممن ذهب إلى ذلك الحنفية([12])، والشافعية([13])، والحنابلة([14]).(/12)
واستدلوا: بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما يوجب الحج؟ قال: ((الزاد والراحلة))([15]).
والقول الثاني: أنه لا يشترط وجود الزاد والراحلة، بل يجب الحج على القادر على المشي إن أمكنه الوصول بلا مشقة عظيمة زائدة على مشقة السفر العادية، وهو الصحيح من مذهب المالكية([16]).
وقالوا: إن الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة لا يثبت.
قال ابن العربي موضحاً معنى الاستطاعة: "فإن السبيل في اللغة هي الطريق، والاستطاعة ما يكسب سلوكها وهي صحة البدن ووجود القوت لمن يقدر على المشي، ومن لم يقدر على المشي فالركوب زيادة على صحة البدن ووجود القوت..."([17]).
وقال القرطبي: "وأما المستطيع بنفسه وهو القوي الذي لا تلحقه مشقة غير محتملة في الركوب على الراحلة فإن هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج بنفسه، وإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهما سقط عنه فرض الحج..."([18]).
وقال الشوكاني: "وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي؟ فقيل: الزاد والراحلة وإليه ذهب جماعة من الصحابة، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، وهو الحق... ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولاً أولياً أن تكون الطريق إلى الحج آمنة بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله الذي لا يجد زاداً غيره، أما لو كانت غير آمنة فلا استطاعة لأن الله سبحانه يقول: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]، وهذا الخائف على نفسه أو ماله لم يستطع إليه سبيلاً بلا شك ولا شبهة..."([19]).
وقال الشنقيطي رحمه الله: "الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن حديث الزاد والراحلة، وإن كان صالحاً للاحتجاج لا يلزم منه أن القادر على المشي على رجليه بدون مشقة فادحة لا يلزمه الحج إن كان عاجزاً عن تحصيل الراحلة، بل يلزمه الحج لأنه يستطيع إليه سبيلا، كما أن صاحب الصنعة التي يحصل منه قوته في سفر الحج، يجب عليه الحج لأن قدرته على تحصيل الزاد في طريقه كتحصيله بالفعل.
فإن قيل: كيف قلتم بوجوبه على القادر على المشي على رجليه دون الراحلة، مع اعترافكم بقبول تفسير النبي صلى الله عليه وسلم السبيل بالزاد والراحلة، وذلك يدل على أن المشي على الرجلين ليس من السبيل المذكور في الآية؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن الظاهر المتبادر أنه صلى الله عليه وسلم فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة، لأن الغالب أن أكثر الحجاج أفقيون، قادمون من بلاد بعيدة، والغالب عجز الإنسان عن المشي على رجليه في المسافات الطويلة وعدم إمكان سفره بلا زاد، ففسر صلى الله عليه وسلم الآية بالأغلب، والقاعدة المقررة في الأصول أن النص إذا كان جارياً على الأمر الغالب لا يكون له مفهوم مخالفة، ولأجل هذا منع جماهير العلماء تزويج الرجل ربيبته التي لم تكن في حجره قائلين: إن قوله تعالى: {اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ} [النساء:23] جرى على الغالب، فلا مفهوم مخالفة له كما قدمناه مراراً، وإذا كان أغلب حالات الاستطاعة الزاد والراحلة، وجرى الحديث على ذلك، فلا مفهوم مخالفة له، فيجب الحج على القادر على المشي على رجليه، إما لعدم طول المسافة، وإما لقوة ذلك الشخص على المشي، وكذلك يجب على ذي الصنعة التي يحصل منها قوته في سفره، لأنه في حكم واجد الزاد في المعنى، والعلم عند الله تعالى.
الوجه الثاني: أن الله جل وعلا سوى في كتابه بين الحاج الراكب والحاج الماشي على رجليه. وقدم الماشي على الراكب، وذلك في قوله تعالى: {وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ} [الحج:27]"([20]).
وخصال الاستطاعة التي تشترط لوجوب الحج قسمان: شروط عامة للرجال والنساء، وشروط تخص النساء.
فأما الشروط الخاصة بالنساء فهي: وجود المحرم، وأن لا تكون معتدةً عن طلاق أو فاة.
قال الكاساني رحمه الله: "وأما الذي يخص النساء فشرطان، أحدهما: أن يكون معها زوجها أو محرم لها، فإن لم يوجد أحدهما لا يجب عليها الحج. والثاني: أن لا تكون معتدة عن طلاق أو وفاة"([21]).
وقسم بعض أهل العلم([22]) هذه الشروط إلى ثلاثة أقسام:
1. شرطان للوجوب والصحة وهما: الإسلام والعقل، فلا يجب الحج ولا يصح من كافر ولا مجنون.
2. شرطان للوجوب والإجزاء وهما: البلوغ وكمال الحرية، فلو حج صبي أو رقيق صح منهما ولا يجزئ ذلك عن حجة الإسلام.
3. شرط وجوب: وهو الاستطاعة، فلا يجب على غير المستطيع، لكن لو تكلّف من استوفى باقي الشروط صحّ منه وأجزأ عنه.
2- هل الحج واجب على الفور أم على التراخي؟
اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك إلى قولين:
القول الأول: أنه يجب على الفور، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف([23])، والمالكية في أصح القولين([24])، والحنابلة([25]). وإليه ذهب ابن تيمية([26])، وابن باز([27])، وابن عثيمين([28]).
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97].(/13)
2- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا))([29]).
قالوا: والأصل في الأمر أن يكون على الفور، ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية حين أمرهم بالإحلال وتباطؤوا.
3- ولأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، فقد يكون الآن قادراً على أن يقوم بأمر الله عز وجل، وفي المستقبل يكون عاجزاً.
4- ولأن الله أمر بالاستباق إلى الخيرات فقال: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} [المائدة:48]، والتأخير خلاف ما أمر الله به([30]).
القول الثاني: أن وجوبه على التراخي، وبه قالت الشافعية ([31])، ومحمد بن الحنفية([32]).
واستدلوا بما يلي:
1- قالوا: إن الله فرض الحج في السنة السادسة، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا في السنة العاشرة.
2- وقالوا: إن الله فرض الحج وجعل فرضه مطلقاً.
3- القياس على الصلاة في الوقت إن شئت صلها في أول الوقت، وإن شئت فصلها في آخره، والعمر هو وقت الحج، فإن حج أول العمر، وإن شاء أخره.
والراجح ـ والله أعلم ـ القول الأول.
([1]) المغني (5/6). وانظر: بداية المجتهد لابن رشد (1/139). وبدائع الصنائع (2/120-123، 160). والمجموع للنووي (7/17-25)، ومغني المحتاج (1/461-465)، وكشاف القناع (2/440-450).
([2]) تيسير الكريم الرحمن (2/255).
([3]) أخرجه أحمد (1/154)، وأبو داود في: الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حداً (4403) من حديث علي رضي الله عنه، قال الترمذي (4/32): "والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم". وصححه الألباني في الإرواء (297).
([4]) أخرجه مسلم في: الحج، باب: صحة حج الصبي، وأجر من حج به (1336).
([5]) سنن الترمذي (3/256).
([6]) انظر: المغني لابن قدامة (5/44) بتصرف.
([7]) من كلام ابن العربي في أحكام القرآن (1/287).
([8]) سنن الترمذي (3/257).
([9]) انظر: المغني (3/257) بتصرف.
([10]) انظر: شرح العمدة لشيخ الإسلام (2/124- المناسك).
([11]) انظر: بدائع الصنائع (2/121)، بداية المجتهد (1/327)، المجموع (7/48) كشف القناع (2/386).
([12]) انظر: بدائع الصنائع (2/121-125)، اللباب (1/177)، الدر المختار (2/194-199).
([13]) انظر: مغني المحتاج (1/463-470)، المهذب (1/196-198).
([14]) انظر: المغني (5/8-9)، كشاف القناع (2/450-454).
([15]) أخرجه الترمذي في: الحج، باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد والراحلة (813)، وابن ماجه في المناسك، باب: ما يوجب الحج (2896)، والبيهقي في الكبرى (5/58)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم، أن الرجل إذا ملك زاداً وراحلة، وجب عليه الحج". وله طرق كثيرة فصّل القول فيها الشيخ الألباني في الإرواء (4/160-167)، وقال الحافظ في الفتح (3/443): "قال ابن المنذر: لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة"، وقال ابن تيمية في شرح العمدة (1/129 – المناسك): "فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة وموقوفة تدل على أن مناط الوجوب وجود الزاد والراحلة"، وقال الشوكاني في النيل (5/13): "ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضاً، فتصلح للاحتجاج"، وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (5/89-91) ما حاصله: "الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن حديث الزاد والراحلة المذكور ثابت لا يقل عن درجة الاحتجاج، ويؤيد ذلك أن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد الاحتجاج بالمرسل، ويؤيده أيضاً الأحاديث المتعددة التي ذكرنا وإن كانت ضعافاً لأنها تقوي غيرها، ولا سيما حديث ابن عباس، فإنا قد بينا أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج"، وقال الألباني رحمه الله: "وخلاصة القول: إن طرق هذا الحديث كلها واهية، وبعضها أوهى من بعض، وأحسنها طريق الحسن البصري المرسل، وليس في شيء من تلك الموصولات ما يمكن أن يجعل شاهداً له لوهائها، خلافاً لقول البيهقي بعد أن ساق بعضها".
([16]) انظر: الشح الكبير (2/5-10)، الشرح الصغير (2/10-13)، بداية المجتهد (1/309)، أضواء البيان.
([17]) أحكام القرآن لابن العربي (1/288).
([18]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/148).
([19]) فتح القدير للشوكاني (1/362).
([20]) أضواء البيان (5/92-93).
([21]) بدائع الصنائع (2/123-124) باختصار.
([22]) انظر: المجموع للنووي (7/19-49)، وحاشية ابن قاسم على الروض (3/503-504).
([23]) انظر: الدر المختار (2/191) وما بعدها، بدائع الصنائع (2/119).
([24]) انظر: الشرح الصغير (2/4).
([25]) انظر: كشاف القناع (2/65)، والمغني (3/218) وما بعدها، حاشية الروض (3/505).
([26]) انظر: شرح العمدة (2/198- المناسك).
([27]) انظر: فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز، جمع الشويعر (16/348 و358).
([28]) انظر: الشرح الممتنع (7/16).
([29]) أخرجه مسلم في الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([30]) الشرح الممتع (7/15-16).
([31]) انظر: المجموع (7/82) وما بعدها، مغني المحتاج (1/460 و470).(/14)
([32]) انظر: بدائع الصنائع (2/119).(/15)
حكم الرشوة في الكتاب والسنة
يوسف البرقاوي
1649
ملخص المادة العلمية
1- حرمة المسلم في دمه وماله وعرضه. 2- تحريم الرشوة والحث على الطيب في الكسب. 3- حكم هدايا العمال والحكام والمسؤولين. 4- حكم الرشوة إذا كانت لدفع الظلم. 5- محاسبة العمال من قبل السلطان. 6- مشروعية الهدية.
مقدمة:
الأصل في المسلم أنه معصوم الدم والمال، فلا يجوز الاعتداء عليه بحال من الأحوال، واعتبر الإسلام الموت في سبيل الدفاع عن المال والدم والعرض نوعاً من أنواع الشهادة.
والأدلة على حرمة المسلم وماله كثيرة، قال تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام [البقرة:188]. وقال تعالى: من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً [المائدة:32].
1- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة))[1].
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه))[2].
3- وعن السائب بن يزيد عن أبيه قال: قال رسول الله : ((لا يأخذنّ أحدكم متاع أخيه جاداً ولا لاعباً، وإذا أخذ عصا أخيه فليردها عليه))[3].
4- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه))[4].
5- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((من ظلم شبراً من الأرض طوّقه الله من سبع أراضين))[5].
هذه الأدلة المتقدمة وغيرها من الأدلة المستفيضة تفيد حرمة المسلم وحرمة ماله ودمه وعرضه وأرضه، فلا يجوز الاعتداء عليه ولا على شيء مما يملك إلا بحق الإسلام كما لا يجوز أخذ ماله ومتاعه إلا برضاه وطيب نفسه، وهذا ما أكده رسول الله في حجة الوداع، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطب رسول الله الناس يوم النحر في حجة الوداع فقال: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قلنا: نعم، قال: اللهم اشهد)) [رواه البخاري]. قال ابن حجر[6] قوله: ((أبشاركم)): جمع بشرة وهو جلد الإنسان.
الأكل من الطيبات:
إن الإسلام حض المؤمنين وأمر المسلمين بالأكل من الطيبات والمباحات واجتناب المحرمات والخبائث والمكروهات وترك الأشياء المشتبهات لآثارها السيئة في المجتمعات ومخالفة رب العباد.
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله [البقرة:172].
والأحاديث في هذا الباب كثيرة منها:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً [المؤمنون:51]. وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له))[7].
2- وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الحلال بيّن، وإن الحرام ،بيّن وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))[8].
تعريف الرشوة:
قال ابن حجر العسقلاني: الرشوة: بضم الراء وكسرها ويجوز الفتح وهي ما يؤخذ بغير عوض ويعاب أخذه[9]، وقال ابن العربي: الرشوة كل مال دفع يبتاع به من ذي جاه عوناً على ما لا يحل، والمرتشي قابضه، والراشي معطيه، والرائش الواسطة. ا.هـ. [فتح الباري].
قال الأمير الصنعاني: والراشي هو الذي يبذل المال ليتوصل به إلى الباطل، مأخوذ من الرشا وهو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء في البئر[10].
وقال أيضاً: وفي النهاية لابن الأثير قال: الراشي منٌ يعطي الذي يعينه على الباطل، والمرتشي الآخذ، والرائش هو الذي يمشي بينهما، وهو السفير بين الدافع والآخذ على سفارته أجراً، فإن أخذ فهو أبلغ (أي: بالإثم والحرمة)[11].
قال القرضاوي في كتابه الحلال والحرام: ومن أكل أموال الناس بالباطل أخذ الرشوة، وهي ما يدفع من مال إلى ذي سلطان أو وظيفة عامة ليحكم له أو على خصمه بما يريد هو أو ينجز له عملاً أو يؤخر لغريمه عملاً، وهلمّ جرا[12].
أدلة تحريم الرشوة:(/1)
فالرشوة كسب خبيث وأكلٌ لأموال الناس بالباطل وإعانة على الظلم والعدوان وهدر لكرامة الإنسان لما يترتب عليها من ضياع الحقوق وفساد المجتمعات، وقد توعد رسول الله أكلة الرشوة والمتعاملين بها بالطرد والإبعاد عن مظانّ الرحمة كما جاءت الأحاديث مصرحة بذلك.
1- فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله الراشي والمرتشي)[13].
2- وعن ثوبان رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش: يعني الذي يمشي بينهما)[14].
حكم هدايا العمال والحكام وعامة الناس:
أ - فقد وردت أحاديث صحيحة بحرمة هدية الحاكم من قضاة ومسؤولين وغيرهم واعتبرت من الرشوة التي صرح النبي بحرمتها وأكل أموال الناس بالباطل وخصوصاً إذا كان هناك مصلحة للمُهدي عند المَهدي إليه، وبالأدلة الشرعية على حرمتها يتضح ذلك.
ب - وهناك من أباح هدية الحاكم لدفع ظلم أو تحقيق حق كما سيأتي.
ت - وهناك من أباح للمُهدي للحصول على حقه وحرّم على الآخذ – أي: المَهدي إليه –، والحق في ذلك أن الأحاديث الصحيحة تفيد الحرمة على الجميع: المهدي والمهدي إليه للأدلة الصريحة في التحريم والتحذير من ذلك:
1- فعن أبي حميد عبد الرحمن بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبيّة – على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقام رسول الله على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد، فإني استعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت إلي، أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً، والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلا أعرفنّ أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه فقال: اللهم هل بلغت))[15] [متفق عليه].
2- وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ومن شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقد أتى باباً عظيماً من الربا))[16].
3- وعن حذيفة بن اليمان مرفوعاً: ((هدايا العمال حرام)) وعن أبي حميد عن النبي قال: ((هدايا العمال غلول))[17].
رفض الخلفاء الهدية خوفاً من الشبهة:
وكان سلفنا الصالح يتورعون عن قبول الهدايا خوفاً من الشبهة وخصوصاً إذا تقلد أحدهم عملاً من أعمال المسلمين. ولهذا بوّب البخاري في صحيحه باباً وقال: (باب من لم يقبل الهدية لعلة) ثم ساق البخاري أثر عمر بن عبد العزيز قوله: (كانت الهدية في زمن رسول الله هدية، واليوم رشوة).
وقال ابن حجر العسقلاني في هذا الباب: قال فرات بن مسلم: اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح فلم يجد في بيته شيئاً يشتري به، فركبنا معه فتلقاه غلمان الدير بأطباق تفاح فتناول واحدة فشمها ثم ردّ الأطباق، فقلت له في ذلك. فقال: لا حاجة لي فيه. فقلت: ألم يكن رسول الله وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية؟ فقال: (أي: عمر بن عبد العزيز): إنها لأولئك هدية وهي للعمال بعدهم رشوة[18].
أقوال العلماء في هدايا العمال وغيرهم:
1- جمهور علماء الإسلام لا يجيزون هدايا الحكام ولا العمال للأدلة المتقدمة؛ لما في ذلك من أكل أموال الناس بالباطل واعتبروها من السحت وإعانة على الظلم لما يترتب على ذلك من محاباة المُهدي بسبب هديته.
2- وهناك من جعله في درجة الكفر، ولعل هذا القول فيه مغالاة، وسيأتي بيانه في موضعه. ولربما كان مقصدهم الكفر العملي لا الاعتقادي. والله أعلم.
3- وهناك من أجاز هدية الحاكم من باب المكافأة، والإثم على الحاكم لا على المهدي إذا كان لا يتوصل إلى حقه إلا بالهدية.
ونقل ابن حجر العسقلاني قول فرات بن مسلم في هذا الموضع في فتح الباري. قال رحمه الله: إن لم يكن المَهدي له حاكماً والإعانة لدفع مظلمة أو إيصال حق فهو جائز ولكن يستحب له ترك الأخذ، وإن كان حاكماً فهو حرام.[19] ا.هـ ملخصاً.
أقوال علماء الإسلام في هذه المسألة:
1- قال ابن قدامة[20] في المغني: فأما الرشوة في الحكم ورشوة العامل فحرام بلا خلاف، قال الله تعالى: أكالون للسحت [المائدة:42].
قال الحسن البصري وسعيد بن جبير في تفسيره: هو الرشوة، وقال: إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به إلى الكفر، إلى أن قال: ولأن المرتشي إنما يرتشي ليحكم بغير الحق أو ليوقف الحكم عنه، وذلك من أعظم الظلم.
ثم قال ابن قدامة: قال مسروق: سألت ابن مسعود عن السحت، أهو الرشوة في الحكم؟ قال: لا، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون – هم الظالمون – هم الفاسقون ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمة فيهدي لك ، . . .
وقال قتادة: قال كعب: الرشوة تسفه الحليم وتعمي عين الحكيم – إلى أن قال ابن قدامة -:
فأما الراشي؛ فإن رشاه ليحكم له بباطل أو يدفع عنه حقاً فهو ملعون، وإن رشاه ليدفع عنه مظلمة ويجزيه على واجبه؛ فقد قال عطاء وجابر بن زيد والحسن: لا بأس أن يصانع على نفسه.(/2)
قال ابن قدامة: قال جابر بن زيد: ما رأينا في زمن زياد أنفع لنا من الرشاء، ولأنه يستنقذ له كما يستنقذ الرجل أسيره، فإن ارتشى الحاكم أو قبل هدية ليس له قبولها؛ فعليه ردّها إلى أربابها لأنه أخذها بغير حق، فأشبه المأخوذ بعقد فاسد. ويحتمل أن يضعها في بيت المال لأن النبي لم يأمر ابن اللتبية بردها إلى أربابها. ا.هـ. [المغنى].
2- قال الشوكاني في نيل الأوطار[21]: قال ابن رسلان في شرح السنن: ويدخل في إطلاق الرشوة الرشوة للحاكم والعامل على أخذ الصدقات، وهي حرام بالإجماع. وقال الشوكاني أيضاً: قال المنصور بالله وأبو جعفر وبعض أصحاب الشافعي: وإن طلب بذلك حقاً مجمعاً عليه جاز. قيل: وظاهر المذهب المنع لعموم الخبر.
رد وتعقيب للإمام الشوكاني:
وقال الشوكاني رداً على أئمة الزيدية: والتخصيص لطالب الحق بجواز تسليم الرشوة منه للحاكم لا أدري بأيّ مخصص. فالحق التحريم مطلقاً أخذاً بعموم الحديث. ومن زعم الجواز في صورة من الصور، فإن جاء بدليل مقبول وإلا كان تخصيصه رداً عليه، فالأصل في مال المسلم التحريم: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [البقرة:188]. ثم قال الشوكاني: والأصل أن الدافع للرشوة إنما دفعه لأحد أمرين:
الأول: إما لينال به حكم الله إن كان محقاً وذلك لا يحل، لأن المدفوع في مقابله أمر واجب أوجب الله – عز وجل – على الحاكم الصدع به. فكيف لا يفعل حتى يأخذ عليه شيئاً من الحطام؟
الثاني: وإن كان الدافع للمال من صاحبه لينال به خلاف ما شرعه الله إن كان مبطلاً، فذلك أقبح لأنه مدفوع في مقابلة أمر محظور، فهو أشد تحريماً من المال المدفوع للبغيّ في مقابلة الزنا بها، لأن الرشوة يتوصل بها إلى أكل مال الغير الموجب لإحراج صدره والإضرار به، بخلاف المدفوع للبغي. فالتوسل به إلى شيء محرم وهو الزنا لكنه مستلذ للفاعل والمفعول به. وهو أيضاً ذنب بين العبد وربه. وهو أسمح الغرماء، ليس بين العاصي والمغفرة إلا التوبة ما بينه وبين الله، وبين الأمرين فرق بعيد. ثم ساق الأدلة على تحريم الرشوة في كتابه المذكور نيل الأوطار.
ثم قال الشوكاني: وقال أبو وائل شقيق بن سلمة أحد التابعين: القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت، وإذا أخذ الرشوة بلغت به الكفر. رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. وقال: ويدل على المنع من قبول هدية من استعان بها على دفع مظلمته ما أخرجه أبو داود عن أبي أمامة عن النبي : ((من شفع لأخيه شفاعة فأهدي له عليها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)) وفي إسناده مقال[22].
ثم قال الشوكاني: فليحذر الحاكم المستعد للوقوف بين يدي ربه من قبول هدايا ممن أهدى إليه بعد توليته القضاء، فإن للإحسان تأثيراً في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، فربما مالت نفسه إلى المُهدي إليه ميلاً يؤثر الميل عن الحق عند عروض المخاصمة بين المُهدي وبين غيره، والقاضي لا يشعر بذلك، ويظهر أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه. والرشوة لا تفعل زيادة على هذا، إلى أن قال الشوكاني: ومن هذه الحيثية امتنعت عن قبول الهدايا بعد دخولي في القضاء ممن كان يهدي إلي قبل الدخول فيه، بل من الأقارب فضلً عن سائر الناس. اهـ. [كلام الشوكاني بإيجاز واختصار من كتابه نيل الأوطار[23]].
3- وقال الأمير الصنعاني[24]: في كتابه سبل الإسلام والرشوة حرام بالإجماع سواء كانت للقاضي أو للعامل على الصدقة أو لغيرهما، وقد قال الله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون [البقرة:188].
ثم قال: وحاصل ما يأخذه القضاة من الأموال على أربعة أقسام:
الأول: الرشوة: إن كانت ليحكم له الحاكم بغير حق فهي حرام على الآخذ والمعطي. وإن كانت ليحكم له بالحق على غريمه فهي حرام على الحاكم دون المعطي لأنها لاستيفاء حقه فهي كجعل الآبق، وأجرة الوكالة على الخصومة. وقيل: تحرم لأنها توقع الحاكم في الإثم.
الثاني: الهدية: فإن كانت ممن يهاديه قبل الولاية فلا تحرم استدامتها، وإن كان لا يهدي إليه إلا بعد الولاية، فإن كانت ممن لا خصومة بينه وبين أحد عنده جازت وكرهت، وإن كانت ممن بينه وبين غريمه خصومة عنده فهي حرام على الحاكم والمهدي.
الثالث والرابع: الأجرة: وأما الأجرة فإن كان للحاكم جراية من بيت المال ورزق حرمت بالاتفاق (يعني حرمت الهدية للحاكم بالاتفاق) لأنه إنما أجري له الرزق لأجل الاشتغال بالحكم فلا وجه للأجرة، وإن كانت لا جراية له من بيت المال جاز له الأجرة على قدر عمله غير حاكم، فإن أخذ أكثر مما يستحقه حرم عليه، لأنه إنما يعطى الأجرة لكونه عمل عملاً لا لأجل كونه حاكماً، ولا يستحق لأجل كونه حاكماً شيئاً من أموال الناس اتفاقاً. فأجرة العمل مثله وأخذ الزيادة على أجرة مثله حرام.(/3)
لذا قيل: إن تولية القضاء لمن كان غنياً أولى من تولية من كان فقيراً، وذلك لأنه لفقره يصير متعرضاً إلى ما لا يجوز له تناوله إذا لم يكن له رزق من بيت المال.
4- قال القرضاوي في كتابه الحلال والحرام[25]: وقد حرم الإسلام على المسلم أن يسلك طريق الرشوة للحكام وأعوانهم، كما حرّم على هؤلاء أن يقبلوها إذا بذلت لهم، كما حظر على غيرهم أن يتوسطوا بين الآخذين والدافعين - ثم ساق الأدلة على تحريم ذلك - ثم قال: والإسلام يحرم الرشوة في أي صورة كانت وبأي اسم سميت، فتسميتها باسم الهدية لا يخرجها من دائرة الحرام إلى الحلال.
الرشوة لرفع الظلم:
ثم قال القرضاوي في كتابه المذكور[26]: ومن كان له حق مضيّع لم يجد طريقة للوصول إليه إلا بالرشوة، أو دفع ظلم لم يستطع دفعه عنه إلا بالرشوة، فالأفضل له أن يصبر حتى ييسر الله له أفضل السبل لرفع الظلم ونيل الحق، فإن سلك سبيل الرشوة من أجل ذلك فالإثم على الآخذ المرتشي وليس عليه (إثم الراشي).
وهذه الحالة ما دام قد جرّب كل الوسائل فلم تأت بجدوى، وما دام يرفع عن نفسه ظلماً أو يأخذ حقاً له دون عدوان على حقوق الآخرين.
ثم قال: وقد استدل بعض العلماء على ذلك بأحاديث الملحين الذين كانوا يسألون النبي من الصدقة فيعطيهم وهم لا يستحقون، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن أحدكم ليخرج بصدقته من عندي متأبطها – أي يحملها تحت إبطه – وإنما هي له ناراً، قال عمر: يا رسول الله كيف تعطيه وقد علمت أنها له نار؟ قال: فما أصنع؟ يأبون إلا مسألتي، ويأبى الله عز وجل لي البخل))[27].
وقال القرضاوي معقباً على ذلك: فإذا كان ضغط الإلحاح جعل الرسول يعطي السائل ما يعلم أنه نار على آخذه، فكيف يكون ضغط الحاجة على دفع ظلم أو أخذ حق مهدور؟؟
5- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الفتاوى: قال رحمه الله رحمة واسعة[28]: ولهذا قال العلماء يجوز رشوة العامل لدفع الظلم، لا لمنع الحق، وإرشاؤه حرام فيهما، وكذلك الأسير والعبد المعتق إذا أنكر سيده عتقه له أن يفتدي نفسه بمال يبذله، ويجوز له بذله وإن لم يجز للمستولي عليه بغير حق أخذه.
وكذلك المرأة المطلقة ثلاثاً إذا جحد الزوج طلاقها فافتدت منه بطريق الخلع في الظاهر، كان حراماً عليه ما بذلته، ويخلصها من رق استيلائه. مستدلاً بحديث عمر بن الخطاب المتقدم – قال ابن تيمية -: ولهذا قال رسول الله : ((إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتلظاها ناراً، قالوا: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل)) ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن ذلك ما وقى به المرء عرضه فهو صدقة، فلو أعطى الرجل شاعراً أو غير شاعر لئلا يكذب عليه أو يهجوه أو يتكلم في عرضه كان بذله لذلك جائزاً.
وجاء في الفتاوى لشيخ الإسلام[29]: وسئل شيخ الإسلام عن رجل أهدى الأمير هدية يطلب حاجة أو التقرب أو للاشتغال بالخدمة عنده أو ما أشبه ذلك، فهل تجوز هذه الهدية على هذه الصورة أم لا؟
فأجاب رحمه الله: الحمد لله، ففي سنن أبي داود وغيره عن النبي أنه قال: ((من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)).
وقال: وسئل ابن مسعود عن السحت، فقال: هو أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدي لك هدية فتقبلها، فقال له: أرأيت إن كانت هدية في باطل؟ فقال: ذلك كفر ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة:44]. ولهذا قال العلماء: إن من أهدى هدية لولي أمر ليفعل معه ما لا يجوز كان حراماً على المُهدي والمَهدي إليه – وهذه من الرشوة التي قال فيها النبي : ((لعن الله الراشي والمرتشي)).
والرشوة تسمى: (البرطيل)، والبرطيل في اللغة هو الحجر المستطيل فاه. فأما إذا أهدي له هدية ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب؛ كانت هذه الهدية حراماً على الآخذ وجاز للدافع أن يدفعها إليه – ثم ساق شيخ الإسلام ابن تيمية حديث عمر بن الخطاب المتقدم، وقد أسهب ابن تيمية في هذه المسألة، فمن أراد المزيد من الاطلاع فليراجع الفتاوى من ص 285 إلى ص 288 من المجلد الحادي والثلاثين.
حكم هدية غير الحكام والعمال:
1- أما هدية غير الحكام والعمال فإذا توصل بها إلى تحقيق ظلم أو إبطال حق فلا خلاف بين علماء الإسلام على أنها حرام.
2- وأما إذا لم يتوصل بها إلى تحقيق ظلم أو إبطال حق وإنما قصد بها منفعة للمهدي إليه فهي جائزة ومشروعة.
3- وهناك من أجاز للمهدي أن يتوصل إلى حقه ومنعها على المهدي إليه – واستدل المانعون بعموم النصوص الواردة بتحريم أكل أموال الناس بالباطل وبغير حق ومن غير طيب نفس. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)) [رواه أحمد].
وقال الأمير الصنعاني[30]: وفيه دليل على تحريم الهدية في مقابلة الشفاعة، وظاهره سواء كان قاصداً لذلك عند الشفاعة أو غير قاصد.(/4)
وقال الصنعاني[31]: والرشوة حرام بالإجماع، سواء كانت للقاضي أو العامل على الصدقة أو لغيرهما، وقد تقدم كلامه.
خلاصة القول في المسألة:
والظاهر من الأدلة الصريحة أن الرشوة حرام بجميع ضروبها وأشكالها وألوانها إذا كان يتوصل بها إلى إبطال حق أو إقرار ظلم لما يترتب على ذلك من المفاسد والأضرار وهذا حرام شرعاً.
والإسلام راعى أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والتسامح بجواز الرشوة يعوّد الناس على أكل الحرام وعدم الشعور بالمسؤولية لما يترتب على ذلك من تعطيل مصالح المسلمين وتأخير أعمالهم وعدم إنجازها إلا بالرشوة – فتنعدم الثقة بين الناس وتقل أواصر المودة والمحبة بينهم، وهذا مما حذر منه القرآن الكريم ونهى عنه النبي الأمين صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان [المائدة:2].
وفي الحديث الشريف عن جرير بن عبد الله أن النبي قال: ((من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)) [رواه مسلم].
ولاشك أن الرشوة قتل لروح التعاون بين المسلمين وهدر لكرامة المؤمنين. ومن عوّد نفسه على أخذ الرشوة وأكلها فقد سن في الإسلام سنة سيئة، عليه إثمها وإثم من استنّ به وقلده بهذا الجرم. فالمؤمن يترفع عن ذلك ويرضى بالكسب الحلال الذي رغب فيه الإسلام.
جاء في كتاب الحلال والحرام للقرضاوي[32]: قال: ولا غرابة في تحريم الإسلام للرشوة وتشديده على كل من اشترك فيها، فإن شيوعها في مجتمع شيوع للفساد والظلم، من حكم بغير الحق أو امتناع عن الحكم بالحق، وتقديم من يستحق التأخير، وتأخير من يستحق التقديم، وشيوع روح النفعية في المجتمع لا روح الواجب. ا.هـ.
والحق أن الإسلام حرم على المسلم كل فعل أو قول أو واسطة تساعد على الباطل أو يتوصل بها إلى الحرام، كآكل الربا ومعطي الربا وكاتب المعاملة بينهما والشاهد عليها واعتبر الإسلام الجميع في الجرم سواء.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: ((هم سواء)) [رواه مسلم].
فالحديث الشريف شمل الجميع بالإثم لأن عملية الربا تقوم على أربعة أركان لا تتم إلا بهذه الأركان الأربعة، فكل ركن ساعد على الظلم وأعان على الباطل، فدخل في غضب الله ووعيده. وهذا ما يتعارض مع قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان [المائدة:2].
وكذا الحال في الرشوة، فكل من أعان على ترويجها بين الأفراد وفي المجتمعات فهو على خطر عظيم، دخل في الوعيد الشديد. فليحذر المؤمن من المروجين للباطل والمزينين للحرام، فالرسول يقول في الحديث الصحيح: ((إن الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه..))[33].
محاسبة العمال من قبل السلطان:
عن أبي حميد عبد الرحمن بن سعد الساعدي رضي الله عه قال: استعمل النبي رجلاً من الأزد، يقال له: ابن اللتبيّة – على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقام رسول الله على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت إلي، أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً، والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلا أعرفنّ أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه فقال: اللهم هل بلغت))[34] [متفق عليه].
ما يستفاد من حديث ابن اللتبية:
جاء في فتح الباري (13/167) عند شرح حديث ابن اللتبية تحت عنوان: (باب هدايا العمال) قال ابن حجر: وفي الحديث من الفوائد:
1- أن الإمام يخطب في الأمور المهمة، واستعمال أما بعد في الخطبة.
2- منع العمال من قبول الهدية ممن له عليهم حكم، لحديث معاذ بن جبل لما بعثه الرسول إلى بلاد اليمن قال له: ((لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول)) [أخرجه الترمذي].
أقول: ويقصد بالعمال: كل من ولاه السلطان عملاً من الأعمال كالقضاة وموظفي الدولة على مختلف أعمالهم، فالنهي يشملهم.
3- مشروعية محاسبة المؤتمن.
4- قال ابن حجر: قال المهلب: فيه أن ما أخذه العامل تُجعل في بيت المال، ولا يختص العامل منها إلا بما أذن له فيه الإمام.
5- قال ابن قدامة في المغني: وعلي ردّها لصاحبها، ويحتمل أن تجعل في بيت المال، لأن النبي لم يأمر ابن اللتبية برد الهدية التي أهديت له لمن أهداها.(/5)
6- قال ابن بطال: يلحق بهدية العامل لمن له دين ممن عليه الدين. معنى ذلك: لا تجوز هدين المدين للدائن؛ لأنه من باب قوله: ((كل قرض جرّ منفعة فهو رباً)). وقال ابن حجر: وله أن يحاسب بذلك من دينه – أي يسقط قيمة الهدية التي أهداها له المدين من الدين الذي في ذمته.
7- وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه والانفراد بالمأخوذ.
8- وفيه جواز توبيخ المخطئ واستعمال المفضول في الإمارة والإمامة والأمانة مع وجود من هو أفضل منه.
9- وفيه أن من رأى متأولاً أخطأ في تأويل يضرّ من أخذ به أن يشهر القول للناس ويبين خطأه ليحذر من الاغترار به.
أقول: ولعل هذا التأديب لمن أضر بالمصلحة العامة، وهذا لا يكون إلا للسلطان، فقط لا لغيره، والله أعلم. والحق أن المسلم لا يملك التشهير بالآخرين وإن أخطأوا إنما ذلك للإمام والحاكم.
10- وقال ابن المنير: يؤخذ من قوله: ((هلا جلس في بيت أبيه وأمه)) فيه جواز قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل ذلك. ا.هـ. كلام الحافظ ابن حجر من فتح الباري.
مكافأة المحسن:
الإسلام دعا إلى مكافأة المحسن بما يستطيعه المسلم من أنواع الإحسان ولو كان ذلك بالكلمة الطيبة والدعاء له بالخير، واعتبر الإسلام ملاقاة المسلم لأخيه المسلم بطلاقة الوجه وبشاشة النفس اعتبره معروفاً وإحساناً له يؤجر على ذلك المحسن – وهذا من كمال هذا الدين وشموله وآدابه ومحاسنه لتبقى المودة والألفة والمحبة خلقاً للمسلمين وشعاراً لهم.
1- فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((والكلمة الطيبة صدقة)) [متفق عليه].
2- وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) [رواه مسلم].
3- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((من استعاذكم بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن أتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له))[35].
قال الأمير الصنعاني[36] عند حديث ابن عمر المذكور: ودل الحديث على وجوب المكافأة للمحسن إلا إذا لم يجد، فإنه يكافئه بالدعاء، وأجزأه إن علم أنه قد طاب نفسه أو لم تطب وهو ظاهر الحديث، ومثل هذه المكافأة لا تعتبر من باب الرشوة إلا إذا تواطأ معه واشترطها لنفسه. ا.هـ.
مشروعية الهدية:
والهدية مشروعة قديماً وحديثاً وقد فعلها رسول الله وقبلها، فقد أهدي إليه وأهدى، ورغّب فيها أمته لما في ذلك من تأليف القلوب والتحابب بين الناس، والنفوس جبلت على حب من أحسن إليها.
والهدية عامل في تقوية الألفة وتعزيز أواصر المحبة بين المؤمنين وتأليف قلوب غير المسلمين؛ ولذا فرض الله سبحانه سهماً من الزكاة للمؤلفة قلوبهم طمعاً بإسلامهم وتقوية لإيمانهم. والأدلة كثيرة في مشروعية الهدية ومنها:
1- قول الله تعالى مخبراً عن بلقيس – ملكة سبأ – أنها قالت: وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون [النمل:35].
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لو دعيت إلى كراعٍ أو ذراعٍ لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت)) [رواه البخاري].
قال ابن حجر في فتح الباري (9/246): وفي الحديث دليل على حسن خلقه وتواضعه وجبره لقلوب الناس، وعلى قبول الهدية، وإجابة من يدعو الرجل إلى منزله ولو إلى شيء قليل.
قال المهلب: لا يبعث على الدعوة إلى طعام إلا صدق المحبة وسرور الداعي بأكل المدعو من طعامه والتحبب إليه بالمآكلة. وفيه الحض على المواصلة والتحابب والتآلف وإجابة الدعوة لما قلّ أو كثر، وقبول الهدية. ا.هـ.
3- وعن علي رضي الله عنه قال: (أهدى كسرى لرسول الله فقبل منه، وأهدى له قيصر فقبل، وأهدت له الملوك فقبل منها) [رواه أحمد والترمذي].
4- وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: (أهدى ملك أيْلة للنبي بغلة بيضاء وكساه برداً وكتب له ببحرهم) [رواه البخاري].
فالحديث ذكره البخاري في باب: (قبول الهدية من المشركين) فتح الباري (5/230) وقال ابن حجر في فتح الباري(3/345): ولما انتهى النبي إلى تبوك أتاه يوحنا بن رؤبة – صاحب أيْلة – فصالح رسول الله وأعطاه الجزية.
قوله: (ببحرهم): أي ببلدهم، وأيْله هي مدينة العقبة اليوم على البحر الأحمر.
5- عن أنس رضي الله عنه أن يهودية أتت النبي بشاة مسمومة، فأكل منها، فقيل: ألا نقتلها؟ قال: ((لا)). فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله . رواه البخاري ذكره ابن حجر في باب: قبول الهدية من المشركين – فتح الباري (5/230)، وشرحه في المجلد السابع ص 497.(/6)
قال ابن حجر: أهدت للنبي زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مشوية، وكانت قد سألت: أي عضو من الشاة أحب إليه؟ قيل له: الذراع. فأكثرت فيه السم، فلما تناول الذراع لاك منها مضغة ولم يسغها، وأكل معه البشر بن البراء بن معرور فأساغ لقمته ومات من ذلك. وقد أسهب ابن حجر في شرح الحديث وما يستفاد منه. وقال: وقد اشتملت قصة خيبر على أحكام كثيرة؛ ومما قاله: وجواز الأكل من طعام أهل الكتاب وقبول هديتهم.ا.هـ.
6- وعن أنس رضي الله عنه أن أكيدر دومة الجندل أهدى للنبي ثوب حرير فأعطاه علياً فقال: ((شققه خُمُراً بين الفواطم)) [رواه البخاري ومسلم].
7- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((تهادوا تحابوا))[37].
8- وعنه مرفوعاً: ((تهادوا تحابوا وتصافحوا يذهب الغل عنكم))[38].
وفي هذه الأدلة المتقدمة الكفاية في مشروعية الهدية وقبولها من المسلم وغير المسلم، وذلك لتأليف القلوب وتقوية أواصر المحبة بين المؤمنين.
هدية المدين للدائن:
وأما هدايا العمال فتقدم الحديث عنها بعدم الجواز، وكذلك لا يجوز للمدين أن يهدي للدائن هدية، وخصوصاً قبل قضاء دينه للأدلة الشرعية في النهي عن ذلك، ومنها:
أ - عن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: ((إذا أقرض فلا يأخذ هدية)) [رواه البخاري في تاريخه].
ب -عن أبي بردة بن أبي موسى قال: (قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: إنك بأرض فيها الربا فاشٍ، فإذا كان لك على رجل حقٌ فأهدي إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا) [رواه البخاري]. والقت هو البرسيم، علف الدواب.
قال الشوكاني في نيل الأوطار (5/232):
والحاصل أن الهدية والعارية ونحوهما إذا كانت لأجل التنفيس في أجل الدين أو لأجل رشوة صاحب الدين أو لأجل أن تكون لصاحب الدين منفعة في مقابل دينه، فذلك محرم لأنه نوع من الربا والرشوة.
وقال: وإن كان ذلك لأجل عادة جارية بين المقرض والمستقرض قبل التداين فلا بأس، وإن لم يكن ذلك بقرض أصلاً؛ فالظاهر المنع لإطلاق النهي عن ذلك.
والأحوط والأسلم أن لا يقبل صاحب الدين هدية من المدين لقوله : ((ومن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)).
وأسأل الله تعالى أن يبصرنا في ديننا وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
---
[1] متفق عليه.
[2] رواه مسلم.
[3] رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
[4] رواه الدراقطني وغيره.
[5] متفق عليه.
[6] فتح الباري (13/26) باب: "لا ترجعوا بعدي كفاراًً يضرب بعضكم رقاب بعض".
[7] رواه مسلم.
[8] متفق عليه.
[9] فتح الباري (5/221).
[10] سبل السلام (2/43).
[11] سبل السلام (4/124).
[12] الحلال والحرام للقرضاوي ص24.
[13] رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
[14] رواه أحمد والحاكم.
[15] رواه البخاري (4/22) كتاب الحيل بشرح السدّي، ومسلم في باب تحريم هدايا العمال (12/200) بشرح النووي.
[16] رواه أحمد وفي إسناده مقال.
[17] رواهما أحمد والطبراني والبيهقي.
[18] فتح الباري (5/220).
[19] فتح الباري (5/221).
[20] المغني (10/69).
[21] نيل الأوطار للشوكاني (8/268).
[22] نيل الأوطار (8/268).
[23] نيل الأوطار (8/269).
[24] سبل السلام (4/124).
[25] الحلال والحرام ص24.
[26] الحلال والحرام ص 241.
[27] رواه أبو يعلى بإسناد جيد وروي عن أحمد نحوه ورجاله رجال الصحيح.
[28] فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (29/258).
[29] فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (31/285).
[30] سبل السلام (3/42).
[31] سبل السلام (4/14).
[32] الحلال والحرام ص24.
[33] متفق عليه.
[34] رواه البخاري في ص 22 كتاب الحيل بشرح السدّي، ومسلم في باب تحريم هدايا العمال (12/200) بشرح النووي.
[35] رواه الحاكم والبيهقي وأبو داود والترمذي.
[36] سبل السلام (4/170).
[37] الجامع الصغير للسيوطي رقم الحديث (3373).
[38] الجامع الصغير للسيوطي رقم الحديث (3374) ورواه أيضاً مالك في الموطأ.(/7)
حكم العلاقات العاطفية في الشريعة الإسلامية
نداء خاص للطالبات
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد :
فإن الإسلام لا يطارد المحبين ، ولا يطارد بواعث الحب والغرام ، ولا يجفف منابع الود والاشتياق ، ولكنه كعادته في كل شأن من شؤون التشريع يهذب الشيء المباح حتى لا ينفلت الزمام ويقع المرء في الحرام والهلاك .
ولقد ارتبط في أذهان الكثير من الفتيان أنْ تمارس الحب خارج البيوت ، وأن ينسجوا خيوط العشق وطرائق الغرام بعيداً عن الزواج الحلال من باب أنَّ الممنوع مرغوبٌ .
فهل نقبل بما يسمى بحرية الحب في مجتمعنا الإسلامي ؟
لقد تردد على ألسنة المراهقات عبارات الحب التي شوهت أفكارهن ، ومنها : ( الحب من أول نظرة ) ( الزواج بدون حب فاشل ) ، ( الحب يصنع المعجزات ) ، ( الحب عذاب ) ، ( الزواج مقبرة الحب ) و( من الحب ما قتل ) .
نعم مشاعر الميل الجنسي لآخر في هذا السن طبيعية ، لكن هل هذا مسوغٌ ومبرر للاندفاع وراء هذه المشاعر ؟ فهل هذا مبرر لإقامة هذه العلاقات .
إنَّ ما يسمى بالحب الذي تعيشه الفتيات اليوم فيه من الشطط والمعابة ما يجعلها لهواً ولعباً فلا ترى له هدفاً .
ولما يسمى بالحب والعشق أعراضاً تظهر على الفتاة .
* الأعراض :
1- انخفاض المستوى الدراسي إنْ كانت من الدارسات .
2- السرحان الدائم والسباحة في عالم الخيال ( أهم الأعراض ) .
3- تبتدع الفتاة الأكاذيب الدائمة على أهلها للخروج ولقاء الحبيب .
4- الخوف المستمر من معرفة الأهل والقلق والتوتر .
5- تأنيب الضمير إذا خلت بنفسها .
أما الآثار الحاصلة لتلك الفتيات الواقعات في هذا الداء .
* الآثار :
1- خوف الفتاة المستمر من ترك الحبيب لها أو الانحدار معه إلى الهاوية ؛ فهي علاقة مزيفةٌ ، وعالمٌ خياليٌّ ينتهي بالأخطاء والندم .
2- وقد تقع الفتاة ضحية الابتزاز والتهديد والفضيحة وإخبار الأهل إنْ قررتْ ترك الحبيب المزعوم
3- قد تتعرض لصدمة نفسية ومحنة كبيرة واضطرابات عصبية ونفسية .
4- انكسار قلب الفتاة إذا لم ينته الحب بالزواج .
5- وإذا تم الزواج فقد يحدث الطلاق بعد الزواج بسبب كثرة الشكوك بين الزوجين .
6- المشاكل الدائمة بين الفتاة والأسرة .
7- يترتب على هذه العلاقة انحراف وعلاقة غير شرعية قد يكون ثمرتها الحمل .
8- فقد الفتاة سمعتها وفقدها ثقة الآخرين .
9- فقد الفتاة لمستقبلها وقد تفقد حياتها لمثل هذه العلاقات .
وهذه العلاقات التي تحصل للفتيات لها أسباب ودوافع .
* أسباب ودوافع هذه العلاقات :
1- الفراغ وتسلية الوقت ( وهو سببٌ رئيسيٌّ ) .
2- البحث عن الحب الحقيقي على حد زعمها .
3- الزواج .
4- الشهوة غير المنضبطة .
5- الفراغ العاطفي .
6- ضعف الوازع الديني .
7- ضعف علاقة الأم بابنتها وإهمالها لها ، وعدم الاستماع إلى مشاكلها قد يدفع الفتاة للبحث عن البديل .
8- رفقه السوء والتأثر بتجارب الفتيات الأخريات .
9- الانفتاح الإعلامي .
وعلى الحصيفة الحريصة على دينها ودنياها أن تتجنب ذلك وعليها بالمحصنات ، ومن أهم المحصنات
* المحصنات :
1- الندم والتوبة إلى الله وقطع الاتصال والمراسلة .
2- الصوم .
3- غض البصر من الحرام لاسيما الدش وسماع الأغاني .
4- الاستعفاف .
5- الإكثار من قراءة القرآن والسيرة العطرة وسير السلف وكتب التاريخ والتراجم .
6- مصاحبة أهل الخير من أهل العلم والدعاة والحذر من مصاحبة أهل الشر .
7- الاجتهاد في طلب العلم الشرعي ، واجتهدي أنْ تكوني داعيةً إلى الله .
8- تقوى الله في السر والعلن فتقوى الله أساس كل خير ومغلاقٌ لكل شر .
9- الانشغال بما ينفع .
10- إذا دعتكِ نفسكِ لفعل الحرام تذكري بأنَّ الله مطلعٌ عليكِ فاستحي أنْ يراكِ وأنتِ على معصية ، وقد قيل :(( لا تنظر إلى صغر المعصية ، ولكن انظر إلى من عصيت )) وقيل : (( لا تجعل الله أهون الناظرين إليك )) .
11- عليكِ بسماع الأشرطة التي ترقق القلب وتدمع العين .
12- عليكِ بتكوين مكتبة متواضعة عندكِ في البيت تقضين فيها أوقات فراغكِ .
13- الاهتمام بالدراسة .
14- اجعلي لنفسكِ هدفاً في الحياة .
15- عليكِ بالدعاء وصدق اللجوء إلى الله أنْ يصرف عنكِ الشيطان ، وأنْ يجنبكِ الفتن ما ظهر منها وما بطن مع كثرة الاستغفار والتهليل .
16- حلقات تحفيظ القرآن اهتمي بها إن كانت موجودة .
17- المحافظة على الصلاة .
18- حب الله ورسوله .
أما من ابتليت بشيء من ذلك فماذا تصنع ؟ وبعبارة أخرى ماذا تصنع من وقعت في الحب ؟
1- تذكُر محبة الله بمعرفة أسبابها كالتفكير في آلآئه ونعمه ، وهذا سيشغلكِ عن محبة غيره .
2- الحرص على عدم اللقاء به والجلوس معه والنظر إليه .
3- التخلص من التفكير فيه بإشغال النفس بالتفكير بالأمور المفيدة في الدين والدنيا .
4- ليدخل البيت من بابه ، وليطلب الزواج إن كان صادقاً في دعواه .
5- الدعاء .(/1)
وأقول : لو كانت هذه الفتاة منطقية مع نفسها وطرحت هذا السؤال : ماذا يريد هذا الشاب ؟ ما الذي يدفعه لهذه العلاقة ؟ بل ما الذي يقوله هذا الشاب لزملائه حين يلتقي بهم ؟ وبأي لغة يتحدثون عني ؟
أنا أجزم أنها حين تزيح وهم العاطفة عن تفكيرها فتقول بملء صوتها : إنَّ مراده هو الشهوة ، والشهوة الحرام ليس إلا ، إذاً ألا تخشين الغاية ؟ أترين هذا أهلاً للثقة ؟ شاب خاطر لأجل بناء علاقة محرمة ، شابٌ لا يحميه دينٌ أو خُلق أو وفاء ، شابٌ لا يدفعه إلا الشهوة أتأمنه على نفسها ، لقد خان ربه ودينه وأمته ، ولم تكن الفتاة أعز ما لديه .
أما تلك الفتاة التي تعاكس الشباب وتتصيد بالماء العكر فأقول لها : أيتها المعاكسة صاحبة العلاقة اعلمي أنَّ قبركِ الآن ينتظركِ ، وهو إما روضةٌ من رياض الجنة ، وإما حفرةٌ من حفر النار ... فهلا جلستي فتدبرتِ أي الحفرتين مصيركِ ، أي القبرين جزاؤكِ .
أيتها الفتاة ألا تتذكرين إحدى زميلاتكِ التي كنتِ تتبادلين معها الحديث ثم أخبرتي أنها أكملت الأيام التي قدّر الله لها أنْ تعيشها ثم هي بين اللحود الآن ؟ فما تظنين أنْ تقول لك إذا سمح لها بالعودة إلى الحياة ، وهل فكرتِ لماذا أخذها الموت ، وترككِ فإنْ كنتِ قد اغتررتِ بمغفرة الله فتذكري قوله تعالى : (( وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ )) .
فإذا جمعتِ عملاً سيئاً مع الأمن من عقوبة الله فهذا غاية الخسران .
وأنا أقول ينبغي لكل فتاة أنْ تنظر إلى وجهها في المرآة فإنْ كان جميلاً فلتكره أنْ تسيء إلى هذا الجمال بفعل قبيح ، وإنْ كان قبيحاً فلتكره أنْ تجمع بين قبيحين .
أيتها الأخوات :
لقد ابتذلت المرأة غاية الابتذال ، واستغلت غاية الاستغلال واستعبدت واسترقت ، وغدت أداة لهو وتسلية في يد العابثين الفجار والفسقة الأشرار ، تعمل بثدييها قبل يديها راقصةً في دور البغاء وعارضةً في دور الأزياء وغانيةً في دور الدعارة والتمثيل فأين أكذوبة تحريرها وتكريمها وصدق الرسول r :
(( ما تركت بعدي فتنه أضر على الرجال منَ النساء فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء )) .
الاختلاط بين الرجال والنساء أصلُ كل بلية ونقيصة وأساس كل شر ورذيلة ؛ فقد قال النَّبيُّ r : (( إياكم والدخول على النساء ، قيل : أرأيت الحمو قال : الحمو الموت )) .
قال تعالى : (( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ )) .
يا فتاة الإسلام : كوني كما أرادك الله وكما أرادك رسول الله لا كما يريده دعاة الفتنة ، وسعاة التبرج والاختلاط فإياك أنْ تكوني معول هدم وآلة تخريب وأداة تغيير وتغريب في بلاد الإسلام الطاهرة .
وأقول : لتحذر المرأةُ أنْ تخضع بقولها أو تترقرق في لفظها أو تتميع في صوتها في كلامها فيطمع فيها ضعيفُ الإيمان قال تعالى : (( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً )) تأملي عند هذه الآية كثيراً حتى لا تكوني سبباً في ضياع الآخرين .
فالمرأة العفيفة الشريفة لا تقبل أنْ تكون نبعةَ إثارة أو مثاراً للفتنة والنظرات الوقحة والنفوس السافلة الدنيئة قال تعالى : (( وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ )) .
على المرأة المسلمة أنْ تحذر كل الحذر من المعصية صغيرةً كانت أو كبيرةً فمن تساهلت بالصغيرة جرتها إلى كبيرة وخشي عيها من سوء الخاتمة .
أيها الأخوات ، من أنتن لولا الإسلام والإيمان والقرآن ؟ أنتن بالإسلام والإيمان والقرآن شيءٌ وبدونها والله لا شيء .
إنَّ أعداء الإسلام أرادوا أنْ تكون المرأة رسولاً لمبادئهم فهذا أحدهم يقول : (( لا تستقيم حالة الشرق الإسلامي لنا حتى يرفع الحجاب عن وجه المرأة ويغطى به القرآن ، وحتى تؤتى الفواحش والمنكرات )) وآخر يقول : (( لا بد أنْ نجعل المرأة رسولاً لمبادئنا ونخلصها من قيود الدين )) ويقول الآخر :
(( كأسٌ وغانيةٌ تفعلان في الأمة المحمدية ما لا يفعله ألف مدفع فأغرقوهم في الشهوات والملذات )) .
أختي المسلمة : إنَّ آمالنا في المسلمة المتعلمة والمعلمة أنْ تكون أقوى من التحديات ، آمالنا أنْ تكون المسلمة في كل مكان تعتز بدينها تتمسك بعقيدتها ومبادئها وأخلاقها ، بل وتدعو إليها فذلك من دينها فالمرأة على ثغرة عظيمة فالله الله أنْ تؤتى البيوت من قبلكِ ، والله الله أنْ يؤتى الإسلام من قبلك ، والله الله أنْ يؤتى أبناء المسلمين من قبلك .
