فإن الله - جلا وعلا - قد قال : { واتقوا الله ويعلمكم الله }، ونحن نعلم أن العمل الصالح هو الذي يورث نور القلب، وانشراح الصدر، وسكينة النفس، وحدة الذهن، وقوة الحافظة، وسلامة الجوارح ؛ فإن الله - جلا وعلا - يمنُّ على من استخدم جوارحه في طاعته ومرضاته ، وسخر بدنه وملكاته فيما يحب الله ويرضى .. يمنُّ الله - جلا وعلا - عليه بحفظ حواسه وسلامتها له ويزيده فيها ما يميزه عن غيره بإذن الله - عز وجل - وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال : " إن العبد ليحرم العلم بالذنب يصيبه " ، وكما قال الله جلا وعلا : { واتقوا الله ويعلمكم الله }؛ فإن من أراد أن يتهيأ لحفظ القرآن، وطلب العلم، ومعرفة الحق والاستزادة من الفقه في الدين فإن طريقه أن يتطهر قلبه ويزكي نفسه بإصلاح العمل وإصلاح القصد لله سبحانه وتعالى.
وأما إذكاء الأمل
فنعني به الثقة بالله - سبحانه وتعالى - والأمل في عطائه ومنته وجوده ، فلا يتسرب اليأس إلى نفسك في هذا الأمر - أي حفظ القرآن - ولا في غيره من الأمور ؛ فإن بعض الناس يغلق على بعضه أبواب الأمل وما يزال يسرب على نفسه ويجلب إليها المثبطات والمحبطات ويكثر ويعظم لها العوائق فحينئذً لا يكون عنده اندفاع ولا حماس ولا تهيؤ نفسي ولا قوة عملية لحفظ ولا لغيره من الأعمال ، ولقد كان من تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ولأمته أن يبعث الأمل دائماً حتى يكون ذلك موقد لشعلة العمل ومذكي لنار الحماسة ومعلياً لمعالي الهمم بإذن الله - سبحانه وتعالى - فلا بد لنا من إخلاص وصلاح وأمل حتى نتهيأ لهذا العمل الصالح ولغيره.
وأما عند البداية فنحتاج أيضاً إلى ثلاثة أمور :
1- ملائمة الابتداء.
2- ومواصلة الارتقاء.
3- وكفاءة الأداء.
أما ملائمة الابتداء
فنعني بها ألا تأخذنا الحماسة ، فنبدأ بدية مندفعة لا تتناسب مع مقدرتنا وطاقاتنا أو إمكاناتنا ولا تتوافق مع ظروفنا ومشاغلنا وبيئتنا وهذا يحصل كثيراً عندما يستمع المرء إلى تفضيل لأمر من الأمور ، أو ثواب في عمل من الأعمال ، فتتحمس نفسه ويشتاق إلى ذلك الأجر والثواب ، فيبدأ بدايةً قوية شديدة أخذاًً فيها بأقصى طاقته بالغاً فيها غاية جهده فلا لبث بعد قليل أن تقعده العوائق ، وتصرفه الصوارف ؛ لأن واقع الحال يختلف مع ما أخذ به نفسه من الشدة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ) ، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع ولا نريد أن نطلق مع العواطف دون أن نقدر الأقدار ونحسب الحساب ألازم لكل عمل وما يحتاجه من وقت وما ينبغي تهيئته له من ظرف وما يحتاج إليه أيضاً من طاقة وبذل وعمل.
وأما مواصلة الارتقاء
فنعني بها الاستمرارية التي تتحقق به النتائج والتي تعظم بها الحصيلة والتي تجنى بها الثمار ؛ فإن المرء قد يحن الأمر ويتقنه ويبدأ فيه ويحصله ، ثم لا يلبث أن ينقطع فيضيع ما قد حصله ، ويتبدد ما قد جمعه فيعود مرةً أخرى كأنما يبدأ من الصفر من جديد ، فيجمع ويكسب ويحصّل ، ثم لا يستمر ولا يبني على ما سبق ، فلا يزال في مكانه يسير دون أن يتقدم ، ودون أن يرتقي ، ودون أن يضيف إلى رصيده مكتسبات حقيقية لها صفة الدوام والاستمرار ، ولها صفة الحفظ والاستقرار ؛ فإن كثير من الناس في هذا الشأن كمن يحرث في ماء البحر - كما يقال - والذي يحرث ماء البحر لا يخرج بنتيجة ولا يحصل على ثمرة مطلقة.
وأما كفاءة الأداء
فإننا لا نريد أن نستمر بعمل ناقص وبإتقان مختل ؛ فإن هذا يشبه الذي يمشي بالعرج ؛ فإنه ما يزال يتعثر ويتأخر وإن كان مستمراً ثم إنه كذلك يجد أنه يحتاج في كل مرةً أن يرمم عمله الذي أنجزه وأن يصلح ويكمل ثمرته الذي زرعها على أكمل وأتم وجه ؛ فإن الكمال والتمام يريح الإنسان ويوفر وقته ويوفر جهده ، وأما الذي يعمل العمل فيتمه من غير إحكام ؛ فإنه كأنه في بعض الأحوال لم يصنع شيء فيكون كحال الذي توقف وانقطع مثله مثل الذي يستمر على خلل ونقص دون أن يراعي الكفاءة والكمال المنشود.
وبعد ذلك نبدأ أحبتي الكرام بالبرامج التي نريد أن نأخذ بها لكي نحصل هذه الثمرة العظيمة.
أولاً : برنامج التصحيح(/10)
ونحن بهذا التصحيح تصحيح التلاوة والقراءة القرآنية لأنه لا يصلح ولا يمكن ولا ينفع الحفظ بدون هذا التصحيح قد قال الحق جلا وعلا عن القرآن : {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربياً مبين }، فلا بد من إتقان القراءة وتصحيحها وفصاحتها العربية وبلاغتها القرآنية والحق جلا وعلا يقول : { قرآناً عربياً غير ذي عوجاً }، فلا ينبغي أن يكون خلل في هذه القراءة من وجوهها المتعددة ويبين الحق جلا وعلا الفرق فيقول : { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين }، وفي حديث عائشة رضي الله عنها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم كما أنه قال : ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران أجر التلاوة وأجر المشقة ) ، فهو يشق عليه لكنه يعالج ويغالب ويجتهد حتى يستقيم لسانه بقراءة صحيحة فصيحة متقنة ، فحينئذٍ إذا حفظ حفظ هذه الصحة وحفظ ذلك الإتقان وإلا يفعل ذلك كذلك ؛ فإنه يحفظ قرآن فيه أخطاء لا ينبغي أن يأخذ بها ولا تصح تلاوته بها وإذا أردنا أن نعرف ما الذي يشتمل عليه هذا التصحيح ؛ فإننا نجد نقاط كثيرة تتركز في ثلاثة مجالات :
1- معرفة النطق بالحروف. أي تصحيح المخارج ونطقها أي الحروف صحيحة فصيحةً.
2- معرفة الضبط بالشكل ؛ فإن كثير من الناس قد يحسن نطق الحروف ، لكنه يخطئ في قراءتها فلا يضبط حركاتها فيرفع منصوباً ويجر مضموماً ونحو ذلك.
3- والثالث معرفة القراءة بالرسم - أي الرسم القرآني - لأن القرآن برسمه ليس كغيره من الكتابات ، فيه كتابة خاصة بهذا الرسم العثماني الذي انعقد عليه الاجماع يحتاج المرء معه إلى تدرب.
ننتقل الآن إلى الطريقة العلمية ثم إلى البرنامج كيف؟ أو ما هي الطريقة التي يمكن بها لمن لا يحسن التلاوة القرآنية ولا يصححها ، ويخطئ فيها ويتتعتع ، ولا يكاد يستطيع أن يقرأ قراءةً مسترسلة ، وإذا قرأ قراءة مسترسلاًً أخطأ فيها كثيراً ، وتوقف فيها كثيراً ! نقول هناك الطريقة تتعلق بمبدأين اثنين :
1- التلقين.
2- الاستماع.
والتلقين له مرحلتان :
المرحلة الأولى : التي تعنى بصحة المخارج وإتقان الحركات والشدة والمدود .
وهذه الطريقة قد لا يقرأ فيها آيات قرآنية أو سور قرآنية ، بل الأصل والأغلب أنه يتعلم ويتعلق بالحروف فيرددها منفردة ، ثم يرددها مرة أخرى بحركاتها المختلفة - فتحةً أو كسرةُ أو ضمةً - ثم يرددها موصلة مع غيرها من الحروف - وسيما حروف المد - ثم يرددها ثالثاً وهي مشددة في سياق كلمات قرآنية مختارة ، وهنا يحصل له هذا الأمر بطريقتين اثنتين :
1- الترديد والتفريق
يردد هذه الحروف مفرقة ومجتمعة فيتقنها ، ثم يفرق فيما بينها ، فيفرق بين الحروف التي تختلط عند بعض الناس أو لا يحسنون نطقها مثل الذال والثاء والطاء على سبيل المثال ، وبين الزاي والسين والصاد ، وبين الشين والجيم وغيرها من الحروف المختلطة ؛ فإنه إذا ردد هذه الأحرف - كما سنذكرها - على منهج معين أتقن الحرف من جهة ، وميز وفرّق بينه وبين الحرف الآخر من جهة أخرى.
2- التجريب والتوصيل
بحيث يجرب نطق هذه الأحرف في كلمة أو كلامات موصولة فيضبطها نطقاً وحركةً وتشديداً ومداً ، ويضبطها كذلك رسماً ؛ لأنه على هذه الطريقة يأخذ الكلمات في هذا التطبيق من كلمات القرآن الكريم برسمه المعروف ، فحينئذً يكون قد تجاوز المرحلة الأولى وهي أن يعرف الحروف وحركاتها وصلاتها وينطق ويلفظ الكلمات القرآنية صحيحة نحن في دائرة الكلمات فحسب هذا يتلقاه في المناهج أو الكتب المنشورة المعروفة في هذا الباب مثل " القاعدة البغدادية " ، و" القاعدة النورانية " وغيرها ..
هذه تعتمد على الحروف التي ربما بعض الناس يرون أنها لا تصلح ، ولكننا نقول إنها تصلح وتصلح وتصلح ، وهي التي تقيم الألسن وتعودها على صحة النطق .
هذه الأحرف التي يرددها الصغار فيقولون : " باء فتحة باء ، وباء كسرة بي ، وباء ضمة بو " ، ثم يصلونها بكلمات أخرى أو بحروف أخرى ، ثم ينطقون كلمات قرآنية .. هذه تلين الألسنة للقرآن وتحسن إتقان الحروف من مخارجها وضبطها بحركاتها ووصلها بغيرها، والقاعدة النورانية مضبوطة في طبعة جيدة بحروف كبيرة وملونة ، بحيث تعين الذي يدرسها ، ومعها شريط مسجل يطبق هذه القاعدة ، ويطبق هذه الحروف بصوت ، فيجتمع مع القراءة الصوت ، قد يقول البعض : " إن هذا يعني كأننا لا نعرف القراءة ؟! " نقول : نحن نقول ذلك لمن لا يحسن ولا يتقن تلاوة القرآن ، وكثير من الناس لا يكاد يحسن إلا قصار السور ، وإذا قرأ قصار السور أيضاً أخطأ فيها فهذا أنفع.
المرحلة الثانية في التلقين هي : مرحلة قراءة النصوص القرآنية
يعني يقرأ من القرآن وهنا يحصل به أيضاً أن ينتقل أو يبدأ بمرحلتين :
1- قصار السور(/11)
فيحرص على أن يردد وأن يتلقن ممن يعلمه ويلقنه من المتقنين القراء ؛ بحيث يتلقن قصار السور في أول الأمر استماع وترديد ومطالعة وتأكيد ، يستمع ويردد حتى يتقن اللفظ ويطالع ويأكد على سماعه قراءته حتى يتأقلم ويألف رسم القرآن ويعرف إشاراته ومختصراته المعروفة ، ثم يقرأ أيضاً في السور المتوسطة بعد ذلك قليلاًً حتى ينطلق لسانه ، وفي هذه المرحلة يبدأ بالاستماع والترديد ، لكنه بعدها يأخذ بالابتداء والتجديد ، يعني يبدأ بالقراءة من عند نفسه والشيخ يستمع له ويصحح ، هذا بالنسبة للطريقة الأولى في التصحيح وهي التلقين ، وهي الأتم الأكمل ، وهي لمن كان مستواه في غاية الضعف أو في مبتدأ الأمر.
2- طريقة الاستماع
يستمع ويردد مباشرةً بدون أن يبدأ بالحروف ، وبدون أن يبدأ بالحركات ، وهذا يكون غالباً لمن هو في مرحلةً جيدة يعرف القراءة وينطلق لسانه بها إلى حدٍ كبير ، لكنه يحتاج إلى إقامة اللسان ولينه بالقرآن ، وهذا يفيده المصاحف المسجلة بطريقة المصحف المعلم الذي يقرأ ثم يسكت حتى تردد ما قرأه على نفس الطريقة ، وبنفس الإجادة والإتقان ، ومن هذا مصحفٌ للشيخ الحصري - رحمه الله - اسمه " المصحف المعلم " كاملاً بهذه الطريقة ، وفي إذاعة القرآن " كيف تقرأ القرآن " للشيخ عبدالباري محمد - وهو أيضاً الآن مصحف كامل يباع في الأسواق - يفيدك ، إذ هو يقرأ ثم يقرأ بعده جملة من التلاميذ يرددون وراءه بإتقان جيد ، وصوت واحد ، فإذا رددت معهم أو إذا استمعت للشيخ ولترديد التلاميذ كان ذلك أعون لك على معرفة القراءة ، وتستمع وأنت تمسك المصحف ، فتجمع إلى حسن السماع والإتقان المخارج ، وتجمع إلى ذلك معرفة القراءة وضبط الرسم الذي يعينك بعد هذا أن تقرأ قراءتك دون معين خارجياً إلى حداً ما ، هذا بالنسبة للطريقة العملية.
نأتي إلى البرنامج ، وماذا نعني بالبرنامج ؟
قلنا في الدرس الذي مضى أننا نريد أن نوزع الأوقات وأن نحسبها ، ونتذكر ما قلناه بأن الجمع إضافة ، وأن الضرب مضاعفة ، وأن القسمة تجزئة .. نريد أن نجعل برنامجاً مجدولاً يمكن أن نوزعه على الأيام وعلى الأشهر والأعوام ، وبالتالي نلتزمه ونأخذ به ، فنصل إلى نتيجة .
هنا - على سبيل الإجمال - مرحلة التلقين الأولى التي فيها هذه القاعدة النورانية أو غيرها ، إن كان سيعطي لنفسه ساعةً في كل يوم ؛ فإنه يحتاج إلى نحو شهرين ونصف ليتقن هذه الحروف وطريقة أدائها بشكل جيد جداً ، وإذا أخذ بساعة كل يومين - يعني ثلاثة أيام في الأسبوع - فإنه يحتاج إلى نحو أربعة أشهر ، وليس لمضاعفة شهران ونصف خمسة أشهر ، لماذا؟ لأنه وإن كان المدة أقل لكنه مع السير سوف يختصر كثيراً مما يحتاج إليه في البداية .
وإن اختار أن يكون درسه أو وقته لا يتيح له إلا ساعة في الأسبوع ؛ فإنه يحتاج إلى ثمانية أشهر حتى يتقن ذلك بإذن الله ، وقد يقول قائل : إن هذه مدة طويلة ! فنقول : خذ بها ستنتهي ، وكم من الناس عنده هذه المشكلة ، وهو إلى الآن قد مضى عليه خمس أو عشر سنوات ، وهو لم ينتقل من مرحلة إلى أخرى ! خذ نفسك ببرنامج وإن طال ؛ فإن ثمرته في أخر الأمر ملموسة محسوسة .
أما مرحلة التلقين الثانية وهي : قراءة السور وترديدها
فإنه كما قلنا يأخذ السور القصار من سورة الضحى - مثلاً - إلى الناس ، وعدد هذه السور اثنان وعشرون سورة ، لو أخذ أيضاً ساعةً في كل يوم ؛ فإنه يحتاج إلى أسبوعين ، وإن أخذ ساعة في كل يومين ؛ فإنه يحتاج إلى شهر ، وإن أخذ ساعة في الأسبوع ؛ فإنه يحتاج إلى شهرين برنامجه إذا أخذ الساعة في اليوم في المرحلة الأولى ، والثانية في شهرين ينتهي من الأمر كله من حيث الحروف ومن حيث تلاوة هذه السور ، وإن أخذ ساعة في كل يومين فخمسة أشهر ، وإن أخذ الثالث فعشرة أشهر الحد الأقصى الذي يتقن فيه هذا .(/12)
لكن هل هذا يكفي ؟ نقول : كلا ! إن الذي يريد أن يحفظ ولا زال بعد هذا يحتاج إلى إلى أن يقرأ ختمةً كاملةً قراءةً مصححة وهذا أتم وأفضل ؛ لأن القراءة تلقين ، وبعض المواطن قد يحتاج فيها إلى معرفة قراءتها ؛ لأن قراءتها تختلف عن ما هو ظاهر في القرآن من الكتابة ، فبعضه فيه الإمالة مثل " مَجْرَاهَا " ، وبعضه فيه كلمات تنطق بزيادة أو بنقص أو نحو ذلك يتعلمها وإن كان هذا ليس بالضرورة لكل أحد ، قد يقرأ خمسة أجزاء ثم يكون قادراً على أن يقرأ بعد ذلك قراءة صحيحة ، ومع ذلك وضعنا الجدول والبرنامج لمن يريد أن يختم ختمةً كاملة قراءة تصحيح ؛ فإنه لو أخذ صفحةً واحدةً يقراءه على الشيخ أو يقرؤه الشيخ إياها في كل يوم ؛ فإنه يحتاج في البداية إلى نصف ساعة في كل يوم ، لكنه حينئذ هذا الوقت سيكون معين له على قوة وجودة القراءة من بعد ، وبهذا سيحتاج الجزء - وهو عشرون صفحة - عشرين يوماً ، فإذا أخذ خمسة أجزاء سيحتاج إلى ثلاثة أشهر إذا اكتفى بذلك ، وإلا يأخذ خمسة أجزاء أخرى ستكون عدتها أو مدتها شهر ونصف لماذا ؟ لماذا شهر ونصف وليست ثلاثة أشهر؟ القراءة تحسنت فأصبحت النصف ساعة التي يقضيها في كل يوم يقرأ فيها صفحتين لا صفحة واحدة ، ثم إذا أخذ بعد ذلك وأراد أن يستمر ؛ فإنه سينهى عشرة أجزاء ، إذا أراد العشرة الثانية فإنه بتجربة إن شاء الله ينهي في النصف الساعة خمس صفحات قراءة مصححة ، وبالتالي العشرة أجزاء الثانية سيأخذها في شهرين ، وإذا استمر وأراد أن يتم العشرة الأجزاء الأخيرة ؛ فإنه سيقرأ في النصف ساعة عشرة صفحات ، ومعنى ذلك أنه سيقرأ العشرة أجزاء في شهر واحد ، إذ المصحف كاملاً ثلاثون جزءاً يتمه بهذه الطريقة في ستة أشهر ونصف ، يكون قرأ قراءة صحيحة كاملة ، وهذه هي الخطوة الأولى أو البرنامج الأول.
البرنامج الثاني : برنامج الحفظ
الله جلا وعلا يقول : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون * بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآيتنا إلا الظالمون }، فحفظ القرآن في الصدور من أعظم النعم ومن أعظم الأعمال الفاضلة التي يعظم بها الأجر من كثرة القراءة أثناء الحفظ ومن تيسر القراءة بعد الحفظ ، إضافة إلى ما يكون من جراء ذلك كما قلنا من أثر محمود على القلب والنفس ، ولقد امتدح الحق - جلا وعلا - أولئك فقال : { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارةً لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفورً شكور } ، وقد قال الحق - جلا وعلا - ليكون ذلك معين لنا على العمل : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } ، إنه ميسر والدعاء والترغيب والحث والحظ قائم بقوله : {فهل من مدكر }، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِى الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا ) .
إذاً هذه مقدمتنا التي نحث فيها ونشجع ، أما الطرقة العملية فقد أشرت من قبل إلى أنها يمكن أن تكون على وجهين ولا أحبذ هنا قبل أن نبدأ في ذكر الطريقتين لا أحبذ تكثير الطرق في عرض حفظ القرآن لأن بعض الناس قد صنع في ذلك كتباً أو توجيهاً ذكر فيها أكثر من عشرين طريقة وأحسب أن الحفظ ملكة ومهارة لا تحتاج إلى كثير من هذه الطرائق ، بل بعض هذه الطرائق في الحقيقة وإنما هو وسيلة لطريقة حقيقية ، فلذلك نحن نقول عندنا طريقتان :
الأولى : طريقة الحفظ بالصفحة والمقطع
وهي التي قد بينها من قبل التي يقرأ فيها المرء صفحته الكاملة أو مقطعه المقرر للحفظ ، يقرأه قراءة متأنية مضبوطة ، ويعيد هذه القراءة مرة ثانية وهو متأمل مستحضر ذهنه ، ويعيدها ثالثة وهو مؤكد على محاولة حفظها ورسمها في ذهنه ، ويعيدها رابعة أو خامسةً إن شاء ، لكنه يمكن أن يبدأ بعد القراءة الثالثة .
وأفضّل لعموم الأخوة أن يبدأوا في التسميع بعد الخامسة – أي بعد خمس مرات – يقرأ الواحد قراءة للصفحة ، يبدأ بعد الخامسة يغلق مصحفة ويقرأ صفحته من حفظه ، فهل ترونه يحفظها ويسمعها بعد ذلك كاملة؟ الجواب : لا ! سيقف وقفةً أو وقفتين أو ثلاثة ، والغالب أنه لا يزيد عن ثلاث أو أربع وقفات ، كلما وقف فتح المصحف ونظر حيث وقف أو حيث تعثر وواصل فيعيد بعد ذلك تسميع هذه الصفحة مرةً أخرى ، فالمواطن التي وقف فيها ونظر لن يعيد الخطأ فيها ، قد يبقى من هذه الثلاثة أو الأربع خطئان يتوقف عندهما ثم إذا جاءت الثالثة ؛ فإنها في غالب الأحوال يكون حفظه للصفحة قد كان متقناً ومجوداً وجيداً فيعيدها في مقامه ذاك ثلاث مرات أو خمس مرات بهذه الطريقة يحفظ الصفحة كاملة كأنها لوح كامل .(/13)
وهذه الطريقة عموماً نقولها هنا وقلناها أيضاً في التصحيح ، عندما قلنا في قضية الاستماع بدل تلقين الجزء الأفضل الاستماع لكامل الآية وترديدها ، هذه الطريقة الكلية التي تنظر إلى الشيء كله ولا تجزئه أجزاءً هي الأقوى والأكثر استقراراً حتى في تعلم اللغات " التعلم بالحروف " إذا أردت أن تتعلم لغة وتبدأ تتعلمها بالأحرف المفردة ، يطول أمد تعليمك ولا يكون تعلمك لها بالقوة ، لو أنك بدأت بتعلم الكلمات والأساليب مباشرة ؛ لأنها مع بعض المساعدات تجعلك تفهم الكلمة في سياقها وتفهم مع السياق الأساليب والتراكيب والجمل الرابطة ونحو ذلك وليس هذا مقصودنا الآن.
إذاً حفظ الصفحة على هذا النحو له مزايا عديدة منها أنه يكون الحفظ أقوى ربطاً ، فالآيات مترابطة ليس بين الآيات توقف أو تلكأ لماذا ؟ لأنه حفظها كلها كلوح واحدٍ وكنص واحد فهو يسترسل من أول الصفحة إلى أخرها بدون توقف.
والثاني : أن هذه الطريقة أوضح تصوراً ، فهو يتصور الصفحة كاملة من مبتدأها إلى منتهاها ، وإلى تجزئة آياتها ؛ لأنه أعادها مراراً في صورة ذهنية واحدة ، فيعين ذلك مع الحفظ على التصور كلهما يخدم بعضه بعضاً ؛ فإنه قد يقرأ الصفحة وفي ذهنه أنه بقي منها آية ، في الأسطر الثلاثة يحفظ الصفحة التي بعدها لكنه الآن لا يستحضر هذه الآية ، ولا يستطيع أن يتجاوزها ؛ لأنه يعرف أن هناك نقصاً ساعده على استحضار هذا النقص ، وربما يقوده التصور إلى أن يستذكر ويواصل حينئذٍ هذا المقطع أو تلك الآية دون حاجة أن يرده أحد.
الطريقة الثانية : طريقة الآية
أن يجعل الوحدة للحفظ هي الآية ، فالذي يقرأه ويردده بالطريقة التي سبقت ليس الصفحة كاملة ، وإنما الآية واحدة يقرأها مرةً وثانية وثالثة ثم يعيدها ، وإذا أخطأ يعيدها حتى يحفظها ، ثم يقرأ الثانية ويفعل بها كذلك ، لكن لا بد أن يربط الأولى بالثانية ، وإذا حفظ الثالثة أعاد الأولى والثانية والثالثة ولا يقول إنني قد حفظت الأولى جيداً فلا أحتاج إلى إعادتها ؛ فإن هذا وهم يظنه لأنه قد سمعها أو رددها قريباً لكن لا يثبت الحفظ إلا إذا ماتم التكرار ، وهذا أمر بيّن عيب هذه الطريقة لمن لا يعتني بوصل الآيات أنه عند أخر كل آية يقف ؛ لأنه حفظ هذه الآية وحدها ما التي بعدها إن لم يجد الربط يقف حتى تلقيه أول كلمة من الآية فينطلق حتى أخر الآية ، ثم يقف حتى تعطيه الكلمة فينطلق فلا يعرفه الطلاب الذين يحفظون بهذه الطريقة في كل مرةً يقف يأخذ أول الآية ، والذي لا يحسن ربط الصفحات أيضاً في الطريقة الأولى يقف عند نهاية الصفحة حتى تعطيه كلمة من الصفحة التي تليها فينطلق ، لكننا نحن نقول : في السطر طريقة الصفحة إذا بدأ في الصفحة الثانية فليبدأها من الآية الأخيرة من الصفحة الأولى حتى يربط فيما بينهما ربطاً ، وسنرى ذلك أيضاً في برنامج التمكين والمراجعة إن شاء الله.
هناك مساعدات لهذه الطريقة منها :
1- الكتابة
لمن أراد فإن تعاضض الحواس على النص الواحد يجعله أقوى في الحفظ ؛ فإنه يقرأ بعينه ويحسن به أن يرفع صوته بالقراءة ليسمع نفسه ، فهذا يعين على تواطئ القلب واللسان ، فإذا زاد إلى ذلك أنه كتب هذه الآيات كما نرى بالذات في أفريقيا وفي غيرها يكتبون على الألواح ما الغرض من الكتابة هو أن يحفظ وأن يكتب فيكون هذا الكتاب كأنما هو ينقش الآيات في قلبه وصدره ، ولذلك ماذا يصنعون بهذه الألواح في الغالب ؟ عندهم ألواح يكتبون عليها بنوع من الحبر الذي يزال ، فإذا انتهى من ألواح انتهى من الفرض اليومي ماذا يصنع؟ يغمس ألوح في الماء فيمحوه لماذا؟ يمحوه من ألوح لأنه قد حفظه في لوح قلبه وانتهى بهذا لا يمحو ألوح حتى يكون ما فيه قد سطر ونقش في قلبه فلا يكاد ينسى منه شيئاً.
2- السماع : كثرة السماع استمع للقرآن الذي تحفظه استمع للأشرطة وأنت ذاهب وأنت قادم ؛ فإن كثرة السماع مع الحفظ تعضضه وتقويه وتثبته بإذن الله عز وجل.
3- التسميع :
لا تقنع بأن تقرأ لنفسك وتصحح ؛ فإنك أحياناً تغفل ، وإنك أحياناً تظن أنك مصيب وأنت مخطئ ، وإنك تنتقل في الآيات إلى موضع آخر دون أن تنتبه فإذا استطعت بين فينة وأخرى أن يستمع لك غيرك فهذا مما لاشك فيه أنه نافع ومفيد.
ننتقل إلى الجدول الجدول الزمني وتقسيم الأجزاء وهذه الجداول لمن أراد أن يأخذ البرنامج ويلتزمه فيصل إلى النتيجة في آخر الأمر ، وإذا وصل يدعو لمن أعانه بأن يشاركه في الأجر ، وأن يمن الله - عز وجل - عليه بالمثوبة .(/14)
هذا البرنامج لم أشأ أن أفصل فيه كثيراً جعلته في جانبيين أو برنامجين إما أن يكون قد قرر على نفسه نصف صفحة في اليوم أو صفحة لأن نصف الصفحة سبعة أسطر ونصف ، ونحن نتوقع الذي يبدأ بالحفظ يكون قد أتم التصحيح ، فقراءته إذاً سلسة وليست صعبة ، وصحيحة وليست خاطئة ، وسبعة أسطر ونصف يعني ليست بشيء كثير ، كم يستغرق في حفظ نفس الصفحة بالطريقة التي قلناها لا أقول للمستوى المتوسط بل حتى دون المتوسط يستغرق نحو عشرين دقيقة ، لا يقولن أحد إن عشرين دقيقة قليلة !
أقول هذا وقت كافي لمن أراد أن يحفظ ، أما إذا كان مسك المصحف يسمع هنا ، ويتكلم مع هذا ، وينظر إلى هذا ، ويكتب كلاماً ، ويرد على الهاتف ، فهذا يحتاج إلى أربعمائة دقيقة وليس إلى عشرين دقيقة ؛ لأنه لم يتفرغ لهذا الحفظ ..
لذلك عشرين دقيقة كافية لنصف صفحة في اليوم ، إذاً كم يحتاج الجزء - الذي هو عشرين صفحة - منه من الدقائق ، وكم يحتاج من الأيام ، انظر الرياضيات وجدول الضرب .. قلنا نصف صفحة عشرين دقيقة ، العشرين صفحة ( 800 ) دقيقة ، ليست هناك مشكلة ، إذن كم هي الأيام ؟ إذا كان يحفظ نصف صفحة في يوم ففي كم يوم يحفظ عشرين صفحة التي هي الجزء ؟ أربعين يوماً لكنهم نسوا ما قلناه في الدرس الذي مضى ، قلنا: الطرح احتياط ، نطرح أيضاً مدة من الزمن ، ونقول يحتاج إلى شهر ونصف خمسة وأربعين يوماً ، خمسة أيام زايدة للني لم يؤدي المطلوب ، وهناك أيام جمعة ، هذا احتياط حتى لا يبدأ في برنامج ثم يخرب هذا البرنامج ويحطمه من المرة الأولى ، لا بد أن يكون هناك حساب دقيق واحتياطيات حتى لا تنخرم هذه الميزانية ، ولتكون دقيقة بإذن الله عز وجل ، إذاً أنهى جزءًا في شهر ونصف ، المرحلة التي يريدها أربعة أجزاء يريد أن يحفظها بالطريقة التي قلنا " نصف صفحة في عشرين دقيقة " ، يحتاج إلى ستة أشهر ونصف للأربعة أجزاء ، وعنده شهر ونصف من قبل الجزء الأول ، أصبحت الخمسة أجزاء في كم؟ في ثمانية أشهر هذه المرحلة الأولى.
ثم نأخذ مرحلة ثانية وهي : عشرة أجزاء
بنفس المعدل إذا أخذناها بالدقائق تحتاج إلى ثمانية آلاف دقيقة ، يقسمها على الستين حتى تعرف الساعات ، لكن يهم من الأيام عشرة أجزاء ستستغرق منه مع الإضافة مع الاحتياط ستة عشر شهراً - سنة وربع السنة – لا حظوا إذا حسبتم ستلاحظون أن هذه المدة أكثر قليلاً من المدة التي سبقت ، لو أخذناها بنفس الحساب لماذا ؟ لأن الرصيد يكثر الآن ، فلو جعلنا نفس المعدل سوف نجعل عملنا كالقربة المخروقة نحفظ من هنا ويخرج من هنا ،ولا نخرج بنتيجة ، لا بد أن نزيد في المدة بقدر يدخل معه برنامج المراجعة الذي سيأتي ذكره لاحقاً ، حتى لا يأتيني أحد في اللقاء القادم - مثلاً – ويقول : أنا حسبت ووجدت أن هناك فرق في المدة المدة الزائدة مقصودة لذاتها .
إذاً العشرة الأجزاء في المرحلة الثالثة بعد هذه العشرة الأجزاء .
خمسة عشر جزءاً في الأولى ، نأخذ الآن عشرة أجزاء أيضاً ، وبنفس الطريقة والمعدل لا نعطيها ستة عشر شهراً ، ولكن ثمانية عشر شهراً - سنةً ونصف السنة - زيادة شهرين كاملين ؛ لأننا نعلن أن هذا يحتاج إلى ذلك الخمسة أجزاء الأخيرة ، ولماذا نقول خمسة أجزاء أخيرة ؟ لأن منطقة الوسط منطقة قوة في آخر الأمر يريد أن ينتهي ، ويريد أن يعجل ، فلو جعلنا له الأخيرة طويلة لربما فتر ، أو ربما تعجل ، ننظر إلى هذا حتى في مناهج مقررات مدارس التحفيظ ، يجعلون القدر أحياناً متناسقاً بهذه الطريقة ، الخمسة الأجزاء الأخيرة يحتاج فيها إلى ثمانية أشهر بالمعدل الذي ذكرناه مع الزيادة والاحتياط ، طيب .. ثلاثون جزءاً عدتها بالدقائق أربع وعشرون ألف دقيقة ( أربعمائة ساعة ) ، هل تعتقدوا أن أربعمائة ساعة كثير ، لو قسمتها على أربع وعشرين ساعة ستعطيك أياماً محدودة ، فجملة الزمن ليس كثيراً لمن تأمل ، لكن تفريقه مهم حتى يتشرب ويحفظ شيئاً فشيئاً ، المدة كاملة بهذا الحساب أربع سنوات .
ونحن نضيف عليها أيضاً نصف سنة ، فنقول : إن المجموع أربع سنوات ونصف ، إذا كان يحفظ نصف صفحة هل نصف صفحة قليل أم كثير ؟ ليست كثير ، ومع ذلك - كما قلت - قد يقول بعض الناس نصف صفحة قليل ، خذ نصف صفحة وأربع سنوات ونصف وتختم .
وكنت قد طلبت من أحد مدرسي التحفيظ أن يساعد في وضع الجداول فصنع شيئاً لكنه لم يصلني ، و أخبر عن قصة رجل في السبعين من عمره ، عزم على حفظ القرآن ، ونحن نعرف أن رجلاً في السبعين ممكن أن نقول يتزوج يقع منه ، أراد أن يسافر يقع ، لكن في السبعين يفكر يحفظ ماذا يقول الناس ؟ يقولون : لا يمكن ..
فوضع برنامجاً وحفظ وأتم الحفظ وهو ابن خمسة وسبعين عاماً ، أي في خمس سنوات ، وهذا واقع وهو حقيقة ليس خيالاً.
البرنامج الثاني هو : إذا أراد أن يحفظ صفحة في اليوم(/15)
والصفحة أيضاً ليست كثيرة ، وهذا ربما يكون للطلاب ولصغار السن .. الفروق موجودة الكبير حدة ذهنه أقل ، وكثرة مشاغله أكثر ، الصفحة في اليوم الواحد تستغرق ثلاثين دقيقة - كما قلنا - بحد زايد ودون المتوسط .
ثلاثون دقيقة على الطريقة التي قلناها في كل يوم ، الجزء عشرون صفحة مفترض أن يأخذ عشرين يوماً ، نحن نقول يأخذ شهراً كاملاً ، حتى يكون هناك احتياط ، أو خمسة وعشرون يوماً ، الأربع الأجزاء التي تلي هذا الجزء الأول ستأخذ كم من المدة؟
المفترض عشرون صفحة تأخذ عشرين يوماً ، لكن جعلناها خمسة وعشرين ، وإن أردت شهراً فلا بأس ، ثم الأربعة أجزاء من المفترض أن تأخذ ثلاثة أشهر ونصف ، نحن نجعلها أربعة أشهر ، ويكون مع ما مضى المجموع أربعة أشهر ونصف كاملاً للأجزاء الأولى ، ثم يأخذ المرحلة الأولى عشرة أجزاء ، لكن - كما قلنا - سنزيد فيها من حيث المدة .
العشرة أجزاء من المفترض لو أخذنا جزء في الشهر وأجملنا أو رأينا الإجمال فهناك يكون عشرة أشهر ، لكننا نقول أحد عشر شهراً ، والعشرة الأجزاء الثالثة اثنا عشر شهراً ، يعني سنة كاملة - يزيد على المدة المعتادة شهرين - الأجزاء الخمسة الأخيرة مفترض في خمسة أشهر ، نحن نقول في ستة أشهر ونصف ، إجمالي الجدول ثلاثون جزءاً في ثمانية عشر ألف دقيقة ( ثلاثمائة ساعة ) ، ( أربعة وثلاثين شهراً ) ، ( سنتان وعشرة أشهر ) بالتمام والكمال ، وإن أردت أن تضيف الشهرين ستكون في ثلاث سنوات ، وهذا يكون كاملاً بإذن الله عز وجل.
البرنامج الثالث : برنامج التمكين
ونعني به تمكين الحفظ والنصوص أيضاً فيه كثيرة ؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول : ( تعاهدوا القرآن ؛ فإنه أشد تفلتاً من الإبل في عقلها ) وفي رواية : ( تفصياً ) يعني يتفلت ويهرب .
والنبي عليه الصلاة والسلام أخبر فقال : ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ) ، فلا بد من أن يكون الحفظ متيناً وجيداً من البداية ، وإن لم يكن ذلك كذلك ؛ فإن هناك عرج دائم وخللٌ مستمر ، وتصدعٌ ظاهر ، كالذي يبني البيت بسرعة ؛ فإنه يتصدع ، والسباكة تخرب ، والنجارة تتعطل ، فما يزال يصرف عليه في صيانته ، وما يزال يتعب ويقلق ويتنكد من هذا ، مما لو أنه زاد في الوقت ، أو زاد في المال أو أتقن في العمل لارتاح من ذلك كله ، وهذا مطرد في سائر أعمال الحياة.
الطريقة العملية عندنا أيضاً فيها مرحلتان :
المرحلة الأولى :مرحلة ضبط الحفظ في موضعه
يعني في الحصة التي يحفظها في القدر الذي قرره في هذا اليوم ، بعيداً عن التمكين الذي يجمع الأجزاء الكثيرة أو الكم الكبير هذه الطريقة تحتاج منه إلى عدة أمور :
1- المتانة الأولية
ونعني بها أن لا يقبل في حفظه الأول لمقطعه أو صفحته أي خطأ أبداً ، وأن لا يعد نفسه قد حفظ حتى يكون محفوظة الجديد مثل حفظه وإتقانه للفاتحة ، ولا يرضى بدون ذلك ، طلاب التحفيظ يحفظون الصفحة وفيها خطأ أو خطأين يقولون : لا بأس ، غداً أ(/16)
برقيات بمناسبة العام الدراسي الجديد ناصر بن محمد الأحمد
فهذه ست برقيات سرية عاجلة أرسلها لمن يهمه الأمر بمناسبة العام الدراسي الجديد. أما إنها سرية فلأنها بيني وبينكم، وكونها عاجلة فلأنه لم يبق على فتح المدارس إلا ساعات قليلة.
البرقية الأولى: انتهاء إجازة الصيف.
بالأمس بدأنا عطلة الصيف، واليوم نحن نودعها، وسبحان الله كأنها ثلاث أو أربع ساعات. هكذا يا عبد الله سرعة انقضاء الأيام بل الشهور والسنين، سرعة في الزمن بشكل عجيب. بالأمس ولد لك مولود، واليوم قد انتهى من المرحلة الابتدائية بالأمس أدخلته المدرسة، واليوم تخرج من الجامعة سرعة وحركة في الزمن، وهو سرعة وحركة في عمرك ودنو أجلك يا عبد الله، قف يا أخي الحبيب هذه الوقفة، واستقبل مني هذه البرقية السرية العاجلة، استرجع العام الدراسي المنصرم، بحلوه ومره، بأفراحه وأتراحه. بنجاحه ورسوبه، استرجع ذلك كله، وراجع سجلاتك ودفاترك وأنت تستقبل عاما دراسيا جديدا، ماذا قدمت؟ وماذا أخرت؟ ماذا لك؟ وماذا عليك؟ فإن كنت من الراسبين فتصحح ذلك الرسوب بتوبة نصوح وتعود إلى ربك، وإن كنت من الناجحين وظني بك كذلك فازدد من العمل وواصل المسير.
البرقية الثانية: حركة الشوارع
ستشهد الشوارع غدا حركة مرورية غير طبيعية قياسا على الأيام القريبة الماضية، زحمة في حركة السيارات في إيصال الأولاد والبنات إلى مدارسهم وحافلات المدارس تسير هنا وهناك. ومن هذه البرقية يا أخي ولي أمر الطلاب والطالبات أقرأ عليك بعض ما ورد فيها:
أولا: ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، فإياك ثم إياك والعجلة، والتهور في إيصال الأولاد في وسط هذا الزحام. كثير من حوادث المرور يقع في صبيحة المدارس بسبب عجلة الناس في إيصال أولادهم ثم إدراكه لعمله دون تأخير، فقليل من التبكير توصل وتصلوأنت مطمئن. ثم لماذا لا يراعى من قبل من يضعون أوقات الدوام الرسمية هذه القضية حفاظا على سلامة الناس.
ثانياً: أقرأ عليك يا ولي الأمر من هذه البرقية كلمات التحذير بعد التحذير من التساهل في مسألة السائقين وخلوتهم ببناتك. السائق لا يترك لوحده في إيصال الطالبات إلى المدارس خصوصا طالبات المتوسط والثانوية، فإن في هذا خطراً كبيراً على العرض، والتساهل في هذه المسألة والثقة المفرطة في السائق تأتي علينا بمشاكل قد لا نحسب حسابها، والغرائز لا ينكرها عاقل، فإذا تحركت فإنها لا تعرف التوسط والاعتدال، ولا تفرق بين هندي أو فلبيني، ولا بين سعودية ولا غيرها، وأيضا مسألة الحجاب له تأثير كبير في مشاكل السائقين تجد بأن البنت بل الأسرة كلها يتساهلون في مسألة الحجاب مع السائقين، ومنها تبدأ المشكلة ثم الطامة، فعلى كل ولي أمر أن يأمر بناته الطالبات بل ويلزمهن بالحجاب من خروجها من المنزل حتى العودة من المدرسة.
البرقية الثالثة: أوجهها لكل مدرس،
أي خطأ يرتكبه ذلك المدرس الذي يظن أن وظيفته رسمية فحسب، وأي ظلم وإهانة للجيل الناشئ سيحصل لو ظنه المدرس ذلك، فيا أخي المدرس: أنت على ثغرة عظيمة، أنت الذي وثق آلاف وآلاف أولياء الأمور عندما سلموا لك أولادهم، وعلقوا برقبتك هذه الأمانة، فذاك الرجل الطاعن في السن وتلك المرأة الضعيفة قد علقوا آمالهم بعد الله عليك أيها المدرس.
إن وظيفة التعليم أسمى وأعلى من أن تكون وظيفة رسمية أو مصدراً لكسب الرزق إنها إعداد للأجيال وبناء للأمة هل تعلم أخي المدرس أن العالم الداعية الذي يحمل هم دينه أو ذلك القاضي الذي يحكم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم أو ذلك الجندي الذي يقف في الميدان حاميا لعرين الأمة وحارسا لثغورها هل تعلم بأن كل هؤلاء وغيرهم وغيرهم إنما كانت بداياتهم هو أنت وكل هؤلاء قد عبروا بوابة المدارس.
إن عظماء العالم وكبار الساسة وصناع القرارات الخطيرة كل هؤلاء بالتأكيد قد مروا عليك أنت أيها المدرس أولاً. وإن بصماتك بالتأكيد قد أثرت في ناحية من نواحي تفكيرهم أو على جانب من جوانب شخصياتهم.
إنه ليس بلازم أن يكون قواد الأمة ومصلحيها قد مروا على عيادات الأطباء أو على مكاتب المهندسين أو المحامين، بل إن العكس هو الصحيح، إذ لا بد أن يكون كل هؤلاء الأطباء والمهندسين والصيادلة والمحامين والمحاسبين وغيرهم، لا بد وأن يكونوا قد مروا من تحت يد مدرس، لأنهم من ناتج عمله وجهده وتدريبه.(/1)
إن المعلمين يخدمون البشرية جمعاء ويتركون بصماتهم واضحة على حياة الأفراد ومستقبلهم يستمر مع هؤلاء الأفراد السنوات وقد تمتد معهم ما امتد بهم العمر. إنهم يتدخلون في تشكيل حياة كل فرد حر من باب المدرسة ويشكلون شخصيات رجال المجتمع من سياسيين وعسكريين ومفكرين وعاملين في مجالات الحياة المختلفة، فهو أنت أيها المدرس، الذي تدرس الصغير والكبير وتعد الجميع وتهيئهم ليصل بعضه إلى ما لم تصل إليه أنت. لكنك صاحب اللبنة الأولى وحجر الأساس. فهل أدركت موقعك من المجتمع وعلمت مكانك بين الناس، وهل أدركنا نحن الآباء الآن دور المدرس؟ فهذه بعض لفتات أقرأها عليك أخي المدرس من هذه البرقية:
أولاها: لا تهمل النصيحة ولو لبضع دقائق، وإن لم تكن مدرس دين، فليس شأنك أن تدرس الفاعل والمفعول أو توضح المركبات الكيميائية أو تحل المعادلات الرياضية لكن مهمتك مع كل هذا التربية، فخصص وقتا ولو يسيرا لذلك.
ثانيها: مساهمتك أيها المدرس في إصلاح نظام التعليم، إن دورك لا يقف على ما تقدمه في الفصل الدراسي. فأنت أدرى من غيرك بالإيجابيات والسلبيات فساهم في اقتراح بناء على إدارة المدرسة أو تنبيه على ملحظ أو مناقشة هادئة لقرار، ولا بأس أن تطرح فكرة بناءة فتكتب عنها إلى من يهمه الأمر أو تسعى لدارسة ظاهرة من الظواهر السلبية في نظام أو مادة فتكتب عنها، والمهم أن لا تكون سلبيا.
البرقية الرابعة: لك أنت أيها الأب
إنها برقية سرية وعاجلة أيضا لكنها لك أنت أيها الأب ولي أمر الطالب والطالبة، اعلم رعاك الله بأن البيت هو الدائرة الأولى من دوائر تنشئة الولد وصيانة عقله وخلقه ودينه. فماذا يصنع المدرس؟ أو ماذا تستطيع أن تعمل إدارة المدرسة؟ بل حتى وزارة المعارف لطالب نشأ في بيت بعيد عن الأجواء الشريعة المنضبطة، وآخر تربى على استنكاف العبادات الشرعية، وثالث نشأ في جو موبوء بالمنكرات، ورابع ركب أبوه الدش فوق رأسه، فقد يستطيع الأستاذ أن يقطع خطوات في تربية الطالب وتوجيهه، لكنه جهد غير مضمون الثمرة، لأن تأثير البيت المعاكس يظل دائما عرضة لإفساد ما تحاوله المدرسة. وإن من أكبر التناقضات التي يعيشها الطالب والتي تكون سببا في انحرافه سلوكياً وسقوطه دراسيا هو التناقض الذي يعيشه بين توجيهات مدرس صالح ومتابعة إدارة جيدة وبين بيت موبوء بوسائل الإعلام المخالفة والمصادمة لتوجيهات المدرسة.
كيف سيتفوق طالب يقضي كل يوم أربع أو حتى خمس ساعات بين أفلام ساقطة وبرامج هدامة تهدم كل يوم لبنة من لبنات الفطرة السليمة في شخصية هذا الطفل؟ ماذا تتوقع من طالب في سن المراهقة يعكف على مسلسلات قاعدتها الأساسية مظاهر الحب والغرام والعشق بين الجنسين ومسرحيات وتمثيليات تظهر مفاتن المرأة ومحاسنها؟ ثم يتمنى الأب أن يكون ولده في المرتبة السامية العليا من الأخلاق والأدب ومن السلوك الطيب، ويكون متفوقا في دراسته هذا لا يمكن أبدا.
فاتقوا الله أيها الآباء واتقوا الله يا أولياء أمور الطلبة والطالبات، كونوا عونا وسندا لتوجيهات المدرس، ولا تكونوا سببا في انحراف أولادكم بسبب محرمات أدخلتموها في بيوتكم ثم بعده فشل هذا الطالب في دراسته وحياته كلها.
البرقية الخامسة: أرسلها للأغنياء..
نعم الأغنياء، فتسألني ما علاقة الأغنياء بدخول عام دراسي جديد؟! العلاقة أخي الحبيب: الأسعار المرتفعة للأدوات المدرسية ماذا يفعل موظف راتبه ثلاثة أو أربعة آلاف ريال وله اثنان أو ثلاثة من الأولاد في المدارس؟! ماذا يعمل وكيف يواجه أسعار أدوات المدارس المرتفعة إذا كانت الشنطة العادية يتراوح سعرها بين ال 50 و75 ريالا؟ فكيف بباقي الطلبات؟ ثم كيف وكيف بطلبات البنات فذاك أمر عجيب.؟
فيا أصحاب القرطاسيات المدرسية رحمة وشفقة بفقراء المسلمين هل فكرتم أن تجعلوا شيئا من صدقاتكم بعض أدوات يحتاجها فقير في حي، أو أرملة مات زوجها وأولادها في المدارس؟ تصدقوا في هذه الأوقات يبارك الله لكم في تجارتكم.
ثم يا أيها المدرسون والمدرسات: رحمة وشفقة بفقراء المسلمين، لا تطلبوا ولا تلزموا الطلاب مالا حاجة ملحة له، وما يمكن الاستغناء عنه فليلغى، ولا يكن مقاييسكم طلبات متوسطة الدخول الشهرية. بل ما دون المتوسط مراعاة لنفسيات فقراء الطلبة والطالبات.
وأخيرا يا أيها الأغنياء، يا من وسع الله عليكم هذا وقت مناسب للصدقات والتبرعات، تلمسوا البيوت الفقيرة حولكم، واعرفوا ما ينقص أولادهم من طلبات المدارس، فسددوا هذا النقص يؤتكم الله أجرا عظيما. ويا حبذا لو تعرف المدرسون والمدرسات على محاويج الطلبة عندهم ثم قاموا هم بتشكيل لجنة، وجمعوا من بعض التجار، وتولوا هم هذا الأمر لأنهم أعرف بطلابهم وحاجياتهم.
البرقية السادسة: الهدف من التعليم(/2)
لو سألنا سؤالا وقلنا، ما هو الهدف من العملية التعليمية كلها؟ ما هو الهدف من فتح المدارس ووضع المناهج وطبع الكتب وتوظيف هذا الكم الهائل من المدرسين وصرف هذه المرتبات لهم وبناء المدارس والأبنية والأثاث إلى ما لا عد له ولا حصر؟ ما هو الهدف منذلك؟
لا شك عندنا والجواب واحد من الجميع بأن الهدف هو هذا الطالب. الهدف من المؤسسة التعليمية بقضها وقضيضها هو الطالب، لكن هل أن يخرج عجلا آدميا؟ بالتأكيد لا.
الهدف هو أن نعد هذا الطالب إعدادا صحيحا يتخرج هذا الطالب وهو يملك عقلا واعيا وخلقا رفيعا وعقيدة صحيحة، وكل هذا لا بد أن يثمر العمل. يثمر محبة الله وخوفه ورجاءه ثم يثمر الاعتدال في الحكم على الأمور، يثمر الاستعداد لله وللدار الآخرة.
الهدف من المؤسسة التعليمية في شريعة الإسلام هو إعداد ذلك الإنسان الصالح النافع لنفسه وأبويه ومجتمعه وأمته.
الهدف من التعليم هو تخريج أجيال مؤمنة تربت على الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعلم والتعلم والصبر، وإذا لم نخرج في النهاية بهذا فعملنا ضائع لا جدوى له، ضائع في الدنيا قبل الآخرة.