أختي المسلمة ، إنَّ الأمة تنتظر الكثير والكثير منك ، واعلمي أنَّ طريق الجنة صعبٌ وأنه محفوفٌ بالمكاره ، ولكنْ آخره السعادة الدائمة . فعليك أنْ تهتمي بالدعوة إلى الله ، ولا تملي بالنصح للآخرين ولا تنظري إلى لوم لائم ، ولا إلى عتاب عاتب ولا إلى هوى نفس أو شيطان .(/2)
صوني لسانك عما حرمه الله عليك فقولي خيراً وتكلمي خيراً أو اصمتي ؛ فكم كلمةً جرى بها اللسانُ هلك بها الإنسانُ ، وإنَّ المرء ليقول الكلمة من سخط الله يكتب الله لها بها سخطه إلى أنْ يلقاه .
فعيك أخيتي بمداومة التوبة من الذنوب والمعاصي ؛ فإنَّ الشيطان قد قطع على نفسه عهداً فقال : وعزتك وجلالك لأغوينهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، والله يقطع العهد على نفسه : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني . الكثير من أخواتنا ، وإنْ بعدت عن الله فإنَّ فيها خيراً كثيراً وفيها حبٌ لله ولرسوله لكنها الغفلة .
أختي المسلمة : إنَّ لك تأثيراً كبيراً في المجتمع ، وقد يكون التأثير سلباً أو إيجاباً فإذا كنت ذا عقل ناضج كان تأثيرك البناء الفعال ، وإنْ كنت ذا عقل خفيف طائش ، أو عقل فاسد منحرف كنت بؤرة فساد وإفساد للمجتمع ، ونحن نجزم أنَّ صلاح المرأة من أهم العناصر لبناء المجتمع .
أختي المسلمة أختم كلامي بأنْ تعلمي أنَّ الله يراك وأنَّ اللحظات معدودةٌ والأنفاسُ محسوبةٌ ، والذي يذهب لا يرجع ، ومطايا الليل والنهار بنا تسرع ؛ فماذا قدمت لحياتك ؟ اسألي نفسك ماذا قدمتي لحياتك .
هذا وبالله التوفيق ، وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة
مركز إعداد الدعاة
كلية العلوم الإسلامية / جامعة الأن(/3)
حكم بناء الكنائس والمعابد في جزيرة العرب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فالكَنِيسَةُ: كسَفِينَةٍ: مُتَعَبَّدُ اليَهُودِ والجَمْع كَنَائسُ، وهي مُعَرَّبةٌ، أَصْلُها: كُنِشْتُ. أَو هي مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى كما هو قولُ الجَوْهَرِيِّ وخَطَّأَه الصّاغَانِيُّ فقال: هو سَهْوٌ منه إِنَّمَا هِيَ لليَهُودِ والبِيعَةُ للنَّصَارَى. أَو هي مُتَعَبَّدُ الكُفّارِ مُطْلَقاً(1).
قال الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله- عند تفسير قوله -تعالى-: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}الحج: 40: (الصواب لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود وهي كنائسهم ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيراً؛ لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب)(2).
فمعابد اليهود تسمى كنائس، ومعابد النصارى تسمى بيع، وقيل: العكس(3).
وقد أفتت اللجنة الدائمة على سؤال ورد إليها عن حكم بناء الكنائس والمعابد في جزيرة العرب بحرمة ذلك وهذه نص الفتوى: "كل دين غير دين الإسلام فهو كفر وضلال، وكل مكان يعدّ للعبادة على غير دين الإسلام فهو بيت كفر وضلال، إذ لا تجوز عبادة الله إلا بما شرع الله سبحانه في الإسلام، وشريعة الإسلام خاتمة الشرائع، عامة للثقلين الجن والإنس وناسخة لما قبلها، وهذا مُجمع عليه بحمد الله تعالى.
ومن زعم أن اليهود على حق، أو النصارى على حق سواء كان منهم أو من غيرهم فهو مكّذب لكتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد وإجماع الأمة، وهو مرتد عن الإسلام إن كان يدّعي الإسلام بعد إقامة الحُجة عليه إن كان مثله ممن يخفى عليه ذلك، قال الله -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}سبأ: 28، وقال عز شأنه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}الأعراف:158، وقال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}آل عمران: 19، وقال -جل وعلا-: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}آل عمران: 85، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}البينة: 6، وثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان النبي يُبْعَث إلى قومه خاصة، وبُعثْتُ إلى الناس عامة).
ولهذا صار من ضروريات الدين: تحريم الكفر الذي يقتضي تحريم التعبد لله على خلاف ما جاء في شريعة الإسلام، ومنه تحريم بناء معابد وفق شرائع منسوخة يهودية أو نصرانية أو غيرهما؛ لأن تلك المعابد سواء كانت كنيسة أو غيرها تعتبر معابد كفرية؛ لأن العبادات التي تُؤدى فيها على خلاف شريعة الإسلام الناسخة لجميع الشرائع قبلها والمبطلة لها، والله تعالى يقول عن الكفار وأعمالهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً}الفرقان: 23.
ولهذا أجمع العلماء على تحريم بناء المعابد الكفرية مثل: الكنائس في بلاد المسلمين، وأنه لا يجوز اجتماع قبلتين في بلد واحد من بلاد الإسلام، وألا يكون فيها شيء من شعائر الكفار لا كنائس ولا غيرها، وأجمعوا على وجوب هدم الكنائس وغيرها من المعابد الكفرية إذا أُحدثت في الإسلام، ولا تجوز معارضة ولي الأمر في هدمها بل تجب طاعته.
وأجمع العلماء -رحمهم الله تعالى- على أن بناء المعابد الكفرية ومنها: الكنائس في جزيرة العرب أشد إثماً وأعظم جرماً، للأحاديث الصحيحة الصريحة بخصوص النهي عن اجتماع دينين في جزيرة العرب، منها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) رواه الإمام مالك وغيره وأصله في الصحيحين(4).
فجزيرة العرب: حرمُ الإسلام وقاعدته التي لا يجوز السماح أو الإذن لكافر باختراقها، ولا التجنس بجنسيتها، ولا التملك فيها، فضلاً عن إقامة كنيسة فيها لعبّاد الصليب، فلا يجتمع فيها دينان، إلا ديناً واحداً هو دين الإسلام الذي بَعَثَ الله به نبيه ورسوله محمداً، ولا يكون فيها قبلتان إلا قبلة واحدة هي قبلة المسلمين إلى البيت العتيق، والحمد لله الذي الذي وفّق ولاة أمر هذه البلاد إلى صدّ هذه المعابد الكفرية عن هذه الأرض الإسلامية الطاهرة.
وإلى الله المشتكى مما جلبه أعداء الإسلام من المعابد الكفرية من الكنائس وغيرها في كثير من بلاد المسلمين، نسأل الله أن يحفظ الإسلام من كيدهم ومكرهم.(/1)
وبهذا يُعلم أن السماح والرضا بإنشاء المعابد الكفرية مثل الكنائس، أو تخصيص مكان لها في أي بلد من بلاد الإسلام من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره، والله -عز شأنه- يقول: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} المائدة: 2.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: (من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يُعبد فيها، أو أن ما يفعله اليهود والنصارى عبَادة لله وطاعة لرسوله، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه، أو أعانهم على فتحها وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة أو طاعة فهو كافر).
وقال أيضاً: (من اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرّم عُرّف ذلك، فإن أصرّ صار مرتداً ).انتهى(5).
عائذين بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهداية، وليحذر المسلم أن يكون له نصيب من قول الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}محمد: 25-28"(6).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - راجع: لسان العرب (6/197)، وتاج العروس (1/4112).
2 - تفسير الطبري (9/162).
3 - انظر: فتح القدير (3/654).
4 - الذي في الصحيحين هو: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)، وفي لفظ لمسلم: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً).
5 - الإقناع (4/297).
6 - فتوى رقم (21413) وتاريخ 1/4/1421 هـ.(/2)
حكم وضع النغمات الموسيقية بالجوال
حكم وضع النغمات الموسيقية بالجوال وما توجيه فضيلتكم لأصحاب محلات الجوال لمن يضع النغمات بجوالات الشباب ويأخذ فلوس عليها
أجاب أ. د عبد الله بن محمد الطيار
الحمد لله وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
الموسيقى محرمة بالجوال وغيره؛ لكنها أعظم حرمة إذا كانت بالجوال؛ لأن في ذلك أذية للناس حيث يسمعونها إذا تم الاتصال على الجوال، وهذا داخل في أذية المؤمنين، ومن آذى المؤمنين فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) الأحزاب: 58.
ويشتد الإثم إذا كان صاحب المحل يضع النغمة، ويساعد الشاب على الإثم والعدوان وهذا من التعاون على الأمر المحرم وقد نهانا الله - جل وعلا - عن التعاون على الحرام فقال: (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2) وإذا كان هؤلاء يأخذون أجرة على ذلك فهذا الكسب الخبيث المحرم، ومن أكل المال بالباطل، وقد نهانا الله - جل وعلا - عن أكل المال بالباطل (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)البقرة: 188.
وليعلم هؤلاء أن طيب المطعم من أسباب إجابة الدعاء، وأن الكسب الخبيث مانع من إجابة الدعاء، قال - صلى الله عليه وسلم - (أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة) وذكر - صلى الله عليه وسلم - الرجل يطيل السفر أشعثَ أَغْبَر يَمُدُ يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له رواه البخاري ومسلم.
نسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا من المتعاونين على الخير، إنه ولي ذلك، والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وصحبه أجمعين.
27 / 2 / 1425هـ(/1)
حلول شرعية للبطالة
7 / 11 / 1426هـ
للشيخ / محمد صالح المنجد
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد،، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي
محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله، إن من المصائب التي ابتليت بها الأمة منه اليوم، فألحقها بركب التخلف في عدد من الميادين هو البطالة، فكثير من أفرادها لا يجدون شيئاً يعملونه، إما لعجز أو كسل، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من هذين، " اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل " ، فتارةً يريد الشخص أن يعمل شيئاً ولا يستطيع وتارةً لا يريد أن يعمل أصلاً، العجز والكسل سبب البطالة والقعود عن العمل، وقد حثت هذه الشريعة على العمل وجاءت النصوص من الكتاب والسنة ببيان ذلك، فتارةً يقرن الله بين الضرب في الأرض والسفر للتجارة بالجهاد في سبيل الله، { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله }، تجارة،
{ وآخرون يقاتلون في سبيل الله }، جهاداً إذن قرن بين التجارة والضرب في الأرض من أجلها وبين الجهاد في سبيل الله، وتارةً يأمر بالعمل والسعي في طلب الرزق بعد العبادة فيقول: { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون }، وتارةً يذكر من أسباب الرزق ما يخالط به عبادة من العبادات وهو الحج فيقول: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم }، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، أسواقاً في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها لما دخل الناس في الإسلام، قالوا: هل يجوز لنا أن نتاجر في موسم الحج وهذه الأسواق يجتمعوا فيها الناس؟، فأنزل الله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم }، أي: في مواسم الحج، وتارةً يخبر عزوجل عن حل البيع فيقول: { وأحل الله البيع وحرم الربا }، وأما السنة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه ويمنعه "، رواه البخاري. وفي رواية " لأن يغدوا أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق منه فيستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه ذلك فإن اليد العليا أفضل من اليد السفلى وأبدا بمن تعول "، وهذا الحديث الذي رواه الترميذي وهو صحيح فيه الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها، ولو أمتهن المرء نفسه في طلب الرزق وأرتكب المشقة في ذلك،، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها، فدل على أن المسألة أقبح مد اليد للسؤال، أقبح من أن يمتهن الرجل نفسه بالعمل فيعمل حطاباً أو حمالاً فهذا يدل على بغض الشارع لمد اليد للسؤال، وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد إذا لم يعطه، ولما يدخل على المسئول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل، أو التبرم، والمضايقة من هؤلاء السائلين الملحين، وقال عدد من العلماء بأن سؤال القادر على الاكتساب حرام وأنه إثم، وكل ما زاد في السؤال والشحاذة وهو قادر، أو عنده ما يغنيه فإنه إذا كان عنده ما يغنيه ويسأل كل مسألة تكون جرحاً في وجهه وخدشا يوم القيامة، حتى إن أناس يلقون الله وليس في وجوههم مزعت لحم، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل ما يأكله المرء المسلم من كسب يديه وعمله بيده، فقال: " أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور "، حديث صحيح.
والبيع المبرور لا إثم فيه ولا كذب، ولا غش ولا تدليس، ولا بيعاً على بيع أخيه، ونحو ذلك،، من المحرمات كبيع المجهول، وبيع الغرر، ونحوها،، وقال عليه الصلاة والسلام: " ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يديه وإن نبي الله داوود كان يأكل من عمل يده "، ومع أن الله جعله خليفة في الأرض لكنه أبتغى الأكل من طريق الأفضل، واعتبرت الشريعة أن العمل من أجل النفقة على النفس والأهل نوعاً من السعي في سبيل الله، لكي لا تستحقر النفوس هذه العملية ولا يزهد بعض الناس فيها ولذلك مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه ما أعجبهم، فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله، هذا الرجل صاحب النشاط والقوة لو بذل نشاطه في الجهاد وقوته بدلاً من أن يبذله في السعي والكسب والعمل الدنيوي، فقال عليه الصلاة والسلام: " إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان " حديث صحيح.(/1)
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أكل الطيب من الحلال من أسباب دخول الجنة، فقال: " من أكل طيباً وعمل في سنة " ، عبادة على أساس من الدليل الصحيح وليس من البدع، " من أكل طيباً وعمل في سنة وأمن الناس بوائقه دخل الجنة "، جوامع من الكلم، لا إله إلا الله وسبحان الذي آتاه هذه الجوامع، من أكل طيباً وعمل في سنة وأمن الناس بوائقه دخل الجنة، وكذلك فإن الصحابة الذين تعلموا هذه الآيات والأحاديث عملوا بذلك في واقعهم، فلما قدم
عبد الرحمن بن عوف المدينة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وكان سعد ذا غناً، فقال لعبد الرحمن: أقاسمك مالي نصفين وأزوجك. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك. دلوني على السوق فما رجع حتى أستفضل أقطاً وسمناً فأتى به أهل منزلة، فمكثنا يسيراً أو ما شاء الله، فجاء وعليه وضر من صفرة، أثر من صفرة زعفران تدل على أنه قد أحتك أو لامس امرأة، لأن الزعفران من طيب النساء. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " مه يم. فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار، سبحان الله قد جاء لتوه من مكة طريداً فقيراً ورفض المعونات المالية، مع أنها من أخيه في الله، وآثر أن يعمل فما لبث أن كسب قوتاً لنفسه ثم كسب ما يتزوج به، ومهراً أتم زواجه. قال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار. قال: ما سوقت إليها؟. قال: نواة من ذهب. أو وزن نواة من ذهب، قال: أولم ولو بشاة.
فأشتغل الصحابة على عهد النبي عليه الصلاة والسلام بالتجارة، والتكسب، والزراعة، والصناعة، وباشروا ذلك بأنفسهم، وكان ذلك من فتح الله عليهم، وكان من البركة التي أتاهم الله إياها، واستغنوا عن سؤال الناس، ولم يقل المهاجرون إخواننا يتكفلون بنا ورموا بأثقالهم على إخوانهم أبداً، قاموا يعملون من أستطاع منه العمل والتدبير عمل، وقال ابن عمر وابن مسعود: إني لأكره أن أرى رجلاً سبهللاً فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في الآخرة. وقال عمر: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم أرزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. وقال أيضاً: مكسبه فيها بعض الدناءة خير من مسألة الناس، ولعله يشير إلى الحجامة ونحوها،، وقال أبو سليمان الداراني: ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يتعب لك، ولكن أبدأ برغيفك فأحرزه ثم تعبد. قال ابن الجوزي: الأولى للعالم أن يجتهد في طلب الغناء وفي الكسب وإن ضاع بذلك زمان فإن يصون بعرضه، والعرض هو المال المتخذ عرضه، أي: عن الناس.
وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت وخلف مالاً، وخلف سفيان الثوري مالاً وقال: لولاك، يخاطب المال، لتمنذلوا بي. أي: لكنت على أبوابهم، وهذا فيه حث للأهل العلم على الاستغناء عن الناس فضلاً عن غيرهم، وكان بعض العلماء ينسخ الكتب والمصاحف بالأجرة، يقول مالك ابن دينار: دخل علي جابر بن زيد وأنا أكتب، فقال: يا مالك ما لك عمل إلا هذا تنقل كتاب الله؟، قال: هذا والله الكسب الحلال، وقال جعفر بن سليمان: كان مالك بن دينار ينسخ المصحف في أربعة أشهر فيدع أجرته عند البقال فيأكله، وهكذا يأخذ من عند البقال تدريجياً ويعطيه مقدماً حتى يستوفي ماله الذي أودعه عنده، كان بعض العلماء يتاجر ما بين رمضان إلى الحج ويطلب العلم بقية السنة، وطلب الرزق والعبادة من مرضاة الله تعالى، { وأبتغي فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا }، أستعمل بما وهبك الله من هذا المال في طاعة ربك، وتقرب بالقربات من الصدقة، والإحسان، والصلة، والهبة، ونحو ذلك،، مما يمكن أن تفعله بمالك من الأمور العبادية، التي يتقرب بها الإنسان إلى الله.
عباد الله، فلا تعارض إذن بين الاكتساب، والعمل، صناعة، تجارة، زراعة، ونحو ذلك،، وبين الشريعة، والعبادة، والصحابة، فتحوا البلدان وهم يعملون ويكسبون، وكان من أكسابهم العظيمة، الغنائم في سبيل الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وجعل رزقي تحت ظل رمح " ولذلك،، قال العلماء: أحل الحلال في الأرض الغنائم في سبيل الله، قال عزوجل: { كلوا مما غنمتم حلالاً طيباً } .(/2)
عباد الله، لقد تحمل بعضهم الجوع من أجل العلم ولم يكونوا يريدون دائماً أن يكتمل ما عندهم من المال اللازم لكل شيء، ولهذا تحمل أبو هريرة الجوع ولم يصفق بالأسواق لأجل الحفظ فبارك الله له، وقال: إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم وكنت أمراء مسكيناً من مساكين الصفة، أحضر ما لا يحضرون، وأحفظ ما لا يحفظون، نعم،، إن قيام بيت المال بتفريغ بعض أهل العلم من النبغاء لأجل هذا أمر طيب، فإذا حصل لا يكون لأحد عليهم منة لأن العطية من بيت المال لهؤلاء ليست مذلة، ولكن إذا لم يحصل لهم مصرف مثل هذا فإنهم يقومون يكتسبون، وهل يمكن أن يمارس الإنسان عملاً أخروي من داخل العمل الدنيوي؟، الجواب: لا شك ولا ريب، بينما رجل بفلاة من الأرض سمع صوتاً في سحابة أسقي حديقة فلان! فتنحى ذلك السحاب، إنه أمر صدر إليه ملك أمر السحابة أسقي حديقة فلان!، فتنحى ذلك السحاب، توجه فأفرغ ماءه في حرة أرض صلبة، فإذا شرجت من تلك الشراج مسايل الماء قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته، لقد أنساق الماء بأمر الله إلى مسار معين إلى أرض معينة وبستان معين، فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له أي الذي سمع الصوت من السحابة: يا عبد الله ما اسمك؟ فمن السنة إذا لم يعرف الإنسان أسم رجل وأراد أن يناديه أن يقول له: يا عبد الله، فكل الناس عبيد لله. ما أسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فطابق الاسم الذي أخبر به الرجل ذلك الاسم الذي سمعه في السحابة، فقال له: يا عبد الله، أي الآخر صاحب البستان لما تسألني عن أسمي؟، فقال: إن سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماءه يقول: أسقي حديقة فلان لأسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذا قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً وأرد فيها ثلثه. رواه مسلم.
فإذن ثلث لعياله، وثلث للصدقة، وثلث للنفقات لكي تزرع مرة أخرى.
عباد الله، إن الإيمان بحقارة الدنيا وتفاهتها وأنها ملعونة لا يعني عدم العمل، ولكن معناها عدم التعلق بالدنيا، إن الأوامر بالزهد في الدنيا لا تعني عدم العمل والتكسب، ولكنها تعني أن لا يتعلق القلب ويكون نهوماً مقبلاً على الدنيا، تارك لأمور الآخرة فهو يغتم إذا نقص المال ويفرح إذا زاد فيطغى أن راءه استغنى، متى يكون الرجل زاهداً وعنده مائة ألف؟، سئل أحمد رحمه الله، قال: نعم يكون زاهداً وعنده مائة ألف، بشرط أن لا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت، لكن من هو الذي يقدر على ذلك،، وعندما تصبح الأموال عندك بمثابة بيت الخلاء لا بد منه لقضاء الحاجة، ولكن النفس لا تعشق وتهيم وتتعلق بهذا مكان النجاسات، فعندما يكون القلب محرراً لله غير عبد للدينار والدرهم، فلا يضره بعد ذلك أن يتكسب وتزيد أمواله، { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة }، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى قوماً من أهل السوق نودي للصلاة المكتوبة فتركوا بيعهم فوراً ونهضوا، فقال: عبد الله هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه، { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله }، وهكذا،، قال ابن عمر لما كان في السوق فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، قال فيهم: نزلت وذكر الآية.
ونظر سالم بن عبد الله إلى أمتعة أصحاب البسطات قد غطوها ليس معها أحد وقت الصلاة لأنهم في المساجد، قال: { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة }، هم هؤلاء. وقال بعض السلف: كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يديه خفضه وأقبل إلى الصلاة، وهكذا،، تصبح القناعة في قلوب هؤلاء مانعة من التفرغ التام في الدنيا وإهمال الآخرة، لأنه لا بد من تعديل الكفة في الجانب الآخرة فإن بعض الناس دائماً يدعوا إلى العمل، والتجارة، والصناعة، والزراعة، والتكسب، ويقول: الدين حث، والدين حث، ولكنه لا يحث في الجانب المقابل على الزهد في الدنيا، وعلى القناعة، وعلى الصدقات، وعلى أن يكون هم الإنسان الآخرة أكثر من الدنيا، وعلى اتقاء المحرمات في البيوع، وعلى إخراج حقوق الله في الأموال، وعلى الالتزام بالأحكام الشرعية في الكسب والنفقة، وعلى حسن القصد والنية الطيبة، وهكذا،، ولذلك فتأتي كثير من الكلمات في هذا المجال ناقصة فيحثون على العمل ولا يتكلمون في المقابل عن هذه المفهومات الشرعية العظيمة.
عباد الله، إن الكسب الحلال طرقه كثيرة فجاء في الشريعة ذكر الزراعة، لا يغرس المسلم غرساً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة يوم القيامة.(/3)
الزراعة فيها توكل على الله، الزراعة فيها إطعام لخلق الله حتى النمل تأكل من الحبوب الساقطة من هذه النباتات فيؤجر على ما أكله النمل والطير فضلاً عما أكله البشر من زرعه، وكذلك،، أتخذ الصحابة هذا فزرعوا، وأبو الدرداء وهو معلم القرآن بدمشق مر عليه رجل وهو يغرس غرساً، قال: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا تعجل علي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من غرس غرساً لم يأكل منه آدمي ولا خلق من خلق الله عزوجل إلا كان له صدقة ". حديث صحيح. فيثاب الإنسان على ما أخذ من ماله وما أتلفته الدابة أو أخذ منه الطائر، وكان لأنس رضي الله عنه بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان يجئ منه ريح المسك. حديث حسن رواه الترميذي بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام وبركة دعائه.
وأيضاً فقد عرفنا ما كان من المغانم في سبيل الله من الحل العظيم، وأنها كانت من أعظم مكاسب المسلمين ولا يستحق الكفار أن تبقى الأموال في أيديهم، فإذا جاهدهم المسلمون أخذوا منهم المال الذي أمر الله بأخذه وأحله لهم، { كلوا مما غنمتم حلالاً طيباً } فكلوا إذن هذا يدل على أعظم الحل لأنه وصفه بقوله حلالاً طيباً وأما رعي الغنم فقد عمل فيه الأنبياء، ورعى النبي صلى الله عليه على قراريط لأهل مكة، فأشتغل بذلك وأما الصيد فقد قال تعالى: { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة }، وأما التجارة فقال: { وأحل الله البيع } { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وترى الفلك فيه مواخر }، السفن تعبر المحيطات { لتبتغوا من فضله }، وقال: { والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس }، وهذه هي التجارة الدولية وتحريك السلع من بلدان إلى أخرى للتكسب، وكان الصحابة لهم رحلات تجارية، وكان صخر الغامدي إذا بعث تجارته يبعثها من أول النهار فأثرى وكثر ماله لابتغاء البكور، والاحتطاب قد مارسه الصحابة أيضاً وكان ذلك من أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، هذا كله من العمل وذم البطالة والكسل والحرص على إغناء النفس والأهل واتقاء الرب جل وعلا وابتغاء المرضاة في العمل.
اللهم إنا نسألك أن تجعل كسبنا حلالا، اللهم إنا نسألك أن تجنبنا الحرام في المكاسب يا رب العالمين، اللهم أجعل قلوبنا عامرة بذكرك وأكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننى بفضلك عمن سواك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه،، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى سبيله ورضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم لقياه، اللهم إنا نسألك أن تصلي على نبينا محمد، أللهم زده صلاةً وسلاماً وبركةً يا رب العالمين.
عباد الله، لقد جاءت الشريعة بأمر عظيم لأجل فتح المجال في طلب الرزق وهو إحياء الموات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم موجد الحافز والدافع لهذا لأن الناس تعملوا بالمحفزات،
قال: " من أحيا أرضاً ميتةً فهي له ". حديث صحيح. والمواد الأرض التي لم تعمر لم تزرع، هذه الأرض إذا أحييت بأي وسيلة من وسائل الإحياء فإن لمن أحياها أن يتملكها شرعاً، وإحياؤها يكون بسقيها حفر بئر فيها، زرعها، يكون بغرسها، أو بالبناء فيها والعمران، وجمهور العلماء أن من فعل ذلك فإنه يملكها تلقائياً مباشرة ولا يحتاج إلى شيء مع ذلك،، وهذا الحديث يؤدي إلى إحياء المساحات الواسعة من الصحاري المعطلة في كثير من بلدان المسلمين لو طبق هذا النص الشرعي، وكذلك،، فإن من الوسائل العظيمة للكسب الصناعة، وقال عليه الصلاة والسلام، للرجل الذي سأله أي الأعمال أفضل؟ قال: " الإيمان بالله والجهاد في سبيله "، قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: " أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً "، قلت: فإن لم أفعل؟، قال تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق "، والأخرق الذي لا صنعة له، وقد علم الله داوود الصناعة، فقال عزوجل: { وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصينكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون }، وألان الله له الحديد فكان يعمل أعمل سابغات، دروع سابغة على أجساد المقاتلين تقيهم الضربات في المعارك، { وقدر في السرد }، فلا يعظم المسمار فيفصم الحلقة ولا يكون دقيقاً فتلعب الحلقة، يلعب في الحلقة ويتحرك ويهتز لكن قدره تقديراً، المسمار على قدر الفتحة فيحدث التثبيت، { أنعمل سابغات وقدر في السرد }، وهكذا كانت الصناعة.(/4)
إن الصناعة اليوم من أعظم وسائل التقدم والقوة، ولأن الله قال لنا: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة }، كان لا بد لنا من الأخذ بذلك، فإن الأسلحة اليوم تقوم على الصناعة، وكذلك،، الإمدادات العظيمة والمراكب الضخمة الكبيرة، وهذه الوسائل اللازمة اليوم للتفوق والتقدم والتطور، إنما تقوم على الصناعة وقد علمنا الله في كتابه كيف ينقل القوم أصحاب البطالة إلى عالم الصناعة، يتحدثوا الناس اليوم عن البطالة وحل البطالة، ويقولون إن هنالك بطالة عظيمة، وهذه البطالة التي فيها النسب الكبيرة، والأعداد الهائلة، وهي من أسباب الجرائم، ونحو ذلك من الضعف والوهن الذي يصيب الأمة، وأن يكون بعض الناس أذلاء يمدون أيدهم، أو أنهم يتحولون إلى مجرمين يقومون بأنواع السطو والسرقة، وكثير من المسلمين اليوم في الحقيقة بطالة وعالة، وعندما يكون أكثر هؤلاء من الشباب فتكون المشكلة أيضاً عظيمة للغاية، هذه الصناعة التي جاء نقل أهل البطالة إليها في القرآن الكريم على يد ذي القرنين، الملك الصالح رحمه الله، { ويسألونك عن ذي القرنين قل سألت عليكم منه ذكراً }، ذكر الله في رحلته، { حتى إذا بلغ بين السدين }، وهما جبلان عظيمان مرتفعان أملسان كما قال أهل العلم: وسمي الجبل سداً لأنه يسد فجاج الأرض وفراغها، { حتى إذا بلغ بين السدين وجد }، أي: ذو القرنين ومن معه من جيشه المسلم، العرمرم، المكتسح، المجاهد في سبيل الله، { وجد من دونهما }، من دون السدين من ورائهما، وقيل أمامهما، { وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً }، قوم ضياع فقراء، أهل بطالة ضعفاء، لا يفهمون، لا يكادون يعقلون، لا يكادون يفقهون قولاً، مظلومون مضطهدون، من الذي يعتدي عليهم؟ يأجوج ومأجوج، المفسدون في الأرض. استغاثوا بذي القرنين لما رأوا أمامهم جيشاً وقوةً، قالوا: { يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض }، وهذا معروف، ما هو المطلوب؟، { إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً }، يتوسلون، يتمنون، ويطلبون، { فهل نجعل لك خرجاً }، يعني: جعلاً وأجراً ومقابلاً مالاً، { على أن تجعل بيننا وبينهم سداً }، فلا يتمكنون من العبور إلينا ومن قتلنا، ونهب أموالنا، { فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً }، لكن الملك الصالح، والقائد المسلم، الموحد الفاتح، هو في غنى عن هذه الدنيا، فقال: { ما مكني فيه ربي خير } ما بسطه لي من الملك والمال، وأسباب القوة، خير من الخراج الذي تريدون أن تعطونني إياه، والصالحون أقوالهم تتطابق عبر العصور، فهذا يطابق قول سليمان عليه السلام، لما جاءه وفد بلقيس بالهدية العظيمة، قال: { أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما أتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون أرجع إليهم }، إذن الأقوياء لا يأكلون الضعفاء، وكذلك الدول القوية يجب أن لا تأكل الدول الضعيفة، إن ذا القرنين علمهم الصنعة والتقنية، ولم ينهب ثرواتهم وأموالهم، والمواد الخام التي عندهم بسبب جهلهم، كما تفعل الدول القوية اليوم في نهب ثروات الدول الضعيفة، وسرقة أو أخذ المواد الخام التي لديها مما لا تعرف بسبب تخلفها، كيف تستفيد منها؟، تأخذه بأبخس الأثمان، وتقرض بالفوائد المركبة لتنهب بقية الثروة التي لم تنهب بعد، ولكي تركع هذه الدول الضعيفة عشرات ومئات السنين، بل إن على بعض الدول من الديون المركبة ما قد لا يمكن وفاءه قبل قيام الساعة، { أتمدونني بمال }، لا نسألكم خرجاً، لا يريد منهم أجراً ولذلك قال: { ما مكني فيه ربي خير }، ثم بدأت الخطة، بدأت الخطة المدهشة { فأعينوني }، فأعينوني، هل يحتاج ذو القرنين ومن معه إلى الإعانة ومعه الجيش العظيم، لكن يريد أن يزرع في نفوسهم الثقة بالقدرة على العمل، فأعينوني كلمة عظيمة بقوة، أي: أريد منكم نشاطاً وجلداً وليس كسلاً وسحباً للأرجل، { فأعينوني بقوة }، استنهاض للعمل إنها الحكمة والله،، والإدارة الناجحة فأعينوني أنتم تستطيعون أن تقدموا شيئاً وأن تعاونوا بقوة، أنهضوا وبجد ونشاط فإذا فعلتم ذلك فهناك محفز لكي يفعلوا وهو { أجعل بينكم وبينهم ردماً }، حاجزاً حصيناً وحجاباً عظيماً، فأوجد المحفز لهم على العمل أيضاً، وأن المقابل ما يتمنونه وما أرادوه من هذا الحاجز العظيم، ردماً بعضه فوق بعض، لأن الردم وضع الشيء على الشيء ثم بعد انبعاث النفوس للعمل والتطلع وشحذ الهمم وأن المتمني سيحدث إذا عملوا إذا بذلوا، وضح الخطة خطة العمل وعلم القوم التقنية، { آتوني زبرا الحديد }، ناولوني الزبر، الزبر جمع زبرة وهي القطعة الكبيرة، أجمعوا قطع الحديد إذن { آتوني زبرا الحديد }، آتوني زبرا الحديد لكي يرص بعضها فوق بعض، { حتى إذا ساوى بين الصدفين }، ولاحظ أن الشرح يتوافق مع العمل، فكلما أنجزوا مرحلة شرح لهم المرحلة التي بعدها، وما هو المطلوب؟ لأن تفهيم العمال الخطة حتى تكون واضحة عندهم هو إنجاز بحد ذاته، لأن القوم أصلاً لا يكادون يفقهون قولاً،(/5)
يتحدثون اليوم عن الإدارة والتدريب، وهذه أركانها موجودة في كتاب الله قبل أن يأتي بها الغربيون، وقبل أن تكتب الكتب الحديثة في الإدارة، فعامل التحفيز واستنهاض الهمة، ووضع المغريات، وتوضيح خطة العمل، وتجزئة الخطة ليفهمها الصناع، وأن يوافق الشرح النظري المجهود العملي، { آتوني زبرا الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين }، الانتقال للمرحلة التي بعدها، ما هي؟ { أنفخوا }، إذن إيقاد نيران والإتيان بالمنافخ لكي تعظم النيران، فينصهر الحديد ليصبح طبقاً واحدة، ويلتحم بعضه ببعض، أنفخوا،، هم يعملون، هم يأتون بالمنافخ، إنهم يقدرون على ذلك لم يكلفهم بشيء معقد لا يستطيعونه، ويقوم المدرب المشرف أيضاً بأنواع المهام التي لا يحسنها هؤلاء، وهم يعملون ما يمكنهم ويتعلموا الباقي، توضع الخطة تريدون إذن إنهاء البطالة فلا بد من وضع خطط حقيقية، حقيقية، يستطيعوها هؤلاء، ولا بد من تدريبهم، ولا بد من الإشراف عليهم عملياً أما خذ مال وأمشي فقط ينفقه في شيء آخر، { حتى إذا ساوى بين الصدفين قالوا أنفخوا حتى إذا جعله }، أي: المنفوخ فيه وهو زبر الحديد، { ناراً } أي مثل: النار في الحرارة والهيأة، وصار الآن طبقاً واحداً، { قال }: تأتي المرحلة الثالثة والشرح مع العمل، { آتوني } أنتم تعملون، أنتم بأيديكم، آتوني نحاساً مذاباً { أفرغ عليه }، أصبه على الحديد المحمى { قطراً } هذا النحاس المذاب، وهكذا صب النحاس المذاب على الحديد وألتصق بعضه ببعض، ودخل النحاس في الفراغات، ودخل مكان الحطب والفحم، وأمتزج الجميع فصار سبيكة عظيمة مهولة، سمكية قوية، لا يمكن اختراقها، إنه حديد ملبس مشبع بهذا النحاس، { أفرغ عليه قطرا }، فلذلك كانت النتيجة، { فما اسطاعوا أن يظهروا }، لعله لم يستطيع يأجوج ومأجوج أن يعلوا فوقه، وأن يتسلقوه، لأنه أملس لا يمكن تسلقه، { ولم يستطيعوا له نقباً }، من باب أولى لم يستطيعوا خرقه، ولا أن يفتحوا فيه فتحة، ولا أن ينقبوه، فإذن أكتمل المجهود وحصل المطلوب، وتعلم هؤلاء ماذا يفعلون؟ ونقلهم من الخمول إلى النشاط، ونقلهم من الضعف إلى القوة، وعلمهم بدون مقابل، وهذا ما يجب على الدول القوية أن تفعله من نقل التقنية إلى الدول الضعيفة مجاناً فينتفع الجميع، لكن اليوم هنالك ظلم عظيم في الأرض وبغي لما حصل ما حصل من ذي القرنين، ماذا قال؟ هل اغتر بما صنع؟ أو أنه تعالى عليهم؟ أو أنه أمتن عليهم؟ كلا،، قال: { هذا رحمة من ربي } لم يقل مني، ولا بخطتي، رحمة عظيمة، ونعمة جسمية من ربي، وهذا على كافة الخلق وليس فقط على هؤلاء القوم، فإن يأجوج ومأجوج لم يستطيعوا بعدها أن يخرجوا للإفساد في أي مكان آخر من العالم، وذكرهم بالآخرة ووعظهم، فقال: { حتى إذا جاء وعد ربي جعله دكا }، فسينقض السد إذا دك دكا الله الأرض، وزلزلت الأرض زلزالها، إذا جعل الله الأرض وما عليها دكا دكا، وخرج يأجوج ومأجوج قبل ذلك، بنقب السد وهم شرط من أشرط الساعة .
عباد الله، إن مجالات العمل كثيرة، ولكن إما أن يحدث عجز أو كسل أو ظلم، أما العجز والكسل فقد بيناه، وأما الظلم فأن يحدث من أنواع الواسطات المحرمة، من تقفيز أناس فوق أناس، وتقديم أناس متأخرين وترك المتقدمين، وتقديم الأقل كفاءة بسبب المعرفة والواسطة، أو أن يحدث نتيجة ظلم أهل البغي والطغيان فيقنون من القوانين ويستخدمون أمرهم وسلطتهم في منع الناس من العمل في أمور معينة، ويحبسوا لأنفسهم أشياء عن الناس، فالظلم إذن من أسباب البطالة ولا شك،، وهذا يكون في تقنين قوانين وممارسات ظالمة تؤدي إلى التضييق على الناس، وكذلك،، فإن الناس إذا لم تفتح لهم المجالات ولم تكن لهم هذه الفرص فيقولون: حاولنا وذهبنا وجئنا فلم نجد مجالاً فإذا أرتفع الظلم والعجز والكسل حلة البطالة، وبالظلم والعجز والكسل لا يمكن حل البطالة وستبقى البطالة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل أهل الإسلام في قوة وأهل الكفر في ضعف وخزي وذلة، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم أقمع أعداء الدين، اللهم سلط عليهم جنداً من عندك يا رب العالمين، اللهم أذلهم في الدنيا والآخرة، اللهم أقطع دابرهم واستأصل شأفتهم، وأذهب قوتهم، اللهم عطل أسلحتهم ونكس راياتهم، اللهم أهزمهم وزلزلهم، وأجعل دائرة السوء عليهم، وأجعلهم وأموالهم غنيمة للمسلمين، اللهم أجعل بلاد المسلمين عامرة بذكرك، عامرة بشرعك، اللهم إنا نسألك أسباب القوة لأهل الإسلام، أغننى من فضلك يا رب السماء، اللهم إنا نسألك الغنى في القلب والمال، والعافية في الأهل والولد والنفس والدين والدنيا يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(/6)
حملة صليبية جديدة !!
هكذا أعلن الرئيس الأمريكي، بدون مواربة أو خجل، وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع، وسط ذهول كثير من المراقبين (خاصة المهتمين بحوار الحضارات والأديان).
إن القيادة الأمريكية تصور المعركة وكأنها بين المجتمع المسيحي المتحضر والمجتمع الإسلامي (الإرهابي غير المتحضر)، يعزز هذا التصور المغلوط الآلة الإعلامية الصهيونية بكل قوتها ونفوذها، ويصرح به قادة العدو باستمرار دون كلل أوملل، فهم كما قالوا (والكلام للإرهابي شارون) يواجهون مع أمريكا نفس الإرهاب !!
لقد تكشفت كل الأقنعة وظهرت الحقيقة (التي كانت مستترة بكل مساحيق التجميل السياسي) ليمارس المجتمع الأمريكي والأوروبي (المتحضر !!) أبشع الممارسات في حق الجاليات العربية والإسلامية (الذين هم مواطنون في تلك الدول) وفي حق مقدسات المسلمين هناك، فعلى سبيل المثال لا الحصر:
تعرضت معظم المساجد في أمريكا لاعتداءات أثيمة حيث ألقيت الحجارة على نوافذها حتى تكسرت، ولم يقتصر ذلك على أمريكا، إذ سرعان ما انتقلت حمى الاعتداء على المساجد إلى أوروبا فأحرق أحد المساجد في هولندا.
سجلت العديد من حالات الشتم والبصق على المحجبات في شوارع أمريكا وأوروبا.
تعرضت الكثير من المراكز الإسلامية والتجارية للهجوم بالحجارة كما وصلت العديد من رسائل التهديد بالقتل لمسؤولين عن هذه المراكز ولبعض التجار المسلمين عبر الإنتر نت وعبر لصق الإعلانات بالشوارع وأمام مراكز الجاليات العربية والإسلامية.
تعرض أحد التجار (وهو هندي الجنسية، سيخي الديانة) للقتل وذلك لأن لباسه يشبه لباس الإرهابيين في نظرهم !!
ونظرا لهذه الممارسات (العنصرية الإرهابية) فإن الجالية العربية والإسلامية في أمريكا وأوروبا يشعرون بالخوف وعدم الأمن، مما اضطر الكثير منهم لتجميد ذهاب أبنائهم إلى المدارس في الوقت الراهن، وقد ظهرت نداءات عديدة من بعض الجهات الإسلامية هناك تحث أبناء الجالية على التزام منازلهم قدر الإمكان وعلى خلع الحجاب عند الاضطرار إلى الخروج في الوقت الراهن، حتى لا تتعرض المسلمات إلى اعتداءات قد تصل إلى القتل !!
ولم تجد المحاولات العديدة من القائمين على أمور الجاليات العربية والإسلامية نفعا (من مشاركة الشعب الأمريكي الصلوات، ومن تعزية ذوي الضحايا، ومن بيان حكم الإسلام في قتل الأبرياء، وإظهار أخلاق المسمين وسماحة الإسلام) أمام الحملة الإعلامية الشرسة ضد كل ما هو عربي وإسلامي.
ومما زاد الطين بلة أن القيادة الأمريكية بتشخيصها المتسرع الخاطئ (المتعمد) للأحداث أجج هذه الفتنة وذكى نارها (من حيث أرادت أو من حيث لم تحتسب).
هاهي أمريكا (تسوق) العالم إلى حرب جديدة (ضخمة وطويلة) على حد وصفها، وتجند في سبيلها ما أمكن من دعم أوروبي (وعربي وإسلامي !!) ومع الأسف فإن بعض الدول الإسلامية رضخت للضغوط الأمريكية (من ترهيب وترغيب) ضاربة بتطلعات شعوبها عرض الحائط. وليحذر أولئك من وقوعهم فيمن قال الله تعالى فيهم: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون).
وهاهو مستشار الرئيس الأمريكي يفاجئ العالم بأن المستهدف في هذه الحرب ليس أفغانستان وحدها، بل قد يشاركها في ذلك كل من السودان واليمن وسوريا ولبنان والعراق والجزائر. وفي محاولة منه لاحتواء غضب العرب والمسلمين يصرح مستشار الرئيس الأمريكي (معلما المسلمين أمور دينهم !!): "الحملة ليست موجهة ضد الإسلام، وليست ضد كل الشعب العربي، لأن العنف هو انحراف، إن صح التعبير، لبعض المعتقدات الدينية من جانب جماعة متشددة"!!
هكذا بدون تقديم أي دليل مقنع على تورط عربي أو مسلم صدر الحكم من الخصم ليكون هو الجلاد في آن معا!! وآخر الأدلة المضحكة المبكية أنهم عثروا على جواز سفر (ما سمي بأحد الخاطفين العرب) بينما الصناديق السوداء التي صممت كي تتحمل أعلى درجات الحرارة لم تنج من شدة الانفجار !!؟؟
وفي المقابل نجد هذا العالم المتحضر يغض الطرف عن إرهاب يومي يمارسه الكيان الصهيوني الغاصب ضد شعب بأسره، إرهاب يستهدف الإنسان والحضارة، والمقدسات والحجارة، بل لم تسلم منه البهائم والزراعة. إرهاب يتجلى يوميا بأبشع صوره، حيث تحولت مدن الفلسطينيين وقراهم إلى مناطق معزولة محرومة من أي شيء. وما أشبه اليوم بالبارحة، فإن الفلسطينيين اليوم يعيشون حالة العزلة والحصار التي عاشها المسلمون ثلاث سنوات في شعب أبي طالب.
توصيات:
- تركيز الدعاء على الطغاة المستكبرين في الأرض. والدعاء للمستضعفين المسلمين في كل مكان.
- القنوت في صلاة الجمعة رجاء كشف هذه النازلة الخطيرة على الأمة.
- الإشارة إلى فتوى بعض العلماء بتحريم التعاون مع الولايات المتحدة في العدوان على بلاد المسمين.
خبر مفيد في موضوع الخطبة :(/1)
أربعة آلاف يهودي تغيبوا عن العمل بالمركز التجاري يوم الهجوم بإيعاز من حكومتهم ! وخمسة (إسرائيليين) معتقلون في الولايات المتحدة بتهمة إظهار الفرح بالتفجيرات والإعلام الغربي لا يذكرهم أبدا !!
البيان الإماراتية
ذكرت قناة «المنار» الفضائية اللبنانية أمس ان أربعة آلاف (إسرائيلي) يعملون بمركز التجارة العالمي في نيويورك لم يذهبوا لأعمالهم يوم الهجوم على المركز الثلاثاء الماضي بناء على ايعاز من حكومة العدو، الأمر الذي أثار شكوكا لدى مسئولين حكوميين أمريكيين يريدون أن يعرفوا كيف تمكن هؤلاء من معرفة نبأ الهجمات قبل وقوعها. وقالت القناة نقلاً عن مصادر عربية في الأردن إن أية أخبار لم ترد عن وجود إصابات من الصهاينة أو اليهود الأمريكيين رغم أن الكثيرين منهم يعملون في المركز التجاري العالمي. من جانب آخر قالت الدائرة الإعلامية لـ«الحركة العربية للتغيير» التي يرأسها النائب أحمد الطيبي أن خمسة (إسرائيليين) معتقلين الآن في نيويورك بتهمة (اظهار الفرح والاحتفال) بحوادث التفجير في برجي التجارة العالمية في نيويورك.
وقالت الدائرة الإعلامية للحركة في بيان أمس إن النائب أحمد الطيبي أكد أن مصادر سياسية تداولت ذلك في أروقة الكنيست الليلة قبل الماضية.. كما نشرته صحيفة «هآرتس» العبرية. وأشار البيان إلى أن (الإسرائيليين) الخمسة كانوا يصورون مكان الحادث بعد الانفجار بساعات عدة وهم يرقصون ويقهقهون فرحاً مما حدا بأحد الجيران الأمريكان بإبلاغ مكتب التحقيقات الاتحادية «اف.بي.اي» الذي قام باعتقالهم فوراً.
وذكر أحد المعتقلين لوالدته أن «اف.بي.آي» شك به بأنه عميل للموساد لأنه يحمل جوازين الأول (إسرائيلي) والثاني أوروبي. وقال بيان الحركة العربية للتغيير إنه تم نقل هؤلاء لعهدة سلطات الهجرة في نيوجرسي وذلك تحضيراً لطردهم من الولايات المتحدة وأن القنصلية (الإسرائيلية) اعترفت بأن سلوك الخمسة كان غريباً. وبين النائب الطيبي قائلا «لقد أصدرنا بياننا هذا لنكشف المعيار الأخلاقي المزدوج للاعلام الأمريكي من جهة والإعلام (الإسرائيلي) من جهة أخرى الذين ضخموا بعض المظاهر الهامشية في الشارع الفلسطيني لبعض الشبان الفلسطينيين الفرحين محاولين إلصاق تهمة كاملة بالشعب الفلسطيني بأكمله، إلا أن أحداً لم يعلق على اعتقال هؤلاء بالتهمة نفسها. ووجه مكتب الإعلام التابع «للحركة العربية للتغيير» رسالة إلى شبكة الـ«سي.ان.ان» الأمريكية.. مشيراً إلى عدم قيام الشبكة بذكر الاعتقال رغم اعتراف القنصلية (الإسرائيلية) به.(/2)
حول ظاهرة انتشار جراحات التجميل
د.حسن حجاب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قرأت منذ سنوات إعلانًا في إحدى الجرائد صادرًا عن أحد مراكز جراحات التجميل يعدد مواهبه وإمكانياته على النحو التالي:
1- تكبير بعض أجزاء الجسم (أو تصغيرها).
2- تفتيح لون البشرة.
3- شد الوجه.
4- تنسيق القوام.
5- الوشم.
وغير ذلك كثير كثير. راجعتها جميعًا فلم أجد منها شيئًا مباحًا، ولكنها تغيير لخلق الله دون ضرورة تبيح المحظور، ثم توالت الإعلانات وكثرت مراكز جراحات التجميل ولاقت رواجًا بين الفاسقات اللاهثات وراء سراب الشهرة والجمال، وفيما يلي حكم الشرع في عمليات جراحات التجميل.
أولاً: يقول ربنا تبارك وتعالى في معرض الحديث عن الشيطان الرجيم: لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا (118) ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله {النساء: 118، 119}.
ثانيًا: روى البخاري ومسلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة". قال العلماء عليهم رحمة الله: الواصلة هي التي تصل شعرها أو شعر غيرها بشعر آدمية أو بشعر صناعي، والمستوصلة هي التي تطلب من شخص آخر أن يفعل ذلك بشعرها، واللعن هو الطرد من رحمة الله.
ثالثًا: روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة.
قال العلماء عليهم رحمة الله: الواشمة هي التي تصنع الوشم لنفسها أو لغيرها، والمستوشمة هي التي تطلب من غيرها أن يصنع الوشم لها.
رابعًا: روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله".
قال العلماء عليهم رحمة الله: النامصة هي التي تأخذ من شعر حاجبها أو حاجب غيرها وترققه ليصير حسنًا، والمتنمصة هي التي تطلب من غيرها أن تفعل ذلك بحاجبها.
والمتفلجة هي التي تبرد من أسنانها ليتباعد بعضها عن بعض قليلاً وتحسنها، وهو الوشر.
خامسًا: روى الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه أن أبا قحافة والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه جاء يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "غيروا هذا واجتنبوا السواد". والثغام نبات أبيض.
قال العلماء عليهم رحمة الله: يجوز خضاب شعر اللحية والرأس الأبيض بالحناء الصفراء أو الحمراء.
مما سبق نخلص إلى ما يلي:
1- تنسيق قوام الجسم بتكبير بعض أجزائه (أو تصغيرها) حرام لأنه تغيير لخلق الله.
2- تفتيح لون البشرة حرام لأنه تغيير لخلق الله، والله تعالى يقول: ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم {الروم: 22}.
3- شد الوجه وصبغ الشعر بالسواد، حرام لأنه تغيير لخلق الله، ولأن فيه تدليسًا حيث يوحي للآخرين بأن هذا الشخص أو تلك المرأة أصغر سنًا من الحقيقة.
4- الوشم والنمص ولبس الباروكة وتصغير الأسنان حرام لأنه يستوجب اللعن وهو الطرد من رحمة الله.
5- عمليات شفط الدهون وشد الترهلات وتكبير بعض أجزاء الجسم أو تصغيرها تستخدم فيها طرق تؤدي أحيانًا إلى الشلل أو اختلال نسبة الهرمونات بالجسم، وتحتاج أحيانًا إلى تعريض الجسم لبعض الجلسات الكهربائية أو غير ذلك، والغرض الأساسي منها هو الربح المادي للأطباء، وتؤدي في كثير من الأحيان إلى مضاعفات خطيرة تتسبب في اعتلال الصحة وربما الموت.
6- المرأة التي تُجرى لها عمليات التجميل تتكشف للأطباء الذكور دون ضرورة قهرية إلا ما يزينه لها الشيطان من السعي وراء سراب الجمال والشهرة.
7- القرار في البيت واجب على نساء المسلمين جميعًا، والمرأة المسلمة إذا اضطرت للخروج تخرج منتقبة حتى لا يرى الرجال الأجانب وجهها، ويتأكد ذلك في حق الشابة الجميلة جمالاً طبيعيًا حتى تعين إخوانها المسلمين على غض البصر، وحتى تتشبه بنساء الجنة من الحور العين اللاتي قال عنهن ربنا جل جلاله: حور مقصورات في الخيام {الرحمن: 72}، وهذا معناه أنها تحفظ نفسها ولا تخرج من بيتها حتى لا يراها إلا زوجها من أهل الجنة، وقال تعالى أيضًا: فيهن قاصرات الطرف {الرحمن: 56}، وهذا معناه أن المرأة من الحور العين لا تنظر إلا إلى زوجها، وهذا لا يتأتى إلا بالقرار في البيت.
وعلى ذلك فإن أي امرأة مسلمة عفيفة تطمع في دخول الجنة عليها أن تتشبه بنساء الجنة من الحور العين بألا تنظر إلى رجل غير زوجها أي أنها تغض بصرها عن سائر الرجال الأجانب، وهي في نفس الوقت لا تعطي فرصة لأي رجل غير زوجها للنظر إليها ( وذلك بالقرار في البيت ).(/1)
8- استخدام مستحضرات التجميل المعاصرة لدهان الشفتين والعينين والخدين والأظفار ربما يكون التورع عنه أحوط، وإذا اضطرت المرأة لذلك لتعف زوجها عن النظر المحرم فليكن ذلك مقصورًا في البيت في غير حضرة الرجال الأجانب، بل ويستحب في غير حضرة المحارم؛ لأن ذلك قد يحرك الشهوة عندهم، وفي غير حضرة الأطفال المميزين لأنهم قد يصفون حال أمهم في البيت لغير المحارم، ثم إن هؤلاء الأطفال قد تختل عندهم القيم عندما يرون أمهم تتشبه بالفاسقات اللاتي يخرجن إلى الشوارع متزينات.
وبإحصائية بسيطة إذا اعتبرنا وجود حوالي 32 مليون أنثى بمصر نصفهن أي حوالي 16 مليون امرأة ما بين العشرين عامًا والخمسين عامًا، وإذا اعتبرنا أن نصف هؤلاء (يعني حوالي 8 مليون امرأة) يستعملن مستحضرات التجميل بمعدل لا يقل عن عشرة جنيهات شهريًا لكل امرأة فإن الحصيلة حوالي 80 مليون جنيه شهريًا، أي حوالي مليار جنيه في العام الواحد تنفق لتزيين النساء المسلمات للناظرين من الرجال الأجانب وللإعانة على إثارة الغرائز والشهوات وللحيلولة دون غض البصر.
فإذا تورعت النساء المسلمات عن استعمال مستحضرات التجميل فإن الحصيلة (مليار جنيه سنويًا) يمكن توظيفها لإطعام الجائعين من المسلمين والمسلمات ولعلاج المرضى منهم، بل لبناء مساكن للأحياء الذين يسكنون القبور مع الموتى!
9- عمليات التجميل رغم حرمتها في الغالب فإنها قد تجر على صاحبتها وأسرتها مصائب تتلخص فيما يلي:
أولاً: دفع الكثيرين من الرجال إلى عدم غض البصر أمام إغراء الجمال المصطنع. بل ودفع بعض الفساق إلى مغازلة تلك المرأة الجميلة، وفي ذلك مفاسد كثيرة قد تؤدي إلى انحراف تلك المرأة الجميلة وسقوطها في أوحال الرذيلة أمام تكرار تلك المغازلات، بل قد تحدث تلك المغازلات أمام الزوج فيجد نفسه مضطرًا إلى التشاجر مع هؤلاء الفساق، وربما يضطر في النهاية إلى طلاق تلك الزوجة التي تجر عليه المشاكل، وفي بعض الأحيان يغري بعض الفساق تلك المرأة الجميلة لطلب الخلع من زوجها ليتزوجها أحدهم.
ثانيًا: المرأة الجميلة قد تعرض نفسها في أوساط النساء إلى الحسد الذي لا تحمد عقباه، وكما يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "العين حق". ويقول صلى الله عليه وسلم: "العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر". رواه أبو داود وغيره وحسنه الألباني.
كما أن أي امرأة فاسقة قد تصفها لزوجها أو لغيره، وقد نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أن تصف المرأة امرأة أخرى لزوجها كأنه ينظر إليها. {رواه البخاري ومسلم}.
أيضًا فإن المرأة سقيمة القلب قد تكون شهوتها موجهة نحو بنات جنسها، ومثل هذه لا يحل للمرأة المسلمة العفيفة مجالستها ولا الخلوة بها.
10- هل هناك عمليات تجميل مباحة شرعًا؟
في بعض الأحيان تكون عملية التجميل مباحة أو مستحبة أو واجبة على النحو التالي:
أولاً: وجود عيب خلقي بجسم الإنسان يمنع أحد أعضاء الجسم من أداء وظيفته أو يقلل كفاءته، مثال ذلك:
أ- شخص عينه مغلقة أو عليها سحابة تمنع الرؤية، هذا يحل له إجراء عملية لتمكين عينه من الرؤية.
ب- شخص فمه أو شفته مشقوقة تعوق الكلام والطعام والشراب، لا حرج هنا في إجراء عملية جراحية لتصحيح هذا العيب.
ج- شخص أذنه مغلقة أو بها ثقب في الطبلة بحيث لا يمكنه السماع أو عنده ضعف في السمع، فإذا كانت العملية الجراحية تعيد إليه السمع أو تقويه فلا مانع من إجراء تلك العملية.
د- شخص يده ملتوية أو أصابعه معوجة أو هناك تشوهات تعوق أداء تلك اليد لوظيفتها؛ هنا لا جناح من إجراء عملية جراحية لتصحيح الحالة غير الطبيعية.
ه- شخص له ساق أطول من الأخرى بدرجة تؤثر على مشيته، لا مانع من إجراء عملية جراحية لزيادة طول الساق القصيرة لتصبح مثل الساق الأخرى.
و- شخص إحد أسنانه أطول من بقية الأسنان بدرجة ملحوظة تؤذيه، هنا يباح تقصير السن الطويل لإزالة الضرر. وهكذا.
ثانيًا: حدوث تشوهات بجسم الإنسان نتيجة حادث سيارة أو حريق أو حالة مرضية. هنا يرخص بالتدخل الجراحي لإعادة الوضع إلى ما كان عليه؛ لأن القاعدة الشرعية هي: "لا ضرر ولا ضرار". ويستفتى في ذلك علماء الدين وعلماء الطب على النحو التالي:
علماء الدين: هل هذه العملية مباحة شرعًا؟ ولا يكتفي بسؤال عالم واحد، بل تسأل لجنة الفتوى بالأزهر، أو عدد من العلماء المشهود لهم بالعلم والورع.
علماء الطب: هل يغلب على الظن نجاح هذه العملية؟ وهل لها أضرار؟
ويشترط سؤال أكثر من طبيب ماهر في مهنته مشهود له بخشية الله بحيث لا يكون كل همه جمع المال والربح المادي.
11- أقول للفتيات: الزواج ليس هو نهاية المطاف ولكن قد يكون بداية لسلسلة من البلايا والمتاعب أشهرها حياة زوجية تعيسة تنتهي بالطلاق غالبًا، وربما حياة زوجية هادئة ولكن بدون إنجاب، أو إنجاب أطفال معوقين.(/2)
12- الله تعالى أنعم على كل مخلوق بنعم كثيرة، فمن ابتغى ما عند الله بمعصية الله فعليه دفع ثمن ذلك من النعم الحلال- أي بفقد الصحة أو المال أو العيال- أو ربما بسوء الخاتمة والعياذ بالله.
13- الوظيفة الأساسية للمرأة المسلمة هي عبادة الله وتربية الأجيال، ولا يصح ولا يليق بالمرأة المسلمة أن ترضى لنفسها أن تصبح وسيلة للترفيه عن راغبي المتعة الحرام بالنظر إلى محاسنها والاستمتاع بالحديث معها والأنس بمجالستها وشم رائحة عطرها، وغير ذلك مما يعف اللسان عن ذكره، وفي التلميح ما يغني عن التصريح.
14- مستحضرات التجميل التي كانت معروفة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانت قاصرة على العطر والكحل والحناء للرجال والنساء على السواء، وكانت المرأة لا تخرج من بيتها إلا لضرورة، والضرورة بقدرها، وإذا خرجت فلا تخرج متعطرة ولا تكشف وجهها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/3)
... ... ... ... ... ... ... ... ...
حي على الصلاة ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ... ... ... ... ... ... ...
1- نصوص من السنّة عن الصلاة وفضلها 2- فضل الاعتناء بالصلاة وشؤم التهاون فيها 3- نصيحة للمحافظين على الصلاة أن يحافظوا على تكبيرة الإحرام مع الإمام ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ...
أما بعد:
أيها المسلمون:
سأقرأ عليكم جملة من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأرعني سمعك يا عبد الله: وكلها أحاديث عن الصلاة. يقول عليه الصلاة والسلام: ((آتاني جبريل من عند الله تبارك وتعالى، فقال يا محمد إن الله عز وجل يقول: إني قد فرضت على أمتك خمس صلوات فمن وافى بهن، على وضوئهن، ومواقيتهن، وركوعهن، وسجودهن، كان له عندي بهن عهد أن أدخله بهن الجنة، ومن لقيني قد انتقص من ذلك شيئا، فليس له عندي عهد، إن شئت عذبته، وإن شئت رحمته)).
ويقول : ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)).
ويقول : ((اعلم أنك لا تسجد لله سجدة، ألا رفع الله لك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة)).
ويقول : ((إن العبد إذا قام يصلي أتى بذنوبه كلها، فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه)).
ويقول : ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أتمها، كتبت له تامة، وان لم يكن أتمها قال الله لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها فريضته))، ثم الزكاة كذلك ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك.
ويقول : ((من ترك صلاة العصر حبط عمله)).
ويقول : ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبكم الله من ذمته بشيء، فان من يطلبه من ذمته بشيء، يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)).
ويقول : ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن امر بالصلاة فتقام، ثم امر رجلا فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)).
ويقول : ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاة الرجل وحده خمسا وعشرين درجة)).
ويقول : ((ما من ثلاثة من قرية ولا بدو، لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية )).
ويقول : ((من سمع النداء فلم يأته، فلا صلاة له إلا من عذر)).
ويقول : ((ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)).
ويقول : ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)).
أيها المسلمون:
هذه الأحاديث وغيرها كثير، من المخاطبون بها؟ لمن قيلت هذه النصوص؟ هل قيلت للجن؟ أين نحن من هذه الآثار النبوية، وما حظ كل واحد منا، يقول عبد الله بن مسعود كما في صحيح مسلم: ولقد كان يؤتى بالرجل يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف.
لما حضرت سعيد بن المسيب الوفاة، وكان رحمه الله عالم التابعين وإمامهم، بكت ابنته عليه، فقال لها: لا تبكي عليّ يا بنية، والله ما أذن المؤذن من أربعين سنة إلا وأنا في المسجد. من أربعين سنة لا يؤذن المؤذن وهذا الرجل في المسجد ينتظر الصلاة، ليصلى مع المسلمين، وكان الأعمش يقول: والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الجماعة خمسين سنة. هؤلاء هم الذين عرفوا قيمة الصلاة أما في أوقاتنا: ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ولكن أين صوت من بلالٍ
ومسجدكم من العباد خاليٍ
... ... ... ... فجلجلة الأذان بكل حيِّ
منائر كم علت في كل ساحٍ
... ... ... ... ...
أنتم شهداء الله في الأرض، المسلمون هم شهداء الله في أرضه، ولا يمكن أن نشهد إلا لمن يصلي معنا في المسجد كل يوم خمس مرات، أما رجل قريب من المسجد ثم تفوته الصلاة مع المسلمين، فهذا لا يشهد له عند الله يوم القيامة.(/1)
ما معنى الإيمان الذي يدعيه رجال ثم هم لا يحضرون الصلاة في الجماعة، ما معنى الإيمان وما قيمة الصلاة في حياتهم، ثم إذا تكلمت مع أحد منهم زعم بأنك تتهمه بالنفاق، إن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يتهمون المتخلف عن الجماعة بالنفاق، يقول ابن مسعود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. فأي دين لهؤلاء الذي لا يعمرون المساجد، وأي إسلام لمن يسمعون النداء ثم لا يجيبون، قال الله تعالى: انهم كانوا إذا قيل لهم لا اله إلا الله يستكبرون . قال بعض أهل العلم. هم الذي لا يحضرون الصلاة في الجماعة. أين الأجيال، أين شباب الأمة، أين الرجال، والمساجد خاوية تشكو إلى الله تعالى. إذا كان هذا مستوانا في الصلاة وهي عمود الإسلام، فكيف بباقي شرائع الدين كيف ترتقي أمة لا تحسن المعاملة مع الله، كيف تفلح أمة لا تقدس شعائر الله، كيف تكون صادقة في الحرب، أو في التعليم أو في التصنيع أو في الحضارة، أو في الإدارة وهي لا تحسن الاتصال بربها في صلاة فرضها الله عليها.
كم تأخذ صلاة الجماعة من أوقاتنا، في مقابل ما نضيعه في الأكل والشرب والنوم، والمرح، إنها دقائق معدودة، لكن بها يرتفع المؤمنون ويسقط الفجرة والمنافقون، بها يعرف أولياء الرحمن من أولياء الشيطان، بها يتميز المؤمن من المنافق يقول عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله أني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله))، والحديث واضح وصريح كما سمعتم أمر من الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام بأن يقاتل هذا الإنسان، حتى يسجد لله فيوم يتهاون الإنسان بالصلاة، أويترك الصلاة أو يتنكر للصلاة، أولا يتعرف على بيت الله يصبح هذا الإنسان لا قداسة له، ولا حرمة له، ولا مكانة ولا وزن، هذا الإنسان حين يترك الصلاة يكون دمه رخيصا، لا وزن له، يسفك دمه، وتهان كرامته، ويقطع رأسه بالسيف، قال الله تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً .
أيها المسلمون: إنه لا عذر لأحد في ترك الصلاة مع الجماعة، كان سعيد بن المسيب إمام التابعين في عصره، كان يأتي في ظلام الليل إلى مسجد النبي فقال له بعض إخوانه: خذ سراجا لينير لك الطريق في ظلام الليل، فقال يكفيني نور الله: ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .
وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) وهل في القيامة ظلمة، وهل في القيامة ليل؟ نعم والله إنه ليل وأي ليل، وإنها لظلمة وأي ظلمة، يجعلها الله لأعداء المساجد، ولتاركي المساجد والواضعي العثرات في طريق أهل المساجد، ظلمة يجعلها الله لأولئك الذين انحرفوا عن بيوت الله، وللذين حرفوا بيوت الله، تظلم عليهم طرقاتهم وسبلهم يقولون للمؤمنين يوم القيامة: انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً كان الصحابة رضي الله عنهم، حتى وهم في المعارك إذا تلاقت الصفوف والتحمت الأبدان وأشرعت الرماح، وتكسرت السيوف، وتنزلت الرؤوس من على الأكتاف في هذه الحال لم يكونوا يدعون صلاة الجماعة، تصلي طائفة وتقف الأخرى في وجه العدو. ... ... ... ... ... ... ... ... ...
والحرب تسقى الأرض جما أحمرا
في مسمع الروح الأمين فكبرا
... ... ... نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا
... ... ... ... ... ...
إنها الصلاة، إنها حياة القلوب، إنها الميثاق إنها العهد بين الإنسان وبين ربه، ويوم يتركها المرء أو يتهاون بها، يدركه الخذلان وتناله اللعنة، وينقطع عنه مدد السماء.
أيها المسلمون:
إن من أسباب السعادة، وحفظ الله لنا، ودوام رغد العيش الذي نعيشه، أن نحافظ على عهد الله في الصلاة، وأن نتواصى بها، وأن نأمر بها أبناءنا وأن نعمر مساجدنا، بحضورنا، فهل من مجيب؟ وهل من مسارع إلى الصلاة حيث ينادى بهن وهل من حريص على تلكم الشعيرة العظيمة إنها الحياة، ولا حياة بغير صلاة، إنها رغد العيش، ولا رغد في العيش بغير صلاة، إنه دوام الأمن والاستقرار، ولا أمن ولا استقرار بغير صلاة. إنه التوفيق من رب العالمين في كل شيء، ولا توفيق ولا تسديد بغير صلاة.
فالله الله أيها المسلمون في الصلاة، من حافظ عليها، حفظه الله، ومن ضيعها ضيعه الله ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
فالصلاة الصلاة عباد الله، في أول وقتها بخشوعها، بخضوعها، بأركانها، بواجباتها، بسننها، وفي جماعتها، علّ الله أن يحفظنا ويرعانا إذا نحن حافظنا عليها وعظمناها ... ... ... ... ... ... ... ...
فإنه الركن إن خانتك أركان
... ... فالزم يديك بحبل الله معتصما
... ... ... ... ... ...
أقول ما تسمعون، واستغفر الله . . . ... ... ... ... ... ... ... ...(/2)
... ... ... ... ... ... ... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أما بعد:
أيها المسلمون:
ومما يتعلق بالصلاة، موضوع مهم جدا، وهذا الموضوع ليس لتاركي الصلاة، ولا للمتهاونين والمتخلفين عن صلاة الجماعة، ولكنه لأولئك المحافظين على الصلوات الخمس في جماعة، أخص بالذكر الشباب الطيب، الذي هو أصلا قدوة لغيره في مثل هذه الأمور، وهذه القضية هي، حضور الشخص متأخرا عن الصلاة، وقد فاته بعضها، فبعد أن يسلم الإمام تجد عدد غير قليل من المسلمين يقومون لإتمام ما فاتهم، وعدد غير قليل من هؤلاء المتأخرين من الشباب الطيب المحب للخير، وهذا حرمان عظيم، حرمان أن يفوت الشخص تكبيرة الإحرام مع الإمام، وقد يعتذر البعض ولو في داخل نفسه أنه مشغول بشيء مهم، فهو ليس كعوام الناس شغله لهو أو لعب، ولكن شغلته دعوة، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو حضور درس أو غيرها من أعمال الخير، فلا يحس بتأنيب الضمير إذا فاته تكبيرة الإحرام، وهذه من المغالطات، بل من الموازنات المرجوحة، فإنه لا أهم من الصلاة إذا نودي لها، وكل عذر مما يشبه ما ذكرت فهو مردود.
اعلموا أيها المصلون أن واجب صلاة الجماعة يبدأ بتكبيرة الإمام تكبيرة الاحرام. فمنذ ينقطع صوت الإمام بقول الله اكبر، يبدأ وجوب المتابعة له قال بعض أهل العلم بأنه من تلك اللحظة يبدأ احتساب الأجر والأخذ في إدراك الجماعة إدراكا كاملا، ويبدأ أيضا احتساب الإثم في حق القادر المتخلف عمدا عن جزء منها، وهذه مسألة قلَّ ما يتفطن لها حتى بعض طلبة العلم. قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد)) المقصود في قوله لا تختلفوا عليه والله اعلم، أي لا تختلفوا عليه في القيام والقعود والمتابعة، ومن ذلك ضرورة التكبير ومباشرته بعده.
وإن من ظواهر التقصير في أداء هذا الواجب ما يرى من تخلف كثير من المصلين عن الحضور إلى مكان الجماعة لحين ما بعد الإقامة، فكثيرا ما ترى الإمام يبدأ بعدد قليل ولا يكاد يكبر تكبيرة الركوع حتى يتضاعف العدد من أناس تمروا بمجيئهم بالإقامة ولا شك في أن فعل هذا عمداً تقصير يفوت أجرا ويرتب وزرا، يفوت أجر الجزء الذي تركه عمداً في الأول، ويرتب وزر تفويته عمداً، فمن المعلوم عند العلماء رحمهم الله أن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فعلى فرض أن مسافة الطريق تحتاج ممن تجب عليه الجماعة بضع دقائق، فإذا لم يبق على الإقامة من الزمن إلا بمقدار تلك الدقائق تعين عليه المشي ليلحق بصلاة الجماعة في أولها، أو يعد آثما لو تأخر بدون عذر شرعي.
وبجانب ما في هذا التقصير وهذا العمل من تفويت أجر، وربما ترتب عليه وزر، فهو يؤثر كثيرا وكثيرا على ما يطلب في الصلاة من خشوع وتذلل وتأمل وتدبر، لقد شرع قبلها ما يهيئ لذلك، لا ما يطارده أو يضعفه، شرع قبلها الوضوء، وشرع قبلها أدعية الخروج من المنزل، وشرع قبلها أدعية دخول المسجد، وشرع قبلها صلوات النافلة، وشرع أن يأتيها المسلم بسكينة ووقار لا بغلبة وجلبة يضايقه فيها النفس، وهذا غالب شان المتأخر عنها يحاول أن يدرك هذه الأمور، أيها المصلون، شرعت بين يدي الصلاة وفي الصلاة، وخاصة صلاة الجماعة ذات الفضل العظيم، ليتهيأ المسلم في صلاته لمناجاته لربع، والوقوف بين يديه كأنه يراه، جواب هذا السؤال عندكم، رجل تأخر دون عذر شرعي حتى أقيمت الصلاة، فجاء يركض، بنفس قد ضايقها وشغلها عن مهمتها، وفوت كثيرا مما يشرع الاتيان به قبل ذلك هل هذا الرجل سينصرف بأجر صلاة الجماعة مثل ذلك الذي أدرك تكبيرة الاحرام مع الإمام.
نسأل الله جل وتعالى أن لا يعاقبنا بسوء أعمالنا وما يستشهد به البعض من قوله : ((من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة)) فهذا في حق من لم له عذر شرعي، أما من لا عذر له فله أجر ما أدرك وعليه وزر ما فوت.
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا رحمكم الله على هذه الصلوات حيث ينادى بهن، عمروا المساجد، تسابقوا إلى الصفوف الأول واعلموا أنه لن يصلح أخر هذه الأمة، إلا بما صلح به أولها.
أيها المسلمون، اختم لكم هذه الخطبة بان أقرأ عليكم ثلاثة أحاديث من أحاديث الرسول وجعلتها في آخر الخطبة لكي تكون آخر ما يعلق في أذهانكم واسمعوها وتدبروها.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال. قال رسول الله : ((تحترقون تحترقون، فاذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا)).(/3)
وعن انس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن لله ملكا ينادى عند كل صلاة، يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها)).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله، عن رسول الله انه قال: ((يبعث مناد عند حضرة كل صلاة، فيقول يا بني آدم قوموا فأطفئوا عنكم ما أوقدتم على أنفسكم فيقومون، فتسقط خطاياهم من أعينهم، ويصلون فيغفر لهم ما بينهما، ثم توقدون فيما بين ذلك فإذا كان عند الصلاة الأولى نادى: يا بني آدم قوموا فأطفئوا ما أوقدتم على أنفسكم، فيقومون فيتطهرون ويصلون الظهر، فيغفر لهم ما بينهما، فإذا حضرت العصر فمثل ذلك فإذ حضرت المغرب فمثل ذلك، فإذ حضرت العتمة فمثل ذلك، فينامون وقد غفر لهم، فمدلج في خير ومدلج في شر)).
اللهم انا نسالك رحمة تهدي بها قلوبنا . . . ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ...(/4)
حياة أوقفت لله
) فضيلة الشيخ : عبد الوهاب الطريري .......................................................
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وألبسنا لباس التقوى خير لباس.
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، لا ربَ غيرُه ولا معبودَ بحقٍ سواه.
و أشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واهتدى بهداه.
أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى..
أيها المؤمنون بالله ولقائه وبالرسول ورسالاته، أيها الأخوة المتحابون بجلال الله.
إن رسالاتِ اللهِ إلى أهلِ الأرض، والدينَ الذي اختاره اللهُ لهم هو أثمنُ هبةٍ للبشرِ واعظمُ منةٍ عليهم، خيرةُ اللهِ للإنسانِ منهاجَ حياته، وطريقَه الموصلَ إلى جنته، هو النعمةُ التامةُ والفضلُ المبين.
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً )(المائدة)
أي نعمةٍ أعظمُ و أتمُ من أن تتنزلَ ملائكةُ الله بكلمات الله على رسول الله لتقول للإنسان هذا طريقُك إلى الله.
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(الأنعام:
إن هذا العطاءَ الإلهيَ والهبةَ الربانيةَ منةٌ تستشعرُ نفوسُ المؤمنين كِبرَ نعمةِ الله بها عليهم، فتتضاءلُ النفسُ أن تكونَ ثمناً لهذه النعمة.
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
(ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان –فذكر منهن- وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ1 أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).
ولذا حفلت مسيرة المؤمنين في التاريخ بصور من عطاء الحياة بسخاوة نفس ثمنا لهذا الدين.
ثمنا لعطاء الله من الهداية.
ثمنا لنعمة الله بالنور المبين.
أعطيت الحياة بسخاوة نفس يوم كان ثمنها هذه العقيدة وهذه الرسالة وهذه المنة الإلهية، يوم كان ثمنها خيرة الله للإنسان طريق حياته ومنهاجه وثمنها الجنة ورضاء الله.
أستمع إلى سحرة فرعون يتقبلون وعيده وهو يقول:
( فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى)(طه:71)
فماذا كان الجواب على هذا التهديد ؟
بل كيف استقبل هذا الوعيد وقد وصل فيه فرعون إلى كل ما يستطيعه من تنكيل ؟
أستمع إلى ثبات المؤمن المستشعر عظم المنة بالهداية المنتظر من الله فضلا تحتقر له الحياة كلها.
أستمع إلى جواب السحرة وهم يقدمون للدين أرواحهم بسخاوة نفس:
(قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طه:72)
نعم ما أصر الحياة وما أهون الحياة الدنيا حين تكون ثمنا للإيمان باله عز وجل، وإن عذابها مهما اشتد ونكالها مهما كاد وبطش أيسر من أن يخشاه قلب موصول بالله عز وجل ينتظر ثوابه وينتظر مغفرته وينتظر رضاه وجنته:
(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه:73)
أيها الأحباب إنه الإيمان، إنه الإيمان إذا خالطت بشاشتُه القلوب، استحكَم الولاءُ له، وكان العطاءُ للدينِ سخياً، كان العطاءُ للدينِ سخيا غايةَ السخاء، لأنه معاملةٌ مع كريمٍ، وتلقٍِ لمننٍ من إله عظيم..
آيها المؤمنون بالله رب وبمحمد (صلى الله عليه وسلم) نبيا، وبرسالته الإسلام دينا.
إذا كانت الحياةُ تقدمُ فداءً للدين، وثمناً للدين فهيَ كذلك تسخرُ لخدمةِ الدين، تسخرُ للعطاءِ للدين، إذا كلُ ما فيها لله، وإذا هيَ حياةُ أوقفت كلٌها لله.
يقول نوح وهو يخاطب ربه:(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً) (نوح:5)
إنه الجهدُ الدائمُ الذي لا ينقطعُ ولا يمَلُ، ولا يفترُ ولا ييئسُ أمامَ الأعراضِ، ألفَ سنةٍ إلا خمسين عاما.
(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً)
ثم يقولُ: )ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً) (نوح:9)
الله أكبر.
ماذا بقيَ من حياةِ نبيَ اللهِ نوح لم يسخَر لدعوته ولم يبذَل لرسالتِه ؟
الليلُ والنهار، الجهر والإسرار كلُها لله، حياةُ أوقِفَت كلُها لله.
ثم سرح طرفك في مسيرة أنبياء الله ورسله :
لتقف أمام نبي الله يوسف السجين الغريب الطريد الشريد الذي يعاني ألم الغربة وقهر السجن وشجى الفراق وعذاب الظلم، في هذا كله وبين هذا كله في زنزانة السجن يسأله صاحبا السجن عن تعبير الرؤيا .
فلا يدع نبي الله يوسف الفرصة تفلت منه.(/1)
لا تنسيه مرارة المعاناة القاسية واجب العمل لله والعطاء لدينه فإذا به يحول السجن إلى مدرسة للدعوة.
ويرى أن كونه سجينا لا يعفيه أبدا من تصحيح الأوضاع الفاسدة والعقائد الفاسدة فإذا به ينادي في السجن:
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف:39)
عذاب السجن وألم الغربة وقهر الظلم كل ذلك لم يذهل ولم يدهشه ولم ينسه واجب الدعوة.
لأن العمل للدين رسالة في الحياة لا يمكن التحلل منها بحال.
وهكذا تسير ركاب المؤمنين برسالات الله، لا تدع فرصة للعمل للدين تفلت ولا فرصة للعطاء للدين تضيع.
كل عطاء يقدم مهما كان قليل.
وكل جهد يبذل مهما كان يسيرا.
وكل فرصة تلوح للعمل للدين لا يمكن أن تفلت من يدي مؤمن بالعمل لهذا الدين.
هذه أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ رضي اللهُ عنهما
لما جهزت رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) و أبا بكرٍ جهازهما للهجرة.
جمعت سفرةَ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) التي فيها طعامُه، والسقاءَ الذي فيه شرابُه، ثم جاءت لتحملَهما فلم تجد ما تربطُ به السفرةَ والسقاء، فعمدَت إلى نطاقِها فشقته نصفين فربطت بأحدهما السفرةَ وبالأخرِ السقاء.
امرأةُ تأبى إلا أن تقدم للدين، وتعطيَ للدين ولو كانت لا تملكُ إلا نطاقها فليكن عطاؤُها هذا النطاق، وإذا لم يكن النطاقُ كافيا فليشقَ النطاقُ نصفين.
وترحلَت الأيامُ تُعطرُ سني التاريخِ بخبرِ أسماء، وتحملُ صفحاتُ التاريخ هذاِ الخبرَ، ومعهُ تشريفُ أسماء وتلقيبُها بذاتِ النطاقين، إن هذا اللقبَ يعبرُ عن العطاء للدين الذي لا يدعُ فرصةً تفلتَ دون أن يقدَم لدين مهما كان هذا العطاءُ قليلاً فهو الجهدُ وهو الطاقة.
ثم سر قليلا لترى الرجل الكفيف الأعمى عبد الله أبن أم مكتوم رضي الله عنه مؤذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي عذره الله في قرأنه: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ )(النور 61).
لم يرى أنه يسعه أن يدع فيها فرصة يخدم فيها الدين تفلت منه، ولتكن هناك في مواقع القتال وقعقعة السيوف وطعن الرماح وإراقة الدماء، ليكن له موقع ثم..
فيصحب كتائب المسلمين ويطلب أن توكل إليه المهمة التي تناسبه وتليق به:
(إني رجل أعمى لا أفر، فادفعوا إلى الراية أمسك بها).
يأبى إلا أن يشارك بنفسه على أي صورة كانت هذه المشاركة ممكنة.
حتى إذا كان يوم القادسية كان هو حامل الراية للمسلمين، الممسك بها أعمى ضرير يرى أن في عماه مؤهل لحمل الراية:
(إني رجل أعمى لا أفر).
وتحمل كتب التاريخ أنباء عبد الله أبن أم مكتوم وأنه كان أحد شهداء القاسية يوم غشيته الرماح فلم تصادف فرارا ولا موليا ولا معطي دبره في قتال.
إن معنى العطاء لهذا الدين كان أمرا تشرب به نفوس الصحابة مذ أن تبسط أيديهم إلى كف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مبايعة على الإسلام.
هذا ضمام أبن ثعلبة رضي الله عنه يأتي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقف يسأله عن شهادة لا إله إلا الله.
وأن محمدا رسول الله.
وأقام الصلاة.
وإيتاء الزكاة.
وصوم رمضان.
وحج بيت الله الحرام.
حتى إذا عرفها أمن بها ثم رفع أصابعه الخمس قائلا:
( يا رسول الله والله لا أزيد على هذه ولا أنقص).
لكنه لا يرى ولا يُرى أن العمل للدين داخل في ما تحلل منه.
ولكنه رآه داخل في وجب عليه فإذا به ينقلب إلى قومه داعيا إلى الله يقول لهم:
(يا قوم بئست اللات، بئست العزى).
فيضل بين ظهرانيهم حتى لا يبقى بيت من بيوتهم إلا دخله الإسلام، فيقول عمر رضي الله عنه:
(ما رأينا قادما على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان أيمن من ضمام أبن ثعلبه).
إن وضوح هذا المعنى للصحابة هو الذي دفع كتائبهم فانداحت بها الأرض فإذا مائة سنة تشهد أعظم إنجاز يتحقق على الأرض يوم طوي بساط المشرق إلى الصين، وبساط المغرب إلى المحيط الأطلسي تفتحه كتائب الصحابة والتابعين.
ما كان هذا الإنجاز ليتحقق إلا على أيدي الرجال الذين يعلنون في كل موقعة قائلين:
(أن الله إبتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد).
لم يكن هذا الإنجاز ليتحقق إلا على أيدي رجا أوقفت حياتهم كلها لله.
أمة الإسلام، أتباع محمد (صلى الله عليه وسلم):
إن هذا المعنى العظيم معنى العطاء للدين والبذل له وتسخير الحياة من أجله حتى إذا الحياةُ كلُها، بليلِها ونهارِها، وإذا النفسُ بمشاعِرها ووجدانها وبكلِ طاقاتِها سخرةُ لهذا الدين.
هذا المعنى توارى أو خفتَ في نفوسِ كثيرٍ من المسلمين، بل ضعف في نفوس الشباب المتدين ذاته.
إنا نقلب الطرفَ فتقرُ العينُ وتبتهجُ النفسُ، برُؤيةِ الوجوه العريضة الملحية للشباب الواعد من شباب الصحوة.
إذ هيَ جموعُ تضيقُ بها المحافل.
وتكتظُ بها المساجد، وتتزين بها وتتزي ردهات الجامعات.
جموع أصبحت تواري التائهين، وتحجب الرؤيا عن الشاردين، فإذا هم الواجهة كثرة ووجودا وحضورا.
لكن هل يتناسبُ هذا العدد مع العطاء المنتظر؟(/2)
إن عدد شباب الصحوة الدافق المائج لا يتناسب مع ما ينتظر من عطاء.
لو أن كل نفس أشربت هذا المعنى وسخرت للدين هذا التسخير.
إن هذا المعنى أمر ينبغي أن يذكى في القلوب ويوقد في النفوس وتشحذ له العزائم وتسخر له الطاقات.
يبدأ من توتر القلب لهذا الدين.
توتر القلب وانفعاله وتوهج العاطفة وتلظيها ابتهاجا لكل خطوة إلى الأمام يتقدمها أهل الخير.
ويعتصر ألما وحرقة يوم يرى أي صورة من صور حجب الدين أو المضايقة لأهله أو المزاحمة لدعاته أو التضييق على الكلمة الهادفة أو حجب الكلمة الناصحة.
يتلظى القلب وتشتعل النفس ويلتهب الوجدان تفاعلا مع مصاب الأمة في الكلمة الهادئة يوم يراد لها الحجاب والإطفاء.
فما مدى التفاعل مع الكلمة والدعوة والدعاة والغيرة لهم؟
نحن والله نعيش منة الله علينا بالهداية بدعوة دعاة مخلصين سخروا ليلهم ونهارهم وزاحموا ساعات حياتهم عطاء للدين، فما مدى امتناننا لله بهذه النعمة ؟
ثم شكرنا لمن أهدانا الهداية وبذل الكلمة والوقت والنفس دعوة وجهادا ومجاهدة.
ما حال القلوب، ما حال النفوس تعاطفا مع الكلمة عندما يراد لها أن تطفأ أو تخبو ؟
إن الغيرة على رسالة الله وعلى أنبياء الله منسحبة إلى ورثة أنبياء الله الذين يرثون عن الأنبياء علمهم ودورهم في الأمة، فهل أوقد في القلوب الحماس والتعاطف والتواصل والتوهج مع الدعوة والدعاة ؟
والتوتر المنفعل مع قضايا الدعوة وآلام الدعاة؟
إن القلوب ينبغي أن لا تشح بمشاعرها.
والعيون لا تبخل بدموعها وأن تقدّر أن مصابها في الدعاة وكلمتهم مصاب لقداسة الأمة في الصميم.
أيها الأحباب:
أين العطاءُ للدين في حياتنِا ؟
أين العطاء للدين، هل يعيشُ كلُ منا همَ العطاءِ للدين فإذا به يحاول جهده أن يكون مؤثرا على قطاعا يقل أو يكثر يصغر أو يكبر في المجتمع ؟
هل يسألُ كلُ منا نفسَهُ إذا غربَت شمسُ كلِ يوم، هل غرَبت وقد قدم لدينه شيئاً في ذلك اليوم ؟
هل العطاءُ للدين همُ جاثمُ في القلوب يحركُها إلا أن تعطي، يبعثُها إلا أن تُقدم ؟
لنتساءل بالتفصيل:
هل اشتريت كتابا فأبى عليك حس الدعوة إلا أن تشتري بدل النسخة نسخا لنفسك منها واحدة وللدعوة أخر؟
هل استمعت إلى شريط فلما أعجبك حملك حب الهداية إلى أن تهديه إلى غيرك ؟
هل وجدت نفسك تحف وترف لجمع التبرعات لمساعدة الأنشطة الإسلامية والجهد الهادف والدعوة الخيرة ؟
هل تفكرت في نفسك فرأيت أن من الواجب عليك أن تكفي الأمة مجتمعك، فإن عجزت فحيك، فإن قصرت فبيتك ؟
هل وجدت أنه ينبغي أن يكون لك حضور لا يفقد في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
فاتضحت لك المشاركة والوجود.
أيها الأحباب:
إن الطاقة موجودة تحتاج إلى توظيف.
إن الطاقات كامنة تحتاج إلى تشغيل.
وصدق النية أيضا موجود، ولكن نحتاج إلى عزيمة وهمل يخرج للوجود.
إن أعظم مؤسسة نشر قد تنشر من كتيب أو كتاب مائة ألغ نسخة وإن شئت فقل مائتا ألف..
لكن لو قام كل متدين يعلم أنه يتحمل مسؤولية بلاغ رسالات الله بنشر الكتاب الموجه والشريط الهادف فأي طاقة نملكها في النشر ؟ وأي جهد يقدم للدعوة من خلال ذلك ؟
إننا سنجد أنفسنا أمام عملية نشر واسعة لا نظير لها توقظ الأمة من رقاد تفيقها من غفلة.
بل تبعثها من ممات وتحركها من همود..
أيها الأحباب:
إن واجبنا ن نتفقد أنفسنا ما مدى العزيمة على العطاء في نفوسنا ؟
ما مقدار الهم للعمل للدين في قلوبنا ؟
ثم نحول ذلك إلى برنامج عملي في حياتنا.
برنامج يومي يعيشه كل منا في يومه وهو أن يكون ذا عطاء لهذا الدين.
لقد مرِضَ المسلمون اليومَ بالتدينِ السلبيِ الجامدِ الهامد الذي لا يقدمُ ولا ينفعُ ولا يحرك،
إننا اليوم أمام خير لا خيار لنا غيره؛
وهو أن نقدم لديننا وأن نعيش له حتى نلقى الله وقد قدمنا شيئا لهذا الدين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
.......................................
الحمد لله على إحسان والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله لا الله تعظيما لشأنه وأشهد أن محمدا عبده ورسول الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى وأعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل وعلا:
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب:56).
اللهم صلي وسلم وبارك أطيب وأزكي صلاة وبركة على نبينا وأمامنا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وخلفائه الراشدين وسائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أرضى عن أصحاب نبيك وأرضهم، اللهم أسلك بنا طريقتهم و احشرنا في زمرتهم.
الله العن من لعنهم وعادي من عادهم وخص بذلك الرافضة أعداء أصحاب نبيك.(/3)
اللهم عليك بالرافضة فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بإخوان القردة والخنازير.
اللهم عليك باليهود، اللهم أقر أعين المسلمين بفتح بيت المقدس وإقامة دولة إسلامية لا اشتراكية ولا علمانية.
اللهم عليك بإخوان القردة والخنازير فإنهم لا يعجزونك.
اللهم عليك بهم، الهم عليك بهم، اللهم عليك بهم.
اللهم أبر لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر وتقال فيه كلمة الحق لا يخشى قائلها في الله لومة لائم.
وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
ربنا آتتا في الدنيا حسن وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
………………………………
واحات الهداية ...(/4)
... ... ...
حياة ابن المبارك رحمه الله ... ... ...
هشام عقدة ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1 – خشية ابن المبارك لله تعالى 2 – ابن المبارك مستجاب الدعوة 3 – جهاد ابن المبارك 4 – سخاء ابن المبارك 5 – تواضع ابن المبارك ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
إخوة الإسلام:
نواصل اليوم حديثنا في سيرة عبد الله بن المبارك رحمه الله وجوانب القدوة في حياته، وقد سبق أن ذكرنا الدروس المستفادة من حياته العلمية، وتبقى جوانب كثيرة للاقتداء في حياة هذا الرجل.
فمنها عبادته وخشيته لله تعالى لنرى فيه مصداق قوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء وهذا هو العلم النافع، الذي يقود إلى خشية الله تعالى، ورحم الله ابن مسعود إذ يقول: كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا.
وقال القاسم بن محمد: كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيرا ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي: بأي شيء فضل علينا هذا الرجل حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة، إن كان يصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج، قال: فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام نتعشى في بيت إذ طفيء السراج، فقام بعضنا فأخذ السراج وأخذ يبحث عما يوقد به المصباح، فمكث هنيهة، ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذكر القيامة.
وقال سويد بن سعيد: رأيت ابن المبارك بمكة أتى زمزم فاستقى شربة ثم استقبل القبلة فقال: اللهم إن ابن أبي المنوال حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي أنه قال: ((ماء زمزم لما شرب له)) وهذا أشربه لعطش يوم القيامة.
وقال نعيم بن حماد: قال رجل لابن المبارك: قرأت البارحة القرآن في ركعة، فقال: لكني أعرف رجلا لم يزل البارحة يكرر: ((ألهاكم التكاثر)) إلى الصبح ما قدر أن يتجاوزها، يعني نفسه.
وقال نعيم أيضا: كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له: ألا تستوحش، فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي وأصحابه.
وقال شقيق البلخي: قيل لابن المبارك: إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا، قال: أجلس مع الصحابة والتابعين وأنظر في كتبهم وآثارهم فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس.
ويروى عنه رحمه الله أنه قال:
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغا مستريحا
وإذا ما هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكانه تسبيحا
فاغتنام السكوت أفضل من خوض وإن كنت بالكلام فصيحا
ولذا قال نعيم: ما أريت أعقل من ابن المبارك ولا أكثر اجتهادا في العبادة منه.
ومن كلامه رحمه الله: إن البصراء لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب عز وجل، وعمر قد بقي لا يدري ما فيه من الهلكة، وفضلٍ قد أعطي العبد لعله مكر واستدراج وضلالة قد زينت يراها هدى، وزيغ قلب ساعة فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر.
سمع بعضهم ابن المبارك وهو ينشد على سور طرسوس:
ومن البلاء وللبلاء علامة أن لا يرى لك عن هواك نزوح
العبد عبد النفس في شهواتها والحر يشبع مرة ويجوع
وقال الخليل أبو محمد: كان عبد الله بن المبارك إذا خرج إلى مكة قال:
بغض الحياء وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
قال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق، يصير كأنه ثور منحور، أو بقرة منحورة من البكاء، لا يجتري أحد منا أن يسأله عن شيء.
وكان رحمه الله مستجاب الدعوة، قال العباس بن مصعب حدثني بعض أصحابنا قال:
سمعت أبا وهب يقول: مر ابن المبارك برجل أعمى، فقال هل: أسألك أن تدعو لي أن يرد الله علي بصري، فدعا له، فرد عليه بصره وأنا أنظر.
ومن جوانب القدوة في حياة ابن المبارك رحمه الله: جهاده في سبيل الله ابتغاء رضى الله عز وجل، فلم يغتر بعبادته ويتكل عليها فيترك الجهاد، وكان ينصح أصحابه ألا تقطعهم العبادة عن الجهاد فكتب إلى الفضيل بن عياض رحمه الله قائلا:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكن ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نينا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
وقال عبيدة بن سليمان المروزي: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصاففنا العدو، فلما التقى الصفان، خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فبارزه ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا!!(/1)
وقال عبد الله بن سنان: كنت مع ابن المبارك ومعتمر بن سليمان بطرسوس فصاح الناس: النفير، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان، خرج رومي، فطلب البراز، فخرج إليه رجل، فشد العلج عليه فقتله، حتى قتل ستة من المسلمين وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلي ابن المبارك فقال: يا فلان، إن قتلت فافعل كذا وكذا، ثم حرك دابته وبرز للعلج معالجه ساعة فقتل العلج وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله، حتى قتل ستة علوج وطلب البراز، فكأنهم كاعوا عنه، أي جبنوا وتهربوا فضرب دابته وطرد بين الصفين، ثم غاب، فلم نشعر بشيء، فإذا أنا به في الموضع الذي كان، فقال لي: يا عبد الله لا تحدث بهذا أحداً وأنا حي فذكره عبد الله بعد موته.
وقال محمد بن الفضيل بن عياش: رأيت ابن المبارك في النوم، فقلت: أي العمل أفضل؟ قال: الأمر الذي كنت فيه، قلت: الرباط والجهاد؟ قال: نعم، قلت: فما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة.
اللهم بصرنا بعيوبنا، وقنا شر أنفسنا وارحم ضعفنا واجبر كسرنا وأصلح فساد قلوبنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي سيرة ابن المبارك دروس عظيمة للتجار وأصحاب الأموال.
أولها: النية الصالحة في طلب المال، فقد كان ابن المبارك ينوي بتجارته الإنفاق على المساكين والإنفاق على إخوانه، والقيام بحاجات أهل العلم ليتفرغوا لبث علمهم في الناس.
قال الذهبي رحمه الله: بلغنا أنه قال للفضيل: لولاك وأصحابك ما اتجرت.
وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم.
وقال حبان بن موسى: عوتب إن المبارك فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده قال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه، لحاجة الناس إليهم احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد ، لا أعلم بعد النبوة أفض من بث العلم.
فنأخذ من هذا وهو السخاء، فكان ينفق بسخاء ولا يتعلق قلبه بالمال، بل يقضي به حاجات المكروبين ودين المدينين، جاءه رجل فسأله أن يقضي دينا عليه، فكتب إلى وكيل له، فلما رد على الكتاب، قال له الوكيل: كم الدين الذي سألته قضاءه، قال: سبع مائة درهم، وإذا عبد الله قد كتب له أن يعطيه سبعة آلاف درهم فراجعه الوكيل وقال: إن الغلات قد فنيت، فكتب إليه عبد الله: إن كان الغلات قد فنيت فإن العمر أيضا قد فني، فأجز له ما سبق به قلمي.
وكان متفقداً لإخوانه وتلاميذه يكثر النفقة عليهم، وضرب المثل في الإخلاص في تفقد حوائجهم ومشاكلهم، قال محمد بن عيسى: كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزل الرقة في خان، فكان شاب يختلف إليه، ويقول بحوائجه، ويسمع منه الحديث فقدم عبد الله مرة فلم يره، فخرج في النفير مستعجلا، فلما رجع سأل عن الشاب، فقيل: محبوس على عشرة آلاف درهم، فاستدل على الغريم، ووزن له عشرة آلاف، وحلّفه ألا يخبر أحدا ما عاش، فأخرج الرجل.
وسار ابن المبارك، فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة، فقال له: يا فتى أين كنت، لم أرك؟ قال: يا كنت محبوسا بدين، قال: وكيف خلصت قال: جاء رجل فقضى ديني ولم أدر، قال: فاحمد الله، ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله.
وقال محمد بن علي بن الحسن بن شفيق سمعت أبي يقول: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكتري أي يستأجر لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة حتى يصلوا: إلى مدينة الرسول فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طٌرفها فيقول: كذا وكذا،، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ما أمر عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة، فيقول كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وأرسل إليهم، فإذا أكلوا وسروا دعا بالصندوق، ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه.
ودرس آخر من صلاح ابن المبارك لأصحاب المال وهو التواضع وعدم الترفع على المساكين فهو القائل: ليكن مجلسك مع المساكين وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة.
ولم يكن ابن المبارك مغترا بغناه رغم اجتهاده في تسخير هذا المال لخدمة الدين ونفقته على المحتاجين و لا يرى له شرفا وفضلا على الفقراءK بل يستحضر دائما ما في طلب الغنى من خطر الترخص في بعض المخالفات والمعاصي من أجل زيادة المال، فيقِل خائفا على نفسه من هذا الخطر.
ومن أقواله:
يا عائب الفقر ألا تزدجر عيب الغنى أكثر لو تعتبر(/2)
من شرف الفقر ومن فضله على الغنى لو صح منك النظر
إنك تعصي لتنال الغنى وليس تعصي الله كي تفتقر
إخوة الإسلام: بكل هذه الجوانب المشرقة في حياة ابن المبارك وطريقة تفكيره وطيب نفسه ومحاسبته لها صار عالما يحتذى به وإماما ربانيا يقتدى به ليس في حياته فقط، بل مازال واعظا لنا بسيرته وهو تحت أطباق الثرى.
ورحم الله بعض الفضلاء إذ يقول:
مررت بقبر ابن المبارك غدوة فأوسعني وعظا وليس بناطق
وقد كنت بالعلم الذي في جوانحي غنيا وبالشيب الذي في مفارقي
ولكن أرى الذكرى تنبه عاقلا إذا هي جاءت من رجال الحقائق ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
حياة الأنبياء والأولياء في قبورهم
اللجنة الدائمة للإفتاء
ما حكم من يعتقد حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء والمشايخ أو يعتقد أن أرواح المشايخ حاضرة تعلم،
وكذلك ما حكم من يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم نور وينفي عنه البشرية؟!
أولاً: سماع
الأصوات من خواص الأحياء فإذا مات الإنسان ذهب سمعه فلا يدرك أصوات أهل الدنيا
ولا يسمع حديثهم، قال اللَّه تعالى: وما أنت بمسمع من في
القبور [فاطر: 22].
فأكد تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم عدم سماع من يدعوهم إلى الإسلام
بتشبيههم بالموتى، والأصل في المشبه به أنه أقوى من المشبه في الاتصاف بوجه
الشبه، وإذًا فالموتى أدخل في عدم السماع وأولى بعدم الاستجابة من المعاندين
الذين صموا آذانهم عن دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام وعموا عنها وقالوا
قلوبنا غلف، وفي هذا يقول تعالى: إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم
ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون
بشرككم ولا ينبئك مثل خبير [فاطر: 13، 14].
وأما سماع قتلى الكفار الذين أُلقوا في القليب يوم بدر نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم وقوله لهم:
«هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا، فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا». وقوله لأصحابه:
«ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» حينما استنكروا نداءه أهل القليب. [البخاري
2/101]، فذلك من خصوصياته التي خصه اللَّه بها فاستثنيت من الأصل العام
بالدليل.
ثانيًا: دل القرآن على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ميت ومن ذلك قوله تعالى: إنك
ميت وإنهم ميتون [الزمر:30]، وقوله تعالى: كل نفس
ذائقة الموت [آل عمران:185]، وهو صلى الله عليه وسلم داخل في هذا العموم، وقد أجمع
الصحابة رضي اللَّه عنهم وأهل العلم بعدهم على موته وأجمعت عليه الأمة، وإذا
انتفى ذلك عنه صلى الله عليه وسلم فانتفاؤه عن غيره من الأولياء والمشايخ أولى، والأصل في الأمور
الغيبية اختصاص اللَّه بعلمها، قال اللَّه تعالى: وعنده مفاتح
الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر
وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات
الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [الأنعام:
59]، وقال تعالى: قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب
إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون [النمل: 65]، لكن
اللَّه تعالى يطلع من ارتضى من رسله على شيء من الغيب، قال اللَّه تعالى:
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من
ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن
خلفه رصدا [آل عمران: 185]، وقال تعالى: قل ما كنت بدعا من
الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا
ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين [الأحقاف: 9]، وثبت
في حديث طويل من طريق أم العلاء أنها قالت: «لما توفي عثمان بن مظعون أدرجناه
في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة اللَّه عليك أبا السائب، شهادتي
عليك فقد أكرمك اللَّه عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وما يدريك أن اللَّه أكرمه».
فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أما هو فقد جاءه اليقين من
ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول اللَّه ما يفعل بي». فقلت:
والله لا أزكي بعده أحدًا أبدًا». رواه أحمد، وأورده البخاري في كتاب الجنائز
من صحيحه وفي رواية له: «ما أدري وأنا رسول اللَّه ما يفعل به». وقد ثبت في
أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلمه اللَّه بعواقب بعض أصحابه فبشرهم بالجنة، وفي
حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المخرج في صحيح مسلم أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن
الساعة فقال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل». [البخاري 1/18]
ثم لم يزد على
أن أخبره بأماراتها، فدل على أنه علم من الغيب ما أعلمه اللَّه به دونما سواه
من المغيبات وأخبره به عند الحاجة، كما أن اللَّه سبحانه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مغفور
له في سورة الفتح، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر
في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة،
وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة - وهو ابن أبي وقاص -
وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة». [رواه أحمد 1/187،
188، وأبو داود 5/37، 38، والترمذي 5/651، وابن ماجه 1/48]. رضي اللَّه عنهم
جميعًا، وهذا كله من علم الغيب الذي أطلع اللَّه نبيه عليه.
ثالثًا: وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه نور من نور اللَّه، إن أريد به أنه نور أتى من نور اللَّه فهو مخالف
للقرآن الدال على بشريته، وإن أُريد بأنه نور باعتبار ما جاء به من الوحي الذي
صار سببًا لهداية من شاء من الخلق فهذا صحيح، وقد صدر منا فتوى في ذلك هذا
نصها: للنبي صلى الله عليه وسلم نور هو نور الرسالة والهداية التي هدى اللَّه بها بصائر من شاء(/1)
من عباده، ولا شك أن نور الرسالة والهداية من اللَّه، قال تعالى: وما كان
لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب
أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي
حكيم (51) وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما
كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا
نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط
مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السموات وما
في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور [الشورى: 51- 53].
وليس هذا النور مكتسبًا من خاتم الأولياء كما يزعمه بعض الملاحدة، أما جسمه صلى الله عليه وسلم فهو دم
ولحم وعظم... إلخ، خُلق من أب وأم ولم يسبق له خلق قبل ولادته، وما يروى أن أول
ما خلق اللَّه نور النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونظر إليها فتقاطرت فيها قطرات فخلق من كل قطرة
نبيًا، أو خلق الخلق كلهم من نوره صلى الله عليه وسلم ، فهذا وأمثاله لم يصح منه شيء عن النبي
صلى الله عليه وسلم .
[ص366 وما بعدها من مجموع الفتاوى لابن تيمية، الجزء الثامن عشر]
رابعًا: القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بشرًا مثلنا يحتمل حقًا وباطلاً، وقد صدر منا فتوى في
ذلك هذا نصها: هذه الكلمة مجملة تحتمل حقًا وباطلاً، فإن أريد بها إثبات
البشرية للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه ليس مماثلاً للبشر من كل وجه بل يشاركهم في جنس صفاتهم،
فيأكل ويشرب ويصح ويمرض ويذكر وينسى ويحيا ويموت ويتزوج النساء ونحو ذلك ويختص
بما حباه اللَّه به من الإيحاء إليه وإرساله إلى الناس بشيرًا ونذيرًا وداعيًا
إلى اللَّه بإذنه وسراجًا منيرًا، فهذا حق، وهو الذي شهد به الواقع وأخبره به
القرآن، قال اللَّه تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى
إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء
ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه
أحدا فأمره أن يخبر أمته بأنه بشر مثلهم إلا أن اللَّه اصطفاه لتحمل أعباء
الرسالة وأوحى إليه بشريعة التوحيد والهداية. إلخ. وقال تعالى في بيان ما جرى
من تحاور بين الرسل وأممهم: قالت رسلهم أفي الله شك فاطر
السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم
ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر
مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا
فأتونا بسلطان مبين (10) قالت لهم رسلهم إن نحن
إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من
عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن
الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون [إبراهيم:10، 11]
فأقر
الرسل بأنهم بشر مثلنا ولكن اللَّه منّ عليهم بالرسالة فإن اللَّه سبحانه يمن
على من يشاء من عباده بما شاء، ويصطفى منهم من أراد ليخرج به الناس من الظلمات
إلى النور، ومثل هذا في القرآن الكريم كثير.
وإن أريد به أن الرسول ليس بشرًا
أصلاً أو أنه بشر لكنه لا يماثل البشر في جنس صفاتهم فهذا باطل يكذبه الواقع،
وكفر صريح لمناقضته لما صرح به القرآن من إثبات بشرية الرسل ومماثلتهم للبشر
فيما عدا ما اختصهم اللَّه به من الوحي والنبوة والرسالة والمعجزات.
وعلى كل
حال لا يصح إطلاق هذه الكلمة نفيًا ولا إثباتًا إلا مع التفصيل والبيان لما
فيها من اللبس والإجمال ولذا لم يطلقها القرآن إثباتًا إلا مع بيان ما خص به
رسله كما في الآيات المتقدمة كما في قوله تعالى: قل إنما أنا بشر
مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا
إليه واستغفروه وويل للمشركين (6) الذين لا
يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون [فصلت: 6، 7]، وكما
يخشى من التعبير بمماثلتهم للبشر بإطلاق انتقاص الرسل والتذرع إلى إنكار
رسالتهم يخشى من النفي للمماثلة بإطلاق الغلو في الرسل وتجاوز الحد بهم إلى ما
ليس من شأنهم بل من شئون اللَّه سبحانه، فالذي ينبغي للمسلم التفصيل والبيان
لتمييز الحق من الباطل والهدى من الضلال.
وبالله التوفيق وصلى اللَّه وسلم على
نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(/2)
حياتنا بين هموم الدنيا والآخرة ...
بسم الله الرحمن الرحيم ...
1- لكل منا همّ بل هموم يحملها في صدره، إذ الدنيا هي دار الهموم كما قال الشاعر:
جبلت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأكدار
2- الهموم بعضها دنيوي، وبعضها أخروي، فمن الهموم الدنيوية وما أكثرها: همّ الدراسة، الرزق والوظيفة، حاجات الأسرة، أعطال السيارة، مشاكل الأبناء، أخبار الفريق الكروي . . .
ومن الهموم الأخروية: أحوال المسلمين، عذاب القبر، أهوال القيامة، المصير إلى الجنة أو إلى النار، تربية الأبناء، كيفية القيام بحقوق الوالدين، هم الدَين وسداده للخلوص من حقوق العباد. . .
3- الإنسان يعيش في وسط هذه الهموم، إذ الدنيا معاشنا، والآخرة معادنا، فكل منها مصلحة للإنسان يود لو كفيها، لكن ينبغي على المسلم أن يعطي كلاً من الدنيا والآخرة قدرها، فيتخفف من شواغل الدنيا وهمومها، ويجعل همّه وشغله في مسائل الآخرة، وهذا ما أرشدنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((من جعل الهموم همّاً واحداً هم المعاد كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك)) [ابن ماجه ح4106]. وفي رواية: ((من كان همه الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرّق الله عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)) [أحمد ح21080]. وفي رواية: ((من جعل الهموم هماً واحداً هم آخرته كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك)) [ابن ماجه ح257].
عن الحسن قال: (فمن تكن الآخرة همه وبثه وسدمه يكفي الله ضيعته ويجعل غناه في قلبه، ومن تكن الدنيا همه وبثه وسدمه يفشي الله عليه ضيعته ويجعل فقره بين عينيه، ثم لا يصبح إلا فقيراً ولا يمسي إلا فقيراً) [الدارمي ح331].
4- السؤال الذي يطرح نفسه: ماهو الهم الأول الذي يسيطر على حياتنا، وهو الهم الذي يسميه النبي صلى الله عليه وسلم الهم الأكبر، وذلك في قوله: (( ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)) قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب. [الترمذي ح3502].
هل هذا الهم من هموم الدنيا أم من هموم الآخرة؟ حاول أن تكتب الهموم التي تهمك في ورقة، وانظر أهمها لديك، وأكثرها شغلاً لبالك، ثم انظر كم من هذه الهموم للدنيا وكم منها للآخرة، قال علي بن أبي طالب: (ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل) [رواه البخاري في باب الأمل وطوله]
5- من أراد أن يعرف الهم الأكبر الذي يشغله فلينظر في أحواله: ما الذي يفكر فيه قبل نومه أو في صلاته؟ ما الذي يفرحه ويحزنه؟ وما الذي يغضبه؟ما هي أمنياته؟ وبماذا يدعو الله في سجوده؟ وما الذي يراه في منامه وأحلامه؟ ما الأمر الذي يؤثر تأثيراً مباشراً في قراراته كاختيار الزوجة ومكان السكن، هل هو الجمال وإيجار الشقة أم الدين والجوار من المسجد؟ وهكذا. . .