عليك أيها الأب وأنت أيها المدرس وقبلهم أنت أيها الطالب وبعدهم نحن جميعا ونحن نستقبل عاما دراسيا جديدا أن نستحضر هذه المعاني، وأن ندرك بأن هدف التعلم هو هذا، وما جُعل العلم والتعليم في الإسلام إلا لهذا، وإذا ما رأيت أيها الأب غير هذا سواء في ولدك بعد التخرج أو حتى وهو يتنقل في مراحله التعليمية أو حتى في أولاد غيرك فاعلم بأن خطة التعليم التي يسير عليها ولدك غير صحيحة وأنه هناك نقصاً. فإما أن يكون النقص والقصور فيما يأخذ فهي ليست كاملة ومستوفاة، فاحرص أن تكمله أنت في البيت أو إدخاله في حلقات التحفيظ في العصر أوإلحاقه بإحدى المكتبات الخيرية، أو أن الخلل يكون في المعلمين والمدرسين الذين يتلقى عنهم ولدك، فهم إما أنهم ليسوا على مستوى التدريس والتعليم أو أن هذه المعاني غائبة عن أذهانهم أصلا، وهذه مشكلة كبيرة في حد ذاتها.
وهذا هو النقص الحقيقي الموجود في طاقم التدريس، فمثلا مدرس الرياضيات يظن أن عمله والمطلوب منه هو تقديم هذه المادة الجافة وشرحها، وأن يفهمها الطلاب ثم يخرج، وقل مثل هذا الكلام على مدرس الفيزياء والتاريخ والجغرافيا والنحو وغيرها كثير.
طيب الخلق والأدب والتوجيه والإرشاد وصياغة عقل الطالب وخلق الطالب، كل هذا من أين يتلقاه الطالب؟ ومن أين يأخذه؟ من البيت؟ الأب أدخل ولده المدرسة وهو يتصور أن المدرسة تقوم بشيء من الدور، وفي المدرسة يوجد هذا التصور الكبير في طاقم المدرسين وهذا الانشطار في الفهم؛ لأن مدرس الرياضيات يظن بأن هذا مهمة مدرس الدين وإذا ما أتيت إلى مدرس الدين وجدته أنه ملتزم بمنهج محدد لا بد أن ينهيه وهو أصلا لا يلتقي بالطلاب إلا سويعات في الأسبوع، فلا يجد فرصته أصلا للتوجيه.
لا بد أن يشارك الجميع في قضية التوجيه والإرشاد وصيانة خلق الطالب وأدبه، وعقله ودينه، وهذه ليست مهمة مدرس الدين فقط.. بل كل مدرس هو مسؤول عن هذا الجانب ثم ما لا يكتمل فإنه يُكمّل في البيت، حتى يخرج في النهاية ذلك الإنسان المسلم الصالح النافع لأمته.
وإذا أهملنا هذا الجانب فإن الخسارة نتحملها نحن، تصرف أموال بالملايين على التعليم ثم لا يؤدي هذا التعليم ما هو مطلوب منه، فيتخرج المهندس، ويتخرج الطبيب، ويتخرج الفني، لكن ما الفائدة عندما يكون مهندسا فاجرا أو طبيبا فاسقا أو موظفا خائنا؟ كم تخسر الأمة من تخريج أمثال هؤلاء؟ السبب: هو أن المؤسسة التعليمية لم تكمل من كل جوانبها، حتى يتخرج ذلك الإنسان المؤمن العاقل الناضج الذي يخاف الله والذي يراقب الله قبل أن يراقب مديره ومسؤوله في العمل.
فهل هذه المعاني واضحة في أذهاننا؟ ونحن نستقبل عاما دراسيا جديدا؟ آمل ذلك.
اللهم رحمة تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترد بها الفتن عنا، يا حي يا قيوم.
موقع رسائل http://www.rasael.net/link27.asp?pid=27&id=50(/3)
بركة الرزق
1665
الربوبية, قضايا المجتمع
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
ملخص الخطبة
1- الله خلق الخلق وقدر أرزاقهم. 2- البركة في الرزق تجعل القليل كثيراً. 3- التقوى سبب من أسباب البركة. 4- الدعاء سبب من أسباب البركة. 5- صلة الرحم سبب في البركة. 6- الإنفاق في سبيل الله من أسباب البركة. 7- الكسب الطيب كسب مبارك. 8- نصيحة عن الزواج وآدابه.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله حقيقة التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى، وأكثروا من ذكر الموت والبلى وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
عباد الله: إن الله أنعم علينا بنعم عظيمة ومنن جليلة كريمة. نعم لا تعد ولا تحصى ومنن لا تكافأ ولا تجزى، فما من طرفة عين إلا والعبد ينعم فيها في نعم لا يعلم قدرها إلى الله جل وعلا: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [هود: 6].
خلق الخلق فأحصاهم عددًا وقسم أرزاقهم وأقواتهم فلم ينس منهم أحدًا، فما رفعت كف طعام إلى فمك وفيك إلا والله كتب لك هذا الطعام قبل أن يخلق السموات والأرض، سبحان من رزق الطير في الهواء والسمكة والحوت في ظلمات الماء، سبحان من رزق الحية في العراء والدود في الصخرة الصماء، سبحان من لا تخفى عليه الخوافي فهو المتكفل بالأرزاق، كتب الآجال والأرزاق وحكم بها فلم يعقب حكمه، ولم يُردُّ عليه عدله، سبحان ذي العزة والجلال مصرف الشؤون والأحوال.
وإذا أراد الله بالعبد خيرًا بارك له في رزقه، وكتب له الخير فيما أولاه من النعم, البركة في الأموال، والبركة في العيال، والبركة في الشؤون والأحوال، نعمة من الله الكريم المتفضل المتعال, الله وحده منه البركة ومنه الخيرات والرحمات، فما فتح من أبوابها لا يغلقه أحد سواه، وما أغلق لا يستطيع أحد أن يفتحه.
لذلك عباد الله: إذا أراد الله بالعبد خيرًا بارك له في رزقه وقوته، إنها البركة التي يصير بها القليل كثيرًا، ويصير حال العبد إلى فضل ونعمة وزيادة وخير، فالعبرة كل العبرة بالبركة, فكم من قليل كثره الله، وكم من صغير كبره الله, وإذا أراد الله أن يبارك للعبد في ماله هيأ له الأسباب وفتح في وجهه الأبواب.
ومن أعظم الأسباب التي تفتح بها أبواب الرحمات والبركات تقوى الله جل جلاله، تقوى الله التي يفتح الله بها أبواب الرحمات ويجزل بها العطايا والخيرات ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [الأعراف:66]. الخير كل الخير، وجماع الخير في تقوى الله جل وعلا، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب، فلن تضيق أرض الله على عبد يتقي الله، ولن يضيق العيش والرزق على من خاف الله واتقاه.
عباد الله: ومن أسباب البركات ومن الأمور التي يفتح به الله أبواب البركات على العباد الدعاء والالتجاء إلى الله جل وعلا، فهو الملاذ وهو المعاذ, فإن ضاق عليك رزقك وعظم عليك همك وغمك وكثر عليك دينك فاقرع باب الله الذي لا يخيب قارعه، واسأل الله جل جلاله فهو الكريم الجواد، وما وقف أحد ببابه فنحّاه، ولا رجاه عبد فخيبه في دعائه ورجاه، "دخل النبي يومًا إلى مسجده المبارك فنظر إلى أحد أصحابه وجده وحيدًا فريدًا ونظر إلى وجه ذلك الصحابي فرأى فيه علامات الهم والغم رآه جالسًا في مسجده في ساعة ليست بساعة صلاة فدنى منه الحليم الرحيم صلوات الله وسلامه عليه ـ وكان لأصحابه أبر وأكرم من الأب لأبنائه ـ وقف عليه رسول الهدى فقال: ((يا أبا أمامة ما الذي أجلسك في المسجد في هذه الساعة؟)) قال: يا رسول الله، هموم أصابتني وديون غلبتني ـ أصابني الهم وغلبني الدين الذي هو همّ الليل وذل النهار ـ فقال : ((ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن أذهب الله همك وقضى دينك)) صلوات ربي وسلامه عليه، ما ترك باب خير إلا ودلنا عليه, ولا سبيل هدى ورشد إلا أرشدنا إليه فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته ((ألا أدلك على كلمات إذا قلتهن أذهب الله همك وقضى دينك؟)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وأمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)) قال وأرضاه: فقلتهن فأذهب الله همي وقضى ديني"[1].
الدعاء حبل متين وعصمة بالله رب العالمين إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة:5]. فإذا أراد الله أن يرحم المهموم والمغموم والمنكوب في ماله ودينه ألهمه الدعاء، وشرح صدره لسؤال الله جل وعلا من بيده خزائن السموات والأرض، يده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة.
ومن أسباب البركات، ومن الأسباب التي يوسع فيها على أرزاق العباد صلة الأرحام، قال : ((من أحب منكم أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، وأن يزاد له في عمره فليصل رحمه))[2].(/1)
صِلُوا الأرحام؛ فإن صلتها نعمة من الله ورحمة يرحم الله بها عباده، أدخل السرور على الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وسائر الأرحام والقرابات. فمن وصلهم وصله الله وبارك له في رزقه ووسع له في عيشه.
ومن أسباب البركات التي توجب على العباد الرحمات والنفقات والصدقات، فمن يسر على معسر يسر الله له في الدنيا والآخرة، ومن فرج كربة المكروب فرج الله كربته في الدنيا والآخرة، فارحموا عباد الله يرحمكم من في السماء، والله يرحم من عباده الرحماء، وما من يوم تصبح فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا[3].
يا ابن آدم أنفق ينفق الله عليك، وارحم الضعفاء يرحمك من في السماء، فرجوا الكربات وأغدقوا على الأرامل والمحتاجين، فإن الله يرحم برحمته عباده الراحمين، قال : ((يا أسماء أنفقي يُنفق الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك))[4]امرأة يقول لها أنفقي ينفق الله عليك، فمن أنفق لوجه الله ضاعف الله له الأجر؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله، ولك الخلف من الله، فما نقصت صدقة من مال. كان الناس إلى عهد قريب يعيشون حياة شديدة صعيبة، ومع ذلك فرج الله همومهم، ونفس الله غمومهم بفضله ثم بما كان بينهم من الرحمات، كانوا متراحمين متواصلين متعاطفين فجعل الله القليل كثيرًا، وانظر إلى أصحاب رسول الله كيف كانوا رحماء بينهم فرحمهم الله من عنده.
ومن الأسباب التي يبارك الله بها في الأرزاق، بل يبارك بها في الأعمار وفي أحوال الإنسان العمل والكسب الطيب، الإسلام دين العمل، دين الكسب، الحلال الذي يعف الإنسان به نفسه عن القيل والقال وسؤال الناس، فمن سأل الناس تكثرًا جاء يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم[5] والعياذ بالله.
خذ بأسباب الرزق وامش في مناكبها فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور [الملك: 15]. بسط الله الأرض وأخرج منها الخيرات والبركات، وجعل الخير في العمل، والشر في البطالة والكسل، الإسلام دين الجهاد والعمل قال : يرشدنا إلى فضل الأعمال وما فيها من الخير في الأرزاق ((وجعل رزقي تحت ظل رمحي))[6].
فليست الأرزاق أن يجلس الإنسان في مسجده، فلا رهبانية في الإسلام فإن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، خذوا بالأسباب واطلبوا الرزق الحلال من أبوابه يفتح الله لكم من رحمته، وينشر لكم من بركاته وخيراته، الرجل المبارك يسعى على نفسه وأهله وولده، فيكتب الله له أجر السعي والعمل، ليس العمل بعار، فقد عمل أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كان نبي الله داود يعمل صنعة لبوس فكان يعمل في الحدادة فكانت منة من الله على عباده.
ليس بعار أن تكون حدادًا أو نجارًا، ولكن العار كل العار في معصية الله جل وعلا والخمول والكسل والبطالة حين يعيش الإنسان على فتات غيره، حين يعيش الرجل على فتات غيره مع أنه صحيح البدن قوي في جسده، فهذا من محق البركة في الأجساد، فخذوا رحمكم الله بأسباب البركة بالعمل المباح والكسب المباح، فلن يضيق الرزق بإذن الله على من اكتسب, قال : ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروحوا بطانًا))[7] فأخبر أنها تغدو وأخبر أنها تذهب، فمن ذهب للرزق يسر الله أمره، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [الحشر:18].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه أبو داود في كتاب الوتر, باب في الاستعاذة (4/412) عون المعبود شرح سنن أبي داود، عن أبي سعيد الخدري.
[2] رواه البخاري في كتاب الأدب، باب من بسط له الرزق بصلة الرحم (10/429) فتح، ومسلم في كتاب البر، باب صلة الرحم وتحريم قطعها (16/114) بشرح النووي، عن أنس.
[3] رواه البخاري في كتاب الزكاة, باب قول الله تعالى: فأما من أعطى واتقى... (3/304) فتح، ومسلم في كتاب الزكاة، باب كل نوع من المعروف صدقة (7/95) بشرح النووي، عن أبي هريرة.
[4] رواه مسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الإنفاق وكراهة الإحصاء (7/118) بشرح النووي، عن أسماء.
[5] كما عند البخاري في كتاب الزكاة، باب الحث على الإنفاق وكراهة الإحصاء (7/118) بشرح النووي، عن أسماء.
[6] رواه البخاري تعليقًا في كتاب الجهاد, باب ما قيل في الرماح، ورواه أحمد (2/50) عن ابن عمر.
[7] رواه أحمد (1/30) والترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في الزهادة في الدنيا، عن عمر بن الخطاب.
الخطبة الثانية(/2)
الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار وعلى جميع أصحابه الأبرار ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم ما أظلم الليل وأضاء النهار.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله:
بعد أيام قليلة ينتهي هذا النصف من العام الدراسي وتُقبل العطل على الناس فيعيش الناس هذه العطلة والله أعلم بما غيبت لهم من الأقدار والأخبار, ولكنَّ كثيرًا من الناس قد يكرمهم الله عز وجل بفضله فيغتنمون هذه العطل في خير يعود عليهم بصلاح دينهم ودنياهم وأخراهم.
ومن الأمور التي يكثر وقوعها في هذه العطلة: الزواج: الرحمة العظيمة والمنة الجليلة الكريمة التي بها يضاف بيت مسلم إلى بيوت المسلمين فنسأل الله العظيم أن يبارك للمسلمين فيما يكون لهم من ذلك وأن يجعل أفراحهم عونًا على طاعته ومحبته ومرضاته، وأن يُخرجَ منها الذرية الصالحة التي تقر بها العيون.
فيا معشر الشباب، يا معشر الآباء والأمهات إن الزواج مسئولية عظيمة، فمن أراد أن يكرمه الله بنعمته فليأخذ بأسباب الخير في هذا الرباط العظيم خيرها وأفضلها:
أن يتقي الله عز وجل في نكاحه فلا تنكح إلا عبدًا صالحًا ولا تنكح إلا مؤمنة تتقي الله وتخافه قال رجل للحسن البصري رحمه الله: يا إمام إن لي ابنة لمن أزوجها؟ قال: زوجها التقي؛ فإنه إن أمسكها أكرمها وإن طلقها لم يظلمها.
فاتقوا الله عز وجل في اختيار الأزواج والزوجات، وإذا أكرمك الله فوجدت المرأة الصالحة وأردت أن تبني هذا البيت فابنه على تقوى من الله ورضوانه، فإنه الأساس المتين والحصن الحصين بإذن الله رب العالمين، فمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان أسعده الله في حياته وبارك له في نفقة الزواج, فخير النساء وأبركهن أيسرهن مئونة، فإياك والإسراف, إياك والبذخ, فإن الله لا يحب المسرفين، واشكر نعمة الله عز وجل عليك، وجليل منته لديك، إذ أعطاك المال وحرم غيرك، فاتق الله في مالك وما تنفقه في زواجك ونكاحك، واطلب اليسير فإن الله يجعله كثيرًا بفضله ورحمته.
لو كان التفاخرُ في المهور ومئونة النكاح خيرًا لفعله رسول الله والأخيار من بعده فخيرُ النساء وأبركهن أيسرهن مئونة.
الأمر الثالث: اتق الله في ليلة عُرسك، اتق الله أن تستفتح هذا الزواج بمعاصي الله، وانتهاك حدود الله ومحارم الله وجمع العباد على ما يسخط الله ويغضب الله، اللهَ اللهَ أن تستفتح هذا النكاح بما يوجب غضب الله عليك وسخطه عليك فإنه من يخادع الله يخدعه، ومن يكفر نعمة الله عز وجل فإن الله عزيز ذو انتقام.
عباد الله: إن الله أمرنا بالصلاة والسلام على خير الأنام رسول الخير والسلام....(/3)
بروتوكولات صهيون في تطبيقاتها الأمريكية
إعداد/ د. عبد الحميد هنداوي
الأستاذ بكلية دار العلوم ـ القاهرة
اطلعت على تقرير(1) كتبه شيريل بينارد من قسم بحوث الأمن القومي في مؤسسة راند الأمريكية(2)، يتناول الشئون الاستراتيجية والأمنية، الأمريكية والعالمية على السواء، وقد صدر هذا التقرير في 18 مارس 2004 بعنوان: «الإسلام المدني الديمقراطي: من يشارك فيه، وما مصادره واستراتيجياته»؟
وهذا التقرير يأتي ضمن سلسلة أبحاث قامت وتقوم بها العديد من الجامعات ومراكز الأبحاث العلمية الأهلية والحكومية بهدف تقديم الوسائل والسبل للتصدي للإسلام السلفي أو ما يسمونه بالأصولي باعتباره حجر عثرة في طريق تحقيق الولايات المتحدة لأغراضها في العالم الإسلامي، على اختلاف وتنوع تلك الأغراض ما بين دينية صليبية حاقدة، وسياسية متغطرسة، وعسكرية مستعمرة، واقتصادية مستغلة... إلخ.
ويرى التقرير أن الولايات المتحدة لها أهداف محددة فيما يتعلق بالإسلام السياسي أهمها:
1- منع انتشار التطرف والعنف، وحين تفعل هذا تحتاج إلى تجنب ترك الانطباع بأن الولايات المتحدة تعارض الإسلام.
2- التأثير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بما يحقق المصالح الأمريكية في المنطقة.
3- العمل على إيجاد عالم إسلامي قابل للتوافق مع الأنظمة الديمقراطية ويتبع أحكام السلوك الدولي وأعرافه.
4- العمل على منع صدام الحضارات بكل أنواعه وألوانه الممكنة - لا سيما الحضارة الإسلامية بما تحمل من أصول ومفاهيم تتصادم مع الحضارة الغربية - مما يؤدي إلى زعزعة الاستقلال واشتداد الإرهاب.
5- ومقتضى ما سبق أن يتم العمل على كافة السبل لإلغاء التصادم بين الإسلام والغرب، وذلك بالعمل على تذويب المسلمين، وتمييع عقائدهم وتصوراتهم ومفاهيمهم بما يتماشى مع الواقع الأمريكي على وجه الخصوص.
الرؤية الأمريكية للعالم الإسلامي اليوم
ويحدد هذا التقرير معالم النظرة الأمريكية للعالم الإسلامي اليوم حيث يرد أزمة العالم الإسلامي إلى أمرين هما:
1- إخفاقه في تحقيق الازدهار.
2- فقدان اتصاله بالتيار العالمي.
ويرى أن المسلمين تختلف اتجاهاتهم إزاء ما ينبغي عمله لمواجهة هذا الوضع، ويختلفون أيضًا عما ينبغي أن يكون عليه مجتمعهم في النهاية، ويميز التقرير بين أربعة اتجاهات أساسية بين المسلمين:
1- الأصوليون:
وهم في وجهة نظره الذين يرفضون الديمقراطية والثقافة الغربية المعاصرة، ويريدون إقامة دولة دينية(3)، ويستعدون لاستخدام التجديد والتقنيات الحديثة للوصول لهذا الهدف.
2- التقليديون:
وهم على نفس النهج السابق، ولكنهم - في وجهة نظرهم - أكثر اعتدالاً، وقصارى ما يمكن أن يقال فيهم: إنهم في أحسن الأحوال يمكن أن يقيموا مع ثقافة الحداثة الغربية سلامًا متوترًا.
3- الحداثيون:
وهم الذين يريدون أن يصبح العالم الإسلامي جزءًا من الحداثة العالمية، عن طريق تحديث الإسلام وإصلاحه ليتوافق مع تطلبات العصر.
4- العلمانيون:
وهم الذين يريدون من العالم الإسلامي أن يقبل بمبدأ فصل الدين عن الدولة.
ومن الواضح أن الحداثيين والعلمانيين صناعة غربية؛ لذا يلفظهم المجتمع المسلم.
ويرى التقرير أن الإسلام الرشدي التقليدي يحتوي على عناصر ديمقراطية يمكن أن تستخدم في مواجهة إسلام الأصوليين السلطوي القمعي، لكنه لا يصلح أن يكون الوسيلة الأساسية لبناء إسلام ديمقراطي؛ لأن هذا الدور مهمة الحداثيين المسلمين، مع أن هناك عددًا من القيود يحد من فاعليتهم سوف يكشف عنها هذا التقرير.
ويقترح التقرير كذلك سبل ووسائل دعم هذه الاستراتيجية الأمريكية بعدد من الوسائل التي تعد خلاصة ما سبق، ومنها:
1- تشجيع التيارات الموالية للغرب في العالم الإسلامي، وتعزيز نشاطهم ليصبح أكثر فاعلية.
2- إدخال آراء الحداثيين في المناهج التعليمية الإسلامية، ونشر آرائهم لتنافس آراء الأصوليين والتقليديين.
3- وضع العلمانية والحداثة أمام الشباب المسلم كخيار ثقافة مضادة للجهل والتخلف.
4- بث الوعي بالثقافات غير الإسلامية كالفرعونية وغيرها، والتعريف بما في مناهج التعليم ووسائل الإعلام.
مواجهة الأصوليين ومعارضتهم
- يدعو التقرير إلى مواجهة الأصوليين، وإشاعة الفرقة بينهم وبين التقليدين، وإذاعة نقد هؤلاء لعنف الأصوليين وتطرفهم، وتثقيف التقليديين ليكون بوسعهم مناقشة الأصوليين.
- ومن جانب أخر يوصي التقرير بتشجيع التعاون بين الحداثيين والتقليديين الذين هم أقرب إلى الطرف الحداثي، والعمل على زيادة حضور الحداثيين وتميزهم في المؤسسات التقليدية.
- بث المغالطات حول تفسير الأصوليين للإسلام، والتزيد بعواقب أعمالهم العنيفة، والبرهنة على عجزهم عن الحكم، وبث هذا الخطاب على كل المستويات.
- تجنب إظهار الاحترام أو الإعجاب بالأفعال التي يقوم بها الأصوليون، وإسقاط احترامهم، واعتبارهم جبناء وليسوا أبطالاً.(/1)
- تشجيع الاعتراف بالأصوليين عدوًا مشتركًا بين الغرب وبين القوى غير الإسلامية في العالم الإسلامي كالقوميين واليساريين.
- توجيه قدر أكبر من الانتباه إلى التصوف والعناية بالإسلام الصوفي.
نداء إلى مسلمي العالم !
وبعد، يحق لنا أن نتساءل هل يختلف هذا التقرير في شيء في لهجته وعدوانيته وحقده على الإسلام والمسلمين عن تلك البروتوكولات التي سطرها الصهاينة قبل القرن الماضي.
إنها البرتوكولات في ثوبها الأمريكي المعاصر الدنس تطل علينا بهذا الوجه الكشر القبيح الذي تظهر عليه ملامح الغضب والحقد والتغيظ على الإسلام وأهله.
وبعد؛ فإن الأمر لا يحتاج إلى كثرة كلام ولا إلى مزيد تعليق، فالكلام واضح ومفهوم لا يلتبس على أحد في قراءته وفهمه على أنه خطة لتذويب المسلمين وترويض ما تبقى من أسودهم الضعيفة، وتسييس شعوبهم، والعمل على هدم جميع الأصول العقدية والمفاهيم الإسلامية الصحيحة أو العمل على تمييعها بما لا يتعارض مع المصالح والسياسة الأمريكية.
إنها خطة لا تقتصر على استهداف جلينا المعاصر بل تخطط لاستهداف أبنائنا وأجيال المسلمين القادمة بعد أن أصابهم اليأس من ترويض الليوث المعاصرة، والجنود الساهرة من حماة الإسلام وحراس العقيدة.
فهذا نداء من منبر التوحيد إلى مسلمي العالم في كل مكان أقول لهم: يا مسلمي العالم، اتحدوا لمواجهة هذا الخطر الداهم، ولا حيلة لكم سوى أن تعتصموا بحبل اللَّه جميعًا ولا تتفرقوا وأن تجتمعوا حول كتاب ربكم وسنة نبيكم وهدي سلفكم ففي هذا كله العصمة من الهلاك، قال اللَّه تعالى: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط [آل عمران: 120]، فالصبر على المنهج وملازمةُ التقوى هي خير سبيل للنجاة والفلاح، ولا تتحقق التقوى إلا بترك طاعة هؤلاء والحذر من اتباعهم في قليل أو كثير، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين [آل عمران: 100]، ويقول أيضًا: أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين (149) بل الله مولاكم وهو خير الناصرين [آل عمران: 149، 150]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما: كتاب اللَّه، وسنتي»(4).
فهذه خطة أعداء الإسلام لإبادة المسلمين وتذويبهم، فهل أعد المسلمون خطة مماثلة لمواجهة هذا الخطر الداهم ؟!
(1) اطلعت على هذا التقرير في المقال المنشور في افتتاحية صحيفة دار العلوم عدد (22) ذو القعدة 1425هـ، ديسمبر 2004م للدكتور الطاهر أحمد مكي بعنوان: «الولايات المتحدة الأمريكية والإسلام».
(2) هي مؤسسة ذات صلة قوية بوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، وبالمؤسسات العسكرية عامة، والسلاح الجوي من بينها خاصة.
(3) هذا المفهوم نرفضه؛ لأن الإسلام دين شامل، جاء ليعالج جميع مناحي الحياة، وإنما الدولة الدينية صناعة غربية، وما دولة الفاتيكان لنا ببعيد.
(4) أخرجه الحاكم من طريق أبي هريرة، رضي اللَّه عنه، راجع «الصحيحة» (1761).(/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة الإنتصار
فضيلة الشيخ د. ناصر ابن سليمان العُمر
…………………………………..
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نحمد الله جل وعلا ونثني عليه الخير كله أن وفقنا لهذا اللقاء الذي أسأل الله جل وعلا أن يجعله لقاء طيبا مباركا.
موضوعنا لهذا اليوم عن حقيقة الانتصار.
وأحب أن أبين في البداية شرحا موجزا للعنوان، فقد يتبادر إلى أذهان البعض أنني سأتحدث عن لانتصار بمعناه الشامل، الذي هو انتصار وظهور الدين.
وليس هذا هو موضوع حديثي مع أهمية هذا الموضوع، وقد تحدث فيه كثير من العلماء وطلاب العلم، وكتب فيه بعض الكتاب من الإسلاميين.
ولهذا فإن الموضوع الذي عنيته هو حقيقة انتصار الداعية، وهناك فرق بين مفهوم انتصار الدين وظهوره وبين ومفهوم انتصار الداعية، مع أن بينهما عموم وخصوص كما سيتضح بأذن الله من خلال هذا الدرس.
لهذا آمل أن ينتبه الأخوة الكرام إلى هذه القضية وأن الحديث سيدور حول موضع واحد وهو حقيقة انتصار الداعية، أما ما يتعلق بانتصار الدين وظهوره فلن أتعرض له إلا بمقدار صلته بالموضوع الأساسي.
أما سبب الحديث عن الموضوع، فهناك سبب جوهري نشأت عنه آثار أخرى:
وهو أنني رأيت خلطا بين مفهوم انتصار الداعية وبين مفهوم انتصار الدين وظهوره، بل إن كثير من الدعاة ومن طلاب العلم، وكثير من الناس جعلوا هناك تلازما بينا وظاهرا بين ظهور الدين وتمامه وبين انتصار الداعية، فإذا لم تتحقق الأهداف التي جاء الداعية من أجلها حكموا على الداعية بالفشل، إن تحققت هذه الأهداف أو تحقق بعضها اعتبروا هذا هو المقياس الحقيقي لانتصار الداعية.
ونتيجة الخلط في هذا المفهوم نشأت عنه أمور عدة أذكر أبرزها:
الأمر الأول:
وهو ما أشرت إليه قبل قليل أن كثير من الناس يتصور أن هذا الداعية لم ينجح في دعوته لأن الأهداف التي جاء من أجلها وأعلنها لم تتحقق في صعيد الواقع، فيحكمون على الداعية بالفشل، لماذا ؟
لأنه لم يتمكن من تحقيق أهدافه أو بعضها وهي المتعلقة بظهور الدين وتمامه.
ولذلك رأينا من يقول لبعض الدعاة:
ماذا استفدت من دعوتك؟ هل اهتدى الناس ؟ هل تغيرت المنكرات التي جئت لإزالتها ؟
وهم ينطلقون من هذا المفهوم أن هذا الداعية قد فشل،فلماذا يستمر في دعوته ؟
وهذا ناشئ من الوهم ومن الخلط بين حقيقة انتصار الداعية وبين ظهور الدين وتحقق الأهداف التي يدعو إليها الداعية.
الأمر الثاني:
الذي نشئ من هذا الخلط ومن الجهل في هذا المفهوم هو الاستعجال، وقد رأينا بعض الدعاة يستعجلون النتائج لأنهم وضعوا تلازما بين حقيقة ما أمروا به وبين الأهداف التي جاءوا من أجلها.
فإذا عمل أحدهم بضع سنوات وأحيانا بضعة أشهر ولم يرى أن النتائج قد تحققت تعجل، وقد يتصرف بعض التصرفات التي لا ترضي الله جل وعلا.
ولذا رأينا كثيرا من الجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي كانت تسير بخطى وئيدة ولكن سرعان ما رأينا هناك تعجلا من بعض الدعاة أو من بعض الأفراد مما جر على الأمة الكوارث والمصائب بسبب تعجل المتعجلين.
حينما دعا موسى عليه السلام على فرعون وأمن هارون:
(وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
قال الله تعالى بعد هذا الآية مباشرة:
(قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).
قال الإمام الطبري، وابن كثير قال ابن جريج أجيبت الدعوة بعد أربعين سنة، وقيل غير ذلك..
أربعين سنة مع أن الله قال (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا).
إن التعجل أيها الأحبة في هذه القضية جر على الأمة مصائب وويلات، وإن منشئ هذا التعجل أسباب كثيرة من أهمها أن الداعية يتصور أن انتصاره الحقيقي هو تحقق النتائج التي جاء من أجلها.
قد يدرك المتأني بعض حاجته....... وقد يكون مع المستعجل الزلل
اصبر قليلا وكن بالله معتصما........ لا تعجلن فإن العجز بالعجل(/1)
الصبر مثل اسمه في كل نائبة ...... لكن عواقبه أحلى من العسل
اصبر قليا فبعد العسر تيسير..... وكل وقت له أمر وتدبير
وللمهيمن في حالاتنا قدر.............. وفوق تدبيرنا لله تدبير
إن التعجل مظهر أو ملحظ نلحظه عند بعض الدعاة وله آثاره السلبية كما بينت.
الأمر الثالث:
هو أنه قد يحدث بسبب الخلط في مفهوم حقيقة الانتصار انحراف عن المنهج، فقد يسير بعض الدعاة على منهج سليم، ولكن عندما تتأخر النتائج وعندما يرون أنهم لم يتمكنوا من تحقيق بعض ما جاءوا به من الحق يبدأ الانحراف.
ومن مظاهر الانحراف التنازل وتقديم التنازلات تلو التنازلات وعندما تأتي لهؤلاء يقولون نحن نريد أن تتحقق بعض النتائج لمصلحة الأمة أو لمصلحة الدعوة وهم يرتكبون خللا في هذا الأمر.
نحن نتمنى أن يتحقق أي أمر من أمور الدعوة، بل إن تأخير الفساد بحد ذاته مطلب من المطالب، ولكن إذا كان لا يمكن أن يتم تأخير الفساد أو تحقيق بعض الأهداف إلا بالتنازل الذي هو انحراف عن المنهج فهذا لا يجوز.
ولذلك رأينا مثلا في بعض الدول الإسلامية أن بعض اللذين يدخلون البرلمانات أو لمجلس النواب أو لمجلس الأمة سموه ما سموه أنهم يقدمون تنازلات، أي يعترفوا للباطل بباطله.
فهم يؤدون اليمين والقسم والعهد ولاعتراف بهذا النظام الذي يحكم هذا البلد وتجد نظاما كافرا، فكيف يجوز للمؤمن أن يعترف ويقر مثل هذا النظام.
وتجد المداهنة وتجد أنهم يقبلون أيضا بمبدأ خطير وهو أنهم يوافقون على عرض شريعة الله ودين الله لتصويت البشر.
فيعرض في هذا البرلمان مثلا قضية تطبيق الشريعة، إن مجرد القبول بهذا المبدأ خلل خطير في المنهج، أننتظر من الناس أن يصوتوا هل تطبق شريعة الله أو لا تطبق، مجرد القبول بمبدأ تصويت البشر هل يمنع الخمر أم لا يمنع قضية خطيرة.
أقول لو استطعنا أن نمنع أي منكر من المنكرات في بلد من البلدان فهذا مطلوب، ولكن بدون تنازل.
لو استطعنا أن نمنع الدخان مثلا هذا مكسب كبير، ولكن بدون تنازل.
أما أن نأتي لنطرح هذه القضية لتصويت البشر ليقرروا هل تطبق شريعة الله أو لا تطبق فهذا خلل.
وإن من أسباب القبول بهذا المبدأ هو الربط بين انتصار الداعية وبين تحقق الدين وظهوره.
الأمر الرابع:
الذي ينشئ من الخلط في هذا المفهوم هو اليأس والقنوط ثم الاعتزال.
بعض الدعاة يسيرون زمنا في دعوتهم، ثم تفاجأ أن هؤلاء قد اعتزلوا الساحة، وتسأل ما هو السر في ذلك ؟ فتجد أن الإجابة القولية أو الفعلية أنهم يأسوا، فيقولون حاولنا وفعلنا ولكن لم نرى تأثرا، لم نرى تقدما، لم نرى استجابة، فيأسوا ثم اعتزلوا.
وهذا أيضا خلل نشئ من أمور من أبرزها الربط بين انتصار الداعية وبين انتصار الدين وظهوره.
أذكر أن أحد الزملاء بعد تخرجه من الجامعة زار أستاذا له كان قد درسه في المرحلة الثانوية.
وكان هذا الأستاذ حريصا في ما مضى على الدعوة، وممن له تأثير على هذا الزميل في تربيته وتوجيهه إلى الدعوة، وقد ترك هذا الأستاذ التدريس والدعوة وانخرط في وظيفة وانشغل بالدنيا، فذهب هذا الطالب لزيارته وبعد الحديث سأله قائلا:
يا أستاذي لقد كان لك الفضل بعد الله جل وعلا في توجيهنا إلى الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فقال الأستاذ يا أخي لو رأيت سيلا قادما وأنت في واد من الأودية فهل تقف أمامه أم تهرب منه؟
فقال له هذا الأخ يا أستاذي أنا أسألك سؤلا:
لو رأيت سيلا قادما ووجدت أناسا يسكنون الوادي وتستطيع أن تنقذ هؤلاء أتهرب وتتركهم أو تحاول أن تنقذهم قبل أن يغرقوا، فأصبح التلميذ أستاذا.
هذه القضايا الأربع:
أن الناس يحكمون على الداعية من خلال تحقق النتائج.
والاستعجال من بعض الدعاة والجماعات.
والانحراف في المنهج.
واليأس والقنوط ثم الاعتزال.
إن من العوامل المؤثرة في نشأتها هو الخلط بين هذين المفهومين مفهوم انتصار الداعية ومفهوم تحقق وظهور الدين.
لهذا سنقف هذه الليلة مع مفهوم حقيقة انتصار الداعية حتى نكون على بينة من أمرنا، وحتى لا نستعجل ولا ننحرف ولا نيأس، بل نمضي إلى الله بجد وعزيمة وصبر وثبات.
أيها الأحباب ما هو مفهوم النصر وحقيقته ؟
يقول سبحانه وتعالى:
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).
هذه الآيات فيها نص على نصر الداعية، وهنا يأتي السؤال الذي أثاره الإمام الطبري، وأثاره عدد من العلماء من بعده، ويرد إلى أذهاننا نحن عندما نقرأ هذه الآيات ونتأمل في الواقع فنجد ما يلي:
وجدنا أن بعض الأنبياء قد قتله قومه كيحيا وزكريا عليهما السلام.
نجد أن بعض الأنبياء قد طرده قومه كإبراهيم عليه السلام عندما خرج من الشام، ونبينا (صلى الله عليه وسلم) خرج من مكة.(/2)
ونجد من الأنبياء من لم يستجب له من قومه إلا قلة كنوح ولوط وشعيب وصالح وهود عليهم السلام.
ونجد من الأنبياء من حاول قومه قتله وإحراقه بل ألقوه في النار كإبراهيم عليه السلام.
ونجد أن عيسى عليه السلام قد أراد قومه قتله ثم صلبه فرفعه الله جل وعلا.
وهنا يأتي السؤال الذي يفرض نفسه، ألم يقل الله تعالى:
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).
ألم يقل سبحانه:
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
فأين النصر الذي وعد الله تعالى به في الحياة الدنيا؟
والجواب أيها الأحباب:
أن منشأ السؤال حدث لأننا نقصر النصر على نوع من أنواع النصر فقط، ففسرنا النصر بجزئية واحدة من جزئياته لا بالمعنى الكلي للانتصار.
لأننا تصورنا أن الانتصار هو ظهور الدين وتمامه وتحقق إيمان القوم لهذا النبي فقلنا أين الانتصار ؟
لكن الانتصار أيها الأحبة له صور عدة ولا يقتصر على صورة واحدة، سأذكر لكم في هذه العجالة أهم هذه الصور، حتى نعلم ونوقن إيمانا حقيقيا -ونحن كذلك إن شاء الله- أن وعد الله لا يتخلف أبدا، ونصر الله متحقق للأنبياء ولعباده المؤمنين الصادقين في الحياة الدنيا أيضا.
إذا ما هو النصر الحقيقي ؟
النصر الحقيقي لا نقصره على صورة واحدة، وإنما هو صور متعددة، فقد يتحقق النصر لهذا النبي بصورة، ولذلك النبي بصورة أخرى، وللنبي الأخر بصورة ثالثة وهكذا، وكذلك لعباد الله الصادقين من الدعاة.
الصورة الأولى من صور النصر:
أن النصر قد يكون بالغلبة المباشرة والقهر للأعداء على يد هؤلاء الأنبياء والرسل والدعاة، وهو ظهور الدين وتمام الدين وقيام دولة الإسلام، كما حدث مثلا لداود وسليمان عليهما السلام وآتاه الله الملك،، وكما حدث لموسى عليه السلام بعد إغراق فرعون وقومه، وكما حدث بصورة ظاهرة بينة متكاملة لنبينا (صلى الله عليه وسلم) وبخاصة بعد فتح مكة: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).
هذه الصورة التي تتبادر إلى أذهاننا ولكنها صورة واحدة من صور النصر، وليست هي على سبيل الحصر.
الصورة الثانية من صور النصر:
وهي التي وعد الله بها وتتحقق أن النصر قد يكون بإهلاك هؤلاء المكذبين، ونجاة الأنبياء والمرسلين ومن آمن معهم، كما حدث لنوح عليه السلام، ولموسى وقومه، وكما حدث لصالح وهود ولوط مع أقوامهم.
والدليل على أن هذا نوع من أنواع النصر أن نوح عندما يأس من قومه ماذا قال ؟ قال:
(فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)، ثم ماذا ؟
(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)
إذا فإهلاك الأمم المكذبة هو نوع من أنواع النصر، مع أن الله لم يذكر لنا، ولم نجد في القرآن ماذا حدث لأولئك الأنبياء عليهم السلام بعد ذلك.، إذا هذا نوع من أنواع الانتصار.
النوع الثالث من أنواع النصر:
أن النصر قد يكون بانتقام الله من أعدائهم ومكذبيهم بعد وفات هؤلاء الأنبياء والرسل، كما حدث مع من قتل يحيا عليه السلام، فقد انتصر الله له بعد حين بتسليط بختنصر على قومه فسامهم سوء العذاب، وهذا انتصار من الله جل وعلا ليحي عليه السلام في الحياة الدنيا.
وكما حدث للذين حاولوا قتل وصلب عيسى عليه السلام، فبعد أن رفعه الله انتقم من أعدائه بتسليط الروم عليهم فساموهم سوء العذاب. هذا نوع من أنواع النصر، ووعد الله لا يتخلف.
النوع الرابع من أنواع النصر:
وآمل أن تقفوا معي وقفة مهمة في هذا النوع لأننا بأمس الحاجة في هذا العصر إلى الفقه فيه، وإلى الوقوف عنده وهو أن ما قد يتصوره الناس هزيمة قد يكون هو النصر الحقيقي.
فكم من شهيد كانت الشهادة هي الانتصار له ولدعوته، ومثل ذلك الإيقاف والسجن والطرد والأذى، فقد يتصور الناس أن الداعية قد انتهى بقتله، أو انتهى بإيقافه أو انتهى بسجنه، أو انتهى بالنيل من عرضه، وتكون هذه هي نقطة الانطلاق والانتصار لهذا الداعية، وهذا أمر يدل عليه الكتاب والسنة والواقع المشاهد، ماذا قال الله عز وجل عن نبينا (صلى الله عليه وسلم):
)إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)، متى ؟ في فتح مكة! في بدر! أبداً
( إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ)، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخرج من مكة يخرج منتصرا (صلى الله عليه وسلم).
شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أوقف وسجن ومات في سجنه، هل نقول انه انتصر؟ نعم إنه انتصر كما سأقف مع السبب الذي بعده.
كذلك إيقاف كثير من الدعاة، وقد رأينا أنه قد زاد انتصارهم واستجاب الناس لهم بعد ما تم إيقافهم، وقد رأينا أن من الدعاة من أوذي في عرضه، وتصور كثير من الناس أن هذا الداعية قد انتهى وهو حقيقة قد انطلق بعد هذه الوقفة، وهنا تحقق انتصاره:(/3)
(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
هذه حقيقة نشاهدها ونراها، وهنا يأتي واجب الدعاة، وواجب طلاب العلم، وواجب الأتباع الذين يتبعون الحق أنه في مثل هذه المواقف فالنصر للداعية ولمنهجه.
هذه حقيقة يجب أن تكون بين أعيننا جلية واضحة.
وأذكر لكم هنا قصة وإن كانت لا ترتبط بموضوعنا ارتباطا مباشرا، ولكن لعله يتبين من خلاله أن تصور الناس أحيانا يكون في غير محله.
أثناء دويلات الطوائف قتل أحد الأمراء وهو عضد الدولة خصما له من الوزراء، ثم صلبه، وبعد أن قتله وصلبه ترسخ في أذهان الناس أن هذا المقتول قد انتهى وأن هذه هزيمة نكراء له.
جاء شاعر من الشعراء، كان يحب هذا المقتول، ويعرف عنه أنه كان كريما ومعطاء فماذا حدث ؟
قال قصيدة تمنى القاتل حين سمعها أنه المقتول وأن القصيدة قيلت فيه.
واستمعوا إلى بعض أبياتها وهي تصور هذا المقتول وهو مصلوبا والناس حوله يحيطون به، والنار توقد حوله في الليل، والحرس يحيط به خوفا من أن يأخذه أتباعه، فماذا قال الشاعر:
علو في الحياة وفي الممات................. لحق تلك إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا..............وفود نداك أيام الصلات
كأنك قائم فيهم خطيبا..................وكلهمُ قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء................ كمدهما إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن ............... يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا......... عن الأكفان ثوب السافيات
لقدرك في النفوس تبيت تُرعى....... بحراس وحفاظ ثقاة
وتوقد حولك النيران ليلا................. كذلك كنت أيام الحياة
ولم أرى قبل جذعك قط جذعا............ تمكن من عناق المكرمات
عليك تحية الرحمان تترى............... برحمات غواد رائحات
طبعا نحن لا نوافق على كل ما ورد في هذه الأبيات، ولكن أريد أن أبين لكم أن التصور قد لا يكون في محله أحيانا، المهم أن الذي قتله قال، كنت أتمنى لو كنت المصلوب وأن هذه القصيدة قيلت في.
نعم هذا الأمر قد لا يرتبط مباشرة بشخص المقتول، ولكن عندما يسجن أو يوقف الداعية فهذا انتصار له وليس هزيمة.
ثقوا أن اللحظة التي يقتل أو يوقف أو يسجن أو يطرد فيها الداعية، لا يتم هذا الأمر إلا أن يكون عدوه قد ذاق المر من الغيظ والحنق والألم، وهذا هو أشد أنواع العذاب، يتقلب على جمر الغظى ألما حتى وصل إلى ما وصل إليه، ولذلك يقول الله جل وعلا:
(وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً).
وهذا واقع محسوس ومشاهد، والحجاج عندما قتل سعيد أبن جبير رحمه الله، هل حصلت السعادة للحجاج؟
أبدا، كان يقول: مالي ولسعيد، وكان يقوم من الليل فزعا حتى مات.
إذا من هو المعذب ؟ ومن هو المنهزم ؟
ولذلك قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) أي بالسعادة.
نعم الداعية وهو يقتل أين ذاهب؟ إلى الله، بخ بخٍ ما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني أحد هؤلاء.
وهو يسجن وهو يطرد وهو يوقف يعبر عن ذلك شيخ الإسلام أبن تيمية:
(ماذا ينقم من أعدائي، أنا جنتي في صدري، سجني خلوة، وتسفيري سياحة، وقتلي شهادة).
ولهذا يقول أحد السلف:
(والله أننا لنعيش لذة ونعيما لو يعلمه الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف).
هذه حقيقة يجب أن نفهمها ونحن نناقش هذا الموضوع، ونعيش معه.
النوع الخامس من أنواع الانتصار:
أن ثبات الداعية على مبدئه هو انتصار باهر، ثبوته رغم الشهوات والشبهات والعقبات، ولا يتحقق الانتصار الظاهر إلا بعد تحقق هذا الانتصار:
فإبراهيم عليه السلام وهو يقذف في النار في قمة انتصاره.
والإمام أحمد وهو توضع رجلاه في الحديد في قمة انتصاره، في محنة الدنيا والدين كان في قمة انتصاره.
بلال رضي الله عنه وهو يعذب ويردد أحدُ أحد كان والله في قمة انتصاره.
آل ياسر وهم يعذبون كانوا في قمة انتصارهم.
وهذا نلمسه من حديث خباب وسنذكره بعد قليل.
النوع السادس من أنواع الانتصار:
أن النصر قد يكون بقوة الحجة كما قال الطبري والسدي في قوله تعالى:
(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
فقوة الحجة رفع للدرجة وهو انتصار، وفي سورة البقرة في قصة الذي كفر لما حاج إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى في آخر الآيات:
( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
من الذي انتصر ؟ هو إبراهيم عليه السلام.
النوع السابع من أنواع الانتصار:(/4)
أن الداعية قد لا ينتصر الانتصار الظاهر في زمن، ثم ينتصر بعد ذلك انتصارا عظيما بعد سنوات، فشيخ الإسلام ابن تيمية مات وهو في السجن، وأتباعه أقل من معارضيه، أما الآن وبعد مئات السنين فانظروا كم الذين أخذوا ونهلوا واستفادوا من المنهج الذي رسمه وبينه شيخ الإسلام أبن تيمية وفق كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ؟
نقول ذلك لأننا أحيانا قد نقصر الانتصار على فترة محددة في الزمان والمكان وهذا خطأ.
أيضا قد لا يستجيب الناس لداعية في بلد، ويستجاب له في بلد آخر، وهذا كثير جدا، فيجب أن لا نقصر الانتصار على زمن محدد أو بلد محدد.
النوع الأخير من أنواع الانتصار:
أن الانتصار قد يكون أحيانا بمعنى المنع، يقول تعالى:
( وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).
أي يمنعون، فالنصر قد يكون بمعنى المنع من الأعداء وهذا انتصار للداعية في الحياة الدنيا.
هذه بعض صور الانتصار.
ولهذا إذا رأينا أي داعية لم يتحقق له النصر الظاهر فلا يعني هذا أنه لم ينتصر.
الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، لو وقفنا مع حياة أي واحد منهم لوجدنا أنه قد تحقق له نوع من النصر، بل أحيانا أكثر من نوع من أنواع النصر في الحياة الدنيا.
فلا نقصر النصر على نوع واحد ولا على مفهوم واحد، فمفهوم النصر أوسع وأشمل وأعمق.
بعد هذا البيان أنتقل إلى نقطة أخرى وهي ما هي مهمتنا ؟
ما هي المهمة التي كلفنا فيها والتي أمرنا بها شرعا؟
هل نحن مكلفون أنه لابد أن يتحقق ويظهر الدين في حياتنا ؟
إذا قام أحد منا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هل نحكم على هذا الداعية بالفشل لأن المنكرات تزداد ، أو لأن الناس لم يستجيبوا له؟
لو قام الداعية بالنصح للمسئولين ولولاة أمور المسلمين ولم يجد جوابا، هل نقول أنه فشل؟
إذا ما هي مهمتنا؟
مهمتنا – أيها الأحباب – هي مهمة الأنبياء والرسل، استمعوا إلى قول الله تعالى :
(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)، (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).
والآيات كثير في هذا الباب فارجعوا إليها في كتاب الله.
مهمتنا هي البلاغ، أم الانتصار فهو أثر قد يتحقق في حياتنا، وقد يتحقق بعد وفاتنا، وقد يتحقق على أيدي غيرنا، أما مهمتنا ومهمة كل داعيةف هي البلاغ كونها مهمة الرسل، ولذل جاءت آيات أخرى كثيرة توضح هذا المفهوم أقف مع بعضها:
يقول الله جل وعلا:
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).
( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً).
(فلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).
ثم استمعوا إلى هذه الآية في سورة الأنعام تبين أن الحرص على هداية الناس مطلوب، والسعي إلى هداية الناس مطلوب، ولكن على أن لا يخرجنا عن المنهج، لا بتعجل ولا بتنازل ولا بيأس أو قنوط.
استمعوا إلى هذه الآية والمخاطب فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما لم تؤمن قريش بدعوة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتأثر عليه الصلاة والسلام بذلك قال الله جل وعلا قال له الله تعالى:
)وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
بماذا ختم الله هذه الآية؟
(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، الله أكبر، لا تربط دعوتك باستجابتهم، لا أنت عليك البلاغ:
(مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ)، أما هدايتهم فلو شاء الله جل وعلا لهداهم، ولكن هذا ليس لنا.
إذا هذه مهمتنا وهذه حقيقتنا:
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ* وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
ونقف الآن مع هذه الأمثلة من كتاب الله جل وعلا تبين لنا هذه الحقيقة:
المثل الأول نوح عليه السلام:
كم لبث في قومه ؟ تسعمائة وخمسين سنة.
وماذا كانت النتيجة، كم آمن مع نوح ؟ الآلاف، مئات الآلاف!
( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ).(/5)
وعند قوله تعالى (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن ْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ)، أقرب الناس للإنسان بالسبب هي الزوجة، وأقرب الناس للإنسان بالنسب هو الولد، ونوح عليه السلام لم يؤمن أبنه ولم تؤمن زوجته.
هل نقول أن نوح عليه السلام بعد دعوة تسعمائة وخمسين سنة لم ينتصر لأن ابنه لم يؤمن ولأن زوجته لم تؤمن ولأن قومه لم يؤمن منهم إلا قليل.