إن التبصر في ذلك كله يدلك على الهم الأول أو الأكبر في حياتك، فتعرف حينذاك أنك ممن أهمته دنياه أو أخراه.
هموم الأنبياء عليهم السلام:
أنبياء الله هم أصدق الناس طوية، تجردوا عن حظوظ أنفسهم وعاشوا من أجل بلاغ دينهم، فكانت الآخرة همهم.
هذا نوح عليه السلام يمكث في دعوة قومه قرابة الألف عام، وهو يدعوهم إلى طاعة الله وعبادته، وليس له من هم إلا ذاك {قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً}، {ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً}.
وهكذا نبينا عليه الصلاة والسلام فقد عاش يحمل هم أمته عليه الصلاة والسلام، فمن ذلك أن ربه عاتبه هون عليه ما يجده من هم وحزن لعدم إيمان الكفار بدعوته، ومنه قوله تعالى: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} [الشعراء:3]. {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} [الكهف:6]. {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [النحل:127]. {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام:33]. {ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون } [النمل:70]. {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون} [فاطر:8]. وقد وصفه الله بقوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة:128].(/1)
ونرى في حياته صلى الله عليه وسلم هم الدعوة - وهو من هموم الآخرة - جلياً واضحاً ومن ذلك أنه لما ذهب إلى الطائف يدعوا أهلها إلى الإسلام كذبوه وأغروا به السفهاء فضربوه وأدموه، لكنه عليه الصلاة والسلام شغله هم الدعوة عن جراحه، فعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)) [البخاري ح3231، مسلم ح1795]. ولو كان همه صلى الله عليه وسلم لنفسه لطلب العجلة في قتلهم وعذابهم، لكنه مشغول بهدايتهم، فقد جاء في تمام الحديث: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً))، وفي سيرة ابن هشام أنه صلى الله عليه وسلم دعا فكان مما قال: ((إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) [سيرة ابن هشام2/420].
وبقي همه الدين صلى الله عليه وسلم حتى آخر حياته فعن علي رضي الله عنه قال: كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة الصلاة اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)) [أبو داود ح5156، ابن ماجه ح2698].
وطوال حياته صلى الله عليه وسلم كان فرحه للآخرة وحزنه وغضبه كذلك:
فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها) [البخاري ح3560، مسلم ح2327].
وكذلك كان غضبه صلى الله عليه وسلم للدين فعن أبي مسعود قال: قال رجل: يا رسول الله إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضباً منه يومئذ ثم قال: ((يا أيها الناس إن منكم منفرين فمن أم الناس فليتجوز فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة)) [البخاري ح704، مسلم ح466]. فأشد ما يغضبه صلى الله عليه وسلم هو الدين.
وعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه قالت: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية فقال: ((يا عائشة ما يؤمني أن يكون فيه عذاب عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هذا عارض ممطرنا})) [البخاري ح4829، مسلم ح899].
وقال له أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله قد شبت! قال: ((شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت)) [الترمذي ح3297]. قال أبو الطيب: وذلك لما في هذه السور من أهوال يوم القيامة والمثُلات والنوازل بالأمم الماضية. [تحفة الأحوذي 9/131].
هموم السلف الصالح:
ثم ورث هموم الآخرة الصالحون من أمة محمدصلى الله عليه وسلم، ويظهر ذلك في أمانيهم وأحلامهم وتتبع أحوالهم، ومن ذلك
أن عمر قال لأصحابه يوماً: (تمنوا، فقال رجل منهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله عز وجل، فقال: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله عز وجل وأتصدق به،ثم قال: تمنوا، قالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين. قال عمر: لكني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح) [صفوة الصفوة1/367].(/2)
وعندما يحلمون فإنما يحلمون بهموم الدين، لذا تتوافق أحلامهم، ومن ذلك ما رواه أبو داود بإسناده إلى بعض الأنصار قال: اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً فلم يعجبه ذلك، قال: فذكر له القنع يعني الشبور، وقال زياد شبور اليهود فلم يعجبه ذلك، وقال: هو من أمر اليهود، قال: فذكر له الناقوس فقال: هو من أمر النصارى، فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأري الأذان في منامه، قال: فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال له: يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت، فأراني الأذان، قال وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً، قال: ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ((ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت)). [أبو داود ح498].
وقال عمر رضي الله عنه: (إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة) [رواه البخاري في باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة].
وهم الإسلام والآخرة في صدورهم حتى الرمق الأخير من حياتهم، لما كان يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يأتيني بخبر سعد بن الربيع الأنصاري)) فقال رجل: أنا يا رسول الله فذهب الرجل يطوف بين القتلى فقال له سعد بن الربيع: ما شأنك فقال له الرجل: بعثني إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم لآتيه بخبرك قال: (فاذهب إليه فاقرأه مني السلام، وأخبره أني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة وأني قد أنفذت مقاتلي، وأخبر قومك أنه لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحد منهم حي) [الموطأ 1013].
وهذا عمر بن عبد العزيز لما مرض جيء له بطبيب فقال: به داء ليس له دواء، غلب الخوف على قلبه. [سير أعلام النبلاء 5/137].
ويقول ابن مهدي عن سفيان الثوري: كنت أرمق سفيان في الليلة بعد الليلة ، ينهض مرعوباً ينادي : النار النار ، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات.
لما حضرته الوفاة ذهبوا ببوله إلى الطبيب فقال : هذا بول راهب ، هذا رجل قد فتت الحزن كبده ، ما له دواء [سير أعلام النبلاء 7/270، 274].
وهذا الإمام البخاري أرقه العلم وتدوينه فحرمه لذة الرقاد،قال محمد الوراق: كنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري ناراً ويسرج، ثم يخرج أحاديث، فيعلِّم عليها. [سير أعلام النبلاء 12/404].
فضل الاهتمام لشئون الآخرة:
عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) [البخاري ح5642، مسلم ح2573].
وعن عائشة قالت سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان عليه دين همه قضاؤه أو هم بقضائه لم يزل معه من الله حارس)) [أحمد ح25655].
أما الذين لا يهتمون إلا بدنياهم التي شغلت عليهم جل حياتهم فهؤلاء في إيمانهم دخن وفيهم من صفات المنافقين كما ذكر أبو طلحة، فعن أنس أن أبا طلحة قال ذاكراً حال المنافقين في غزوة أحد: (والطائفة الأخرى: المنافقون ليس لهم همّ إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. [الترمذي ح3008]. وهو قول الله: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم} [آل عمران:154].
ما يذهب الهموم ويعين عليها:
1- دعاء الله عز وجل:
عن أبي سعيد الخدري قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة فقال: ((يا أبا أمامة ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة، قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك، قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال: ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني)) [أبو داود ح1555].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا، قال: فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها)) [أحمد ح3704].
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال: ((سبحان الله العظيم وإذا اجتهد في الدعاء قال يا حي يا قيوم)) [رواه الترمذي ح3436، وقال: هذا حديث غريب].(/3)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش)) [البخاري ح6345].
عن ابن عمر قال: فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه ((اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)) [رواه الترمذي ح3502، وقال هذا حديث حسن غريب].
2- الاستغفار:
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ومن كل هم فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب)) [أبو داود ح1518، ابن ماجه ح3819، أحمد ح2234].
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (من قال إذا أصبح وإذا أمسى: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم - سبع مرات - كفاه الله ما أهمه صادقاً كان بها أو كاذباً) [أبو داود ح5081].
3- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
عن أبي بن كعب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: ((يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه، قال أبي: قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئت، قال: قلت: الربع؟ قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قلت: النصف؟ قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قال: قلت: فالثلثين؟ قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذا تكفى همك ويغفر لك ذنبك)) [رواه الترمذي ح2457، وقال: هذا حديث حسن].
4- الصلاة:
وعن حذيفة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى) [أبو داود ح1319]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها)) [أبو داود ح4985]. ...
كتبه
د. منقذ بن محمود السقار
mongiz@maktoob.com ...(/4)
حياض الجنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، قضى ألا تعبدوا إلاَّ إيَّاه، لا مانع لِمَا أعطاه، ولا رادَّ لِمَا قضاه، ولا مظهر لما أخفاه، ولا ساتر لما أبداه، ولا مضلَّ لمن هداه، ولا هاديَ لمن أعماه، سبحانه خلق آدم بيده وسوَّاه، وأمره ونهاه، ثم تاب عليه ورحمه واجتباه، حاله ينذر من سعى فيما اشتهاه، طرد إبليس فأصمَّه وأعماه، وأبعده وأشقاه، وفي قصَّته نذير لمن خالف الله وعصاه. أشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أخذ موسى من أمِّه طفلا ورعاه، وساقه إلى حِجْر عدوِّه فربَّاه، وجاد عليه بالنِّعم وأعطاه، فمشى في البحر وما ابتلَّتْ قدماه، وأهلك عدوَّه بالغرق وَوَارَاه، خرج يطلب نارًا فشرَّفه الله وناداه. (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي)
حمدًا لمن نبيه قد بعث *** فدوَّخت بعوثه مَن قد عفى
ثم الصلاة والسلام ما حكت *** حمائم حمائمًا إذا بكت
وهزَّت الغصون أنفاس الصبا *** فهيَّج صبابة لمن صبا
وَلَمَعَ البرق إذا الغيث وكب *** وطاف بالبيت منيب واعتكب
على أجلِّ مُرْسَلٍ وآله *** وصحبه وتابعي من واله.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مسْلِمُونَ) عباد الله؛ إنَّ النَّاظر بعين البصر والبصيرة إلى الخلق يجد عجبًا، يجدهم غادِين جادِّين في بيع أنفسهم؛ ففائز رابح، ومَغْبُون خاسر، فرابح قد رجحت ميزانه، وخاسر أَوْبَقَهُ عدوانه، رابح دان نفسه وحاسبها، وعمل لما بعد الموت فزكى، صعد بها وارتقى، وخاض المتاعب وركب الأهوال وانتقى، وإلى العلياء ارتقى، فكان الكيِّس العاقل الفاطن ذا الذكا. خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى. فآفة المرء الهوى، فمن علا على هواه عَقْلُه فقد نجا. أعتق نفسه وشرَّفها، وزكَّاها، وقد أفلح من زكَّاها.
فأَرْبِحْ بها من صَفْقَةٍ لمبايع *** وأَعْظِمْ بها أعظم بها ثمَّ أعْظِمِ
وخاسر نَسِيَ مصيره فانغمس في المحرَّمات على غير بصيرة، أقبلَ على الدنيا لاهِثًا في شَرَهِ بهيمة، يجيد السباحة من أجلها في كل بحر، ويلبس لها أكثر من ثوب، ويمثِّل بها أكثر من دور، ويتكلم لها بأكثر من لسان، ويركب لها كل مطيَّة. باع دينه بعَرَضٍ منها، وهبط والهبوط هيِّن، والهابط لم تكن نفسه يومًا أَبِيَّةٌ، أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني حتى داهمته المنيَّة.
فَهَمُّه في اليوم أكلٌ وكِسَا *** وهَمُّه بالليل خَمْرٌ ونِسَا
خاب عاجز خائر بَائِر، خسر نفسه فأوبَقَهَا وأهلكها، وبثمن بخسٍ باعها، فيا لها من رزيَّة! دسَّاها وقد خاب من دسَّاها.
فكان كفائق عينيه عمدًا *** فأصبح لا يضيء له نهار
بل كان كالحمار لا يُزكَّى *** فيدفع الجوع ولا يُزكَّى
شاد للأولى فهلا *** كان للأخرى يشيد
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ للْعَبِيدِ) لا نعجب من خطئه، واتباع هواه معشر المؤمنين؛ إذ لا عجب ولا غرابة أن يخطئ الإنسان، وتصدر منه الإساءة والسَّفه، والجهل والظلم، فكل ابن آدم خطَّاء، والمعصوم من عصمه الله، لكن العجب منه يوم، يدرك خطأه وإساءته وسفهه وجهله وظلمه، ثم يظل متلبسًا بذلك، مصرًّا عليه، آمنا مكر الله به، ووعيده له. (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) يقول [ابن القيم] -رحمه الله-: الذنب بمنزلة شرب السمِّ، والتوبة تِرْيَاقُه ودواؤه، والطَّاعة هي الصحة والعافية، وصحة وعافية مستمرة خير من صحة يتخللها مرض وشرب سمٍّ، وصحة يتخللها مرض وشربُ سمٍّ خير من بلاء دائم.
من حاد حب الكمال تعنُّتًا *** يتبدل الأدنى ويبقى الأحقرَ
فاغتنم حياتك عمرك فلكل *** غادٍ روحة ولكل وضَّاءٍ سِرَار
يا من بدرت منه الخطيئة وكلنا ذاك، عودة عودة إلى أفْيَاء الطاعة، الباب مفتوح، والظل والرخاء من وراء الباب فالزم سُدة الباب، وقم في الدُّجى، واصرخ بلسان الذُّل، مع وجيف القلب، وواكف الدَّمع، يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضُّرُّ. هيا فالنَّفَس يخرج ولا يعود، والعين تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يديْ العزيز الحميد، فلابد من ساعة طاهرة، تكون الرؤوس بها فاغرة، إذا استوفت النفس مكيالها، وزُلْزِلت الأرض زلزالها، فما لك من فرصة للإياب، ولن يرجع العمر بعد الذهاب، تقدم فما زال للصلح باب، وبالموت يغلق باب المتاب (وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا)
رِيدِي حياض النجا يا نفس واطَّرحي *** حياض حبِّ الهوى للشاء والنَّعِمِ(/1)
بادر قبل أن تُبَادَر، بادر بالإقلاع عن الذنب بشعور بالألم، يقضُّ المضاجع، ويؤرِّق المنام، ويقرِّح الجفون، ويزرع في القلب الحسرة والندامة، مع عزم أَكيد على استئناف حياة صالحة نقية تقية طاهرة. بادر فإن تأخير التوبة من الذنب ذنب يحتاج إلى توبة (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن) بادر فإن الذنب يجر إلى الذنب، فكم من ذنب صغير كانت النهاية معه بالتسويف أن يُحال بين صاحبه وبين قلبه، وقد يُسلَب إيمانه فبادر. أرأيت لو أن رجلا أُمِرَ باقتلاع شجرة باسقة، كبيرة أصولها وهو شاب، فرآها كبيرة فهابها، وقال: فلندعها إلى الغد، فلمَّا جاء الغدُ قال: لندعها إلى العام القادم، إلى الذي يليه، إلى الذي يليه، فإنه بمرور الوقت تضعف قوته ويخور، ثم لا يستطيع بعدها قلعها، فما لا تقدر عليه في الشباب لا تقدر عليه غالبًا وقت المشيب.
فمن العناء رياضة الهَرِم *** ومن التعذيب تهذيب الدِّيب
والقضيب الرطب يقبل الحَنَا فإن جفَّ وطال عليه الزَّمن صعب واستعصى، والغصن أقرب تقويمًا من الخشب وما عجزت عنه اليوم قد تكون غدًا أشد عجزًا.
فلا تُبقِ فعل الصالحات إلى غدٍ *** لعل غدًا يأتي وأنت فقيد
فبادر. يُفعل الذنب فَيَخْلَقُ الإيمان في القلب، كما يَخْلَق الثوب، ثم يُغلَّف بالرَّان فيذبل، ثم يقسو (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم من ذِكْرِ اللهِ) ثم يموت، وعندها يُحْرم الإنسان لذَّة مناجاة الله، فعباداته بعد ذلك آليَّة لا روح فيها، لا تزكِّي نفسه، ولا تطهِّر رجْسَه، تلك عقوبة وبلية أي بلية، ثم ينسى القرآن إن كان معه شيء من القرآن، ثم يَهْمِل الاستغفار، ثم يحرص على الذنب مع عدم التلذذ به، كلما حاول أن يعود أُرْكِسَ في ذنبه مع همٍّ وغمٍّ وحزن وخوف وذلٍّ لا يفارقه، أبى الله إلا أن يذلَّ مَنْ عصاه.
ذكر الحافظ [ابن كثير] -رحمه الله- في البداية، في حوادث سنة ثماني وسبعين ومائتين ما يلي بتصرف، قال: وفيها توفي [ابن عبد الرحيم] -قبَّحه الله- هذا الشقي، كان من المجاهدين كثيرًا في بلاد الروم، فلمَّا كان في بعض الغزوات، والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم؛ إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، ما غضَّ بصره، والله يقول: (قُل للْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِن اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) أتْبَع النَّظْرة النظرة، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل والآلام والحسرات.
كان كمن أدخل في جحر يدا *** فأخطأ الأفعى ولاقى الأسْوَدَ(/2)
نظر فهَوِيَهَا، ثم راسلها، هل إليك من سبيل؟ فقالت: لا سبيل إلا أن تتنصر وتتبرأ من الإسلام، ومن محمد –صلى الله وسلم على نبينا محمد- فأجابها، وقال –ونعوذ بالله مما قال-: هو بريء من الإسلام، ومن محمد، وتنصَّرَ وصعد إليها. لا إله إلا الله، نعوذ بالله من الحَوَر بعد الكَوَر، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، نعوذ بالله أن نردَّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله. المعاصي بريد الكفر، المعاصي بريد الكفر. كم من معصية جرَّت أختها وأختها وأختها، حتى كانت النهاية أن سُلب إيمان العبد، وهذا مَثَلٌ من الأمثلة. ما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتمَّ المسلمون لذلك غمًّا شديدًا، وشق عليهم ذلك مشقة عظيمة، صَدْرٌ وَعَى القرآن يعود ليعبد الصُّلبان، لما كان بعد فترة مرُّوا عليه، وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، عليه ذلّ الكفر وغبرته وقترته، فقالوا: يا [ابن عبد الرحيم] ما فعل علمك؟ ما فعلت صلاتك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعل القرآن؟ فقال في حمأة ذل الكفر: أُنْسِيتُه، ما معي منه سوى آيتين، لكأنه المَعْنِيُ بهما (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ولقد صار لي فيهم مال وولد؛ يعني صار منهم (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرِّف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك، يا رب ثبتنا على الإيمان، ونجِّنَا من سُبُل الشَّيطان. نسألك اللهم حُسْن الخاتمة؛ فهي –وربي- لحظات حاسمة. ونسأل الله لنا السعادة والفوز عند الموت بالشهادة. بادر قبل أن تُبَادَر. هل تنتظر إلا غنى مطغيًا، أو فقرًا منسيًا، أو هِرَمًا مفنِّدًا، أو موتًا مُجْهِزًا، أو الدَّجال فشَرُّ غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمَرُّ. إن أول قدم في الطريق بَذْل الروح، فإن كنت تستطيع على بذل الروح فتعال وبادر، وإلا فاذهب والْعب مع اللاعبين حتى يأتيك اليقين. بادر قبل أن تبادر، واصدق الله في توبتك، واجعلها نصوحًا خالصة؛ فإن الله يدعوك في عداد المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ) ويَعِد بالفلاح على ذلك فيقول: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
فلو داواك كل طبيب داءٍ *** بغير كلام ربي ما شفاك
الصادق في توبته لا يزال ذنبه نصب عينيه، خائفًا منه، مُشْفِقًا، وَجِلا، باكيًا، نادِمًا مستحيًا من ربه، نَاكِسًا الرأس بين يديه، دائم التَّضَرُّع إليه، واللجوء إليه، حتى يقول عدو الله إبليس: ليتني تركتُه فلم أوقعه في ذلك الذنب.
روى [مسلم] في صحيحه: أن امرأة وقعت في كبيرة الزنى في لحظة من لحظات ضعفها، فتذكرت عظمة الله وعقابه ووعيده، فأنابت بشعور عظيم، بمرارة المعصية، وعِظَم الكبيرة، وأرادت البراءة بطريق مُتَيَقَّن لا يتطرق له أدنى احتمال، فجاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالت: يا رسول الله، طهرني، فقال ويحك: ارجعي واستغفري الله، وتوبي إليه، كان يكفيها ذلك، لكنها قالت: يا رسول الله، أراك تريد أن تردني كما رددتَّ [ماعز بن مالك]، والله إني لحُبْلَى من الزنا، فطهرني يا رسول الله، قال: أأنت؟ قالت: نعم، فقال لها: ارجعي حتى تضعي ما في بطنك، وبضعة أشهر تمرُّ وهي على خوفها ووَجَلِها وإشفاقها، ثم تضع، وتأتي بالصبي في خِرْقة، وتقول: هو ذا قد وَضَعْتُه فطهرني يا رسول الله، قال: اذهبي فأرضِعِيه حتى تفطميه –وحولان كاملان على خوفها وإشفاقها وعزمها على تطهير نفسها بالحدِّ، والحد كفَّارة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- فطمتْه، وأتت النبي –صلى الله عليه وسلم- بالصبي وفي يده كسرة الخبز، فقالت: هو ذا يا نبي الله، قد فطمته، وأكل الطعام، فطهرني يا رسول الله.
قلبها كأنه مهجة نِضْوٌ ببلقعةٍ *** يعتادها الضاريان؛ الذئب والأسد(/3)
دفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أُمِر بها فَحُفِر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فكان فيمن رجمها [خالد] –رضي الله عنه وأرضاه- فتنضَّخ الدم على وجه خالد، فسبَّها وشتمها، فسمعه النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: مهلا يا خالد، فو الذي نفس محمد بيده، لقد تابت توبة لو قُسِّمت على أمة لوسعتهم، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكسٍ لغُفِرَ له. ما ضرها؟ وكأن الذنب لم يكن، وقد بقيَ لها صدقها، وثناء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليها وعلى توبتها، وعملها الصالح، وبقي لها شرف الصحبة، والذي لا إله إلا هو لو سجد أحدنا حتى ينكسر صلبه ما بلغ منزلتها؛ إذ هي منزلة الصحبة وكفى بها من منزلة. بقي لها فوق ذلك صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليها، ودفنه لها، فرضي الله عنها وأرضاها.
بالصدق زكى الأصل فطاب الفرع *** وطاب المولد فزكى المَحْتِد
فنبِّه فؤاداك من رقدة *** فإن الموفَّق مَن ينتبه
وإن كنتُ لم أنتبه بالذي *** وُعِظْتُ به فانتبه أنت به
بادر قبل أن تُبَادَر، ولا تيأس ولا تقنط وإن عَظُم الذَّنْب (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رحْمَةِ اللهِ إِن اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) في صحيح [مسلم] قال -صلى الله عليه وسلم-:" إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن الإنس، والبهائم والهَوَام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، حتى ترفع الدَّابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة أكملها الله بهذه الرحمة، حتى إن الشيطان ليتطاول، يظن أن رحمة الله ستسعه في ذلك اليوم"
فيا رب ارأف بعين حرمت طِيب الكَرَى تشكو ودمع المقلتين قد جرى
في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه قال:" قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سَبيٌ، فإذا امرأة من السبي تبتغي وليدًا لها، وتسعى، حتى إذا وجدت صبيًا أخذته، ألصقته ببطنها، أرضعته، فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله، وهي تقدر على ألاَّ تطرحه يا رسول الله، فقال –صلى الله عليه وسلم-: لله أرحم بعباده من هذه بولدها" لا إله إلا هو. هو الغني بذاته، سبحانه جلَّ ثناؤه، تعالى شأنه، العفو أحب إليه من الانتقام، والرَّحمة أحب إليه من العقوبة، سبقت رحمته غضبه، وحلمه عقوبته، الفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع، لا إله إلا هو. يورد [ابن القيم] –رحمه الله- عن بعض العارفين أنه رأى في بعض السكك بابًا قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده، حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكِّرًا، فلم يجد مأوى غير البيت الذي أُخْرِج منه، ولا مَنْ يئويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزينًا، فوجد الباب مُرْتَجًا مُغْلَقًا، فتوسَّدَه ووضع خدَّه على عتبة الباب، ونام، فخرجت أمه، فلمَّا رأته على تلك الحال لم تملك أن رَمَت بنفسها عليه، والْتزمته، تُقبِّله وتبكي، وتقول: يا ولدي؛ أين تذهب عني؟ من يئويك سواي؟ أين تذهب عني؟ من يئويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني؟ ولا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك، وإرادة الخير لك؟ ثم ضمَّتْه إلى صدرها، ودخلت به بيتها، فتأمل قولها: لا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبِلتُ عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك، وتأملْ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَلَّهُ أرحم بعباده من الوالدة بولدها ". فأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء. رحمة الله هل تُنال بالتواني والكسل، أم بالجدِّ والعمل؟ لمن كتبها الله؟ اسمعوا معشر المؤمنين إلى قول الله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيل) إنها للعاملين، كتبها الله للعاملين، لا للخاملين البطَّالين.
أتخطب الحور لم تهد الصَدَاق لها *** ولم تقدم لها عقدًا ولا قِرْطًا
أم تشترى الخلد بالمغشوش من عملٍ *** وسلعة الله لا تُشرى بما خُلِطَا(/4)
فيا عبد الله؛ اعرف عزة الله في قضائه، وبرِّه في ستره وحلمه في إمهالك، وفضله في مغفرته، فلله عليك أفضال وأفضال؛ أولها: ستره عليك حال ارتكابك للذنب، أما -والله- لو شاء الله لفضحك على رءوس الخلائق، فما جلست مجلسًا، ولا حضرت مَجْمَعًا إلا وعُيِّرت بذلك الذنب. فكم من عاصٍ نفس معصيتك فُضِحَ وسترك الله الذي لا إله إلا هو. ويا عجبًا لأقوام باتوا يسترهم الله، فأصبحوا يتحدثون بذنوبهم، قد هتكوا ستر الله عليهم!، أولئك غير معافين، إنهم المجاهرون، وكل أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- معافى إلا المجاهرين، فاشكر ربك أنْ سترك، وتب إليه قبل أن يفعل بك ما فعل بغيرك، وقل: اللهم استر واجعل تحت الستر ما تحب، اللهم استر واجعل تحت الستر ما تحب.
ثانيها: حلم الله عليك، حلم الله عليك في إمهالك، ولو شاء الله لعاجلك بالعقوبة، فما كنت ممن يسمع الآن سعة رحمته.
ثالثها -وهو من أعظمها-: فرح الله -عز وجل- بتوبته، فرح إحسان وبرّ ولطف، لا فرحة محتاج إلى توبة عبده، فلن يَتَكثَّر بك من قِلَّة، ولن يتعزز بك من ذلَّة، ولن ينتصر بك من غَلَبَة، تبارك الله – وجل الله-. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في صحيح مسلم-: "لَلهُ أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دَوِّيَّة مهلكة قَفْر خالية، معه راحلة عليها طعامه وشرابه، فنام، ثم استيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، توسَّد ساعده ينتظر موته؛ فإذا براحلته عنده عليها طعامه وشرابه وزاده، فأخطأ من شدة الفرح، فقال: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك" لا إله إلا الله كيف بلغ به الفرح حتى أخطأ فقال: أنت عبدي وأنا ربك. فرح لا تنقله الألفاظ، وحب الله للعبد أشد من حب العبد لله. فيفرح بتوبته، ويجازيه بأن يجعل في قلبه من اللذة والفرح والسعادة والسرور ما يُرى باديًا على قسمات وجهه إن صدق ونصح وأخلص، والله ما هو إلا كرجل برز للقتل، ثم عفي عنه، والجزاء من جنس العمل.
رابعها: تبديل السيئات إلى حسنات قال الله: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) فما النتيجة؟ (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)
فإن هوى بك إبليسُ لمعصية *** فأَهْلِكَنْه بالاستغفار يَنْتَحِبِ
بسجدة لك في الأسحار خاشعة *** سجود مُعْترف لله مُغْتَرب
روى [المنذري] بسند جيد عن [عبد الرحمن بن جبير] قال:" أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- شيخ كبير هَرِم، سقط حاجباه على عينيه، وهو مدَّعمُ على عصا –أي: متكئًا على عصا- حتى قام بين يديْ النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها، لم يترك داجَّة ولا حاجَّة إلا أتاها، لو قُسِّمت خطيئته على أهل الأرض لأوبقتهم –لأهلكتهم-، أله من توبة؟ فقال –صلى الله عليه وسلم-: هل أسلمت؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قال: تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك كلهن خيرات، قال: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟ قال: نعم، وغدراتك وفجراتك، فقال: الله أكبر، الله أكبر، ثم ادَّعم على عصاه، فلم يزل يردد الله أكبر حتى توارى عن الأنظار". فضل الله واسع، لا تقتحمه العبارة، ولا تجسر إليه الإشارة، لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي، فلا تيأس من رحمة ولا تجترئ على معصية الله، وتب كلما أذنبت. قال بعضهم لشيخه: إني أذنب، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان، ودَّ لو ظفر منك باليأس والقنوط .
دعاك رب بالندى يعرف *** يا من على أنفسهم أسرفوا
لا تقنطوا من رحمتي واعرفوا *** إني لغفار الذنوب العظام
يا من وسِعْتَ برحمةٍ كل الورى *** من قد أطاع ومن غدا يتأثَّمُ
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ *** فبمن يلوذ ويستجير المُجْرمُ(/5)
بادر قبل أن تُبَادر، بادر ولا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، إنه الله الجليل الأكبر، الخالق البارئ والمصوِّر، بارئ البرايا، منشئ الخلائق، مبدعهم بلا مثالٍ سابق، الأول المبدئ بلا ابتداءٍ، والآخر الباقي بلا انتهاءٍ. الأحد، الفرد، القدير، الأزلي، الصَّمد، البرُّ، المهيمن، العلي علو قَهْر، وعلو الشان، جلَّ عن الأضداد والأعوان، من نظر إلى عظمة الله وجلاله عظَّم حُرُماته، وَقَدَره قَدْرَه، وأجَلَّ أمره ونهيه، وعَظُم عليه ذنبه ولو كان صغيرًا. لكأنه الجبل هو في أصله يخشى أن يقع عليه فيهلكه، فقلبه كأنه بين جناحيْ طائر، تجده منكسر القلب، غزير الدمع، قلق الأحشاء، له في كل واقعة عبْرَة، إذا هدل الحمام بكى، وإذا صاح الطير ناح، وإذا شدا البلبل تذكَّر، وإذا لمع البرق اهتزَّ قلبه خوفًا ممن يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته، الذلُّ قد علاه، والحزن قد وَهَّاه، يضم نفسه على هواه، ويصدع بأوَّاه، أواه من غفلاتي، ومن عسى ولعل، يا من عليه اعتمادي؛ بك اهتديت، ومن لم يَرْجُ الهدى منك ضل. بادر وإياك ومحقِّرات الذّنوب؛ فإن لها من الله طالبًا. بادر وردَّ المظالم إلى أهلها، أو تحلَّلْ منهم، واطلب المسامحة؛ لا تتم التوبة إلا بذلك.
صحَّ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "لتُؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجَلْحَاء من الشاة القَرْنَاء". وقال –صلى الله عليه وسلم- "من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها اليوم، قبل ألا يكون درهمٌ ولا دينار، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مَظْلَمَتِه، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه، فطرحت عليه" وفي حديث [ابن أنيس]:" يقول الله يوم القيامة: أنا الملك، أنا الدَّيَّان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد عنده مظلمة حتى اللطمة" قال الله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) لما حضرت [عبادة بن الصامت] -رضي الله عنه- الوفاة قال: أخرجوا فراشي إلى صحن الدار، فأخرجوه، قال: اجمعوا لي مواليَّ وخدمي وجيراني ومن كان يدخل عليَّ، فجمعوهم له، فقال: إني لأرى يومي هذا آخر يوم يأتي عليَّ من الدنيا، وليلتي هذه أول ليلة من الآخرة، وإني لا أدري لعلّه فَرَطَ مني إليكم شيء بيدي أو بلساني هو -والذي نفس عبادة بيده- القصاص يوم القيامة، أحرِّج على أحد منكم في نفسه عليَّ شيء من ذلك إلا اقتص مني قبل أن تخرج روحي، فبكوا جميعًا وضجُّوا وقالوا: بل كنت والدًا، وكنت مربيًا، وكنت مؤدبًا، ولم يكن قال لخادم قط سوءًا، قال: تجودون لي بالدمع، وما يغني الدمع. أغفرتم لي؟ فضجُّوا وقالوا: أن نعم، قال: اللهم اشهد .. اللهم اشهد .. اللهم اشهد .. أشهد أن لا إله إلا الله، ثم لقيَ الله.
الخلد تدعوه فهل من مجيب *** والحور تهفو للقاء الحبيب
وافرحتاه لكل عبد منيب *** لبَّى ندا الداعي لدار السلام
فبادر بردِّ المظالم أو التحلل منها؛ فلن يجاوز جسر جهنم إلى الجنة ظالم حتى يؤدي مظلمته. خفف عن ظهرك؛ ظهرك لا يطيق كل ما تجني؛ ظلم هذا، وأكل مال هذا، والوقوع في عرض ذاك، وشتم ذا، خفِّفْ، قد خاب من حمل ظلمًا، قال الله: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) بادرْ قبل أن تُبادَر، ولا تصحب الفاجر؛ فإنه يزين لك فعله، ويود لو أنك مثله، وطبعك يسرق منه، والمرء على دين خليله، لا تسكن أرضًا موبوءة؛ فإن جرثومة المرض تسري فتفري. اهجر المعصية ومكانها، وعليك بقوم يعبدون الله بأي أرض، فاحبس نفسك معهم؛ فإن بيئة المعصية بيئة سوء، والله -الذي لا إله إلا هو- لأن تنقل الحجارة، وتأكل الحجارة، وتنام على الحجارة مع الأبرار، خير لك من أكل الحلوى، والجلوس على الحرير، والنوم على الحرير مع الفجار؛ أولئك يدعون إلى الجنة، وأولاء يدعون إلى النار.
فما ينفع الجرباء قُرْبُ صحيحة *** إليها ولكن الصحيحة تجربُ(/6)
قال الله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) اهجر مكان المعصية، وأطِلْ الصمت، وأَدْمِن السُّكوت، ولا تخُض مع الخائضين، وقف على أحوال التائبين، وإذا رأيت العصاة فلا تشمخ بأنفك، واحمد ربك، ودُلَّهم على ما أنت فيه، وقل: (كَذَلِكَ كُنْتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا) ففي ذلك ذكرى للمؤمنين. هاهو [أبو لبابة] -رضي الله عنه وأرضاه- لما أرسله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بني قريظة، وقد أجهدهم الحصار، وقد غدروا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونقضوا العهد، فقام إليه الرجال والنساء والأطفال يبكون، فرقَّ لهم، فقالوا: أننزل على حكم محمد؟ –صلى الله وسلم على نبينا محمد- قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح، يقول فوالذي لا إله إلا هو ما زالت قدماي من مكانها حتى علمت أني خنت الله ورسوله، ورجع نادمًا أسيفًا، عظَّم الله –عز وجل- لم يرجع إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وإنما رجع فارتبط بجذع في المسجد، لا يُطلق منه إلا ليصلي، ثم يعود إلى ذلك الجذع، يتلمس عفو الله، ولطف الله، ورحمة الله، وتوبة الله، حتى إذا ما نزلت توبته، أَبْشِرْ بخير يوم مرَّ عليك يا أبا لبابة؛ لقد تِيبَ عليك. خرَّ ساجدًا لله –عز وجل- ثم قام إليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأطلقه، فقال -وهو يرسم منهج لهجر المعصية، ومكان المعصية، وبيئة المعصية- قال: يا رسول الله –والذي لا إله إلا هو- ما وطئت قدمايَ أرض بني قريظة ما حييت، والله لا أُرَى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدًا.
بادر قبل أن تُبَادر، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، قال الله: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) لما راجع عمر -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية، فقال: ألست نبي الله حقًّا؟ أو لسنا المؤمنين؟ أو لسنا على الحق وهم على الباطل؛ فعلام نعطي الدَّنيَّة في ديننا، ولمَّا يحكم الله بيننا؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري. وقال أبو بكر: الزم غرزك يا ابن الخطاب، فوالذي نفسي بيده إنه لعلى الحق. يقول عمر: فعملت لذلك أعمالا يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق؛ مخافة مراجعتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية. بادر ولا تعجز إذا فرطت منك سيئة أن تتبعها حسنة، واذكر مسير العمر ما أسرعه!، وارقب هجوم الموت ما أفظعه!. وبادر قبل أن تبادر. دع المحدثات والبدع فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته " صحَّحه [الألباني] -رحمه الله- في صحيح الترغيب والترهيب. تدري أخي أين طريق الجنة؟ طريقها القرآن، ثم السُّنة.
وخير أمور الدين ما كان سُنَّة *** وشر الأمور المحدثاتُ البدائع.(/7)
بادر وقف معي على أحوال التائبين؛ فإنها ذكريات متألِّمين، وذكر المتألم تنفع المؤمنين بإذن رب العالمين، يقول صاحب رسالة أخي الشاب إلى أين تسير: قال صاحب القصة: كنَّا ثلاثة من الأصدقاء يجمعنا الطَّيش والعبث، لا بل أربعة؛ فقد كان الشيطان رابعنا، نذهب لاصطياد أعراض المسلمين بالكلام المعسول، نستدرجهن إلى الاستراحة في المزارع البعيدة بعد موت قلوبنا وأحاسيسنا ومشاعرنا، هكذا كانت حياتنا. يقول: أيامنا ليالينا في المزارع والمخيَّمات في السيارات على الشواطئ، إلى أن جاء يوم، وذاك اليوم لا يُنسى، ذهبت إلى المزرعة مع أصحابي، كل شيء جاهز، الشراب جاهز ونعوذ بالله، الفريسة جاهزة ونعوذ بالله، نسينا الطعام، ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته في حوالي السادسة تقريبًا، مرت الساعات تلو الساعات دون أن يعود، وفي العاشرة شعرت بالقلق، شعرت بالضيق، انطلقت بسيارتي أبحث عنه، وفي الطريق شاهدت ألسنة النيران تندلع على جانبي الطريق، يا للهول! فوجئت بأنها سيارة صديقي، النار تلتهمها، مقلوبة على أحد جانبيها، كالمجنون أسرعت أحاول إخراجه من السيارة، وجدت نصف جسده قد تفحَّم، لم يزل على قيد الحياة، سحبته إلى الأرض، فتح عينيه وأخذ يهذي، النار، النار،النار، قررت حمله بسيارتي إلى المستشفى، فقال بصوت باكٍ حزين: لا فائدة، لن أصل، ما عسى يُغني غريق عن غريق، خنقتني الدموع، أراه يموت أمامي، ثم فوجئت به يصرخ بأعلى صوته، ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ دُهشت وقلت له: من هو؟ قال: الله، الله، ماذا أقول له؟ ثم صرخ صرخة مدوِّية، ولفظ آخر أنفاسه، اجتاح الرعب جسدي ومشاعري، صورته لم تفارقني، يصرخ النار، النار، والنار تلتهمه، وهو يقول: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ تساءلت، وقلت: وأنا، ماذا أقول له؟ لا إله إلا الله. فاضت عيناي، اقشعرَّ جسدي، وإذا بالمنادي ينادي: الله أكبر، الله أكبر، نداء صلاة الفجر، أحيا فيَّ كل جارحة، أحسست لأول مرة أنه نداء خاص بي، يهز أعماقي، يدعوني بإسدال الستار على فترة مظلمة من حياتي، يدعوني إلى الهداية، إلى السعادة. اغتسلت، تطهرت، أسقطت عن جسدي وروحي ثقل رذائل غرقت فيها سنوات وسنوات، أدَّيت صلاة الفجر، ومن يومها لم تَفُتْنِي فريضة، والحمد لله رب العالمين. واأسفاه من حياة على غرور، وموت على غفلة، ومنقلب إلى حسرة، ووقوف يوم الحساب بلا حجَّة.
ازرع لكي تحصد يوم الزحام *** يا ويل من يلهيه عنه الحطام
يا عبد الله؛ أيها الشاب؛ مثِّل نفسك -أجارك الله- صاحب الحادث، ثم لا تسوِّف، عجِّل عجِّل، هيا هيا، إلى الله لا طاقة لقذارة الوسخ مع بياض الصابون، كن قلبًا وقالبًا.
أيا ملك الملوك أطلْ عِفَاري *** فإني عنك أنأتني الذنوب
وأمرضني الهوى لهوانِ نفسي *** ولكن ليس غيرك لي طبيب
أيا ديان يوم الدين فرِّجْ *** همومًا في الفؤاد لها دبيبُ
وبادر قبل أن تُبَادَر. بادر قبل أن تُبادَر، ولا تغترَّ بكثير عملك؛ فأعمالك الصالحة من توفيق الله وفضله ومَنِّه عليك، ومع هذا فليست ثمنًا لجزائه وثوابه، بل غايتها أنها بعد النصح والوقوع على أكمل وجه شُكْرٌ له على بعض نِعَمِه سبحانه وبحمده، فلذلك لو عذَّب الله أهل سماواته وأرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم. في الحديث المتفق عليه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "لن يُدخل أحد منكم الجنة عملُه قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل"، ألا إن المنفي هنا استحقاق الجنة بمجرد العمل، وكون العمل ثمنًا وعوضًا لها. فما العمل ولو عظم يساوي نعمة البصر، فبادرِ وانتبه، وليكن حالك ومقالك:
إن الملوك إذا شابت عبيدهم *** في رِقِّهم عَتَقُوهُم عتقَ أبرارِ
وأنت يا خالقي أولى بذا كرمًا *** قد شبت في الرِّقِّ فاعتقني من النَّار(/8)
أخرج [الإمام أحمد] في مسنده من حديث [عبد الله بن أبِي مُليكة]، عن [ذكوان مولى عائشة] -رضي الله عنها- أنه استأذن [لابن عباس] -رضي الله عنهما- على عائشة وهي تموت، وهي في سكرات الموت، وعندها ابن أخيها [عبد الله بن عبد الرحمن]، فقال لها: هذا [ابن عباس] يستأذن عليك، وهو من خير بنيك، فقالت: دعني من ابن عباس، ومن تزكيته، فقال لها عبد الله: يا أماه؛ إنه قارئ لكتاب الله، فقيه في دين الله، حبيب إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأذني له فليسلم عليك وليودعكِ، قالت: فَأْذَن له إن شئت، فأذن له، فدخل وسلَّم وجلس، ثم قال: أبشري يا أمَّ المؤمنين، والله ما بينك وبين أن يذهب عنكِ كل أذى ونَصَب وَوَصَب، وتلقي الأحبة؛ محمدًا –صلى الله عليه وسلم- وحزبه، إلا أن تفارق الروح الجسد، قالت: وأيضًا، فقال: إن كنتِ لأحب أزواج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إليه، ولم يكن يحب إلا طيبًا. قالت: وأيضًا، قال: وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات، فليس مسجدٌ في الأرض إلا وهو يتلى فيه آناء الليل، وآناء النهار (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ منْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) قالت: وأيضًا، قال: وسقطت قلادتك بالأبواء، فَاحْتبِس النبي- صلى الله عليه وسلم- والناس معه في ابتغائها وطلبها، حتى أصبح القوم على غير ماء، فأنزل الله (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) فكانت رخصة عامة للناس بسببك إلى يوم القيامة. فوالذي لا إله إلا هو إنك لمباركة، فأجهشت وقالت: دعني مِن هذا يا ابن عباس، والذي لا إله إلا هو لوددتُ أني كنت نسيًا منسيًا، لوددت أني كنت نسيًا منسيا، تناست كل فضائلها أمام قوة استحضار الحياة الآخرة في قلبها، وخشيتها لله تعالى، وكذلك يكون رسوخ اليقين، وقوة الإيمان برب العالمين. وهذا [ابن مسعود] الذي قال فيه النبي –صلى الله عليه وسلم-: الغُليِّم المعلَّم: يقول والذي لا إله إلا هو لوددت أني انقلب روثًا، ثم أُدعى عبد الله روثا، وأن الله غفر لي ذنبًا واحدًا. فبادر ولا تغتر، واحمد الله؛ فله المنَّة (لَمَغْفِرَةٌ منَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ ممَّا يَجْمَعُونَ) يا رب أنت المرجَّى، أنت العزيز القدير.
يا رب أنت المجير قد مسَّنا ما يضير *** فلا تكلنا لنفسٍ فيها تمادى الغرور
بادر أخيرًا قبل أن تُبَادَر، واستعن بمولاك يُعنك مولاك. قال أحد السلف لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إن سوَّل لك الخطايا؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد، قال: أجاهده، قال: فإن عاد، قال: أجاهده، قال: الأمر بك يطول، أرأيت إن مررت بغنم، فنبحك كلبها، ومنعك العبور، ما تصنع؟ قال: أجاهده على العبور، قال: فإن لم تستطع العبور؟ قال: أجاهده، قال: فإن لم تستطع؟ قال: أجاهده، قال الأمر بك يطول، استعن بصاحب الغنم يكفَّ عنك كلبه. (وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هو السَمِيعٌ العَلِيمٌ). أقسم الشيطان قال: سوف لا أترككم إلا شقيًا أو شقيًا. يقول أحد السلف: رأيت كل أحد له عدو، من اغتابني فليس بعدوي، ومن أخذ مني شيئًا فليس بعدوي. عدوي مَن إذا كنت في طاعة الله أمرني بمعصية الله، حتى إذا ما زلَلْت في معصية الله آيسني من رحمة الله؛ إنه إبليس وأعوانه من شياطين الجن والإنس، قد قطع العهد (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآَتِيَنَّهُم من بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) فالْبس لأمَةَ الحرب، وجرِّد السيف من الغِمْد، وأخرج سهامك من كنانتها، واتَّخذ موقفًا في صف جند الرحمن، وابدأ المعركة مع إبليس وأعوانه، واستعن بمولاك يعنك مولاك.
ذهب الزمان وأنت تقول عسى وأرجُو ربما
الماء عندك قد طَما ولم تزل تشكو الظَمَا
بادر قبل أن تُبَادَر، وقِفْ بالباب وأنت الذليل الحقير،و اضرع إلى العلي الكبير تضرُّع الأسير، بقلب كسير. وقل: يا إله العالمين، يا أكرم الأكرمين، عبدك أسير الخطايا، صاحب الهفوات والرزايا، واقفٌ ببابك ينتظر رحمتك، الخير دأبك، والحكم حكمك، وأنت أرحم الراحمين. هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك. أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأسألك سؤال الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه.
اللهم اغفر لنا قبل أن تشهد الأعضاء والجوارح، اللهم اغفر لنا قبل أن تشهد الأعضاء والجوارح، وتبدو السوءات والفضائح، يا رب من للبائس الفقير غير الكريم المالك القدير.
فحسبنا الله ونعم الملتجى *** وحسبنا الله ونعم المرتجى
ثم الصلاة ما تغنى الشادي *** على محمد النبي الهادي
ما هتفت وَرْقَاء بالنِّياح *** وغرَّد القُمْرِيُ بالصباح .
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(/9)
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(/10)
حَدَثَ في مثل هذا الشهر
إعداد/ التحرير
ولادة النبي صلى الله عليه وسلم :
النص عند الجمهور على أن ذلك في شهر ربيع الأول فقيل لليلتين خلتا منه، قاله ابن عبدالبر في الاستيعاب. ورواه
ابن أبي شيبة في مصنفه عن عفان عن سعيد بن مينا عن جابر وابن عباس أنهما قالا:
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثامن عشر من ربيع الأول.
هجرة النبي
صلى الله عليه وسلم :
قال البخاري: عن ابن عباس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة فمكث فيها ثلاث عشرة
يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقد
كانت هجرته عليه السلام في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام
وذلك في يوم الاثنين.
دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة:
كما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس
أنه قال: ولد نبيكم يوم الاثنين وخرج من مكة يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين
ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين.
ولما بلغ الأنصار مخرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم من مكة، كانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه، فإذا اشتد حر الشمس رجعوا
إلى منازلهم، فلما حميت الشمس رجعوا، فصعد رجل من اليهود على أطم (الأُطُم:
الحصن، والجمع آطام) من آطام المدينة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول
بهم السراب، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم الذي
تنتظرونه، فثار الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمعت الوَجْبة
(الحركة) والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا
للقائه فتلقوه وحيوه بتحية النبوة وأحدقوا به مطيفين حوله.
وفاته صلى الله عليه وسلم :
عن محمد بن قيس قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر يومًا فكان إذا وجد خفة صلى، وإذا ثقل
صلى أبو بكر رضي الله عنه، وقال محمد بن إسحاق: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لاثنتي عشرة
ليلة خلت من شهر ربيع الأول في اليوم الذي قدم فيه المدينة مهاجرًا واستكمل
رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته عشر سنين، قال الواقدي وهو المثبت عندنا وجزم به محمد بن
سعد كاتبه، قال ابن كثير: والمشهور قول ابن إسحاق والواقدي.
غزوة بواط في السنة الثانية للهجرة:
قال الوليد: ثم غزا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه حتى بلغ
بواط في شهر ربيع الأول يعترض لعيرات قريش وفيها أمية بن خلف ومائة رجل من قريش
وألفان وخمسمائة بعير ثم رجع ولم يلق كيدًا، وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص
واستخلف على المدينة سعد بن معاذ في غزوته هذه، قال: ثم غزا في ربيع الأول في
طلب كرزين بن جابر الفهري في المهاجرين وكان قد أغار على سرح المدينة وكان يرعى
بالجماء فاستاقه فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ بدرًا فلم يلحقه وكان يحمل لواءه
علي بن أبي طالب رضي الله عنه واستخلف على المدينة زيد بن حارثة.
مقتل زعيم اليهود كعب بن الأشرف:
قال أبو جعفر الطبري: وفي السنة الثانية للهجرة كذلك
سَرَّى النبي صلى الله عليه وسلم سرية إلى كعب بن الأشرف، وزعم الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه إليه في
شهر ربيع الأول من هذه السنة.
لما أصيب أصحاب بدر وقتل من قتل من المشركين، قال
كعب بن الأشرف: والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير لنا من
ظهرها.
ثم شبب بنساء من المسلمين (تغزل بهن ووصف حسنهن) حتى آذاهم، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «من لي من ابن الأشرف»؟ فقال محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به
يا رسول اللَّه، أنا أقتله، قال: فافعل إن قدرت على ذلك، ولابد لنا من أن نقول،
قال: قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك. قال: فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة،
وسلكان بن سلامة بن وقش وهو أبو نائلة أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب من
الرضاعة، وعابد بن بشر بن وقش أحد بني عبد الأشهل، والحارث بن أوس بن معاذ أحد
بني عبد الأشهل وأبو عبس بن جبر أخو بني حارثة، وسبقهم إلى ابن الأشرف سلكان بن
سلامة أبو نائلة.
زواج عثمان رضي الله عنه بأم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم :
زعم الواقدي
أن في ربيع الأول من هذه السنة تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأدخلت عليه في جمادى الآخرة وأن في ربيع الأول من هذه السنة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم
غزوة أنمار ويقال لها ذو أمر. [تاريخ الطبري]
تجديد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وحجراته لأول
مرة:
وذكر ابن جرير أنه في شهر ربيع الأول من سنة (88هـ) قدم كتاب الوليد على
عمر بن عبد العزيز يأمره بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجَر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وأن يوسعه من قبلته وسائر نواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع، فجمع عمر
بن عبد العزيز وجوه الناس والفقهاء العشرة وأهل المدينة وقرأ عليهم كتاب أمير(/1)
المؤمنين الوليد، فشق عليهم ذلك، كتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد بما أجمع
عليه الفقهاء العشرة، فأرسل إليه يأمره بالخراب وبناء المسجد على ما ذكر وأن
يعلي سقوفه، فلم يجد عمر بدًا من هدم الحُجْر، وأرسل الوليد إليه فعولاً كثيرة
فأدخل فيه الحجر النبوية «حجرة عائشة» فدخل القبر في المسجد، ويحكى أن سعيد بن
المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد، كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجدًا، والله
أعلم.
سقوط حجارة من السماء:
وفي ربيع الأول من سنة 285هـ يوم الأحد لعشرة بقين
منه، ارتفعت بنواحي الكوفة ظلمة شديدة جدًا ثم سقطت أمطار برعود وبروق لم ير
مثلها وسقط في بعض القرى مع المطر حجارة بيض وسود وسقط برد كبار وزن البردة
مائة وخمسون درهمًا واقتلعت الرياح شيئًا كثيرًا من النخيل والأشجار مما حول
دجلة وزادت دجلة زيادة كثيرة حتى خيف على بغداد من الغرق. [البداية والنهاية
لابن كثير]
وقوع بَرَد مُهْلِك:
ثم دخلت سنة 418هـ في ربيع الأول منها وقع برد
أهلك شيئًا كثيرًا من الزروع والثمار وقتل خلقًا كثيرًا من الدواب، قال ابن
الجوزي: وقد قيل إنه كان في برده كل بردة رطلان وأكثر وفي واسط بلغت البردة
أرطالاً وفي بغداد بلغت قدر البيض.
زلازل ورياح في سنة 478هـ زلزلت أرجان فهلك
خلق كثير من الروم ومواشيهم وفيها كثرت الأمراض بالحمى والطاعون بالعراق
والحجاز والشام وأعقب ذلك موت الفجأة ثم ماتت الوحوش في البراري ثم تلاها موت
البهائم حتى عزت الألبان واللحمان ومع هذا كله وقعت فتنة عظيمة بين الرافضة
والسنة فقتل خلق كثير فيها وفي ربيع الأول هاجت ريح سوداء وسفت رملاً وتساقطت
أشجار كثيرة من النخل وغيرها ووقعت صواعق في البلاد حتى ظن بعض الناس أن
القيامة قد قامت ثم انجلى ذلك، والحمد لله. [البداية والنهاية لابن كثير]
أمطار كالحجارة العظيمة بيضاء:
وفي سنة 872هـ في أواخر ربيعها الأول أمطرت السماء وقت
العصر حصى أبيض زنة الحصاة ما بين رطل أو أكثر أو أقل مع رعد وبرق وظلمة، ثم
وقع في عصر الذي يليه مطر على العادة.
[شذرات الذهب ج7 ص346](/2)
حَدَثَ في مثل هذا الشهر
زيادة صلاة الحضر عن صلاة السفر سنة 1هـ
قال ابن جرير: وفي هذه السنة يعني السنة الأولى من الهجرة زيد في صلاة
الحضر فيما قيل ركعتان وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين وذلك بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم
المدينة بشهر في ربيع الآخر لمضي ثنتي عشرة ليلة مضت وقال: وزعم الواقدي أنه لا
خلاف بين أهل الحجاز فيه. قلت: قد تقدم الحديث الذي رواه البخاري من طريق معمر
عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة
السفر وزيد في صلاة الحضر. [البداية والنهاية]
سرية عبيدة بن الحارث سنة 2هـ
وبعث عبيدة بن الحارث بن المطلب في ربيع الآخر من السنة الثانية للهجرة في
ستين أو ثمانين راكبًا من المهاجرين أيضًا إلى ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة
فلقوا جمعًا عظيمًا من قريش عليهم عكرمة بن أبي جهل وقيل: بل كان عليهم مكرز بن
حفص فلم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص رشق المشركين يومئذ بسهم، فكان
أول سهم رمي به في سبيل الله وفر يومئذ من الكفار إلى المسلمين المقداد بن عمرو
الكندي وعتبة بن غزوان رضي الله عن الجميع.. [الفصول في السيرة]
وفاة أم
المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث زوجة النبي صلى الله عليه وسلم سنة 4هـ
وكانت تدعى أم
المساكين لرأفتها بهم، كانت عند الطفيل بن الحارث فطلقها فتزوجها أخوه عبيدة
فقتل يوم بدر شهيدًا، فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان على رأس أحد وثلاثين
شهرًا من الهجرة ومكثت عنده ثمانية أشهر وتوفيت في آخر ربيع الآخر على رأس تسعة
وثلاثين شهرًا من الهجرة وصلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنها بالبقيع وقد بلغت
ثلاثين سنة أو نحوها ولم يمت من أزواجه في حياته إلا هي وخديجة. [عيون
الأثر]
خروج خالد بن الوليد إلى بني الحارث بنجران فأسلموا سنة 10هـ
قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى
سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن
يقاتلهم ثلاثا فإن استجابوا فاقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم، فخرج خالد حتى
قدم عليهم فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام ويقولون: أيها
الناس أسلموا تسلموا، فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه فأقام فيهم خالد
يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما أمره رسول الله إن هم أسلموا ولم
يقاتلوا. [سيرة ابن كثير]
خروج بعث أسامة إلى فلسطين سنة 11هـ
لما بويع لأبي بكر أمر بريدة بن الحصيب أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة ليمضي لوجهه فمضى به
إلى معسكرهم الأول فلما ارتدت العرب كُلم أبو بكر في حبس أسامة فأبى، وكَلم أبو
بكر أسامة في عمر أن يأذن له في التخلف ففعل، فلما كان هلال شهر ربيع الآخر سنة
إحدى عشرة خرج أسامة فسار إلى أهل أبنى عشرين ليلة فشن عليهم الغارة وكان
شعارهم [يا منصور أمت] فقتل من أشرف له وسبى من قدم عليه وحرق في طوائفها
بالنار وحرق منازلهم وحرثهم ونخلهم فصارت أعاصير من الدخاخين، وأجال الخيل في
عرصاتهم وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنائم، وكان أسامة على فرس
أبيه (سبحة) وقتل قاتل أبيه في الغارة وأسهم للفرس سهمين وللفارس سهمًا وأخذ
لنفسه مثل ذلك، فلما أمسى أمر الناس بالرحيل ثم أَغَذَّ السير فوردوا وادي
القرى في تسع ليال ثم بعث بشيرًا إلى المدينة بسلامتهم، ثم قصد بعد في السير
فسار إلى المدينة ستًا، وما أصيب من المسلمين أحد وخرج أبو بكر في المهاجرين
وأهل المدينة يتلقونهم سرورًا بسلامتهم ودخل على فرس أبيه (سبحة) واللواء أمامه
يحمله بريدة بن الحصيب حتى انتهى إلى باب المسجد فدخل فصلى ركعتين ثم انصرف إلى
بيته. [عيون الأثر]
فتح بيت المقدس سنة 16هـ
عن أبي صفية شيخ من بني شيبان قال: لما أتى عمر الشام أتي ببرذون (بغل) فركبه فلما سار جعل يتخلج به (يتبختر) فنزل
عنه وضرب وجهه وقال: لا علَّم الله من علَّمك هذا من الخيلاء، ولم يركب برذونًا
قبله ولا بعده، وفتحت إيلياء وأرضها كلها على يديه ما خلا أجنادين فإنها فتحت
على يدي عمرو، وقيسارية على يدي معاوية.