(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
سفينة، ولنفترض أنها عابرة للقارات، وليت كل الذين فيها بشر:
(قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)، فيها الدواب والحيوانات، فكم يبقى فيها مكان للإنسان؟
ومع ذلك فنوح عليه السلام من أولي العزم من الرسل، وقد انتصر انتصارا عظيما باهرا عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
المثل الثاني أنبياء الله هود ولوط وصالح وشعيب عليهم الصلاة والسلام .
فقد انتصروا مع أن قومهم إهلكوا.
عندما أضرب لكم هذه الأمثلة لأن الواحد منا أحيانا وبسبب تحسره على عدم استجابة الناس وتأخر النصر قد يستعجل أو ييأس.
وفي قصة عبد الله الغلام ومن آمن معه، هو قتل والذين أمنوا معه قتلوا بل حرقوا بالنار، هل نقول أنهم لم ينتصروا! بل إنهم انتصروا أعظم الانتصار.
أيضا أصحاب القرية، تصوروا قرية صغيرة، كم يرسل الله جل وعلا لها من الرسل؟
داعية! لا، بل ثلاثة من الرسل:
(إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ).
ومع ذلك قرية واحدة كذبت الرسل الثلاثة فجاءهم رجل:
(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).
فماذا فعلوا به؟ قتلوه أيضا، فماذا كانت النتيجة؟
(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ)..
قرية واحدة يرسل لها ثلاثة من الرسل وداعية رابع ولم يستجيبوا، فهل نقول أنهم لم ينتصروا! كلا وحاشا.
إذا هذه بعض الأمثلة من كتاب الله، أما الأحاديث فأقف معكم مع بعض هذه الأحاديث.
الحديث الذي كلنا يحفظه وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عرضت علي الأمم فأخذ النبي يمر معه الأمة والنبي يمر ومعه العشرة، والنبي يمر ومعه الخمسة والنبي يمر وحده.
وفي رواية: قال عرضت علي الأمم فجعل النبي يمر ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والنبي ومعه الرهط والنبي وليس معه أحد.
وفي رواية: عرضت علي الأمم فجعل النبي يمر ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجلان والنبي وليس معه أحد.
أرأيتم هذا النبي الذي معه رجل والنبي الذي معه عشرة والنبي الذي معه خمسة والنبي الذي ليس معه أحد، فهل نقول أنه لم ينتصر! كلا وحاشا.
إذا نحتاج إلى وقفة مع هذا الحديث، أذكر أن أحد طلاب العلم هداه الله أقنعه عدد من زملائه وإخوانه ببدء درس في مسجد من المساجد، وبدأ الدرس وبعد عدة أشهر فوجئنا أن الدرس قد توقف.
فذهبت لزيارته وقلت له: يا شيخ يا أخي الكريم لماذا أوقفت الدرس؟
قال: ما يأتي أحد، قلت: ما يأتي حد؟ قال: ما يأتي إلا عشرة.
قلت: يا أخي الكريم النبي يأتي يوم القيامة وما معه إلا واحد بل والنبي وما معه أحد.
إن عددا من علمائنا ظلوا سنوات ليس عندهم إلا طالب واحد أو طالبين أو ثلاثة، سنوات طويلة.
بل ذكر لي أحد الأخوة أنه يجلس أحيانا ولا يأتي أحد إلى الدرس، وأستمر في درسه، ويحضر الآن درسه بضعة آلاف، نعم والقضية ليست بالعدد، النبي ليس معه إلا واحد أو اثنين أو ثلاثة أو ليس معه أحد ونحن نريد أن يكون معنا الآلاف وإلا نعتبر أننا قد فشلنا ولم ننتصر.
والحديث الآخر الذي وعدتكم قبل قليل وهو حديث خباب، قال:
شكونا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا أو تدعو لنا. فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يرده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الذئب والله على غنمه ولكنكم تستعجلون.
هذا الحديث حديث عظيم، الرسول (صلى الله عليه وسلم) نقال خباب حين قال ألا تستنصر لنا، نقله من نوع من أنواع النصر إلى نوع آخر حتى لا يبقى خباب رضي الله عنه أو غيره يتصورون أن النصر هو ظهور الدين وارتفاع العذاب عنهم، نقلهم إلى أن النصر الحقيقي هو ثبات الداعية، نعم كما أن النصر هو ظهور الدين فكذلك من أعظم أنواع النصر ثبات الداعية. هذه مسألة.
ومسألة أخرى، نقل الرسول (صلى الله عليه وسلم) خباب إلى أن النصر قد لا يتحقق في حياة الداعية، قد يتحقق بعد سنوات، فعندما سار الراكب من صنعاء إلى حضرموت هل حدث هذا في حيلة خباب؟
لا حضر هذا بعد سنوات، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) ولكنكم قوم تستعجلون.(/6)
نعم نحن نستعجل.
حديث آخر وهو الحديث القدسي الذي كلنا يحفظه:
(من عادا لي وليا فقد آذنته بالحرب).
هل يجوز لمؤمن يؤمن بالله ورسوله، يعلم أن الله معه إذا عاداه الأعداء ويتصور أنه قد ينهزم.
هذا خلل في الإيمان، والذي يتصور هذا التصور لا يستحق النصر.
المؤمن الصادق يعلم أن الله معه، فإذا كان الله معنا فهل يمكن أن يغلبنا أحد، ولكن قد لا يتحقق النصر الذي نتصور نحن، قد يتحقق نوع آخر من أنواع الانتصار نغفل عنه أحيانا، وإلا فوعد الله جل وعلا لا يتخلف أبدا.
ونجد أن من الأدلة على مفهوم النصر أيها الأحباب سورة كلنا يحفظها، بل الأطفال في الأولى الابتدائي يحفظونها وهي سورة العصر، وهي سورة كما قال الإمام الشافعي:
لو ما أنزل الله على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم.
ما علاقة هذه السورة بموضوعنا ؟
الله جل وعلا قال:
(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
إذا كل إنسان في خسر إلا المستثنون هنا فهم فائزون ورابحون ومنتصرون، كل إنسان خاسر، والذي لم يخسر فهو منتصر أو رابح، ولو قلنا خسر هؤلاء القوم إلا فلان، فمعناه أنه ربح، لو قلنا انهزم الناس إلا فلان فمعناه أنه انتصر.
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
هل من هذه الشروط الأربعة أنه لابد أن يتحقق النصر الظاهر للداعية وإلا فلا ينتصر ويصبح من الخاسرين؟ أبدا.
ليس من هذه الشروط الأربعة، فالمطلوب منا هو الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
ووقفت مع الشرطين الأخيرين وهو:
أن التواصي بالحق يقتضي الالتزام بالمنهج، أو منهج أهل السنة والجماعة.
والتواصي بالصبر عاصم بأذن الله عن شيئين، عاصم ومانع من الاستعجال، ومانع من اليأس أيضا.
فإذا هذا هو النصر الحقيقي أو نصر حقيقي للداعية إلى الله.
أيها الأحباب، كلنا يتمنى وكلنا يجب أن يسعى لانتصار هذا الدين وظهوره، لا شك في ذلك،، والذي لا يسعى لذلك ولا يفرح لانتصار الدين فقد تخلف منه وعنه مقوم من مقومات النصر وسبب من أسباب النصر.
(وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
إي والله نحب النصر، ونتمنى أن لا نخرج من هذا المسجد إلا ونرى جميع المنكرات قد زالت من بلادنا.
وقد سادت شريعة الله في أرضه، نفرح فرحا عظيما لو تحقق أمر واحد مما يرضي الله جل وعلا.
قرأت منذ أيام إحصائية في مجلة اليمامة صدمت والله وذهلت منها تقول:
أن قيمة ما تستورده المملكة من الدخان أكثر من قيمة ما تستورده من السيارات، مع أننا مترفون في استيراد السيارات، وذكرتها المجلة بالأرقام بل زادت قيمة الدخان المستورد عن قيمة الدخان بقرابة أربعين مليون ريال.
تأملت و تألمت فقط لزيادته فكيف لا نفرح بزو اله.
كيف لا نفرح لو زالت المنكرات العظيمة، لو زال الربا.
لو وجدنا المستشفيات الخاصة بالنساء.
لو استقام الإعلام.
لو زالت المنكرات الظاهرة والباطنة، والله نفرح.
ولكن نتسأل دائما لماذا يتأخر النصر الظاهر؟
له أسباب عدة أذكر بعضها أو أهمها محافظة على الوقت، من أسباب تخلف النصر الظاهر وهو الضفر والغلبة وتحقق الأهداف ما يلي:
1- تخلف بعض أسباب النصر المشروعة.
فقد تتخلف بعض أسباب النصر المشروع وهي كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.
2- حدوث ما يمنع النصر من مخالفة ونحوها.
وتخلف الأسباب غير حدوث الموانع، ففي أحد والرسول (صلى الله عليه وسلم) بين أظهرهم انهزموا لماذا ؟ حل الهزيمة لمخالفة أمر من أوامر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومن فئة قليلة من المسلمين:
( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ).
لماذا حلت الهزيمة؟ لأن البعض قال لن نغلب اليوم من قلة، بسبب هذا الشعور وأن الكثرة هي التي ستنصرهم انهزموا، فهذه من موانع النصر.
3- الانحراف عن المنهج والخلل فيه.
هذا من السباب كما ذكرت قبل قليل ولي معه وقفة أخرى إن شاء الله.
4- عدم التجرد لله.
فقد يشوب الدعوة حمية أو طلب مغنم أو جاه.
5- عدم نضوج الأمة وضعف استعدادها.
وهذا من أسباب عدم النصر الظاهر، ولو جاء النصر لما وجدت الأمة قادرة على المحافظة عليه لعدم اكتمال بنيتها وربما فرطت فيه بسهولة.
6- أن الباطل الذي تحاربه الأمة ويحاربه الدعاة لم ينكشف زيفه للناس تماما.
وهذا سبب مهم جدا، فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه ممن هم ليسوا على هذا الباطل ولا يقرونه، ولكنهم لم ينكشف لهم زيف هذا الباطل ولله في ذلك حكمة، وقد حدث مثل ذلك مع المنافقين.
7- عجز الأمة عن القيام بتكاليف النصر إن تحقق.(/7)
فقد يكون في علم الله جل وعلا أن هؤلاء لو انتصروا فلن يقوموا بتكاليف الانتصار، من إقامة حكم الله والأمر المعروف والنهي عن المنكر، وهذا يفهم من قول الله تعالى:
( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
8- توافر أسباب النصر للداعية وليس للمدعوين.
فقد تتوافر أسباب النصر للداعية، ولكن هناك موانع يعلمها الله تتعلق بالمدعوين كعدم تقدير الله هدايتهم وهذا يفهم من قوله سبحانه:
(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً).
والسبب هنا ليس تقصير الداعية، ولكن لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى.
وأيضا قد يكون انتصار الداعية بعد وفاته أعظم من انتصاره في حياته، لأن المراد انتصار الدعوة وانتصار المنهج، أما الأشخاص فكما قال صاحب القرية : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ).
9- من الأسباب أن تأخر النصر فيه ابتلاء وتمحيص وامتحان للدعاة.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
نعم الابتلاء والامتحان: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).
إذا هذه بعض الأسباب التي قد تمنع أو تأخر النصر الظاهر، فلا نيأس ولا نقنط...
إذا ونحن نتحدث عن مفهوم الانتصار، ذكرت لكم أن من الآثار التي تحدث عند الخلط في مفهوم حقيقة الانتصار هو الانحراف عن المنهج ومن ذلك التنازل.
ولأهمية هذه القضية سأقف معها بضع دقائق، رأينا عددا من الدعاة لا نشك في إخلاصهم ولا في صدقهم ولا في حماسهم ولا في غيرتهم في أنحاء العالم الإسلامي، وحرصا منهم على تحقق النتائج وعلى ظهور دين الله، وعندما استبطئوا النصر، وعندما استبطئوا تحقق هذه النتائج بدئوا يقدمون التنازلات تلو التنازلات ويتصورن أن هذا من المنهج الذي قد طولبوا به.
فرأينا مثلا من يميع قضية العقيدة، ويقول: لو أنني طرحت عقيدة أهل السنة والجماعة فقد يتفرق الأتباع، فحرصا على وحدة الأتباع تميع قضية العقيدة.
نعم والواحدة مطلوب شرعي ولكن على أسس شرعية.
فتجد أن لديهم حساسية مفرطة أو موانع من طرح قضية عقيدة أهل السنة والجماعة، وأذكر لكم مثالين:
المثل الأول أو القصة الأولى:
يحدثنا بها منذ أيام أحد الأخوة ممن نحسبه والله حسيبه حريصا بل ومتخصصا في العقيدة، يقول أنه جاءه شاب من الشباب يسأله: قال يا شيخ هل العقيدة مهمة؟
فيقول ذهلت من السؤال، هل العقيدة مهمة، ماذا يبقى إذا لم تكن العقيدة مهمة.
فيقول الشاب أنه يرى من لا يهتم بالعقيدة ممن يوجهنا ويدعونا، وآخر ما يفكرون فيه هو موضوع العقيدة، ومنهج أهل السنة والجماعة، وأراكم أنتم تركزون على العقيدة وعلى منهج أهل السنة والجماعة.
المثل الثاني:
وهو عندما قامت دولة الرافضة، سارع كثير من الدعاة -هداهم الله- في أنحاء العالم الإسلامي إلى تأييدها وأنها دولة إسلامية، فجاء بعض المخلصين الصادقين من الدعاة وقالوا لهم اتقوا الله.
وأذكر ن أحد الأحباب ناقش رجلا من هؤلاء وقال له:
يا أخي كيف تؤيدون هذه الدولة الرافضية ؟
قال: دولة رفعت الإسلام علينا أن نؤيدها وهذه أسقطت الشاه، وبدا يعدد مزاياها.
فقال له الأخ: هذه دولة رافضية وتعرف منهج الرافضة وأصول الرافضة.
قال: يا أخي اتركنا من العقيدة الآن.
إذا إذ تركنا العقيدة الآن فمتى تكون؟
الدخول في البرلمانات، ولا أريد التفصيل فيها ولكن أقول إذا كان الدخول في البرلمان يقتضي التنازل عن المنهج، يقتضي إقرار الظالمين على ظلمهم والاعتراف بحكم الجاهلية فلا يجوز أبدا.
إذا كانت المسألة تقبل المسومة في دين الله فهذا لا يجوز أبدا.
أحبتي في الله، مصلحة الدعوة حمّلت أكثر مما تحتمل.
سورة الكهف أرجعوا إلى تفسيرها، وكما ذكر العلماء في سبب النزول أن كبار المشركين جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقالوا نحن نريد أن نستمع منك ونجلس معك، لكن لنا شرط واحد، ما هو شرطكم؟ قالوا: شرطنا أن إذا جئنا إليك وجلسنا معك أن لا يجلس معنا هؤلاء الضعفاء أمثال صهيب وبلال وأمثالهم.
إذا مادام أن مصلحة الدعوة تقتضي ذلك، فيا صهيب ويا بلال حرصا على الإسلام ودعوة هؤلاء إذا جاءوا قوموا. هذا في نظرة الذين يحمّلون مصلحة الدعوة أكثر مما تحتمل.
فبماذا تتنزل الآيات:(/8)
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً).
(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ).
إذا القضية ليست قضية تنازلات، والذين يحتجون بصلح الحديبة يستدلون به في غير موضعه، وهذا يحتاج إلى تفصيل وبيان.
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ).
فأوجه نصيحتي إلى هؤلاء الدعاة الذين يتصورون أن المطلوب منهم أن يحققوا بعض النصر ولو حساب دين الله وعقيدة المسلمين، ولو على حساب المنهج، أقول هذا خلل.
إذا نصل إلى أن حقيقة انتصار الداعية تتمثل في ما يلي:
1- سلامة المنهج، وهو المنهج الذي عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
يقول تعالى: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (تركتم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، فسلامة المنهج أو مقوم من مقومات انتصار الداعية.
2- التجرد لله جل وعلا والإخلاص.
(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).
3- الالتزام التام بالمنهج، وعدم الحيدة عنه.
(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
ويقول (صلى الله عليه وسلم):
(تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتب الله وسنتي).
4- الصدع بالحق.
وقفوا مع هذه المسألة، فمن علامات انتصار الداعية الصدع بالحق:
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً).
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
ولهذا أقول للأخوة كلمة احفظوها وهي:
إن الأصل في الدعوة العلنية، والسرية تؤخذ بقدرها زمانا ومكانا وموضعا، والذين يتصورون أن الأصل في الإسلام هو السرية، وأن الجهر وإعلان الدعوة مرحلة طارئة هم مخطئون وواهمون، فالصدع بالحق من علامات انتصار الداعية، بل ومن مقومات انتصار الداعية.
5- الثبات على الطريق والصبر علية وعدم اليأس.
(قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
(وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
أخيرا وقفات مهمة قبل أن أودعكم:
الوقفة الأولى:
أنه لا يعني ما ذكرته عن مفهوم انتصار الداعية وحقيقة انتصار الداعية أن يتساهل الداعية في السعي لهداية الناس، ويقول مادمت ليس مطلوب مني ن يهتدي الناس أو أن تزول هذه المنكرات فيخمل ويكسل.
لا، فأنت مطالب أن تسعى إلى تغيير المنكرات، وأن تسعى إلى هداية الناس، وأن تبلغ رسالة الله بجد واجتهاد وحرص ودأب وعدم يأس.
ولكن النتيجة - وذلك ومن رحمة الله بنا وفضله علينا- أنه لم يربطها بالنتائج التي تتحقق، وإلا كم خسر من الدعاة.
من فضل الله علينا أنه يثيبنا على قدر عملنا لا على قدر عمل الناس، فلهذا إياكم أن يفهم أحد هذا المفهوم فيخمل ويتكاسل، بل ما ذكرت هذا الدرس وهذا المفهوم إلا من أجل أن نثبت على دين الله وأن نستمر في دعوة الناس استجابوا أم لم يستجيبوا، أقبلوا أو أدبروا رضوا أو غضبوا، هذا هو المطلوب منا:
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ).
الوقفة الثانية:(/9)
أن بعض الدعاة قد يحدد لنفسه منهجا جيدا ويرسم أهدافا يسعى لتحقيقها وفق المنهج الشرعي، ولكن إذا لم تتحقق هذه الأهداف يميل إلى اليأس والسأم والتعب، ثم يترك الدعوة، وهذا خلل كما قلت فيجب أن ننتبه لذلك، وكم رأينا من الذين تركوا الدعوة بعد أن ساروا فيها زمنا طويلا لأنهم يأسوا.
يونس عليه السلام وهو نبي ورسول:
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
نعم، (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) أي مذنب، وبعد ذلك بعد أن نجاه الله ورجع إلى قومه:
(وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ).
فعاقب الله جل وعلا يونس عليه السلام وهو نبي رسول لأنه يأس من قومه ولم ينتظر إذن الله جل وعلا له فترك قومه بع أن حذرهم وأنذرهم فعاقبه الله جل وعلا بالإغراق وابتلاع الحوت له. ولولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه عقابا له إلى يوم يبعثون.
هذا وهو نبي رسول، فكيف بنا أيها الأحباب، الواحد منا يدعو سنتين أو أقل أو أكثر ثم يحيل نفسه على التقاعد، ويقول عجزت وتعبت.
كم أتمنى وأقولها بحسرة أن أجد عند بعض الدعاة صبر النملة ومحاولات النملة.
تيمورلنك عندما هُزم في معركة من المعارك وتفرق جيشه ذهب إلى أحد المغارات، وهو جالس بعد هزيمة نكراء وجد نملة تحاول الصعود ثم تسقط، وتحاول ثم تسقط حتى عادت الكرة عشرات المرات ثم نجحت، فقام وخرج وجمع جيشه وحرب حتى انتصر، فالحذر من اليأس والقنوط..
الوقفة الثالثة:
الداعية الصادق ماذا يريد؟ يريد النصر لدينه والنجاة لنفسه.
أما النجاة لنفسه فقد تضمن الله بها إن كان صادقا مخلصا في دعوته.
وأما النصر للدين فليس لك بل هو لله جل وعلا، ليس لنا:
(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ).
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
ولله في ذلك حكمة كما بينت قبل قليل، قد يكون في حكمة الله أن لا ينتصر هذا الداعية في حياته، وأن يكون انتصار منهجه بعد وفاته أعظم وأكبر.
الوقفة الرابعة والأخيرة:
أن من أعظم أنواع الانتصار هو الانتصار على النفس، الانتصار على شهوات النفس وعلى رغباتها، وعلى تخاذلها، بل إنه شرط ولازم من لوازم الانتصار الحقيقي، والذي لا ينتصر على نفسه لا يمكن أن ينتصر على غيره.
فإذا انتصرنا على شهواتنا وعلى رغباتنا وعلى وساوس الشيطان في صدورنا وانتصرنا على العقبات التي تقف أمامنا فثقوا بنصر الله:
(وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).
أيها الأحباب:
هذا هو مفهوم انتصار الداعية، وهذه هي الحقيقة، فلذلك علينا أن نجد ونجتهد مهما حاول الظالمون ومهما حاول عداء الله لكبت هذا الدين:
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
محاولات الأعداء مستمرة، وهم مجتهدون ولا ييأسون ويحاولون ويكررون المحاولات وهم على باطل، ونحن على الحق ومع ذلك فمنا اليأس ومنا المستعجل، ومنا من قد يتنازل عن منهجه – وإن شاء الله لا يكون منا، ولكن أتكلم بالجملة-، والقليل القليل من يثبت على منهج الله، وعلى ما كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام، وهذا هو طريق النصر بل هذا هو النصر الحقيقي.
فيا أحبابنا ويا إخواننا تفاءلوا، الأعمى يقول لأبنه: يا بني كيف نحن من الليل؟
فإذا قال له: قد اسود الليل، قال: قد قرب الفجر:
اشتدي أزمة تنفرجي.............. قد آذن ليلك بالبلج
فصبرا أيها الأحباب، وثبات على المنهج وتواصيا بالحق وتواصيا بالصبر، وثقوا أن وعد الله لا يتخلف أبدا.
هذا ما أوجه به نفسي أولا، وأوجه به إخوتي الكرام ثانيا، وأسأل الله جل وعلا أن يثبتني وإياكم على الحق، وأن يجعلنا من المنتصرين في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
……………………………………
واحات الهداية(/10)
بصائر ومعالم في تدريس السيرة النبوية..
اجاب عليه ... خالد رُوشه
التاريخ ... 28/5/1426هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أشكركم على العمل العظيم الذي تقومون به للميدان التربوي، وأريد منكم تزويدي بمعلومات حول طريقة تدريس السيرة بصورة تجعل الدارسين يشاركون فيه بفعالية في العملية التعليمية، فلدينا مشكلات عند تدريس هذه المادة.
الاجابة
تمثل سيرة النبي الكريم _صلى الله عليه وسلم_ النموذج التاريخي الأمثل الذي لم يتطرق إليه عبث أو تزوير ولم تطله يد المائلين إلى هذا الاتجاه الفكري أو ذاك.. ومن ثم فهي معين لا ينضب ومنبع خير لا ينقطع...
ولازال العلماء وطلاب العلوم يتوقفون عند دلائل سيرته _صلى الله عليه وسلم_ العطرة فيستخرجون الذهب واللآلي..
وقد يحتاج الدارسون والمربون إلى معالم تبصرهم في أثناء تناولهم للسيرة علما وتعليما كي يزداد إنجازهم في دراستها ويعمق فهمهم بدرايتها , فتكون المشاركة الفعالة من جانب العالم والمتعلم ويكون الأثر المراد من ذاك النبع الأصيل..
وها نحن نقف معك أخي القارئ عند عدة بصائر ومعالم في تدريسها وتعليمها كالتالي:
أولا: وقار صاحب السيرة يلقى بظلاله على طريقة تعليمها..
إن قيمة درس السيرة النبوية الذي يعرضه المعلم والمربي على سامعيه لتزداد قيمته وتسمو فائدته لدى متعلميه كلما تذكر المستمع والمتعلم مقام صاحب تلك السيرة وكلما عاش في ظل وقار حياة ذاك النبي الخاتم _صلى الله عليه وسلم_ ولست أعنى بالوقار مجرد الاحترام والسكون اللازمين عند من يوقره الناس ويجلونه، بل يتعدى التوقير هنا ذلك إلى أمور أخرى عملية نحاول ذكر بعضها، (وعلى المعلم هنا أن يؤكد على هذا المعنى دائماً و يمعن في تعديد جوانب الوقار وتبيينها للمتعلمين ولدارسي السيرة في كل مجتمع – جوانب الوقار الواجب التأكيد عليها):
1- قيمة هذه السيرة العطرة إذ جاءت بعثته _صلى الله عليه وسلم_ في زمن قد مقت الله فيه العرب والعجم كلهم إلا بقايا نادرة من أهل الكتاب.
2- مدى ذلك التأثير الإيجابي الكبير الذي أحدثته هذه السيرة –تطبيقيا – في العالم أجمع , ومدى التغيير الإيجابي الذي غيرته في الأمم التي شرفتها بدعوتها
3- مقام ذلك الرسول الأعظم _صلى الله عليه وسلم_ بين البشر عامة وبين الرسل خاصة وأن رسالته هي خاتم الرسالات وأنها المهيمنة عليها جميعاً.
4- الواجب تجاه هذا الرسول من تأدب في السلوك والواجب تجاهه من طاعة في العمل وتصديق في الرسالة وبذل وعطاء في نصرتها
5- مقدار الجهد الكبير والعطاء العظيم والسعي الدؤوب الذي بذله ذلك الرسول الكريم لأمته بغية تعليمهم وهدايتهم لطريق الهدى والخير والنور والإيمان .
ثانياً: طرق تدريس السيرة بين التجديد والموروث..
قد يستطيع المعلم أن يوصل المعلومة التي يريدها إلى المستمع بطريقة سهلة لا يتعب نفسه فيها ولا يبذل فيها جهدا يذكر، فيفتح كتاب السيرة ويقرأ منه لطلابه وطلابه يستمعون فإذا ما انتهى الوقت أو انتهى الجزء سألهم: هل من سؤال؟ فيهزون رؤوسهم بالنفي فيختم الدرس ويقوم عنهم ظاناً أنهم قد استوعبوا الدرس وحصل المقصود.. ولنا على هذه الطريقة بعض الملاحظات من حيث مدى أثرها في التحصيل والتعليم إذا اكتفى بها المعلم في الموضوع الذي هو بصدده وخصوصاً موضوعات السيرة التي تحتاج سعة لفهم المواقف واستيعاب السلوك النبوي فيها وملاحظتنا كالتالي:
1- لا يمكن الاكتفاء بتلك الطريقة للتأكد من حصول الاستيعاب
2- لابد من استخدام الطرق التعليمية المختلفة لكمال الاستيعاب
3- التطبيق العملي في المواقف هو الدليل الأول على الفهم
4- الاكتفاء بتلك الطريقة يراكم المعلومات في الذاكرة القريبة ويسبب نسيان الموقف والأسماء المذكورة فيه وتهمل معه المعلومة السابقة
5- هذه الطريقة وحدها في التعليم لا تتيح القيام بالتفاعل التعليمي بين الطالب والمعلم.
6- هذه الطريقة وحدها تورث الملل لدى الطالب والمتعلم وتجعله لا يذوب في المادة فهما ولا يشتاق إليها شوقا.. بل يعدها مادة للتدريس النظري فحسب.
ولذلك فيجدر بالمعلمين الانتفاع بباقي الطرق التربوية والتعليمية لتوصيل الرسالة العلمية والإيمانية للمنتفعين بها والراغبين فيها, وسأحاول أن أطلعك على طرف من هذه الطرق التعليمية المختلفة التي يمكن أن ينتفع بها في تدريس مادة السيرة النبوية..
أ – طريقة السلف:
قال عبد الله بن مسعود _رضي الله عنه_ فيما أخرجه البخاري: " كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن ".(/1)
إذن كانت هذه هي طريقة السلف الصالحين في تعلم المادة العلمية المعينة وهى الحرص على تفهم المادة وتطبيقها في المواقف قبل أن يستزيد، وهنا عندما نطبق ذلك على دراسة سيرة النبي _صلى الله عليه وسلم_ نقول إن كل جزئية من جزئيات حياته _صلى الله عليه وسلم_ هي قيمة وكل موقف من مواقفه هو درس في ذاته وكل صفة من صفاته هي قدوة فيجب ألا نفرح بالاستكثار من تدريس السيرة من قبل أن نتأكد من تشرب الطلاب كل موقف وتطبيقهم لكل فضيلة واقتدائهم بكل صفة.
ب – التعليم بالموقف:
وهذه الطريقة لا يمكن استخدامها إلا إذا كان المعلم متابعاً للطالب ومحتكاً به وقريباً منه فهو يستغل كل موقف يمر به ليسدى إليه التوجيه والتعليم رابطاً كل موقف من المواقف بمواقفه _صلى الله عليه وسلم_ وهذه الطريقة في التعليم من أبلغ الطرق في التأثير ومن أكثر الطرق رسوخاً في ذاكرة المتعلم إذ إنها تربط بمثير خارجي هو الموقف الذي مر به وبتوجيه مرتبط وهو التوجيه النبوي وطريقته _صلى الله عليه وسلم_ في التصرف فيه، وقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ كثيراً ما كان يستخدم هذه الطريقة الناجحة في التعليم والتوجيه، فعن عمرو بن عوف الأنصاري _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ بعث أبا عبيدة بن الجراح _رضي الله عنه_ إلى البحرين ليأتي بجزيتها فقدم بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبى عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع الرسول _صلى الله عليه وسلم_ فلما صلى النبي انصرف فتعرضوا له فتبسم النبي حين رآهم ثم قال: أظنكم سمعتم أن أباعبيدة قدم بشيء من البحرين فقالوا: أجل يا رسول الله. فقال: أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم " متفق عليه
ج – ما تكرر تقرر:
هي حكمة وصفية صالحة إذا حسن استخدامها وطريقة تعليمية ناجحة إذا أتقن العمل بها ومعناها أن يكرر المعلم الجمل الهامة والتوجيهات الضرورية والنصائح الغالية في السيرة النبوية التي وردت على لسان النبي _صلى الله عليه وسلم_ في المواقف الهامة وعلى لسان أصحابه _رضوان الله عليهم_ مرات كثيرة وفى مرات مختلفة وبطرق مختلفة ، فإنه إذا أكثر من تكرار ذلك بهذه الطريقة فإنها تقرر في عقول المستمع كأصول وأسس ثابتة يصعب نسيانها، فالمعلم الحريص على تعليم أتٌباع النبي _صلى الله عليه وسلم_ مثلا يكرر ذكر مقولة المقداد _رضي الله عنه_ " والله يا رسول الله لو خضت بنا البحر لخضناه معك لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون "
د – التعليم بالحكاية:
وأقصد بالحكاية هنا حكايات الصالحين من أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة والعلماء الكرام وكيف أنهم اقتدوا بسيرته _صلى الله عليه وسلم_ اقتداء شديداً واتبعوا خطواته متابعة كاملة، فتراجم الصالحين وحكاياتهم هي نموذج تطبيقي لسيرة النبي _صلى الله عليه وسلم_
هـ – التعليم بالبحث:
وهى طريقة جيدة أيضاً في تثبيت المعلومة والتحبيب في العلم والكتاب والتعويد على الصبر على العلم وعلى أدب الخلاف وهى هنا مفيدة جداً في تعليم السيرة النبوية وإخراج المستفاد من الدروس من المواقف والمقارنات بين المواقف السابقة والواقع الحالي وغير ذلك، وهي طريقة يقوم فيها المعلم – بعدما يشرح موضوعه المراد تدريسه – بأن يطلب من الأفراد القيام ببحث علمي مصغر للجزئية من السيرة المطلوبة كأن يطلب منهم البحث في صحة الروايات في تلك الجزئية أو الدروس المستفادة وكيفية تطبيقها في العصر الحديث أو خلافات الرواة في المواقف المختلفة وغيرها، ثم تأتى الخطوة التالية وهي أن يعرض عليهم جميعاً نتائج بحوثهم بعدد تقديمها له وقراءته إياها وعليه أن يثنى على مجهوداتهم ويبين الايجابيات في بحوثهم وأن يقف معهم على كل سلبية ويبين لهم الصواب بوضوح .
ثالثاً: الربط بين أحاديثه _صلى الله عليه وسلم_ وسيرته..
يغفل كثير من المعلمين أثناء تعليمهم سيرة النبي _صلى الله عليه وسلم_ للطلاب عن ربطها بالأحاديث النبوية الشريفة ويكتفون بما ذكره أصحاب السير في باب السيرة فحسب وهو منظور ناقص فسيرته _صلى الله عليه وسلم_ هي كل موروث صحيح عنه في المواقف المختلفة سواء كان تصرفاً أو توجيهاً.. وهذا ما فعله بعض أهل العلم الكبار حينما يذكرون سيرته _صلى الله عليه وسلم_ وأكثر نموذج يحضرني هو كتاب (زاد المعاد في هدى خير العباد) للإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله – فقد ربط فيه أيما ربط بين سيرته الشريفة وبين دروس فقهه وحديثه _صلى الله عليه وسلم_ غير أنه لم يستقص في ذلك الباب ربما لظروف تأليفه ذلك الكتاب القيم صحة الأحاديث...(/2)
وهنا ننبه إلى أهمية استقصاء الحديث الصحيح الثابت في السيرة واجتناب الضعيف والمردود منها خصوصا وكتب السيرة قد تكثر بها الأحاديث الواهية، كذلك التدقيق في المواقف التي ذكرها الحديث النبوي الشريف ولم يعن بها كثير من أصحاب السير، كذلك التدقيق في الفوائد الفقهية والعملية الشرعية في المواقف المختلفة وسرد أقوال العلماء فيها وما استفادوه منها.
وأخيراً فالسيرة النبوية نبع متدفق ومهم للغاية في البناء النفسي والانفعالي لأبنائنا إذا أحسنا استخدامها بطريقة منهجية موظفة.. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(/3)
بصراحة مع الشباب
للشيخ خالد الراشد بسم الله الرحمن الرحيم
إ ن الحمد لله ...نحمده و نستعينه ونستغفره ونتوب إليه .. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ... من يهدي فلا مضل له من يضلل فلا هادي له ... وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ..
~*{ يا أيها الذين آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمين }*~
~*{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رقيبا}*~
~*{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سديداًيُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }*~...
أما بعد :
فأن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله علية وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار معاشر الأحبة :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة حياكم الله وبياكم وسدد علي طريق الحق خطاي و خطاكم أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني واياكم في دار كرامتة أخواننا علي سررن متقابلين أسألة سبحانة ان يحفظني وأياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يجعلنا هداه مهتدين لا ضالين ولا مضلين عنوان هذا اللقاء المبارك بصراحة مع الشباب :::
هذا المخيم المبارك ما هو أقيم بصراحة إلا للشباب ليس المقصد سحب علي سيارة وليس المقصد مسابقة من المسابقات ، المقصد : كيف أنا وانت نسلك سبيل النجاة ، كيف نتعاون نحن وإياكم علي البر والتقوي ، كيف نتعاون نحن وإياكم علي أن ننجوا بأنفسنا وأهلينا من عذاب الله .
بصراحة مع الشباب الشباب هم بارك الله فيهم هم بناة الحضارة وعلي أكتاف الشباب يتغير الواقع وبأيدي الشباب تستعيد الأمة مكانتها وتستعيد الأمة العزة المفقودة والعزة المسلوبة لكن أي نوع من الشباب هو الذي سيغير الواقع الشباب علي صنفين الشباب اليوم علي صنفيين وتعال نتكلم بصراحة ونقول للشباب ماذا تريدون؟؟؟؟ كثير من الشباب يدعي أنة في سعادة ويدعي أنة في راحة وطمئنينة لكن في قرارة نفسة يعلم أنة ليس كذلك .(/1)
علي غير ميعاد منذ اسابيع مضت كنت في سفر إلي الرياض فصعد الطائرة وبين أنا اضع حقائبي في المكان المخصص إذا بمن يناديني من خلفي و يقول السلام عليكم يا فلان فألتفت فإذا بشاب أعرفة منذ سنوات طوال فرقت بيني وبينة أحوال الدنيا هنا وهناك في أخر عهدي بة منذ سنين مضت أنة مذبذب لا إلي هؤلاء ولا إلي هؤلاء سار مع اهل الأستقامة فترة ثم عاد إلي ما كان علية ، الذي اعرفة انة اصبح موظف في الخطوط الجوية وأصبح مضيفا وهذة أمنية كان يتمنها هو كنت أسئلة لماذا تريد هذة الوظيفة المتعبة ؟ قال أحب السفر هنا وهناك كل يوم في بلد ، مضت الأيام وتفرقنا انا وأياة الذي أعرفة أنة ألتحق في ذلك المجال الذي يريدة جائتني الأخبار أنة تزوج وأصبح أبا لم أرة منذ 10 سنوات إلا في الطائرة في ذلك اليوم قلت فلان قال نعم قلت أهلا وسهلا كان يرتدي ثياب الوظيفة لكنة لم يكن علي مهمة في تلك الطائرة كان يريد الذهاب إلي الرياض ثم من الرياض سيصعد علي طائرة إلي خارج البلاد في رحلة تستغرق أربع ساعات ثم يرجع إلي البلاد في نفس الليلة جالسنا أنا واياة ، قلت لة ما هي أخبارك قال أبشرك بخير وسعادة وما مر علي لحظات إلا وأنا أحسن تلو اللحظات قلت عندي خبر أنك تزوجت قال نعم تزوجت وعندي طفل صغير أسمة خالد ، قلت ماشاء الله تبارك الله الأن أصبحت رجل مسؤل أصبحت مسؤل عن أسرة كاملة فكيف هي أحوالك ؟ قال بعد أن أنجبت زوجتي هجرتني لسنة كاملة ذهبت وتركت البيت لسنة كاملة قلت لماذا ؟ قال بصراحة يا شيخ لسوء تصرفاتي لسوء تصرفاتي لقد كذبت عليك حين قلت لك أني في سعادة وأني في طمأنينة الحقيقة يا شيخ أني أعيش هموم وغموم ما يعلمها إلا الله والله يا شيخ أني في ضياع لا يعلمة إلا الله كثرة السفر وكثرة التنقلات كنت أظنها كنت أظنها ستجلب لي سعادة لكن الذي حدث انها أحدثت لي عكس ذلك أتبعت السيارة وأنجرفت مع الأشرار من بلد إلي بلد ومن مصيبة إلي مصيبة حتي تركتني زوجتي وذهبت إلي أهلها سنة كاملة ، رجعت بعد أن عاهدتها أني سأستقيم وأني سأعود إلي صراط الله المستقيم لكني ما صدقت في عهودي وما في مواثيقي يقول منذ أيام حدث حادث أثر في حياتي حدث حادث أثر لي كثيرا وغير من مجريات حياتي قلت لة ما هو ؟ قال كنت في أحد البلاد الأسيوية خرجت بعد أن وصلت الرحلة المفترض أننا سنبقي ثلاث ليالي هناك ثم نرجع مرة ثانية خرجت مع من خرج يسرح و يمرء في تلك البلاد رجعت ومعي فاجرة إلي الفندق يقول فلما تجردت من ثيابها وتجردت أنا من ثيابي إذا بنداء هذ كياني إذا بالمؤذن يرتفع من مسجد مجاور لنا ، يقول خافت هي وأنتفضت ولبثت ثيابها ودخلت إلي دورة المياة وتوضئت ثم خرجت وجلست تصلي وتبكي وجلست تصلي وتبكي وأنا لم يتحرك شيء في داخلي قلت في نفسي إلي هذة الدرجة أنا وصلت إلي الضياع ! إلي هذة الدرجة أصبح الأذان يؤذن ولا يحرك في قلبي شيء !!! إلي هذة الدرجة أرى من يتأثر ويبكي ولا يعني لي شيء!!! فرجعت ولم أصنع شيئا لكني رجعت وأنا أحمل هم وأنا أقول إلي متي و أنا أسير علي هذا الطريق إلي متي وأنا أسير علي طريق الضياع سبحان الله ، فاجرة سمعت الأذان ينادي فأنتفضت في مكانها ورفضت أن تفعل الفاحشة وتوضئت وصلت باكية في مكانها ويقول لي أنا الأن تجاوزت الثلاثين سنة ولا أدري متي سيتغير الواقع؟؟؟؟؟؟؟ قلت لة كيف أنت مع الصلاة ؟ قال أنا ما أصلي يا شيخ قال أنا ما أصلي قلت لة وكيف تحي إذن وأنت لا تصلي ولا تعرف أوامر الله ولا تأتمر بأوامر الله قال كأن الله قد ساقك إلي الليلة أنا أحتاجك يا شيخ أنا أحتاجك أريد أن أصرح لك أبوح لك بما يدور في داخلي الذي يدور في داخلة يا أحبة هو اّثر الذنوب والمعاصي اّثر البعد عن الله جل في علاه اّثر الأدبار عن صراط الله المستقيم ، كيف يتغير الواقع وهو لا يعرف أبسط أمور الدين وهي الأستقامة علي صلاتة ، قلت أنا أنزل في الرياض في مهمة وأرجع علي طائرة الحادية عشر والنصف قال هي موعد رجوع طائرتي أيضا أنا أسافر إلي بيروت ثم أرجع و أقلع علي طائرة الحادية عشر والنصف قال أرجوك أنا اريدك يا شيخ فقد مللت هذا الطريق و هذة الحياة قلت أستقم في صفوف المصلين وإلزم المسجد وأركع و أسجد لله حتي يتغير الحال فأن الله لا يغيير ما بقوم حتي هم يغييروا ما بأنفسهم أفترقنا انا وهو في صالة المطار علي أن نلتقي في الساعة الحادية عشر والنصف حتي نرجع إلي الدمام ، لظروف أنا تأخرت في المجيء إلي المطار لظروف طارئة تأخرت أنا في المجيء إلي المطار حتي كادت الرحلة تفوتني حتي قال لي الشباب في الرياض أمكث يا شيخ امكث هذة الليلة وأرجع غدا صباحا قلت لا أنا علي موعد في المطار ( مع ذلك الشاب الذي واعدتة علي أن نلتقي مهما كانت الظروف ودعني في المطار بعيين باكية ما زلت أذكر ذلك الوجة وهو يفترق ويبتعد عني وهو يقول لي أرجوك يا شيخ انا أحتاجك فما أردت أن أتخلف عن موعدة ) تخيل أنتلقت من منطقة بالرياض في(/2)
الساعة الحادية عشر و الطائرة تقلع في الساعة الحادية عشر والنصف (في إتصلات الشباب التي نعرفهم رتبوا اجراءات صعودي للطائرة ) لما وصلت إلي المطار الساعة الحادية عشر و النصف وجدت أن الركاب كلهم قد ركبوا إلا صاحبي كان ينتظر عند البوابة فلما راّني بكي و أخذ يقول والله يا شيخ ما كنت لأركب الطائرة حتي تأتي أنت ثم ركبنا أنا واياة ، بين السماء و الأرض باح و اعترف ،، بين السماء و الأرض أعلنها توبة لله رب العالمين قال لي فيما قال في الحديث الذي دار بيني وبينة أبشرك يا شيخ صليت ولأول مرة أصلي منذ سنوات والله لأول مرة بين السماء والأرض أني أحس أني قريب من الله لأول مرة أحس أني لا أخاف لأول مرة احس بالراحة والطمئنينة في داخلي ،، أقول أحبتي الأنسان في ضياع حتي يتعرف علي الله جل في علاه قال سبحانه
( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) من معانيها أي ما خلقتهم إلا ليتعرفوا علي وكيف يكون التعرف علي الله إلا بالركوع والسجود والخضوع لأوامرة والأنتهاء عن نواهيه أنت عبد للسيد الذي خلقك وأعطاك وأمدك بكل شيء لابد أن تحقق العبودية حتي يحقق الله لك ما وعد لابد أن تسير علي النهج الذي خلقك الله من أجلة ... ظل يبكي بين السماء والأرض ويدلي بأعترافات (تركتني زوجتي ، تركني المقربون ، تركني أناس كثيرون ) السبب الذنوب والمعاصي كنت أظن أن السفر والترحال سيجلب لي سعادة كنت أظن أن الريحة هنا وهناك ومعاشرة هؤلاء وهؤلاء ستجلب لي سعادة ،، قال والله ما أستشعرت السعادة إلا مرة واحدة منذ سنوات مضت حين إنتشلني هؤلاء الشباب الصالحون وأخذوا يغدون ويروحون بي إلي المسجد حينها عرفت أنني إنسان حينها عرفت أن لي قيمة في هذا المجتمع ،،، أجتهدت علي كثير من الشباب في تلك الفترة لكن حين سلكت تلك الوظيفة وبدأت أطير من بلد إلي بلد بدأت رحلة الضياع .
بصراحة كثير من الشباب يعيش في ضياع لا يعلم بة إلا الله هو يضحك ويتبسم لكنها ليست بأبتسامة خارجة من القلب إبتسامة وراءها ما يعبر عنها وأشياء كثيرة يخفيها الشباب خلف إبتساماتهم قل لأصحاب المعاصي قل لأصحاب الضياع ماذا صنعت المعاصي بهم وهل جلبت لهم سعادة المطلوب مني ومنك بارك الله فيك أن نسير علي طريق الأستقامة أن نعيش عبيد لله رب العالمين أسمع بصراحة إلي واقع الشباب(/3)
ألتقيت بثلاثة علي أحد الطرق الطويلة في ساعة متأخرة من الليل قلت وقد توقفت لهم أين تريدون قالوا نريد الدمام قلت أصعدوا فأنتم علي طريقي لما ركبوا وهم في مقتبل العمر لم تتجاوز أعمارهم الحادية و العشرين أو الثانية والعشرين سألتهم أين تريدون قالوا نريد المكان الفلاني قلت ماذا تريدون من هناك قالوا نبحث عن وظائف قالوا نحن من تلك البلاد الشمالية قطعوا مسافات طويلة بحثا عن وظيفة بحثا عن الجاة بحثا عن الرزق ولا عيب في هذا لا عيب أن الأنسان يسعي لرزقة لكن عيب كل العيب أن يراة الله مقصر في حقة عيب كل العيب أننا نخرج من أجل دنيانا عيب كل العيب أننا نخرج في قضاء حوائجنا ولا نخرج في طاعة الله حين ينادينا منادي الله الصلاة خير من النوم أو حي علي الصلاة أو حي علي الفلاح قلت أصدقوني ما هي شهادتكم وما هي المؤهلات التي تحملونها فما ذكروا مؤهلات تذكر منهم من يحمل الشهادة المتوسطة ومنهم من يحمل دون ذلك قلت الأمر لله من قبل ومن بعد ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل لة من بعدة وهو العزيز الحكيم لكن من كان مع الله كان الله معة وما سميت الصلاة صلاة إلا لأنها صلة بين العبد وبين ربة ولأن الله يصل بفاعلها إلي الجنة و يصل بتاركها إلي النارولأن الله يتعهد أهل الصلاوات قال الله تعالى ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) لذلك سألتهم وقلت كيف أنتم مع الصلاة أسمع بارك الله فيك أسمع أخبار الشباب وبصراحة مع صلواتهم التي هي أساس أمور دينهم قال الذي يجلس بجانبي قال أقول لك الصراحة أم أكذب عليك يا شيخ قلت أن كذبت فأنت لا تكذب علي أنت تكذب علي نفسك أنت قال بصراحة أنا ما اصلي قلت إذن كافر قال لا قلت كيف ؟؟؟؟ العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر بين المرء وبين الكفر ترك الصلاة فهل ترضي بهذا الأثم قال لا قلت إذن إفعل بفعل المسلمين الذين من أساس أركان دينهم بعد التوحيد لله إقامة الصلاة ، أما الثاني فقال لي أنا أحسن منة يا شيخ أنا أحسن منة حالا قلت وكيف قال أنا أصلي من الجمعة إلي الجمعة قلت هذا دين جديد وهذا شرع جديد قال وماذا أفعل إذن قلت هي خمس صلوات بارك الله فيك قال الثالث أنا أحسنهم حالا يا شيخ قلت وكيف قال أنا أصلي في اليوم صلاتين أيعقل أن هذا هو حال الشباب منهم من لا يركع ولا يسجد ومنهم من لا يصلي إلا من الجمعة إلي الجمعة ومنهم من لا يعرف الله إلا في وقت الشدة ، في أوقات الأمتحانات والأختبارات يقبل الناس علي المساجد وحين ترفع وتقضي حوائجهم يدبرون عن أوامر الله أتأمن مكر الله
( أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) كم خسرنا من شاب و من فتاة لا يصلون ولا يعرفون أوامر الله كم خسرنا من صغار ومن كبار خرجوا من الحياة بلا رصيد من الحسنات غرتهم الأماني وغرهم بالله الغرور .