وعن أبي عثمان وأبي حارثة قالا: افتتحت
إيلياء وأرضها على يدي عمر في ربيع الآخر سنة ست عشرة، وعن أبي مريم مولى سلامة
قال: شهدت فتح إيلياء مع عمر رحمه الله فسار من الجابية فاصلاً حتى يقدم إيلياء
ثم مضى حتى يدخل المسجد ثم مضى نحو محراب داود ونحن معه فدخله ثم قرأ سجدة داود
فسجد وسجدنا معه. [تاريخ الطبري]
وفاة معاوية بن يزيد سنة 64هـ
مات معاوية بن يزيد اليوم الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وكانت إمارته
أربعين ليلة، وكان قد ولي يوم النصف من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وكان له
يوم ولي إحدى وعشرون سنة وقد قيل: لا بل سبع عشرة سنة، وكان من خير أهل بيته(/1)
فلما حضرته الوفاة قالوا له: بايع لرجل بعدك واعهد إليه قال: ما أصبت من دنياكم
شيئا فأتقلد مأثمها. وصلى عليه عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان وكان نقش خاتمه
(بالله نستعين ـ معاوية) وقبره بدمشق. [السيرة لابن حبان]
ظهور حُمرة في السماء سنة 201هـ
ولما كان ليلة أربع عشرة من ربيع الآخر من هذه السنة مائتين وواحد
ظهرت في السماء حمرة ثم ذهبت وبقي بعدها عمودان أحمران في السماء إلى آخر
الليل. [البداية والنهاية]
ظهور ظلمة شديدة في الجو سنة 284هـ
وفي ربيع الآخر من سنة أربع وثمانين ومائتين ظهرت بمصر ظلمة شديدة وحمرة في الأفق حتى كان
الرجل ينظر إلى وجه صاحبه فيراه أحمر اللون جدًا وكذلك الجدران فمكثوا كذلك من
العصر إلى الليل ثم خرجوا إلى الصحراء يدعون الله ويتضرعون حتى كشف عنهم.
[البداية والنهاية]
بلاء من السماء سنة 398هـ
وفي يوم الأربعاء الحادي عشر من ربيع الآخر وقع ببغداد ثلج عظيم بحيث بقي على وجه الأرض ذراعًا ونصفًا، ومكث
أسبوعًا لم يذُب، وبلغ سقوطه إلى تكريت والكوفة وعبادان والنهروان.[البداية
والنهاية]
نقص نهر دجلة سنة 400هـ
في ربيع الآخرة سنة 400 نقصت دجلة نقصًا
كثيرًا حتى ظهرت جزائر لم تُعْرف وامتنع سير السفن في أعاليها.
وفاة الإمام ابن عبد البر سنة 463هـ
قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء 153/18): الإمام العلامة
حافظ المغرب شيخ الإسلام أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم
النمري الأندلسي القرطبي المالكي صاحب التصانيف الفائقة مولده سنة ثمان وستين
وثلاث مائة في الربيع الآخر وقيل: في جمادي الأولى وطلب العلم بعد سنة 390هـ
وأدرك الكبار وطال عمره وعلا سنده وتكاثر عليه الطلبة وجمع وصنف ووثق وضعَّف،
وسارت بتصانيفه الركبان وخضع لعلمه علماء الزمان وكان فقيهًا عابدًا متهجدًا
إمامًا دينًا ثقةً متقنًا علامةً متبحرًا صاحب سنة واتباع وكان أولاً أثريًا
ظاهرًا فيما قيل ثم تحول مالكيًا مع ميل بين إلى فقه الشافعي في مسائل، ولا
ينكر له ذلك فإنه ممن بلغ رتبة الأئمة المجتهدين ومن نظر في مصنفاته بان له
منزلته من سعة العلم وقوة الفهم وسيلان الذهن.
وقال أبو داود المقرئ: مات ليلة
الجمعة سلخ الربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربعمائة عن ثلاث وسبعين سنة. [الموطأ ـ رواية محمد بن الحسن]
محنة من محن التتار سنة 700هـ
وفي أول ربيع الآخر قوى الإرجاف بأمر التتر وجاء الخبر بأنهم قد وصلوا إلى البيرة. وخرج الشيخ تقي
الدين بن تيمية رحمه الله تعالى إلى نائب الشام في المرج فثبتهم وقوى جأشهم
وطيب قلوبهم ووعدهم النصر والظفر على الأعداء وتلا قوله تعالى: ومن عاقب
بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله
إن الله لعفو غفور [الحج:60]. وبات عند العسكر ليلة الأحد ثم
عاد إلى دمشق وقد سأله النائب والأمراء أن يركب على البريد إلى مصر يستحث
السلطان على المجيء فساق وراء السلطان وكان السلطان قد وصل إلى الساحل فلم
يدركه إلا وقد دخل القاهرة.. وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتم عن الشام
وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن، ولم يزل بهم حتى
جردت العساكر إلى الشام ثم قال لهم لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه
واستنصركم أهله وجب عليكم النصر فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعايتكم وأنتم
مسؤولون عنهم؟ وقوى جأشهم وضمن لهم النصر، هذه الكرة فخرجوا إلى الشام فلما
تواصلت العساكر إلى الشام فرح الناس فرحا شديدًا بعد أن كانوا قد يئسوا من
أنفسهم وأهليهم وأموالهم. [البداية والنهاية](/2)
حَدَثَ في مثل هذا الشهر
الهجرة إلى الحبشة سنة 5 بعد النبوة لما رأى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء والعذاب، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله
عز وجل، ودفاع أبي طالب عنه وأنه لا يقدر أن يمنعهم، قال : «لو خرجتم إلى أرض
الحبشة فإن فيها ملكًا لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما
أنتم فيه» .
وكان اسم النجاشي وقتئذ أصحمة بن أبجر . والنجاشي اسم لكل ملك يلي
الحبشة، فخرجوا متسللين سرًا وذلك في شهر رجب سنة خمس من بعد النبوة (سنة
615م)، وكانوا اثني عشر رجلاً وأربع نسوة، حتى انتهوا إلى الشعيبة فمنهم الراكب
والماشي، وأوقف الله للمسلمين ساعة جاءوا سفينتين للتجارة حملوهم فيها إلى أرض
الحبشة، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر حيث ركبوا فلم يدركوا منهم
أحدًا، قالوا : قدمنا أرض الحبشة فجاورنا خير جار أمنا على ديننا وعبدنا الله
لا نؤذى ولا نسمع شيئًا نكرهه .
كان عدد المهاجرين قليلاً، ولكن كان لهجرتهم
هذه شأن عظيم في تاريخ الإسلام، فإنها كانت برهانًا ساطعًا لأهل مكة على مبلغ
إخلاص المسلمين وتفانيهم في احتمال ما يصيبهم من المشقات والخسائر في سبيل
تمسكهم بعقيدتهم، وكانت هذه الهجرة مقدمة للهجرة الثانية إلى الحبشة ثم الهجرة
إلى المدينة .
وهذه أسماء المهاجرين والمهاجرات :
عثمان بن عفان ومعه امرأته
رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو حذيفة بن عتبة ومعه امرأته سهلة،
مصعب بن عمير، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، أبو سلمة بن عبد الأسد
ومعه أمرأته أم سلمة، عثمان بن مظعون، عبد الله بن مسعود، عامر بن ربيعة ومعه
امرأته ليلى، أبو سبرة، حاطب بن عمرو، سهل بن بيضاء . [محمد رسول الله
1/125]
سرية عبد اللَّه بن جحش سنة 1هـ
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد
الله بن جحش إثر مرجعه من بدر الأولى في شهر رجب، بعثه بثمانية من المهاجرين
وهم أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن بن أسد بن خزيمة، وعتبة بن غزوان بن
مازن بن منصور، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة العنزي حليف بني عدي، وواقد
بن عبد اللَّه بن زيد مناة بن تميم، وخالد بن البكير بن سعد بن ليث، وسهيل بن
بيضاء بن فهر بن مالك، وكتب له كتابًا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ولا
يكره أحدًا من أصحابه، فلما قرأ الكتاب بعد يومين وجد فيه أن تمضي حتى تنزل
نخلة بين مكة والطائف وترصد بها قريشًا وتعلم لنا من أخبارهم، فأخبر أصحابه
وقال : حتى ننزل النخلة بين مكة والطائف ومن أحب الشهادة فلينهض ولا أستكره
أحدًا فمضوا كلهم وضل لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان في بعض الطريق بعير لهما
كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه، ونفر الباقون إلى نخلة فمرت بهم عير لقريش تحمل
تجارة فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد اللَّه بن المغيرة وأخوه نوفل والحكم
بن كيسان مولاهم وذلك آخر يوم من رجب فتشاور المسلمون وتحرج بعضهم الشهر
الحرام، ثم اتفقوا واغتنموا الفرصة فيهم فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي
فقتله وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وأفلت نوفل، وقدموا بالعير
والأسيرين وقد أخرجوا الخمس فعزلوه فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم فعلهم ذلك
في الشهر الحرام فسقط في أيديهم ثم أنزل اللَّه تعالى : يسألونك عن
الشهر الحرام قتال فيهالآية، إلى قوله: حتى يردوكم
عن دينكم إن استطاعوافسري عنهم، وقَبَضَ النبي صلى الله عليه
وسلم الخمس، وقسم الغنيمة، وقبل الفداء في الأسيرين، وأسلم الحكم بن كيسان
منهما، ورجع سعد وعتبة سالمين إلى المدينة، وهذه أول غنيمة غنمت في الإسلام
وأول غنيمة خمست في الإسلام، وقَتْلُ عمرو بن الحضرمي هو الذي هيج وقعة بدر
الثانية. [تاريخ ابن خلدون 2/424]
تحويل القبلة سنة 2هـ
وكان النبي صلى الله
عليه وسلم يصلي إلى قبلة بيت المقدس ويحب أن يصرف إلى الكعبة وقال لجبريل:
«وددت أن يصرف اللَّه وجهي عن قبلة اليهود» . فقال : إنما أنا عبد فادع ربك
واسأله، فجعل يقلب وجهه في السماء يرجو ذلك حتى أنزل الله عليه : قد نرى
تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها
فول وجهك شطر المسجد الحرام[البقرة :144]، وذلك بعد ستة
عشر شهرًا من مقدمه المدينة قبل وقعة بدر بشهرين .
قال محمد بن سعد : أخبرنا
هاشم بن القاسم قال: أنبأنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي، قال: ما خالف نبي
نبيًا قط في قبلة ولا في سنة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت
المقدس حين قدم المدينة ستة عشر شهرًا ثم قرأ : شرع لكم من الدين
ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك[الشورى: 13].
وكان
لله في جعل القبلة إلى بيت المقدس ثم تحويلها إلى الكعبة حكم عظيمة ومحنة
للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين . فأما المسلمون فقالوا: سمعنا وأطعنا
وقالوا : آمنا به كل من عند ربنا[آل عمران : 7]، وهم الذين(/1)
هدى اللَّه ولم تكن كبيرة عليهم . وأما المشركون فقالوا : كما رجع إلى قبلتنا
يوشك أن يرجع إلى ديننا وما رجع إليها إلا لأنه الحق .
وأما اليهود فقالوا :
خالف قبلة الأنبياء قبله ولو كان نبيا لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء، وأما
المنافقون فقالوا : ما يدري محمد أين يتوجه إن كانت الأولى حقًا فقد تركها وإن
كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل، وكثرت أقاويل السفهاء من الناس وكانت
كما قال اللَّه تعالى : وإن كانت لكبيرة إلا على الذين
هدى الله[البقرة:143]، وكانت محنة من اللَّه امتحن بها عباده ليرى من
يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه .
سرية الخبط سنة 8 هـ
سمى البخاري هذه
السرية بغزوة «سيف البحر» بكسر السين واشتهرت «بسرية الخبط» بعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم في شهر رجب سنة ثمان (نوفمبر 629م) أبا عبيدة بن الجراح على رأس
ثلاثمائة رجل، وكان فيهم عمر بن الخطاب إلى أرض جهينة ليلقى عيرًا لقريش
ولمحاربة حي من جهينة فنفد ما كان معهم من الزاد فأكلوا الخبط وهو ورق السلم
وأصابهم جوع شديد . قال أهل السير : ثم أخرج اللَّه لهم دابة من البحر تسمى
العنبر وهي سمكة كبيرة فأكلوا منها.
[محمد رسول اللَّه 1/471]
غزوة تبوك سنة 9
هـ
قال محمد بن إسحاق المطلبي: ثم أقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم .
وقد ذكر
لنا الزهري ويزيد بن رومان وعبد اللَّه بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة،
وغيرهم من علمائنا، كل حدَّث في غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدّث ما
لا يحدّث بعضٌ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم،
وذلك في زمان من عسرة الناس وشدة من الحر وجدب من البلاد وحين طابت الثمار،
والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان
الذي هم عليه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى
عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه
بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو الذي يصمد له ليتأهب الناس
لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز وأخبرهم أنه يريد الروم، فأقام رسول الله صلى
الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلاً إلى المدينة
.
لطائف المعارف النبوية
1- نَسَبَ نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم:
هو محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصي بن
كِلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤي بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضر بن كنانة بن
خزيمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضر بن نِذار بن مَعْد بن عدنان. إلى هنا معلوم
الصحة ومتفق عليه بين النسَّابين، ولا خلاف أن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم
عليهما السلام. [البخاري 28، سيرة ابن هشام 1/23، طبقات ابن سعد 1/46، دلائل
النبوة للبيهقي 1/179]
2- قابلة النبي صلى الله عليه وسلم:
هي الشفاء بنت عوف
بن عبد الحارث بن زهرة، وهي والدة عبد الرحمن بن عوف، رضي اللَّه عنه. [البداية
والنهاية 2/246]
3- أولاد النبي صلى الله عليه وسلم:
كان للنبي صلى الله عليه
وسلم من الأبناء سبعة، ثلاثة من الذكور وهم: القاسم، وعبد اللَّه (يُلقب
بالطيب، والطاهر)، وإبراهيم.
وأما بناته فهن: زينب، ورقية، وأم كلثوم وفاطمة.
وكل الأولاد والبنات من خديجة - رضي اللَّه عنها - ما عدا إبراهيم فمن مارية
بنت شمعون المصرية وكانت من مِلْك يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وكل أولاد
النبي صلى الله عليه وسلم، ماتوا في حياته إلا فاطمة، رضي اللَّه عنها، ماتت
بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر.
[زاد المعاد 1/103]
4- مرضعات النبي
صلى الله عليه وسلم:
ثُويبة مولاة أبي لهب، ثم حليمة السعدية. [صفة الصفوة
1/56، 57]
5- حواضن النبي صلى الله عليه وسلم:
أمه آمنة
بنت وهب، وثُوبية مولاة أبي لهب، وحليمة السعدية، والشيماء بنت حليمة السعدية،
وأم أيمن بركة الحبشية. [زاد المعاد جـ1 ص83]
6- إخوة النبي صلى الله عليه وسلم
وأخواته من الرضاعة: حمزة بن عبد المطلب «عم النبي صلى الله عليه وسلم»، وأبو
سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وعبد اللَّه بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث،
وجُدامة بنت الحارث «وهي الشيماء»، وهؤلاء الثلاثة الأخيرون هم أولاد حليمة
السعدية، مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم. [الطبقات الكبرى 1/87، 89]
7- أعمام
النبي صلى الله عليه وسلم:
أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر رجلاً، وهم:
الحارث، والزبير، وأبو طالب «اسمه عبد مناف»، وعبد الكعبة، وحمزة، والمقُوِّم،
وحَجْلٌ «اسمه المغيرة»، وضرار وقُثَم، وأبو لهب «واسمه: عبد العُزى»
والغَيْداق «اسمه مصعب»، لم يُسْلم منهم إلا حمزة والعباس، رضي اللَّه
عنهما.
[الطبقات لابن سعد 1/74، 75]
8- عمات النبي صلى الله عليه وسلم:
عمات(/2)
النبي صلى الله عليه وسلم ست وهن: أميمة، وأم حكيم، وبَرَّة، وعاتكة، وصفية،
وأروى.
[سيرة ابن هشام 1/169]
9- خاتم النبوة صلى الله عليه وسلم:
خاتم النبوة
هو قطعة لحم بارزة مثل بيضة الحمام كانت في ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وبين
كتفيه.
[مسلم 11]
10- زوجات النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد تزوج النبي صلى الله
عليه وسلم إحدى عشر امرأة دخل بهن وهن بالترتيب كما يلي:
1- خديجة بنت خويلد 2-
سودة بنت زمعة 3- عائشة بنت أبي بكر الصديق 4- حفصة بنت عمر بن الخطاب 5- زينب
بنت خزيمة 6- أم سلمة: هند بنت أمية المخزومية 7- زينب بنت جحش 8- جويرة
بنت الحارث المصطلقية 9- أم حبيبة: رَمْلة بنت أبي سفيان بن حرب 10- صفية بنت
حُيي بن أخطب 11 - ميمونة بنت الحارث الهلالية. [زاد المعاد 1/105، 114]
مات
في حياة النبي صلى الله عليه وسلم زوجتان هما خديجة بنت خويلد، وزينب بنت خزيمة
رضي اللَّه عنهن جميعًا.
11- ملك يمين النبي صلى الله عليه وسلم:
كان للنبي صلى
الله عليه وسلم أربع من ملك يمين «امرأة تُباع وتُشتري» وهن: مارية بنت شمعون
المصرية وهي التي بعث بها المقوقس، حاكم مصر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي
أم ولده إبراهيم، وريحانة بنت زيد، وجارية أصابها في الحرب، وجارية وهبتها له
زوجه زينب بنت جحش. [صفة الصفوة 1/147]
12- أول ما أنزل على النبي صلى الله
عليه وسلم من القرآن:
قول اللَّه تعالى: اقرأ باسم ربك الذي
خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم
(3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم
يعلم <<
[العلق: 1 - 5].
13- آخر ما نزل من القرآن على النبي صلى الله عليه
وسلم:
قوله تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم
توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون[البقرة:
281].
[السنن الكبرى للنسائي 6/307 حديث 11057]
14- صلاة الرسول صلى الله عليه
وسلم مأمومًا:
صلى الرسول صلى الله عليه وسلم مأمومًا مرتين: خلف أبي بكر
الصديق، وخلف عبد الرحمن بن عوف، رضي اللَّه عنهما. [مسند أحمد 3/18182]
15-
أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم:
أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم
من الرجال: أبو بكر الصديق، ومن النساء: خديجة بنت خويلد، ومن الصبيان: علي بن
أبي طالب، ومن الموالي: زيد بن حارثة، ومن العبيد: بلال بن رباح.[تفسير القرطبي
8/219]
16- أول صلاة مفروضة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم:
هي صلاة الظهر.
[تفسير القرطبي 3/207، 9/281]
17- خاتم النبي صلى الله عليه وسلم:
كان خاتم
النبي صلى الله عليه وسلم من الفضة، وكان مكتوبًا عليه: محمد رسول اللَّه:
محمدٌ: سطرٌ، ورسولُ: سطرٌ، والله: سطرٌ. [البخاري حديث 5875، 5878]
18- شُعراء
النبي صلى الله عليه وسلم:
كعب بن مالك، وعبد اللَّه بن رواحة، وحسان بن ثابت.
[زاد المعاد 1/128]
19- خُدَّام النبي صلى الله عليه وسلم:
أنس بن مالك، وكان
على حوائجه، وعبد اللَّه بن مسعود، صاحب نَعْله وسواكه، وعقبة بن عامر الجهني،
صاحب بغلته يقود به في الأسفار، وأُسْلع بن شريك وكان صاحب راحلته، وبلال بن
رباح، وسعد، مَوْليا أبي بكر الصديق، وأبو ذر الغفاري، وأيمن بن عُبيد، وكان
على مَطهرته وحاجته. [زاد المعاد 1/116، 117]
20- منبر النبي صلى الله عليه
وسلم:
كان للنبي صلى الله عليه وسلم منبر من الخشب له ثلاث درجات يخطب عليه في
الجمعة وغيرها. [صحيح الترغيب للألباني 1679]
وللحديث بقية إن شاء الله
تعالى.(/3)
حَدَثَ في مثل هذا الشهر
(غزوات غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وبعوث أرسلها)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أخي القارئ الكريم، لقد عزمنا بدايةً من هذا العدد أن نقدم أهم الأحداث الإسلامية التي وقعت فيما مضى من تاريخ الإسلام والمسلمين في الشهر المناسب لعدد المجلة.
غزوة الأبواء: والأبواء واد من أودية الحجاز.
في صفر على رأس أحد عشر شهرًا من هجرته الشريفة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الأبواء. وكانت أول غزوة غزاها بنفسه، خرج في المهاجرين خاصة يعترض عيرًا لقريش فلم يلق كيدا. وفيها وادع بني ضمرة على أن لا يغزوهم ولا يغزوه ولا يعينوا عليه أحدا، ثم رجع وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.
غزوة بئر معونة: (وهو ماء من مياه بني سليم).
في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة قدم عامر بن مالك بن جعفر أبو البراء ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد إني أرى أمرك هذا أمرا حسنًا شريفًا؛ وقومي خلفي، فلو أنك بعثت نفرًا من أصحابك معي لرجوتُ أن يجيبوا دعوتك ويتبعوا أمرك، فإن هم اتبعوك فما أعز أمرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أخاف عليهم أهل نجد». فقال عامر: لا تخف عليهم، أنا لهم جار أن يعرض لهم أحد من أهل نجد، وأمّر صلى الله عليه وسلم على أصحابه المنذر بن عمرو الساعدي.
قال أهل السير: فلما نزل الصحابة بئر معونة عسكروا بها . استصرخ عامر بن الطفيل عليهم قبائل من سليم ـ عصية ورعلا ـ فنفروا معه فلقيهم القوم والمنذر معهم فأحاطت بنو عامر بالقوم وكاثروهم فقاتل القوم حتى قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبرُ بئر معونة دعا صلى الله عليه وسلم على قتَلَتِهم بعد الركعة من الصبح في صُبح تلك الليلة التي جاءه الخبر، فلما قال: «سمع الله لمن حمده؛ قال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر؛ اللهم عليك ببني لحيان وزعب ورعل وذكوان وعُصية، فإنهم عصوا الله ورسوله، اللهم عليك ببني لحيان وعضل والقارة؛ ثم سجد» فقال ذلك خمس عشرة، ويقال أربعين يومًا. وكان أبو سعيد الخدري يقول: قتلت من الأنصار في مواطن سبعين سبعين ـ يوم أُحُد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون، ويوم جسر أبي عبيد سبعون، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي لم يحزن) على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة.
غزوة الرجيع: في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة قدم سبعة نفر من عضل والقارة ـ (قبيلتين) ـ مقرين بالإسلام فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فينا إسلامًا فاشيًا، فابعث معنا نفرًا من أصحابك يقرئوننا القرآن ويفقهوننا في الإسلام. فبعث معهم سبعة نفر فيهم عاصم بن ثابت وخبيب بن عدي، فغدروا بهم وقتلوهم.
وأرادوا أن يحتزوا رأس عاصم بن ثابت فبعث الله تعالى عليهم الدبر (النحل) فَحَمَتْه فلم يَدْن إليه أحد إلا لدغت وجهه وجاء منها شيء كثير لا طاقة لأحد به. فقالوا: دعوه إلى الليل فإنه إذا جاء الليل ذهب عنه الدبر. فلما جاء الليل بعث الله عليه سيلا ـ وأما خبيب فقتلوه وهو يدعو عليهم ويقول: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا. قال أبو هريرة: أول من سن الركعتين عند القتل خبيب.
فانظروا أيها المسلمون إلى غدر هؤلاء الكفرة الفجرة وكراهيتهم للإسلام والمسلمين، وغلَّهُم الحقود ونقضهم العهود، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [البقرة:712].(/1)
حُكم الزواج..
الحمد لله الذي جعل للناس من أنفسهم أزواجاً يسكنون إليها وجعل بينهم مودة ورحمة، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فإن الزواج من أعظم نعم الله -تعالى- على الناس، وقد جعل ذلك من آياته فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الروم:21.
وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً..} النساء:1
وقد حث عليه القرآن الكريم في آيات منها قوله -تعالى-: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} النور:32. وقال -تعالى-: {..فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} النساء:3.
ورغبت السنة في النكاح ترغيباً، بل أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من استطاع مِن الشباب، فعن علقمة -رحمه الله- قال: كنت أمشي مع عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- بمنىً فلقيه عثمان، فقام معه يحدثه، فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن ألا نزوجك جارية شابة لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك؟! فقال عبد الله: لئن قلت ذاك لقد قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء".1
والأحاديث والآثار في الترغيب في الزواج كثيرة.. وسيأتي ذكر شيء من ذلك قريباً –إن شاء الله-.
كلام العلماء في حكم الزواج2:
أولاً: يرى الأحناف أن الزواج فرض في حال التوقان إليه، مع خوف الوقوع في الزنا بحيث لا يمكنه التحرز إلا به، هذا ما لم يعارضه خوف الجور، مع ملك مؤن الزواج فإن عارضه حصول جور وعدم وجود النفقة كره ذلك.
قال في شرح ابن عابدين: "ومقتضاه الكراهة عند عدم ملك المهر والنفقة، لأنهما حق عبد، وإن خاف الزنا ندب له الاستدانة له، فإن الله ضامن في الأداء فلا يخاف الفقر، إذا كان في نيته التحصين والتعفف".3
ومقتضى كلام الأحناف التأكيد على الوجوب عند تيقن الوقوع في الزنا ولو لم يكن يملك مؤن الزواج، وإن غلب على ظنه عدم القدرة على الوفاء بالدين، قالوا: "عند تيقن الزنا ينبغي الوجوب، وإن لم يغلب على ظنه قدرة الوفاء".4
هذا في حال التوقان وملك المهر والنفقة، وأما في حال الاعتدال مع القدرة على المهر والنفقة فهو سنة مؤكدة.5
ثانياً: المالكية يرون وجوبه لمن تاقت نفسه إليه رجاء النسل، مع خشية الوقوع في الزنا، فقالوا: هو واجب إن خشي العنت، ويتعين عليه أن يتزوج في هذه الحالة، وهم يتفقون في هذه الحالة مع الأحناف، ولكنهم قالوا: يكره لمن لم يحتج إليه، ويخشى ألا يقوم بما وجب عليه من مؤونته من الصداق والنفقة والوطء، ويحرم عليه إن كان عاجزاً عن الوفاء بمؤنه جميعاً أو بإحداها وثبت عجزه عليها.6
ثالثاً: الشافعية: أما الشافعية، فداروا بين الجواز والندب، ولم يقولوا بالوجوب.
فهو مستحب عندهم إذا احتاج إليه الإنسان؛ بأن تاقت نفسه إلى الوطء، بشرط أن يجد مؤنته من مهر ونفقة، وتحصيناً للدين، فإن فقد هذين الشرطين استحب تركه! مع كسر شهوته بالصوم، للحديث المشهور: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" أي دافع لشهوته.
ويرون فيه الكراهة إن لم يحتج إليه مع فقد الأهبة من مؤن وغيره، لما فيه من الالتزام الذي لا يقدر على الوفاء به، فإن وجد الأهبة ولم تكن به علة مانعة فلا يكره له ذلك.
لكنهم مع ذلك رأوا أن العبادة أفضل فإن لم يكن الإنسان متعبداً فالنكاح أفضل له من تركه؛ كيلا تفضي به البطالة إلى الفواحش.7
وقد فصل الإمام النووي رحمه الله وجهة نظر أصحاب مذهبه فقال:
" الناس ضربان: تائق إلى النكاح، وغير تائق.
فالتائق إن وجد أهبة النكاح استحب له، سواء كان مقبلاً على العبادة أم لا، وإن لم يجدها فالأولى أن لا يتزوج ويكسر شهوته بالصوم.
وأم غير التائق، فإن لم يجد أهبة أو كان به مرض أو عجز أو كبر كره له النكاح؛ لما فيه من التزام ما لا يقدر على القيام به من غير حاجة.
وإن وجد الأهبة ولم يكن به علة، لم يكره له النكاح، ولكن التخلي للعبادة أفضل.
فإن لم يكن مشتغلاً بالعبادة فالنكاح له أفضل كيلا تفضي به البطالة والفراغ إلى الفواحش".8(/1)
وهذا الرأي الذي انفرد به الشافعية كان متابعة لما رجحه الإمام الشافعي رحمه الله من أن التخلي لعبادة الله -تعالى- أفضل؛ لأن الله -تعالى- مدح يحيى -عليه السلام- بقوله: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} آل عمران:39. والحَصور: الذي لا يأتي النساء، فلو كان النكاح أفضل لما مدح بتركه، وقال -تعالى-: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} آل عمران:14، وهذا في معرض الذم؛ ولأن الزاوج عقد معاوضة، فكان الاشتغال بالعبادة أفضل منه.9
رابعاً: الحنابلة يرون أن الزواج سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أمر الله -تعالى- به ورسوله وحثا عليه.
ويتمسكون بالأحاديث الحاثة عليه، كحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "..ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".10
ففي هذا الحديث حث على الزواج مؤكد، ووعيد لمن يشذ عن طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه.
ومما استدلوا به حديث معقل بن يسار قال -رضي الله عنه-: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد فأتزوجها؟ قال: (لا)، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم".11
وقال سعد ابن أبي وقاص -رضي الله عنه-: " رد النبي -صلى الله عليه وسلم- على عثمان بن مظعون التبتُّل، ولو أحلَّه له لاختصينا".12 والتَبتُّل: هو الانقطاع عن الزواج لأجل العبادة.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا بالباءة وينهى عن التبتل نهياً شديداً ويقول: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة".13
قال ابن قدامة -بعد أن ذكر الأدلة السابقة-:
"وهذا حث على النكاح شديد ووعيد على تركة يقربه إلى الوجوب، والتخلي منه إلى التحريم، ولو كان التخلي أفضل لانعكس الأمر؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج وبالغ في العدد، وفعل ذلك أصحابه، ولا يشتغل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلا بالأفضل، ولا تجتمع الصحابة على ترك الأفضل والاشتغال بالأدنى. ومن العجب أن من يفضل التخلي لم يفعله! فكيف اجتمعوا على النكاح في فعله وخالفوه في فضله! فما كان فيهم من يتبع الأفضل عنده ويعمل بالأدنى؛ ولأن مصالح النكاح أكثر، فإنه يشتمل على تحصين الدين وإحرازه، وتحصين المرأة وحفظها والقيام بها، وإيجاد النسل، وتكثير الأمة، وتحقيق مباهاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وغير ذلك من المصالح الراجح أحدها على نفل العبادة، فمجموعها أولى.
قال: وقد روينا في أخبار المتقدمين أن قوماً ذكروا لنبيٍّ لهم فضل عابد لهم، فقال: أما أنه لتارك لشيء من السنة، فبلغ العابد فأتى النبيَّ فسأله عن ذلك فقال: إنك تركت التزويج! فقال: يا نبي الله وما هو إلا هذا، فلما رأى النبيُّ احتقاره لذلك قال: أرأيت لو ترك الناس كلهم التزويج، من كان يقوم بالجهاد، وينفي العدو، ويقوم بفرائض الله وحدوده؟ وأما ما ذكر عن يحيى فهو شرعه وشرعنا وارد بخلافه، فهو أولى. والبيع لا يشتمل على مصالح النكاح ولا يقاربها ".14
وأما من لا شهوة له فقد ذهب بعض الحنابلة إلى أن تركه النكاح والاشتغال بالعبادة أولى في حقه، ومنهم من استحبه جرياً على العموم، قال ابن قدامة: " مَن لا شهوة له إما لأنه لم يخلق له شهوة كالعنين، أو كانت له شهوة فذهبت بكبر أو مرض ونحوه، ففيه وجهان، أحدهما: يستحب له النكاح لعموم ما ذكرنا، والثاني: التخلي له أفضل؛ لأنه لا يُحصِّل مصالح النكاح، ويمنع زوجته من التحصين بغيره، ويضر بها بحبسها على نفسه، ويعرض نفسه لواجبات وحقوق لعله لا يتمكن من القيام بها، ويشتغل عن العلم والعبادة بما لا فائدة فيه. والأخبار تحمل على من له شهوة؛ لما فيها من القرائن الدالة عليها".15
ومن ثم وجد بعض متأخري الشافعية يميلون إلى وجهة أصحاب هذا الرأي في النكاح، ذكر ذلك النووي.16
وظاهر كلام الإمام أحمد أنه لا فرق بين القادر على الإنفاق والعاجز عنه، وقال: ينبغي للرجل أن يتزوج، فإن كان عنده ما ينفق أنفق، وإن لم يكن عنده صبر، ولو تزوج بشَرٌ كان قد تم أمره، واحتج بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصبح وما عنده شيء، ويمسي وما عنده شيء، وإن النبي -صلى الله عليه وسلم- زوَّج رجلاً لم يقدر على خاتم حديد، ولا وجد إلا إزاره، ولم يكن له رداء! أخرجه البخاري. قال أحمد -في رجل قليل الكسب يضعف قلبه عن العيال-: الله يرزقهم، التزويج أحصن له، ربما أتى عليه وقت لا يملك قلبه فيه. وهذا في حق من يمكنه التزويج، فأما من لا يمكنه فقد قال الله -تعالى-: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} النور:33.17
خامساً: الظاهرية لهم في النكاح قول واحد هو الوجوب على كل قادر على الوطء، إن وجد أهبة الزواج، فإن عجز فليكثر من الصوم.(/2)
وقد ذكر ابن حزم الأدلة على ما ذهبوا إليه، ومنها الحديث المتقدم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج..".
ومما استدلوا به حديث نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التبتل، وقد كان عمر -رضي الله عنه- شديد التحريض عليه حتى لفقراء الناس، وكان يعتقد أن الزواج فيه مفتاح الرزق، فكان يقول: (ابتغوا الغنى في الباءة) أي الزواج. وكان إذا رأى رجلاً عزباً أنبه ورماه بألفاظ تثير حفيظته ليسرع إلى الزواج، فقد رأى أبا الزوائد وقد تقدمت به السن فقال له: (ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور).18
والخلاصة:
فالزواج ليس بفرض، إلا أن يخاف المسلم أن يقع في الفاحشة، فإنه يتعين حينئذ، وهو الذي عليه جمهور الفقهاء.
ولم يقل أحد من الفقهاء بأنه فرض عين على كل مسلم ومسلمة مطلقاً إلا داود الظاهري وابن حزم، فإنهم يذهبون إلى أنه فرض عين على القادر على الوطء والإنفاق، تمسكاً بقوله -تعالى-: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} النساء:3.
ولنا في حديث " يا معشر الشباب " الأسوة الحسنة؛ ففيه البيان الشافي لفقه المسألة، حيث جاء فيه الحث على الزواج إذا كان قادراً عليه، وكذلك فيه إرشاد العاجز عن مؤن النكاح وتكاليفه إلى الصوم؛ وهو تعديل مؤقت للشهوة، وتأجيل للإقبال على الزواج؛ لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الطعام، تقوى بقوته وتضعف بضعفه.
والصوم -كما يقول ابن حجر-: "يسكن الشهوة ولا يقطعها؛ لأنه قد يقدر على النكاح بعد فيندم لفوت ذلك".19
هذا والله أعلى وأعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
________________________________________
1- رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
2- انظر كتاب الزواج وأحكامه في مذهب أهل السنة للدكتور: السيد أحمد فرج. من صفحة 13 إلى20. مع التصرف للحاجة.
3- حاشية ابن عابدين (2/267).
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (1/274). وغيره.
7- المهذب للشيرازي (2/37).
8- روضة الطالبين (7/18).
9- ذكر ذلك ابن قدامة في المغني (7/334). ط: دار الفكر بيروت- 1405 هـ.
10- رواه البخاري ومسلم.
11- رواه أبو داود والنسائي، وهو حديث صحيح. انظر صحيح أبي داود للألباني (1805).
12- رواه البخاري ومسلم.
13- رواه أحمد في مسنده، وقال الأرنؤوط: صحيح لغيره وهذا إسناد قوي. مسند أحمد حديث رقم (12634).
14- المغني (7/334).
15- المصدر السابق.
16- روضة الطالبين (7/18).
17- المغني (7/335).
18- انظر المحلى لابن حزم (9/440).
19- فتح الباري (9/92).(/3)
خاتم الأنبياء والمرسلين رحمة من رب العالمين
إعداد/ د. عبد الله شاكر الجنيدي
نائب الرئيس العام
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد تحدثت في اللقاء السابق عن عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وشيء من عفوه ورحمته، وأواصل في هذا اللقاء الحديث حول هذا الموضوع فأقول:
أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك - رضي اللَّه عنه - قال: «كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بُرْدٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال اللَّه الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء»، فهو هنا - صلى الله عليه وسلم - لم يقابل جفاء الأعرابي وشدته وقسوته عليه بما فعل، بل التفت إليه وضحك، وزاد على ذلك أن أعطاه شيئًا من المال.(/1)
وفي صحيح البخاري ومسلم عن جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنهما - قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قِبَلَ نجد، فأَرْكنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادٍ كثير العَضَاة(1)، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها. قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر. قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «إن رجلاً أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صَلْتًا(3) في يده، فقال لي: من يمنعك مني ؟ قال: قلت: اللَّه، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني ؟ قال: قلت: اللَّه. قال: فشام السيف(4)، فها هو جالس»، ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم (5)، ومع هذا العفو والصفح كان من أشجع الناس، بل إنه قد بلغ فيها مكانة عظيمة لم يصل إليها أفذاذ الأبطال كخالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب وغيرهما ممن عرفوا بالبطولات والشجاعات النادرة، ففي صحيح مسلم عن أبي إسحاق قال: جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة ؟ فقال: أشهد على نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم ما ولىَّ، ولكنه انطلق أَخِفَّاءُ من الناس وحُسَّرٌ(6) من هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة، فرموهم بِرَشْق من نبل، كأنها رِجْلٌ من جراد(7) فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. اللهم نَزِّلْ نصرك». قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يُحَاذِي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا الجواب الذي أجاب به البراء - رضي اللَّه عنه - من بديع الأدب، لأن تقدير الكلام: أفررتم كلكم؟ فيقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم في ذلك، فقال البراء: لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن جماعة من الصحابة جرى لهم كذا وكذا(8)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم - في الحديث عن نفسه: أنا ابن عبد المطلب، ونسب نفسه إلى جده دون أبيه؛ لأن شهرته بجده أكثر، وقد توفى عبد اللَّه شابًا في حياة أبيه عبد المطلب، وكان عبد المطلب مشهورًا شهرة ظاهرة شائعة، فإن قيل: كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «أنا ابن عبد المطلب» مع أنه لا يجوز أن يضاف عبدٌ إلا اللَّه عز وجل ؟ فالجواب: إن هذا ليس إنشاءً، بل هو خبر، فاسمه عبد المطلب ولم يسمه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يعد هذا إقرارًا ولكنه خبر عن أمر واقع، والحديث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في الميدان شجاعًا قويًا، حتى ثاب إليه أصحابه، وقاتل بهم حتى انتصر نصرًا ساحقًا على أعدائه، وأمسوا في قبضته، ولهذا الموقف نظيره في أحد أيضًا، ومثل هذه المواقف تدعو أصحاب البصائر إلى وجوب الإيمان برسالته واتباع دينه توخيًا للحق، وطلبًا للنجاة من العذاب، وفوزًا بالنعيم المقيم الذي أعده رب العالمين لمن آمن وصدَّق واتبع خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ، ولقد أخذ اللَّه العهد الميثاق على جميع الأنبياء والمرسلين أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث فيهم، وأن هذا شرع شرعه وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم. قال تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [آل عمران: 81]. قال القاسمي رحمه اللَّه: «اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قطعًا لعذرهم وإظهارًا لعنادهم، ومن جملتها ما ذكره اللَّه تعالى في هذه الآية، وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم، وإن كان ناسخًا لبعض أحكامهم بما دلت الحكمة على اقتضاء الزمان ذلك، آمنوا به ونصروه أيضًا، ولا يمنعهم ما هم فيه من العلم والنبوة من اتباع شرعه ونصره، وأخبر أنهم قبلوا ذلك، وحكم بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين...، وقد روى عن علي بن أبي طالب وابن عباس - رضي اللَّه عنهما -: ما بعث اللَّه نبيًا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث اللَّه محمدًا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، ومن أثر علي هذا فهم بعض العلماء اختصاص هذا الميثاق نبينا صلى الله عليه وسلم كما نقل القاضي عياض في الشفاء عن أبي الحسن القابسي قال: اختص اللَّه تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم بفضل لم يؤته غيره أبانه به، وهو ما ذكره في هذه الآية»(9).(/2)
وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوراقًا من التوراة وأخبر أنه لو اتبع أحد موسى - عليه السلام - بعد بعثته صلى الله عليه وسلم لكان من الضالين. ففي مسند أحمد عن عبد اللَّه بن ثابت رضي الله عنه قال: جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، إني مررت بأخٍ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك ؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عبد اللَّه - يعني ابن ثابت - فقلت: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر: رضينا بالله تعالى ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. قال: فسرى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين»(10).
فالرسول صلى الله عليه وسلم إذًا هو النبي الخاتم الذي لو وجد في أي عصر لكان هو الواجب الطاعة والاتباع المقدم على غيره من جميع الأنبياء والمرسلين، وكان إمامهم لما اجتمعوا ببيت المقدس ليلة الإسراء، وقد أخبر اللَّه في كتابه أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده ولكنهم يكتمون الحق مع وضوحه، قال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون [البقرة: 146]، وقد شهد بعض علماء أهل الكتابين بالنبوة والرسالة لرسول الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم واتبعوه ودخلوا في دينه، وأكتفى هنا بذكر شهادة بعضهم، ففي البخاري عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: بلغ عبد اللَّه بن سلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم - فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، قال: ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خبرني بهن جبريل آنفًا». فقال عبد اللَّه: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها». قال: أشهد أنك رسول اللَّه، ثم قال: يا رسول اللَّه، إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فجاءت اليهود ودخل عبد اللَّه البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رجل فيكم عبد اللَّه بن سلام ؟ قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفرأيتم إن أسلم عبد اللَّه ؟ قالوا: أعاذه اللَّه من ذلك، فخرج عبد اللَّه إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه(11).
وشهادة عبد اللَّه بن سلام وهو من أعلام اليهود قبل إسلامه لمن أعظم الشهادات لنبينا صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة، وقد بينت هذه الشهادة أن اليهود قوم بهت وأصحاب ضلالات وانحرافات استحقوا بها غضب اللَّه عليهم، نعوذ بالله من الخذلان. وللحديث صلة إن شاء اللَّه.
(1) البخاري كتاب اللباس (ج10/275).
(2) هي كل شجرة ذات شوك.
(3) صلتا: بفتح الصاد وضمها، أي: مسلولاً.
(4) فشام السيف يعني: غمده ورده في غمده.
(5) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد باب 84 جـ6/96، ومسلم في كتاب الفضائل باب 4 (ج5/1786) واللفظ له.
(6) أخفاء من الناس وحسر: فسر في رواية أخرى بأنهم شباب خرجوا مستعجلين ليس عليهم سلاح ولا معهم دروع، وقد واجهوا قومًا رماة من المشركين.
(7) يعني كأنها قطعة من جراد. قال في النهاية: الرجل بالكسر: الجراد الكثير.
(8) انظر شرح النووي على مسلم جـ12/117 .
(9) محاسن التأويل جـ4 /875 - 876 .
(01) مسند أحمد جـ4/265، 266 .
(11) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب أحاديث الأنبياء باب 1 جـ6/362 .(/3)
خاتم الأنبياء والمرسلين رحمة من رب العالمين
إعداد/ د. عبد الله شاكر الجنيدي
نائب الرئيس العام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، وبعد :
فقد تحدثت
في اللقاء السابق عن شهادة عبد اللَّه بن سلام وهو حبر من أحبار اليهود للنبي
صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة، وأواصل الحديث في هذا اللقاء عن بعض
شهادات غيره بالنبوة والرسالة لسيد الورى صلى الله عليه وسلم، فأقول :
لقد شهد
كثير من علماء النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة، ومن هؤلاء
النجاشي ملك الحبشة، وقد آمن بالله ودخل في الإسلام، وقد نعاه جبريل عليه
السلام يوم وفاته للنبي صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه هو وأصحابه صلاة الغائب،
كما شهد هرقل عظيم الروم للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة، وقد قال
لأبي سفيان - رضي اللَّه عنه - بعد أن سأله أسئلة متعددة عن النبي صلى الله
عليه وسلم، جاء فيها : «سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث
في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان
أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه
من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت : فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه،
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه
لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على اللَّه، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم
ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟
فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سَخْطة لدينه
بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك
هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بم يأمركم؟ فذكرت أنه
يأمركم أن تعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئًا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم
بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد
كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أَخْلُصُ إليه
لتجشَّمْتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدمه»(1).
وهذه شهادة عظيمة وكلمات
دقيقة في صدق بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، خرجت من هذا الرجل المشرك المعتقد
بأن اللَّه ثالث ثلاثة، وإنني أدعو عموم النصارى في العالم اليوم لقراءتها
وتدبرها، واعتقاد ما جاء فيها، ثم الإيمان والتصديق بالهادي البشير صلى الله
عليه وسلم.
وقد وبخ اللَّه العرب الكافرين لعدم إيمانهم بالنبي صلى الله عليه
وسلم مع وجود آية عظيمة تدل على صدق نبوته، وثبوت رسالته، وهي معرفة علماء بني
إسرائيل وشهادتهم له بأنه نبي من عند اللَّه كما قال تعالى : أولم يكن
لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل[الشعراء : 197].
قال الإمام ابن كثير - رحمه اللَّه -: «أي : أوليس يكفيهم من الشاهد الصادق
على ذلك : أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي
يدرسونها؟ والمراد العدول منهم، الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى
الله عليه وسلم ومبعثه وأمته، كما أخبر بذلك من آمن منهم كعبد اللَّه بن سلام،
وسلمان الفارسي، عمن أدركه منهم ومن شاكلهم، وقال اللَّه تعالى : الذين
يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا
عندهم في التوراة والإنجيل <<(2).
وفوق هذه الشهادات كلها
لنبينا صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة شهادة رب العالمين وملائكة الله
المقربين، قال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون
للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا
حكيما (165) لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله
بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا[النساء
: 165، 166]، ومعنى شهادة اللَّه بما أنزل إليه : إثباته لصحته، بإظهار
المعجزات، كما تثبت الدعاوى بالبينات، إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب بالمعجزة،
ومعنى أنزله بعلمه. أي : وهو عالم به، رقيب عليه، وكفى بالله شهيدًا على صحة
ثبوته، وإن لم يشهد غيره له، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال
الإمام ابن جرير رحمه اللَّه في تفسيره : «... لكن اللَّه يشهد بتنزيله إليك ما
أنزله من كتابه ووحيه أنزل ذلك إليك بعلم منه بأنك خيرته من خلقه، فإنه إذا شهد
لك بالصدق ربك لم يضرك تكذيب من كذبك وخلاف من خالفك، وكفى بالله شهيدًا، يقول
: وحسبك بالله شاهدًا على صدقك دون ما سواه من خلقه، فإنه إذا شهد لك بالصدق
ربك لم يضرك تكذيب من كذبك»(3)، وشهادة اللَّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
بالنبوة والرسالة تنقسم إلى قسمين : شهادة إخبار، وشهادة معجزات، فشهادة
الإخبار هي : ما أخبر به تعالى في كتابه عن وحيه لرسوله واصطفائه له، ووجوب
طاعته ونصرته، وذلك في آيات كثيرة من كتابه كقوله : إنا أوحينا
إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده <<،(/1)
ويلاحظ في هذه الآية أن الله قدم النبي صلى الله عليه وسلم في الذكر فقال :
أوحينا إليك، رغم أن إرساله متأخر عن غيره من الأنبياء والمرسلين، إلا
أنه مقدم عليهم في الفضل والذكر والرتبة صلى الله عليه وسلم، وهذا كقوله تعالى
: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم[الأحزاب : 7]، وقال تعالى في
شهادته لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة : يا أيها النبي
إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45) وداعيا إلى
الله بإذنه وسراجا منيرا[الأحزاب: 45، 46]، وقد أخبر سبحانه
في كتابه أن عيسى ابن مريم - عليه السلام - قد بشر بنبينا صلى الله عليه وسلم،
قال تعالى : وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل
إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من
التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد
فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين (6) ومن
أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى
الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين[الصف: 6، 7].
وقد
ذكر العلماء قديمًا وحديثًا ما جاء في الإنجيل من البشارة بالنبي صلى الله عليه
وسلم، وإن كانوا هم يحرفونه ويكتمونه، وقد بشرت به صلى الله عليه وسلم جميع
الأنبياء، ومنهم موسى عليه السلام، ومما يشير إلى أن موسى مُبَشِّرٌ به قول
عيسى - عليه السلام - في هذه الآية : مصدقا لما بين يديه <<،
والذي بين يديه هي التوراة أنزلت على موسى(4)، وقد جاء صريحا التعريف به صلى
الله عليه وسلم، وبالذي معه في التوراة في قوله تعالى: محمد رسول
الله والذين معه أشداء على الكفارإلى قوله تعالى :
ذلك مثلهم في التوراة <<، كما جاء وصفهم في الإنجيل في نفس السياق
في قوله تعالى: ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه
فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه[الفتح: 29].
وقد ذكرت
جريدة «المؤيد» عدد (3284) صفحة (2) تحت عنوان : «لا يعدم الإسلام منصفًا قول
«مارسيه» وكان في مدرسة اللغات الشرقية قوله : إن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو
مؤسس الدين الإسلامي(5)، واسم محمد جاء من مادة «حمد»، ومن غريب الاتفاق أن
نصارى العرب كانوا يستعملون أسماء من نفس المادة يقرب في المعنى من «محمد»، وهو
«أحمد»، ومعنى أحمد صاحب الحمد، وهذا ما دعا علماء الدين الإسلامي أن يثبتوا
بأن كتب المسيحيين قد بشرت بمجيء النبي محمد صلى الله عليه وسلم(6)، وقد أشار
القرآن نفسه إلى هذا بقوله عن المسيح : ومبشرا برسول يأتي من
بعدي اسمه أحمد <<(7).
وأقول بعد هذا : «والفضل ما شهدت به
الأعداء».
فائدة :
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في جلاء الأفهام :
«الفرق بين محمد وأحمد من وجهين: أحدهما : أن محمدا هو المحمود حمدا بعد حمد،
فهو دال على كثرة الحامدين له، وذلك يستلزم كثرة موجبات الحمد فيه، وأحمد أفعل
تفضيل من الحمد، يدل على أن الحمد الذي يستحقه أفضل مما يستحقه غيره، فمحمد
زيادة حمد في الكمية، وأحمد زيادة في الكيفية، فيحمد أكثر حمد، وأفضل حمد حمده
البشر، والوجه الثاني: أن محمدا هو المحمود حمدا متكررا كما تقدم، وأحمد هو
الذي حمده لربه أفضل من حمد الحامدين غيره، فدل أحد الاسمين - وهو محمد - على
كونه محمودا، ودل الاسم الثاني وهو أحمد على كونه أحمد الحامدين لربه، وهذا هو
القياس، إلى أن قال: وأيضا فإن الاسمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصاله المحمودة
التي لأجلها استحق أن يسمى محمدا وأحمد، فهو الذي يحمده أهل الدنيا وأهل
الآخرة، ويحمده أهل السموات والأرض، فلكثرة خصاله التي تفوق عد العادين سمي
باسمين من أسماء الحمد، يقتضيان التفضيل والزيادة في القدر والصفة».
وللحديث
صلة - إن شاء الله - والسلام عليكم ورحمة الله
(1) أخرجه البخاري في صحيحه
كتاب بدء الوحي باب جـ1 /31، 32، ومسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب 26 جـ3
/ 1393 - 1397 .
(2) تفسير ابن كثير (ج4/173) . (3) تفسير ابن جرير
(جـ6/22) . (4) راجع تتمة أضواء البيان (جـ8/180).
(5) هكذا قال ،
والصواب أن يقال : بعث بالدين الإسلامي ؛ لأن الله أوحى به إليه ، وحتى لا
يتوهم متوهم أنه جاء به من عند نفسه .
(6) الكاتب وهو نصراني لم يذكر الصلاة
والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وأثبتها لوجوبها على المسلم عند ذكر اسمه
صلى الله عليه وسلم .
(7) انظر محاسن التأويل للقاسمي (ج16/5788).(/2)
خاتم الأنبياء والمرسلين رحمة من رب العالمين
إعداد/ د. عبد الله شاكر الجنيدي
الحلقة الثانية
نائب الرئيس العام
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد تحدثت في اللقاء السابق عن حالة العالم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وبينت أن بعثته كانت خيرًا للبشرية في الدين والدنيا، وذكرت بعض الأدلة على عموم بعثته - عليه الصلاة والسلام - وأواصل الحديث حول هذا الموضوع فأقول:
عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة»(1)، وفي رواية لمسلم: «وبعثت إلى كل أحمر وأسود»، وفي رواية أبي هريرة في مسلم أيضًا: «وأرسلت إلى الخلق كافة».
قال ابن حجر - رحمه اللَّه -: «وظاهر الحديث يقتضي أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله صلى الله عليه وسلم، وهو كذلك، ولا يعترض بأن نوحًا عليه السلام كان مبعوثًا إلى أهل الأرض بعد الطوفان، لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنًا معه وقد كان مرسلاً إليهم، لأن هذا العموم لم يكن في أصل بعثته وإنما اتفق بالحادث الذي وقع وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته من أصل البعثة فثبت اختصاصه بذلك، وأما قول أهل الموقف لنوح - عليه السلام - كما صح في حديث الشفاعة: «أنت أول رسول إلى أهل الأرض»، فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مرادًا فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدة آيات على أن إرسال نوح كان إلى قومه ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم»(2)، وقال النووي في شرحه لرواية مسلم: «وبعثت إلى كل أحمر وأسود»: «قيل المراد بالأحمر: البيض من العجم وغيرهم، وبالأسود العرب لغلبة السمرة فيهم وغيرهم من السودان، وقيل: المراد بالأسود السودان، وبالأحمر من عداهم من العرب وغيرهم، وقيل: الأحمر: الإنس، والأسود: الجن، والجميع صحيح فقد بعث إلى جميعهم»(3).
وقال الطحاوي - رحمه اللَّه -: «وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى وبالنور والضياء». قال ابن أبي العز - رحمه اللَّه -: «أما كونه مبعوثًا إلى عامة الجن فقد قال تعالى حكاية عن قول الجن: يا قومنا أجيبوا داعي الله، وكذا سورة الجن تدل على أنه أرسل إليهم أيضًا، وأما كونه مبعوثًا إلى كافة الورى فقد قال تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا، وكونه صلى الله عليه وسلم مبعوثًا إلى الناس كافة معلوم من دين الإسلام بالضرورة، وأما قول بعض النصارى: إنه رسول إلى العرب خاصة فظاهر البطلان، فإنهم لما صدقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قال إنه رسول إلى الناس عامة، والرسول لا يكذب، فلزم تصديقه حتمًا، فقد أرسل رسله وبث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس، وسائر ملوك الأطراف يدعو إلى الإسلام»(4).
وقد زعمت العيسوية أيضًا من اليهودية أنه رسول إلى العرب خاصة(5)، وقد كذبوا في ذلك، كما خاب وخسر من سمع برسالته ولم يؤمن به، كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»(6).
قال النووي - رحمه اللَّه - في شرحه: «فيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي مفهومه دلالة على أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور، وهذا جار على ما تقدم في الأصول أنه لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح، والله أعلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة» أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة، فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته، وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهًا على من سواهما، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابًا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى، والله أعلم»(7).
والمراد بالأمة في هذا الحديث عموم أهل الدعوة، أي: كل من دعاه إلى الإيمان، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «يهودي ولا نصراني»، بدل بعض من كل، والحديث يدل على عموم الشريعة لكل الأمم في كل زمان ومكان، فكان من تبلغه دعوة الإسلام، ويسمع بالرسول عليه الصلاة والسلام ومات ولم يؤمن بالذي أرسل به فإنه من أصحاب النار، ولو تأمل العقلاء في رسالته وما جاء به وسيرته وما كان عليه لدخلوا في دين اللَّه أفواجًا وآمنوا بالنبي المصطفى المختار - صلوات اللَّه وسلامه عليه، وهذه بعض النماذج اليسيرة من رحمته وحلمه وعفوه وصحفه، صلى الله عليه وسلم.(/1)
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يكاد يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب، فشكر اللَّه له فغفر له، قالوا: يا رسول اللَّه، وإن لنا في البهائم لأجرًا؟ قال: في كل كبد رطبة أجرٌ»(8).
فتأمل مدح النبي صلى الله عليه وسلم وثناءه على هذا الرجل لأنه سقى كلبًا، وإخباره بأن اللَّه غفر له لما فعل ذلك، مع أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن اقتناء الكلاب إلا لحاجة - كما هو معلوم ومنصوص عليه في كتب الفقه -، وإذا كان هذا في الحيوان الذي هذا شأنه، فما بالنا إذًا بغيره وبعموم الناس.
قال الإمام الحافظ ابن حجر - رحمه اللَّه -: «وفي الحديث الحث على الإحسان إلى الناس، لأنه إذا حصلت المغفرة بسبب سقي الكلب فسقي المسلم أعظم أجرًا»(9)، وقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمته على رحمة الخلق جميعًا من يعقل ومن لا يعقل، وذلك فيما أخرجه الترمذي بسند صحيح عن عبد اللَّه بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة(10) من الرحمن فمن وصلها وصله اللَّه ومن قطعها قطعه الله»(11).
قال الشيخ المباركفوري - رحمه اللَّه -: «قوله: «الراحمون» لمن في الأرض من آدمي وحيوان محترم بنحو شفقة وإحسان: «يرحمهم الرحمن» أي: يحسن إليهم وينفضل عليهم، والرحمة مقيدة باتباع الكتاب والسنة، فإقامة الحدود والانتقام لحرمة اللَّه لا ينافي كل منهما الرحمة. «ارحموا من في الأرض».
قال الطيبي: أتى بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق فيرحم البر والفاجر، والناطق والبُهْم، والوحوش والطير»(12)، ومعنى قوله: «الرحم شجنة من الرحمن» أي: قرابة مشتبكة كاشتباك العروق.
تنبيه: حرف «في» الوارد في الحديث: «ارحموا من في الأرض» بمعنى «على» كما في قوله تعالى: فسيحوا في الأرض يعني على الأرض، وهي بمعنى «على» أيضًا في قوله: «من في السماء»، وعليه فالحديث من الأدلة الكثيرة على أن اللَّه تعالى فوق المخلوقات كلها كما هو معتقد السلف الصالح.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعطف على الصبية الصغار ويقبلهم ويعد ذلك من الرحمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدًا منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه من لا يَرحم لا يُرحم». وهذا عام يشمل الأطفال وغيرهم، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عموم الناس، فهو بحق رحمة للعالمين، والحمد لله رب العالمين.
وللحديث صلة - إن شاء اللَّه تعالى -.(/2)
خاص وللشباب فقط
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وبعد:
فإلى من تربع حبه فوق عرش قلبي.. إلى من كاد أن يملك مشاعري
فأصبحت أحبه في الله.. إليك
أخي الشاب.. نعم.. إليك أنت أبث شجوني، وخواطري، وهمومي، وقضاياي
أشكو نصب يومي..، وحر هاجرتي.. أخي الشاب:
قلوب براها الحب حتى تعلقت *** مذاهبها من كل غرب وشارق
تهيم بحب الله، والله ربها *** معلقة بالله دون الخلائق
نعم.. هذا الحب.. متعلق بمحبوب واحد..، هو قضيتنا الكبرى بل هو:
قضية القضايا.. فنحبه ونرغب إليه في السراء والضراء.. إنه الله.. نعم، وألف نعم
نحب من يحب الله..، وإذا أحبنا من يحب الله أحببناه..، وإذا طلب منا القرب قربناه
وإذا استقال من الخطأ سامحناه..، هاذا أقدم نصرناه..، وإذا غاب ذكرنا
سيذكرني قومي إذا جد جدهم *** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
إن هذا الحب، أمر عجيب، نعم، إنه يختلط بالقلب بل بالبدن
من مشاش المخ، إلى أخمص القدم
والسؤال الذي ينبغي أن يكون:
هل هذا الحب مجرد عاطفة فقط؟! أم ماذا؟!
والجواب عليه: أن هذا الحب من نوع خاص.. نعم
لأنه في ذات الله جل وعز.. فنحب ما يحب الله، وتحب لأخيك ما تحبه لنفسك
وتكره له ما تكرهه لنفسك.
أخي الشاب:
والله إني لأحب لك الكرامة.. إني أحب لك العزة بالطاعة
ووالله إني لأكره لك التدنس بالمعصية، في مستنقع الرذيلة، وأوحال الانحطاط
والله، ثم والله إني لأحب لك الجنة
نعم.. لك أنت.. كما أحبها لنفسي.. وأخاف على طلعتك النظرة، ووجهك
الوضيء من لفح النار.. وجه طالما صنته عن المكاره؛ وما يستقذر
أخشى أن يدنس بالنار.. أخشى أن يغبر في النار
بل والله إني لأخشى أن تشويه النار شوياً، فتزيل الملامح، وتغير الجوارح.
أخي الشاب:
المعصية تكسب صاحبها الذل، والخيبة، والحرمان.. نعم.. الذل
والخيبة، والحرمان.. أقول لك، وكلي شفقة عليك:
أرعني سمعك.. وافتح لي أذنك.. نعم.. لعل هذه العبارات
وهذه الرسالة أن تكون رسالة مباركة في حياتك فيما بعد
فإن القلب إذا عقل، وفهم، ونصح، وعلم، استفاد...
أخي الشاب:
تأمل كلامي هذا حق التأمل.. وأعطني قلبك.. نعم.. أعطني قلبك
أبث لك فيه خواطر وأشجان طالما صالت، وجالت.. وها هي اليوم
تنسكب بين يديك كأريج العطر
فيا أيها الحائر في الطريق، ويا أيها الشاب الرقيق
يا من يعاني من كدر، وضيق، اسمع لمقالي فهو مقال ناصح
تقضي نهارك حائراً متوجعا *** ما للبكا من يحتويه سواكا
وتبيت ليلك في لهيب سهاده *** ترعى النجوم، وترقب الأفلاكا
فازجر فؤادك يا لبيب عن الهوى*** أتطيع من بعذابه أشقاكا
أتطيع قلبا كلما أيقظته *** وهديته درب الرشاد عصاكا
يا قلب ما لي لا أراك تطيعني *** أتحث نحو المهلكات خطاكا
يا أيها القلب المكبل بالأسى *** مزق بعزم التائبين أساكا
تب واعتبر واندم على ما قد مضى *** وادفن بأمواج الرشاد هواكا
واغسل ذنوبك بالمدامع ساجدا *** فعساك تبلغ ما تريد عساكا
الشاب وحلاوة الأمل
ما أجمل الأمل.. حين يحدو مطايا القلب..، فهو نور في ظلام
وفرح وسلام.. نعم.. إن العبد ليقبل على ربه، ومولاه فينطرح بين يديه سبحانه
ويؤمله، ويسأله.. أن يعفو عنه.. نعم.. أن يعفو عن زلاته، وغدراته
وإجرامه والله يقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن
رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )الزمر:53.
فإنما هي حسرة على الذنب.. فعبرة من الخوف، فدمعة من الوجل
فدعاء مع الذل..، فرحمة من الله.. (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) غافر:60
وليكن لسان حالك أخي الشاب مرددا:
أمولاي إني عبد ضعيف *** أتيتك أرغب فيما لديك
أتيتك أشكو مصاب الذنوب *** وهل يشتكى الضر إلا إليك
فمن بعفوك يا سيدي *** فليس اعتمادي إلا عليك
الشاب بين الذل.. والإنكسار
عندما يجد الجد، ويتقدم كل بركبه.. تسعد قلوب السابقين
وتألم قلوب المتأخرين عن طريق الخير والصلاح, فلا يتمالك الشاب إلا دمعة الندم
على ما كان منه من تفريط في أول الزمن.. فرط في الخيرات، وما كان مطيعاً
واشتغل بالملهيات إذ كان مستطيعاً.. ف ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ
[الدخان:49].. يوم لا ينفع الندم..
أخي الشاب:
أين منك: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ
فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ) آل عمران:135.
أخي الشاب:
أنت بحاجة إلى ربك جل وعز.. نعم.. أنت بحاجة إلى عونه
أخي الشاب:
أصدق مع الله.. قف في ظلمة الليل وحيداً
وانطرح بين يديه ذليلاً..، وقل: رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا
وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ [آل عمران:193]
قل:(/1)
يا نفس توبي فإن الموت قد حان*** واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
نعم أخي الشاب.. انثر العبرات..، واسكب الدمعات، وهات الآهات
والحسرات على ما فات.. فالله يقول: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)
فصلت:30
ويقول: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ
لِذُنُوبِهِمْ )آل عمران:135.
أخي الشاب: فك أسر نفسك من الهوى.. وأطلق قيدها من رق الشهوة والغفلة..
أخي الشاب:
أنت الخصم، وأنت الحكم.. ولن ينفعك مثل نفسك
وإن لم ترحم نفسك أنت- بترك الذنوب والمعاصي- فكيف تطالب الآخرين أن يرحموك..
أخي الشاب:
اخل بنفسك.. اعترف بذنبك.. تب واستغفر.. وردد
ربي إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، فاغفر لي.. فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت
ردد أخي الشاب: كفاني ذنوباً وعصياناً.. فرغ قلبك من الشهوات.. والشبهات
ابك على خطيئتك.. أبدل الانحراف بالاستقامة، انكسر بين يدي الله
أظهر الخضوع بين يدي ربك.. استعن بالله.. فوالله ثم والله.. إنك بحاجة إلى ربك.
أخي الشاب:
وقتك ثمين, وأنا أطلت عليك, فاعذرني, واعلم أن الكاتب
والقارئ أهل خطأ وزلل..
من ذا الذي ما أساء قط *** ومن الذي له الحسنى فقط
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها *** كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
وأخيراً: فلا أجد لنفسي بداً من التمثل، بقول الأول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي الناس وهو سقيم
والله يرعاك، ويتولانا وإياك ويسدد على طريق الخير مسعاك
تم الكلام وربنا محمود *** وله المكارم والعلا والجود
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد بن سرار اليامي
دار الوطن(/2)
خبرة المواجهة بين الحركات الإسلامية والحكومات
مصرنموذجا ... ...
كمال السعيد حبيب * ... ... ... ...
... ... ... ...
الدول التي جاءت للعالم العربي والإسلامي عقب نهاية الاستعمار، والتي تعرف في العلوم الاجتماعية والسياسية بأنها دول ما بعد الاستعمار–post colonalism- مثلت قطيعة كبيرة في مرجعيتها العلمانية مع المرجعية التاريخية للأمة الإسلامية، والتي كانت الشريعة الإسلامية هي مصدرها، وأدى هذا -في الواقع- لبروز حركات اجتماعية إسلامية تدعو للعودة للمرجعية الإسلامية، وكانت حركة الإخوان المسلمين هي الأقدم في الدعوة للعودة إلى الإسلام كنظام يحكم الحياة والواقع، وشعرت النظم أن هذه الحركات تنازعها شرعيتها، ومن هنا كانت المواجهة العاتية التي حدثت بين الدولة وبين الحركات الإسلامية، والتي قادت لقطيعة كبيرة بين الطرفين، وفي الخبرة المصرية أدى عنف النظام الناصري في مواجهته مع حركة الإخوان المسلمين إلى تطور داخل الحركة الإسلامية ذاتها، جعلها أكثر عنفاً في موقفها من النظام السياسي الناصري، فبينما كان الشيخ حسن البنا -مرشد حركة الإخوان- يتحدث عن طرائق للإصلاح من داخل النظم السياسية ذاتها، فإذا بالشيخ سيد قطب من بعده يعتبر أن النظام الناصري نظام جاهلي، وأن الحديث عن إصلاح من داخله هو استنبات للبذور في الهواء، وأنه لا بد من تغيير النظام تغييراً جذرياً، باعتباره ينازع الله أخص خصوصياته وهو حق التشريع .
لقد مثل التعذيب الوحشي -الذي كان جديداً على تقاليد الحياة السياسية المصرية، كما مثل الإعدام لشخصيات كبيرة في عام 1954م- مشكلة كبيرة في فكر سيد قطب خاصة، وأن كاتباً غربياً اسمه (جورج كيرك) كتب كتاباً عن الشرق الأوسط تحدث فيه عن مواقف مهادنة للنظام الناصري مع الغرب بما في ذلك اليهود، وهنا جرى طرح السؤال عن شرعية النظام الناصري باعتباره نظاماً غير إسلامي .
الأفكار الإسلامية في السبعينات
وفي الواقع أدى فكر سيد قطب الجديد إلى هزة كبيرة داخل الإخوان، حيث اضطرت الجماعة إلى التبرؤ منه، وكتابة الكتاب المعروف باسم (دعاة لا قضاة)، لكن على الجانب الآخر جرت قراءة خاطئة لفكر سيد قطب من شكري مصطفي الذي أسس لفكر التكفير، والذي مزج فيه بين أفكار سيد قطب وأفكار الخوارج خاصة الأزارقة، واستلهمت الحركات الإسلامية الجهادية -التي ظهرت في مصر أوائل السبعينات- فكر سيد قطب في ضرورة تغيير النظم الحاكمة التي لا تستلهم مرجعيتها من الشريعة الإسلامية .
العنف الذي مارسته دولة ما بعد الاستعمار -خاصة في نسختها العسكرية الوحشية في مواجهة الحركات الإسلامية، وعنفها في تبني القيم الغربية والتنكر للتقاليد الإسلامية- هو الذي قاد إلى التساؤل حول شرعيتها من جانب التيارات الفكرية الإسلامية التي ظهرت في مصر في فترة السبعينات، وكما هو معلوم فإن فكر جماعة التكفير لم يقدر له الاستمرار والصمود، بل كان كموضة خاطفة ظهرت ثم ذوت بسرعة؛ لأن فكر التكفير يحمل في طياته بذور فنائه .
وبينما كان الإخوان قد حسموا موقفهم من المواجهة مع النظم السياسية -مستفيدين من الخبرة القاسية التي تعرضوا لها- كان الشباب الجديد في الجامعات -والذي يزاوج بين الفكر السلفي والجهادي- مدفوعاً في هذا بقلة خبرته من ناحية، وبعواطفه من ناحية أخرى إلى التمهيد لمواجهة مع نظام السادات، وذلك لينجز ما اعتبره عبئاً تاريخياً للاقتصاص من دولة الحداثة الغربية التي نكلت بالحركة الإسلامية، والتي بالغت في الاندماج في تقاليد الغرب والولاء له، ثم التي مدت يدها لليهود الأعداء التقليديين والتاريخيين للمسلمين .
ولم تقدر الدولة المصرية أن الأولاد الصغار قادرون على منازلتها ومغافلتها بتوجيه ضربة لرأس نظامها السياسي، وهو ما جعل (جيلز كيبل) يتحدث عن قتل الفرعون.
التسعينات والمواجهة الكبيرة(/1)
مثلت الثمانينات سنوات للهدوء بين النظام السياسي الجديد، وبين الحركة الإسلامية التي كانت تسعى لتأمل وتقييم ما حدث، وكانت هناك أسباب عديدة وممكنة لتجنب المواجهة التي جاءت في عقد التسعينات، والتي كانت مواجهة وحشية لم تعرفها مصر طوال تاريخها -ربما منذ عصر الفراعنة– لكن أوهام لدى الحركة الإسلامية الجهادية قادتها لإمكان تحقيق الحسم العسكري مع النظام المصري عبر القوة العسكرية، والذي دفعها لذلك -في تقديرنا- هو انفتاح الجبهة الأفغانية في هذا التوقيت، حيث شهدت هذه الجبهة امتلاك الحركات الجهادية لخبرات مذهلة، كما أن الحركات الجهادية اعتبرت أفغانستان أرضاً إسلامية محررة يمكن أن تكون منطلقاً للتغيير، وعرف عقد التسعينات مواجهة مفتوحة ذات طابع مصيري بين الدولة والحركات الجهادية، فالحركات الجهادية نفَّذت عمليات ذات طابع مروع، والدولة بدأت تستجمع أدوات القمع وتستكمل أدوات المواجهة، وعرفنا سياسة تجفيف المنابع والهجوم على الدعوة وحصارها، وتغيير مناهج التعليم الديني، وشن حملات إعلامية مروعة، وانتفض العلمانيون ليصطادوا في الماء العكر، وبدت الدعوة كما لو كانت رهينة المعركة بين الطرفين، ولم يكن ممكناً أن تكون الدعوة الإسلامية بين طوائف الأمة في المجتمع المصري بمنأى عن هذه المواجهة .
وبدت عمليات العنف الوحشية بلا مقصد ولا هدف، وكانت دورة عنف عشوائية تتنافى والمقاصد الشرعية للدين الإسلامي الحنيف.
ومن هنا كانت مبادرة وقف العنف التي دشنتها الجماعة الإسلامية، والتي كانت الفصيل الأهم في المواجهة مع النظام المصري، ثم قرار وقف جميع العمليات العسكرية بما يشبه الإجماع بين قادتها، كما أن تنظيم الجهاد المصري كان قد قرر أن يوقف عملياته العسكرية عام 1995 بعد النتائج الكارثية التي قادت إليها محاولة قتل رئيس الوزراء المصري- في هذا الوقت- عاطف صدقي .
المراجعات الفكرية والحركية
واجه التيار الجهادي مأزقاً حقيقياً بعد المواجهات العاتية مع النظام السياسي، فقد اكتشف أن النظم السياسية استفاقت على خطره، وجعلت أمر مواجهته والتحسب له هو شغلها الشاغل، كما اكتشفت التيارات الجهادية أنها استدرجت لمستنقع العنف والعنف المضاد، والذي بدى وكأنه نوع من العبث الذي لا طائل من ورائه، كما أنه يصيب الكثير من الأبرياء والضحايا برذاذه الكريه، واكتشفت هذه التيارات أن كوادرها تمت عسكرتها دون أن يوازي هذه العسكرة ويوازنها التربية الإيمانية والتقوى، فالجهاد وممارسته تم في ظل الدولة الإسلامية بعد تربية إيمانية كبيرة في مكة استمرت لأكثر من ثلاثة عشر عاماً.
لابد من الاعتراف أن استخدام السلاح يولد نزعة عنف عند من يستخدمه لو لم يكن منضبطاً بتقوى وإيمان وقدرة كبيرة على الانضباط النفسي والشرعي وحتى المؤسسي .
من هنا كانت المراجعات، وقد تمثلت بشكل رئيس في قضايا أساسية مثل:
1. اعتبار عامل القدرة المرتبطة بالتكليف، فمناط التكليف القدرة ولو لم تكن قادراً فإن التكليف يسقط عنك "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، وأمر مجاهدة النظم المجانبة للشريعة لا يصبح المسلم مخاطباً به، أي واجباً عليه، ما لم يكن لديه القدرة، فالتكليف يكون بما يطاق خاصة في أمور المجتمع والسياسة، أو ما يطلق عليه (فروض الكفايات)، والتي لا يمكن للمرء وحده أن يستقل بإنجازها .
2. تصوُّر أن قضايا التغيير والإصلاح من الأمور الاعتقادية، وتوسيع مسائل العقيدة وإقحام ما ليس من العقيدة فيها، وهو ما يعطيها حكمها، فمسائل العقيدة في أغلبها هي من القطعيات ولا يداخلها الظن والاجتهاد؛ لأن مصدرها الإيمان الخبري السمعي الغيبي، أما مسائل الإصلاح والتغيير فهي من المسائل المتغيرة التي يمثل الاجتهاد أداتها الأساسية . نحن لدينا مبادئ، لكن كيفية تحقيقها تخضع للاجتهاد والنظر في الواقع الذي يمثل عنصراً حاسماً في تحقيق مناطها .
3. الانتباه إلى أن القوة العسكرية لا تنجز وحدها أمر المواجهة، فهناك جوانب دعوية مهمة أخرى، وأدوات مثل النصح والنقد والمراجعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهناك أدوات مهمة مثل الكتابة والخروج السياسي الذي قد يستخدم أدوات معاصرة ليست منصوصاً عليها، لكنها من المباحات التي لا تخالف النص .
4. عزل الحركة الإسلامية عن مجتمعها، بحيث جعلت لنفسها مجتمعاً موازيا، ونصبت من نفسها فرقة أو طائفة تقوم هي بالتغيير نيابة عن مجتمعاتها، رغم أن المفروض هو عمل الحركة داخل مجتمعاتها للأخذ بيدها إلى الخير والنور، لذا فمسألة الانفصال عن مجتمعها هو كارثة كبيرة، ومن هنا كان الوعي بضرورة الانخراط في المجتمعات الإسلامية، ودعوتها للحق والأخذ بيدها إلى الصراط المستقيم .(/2)
5. الانتهاء إلى فشل التنظيمات السرية؛ لأنها تأخذ الحركة إلى مجاهل السرية، وحصر العلاقة بينها وبين مجتمعها في العلاقة الأمنية الضيقة التي تجعلها محاصرة بالمرشدين والسجون والملاحقة والاختفاء، رغم أن الانتقال بالحركة إلى آفاق النور، والعمل المجتمعي العلني هو أحد أهم أدوات حمايتها .
وفي الواقع فإن الحركة الجهادية -وعامة الحركة الإسلامية في مصر-أن تراجع تجربتها وخبرتها، ومن المفروض أن تعي الحركات الإسلامية الأخرى في العالم العربي والإسلامي -خاصة الحركة الإسلامية في السعودية- نتائج خبرة الحركة الجهادية المصرية، وألا تنخرط في مواجهة جديدة مع نظمها السياسية، خاصة وأن الحركة الإسلامية في السعودية فيها عناصر خير هائلة يجب أن تحفظها لخير أمتها، فهي أمانة كبيرة في عنقها، ولا تبددها في مواجهة خاسرة، المستفيد منها أعداء الحركة الإسلامية في الداخل والخارج .
*خبير في شئون الحركات الجهادية
المصدر : الاسلام اليوم ... ...(/3)
خديجة بنت خويلد
2193
سيرة وتاريخ
تراجم
مازن التويجري
الرياض
19/10/1419
جامع حي النزهة
ملخص الخطبة
1- نبذة من أحوال العرب في الجاهلية. 2- سفر ميسرة غلام خديجة مع النبي . 3- زواجها من النبي . 4- حليمة السعدية في ضيافة خديجة. 5- ثبات خديجة مع النبي وتثبيتها له يوم نزول الوحي. 6- ذكر بعض من فضائل خديجة. 7- وفاء النبي لخديجة بعد موتها. 8- وفاء النبي لخديجة بعد موتها.
الخطبة الأولى
جميل أن يُتحدث عن الأخلاق الفاضلة، ورائعٌ أن يكتب عن المثل وعظيم السجايا ..
هل قرأت يومًا مقالاً عن الصبر أو الحلم فأعجبك واستهواك..؟
هل وقعت يدك على قصيدة تحكى قصة الإيمان ورسوخه وثباته..؟
فها لك نظمها، وروعة نسقها.
إن نقرأ عن الحلم والأناة، أو نتحدث عن الجود والسخاء ونَصِف الصدق والسماحة وحب الخير للناس، ونعجب من رحمة الرحيم، أو كرم الكريم، وشهامة الشهم .. كل ذلك عظيم .. ولكن ..
أي عجب يستهوينا، وإعجاب سيملأ قلوبنا يوم يجمع الله هذه الأخلاق والخصال، وغيرها من كريم السجايا والطباع، يجمعها كلها لإنسان واحد.
فكم ستحمل النفوس والقلوب لهذا المخلوق من الإجلال والاحترام والمحبة، وكم ستتمثله جموع الموحدين مثلاً يحتذى، وعلمًا يقتدى، لتكون حياته منهاجًا يسير عليه الجيل بعد الجيل.
في زمان عمّ فيه الظلام، فكسى ربوع الكون، بل خالط كل شيء، خالط البيوت وما تحوي، والعقول وما تحمل، بل خالط الدماء والعروق، وأعمى البصر والبصائر.
يصنع أحدهم إلهه من تمر فإذا جاع أكله ..
فيا عجبًا .. أإله يؤكل !.. وإذا توقف في سفر جاء بأربعة أحجار، ثلاثة لقدره، وواحد يعبده ويؤلهه.
تقوم الطاحنة، وتعلو شعارات البغض والعِداء لسنوات طويلة، جيل يرث الحرب والغدر من جيل، كل هذا .. لأن فرسًا سبقت أخرى، أو بعيرًا عقر، وناقةً سرقت.
يقتل الأخ أخاه، والأب ابنه، وتقتل البنات لأجل حفنة مال، أو قطيع أغنام وعشرات الإبل في هذا الجو المشحون بزيف الباطل، وركام الهمجية والجاهلية، ثمة عقلاء، أصحاب مبادئ وأخلاق قد عافوا حياة الجهل والطمع، ونقموا على قومهم رجعية في أخلاقهم، وسوء تعاملهم.
ومن بين هؤلاء كانت العاقلة الحصينة، النقية الطاهرة، صاحبة المال والتجارة، ترقب مجتمعها علّها تظفر برجل لا كالرجال، يرحل في تجارتها ..
إنها أم المؤمنين الرؤوم خديجة بنت خويلد القرشية ..
لقد حفظ التأريخ كثيرًا من فضائلها، ولكنه على الرغم من ذاكرته الواسعة لم يستطع أن يحصر تلك الفضائل بين دفتيه.
إنها عنوان كل فضل وفضيلة ..
لقد كانت رضي الله عنها تعرف محمد بن عبد الله حق المعرفة، فعمته صفية بنت عبد المطلب، زوجة أخيها العوام بن خويلد.
وقد ترامت إليها سيرته العطرة، وأخباره المباركة، وذكره العبق حين كان يدعى الأمين، فأرسلت إليه ليخرج بمالها إلى الشام مع غلامٍ لها يقال له ميسرة، على أن تعطيه أكثر مما تعطي غيره، فوافق وسافر مع غلامها، فعاد وكان الربح وفيرًا.
وقبله كان إعجاب غلامها ميسرة بما قصه عليها من طيب خلقه وصدقه وأمانته أعظم وقعًا في قلبها من نجاح تجارتها وربحها ..
فرأت فيه الزوج الذي كانت تطمع فيه منذ زمن، ولم تزل تلك الرغبة تختلج في صدرها حتى صارحت بها صديقتها نفيسة بنت منبه، فخرجت من ساعتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمته، فقالت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج، فقال: ما بيدي ما أتزوج به ..
قالت: فإن كُفيت ودُعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة .. فهل تجيب؟ فرد متسائلاً: ومن؟ قالت: خديجة بنت خويلد.
فقال: إن وافقت.. فقد قبلت.
وأخبر عليه الصلاة والسلام أعمامه برغبته الزواج من خديجة، فذهب أبو طالب وحمزة وغيرهما إلى عم خديجة عمرو بن أسد، وخطبوا إليه ابنة أخيه، وساقوا إليه الصداق، فكانت الزيجة المباركة كأعظم زواج وأبركه ..
ولقد سعدت خديجة بهذا الزواج وفرحت فرحًا شديدًا، وكيف لا تفرح وقد حظيت بالأمين الرحيم زوجًا وشريكًا لحياتها ..
فكانت لا ترد له طلبًا بل تسارع إلى ما يرضيه قبل أن يعرضه.
وفي يوم جلس الزوجان الكريمان قبل بعثة الحبيب صلى الله عليه وسلم، إذ بمولاة خديجة تخبر أن حليمة السعدية تستأذن بالدخول ..
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليمة السعدية، خفق قلبه الشريف حنانًا، وراحت الذكريات الحبيبة الحانية تجول في خاطره، ذكريات حبيبة إلى نفسه، تذكر بيداء بني سعد ورضاعته هناك ..
كانت لحظة مفعمة بالمشاعر الفياضة .. لحظة أحيت في مثل لمح البصر أو هو أقرب أيام طفولته، أيام نشأته بين ذراعي حليمة، وفي أحضانها .
قامت خديجة لتدخل حليمة فطالما سمعت عنها من فم النبي صلى الله عليه وسلم مدحًا، وحبًا، وحسن وصف ..
وما إن وقع بصره الشريف عليها، حتى امتلكه شعور الحب والوفاء، ولم يستطع فمه أن يعبر عما يخالج صدره، من الرأفة والحنان، إلا بكلمة واحدة تعني كل ما يضمر، قال: ((أمي، أمي))..(/1)
وفي غمرة اللقاء الحار بين الأم ورضيعها الأمين .. سألها عن حالها، فراحت تشكو إليه قسوة الحياة والجدب الذي نزل ببادية بني سعد، ثم شكت ضيق العيش، ومرارة الفقر، فأفاض عليها من كرمه، ثم حدّث زوجه خديجة بما ألمّ بمرضعته من ضيق فتدفقت كنوز فؤاد خديجة بالعطف والرحمة ..
فعادت حليمة إلى باديتها بأربعين رأسًا من الغنم وبعيرًا يحمل الماء، وزاد ترجع به إلى أهلها.
هكذا.. كانت خديجة قبل الإسلام وبعده تبذل مالها إرضاءً لربها وزوجها، فماذا تعني أربعين من الغنم في سبيل إرضاء زوجها، وبحثًا عما يحب وصلة لمن يحب، ولما رأت حبه لمولاه زيد بن حارثة وهبته إياه.
ورزق النبي صلى الله عليه وسلم منها الولد فولدت له زينب فرقية فأم كلثوم ثم سيدة نساء الجنة أم الحسنين فاطمة رضي الله عنهن أجمعين ثم القاسم ثم عبد الله.
وكان عليه الصلاة والسلام حببت إليه الخلوة فكان يخلو بغار حراء شهرًا كاملاً من كل سنة يتعبد، ومكث على ذلك الحال ما شاء الله له أن يمكث.
ثم جاءه جبريل عليه السلام بالرسالة من السماء وهو بغار حراء في شهر رمضان، وكان معه ما كان من أمر الوحي، ثم انطلق يلتمس بيته في غبش الفجر خائفًا يقول: ((زملوني، زملوني، دثروني، دثروني))..
واستوضحت خديجة رضي الله عنها منه الخبر، فقال: ((يا خديجة لقد خشيت على نفسي))، عندها لم تزد خوفه رعبًا، ولا غمه همًا، بل قالت قولتها المشهورة التي تبقى على مر العصور والأيام مثالاً ومنهاجًا لثبات السائرين إلى الله تعالى ..
قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فاطمأن فؤاد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وسريَ عنه بهذه الكلمات الحانية، والعبارات الصادقة.
ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر فأخبرته الخبر فقال: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى. أخرجاه في الصحيحين.
حينها لم تتلكأ خديجة ولم تتأخر في أن تؤمن بوحي الله، وتصدق برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أول المؤمنين لتحوز قصب السبق في الإسلام والتصديق.
قال الإمام البيهقي في الدلائل: إن أول من أسلم من هذه الأمة خديجة بنت خويلد، وقال ابن الأثير: خديجة أول خلق الله إسلامًا بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة.
وبدأت الدعوة إلى الله، وسام المشركون رسول الله ومن معه من المؤمنين أصناف العذاب والتكذيب.
فكانت نعم المرأة صابرة محتسبة، وها هي تودع فلذة كبدها رقية رضي الله عنها زوج عثمان رضي الله عنه مهاجرة إلى الحبشة، وهي تكفكف دموعها الحرى، وتتجلد وتتصبر، فعندها، وفي قاموسها، فراق الأبناء ومهج القلوب يهون ما دام في مرضاة الله ونصرة دينه.
ولهذا وغيره حازت من الفضل ما لم تحزه امرأة غيرها ..
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: ((أتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه إدام وطعام وشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني)).
زاد الطبراني: قالت خديجة: (هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام).. وهذه لعمر الله خاصة لم تكن لسواها ..
بل هل سمعتم عن امرأة تسير على الأرض وهي من أهل الجنة.. إنها الصديقة خديجة، جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)).
فرضي الله عنها وأرضاها .. هل كان لأنثى غيرها أن تجهز للنبي عليه السلام الجو المعين على التأمل، وأن تبذل له نفسها في إيثار نادر وتهينه لتلقي رسالة السماء ..؟
هل كان لزوج عداها أن تستقبل دعوته التاريخية من غار حراء بمثل ما استقبلته هي به من حنان مستثار وعطف فياض وإيمان راسخ، دون أن يساورها في صدقه أدنى ريب، أو يتخلى عنها يقينها في أن الله غير مخزيه أبدًأ ..؟
هل كان في طاقة سيدة غير خديجة، غنية مترفة منعمة، أن تتخلى راضية عن كل ما ألفت من راحة ورخاء ونعمة لتقف إلى جانبه في أحلك أوقات المحنة وتعينه على احتمال أفدح ألوان الأذى وصفوف الاضطهاد في سبيل ما تؤمن به من الحق ؟ ... كلا ..
بل هي وحدها التي منّ الله عليها بأن ملأت حياة الرجل الموعود بالنبوة سعادة وصبورًا.
بارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية
وأعلنت قريش مقاطعتها للمسلمين لتحاصرها سياسيًا واقتصاديًا، وسجلت مقاطعتها في صحيفة علقت في جوف الكعبة.
وحوصر المسلمون في شعب أبي طالب، فدخلت الطاهرة المطهرة مع رسول الله والمسلمين الشعب، ومرت الأيام، ودار الحول تلو الحول، ومضت ثلاث سنوات عجاف على المسلمين ..
كانت أيامهم فيها أيام شدة وضيق، وصبروا صبر الكرام لهذه المحنة العظيمة.. حتى فرّج الله عنهم.
ولكن أُمنا خديجة رضي الله عنها لم تلبث إلا قليلاً بعد الخروج حتى ذبلت ودبَّ الوهن في جسدها الطاهرة ..(/2)
وفي يوم موعود لبّت خديجة نداء ربها راضية مرضية قبل الهجرة بثلاث سنين، ودفنت في جبل بأعلى مكة عند مدافن أهلها، وأدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبرها بيده الشريفة.
قضت خديجة في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أشق مراحل الدعوة، فكانت في حياتها معه أوفى حياة زوجة لزوجها، وأبر شريكة لشريكها، تشاركه مباهجه ومسراته، تخدمه في بيتها وعقلها وروحها ووجدانها، وترد عنه عاديات الحياة بين قومه.
أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد)).
وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع خطوط في الأرض ثم قال: ((هل تعلمون ما هذا، قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)).
روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كان إذا ذبح الشاة قال: ((أرسلوا إلى أصدقاء خديجة. فذكرت له يومًا، فقال: إني لأحب حبيبها)).
وفي رواية: ((إني رزقت حبها)).
روت عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي عليه السلام وهو عندي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أنت؟))، قالت: أنا جثامة المزنية، قال: ((بل أنت حسّانة المزنية، كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدها؟)).
قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله ..
فلما خرجت، قلت: يا رسول الله، تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال، قال: ((إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)).
روى أحمد بسند جيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يومًا فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله تعالى خيرًا منها ..
فقال: ((ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها، قد آمنت بي وكفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله تعالى أولادها إذ حرمني أولاد النساء)).
هذه خديجة، يعلونا الفخر والعز إذ نعلم أنها أمنًا.
فلو كان النساء كما ذكرنا لفضلت النساء على الرجال.(/3)
خديجة بنت خويلد
مازن التويجري
الرياض
19/10/1419
جامع حي النزهة
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نبذة من أحوال العرب في الجاهلية. 2- سفر ميسرة غلام خديجة مع النبي . 3- زواجها من النبي . 4- حليمة السعدية في ضيافة خديجة. 5- ثبات خديجة مع النبي وتثبيتها له يوم نزول الوحي. 6- ذكر بعض من فضائل خديجة. 7- وفاء النبي لخديجة بعد موتها. 8- وفاء النبي لخديجة بعد موتها.
الخطبة الأولى
جميل أن يُتحدث عن الأخلاق الفاضلة، ورائعٌ أن يكتب عن المثل وعظيم السجايا ..
هل قرأت يومًا مقالاً عن الصبر أو الحلم فأعجبك واستهواك..؟
هل وقعت يدك على قصيدة تحكى قصة الإيمان ورسوخه وثباته..؟
فها لك نظمها، وروعة نسقها.
إن نقرأ عن الحلم والأناة، أو نتحدث عن الجود والسخاء ونَصِف الصدق والسماحة وحب الخير للناس، ونعجب من رحمة الرحيم، أو كرم الكريم، وشهامة الشهم .. كل ذلك عظيم .. ولكن ..
أي عجب يستهوينا، وإعجاب سيملأ قلوبنا يوم يجمع الله هذه الأخلاق والخصال، وغيرها من كريم السجايا والطباع، يجمعها كلها لإنسان واحد.
فكم ستحمل النفوس والقلوب لهذا المخلوق من الإجلال والاحترام والمحبة، وكم ستتمثله جموع الموحدين مثلاً يحتذى، وعلمًا يقتدى، لتكون حياته منهاجًا يسير عليه الجيل بعد الجيل.
في زمان عمّ فيه الظلام، فكسى ربوع الكون، بل خالط كل شيء، خالط البيوت وما تحوي، والعقول وما تحمل، بل خالط الدماء والعروق، وأعمى البصر والبصائر.
يصنع أحدهم إلهه من تمر فإذا جاع أكله ..
فيا عجبًا .. أإله يؤكل !.. وإذا توقف في سفر جاء بأربعة أحجار، ثلاثة لقدره، وواحد يعبده ويؤلهه.
تقوم الطاحنة، وتعلو شعارات البغض والعِداء لسنوات طويلة، جيل يرث الحرب والغدر من جيل، كل هذا .. لأن فرسًا سبقت أخرى، أو بعيرًا عقر، وناقةً سرقت.
يقتل الأخ أخاه، والأب ابنه، وتقتل البنات لأجل حفنة مال، أو قطيع أغنام وعشرات الإبل في هذا الجو المشحون بزيف الباطل، وركام الهمجية والجاهلية، ثمة عقلاء، أصحاب مبادئ وأخلاق قد عافوا حياة الجهل والطمع، ونقموا على قومهم رجعية في أخلاقهم، وسوء تعاملهم.
ومن بين هؤلاء كانت العاقلة الحصينة، النقية الطاهرة، صاحبة المال والتجارة، ترقب مجتمعها علّها تظفر برجل لا كالرجال، يرحل في تجارتها ..
إنها أم المؤمنين الرؤوم خديجة بنت خويلد القرشية ..
لقد حفظ التأريخ كثيرًا من فضائلها، ولكنه على الرغم من ذاكرته الواسعة لم يستطع أن يحصر تلك الفضائل بين دفتيه.
إنها عنوان كل فضل وفضيلة ..
لقد كانت رضي الله عنها تعرف محمد بن عبد الله حق المعرفة، فعمته صفية بنت عبد المطلب، زوجة أخيها العوام بن خويلد.
وقد ترامت إليها سيرته العطرة، وأخباره المباركة، وذكره العبق حين كان يدعى الأمين، فأرسلت إليه ليخرج بمالها إلى الشام مع غلامٍ لها يقال له ميسرة، على أن تعطيه أكثر مما تعطي غيره، فوافق وسافر مع غلامها، فعاد وكان الربح وفيرًا.
وقبله كان إعجاب غلامها ميسرة بما قصه عليها من طيب خلقه وصدقه وأمانته أعظم وقعًا في قلبها من نجاح تجارتها وربحها ..
فرأت فيه الزوج الذي كانت تطمع فيه منذ زمن، ولم تزل تلك الرغبة تختلج في صدرها حتى صارحت بها صديقتها نفيسة بنت منبه، فخرجت من ساعتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمته، فقالت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج، فقال: ما بيدي ما أتزوج به ..
قالت: فإن كُفيت ودُعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة .. فهل تجيب؟ فرد متسائلاً: ومن؟ قالت: خديجة بنت خويلد.
فقال: إن وافقت.. فقد قبلت.
وأخبر عليه الصلاة والسلام أعمامه برغبته الزواج من خديجة، فذهب أبو طالب وحمزة وغيرهما إلى عم خديجة عمرو بن أسد، وخطبوا إليه ابنة أخيه، وساقوا إليه الصداق، فكانت الزيجة المباركة كأعظم زواج وأبركه ..
ولقد سعدت خديجة بهذا الزواج وفرحت فرحًا شديدًا، وكيف لا تفرح وقد حظيت بالأمين الرحيم زوجًا وشريكًا لحياتها ..
فكانت لا ترد له طلبًا بل تسارع إلى ما يرضيه قبل أن يعرضه.
وفي يوم جلس الزوجان الكريمان قبل بعثة الحبيب صلى الله عليه وسلم، إذ بمولاة خديجة تخبر أن حليمة السعدية تستأذن بالدخول ..
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليمة السعدية، خفق قلبه الشريف حنانًا، وراحت الذكريات الحبيبة الحانية تجول في خاطره، ذكريات حبيبة إلى نفسه، تذكر بيداء بني سعد ورضاعته هناك ..
كانت لحظة مفعمة بالمشاعر الفياضة .. لحظة أحيت في مثل لمح البصر أو هو أقرب أيام طفولته، أيام نشأته بين ذراعي حليمة، وفي أحضانها .
قامت خديجة لتدخل حليمة فطالما سمعت عنها من فم النبي صلى الله عليه وسلم مدحًا، وحبًا، وحسن وصف ..
وما إن وقع بصره الشريف عليها، حتى امتلكه شعور الحب والوفاء، ولم يستطع فمه أن يعبر عما يخالج صدره، من الرأفة والحنان، إلا بكلمة واحدة تعني كل ما يضمر، قال: ((أمي، أمي))..(/1)
وفي غمرة اللقاء الحار بين الأم ورضيعها الأمين .. سألها عن حالها، فراحت تشكو إليه قسوة الحياة والجدب الذي نزل ببادية بني سعد، ثم شكت ضيق العيش، ومرارة الفقر، فأفاض عليها من كرمه، ثم حدّث زوجه خديجة بما ألمّ بمرضعته من ضيق فتدفقت كنوز فؤاد خديجة بالعطف والرحمة ..
فعادت حليمة إلى باديتها بأربعين رأسًا من الغنم وبعيرًا يحمل الماء، وزاد ترجع به إلى أهلها.
هكذا.. كانت خديجة قبل الإسلام وبعده تبذل مالها إرضاءً لربها وزوجها، فماذا تعني أربعين من الغنم في سبيل إرضاء زوجها، وبحثًا عما يحب وصلة لمن يحب، ولما رأت حبه لمولاه زيد بن حارثة وهبته إياه.
ورزق النبي صلى الله عليه وسلم منها الولد فولدت له زينب فرقية فأم كلثوم ثم سيدة نساء الجنة أم الحسنين فاطمة رضي الله عنهن أجمعين ثم القاسم ثم عبد الله.
وكان عليه الصلاة والسلام حببت إليه الخلوة فكان يخلو بغار حراء شهرًا كاملاً من كل سنة يتعبد، ومكث على ذلك الحال ما شاء الله له أن يمكث.
ثم جاءه جبريل عليه السلام بالرسالة من السماء وهو بغار حراء في شهر رمضان، وكان معه ما كان من أمر الوحي، ثم انطلق يلتمس بيته في غبش الفجر خائفًا يقول: ((زملوني، زملوني، دثروني، دثروني))..
واستوضحت خديجة رضي الله عنها منه الخبر، فقال: ((يا خديجة لقد خشيت على نفسي))، عندها لم تزد خوفه رعبًا، ولا غمه همًا، بل قالت قولتها المشهورة التي تبقى على مر العصور والأيام مثالاً ومنهاجًا لثبات السائرين إلى الله تعالى ..
قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فاطمأن فؤاد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وسريَ عنه بهذه الكلمات الحانية، والعبارات الصادقة.
ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر فأخبرته الخبر فقال: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى. أخرجاه في الصحيحين.
حينها لم تتلكأ خديجة ولم تتأخر في أن تؤمن بوحي الله، وتصدق برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أول المؤمنين لتحوز قصب السبق في الإسلام والتصديق.
قال الإمام البيهقي في الدلائل: إن أول من أسلم من هذه الأمة خديجة بنت خويلد، وقال ابن الأثير: خديجة أول خلق الله إسلامًا بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة.
وبدأت الدعوة إلى الله، وسام المشركون رسول الله ومن معه من المؤمنين أصناف العذاب والتكذيب.
فكانت نعم المرأة صابرة محتسبة، وها هي تودع فلذة كبدها رقية رضي الله عنها زوج عثمان رضي الله عنه مهاجرة إلى الحبشة، وهي تكفكف دموعها الحرى، وتتجلد وتتصبر، فعندها، وفي قاموسها، فراق الأبناء ومهج القلوب يهون ما دام في مرضاة الله ونصرة دينه.
ولهذا وغيره حازت من الفضل ما لم تحزه امرأة غيرها ..
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: ((أتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه إدام وطعام وشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني)).
زاد الطبراني: قالت خديجة: (هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام).. وهذه لعمر الله خاصة لم تكن لسواها ..
بل هل سمعتم عن امرأة تسير على الأرض وهي من أهل الجنة.. إنها الصديقة خديجة، جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)).
فرضي الله عنها وأرضاها .. هل كان لأنثى غيرها أن تجهز للنبي عليه السلام الجو المعين على التأمل، وأن تبذل له نفسها في إيثار نادر وتهينه لتلقي رسالة السماء ..؟
هل كان لزوج عداها أن تستقبل دعوته التاريخية من غار حراء بمثل ما استقبلته هي به من حنان مستثار وعطف فياض وإيمان راسخ، دون أن يساورها في صدقه أدنى ريب، أو يتخلى عنها يقينها في أن الله غير مخزيه أبدًأ ..؟
هل كان في طاقة سيدة غير خديجة، غنية مترفة منعمة، أن تتخلى راضية عن كل ما ألفت من راحة ورخاء ونعمة لتقف إلى جانبه في أحلك أوقات المحنة وتعينه على احتمال أفدح ألوان الأذى وصفوف الاضطهاد في سبيل ما تؤمن به من الحق ؟ ... كلا ..
بل هي وحدها التي منّ الله عليها بأن ملأت حياة الرجل الموعود بالنبوة سعادة وصبورًا.
بارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية
وأعلنت قريش مقاطعتها للمسلمين لتحاصرها سياسيًا واقتصاديًا، وسجلت مقاطعتها في صحيفة علقت في جوف الكعبة.
وحوصر المسلمون في شعب أبي طالب، فدخلت الطاهرة المطهرة مع رسول الله والمسلمين الشعب، ومرت الأيام، ودار الحول تلو الحول، ومضت ثلاث سنوات عجاف على المسلمين ..
كانت أيامهم فيها أيام شدة وضيق، وصبروا صبر الكرام لهذه المحنة العظيمة.. حتى فرّج الله عنهم.
ولكن أُمنا خديجة رضي الله عنها لم تلبث إلا قليلاً بعد الخروج حتى ذبلت ودبَّ الوهن في جسدها الطاهرة ..(/2)
وفي يوم موعود لبّت خديجة نداء ربها راضية مرضية قبل الهجرة بثلاث سنين، ودفنت في جبل بأعلى مكة عند مدافن أهلها، وأدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبرها بيده الشريفة.
قضت خديجة في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أشق مراحل الدعوة، فكانت في حياتها معه أوفى حياة زوجة لزوجها، وأبر شريكة لشريكها، تشاركه مباهجه ومسراته، تخدمه في بيتها وعقلها وروحها ووجدانها، وترد عنه عاديات الحياة بين قومه.
أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد)).
وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع خطوط في الأرض ثم قال: ((هل تعلمون ما هذا، قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)).
روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كان إذا ذبح الشاة قال: ((أرسلوا إلى أصدقاء خديجة. فذكرت له يومًا، فقال: إني لأحب حبيبها)).
وفي رواية: ((إني رزقت حبها)).
روت عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي عليه السلام وهو عندي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أنت؟))، قالت: أنا جثامة المزنية، قال: ((بل أنت حسّانة المزنية، كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدها؟)).
قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله ..
فلما خرجت، قلت: يا رسول الله، تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال، قال: ((إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)).
روى أحمد بسند جيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يومًا فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله تعالى خيرًا منها ..
فقال: ((ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها، قد آمنت بي وكفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله تعالى أولادها إذ حرمني أولاد النساء)).
هذه خديجة، يعلونا الفخر والعز إذ نعلم أنها أمنًا.
فلو كان النساء كما ذكرنا لفضلت النساء على الرجال.(/3)
خريف الليبرالية نظرات في أزمة الليبراليين
مع حدث الاستهزاء بالنبي الأمين -صلى الله عليه وسلم-
عبدالله بن صالح العجيري
إن في حالة الغضب التي تعيشها الأمة اليوم تعبيراً صادقاً عن المحبة التي تملأ النفوس، وتعتلج في القلوب، وتسري في الأرواح، تجاه النبي -صلى الله عليه وسلم-، أشرف الناس، وأحسن الناس، وسيد الناس، بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-. وهذا الغضب هو الحق الأول الذي تقدمه الأمة نصرةً لنبيها الكريم -صلى الله عليه وسلم-، والذي يستتبع حقوقاً وواجبات أخر؛ إنه الغضب الواجب الذي سنّه لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين نرى محارم الله تنتهك، وهو الغضب الذي يزعج البدن للتحرك، والعقل للتفكير طلباً للنصرة، كلٌّ بحسبه، وحسب موقعه، وعلى وسعه وطاقته، بالحكمة التي تصلح ولا تفسد، وتبني ولا تهدم، فلا تهوُّر ولا طيش، ولا كسل، بل وضع للشيء في موضعه المناسب، وفي وقته الصحيح.
وإن فيما يرى من مظاهر الغضب والنصرة لدليل على الخير المتأصل في كيان هذه الأمة والمستقر في وجدانها، وهل كان يُنتظر من أمة الإسلام إلا هذا؟ وهل كان يُظن بها إلا ما وقع؟ إنها أيام الغضب والفرح، الغضب للرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى أعداء الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والفرح بنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وما تحقق للأمة من مكاسب ونجاحات، لكن مما يؤلم ويؤذي ما يُرى من إعراض بعضٍ عن مشاركة الأمة غضبتها، بل نصرتها لنبيها -صلى الله عليه وسلم-، فخنسوا وسكتوا، ثم سكتوا، ثم نطقوا فبئس ما نطقوا؛ وليتهم ما فعلوا؛ فلا هم بالذين نصروا النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا هم بالذين تركوا الأمة وخيارها يعملون في نصرته، إنهم مسوخ بشرية القالب ناطقة بالعربية والضاد لكن القلب غربي الهوى، قد ركبوا موجة الأحداث لكن في الوقت الضائع، وسبحوا في بحرها لكن بعكس التيار، ليثبتوا للأمة أنهم في واد والأمة كلها في واد آخر؛ فلا الهمُّ هو الهمُّ، ولا القضية هي القضية، ولا المصالح هي المصالح. لهم برنامجهم الخاص الذي يريدون تمريره، ولهم خطتهم التي يريدون تنفيذها، قد وجدوا في الأحداث تعطيلاً للمخطط، وعائقاً لتمرير المشروع، فأخذوا في الالتفاف حول الحدث محاولين تجاوز العوائق، ولملمة المشروع، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فخرجوا من بعد صمت ليدعوا الأمة إلى التسامح والعفو والتهدئة، في وقت يأبى العدو أن يتقدم باعتذار، بل يزيد من سخريته وباستهتار، وكتبوا ليجرُّوا الأمة لمعركة داخلية، بدل توحيد الصف لصدِّ الهجمة الخارجية، ونطقوا بالسوء لتصفية الحسابات وتوزيع التهم وكيْل الشتائم، وكان الظن أن مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- محل وفاق وكلمة إجماع، وأن هذا المقام متى مُسّ فالكل سيقول كلمته الواضحة البينة في نصرته -صلى الله عليه وسلم-؛ لا التواء فيها ولا غموض، فخيّب القوم الظن وأظهروا قبيح ما تكنّه الأفئدة والقلوب، فطعنوا الأمة في الظهر، وحاولوا الاصطياد في الماء العكر، وأقدموا على تفريق الصف في ظرفٍ الأمة كلها مستنفرة في وجه عدو واحد، فأضحى كشف هذا التوجه المشؤوم واجبنا نصرةً للنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، ونصحاً للأمة، وفضحاً لهذا التيار، وتسجيلاً لمواقف السوء هذه ليحفظها التاريخ: {إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
من دعوات التيار الليبرالي ـ والتي بدأت تتضح أبعادها، وتتكشف ملامحها ـ دعوتهم إلى (التسامح مع الآخر) والتي علا صوتهم بها، وتتابعت كتاباتهم فيها، والتسامح متى وضع في موضعه الصالح له واللائق به كان خُلُقاً إسلامياً مندوباً إليه، لا شك في ذلك ولا ارتياب، شأنه في ذلك شأن غيره من الأخلاق، لكنهم بما يسطرون اليوم يكشفون عن حقيقة دعوتهم المشبوهة هذه، وأن التسامح المطلوب ليس هو ذاك التسامح الشرعي الذي جاء الحضُّ عليه والأمر به، كلاَّ؛ إنما هو لون جديد من التسامح أبعد مدى وأوسع مساحة، إنه التسامح مع من اعتدى، وأذلّ، وأهان، ووجّه الصفعة بعد الصفعة، وأعظم في الفِرية، ويدَّعون أن هذا سنة نبوية، وطريقة محمدية؛ فهل على الآخذ به من ملام؟ وما علم القوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حكيماً بل سيد الحكماء، يزن الأمور بالعدل، ويضع الدواء على الجرح، ويقدِّر المصالح والعواقب؛ فكما ترك عبدَ الله بن أبيّ بن سلول ـ زعيم المنافقين ـ بلا عقاب، أخذ عقبةَ بن أبي معيط بما أساء. وكما قال لقريش: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» أمر بقتل ابن خطل ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة. وهكذا، فليس الأمر ـ كما يراد تصويره ـ تسامحاً مطلقاً، أو عقاباً مطلقاً، وإنما الأمر إلباس كل حدث لبوسه، وإعطاء كل مسألة حقها. وأحسب أن ما يجري اليوم من انتهاكات صارخة لدين الإسلام ونبي الإسلام لا محل فيه للتغافر والمسامحة والتجاوز، وإنما الواجب القيام بالنصرة، والغضب لله، واستيفاء الحقوق.(/1)
أما دعوة الأمة إلى التغافل عن حجم المأساة، والإعراض عن عظم الجريمة، وفتح أبواب التسامح والمسامحة للمخطئين، وأن يقتصر النقد ـ إن كان ـ على الكلمة الطيبة، والعبارة اللينة، والأسلوب الهادئ، من غير جرح شعور ولا إيلام، وكأن الأمة هي الجانية لا المجني عليها، وكأننا مَنْ ظَلَمْنا لا من ظُلمنا، وكأن الاعتداء واقع منا لا بنا؛ فليس بصحيح ولا مشروع، بل بَذْلُه والحالة هذه مناقضة لمثل قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: ]، والقوم ظالمون ما في ذلك من شك.