يقول أحد مغسلي الموتي جيء لنا بشاب في مقتبل العمر و أكثر من يموت اليوم الشباب غر الشباب وغرهم طول الأمل سمعت أن أكثر من يموت اليوم هم الشباب يقول أحد مغسلي الموتي جيء لنا بشاب في مقتبل العمر فلما بدأنا بتغسيلة و تكفينة أنقلب لونة من البياض الشديد إلي السواد الشديد خفنا من المنظر الذي رأيناه فخرجنا خائفين فوجدنا رجلا في الخارج قلنا من أنت ومن الميت قال الميت ميتنا قلت من أنت للميت قال أنا أبوة قلت ما خبر ميتكم هذا قال ميتنا هذا لم يكن من المصلين ، ميتنا هذا لم يكن من المصلين قلنا أعوذ بالله خذوا ميتكم أنتم وغسلوة وكفنوة فحكم الله في هذا هذا لا يغسل ولا يكفن ولا يدفن في مقابر المسلمين لا يدعى لة ولا يستغفر لة ولا يحمل علي الرقاب يسحب علي وجة وتحفر لة حفرة في الصحراء ثم يكب فيها علي وجة وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون أتدري كم من أمر للمحافظة علي الصلوات في كتاب الله أكثر من 90 أمر يكفينا أمر واحد حتي نعلم أن القضية قضية خطيرة وأن القضية يترتب عليها أما جنة وأما نار أول ما يسأل هنة العبد يوم القيامة سيسأل عن صلاتة حتي يستقيم حالة في دنياة وينظر الله في أمورة في أخرتة لابد أن يستقيم صفوف المصلين .(/4)
أحد الشباب يقول أنا وصاحب لي نغدوا ونروح في اوقات الصلوات والله لا نعرف المساجد ولا نعرف الأوامر نستهذىء بالمصلين ونستهذيء بأهل الأستقامة وأهل الألتزام حتي جاء يوم أفترقت أنا وأياة بعد الفجر هكذا حالونا بالليل سهر وضياع وهذا حال كثير من الشباب اليوم أفترقت أنا وصاحبي بعد صلاة الفجر ولم نصليها نمت فلما استيقظت قال لي أخي الأكبر فلان صاحبك قد مات اليوم ظننتة يمذح ظننت بأن الأمر مذح وليس بالأمر الجد فقلت أترك عنك هذا الكلام أنا و أياة أفترقنا هذا الصباح وذهب هو إلي البيت قال أقول لك بالحرف الواحد فلان قد مات فذهبت إلي بيتة أتقصي الخبر طرقت الباب فخرج إلي أبوة قلت أين فلان فقال لي والدمعة علي خدة عظم الله أجرك في فلان عظم الله أجرك في فلان قلت أين هو قال أين هو لن نصلي علية ولن ندفنة في مقابر المسلمين هذا كلام الأب لأنة كان ما يصلي كم نصحناة ونصحناك واياة ان تحافظ علي أوامر الله يقول الشاب حينها علمت أني علي خطر حينها تأكدت أني أسير علي طريق غير صحيح علمت انة لا بد أن أصحح المسار فهذا الموت يتخطف الصغار ويتخطف الكبار منهم من يأخذة في الجو ومنهم من يأخذة في الأرض ومنهم من يأخذهم علي ضفاف البحار فكيف يكون حالي إذا جائني المنادي يقول فلان بن فلان إنقضي العمر وأنتهت الحياة وأنا علي حال لا يعلمها إلا الله قال لي الأب صلي قبل أن لا يصلي عليك كما فعلنا بفلان صلي قبل ان لا يصلي عليك كما فعلنا بفلان علمت حينها اني علي خطر عظيم علمت حينها أن الله قد مد في عمري وأعطاني فرصة حتي أراجع الحسابات،،،،
تمضي السنين وتنقضي الأيام والناس تلهو و الأنام نيام والناس تسعي للحياة بغفلة لم يذكروا القراّن والأسلام
والمال أصبح جمعة كتهجدا وتمتع الشهوات صار صيام قد ذين الشيطان كل رذيلة والناس تفعل ما تشاء حرام
يا نفس يكفي فالذنوب كثيرة إن الغرور يسبب الأجرام هل تعلم اليوم المحدد وقتة الله يعلم وحدة العلام
ماذاتقول إذا حملت جنازة ودفنت بالقبر الشديد ظلام
هذا السؤال فهل علمت جوابة ماذا تقول إذا نطقت كلام
اليوم تفعل ما تشاء وتشتهي وغدا تموت وترفع الأقلام
بصراحة إن كثير من الشباب يحتاج إلي مراجعة الحسابات إذهب صلاة الفجر مع الجماعة فلا تري إلا قليل من الشباب الذين هداهم الله وأباء وأجداد يصلون والبقية الباقية تمر كان الأمر لا يعنيها ستخونهم المعاصي ستخونهم المنكرات ستخونهم المخالفات في ساعات هم في أمس الحاجة إلي العون والتثبيت من الله ولكن لا يثبت الله إلا أهل الصلوات .(/5)
يقول أحد مشايخنا الكرام مات أحد الشباب الذين نعرفهم بالصلاح نحسبهم والله حسيبهم ولا نذكي علي الله احد يقول شيخنا اعرفة تمام المعرفة من الذين يحافظون علي الصلاة وتكبيرة الأحرام في الصف الأول أعرفة حريص علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعرفة حريص علي فعل الخيرات حريص علي ترك الفواحش والمنكرات مات لكنة مات علي طاعة فكنت ممن غسلة وكفنة وودعة في قبرة في ذلك اليوم رأينا في جنازتة عجب رأينى في جنازتة عبرة لأولي الألباب لما بدأنا بتغسيلة وتكفينة بدأنا بمزج المسك و الكافور يقول والله الذي لا إله إلا هو فاحت رائحة المسك منة قبل أن نضع المسك علية حتي فاحت في المكان كلة قلت لصاحبي تشم قال أي والله والله ما شممت أحلي ولا أجمل من تلك الرائحة ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) قال ففاحت منة رائحة المسك والله ما شممنا أجمل من تلك الرائحة فلما كفناة وذهبنا بة إلي المقبرة كنت ممن نزل في قبرة وكان الناس علي شفير القبر يريدون إنزالة بيننا وبين إيدهم فلما أنزلوة وكنت انا وصاحبي في القبر يقول والله الذي لا إله إلا هو أنة حمل من بين أيدينا والله ما حملناة !! ووالله أنة وضع في التراب والله ما وضعناة !! والله أنة وجة إلي القبلة والله ما وجهناة !! يقول كشفت عن وجه فإذا هو يضحك وعلي وجة إبتسامة لولا أنني الذي غسلتة وكفنتة والله ما كنت أظن انة قد مات ، ولكن فضل الله يؤتية من يشاء عاش علي الطاعة ومات علي الطاعة فثبتة الله في اشد اللحظات كما خانت المعاصي اصحابها ثبتت الطاعات اهل الطاعات في أمس اللحظات ،، بصراحة ماذا يريد الشباب اليوم وما الهدف الذي يحيا من اجلة كثير من الشباب أعلم بارك الله فيك انة من أراد الوصول فعلية بالأصول ومن سار علي الدرب وصل وما ربك بظلام للعبيد الطريق واضح الطريق مستقيم لا أعوجاج فية لا يمنة ولا يسرة إنما الأعوجاج في طريق المنكرات والفواحش والمخالفات لذلك من فضل الله علينا وعلي الناس أن جعل الصراط مستقيما حتي تقوم الحجة علي الصغير وعلي الكبير وأنت كل يوم يا من تصلي تسأل الله الثبات علي هذا الصراط المستقيم لأن الأغراءات كثيرة لكن من تعرف علي الله تعرف الله علية(/6)
شاب أعرفة رويت لي أخبارة تمام المعرفة يقول اخوة منذ صغرة وهو متعلق بالمساجد أحسبة والله حسيبة شاب نشاء وترعرع في طاعة الله أحسبة والله حسيبة من السبعة الذين يظلهم الله في ظلة يوم لا ظل إلا ظلة ، كما أنا نري نماذج من الضياع ، ولله الحمد نري نماذج كثيرة للأستقامة وهؤلاء حجة علي أولائك لا يتعذر الشباب ويقول كثير منهم نحن لا نستطيع إن أستطاع فلان أنت أيضا تستطيع لكن خذ بالأسباب وخذ بسبل النجاة التي سلكها فلان حتي تنجو أنت ، يقول أخوة نشأ وترعرع في طاعة الله كبر وهو يحب المساجد ويحب أهل المساجد لما ألتحق بالوظيفة ألتحق بالسلك العسكري فكان ذلك اليوم يوم مشهود لا ينساة أبدا ويتذكر ذلك اليوم حين قوبل في مقابلة القبول ووافقوا علية موظفا في السلك العسكري جاء اليوم الذي ستسلم فية البطاقة لة فقال لة الذي ياخذ الصور أنت بلحيتك هذة إن صورتك اليوم علي هذة الصورة فأنت لا تستطيع بعدها أن تزيل هذة اللحية فهل تريد أزالتها قبل أن نأخذ لك صورة قال أسأل الله أن يأخذ عمري قبل أن أبدل سنة محمد( صلي الله علية وسلم ) ، أسأل الله ان يأخذ عمري قبل أن أبدل سنة محمد (صلى الله علية وسلم ) ، سنوات وأنا أعتني بسنة محمد(صلى الله علية وسلم ) سنوات وانا أعتني بمظهري أءتي الأن من أجل وظيفة اتخلى عن دين الله أو أتخلي عن أي شيء من دين الله خذ الصورة وكلي عزة أنني أقتدي بمحمد (صلى الله علية وسلم ) فأخذت لة الصورة في لحية تجللة وتجلل وجة ونرى فيها أثر النور نسأل الله ان يتقبلة فيمن عندة ثم بدأ يسلك طريق الأستقامة مع المستقيمين ويعمل مع العاملين ، يقول أخوة والله لا يهدأ بالليل ولا بالنهار يعمل علي إصلاح الشباب و علي إستقامة الشباب بالليل والنهار يأتية الناس في حوائجهم وهو لا يكل ولا يمل وكما قال النبي ( صلى الله علية وسلم) أنفع الناس أنفعهم للناس وسؤل عن رجل يخالط الناس ويتحمل أذاهم وعن اّخر لا يخالط الناس ولا يتحمل أذاهم فقال ( صلي الله علية وسلم) هذا أحب إلي الله وخير عند الله الذي يسعي في هداية الناس ويسعي في قداء حوائج الناس)) ،،، يقول حتي إذا بلغ سن الزواج تزوج ثم رزقة الله بصيبية وبنات وهو لا يكل ولا يمل في العمل الدعوي والعمل الخيري ثم إلتحق بأحد الهيئات الخيرية يعمل معهم في نصرة الأسلام وفي نصرة المسلمين حتي إذا بلغ متوسط العشرين أو دونها أو أكثر منها قليل قال أصابة مرض وما علم أحد بمرضة كان يتألم ألما شديدا ولم يظهر لأحد من الناس ضعفة ولا ما سببة له المرض كان يتألم ولا يصدر شكواة إلا إلي الله جل في علاة ثم بداء المرض يتفاقم علية ويزيد علية كان يخبي عن امة اّلامة حتي لا تتأذا المسكينة وتحمل هم مرضة يقول حتي بلغ المرض منة مبلغة أخذناة إلي الطبيب فقال الطبيب أنة مصاب بورم خبيث في بطنة ولا بد أن يرضخ ويجلس للعلاج بداوا علاجة بالمسكنات حتي يخففوا عنة الآم ثم تفاقم المرض وذاد وكان لا بد أن يعالجوة بالجرعات الكيماوية ، الجرعات الكيماوية هي أخرا ماذا تسبب أبسط مسبباتها أنها تسبب تساقط الشعر سبحان الله كان دائما يدعوا أن الله يثبتة علي دينة وأن يلقي الله غير مبدل ولا مغير كان يعتز بمظهرة الذي يدل علية سبحان الله يقول الطبيب الذي عالجة بدانا بأعطائة جرعات كيماوية سبحان الله أول ما يظهر علي المريض من مفاعلات عكسية من أثر هذة الجرعات أنة يبدأ يتساقط الشعر يقول و الله الذي لا إله إلا هو ما سقطت شعرة واحدة من جسمة يقول كنت اتعجب الطبيب يقول كنت اتعجب كل المرضي تحدث لهم مثل هذة الأعراض وكلهم يتساقط شعر جسدهم يقول والله كنت أتية وهو نائم في أغمائة كاملة من اّثر هذة الجرعات ومن أثر الألام التي كان يعانيها وكنت اشد لحيتة فلا تسقط منها شعرة واحدة يقول كنت أجر لحيتة علها تتأثر بالشد فأجدها والله ثابتة علي وجة ما سقطت منة شعرة واحدة إلا لأنة كان يدعوا الله أن يلقاة وهو غير مبدل ولا مغير أعتز بدينة فأعتز الله بة ثبت علي دينة فثبتة الله في اشد اللحظات مات ولكن موتة كان لة أكبر الأثر علي غيرة كثير يموت ولا يدرى عنهم كثير يموتون وتنقضي أخبارهم بعد ثلاثة أيام واّخرون يموتون ويحي بموتهم أقوام نحسبة هذا الشاب والله حسيبة حتي في ساعات مرضة حتي في ساعات مرضة كان يدعوا من حولة أما يكفي أن الله كرمة كرامة عند موتة ولقي الله وهو معتز بسنة محمد ( صلى الله علية وسلم ) التي قال لصاحب الوظيفة و الله أني لن أتخلي عن لحيتي ولا طرفة عين فثبتة الله في لحظات موتة .(/7)
بصراحة الشباب يحتاجون إلي مراجعة حساباتهم الشباب بحاجة أن يراجعوا حسابتهم و أن يستقيموا في صفوف المصلين سأسلك سؤال و أصدقني في الجواب كيف أنت مع صلاتك وأين صليت الفجر اليوم في جماعة المسلمين أم مع المتخلفين أم مع الذين أولأك الذين لم يركوا ويسجدوا لله رب العالمين كم عمرك اليوم لقد بلغت من العمر عتيا بعضنا من جاوز العشرين وبعضنا من جاوز الثلاثين وبعضنا من جاوز الأربعين فقل لي بالله العظيم لن أسئلك عن العشرين ولا عن الثلاثين ولا عن الأربعين سنة سأسلك عن أشهر مضت منذ بداية العام حتي يومنا هذا قل لي وكن صادقا كم مرة فاتتك صلاة الجماعة مرة مرتين أم ثلاث قل لي و أصدقني بالله العظيم كم مرة نادك منادي الله الصلاة خير من النوم وواقع حال الكثير يقول النوم خير من الصلاة مرة أم مرتين أم ثلاث وأنت يا من تدعي انك محافظ علي الصلوات وأنك لا تتخلف عن الجماعات أصدقني وقل لي بالله العظيم كم مرة تفوتك تكبيرة الأحرام كم مرة فاتتك علي مدى أشهر وعلي مدى أيام والله لا يستقيم حال الشباب صغارا ولا كبارا حتي يستقيموا في صفوف المصلين قرأت عبارة جميلة علقت في أماكن كثيرة هنا و هناك(إذا أردنى النصر فلنصلي الفجر ) إذا أردنا أن ننتصر علي أعدائنا فلا بد أن ننتصر علي من أولا لابد أن ننتصر علي أنفسنا أبدأ بنفسك فإنهها عن غيها فأن أنتهت أنت عظيم والله الذي لا إله إلا هو إنك لن تلقي الله بقربة أعظم من المحافظة علي الصلوات والله لن يقودك إلي الجنة إلا المحافظة علي الصلوات ولو سألت أهل النيران عن سبب سلوكهم ذلك السراط وذلك الطريق الضال ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) فالشباب بصراحة يحتاجون إلي مراجعة حسابتهم حتي الشيب حتي الكبار يحتاجون إلي مراجعة الحسابات فأين نحن عن أولئك الذين لم تفتهم الصلوات هذا يقول أربعين سنة لم تفتني تكبيرة الأحرام و أخر يقول خمسين سنة ما فاتتني صلاة الجماعة فأين نحن من هؤلاء والله لن يتغير الحال ولم يتغير الواقع إلا إذا إنظبطنا في صفوف المصلين ولم يكن للكلام الذي سمعناة بالأمس ولا من قبلة ولا اليوم أثر حتي نبدأ نغير ما بأنفسنا و الصادق هو الذي يصدق مع نفسة الصادق هو الذي يصدق مع نفسة وما ربك بظلام للعبيد أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلني وأياكم من الذين هم علي صلاتهم دائمون وأن يجعلني وأياكم من الذين هم علي صلاتهم يحافظون وأن يجعلني وأياكم من الذين هم في صلاتهم خاشعون اللهم أجمع شملنا ووحد صفنا واصلح ولات أمورنا وأنصرنا يا قوي يا عزيز علي القوم الكافرين استغفر الله العظيم رب العرش الكريم وصلي الله علي محمد وعلي اّلة وصحبة أجمعين .
الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك علي نبينا محمد وعلي اّلة وصحبة ومن والاة أقول للصحبة دور كبير في معرفة نوعية الشباب فان الطيور علي أشكالها تقع وما ضيع كثير من الشباب إلا الشباب أنفسهم هذا يزين لهذا وهذا يزين لذلك حتي إذا وقع أحدهم في ورطة تخلي عنة أصحابة إلا أهل الصلاح ما كان لله دام وأتصل وما كان لغير الله أنقطع وأنفصل ما الدافع الذي يدفعنا للمحافظة علي الصلوات وما الذي يجعل القلوب حية حتي تستقيم علي أوامر الله فأن الحياة الحقيقية هي حياة القلب لا حياة الأجساد بالطعام و الشراب إذا حيى القلب حية الجوارح و الأركان وإذا مات القلب فالناس أموات في نظر الله ليسوا بأحياء أقول الطيور علي أشكلها تقع سأصف لك علاجا لكني أريدك أن تأخذ بالعلاج حتي يرفع الله عنك هذا التفريط و هذا الضياع كثير من الناس يظن أنة علي خير كثير من الناس يظن أنه علي خير وهذا لجهلة وقلة معرفتة بنفسة .(/8)
قال لي أحد الرؤساء الذين أعمل معهم فلان من الناس أخلاقة عالية سلوكة وتصرفاتة راقية لكنة فية عيب واحد قلت ما هو قال ما يصلي معنا في المسجد قلت و الله هذا عيب يقبح في رجولة الرجل فأن الله سمى أهل المساجد رجال أما من دونهم فتنتفي عنهم هذة الصفة عند الله جل في علاه ألتقيت فلان هذا الذي ذكرة ذلك كنا قد خرجنا من المسجد وألتقيتة قد خرج من الصالة الرياضية مجتهد علي بدنة وعلي عضلاتة هكذا حال المنافقين نسأل الله العفو و العافية ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) ألتقيتة والناس قد خرجوا من الصلاة وهو قد خرج من الصلاة الرياضية قلت فلان قال نعم قلت أريدك في أمر هام سلمت علية ثم قلت رأيسك يذكرك بالخير ويقول فلان أخلاقة عالية تصرفاتة راقية لكن فية عيب واحد قال ماهو أنظر بارك الله فيك حريص أن يزيل عيوبة أمام رئيسة وفية من العيوب أمام الله ما الله بة عليم لم يحرص يوما علي مراجعة حسابتة مع ربة قلت يقول أنك لا تصلي معهم في المسجد ولا تشهد الجماعة قال صحيح يا شيخ مقصر مقصرون قلت لا أنتبة أنتبة بارك الله فيك كلنا نقصر لكن فرق بين التقصير وبين الضياع أني تفوتني تكبيرة الأحرام مرة في اليوم أنا مقصر أني تفوتني صلاة الفجر قبل الفجر وأصليها بعد الفجر أنا مقصر أني لا أدرك أربعة قبل الظهر من حين أو فترة من الفترات أنا مقصر أني يفوتني قرأة وردي من القراّن يوما أنا مقصر لكن تفوتني صلاة الجماعة تفوتني الجمعة والجماعات؟؟؟؟؟ قلت أنت مضيع يا شيخ أنت تعيش في ضياع وأنت لا تعلم كثير علي حالة وعلي شاكلتة ويظن أنة علي خير قال الله جل في علاه ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ) لا يصلي ولا يحضر الجمعة والجماعات ويظن أنة علي خير أي خير هذا قلت أنتبة يا فلان أنت تعيش في ضياع التقصير كلنا نقصر ولا أحد يخلوا من التقصير لكن أنت تعيش في واد وأهل الصلاح يعيشون في واد أخر فراجع الحسبات وأستقم في صفوف المصلين لله أقوام تنصحة من مرة واحدة يراجع الحسابات ويستقيم مع المستقيمين فما جائت الصلاة التي بعدها إلا وقد رأيتة بثياب بيضاء وغطرة بيضاء وقد أستقام في صفوف المصلين من كلمة واحدة فأن الفرد الذي قية خير تكفية الأشارة .
فأقول أولا لابد أن تعرف حقيقة لا بد أن نعرفها أننا لا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا وأننا لا ندري متي ننتقل من هذة الحياة إلي الحياة الأخري فالموت يأتينا بغتة فهل يرضيك يا من تفرط في الصلوات أن يأتيك الموت وأنت علي حال التفريط الجواب لا ما يرضيك إذا لابد أن تسعي إلي التغير و تسعي إلي التبديل ، سأل رجلا رجل عندة وكان مضيعا مفرطا في أوامر الله فقال يا فلان الحال التي أنت عليها ترضاها للموت قال لا قال هل نويت ان تغير هذة الحال إلي حال ترضاها للموت قال ما أشتاقت نفسي بعد قال وهل تضمن ان لا يأتيك الموت وأنت علي هذة الحال قال لا قال وهل بعد هذة الدار دار فيها معتمد قال لا قال والله ما رأيت عاقل يرضي بهذة الحال أعمل بالنصيحة بارك الله فيك أعمل بالنصيحة بارك الله فيك وأسمع الموعظة فقد قال الله عن المعرضين ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ) العلاج جاهد النفس العلاج كما قال النبي ( صلى الله علية وسلم ) ألا أني نهيتكم عن زيارة القبور فزورها فأنها تذكركم بالأخرة ماغفل من غفل ولا فرط من فرط إلا لأنة تناسى الموت تناسى الموت الذي هو أقرب إلي أحدكم من شراك نعلية الموت الذي ينتظر كل واحد منا لو أيقنا بالموت ولحظاتة وساعاتة وأنة ياتينا بغتة لتغير واقع حال كثير من الناس كيف حال أولائك الذين فرطوا في ساعات أحتضارهم ينادون بأعلي الصوت رباة إرجعون يستجاب لهم لا يستجاب لهم حيل بينهم وبين ما يشتهون فأجعل لك زيارة للمقبرة من حين إلي حين تزور بها الموتي وتذكر فيها حالهم وتدعوا لك ولهم بالثبات والأستقامة سبحان الله ما يعرف قيمة النعمة إلا من فقدها زور المرضي وأنظر في أحوالهم وأنظر إلي من سلب نعمة السمع ونعمة البصر ونعمة القدم ونعمة اليدين حتي تعلم انك في خير عظيم(/9)
رجل يعمل في أحد الأسواق حملا طويل القامة مفتول العضلات يحمل من الأثقال ما لا يستطيع ان يحملة الرجل والرجلان قيل لة لماذا لا تصلي أبدا ما يستجيب قال أنا علي هواي أفعل ما أشاء ولا احد يأمرني وينهاني أغتر بقوتة أغتر بعضلاتة يذهب الناس حين الصلاة بعد إغلاق أماكنهم ومحلاتهم يذهبون إلي المسجد وهو يجلس في مكانة يأكل و يشرب سبحان الله ألا يحمد الله علي هذة النعم وهل الحمد و الشكر يكون بالكلام فقط سبحان الله يمهل ولا يهمل سار يوما بين المحلات وهو يحمل حملا ثقيلا فزلت قدمة علي قشرت موز النتيجة أصيب بشلل كامل ووضع علي الفراش لا يتحرك منة إلا رأسة يسأل ما هي الأمنية التي تتمناها الأن قال أتمني أن أصلي مع الجماعة الله أكبر ما كنت تغدوا وتروح ما كنت تذكر ويقال لك صلي مع المصلين وحافظ علي أوامر الله مع المحافظين فما أستقام وما استجاب ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) أعلم بارك الله فيك أنة من لم يعتبر بلأخرين سيكون لة عبرة في يوم من الأيام فزر المقابر وزر المرضي وإذا حدثتك نفسك بالتفريط والتضيع فذكرها ان الموت قريب أسأل الله أن يحي قلبي وقلوبكم وقلوب السامعين وان يجعلنا هداة مهدين لا ضالين ولا مضلين .
أسئلة :
يسأل السائل ويقول أنة يتوب من المعصية ثم يعود إليها مرة أخري ثم يتوب ويعود فما هو الحل ؟
قال المفسرون في قولة تبارك وتعالي ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا ) أي توبة صادقة توبة لا يرجع بعدها إلي الذنب حتي يلقي الله جل في علاه لكن هل أنا معصوم أبدا يخطيء حتي الذي يتوب يقع في الخطيء مرة ثانية فكن بارك الله فيك ممن إذا أخطيء ندم وتاب لكن تتكرار الخطاء مرات ومرات دليل علي شيء واحد دليل ضعف دليل تهاون دليل عدم الصدق مع الله جل في علاه فأن الله يثبت الصاديقن عن الوقوع والأنزلاق في تلك المزالق التي ينزلق فيها كثير من الناس ، أني أخطأ هذا وارد لكني أكرر نفس الخطأ هذا دليل علي أني لم أصدق في توبتي كثير يتوب لكن التوبة ناقصة التوبة غير كاملة من أجل هذا تراة يقع في الذنب مرة ثانية وثالثة ورابعة ، التوبة حتي تقبل يجب أن تقوم علي الأركان الثلاثة وقيل ركن رابع لابد أن يندم لابد أن يعزم لبد أن يقلع عن الذنب بعضهم يقلع عن الذنب ويعزم أن لا يرجع لكنة ما يندم التوبة ناقصة لذلك تاة يعاود الذنب مرة ثانية وثالثة ثم يتوب ثم يعاود الذنب مرة ثانية وثالثة لأن شروط التوبة لم تكتمل لابد من الندم كما قال النبي ( صلى الله علية وسلم ) الندم توبة ، لابد أن يستشعر عظم الذنب والخطأ والتقصير الذي قصرة في حق الله جل في علاة ثم يعزم ويقلع عن الذنب ،،، والبعض قد يندم وقد يترك ولكنة لا يعزم علي تركة لذلك التوبة ناقصة فتراة يقع في الذنب مرة ثانية ومرة ثالثة ، لكن الذي يصدق ثق تمام الثقة أن الله يثبتة عن عدم الوقوع في الذنب ، ثم هذا الذي يخطأ مرة ومرتين وثلاث ويعاود الذنب ألا يخشي أن تأتي واحدة وتكون هي القاسمة،،، هذا الذي يخطأ مرة ومرتين وثلاث ويعاود الذنب ألا يخشي أن يكرر الذنب فتكون هي القاسمة( فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) أننا نخطأ وارد لكن أننا نعاود الخطأ مرات ومرات هذا دليل أننا نحتاج إلي مراجعة حسابتنا مع توبتنا .
أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الصادقين في أقوالهم وفي أفعالهم .
..................................................................
............................
الصوت الإسلامي ...(/10)
بطل المواجهة علي بن أبي طالب
عائض القرني
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- إسلام علي &. 2- شجاعة علي &. 3- منقبة لعلي يوم تبوك. 4- علي خليفة للمسلمين. 5- مقتل علي على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم. 6- أخلاق النبي . 7- الأدب الواجب مع النبي . ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أيها الأخيار البررة:
نحن اليوم مع ((بطل المواجهة)) نتكلم اليوم عن بطل من الأبطال، بطل في زهده وفي غناه، بطل في شجاعته وفي إقدامه، بطل في سلمه وفي حربه، عاش بطلاً، ومات بطلاً، ويبعث – إن شاء الله – بطلاً.
نتحدث اليوم عن هذا البطل؛ لأننا في عصر نحتاج فيه إلى الأبطال فلا نجدهم، نبحث عن أبطال المواجهة في الحرب والسلم، فلا نجد لهم أثراً.
إن هذا البطل، بطل في مواجهة الكفر والوثنية، بطل أمام اليهود والنصارى، بطل أمام الظلم والظلام.
إنه علي بن أبي طالب!!
هل تريدون مني اليوم أن أعرف علي بن أبي طالب؟ بأي لسان أتكلم على المنبر عن أبي الحسن؟ إنني أعلن أنني عاجز عن الوفاء بحقه، أو إنزاله منزلته، ولكن يكفينا وفاءً له أن قلوبنا تحبه، وتفرح لذكره، ودراسة سيرته.
أسلم علي بن أبي طالب وعمره عشر سنوات، فهو أول غلام في الأرض يعلن لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أسلم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو ابن عمه، وصهره وحبيبه.
فلما أسلم علي ضمه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى حنانه، إلى قلبه، إلى بيته، فأعطاه الرسول كل ما يملك أعطاه الحب أولاً، أعطاه العلم والهداية، زوجه بابنته الزهراء، ولاه المبارزة أمام الأبطال، مجده بالكلمات، ذبّ عنه وعن عرضه، وقف معه حتى مات وبقي علي.
ولما أراد النبي أن يهاجر مختفياً، وكانت عنده أموال العرب، لأنه الأمين استأمنوه على أموالهم، ثم كذبوه، ولكنه ترك ودائعهم عند علي ليردها إلى أصحابها، وخرج النبي متسللاً، وترك علياً في فراشه، فأتى إليه الكفار شاهرين سيوفهم، متوثبين للقتل وإراقة الدماء، إلا أنه كان ثابت الجأش، لم يخف ولم يضطرب، لأنه بطل المواجهة، ثم لحق الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة.
وفي سيرة علي قصصٌ وسلوى للفقراء والمنكوبين، وفيها عزاء للمصابين المجروحين وفيها تخفيف عن المضطهدين والمظلومين.
فسيرة علي، تمسح دموع البائسين، وتخفف الألم عن المحرومين، فهي قصة طويلة، يستفيد من أحداثها كل مسلم على وجه الأرض.
لما وصل إلى المدينة، أعطاه عليه الصلاة والسلام جائزة كبرى، هل هي قصر؟ أو فيلا؟ أو مال ؟ لا، وإنما أعلن إمام الناس، إمام الأجيال، أن علي ابن أبي طالب، يحب الله ورسوله، وأن الله ورسوله، يحبان علي بن أبي طالب.
فما سبب هذه المنحة الكبرى؟ والجائزة العظمى؟
حاصر عليه الصلاة والسلام خيبر، حاصر اليهود في خيبر، قبل أن يجلوا منها بالقوة الحديد والنار.
اليهود هم أعداء الله؛ لأنهم سبوا الله، وقتلوا الأنبياء، وحرّفوا كلام الله، وبدلوا شرائع الله، وقتلوا الموحدين، واليوم يجلسون على مائدة المفاوضات يناقشون مستقبل الأمة الإسلامية!!
حاصرهم النبي عليه الصلاة والسلام، ضيق عليهم الخناق، وحاول أن يفتح مدينة خيبر، فاستعصت عليه، كانت متمنعة، أرسل أبا بكر الصديق فما استطاع، أرسل عمر فما استطاع، فاهتم الناس هماّ شديداً، وباتوا ليلة طويلة، فقام عليه الصلاة والسلام وسط الليل يقول: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه، فبات الناس يدوكون ليلتهم[1]، أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس، غدوا على رسول الله كلّهم يرجوا أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب، فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله، قال: فأرسلوا إليه، فأتوني به، فلما جاء، بصق في عينيه، ودعا له، فبرأ، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليه من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من أن يكون لك حمرُ النعم[2].
انطلق علي يحمل الراية، ووقف على أسوار إخوان القردة والخنازير يناديهم إلى الحق، ويدعوهم إلى العدل، أيها الناس.. اسمعوا.. وعوا.. استفيقوا.. استيقظوا.. تنبهوا، ولكن لأن القرد لا يفهم، ولو رأى إشارتك وعرف كلامك، ولأن الخنزير مطموس على بصيرته طمساً، لم يسمعوا، ولم يروا، ولم يهتموا.
فلما رأى علي أن المفاوضات غير مجدية، وأن المناقشات معهم لا توصل إلى حلول، كان عنده حلّ آخر، دعا بطلهم للمبارزة علناً أمام الجماهير، فنزل مرحب اليهودي الخسيس، وكان شجاعاً فقال:
قد علمت خيبر أني مرحب
شاكي السلاح بطل مجرّب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فنزل إليه علي بن أبي طالب مردداً:
أنا الذي سمّتني أمي حيدره
كليث غابات كريه المنظره
أكيلهم بالسيف كيل السندره(/1)
فتنازل الصديق علي بن أبي طالب مع الزنديق مرحب اليهودي، فقطعّه علي بسيفه، وقيل: إنه قسمه بالسيف نصفين إلى الهاوية، إلى النار، وافتتح علي خيبر، كما أخبر بذلك الرسول : ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، أو يحب الله ورسوله؛ يفتح الله عليه)).
أراد علي بن أبي طالب نسب الرسول فذهب ليخطب فاطمة الزهراء البتول، سيدة نساء العالمين، وقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يتكلم معه فما استطاع.
حياءٌ من إلهي أن يراني وقد ودّعت صحبك واصطفاك
فتبسم عليه الصلاة والسلام، وعرف مقصده، فقال: يا علي، أتريد فاطمة زوجة لك؟ قال: نعم، قال: عندك مهر، ويعلم عليه الصلاة والسلام أن علياً لا يملك درهماً ولا ديناراً، ولا ذهباً ولا فضة، ولا قصراً ولا حديقة، ولكنه يملك إيماناً كالجبال، يملك تاجاً على رأسه؛ ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله)) يملك أنه بطل المواجهة.
قال: يا رسول الله، ما عندي شيء، قال: ((أين درعك الحطميّة))[3] قال: درعٌ لا تساوي درهمين، فأتى به علي، وسلمه للرسول، عليه الصلاة والسلام، فعقد لهما وتزوج علي فاطمة الزهراء، وأنجبت له الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.
هي بنت من؟ هي زوج من؟ هي أم من؟ من ذا يُساوي في الأنام عُلاها
أما أبوها فهو أشرف مرسلٍ جبريل بالتوحيد قد ربّاها
وعليُّ زوج لا تسل عنه سوى سيف غدا بيمينه تيّاها
ودخل بها بيته، الذي أسسه على تقوى من الله ورضوان، وأصبح صهر رسول الله .
خرج إلى تبوك، وخلّف علياً على المدينة، خلّفه لأنه شجاع وبطل للمواجهة، لا يحمي العرض إلا مثل علي بن أبي طالب، ولا يدفع الضيم إلا مثل علي بن أبي طالب، جعله في المدينة يحمي ما وراء الرسول فجاء المنافقون إلى علي بن أبي طالب، وقالوا: يا علي، إن الرسول عليه الصلاة والسلام استثقلك، إنك ثقيل عليه، تركك في المدينة وخرج إلى تبوك، سبحان الله ! محمد يستثقل علياً، فلحق علي رسول الله وهو في الطريق إلى تبوك، فأخبره بما يقول الناس، فتضاحك النبي ثم قال: يا علي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون بن موسى، إلا أنه ليس نبي بعدي[4].
وهذه بشارة أخرى لعلي بن أبي طالب، ومنقبة عظمى تضاف إلى مناقبه، أنه من رسول الله بمنزلة هارون وموسى.
كان علي بطلاً للمواجهة يؤدب به الرسول عليه الصلاة والسلام أعداء الله، كان الرسول ينتدبه كلما انتدب رجلاً لمواجهة الموت.
في بدر، وقبل احتدام المعركة، دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام أبطال المسلمين، ليبارزوا أبطال الكفر، فقال: أين علي بن أبي طالب، قال: ها أنا يا رسول الله، فخرج، وبارز قرنه الوليد بن عتبة، فقتله علي، ثم اشتبك مع الكفار في صراع دام، فقتل منهم مقتلة عظيمة.
كان يقرأ القرآن فقرأ قوله تعالى: هذان خصمان اختصموا في ربهم [الحج:19]. فبكى وقال: أنا أحد الخصمين يوم القيامة، وذلك لأنه كان خصماً للكفر والوثنية والإلحاد، أما الوليد وأمثاله، فيبعثون يوم القيامة خصوماً للإسلام والتوحيد والحق والعدل، ثم يفصل الله عز وجل بين الفئتين يوم القيامة ولا يظلم ربك أحداً [الكهف:49].
وتتكرر المسألة مع علي بن أبي طالب في الأحزاب، فيحاصر الرسول عليه الصلاة والسلام حصاراً دامياً من مشركي العرب واليهود، والقوميين الخونة، والنصارى، والمنافقين، ويأتي بطل من أبطال الكفر، اسمه عمرو بن ود، فيدعو المسلمين للمبارزة، فيقول: من يبارز أيها المسلمون؟! فيسكتون، من يتقدم ليبارزني أمام الجماهير؟ فلا يبرز أحد، ولكن علياً لا يرضى بذلك، فيقول: أنا يا رسول الله، يحب المواجهة، دائماً روحه على كفه، يقدمها رخيصة لنصرة الدين، وإعلاء راية التوحيد.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجواراً
فقال عليه الصلاة والسلام: إنه عمرو بن ود!! قال: ولو كان عمرو بن ود، فنزل له علي وتبارز البطلان، بطل الإسلام، وبطل الكفر، وبرقت السيوف، وارتفع الغبار، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو الله لينصر علياً، وانجلى الغبار، وإذا بعلي واقف على صدر عمرو، وقد قطع رأسه، وسيفه يقطر دما، فكبر الرسول عليه الصلاة والسلام، الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. وكبر معه المسلمون، إنه بطل المواجهة.
وفي البخاري، في كتاب الرقاق، قال علي بن أبي طالب وأرضاه: إن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، فكونوا من أبناء الآخرة، ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل[5].
كان فقيراً لا يملك قليلاً ولا كثيراً، تولى الخلافة خمس سنوات، كانت كلها مواجهة؛ واجه الخوارج وأدبهم، وواجه المتمردين وطاردهم، وواجه البغاة وشتتهم، فحياته كلها مواجهة، قلبه مجروح وجسمه مجروح، وعرضه مجروح من أهل النفاق والريبة.(/2)
لقي علي طلحة في الجمل، في ذاكم الصراع الذي نكف عنه، ونكل أمرهم فيه إلى الله، ونسأله تبارك وتعالى أن يجمعنا بهم في دار كرامته، قتل طلحة في هذه الفتنة، ورآه علي مجندلاً في دمائه، فنزل، ومسح التراب من على وجهه، وبكى طويلاً، وقال: اسأل الله أن جعلني وإياك ممن قال فيهم: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين [الججر:47].
تولى علي الخلافة خمس سنوات، ولكنه ظل فقيراً، لم يشبع ولو يوماً واحداً، رجع إلى أهله ذات يوم، فقال: عندكم طعام؟ قالوا: لا !! عندكم شيء؟ قالوا: لا!! فخرج بسيفه الذي هو سيف الرسول واسمه ذو الفقار، فوقف أمام أهل العراق يقول لهم: قاتلكم الله يا أهل العراق، أموت أنا وأسرتي جوعاً، وهذا سيف الرسول معي، ولطالما جلّيت به الكربات عن وجه رسول الله ثم قال: من يشتريه مني بطعام ليلة!!.
لا يجد قوت يومه وهو الذي ذهب إلى بيت المال، وكان مملوءاً بالطعام والمال والسلاح، فوزع ما فيه في يوم واحد، ورش عليه الماء، وصلى ركعتين، وقال: اللهم اشهد أني ما أبقيت لنفسي منه درهماً ولا ديناراً، ولا حبة ولا تمرة ولا زبيبة.
مرض علي قبل أن يموت فعاده أبو فضالة الأنصاري، وقال له: ما يقيمك بهذا المنزل، ولو هلكت به، لم يلك إلا أعراب جُهينة، فلو دخلت المدينة، كنت بين أصحابك، فلو أصابك ما تخاف، أو نخاف عليك، وليك أصحابك، وكان أبو فضالة من أهل بدر، فقال علي: إني لست ميتاً من مرضي هذا، إنه عهد إلي النبي أني لا أموت حتى تخضب هذه من هذه[6]، يعني تخضب لحيته من صدغه .
عاش بطلا، وأسلم بطلاً، وجاهد بطلاً، ومات بطلاً، ويبعث إن شاء الله بطلاً.
علو في الحياة وفي الممات بحق تلك إحدى الكرمات
كان يقول : متى يبعث أشقاها ! يشير إلى قول النبي : ((إنك ستضرب ضربة هاهنا وضربة هنا، وأشار إلى صدغه، فيسيل دمها حتى تخضب لحيتك، ويكون صاحبها أشقاها، كما كان عاقر الناقة، أشقى ثمود))[7].
خرج علي قبل صلاة الفجر ليوقظ المسلمين للصلاة، ثم دخل المسجد، فوجد عبد الرحمن بن مُلْجم الخارجي المارد الخبيث، وجده منبطحاً على بطنه، وقد جعل سيفه مما يلي الأرض مسلولاً، فركله علي برجله وقال: لا تنم على بطنك، فإنها نومة أهل النار، وافتتح علي ركعتين، فوثب عليه الخارجي عدو الرحمن، فضربه بالسيف على صدغه فانفلق، فقال علي: الله أكبر.. لله الأمر من قبل ومن بعد، فسقط على وجهه، وسالت لحيته دماءً غزيراً، وحمل إلى البيت، وبكى المسلمون جميعاً، كل الرجال والنساء، والشيوخ والأطفال، وتحولت بيوت المسلمين إلى مناحات، يبكون بطل المواجهة.
قامت عجوز تبكي، وتعبر عن جراحها وأساها، فقالت بيتاً من الشعر، فيه لوعة وأسى وحرقة على هذا البطل العظيم، قالت:
يا ليتها إذ فدت عمراً بخارجةٍ فدت علياً بمن شاءت من البشر
تقول: يا ليت المنية، يوم تركت عمرو بن العاص، وأصابت خارجة رئيس الشرطة، وقتل خارجة وسلم عمرو وكان هو المقصود بالقتل، يا ليتها تركت علياً وأصابت من شاءت من البشر.
أبا حسن لهفي لذكراك لهفة يباشر مكواها الفؤاد فينضج
متى تستعيد الأرض جمالها فتصبح في أثوابها تتبهرج
عفاءٌ على دنيا رحلت لغيره فليس بها للصالحين معرّج
كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغصن من حيث يخرج
قتل علي بن أبي طالب، وقد كان ينتظر الموت، وينتظر الشقيّ الذي سيقضي عليه، وكان دائماً يتمثل بهذين البيتين:
اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت فإن الموت آتيكا
أيها المسلمون:
لماذا نتحدث اليوم عن علي بن أبي طالب؟ لماذا نخصّ اليوم علي بن أبي طالب؟.
إننا نتحدث عن علي بن أبي طالب في هذا اليوم، لأنه بطل المواجهة، ونحن نفتقر إلى المواجهة، لا نتحمل المواجهة، أمة سلمت قيادها لغيرها، أمة سُحقت كرامتها، لأنها لا تملك بطلاً للمواجهة.
أمة أصبح القرار بيد غيرها لأنها لا تقوى على المواجهة.
إن علي بن أبي طالب قدوة لكم أيها الشباب، وأستاذ لكم أيها الأطفال، وهو شيخ للشيوخ، وبطل للأبطال.
إن علي بن أبي طالب يكفيه أنه يحب الله ورسوله، وأن الله ورسوله يحبانه.
سلام عليك يا علي بن أبي طالب، يوم أسلمت، ويوم هاجرت، ويوم بايعت، ويوم قتلت، ويوم تبعث حياً.
عباد الله:
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
[1] يدوكون: يخوضون ويتساءلون.
[2] أخرجه البخاري (4/207).
[3] أخرجه أبو داود (2/240) رقم (2125 ، 2126) والنسائي (6/129، 130) رقم (3375، 3376) وأحمد (1/80).
[4] أخرجه مسلم (4/1871) رقم (2404) وليس فيه قصة المنافقين ، وهذا السباق ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/114) وقال : رواه الطبراني بإسنادين ، في أحدهما ميمون أبو عبد الله البصري ، وثقه ابن حبان ، وضعفه جماعة ، وبقية رجاله ، رجال الصحيح ، وقوله : ((أما ترضى . . إلخ)) أخرجه البخاري (4/208).
[5] أخرجه البخاري (7/171).(/3)
[6] قال الهيثمي في المجمع (9/140) رواه البزار وأحمد بنحوه ، ورجاله موثقون.
[7] قال الهيثمي في المجمع (9/140) رواه الطبراني ، وإسناده حسن. ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
أيها المسلمون:
يعيش معنا دائماً وأبداً في مشاعرنا، وآمالنا، وطموحاتنا.
يعيش معنا، قدوة وأسوة، وإماماً، ومعلماً، وأباً، وقائداً، ومرشداً.
يعيش معنا في ضمائرنا عظيماً، وفي قلوبنا رحيماً، وفي أبصارنا إماماً، وفي آذاننا مبشراً ونذيراً.
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [التوبة:33].
نسينا في ودادك كل غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتك ويكفي لنا شرفٌ نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلّى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا
تحدث القرآن عن النبي فإذا هو الخلوق العظيم، وإذا هو الرؤوف الرحيم.
قال تعالى: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4].
وقال تعالى: لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [التوبة:128].
وسئلت السيدة عائشة عن أخلاقه فقال: ((كان خلقه القرآن))[1].
وعلق الله الهداية على اتباعه فقال: وإن تطيعوه تهتدوا [النور:54].
ونفى الإيمان عن البشرية إذا لم تتحاكم إليه، وتسلم له قيادها، فقال: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً [النساء:65]. وجعل الله محبته موقوفة على اتباعه ، فقال: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران:31].
وحذر الله من مخالفته فقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].
فيا أمة الإسلام، ويا إخوة العقيدة، ويا أبناء الرسالة الخالدة، هذا نبيكم ، وهذا فضله، ووصفه، وشرفه، فلماذا تبحثون عن غيره؟ ولماذا تلتمسون سواه؟
أن هناك آداباً تجاه رسول الله ينبغي أن يتأدب بها كل مسلم، وكل مؤمن، وكل موحد معه .
ورأس هذه الآداب: كمال التسليم له، والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يعارضه، أو يحمّله شبهة أو يقدّم عليه آراء الرجال، فينبغي أن يوحّد الرسول بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان، كما يوحّد الله – عز وجل – بالعبادة، والخشوع، والذل، والإنابة، والتوكل.
ومن الأدب مع الرسول : أن لا يتقدم بين يديه بأمر، ولا نهي، ولا إذن، ولا تصرف، حتى يأمر هو، وينهي هو، ويأذن وبتصرف، كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله [الحجرات:1].
وهذه الآية باقية إلى يوم القيامة، لم تنسخ بوفاته كما يزعم المارقون فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته، كالتقدم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم.
قال مجاهد رحمه الله في معنى الآية: لا تفتاتوا على رسول الله .
وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر، ولا تنهوا حتى ينهى.
ومن الأدب معه أن لا يجعل دعاءه كدعاء غيره. قال تعالى: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاًْ [النور:63].
وفيه قولان للمفسرين:
أحدهما: لا تدعونه باسمه، كما يدعو بعضكم بعضاً، بل قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله.
الثاني: أن المعنى، لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضاً، إن شاء أجاب، وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بدٌ من إجابته، ولم يسعكم التخلف عنه البتة.
ومن الأدب معه : أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع، من خطبة، أو جهاد، أو رباط، لا يجوز لأحد منهم أن يذهب في حاجته مذهباً، حتى يستأذنه، كما قال تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه [النور :62].
ومن الأدب معه عدم استشكال قوله، بل تستشكل الآراء لقوله ولا يعارض نصّه بقياس، بل تُهدر الأقيسة، وتلقى لنصوصه، ولا يحرّف كلامه عن حقيقة، لخيالٍ يسميه أصحابه معقولاً. نعم هو مجهول وعن الصواب معزول، ولا يوقف ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه وهو عين الجرأة.
ومن الأدب معه : أن لا يتهم العبد دليلاً من أدلة الدين أو حديثاً من أحاديث سيد المرسلين، بحيث يظنه فاسد الدلالة، أو ناقص الدلالة، أو أن غيره كان أولى منه، ولكن ليتهم فهمه هو، وعلقه هو، وليعلم أن الآفة منه، والبلية فيه، كما قيل:
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه على قدر القرائح والفهوم
وهذا هو الواقع، وتلك هي الحقيقة، فإنه ما اتهم أحد دليلاً من أدلة الدين، إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن، المأفون في عقله وذهنه، فالآفة في الذهن العليل، لا في نفس الدليل.
قال الشافعي رحمه الله: أجمع المسلمون، على أن من استبانت له سنة رسول الله لم يحل له أن يدعها لقول أحد[2].(/4)
فاتقوا الله عباد الله، وتأدبوا مع نبيكم، ، وحكموه في أموركم، وانصروا دينه وسنته، ولا تعرضوا عنه، كما أعرضت الأمم الأخرى عن أنبيائها، فإن في الإعراض عنه ؛ الهلاك والدمار في الدنيا، والخزي والندامة يوم القيامة.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56]. وقد قال : ((من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشرا))[3].
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
[1] أخرجه مسلم (1/513) رقم (746).
[2] انظر : تهذيب مدارج السالكين ، منزلتي ((التواضع ، والأدب)).
[3] أخرجه مسلم (1/288) ، رقم (384). ... ...
... ...
... ...(/5)
بعض آيات النبي صلى الله عليه وسلم
عبد العظيم بدوي الخلفي
1102
ملخص المادة العلمية
1- قصص مخاطبة الجمادات والبهائم لرسول الله . 2- تنبيه إلى أن غرس الأغصان والجريد على القبور بدعة.
عن أبي موسى الأشعري قال: خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي في أشياخ من قريش (يعني قبل البعثة) فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم. قال: فهم يحلون رحالهم فجعل الراهب يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله وقال: هذا سيد المرسلين، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه، مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء شجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه! فقال: أنشدكم الله أيكم وليّه؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى ردّه أبو طالب وبعث معه أبا بكر، وزوّده الراهب من الكعك والزيت.
وهكذا سجد الشجر والحجر له قبل البعثة، وكلمه الشجر والحجر بعد البعثة، فمن معجزاته تكليم الجمادات له والبهائم، وقد تكرر ذلك معه وحفظ في داووين السنة ومنها: عن جابر بن سمرة أن رسول الله قال: ((إن بمكة حجرا كان يسلّم علي ليالي بعثت، إني لأعرفه الآن)).
وعن معين بن عبد الرحمن قال: سمعت أبي قال: سألت مسروقا: من آذن النبي بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ قال: حدثني أبوك – يعني عبد الله بن مسعود – أنه قال: آذنت بهم شجرة.
وعن أنس قال: ((جاء جبريل إلى النبي وهو جالس حزين قد تخضّب بالدم من فعل أهل مكة، فقال: يا رسول الله! هل تحب أن نريك آية؟ قال: نعم، فنظر إلى شجرة من ورائه فقال: ادع بها، فدعا بها فجاءت فقامت بين يديه. فقال: مرها فلترجع، فأمرها فرجعت، فقال : حسبي حسبي)).
وعن جابر قال: كان النبي إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه صاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل حتى أخذها فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكّت حتى استقرب. قال: بكت على ما كانت تسمع من الذكر.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي في سفر، فأقبل أعرابي فلما دنا قال رسول الله : ((تشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله؟ قال: ومن يشهد على ما تقول؟ قال: هذه السّلمة (شجرة من شجر البادية) فدعاها وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخدّ الأرض (أي: تشقّها أخدودا) حتى قامت بين يديه فاستشهدها ثلاث فشهدت ثلاثا، ثم رجعت إلى منبتها)).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((جاء أعرابي إلى رسول الله فقال: بم أعرف أنك نبي؟ قال: ((إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة يشهد أني رسول الله! فدعاه رسول الله فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي ، ثم قال: ارجع، فعاد، فأسلم الأعرابي)).
وعن أبي هريرة قال: جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، قال: فصعد الذئب على تل فأقعى واستثفر (أي أدخل ذنبه بين رجليه أو بين إليتيه) فقال: قد عمدت إلى رزق رزقنيه الله أخذته ثم انتزعته مني! فقال الرجل: تالله إن رأيت كاليوم! ذئب يتكلم ؟! فقال الذئب: أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرّتين يخبركم بما مضى، وبما هو كائن بعدكم! قال: فكان الرجل يهوديا، فجاء إلى النبي فأخبره وأسلم فصدّقه النبي ثم قال النبي : ((إنها أمارات بين يدي الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعده)).
وعن يعلي بن مرة الثقفي قال: ثلاثة أشياء رأيتها من رسول الله : بينما نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يسنى عليه (أي: يستقى عليه) فلما رآه البعير جرجر (أي: صاح وردّد صوته في حلقه) فوضع جِرانه (أي: مقدم عنقه)، فوقف عليه النبي فقال: أين صاحب البعير؟ فجاءه. فقال: بعنيه،. فقال: بل نهبه لك يا رسول الله، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره. فقال : ((أما إذا ذكرت هذا من أمره فإنه شكا كثرة العمل وقلّة العلف، فأحسنوا إليه)).
ثم سرنا حتى نزلنا منزلان فقام النبي ، فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ رسول الله ذكرت له، فقال: ((هي شجرة أستأذنت ربها في أن تسلّم على رسول الله فأذن لها)).
ثم سرنا فمررنا بماء، فأتته امرأة بابن لها به جنة، فأخذ النبي بمنخره ثم قال: ((اخرج فإني محمد رسول الله، ثم سرنا. فلما رجعنا ومررنا بذلك الماء فسألها عن الصبي فقالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت منه ريبة بعدك)).(/1)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سرنا مع رسول الله حتى نزلنا واديا أفيح، فذهب يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر فلم ير شيء يستتر به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها فقال: ((انقادي علي بإذن الله، فانقادت معه كالبعير ثم انطلق إلى الأخرىفأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي علي بإذن الله، فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالنصف مما بينهما لأم بينهما (يعني جمعهما) فقال:فالتأمتا علي بإذن الله، التثما)) قال جابر: فخرجت أحضر، مخافة أن يحس رسول الله بقربي فيبتعد، فجلست أحدّث نفسي فحانت مني التفاتة، فإذا أنا برسول الله مقبلا، وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منها على ساق. فرأيت رسول الله وقف وقفة، فقال برأسه هكذا (يمينا وشمالا) ، ثم أقبل، فلما انتهى إلي قال: ((يا جابر! هل رأيت مقامي؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا فأقبل بهما، حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك، وغصنا عن يسارك)).
قال جابر: فقمت فأخذت حجرا فكسرته وحسرته فانذلق لي (أي صار له حد يقطع به) فأتيت الشجرتين، فقطعت من كل واحدة منهما غصنا، ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول الله أرسلت غصنا عن يميني وغصنا عن يساري، ثم لحقته فقلت: قد فعلت يا رسول الله، فعم ذلك. قال: إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفّه عنهما ما دام هذان الغصنان رطبين، قال: فأتينا العسكر، فقال : ((يا جابر، ناد بوضوء))، فقلت: ألا وضوء؟ ألا وضوء؟ ألا وضوء؟ قال: قلت: يا رسول الله! ما وجدت في الركب من قطرة. وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله الماء في أشجاب له على حمارة من جريدة، فقال لي: ((انطلق إلى فلان بن فلان الأنصاري فانظر هل في أشجابه من شيء؟)) قال: فانطلقت إليه، فنظرت فيها فلم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها (أي فمها الذي يخرج منه الماء)، لو أني أفرغه لشربه يابسه.
فأتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله، إني لم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها، لو أني أفرغه لشربه يابسه، قال: ((اذهب فأتني به))، فأتيته به، فأخذه بيده فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو ويغمزه بيديه، ثم أعطانيه فقال: ((يا جلبر! ناد بجفنة))، فقلت: يا جفنة الركب فأتيت بها تحمل، فوضعها بين يديه، فقال : ((بيده في الجفنة هكذا، وفرّق بين أصابعه، ثم وضعها في قعر الجفنة، وقال: خذ يا جابر فصب علي وقل بسم الله، فصببت عليه وقلت بسم الله))، فرأيت الماء يفور من بين أصابع رسول الله ، فثارت الجفنة ودارت حتى امتلأت، فقال: ((يا جابر! ناد من كان له حاجة بماء))، قال: فأتى الناس فاستقوا حتى رووا. قال: فقال: ((هل بقي أحد له حاجة؟)) فرفع يده من الجفنة وهي ملأى، وشكا الناس إلى رسول الله الجوع، فقال: ((عسى الله أن يطعمكم)). فأتينا سيف البحر (ساحله وجانبه) فزخر البحر زخرة فألقى دابة، فأورينا على شقها النار فطبخنا واشتوينا، وأكلنا حتى شبعنا.
قال جابر: فدخلت أنا وفلان وفلان حتى عد خمسة في حجاج عينها (وهو العظيم المستدير حولها) ما يرانا أحد حتى خرجنا، فأخذنا ضلعا من أضلاعه فقوّسناه ثم دعونا بأعظم رجل في الركب، وأعظم جمل في الركب، وأعظم كفل في الركب، فدخل تحته ما يطأطئ رأسه.
تنبيه:
ظن بعض الناس أن وضع الأغصان أو جريد النخل أو غيرهما من الزرع الأخضر سنّة، وأنه يخفف العذاب عن أهل القبور، فتوسعوا في ذلك، وهذا ظن خاطئ، فإن النبي ما وضع الأغصان والجريد على غير هذين القبرين، وقد وضعهما رجاء أن يخفف عنهما بشفاعته لا بشيء فيهما ولا لخاصية، وإنما بشفاعته رجا أن يخفف عنهما ما لم ييبسا. فعلى المسلمين أن يقلعوا عن هذه البدعة: بدعة وضع الأغصان والجريد على القبور، بل إن بعض الناس غالي في ذلك فغرس الشجر على القبور.
ونحن نقول: لماذا هذا الفأل السيئ؟
إن الرسول وضع الغصنين على القبرين لأنه علم أنهما يعذبان، فهل علم أحد علم رسول الله؟ أم أنه الفأل السيئ؟ فلماذا هذا التفاؤل؟ لماذا لا نرجو لموتانا الرحمة و المغفرة؟
نسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرنا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه(/2)
بعض عقوبات الله وبعض أسبابها
3449
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/10/1415
النور
ملخص الخطبة
1- نعمة نزول المطر. 2- نقمة الإغراق بالمطر والماء. 3- إمطار قوم لوط بالحجارة. 4- الفرقة والبغضاء من عقوبات الله للأمم. 5- أسباب هلاك الأمم.
الخطبة الأولى
أما بعد: اعلموا رحمني الله وإياكم، بأن نزول الأمطار من نعم الله العظيمة، على القرى والمدن والمجتمعات، يستفيد منه الناس، وتستفيد البهائم، وكذلك الزروع وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً [النبأ:14-16]، وقال عز وجل: أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [المعارج:68-70]. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "ثم تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو، ليعم بسقيه وهادها، وتلولها، وظرابها وأكامها، ومنخفضها ومرتفعها، ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها، لما أتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر، وفي ذلك فساد، فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها فينشئ سبحانه السحاب وهي روايا الأرض، ثم يرسل الرياح فتلقحها كما يلقح الفحل الأنثى، ثم ينزل منه على الأرض، ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله بقدر الحاجة، حتى إذا أخذت الأرض حاجتها وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها، أقلع عنها وأعقبه بالصحو" انتهى.
ولقد شهدت المنطقة ولله الحمد والمنة، في الأيام القريبة الماضية، أمطاراً عجيبة. وإن استمرار نزول رحمات الرب، يحتاج من أهل القرى والمدن والشعوب والأمم، يحتاج الإيمان والطاعة والاستقامة. قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ [الأعراف:96]، وإن استمرار نزول بركات المولى جل وعلا يحتاج منا إلى ترك الذنوب والمعاصي، والتوبة والاستغفار، قال الله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]، وقال عز وجل: وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52].
وإن استمرار نزول الغيث يحتاج منا إلى أداء زكاة أموالنا، وفي الحديث: ((ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)). لكن هناك وجه آخر لنزول الأمطار من السماء، أحياناً، لا يكون نزوله رحمة، بل هو عذاب وعقوبة إلهية لتلك القرية، أو لتلك الأمة وقد أهلك الله عز وجل أمماً وأقواماً بهذا الماء، في القديم وفي الحديث. وقد ذكر الله عز وجل في كتابه، عقوبة الغرق بالماء، لأقوام عتوا عن أمر ربهم. وهم قوم نوح عليه السلام وذلك بعدما أعرضوا عن الدعوة، ولم يؤمنوا بما قال لهم نوح عليه السلام. أغرقهم الله عز وجل بالماء، بإرسال السماء عليهم مدراراً، وبتفجير ينابيع الأرض حتى تشكل طوفان هائل، وجعل سبحانه لنوح عليه السلامة علامة لبداية عملية إغراق أولئك القوم بالماء، هو فوران التنور، قال الله تعالى: اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ [المؤمنون:27]، وقال سبحانه: حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءامَنَ وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود:40]، وجاء تفصيل عملية الغرق بالماء في موضع آخر فقال عز من قائل: فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ L وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ M تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ [القمر:11-14].(/1)
وعقوبة الغرق بالماء، حصلت أيضاً لقوم فرعون، وذلك عندما آذوا موسى عليه السلام، ولم يقبلوا ما جاء به، أغرقهم الله بالماء، الماء الذي كان فرعون يفتخر ويتكبر ويقول: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي، فهذا الماء الذي كان يجري من تحته جعله الله فوقه، وهذه عقوبة التمرد على دين الله عز وجل، قال الله تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ الَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْراءيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ عَنْ ءايَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس:90-92].
أيها المسلمون، هذا نوع من أنواع العقوبات الإلهية لأولئك الذين حاربوا دين الله عز وجل، أرسل الله لهم أحد جنوده، وهو الماء، فأغرق ودمّر بأمر الله عز وجل: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31]، إن جنود الله عز وجل في إهلاك المخالفين وتأديب المعاندين، وتذكير المتآخرين بما حصل للمتقدمين لا عد له ولا حصر، والله جل وتعالى يهلك ويعاقب كل قرية بما يناسبها. وإليكم بعض صور عقوبات الله.
فمن عقوبات الله عز وجل، بدل إمطار الماء، إمطار الحجارة قال عز وجل: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82، 83]، هذه هي العقوبة التي حصلت لأهل تلك القرية، التي انتشرت فيها الفاحشة، عاقبهم الله عز وجل بعقوبتين: الأولى: جعلنا عاليها سافلها: وضع جبريل عليه السلام جناحه ثم رفع القرية إلى السماء، حتى سمع أهل السماء بنباح كلابهم، ثم قلبها. العقوبة الثانية: وأمطرنا عليهم حجارة. إن الماء لو كثر نزوله من السماء، لأفسد وخرّب ولا أحد يستطيع أن يقف في وجهه، مهما أوتي من قوة، فما بالكم إذا كانت الأمطار من حجارة، نعوذ بالله من الخذلان، لكن هذه هي عقوبة القرية التي ينتشر فيها الفاحشة التي ذكرها الله عز وجل.
ومن عقوبات الله جل وتعالى لأهل القرى التفرق، نعم، فقد يوقع الله التفرق في مجتمع أو في أمة بسبب المخالفات التي يرتكبونها، فلا تجدهم يتفقون على رأي، قال الله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة:14]. أي عقوبة أشد من أن أبناء الدين الواحد يحصل بينهم العداوة والبغضاء، والسبب: أنهم نسوا حظاً مما ذكروا به.
ومن عقوبات الله أيضاً، إرسال الريح، هذا الهواء الجميل، لو زاد بأمر الله عز وجل لتحول من نعمة إلى نقمة، ولقد عوقب أقوام بالريح، فأفسد عليهم منازلهم وخرّب بيوتهم قال الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ [فصلت:16]. وقال عز وجل: وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات:41، 42]، وقال سبحانه: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [الحاقة:6، 7]. ما أهون الخلق على الله، إذا هم خالفوا أمره، وحاربوا دينه، وآذوا أولياءه.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، هذه بعض عقوبات الله للأمم، والمجتمعات، وإلا فما ذكر في كتاب الله، أكثر من هذا، وليس المقام هنا، مقام استعراض هذه العقوبات، وإنما هذه بعضها، لندرك أن كل ما في الكون جنود لله عز وجل، وبأمره يعملون، وإذا أراد سبحانه شيئاً فإنما يقول له كن فيكون. فاتقوا الله عباد الله، واحذروا المخالفة، واحذروا الإعراض عما أمر الله، فإن الله جل وتعالى يغار على دينه، ويغار على أوليائه، والمخالفات والمعصيات، والتمرد، له زمن محدود، والله يمهل ولا يهمل.
وما من قرية حصل فيها شيء يخالف ما أمر الله به، إلا ونزل بهم ما يستحقون.
فنسأل الله جل وتعالى أن يعاملنا بلطفه ورحمته، وعفوه، وألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه...(/2)
أما بعد: قد يقول قائل :ما ذكر من بعض صور عقوبات الله للأمم والمجتمعات، بسبب المخالفات، هذا كلام عام. فما هي هذه المخالفات، التي قد تكون سبباً في أن يهلك الله أمة أو مجتمع أو قرية، بالغرق أو بالريح، أو بغيرها من العقوبات الإلهية.
فيقال أيضاً: إن الأسباب كثيرة، لكن إليك بعضها: فمن أسباب إهلاك الله للأمم، والمجتمعات الذنوب. قال الله تعالى: أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءاخَرِينَ [الأنعام:6]. وقال عز وجل: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
هكذا الذنوب تفعل بأصحابها، ونحن والله المستعان نستهين بها، بل أصبحت أشياءً عادية في حياتنا اليومية، وهي سبب رئيس في إهلاك الأمم والشعوب.
يقول أحدهم: كيف تريدون أن يلطف الله بنا؟ وينزل علينا نعمه ويرحمنا برحمته، وفي السابق كانت الأيدي ترتفع إلى السماء وتدعو ربها، والمولى يجيب سبحانه، والآن هذه الدشوش مرتفعة إلى السماء. والله المستعان.
ومن أسباب إهلاك الأمم والشعوب الظلم، قال الله تعالى: أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، وقال سبحانه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]، وقال: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [يونس:13]، وقال: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا [الكهف:59]. وقال: وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]. كل هذا بسبب الظلم إذا انتشر في الأمة، فما بالك لو أضيف إليه دعوة المظلوم على من ظلمه:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
ومن أسباب الهلاك أيضاً: تبديل أمر الله، أياً كان هذا التبديل، فالله جل وتعالى يأمر بأوامر ثم تأتي هذه القرية، وتبدل ما أمر الله به، بأشياء من عندها، ومن زبالة أفكارها، سواءً كانت قضايا معاملات من بيع أو شراء، أو غيره.
قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [البقرة:58، 59].
ومن أسباب هلاك القرى، أن يكون أهلها، وأصحاب الشأن فيها، من أهل المكر والكيد والتدبير، الذي يتعارض مع الحق. قال الله تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل:26]، ـ كان هناك من قبلكم قد مكروا وخططوا ودبروا وفعلوا، فماذا كانت النتيجة ـ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ [النحل:26]. وقال سبحانه: وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43]، وقال عز وجل: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ [النحل:45]، يقول علماء التفسير عن هذا المكر السيئ، أنه: سعيهم إلى إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على وجه الخفية، واحتيالهم في إبطال الإسلام والكيد بأهله.
ومن أسباب الهلاك: عدم التناهي عن المنكر قال الله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79].(/3)
ومن أسباب الهلاك: موالاة الكفار، قال الله تعالى: تَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَاكِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:80، 81].
ومن أسباب الهلاك: ترك الجهاد في سبيل الله قال الله تعالى: إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التوبة:39].
أيها المسلمون، وكما قلنا في العقوبات نقول في الأسباب: إنها كثيرة، وهذه بعضها، فالحذر الحذر، فإنه ليس بين أحد وبين الله نسب، إنما أكرمكم عند الله أتقاكم. وعندما تأخذ أية قرية بسبب أو بعدة أسباب من أسباب الهلاك، فإنه من الطبيعي أن لا تأخذه فجأة، ودفعة واحدة، وإنما بالتدريج في البداية يكون بسيطاً ثم مستوراً، ثم أكثر ثم يظهر، حتى تصبح هي السمة البارزة، لتلك القرية، وبعدها ينزل عقاب الله والله المستعان.(/4)
بلاد الشام ... بين قدسية الأرض وأسباب النصر
تأملات :الوطن العربي :الاثنين 27 رجب 1427هـ – 21 أغسطس 2006م
عيسى القدومي
مفكرة الإسلام: بلاد الشام بلاد مباركة، ثبت ذلك في آيات من القرآن المجيد وأحاديث صحيحة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها، والآثار الموقوفة على الصحابة وكبار التابعين ومن دونهم. فهي مهد الرسالات السماوية، ومحل لدعوات رسل الله تعالى.
وحين كان يتحدث المؤرخون والرواة القدامى عن الشام وأرضها كانوا يقصدون بذلك الرقعة التي تشغلها الآن سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، تلك كانت بلاد الشام على مدى تاريخ طويل، كما قال ابن الفقيه الهمداني: 'أجناد الشام أربعة: حمص ودمشق وفلسطين والأردن'. وفتوح الشام ابتدأها خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم 'أبو بكر' الصديق رضي الله عنه واستكملت في زمن عمر رضي الله عنه.
ولم يتم تقسيمها سياسياً إلى دول أربع إلا بفعل الاستعمار في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتطبيق اتفاقية 'سايكس بيكو' على بلاد الشام، وفرض الانتداب الفرنسي على شمال الشام فقسمه إلى كيانين هما سوريا ولبنان، وفرض الانتداب البريطاني على جنوبه فقسمه إلى كيانين هم الأردن فلسطين، وأصبح لكل كيان جواز مرور وحدود ودستور وأعلام.
بركة بلاد الشام :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في مقدمة كتابه 'مناقب الشام وأهله': ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة وآثار العلماء، وهي أحد ما اعتمدته في تحريضي للمسلمين على غزو التتار، ولزوم دمشق، والنهي عن الفرار إلى مصر ...'.
ومما جاء في كتاب الله تعالى قوله سبحانه: 'ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين'، قال الحسن: أن الأرض التي باركنا فيها: [الشام] وروي ذلك عن مجاهد، وابن زيد، وابن جريج.
وقال الشيخ السعدي – رحمه الله – أي الشام ... ومن بركة الشام، وأن كثيراً من الأنبياء كانوا فيها، وأن الله اختارها، مهاجراً لخليله وفيها أحد بيوته الثلاثة المقدسة وهو بيت المقدس.
وقال تعالى في سورة الإسراء: 'سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله'.
قال ابن تيمية – رحمه الله – والبركة تتناول البركة في الدين، والبركة في الدنيا وكلاهما معلوم لا ريب فيه.
وجاء في الصحيح من كتب السنة أحاديث كثيرة في فضل 'بلاد الشام' أذكر منها ما جاء عن معاوية بن حيدة – رضي الله عنه – قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'عليكم بالشام'. وقوله صلى الله عليه وسلم: 'إن الله عز وجل قد تكفل لي بالشام وأهله'. وعنه صلى الله عليه وسلم: 'ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام'. وحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'الشام أرض المحشر والمنشر'. ووصى النبي صلى الله عليه وسلم بسكنى الشام: 'عليك بالشام فإنها خيرة الله في أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده' رواه أبو داود وأحمد، بسند صحيح.
أهلها المقاتلون في سبيل الله من الطائفة المنصورة نصّاً:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة' صحيح الجامع.
وفي رواية أخرى صحيحة: 'لا تزال طَائِفَة من أمَّتِي يقاتلونَ على الحَق ظَاهِرِينَ على من ناوأَهُمْ حَتَّى يقاتلَ آخِرهم المَسِيحَ الدجال'. ومن المعلوم أن عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم يدرك المسيح الدجال بباب لد بفلسطين فيقتله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى [4/449]: 'والنبي صلى الله عليه وسلم ميَّز أهل الشام بالقيام بأمر الله دائماً إلى آخر الدهر، وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة، وهذا الوصف ليس لغير أهل الشام من أرض الإسلام، فإن الحجاز التي هي أصل الإيمان نقص في آخر الزمان منها: العلم والإيمان والنصر والجهاد، وكذلك اليمن والعراق والمشرق، وأما الشام فلم يزل فيها العلم والإيمان ومن يقاتل عليه منصوراً مؤيداً في كل وقت'.
بلاد الشام حاضرة الخلافة الإسلامية في آخر الزمان:
عن أبي حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: 'يا ابن حوالة: إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة, فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك' صحيح الجامع.
من أحق الناس بعمارة الأرض المباركة:
المسلمون الموحدون أحق الناس بعمارة الأرض المباركة، والشام ثغر من ثغور المسلمين وبلد جهاد إلى قيام الساعة لأن أعداء الله لن يكفوا عنها، فكان الترغيب للسكنى فيها، والرباط، والدعوة إلى التوحيد ومؤازرة من فيها من أهل الحق عنواناً مهماً في حياة المسلم.(/1)
ولأنها حلبة الصراع بين الحق والكفر، فهي مركز قيادة الناس إلى الخير الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: 'إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، ولا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة'.
ولما عرَّف أئمة الحديث الكبار - رحمهم الله - الطائفة المنصورة قالوا: هم أهل العلم بالآثار ومن تبعهم اقتداء بالسلف الصالح رضوان الله عنهم عقيدة ومنهجاً، يقصدون بذلك من كان على علم في الحديث والأثر وعلى منهاج النبوة.
عسقلان ثغر مهم من ثغور الشام:
أخرج الطبراني في 'المعجم الكبير' وهو في 'الصحيحة /3270' عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكاً ورحمة، ثم يتكادمون عليه تكادم الحمر، فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان'.
وعسقلان عرفت منذ أقدم العصور التاريخية وورد لفظها في معجم 'لسان العرب' بمعنى أعلى الرأس، إنها عروس الشام من جند فلسطين، جاء في 'موسوعة المدن الفلسطينية': 'وتعتبر عسقلان مدينة ساحلية ذات شأن اقتصادي على مدى تاريخها الطويل، ويعود ذلك إلى مينائها البحري وموقعها الاستراتيجي القريب من الحدود المصرية ـ الفلسطينية، ومواجهتها للقادمين من البحر تجاراً كانوا أم غزاة، وكانت عرضة للسيطرة عليها في التاريخ القديم، ولم يعرف جيش حاول فتح فلسطين لم يحاول السيطرة على عسقلان، ولم يحدث أن فتحت فلسطين من الجنوب إلا بعد فتح عسقلان، ولم تقل أهمية عسقلان في كل عهود الحكم الإسلامي'.
الحديث من أعلام ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ففيه: 'ثم يتكادمون عليه تكادم الحمر' إشارة إلى الحال الذي سيصل بالمسلمين، وأنهم يتنازعون السلطة، بسبب التفرق والاختلاف، ومن ثم كان قوله: 'وإن أفضل رباطكم عسقلان' إشارة إلى أفضل الرباط على اعتبار أن هذا الرباط في بلاد الشام، وبلاد الشام مطمع الكفار، ومن تتبع تاريخ بلاد الشام منذ القدم يرى أهمية موقعها الاستراتيجي الذي كان هدف الغزاة الأول للنفاذ إلى فلسطين، فالسيطرة عليها كان يعني التحكم في الطرق المؤدية إلى معظم أنحاء فلسطين شمالاً وجنوباً وشرقاً، يضاف إلى ذلك التحكم منها في حركة المواصلات البحرية.
ولا شك أن سقوط ثغور المسلمين بيد الكفار أعداء الله دليل واضح على فساد اعتقاد المسلمين وبعدهم عن دين ربهم، ولن يعود المجد والعزة إلا إذا رجع المسلمون لدينهم واتقوا ربهم عز وجل.
العاقبة للمتقين طال الزمان أو قَصُر:
من سنن الله تعالى أن تكون العاقبة للمتقين طال الزمان أو قصر، فالنصر والتمكين لدين الله قادم لا محالة بنا أو بغيرنا قال تعالى: [هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون].
ولكن حين يتخلى أهل الإيمان عن إيمانهم فإن سنة أخرى هي التي ستحكم هؤلاء المتراجعين: [وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم].
ولا شك أن قتال اليهود حادث ولا ريب، وسيقضي المسلمون المجاهدون على الدجال ومن معه من اليهود جميعاً، وتستريح البشرية جمعاء من شرور اليهود وأطماعهم وإفسادهم، ولكن على يد مَنْ مِنَ المجاهدين سيقتل اليهود ومعهم الدجال؟ والإجابة في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:'لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود'.
فحربنا من اليهود مستمرة والتي بدأت منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسوف تستمر حتى خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، والقضاء على آخر يهودي وستبقى بقية أهل الإيمان على الأرض المقدسة وبلاد الشام تنافح عن الحق وعن الإسلام ضد الباطل وأهله إلى أن تقاتل هذه الفئة الدجال في آخر الزمان.
ولكن على يد مَن يعود المسجد الأقصى وما سلب من بلاد الشام؟
لقد وعد الله تعالى المؤمنين بأن ينصرهم على عدوه وعدوهم وإن طال الزمان بنظر المؤمنين أو قصر، وربط الرسول صلى الله عليه وسلم الأرض المقدسة بأصلها الأصيل وهو الإسلام، فهو مستقبلها وبه حياتها، ولن يتم لها أمر، أو يعلو لها شأن إلا من خلال هذا الدين وأهله المصلين الموحدين المؤدين فرائضه، والمجتنبين معاصيه، فالنصر موعود الله سبحانه وتعالى للجباه الساجدة، والقلوب الموحدة، والأيدي المتوضئة، قال تعالى: [وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً فمن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون] النور 55.(/2)
والنصر لا يكون بالتمني والأماني والركون إلى الدنيا إنما النصر بالجهد والجهاد وبتحقيق التوحيد لله تعالى [يعبدونني لا يشركون بي شيئاً] فلا يتنزل النصر مع الإشراك بالله تعالى، وبهذا نعلم مقدار بعد الأمة الإسلامية عن النصر وأسبابه، وذلك لشيوع أسباب الشرك ومظاهره وغلبة الهوى والجهل، وظهور الفرق الضالة في الأمة وتمكنها في بلاد الشام، ومتابعة جماهير المسلمين اليوم لهذه الضلالات – إلا ما رحم الله – والتي أبعدتهم عن الجادة والنهج القويم.
فالعودة إلى الإسلام هو الطريق لإنقاذ فلسطين والمسجد الأقصى السليب، وبتمسكنا بالإسلام ترجع إلينا إن شاء الله مقدساتنا التي اغتصبت في بيت المقدس، وديارنا السليبة في جميع أنحاء الأرض ويتحقق لنا شرط التمكين والنصر قال تعالى: [الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور] الحج 41. وتكون بهذا العاقبة للمتقين والنصر للمؤمنين.
كلمات نفيسة لفضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
وأختم مقالي بكلمات لفضيلة الشيخ بن العثيمين رحمه الله تعالى في الطريق إلى النصر والتمكين: 'أيها المسلمون إن نصر الله عز وجل لا يكون إلا بالإخلاص له، والتمسك بدينه ظاهراً وباطناً، والاستعانة بالله وإعداد القدرة المعنوية والحسية بكل ما نستطيع ثم القتال لتكون كلمة الله هي العليا، وتطهر بيوته من رجس أعدائه، أما أن نحاول طرد أعدائنا من ديارنا، ثم نسكنهم قلوبنا بالميل إلى منحرف أفكارهم، والتلطخ بسافل أخلاقهم، فالنصر مشروط بما شرطه الله عز وجل، استمعوا إلى قول الله تعالى: [ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور].
هؤلاء هم الذين يستحقون النصر، الذين يوقنون بقلوبهم ويقولون بأفواههم إن مكنهم الله في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور، بهذا يمكن للمسلمين أن يحتلوا بلاد الله وأن يطردوا عنها أعداء الله، لأن 'الأرض يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين' ، 'ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض لله يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين'.
والحمد لله رب العالمين ،،،(/3)
بلايا الخطايا
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
بلايا الخطايا .. أمر ينبغي أن تلتفت له الأذهان ، وأن يعطى حقه من العناية والاهتمام ؛ فإن شيوع المعاصي ، وذيوع الخطايا وتوسع دائرتها يؤذن - كسنة ماضية من الله جل وعلا - بعظيم البلايا ، وجليل الرزايا التي لا تقتصر على موات القلوب ، وكدر النفوس ، وضعف الإيمان وزيغ الأهواء وغير ذلك .. بل تتعداها إلى الأضرار والأخطار المادية الملموسة .
ولعلي - وأنا أريد أن ألفت الأنظار ، وأن أجعل كل أحد ينتبه من غفلته ويُرعِ هذا الحديث سمعه - أبدأ بأن أقول إن خطيئة واحدة قد حصدت في عام واحد - هو العام الذي انصرم - ثلاثة ملايين من البشر !
فهل ترون مثل هذا الرقم الخطير المفزع أمراً هيناً ؟ وهل ترونه عقوده ليست مرئية أو ملحوظة ؟ وأزيدكم لأقول : إن جريرة يكاد كثير من المسلمين عموماً ؛ بل ومن الحاضرين في هذا المسجد وفي غيره خصوصاً يلمون بها ويقترفونها ويمارسونها كل يومٍ وليلةٍ - ليست مرةً واحدة بل مراراً عدة - هذه الخطيئة حصدت في عام 2000 - أي قبل نحو أربعة أعوام - خمسة ملايين من البشر !
ولعلكم الآن تتساءلون وأنا أيضاً أقول : بأيهما أبدأ ، وهما اثنتان وغيرهما من الخطايا فيها العظيم والجليل من البلايا والرزايا ؟!
هل تصدقون - وهذا بموجب إحصائيات علمية معتمدةٍ معتبرةٍ من منظمة الصحة العالمية - أن قتلى التدخين في عام 2000 بلغ خمسة ملايين إنسان ! وأنه بموجب المعدل الإحصائيات المتزايدة من كل عشرة وفيات من الرجال والنساء واحد أو واحدةٌ سببها المباشر هو التدخين ، وأن هذه النسبة ترتفع في الرجال ليكون كل خمسةٍ يموتون منهم ، وواحدٌ سبب موته المباشر هو التدخين ؟
وكذلكم انتقل بكم إلى الموضوع ؛ لنعود إلى هذه القضية مرةً أخرى يكثر الحديث اليوم في وسائل الإعلام صحفاً وإذاعاتٍ وقنوات عن ما ينتظر أو يرتقب مما يعرف باليوم العالمي للإيدز .. مرض نقص المناعة التي فتك بملايين البشر .
وتقول الإحصاءات أن المصابين بهذا المرض والحاملين له بلغ اليوم خمسة وأربعين مليون إنسان ، وأن العدد يتزايد بكثرةٍ مذهلة مخيفة متعبة ، وأنه قد حصد في العام الماضي ثلاثة ملايين نفس ، وأن هذه الإحصاءات يتبعها إحصاءات فلكية يصعب أن تحدد أرقامها ، وهي إحصاءات المبالغ المالية المنفقة على الأبحاث والمختبرات وتحليل الدم والعلاج والعزل الصحي وغير ذلك .. الذي فاق ليس مئات ولا آلاف بل بلغ عشرات ومئات الآلاف من الملايين التي تهدر في مثل هذا الباب التي سببه الخطايا والفواحش !
هذه الإحصاءات تقول : إن العام الحالي الذي سينصرم بموجب التاريخ الميلادي قريباً قد سجّل فيه وحده خمسة ملايين حالة جديدة مصابة وحاملة للمرض ، وإذا كان هذا يشكّل نحو عشر الذي مضى وقد اكتشف المرض من عام ألفٍ وتسعمائة وتسعة وسبعين .. إذاً فهذا العام كأنما ينذر بأن الأمر قد وصل مبلغاً عظيماً خطيراً فتاكاً ؛ يوشك أن يكون من أعظم - بل هو في الحقيقة أعظم بلايا هذا العصر - ولعلنا نتساءل : لم يُتحَدث عن هذا ونحن بحمد الله عز وجل في بلاد الإسلام وبلاد الحرمين ؟
فنقول : إن الشر يعم ولا يخص ، وإن مثل هذا البلاء قد غزى كل دارٍ وبلاد ..
إحصاءات المسئول الرسمي في وزارة الصحة السعودية تقول : إن عدد الحالات المسجلة لهذا المرض في المملكة العربية السعودية يصل إلى أقل من 8000 حالة ؛ منها أكثر من 1500 لمواطنين وأخرى لقادمين أو راحلين .
ويعطينا مؤشراً فيقول : إن 90% من أسباب هذا المرض في العالم كله هو الاتصالات الجنسية - أي المنحرفة والشاذة - ويسميها أهل الحضارة المعاصرة " الاتصالات غير الآمنة " ويريدون أن يعلموا الناس كيف يقوم ويمارس الحرام والفاحشة ولكن بطرقٍ صحية آمنة !
والله عز وجل يخبرنا في شطر آية أن هذا أمرٌ بعيد المنال ؛ لأنه قد قال جل وعلا : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } .
ويخبرنا الحق سبحانه وتعالى : بأن للسيئات آثار وخيمة مادية ملموسة محسوسة { فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين } .
كل سيئة وشذوذٍ وانحرافٍ وفاحشة لا بد لها من عقوبةٍ دنيوية معنوية وماديةٍ ؛ فضلاً عما هو أعظم وأفظع من العقوبات الأخروية .
وتأتينا الإحصاءات في المملكة لتقول : إن 45% من أسباب الحالات المسجلة اتصالاتٌ جنسية ، و20% نقل لدمٍ ملوث في خارج المملكة ، و6% جناية أمهاتٍ مصابات على أجنة بريئة ، و2% من أسباب إدمان المخدرات وتبادل الحقن الملوثة ، و27% أسباب مجهولة غير معروفة .
وأما الأعمار المصابة فهي ما بين 15 إلى 45 من العمر .. زهرة الشباب وبداية الرجولة ، تلك التي تحصدها هذه الأمراض الخطيرة .
قال تعالى : { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرةً منه وفضلا } .(/1)
وقال : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون } اليوم يكثر حديث في ديار الإسلام عموماً عن ما يسمى بـ " حرية المرأة " وعن تخفيف قيود التقاليد البالية ، وعن إلغاء عوامل الكبت وإطلاق سبل الترقي والتحضر ، وكأن القوم عميٌ لا يبصرون ، صمٌ لا يسمعون قد أصابهم جنون فهم لا يعقلون .
إن هذه المقالات وتطبيقاتها العملية هي التي أدت بالمجتمعات الغربية ، وبعض المجتمعات الإسلامية والعربية إلى أن بلغت مبلغاً عظيماً في آثار هذه الفواحش .
واستمعوا إلى مقالة رجلٍ يهوديٍ أسس لانحراف البشرية وقعد له ، بعد أن ذكرت لكم ما قد يقال من الأقوال : يقول فرويد - عالم النفس الشهير اليهودي - : " إن الإنسان لا يحقق ذاته بغير الإشباع الجنسي ، وكل قيدٍ من دينٍ أو أخلاق أو تقاليد هو قيد باطل ، ومدمر لطاقة الإنسان ، وهو كبت غير مشروع " .
قال ذلك وسار القوم على خطاه ، وانتهى الأمر بهم إلى أن يمارسوا الفاحشة مع البهائم .. بعد أن فشا فيهم شذوذ بممارسة الفواحش بين الرجال والرجال والنساء والنساء ؛ بل قد وجدت مجموعات من هؤلاء الشاذين في بلاد العرب والمسلمين ، وكلما تركنا ما أسماه قيد الدين والأخلاق أو التقاليد كلما فتحت أبواب الشر ، وتسهّلت أسباب الفساد ، وعظم ارتكاب الفواحش ، وزاد الخنا والزنا والفسق والفجور ، وزاد معه ما في هذه البلايا من رزايا .
ولعلنا ننتبه إلى أمور أخرى أحب أن أربطها بهذا الِشأن ؛ فإن الذي يقال وربما يردد من هذه الأمور التي يدعى فيها حرية المرأة ، والتي يدعى فيها توسيع دائرة دورها في أمورٍ نحن نعلم كيف بدأت ؟ وإلى أين انتهت ؟ وفي أمورٍ لو أنها كانت قائمةً على أحكام الشرع ومنضبطة بضوابطه ؛ لعلمنا يقيناً أن خواتيمها ليس فيها ضرر غير أنها تبدأ - كما يقال - بأول الغيث قطر ثم ينهمر .. نظرةٌ فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء .. وذلك ما نشهده في كل حال دنيا الناس ، وما نشهده في آحاد الأفراد .
انظروا إلى من انحرف أو انغمس في بعض الشهوات والملذات .. هل تراه بدأ بالفواحش الكبرى ؟ وهل تراه بدأ بالكبائر التي قد عظم الله عز وجل ارتكابها ؟
إنه بدأ بأمور يسيرة ، وبتجاوزات خفيفة .. بدأ بنظر آثم ، وترخص في حديثٍ واختلاطٍ مغرٍ ، وانتهى إلى خلوة محرمة ، ومشى إلى أمور انتهت به إلى ما نحن نوقن بأن بدايته ستكون هذه نهايته .. قال تعالى : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } " لا تقربوا " أي لا تأتوا دواعيه ، ولا تدعوا بمقدماته ، ولا تتساهلوا في أي أمرٍ يتصل به .
قال تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم } والخطاب كذلك : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن } .
وإذا جئنا إلى السمع نجد قول الحق سبحانه وتعالى في خطاب أمهات المؤمنين العفيفات المؤمنات : { ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً } .
إمالة القول سبب لفتنة القلب ؛ فكيف بما هو أعظم من ذلك من الضحك والحديث والملاعبة والأحاديث الإيحائية الإغرائية وغير ذلك .. بل الأنف حتى جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( أيما امرأةٍ خرجت متعطرة ليجد الرجال ريحها تلعنها الملائكة حتى ترجع ) .
لأن لذلك تأثيراً، وكل الجوارح والحواس مفضية إلى القلب ومؤثرةٌ فيه ..
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً *** لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر *** عليه ولا عن بعضه أنت صابر
النظرة سهم من سهام إبليس ( العينان تزنيان وزناهما النظر ) وكل جارحةٍ لها زناها ؛ وحينئذٍ وبعد هذا البيان القرآني الرباني .. هل ينكر علينا وعلى كل مؤمن غيور أن يذمّ ، وأن ينتقد ، وأن يحرم بتحريم الله عز وجل وتحريم رسوله صلى الله عليه وسلم ما يبث على الفضائيات من الغناء والرقص والتبجح والعري ، الذي أجزم يقيناً أنه من الأسباب المؤدية إلى الوقوع في هذه الفواحش والداعية إليها ، والمرغبة فيها المؤججة للغرائز والمشاعر نحوها والمسهلة على ارتكابها والمهونة لشأنها ، والتي تعرضها كأنه ليس فيها آياتٍ محرمة ، ولا أحاديث مؤثمة ؛ بل تعرضها على أنها من صور التحضر والفنون الراقية .
وأقول هذا لأخاطب إخواني المؤمنين لينتبهوا لأنفسهم ، ولأبنائهم ، ولبناتهم ؛ فإن أول الغيث قطرٌ ثم ينهمر .
ولأن أول الخطايا والفواحش إنما هي صغائر ، لا يكاد المرء يلتفت إليها ..
لا تحقرن من الذنوب صغيرةً *** إن الجبال من الحصى
ونحن نقول هذا ، ويأتينا من يقول : إن مثل هذا القول تشددٌ في غير محله بل بعضه يعده تطرفاً عن الاعتدال والوسطية التي يفهمونها فهماً غير صحيح ، بل ربما يرجم بعضهم رجماً أعظم فيقول : إن قائل هذا من أهل الإرهاب والغلو .. ونحوه . فأي شيء يريدون أن يبقوا لنا من ديننا ومن عفة وحياء بناتنا ، ومن شرف ورجولة أبناءنا ، ومن حصانة ورقي وحفظ مجتمعاتنا ..(/2)
إنها السدود التي تبدأ بخرم صغير يتسرب منه الماء قليلاً ، ثم يتشعب وينصدع ذلك السد ، ثم لا يلبث - عياذاً بالله أن يفرق فيه خرقاً يتسع على الراقع ويوشك من بعد أن ينهد السد وأن يفيض الطوفان فيغرق كل أحدٍ حتى من لم يكن سبباً في ذلك ، ولنستحضر حديث أم المؤمنين رضي الله عنها عندما تعجبت وسألت سيد الخلق صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : ( نعم إذا كثر الخبث ) .. قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .
ويوم يقول المؤمنون ذلك في هذه الأيام ، ويوم يربطون بينما يحصل من البلاء وما يقع من المعاصي يتهمون بأنهم حمقى ومغفلون !!
ها هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يبين هذه المخاطر ويقول : ( والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرى أو ليسلطن الله عليكم شرركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لكم ) .
أوليس قد ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أوليس القرآن قد نص عليه بقوله جل وعلا : { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } فهل تعليل القرآن ، وتحليل المصطفى النبي العدنان صلى الله عليه وسلم باطل ولغو ؟ حاشا لله عز وجل أن يكون كذلك فتنبهوا لمثل هذا !
وانظروا إلى تشريع الإسلام الحكيم الضابط في كل جانب من هذه الجوانب ، وكيف جعل بين الحلال وبين الحرام أموراً تكون بمثابة الوقاية والحماية ..
وكلكم يحفظ حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات يوشك أن يقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ) .
ابحث في حياتك كل أمرٍ من المعاصي الواضحة ارتكبته فانظر إلى الخلف قليلاً ؛ فإنك واجدٌ أمورٌ من المشتبهات ، وأمور مما فيه قليل أو يسيرٌ من المحرمات كان هو طريقك إلى هذا فقطع الطريق من أوله واقطع على الشيطان وسواسه فإن ذلك بما هو أخطر .
ولعلي وأنا أذكر ذلك استحضر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجة في سننه منفرداً به ، ورواه الحاكم وصححه في قوله عليه الصلاة والسلام : ( خمس إذا ابتليتم بهن - وهو يخاطب المهاجرين - وأعوذ بكم أن تدركوهن ... لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلى فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهن ) وهذا هو الواقع ينطق ويشهد فيما أخبر به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم .
ولا شك أن كل معصية ومخالفة هي سبب لحصول سخط الله عز وجل وغضبه ، وما أدراكم ما غضب الحق جل وعلا في قصة موسى عليه السلام مع فرعون لما طغى وبغى وتجبر وتكبر .. قال الله جل وعلا في شأنه وشأن من تبعوه : { فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين } .
وهذا هو الأمر الذي يتعرض له ويعرض كل أحدٍ له نفسه إذا تعرض لسخط الجبار .
ويكفينا كذلك ما جاء في القرآن في قصة قوم لوط ، وفي أوصافهم فيما ارتكبوه من الشذوذ الذي فشا في دنيا الناس اليوم - والعياذ بالله - كل مسلم قبيح وكل سمة رذيلة ذكرت عن هؤلاء في القرآن .. قال تعالى : { بل أنتم قومٌ تجهلون } ، { بل أنتم قومٌ عادون } ، { بل أنتم قومٌ مسرفون } وفي دعاء لوط عليه السلام : { رب انصرني على القوم المفسدين } وفي قوله كذلك : { فانظر كيف كان عاقبة المجرمين } .
وعنهم قال الحق جل وعلا : { لعمرك إنه لفي سكرتهم يعمهون } وخاطبهم لوط فقال : { أليس منكم رجل رشيد } .
الفاعلون لهذه الفاحشة قومٌ عادون ، مفسدون مجرمون ، في الغي ثابرون ، ليس لهم عقل ولا رشد !
وتأتينا العقوبات والحدود الإلهية من جلد الزان غير المحصن ، ورجم الزاني المحصن ، وقتل من يفعل فعل قوم لوط .. فيقولون لنا : " إن هذه عقوبات ليست إنسانية ، وتتعارض مع حقوق الإنسان ! " .
ولا يدركون أنهم يقتلون الإنسان بالملايين ، ويفعلون ذلك عن صدق علمٍ وإصرار كما يقال حتى بلغت الوفيات بمثل هذه الأعداد المذهلة وأسبابها كما يقررونها علمياً أنها الأسباب المباشرة لهذه الجرائم والفظائع والفواحش .
وهكذا نجد أن الله عز وجل قد آتانا في الإيمان وفي الإسلام ، وفي الشرائع والأحكام ما يحفظ نقاء القلوب ، وشرف النفوس ، ورشد العقول ، وسلامة الجوارح ، وطهارة المجتمع ، وعفة ورفعة الأخلاق ، فإذا تنكبنا نهج ربنا وخالفنا هدي رسولنا ، فلنؤذن بما قدره الله عز وجل من البلاء والهلاك .. نسأل الله عز وجل السلامة .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :(/3)
وإن من أعظم التقوى اجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والمباعدة عن الحرام والتوكل من الشبهات ؛ ولعل هذه الخطايا ذات البلايا كثيرة ليست في هذه الفواحش وليست في التدخين وإنما كذلك في المخدرات وغيرها ، ولسنا هنا في هذا المقام غير أني وقد ذكرت شيئاً عن هذا المرض الخطير .. قد يقول بعضكم : " نحن بعيدون عنه وفي منأى منه ، لكني مرةً أخرى أعود بكم إلى التذكير ، وإلى الإضافة في شأن التدخين ، وما أدراكم ما التدخين ؟
لعلي أستطيع أن أقول : إن هذا الجمهور الكريم فيه نسبة قطعاً من المدخنين - ولتكن عشرةٌ بالمائة أو عشرون أو أكثر أو أقل - أقول مرةً أخرى : إن الإحصاءات قد أثبتت لنا أن قتلى التدخين أكثر بل قد يصلون إلى ضعفين قتلى الإيدز ، فإذا كنا ولا بد نفكر وندرك ونحلل ؛ فإننا ندرك أن هذا الخطر أعظم وأن أثره أكبر ، وأن مصيبته وبليته أجلى وأظهر وتقول الدراسات .. إن أعظم الأسباب التي تنتج بها الوفاة بعد قدر الله عز وجل من أسباب التدخين أمراض القلب والأوعية الدموية ويليها مرض سلطان الرئة التي يتلفها ويحرقها التدخين حتى تصل بصاحبها إلى الوفاة ، وأن الوفيات تراوحت الأعمار فيها ما بين الثلاثين من العمر إلى تسعة وستين ، وأن هذه الأعداد في تزايد مستمر .
وأنتقل مرةً أخرى إلى إحصاءاتٍ تخصنا في بلادنا ؛ لنقول : إن الإحصاءات وبموجب قراءات رسميةٍ كانت في عام أربعة وثمانين من الميلادية تجعل المملكة ثالث دولة مستوردة للدخان في العالم كله ، وأن الذي انفق من الأموال والاستيراد في عام تسعين - على سبيل المثال - كان متجاوزاً لمليار ريال -أي ألف ومليون من الريالات - .
وهنا للمقارنة البسيطة نقول إن مسئول الصحة عن مرض الإيدز أخبر : أن وزارة الصحة قد أنفقت أربعة وعشرين مليون في مسائل الإيدز وعلاجه والفحص الدم وغيره .
انظروا إلى ألف مليون في عام تسعين ، ثم زادت في عام واحد وتسعين إلى ألف وأربع مائة مليون ريال ، ثم هي في تزايد مستمر حتى قدرت الإحصاءات في أعوامٍ قريبة ماضية بأن الاستهلاك يصل إلى خمسة وعشرين مليار سيجارة وبحسابات عملها بعض الباحثين أثبتوا فيها أنه لو كان عدد السكان خمسة عشر مليوناً وأن ثلثهم يدخنون ؛ فإن نصيب كل واحدٍ في العام خمسة آلاف سيجارة ، وأن نصيبه في اليوم الواحد أربع عشرة سيجارة ، وهذا معدل واقعيٌ موجود ، وأن النتيجة بعد ذلك وبعد كل إهدار هذه الأموال هي الأمراض الفتاكة والقاتلة .
ثم يأتينا من بعد مدخنون أو غير مدخنين ويقولون : " من قال إن الدخان محرم ؟! " .
فأمرٌ يفتك بالصحة قطعاً ويؤدي إلى الهلاك حتى الموت إثباتاً علمياً طبياً ويتلف كل هذه الأموال ويسبب ما يسبب من أضرار أخرى اجتماعية وغير اجتماعية .. ثم بعد ذلك نقول إنه حلال زلال ! أو نقول إنه مفيد ونافع ! أو إنه يمكن أن يدل على الرجولة أو البطولة !
ولو أردنا أن نكون واقعيين فلنسأل كل أبٍ مدخنٍ : هل ترضى أو تحب أو لا تمانع على الأقل أن يصبح أبناؤك مدخنين ؟ لقال بصوت عالٍ : كلا ! ولرفض ذالك .. فلو كان فيه خير أو كان فيه شيء من منفعة أفلا تحبه لأبنائك .
وأعجب وقد قلت ذلك - ونحن بعد الشهر الكريم المنصرم - أعجب من المدخنين يعلمون كل ذلك ثم لا يمتنعون عن التدخين ! ويدخلون إلى شهر رمضان ويصومونه كله ويمتنعون في نهاره - وإن طال - عن التدخين ، ثم يعوذون إليه !
وقد لقيني في أول أيام العيد أحد المصلين ، ولحقني إلى الباب وهو يقول : " إنني مدخن منذ اثنان وأربعون عاماً ، وأبشرك بأنني مع رمضان امتنعت عن التدخين " ويطلب الدعاء لكي لا يعود إليه .
فتصوروا كم أنفق من الأموال في أعوامه الأربعين ، ولو أنه ادخر هذا المال وأنفقه في سبيل الله ، وأطعمه لعياله لكان له في ذلك خير وأجر أعظم وأكبر وأفضل .
ولا شك أننا أيها الإخوة نحتاج إلى أن نكون صرحاء في مثل هذا الأمر ، ولعلنا ونحن في مقامٍ بيت من بيوت الله ، وفي يوم جمعة أغر أن ندعو الجميع من المدخنين في هذه اللحظة أن يعقدوا في أنفسهم العزم ، وأن يقولوا في أنفسهم عهداً مع الله عز وجل أنهم بهذه اللحظة وعند خروجهم من هذه الجمعة سيقاطعون التدخين إلى الأبد ؛ لأنهم يعلمون مضرتهم ويعلمون ما ينفقونه ويهدرونه فيه من مال ، وما يسببه لهم من إحراج اجتماعي .. فنسأل الله عز وجل لهم أن يعينهم على ذلك ، وأن نكبت أعدائنا بأن لا نستهلك هذه السموم التي يصدرونها لنا .
تقول الإحصاءات مؤخراً أن أمريكا والعالم الغربي عموماً يقل فيه التدخين في الأعوام الأخيرة في كل عامٍ 10% وأنه يزداد في دول العالم الثالث في كل عامٍ ما بين 7 إلى 8 % إذاً هم يتركون ونحن نأخذ ما يتركونه ، وهم يصنعون ونحن ندفع الأموال لحرق قلوبنا ورآنا ولإهلاك صحتنا .. نسأل الله عز وجل السلامة .(/4)
بلسم الحياة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل قدير. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا.
فصلِّ يا رب على خير الورى *** ما صدحت قُمْرية على الذرى
والآل والأزواج والأصحاب *** والتابعين من أولي الألباب
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ) أما بعد فيا عباد الله، لم يزل كثير من الخلق يلهثون ينصبون، يسعون يكدون، فمنهم من يسعى لجمع المال من أي القنوات، ومنهم من يلهث في بهيمية خلف الشهوات وأودار القنوات، ومنهم من يهرول وراء الشهرة والجاه والسلطان في سبات التيه قد أمضى رحلات، ومنهم من يعدو وراء الأماني والأحلام، يسبح في غير ماء، ويطير من غير جناح.
كمهمهٍ فيه السراب يلمح *** يدأب فيه النوم حتى يطلحوا
ثم يظلون كأن لم يبرحوا *** كأنما أمسوا بحيث أصبحوا
ضياع أعمار نفيسة في طلب أغراض خسيسة، أَمَا إنك لو سألتهم جميعًا من وراء ذلك السعي واللهث ما تريدون؟ لأي شيء تهدفون؟ لأجابوك: الحياة الطيبة نريد، إلى السعادة نهدف، نركض نعدو إلى سرور النفس ولذة القلب، ونعيم الروح وغذائها ودوائها وحياتها وقرة عينها نتوق، أرادوها فأخطئوا طريقها، وتاهوا فعطشوا وجاعوا، وعلى الوهم عاشوا؛ فصار حالهم كمن سقي على الظمأ بالسراب والآل وكانوا كمن تغدى في المنام، وفي تيههم فقدوا حاسة الشم والذوق فلم يفرقوا بين الروائح العطرة من الكدرة، ولا العذب في الفرات، فشقوا وتعسوا ويظنون أنهم سيسعدون، غفلوا في تيههم عن داعي الحق على الطريق وهو يندبهم ويقول: مهلا مهلا. والله لا يسعد النفس ولا يزكيها ولا يطهرها ولا يُذهب غمها همَّها وقلقها ويسد جوعتها وظمأها، ويعيد لها شمها وذوقها، إلا الإيمان بالله رب العالمين بلسم الحياة، بلسم الحياة ومفتاح السعادة، قال الله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) هذا خبر من أيها المؤمنون؟ ينبيك عنه [ابن القيم] بما ملخصه –في تصرف- إنه خبر أصدق الصادقين وأحكم الحاكمين، الله رب العالمين، وهو خبر يقين، وعلم يقين بل عين يقين، فحوى الخبر، أنه لابد لكل من عمل صالحًا مؤمنًا أنه يحييه الله حياة طيبة، بحسب إيمانه وعمله، (وَعْدَ اللهِ لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) الحفاة الأغلاظ، لا يعلمون، غلطوا في مسمى هذه الحياة فظنوها التنعم في أنواع المآكل والمشارب والملابس، والمراكب والمناكف ولذة الرياسة، والمال وقهر الأعداء والتفنُّن بأنواع الشهوات والملذَّات، حال أحدهم:
إذا تغديت وطابت نفسي *** فليس في الحي غلام مثلي
إلا غلام قد تغدى قبلي *** فنصف النهار لترياسه
ونصف لمأكله أجمع
لا ريب أن هذه لذة مشتركة بين البهائم، بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الإنسان، فمن لم تكن عنده لذة إلا اللذة التي تشاركه فيها السباع والدواب والأنعام والبهائم فذلك مسكين ينادى عليه من مكان بعيد، هِمَّتُه هِمَّةٌ خسيسة دنيئة، همة حُشّ.