إن التسامح المشروع لا يكون إلا إذا صادف محلاً مناسباً، وإن أولئك المستهزئين بمقامه -صلى الله عليه وسلم- ليسوا موضعاً صالحاً للتسامح، وإن التسامح مع أولئك المجرمين جريمة شرعية لا يجوز أن يكون بحال، وليس للأمة الحق في التنازل عن حقه الشريف -صلى الله عليه وسلم- تحت لافتة التسامح والمسامحة، وليت شعري أي عيش يبقى وأي حياة تطيب يوم يمس جناب النبي -صلى الله عليه وسلم- والأمة تقف موقف المتفرج المتسامح، المتغاضية عن صفعات الخصوم، والتي لا تطالب بحقها، فإن طلبته فعلى استحياء؟ إن إجماع الأمة عامة منعقد على حرمة التسامح مع من سبّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما قال عالم ولا شبه عالم بمثل ما يريده هؤلاء منا، وفي كتاب «الصارم المسلول على شاتم الرسول» لشيخ الإسلام ابن تيمية عظة وعبرة.
والقوم بدعوتهم للتسامح والتغافر والتجاوز عن الإساءة يلملمون ما تبقى من مشروعهم الخاسر (التقارب والتقريب بين المسلم والكافر) تحت شعارات التعايش والتسامح والسلام، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخطط إلغاء عقيدة الولاء والبراء، وهم معذورون فيما يفعلون، فالخطب جلل، والأمر عظيم، والأحداث تجري على خلاف الهوى والمخطط، فليس لهم إلا هذا المركب الصعب ليركبوه ولعل وعسى. لقد ظهر للجميع حقيقة حال (الآخر)! منا، واستبان للناس مدى الاحترام الذي تكنّه صدروهم وقلوبهم لنا ولديننا، وأن الأحقاد الصليبية لا تزال تتسكع على الجسد الأوروبي، وأن النظرة السلبية للمسلمين لا زالت المسيطرة على المشهد الغربي، وأنهم لا زالوا يعانون من عقدة (الإسلاموفوبيا)، وأقوال عقلائهم ومنصفيهم شاهدة بهذا وما أكثرها! وتاريخ الأمة السابق وواقعها المعاش خير شاهد، وإن تغافل عن هذا كله المستغربون ولجوا وجعجعوا. بالله عليكم! أي حقد وبغض أظهر مما وقع وجرى حيال نبي أمة المليار مسلم؟ وأي طعنة أنفذ وأنكى من هذه الطعنة؟ وأي إهانة وصفعة وركلة أشد من هذه الإهانة؟ ثم يكبر على أولئك الظالمين بعد هذا كله أن يقدموا كلمة (اعتذار)؛ فكيف بما فوقه؟ وقد اتضح للجميع أن مقام نبينا -صلى الله عليه وسلم- وأمته من بعده لا تساوي عندهم شيئاً في مقابل حقهم ـ المزعوم ـ في ممارسة حرية التعبير، وإن فيما نرى من تسارع محموم لنشر صور الإفك هذه، وذلك التعاضد والتناصر الذي يُرى، والتصريحات العدائية التي نتلقاها عن اليمين والشمال لدلالة على أن الأمر أكبر مما نظن، وأنه أوسع دائرة مما نحسب، وصدق الله القائل: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].
من غرائب المواقف المثبَتَة على هذا التيار تبرير ما وقع من اعتداء، والاعتذار عما حصل من إساءة، والمدافعة عن المجرمين المعتدين، في محاولة لامتصاص الغضب والتهدئة، وذلك بمختلف التبريرات، وأنواع الاعتذارات؛ فبعضهم(1) يصرح بأن المسلمين هم السبب فيما وقع، على قاعدة «لعن الله من لعن والديه، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أم الرجل فيسب أمه»! فما وقع من اعتداء على جناب النبي -صلى الله عليه وسلم- حلقة في سلسلة من الاعتداء المتبادل والذي انتهى إلى ما انتهى إليه، هكذا والله يسطرون، وهكذا يحمّلون أهل الإسلام تبعة ما جرى، ويجري، وكأنهم ليسوا منا، وكأنهم الناطق الرسمي باسم المعتدين، إنهم بمنطقهم الغريب هذا يقلبون الطاولة على أهل الإسلام فيجعلونهم معتدِين بعد أن كانوا مُعتدَى عليهم، ويُظهرونهم في مظهر الظالم بدل أن يكونوا مظلومين، و (البادي أظلم)! إن الدعاوى من أسهل الأمور، ووضع (السيناريو) على حسب المزاج من أيسر الأشياء، لكن الصعب تقديم الأدلة، ووضع البراهين، وسياق الحجج، وإلا فليخبرونا عن هذا المسلسل المزعوم في الدانمارك والذي أدى إلى ما نرى ونسمع: متى ابتدأ، وكيف كانت حلقاته، وأين مجال الاعتداء من الطرف الإسلامي الذي استفز مخالفيه فقالوا ما قالوا، وأقدموا على ما أقدموا عليه؟ فإن عجزوا وخرجوا من هذه صفر اليدين ـ وإنهم لخارجون بها ـ فسقطة تستدعي تراجعاً وأوْبة، ولا يخفى أن المسألة أعمق غوراً من مجرد التهارج والجهل بين فئات محدودة من هنا وهناك كما يظهر لكل ناظر في مسلسل الأحداث.(/2)
والقوم في دفاعهم المشبوه هذا يذهبون إلى أبعد من هذا في تحميل المسلمين مسؤولية الأحداث، وأن السبب في استفحال الأمر عدم كفاءة القيادات الإسلامية بالدانمارك في معالجة المشكلة بالأساليب القانونية، وفشلهم في رفع الدعاوى القضائية(2)، وكأن المسكين لا يعلم أن المسلمين هناك قد بذلوا الجهد في إيصال صوتهم لكنهم قوبلوا بالغطرسة والعنجهية الدانماركية، هذه الغطرسة التي تأبى على القوم تقديم الاعتذار الصريح مع التصعيد الحاصل؛ فكيف ولمّا يتم التصعيد؟ إن طلب المسلمين ـ يا أستاذ ـ برفع القضية قد رُفض، بل رفض رئيس الوزراء الدانماركي استقبال السفراء العرب، لقد سدت الأبواب، وأغلقت المنافذ، وهُمّش المسلمون؛ فكيف يحملون تبعة هذه الجريمة يا فهيم؟
وأطرف من هذا وأغرب ما سطره آخر زاعماً أن جميع ما يرى من أحداث إنما هو بتدبير جماعات ذات صلة بتنظيم (القاعدة)! إي والله! وذلك لتعكير أجواء الصفاء بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، ولئلا يقال متقوّل أو مفتر أسوق هذا النص لأحدهم بحروفه يقول: (وتقول مصادر مخابرات أوروبية، وبلد إسلامي أفريقي أنها حذرت بلداناً الإسلامية من خطة يدبرها «ناشطون دانماركيون» مع «منظمات سرية» يحتمل اختراقها من القاعدة، تهدف لصدام بين الغرب والمسلمين، وهو من أهداف زعماء الإرهاب، أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وبدلاً من أن تأمر الحكومات الإسلامية مخابراتها بالتحقيق في مصادر تمويل حملة «أئمة كوبنهاجن» وصلاتهم بالإخوان والطالبان وجماعات تخريب أخرى تعمل في الظلام، استغل بعضها الأزمة لصالح أجندتهم السياسية)(3)، أرأيتم كيف يتم الاستغفال، وتمرر الأكاذيب، وتنشر الشائعات؟ ألم أقل لكم إن الخطب جلل، وإن الأمر صعب، وإن الأحداث قد آذت أهل هذا التيار، فولجوا هذا السبيل، وسلكوا هذا الطريق، لعلهم يثوِّرون في سماء الحقيقة الغبارَ، أو يغطون شمسها عن الأبصار، لكن للناس عقول، ولعل عقول القوم في إجازة.
ومن غريب ما يعتذر به القوم عن الإساءة الواقعة، وما يقدمونه من تبريرات، الزعم بأن ما وقع من سخرية واستهزاء عائد إلى طبيعة الدانماركيين المتفلتة، وهوسهم بالتحرر والانطلاق، وعشقهم لحرية التعبير، مع عدم التدين، وعدم الإيمان، وأنه ليس ثمة حقد مزعوم، ولا عداوة متوهمة، ولا قضية بينهم وبين رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، فلا ينبغي أن تُضخَّم المسألة، وأن تُخرَج عن هذا السياق؛ فالأمر لا يعدو أن يكون سوء تفاهم، وعدم تقدير للعواقب ليس إلا، وأن إخراج القضية عن هذا الإطار تصعيد لا مصلحة فيه، بل هو تصعيد مقصود لأهداف تحتية، ومصالح شخصية، ومكاسب فئوية(4)، بل إثارة الموضوع أصلاً وإخراجه من الصعيد المحلي الدانماركي ليكون شأناً عالمياً غير صحيح، وأن الواجب محاسبة المسؤولين عن هذه (الشوشرة العالمية)(5) التي لا فائدة فيها، ولا أدري لِمَ التغابي عما وقع، ولِمَ التعامي عما حدث، ولِمَ لا ينصف القوم ويُقرون بالحقائق كما هي بموضوعية وعدل، وينظرون فيما يجري على الأرض كما هو، لا أن يسعوا في ليّ عنق الأحداث لأفكار مسبّقة، ويحمِّلوا الواقع ما لا يحتمل. ما نُشِر إساءةٌ، وما نُشِر دليل على صورة نمطية سلبية للإسلام، وما نُشِر ينمّ عن عداوة مستقرة في النفوس، هكذا هو الأمر ببساطة ومن غير تعقيد، وبالله عليكم مَنْ نظر في تلكم الصور الآثمة هل يظن في راسمها أنه محب للنبي -صلى الله عليه وسلم- أو على الأقل محايد في نظرته إليه أم أنه مبغض له معادٍ؟ ألم يصوروه مرتدياً عمامة على صورة قنبلة إشارة إلى دمويته، وأنه لا يعدو أن يكون إرهابياً، والإرهابي عدو؟ ألم يصوروه بصورة قبيحة حاملاً في يده خنجراً كأنه جزار ومن خلفه امرأتان منقبتان؟ بل صوروه بما هو أقبح وأشنع؛ بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-. أهكذا يصورون نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ثم يأتي من يزايد علينا، ويريد إقناعنا بأنه ليس ثمة عداوة ولا حقد ولا كراهية ولا شحناء؟! إن في هذا الاستهزاء المشين بمقام نبينا الأمين لدليل على قبيح ما يضمرونه حيال نبينا وديننا، وفي تصريحاتهم وكلماتهم ومواقفهم ما يدل على أن الأمر ليس تسلية بريئة، أو تجاوزاً ينبغي أن يتغاضى عنه، كلاَّ، إنه خطأ، وإنه اعتداء، وإنه جريمة لا ينبغي السكوت عليها، فأقصروا عن التبرير والمدافعة، وانأوا بأنفسكم عن السقوط في هذه الهوة؛ فإنها سقطة يوشك أن لا تقوموا بعدها؛ فالناس تحفظ، والتاريخ يسجل، ولا مخرج لكم إلا إعلان البراءة مما سطرتموه، ولعل وعسى.(/3)
من قبائح هذا التيار وأهله أنهم سعوا في مثل هذا الظرف الذي تعيشه الأمة إلى افتعال المعارك، وإشعال الخصومات، في محاولة لصرف المعركة الحاصلة بين المسلمين والمعتدين على جناب النبي -صلى الله عليه وسلم-، لتحول المسألة إلى لون من الاحتراب الداخلي، هذا منتصر غالب، وذاك منهزم خاسر، هذا (ربيع المتطرفين)(1)، وهذا أوان المتشددين (وصناع الكوابيس)(2)، تصفية للحسابات، وإلقاء للاتهامات، وإنقاذ لما يمكن إنقاذه من مشاريع ومخططات، فصوَّروا ما يُرى من ردة الفعل الشعبية، وهذا الحراك العام تجاه ما وقع من عداء سافر، بأنه كان بمؤامرة وتخطيط، وأن الأمر قد بُيّت بليل بهيم، وأن الأمر لا يعدو أن يكون تحريكاً من صناع الكوابيس أهل التباغض والعداوة والشحناء، وأن الأمة قد تبعتهم كالقطيع يتبع راعيه، من غير فكر ولا تروٍّ، سمعوا لهم وأطاعوا، وأنصتوا إليهم وأجابوا، وما علم القوم أن هذه الحمية التي وقعت، وهذه الكراهية التي ظهرت، إنما هي بسبب الغضبة الإيمانية التي تجري في شرايين هذه الأمة، غضباً لله ورسوله، والذي لا يكون المؤمن مؤمناً إلا به؛ فليس ثمة استلاب مزعوم، ولا تحريك مدعى إلا تحريك عقيدة الأمة للأمة؛ وإلا فبالله عليكم من حرّك جمهور المسلمين للمقاطعة مثلاً: أفتوى أطلقها فلان أو فلان، أو توجيه من علاّن؟ أم الواقع شاهد بأنها حركة شعبية عامة ابتدأت منها وانتهت إليها، ووجد المسلمون أنفسهم منقادين لها قياماً بواجب نصرته -صلى الله عليه وسلم- وذباً عن حياضه؟ إن الموقف من الرسول -صلى الله عليه وسلم- قضية جوهرية مشتركة بين كل منتسب للإسلام، سنّياً كان أو بدعياً، عدلاً كان أو فاسقاً، فلا يُلام مسلم على غضب يغضبه أو كراهية وبغض تقع في قلبه متى مُسّ مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بتعدٍّ واستهزاء، بل الملام من لم يغضب ولم يمتلئ قلبه من الكراهية والبغضاء لكل متسبب فيها، إن تصوير الحدث على هذا النحو تصوير مغلوط، وإنه لمن سوء الظن بالناس، وإنه لعقدة يجب عليهم أن يتخلوا عنها، وطريقة يجب عليهم أن يتجنبوها. إن الظرف حساس، والأمر عظيم، والانتهاك صارخ، ونحن في غنى عن افتعال المعارك، واستحداث الأزمات. إن هَمّ المسلمين الأوحد هو الانتصار للنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، على مختلف مذاهبهم، وطرائقهم، وفصائلهم؛ فإن شئتم أن تكونوا معهم في سفينة النجاة فاركبوا بشرط أن تتركوها تجري وألا تسعوا في خرقها وإغراقها.
مساكين هم أدعياء الليبرالية عندنا، مستوردو القيم والأفكار والمناهج الغربية، الذين حاولوا إقناع الأمة بالإقبال على الحضارة الغربية بكليتها، بخيرها وشرها، بحلوها ومرّها، بما يُحب منها وما يُكره، وصاحوا بأنه لا محلّ للانتقاء، فليست الحضارة (بقالة) تأخذ منها وتذر، إنما تؤخذ جميعاً أو تترك جميعاً، ولا مجال للترك!
مساكين هم لطالما أُحرجوا من مصدِّري الأفكار، وبائعي القيم، تلك القيم التي شهد العالم أجمع زيفها وهزالها؛ فكم تشدق الغرب بحقوق الإنسان، وأضحى الجميع يعلم مواصفات هذا الإنسان محل الرعاية وصاحب الحقوق، شرَّقوا وغرَّبوا بالدعوة إلى الديمقراطية، ثم أرادوا فرضها بالعصا الغليظة وبالدكتاتورية، تنادوا للتسامح ثم وأدوه في معتقلاتهم وسجونهم في «أبو غريب وغوانتنامو» وغيرها، واليوم الأمة مدعوة إلى النظر إلى قيمة غربية جديدة، تظهر نفسها للعالم في أقبح صورة، وأكلح وجه، إنها (حرية التعبير)، الحرية التي لا تعرف الحدود ولا القيود؛ ولا محرم فيها ولا محظور، حرية لا عيب فيها، حرية لا يعدلها في القداسة قيمة أخرى، حتى أضحت الحرية اليوم أقدس من الرب ـ جل وعلا ـ في الضمير الغربي؛ فلهم أن يتكلموا عن الرب بما شاؤوا، وكيف شاؤوا، ممارسةً لحرية التعبير، (نعم لنا الحق أن نرسم كاريكاتيراً عن الله)! كما قالها شقي من أشقيائهم عليه من الله ما يستحق، أما انتقاد حرية التعبير أو المساس من جنابها المقدس، فحرام حتى على (حرية التعبير)!! لقد قالها المخلصون من قبل: «إن الحرية المزعومة عند دعاة الليبرالية ليس لها حدود تقف عندها، فلا شرع يحوطها، ولا عقل يحرسها» وانظروا كيف ينتقدون الثوابت تحت شعارات الحق النسبي!
وانظروا كيف يطعنون في المسلّمات عبر بوابة حرية التعبير! وقد دفع الليبراليون عندنا التهمة ما استطاعوا وأنكروا، وقالوا: سوء فهم لليبرالية، وسوء ظن بالليبراليين، وجهل بالثوابت، وجهل بالمسلَّمات، ثم تجيء الليبرالية الأصلية اليوم، الليبرالية الأم، والْمُصدّر الأساس للفكرة لتقولها بملء الفم: ليس لحرية التعبير حد تنتهي إليه، وليس لأحد الحق في المساس من جنابها المقدس أو النيل منها، والحرية متى قُيِّدت لم تعد حرية، وصار صاحبها أسير القيد، فلا ثوابت ولا مسلَّمات، بل الكل خاضع للنقد، بل وللاستهزاء والسخرية.(/4)
إن العالم الغربي يعيش أزمة حقيقية حيال هذه القيمة التي ضخمت وضخمت حتى غدت ديناً جديداً يعبد فيها صاحبها هواه من دون الله، ولم تعد للقيم الإنسانية والمفاهيم البشرية ما يكافئها وما يدانيها، وما أزمتنا التي نعيشها اليوم معهم حيال ما وقع وجرى لنبينا -صلى الله عليه وسلم- إلا أنموذج لتضخم هذه القيمة عندهم حتى يوشك أن يتلفهم ويهلكهم وقد فعل. لقد اعتذروا لنا عن الاعتذار بدعوى حرية التعبير، وصار السب والاستهزاء حقاً مكفولاً ترعاه الحكومات والدول الغربية تحت هذا البند (حرية التعبير)، وصار معتنقو هذا المبدأ ـ وهم كثرة كاثرة ـ مشاريع سب وشتيمة وإن لم يمارسوه؛ إذ هم يبيحونه ويجوِّزونه وكفى بها جريمة، ومن رضي بما وقع كمن فعل وقال. لقد أظهروا تضامنهم وتآزرهم لضمان حقهم في حرية التعبير بإعادة نشر الصور هنا وهناك، وليذهب المسلمون إلى الجحيم! وأعلنوا لنا مراراً أنهم غير مستعدين للتنازل عن حقهم المزعوم هذا لأي كان، بل قال رئيس الوزراء الدانماركي: (القضية تتركز على حرية التعبير في الغرب مقابل المحرمات في الاسلام)، وهكذا يريدون إقناعنا بقيمة حرية التعبير عندهم، وأنه لا محل للتفاوض حولها، ولا مجال للأخذ والعطاء، ثم يأتي الليبراليون ويريدون إقناعنا باعتذارهم السخيف هذا، فيقولون فيه: اعتذار (حقيقي) و (صحيح)(1)! بل وتجاوزوا هذا ليؤكدوا على قداسة حرية التعبير وعدم تقبل فكرة التدخل في الصحافة على أي وجه وأي صورة(2)، حتى إنهم طعنوا في مواقف بعض الكفار الإيجابية من الأزمة واتهموهم بالانتهازية وأن الواجب عليهم (التأكيد على مبادئ حرية التعبير واحترام القانون)(3)! وأن ما يُرى من تهويل المسلمين لما وقع في جناب النبي -صلى الله عليه وسلم- عائد إلى عدم ممارستهم هذه الحرية جرَّاء ما يعانونه من قمع وكبت، ولو أنهم ذاقوا طعمها لما قاموا ولما تحركوا، فسحقاً لهم ولحريتهم المزعومة هذه، وهكذا يكون انتصار الليبراليين لقضايانا وإلا فلا! وبهذه المواقف يؤكد الليبراليون انسلاخهم عن الأمة فكراً ومنهجاً وسلوكاً.
ومع ما تقدم فمن العجيب أن فقاعة (حرية التعبير) هذه لا تلبث أن تتوارى خجلاً إن مُسّ جناب اليهود، أو طُعن في السامية، أو شُكك في محرقة (الهولكست)، ليعلم الجميع أن الحضارة الغربية حضارة ازدواجية، حضارة الكيل بمكيالين، لا أخلاق ولا قيم تقوم عليها، ولا مبادئ تستمر عليها، إنما القيمة المقدسة الوحيدة عندهم ـ على الحقيقة ـ المصلحة ليس إلا؛ فأينما كانت المصلحة فثمّ دينهم وشرعهم، وإن داسوا في سبيل تحصيلها الأديانَ والمبادئ والقيم.
وانظر إليهم ـ اليوم ـ كيف يتواصون بحرية التعبير ويتنادون بها، ثم يستنفرون العالم للضغط على الشعوب المسلمة لوقف ثورة الغضب وإنهاء حالة المقاطعة، وكأن حق التعبير حق خاص بهم فقط، وأن الشعوب المسلمة حقها الكبت والحرمان.
إن ما يجري على الساحة من منازعة ومخاصمة حول حرية التعبير وحدوده قد كشف عن سوءة العالم الغربي والحضارة الغربية، وإن ما يُرى من التهارج حول حرية التعبير لمحرج جداً لليبراليي الداخل، الذين أفنوا أعمارهم في التغني بالقيم الغربية، والحضارة الغربية، ثم تفجؤهم اللطمة بعد اللطمة لعلهم يتنبهون، ومن غفوتهم يستيقظون، وعلى دينهم يُقبلون، فيطلعوا على زيف القيم، وهشاشة الحضارة، حضارة الغرب التي لا روح فيها ولا خُلُق، حضارة اللاّدين التي لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً إلا ما أُشرب من هواها، فيتوقفوا عن التوريد، ويقاطعوا تلكم الأفكار، ويكشفوا الزيف، ويفضحوا الباطل، فيكفّروا عما تقدّم من خطايا عسى أن يُغفر لهم.(/5)
مما جعجع به الليبراليون وهوَّلوا حوله الأغلبية الصامتة في المجتمعات المسلمة؛ فما إن يقع لخصومهم من الإسلاميين انتصار إلا وتراهم يسارعون: لا تفرحوا؛ فالجمهور ليس معكم، و (الأغلبية صامتة). والناظر في العالم الإسلامي شرقاً وغرباً يشهد الحضور الشعبي الواسع الداعم للحركة الإسلامية، لكن القوم يتعامون عنه ويصمّون الآذان، موهمين أنفسهم أن (الأغلبية الصامتة) معهم، وأنها غير موافقة لما يدور على الساحة، وما يقع على الأرض، لكن اللافت للنظر في هذا الحدث أن الأمة كلها قد قالت كلمتها، وعبرت عن رأيها بوضوح (إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)! وأجمعت على خيار المقاطعة الشعبية العامة للبضائع الدانماركية؛ فماذا كانت النتيجة حين غدت الأمة (أغلبية ناطقة)؟ لقد وسمهم أولئك بالغوغائية، وقصر النظر، وأنهم لا عقول لهم تحركهم وإنما المحرك العواطف ليس إلا، وأنهم مسلوبو العقول، ولولا الخوف منهم لنطق العقلاء (وهم الليبراليون طبعاً) وبيّنوا الواجب، لكنهم خنسوا لجبنهم أدام الله عليهم هذا الجبن؛ فإن تشجعوا وتكلموا فإشارة هنا وكليمة هناك، وقذف للحجر من مكان بعيد، والجريء من يتستر خلف الألفاظ ويتوارى خلف المصطلحات؛ فالهجوم اليوم على (صناع الكوابيس)، و(المتطرفين)، و (الغوغاء)، أما تحديد الحقائق، وتسمية الأشياء بمسمياتها، والوضوح في النقد، فهم عنه بمعزل، أليس من الغريب أن دعاة (الرأي والرأي الآخر) قد ضاقوا ذرعاً بالرأي الآخر، فانبروا لـ (مقاطعة المقاطعة) مثلاً، رافعين شعار (لا لمقاطعة البضائع الدانماركية)(1)، متنقِّصين بحماسة ظاهرة خيار الأمة في المقاطعة بأسلوب استفزازي، تصل بصاحبها إلى حد اتهام الأمة بالسطحية والسذاجة، ومتابعة العواطف دون العقول، وأن ما يُرى لا يعدو أن يكون ظاهرة صوتية ليس إلا، وما الأمر إلا كزوبعة في فنجان، هكذا تكون حماستهم لتسجيل مواقفهم في مصادمة الأمة والسبح ضد التيار بدل تسجيل المواقف في موافقة الحق الذي عليه سواد الأمة على مذهب (خالف تعرف)! لينكشف للجميع أنهم ليسوا المؤهلين لنقل همّ الأمة، ونبض الشارع، ومن يطالع طرحهم بهذا الخصوص يعلم أنهم ملفوظون على المستوى الشعبي، وأن ما يسطِّرونه في هذا السياق محل رفض ومقاطعة.
من المظاهر اللافتة للنظر هذا التحرك الليبرالي المشبوه لإنهاء الأزمة بأقل مكاسب ممكنة للمسلمين، وأكبر قدر من الأرباح للمعتدين، وإلا فما الذي يفسر هذا التعجل المريب في نشر وترويج وقبول كل ما يُدَّعى أنه اعتذار لمجرد أنه مصدّر بكلمة (اعتذار)، وإن كان عند أهل البصيرة والعمى ليس اعتذاراً ولا حتى شبه اعتذار(2)؟ وطالع ما شئت من الاعتذارات المقدمة حتى اليوم هل تجد فيها تجريماً لما وقع أو تخطئة لما جرى، غاية الأمر أنهم يقولون: إننا نأسف إن آذينا مشاعركم، لكن لنا الحق في سب نبيكم!! فهل يسمى هذا اعتذاراً يا عباد الله! أم هو جرم جديد يحتاج إلى اعتذار؟ وهل يصح أن تُنهى الأزمة بمثل هذا الكلام، وأن يقال فيهم: «خير الخطائين التوابون»؟(3).
إن الأمة اليوم تقف موقف قوة يمكنها من تحقيق أكبر قدر من المكاسب، ومع كل يوم يمر يكون للأمة الحق في أن ترفع سقف المطالبات، استجابة للواقع وتفاعلاً مع الأحداث، ولو أن أصحاب البقر كانوا أذكياء لأنهوا الأزمة من أولها بالاعتذار الصريح وأغلقوا الملف قبل وصوله للعالم الإسلامي، لكن للغباء والغطرسة الدانماركية ضريبتها والتي يجب أن تؤخذ منهم، ولا يصح أن يُتنازل عنها بحال.
إننا لا نريد التعجيز أو وضع المطالبات الممتنعة المستحيلة في ظرف استضعاف تعيشه الأمة على الصعيد العالمي، لكننا نريد أن نخرج من هذه الأزمة بأكبر قدر من المكاسب والأرباح الممكنة، والتي تكفل لنا وتضمن ـ فيما تضمن ـ حقنا في عدم وقوع مثل هذا الانتهاك مجدداً، وحقنا في نشر ديننا والدعوة إليه كما هو من غير تحريف أو تشويه، وليحفظ التاريخ لنا هذا الموقف وهذه الوقفة، ولتكون الدانمارك أنموذجاً لما يمكن أن يحصل متى ما مُسّ جناب نبينا بسخرية أو استهزاء!
أما محاولة إغلاق ملف القضية بأي وسيلة وكيفما اتفق فخيانة لجناب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته ينبغي أن تكون محل المحاسبة والجزاء، وهي دليل على ضيق عطن بما يحصل. وإن تطويل الأزمة ليست في صالح القوم، ألم أقل إن المشروع الليبرالي معطل، وأن فصل الخريف هذا لا بد أن ينتهي أو يُنهى؟(/6)
خصائص المجتمع الإسلامي
لكل مجتمع من مجتمعات الأرض خصائصه التي يتميَّزُ بها عن غيرِهِ من المجتمعات، وللمجتمع الإسلامي خصائص نادرة لا تُوجَدُ في مجتمع غيره، ونعني بالمجتمع الإسلامي المجتمع الذي يريد اللهُ أن يكون عليه الناس، ذلك المجتمع الذي يحمل القيم العليا التي غابت في كثير من أرجاء الأرض اليوم، ولا نقصد بذلك ما عليه المجتمع اليوم من الانحراف عن منهج الله، وإذا وجدت بعض الخصائص الحسنة في مجتمعنا الإسلاميِّ اليوم فإنما هي قليلة بالنسبة لما ينبغي أنْ يكونَ عليه المجتمعُ. وما تقوم به الصحوةُ الإسلاميَّةُ المباركة اليوم عن طريق دُعاتها وعلمائها ما هو إلا بداية انطلاقة للوصول إلى ذلك المجتمع الصالح.
إن أعظم فرق بين المجتمع الإسلامي ومجتمعات الأرض الأخرى أن المجتمع الإسلامي يستمدُّ تصوره ومنهجه من السماء، عن طريق الوحي الذي نزل على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- والذي تكفَّلَ الله بحفظِهِ إلى قيام الساعة، فإذا ما اتضح لنا هذا الأمرُ تبين لنا الفرقُ الهائل بينه وبين مجتمعات الأرض الأُخرى التي تستمدُّ تصورها للكون والحياة وقوانينها التي تحكم أمور حياتها من العقل البشريِّ الضعيفِ، الذي لا يعرف ما يدور حوله من عالم الغيب، وما يحويه عالم الشهادة من الأسرار التي تجهلها تلك العقولُ القاصرة عن تحقيق مصالحها بنفسها، إن الذي خلق هذا الكون الفسيح هو الذي يعلم ما يجري فيه، أفلا يستحق ربنا الخالق الكريم أن يوجِّه الخلق إلى ما يصلح حياتهم ليعيشوا في مجتمعات يملؤها الرضا التام من قبل السماء؟! { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } سورة الملك:1.
إن البشرية يوم أن انحرفت عن منهج الله أصابها البلاء والعذاب الشديد.. هذا من حيث انحراف أمم الأرض غير المسلمة، أما المسلمون على وجه الخصوص فقد وصلوا إلى دركات من الانحطاط لم يبلغها من قبلهم ممن فرطوا في خصائص مجتمعهم.
وما يجب أن تسعى إليه أمة الإسلام اليوم عن طريق علمائها ودعاتها ومفكريها ومثقفيها هو البلوغ بهذه المجتمعات الممزقة التي أهلكتها العادات المخالفة للدين والشهوات المفرطة، والأخلاق السيئة، إلى درجات عليا من درجات الخير والصلاح؛ حتى تكون مهيأة لقيادة الأرض، ويتم ذلك من خلال غرس مبادئ وخصائص المجتمع الإسلامي، عن طريق الكلمة المؤثرة والقدوة الحسنة، والكتاب النافع، والمقالة الهادفة، والأعمال الحسنة..
إن خصائص المجتمع الإسلامي عديدة، ولسوف نذكر منها ما يسمح المقام بذكره، فمن ذلك:
1. مجتمع موحِّد(بكسر الحاء المهملة): إن أعظم خُصُوصية للمجتمع الإسلاميِّ هي التوحيد، فذلك المجتمع يعتقد أن الخالق والرازق والمدبر هو الله، فهو المستحق للعبادة والخضوع والذل والخشوع بين يديه {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} سورة الأنعام: 102، فهو ليس كباقي أمم ومجتمعات الأرض الذين تفرَّقُوا وضلُّوا عن ربهم الواحد، فاعتقد كلُّ فريق منهم أن له رباً له صفات معينة، فمنهم من يعبد الشجر والحجر، ومنهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الحيوانات والبقر، ومنهم من يعبد الحشرات والقذر! فما أعظم المجتمع المسلم حينما يتخذ منهجاً يرضى عنه به ربُّ السماء الذي خلق الشجر والحجر والشمس والقمر وكل موجود، ما أعقل هذا المجتمع وقد دله عقله وشرع نبيه على عبادة رب واحد حكيم!. والمتأمل في القرآن الكريم يجد أنه يقرر هذه الحقيقة في أكثر آياته فيقول: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } سورة الأعراف:54-55، فدعاء الله والتضرع بين يديه وترك الالتجاء إلى من دونه هو التوحيد وهو أساس العبادة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الدعاء هو العبادة)(1) فتحقيق التوحيد أهم خصائص المجتمع الإسلامي.(/1)
2. مجتمع موحَّد(بفتح الحاء المهملة): ونعني بهذا أن هذا المجتمع الإسلاميَّ تربطه رابطةٌ واحدةٌ هي رابطةُ الإسلام الحقِّ الذي نزل على محمد-صلى الله عليه وسلم-، وعلى هذا الأساس يكون الترابطُ في المجتمع، وقد حذَّر الله من التفرق والتمزق داخل هذا الكيان الواحد فقال-تعالى-:{.. وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} سورة الروم:31-32، وأمر الجماعة المسلمة في المجتمع المسلم أن يعتصموا بحبل الله الذي هو القرآن والسنة وما فيهما من الأحكام والأوامر، { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }سورة آل عمران:103، وفي هذه الآية يمتنُّ الله على المجتمع الإسلامي الواحد بأنه ألَّف بين قلوبهم، وله يرجع الفضل في ذلك،وقال في آية أخرى:{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}سورة الأنفال:63. والآيات والأحاديث التي تأمر بالوحدة وتنهى عن التفرق كثيرة جداً، ومن مظاهر الوحدة في المجتمع المسلم:
وحدة الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وزكاة وحج، وتوجه إلى قبلة واحدة.. إلخ، ووحدة الهدف وهو بلوغ رضوان الله -تعالى-،ووحدة في المعاملات التي أمر الله بالقيام بها،ووحدة في الأوطان، فكل بلد ذُكر فيه الله ورُفعت فيه راية لا إله إلا الله فهو بلد المسلم أياً كان، في حين أننا نجد مجتمعات الأرض الأخرى لا تربطهم غالباً سوى رابطة الدول التي يعيشون فيها، فإذا ما رأى الإنسان حالهم وتمزقهم وقتل بعضهم بعضاً على أتفه الأمور لوجد العجب العُجَاب! وهذا التمزق والتفرق موجود في مجتمعات المسلمين اليوم، بل أصبح ظاهرة خطيرة تأكل الأخضر واليابس، لكنه لا يعني أن ذلك المجتمع هو المجتمع الإسلامي الذي نقصده، بل المقصود ذلك المجتمع الذي يلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية، وقد وُجد هذا المجتمع في عصور سابقة,وتحققت فيه كثيرٌ من معاني الإسلام العظيمة، وسيعود ذلك المجتمعُ من جديد –بقدرة الله- ثم بسعي المخلصين من أبناء هذه الأمة.
3. مجتمع مُتعاون مُتراحم:
لم يعرف التاريخُ مجتمعاً مُتعاوناً مُتراحماً كالمجتمع الإسلاميِّ في عُصُورِهِ الزَّاهية، عصور الصحابة والتابعين، وتحقق هذا في عصور لاحقة في بعض بلدان الإسلام وإلى اليوم لا تزال كثير من المجتمعات الإسلامية -بحمد الله- ترحم الصغير، وتكفل المسكين واليتيم، وتقوم على أعمال البر والخير المختلفة، والمجتمع إذ يقوم على ذلك الأساس فإنما يعمل بتوجيه الله له،كما في قوله -سبحانه-:{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة:2، ومن مظاهر هذا التعاون والتراحم:
تقدير الكبار واحترامهم وإكرامهم: وقد بين النبي-صلى الله عليه وسلم- أن من لم يرحم الصغير ويحترم الكبير فهو شاذ عن هذا المجتمع ويُعتبر عضواً فاسداً لا يصلح أن يعيش في هذا المجتمع المتراحم,فقال:(ليسَ منَّا مَن لم يرحم صغيرنا ويوقِّر كبيرنا)(2).
مساعدة المحتاج وتنفيس الكرب عنه: بالدَّين والقرض والسلم والهدية والصدقة والرهن والحوالة وما أشبه ذلك من صور المساعدة التي ترفع الهم والغم عن المكروب، وقد حث رسولُ الله على التعاون والتراحم،فقال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) رواه مسلم وغيره.
4. مجتمع عفيف طاهر: لم يتمرَّغ في أوحال الدنس والقذارة الأخلاقية، فالتلطخ بالفواحش والمفاخرة والمجاهرة بذلك ليست من سمات ذلك المجتمع، وقد جعل الله -تعالى- زواجر وروادع للحيلولة بين المجتمع وبين تلك الفواحش؛ ليبقى المجتمع عفيفاً نظيفاً من كل مظاهر الفاحشة وما يؤدي إليها، فجعل حداً لمن لطخ سمعة نفسه وسمعة المجتمع الطاهرة؛ بأن حكم عليه إن زنى وهو محصن بالرجم حتى الموت، وإن كان بكراً بالجلد مائة جلدة، وما ذلك إلا لترتدع النفوس عن تدنيس الأفراد والمجتمعات.. أين هذا الطهر والتطهير والعفاف من المجتمعات الكافرة اليوم التي امتلأت بأولاد الزنى؟! وأين هذا من المجتمعات التي أصبحت تفاخر وتجاهر بالفاحشة على مستوى العالم! لقد كانت النتيجة بالنسبة لهم مؤلمة وخطيرة، فالأمراض القاتلة تلاحقهم، وشبح الموت لا يفارقهم.(/2)
والمجتمع المسلم يبتعد عن الأسباب التي تدنسه، كالنظر إلى النساء الأجنبيات الذي يعد من وسائل الفاحشة، ومن ذلك سماع الغناء الماجن، والاختلاط بين الرجال والنساء في أي مكان كان، وغير ذلك من الأسباب التي تؤدي إلى انهيار المجتمعات.
إن هذه الصفات التي ذكرت وغيرها امتثلها واتصف بها مجتمع الرسول الكريم، ذلك المجتمع الذي يُعدُّ مقياساً لنجاح كلِّ مَنْ أراد الإصلاح في الأرض، فهو المجتمع الذي حقق المُثُلَ العُليا التي تسعى الصحوةُ الإسلامية اليوم لإعادتها إلى المجتمعات التي عزفت عنها قروناً من الزمن، وإن وجدت في بعضها فليس ذلك الوجود ظاهرة اجتماعية لكل مجتمعات المسلمين اليوم، بل قد توجد تلك الصفات في بيئات نادرة أو أفراد مستقيمين، أو بيوت عامرة بالصلاح والخير يمثل البيت كثيراً من تلك الصفات، أما الناظر إلى حال المسلمين اليوم فسيجد التفريط الواضح في خصائص دينهم، وتشبه بعضهم بالمجتمعات الغربية الكافرة، مما أدى إلى الانفصام النكد بين الأمة ودينها، وقد عانت الأمة من هذا الانفصام على مدى عقود من الزمن، ذلك الانفصام كانت له نتائجه السيئة التي عانى منها ولا يزال يعاني منها المجتمع الإسلامي في كل مكان.. لقد كان من النتائج السيئة التي عانى ويعاني منها المسلمون-بسبب تنصلهم من تلك الخصائص-: الذلة والمهانة وتسلط الأعداء،والتبعية المفرطة لأنظمة الغرب وأفكاره،وبعض مظاهر حياته التي تخصه، والتنكر لثوابت الدين،ورمي الماضي بالتخلف والجمود، والسخرية بشعائر الدين وسننه فضلاً عن القيام بها والاستقامة عليها، وغير ذلك..
لكننا نسأل الله العلي الكبير أن يهيئ لنا مجتمعات صالحة مصلحة، تعبد الله على علم وبصيرة، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتأخذ على يد الظالم وتنصر المظلوم، وتعلي راية الإسلام..
ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين..
________________________________________
1- رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه. وقد صححه الألباني في كتب كثيرة منها: صحيح أبي داود برقم (1312).
2- رواه أحمد والترمذي,وصححه الألباني في صحيح الجامع (5444) وفي غيره.(/3)
خصال البر والتقوى
المقدمة:
الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات، والصلاة والسلام على الشفيع في العرصات، محمد بن عبد الله المؤيد بالمعجزات، وعلى آله وصحبه خير البريات، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم العرض على رب الأرض والسموات.
أما بعد:
فإن الله -سبحانه- قد بين للناس طرق الخير وحثهم عليها، وبين لهم سبل الشر، وحذر من سلوكها، وذلك في كثير من آياته. فمن الآيات التي بين الله فيها طرق الخير قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..} الآية.. فقد تضمنت هذه الآية ذكر جل قواعد وأصول الدين العامة؛ فتضمنت ذكر جُل أركان الإيمان من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، ويدخل فيه ما يكون بعد الموت؛ كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب، والصراط، والميزان، وأخذ الكتاب باليمين، أو الشمال، والجنة، وما ذُكر من نعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب، والسنة عن هذه الأمور مفصلاً أحياناً، ومجملاً أحياناً. وتضمنت ذكر بعض أركان الإسلام، من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة للمستحقين لها، وتضمنت الإشارة أعمال الجوارح؛ كالوفاء بالعهود، وتضمنت الإشارة إلى أعمال الجوارح كالصَّبرِ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. فإلى شرح وجيز لهذه الآية، ثم استخراج بعض الفوائد المستنبطة منها.
الآية:
قال الله -تعالى-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} سورة البقرة: 177.
شرح الآية:
هذه آية كريمة اشتملت على جمل عظيمة، وقواعد مستقيمة، يقول الله- تعالى-: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} "البر" في الأصل الخير الكثير؛ ومنه سمي "البَرّ" لسعته، واتساعه؛ ومنه "البَرّ" اسم من أسماء الله؛ كما قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} سورة الطور 28؛ ومعنى الآية: ليس الخير، أو كثرة الخير، والبركة أن يولي الإنسان وجهه قبل المشرق- أي جهة المشرق؛ أي جهة المغرب. وهذه الآية نزلت توطئة لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ بين الله -عز وجل- فيها أنه ليس البر أن يتوجه الإنسان إلى هذا، أو هذا؛ ليس هذا هو الشأن؛ الشأن إنما هو في الإيمان بالله... إلخ. أما الاتجاه فإنه لا يكون خيراً إلا إذا كان بأمر الله؛ ولا يكون شراً إلا إذا كان مخالفاً لأمر الله؛ فأيّ جهة توجهتم إليها بأمر الله فهو البر. وجاءت الآية بذكر المشرق، والمغرب؛ لأن أظهر، وأبين الجهات هي جهة المشرق، والمغرب. فليس من البر تولية الإنسان وجهه قبل المشرق أو المغرب، ولكن البر يكون بالخصال التالية:
أولاً: الإيمان بالله:
قوله: {ولكن البر من آمن بالله} "الإيمان" في اللغة بمعنى التصديق؛ لكنه إذا قرن بالباء صار تصديقاً متضمناً للطمأنية، والثبات، والقرار؛ فليس مجرد تصديق؛ ولو كان تصديقاً مطلقاً لكان يقال: آمنه- أي صدقه؛ لكن:" آمن به" مضمنة معنى الطمأنينة، والاستقرار لهذا الشيء؛ وإذا عديت باللام- مثل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} سورة العنكبوت26- فمعناه أنها تضمنت معنى الاستسلام والانقياد. والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده، وربوبيته، ، وأولهيته، وأسمائه وصفاته.
ثانياً: الإيمان باليوم الآخر:
قوله: {واليوم الآخر} هو يوم القيامة؛ وسمي آخراً؛ لأنه ليس بعده يوم. ويشمل الإيمان باليوم الآخر؛ الإيمان بكل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله-صلى الله عليه وسلم- مما يكون بعد الموت؛ كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب، والصراط، والميزان، وأخذ الكتاب باليمين، أو الشمال، والجنة، وما ذُكر من نعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب، والسنة عن هذه الأمور مفصلاً أحياناً، ومجملاً أحياناً.
ثالثاً: الإيمان بالملائكة:(/1)
قوله: {والملائكة} جمع ملَك؛ وهم عالَم غيبي خلقهم الله -سبحانه وتعالى- من نور، وذللهم لعبادته، وهم لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهم أجسام ذوو عقول؛ لقوله: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} سورة فاطر1؛ ولقوله تعالى في وصف جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} سورة التكوير19-21.
رابعاً: الإيمان بالكتب:
قوله: {والكتاب}؛ المراد به الجنس؛ فيشمل كل كتاب أنزله الله -عز وجل- على كل رسول، ومن ذلك الإنجيل الذي على موسى، والتوراة على عيسى، والزبور على داود، وصحف إبراهيم وموسى، والفرقان الذي أنزل على محمد- صلى الله عليه وسلم-.
خامساً: الإيمان بالأنبياء:
قوله: {والنبيين} يدخل فيهم الرسل؛ لأن كل رسول فهو نبي، ولا عكس؛ قال الله –تعالى-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} سورة النساء163. وقد ذكر في القرآن أربعة وعشرون رسولاً؛ كما قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ} أي إبراهيم: {إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} سورة الأنعام84-86؛ فهؤلاء ثمانية عشر؛ ويبقى شعيب، وصالح، وهود، وإدريس، وذو الكفل، ومحمد -صلى الله عليه وسلم-.
سادساً: بذل الصدقة للمستحقين:
قوله: {وآتى} أي أعطى؛ {المال} كل عين مباحة النفع سواء كان هذا المال نقداً، أو ثياباً، و طعاماً، أو عقاراً، أو أي شيء. قوله: {على حبه} حال من فاعل {آتى}، يعني حال كونه محباً له لحاجته إليه؛ كالجائع، أو لتعلق نفسه به، مثل أن يعجبه جماله، أو قوته، أو ما أشبه ذلك. والمستحقين للصدقة الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله في قوله –تعالى-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} سورة التوبة 60. وقد ذكر الله منهم في هذه الآية ما يلي:
1. قوله: {ذوي القربى} أي أصحاب القرابة؛ والمراد قرابة المعطي؛ وبدأ بهم قبل كل الأصناف؛ لأن حقهم آكد؛ وقد ذكروا أن القرابة ما جمع بينك وبينهم الجد الرابع. وتصرف الزكاة لهم بشرط أن يكونوا فقراء، ولا تجب على المزكي أن ينفق عليه.
2. قوله: {واليتامى} جمع يتيم؛ وهو من مات أبوه قبل بلوغه من ذكر، أو أنثى؛ فأما من ماتت أمه فليس بيتيم؛ ومن بلغ فليس بيتيم؛ وسمي يتيماً من اليتم؛ وهو الانفراد؛ ولهذا إذا صارت القصيدة جميلة، أو قوية يقولون: هذه الدرة اليتيمة- يعني أنها منفردة ليس لها نظير.
3. قوله: {والمساكين} جمع مسكين؛ وهو الفقير؛ سمي بذلك لأن الفقر أسكنه، وأذله؛ والفقر- أعاذنا الله منه- لا يجعل الإنسان يتكلم بطلاقة؛ هذا في الغالب؛ لأنه يرى نفسه أنه ليس على المستوى الذي يمكنه من التكلم؛ ويرى نفسه أنه لا كلمة له، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"1. واعلم أن الفقير بمعنى المسكين؛ والمسكين بمعنى الفقير؛ إلا إذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى غير الآخر؛ فالفقير أشد حاجة، كما في آية الصدقة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} سورة التوبة60؛ لأن الله بدأ به؛ ويُبدأ بالأحق فالأحق، والأحوج فالأحوج في مقام الإعطاء؛ ويجمعهما - أعني الفقير، والمسكين - أن كلاً منهما ليس عنده ما يكفيه وعائلته من مطعم، ومشرب، وملبس، ومسكن، ومنكح، ومركوب.
4. قوله: {وابن السبيل}؛ "السبيل" بمعنى الطريق؛ والمراد بـ {ابن السبيل} الملازم للطريق؛ وهو المسافر؛ والمسافر يكون في حاجة غالباً، فيحتاج إلى من يعطيه المال؛ ولهذا جعل الله له حظاً من الزكاة؛ فابن السبيل هو المسافر؛ وزاد العلماء قيداً؛ قالوا: المسافر المنقطع به السفر -أي انقطع به السفر؛ فليس معه ما يوصله إلى بلده؛ لأنه إذا كان معه ما يوصله إلى بلده فليس بحاجة؛ فهو والمقيم على حدٍّ سواء؛ فلا تتحقق حاجته إلا إذا انقطع به السفر.(/2)
5. قوله: {والسائلين} جمع سائل؛ وهو المستجدي الذي يطلب أن تعطيه مالاً؛ وإنما كان إعطاؤه من البر؛ لأن معطيه يتصف بصفة الكرماء؛ ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُسأل على الإسلام شيئاً إلا أعطاه؛ والسائل نوعان؛ سائل بلسان المقال: وهو الذي يقول للمسؤول: أعطني كذا؛ وسائل بلسان الحال: وهو الذي يُعَرِّض بالسؤال، ولا يصرح به، مثل أن يأتي على حال تستدعي إعطاءه.
6. قوله: {وفي الرقاب} أي في إعتاق الرقاب، أو فكاكها من الأسر.
سابعاً: إقامة الصلاة:
قوله: {وأقام الصلاة} هذه معطوفة على {آمن} التي هي صلة الموصول؛ فيكون التقدير: ومن أقام الصلاة؛ و{الصلاة} المراد بها الفرض، والنفل؛ وإقامتها الإتيان بها مستقيمة؛ لأن أقام الشيء يعني جعله قائماً مستقيماً؛ وليس المراد بإقامة الصلاة الإعلام بالقيام إليها.
ثامناً: إيتاء الزكاة:
قوله: {وآتى الزكاة} أي أعطى الزكاة مستحقها؛ و"الزكاة" أيضاً من الكلمات التي نقلها الشرع عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي؛ فالزكاة في اللغة من زكا يزكو -أي نما، وزاد؛ وبمعنى الصلاح؛ ومنه قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} سورة الشمس 9. أي أصلحها، وقومها؛ لكن في الشرع "الزكاة" هي التعبد ببذل مال واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة؛ وسميت زكاة؛ لأنها تنمي الخُلق وتنمي المال، وتنمي الثواب؛ تنمي الخُلُق بأن يكون الإنسان بها كريماً من أهل البذل، والجود، والإحسان؛ وهذا لا شك من أفضل الأخلاق شرعاً، وعادة؛ وتنمي المال بالبركة، والحماية، والحفظ؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقصت صدقة من مال"2؛ وتزكي الثواب؛ كما قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} سورة البقرة261؛ وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب؛ فإن الله تعالى يأخذها بيمنيه، فيربيها، كما يربي الإنسان فلوه حتى تكون مثل الجبل"3.
تاسعاً: الوفاء بالعهد:
قوله: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا}؛ {إذا} هنا مجردة من الشرطية؛ فهي ظرفية محضة- يعني: الموفون بعهدهم وقت العهد؛ أي في الحال التي يعاهدون فيها؛ فإذا عاهدوا وفوا. والعهد عهدان عهد مع الله، وعهد مع الخلق، فهم يوفون بالعهدين.
عاشراً: الصبر في السراء والضراء:
قوله: {والصابرين} الصبر حبس النفس على طاعة الله، أو عن معصيته، أو على أقداره المؤلمة. قوله: {في البأساء والضراء وحين البأس}: {البأساء} شدة الفقر؛ ومنه "البؤس" يعني الفقر؛ و{الضراء} المرض؛ و{حين البأس} شدة القتل؛ فهم صابرون في أمور لهم فيها طاقة، وأمور لا طاقة لهم بها؛ {في البأساء} يعني: في حال الفقر؛ لا يحملهم فقرهم على الطمع في أموال الناس، ولا يشكون أمرهم لغير الله؛ بل يصبرون عن المعصية: لا يسرقون، ولا يخونون، ولا يكذبون، ولا يغشون؛ ولا تحملهم الضراء- المرض، وما يضر أبدانهم - على أن يتسخطوا من قضاء الله وقدره؛ بل هم دائماً يقولون بألسنتهم وقلوبهم: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً؛ كذلك حين البأس يصبرون، ولا يولون الأدبار- وهذا صبر على الطاعة؛ فتضمنت هذه الآية: {الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس} الصبر بأنواعه الثلاثة: الصبر عن المعصية؛ وعلى الأقدار المؤلمة؛ وعلى الطاعة؛ والترتيب فيها للانتقال من الأسهل إلى الأشد.
ثواب المتحلي بالصفات السابقة:
قال الله- تعالى-: {أولئك الذين صدقوا} هذه شهادة من الله -عز وجل-؛ وهي أعلى شهادة؛ لأنها شهادة من أعظم شاهد -سبحانه وتعالى-؛ والمشار إليهم كل من اتصف بهذه الصفات؛ والإشارة بالبعيد لما هو قريب لأجل علو مرتبتهم. وقوله: {الذين صدقوا} أي صدقوا الله، وصدقوا عباده بوفائهم بالعهد، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك.
قوله: {وأولئك هم المتقون} أي القائمون بالتقوى؛ و "التقوى" هي اتخاذ الوقاية من عذاب الله -عز وجل- بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ وهذا أجمع ما قيل في تعريف التقوى؛ وتأمل كيف جاءت هذه الجملة بالجملة الاسمية المؤكدة؛ الجملة اسمية لدلالتها على الثبوت، والاستمرار؛ لأن الجملة الاسمية تدل على أنها صفة ملازمة للمتصف بها. وقوله: {وأولئك هم المتقون} هؤلاء جمعوا بين البر والتقوى؛ البر: بالصدق؛ والتقوى: بهذا الوصف: {أولئك هم المتقون}؛ وإنما قلنا: إن الصدق بر؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة"4؛ فجمعوا بين البر والتقوى؛ فهذا ما أمر الله به في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} سورة المائدة2.
فائدة:
العهود عهدان:(/3)
1. عهد مع الله-عز وجل-؛ وعهد مع الخلق. فالعهد الذي مع الله بيّنه في آيات كثيرة، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} سورة الأعراف172، وقوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} سورة المائدة12، وقوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} سورة البقرة40؛ فالعهد الذي عهد الله به إلينا أن نؤمن به رباً، فنرضى بشريعته؛ بل بأحكامه الكونية، والشرعية؛ هذا العهد الذي بيننا، وبين ربنا.
2. العهد الذي بيننا، وبين الناس فأنواعه كثيرة جداً غير محصورة؛ منها العقود، مثل عقد البيع، وعقد الإجارة، وعقد الرهن، وعقد النكاح، وغير ذلك؛ لأنك إذا عقدت مع إنسان التزمت بما يقتضيه ذلك العقد؛ إذاً فكل عقد فهو عهد؛ ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} سورة المائدة 1، وقال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} سورة الإسراء34؛ ومن العهود بين الخلق؛ ما يجري بين المسلمين وبين الكفار؛ وهو ثلاثة أنواع: مؤبد؛ ومقيد؛ ومطلق؛ فأما المؤبد فلا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى إبطال الجهاد؛ وأما المقيد فبحسب الحاجة- وإن طالت المدة على القول الراجح-؛ لأنه عهد دعت إليه الحاجة؛ فيتقيد بقدرها؛ وقيل: لا تجوز الزيادة فيه على عشرة سنوات؛ لأن الأصل وجوب قتال الكفار، وأبيح العهد في عشر سنوات تأسياً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية؛ والصحيح الأول؛ ويجاب عن عهد الحديبية بأن الحادثة لا تقتضي الزيادة؛ وأما المطلق فهو الذي لم يؤبد، ولم يحدد؛ وهو جائز على القول الراجح عند الحاجة إليه؛ فمتى وجد المسلمون الحاجة إليه عقدوه؛ وإذا زالت الحاجة عاملوا الكفار بما تقتضيه الحال؛ ولا حجة للكفار فيه؛ لأنه مطلق. والمعاهدون من الكفار لهم ثلاث حالات؛ الحال الأولى: أن يستقيموا لنا؛ الحالة الثانية: أن يخونوا؛ الحال الثالثة: أن نخاف منهم الخيانة؛ فإن استقاموا لنا وجب علينا أن نستقيم لهم؛ ولا يمكن أن نخون أبداً؛ لقوله تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} سورة التوبة7؛ وإن خانوا انقض عهدهم، ووجب قتالهم؛ لقوله تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} سورة التوبة12؛ وإن خفنا منهم الخيانة وجب أن ننبذ إليهم عهدهم على سواء؛ لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء} سورة الأنفال58، نخبرهم أن لا عهد بيننا ليكونوا على بصيرة.