كل داءٍ في سقوط الهمم *** يجعل الأحياء مثل الرمم
نامت الأُسْد بسحر الغنم *** سمَّت العجز ارتقاء الأمم
فأين هذه اللذة من اللذة بأمر إذا خالطت بشاشته القلوب سلا صاحبه عن الأبناء والنساء والإخوان والأموال والمساكن والمراكب والمناكح والأوطان، ثم رضي بتركها كلها والخروج منها رأسًا وهو وادع النفس، منشرح الصدر، مطمئن القلب، يعرض نفسه لأنواع المكاره والمشاق، لعلمه أن الجنة حُفَّت بالمكاره، يطيب له قتل ابنه وأبيه وصاحبته وأخيه في سبيل الله. أو قتلهم إن كانوا أعداء الله.
فلم يكن في سبيل الله تأخذه ملامة الناس والرحمن مولاه، فإذا بأحدهم يتلقى سنان الرمح بصدره، فيخرج من بين ثدييه، الدماء تثعب منه ينضح من هذه الدماء على وجهه وجسده ويقول وقد ذاق بلسم الحياة: فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة، حتى قال قاتله: فقلت في نفسي: ما فاز، ألست قتلت الرجل! فما زال يسأل حتى أُخبر أنه فاز بالشهادة وبما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فقال قاتله: فاز لعمر الله. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، إن بعض النفوس، تظل في شك من مصداقية هذا الدين، حتى ترى قسمات الفرح بادية على وجوه أفراده بشرًا وسرورًا وسكينة واطمئنانًا، وهم يواجهون الموت في سبيله!.
لنقاءٍ ونماء ولإيمان وثيق *** قتلهم في الله أشهى من رحيق(/1)
فازوا من الدنيا بمجد خالد *** ولهم خلود الفوز يوم الموعد
ويستطيل الآخر حياته، فيلقى قوت يومه من تمرات، يوم سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "قوموا إلى جنة عرضها الأرض والسماوات" يقول: لئن بقيت إلى أن آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة! ثم يتقدم للموت فرحًا مسرورًا.
آية المؤمن أن يلقى الردى *** بَاسِم الثغر سرورًا ورضى
ليس يدنو الخوف منه أبدًا *** ليس غير الله يخشى أحدًا
ويلبس [بلال] -رضي الله عنه- أدرع الحديد، ويصرف في الشمس يئن تحت وطأة صخرة عظيمة، فوق رمضاء قاسية في يوم قائظ في <مكة>، وأهل <مكة> أدرى بقيظ مكة، يراود على كلمة الكفر، وفي الميسور عليه أن يقولها لو أراد، وقلبه مطمئن بالإيمان، لكنه ذاق حلاوة الإيمان، فمزجها بمرارة العذاب والحرمان، فطغت حلاوة الإيمان على مرارة العذاب، فأطلقها كلمات تنقطع لها قلوب معذبيه حنقًا وغيظًا؛ ليرغم أنوفهم بها قائلا: أحد أحد، لو وجدت أحنق منها وأغْيَظ لكم منها لقلتها.
هل أنت إلا إصبع دميتي *** وفي سبيل الله ما لقيتي
وثبت فكانت العاقبة، فإذا به يعلو الكعبة فيصدح بالأذان ليرغم به من المشركين القلوب والآذان، حتى إذا ما حلَّت به السكرات، قامت زوجه تقول: وابلالاه واحزناه، فيقول وقد ذاق بلسم الحياة: بل وافرحاه واطرباه غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه.
أرسلتها كلمات منك صادقة *** بيضاء آذانها الأخلاد والقلل
بريقها وهي تهوي في مسامعهم *** بلاغة خشيت لألاءها المُقَل
وإذا بسيف الله [خالد أبي سليمان] فارس الإسلام وليث المَشَاهد -رضى الله عنه- يقول -حين ذاق بلسم الحياة وخالط بشاشة قلبه-: والله ما ليلة تهدى إليَّ فيها عروس، أنا لها محب، أبشَّر فيها بغلام، بأحب من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد، في سرية في المهاجرين أنتظر فيها الصبح لأغير على أعداء الله .
كأنما الموت في أفواههم عسل *** من ريق نحل الشفا حدث ولا حرجًا
حتى إذا ما حلَّت به السكرات، قال: لقد طلبت القتل مظانه، فلم يقدر لي أن أموت إلا على فراشي، ولا والله -الذي لا إله إلا هو- ما عملوا شيئًا أرجى عندي بعد التوحيد في ليلة بتُّها وأنا متترس، والسماء تهلني ننتظر الصبح حتى نغير على أعداء الله . لقد شهدت كذا وكذا مشهدًا وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، أو رمية سهم، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير، لا نامت أعين الجبناء، عدتي وعتادي في سبيل الله، ثم لقي الله رضى الله عنه وأرضاه .
الدم الذاكي جرى في عرقهم *** فاض مسكًا وتندى عنبرًا
فاسألوا عن كل نصرٍ خالدًا *** واسألوا عن كل عدلٍ عمرَ
وإذا بابن تيميه -رحمه الله- يدخل سجن القلعة ويغلق عليه الباب، فيبرز بلسم الحياة في تلك اللحظة -أعني الإيمان- فيقول: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رُحت فهي معي لا تفارقني، حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة الإيمان.
المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه، والله لو بذلت ملء القلعة ذهبًا ما عدل ذلك عندي شكر نعمة الحبس، وما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، حاله:
أنا لست إلا مؤمنًا *** بالله في سري وجهري
أنا نبضة في صدر هذا *** الكون فهل يضيق صدري
يقول تلميذه [ابن القيم] -رحمه الله-: وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والتنعم، وما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق ومع ذلك فهو من أطيب الناس عيشًا وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرُّهم نفسًا، تلوح نظرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
رجحوا حلمًا وخفوا هممًا *** ونشوا سِيدًا وشبوا عُلَما
علموا من أين ينزاح الشقاء، فأزاحوه وعاشوا سعداء. إنه بلسم الحياة.
وإذا بآخر يحكم عليه بالقتل ويُعلن عليه، فما يزيد على أن يفتر عن ابتسامة من ثغره نابعة من صدر مطمئن هادئ، يحكم عليه بالقتل ويُعلن عليه ذلك القتل فيفتر ثغره عن ابتسامة نابعة من صدر مطمئن هادي، واثق بموعود الله كما يُحسَى، فيقال له ما تنتظر؟ قال: أنتظر القدوم على ربي، لقد عملت لهذا المصرع خمسة عشر عامًا، وإني لأرجو الله أن تكون شهادة في سبيله،
فوالله إني أرى مصرعي *** ولكن أمدُّ إليه الخطا.
وتاالله هذا ممات الرجال *** فمن رام موتًا شريفًا فذا(/2)
وآخر كان يعيش حياة الضياع والحرمان والتعاسة وعدم المبالاة، فيمر على مسجد بعد صلاة المغرب، وإذا بالمتكلم يتكلم فيه حول قول الله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فألقى سمعه وقلبه، وصار في حالة من الذهول، سمع مصيره ومآله -ولا عدة له-، تذكر أيامه السوداء البائسة، ووقوفه بين يدَيْ ربه لا تخفى على الله منه خافية، استفاق قلبه، استيقظ إيمانه، تغلغلت الموعظة إلى سويداء قلبه، اندفع يبكي وينتحب، ويقول: أتوب إلى الله، أتوب إلى الله، غفرانك يا رب، رحمتك يا أرحم الراحمين، بادر واغتسل وصلّى صلاة المغرب، وذهب إلى هذا الداعية المتكلم، فقصَّ عليه قصته، وأوصاه الداعية بوصايا، وسأل الله له الثبات، أقبل على تنفيذ هذه الوصايا إقبال الظامئ على الماء البارد في يوم قائظ.
يقول هذا التائب -وقد ذاق ذلكم البلسم-: -الذي لا إله إلا هو- ما نمت تلك الليلة، في فرحي بالهداية والإقبال على الله، وتالله لقد حفظت القرآن في أربعة أشهر عن ظهر قلب، صلح حالي، وانشرح بالي، وذهبت غمومي وهمومي تراه طلق المُحيَّا بشوشًا يختم القرآن في كل ثلاث، صدق الله -جل وعلا- يوم قال:
(أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ)
سعادة الدنيا والدنيا مقيدة *** بمنهج الله فهو الشرط والسبب
وإذا بالآخر يقول مع فقره وحاجته: والله لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، وإذا بالأعرج يوم أحد كما في المسند بسند حسن " يقول: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أأمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: نعم. تقول زوجته: لكأني انظر إليه وقد أخذ درقته، وهو يقول: اللهم لا تردني حتى أطأ بعرجتي هذه الجنة صحيحًا، وقاتل حتى قتل، فمر عليه –صلى الله عليه وسلم- فقال: لكأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة إيهٍ إيهٍ !!
ليرفعها في حضيض التراب *** إلى الأفق الأرحب الأكرم
وإذا بالآخر في <القادسية>، يبارز مجوسيًا، فيقتل المجوسي ويعينه الله -عز وجل- عليه، لكنه -رحمه الله- يصاب في بطنه، فتنتثر أمعاؤه، ويمر به رجل من المسلمين فيقول: أعنِّي على بطني، فأدخل له أمعاءه في بطنه، ثم أخذ بصفاق بطنه يزحف إلى أعداء الله على هذا الحال، فيدركه الموت على ثلاثين ذراعًا من مصرعه، وهو يقول:
أرجو بها من ربنا ثوابًا *** قد كنت ممن أحسن الضرابا
ثم فاضت نفسه رحمه الله.
يعانقون ضباها وهي هاوية *** كأنما الطعن في لبَّاتهم قُبَلُ
إنه الإيمان، بلسم الحياة.
وإذا بالزوج يتوعد زوجته حين غضب عليها، فيقول: والله لأشقينك ولأتعسنك، فتقول حين خالط الإيمان بشاشة قلبها في هدوء: والله لا تستطيع أن تشقيني كما أنك لا تملك أن تسعدني لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني، أو في زينة وحلي لحرمتنيها، لكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون، قال: وما هو؟ قالت: سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي وعملي، وقلبي في يدي ربي لا سلطان لأحدٍ عليه غير ربي.
هات ما عندك هات معي *** الإيمان يهديني لبحر الظلمات
بلسم الإيمان ينجي *** مركبي والموج عاتي
هل ترى الإعصار يومًا *** هزَّ شُمًّا راسيات
كلاَّ . وإذا بالآخر يقول: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل له: وما أطيب ما فيها ؟! قال: محبة الله، معرفته وذكره، والله -الذي لا إله إلا هو- لأهل الليل في ليلهم مع الله ألذُّ من أهل اللهو في لهوِهم. وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طربًا حتى أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم، إنهم لفي عيش طيب.
عباد الله، هذه أقوال ومواقف، أَطَلْت فيها لأنني أعايش فيها شيئًا لا أراه في نفسي ولا فيمن حولي، أرى أنهم يتذوقون طعمًا لم نتذوقه، ويولعون بشيء لم نعشقه، إنه الإيمان، بلسم الحياة
أقف وأتساءل من الأعماق، هل هذا الإيمان الذي نعيشه هو الإيمان الذي عاشوه وأحبوه ؟! هل البلاء في الأشخاص أم في الزمان أم في الإيمان؟ إن الإيمان هو الإيمان أيها المؤمنون، والزمان هو الزمان، والأجساد هي الأجساد لم يتغير شيء، لكن الذي اختل فقط هو العلاقة بين الشخص والإيمان، إنهما لم يلتقيا بعد اللقاء الحقيقي !.(/3)
أما والله لو التقى الأشخاص مع الإيمان لقاءً حقيقيًا لا شعارًا، لقاءً عميقًا في تشبث واعتزاز، لكان ما كان مما قد سمعتموه، لذة لا يعدلها لذة، وحلاوة لا ينعم من لم يذقها، كيف؟ إنه الإيمان، بلسم الحياة، وأس الفضائل ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وسند العزم في الشداد، وبلسم العبر عند المصائب، وعماد الرضا والقناعة بالحظوط، ونور الأمل في الصدور وسكن النفوس، وعزاء القلوب إذا أوحشتها الخطوب، والعروة الوثقى عند حلول الموت بسكراته العظمي.
المؤمن في كل أحواله وأعماله الصالحة، مثل أم موسى -عليه السلام-، ترضع ولدها وتطفئ بذلك ظمأ نفسها وشغف قلبها، وتأخذ على ذلك أجرًا، فكذلك المؤمن يسعد بإيمانه في الدنيا وبثواب إيمانه في الآخرة، وذلك فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
فهل زلزلت أنفس جامدات *** فهبت لتغسل أوحالها .
الفرد بغير إيمان، ريشة في مهب الريح، لا تستقر على حال ولا تسكن إلى قرار، الفرد بلا إيمان ليس له امتداد ولا جذور، لا يعرف حقيقة نفسه ولا سر وجوده، لا يدرى من ألبسه ثوب الحياة؟ ولماذا ألبسه إياه؟ ولماذا ينتزعه منه بعد حين؟
النفس بلا إيمان مضطربة، حائرة، متبرمة، قلقة، تائهة، خائفة كسفينة تتقاذفها الريح في ثبج البحر وأمواجه، الفرد بلا إيمان حيوان شَرِهٌ فاتك لا تُحدُّ شراهته، ولا تُقلَّم أظفاره، سئم حديده، فعجم عوده، وحطَّم قيوده، وأصغر الحشرات وأشرس الضواري -كما يقول صاحب قصة الإيمان-.
البهائم تجوع كما نجوع، لكنها في سلامة من همِّ الرزق وخوف الفقر وكرب الحاجة وذل السؤال.
البهائم تلد كما نلد، وتفقد أولادها كما نفقد، لكنها في راحة من هلع المَثْكَلة وجزع الميتمة، وهمِّ اليتامى والمستضعفين والمضطهدين والمظلومين. البهائم تتلذذ كما نتلذذ، وتَأْلَم كما نأْلَم، لكنها في راحة مما يأكل القلوب ويُقرِّح الجفون، ويقض المضاجع، ويقطع الأرحام، ويفرق الشَّمل، ويخرب البيوت من مهلكات كالحسد والكذب والنميمة والفرية والقذف والخيانة والنفاق والعقوق ونكران الجميل.
البهائم تُعرف بنوع من الإدراك أعطاها الله إياه ما يضرها وما ينفعها لكنها في سلامة من أعباء التكاليف، وثقل الأوزار، ومضض الشك، وعذاب الضمير، وهمِّ السؤال بين يدي الحكيم الخبير.
البهائم تمرض كما نمرض، وتموت كما نموت، لكنها في راحة من التفكير في عقبى المرض، وفراق الأحباب بعد الممات، وسكرات الموت ومصير ما وراء القبور من حشرٍ ونشور.
يبقى هذا الإنسان الضعيف الهلوع الجزوع، المطماع المختال الفخور المتكبر المترف، شقيًا تعيسًا، سيئ الحظ، عظيم البلاء، منحط الرُّتبة، بائس المصير حين يكون تفكيره بلا إيمان، ولا غرابة
فمن يزرع الريح في أرضه *** فلا بد أن يحصد الزوبعة .
ولا والله -الذي لا إله إلا هو- إنه لا علاج لشقائه إلا بالإيمان، يقويه، يعزِّيه، يسلِّيه، يمنِّيه، يرضيه، يُحْييه حياة طيبة على الحقيقة، يعلو يقينه، ينفسح صدره، تعظم سعادته، وحين يفقد ذلك يشقى، يضيق عليه صدره، يأسى، يحزن، يكتئب؛ فيتداوى بالداء، يلجأ إلى المخدرات والانتحار، ظنًا منه أنه يتخلص من الشقاء، وإنما هو في الحقيقية يتغلب من شقاء الدنيا إن لم يعفُ الله عنه إلى شقاء الآخرة، ومن عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة، إن لم يتداركه ربه برحمة منه وَمَنٍّ، نسأل الله العافية.
اسمع معي عبد الله، لهذا الشاب التائب كما أورد ذلك صاحب طريق السعادة بتصرف، قال الشاب التائب:
مرَّ عشرون عامًا من عمري وأنا في ظلام دامس، أتخبط خبط عشواء، لا أحس للدنيا طعمًا، مالي كثير، أخلائي كثير، في نفسي جوعة، في صدري ضيق، ماذا يشبع تلك الجوعة؟ ماذا يشرح ذلك الضيق؟ معازف لم تشرح صدري بل معها الجوعة ازدادت، والضيق ازداد، بَدَّلت أخلائي،، بدّلت أفلامي، سافرت عدت، سهرت كثيرًا، شربت كثيرًا، لهوت كثيرًا، تعبت، الجوعة تزداد والضيق كذلك (حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) أحسست كأني مسجون في دنياي، وأن الأرض برحابتها لا تسعني، فكرت طويلا وطويلا، وأخيرًا ظهر الحل الآن أشعر بالراحة –كما أزعم حينها-، أخذت سكينًا وقلت: هذه سكيني بيدي تلمع باسمة راضية عن هذا الحل، الناس هجوع، الأهل نيام، السكون عام، أقول –في نفسي-: لم يبق سوى لحظات وأعيش ساعات الراحة كما أزعم، وفي تلك اللحظات سكيني في يدي تقترب من قلبي الميت، أريد أن أنتحر، أريد أن أتخلص من هذا الشقاء، وإذا بصوت يشق عنان السماء، يقطع الصمت، يدوي في الكون، ترتج به المدينة.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر ……
نداء صلاة الفجر، ويْحها من قلوبٍ لا تجيبه ما أتعسها! ما أشقاها!، سقطت السكين من يدي عند سماع الصوت، وسرى في جسدي ما قد سرى، تحرك قلبي الميت على ذلك الصوت، استيقظت بعد طول سبات، ويح نفسي ماذا جدّ ؟ أغريب هذا الصوت؟ عشرون خريفًا تسمعه، أما أحسست معناه إلا الآن ؟(/4)
أجبت هذا الصوت، وجئت بالماء أهريقه على وجهي وجسدي المرهق؛ فيطفئ لظى الشقاء، ويعيد الهدوء إلى نفسي شيئًا فشيئًا، خرجت متجهًا نحو المسجد لأول مرة من عشرين عامًا، الكون مخيف بهدوئه، لا صوت يعلو، لا ضوضاء، دخلت مع إقامة صلاة الفجر، وقفت في الصف مع الناس، صنف من الناس لم أعهده في حياتي.
وجوه يشع منها النور، نفوس طيبة مرتاحة، تقدم من بينهم الإمام، وأقبل يحث على تسوية الصفوف، كبر وزلزل كياني تكبيره، شرعت أصلي خلفه نفسي هادئة، صدري منشرح، يقرأ الآيات وأنصت في تلك اللحظات، بكلام لم أسمعه منذ سنوات وسنوات.
(وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَليْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ)
تتسابق مني العَبَرَات، أحسست بملوحتها في فمي، شعرت بلسعاتها، أجهشت ببكاء صادق، صنع في صدري أزيزًا كأزيز المرجل، انهال الدمع غزيرًا، سال على خدي، سقى أرضًا مجدبة في قلب ميت، فأحيا بكلام الله موت فؤادي وبمعية ذلك الغيث صوت الرعد، رعد الرحمة، صوت نحيبي وبكائي من خشية الله رب العالمين، بعد إعراض دام عشرين، فالحمد لله رب العالمين، فالحمد لله رب العالمين.
يا أيها الشاب، ويا ذا الشيبة، والله إن طريق المسجد طريق السعادة، والله ما عرفها من لم يعرف تلك الطريق، إن رسول الهدى -صلوات الله وسلامه عليه- حين تضيق عليه الأرض وما تضيق، وتشتد عليه الخطوب يقول: أرحنا بها يا بلال، أرحنا بها يا بلال، فاتصل بالله. ما خاب فؤاد لاذ بالله وما خاب منيب،
فيا عزيز المرام أين الحضيض؟ في الذرى، شتان ما بين الثريا والثرى،
كيف تعيش في مستنقع آسن ودرك هابط وعندك مرتع زاكٍ ومرتقى عالٍ، شتان بين من ذاق برد اليقين ومن ذاق ضنك الإعراض عن رب العالمين، لا يستوي الليل والنهار، ولا ظلمة وضياء، ولا الأحياء ولا الأموات، قال الله:
(أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ منْهَا) كلا والله.
قال شيخ الإسلام وتلميذه -رحمهما الله-: إن القلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يُسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحده، ومحبته والإنابة إليه، فلو حصل على كل ما يتلذذ به المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي، واضطرار وحاجة إلى ربه معبوده محبوبه مطلوبه بالفطرة، لا يسعد ولا يطمئن ولا يَقِرُّ إلا بالإيمان بالله رب العالمين، فمن قرَّت عينه بالله قرَّت به كل عين، ومن لم تقِر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، وإنما يصدِّق هذا من في قلبه حياة . فوا أسفاه، وواحسرتاه، كيف ينقضي الزمان وينفد العمر، والقلب محجوب، ما شم لهذا البلسم رائحة؟ وخرج من الدنيا كما دخل فيها وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزًا، وموته كمدًا، ومعاده حسرة وأسفًا، اللهم فلك الحمد وإليك المشتكي، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك .
فيا أيها الذين آمَنوا آمِنوا، ويا من أعرضوا أقبلوا تسعدوا.
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا من ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
اللهم ارزقنا إيمانًا نجد حلاوته، وقلوبًا خاشعة، وألسنة ذاكرة، وأعينًا من خشيتك مدرارة، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا خاتم النبيين.
صلى عليه الله ما جنَّ الدُّجى *** وما جَرَتْ في فَلَكٍ شمس الضحى(/5)
أما بعد، فيا عباد الله: إن الشواهد في القلوب لتشهد بأن السعادة في الطاعة والإقبال على الله، شواهد تشهد بها النفوس المؤمنة، والقلوب السليمة والفِطَر المستقيمة، هذا الباب باب شريف، وقصر منيف لا يدخله إلا النفوس الأبية التي لا ترضى بالدون، ولا تبيع الأدنى بالأعلى بيع الخاسر المغبون، فإن كنت أهلا لذلك فادخل، وإلا فردّ الباب وارجع والسلام. عبد الله كم أطعت الله فوجدت حلاوة في قلبك، وانشراحًا في صدرك، وإقبالا على الله -عز وجل- ربك، وأنسًا وفرحًا بقربه منك؟ كم وُفِّقت إلى قيام ليلة، أو صيام يوم، أو إلى إصلاح بين الناس، أو صدقة على مسكين؛ فوجدت أثر ذلك بقلبك سعادة وانشراحًا؟ لاشك أنك لن تجد من حلاوة الإيمان ما وجده صحابي من الصحابة، ولكن كلٌ بحسبه، هذا -والله- شاهد قوي على أن طريق السعادة هو طريق الطاعة لا غير.
من عاش في كنف الإيمان كان له *** أمنًا عاش رَضِيَّ النفس مغتبطًا
عبد الله كم عصيت الله فوجدت ضيقًا في صدرك، وشقاءً في قلبك، ووحشة بينك وبين الله ربك، ووحشة بينك وبين عباد الله الصالحين؟ كم أطلقت بصرك فيما حرم الله، وتكلمت فيما لا يعنيك؛ فوجدت غِب ذلك ضيقًا ونكدًا، وتعاسة وشقاءً؟ كيف بمن يقارف الكبائر والفواحش، وينتقل من معصية إلى معصية دون استغفار أو توبة، لا شك أنه في ضيق وشقاء وعَنَتٍ وعناء.
المسألة باختصار -أيها المؤمنون- أن من أطاع الله قرَّبه وأدناه؛ فأنس به وسعد واستغنى، ومن عصي الله طرده وأبعده بقدر ذنبه فاستوحش وشقي وافتقر.
أترجو مواهب نعمائه *** وأنت إلى صف أعدائه
كلاّ. فلا تشتغل بما ضمنه الله لك، واقبل على الله تجده غفورًا رحيمًا، وتسعد سعدًا عظيمًا.
قال الإمام [ابن القيم] -رحمه الله- في كلام قيم ما ملخصه: فرِّغ خاطرك للهمِّ بما أمرت به، ولا تشغله بما ضُمِنَ لك، فما دام الأجل باقيًا كان الرفق آتيًا، وإذا سد الله عليك بحكمته طريقًا من طرقه فتح لك برحمته طريقًا أنفع لك منه وأكمل، فتأمل حال الجنين يأتيه غذاؤه؛ وهو الدم من طريق واحدٍ وهو السُّرة، فلما خرج من بطن أمه وانقطعت تلك الطريق، فتح الله له طريقين اثنين؛ أعني الثديين وأجرى له فيهما رزقًا أطيب وألذ من الأول؛ لبنًا خالصًا سائغًا، فإذا تمت مدة الرضاع وانقطع الطريقان بالفطام، فتح طرقًا أربعًا أكمل منها، هما طعامان وشرابان؛ فالطعامان من حيوان ونبات؛ والشرابان من مياه وألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ، فإذا مات وانقطعت عنه هذه الطرق الأربع، فتح الله له إن كان سعيدًا طرقًا ثمانية؛ هي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، نسأل الله من فضله.
فالله لا يمنع عبده المؤمن شيئًا من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع، وليس ذلك لغير المؤمن، إن الله يمنعه الحظ الأدنى الخسيس ليعطيه الأعلى النفيس، والعبد لجهله بمصالح نفسه وكرم ربه ورحمته لا يعرف التفاوت بين ما مُنع منه وما ادخر له، بل هو مولع بحب العاجل، وإن كان دنيئًا وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان عليًا، ولو أنصف العبدُ ربه وأنَّى له بذلك، لعلم أن فضله عليه فيما منعه في الدنيا ولذاتها أعظم من فضله عليه فيما آتاه منها. فما منعه إلا ليعطيه، وما ابتلاه إلا ليعافيه، وما امتحنه إلا ليصافيه، ولا أماته إلا ليحييه، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب للقدوم عليه، ويسلك الطرق الموصلة إليه (وجَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) وأبى الظالمون إلا كفورًا والله المستعان.
أيها المؤمنون، إن الحديد إذا لم يستعمل غَشِيه الصدأ حتى يفسده، فكذلك القلب، إذا عُطِّل عن الإيمان بالله وحبه وذكره والإقبال عليه بالعمل الصالح غلبه الجهل والهوى والران حتى يميته ويهلكه؛ فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، مربادًا أسود كالكوز مجخيًا .
فيا أيها المؤمنون، ويا شباب الأمة –خاصة- الإيمان بلسم الحياة؛ فسيروا في ركابه تسعدوا.
سيروا فإن لكم خيلا ومضمارًا *** وفجروا الصخر ريحانًا ونوَّارًا
سيروا على بركات الله وانطلقوا *** فنحن نُرْهِف آذانًا وأبصارًا
وذكرونا بأيام لنا سلفت *** فقد نسينا شرحبيلا وعمارًا
وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمرتم بالصلاة والسلام عليه (إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، وألف بين قلوبهم، وأَصِلْ ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.(/6)
اللهم كن للمستضعفين، اللهم انصر المسلمين على عدوك وعدوهم، اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين ، اللهم فرِّجْ همَّهم، ونفِّسْ كُربهم. اللهم كن للمستضعفين والمظلومين والمضطهدين، اللهم فرج همهم ونفس كربهم وارفع درجاتهم، واخلفهم في أهلهم،
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(/7)
بناء المجتمع المدني
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:-
لقد أرسل الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الجاهلية والشرك إلى التوحيد، ومن عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة الواحد الديان {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} الأحزاب: 45-46. فامتثل الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ربه عز وجل، وقام ودعا إلى الله بكل ما يستطيع ودخل أناس في دين الله؛ لكن رؤوس قريش وسادتها وزعماءها، حاولوا إطفاء هذا النور، وحاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه بشتى أنواع المحاربة من تعذيب وإيذاء وقتل وحبس واستهزاء وسخرية...الخ
فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن نصح أصحابه بالفرار من مكة إلى الحبشة فراراً بدينهم وعقيدتهم، واشتد الإيذاء له من كفار قريش حتى وصل بهم الأمر أن اجمعوا على قتله صلى الله عليه وسلم.
فأمره ربه عز وجل أن يهاجر من مكة إلى يثرب، طيبة الطيبة، بعد أن هيئ عليه الصلاة والسلام بيعة مع من أسلم منهم، والدعوة إلى الله تحتاج إلى نوع من الاطمئنان،وجو هادئ حتى يستطيع الداعي أن يعلم أتباعه، ويربيهم، ويغرس فيهم الإيمان بالله تبارك وتعالى، فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة على المدينة وقريش كلها تطلبه ولكن الله تعالى نجاه منهم ومن كيدهم وشرهم، وما هي إلا أيام وإذا به يصل إلى يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم واستقبله أهلها بالفرح والبشاشة وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يرسي قواعد الدولة الإسلامية، وبدأ يؤسس المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة وقبل أن الكلام عن أسس بناء المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة هذه بعض فضائل المدينة المنورة.
روى البخاري ومسلم وأحمد ومالك: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال:(أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب، وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد).
قال ابن حجر: قوله (أمرت بقرية) أي أمرني ربي بالهجرة إليها وأسكنها، وقوله (تأكل القرى) أي: وهي المدينة أي تغلبهم. ومعناه: أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكاد تكون عدماً.
وقوله (يقولون: يثرب كراهية تسمية المدينة بيثرب وقالوا: ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين. وروى أحمد من حديث البراء بن عازب رفعه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدينة يثرب.
قوله: تنفي الناس: أي الشرار منهم. قال عياض: وكان هذا مختص بزمنه لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه بها إلا من ثبت إيمانه. وقال النووي: ليس هذا بظاهر لأن عند مسلم (لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد) وهذا والله أعلم من الدجال.انتهى1.
ومن فضائل المدينة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرمها كما حرم الخليل إبراهيم مكة المكرمة وحدد حرمها فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث، من أحدث حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين2) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حرم ما بين لابتي المدينة على لساني3).
ولقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم طابة كما في حديث أبي حميد قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك حتى أشرفنا على المدينة فقال:(هذه طابة4) قال ابن حجر –رحمه الله-: طابة أي من أسمائها إذ ليس في الحديث أنها لا تسمى بغير ذلك، والطاب والطيب لغتان بمعنى، واشتقاقهما من الشيء الطيب،وقيل لطهارة تربتها، وقيل لطيب ساكنيها، وقيل من طيب العيش بها، وقال بعض أهل العلم: وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية5.
والإيمان يأرز إلى المدينة فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجره6). قال الحافظ في الفتح: أي أنها كما تنتشر من جحرها في طلب ما تعيش به فإذا راعها شيء رجعت إلى حجرها كذلك الإيمان انتشر في المدينة، وكل مؤمن له من نفسه سائق إلى المدينة لمحبته في النبي صلى الله عليه وسلم فيشمل ذلك جميع الأزمنة؛ لأنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للتعلم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم للاقتداء بهديهم، ومن بعد ذلك لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم والصلاة في مسجده ومشاهدة آثاره وآثار أصحابه7.(/1)
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أراد الكيد لأهل المدينة فإنه يهلك فعن سعد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (لا يكيد أهل المدينة أحد إلا أنماع كما ينماع الملح في الماء) قال الحافظ: قوله (باب إثم من كاد أهل المدينة) أي أراد بأهلها سواءً، والكيد المكر والحيلة في المساءة وقوله (أنماع) أي ذاب، وفي صحيح مسلم (ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء) والمدينة النبوية المباركة معصومة من الدجال والطاغوت ببركته صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (على أنقاب المدينة ملائكة يحرسونها لا يدخلها الطاغوت،ولا الدجال) رواه الشيخان8. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس من نقب من أنقابها إلا عليه ملائكة صافين يحرسونها، فينزل السبخة، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق) متفق عليه.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان) رواه البخاري. وعن تميم الداري رضي الله عنه في حديثه الطويل في رؤية الدجال في اليقظة، أن الدجال قال:يوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، هما محرمتان عليّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتاً،يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذه طيبة، هذه طيبة)يعني: المدينة. رواه مسلم.
والأحاديث أكثر من أن تحصر في فضائل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي في كتابه النفيس فضائل المدينة المنورة ما يربو على مائة من خصائص المدينة المنورة فليرجع إليه.
وبعد أن ذكر نبذة يسيرة عن فضائل المدينة، لا بد لنا من معرفة تاريخ المدينة قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إليها.
قال ابن النجار في كتابه الدرة الثمينة في تاريخ المدينة: قال أهل السير: كان أول من نزل المدينة بعد غرق قوم نوح، قوم يقال لهم صعل وفالج فغزاهم داود النبي عليه السلام فأخذ منهم مائة ألف عذراء قال: وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا، فقبورهم هذه التي في السهل والجبل. قالوا: وكانت العمالييق قد انتشروا في البلاد فسكنوا مكة والمدينة والحجاز كله، وعتوا عتواً كبيراً فبعث إليهم موسى عليه وعلى نبينا السلام جنداً من بني إسرائيل فقتلوهم بالحجاز وأفنوهم. قال: وإنما كان سكن اليهود بلاد الحجاز أن موسى عليه السلام لما أظهره الله على فرعون وأهلكه وجنوده وطن الشام وأهلك من بها وبعث بعثاً من اليهود إلى الحجاز وأمرهم ألا يستبقوا من العماليق أحداً بلغ الحلم فقدموا عليهم فقتلوهم وقتلوا ملكهم....) وأصابوا أبناً له شاب من أحسن الناس فضنوا به على القتل وقالوا: نستحييه حتى نقدم به على موسى فيرى فيه رأيه، فأقبلوا وهو معهم وقبض الله موسى قبل قدومهم. فلما سمع الناس بقدومهم تلقوهم فسألوهم عن أمرهم فأخبروهم بفتح الله عليهم، وقالوا: لم نستبق منهم أحداً إلا هذا الفتى، فإننا لم نر شاباً أحسن منه فاستبقيناه حتى نقدم به على موسى فيرى فيه رأيه، فقالت لهم بنو إسرائيل: إن هذه المعصية لمخالفتكم نبيكم، لا والله لا تدخلوا علينا بلادنا، فحالوا بينهم وبين الشام. فقال الجيش: ما بلد إذا منعتم بلدكم خير من البلد الذي خرجتم منه. قال: وكانت الحجاز أكثر بلاد الله شجراً وأطهره ماءً.
قالوا: وكان هذا أول سكنى اليهود الحجاز بعد العماليق. وهم يجدون في التوراة أن نبياً يهاجر من العرب إلى بلد فيه نخل بين حرتين فأقبلوا من الشام يطلبون صفة البلد، فنزل طائفة تيماء وتوطنوا نخلاً، ومضى طائفة فلما رأوا خيبر ظنوا أنها البلدة التي يهاجر إليها. فأقام بعضهم بها ومضى أكثرهم فلما رأوا يثرب سبخة وحرة ونخلاً قالوا: هذا البلد الذي يكون له مهاجر النبي إليها فنزلوه. ونزل جمهورهم مكان يقال له يثرب مجتمع السيول. وخرجت قريظة وإخوانهم بنو هذل وعمرو فنزلوا بالعلية على مهروز.
قال عبد العزيز بن عمران: وقد نزل المدينة قبل الأوس والخزرج أحياء العرب منهم أهل التهمة تفرقوا جانب بلقيز إلى المدينة فأبرت الآبار والمزارع وقالوا: وكان بالمدينة قرى وأسواق من يهود بني إسرائيل، وكان قد نزلها عليهم أحياء من العرب فكانوا معهم وابتنوا الآطام والمنازل قبل نزول الأوس والخزرج. وهم بنو أنيف حي من بلى،وبنو مريد حين من بلى وبنو معاوية بن الحارث، وبنو الجذما حي من اليمن.
فلم نزل اليهود العالية بها الظاهرة عليها حتى كان من سيل العرم ما كان وقص الله في كتابه9.(/2)
فلما غضب الله على أهل سبأ. عندما قالوا: {ربنا باعد بين أسفارنا}سبأ19، وأذن في هلاكهم، دخل عمرو ابن عامر فنضر جرذاً تنقل أولادها من بطن الوادي إلى أعلى الجبل فقال: ما نقلت هذه أولادها من هاهنا إلا وقد حضر أهل هذه البلاد عذاب، فخرقت ذلك العرم فنقبت نقباً، فسال الماء من ذلك النقب، وفي رواية أنه قال: أي قوم إن العذاب قد أظلكم، وزوال أمركم قد دنا فمن أراد منكم داراً جديداً..... إلى أن قال ومن أراد منكم الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل المقيمات في الضحل فليلحق بيثرب ذات النخل، فأطاعه قومه فخرج منهم إلى عمان وخرج بعضهم إلى بصرى، وخرجت الأوس والخزرج وبنو كعب بن عمرو إلى يثرب، فلما كانوا ببطن مر قال بنو كعب: هذا مكان صالح لا نبغي به بديلاً، فلذلك سموا خزاعة لأنهم انخزعوا عن أصحابهم، وأقبلت الأوس والخزرج حتى نزلوا بيثرب10. ولما قدمت الأوس والخزرج المدينة تفرقوا في عاليتها وسافلتها، ومنهم من نزل مع بني إسرائيل في قراهم، ومنهم من نزل وحده لا مع بني إسرائيل ولا مع العرب الذين كانوا تألفوا بني إسرائيل، وكانت الثروة في بني إسرائيل ولهم القرى وعمروا بها الآطام. فمكثت الأوس والخزرج ما شاء الله، ثم سألوا اليهود في أن يعقدوا بينهم جواراً وحلفاً يأمن بعضهم بعضاً. ويمتنعون به ممن سواهم، فتحالفوا وتعاقدوا فلم يزالوا كذلك زماناً طويلاً، وأمدت الأوس الخزرج (أي كثر عددهم) وصار لهم مال وعدد، فخافت قريظة والنضير أن يغلبوهم على دورهم، فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف فأقاموا خائفين أن تجليهم اليهود، حتى نجم أي ظهر منهم مالك بن العجلان وسيده الحيان الأوس والخزرج، وكان ملك اليهود الفطيون شرط ألا تدخل امرأة على زوجها حتى تدخل عليه، فلما سكن الأوس والخزرج المدينة أراد أن يسير فيهم بذلك. فتزوجت أخت مالك بن العجلان رجلاً من بني سالم، فأرسل الفطيون رسولاً في ذلك، وكان مالك غائباً، فخرجت أخته في طلبه، فمرت به في قوم، فنادته فقال: لقد جئت بسبة، تناديني ولا تستحي فقالت: الذي يراد بي أكبر، فأخبرته، فقال: أكفيك ذلك فقالت: وكيف ؟ فقال: أتزين بزي النساء وأدخل معك عليه بالسيف فأقتله ففعل. ثم خرج حتى قدم الشام على أبي جبيلة، وكان نزلها حين نزلوا هم بالمدينة، فجيش جيشاً عظيماً، وأقبل كأنه يريد اليمن، واختفى معهم مالك بن العجلان، فنزل بذي حُرُض، فأرسل إلى الأوس والخزرج فوصلهم، ثم أرسل إلى بني إسرائيل: من أراد حباء الملك أي عطاياه، فليخرج إليه، مخافة أن يتحضروا فلا يقدر عليهم، فخرج إليه أشرافهم فأمر لهم بطعام حتى اجتمعوا فقتلهم فصار الأوس والخزرج أعز أهل المدينة11.
وتفرقت الأوس والخزرج كما ذكرنا ذلك في عالية المدينة وسافلتها وبعضهم جاء إلى عفا من الأرض لا ساكن فيه فنزله. ومنهم من لجأ إلى قرية من قراها واتخذوا الأموال والأحكام فكان ما ابتنوا من الآطام مائة وسبعة وعشرين أطماً، وأقاموا كلمتهم وأمرهم مجتمع. ثم دخلت بينهم حروب عظام وكانت لهم أيام ومواطن وأشعار12 ولعل وراء ذلك اليهود. فلم تزل الحروب بينهم إلى أن بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأكرمهم باتباعه.
وإلى هنا ينتهي الدرس وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين،،،،،،،،،،،،،،،
________________________________________
1 - فتح الباري 4/104-105.
2 - البخاري مع الفتح 4/97، برقم 1867.
3 - البخاري برقم 1869.
4 - البخاري رقم 1880 ، ومسلم برقم 1380.
5 - البخاري مع الفتح 4/106.
6 - البخاري برقم 1876.
7 - فتح الباري 4/112.
8 - البخاري برقم 1880 ،ومسلم برقم 1380.
9 - انظر الدرر الثمينة 35-39.
10 - ذكره الصالحي في فضائل المدينة وعزاه المحقق إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة رضي الله عنه.
11 - وفاء الوفاء للشمهوري 1/178.
12 - الدرة الثمينة في تاريخ المدينة 42.(/3)
بناء المساجد بالدوائر والعمارات الشاهقة
الحمد لله على إحسانه, والشكر له على توفيقه وامتنانه, والصلاة والسلام على عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه, وعلى آله وأصحابه وإخوانه, والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الحديث هنا -بإذن الله- سيكون عن بناء المساجد في بنايات تضم عددًا كبيراً من الرجال، قد يفوق تعداد سكان الحي الواحد، كموظفي الدوائر الحكومية والأهلية، وسكان العمارات الشاهقة والضخمة، والسؤال هو: ما حكم تخصيص مكان معين منها ليكون مسجداً؟
وللجواب عن هذا التساؤل نقول:
اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- في مسألة جعل المكان مسجداً وفوقه أو تحته بناء، أو فوقه وتحته معاً بناء على أربعة أقوال:-
القول الأول: يجوز أن يبنى المسجد وفوقه أو تحته بناء، أو فوقه وتحته معاً بناء. قال به أبو يوسف صاحب أبي حنيفة, وابن قدامة صاحب المغني-رحمهم الله- 1.
القول الثاني: يجوز أن يبنى فوق المسجد بناء، ولا يكون تحته بناء, وروي عن أبي حنيفة في رواية عنه2, وهي رواية عن الإمام أحمد3.
قال أحمد: "كان ابن مسعود يكره أن يصلي في المسجد الذي بني على قنطرة" ا.ه4.
القول الثالث: إذا كان البناء تحت المسجد، والمسجد ليس فوقه بناء صح ذلك.عكس القول الثاني روي عن أبي حنيفة في رواية عنه، وذهب إليها بعض أصحابه, وبهذا قال مالك, وهو رواية عن الإمام أحمد 5.
القول الرابع: لا يصح أن يبنى مسجد فوقه بناء أو تحته بناء عكس القول الأول. قال بهذا بعض الأحناف, وابن حزم6.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بأنه يجوز بيع البناء الذي تحته بناء أو فوقه بناء، كالشقق في العمارات؛ ولأن وقفه تصرف يزيل الملك إلى من يثبت له حق الاستقرار بالشراء، ويجوز تمليك منفعته بالأجرة ونحوه7.
واستدل أصحاب القول الثاني: بأن المسجد إذا كان في قرار الأرض يتأبد، فلا يتغير، بخلاف العلو8.
واستدل أصحاب القول الثالث بأن المسجد إذا كان فوقه بناء، فإنه يهان، قال في المدونة : "وسألت مالكا عن المسجد يبنيه الرجل، ويبني فوقه بيتا يرتفق به . قال : ما يعجبني ذلك ، وقد كان عمر بن عبد العزيز إمام هدى ، وقد كان يبيت فوق ظهر المسجد - مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلا تقربه فيه امرأة ، وهذا إذا بنى فوقه صار مسكنا ، يجامع فيه ويأكل فيه"9.
واستدل أصحاب القول الرابع بأن الهواء لا يُتَملّك ؛لأنه لا يضبط, ولا يستقر، ولا يكون منفكاً عن حقوق العباد، والمسجد حق لله -تعالى- قال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (18) سورة الجن. وأن له أن يهدمه؟ إذ لا يحل منعه من ملكه، وهدم المسجد لا يجوز، فلا يكون مسجد10.
والراجح الجواز مطلقاً، سواء كان تحته أو فوقه بنايات وهذا ما لا يعلم دليل على خلافه، إلا مجرد تعليلات لا يرد بها الأصل في الجواز.. وهذا هو المعمول به في زماننا..
قال الخضيري: "لا أعلم دليلاً قطعياً من الشرع، ولا ظنياً يمنع من بناء المسجد وتحته أو فوقه بناء، وما أورده العلماء الكرام -رحمهم الله تعالى- إنما هي تعليلات لا دليل عليها، وأما انفكاكه عن الاختصاص فهو راجع للعرف، وهذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة, وفي زمننا هذا إقامة المساجد بالعمائر الضخمة أمر تدعو إليه الحاجة، وهكذا في المصانع والدوائر الحكومية التي في العمائر الكبيرة، وأما إن أمكن الاستقلال ببناء المسجد فهو أولى وأفضل، وإن لم يمكن فيجوز بناء المسجد وفوقه أو تحته بناء. قال: وأقترح تكليف أصحاب العمائر الضخمة بتخصيص جزء في أسفل العمارة يكون مسجداً يصلي فيه المسلمون، حتى يستفيد منه كل من حول العمارة من أصحاب الحوانيت أو المشاة أو نحوهم، ويكون في جهة بارزة ليعرفه الناس" أ ه11.
والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم,
والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 هو: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خنيس بن سعد بن بجير بن حسنة الأنصاري، صاحب أبي حنيفة ، روى عنه ، وعن عطاء بن السائب، وعبيد الله بن عمر. تولى القضاء في بغداد للمهدي والهادي والرشيد، كان صدوقاً، وثقه النسائي، وأخذ عنه: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، ومحمد بن الحسن الشيباني، وله آراء استقل بها عن صاحبه, ولد سنة 113هـ، وتوفي سنة 182 هـ. انظر: أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية - (ج 1 / 6) نقلاً عن: أخبار القضاة ( 2/10-107)، وميزان الاعتدال (4/397)، ووفيات الأعيان لابن خلكان ( 3/334). وشرح فتح القدير لابن الهمام ( 5 / 444 ). والمغني لابن قدامة ( 5 / 607 ).
2 انظر: أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية، للخضيري -(ج 1 / 6) نقلاً عن: شرح فتح القدير (5 /445).
3 المرجع السابق نقلاً عن: الفروع لابن مفلح ( 4 / 637 ), والإنصاف ( 7/102).(/1)
4 القنطرة: هي جسر يبنى بالآجر أو بالحجارة على الماء يعبر عليه، وقيل: القنطرة: ما ارتفع من البنيان, ويشبهها الساباط, وهو: سقيفة بن حائطين تحتها طريق. انظر: لسان العرب ( 5 / 118)، وتاج العروس - (1/ 3428).
5 أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية (1/6) نقلاً عن: الورع لأحمد ( ص26 ), حاشية ابن عابدين (4/358), المدونة الكبرى ( 1/108), الفروع لابن مفلح (4/637).
6 المصدر السابق، نقلاً عن: حاشية ابن عابدين (4/358)، (1/657), المحلى لابن حزم ( 4 / 248).
7 المصدر السابق، نقلاً عن: المغني ( 5 / 607 ) ، والمجموع شرح المهذب -تكملة المطيعي رحمه الله-(14/222).
8 المصدر السابق، نقلاً عن:شرح فتح القدير لابن الهمام ( 5/445).
9 انظر: المدونة –للإمام مالك –رحمه الله- (1/262).
10 المصدر السابق، نقلاً عن: المحلى لابن حزم ( 4 / 248 ـ 249 ).
11 أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية – لإبراهيم بن صالح الخضيري –أثابه الله- (ج 1 / ص 8).(/2)
بناء المسجد في الطريق
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
أما بعد:
إن الطرق في عصرنا هذا من جهة الخطورة الناتجة عن السير فيها نوعان:-
النوع الأول: طرق سريعة خاصة بالسيارات، لا يسمح للمشاة تجاوزها، لشدة سرعة السيارات فيها، فهذه -وإن كانت فسيحة- إلا أن بناء المساجد فيها وفي الجزر التي في وسطه لا ينبغي؛ لما فيه من الخطورة العظيمة الناتجة عن تجاوز المصلين إلى المسجد؛ ولما فيه من الإزعاج بسبب أصوات السيارات, وربما أوقف بعض الناس سياراتهم للصلاة في الطريق، فيحصل بسبب وقوفهم خطر، لكن لو بني المسجد في فسحة على أحد جانبي الطريق وعمل نفق يوصل من الجانب الثاني إليه بأمان وطمأنينة فهذا أمر طيب ومرغوب فيه.
النوع الثاني: طرق للسيارات أو للمشاة داخلية يحصل الخطر فيها بسبب من يتلاعب بقيادة السيارات أو الدراجات، ويحصل أذىً للمسلمين بسبب استغلال الطريق وهو ضيق, فبناء المسجد فيه لا يجوز؛ لأنه حق مشاع للاستطراق، فلا يوضع فيه ما يعرقله.
ودليل هذا ما روي عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إياكم والجلوس بالطرقات. قالوا: يا رسول الله: ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه) . قالوا: وما حقه؟ قال: (غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)1.
وجه الدلالة من الحديث: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الجلوس بالطرقات، وأمر من كان لا بد جالساً أن يكف أذاه، وبناء المسجد في الطريق الضيق أذى؛ لأن أهل الطريق يتضررون، فلا يحل أذاهم بنص الحديث؛ ولأن الطريق حق مشاع لجميع المسلمين، فلا يحل أذاهم باقتطاع جزء منه وهم كارهون.
وأما إذا لم يكن ثمةَ أذىً، بأن كان أهل الطريق لا يتضررون من بناء المسجد فيه، بل ربما استفادوا منه، فحينئذ بناء المسجد في الطريق جائز, ودليل هذا قول البخاري -رحمه الله تعالى-:
"باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس" . ثم ساق بسنده عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طرفي النهار بكرة وعشية، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره, فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين)2
وجه الدلالة من هذا الخبر أن أبا بكر بنى مسجداً في جانب الطريق لا يضر بأحد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد اطلع عليه وأقره؛ فدل ذلك على جوازه؛ إذ لا ضرر على الناس منه. وقيل: لا يجوز بناء مسجد في الطريق، وقيل: إن بناه لنفسه فلا يجوز، وإن بناه للناس جاز3 وقيل: إن بناه لنفسه لصلاة النوافل أو للناس ولا ضرر على أحد منه جاز؛ لأنه لا يبنيه للتملك، وإنما يبنيه للصلاة، والصلاة في الطريق جائزة4, ودليل هذا أن إبراهيم بن يزيد التيمي قال: «كنت أقرأ القرآن على أبي في السدة5، فإذا قرأت السجدة سجد، فقلت له: يا أبت: أتسجد في الطريق؟ قال: إني سمعت أبا ذر –رضي الله عنه- يقول : سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أول مسجد وضع في الأرض، قال: "المسجد الحرام", قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى" ثم الأرض لك مسجداً، فحيثما أدركتك الصلاة فصلِّ»6.
وأما جعل الطريق يمر من تحت المسجد فقد كره ذلك الإمام أحمد وقال: "كان ابن مسعود يكره أن يصلي في المسجد الذي بني على قنطرة"7
وأصل هذه المسألة أن طريق المسلمين لا يبنى فيه مسجد ولا غيره عند الإمام أحمد, وهواء الطريق حكمه عنده حكم أسفله، فلا يجوز عنده إحداث ساباط على الطريق، ولا البناء عليه, والنهر الذي تجري فيه السفن حكمه عنده كحكم الطريق، لا يجوز البناء عليه, ورخص آخرون في بناء المساجد في الطريق الواسع، إذا لم يضر بالمارة.
ومنهم من اشترط لذلك إذن الإمام، وحكي رواية عن أحمد –أيضاً-.
قال الشالنجي: سألت أحمد: هل يبنى على خندق مدينة المسلمين مسجد للمسلمين عامة؟
قال: لا بأس بذلك إذا لم يضيق الطريق8.
والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين9
________________________________________
1 رواه البخاري -5761- (ج 19 / ص 239)و مسلم -4021- (ج 11 / ص 124)وانظر:شرح النووي على مسلم -3960- (ج 7 / ص 235).
2 رواه البخاري -456- (ج 2 / ص 284).
3 (1) انظر: المجموع شرح المهذب تكملة المطيعي ـ رحمه الله ـ ( 17 / 384 )، وكشاف القناع للبهوتي ( 2 / 368 )الشرح الكبير لابن قدامة - (ج 1 / ص 481).
4 أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية للخضيري - (ج 1 / ص 9).(/1)
5 السدة بالضم: باب الدار ، وقيل: أمام باب الدار . والسدة في كلام العرب : الفناء ، وقيل : كالصفة تكون بين يدي البيت ، والظلة تكون بباب الدار ، وسدة المسجد الأعظم ما حوله من الرواق انظر: لسان العرب - (ج 3 / ص 207), تاج العروس - (ج 1 / ص 2027).
6 رواه البخاري -3172- (ج 11 / ص 237).ومسلم -809- (ج 3 / ص 106).
7 فتح الباري لابن رجب - (ج 3 / ص 113) فتح الباري لابن رجب - (ج 3 / ص 113).
8 انظر: المرجع السابق.
9 راجع: كتاب أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية - (ج 1 / ص 9).(/2)
بوابة النصر
الحمد لله القوي الجبار، المتين القهار، والصلاة والسلام على سيِّد الأنبياء الأخيار، وعلى آله وصحبه الأطهار، ومن تبعهم من الصالحين الأبرار، أما بعد،،،
في ظلام الليل الذي يعقبه نور الصباح.. وفي نزول القطر بعد إقفار الأرض.. وفي أحوال كثيرات..وبما في تضاعيف التأريخ المُشْرِق لهذه الأمة من بواعث النصر، ومُحْييات التمكين؛ نزداد يقيناً، واقتناعاً بما في أُفق الدنيا من لوائح المبشرات، وحينها ؛ نعم في ذلك الحين ينبثق نور بوابة النصر..فَيَلِجُ منها من ذاق مرارة السطوة الظالمة، ويدخل منها من تفطرت كبده قهراً على تكالب سُرَّاق المشاعر، فإلى أولئك أقول: عليكم بما في ثنايا الموضوع فإنها أعمدة تلك البوابة، وعليكم باغتنام سويعات النصر فإن الفجر لاح، وحذار من مُغْلِقَاتِ البوابة فهي كثيرة محبوبة .
أولاً: أعمدة النصر:
1- الإيمان بالله والنصر: قال تعالى:{...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[47]}[سورة الروم]. وقال تعالى:{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...[51]}[سورة غافر].
في هاتين الآيتين قضى الله أن نصره وتأييده إنما هولعباده المؤمنين.. نعم؛ إن النصر، والتمكين حقٌ لكل مؤمن بالله، لكل من عَمَرَ قلبه بالإيمان الصادق، والإسلام الخالص، والانقياد التام لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إن تحلي العباد بالإيمان بالله برهان كبير على أنهم هم المنصورون، وأنهم هم الجند الغالبون:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[173]}[سورة الصافات].
وكما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[56]}[سورة المائدة].
فمتى أتى المؤمنون بإيمان تام كامل؛ كان لهم نصر تام كامل، وإن أتوا بإيمان دون الكمال، وقاصر عن التمام؛ فإن النصر لهم بحسب ذلك .
وحين نلحظ تأريخنا الحافل بالانتصارات الخالدة التي أقضت مضاجع أهل الكفر، وأذناب الضلال، والتي أقرَّت عيون أهل الإيمان والتوحيد؛ نجد أن أغلبها راجع إلى الإيمان قوة وضعفاً:
فهذا يوم الفرقان، يوم بدر: نصر الله عباده المؤمنين نصرًا أصبح شجى في حلوق المشركين زماناً، وكان من أعمدة النصر في تلك الغزاة أن قَوِيَتْ قلوب المؤمنين إيماناً بالله تعالى.
وفي التأريخ المشرق لهذه الأمة المنصورة، والمُخَلَّدَة إلى قيام الساعة صورٌ كثيرة جداً لوقائع نصر مبين للمؤمنين .
فهذا عمود من أعمدة النصر على الأمة أن تأتي به إن كانت تطمح بالنصر، وترمق بعين الشوق إلى التمكين في الأرض، أما إن كانت تريد نصراً بلا إيمان فما هي وطالب السمك في الصحراء إلا سواء .
إن الله أخبرنا بأنه حافظ دينه فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[9]}[سورة الحجر]. وأخبر أن البقاء لدينه فقال:{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوكَرِهَ الْكَافِرُونَ[8]}[سورة الصف]. وهل نور الله تعالى إلا الإيمان والدين، ونصرته له نصرة لعباده القائمين بهذا الدين، والمُتَحَلِّيْنَ بهذا الإيمان . فلا مجال حينئذٍ لمداهمة اليأس قلوبَ الصالحين، بل الدربُ مستنير، وواضح لا يعمى إلا على عُمْيِ القلوب والأبصار .
فالله تعالى وَعَدَ ووعْدُهُ حق وصدق ولابد لذلك الوعد من يوم يتحقق فيه الوفاء، وليس الوفاء فحسب بل تمام الوفاء وكماله، وهوقريب إذ وَعْدُ الكريم لا يقبل المماطلات، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد .
فما هوإلا الصبر القليل، والاستعانة بالله، والتوكل عليه، وأساس ذاك كله اليقين بموعود الله، والحذر من تسرُّب الشك في موعوده .
2- العبودية لله والنصر:
قال تعالى :{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]}[سورة الصافات]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105]}[سورة الأنبياء]. ففي هذا النص القرآني عمود من أعمدة النصر، الذي يَمُنُّ به الرب على من تعبَّد له حق التعبُّد. واَلْحَظْ بتمعُّنٍ وتدبر:{ لِعِبَادِنَا} و{ عِبَادِيَ} تجد في ثناياها خالص التجرد بالعبودية لله، فلما جردوا التعبد لله وأخلصوه له؛ فلم يجعلوا في قلوبهم ميلاً-و لو قليلاً- لغيره أثابهم منه فتحاً ونصراً وتمكيناً .
ولذا نرى أن الأمة قد يَتَخَلَّفُ عنها النصر بسبب تعلُّقها بغير الله، وهذا من صُوَر صرف التعبُّد لغير الله، فلا عجبَ أن تخلَّف النصر عنّا، وحلَّت الهزيمة بنا، فما استنكف أحد عن التذلل لله، واتبع نفسَه ذليلة غير الله إلا زاده الله وهناً وخسارة .(/1)
وللعبودية في ساعات الشدة أثر بالغ في قرب الفرج، وبُدُو أمارات النصر:
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَه أمرٌ فزَعَ إلى الصلاة، وجعل خير العبادة ما كان في زمن الهَرْجِ.
وحاله يوم بدر أكبر شاهد على ذلك؛ فقد جأر بالدعاء، واشتدَّ تضرُّعُه لربه وتذلله بين يديه، سائله أن يُعَجِّلَ بنصره الذي وَعَدَه إياه .
وهذه هي التي يُسْتَجْلَبُ بها نصر الله، وبدونها؛ وحين تخلُّفها وعدم الإتيان بما أراده الله؛ فهيهات أن ينصر من أعرض عن دينه، ولم يتبع هداه الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، واتبع ما أجلب به الكفار من حياة قِوَامُها على الرذيلة، والمعصية، بل ترك الشريعة كلها .
فعمود النصر التجرد لله بالعبودية؛ التي هي: تمام الذل له، وكمال المحبة له، ومنتهى الانقياد والاستسلام لدينه وشرعه. فمتى قامت الأمة بالتعبُّد لله والتذلل بين يديه؛ أضاء لها نور النصر واضحًا جليًا، تبصره قلوب الصالحين من أولياء الله العابدين، وتعمى عنه بل تُحرَمُه قلوب وأبصار من تعبَّد لغير الله . وكلما كان تعبُّد الأمة لله أتم كان نصر الله لها أكمل وأقرب .
3- نُصْرَةُ الله والنصر: قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ...[7]}[سورة محمد]. نصر الله حليفُ قومٍ ينصرون الله ودينه، ويرفعون راية شريعته شامخة في أُفقِ العلياء .
أما من يخذل شريعته حين ضعفها؛ فليس له من نصر الله شيء. وما انتصر من انتصر من الصالحين إلا بسبب ما قاموا به من نصرةٍ لدين الله وشريعته . فمن قام ناصراً بلده، أو قومه، أو مبدأه ومذهبه المخالف لدين الله؛ فهو مخذول .
ومن قام ناصراً- ولو وَحْدَه-ُ دين الله؛ فهو المنصور لا غيره، وهو المؤيد لا سواه، وهو الموعود بالتمكين .
فلتقم الأمةُ الطالبةُ نَصْرَ الله بنصرة دين الله، وإعلائه على الأديان كما أعلاه الله، حتى تنال موعود الله لها بالنصر، والتمكين في الأرض .
ومن نُصْرَة الله تعالى:
1- تحقيق الولاء والبراء.. فلا مداهنة في دين الله، ومحاباة لمخلوق أيَّاً كان، فدين الله فَرَّقَ بين المسلم والكافر، ولو كانا في القرابة بالمكان الذي لا يفرَّق بينهما فيه .
2- تطهير الأرض من المنكرات والموبقات ؛ التي ما فتيء أصحابها يجاهرون بها مطلع النهار ومغربه، ويحاربون الله ليل نهار.
3- القيام حمايةً لدين الله من أن يَمَسَّه دَنِيٌّ بسوء، أو أن يَقْصِدَه سافل بنقيصة .
4- حراسة محارم الله وحفظها من أن يتعرَّض لها من سلبه الله العفاف والحشمة .
فمن قام بنُصْرَة الله ودينه؛ حَظِيَ بالنصر من الله، وظَفِرَ بالغلبة على عدوِّه .
4- النصر من الله تعالى: قال تعالى:{...وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ...[13]}[سورة آل عمران]. وقال:{...وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...[126]}[سورة آل عمران]. وقال:{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ[150] }[سورة آل عمران]. وقال:{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ...[160]}[سورة آل عمران].
فالنصر مِنْ الله ، وهو المانُّ به على عباده المؤمنين، فلا قُدُرَاتِهم، ولا عُدَدِهم جالبة لهم نصراً على عدوهم، ولا اعتداد بكل أسلحة المؤمنين إذا لم يُرِد الله لهم نصراً على عدوهم .
فلو كان النصر آتياً بقوى العباد؛ لما غلب المسلمون الضعفاء ظاهرًا أُمَمَ الكفر التي ملكت من آلات القتال ما الله به عليم . فمتى رجيَ المؤمنون النصر من غير الله فيا خيبتهم، ويا شؤم حالهم .
وحين ترى أحوال المسلمين في المعارك التي انهزموا بها ترى أن من أهم الأسباب: تعلُّقُ النفوس في طلب النصر بغير الله، ولنعتبر بغزوة حنين، فإن الهزيمة التي حصلت لهم إنما هي بسبب اغترارهم بقوة أنفسهم حيث قالوا:'لن نغلب اليوم من قِلَّة'.
قال ابن القيِّم رحمه الله في سرَدِه الفوائدَ المأخوذةَ من تلك الغزوة:'واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعُددهم، وقوة شوكتهم، …، وليبيِّن سبحانه لمن قال:'لن نغلب اليوم من قلَّة' أن النصر إنما هو من عنده، وأنه من ينصره فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتكم فلم تغنِ عنكم شيئاً، فوليتم مدبرين'[زاد المعاد [ 3/477]].
وهذا الذي حصل إنما هو من طائفة عُمِرَتْ قلوبهم بالتوكل على الله، والتعلُّق به، لكن لما انصرف القلب انصرافاً قليلاً عن الله؛ عُوقبوا بما ذكر الله بقوله:{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا...[25]}[سورة التوبة]. فكيف الحال بمن بعدهم ممن انصرفت قلوبهم لغير الله انصرافًا كُلِّيًا، والله المستعان؟!(/2)
ثانيًا:مبشرات النصر:
1- البشارة بظهور الدين: قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[33]}[سورة التوبة]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105]}[سورة الأنبياء]. وقال تعالى:{ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[21]}[سورة المجادلة].
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ]رواه أحمد.
فهذه نصوص قاطعة بأن الغالب هو دين الله، والواعد بذلك هو الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ والله لا يخلف الميعاد؛ فكيف إذا كان الميعاد نَصْر دينه، فمهما طال مُقامُ الكافر، ومهما استطال شرُّه وضرُّه، ومهما كِيْدَ بالمسلمين، ومهما نُّكِّلَ بهم؛ فإن الغلبة لدين الله، وَعْدَاً من الله حقاً وصدقاً.. وهذا سيحدث لا محالة، فلا نستعجلَّنَّ الأمور، ولا نسابق الأحداث .
2- الطائفة الظاهرة: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ]رواه البخاري ومسلم. فهذه الطائفة قائمة إلى قيام الساعة، والنصرة لهم، والتأييد الإلهي معهم، وهذه الفرقة المنصورة من بواعث الأمل في نصرة الدين، ومن بشائر الرفعة لدين الله، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى أنها دائمة وموجودة إلى قيام الساعة .
ولكنه ضعف اليقين بموعود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتعلُّق القلوب بالماديَّات والظواهر، وأساس ذلك كله ضعف الإيمان بالغيبيات التي هي أصل الإيمان.
فهل يجوز بعد هذا أن ييأس المسلمون من اكتناف نصر الله تعالى لعباده المؤمنين؟! وهل يجوز أن تُعَظَّمَ قوة الكفر وجبروته؟! وهل يجوز لنا أن نتخاذل عن البذل لدين الله.. ولو بأقلِّ القليل؟! وهل يجوز أن نعتقد خطأً أن هذه الطائفة لن تقوم، أو أنها قامت ولن تعود؟! أسئلة تفتقر إلى أجوبة فعلية لا قولية .
3- الوعد الإلهي الحق: قال تعالى:{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...[55]}[سورة النور]. وهذا الوعد قد تحقق في زمانه صلى الله عليه وسلم، وسيتحقق بعده حتى قيام الساعة،
فمتى توافرت الأوصاف التي ذكرها الله في هذه الآية في قوم؛ كانوا أحق بالتمكين من غيرهم مهما كانوا .
فحتى نظفر بالتمكين من الله لنعقد العزم على تطبيق شريعته في أحوال الناس اليومية، والسياسية، والاجتماعية .
عندها سننال النصر من الله بكل تأكيد ويقين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
4- المدينتان المُنْتَظَرَتان: قَالَ أَبُو قَبِيلٍ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي وَسُئِلَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حَلَقٌ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا- يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ-] رواه أحمد والدارمي.
ومما يزيد في البشارة أن هذه المدينة قد فتحت على يد السلطان محمد الفاتح العثماني التركماني ؛ ولكن ليس هو الفتح المذكور في الأحاديث؛ لأن الفتح الذي في الأحاديث يكون بعد الملحمة الكبرى، وقبل خروج الدجال بيسير. [انظر: اتحاف الجماعة للتويجري [ 1/404 ]].
ولفتح القسطنطينية الفتح الحق علامة واردة في أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، معروفة مشهورة، وهي :(/3)
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ- ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ الَّذِي حَدَّثَهُ أَوْ مَنْكِبِهِ ثُمَّ قَالَ- إِنَّ هَذَا لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا أَوْ كَمَا أَنَّكَ قَاعِدٌ- يَعْنِي مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ-]رواه أبوداود وأحمد.
فإذا كان أن الفتح الذي حصل على يد محمد الفاتح ليس هوالفتح الوارد في الحديث فإنا لعلى يقين بقرب فتحين عظيمين لمدينتين كبيرتين، وهذا قريب، ووَعْدُ الله نافذ، ومُتحقق بإذنه تعالى .
5- المعركة الفاصلة: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ]رواه البخاري ومسلم. وهذه المعركة هي الفاصلة بين المسلمين واليهود، وهي التي يُظْهِر فيها الله عباده المؤمنين، وينصرهم على اليهود بعدما ذاقوا منهم الأذى والنكال . ولم تأتِ بعد هذه المعركة وإنا على انتظارها، وهي آتيةٌ لا محالة إن شاء الله .
6-محمد المنتظر: مما ثبت في السنة، واعتقده السلف الصالح، ودانوا لله به: ثبوت المهدي، وأنه سيخرج في آخر الزمان .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي] رواه أبوداود والترمذي وأحمد. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا لَا يَعُدُّهُ عَدَدًا]رواه مسلم.
وأخباره متواترة تواتراً لا يعتريه شك .
وفي خروجه يكثر الخير، قال ابن كثير رحمه الله:'في زمانه تكون الثمار كثيرة، والزروع غزيرة، والمال وافر والسلطان قاهر، والدين قائم، والعدو راغم، والخير في أيامه دائم' [النهاية في الفتن والملاحم [1/31 ]].
فهذا المهدي [ محمد بن عبد الله ] المنتظر لم يخرج بعدُ، وبخروجه يقوم الدين، ويرتفع الحق، ويخمد الباطل، وتتبدد كل قوة علت من قوى الباطل، وكل ما هو آت قريب، فصبر جميل.
ثالثًا:ساعات النصر:
1- اليأس والنصر: قال تعالى:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]}[سورة البقرة].
وقال تعالى:{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ[110]}[سورة يوسف]. فهذه صورة يَحِلُّ فيها اليأس على قلب العبد، ويُخَيِّم القنوط على نفوس الصالحين،
وإنها لصورة من أشد الصور، وأخطرها على نفوس المسلمين، فالنصر ينزل على العباد 'عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه'[تفسير ابن كثير [ 2/497 ]]. و'إنها لساعة رهيبة، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل،وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود، وتمرُّ الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا القليل، وتكرُّ الأعوام والباطل في قوته، وكثرة أهله، والمؤمنون في عُدَّتِهم القليلة، وقوتهم الضئيلة'[ في ظلال القرآن [ 4/2035].
وإنا والله لنفرح بمثل هذه الساعة-لا لذاتها معاذ الله- ولكن لما فيها من بشائر النصر القريب، وأمارات ظهور الفجر الواعد ..نعم.. إنها ساعة فيها يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلَّق بها الناس، وسنة الله أن في مثل هذه الظروف التي يفقد المؤمنون فيها صبرهم، وتتكالب عليهم الشدائد من كل حَدْبٍ وصوب، وينالهم من أهل الشر والباطل كل أذى وسُخرية من ضعف قوتهم، وهوانهم على الناس؛ يلمح المؤمنون نور النصر يلوح، وشمسه تشرق في تمام الوضوح، فيزول عن القلب ما خَيَّمَ عليه من حُجُب وشوائب، وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم فيها تبيان لهذا.. فاعتبرها .(/4)
2- المظلوم والنصر: الظلم شيمة من ابتلاه الله بالكبر والغطرسة، ومن هذا شأنه كان حريَّاً بأن يناله من الله عقاب لتقرَّ عين المظلوم بنكاية الله بالظالم، ونكاله به، فجعل الله دعوة المظلوم تسلك طريقها في السماء، وتكفل الله بنصرها ولو بعد حين، ووَعْدُ الله حق، وهذه بشارة عُظمى، إن نصر الله قريب، هذا كله في عموم الناس المسلم والكافر، فكيف إذا كان المظلوم أمة مسلمة لله، والظالم لها كافر لا يؤمن بالله رباً، ولا بمحمد نبياً، ولا بالإسلام ديناً، فأقول إن الأمر غاية في اليقين أن نصر الله قريب جداً .
وهذه ساعة من أهم ساعات الانتصار والغلبة أن يتمكن العدو من المسلمين، ويتحزبون عليهم من كل جانب من فوقهم، ومن تحتهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم..{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ[39]}[سورة الحج]. فما على المؤمنين حال تلك الساعة إلا الجأر بالدعاء، والابتهال والتضرع بين يدي الله أن يُعجِّل بنصرهم، وأن يَخْذِل عدوَّهم[ ويُحِلَّ عليهم غضبه وسخطه..وموعود الله قريب للمظلوم، والويل للظالم من عقاب الله .
رابعًا:حُجُبُ النَّصْرِ:
1-حجاب الكفر:قال الله:{ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ[56]}[سورة آل عمران]. وقال تعالى:{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ...[12]}[سورة آل عمران]. وقال تعالى:{ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ[44]سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[45]}[سورة القمر]. هذه آيات أنزلها الله في كتابه قضى فيها أن الكفر لن يغلب الإسلام مهما كانت له من القوى، ومهما ملك من العُدَد والعَدَد، ولقد صدق الله وَعْدَه، فنصر عبده، وأعز جُنْدَه، وهزم الأحزاب وَحْدَه.. فمهما قامت حروب ومعارك بين المسلمين والكفار؛ فإن الغالب هم المسلمون، والهزيمة لاحقة بالكفار ؛ وعد صادق من الله.. الكافرون سينفقون ما لديهم من أموال ورجال في حروب طاحنة مع المسلمين، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يُغْلَبُوْن على أيدي المسلمين .
وإن انتصر الكفار على المسلمين فهو نصر مؤقَّتٌ لا يدوم؛ وهيهات له أن يدوم، والله قد كتب الغلبة لدينه ورسله وأوليائه الصالحين، والله لا يؤيد بنصره أُمة قامت على كفر به، وصد عن سبيله .
2- حجاب الظلم:قال تعالى:{...وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[270]}[سورة البقرة]. وقال تعالى:{...وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ[8]}[سورة الشورى]. نعم ؛ إن الله لا ينصر الظالم على المظلوم بل اقتضت حكمته أنه ينصر المظلوم على الظالم مهما كان المظلوم والظالم .
وما أكثر الظلم في المسلمين؛ والذي بسببه حُرِمْنا النصر على أعدائنا، فالظلم يمنع النصر كما في هذه الآيات وكما في حديث دعوة المظلوم وأنه ليس بينها وبين الله حجاب، والله تعالى قد وعد بأنه سينصرها ولوبعد حين .
فمتى طُهِّرَت الأمة من الظلم بجميع أنواعه وصوره؛ فإن نصر الله آتٍ، ووعده متحقق سواء في ذلك قرب الزمن أو بعده .
3- حجاب النفاق: قال الله تعالى:{...إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا[145]}[سورة النساء]. بيَّن الله في هذه الآية أن نصرَه محرومٌ منه كل منافق دخيل في صفوف المسلمين، بل محروم منه كل من قرَّب المنافقين وأنالهم منه مكاناً مرموقاً، وجاهاً رفيعاً..إن النفاق ما وُجِدَ في قوم إلا أحلَّهم دار البوار، ومنعهم الخير والنصر، وما وُجِدَ المنافقون في أرض إلا مَكَّنُوا منها العدو على المسلمين، وأذلُّوا الصالحين من عباد الله.
فإذا ما طهُرَت الأرض، وسَلِمَت الأمة من هؤلاء 'المتلونين' استحقت النصر من الله على عدوها، وكان لها الظفر بالعدو.
وما مُنِعَ المسلمون النصر يوماً قط إلا بسبب ما كان منهم من تقريب لهؤلاء المنافقين، وحبٍّ لهم، ومجالسة معهم، وتمام وُدٍّ لهم.. إن النفاق في هذه الأزمان قد طال ريشه بين المسلمين، ودام مُقامُه بينهم، ونال أهلُه من المسلمين كل ما يريدونه، بل نال الصالحين المُبيِّنين حالهم وضلالهم الأذى منهم ومن أسيادهم. وحين تلتفت الأمة إلى هؤلاء المجرمين، وتبدأ بهم، وتنكِّل بهم؛ تنعم بعد ذلك بنصر من الله مؤزَّرٌ، وبإيفاء الله وعده لهم .
خاتمة البوابة:
في ختام الولوج من هذه البوابة العريقة..وفي نهاية المرور بها..آمل أن أكون قد وُفِّقْتُ بوضع النقاط على حروفها، وأن أكون قد بعثت ما مات من آمالٍ كبار في نفوس قومي، وأسأل الله تعالى أن يُحيي ما مات من آمالنا، وأن ينصر دينه، وكتابه، وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وعباده الله الصالحين .
من رسالة:'بوابة النصر' للشيخ/ عبد الله بن سليمان العبد الله
مفكرة الإسلام(/5)
بيان بطلان دعوة التقريب بين الفِرَق والأديان
إعداد اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
هل الدعوة للتقارب بين الأديان (الإسلام -
المسيحية - اليهودية) دعوة شرعية، وهل يجوز للمسلم المؤمن حقًا أن يدعو لها
ويعمل على تقويتها، وكذلك هل الدعوة للتقارب بين أهل السنة والجماعة والطوائف
الشيعية والدرزية والإسماعيلية والنصيرية وغيرها فيه فائدة للمسلمين، وهل يجوز
هذا اللقاء والتقارب شرعًا؟!
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله
وصحبه، وبعد:
أولاً: أصول الإيمان التي أنزل اللَّه بها كتبه على رسله التوراة
والإنجيل والزبور والقرآن والتي دعت إليها رسله عليهم الصلاة والسلام إبراهيم
وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والمرسلين كلها واحدة، بَشَّرَ سابقهم بلاحقهم
وصَدَّقَ لاحقهم سابقهم وأيده ونوه بشأنه وإن اختلفت الفروع في الجملة حسب
مقتضيات الأحوال والأزمان ومصلحة العباد حكمة من اللَّه وعدلاً ورحمة منه
سبحانه وفضلاً، قال اللَّه تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه
من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا
سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، وقال
تعالى: والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين
أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله
غفورا رحيما، وقال تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق
النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم
رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال
أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال
فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (81) فمن تولى بعد
ذلك فأولئك هم الفاسقون (82) أفغير دين الله
يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها
وإليه يرجعون، وقال تعالى: قل آمنا بالله وما أنزل
علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من
ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
(84) ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو
في الآخرة من الخاسرين، وقال تعالى بعد ذكره دعوة خليله إبراهيم إلى
التوحيد وذكر من معه من المرسلين: أولئك الذين آتيناهم
الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد
وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين (89) أولئك
الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم
عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين، وقال تعالى:
إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا
النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين، وقال تعالى:
ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا
وما كان من المشركين، وقال: وإذ قال عيسى ابن مريم
يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما
بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي
اسمه أحمد، وقال تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق
مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما
جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
الآيات.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا
والآخرة، الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد». رواه البخاري
ثانيًا:
حرّف اليهود والنصارى الكلم عن مواضعه وبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم فغيروا
بذلك أصول دينهم وشرائع ربهم من ذلك قول اليهود عزير ابن اللَّه وزعمهم أن
اللَّه مسه لغوب وأصابه تعب من خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام
فاستراح يوم السبت، وزعمهم أنهم صلبوا عيسى عليه السلام وقتلوه، ومن ذلك أنهم
أحلوا الصيد يوم السبت بحيلة وقد حرمه اللَّه عليهم وأنهم ألغوا حد الزنا في حق
المحصن ومن ذلك قولهم: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقولهم:
يد الله مغلولة إلى غير ذلك من التحريف والتبديل القولي والعملي عن
علم اتباعًا للهوى، ومن ذلك زعم النصارى أن المسيح عيسى عليه السلام ابن
اللَّه، وأنه إله مع اللَّه، وتصديقهم اليهود في زعمهم أنهم صلبوا عيسى عليه
السلام وقتلوه وزعم كل من الفريقين أنهم أبناء اللَّه وأحباؤه، وكفرهم بمحمد
صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وحقدهم عليه وحسدهم إياه من عند أنفسهم وقد أخذ
عليهم العهد والميثاق أن يؤمنوا به ويصدقوه وينصروه وأقروا على أنفسهم بذلك،
إلى غير ذلك من فضائح الفريقين وتناقضهم، وقد حكى اللَّه الكثير عن كذبهم
وافترائهم وتحريفهم وتبديلهم ما أنزل إليهم من العقائد والشرائع وفضحهم ورد
عليهم في محكم كتابه، قال اللَّه تعالى: فويل للذين يكتبون
الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله
ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت
أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79) وقالوا لن
تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند
الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على
الله ما لا تعلمون الآيات، وقال تعالى: وقالوا لن يدخل
الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل
هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين الآيات.
وقال تعالى: وقالوا
كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم(/1)
حنيفا وما كان من المشركين (135) قولوا آمنا بالله
وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما
أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم
ونحن له مسلمون الآيات، وقال تعالى: وإن منهم لفريقا
يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو
من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند
الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، وقال تعالى:
فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم
الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع
الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (155)
وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (156)
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول
الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن
الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم
إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه
الله إليه وكان الله عزيزا حكيما الآيات، وقال تعالى:
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه
قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق
الآيات، وقال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت
النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم
يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى
يؤفكون (30) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من
دون الله والمسيح ابن مريم الآيات، وقال: ود كثير
من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم
كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم
الحق إلى غير ذلك مما لا ينقضي منه العجب من افترائهم وتناقضهم ومخازيهم
وفضائحهم، والقصد ذكر نماذج من أحوالهم ليبنى عليها الجواب فيما يأتي:
ثالثًا:
مما تقدم يتبين أن أصل الديانات التي شرعها اللَّه لعباده واحد لا يحتاج إلى
تقريب، كما يتبين أن اليهود والنصارى قد حرفوا وبدلوا ما نزل إليهم من ربهم حتى
صارت دياناتهم زورًا وبهتانًا وكفرًا وضلالاً، ومن أجل ذلك أرسل إليهم رسول
اللَّه محمدٌ صلى الله عليه وسلم ولغيرهم من الأمم عامة ليبين لهم ما كانوا يخفون من الحق ويكشف
لهم عما كتموه ويصحح لهم ما أفسدوا من العقائد والأحكام ويهديهم وغيرهم إلى
سواء السبيل، قال اللَّه تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم
رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من
الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب
مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل
السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه
ويهديهم إلى صراط مستقيم، وقال: يا أهل الكتاب قد
جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن
تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير
ونذير والله على كل شيء قدير.
لكنهم صدوا وأعرضوا عنه
بغيًا وعدوانًا وحسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين الحق، قال اللَّه تعالى:
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد
إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما
تبين لهم الحق، وقال: ولما جاءهم كتاب من عند
الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على
الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة
الله على الكافرين الآيات، وقال: ولما جاءهم رسول من
عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين
أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا
يعلمون الآيات، وقال: لم يكن الذين كفروا من أهل
الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة (1)
رسول من الله يتلو صحفا مطهرة الآيات. فكيف يرجو عاقل
يعرف إصرارهم على الباطل وتماديهم في غيهم عن بينة وعلم حسدًا من عند أنفسهم
واتباعًا للهوى - التقارب بينهم وبين المسلمين الصادقين، قال اللَّه تعالى:
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم
يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه
وهم يعلمون الآيات، وقال: إنا أرسلناك بالحق بشيرا
ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم (119) ولن ترضى عنك
اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى
الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك
من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير، وقال سبحانه:
كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا
أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي
القوم الظالمين الآيات، بل هم إن لم يكونوا أشد من إخوانهم المشركين
كفرًا وعداوة لله ورسوله والمؤمنين فهم مثلهم، وقد قال اللَّه تعالى لرسوله في
المشركين: فلا تطع المكذبين (8) ودوا لو تدهن
فيدهنون الآيات، وقال له: قل يا أيها الكافرون (1) لا
أعبد ما تعبدون (2) ولا أنتم عابدون ما أعبد (3) ولا
أنا عابد ما عبدتم (4) ولا أنتم عابدون ما أعبد (5)
لكم دينكم ولي دين.
إن من يحدث نفسه بالجمع أو التقريب بين
الإسلام واليهودية والنصرانية كمن يجهد نفسه في الجمع بين النقيضين بين الحق
والباطل بين الكفر والإيمان، وما مثله إلا كما قيل:
أيها المنكح الثريا
سهيلا
عمرك اللَّه كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
وسهيل إذا استقل
يمان
رابعًا: لو قال قائل: هل يمكن الهدنة بين هؤلاء أو يكون بينهم عقد صلح(/2)
حقنًا للدماء وإتقاء لويلات الحروب وتمكينًا للناس من الضرب في الأرض والكد في
الحياة لكسب الرزق وعمارة الدنيا والدعوة إلى الحق وهداية الخلق إقامة للعدل
بين العالمين، لو قيل ذلك قولاً متجهًا وكان السعي في تحقيقه سعيًا ناجحًا
والقصد إليه قصدًا نبيلاً له مكانه، وعظيم أثره، لكن مع المحافظة على إحقاق
الحق ونصره فلا يكون ذلك على سبيل مداهنة المسلمين للمشركين وتنازلهم عن شيء من
حكم اللَّه أو شيء من كرامتهم وهوانهم على أنفسهم بل مع الإبقاء على عزتهم
والاعتصام بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم عملاً بهدي القرآن واقتداءً بالرسول الكريم
عليه الصلاة والسلام، قال اللَّه تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح
لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم الآيات،
وقال تعالى: فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم
الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم، وقد فسر ذلك
النبي صلى الله عليه وسلم عمليًا وحققه بصلحه مع قريش عام الحديبية ومع اليهود في المدينة قبل
الخندق وفي غزوة خيبر ومع نصارى الروم في غزوة تبوك، فكان لذلك الأثر العظيم
والنتائج الباهرة من الأمن وسلامة النفوس ونصرة الحق والتمكين له في الأرض
ودخول الناس في دين اللَّه أفواجًا، واتجاه الجميع للعمل في الحياة لدينهم
ودنياهم فكان الرخاء والازدهار وقوة السلطان وانتشار الإسلام والسلام، وفي
التاريخ وواقع الحياة أقوى دليل وأصدق شهيد على ذلك لمن أنصف نفسه أو ألقى سمعه
واعتدل مزاجه وتفكيره وبرئ من العصبية والمراء، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب
أو ألقى السمع وهو شهيد، والله الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم
الوكيل.
خامسًا: إن الدروز والنصيرية والإسماعيلية ومن حذا حذوهم من البابية
والبهائية قد تلاعبوا بنصوص الدين وشرعوا لأنفسهم ما لم يأذن به اللَّه وسلكوا
مسلك اليهود والنصارى في التحريف والتبديل اتباعًا للهوى وتقليدًا لزعيم الفتنة
الأول عبد اللَّه بن سبأ الحميري رأس الابتداع والإضلال والإيقاع بين جماعة
المسلمين، وقد عم شره وبلاؤه وافتتن به جماعات كثيرة فكفروا بعد إسلام وتمكنت
بسببه الفرقة بين المسلمين فكانت الدعوة إلى التقارب بين هذه الطوائف وجماعة
المسلمين الصادقين دعوة غير مفيدة وكان السعي في تحقيق اللقاء بينهم وبين
الصادقين من المسلمين سعيًا فاشلاً لأنهم واليهود والنصارى تشابهت قلوبهم في
الزيغ والإلحاد والكفر والضلال والحقد على المسلمين والكيد لهم وإن تنوعت
منازعهم ومشاربهم واختلفت مقاصدهم وأهواؤهم فكان مثلهم في ذلك مثل اليهود
والنصارى مع المسلمين، ولأمر ما سعى جماعة من علماء الأزهر المصريين مع القمي
الإيراني الرافضي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وجدوا في التقارب المزعوم
وانخدع بذلك قلة من كبار العلماء الصادقين ممن طهرت قلوبهم ولم تعركهم الحياة
وأصدروا مجلة سموها مجلة «التقريب» وسرعان ما انكشف أمرهم لمن خدع بهم فباء أمر
جماعة التقريب بالفشل، ولا عجب فالقلوب متباينة والأفكار متضاربة والعقائد
متناقضة وهيهات هيهات أن يجتمع النقيضان أو يتفق الضدان.
والحمد لله رب
العالمين(/3)
بين داود وسليمان عليهما السلام
الحمد لله خلق الأرض والسماوات العلا، الرحمن على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، والصلاة والسلام على خير من وَطِئَتْ قدماه الثرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وبعد:
كانت وقفاتنا السابقة مع داود وسليمان عليهما السلام، تحدثنا عن كلا النبيين الكريمين بشيء من التفصيل واستخلصنا الدروس والفوائد من كل موقف، وفي هذه الحلقة بعون الله تعالى وحوله وطوله نتحدث عن حكومة (قضية) حكم فيها داود وسليمان أشار إليها القرآن الكريم، وأخرى أشارت إليها السنة الصحيحة، وإنما أردنا تلكم الوقفة المستقلة مع هاتين القضيتين لما قد يُساء فهمه للوهلة الأولى، فأردنا وقفة فيها متسع لبسط القول وذكر آراء أهل العلم بما يحفظ لكل ذي فضل فضله، والفضل لله أولاً وآخرًا: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [الجمعة:4]، والآن نشرع فيما أردنا الحديث عنه على النحو التالي:
أولاً: قال تعالى: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79) وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون (80) ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين (81) ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين [الأنبياء: 78- 82].
ومعنى الآيات الكريمة: اذكر- يا رسولنا - لقومك خاصة وللناس كافة قصة داود وسليمان عليهما السلام: إذ يحكمان في الحرث- أي حال كونها يحكمان في الزرع، قيل إنه كان عناقيد تدلت، إذ نفشت فيه غنم القوم أي انتشرت وتفرقت فيه ليلاً بلا راعٍ فرعته وأفسدته.
قال ابن كثير - رحمه الله - عند تفسير هذه الآيات نقلاً عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم، قال كرْم قد أنبتت عناقيده فأفسدته، قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرْم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرْم (العنب) فيصيب منها حتى إذا كان الكرْم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها فذلك قوله: ففهمناها سليمان. اهـ.
وحتى لا يفهم القارئ من العبارة السابقة تقليلاً من شأن داود عليه السلام عقب ربنا سبحانه وتعالى بعدها مباشرة بقوله: وكلا آتينا حكما وعلما، فداود عليه السلام حكم بالعدل وسليمان عليه السلام حكم بالفضل، وقد أثنى الله على حكمه الذي وفقه إليه لأنه يحب الرفق في الأمر كله كما جاء في الصحيحين عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله». ثم استمرت الآيات الكريمة في بيان ما مَنَّ الله سبحانه به على كل من داود وسليمان فقال تعالى: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79) وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون (80) ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين (81) ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين، وقد تناولنا ذلك فيما سبق بما يغني عن إعادته، وخلاصة القول: أن الله سبحانه قد خصَّ كلا من النبيين بما يناسبه من فضل ومنِّة، وإن تميز أحدهما بشيء عن الآخر فليس في ذلك انتقاص من فضل الآخر، وهذا أمر مقرر في الشريعة ولولا خشية الإطالة لأوردنا أدلة كثيرة على ذلك.
يجب ألا ننسى أن سليمان قد ورث داود وهو ابنه وكلما نُسب فضلٌ إلى سليمان عليه السلام فهو فضل لداود عليه السلام.
ثانيًا: القصة الثانية كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام، فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى». قال الإمام النووي- رحمه الله-: «توصل سليمان بطريق من الحيلة والملاطفة إلى معرفة باطن القضية، فأوهمهما أنه يريد قطعه، ليعرف من يشق عليها قطعه، فتكون هي أمه، فلما هان على الكبرى قطعه عرف أنها ليست أمه، ولما قالت الصغرى ما قالت عرف أنها أمه»، ولا شك أن في هذه القصة دليلا على فراسة سليمان عليه السلام وعبقريته في استخراج الحكم بالقرائن والاستدلال بالأمارات.(/1)
ثالثًا: من المقرر في الشريعة أن القاضي إذا اجتهد وأخطأ فله أجر وإن اجتهد وأصاب فله أجران كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر».
[رواه البخاري]
الأنبياء في النهاية بشر كانوا يحكمون فيما يعرض عليهم من قضايا باجتهادهم الخاص وليس بوحي، ومن هنا جاء في الصحيحين عن أم سلمة- رضي الله عنها- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار». فالحاكم مثاب أصاب أو أخطأ، وعلى القاضي أن يجتهد ما استطاع، والفضل أولاً وآخرًا لله يؤتيه من يشاء، ونكتفي بهذا القدر وإلى أن نلتقي أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.(/2)
بين يدي ذكرى الإسراء والمعراج
يبدو أن العالم كله يحتفل هذه الأيام بين يدي ذكرى الإسراء والمعرج، ولكن كل حسب طريقته الخاصة !
أمريكا وحلفاؤها يحتفلون بشن حرب صليبية جديدة باسم القضاء على الإرهاب ! بينما أمريكا هي (الراعي الرسمي) للإرهاب الصهيوني اليومي بحق أهلنا في فلسطين لمحتلة. أمريكا الآن تحتفل بضرب بلد إسلامي وتستمتع بسفك دماء المسلمين. وتستعد أمريكا في الوقت الراهن لتوسيع دائرة المعركة ضد الإرهاب، حيث أعلن وزير الخارجية الأمريكي أن حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين المحتلة حركتان إرهابيتان يتوجب تجفيف منابعهما المالية وملاحقتهما لقيامهما خلال العامين الماضيين بما سماه (هجمات إجرامية وإرهابية على الأبرياء) !!
أوروبا تحتفل وتسارع في تأييد الإرهاب الأمريكي، ولا عزاء للمسلمين.
بعض حكومات الدول الإسلامية سقطت في الشرك الأمريكي خوفا من (العصا) أو طمعا في (الجزرة) ولم تحفل بحكم الإسلام في مساعدة الكافر على المسلم !!
السلطة الفلسطينية تحتفل بشكل آخر فهي الآن تتنازل وتستجيب للضغوط الأمريكية والصهيونية لوقف الانتفاضة والمقاومة ولو باعتقال أبناء الشعب الفلسطيني المجاهد؛ الذي حمل على عاتقه عبء المعركة وقدم في سبيل ذلك الغالي والنفيس، وتعلن في بيان لها صدر مؤخرا بأنها ستتخذ إجراءات حاسمة بحق من يخرق وفق إطلاق النار، وتعتبر مقاومة الاحتلال خدمة لمخطط شارون وخروجا عن المصلحة الوطنية !!
يبدو أن هناك احتفالا من نوع آخر في بعض الدول الإسلامية، حيث وجدت دعوة وزير الخارجية الأمريكي (بوجوب تجفيف منابع المال لحركتي حماس والجهاد) صداها عندهم، فأُقفلت حسابات واستُهدف العمل الخيري في تلك الدول بحملة مشبوهة !!
وفي المقابل (وعلى الرغم من هذه الصورة القاتمة) فإن احتفالات من نوع آخر نراها في العالم الإسلامي، أصحاب هذه الاحتفالات هم :
الفئة المؤمنة التي أبت إلا التمسك بحقوق المسلمين ومقدساتهم، ولو كلفهم ذلك المال والنفس والولد،
فئة آمنت بعزة الأمة الإسلامية، ووثقت بنصر الله عز وجل القائل: (لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) والقائل: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) والقائل: (وما النصر إلا من عند الله) والقائل: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم).
فئة آمنت بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله " .
المجاهدون في فلسطين المحتلة يحتفلون بين يدي ذكرى الإسراء والمعراج بعمليات نوعية جريئة، وبتطوير مستمر لأساليب الجهاد والمقاومة، وبإصرار أكبر على الاستمرار بالمقاومة حتى يستعيد المسلمون حقوقهم في فلسطين المباركة (أرض الإسراء والمعراج).
المجاهدون في أفغانستان يحتفلون بين يدي الذكرى بمزيد من الإصرار واليقين بأن دولة الظلم والاستكبار لا تخيف المؤمن، وأن السنة الربانية تقتضي هزيمة المستكبر الظالم المعتدي.
المسلمون المخلصون في أنحاء العالم يحتفلون أيضا، بمزيد من الوعي والإصرار على دعم المجاهدين في كل مكان، خاصة في فلسطين المباركة، ويعلمون يقينا بأن زكاة أموالهم أحق من تصرف له في هذه الأيام هم المجاهدون المقاتلون في أرض الإسراء والمعراج.
توصيات :
الدعوة لمواجهة حملة أمريكا لتجفيف المنابع المالية لحركتي حماس والجهاد بمزيد من التبرع والعطاء، والتذكير بأهمية الجهاد بالمال.
صلاة الغائب على ضحايا العدوان الأمريكي في أفغانستان والصهيوني في فلسطي(/1)
بين يدي عام هجري جديد ... ...
هيثم جواد الحداد ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- مضي عام يعني طوي سنة من أعمارنا. 2-ضرورة المحاسبة. 3-معنى المحاسبة. 4- أهمية محاسبة النفس. 5-فضل المحاسبة والآثار الواردة في ذلك. 6-كيفية المحاسبة. 7- نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم. 8-التأريخ بالتأريخ الهجري دون الميلادي. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون حق التقوى، فالأعمار تطوى، والآجال تفنى.
قبل أيام ودعنا عامًا هجريًا وبدأنا عامًا آخر، انقضت صفحة من صفحات حياتنا، ولا ندري عما طويناها، هل سودناها بسوء أعمالنا، أم بيضناها بصالح قرباتنا.
المسلم الصالح يا عباد الله، تكون له وقفات دائمة مع نفسه ليحاسبها ويصحح مسيرته ويتدارك خطأه، لاسيما عند انقضاء مرحلة من مراحل عمره.
إن النفس سريعة التقلب، ميالة في كثير من الأحيان إلى الشر، كما قال الله تعالى عنها: إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى [يوسف:53].
ومن هنا كان لزاماً على كل عبدٍ يرجو لقاء ربّه أن يطيل محاسبته لنفسه، وأن يجلس معها جلسات طِوالاً؛ فينظر في كل صفحة من عمره مضت: ماذا أودع فيها.
قال أبو حامد الغزالي: "اعلم أن العبد كما (ينبغي أن) يكون له وقت في أوّل النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم، حرصاً منهم على الدنيا، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته... فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد؟! ما هذه المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك"[1].
أولاً: معنى المحاسبة:
المحاسبة ياعباد الله كما قال الماوردي: "أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في المستقبل"[2] يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "المحاسبة أن يميز العبد بين ماله وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه؛ لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود"[3].
وأما الحارث المحاسبي فقد عرّفها بقوله: "هي التثبّت في جميع الأحوال قبل الفعل والترك من العقد بالضمير، أو الفعل بالجارحة؛ حتى يتبيّن له ما يفعل وما يترك، فإن تبيّن له ما كره الله ـ عز وجل ـ جانبه بعقد ضمير قلبه، وكفّ جوارحه عمّا كرهه الله ـ عز وجل ـ ومَنَع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض، وسارع إلى أدائه"[4].
ثانياً: أهمية محاسبة النفس:
أيها الإخوة المؤمنون: لمحاسبة النفس فوائد كثيرة متعدّدة:
1- فمنها أن غيابها نذير غرق الأمة في لجج من بحار الفساد والتيه المنتهية بنار وقودها الناس والحجارة، وأن الفساد في الدنيا إنما يكون ظاهراً جلياً حينما لا يتوقع المجتمع أو الفرد حساباً، لا يتوقع حساباً من رب قاهر أو من ولي حاكم أو من مجتمع محكوم أو من نفس لوامة، وحينما لا يتوقع المجتمع و الفرد حساباً على تصرفاتهم فإنهم ينطلقون في حركاتهم كما يحبون ويموجون كما يشتهون وكما تهوى أنفسهم فيتقلبون على الحياة ودروبها بلا زمام ولا خطام فيتشبهون بأهل النار من حيث يشعرون أو لا يشعرون إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً [النبأ:27-28].
2- ومنها –يا عباد الله- الاطلاع على عيوب النفس ونقائصها ومثالبها، ومن اطلع على عيوب نفسه، أنزل نفسه المنزلة الحقيقة لا سيما إن جنحت إلى الكبر والتغطرس.وما من شك أنّ معرفة العبد قدر نفسه يورثه تذلّلاً لله وعبودية عظيمة لله عز وجل، فلا يمنّ بعمله مهما عظم، ولا يحتقر ذنبه مهما صغر. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدَّ مقتاً)[5].
3-ومنها أيها الإخوة - أن يتعرّف على حق الله ـ تعالى ـ عليه وعظيم فضله ومنّه؛ وذلك عندما يقارن نعمة الله عليه وتفريطه في جنب الله، فيكون ذلك رادعاً له عن فعل كل مشين وقبيح؛ وعند ذلك يعلم أن النجاة لا تحصل إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، ويتيقّن أنه من حقّه ـ سبحانه ـ أن يطاع فلا يعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر.
4-من فوائد المحاسبة كذلك أنها تزكي النفس وتطهرها وتلزمها أمْر الله ـ تعالى ـ. قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. وقال مالك بن دينار: "رحم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم ذمّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله ـ عز وجل ـ فكان لها قائداً"[6].(/1)
5-أيها المؤمنون: المحاسبة تربّي عند الإنسان الضمير الحي داخل النفس، وتنمّي في الذات الشعور بالمسؤولية ووزن الأعمال والتصرّفات بميزان دقيق هو ميزان الشرع)[7].
6-أيها المسلمون: استمعوا إلى ابن القيم ـ رحمه الله ـ وهو يحذر من إهمال محاسبة النفس فيقول: "أضرّ ما على المكلّف الإهمال وترك المحاسبة، والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتُها؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها"[8].
والنفس كالطفل إن تهمله ش،ب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فاحذر هواها وحاذر أن توليه إن إلهوى ما تولى يعم أو يصم
وراعها وهي في الأعمال سائمة وإن هي استحلت المرعى فلا تسم
كم حسنت لذة للمرء قاتلة من حيث لم يدر أن السم في الدسم
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم
أيها الإخوة: إذا كان أرباب الأعمال وأرباب الدنيا يجعلون المحاسبة والتدقيق والمراجعة من أهم مراحل العملية الإدارية، فبدون هذه المراحل تكون المنشأة عرضة لفشل محقق، فما بالكم بهذا الإنسان المسكين الضعيف الذي يقطع مراحل حياته ليلقى ربه، فإما فوز ونجاة، وإما خسارة وعذاب.
عباد الله: يا من تعيشون في هذه الديار التي علا فيها صوت الشيطان، وأجلب على أهلها بخيله ورجله، نحن في حاجة أكبر لمحاسبة النفس، المعاصي تغزونا حتى في دورنا وبين أهلينا، والغفلة رانت على قلوبنا، وطاعة الله بعيدة عنا.
ثالثاً: فضل المحاسبة والآثار الواردة في ذلك:
أيها المؤمنون: يقول الله تبارك وتعالى ـ: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]. قال صاحب الظّلال: "وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه، ومجرّد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته، ويمدّ ببصره في سطورها كلّها يتأمّلها، وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدّم لغده في هذه الصفحة. وهذا التأمّل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير مهما يكنْ قد أسلف من خير وبذل من جهد؛ فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً ورصيده من البرّ ضئيلاً؟! إنها لمسةٌ لا ينام بعدها القلب أبداً، ولا يكفّ عن النظر والتقليب"[9].
قال الحسن البصري في تفسير قول الله عز وجل: وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:2]. "لا يُلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قُدُماً لا يعاتب نفسه"[10].
ويقول الله ـ عزّ وجلّ ـ في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلّة والتقصير ويرجعون عمّا كانوا عليه: إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201].
قال الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيةٌ [الحاقة:18])[11].
ويصف الحسن البصري المؤمن بقوله: "المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله، وإنّما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنّما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة"[12]. ويقول ميمون بن مهران: "إنه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة شريكه"[13].
رابعاً: كيفية المحاسبة:
فإن قال قائل يا عباد الله: كيف تكون محاسبة النفس؟
فالجواب: محاسبة النفس لها طرائق متعددة، كل يجتهد في الطريقة الأنسب،وهنا نشير إشارات مختصرة.
بين بعض العلماء[14]أن المحاسبة تكون على نوعين:
النوع الأول: محاسبة قبل العمل، وهي: أن يقف عند أوّل همّه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبيّن له رجحانه على تركه.
قال الحسن: "كان أحدهم إذا أراد أن يتصدّق بصدقة تثبّت؛ فإن كانت لله أمضاها، وإن كانت لغيره توقّف"[15]. قيل لنافع بن جبير: ألا تشهد الجنازة؟ فقال: "كما أنت حتى أنوي، ففكر هنيهة، ثم قال: امض"[16].