بعض فوائد الآيات:
1. أن البر حقيقة هو ما أجمل في هذه الآية من الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله،... إلخ.
2. أن هذه الآية قد تضمنت جل قواعد وأصول الدين العامة؛ فتضمنت ذكر جُل أركان الإيمان من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، ويدخل فيه ما يكون بعد الموت؛ كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب، والصراط، والميزان، وأخذ الكتاب باليمين، أو الشمال، والجنة، وما ذُكر من نعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب، والسنة عن هذه الأمور مفصلاً أحياناً، ومجملاً أحياناً.، وتضمنت ذكر بعض أركان الإسلام، من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة للمستحقين لها، وتضمنت الإشارة أعمال الجوارح؛ كالوفاء بالعهود، وتضمنت الإشارة إلى أعمال الجوارح كالصَّبرِ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ.
3. أن الله -سبحانه- دائماً ما يقرن ذكر الإيمان به مع الإيمان باليوم الآخر، وذلك في كثير من الآيات والأحاديث، ففي هذه الآية قدم الإيمان باليوم الآخر على الإيمان الملائكة والكتب والرسل..، وفي الأحاديث مثلاً عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"5. ومثل هذا كثير في السنة.(/4)
4. أن إعطاء المال على حبه من البر؛ وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به، وقال: إن الله يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} سورة آل عمران92.
5. أن إعطاء ذوي القربى أولى من إعطاء اليتامى، والمساكين؛ لأن الله بدأ بهم، فقال تعالى: {وآتى المال على حبه ذوي القربى}.
6. أن لليتامى حقاً؛ لأن الله امتدح من آتاهم المال؛ فقال تعالى: {واليتامى} سواء كانوا فقراء، أم أغنياء.
7. أن إعتاق الرقاب من البر؛ لقوله: {وفي الرقاب}؛ والمال المبذول في الرقاب لا يعطى الرقبة؛ وإنما يعطى مالك الرقبة؛ فلهذا أتى بـ {في} الدالة على الظرفية.
8. أن إقامة الصلاة على وجهها المطلوب شرعاً، وإيتاء الزكاة إلى مستحقيها من البر.
9. الثناء على الموفين بالعهد، وأن الوفاء به من أعمال البر؛ والعهد عهدان: عهد مع الله- عز وجل-؛ وعهد مع الخلق، وقد سبق بيان ذلك.
10. أن ما ذُكر هو حقيقة الصدق مع الله، ومع الخلق؛ لقوله: {أولئك الذين صدقوا}؛ فصدقهم مع الله، حيث قاموا بهذه الاعتقادات النافعة: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين؛ وأنهم أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وبذلوا المحبوب في هذه الجهات؛ وأما صدقهم مع الخلق يدخل في قوله تعالى: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا}؛ وهذا من علامات الصدق؛ ولهذا قال تعالى: {أولئك الذين صدقوا}؛ فصدقوا في اعتقاداتهم، وفي معاملاتهم مع الله، ومع الخلق6. والله أعلم.
________________________________________
1- أخرجه مسلم.
2 - أخرجه مسلم.
3 - أخرجه البخاري ومسلم.
4 - أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ له.
5 - رواه البخاري ومسلم.
6- انظر : " جامع البيان في تأويل القرآن" لمحمد بن جرير الطبري(2/124- 134). ط: درا الإعلام + دار ابن حزم. الطبعة الأولى(1423هـ - 2002م). و" الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي(2/237- 244). الطبعة الثانية. "تفسير القرآن العظيم " للحافظ ابن كثير(1/193- 195). ط: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1424هـ- 2004م). و" فتح القدير" للشوكاني(1/266- 269). المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. مكة المكرمة. الطبعة الثانية. و" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لابن سعدي(1/136- 139). طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة. (148هـ). و" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" لأبي بكر الجزائري(1/152- 154). الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف(1414هـ). و" تفسير ابن عثيمين" المجلد الثاني.(/5)
خصوصية الجهاد والشهادة في حياة المسلمين
تحقيقات :عام :الأربعاء 11جمادى الأولى1427هـ – 7 يونيو 2006م
- ضربنا في بعضنا ليس جهادًا ولكنه فتنة وتخبط .
- لماذا يصر أعداؤنا على حذف كلمة الجهاد من قاموسنا؟
- ممارسة الجهاد أثبتت أن الإنسان أقوى من التكنولوجيا.
- ظاهرة الاستشهاد تستعصي على أجهزة الرصد العالمية.
- الاستشهاد في فلسطين أصبح هو العيد القومي للأمة.
منى محروس
في السنوات الأخيرة تعرض مفهوما 'الجهاد في سبيل الله'، و'الشهادة' إلى هجوم ضار من وسائل الإعلام الغربية والعربية على السواء .. خاصة بعد توقيع اتفاقيات سلام مع الصهاينة، وحتى لا يموت هذان المصطلحان وحتى يظلا فاعلين في الأمة لمقاومة أعدائها كان هذا الموضوع.
لدينا أسلحة خطيرة يفتقدها عدونا
يرى د. محمد عبد المنعم البري الرئيس السابق لجبهة علماء الأزهر أن الحديث الذي يتناقله الناس على نطاق واسع وهو [رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر] .. إنما هو من الأحاديث المدسوسة والتي ترددت على لسان جهلة الصوفية. والجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام .. كما في الحديث [ألا أدلكم على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه .. رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله] ومنزلة الشهيد هي أعظم المنازل وقد منحه الله من المنح والمنازل ما يفوق الحصر ومنها أنه يشفع في سبعين من أهل النار من بين أقاربه ومعارفه وأصدقائه.
ويتحدث د. البري عن مدد الله للمجاهدين فيقول: إن أجدادنا يحكون لنا ما حدث في التاريخ القريب أثناء حملة فريزر على مدينة رشيد عام 1807م فحينما أرادت بريطانيا أن تحتل مصر بحثت عن نقطة ضعف فوجدت ضالتها في مدينة رشيد النائية والتي بها حامية تركية ضعيفة .. وفوجئ أهالي المدينة بالأسطول البريطاني يسد عليهم البحر .. فاجتمعوا جميعًا في مسجد زغلول تحت قيادة الشيخ حسن كريت شيخ المسجد وعلى رأسهم العلماء .. وصلوا صلاة الحاجة وصلاة الاستخارة حتى يفتح الله عليهم في طريقة للمقاومة وهم العزل الذين لا يملكون سيفًا ولا بندقية .. فهداهم الله إلى أن يكون سلاحهم هو الماء المغلي .. وتكون الخطة أن توقد النيران في كل منزل لغلي الماء ويصعد الأطفال على السطوح يلوحون بالملاءات البيضاء دلالة على الاستسلام ..وحينما شاهد الإنجليز العلامة البيضاء توقفوا عن قصف المدينة ونزل مشاة الأسطول إلى المدينة فإذا بالبيوت جميعها مغلقة والمدينة في حالة سكون كامل فاطمأن الجنود وناموا في الشوارع .. وكانت الإشارة المتفق عليها لدى المقاومة هي صعود الشيخ حسن كريت إلى المئذنة وترديده كلمة 'الله أكبر' .. وعندما فتحت النوافذ وتم سكب الماء المغلي على الجنود سلخ وجوههم وأبدانهم وفروا مذعورين مدحورين ولم يدم احتلالهم للمدينة أكثر من سبع ساعات.
إن هذه أسرار وأسلحة خطيرة يفتقدها غيرنا ولكننا نملكها .. وفي حديث رسول الله [نصرت بالرعب مسيرة شهر] .. فالعدو دائمًا يخشى المسلمين لأنهم تربوا على حب الموت .. أما اليهود فإن الله تعالى يقول فيهم [ لتجدنهم أحرص الناس على حياة ]. وقد أمر الله عباده المؤمنين أن يقاتلوا أعداءه وإن هم فعلوا ذلك فقد تكفل لهم بأن ينصرهم ويعذب أعداءهم ويخزهم .. كما في قوله تعالى [قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ].
ورغم ما تتعرض له فريضة الجهاد من هجوم وتشكيك من جانب غير المسلمين بل ومن المسلمين المهزومين فإن الله قد تكفل بأن تظل هذه الفريضة قائمة كراية عز للمسلمين كما في الحديث الشريف [لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة].
حكايات شاهد على الجهاد البوسني
يتحدث المهندس أبو العلا ماضي عضو لجنة مناصرة شعب البوسنة عن تجاربه مع جهاد البوسنيين فيقول: إنني سأتعرض لواقعتين سمعتهما بأذني من أهل سراييفو أثناء زياراتي لها مرات عديدة .. الواقعة الأولى يرويها أهل البوسنة فيقولون إنه كان هناك ثلاثة جبال لم يستطع المسلمون السيطرة عليهم منذ الحرب العالمية الثانية، وأثناء حرب الإبادة الصربية الأخيرة حاول البوسنيون السيطرة عليهم لمكانتهم الاستراتيجية الكبيرة .. وفي الجيش البوسني كتيبتان مشهورتان بأنهما يأخذان جنودهما بالشدة والإيمان والتربية الإسلامية الصارمة لذلك فبأسهما شديد .. وظلت هاتان الكتيبتان تخططان لمدة شهرين .. واختاروا ليلة مظلمة لبدء الهجوم .. وكانت البداية هي صيحة الله أكبر الشديدة وكانت المفاجأة أنهم سيطروا على هذه القمم الثلاث في خمس عشرة دقيقة .. وحينما دخلوا وجدوا جنود الصرب قد بالوا على أنفسهم من الرعب .. وبعد ذلك تخلى الصرب عن الهجوم فقالوا إننا لم نكن نخاف منكم وأنتم تصعدون الجبل من أسفل وإنما كنا مشغولين وخائفين من الجنود الملتحين ذوي الملابس البيضاء الذين جاءوا من أعلى.(/1)
والواقعة الثانية يرويها الشيخ حسن بلال إمام أحد المساجد في ضواحي سراييفو فيقول : كان جنودنا يسيطرون على قمة جبل وجاءهم الصرب في هجوم عنيف للسيطرة على هذا الجبل ،وكانت المفاجأة أن قتل المسلمين كل الجنود الصرب وعدهم أربعون جنديًا وترك الشاب المسلم الذي قاد زملاءه رسالة مع الشيخ حسن بلال وطلب منه أن تبقى هذه الرسالة مغلقة ولا يفتحها إلا في رمضان حتى يقرأها على المصلين .. وحينما جاء رمضان فتح الشيخ الرسالة وقرأها فإذا بالشاب المسلم يقول فيها : إننا أثناء رد الهجوم لم نكن نرى شيئًا وإنما أطلقنا مدافعنا بعشوائية في كل اتجاه بدون أن نحدد هدفًا .. ولكن بعد انتهاء المعركة وجدنا أن جميع جنود الصرب قد قتلوا جميعًا وبلا استثناء وفي مكان واحد وهو أعلى الرقبة للأمام .. وصدق الله العظيم إذ يقول [وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى].
ذروة سنام الإسلام
يقول د. محمد سيد أحمد المسير الأستاذ بجامعة الأزهر: الجهاد في سبيل الله ذرة سنام الإسلام وهو من أعظم الطاعات والقربات ولا يعرفه إلا من ذاق طعم العزة والكرامة والحرية. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا] ومنازل الشهداء عند الله فوق ما يتصوره العقل .. فقد روى الإمام البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [الشهداء أربعة .. رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله تعالى حتى قتل، فذلك يرفع الناس أعنيهم إليه يوم القيامة، وذلك في الدرجة الأولى، ورجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فكأنما ضرب جلده بشوك طلح من الجبن أتاه سهم غرب فقتله فذلك في الدرجة الثانية، ورجل مؤمن خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الثالثة، ورجل مؤمن أسرف على نفسه لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الرابعة].
ولقد حرم الله على الشهيد الموت .. فهو الوحيد الذي لا يذوق طعم الموت ولكنه حي عند ربه تنتقل روحه في ومضة من دار إلى دار. وقد قال الله تعالى مخاطبًا أمة الإسلام في شأن الشهيد قائلاً [ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموت بل أحياء ولكن لا تشعرون] .. وقال تعالى مخاطبًا نبيه في شأن الشهيد [ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون] ثم تستمر الآيات لتعلمنا أن الجبن والهلع ليسا من شأن هؤلاء العمالقة الذين كتب الله لهم الخلود والشرف والفخار وجعلهم تاجًا في جبين الأمة أبد الدهر. [الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل].
الاستشهاد يستعصي على أجهزة الرصد العالمية
د. علي عبد الباقي الأستاذ بجامعة القاهرة يرى أن الاستشهاد في فلسطين المحتلة يستعصي على كل أجهزة الرصد العالمية التي تحاول تفسير من أين تأتي هذه القوة الهائلة؟ تلك القوة التي تنبعث فجأة في زاوية محددة من زوايا العالم العربي الواسع. إننا عندما نؤرخ لهذه الفترة من تاريخ الأمة العربية ستكون المعجزة في أكبر معانيها متمثلة في أن الأمة التي استسلمت مراكز القوة الكبرى فيها وتم تركيعها وظن العدو أنه قد نزع سلاح تلك القوة الكبرى وظن أنه لا يمكن أن تنبعث مقاومة من الجناح الأضعف. لكن مع ميلاد الشهيد يحيي عياش ومحمد الدرة كان رداً على اتفاقيات كامب ديفيد. لقد كانت هذه الأمة على قدر مع الله لتعلن أن راياتها لن تسقط وأن رسالتها لن تنتهي، حتى ولو ظن الناس الظن الذي سجله القرآن وهو ظن الاستيئاس [حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين]. والشهيدة آيات الأخرس وأخواتها ظاهرة تستحق الدراسة .. والدراسة المنصفة لها لا تكون إلا من خلال كتاب الله فهو الذي يزنها ويقدرها قدرها. هذه المجموعة فتح الله عليها وجعلها نبراساً لهذه الأمة وأملاً لها يهديها طريقها ويعيد إليها الثقة في نفسها.(/2)
وأضاف د. علي عبد الباقي قائلاً: إن الوضع الذي فيه أمتنا الآن هو أنها توزع الخزي على نفسها بقدر عدد سكانها. فعندما تستسلم أمة تعدادها أكثر من مائتي مليون وتظهر مجموعة تعداها بضعة آلاف في فلسطين تفاصل الدنيا وتلقن اليهود في كل يوم طعم الموت.. مع أن الجبهات العربية طوال الصراع العربي الصهيوني كانت دائمًا تتلقى اللطمات فترد بالصراخ والاستغاثة، أما هؤلاء فيفاجئون العدو والمطلوب هو فهم سر هذه المجموعة لأن فهم سرها هو الذي يعطينا مفتاح النصر في المعركة. إن هؤلاء على ثقة ومعرفة ويقين بأن المعركة التي تدور بينهم وبين اليهود هي معركة قد حددها الله تعالى فهي معركة ليس لمسلم خيار فيها. فليس لنا خيار في أن نصف اليهود بأنهم أعداء الله، لأن هذا هو حكم الله فيهم [ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب] .. وهم أشد الناس عداوة للمؤمنين وهذه العداوة لا تخضع للتهويد أو التطبيع لأنها عداوة نطق بها الوحي الصادق.
موقعة كربلاء تتكرر
تقول الكاتبة صافيناز كاظم: إن الكلمات التي تقال تعليقاً على الشهادة لا تساوي شيئًا في مواجهة الفعل الفعال الفاعل وهو فعل المقاومة على يد أبطال المقاومة. 'اللهم تقبل منا هذا القليل من القربان' .. كانت تلك كلمات السيدة زينب بنت على وهي تتلقى بين يديها شهداء آل البيت الواحد بعد الآخر في موقعة كربلاء .. تلك المذبحة التي تأبى إلا أن تتكرر لتكون نموذجًا يحتذي. ومن المنطقي أن يكون محمد الدرة ببراءة طفولته وصورته التي لن ينساها الضمير الحي .. وأن تكون آيات الأخرس عروس الشهادة صورة محفورة في قلوب أبناء الأمة.
ومع ذلك فالمقاومة ليست اختياراً بل هي قدراً .. إن علينا المقاومة وعلى الله النصر [وما النصر إلا من عند الله]. وقد لا نرى النصر ولكننا نرى الإشارة [فاستقم كما أمرت] فهنيئًا لمن يرى الإشارة وفي زمن الفتنة يكون من الفائزين. وما أحسن ما قال الشاعر عن شباب المقاومة:
'الأبناء الذين تلدهم أمهاتهم للسكين حبًا في الحياة .. في مدلولها الأكبر .. الاستشهاد في سبيل الله'.
الشهادة لحظة تعيد الأمة للحياة
يقول المفكر النصراني المنصف د.رفيق حبيب : إن الاستشهاد لحظة قلبت الصورة كاملة ليس في أعين العدو فقط ولم تزلزل كيانه فقط ولكنها لحظة تعيد النبض إلى أمة صامتة وجماهير غفيرة عزلت عن المقاومة وتمنعها أنظمتها من القيامة بأي دور، في نفس اللحظة التي نرى فيها في عيون بسطاء هذه الأمة وكأنهم يعودون للحياة، وكل نقطة دم تعيد الملايين من هذه الأمة للحياة. إن الشهادة لحظة يستطيع فيها أي إنسان بإيمانه وإخلاصه أن يحيي أمة في مواجهة عدو تصور أنه الأقوى، في مواجهة أنظمة أممت إمكانيات الناس، لأن لحظة الشهادة هي اللحظة التي يتذكر فيها كل مواطن أنه مازال ينتمي إلى أمة فيها قلب نابض هو قلب هذا الشهيد الذي استقبل الموت بفرح لأنه لا ينقذ أرضًا ولكنه ينقذ أمة بتراثها وحضارتها .. إنه يستشهد فرحًا ويفرح به أهله وأصبح الاستشهاد في فلسطين هو العيد القومي للأمة.
الأمة لا تتقدم إلا بالجهاد
يقول الكاتب الإسلامي د. محمد مورو: إنه لا يوجد مسلمان يختلفان على أن الجهاد فريضة شرعية ولا يختلفان كذلك على مكانة الشهيد، لكن الذين يريدون تفريغ فريضة الجهاد من محتواها يحتجون ويقولون إن الأعمال الاستشهادية والتي تسميها وسائل الإعلام انتحارية والتي يقوم بها الشباب العربي ضد الكيان الصهيوني مثلاً إنما هي من قبيل الإلقاء بالنفس إلى التهلكة كما في الآية الكريمة [ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ] .. ولكننا نرى أن التهلكة هي في القعود عن الجهاد وليس في القيام به. فالجهاد ماض إلى يوم القيامة ولن يوقفه أحد وسوف يستمر بنا أو بغيرنا. إن كلمة الجهاد ترعب أعداء الأمة ولا ننسى ما طالب به إسحاق شامير في مؤتمر مدريد من حذف كلمة الجهاد من القاموس العربي، وللأسف فإن بعد هذه الدعوة بشهرين استجاب لها المؤتمر الإسلامي وأقر حذف الجهاد لأنها كلمة تثير حساسية الغرب.
ورغم أن الجهاد معطل الآن على المستوى الرسمي ولا تقوم به إلا جهات غير رسمية كما يحدث في الأراضي الفلسطينية فإن هذا يرعب اليهود وأعوانهم أشد الرعب.
ويضيف د. محمد مورو: إننا أمة لها خصوصية وخصوصية أمتنا هي أننا أمة لا تنجز شيئًا ولا تتقدم إلا من خلال الجهاد .. وفي هذا يأتي النص القرآن الكريم [ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ] فإذا جاهدنا فسوف نتمكن من أن نزرع ونصنع ونتعلم ونتقدم حضاريًا..وليس العكس .. بمعنى أن الذين يحاولون تفريغ الجهاد من مضمونه يقولون إن التقدم والرفاهية لن يأتيا إلا إذا آثرنا السلامة وابتعدنا عن الجهاد وواقع الأمة يؤكد أن عكس ذلك هو الذي حدث.
فالآية السابقة تؤكد أن الذين يجاهدون في سبيل الله هم الذين يهديهم الله إلى طريق العلم والحضارة والتقدم [ لنهدينهم سبلنا ].(/3)
ولا يجوز أن يقول مسلم أننا نبدأ بالجهاد الثقافي أولاً .. إن المطلوب هو جهاد العدو الذي يجب أن نبدأ به لأنه هو الذي يفجر القضية. وإذا تخلينا عن الجهاد فلن نبني حضارة ونتقدم كما يروج البعض وإنما سنصاب بالجوع والذل والتخلف الحضاري .. وهذا هو نص حديث رسول الله الذي يقول: [ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا].
وهناك نقطة هامة يجب أن نحددها في موضوع الجهاد وهي ضرورة أن نحدد أعداءنا بدقة .. وعدونا الآن واضح ولا خلاف عليه وهو 'إسرائيل'، ولا يجب أن يضرب بعضنا بعضًا وأن نختار عدونا من بين صفوفنا كما تفعل بعض الجماعات حينما يقتلون أهلنا وذوينا.
إن أعداء الإسلام يرمون المسلمين بالجهل والهذيان حينما يقول المسلمون إن الملائكة تحارب معهم .. لكننا نقول إن هذه حقيقة قرآنية مؤكدة بصرف النظر عن كلام أعداء الإسلام. وهي دعوة للمواجهة والشجاعة وليست دعوة للخرافة والقعود .. فالمسلم حينما يؤمن ويتيقن أن هناك مددًا سيأتيه لن ترهبه قوة العدو ولن يحسب لها حسابًا.. إلا أن علينا أن نؤكد أن هذا المدد لا يتنزل على المؤمنين إلا بشرطين :الشرط الأول هو الإيمان، والشرط الثاني هو استنفاذ كل الجهد المادي والإعداد للمعركة.
وإذا لم يحدث ذلك فلن يأتي المدد .. وبالتالي فقضية مدد الله للمؤمنين دعوة للمواجهة والشجاعة والتعبئة وليس العكس.(/4)
خطايا القلوب
فضيلة الشيخ : عبد الوهاب الطريري أيها الناس!
اتقوا اللهَ حق التقوى، اللهمَ بعلمِكَ الغيب، وقدرتِكَ على الخلقِ، أحيينا ما كانت الحياةُ خيرا لنا، وتوفَنا إذا كانت الوفاةُ خيرا لنا.
اللهم إنا نسألُك خشيتَك في الغيبِ والشهادة، وكلمةَ الإخلاصِ في الرضاء والغضب، ونسأُلك القصدَ في الفقرِ والغنى، ونسأُلكَ نعيما لا ينفذ، ونسألُك قرةَ عينٍ لا تنقطِِع، ونسألُكَ الرضاءَ بعد القضاء، ونسألُكَ برد العيشِ بعد الموت، ونسألُك لذةَ النظرِ إلى وجهِك الكريم، والشوقَ إلى لقاءِكَ في غيرِ ضراءَ مضرةٍ ولا فتنةٍ مضلة. اللهم زينا بزينةِ الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين.
أيها الأخوةُ المتحابون بجلالِ الله: أما ذاك الباب فكانت أعينُ الصحابةِ شاخصةً إليه، مصوبةَ الأبصارِ تجاهه، ترقبُ أولَ داخلٍ منه! لما؟
لما يُنتظرُ ذلك القادم؟ ويُستقبلُ بالبصرِ ذلك الداخل؟
لقد حدثَنهم عنه رسول الله (صلى اللهُ عليه وسلم) وهو الذي لا ينطقُ عن الهوى، فأخبرَهم عنه خبرا عجيبا فقال (صلى الله عليه وسلم): يدخلُ عليكم من هذا الفجِ رجلُ من أهلِ الجنة.
رجلُ من أهلِ الجنة يعيشُ بينَهم ويتقلبُ بين أظهرِهم، ويخبرُ النبيُ (صلى اللهُ عليه وسلم) أن الجنةَ منقلبَة ومثواه.
إن رجلاً تسبقُه البشارةُ إلى الجنةِ في الدنيا لرجلُ حريُ أن تتلهفَ الأبصارُ إلى رأيتِه، وتشخصَ مترقبةً دخولَه، وتشتاقَ النفوسُ بلهفةٍ إلى لقاءِه. ويدخلُ الرجل!
فإذا هوَ رجلُ منهم يعرفونَه، دخلَ مشمرا ثيابَه إذ أطرافَه مبللةً بآثارِ الوضوء، ممسكا نعليهِ بشمالِه تقطرُ لحيتَه ماءً من أثرِ وضوءه، فلما كانَ من الغد دفعَ إليهم النبيُ (صلى اللهُ عليه وسلم) الخبرَ ذاتَه قائلا: يدخلُ عليكم من هذا الفجِ رجلُ من أهلِ الجنة.
من هو يا ترى هذا الرجل الآخرُ من أهلِ الجنة؟
عرفنا ذاكَ فمن هذا؟ ولم يطلُ الانتظار وإذا بذاكِ الرجلِ يدخلُ فإذا هو صاحبُهم بالأمس.
واليومُ الثالثُ يأتي وتأتي معَه البشارةُ: يدخلُ عليكم من هذا الفجِ رجلُ من أهلِ الجنة.
فيدخلُ الرجلُ هوَ هو بهيئتِه بشمالِه تقطرُ لحيتَه ماءً من أثرِ الوضوء، أطرافُه مبللةُ بالماء، قد أمسكَ نعلَه بشمالِه.
إن رجلاً يبشرُ بالجنةِ ثلاثَ ليالٍ متعاقبة، ويخبرُ الصحابةَ قبل دخولِه بأنَه يدخلُ عليهم رجلُ من أهلِ الجنة لرجلُ حريُ أن يقتصَ خبرُه ثم يقتفى أثرُه.
وأنتدبَ إلى هذه المهمةِ عبد اللهِ أبنُ عمروِ ابنِ العاصِ رضي الله عنهما، ذهبَ إليه فقال له: إني قد لاحيتُ أبي، تخاصمتُ مع أبي فأقسمتُ أن لا أدخلَ عليهِ البيتَ ثلاثا، فإن رأيتَ أن تأوينِ هذه الأيامَ الثلاثةَ فعلت.
فرحبَ به وآواه وأكرمَ مثواه، وباتَ عبد اللهِ أبن عمروٍ عند ذاك الصحابيُ يرقبُه ويسبرُ حالَه ويرصدُ أفعالَه، رآهُ يأوي في الليلِ إلى فراشِه، فأنتظرَ أن يحييَ الليلَ كلَه قياما فلم يفعل، أم يقضيَ نصفَ الليلِ قياما فلم يفعل، بل لم يرى شيئا يلفتُ نظرَه، غير أن هذا الرجلُ كلما نقلبَ جنبَه على فراشِه ذكرَ الله، وكلما أفاقَ من نومِه ذكرَ الله، ولم يرى شيئا يأثرُه غير ذلك. فأنتظرَ ليلةً وليلةً وأخرى فلم يرى فعلاً يآثرُه ولا فعلا عجيبا يستعجبُ منه.
فلما انقضت الليالي الثلاث، أقبلَ عليِه عبدُ الله قائلا: يا أخي أما إنَه لم يكن بيني وبين أبي خصومةُ أو ملاحاة، ولكن رسولَ الله (صلى اللهُ عليه وسلم) أخبرنا ثلاثةَ أيامٍ متعاقبةٍ أن رجلا من أهلِ الجنةِ يدخلُ علينا من الباب، فكنتَ أنت الداخلَ في كلِ مرة، فأردتُ أن أبيتَ عندَك لأرى عملَك فأرى بأي شيءٍ نلت ذلك. أما إني قد بقيتُ عندَك فلم أرى شيئا، فأخبرني بما نلتَ ذلك؟
قال له: ما هو إلا ما رأيت، فلما انصرف عبد الله ناداهُ الرجل فقال تعال، ما هو إلا ما رأيت غير أني أبيتُ حين أبيت فلا أبيتُ وفي قلبي غشُ على أحدٍ من المسلمين، ولا أحسدُ أحدا من الناسِ على خيرٍ آثرَه اللهُ به. فأنصرفَ عبدُ اللهِ أبنَ عمرو وهو يقول: أما إن هذه هي التي بلّغتك وهذه هي التي لا نُطيقُها.
هذه هي التي بلّغتك وهذه هي التي لا نُطيقُها، تمسي وتضعُ جنبَك على فراشِك بقلبٍ سليم ليسَ فيه غشُ لأحدٍ من المسلمين، وتنظرُ إلى نعمِ الله على عبادِه فلا تحسدُ منهم أحدا! من يطيقُها؟
هذه التي بلغتّك وهي التي لا تُطاق.
أيها الأخوةُ في الله!
إنها صورةُ معبرةُ، ومشهدُ عجيبُ، صورةُ ذلك الرجلُ الطيب، السليمُ القلب الذي يطوي صدرَه على قلبٍ صافٍ كالزجاجة، ليسَ فيه غلُ ولا حسدُ ولا غشُ وشحناءُ ولا بغضاء، قلبُ صافٍ مصفى قد أُسلمَ لله رب العالمين.
إن هذا الرجلُ الذي يتعبدُ لله بتطهيرِ قلبِه وتصفيةِ فؤادِه، هذه الصورةُ تفتحُ أعينَنا عندما نتأملُها إلى مشكلةٍ كبرى، إنها مشكلةُ ذلك الانتماءُ السلبيُ للإسلامِ الذي يعيشُه كثيرُ من المسلمين، صورةُ التدينُ المنقوص الذي لا يؤثرُ في سلوك، ولا يتجلى في عبادة، ولا يفيضُ على القلبِ والوجدان.(/1)
إن ما نراهُ في حالِ كثيرٍ من المسلمين في انتمائِهم لهذا الدين أشبهُ ما يكونُ بقناعةٍ عقليةٍ مجردة، أو عاطفةٍ قلبيةٍ جميلة، بل ربما رأيتَ قناعةَ بعضِ المتحمسينَ أشبَه بقناعةِ المنتمينَ إلى مذهبٍ حركيٍ بحتٍ يقومُ على النظرياتِ والأفكارِ والتنظيماتِ المجردة.
وهم وهذا حالُهم يفوتُهم الفرقُ بينَ طبيعةِ الإسلامِ وطبيعةِ المذاهبِ الفكرية، إن الإسلامَ ليسَ قناعةً عقليةً فقط، أو عاطفةً قلبيةً فقط، أو أحكاما تشريعيةً فقط، بل هو كلُ ذلكَ وأن تكونَ الحياةُ كلُها للهِ ربِ العالمين: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
أيها الأحباب:
أين بصرُنا في تديُنِنا؟
أين أثرُه علينا وفي سلوكِنا؟
نحنُ الذين نطالبُ أن يحكَمَ بالإسلام ينبغي أن نطالبَ مع ذلكَ بأن نحكمَ نحنُ بالإسلامِ على أنفسِنا، أن نحّكمَ الإسلامَ علينا أولا فيكونُ الإسلامَ منهاجَ حياتِنا نحنُ كما يجبُ أن يكونَ منهاجَ المجتمع ونظامَ حياةِ الدولَة.
تعالوا أيها الأخوةُ للنظرَ إلى حالِنا مع القلب الذي هو ملكُ الأعضاء: إن في الجسدِ مضغةُ إذا صلحت صلحَ الجسدُ كلُه، وإذا فسدت فسدَ الجسدُ كلُه، ألا وهي القلب.
فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
هل تفقدنا القلوب! هل تبصرنا في أدوائِها! هل نظرنا إلى عللِها! هل تفقدنا القلوب من أمراضٍ تتسربُ إليها على غفلةٍ منا فتخالطُ مشاعرَنا وتنمو في وجدانِنا.
إن معاصيَ القلوبِ معاصيٍ ينبغيَ أن نخافَ منها أكثرُ مما نخافُ من معاصي الجوارح فهي أشدُ خطرا وأفتكُ أثرا.
هل تفقدنا القلوبَ من خطراتِ الاستعلاء والكبر ووساوسِ الغرورِ والعُجب! هل تفقدنا القلوبَ من شهوةِ الرياءِ وحبِ الظهورِ!
هل تفقدنا القلوبَ من آثمِ الحسدِ والبغضاء!
وغيرِ ذلك من خطايا القلوبِ التي تذهبُ فضلَ الصيامِ وثوابَ القيام وتأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النارُ الحطب. هذه الخطايا التي أتى الوعيدُ عليها على أنها مواردُ هلاكٍ، أستمع بقلبٍ يعي وعقلٍ يعقل، أستمع إلى هذه النذرِ المحمدية:
يقولُ (صلى الله عليه وسلم):
لا يدخلُ الجنةَ من كان في قلبِه مثقالُ ذرةٍ من كبر.
ثلاثُ مهلكات؛ شحُ مطاع، وهوىً متبع، وإعجابُ المرءِ بنفسِه.
دبَ إليكم داءُ الأممِ قبلَكم؛ الحسدُ والبغضاء هي الحالقَة، لا أقولُ تحلقُ الشعرَ ولكن تحلقُ الدين.
ولا تزالُ تسمعُ إلى النذرِ في كتابِ الله تعالى، وسنةِ رسولِه (صلى الله عليه وسلم) محذرةً من خطايا القلوب، منذرةً بالوعيدِ عليها.
إن القضيةَ أيها الأخوةُ في الله جدُ لا هزلَ فيه، إننا أمامَ أدواءَ مهلكة، وأمراضٍ قلبيةٍ مدمرة، وآفاتٍ خطيرة، ولكن الخطرَ ليس فقط في هذه الأدواءِ بذاتِها، ولكن يأتي الخطرُ أيضا من الظروفِ المحيطةِ بها.
إن المشكلةَ في حياةِ كثيرين أن هذه الخطايا والأدواءِ تتسربُ إلى القلوبِ على حينِ غفلةٍ من أصحابِها، فهي أدواءُ خفيةٍ، وأمراضُ قلبيةٍ تدبُ إلى القلبِ على غفلةٍ منا.
أستمع إلى وصفِ النبيِ (صلى الله عليه وسلم) لأحدِ هذه الأمراض حيث يقول (صلى الله عليه وسلم) وهو يتحدث عن الرياء:
اتقوا الشرك الخفي فإنَه أخفى من دبيبِ النمل.
إنهَ يسربُ إلى القلبِ على حينِ غفلةٍ فيجثمُ ويترعرعُ فيه حتى يرويه.
ثم تأتي مشكلةُ أخرى وهي أن المصابَ بهذه الأدواء يتآلفُ معها، فهي تنموا وتتضاعف دون أن يحس ذلك من نفسِه، بل دون أن يؤنبَ نفسَه عليها.
أسمعني باركَ اللهُ فيك: ألسنا نرى من أنفسِنا أنا إذا ولغنا في غيبةِ غافلٍ عنا أننا نحسُ بعد ذلك بوخزةٍ في القلب، وألمٍ في النفس، ثم ربما أعقبنا ذلك بالاستغفارِ والندم وبالاستغفارِ لمن اغتبناه.
ألسنا نعايشُ ذلك! ألسنا نحسُ به! نعم.
إن هذا شعورُ محسوسُ في قلبِ كلِ واحدٍ منا، ولكن متى وقفنا مع أنفسِنا لنتفقدَ فيها خواطرَ العُجب، أو أدواءَ الحسد، أو آفة البغضاءِ والشحناء!
من هو الذي وقفَ منا مع نفسِه معنفا لأنَه أحسَ بالبغضاءِ تدبُ في قلبِه؟
من هو الذي وقفَ منا مع نفسِه محذرا لأن الحسدَ تحركَ بين جوانِحه؟
من هو الذي وقفَ منا مع نفسِه مذعورا لأنه أحس فيها شهوةَ رئاسةٍ، وشهوةَ تصدرٍ؟
إن هذه مشكلةُ أخرى وهي أن الإنسانَ يتآلفُ مع هذه الخطايا والأمراض فلا يتفقدُها في نفسِه، بل ربما تضاعفَ ذلك إلى مرحلةٍ أخرى هي الكسرُ المضاعف عندما يتعدى ذلكَ إلى تبريرِ هذه الخطايا وفلسفةِ هذه الأمراض، وما أيسرَ ذلك على صاحبِ الهوى، أن يصطنعَ المعاذرَ لنفسِه، ويفتحَ لها سُبلَ التهربِ، ويروجَ على نفسِه وعلى من حولِه هالةً من الضبابِ تسترُ عن نفسِه أولا وعن من حولَه خبيئتَه.(/2)
إلا أن الدينَ لا يُخدَعُ بشيءٍ من ذلك، واللهُ جل جلالُه لا يخادع، إن الذين جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يقولون له ائذن لنا ولا تفتنا: ائذن لي ولا تفتني، فقال الله له: ألا في الفتنةِ سقطوا.
والذين جاءوا إليه يقولون إن بيوتنا عورة، قال اللهم لهم: وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا.
لذلك نرى العداوات التي يفرزُها الحسد تلبسُ بقمصٍ متعددةٍ من الغيرة، من التناصح، من لباسِ الصالحَ العام، من تقويم الآخرين، من إحياءِ علمَ الجرحِ والتعديل وهكذا. ألبسةُ فضفاضةُ تلبسُ على داءٍ أسمهُ الحسد.
–بارك الله فيك- وأنا أقولُ وأنت تسمعُ هذا الكلام ألا نلاحظ أن المتحدثَ يتحدث، والمستمعُ يستمع دون أن يستشعرَ أن هذا الأمرَ يعنيه هو بالذات، أو أنَه واقعُ فيه، إن هذه نقطةُ من نقاطِ الخطرِ مريعة.
خذ على سبيل المثالِ بعضَ ظواهرِ خطايا القلوب:
الحسد، نتحدثُ عنه وكأنَه كابوسُ لا يرى إلا في الأحلام، أو كأنَه قطارُ لا يركبُه إلا من وقفَ في محطتِه وقطعَ تذكرتَه، لكنا لا نفطِنُ إلى تسربِ الحسدِ إلى النفوسِ من خلالِ الفرحِ بزلاتِ الأقرانِ، من خلالِ الفرحِ بأخطاءِ الزملاء، بل لو رصدَ كلُ واحدٍ منا العداواتِ في نفسِه وسبرَها وبحثَ عن أسبابِِها لوجدَ أن الأسبابَ الظاهرةِ قشرُ لداءِ أسمُه الحسد.
خذ على سبيلِ المثالِ العُجب والتعالي، إن العجبَ والغرورَ قد لا يخرجُ بصورةِ الإطراء للنفس، قد لا يخرجُ بصورةِ التمدحِ، لكنَه يخرجُ بصورةٍ أخرى هي التنقصُ للآخرين، تقليمُ جهودِهم، عدُ عيوبِهم، الإفاضةُ بذكرِ نقائصِهم، لماذا؟ حتى يتساقطَ هؤلاءِ كلِهم ويبقى المتحدث، إذا به يقولُ بلسانِ الحالِ أنا الكاملِ وهؤلاءِ فيهم وفيهم وفيهم، ليقولَ بلسانِ الحالِ أنا خيرُ من أولئك.
خذ مثالاً آخر: الكبر، ليس بالضرورةِ أنهُ تلكَ المشيةِ المتبخترة، أو ذلك الأنفُ المشمخر، كلا فقد يظهرُ الكبرُ في صورةِ الاستعلاءِ عن الحقِ بردِه، قد يظهرُ الكبرُ في صورةِ احتقارِ الناسِ وغمطِهم والنظرِ إليهم بازدراء وإن مشى صاحبُه الهوينا وإن شمّر ثيابَه ونكسَ رأسَه.
ولذلك ذكر طبيبُ القلوبِ الإمامُ أبنُ القيمِ رحمه الله في معرضِ حديثٍ له فقال: أنه ربما كان صاحبُ الخلقان والثيابِ المرقعة أشدُ كبرا بمرقعتِه من صاحبِ الثيابِ الحسنةِ بثيابِه.
خذ مثالا آخر حبُ الشرفِ والرئاسة، حبُ التصدرِ قد لا يظهرُ في صورةِ دعوةٍ صريحةٍ إلى ذلك، ولكن يظهر في صورةِ النقد لعدائيِ بأسم التناصح، قد يظهر في صورةِ الحرصِ على أهواء النفسِ بأسم الحرصِ على مصالحِ الدعوة. على غيرِ ذلك من الاختلاطاتِ التي يعرفُها من أطال التأملَ والوقوفَ على دقائقِ النفوسِ وخلجاتِ الأفئدة.
أما الشحناءُ والبغضاء، فهذا الذي نعرفُه من أنفسِنا وحالِنا أفرادا وجماعات، على حظوظٍ من الدنيا تافهة، بل ربما تعدى الأمرُ إلى العداءِ بين الجماعات، وإلى الشحناءِ بين الشعوب، فرأينا الحدودَ الجغرافيةَ ولها تأثيرُها في الشحناء بين المسلمين، ورأينا الخلافاتَ السياسيةِ ولها تأثيرُها في العداواتِ القلبية بين الشعوبِ المسلمة. بل ربما رأيت الشحناءَ والعداوةَ بين أقاليمِ البلد الواحد.
أيها الأحباب: إن البراءةَ من هذه الخطايا وتطهيرِ القلوبِ من هذه العلل يفضي إلى الوصولِ إلى مرتبةٍ عظمى هي التي أدخلت ذاك الصحابيَ الجليلَ الجنة يوم سبرَ عملُه فإذا هو لم يتميز بعمل ولكن تميز بقلبٍ صافٍ وضيءٍ رقراق.
ولذا قال النبيُ (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه وقد سألوه يوما عن أي الناسِ أفضل: كلُ مخمومُ القلبِ صدوقُ اللسان، قالوا يا رسول الله قد عرفنا صدوقُ اللسان، فما مخموم القلب؟ قال هو التقيُ النقي الذي لا أثم فيه ولا بغي ولا حسد.
فأنظر كيف أن براءتَه من الإثمِ والبغيِ والحسد أوصلتَهُ إلى رتبةٍ شريفةٍ منيفةٍ وهي أن يكون أفضلَ الناس.
إن الأمرَ الذي ينبغي أن نعيَه هو أننا بأشد الضرورةِ إلى تفقدِ خطراتِ القلوب وتصفيتِها وأن يعلمَ كلُ منا أنه يومَ يدبُ إلى قلبِه شيءُ من خطايا القلوب فإن معنى ذلك أن النارَ تشتعلُ في ثيابِه ويوشكَ أن تُحرقَ بدنَه، ولذا فإن البحثَ عن أسبابِ تزكيةِ القلوبِ وتطهيرِها أمرُ ينبغي أن يجدَ فيه ويسعى إليه، فلنقفِ وقفاتٍ سريعةٍ مع أسبابٍ ستةٍ تعينُ على تطهيرِ القلوبِ وتزكيةِ النفوس.
فأولُ ذلك الصلةُ بذكرِ الله وقراءةِ القرآن.
إن القرآنَ يوم يتصلُ به العبدَ قراءةً متدبرةً يرفعُه على آفاقٍ عاليةٍ، أفاقُ تسموا به فوق خطراتِ النفوسِ الدنيئة، وعللِ القلوبِ الوضيعة، فإذا هو يسمو بهمتِه إلى الملأِ الأعلى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ). إن للذكرِ وللقرآن يومَ يتواصلُ العبدُ معها بقلبٍ حي أثرُها البالغُ في تطهيرِ القلبِ من أدرانٍ كثيرةٍ.
ثانيا الدعاء:(/3)
نعم الدعاء فلن يُنال زكاُ النفسِ وطُهرُ القلبِ إلا بعونٍ من الله جل جلالُه:( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ). ولذا دعا النبيُ (صلى الله عليه وسلم) ربَه فقال: واسلل سخيمةَ قلبي، ودعا الصالحون من عبادِ الله فقالوا: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا ).
ثالثا الرقابةُ على خواطرِ القلوب، ومحاسبةِ النفوس:
ومعالجةِ ذلك، فليكن كلُ منا على قلبِه رقيبا ولنفسِه محاسبا، وليتفقد خواطرَها وحديثَ قلوبِها.
رابعا المجاهدة:
وقد يجاهدُ الإنسانُ نفسَه على الصيام، بل وعلى قيامِ الليل، ولكنَه يضعفُ ويجهدُ عن مجاهداتِ القلب، واللهُ سبحانَه يقول: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)، ويقول: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، إن الأمرَ يحتاجُ إلى صبرٍ ومصابرة، وجهدُ ومجاهدة.
خامسا مجانبةُ المعاصي:
وحميةُ النفسِ منها، فما تنموا هذه الأوبئةُ إلا في نفسٍ خربةٍ عشعشت فيها المعاصي وتكاثرت عليها الذنوب، واستمع إلى قوارعِ قولِ اللهِ عز وجل:( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً )، (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ).
سادسا الإخلاص:
ذاك الإكسيرُ العجيب، فإذا توفر الإخلاصُ لدينِ اللهِ في القلب زال الكبرُ وحل التواضعُ مكانَه، وزالت الأحقادُ والبغضاءُ منها وحل الوئامُ والودادُ مكانَها، وزال حبُ الدنيا والتطلعُ إلى مناصبِها ومغرياتِها وحل محلَ ذلك التطلعُ إلى مرضاةِ الله والنجاةُ من عقابِه ووعيدِه، وزالت العصبيةُ بأشكالِها وألوانِها وحل مكانَها الولاءُ للإسلامِ من حيثُ هو إسلام.
إن الإخلاصَ كلمةُ سهلةُ على اللسانِ، وحبيبةُ إلى القلوب، ومطربةُ للأسماع، وهي من أجل ذلك من أكثرِ الكلماتِ تداولا وتكرارا، ولكن معناها من أعظمِ المعاني أهميةً في الحياة، ومن أبعدها أثرا في المجتمع، ومن أشقِها على النفوسِ عند التطبيق.
أيها الأحباب، وبعد نهايةِ هذا التطواف فعلى العهدِ فلنفترق، عهدُ التفقدِ لخطايا القلوب، والتواصلِ لتطهيرِ النفوسِ منها، وحراسةِ القلوبِ من هذه الخطايا أن تدبَ إليها، أو تنمو فيها، وأودعُك وأنا أذكرُك بكتابِ الإمامِ أبنُ القيمِ رحمَه الله (إغاثةِ اللهفان) ففي مقدمتِه صفحاتُ فيها الوصفاتُ الناجحةُ والبلسمُ الشافي، وكتابِ (التحفةُ العراقية) لشيخِ الإسلامِ ابن تيمية، فعش معهما تعش مع عارفين بخطراتِ القلوب وأدواءِ النفوسِ وخطايا الأفئدة.
واللهُ يحفظُنا جميعا بحفظِه، ويكلأنا برعايتِه، ويبقي لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا.
واستغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم.
..........................................
واحات الهداية ...(/4)
... ...
خطبة استسقاء ... ...
سعود الشريم ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- فضل التقوى. 2- التحذير من الاغترار بفتنة الدنيا. 3- فضل اليقين بالله تعالى والتوكل عليه. 4- غربة الدين في هذا الزمان. 5- آثار الذنوب والمعاصي. 6- الحث على التوبة والاستغفار. 7- دعاء. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، التي هي الزاد وبها المعاد، زادٌ مبلِّغ، ومَعاد مُنجح، دعا إليها أسمعُ داع، ووعاها أفقهُ واع، فأسمَع داعيها، وفاز واعيها.
عباد الله، إن تقوى الله سبحانه حمت أولياءَ الله محارمَه، وألزمت قلوبهم مخافتَه، استقربوا الأجل فبادروا العمل، وكذّبوا الأمل فلاحظوا الأجل.
ثم إن الدنيا دارُ فناء وعناء، وإن ملكَ الموت لموتِرٌ قوْسَه، لا تخطئ سهامُه، ولا توصَى جراحُه، فبادروا العمل، وخافوا بعتة الأجل، فإنه لا يرجَى من رجعة العمر ما يُرجى من رجعة الرزق، فإن الرجاء مع الجائي، واليأسَ مع الماضي، وإن من العناء ـ عباد الله ـ أن يجمع المرءُ ما لا يأكل، ويبنيَ ما لا يسكن، ثم يخرجَ إلى الله، لا مالا حمل ولا بناءً نقل، فسبحان الله، ما أغرَّ سرورَ الدنيا، وأظمأ رِيَّها، وأضحى فيأَها، فلا جاءٍ يُردّ، ولا ماضٍ يرتدّ.
أيها الناس، إنه ليس شيءٌ بشّر من الشر إلا عقابُه، وليس شيءٌ بخير من الخير إلا ثوابُه، واعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خيرٌ مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا، فكم من منقوصٍ رابح، وكم من مزيد خاسر. ألا وإن الذي أُمرتم به أوسعُ من الذي نُهيتم عنه، وما أُحلَّ لكم أكثرُ مما حرِّم عليكم، فذروا ما قلّ لما كثر، وما ضاق لما اتّسع.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
أيها الناس، إن خير ما أُلقي في الضمائر يقينٌ بالله، يرسخ في القلوب الرواسي، فإيمان صادقٌ بكفاية الله لعباده يدفعُهم إلى تقديم مرضاة ربهم على رضاء خلقه وعبيده، وعلى النقيض من ذلك فِئامٌ من الناس ضعُف فيهم اليقين بالله، فأرضَوا الناسَ بسخط الله، وجاملوهم في معاصي الله، وتعلَّقوا بهم، واشتغلوا عن ربِّهم، رغبةً منهم في نوال حطام الدنيا، أو خوفاً من سطوة ساطٍ أو بغي باغٍ. فحِذار حِذار من مثل صنيع هؤلاء حِذار، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الرجل ليخرج من بيته ومع دينُه، فيلقى الرجلَ وله إليه حاجة، فيقول: أنت كيت وكيت، يثني عليه لعلَّه أن يقضيَ من حاجته شيئاً له، فيسخط الله عليه، فيرجع وما معه من دينه شيء)[1]، يقول حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه: بايعنا رسول الله على أن لا نسأل الناس شيئا. رواه مسلم[2]. حتى إن الرجلَ من الصحابة ليسقط سوطه من على راحلته، فينزل فيأخذه، لا يسأل أحداً أن يناوله إياه.
عباد الله، في أعقاب الزمن تتنكّس الفطر، وتُدرَس معالم الشريعة كما يُدرَس وشيُ الثوب إلا ما شاء الله، وإنه ما من زمان يأتي إلا والذي بعده شرّ منه حتى تلقوا ربَّكم، وإنكم ستعرفون من الناس وتُنكرون، حتى يأتي على الناس زمن ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، حتى أصبح الكتاب والسنة في الناس وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم، فاجتمع أقومٌ على الفُرقة، وافترقوا عن الجماعة، كأنهم أئمة الكتاب، وليس الكتاب إمامَهم.
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن من استنصح اللهَ يوفِّقْه، ومن اتَّخذ قولَه دليلاً هُدي للتي هي أقوم، وإنه لا ينبغي لمن عرف عظمةَ الله أن يتعاظم، فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمتُه أن يتواضعوا له، وسلامةَ الذين يعلمون ما قُدرتُه أن يستسلموا له، فلا تنفروا من الحق ـ عباد الله ـ نِفار الصحيح من الأجرب، والبارئ من ذي السقم، فالتمسوا الرشدَ ـ رعاكم الله ـ من عند أهله، فإنهم عيشُ العلم، ومَوتُ الجهل، لا يخالفون الدين، ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهدٌ صادق، وصامت ناطق، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِئَايَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.(/1)
أيها المسلمون، إن الله سبحانه يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبسِ البركات، ليتوب تائب، ويُقلع مقلع، ويتذكَّر متذكِّر، ويزدجر مزدجر، وقد جعل الله سبحانه الاستغفارَ سبباً لدرور الرزق، ورحمة الخلق، فقال سبحانه: اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]، قرأها الفاروق رضي الله عنه من على المنبر يستسقي ثم قال: (لقد طلبتُ الغيثَ بمجاديح السماء التي يُستنزَل بها المطر)[3]. فما لبعض الناس لا يرجون لله وقاراً، وقد خلقهم أطوارا؟! فرحم الله امرأً استقبل توبتَه، واستقال خطيئتَه، وبادر منيتَه، روى البيهقي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله ، فأقبل علينا بوجهه فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمسُ خصال أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشةُ في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتُلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال إلا ابتُلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، وما منع قومٌ زكاةَ أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولا خفر قومٌ العهدَ إلا سلَّط الله عليهم عدوًا من غيرهم، فأخذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم يعمل أئمتُهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم))[4]، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (إن الحُبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم)[5]، وقال مجاهد رحمه الله: "إن البهائمَ تلعن عصاةَ بني آدم إذا اشتدَّت السنة وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم"[6].
ألا فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الأرض التي تحملكم والسماءَ التي تظلُّكم مطيعتان لربكم، فلا تمسكان بخلا عليكم، ولا رجاءَ ما عندكم، ولا تجودان توجُّعا لكم، ولا زلفى لديكم، ولكن أُمرتا بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود الله مصالحَكم فقامتا، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إنه ليس من عبدٍ إلا له مصلًّى في الأرض، ومصعدُ عمله من السماء، فإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض، ولا عملٌ يصعد في السماء) ثم قرأ: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ [الدخان:29][7].
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدرارا، وأمددنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات، واجعل لنا أنهارا.
اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا خرجنا إليك من تحت البيوت والدور، وبعد انقطاع البهائم، وجدْب المراعي، راغبين في رحمتك، وراجين فضلَ نعمتك، اللهم قد انصاحت جبالنا، واغبرَّت أرضنا، اللهم فارحم أنين الآنَّة، وحنين الحانة، اللهم فأسقنا غيثك، ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، اللهم إنا خرجنا إليك حين اعتركت على إخواننا مواقع القطر، وأغلظتهم مكايل الجوع، فكنت الرجاء للمبتئس، والمجيب [للملتمس]، اللهم انشر علينا وعليهم رحمتك بالسحاب، سحاً وابلاً غدقا مغيثاً هنيئاً مريئاً مجلِّلاً نافعا غير ضار، اللهم لتحيي به البلاد، وتسقي به العباد، وتحيي به ما قد مات، وتردَّ به ما قد فات، وتنعش به الضعيف من عبادك، وتحيي به الميت من بلادك، اللهم سقيا هنيئة، اللهم سقيا هنيئة، تروى بها القيعان، وتسيل البطان، وتستورق الأشجار، وترخص الأسعار، اللهم إنا نسألك أن لا تردَّنا خائبين، اللهم إنا نسألك أن لا تردَّنا خائبين، اللهم إنا نسألك أن لا تردَّنا خائبين، ولا تقلبنا واجمين، فإنك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا، وتنشر رحمتك، وأنت الولي الحميد.
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أنه يسنّ في مثل هذا الموطن أن تقلبوا أرديتكم اقتداءً بفعل نبيكم ، فقد حوَّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو ثم حول رداءه[8] تفاؤلاً بتحويل الحال عما هي عليه من الشدة إلى الرخاء ونزول الغيث، وادعوا ربكم وأنتم موقنون بالإجابة.
وصلوا وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، وأمددنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات واجعل لنا أنهاراً.(/2)
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] أخرجه ابن المبارك في الزهد (382)، وهناد في الزهد (1153)، والفريابي في صفة المنافق (111)، والطبراني في الكبير (9/107)، وصححه الحاكم على شرط الشيخين (8348)، وقال الهيثمي في المجمع (8/118): "رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح".
[2] أخرج البخاري في فرض الخمس (3143) عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: ((يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى))، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأُ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا. فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل، فقال: يا معشر المسلمين، إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس شيئا بعد النبي حتى توفي. وأخرجه مسلم في الزكاة (1035).
[3] أخرجه عبد الرزاق (4902) ، وسعيد بن منصور (5/353) ، وابن أبي شيبة (29485) ، والبيهقي (3/351) بسند جيد إلى الشعبي قال: خرج عمر يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له في ذلك فذكره، قال أبو زرعة وأبو حاتم: الشعبي عن عمر مرسل. انظر: تحفة التحصيل (ص164).
[4] أخرجه ابن ماجه في الفتن، باب: العقوبات (4019)، والطبراني في الكبير (12/446) والأوسط (5/62)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (5/318): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[5] أخرجه ابن جرير في جامع البيان (14/126)، والبيهقي في الشعب (7479).
[6] أخرجه سعيد بن منصور (236)، وابن جرير في جامع البيان (2/54، 55) بنحوه.
[7] أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (4/143)، وأخرجه من وجه آخر بنحوه ابن المبارك في الزهد (336)، وابن الجعد في مسنده (2305)، والضياء في المختارة (741) وسنده ضغيف.
[8] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (1011)، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه. ... ...
... ...
... ...
... ...(/3)