النوع الثاني من أنواع المحاسبة يا عباد الله: المحاسبة بعد العمل، وهي على أقسام ثلاثة:
أ- محاسبتُها على التقصير في الطاعات في حق الله ـ تعالى ـ وذلك يكون بأن يديم سؤال نفسه: هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فإن كان مقصّراً ـ وأيّنا يسلم من ذلك؟ ـ فليسدّ الخلل بالنوافل فإنها تُرقّع النقص في الفريضة وتربي لدى العبد جانب العبادة، وبالمجاهدة وكثرة اللّوم يخفّ التقصير في الطاعات إلى درجة كبيرة.(/2)
ب – القسم الثاني من المحاسبة بعد العمل محاسبة النفس على معصية ارتكبتها: قال ابن القيم في ذلك: "وبداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته - عز وجل - وجنايتك؛ فحينئذٍ يظهر لك التفاوت، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمتُه أو الهلاكُ والعطب.
وبهذه المقايسة تعلم أنّ الرّب ربّ والعبدَ عبد، ويتبيّن لك حقيقةُ النفس وصفاتُها وعظمةُ جلال الربوبّية وتفرّدُ الربّ بالكمال والإفضال، وأنّ كل نعمة منه فضل وكلّ نقمة منه عدل... فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كلّ شرّ وأساس كلّ نقص وأنّ حدّها: [أنها] الجاهلةُ الظالمةُ، وأنّه لولا فضل الله ورحمتُه بتزكيته لها ما زكت أبداً. ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصولٌ إلى خير البتة؛ فهناك تقول حقاً: أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي"[17].
وبعد أن يحاسب نفسه هذه المحاسبة ويجلس معها هذه الجلسة المطوّلة فإنه ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تلك المعصية، فيتدارك نفسه بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحيةِ والمذهبة للسيئات. قال ـ سبحانه ـ: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذكِرِينَ [هود: 114].
فالبدارَ البدارَ يا عبد الله قبل أن يُختم لك بخاتمة سوء وأنت مُصِرّ على تلك المعصية ولم تتبْ منها. وتذكّر الحشرَ والنّشر وهوْلَ جهنّم وما أعدّه الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد والزقوم والصديد في نارٍ قال فيها رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((إن أهون أهل النار عذاباً رجل انتعل نعلين يغلي منهما دماغه)).
فبذلك السبيل وأشباهه من المحاسبة يكون المرء صادقاً في محاسبته نفسه على ارتكاب المعصية والذنب ـ ومن منّا يسلم من معاقرة الذنوب والخطايا؟! نسأل الله اللطف والتخفيف.
ج - محاسبتها على أمرٍ كان تركُه خيراً من فعله، أو على أمرٍ مباح، ما سبب فعلِه له؟ فيُوجّه لنفسه أسئلة متكرّرة: لِمَ فعلتُ هذا الأمر؟ أليس الخير في تركه؟ وما الفائدة التي جنيتها منه؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي على هذه الشاكلة.
وأمّا المباح فينظر: هل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي؟ أو فعلتُه عادةً وتقليداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة؛ فيكون فعلي له مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجح؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك المباح، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها، أو كان له أثرٌ في قسوة القلب وزيادة الغفلة؛ فكلّ هذه الأسئلة غايةٌ في الأهمية حتى يسير العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور.
أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله: "إنّ المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبُه فيقول: واللهِ إنّي لأشتهيك، وإنّك لمن حاجتي؛ ولكن ـ واللهِ ـ ما من صلةٍ إليك، هيهات!! حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء (يقع في الخطأ) فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ واللهِ ما لي عذرٌ بها، وواللهِ لا أعود لهذا أبداً ـ إن شاء الله ـ.
إن المؤمنين قومٌ أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله ـ عز وجل ـ يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كلّه"[18].
وبالجملة؛ فلا بُدّ للمسلم من دوام محاسبة النفس، ومعاتبتها وتذكيرها كلّما وقعت منها زلّة أو جنحت إلى حطام الدنيا الفاني.
خامساً: نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم:
أيها المؤمنون: سلفنا الصالح ضربوا أروع الأمثلة في محاسبة النفس، مما لو حاولنا أن نستقصيه لطال بنا المقام، ولعجزنا عن ذلك، لأن أولئك القوم ارتبطت قلوبهم بالله؛ فكانوا أجساداً في الأرض وقلوباً في السماء، وما إن يحصل من أحدهم تقصير أو زلّة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على ذلك؛ حتى لا تكاد تأمره نفسه إلا بخير.
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعتُ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول ـ وبيني وبينه جدار ـ: (عمر!! أمير المؤمنين!! بخٍ بخٍ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك) [19].
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: أَتَتْركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟ وضربه بالدرّة، فانصرف الرجل حزيناً، فتذكّر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرّة، وقال له: (اضربني كما ضربتُك) فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك. فقال عمر: (إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل: تركته لله. فانصرف عمر إلى منزله فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: (يا بن الخطاب: كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على دفع الظلم فظلمتَه؟!! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق الناس عليه)[20].(/3)
وقال إبراهيم التيمي: "مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أيّ شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً! قلتُ: فأنتِ في الأمنية فاعملي"[21].
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه: (يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ كذا؟)[22].
ونُقِل عن توبة بن الصّمة: (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم؛ فصرخ وقال: يا ويلتى! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟!!)[23].
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه غفور رحيم.
[1] الإحياء: 4/588
[2] أدب الدنيا والدين (342) [نقلاً عن موسوعة نضرة النعيم، 8/ 3317].
[3] مدارج السالكين، 1/187.
[4] التربية الذاتية من الكتاب والسنة لهاشم علي أحمد (97).
[5] الزهد للإمام أحمد (196).
[6] إغاثة اللهفان لابن القيم (79).
[7] التربية الذاتية (98).
[8] إغاثة اللهفان، (82).
[9] في ظلال القرآن، لسيد قطب، 6/3531.
[10] تفسير البغوي، 4/421، والزهد للإمام أحمد (396).
[11] حلية الأولياء لأبي نعيم، 2/157.
[12] يراجع من المقال في مجلة البيان.
[13] الزهد لوكيع بن الجرّاح تحقيق الفريوائي (501).
[14] وهو الغزالي ـ رحمه الله ـ
[15] مقاصد المكلفين فيما يتعبّد به لربّ العالمين، للدكتور عمر الأشقر (429) (بتصرّف).
[16] جامع العلوم والحكم شرح الحديث الأول.
[17] مدارج السالكين 1/188.
[18] حلية الأولياء 2/157، وذم الهوى (40).
[19] الزهد للإمام أحمد (171).
[20] مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لابن الجوزي، 171.
[21] الزهد للإمام أحمد، 501.
[22] الزهد للإمام أحمد، 336، وذم الهوى، 41.
[23] وتمام القصة ثم خرّ فإذا هو ميّت!! فسمعوا قائلاً يقول: يا لكِ ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى. الإحياء،4/58، والقصة مذكورة في صفة الصفوة لابن الجوزي 4/196. ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
الحمد لله الواصل الحمد بالنعم، والنعم بالشكر، نحمده على آلائه كما نحمده على بلائه، ونستعين به على نفوسنا الأمارة بالسوء، ونستغفره مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه علم غير قاصر وكتاب غير مغادر، خلق الإنسان وبصّره بما في الحياة من خير وشر إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء فقدره تقديرا ً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].
الأمر جد خطير، أيها المؤمنون، استمعوا إلى هذا الحديث: عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّه،ِ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَد))[1].
أيها المؤمنون إلى متى نسبح في بحار الغفلة، ونسير مع رياح الهوى، أليس وراءنا حساباً، أليس وراء الحساب عذاب؟
وباختصار نقول يا عباد الله، ليعاهد كل منا نفسه أن يكون له في كل يوم قبل نومه لحظة حساب، فإن لم يكن ففي شهره، فإن لم يكن ففي سنته، وليس وراء ذلك خوف ولا خير.
ثم هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم تذكرنا بأمر هام إلا وهو التأريخ الهجري، هل تعلمون يا عباد الله أن كثيراً من المسلمين لا يعلمون في أي سنة هجرية نحن، بل إن كثيراً منهم لا يعرفون في أي شهر عربي إسلامي نحن؟(/4)
إن لكل أمة تأريخاً يعتزون به، اليهود يعتزون بدينهم، والصينيون لهم تاريخ، والأقباط لهم تاريخ، كل يعتز بتاريخه ويحافظ عليه، إلا أمة الإسلام، تهاونت في تاريخها، وما ذلك إلا مظهر من مظاهر انسلاخها من دينها وتاريخها، وهو نتاج طبيعي للهزيمة النفسية التي سيطرت على المسلمين أفراد وجماعات.
إن اعتماد التاريخ الهجري والعمل به التزام من هذه الأمة بدينها، وربط لأجيال الأمة بتاريخها المجيد، وإحياء لشعيرة التميز الذي ميزت به هذه الأمة كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]. ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)).
إن نسيان هذا التاريخ يعني ذوبان هوية هذه الأمة، وطغيان الهوية الغربية النصرانية عليها، إنه تشبه بالضالين، ولذا نص العلماء على منعه.
إننا وإن ابتلينا بهذا التاريخ النصراني، وارتبطت به كثير من مصالحهم، فلا أقل من أن نلتزم بذكر هذا التاريخ في حياتنا اليومية، وأن نبدأ به مراسلاتنا ومواعيدنا، وأن نعلمه أبناءنا وبناتنا ونذكر به زوجاتنا، بل نتذاكر به جميعاً.
أيها الإخوة: التاريخ الهجري هو تاريخ المسلمين المعتمد الذي انعقد الإجماع على العمل به، وهو من شعائر أهل الإسلام، والرغبة عنه إلى غيره من تواريخ الشرق أو الغرب خروج عن الإجماع، وإظهار شعار من شعائر الكفار واستغناء به ومشاركة في طمس الهوية الإسلامية. ولا يمكن أن تستقيم عبادات هذه الأمة التي أمرها بها خالقها إلا بالتاريخ الهجري. فعبادات هذه الأمة مرتبطة بهذا التاريخ وغيره لا يصلح لنا.
أيها المؤمنون: إننا ندعو الدول الإسلامية والهيئات الإسلامية والأفراد جميعاً - إن كانوا صادقين في تشرفهم بهذا الدين - أن يلتزموا التاريخ الهجري تاريخاً أصلياً، ولا مانع من ذكر الموافق له من التاريخ النصراني الذي ابتلينا به لتسيير أمورنا، حتى يأتي الله بفتح من عنده.
أيها المؤمنون: من اللطائف أيضاً أن نذكر التاريخ الهجري دون تعقيب بقولنا للهجرة النبوية، لأنه الأصل فلا داعي للتعريف به، وإذا ذكرنا التاريخ الميلادي نقيده بقولنا للميلاد أو نحوها لأنه أمر طارئ يحتاج إلى بيان.
عباد الله: نعم نحن هذه الأيام نستقبل عاماً جديداً إسلامياً هجرياً، ليس من السنّة أن نحدث عيداً لدخوله أو نعتاد التهاني ببلوغه، أو أن نحتفل به، أو نحتفل بمهاجر النبي صلى الله عليه وسلم زاعمين حبه، فليس الغبطة بكثرة السنين وإنما الغبطة بما أمضاه العبد منها في طاعة مولاه، فكثرة السنين خير لمن أمضاها في طاعة ربه، شر لمن أمضاها في معصية الله والتمرد على طاعته وشر الناس من طال عمره وساء عمله.
ها قد أهلّ على الوجودِ (مُحَرّمُ) فالكونُ يزهو والحياةُ تبسّمُ
ترنو إلى ركبِ النبي وقد مضى تَبْكيه مكةُ والمَقَامُ وزمزمُ
عوّدتُ نفسي الاحتفالَ بهجرةِ الْـ هادي الْبشيرِ، وعطرَها أتنسّمُ
لكنْ على الوجهِ الذي أبصرتُه عن حبِ خير المرسلين يُترجِمُ
فاخترتُ من شعرِ المديحِ قصيدةً أنشدتُها ووجدتُني أترنّمُ
وحَسِبتُ أني قد بلغْتُ ذرا التقى بل ليس مثلي في المحبة مسلمُ!!
وإذا بأعماقي دويّ صارخٌ يا غافلاً حتّى متى تتَوهّمُ!!
حتى متى والقولُ قد زخرفْتَهُ والفعلُ يفضحُ ما تقولُ وتزعُمُ
لمّا عَجزْتَ عن اتباعِ (محمدٍ) أَقنعْتَ نفسَكَ بالكلامِ، ودُمْتمو!
ماذا اقترفتُ لكي تراني واهماً أَلأَنّنِي بهوى النّبيِ مُتيّمُ؟!
إني أرى حبّ النبي عبادةً ينجو بها يومَ الحسابِ المسلمُ
فأجابني: حبّ النبِي عبادةٌ فرضٌ على كل العبادِ محتّمُ
لكنْ إذا سَلَكَ المحبّ سبيلَهُ متأسّياً وَلهدْيِهِ يَتَرَسّمُ
هل ضيّعَ الإسلامَ إلا قائلٌ أفعالُهُ تنفي المقالَ، وَتْهدِمُ؟
فالقدسُ ضاعت من كلامٍ دونما فعلٍ يؤيد قولهم، ويُتَرْجِمُ
والطفلُ ملّ من الكلامِ؛ وليتهم يدَعُونه يرمي اليهودَ، ويَرْجُمُ
والعدلُ ملّ من الكلامِ؛ وقد رأى مَنْ يَدّعي عدلاً يجورُ، ويَظْلِمُ
والطهرُ ملّ من الكلامِ؛ وطالما زعمَ الطهارةَ داعرٌ لا يرحمُ
حتى البطولةُ أَعْلنتْ إضرابَها لما ادّعاها من يَخافُ، ويُحْجمُ
فَصَرخْتُ:كُفّ القولَ؛ قد أَخْجَلْتَنِي وكلامُك الحقّ الذي لا يُكْتَمُ
[1] رواه الترمذي ... ...
... ...
... ...(/5)
تأملات في خطاب القرآن
تأمل خطاب القرآن تجد ملكاً له الملك كله، وله الحمد كله، أزمّة الأمور كلها بيده، ومصدرها منه، ومردّها إليه، مستوياً على سرير ملكه، لا تخفى عليه خافية في أمصار مملكته، عالماً بما نفوس عبيده، مطلعاً على أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع، ويرى، ويعطي، ويمنع، ويثيب، ويعاقب، ويكرم، ويهين، ويخلق، ويرزق، ويميت، ويحيي، ويقدر، ويقضي، ويدبر الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها، وصاعدة إليه لا تتحرك في ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.
فتأمل كيف تجده يثني على نفسه، ويمجد نفسه، ويحمد نفسه، وينصح عباده، ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرض إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه.
فيذكرهم بنعمه عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون بها تمامها، ويحذرهم من نقمه. ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء.
ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم، وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيء أعمالهم، وقبيح صفاتهم.
ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق، ويهدي السبيل.
ويدعوا إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها، وقبحها وآلامها، ويذكر عباده فقرهم إليه، وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته.
ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك مُقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذراهم، ومصلح فسادهم، والدافع عنهم، والمحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعد، وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق، ونصيرهم على عدوهم؛ فنعم المولى ونعيم النصير.
فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً، رحيماً، جواداً، جميلاً، هذا شأنه؛ فكيف لا تحبه، وتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليه من كل سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه؟! وكيف لا تلهج بذكره، ويصير حبه، والشوق إليه، والأنس به؛ هو غذاؤها وقوتها ودوائها؛ بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها؟! . الفوائد لابن القيم صـ51-53 ط: دار الكتاب العربي.
من روائع الكلم:
قال ابن مسعود - رضي الله عنه-:
إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن زرع خيراً فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثلما زرع، لا يسبق بطيء بحفظه، ولا يدرك حريص لم يقدر له.
وقال: إن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقى، وخير الملة ملة إبراهيم، وأحسن السنن سنة محمد – صلى الله عليه وسلم -، وخير الهدي هدي الأنبياء، وأشرف الحديث ذكر الله، وخير القصص قصص القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور محدثاتها، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ونفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها، وتسر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة ندامة يوم القيامة، وشر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والريب من الكفر، وشر العمى عمى القلب، والخمر جماع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، والنوح من عمل الجاهلية.
وقال أيضاً: من الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبراً(1) ولا يذكر الله إلا هجراً. وأعظم الخطايا الكذب، ومن يعف يعفه الله، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يغفر يغفر الله له، ومن يصبر على الرزية (2) يعقبه الله، (3) وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، وإنما يكفي أحدكم ما قنعت به نفسه، وإنما يصير إلى أربعة أذرع والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتمه، وأشرف الموت قتل الشهداء، ومن يستكبر يضعه الله، ومن يعص الله يطع الشيطان.
وقال: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون.
وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً، محزوناً، حكيماً، حليماً، سكيناً، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً، ولا غافلاً ، ولا سخاباً، ولا صياحاً، ولا حديداً.
قال ابن القيم- رحمه الله- في كتابه العظيم الفوائد لابن القيم صـ114:(/1)
سبحان الله! في النفس: كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة النمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة(4) هامان، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل أبي جهل.
وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجُعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع.
غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك. فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند، ولا تصلح سلعته لعقد: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ } سورة التوبة(111)؛ فما اشترى إلا سلعة هذبها الإيمان، فخرجت من طبعها إلى بلد سكانه التائبون العابدون.
وقال أيضاً في قوله- تعالى-:{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} سورة الرحمن(29) يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجير كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيراناً، ويغيث لهفانا، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلىً، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويقيل عثرة، ويستر عورة، ويؤمن روعة، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين، لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه... صحيح الوابل الصيب صـ120.
000000000000
1 - المراد أنه يأتي صلاة الجمعة حين ينتهي وقتها.
2 - الرزية: المصيبة.
3 - المراد أن الله يجعل حسن العاقبة له.(/2)
تأملات في أول ما نزل من القرآن
لفضيلة الشيخ/ صفوت الشوادفي رحمه الله
الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد:
نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته فإذا
قومه يعبدون أصنامًا لا تضر ولا تنفع، فاختار لنفسه أن يعتزل الضلال وأهله،
فكان يمكث الليالي الطويلة بغار حراء يناجي ربه ويتعرف على خالقه، وبينما هو
على ذلك إذ جاءه الحق من ربه ونزل عليه جبريل عليه السلام بأول كلمات القرآن
نزولاً، وهي قوله تعالى من سورة العلق: اقرأ باسم ربك الذي
خلق إلخ الآيات، والذي يتدبر هذه السورة يجد أنه ما من شيء فيه سعادة البشر
أو شقوتهم في الحياة الدنيا إلا وقد أحاطتنا به علمًا، ومن أراد لنفسه النجاة
فعليه بهذه السورة فهمًا وتطبيقًا:
والآن تعال نتدبر هذه السورة - كما أمرنا
القرآن - في ألفاظها الظاهرة ومضمونها الجليل، تبدأ السورة بقوله تعالى:
اقرأ وهذه أول كلمات القرآن نزولا، وهي تشمتل على دعوة صريحة إلى العلم
النافع، وأفضل العلوم وأشرفها توحيد الخالق سبحانه فاعلم أنه لا إله إلا الله
وكلمة اقرأ تدل دلالة واضحة على أن المدخل الصحيح للإيمان يكون بالعلم
والقراءة، فعلى المسلم أن يقرأ القرآن ويتدبره ويقرأ السنة الصحيحة ويفهمها حتى
يكون إيمانه على يقين ومعرفة، وقراءة القرآن وفهمه وتطبيقه هو وسيلة النجاة
ووسيلة الترقي في درجات الجنة ! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لقارئ القرآن يوم
القيامة: اقرأ وارق فإن منزلتك في الجنة عند آخر آية كنت تقرؤها في الدنيا».
ثم
ترد السورة الإنسان إلى مصدر هذا العلم وواهبه وهو الحق جل وعلا حتى لا يغتر
بعلمه فيكون ذلك وبالاً عليه: اقرأ باسم ربك الذي خلق أي أنك
لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك، لكن بحول ربك وإعانته فهو يعلمك كما خلقك من عدم
ولم تك شيئًا.
والإنسان في هذه الحياة يصيبه في كثير من الأحايين غرور وإعجاب
ينسى معه أصله وبدايته فيتعالى على خلق اللَّه وينال منهم بقدر ما أصابه من
الغرور والكبر حتى إن بعضهم يتمايل يمينًا ويسارًا إذا ما لبس حذاء جديدًا ذا
طبيعة خاصة وكأنه استمد من نعله شرفًا في نسبه وعراقة في أصله ! إنه الكبر الذي
يملأ صدور أقوام فيعيشون وهم يرون خلق اللَّه دونهم شرفا ومكانة! وتأتي أول
كلمات الوحي لتذكر البشر بأصلهم الذي منه بدءوا: خلق الإنسان من
علق، ثم تؤكد السورة مرة أخرى على القراءة: اقرأ وربك
الأكرم، حتى لا يفهم البعض - كما هو حادث الآن - أن القراءة هواية تؤتى
وتترك !! وهذا من المأساة التي يعيشها المسلمون اليوم، وأصبح بسببها المسلم
يؤمن بكتاب يجهله ! فهو لا يعرف من القرآن إلا رسمه، أما الأوائل الذين نزل
فيهم القرآن فقد عاشوا حياتهم له وبه، قراءة وحفظًا وفهمًا وتدبرًا
وتطبيقًا.
ثم تشير الآيات بعد ذلك إلى أن للعلم وسائل يجب أن تلتمس فهو ليس
علمًا لدنيا كما يدعي المتصوفة ولكنه علم مسبوق بأسباب تحصيله: فلولا
نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون،
ولذلك جاءت الآيات مشيرة إلى تلك الوسائل في قوله سبحانه: الذي علم
بالقلم.
وقد ينسى الإنسان - إذا ما اجتمعت له أسباب العلم ووسائله - أن
اللَّه هو الذي وهب هذا العلم، والعلم وحده فناء ووبال إذا خلا من تقوى تلازمه
وتصاحبه، ولذلك يذكر القرآن في مبتدأ نزوله بتلك الحقيقة: علم الإنسان
ما لم يعلم.
وتنتقل آيات السورة الأولى وهي ترسم منهج الحياة للبشر
لتتحدث عن صفة ذميمة من صفات البشر، هي صفة الطغيان: كلا إن الإنسان
ليطغى (6) أن رآه استغنى.
وإنك لتعجب من هذا الإنسان، يستغني عن
خالقه ويتنكر له عندما يشمله بنعمه ويسبغها عليه ظاهرة وباطنة ! ويضرع إليه
متوسلاً ذليلاً إذا مسه الضر ونالت منه الشدائد ! فهو حينما يعطيه اللَّه المال
يبغي في الأرض بغير الحق ويصبح عبدًا لماله فلا يؤدي حق اللَّه فيه، وينسى أن
هذا المال ابتلاء وفتنة وأنه إذا مات ترك ماله كله ثم يسأل عنه كله من أين
اكتسبه ؟ وفيما أنفقه؟!
وإذا أعطاه اللَّه الصحة... طغى وتجبر وظلم الخلق وقد
نسي أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وقبل ذلك قد نسي أن الذي أعطاه الصحة قادر على
أن يسلبها منه: قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم
وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله
يأتيكم به؟
وإذا أعطاه اللَّه الولد ترك ذريته دون تربية صحيحة على هدي
من كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونسي أن اللَّه سائله يوم القيامة عما استرعى حفظ
أم ضيع ؟!
وقل مثل ذلك في كل نعمة يعطيها الخالق عباده فتقودهم إلى الطغيان -
إلا من رحم ربك - وأما إذا ما ابتلاه اللَّه بمصيبة في مال أو صحة أو ولد فإنه
يضرع إلى ربه بدعاء عريض !! ومهما طغى الإنسان، وبعد عن طريق الاستقامة واستجاب
لوساوس الشيطان ونداء الهوى، فإن له يومًا يرجع فيه إلى ربه ويوقف بين يديه(/1)
ويسأل عما قدم: إن إلى ربك الرجعى، فإليه سبحانه المرجع والمآب،
وإذا أدرك الإنسان هذه الحقيقة فإنه سيسعى للآخرة سعيها حتى يلقى ربه بصالح
العمل: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) ومن
أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم
القيامة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت
بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك
اليوم تنسى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/2)
تأملات في الهزائم والانتصارات
د. علي بن عمر بادحدح
المحتويات :
• المقدمة .
• الوقفة الأولى : إعلان النصر قبل المعركة .
• الوقفة الثانية : مواقف حاسمة في تاريخ الأمة .
• الوقفة الثالثة : مفاصل في تاريخ الأمة المسلمة .
تأملات في الهزائم والانتصارات
المقدمة
هذا الموضوع يسلط الضوء على المواقع الفاصلة ، والأحداث الكبرى في بعض مراحل تاريخ الأمة المسلمة ، والله - سبحانه وتعالى - قد قصّ علينا قصص السابقين ، وساق لنا قصص الأنبياء والمرسلين ، لنتدبر فيها ونستقي منها العبرة ، ونقرأ بين سطورها وفي ثنايا الدروس التي كتبها الله - سبحانه وتعالى - في قواعد محكمة .. { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } .. { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } .
وكما قضى الله - سبحانه وتعالى - بأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين ، وكما قضت حكمته أن قطع على نفسه الوعد بأنه يدافع عن الذين آمنوا ، وربط الشرط بالمشروط .. { إن تنصروا الله ينصركم } .
غاية الأمر أننا نريد أن نسلط الضوء لنقرأ فيما وراء الأحداث ، ولنتأمل في الأمور التي قد لا يكترث الناس بها ، ولا تخلد في أذهانهم ولا تبقى في عقولهم ..
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر *** ضاع قوم ليس يدرون الخبر
إن أمة لا تقرأ تاريخها لا يمكن أن تعرف حاضرها ولا أن تخطط لمستقبلها ، قال تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى }
هذه الدنيا كلها بما فيها من الأحداث درس وعبرة ، يظهر للمؤمن فيها قدر الله - عز وجل - النافذ وحكمته البالغة ومشيئته التي لا يردها شيء، وكذلك تظهر من خلالها الصورة الحقيقة لأسباب النصر، والصورة الحقيقية لأسباب الهزيمة .
الوقفة الأولى : إعلان النصر قبل المعركة
شاهت الوجوه واتضحت مصارع
معلوم أن الانتصار لا يعلن قبل اللقاء ، وأنه في المعارك المهمة يبقى الجزم بالنصر والجولة الأخيرة حتى اللحظات الأخيرة غير معروف ، لكن سنأخذ ومضات سريعة نرى فيها أن النصر أعلن قبل بدء المعركة في كثير من الأوقات ، وذلك بسبب أن الذي جزم بهذا النصر قبل اللقاء قد استحضر أموراً معينة ، ورأى الأسباب مهيأة ، وعرف حقائق إيمانية لا تزول ولا تتغير فجزم بذلك ، في أول يوم من أيام الله - عز وجل - في يوم الفرقان .. يوم بدر الأغر لما قضى الله - عز وجل - أن يلتقي محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام الميامين بكفار قريش ولم يكونوا قد تهيؤا لذلك .
عندما صُفَّت الصفوف وتعين اللقاء ، ماذا صنع الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ توجه إلى الله عز وجل، وهو يناشد ربه ويسأل مولاه، ويلحف في المسألة ويلح في الدعاء، ويقول : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً .. اللهم هذه قريش قد جاءت بعودها ومطافيلها .. ) ويلحّ - عليه الصلاة والسلام – ( اللهم نصراً كالذي وعدتني ) حتى يسقط الرداء من على كتفه الشريف ، ويأتي أبو بكر ويقول : " حسبك يا رسول الله ؛ فإن الله منجز لك ما وعد " .. يكفي هذا الدعاء وهذا ا لإلحاح ، ثم نجد بعد الدعاء والإلحاح والإلحاف اليقين بالإجابة ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفنة من الحصى ورمى بها في جهة الكفار ، وقال : ( شاهت الوجوه ) ، ثم قال : ( والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم هذا مصرع عقبة بن أبي معيط .. هذا مصرع أبي جهل .. هذا مصرع أمية بن خلف .. ) ويعين مواقع مقاتلهم .
كما قال الرواة في السير فما أخطأ واحد منهم ما أشار، لقد تيقن - عليه الصلاة والسلام - بالنصر ؛ لأنه كان يعلم من أصحابه قلوباً مؤمنة بالله ، وجباهاً ساجدة له سبحانه وتعالى ، وصفَّاً موطد العرى بالمحبة والألفة في الله عز وجل ، فتحققت أسباب النصر ، فأعلنه - عليه الصلاة والسلام - قبل بدء المعركة .
أبشروا إذ زاغت الأبصار
وفي موقف أكثر شدة وضراوة وقسوة على المسلمين ، اجتمع فيه عليهم شدة البرد مع شدة الجوع مع شدة الخوف مع كثرة العدو مع خيانة الذي كان نصيراً .. في يوم الأحزاب الذي وصفه الله - عز وجل - وصفاً عجيباً حيث قال سبحانه وتعالى : { إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً } .(/1)
في ذلك الموقف العصيب وقد اجتمعت قريش وغطفان ومن منعهم من بعض القبائل والأحابيش وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم وحاصروها ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ به وبأصحابه الأمر مبلغاً عظيماً من شدة الجوع والخوف والبرد، ثم يرسل - عليه الصلاة والسلام - السعدين ليستجليا له خبر قريظة ، قال : فإن كانوا نقضوا العهد فالحنا لي لحناً أعرفه ولا يعرفه غيري ، فلما بلغه الخبر - عليه الصلاة والسلام - بنقض قريظة للعهد ، كان ذلك بمثابة الطعنة من الخلف ، وبمثابة آخر حجر من أحجار البناء الذي يُظن في الصورة المادية أنه بدا متهالكاً متداعياً ، يوشك أن يسقط على الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه .. عندما بلغ بهذا الخبر كبَّر - عليه الصلاة والسلام - و قال : الله أكبر الله أكبر أبشروا بالنصر .. في عمق المأساة وفي شدة الكرب ، يكبر - عليه الصلاة والسلام - ويجزم بالنصر ؟ ولم يكن يعرف له سبباً ! ولم يكن يعرف من وحي الله ما سيقع بعد ! لكنه رأى أسباب النصر أمة موحدة لله - عز وجل - ما لانت ولا داهنت في دينها ، ولا باعت مبادئها ، ولا غيَّرت عهدها مع الله عز وجل .. أمة متوحِّدة مترابطة قلبها قلب رجل واحد ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( أبشروا بالنصر ) فجاء نصر الله - عز وجل - من حيث لم يحتسبوا ، ولم يشعروا ، ولم يعرفوا، فإذا بالريح تطفئ النار وتُكفئ القدور ، وإذا بأبي سفيان زعيم القوم يُنهض ناقته قائلاً : " يا أهل مكة لا مقام لكم فارجعوا " .
وكفى الله المؤمنين القتال ، وبثّ في قلوب الكفار الرعب ، وجاء النصر .
وقد يقول قائل : إن هذا الإخبار من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحي فله أن يعلن النصر قبل المعركة ، ولكني أقول إن هذا ليس على هذا النحو والضرب .
والله إنكم لمنصورون
وإن كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مسدداً بالوحي ، لكن الأمر كان منه نظراً في هذه الأسباب أي أسباب النصر ، ولذا قد وقع من غير الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الصلاح والإيمان من هذه الأمة الإسلامية ، من جزم بالنصر كما وقع من شيخ ا لإسلام بن تيمية في عام 702 هـ في موقعة شقحب عندما تلاقى المسلمون والتتار ، كان شيخ الإسلام - رحمة الله عليه - يحرض المؤمنين على القتال ، ويحثّهم على الجهاد ، ويؤمرهم بالدعاء ، ثم يقول : " والله إنكم لمنصورون عليهم هذه الكرة " ، فيقولون له : قل إن شاء الله ، فيقول لهم : " إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً "
سبحان الله ! يجزم ويحلف ، وإذا قيل له : قل إن شاء الله ، يقول : " إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً " ، أي أن ذلك واقع لا محالة ولكنه بمشيئة الله لا تعليقاً كأنه يشك في نصر الله عز وجل ، لما جزم شيخ الإسلام بحصول النصر قبل وقوعه، وهو لا يوحى إليه وهو واحد من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ لأنه قد رأى بأم عينيه ملامح النصر تتحقق في الأمة المسلمة ، فعلم أن قوماً قد لجأوا إلى الله - عز وجل - ونابذوا المعاصي ، وتوحدت صفوفهم سينصرهم الله عز وجل ؛ لأن وعده لا يتخلف .. { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }
إذاً هذه الومضة - وليست مقصودنا في الحديث - إنما مقصودنا أن النصر والهزيمة لا يتعلق بالأمور المادية الظاهرية ، وإنما يتعلق أكثر ما يتعلق بالأمور والأسباب الإيمانية المعنوية التي فيها وفاء بعهد الله ، والتزام بشرع الله سبحانه وتعالى .
الوقفة الثانية : مواقف حاسمة في تاريخ الأمة
إن الأمة التي تهزم هزيمة شديدة وقاصمة وقوية ، لا يتوقع لها أن تنهض من كبوتها ، ولا أن تعود إلى عزتها بسرعة ، وهذا أمر في المقاييس المادية معروف ملموس ، لكننا سنجد مما سأضربه من بعض الأمثلة من مواقف التاريخ في حياة الأمة المسلمة ما يعكس هذه الصورة ، وذلك يدلنا أن الهزائم القوية لا تبلغ أحياناً من المهزومين إذا كانت لم تصل إلى إيمانهم ..لم تنل من عزائمهم .. لم تزعزع من صلتهم وثقتهم بالله عز وجل ..لم تجعلهم ممسوخين في أفكارهم وفي مبادئهم وفي اعتزازهم بشخصيتهم ودينهم ، ولذلك نجد هناك مواقف حاسمة في تاريخ الأمة .
طَرْدٌ بعد عامين
في عام 491 هـ اقتحم النصارى بيت المقدس وأخذوها ، ودخلوا إلى المسجد الأقصى وقتلوا فيه من المسلمين نحو سبعين ألف نفس ، حتى خاضت ركب الخيل في دماء المسلمين .. هزيمة مروِّعة وفظاعة من القتل والوحشية تنخلع لها قلوب الرجال الأشداء فضلاً عن غيرهم، ومع ذلك يذكر التاريخ بعد عامين اثنين فقط ، في عام 493 هـ التقى بعض جيش المسلمين من أهل الشام مع أولئك النصارى ، فكسروهم كسرة لم يسمع التاريخ بمثلها ..(/2)
ذكر ابن كثير في البداية والنهاية : أن عدة جيشهم كان نحو ثلاثين ألف قتلوا عن بكرة أبيهم ما بقي منهم إلا ثلاثة آلاف أسر بعضهم وجرح بعضهم وهرب بعضهم، أولئك الذين هزموا ما زال فيهم من أسباب النصر مما هُيئ لمجموعة قليلة منهم بأن يتحققوا بأسباب النصر ارتباطاً بمنهج الله وثباتاً على منهجه ، فنصرهم الله - عز وجل - وهم لم تهدأ جراحهم بعد ، ولم يتنفسوا الصعداء بعد أن هزموا في تلك الموقعة الشديدة.
اندحار بعد عامين
وفي عام 656 هـ وسيأتي حديثنا عن هذه مفصلاً عندما دخلت جيوش التتار بغداد - ونعلم سيرة التتار وقصصهم وما عندهم من الفظاعة والهول - ثم بعد عامين اثنين مرة أخرى، وفي يوم الجمعة في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك في عام 658 هـ تأتي موقعة عين جالوت ، ويُكسر فيها التتار .. الجيش الذي لا يقهر كما يقال .. الوحوش التي لم تكن تنتسب إلى البشرية في ذلك الوقت عند الناس .. يكسرون كسرة ما سمع بمثلها من قبل ، لماذا لأن بعض الأسباب قد تحققت .
الثأر لدماء لم تجف
وقبل ذلك كان الانتصار الأعظم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعقاب أحد ، لما دارت الدائرة على المسلمين في آخر المعركة ، ومضى منهم إلى الله - عز وجل - سبعون من الشهداء وأثخن البقية بالجراح ، وشُجَّ وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته ، ودخلت حلقتا المِغْفَر في وجنته عليه الصلاة والسلام ، ثم رجعوا إلى المدينة وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أهل أحد أن يخرجوا ، بأي شيء ؟ هل طلبهم أو ندبهم أن يخرجوا للعلاج أو ليخففوا ما وقع بهم ؟ أمرهم وطلب منهم أن يخرجوا ليلحقوا بجيش المشركين بأبي سفيان ومن معهم من أهل قريش .. أولئك القوم الذين جراحهم ما تزال تنزف دماء وما يزال الواحد منهم يحمل يده المقطوعة أو رجله المقطوعة ، وأمر أن لا يخرج معهم أحد أبداًً ممن لم يشهد أحداً ، فماذا كان موقف الصحابة ما تخلف منهم رجل واحد .. { الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرٌ عظيم * الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل }
خرجوا ما تخلف منهم رجل واحد، لأن الهزيمة لم تبلغ نفوسهم فتضعضعها، ولم تبلغ إيمانهم فتُضْعِفُه ، بل كان إيمانهم أعظم من الجبال الرواسي ، وهممهم أعلى من ذرى السحاب ، ولذلك استجابوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما اعتبروا مهزومين ، بل خرجوا وأقاموا في حمراء الأسد ثلاثة أيام بلياليها ، فلما أراد أبو سفيان - بعد أن مضى - أن يرجع إلى المدينة ، ويتتبع جراحات المسلمين ، قال : " ما بلغنا من القوم مبلغاً .. ما قتلنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا قتلنا أبا بكر ، ولا عمر ، ولا استأصلنا شأفتهم ، ولا غزونا مدينتهم .. "، وكان يفكر بالرجوع ، فإذا به بأحد الأعراب ، فسأله : ما خبر محمد ؟ فقال رأيته هو وأصحابه يجد في أثركم ، فلاذ أبو سفيان بالفرار قناعة بالنصر الهزيل الذي حازه ووقع له .
فإذاً إذا لم تنل الهزيمة من الإيمان ومن النفوس والعزائم فإن الجولة القادمة وشيكة الوقوع بإذنه سبحانه وتعالى ، ولذلك فطن أعداء الأمة فلم يكن اعتناءهم - بعد دراسة طويلة بعد الحروب الصليبية - بكسر المسلمين عسكرياً وحربياً فحسب ، بل كانوا يريدون أن يطيلوا أمد الهزيمة دهراً طويلاً ، وأن يعمِّقوا تأثيرها في النفوس وفي القلوب والعقول والسلوكيات والأحوال الاجتماعية والاقتصادية حتى ينخروا في بنيان الأمة ، فلا تقوم لها قائمة في تصورهم ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
الوقفة الثالثة : مفاصل في تاريخ الأمة المسلمة
وهي لبّ موضوعنا نريد أن نقف في بعض المفاصل التاريخية لنقرأ بين السطور - كما ذكرت - ماذا وقع في الهزائم ؟ وكيف وقعت الانتصارات في تاريخ الأمة المسلمة ؟ هذه المفاصل كثيرة سأذكر منها اثنين بالتفصيل وإن سنح الوقت ذكرناً ثالثاً .
1 ـ ما يتعلق بسقوط بيت المقدس
2 ـ سقوط بغداد
3 ـ موقعة شقحب
لأن في هذه الوقائع دروساً عظيمة جداً
سقوط بيت المقدس
لمحات من واقع المسيحيين قبل السقوط(/3)
في بيت المقدس لننظر كيف كان توجُّه المسيحيين في ذلك الوقت ؟ وكيف توجهوا لقتال المسلمين ؟ وبأي منطق وتحت أي مبدأ تجمعوا ؟ نقرأ في سطور التاريخ وفي وقائعه ، ما ينبئنا عن أن في كل جولة لا بد من تحقق الأسباب ، ومن رؤية معالم هي التي تكون بها الهزيمة، أو يقع بها بعد إذن الله - عز وجل – النصر .. تجمع المسيحيون تحت راية المسيحية وتنادوا باسمها ، وهذا المكمن الذي ينبغي أن يعلم المسلمون أنه لا نصر لهم إلا تحت راية الإسلام ، وإلا أن يتنادوا باسم نصر العقيدة والإيمان ، أما غير ذلك فقد رأت الأمة هذه الصورة ، وتجرعت مرارتها حينما تجمعت مرة باسم القومية ، وثانية باسم البعثية ، وثالثة باسم الاشتراكية ، فهوت كل واحدة بها إلى هاوية وبُعدٍ سحيق ، هنا في ذلك الوقت ماذا كان من المسيحيين ؟ نجد أن إمبراطور القسطنطينية يبعث إلى ملك آخر من ملوك المسيحية في ذلك الوقت، ويناديه بنداء يستصرخ فيه الهمة بقتال المسلمين ، فماذا يقول إلى رجال الدين والدنيا :
" تحية وسلاماً أيها السيد العظيم حامي حمى العقيدة المسيحية أود أن أحيطك علماً بما وصل إليه تهديد الأتراك - يعني السلاجقة المسلمون - للإمبراطورية المسيحية المقدسة، فهم يعملون فيها السلب والتخريب كل يوم، ويتوغلون في أراضيها دون انقطاع وكم من مذابح وتقتيل وجرائم تفوق حد الوصف يقترفونها، ضد المسيحيين الإغريق" .
وهذا أكثره كذب ، فضلاً عن السخرية والتحقير ؛ فإنهم يذبحون الأطفال والشباب داخل أماكن التعميد ، حيث يريقون دماء القتلى محتقرين بذلك المسيح، ثم يقول :
"لذا أستحلفك بمحبة الله ، وباسم جميع المسيحيين الإغريق أن تمد لنا وللمسيحيين الإغريق العون والمساعدة ، وذلك بتقديم جميع جنود المسيحيين من كبير وصغير، فضلاً عن العامة ممن يتسنَّى جمعهم من بلادك" .
فهذا تنادٍ باسم الإيمان والعقيدة الباطلة ، وتنادٍ بالنصرة بالقوة الفعلية المؤثرة ، وليس بمجرد القول أو الشجب أو الاستنكار أو البيانات ، وليس تحت راية علمانية أو اشتراكية أو غيرها ، فهكذا كان تجمُّعُهم في ذلك الوقت ، وكانت نظرة حديثهم بل إن الذين كانوا يقودون تلك الحروب ويؤججونها ضد المسلمين هم زعماء الدين ، فهذا البابا أوريان الثاني أيضاً يوجِّه في مؤتمر كلير مونت ، في ذلك الوقت نداءه إلى أبناء الملة المسيحية كلها :
"يا شعب الفرنجة .. شعب الله المحبوب المختار، لقد جاءت من تخوم الصين ومن مدينة القسطنطينية أنباء محزنة تعلن أن جنساً لعيناً ـ يقصد به المسلمين - أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد - أي بلاد المسيحيين - وخرّبها بما نشره فيها من أعمال السلب وبالحرائق ، ولقد ساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم ، وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم اشنع تعذيب ، وهم يهدمون المذابح والكنائس بعد أن يدنسوها برجسهم" .
إذاً مرة أخرى نداء العاطفة العقدية الإيمانية، ثم يقول :
"ألا فليكن لكم من أعمال أسلافكم ما يقوِّي قلوبكم ، أمجاد شارلمان وعظمته وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتهم فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا " .
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً
هنا مبدأ مهم ، وهو القدوات التاريخية التي ترتبط بها الأمة فتثير بذلك في النفوس الهمة والعزيمة . واليوم يغيَّر التاريخ ويدلَّس لتغيَّب القدوات الصالحة ، ويغيَّب الأئمة من العلماء ، ويغيَّب القوَّاد من المجاهدين ، وتظهر القدوات الفاسدة ، التي لا تقدِّم ولا تؤخِّر ، بل حقيقة دورها أنها تشوه وتمسخ ، وأنها تغتال وتقتل كل قيمة إيمانية ، وكل همة وعزيمة وقوة في صفوف الأمة ، ثم يقول أيضاً لتتضح لنا الأسباب، ولو قلنا هذا الكلام للمسلمين لكانوا أولى به وأحرى ، يقول :
"طهروا قلوبكم إذاًَ من أدران الحقد ، واقضوا على ما بينكم من نزاع ، واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس ، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث " .
إذاً طالبهم بأن يزيلوا الأحقاد ، وأن يمنعوا الخلاف والنزاع لتتوحد الصفوف ونصب لهم هدفاً يهمُّهم ويُشغل بالهم ، حتى تتلاشى الأسباب الثانوية العارضة للاختلافات التي يثيرها الأعداء ليفرقوا صفوف الأمة ، هذه صورة موجزة لما كانوا يتنادون به .
لمحات من واقع المسلين بعد السقوط
أمة قتلت عميدها
ماذا كانت صورة الأمة المسلمة في ومضات أيضاً ، كان الملك أحد ملوك المسلمين حاكماً للموصل في ذلك الوقت ، وأراد بعد سقوط بيت المقدس أراد أن يجمع الجيوش لمحاربة النصارى ، لكن الأسباب كانت كثيرة غير مهيأة ولا مواتية ، فماذا حصل ؟ قُتل هذا الملك المسلم في يوم العيد بعد الصلاة في وسط المسجد غيلة ، فماذا وقع ؟ كتب ملك الفرنجة إلى من جاء بعده طغطكين ملك مسلم جاء بعده ، فكتب الملك النصراني له كتاباً فيه كلمات موجزة ، لكنها تُنْبؤ عن أن القوم كانوا ينظرون إلى أسباب الهزيمة لائحة أمام أعينهم ، فقال كلاماً جميلاً ذكره ابن كثير رحمة الله عليه يقول :(/4)
"إن أمة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها" .
كيف تنتصر وبينها هذه الخلافات ؟ كيف تنتصر والأحقاد تتسلط عليها ؟ كيف تنتصر وهي ليست موجهة نحو إعلاء كلمة الله ، ورعاية مصلحة الأمة المسلمة ، وفي نفس الوقت أيضاً انظر إلى الصورة المقابلة عندما هيأ الله - عز وجل - بعض أسباب النصر .
صور قبل معركة حطين
أ - خلاص قبل الاستخلاص
ننتقل إلى الوقت الذي جاء فيه نصر الله عز وجل ، وكلنا نعلم أن النصر وتخليص بيت المقدس جاء بقدر الله على يد صلاح الدين ، والناس كلهم يقولون : جاء صلاح الدين وانتصر في يوم حطين وخلص القدس من الصليبيين ، وكأن المسألة انحصرت في تلك المسألة التي خاضها صلاح الدين - رحمة الله عليه - والأمر ليس كذلك ، إن صلاح الدين خاض قبل هذه المعركة أربع معارك هي أشد وأشرس وأقوى ، وهي من أعظم ما هيأ النصر لذلك اليوم العظيم في يوم حطين ، لم يأتي صلاح الدين هكذا ليجمع الجيوش بالقوة ثم ينتصر بعد ذلك ، بل حارب في مواقع أربعة قبل أن يلاقي النصارى في حطين .. حارب الكيانات الفاسدة ، وحارب الجهالات الخاطئة ، وحارب الانحرافات المفسدة ، وحارب كذلك الفِرْقة القاتلة والناخرة في الصف .
وسأذكر ذلك بشيء من الإيجاز .. حارب الكيانات الفاسدة ، التي كانت تعمل في الأمة من الفساد والتدمير أكثر مما يعمله أعداءها ؛ لأن في حقيقة الأمر كان مما هيأ الله - عز وجل - لصلاح الدين وأجرى على يديه أن قوَّض الدولة الفاطمية العبيدية الرافضية ، التي أضاف إليها الذهبي في سير أعلام النبلاء لفظ " اليهودية " ، قبل أن يتوجه إلى بيت المقدس أزال هذا الورم السرطاني الذي ظل يرزح على الأمة المسلمة وفي بلادها دهراً طويلاً ، وعاث فيها فساداً في الاعتقاد ، وتخريباً لمقدرات الأمة ، وممالئة لأعدائها ، فتوجه صلاح الدين - رحمة الله عليه - ومهد له من قبل نور الدين زنكي ، توجه أولاً ليستأصل هذه الدولة الرافضية ، وبالفعل قوَّض مُلكها ، ودخل مصر فاتحاً ، وألغى وجودها من التاريخ ، وجعلها صفحات مذكورة في طيَّات التاريخ ، ولم تقم لهم - بحمد الله -قائمة في عهده وإلى سنوات طويلة بعده رحمة الله عليه، فقد وجه هذا .
ب - إراقة الخمور
رأى صلاح الدين في الأمة انحرافات سلوكية ، فكانت الخمور والخمارات ، وكان الفساد والانحراف مستشرياً ، يضعف في الأمة إيمانها ، ويحقق فيها من أسباب البلاء ومن أسباب نزول سخط الله ، وارتفاع رحمته ، وبُعد نصره - سبحانه وتعالى - الشيء الكثير، فكان من جملة أعماله المباركة أن وجَّه جهوده للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإزالة أسباب الفساد ، فأغلق الحانات ، ومنع شرب الخمور ، وعاقب المخالفين ، وطهَّر المجتمع المسلم من الإعلان بالحرب على الله - عز وجل - من خلال المجاهرة بالمعاصي ، ولا يمكن أن تتوجه للعدو السهام مغروسة في ظهرك من أثر هذه المعاصي ، التي ذكر ابن القيم في كتاب [ الجواب الكافي ] من آثارها الوخيمة - ليس على مستوى الفرد بل على مستوى الأمة والكون كله - كلاماً جميلاً لولا ضيق الوقت والمقام لذكرت شيئاً منه .
ج - إحياء الحركة العلمية
طهر صلاح الدين هذا المجتمع المسلم من هذه الأوضار والمعاصي ، وكان ذلك معركة قوية هيأ بها الأمة لحصول النصر ، ثم كان هناك جهالات خاطئة ، وكان هناك ضعف في الناحية العلمية ، وقلة في التعلق بعلم كتاب الله ، وسنة رسول الله وكانت هناك شطحات صوفية ، وكانت هناك خرافات قد عشعشت في العقول ، وغير ذلك من الأمور ، فجعل دأبه أن يقوي وينشط الحركة العلمية التي تقوي الأمة ، وتربطها بكتاب الله ، وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتربطها بعلماءها وقادتها ، ولذلك عمل عملاً كبيراً في تنشيط الحركة العلمية ، وبنى المدارس التي كثيراً منها في بلاد الشام ومصر يعود إحيائه أو إنشاءه إلى صلاح الدين - رحمة الله عليه - كالمدرسة الأشرفية والصالحة والعادلية وغيرها وكثيرٌ منها ، و أحيى ما درَس من العلم ، وقوَّى الحركة العلمية فنشر علم الكتاب والسنة وربط الأمة بسلفها وعلماءها ، ووطد أركان هذا العلم في المجتمع ، فكان ذلك أيضاً توطئة ومعركة خاضها رحمة الله عليه .
د - توحيد الرايات(/5)
ثم سعى بعد ذلك إلى معركة الفرقة القاتلة ، حيث كان المسلمون أمارات مختلفة ، وبعضها متنازعة وبعضها متناحرة ، فسعى إلى ضم بعضها الى بعض فضم مصر إلى الشام وأرسل أخاه إلى اليمن وأخذ اليمن معه ، ثم جمع كثير من بلاد المسلمين تحت راية واحدة ، واجتمعت الكلمة عليه ، وانضوى تحته الأمراء والقادة فتقدمت الأمة حينئذ بأسباب النصر .. ثقة بالله عز وجل ، وتحققاً بصدق الارتباط به ، وصحة الاعتقاد فيه سبحانه وتعالى ، ثم بارتباط بكتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - علماً ونشراً ودعوة ، ثم بتطهير المجتمع من المعاصي والمفاسد ، ثم بتوحيد الأمة تحت راية واحدة ، فلم تكن بعد ذلك حطين إلا تحصيل حاصل .
هـ - التحريض والحث
وختاماً لهذه الجهود التي قام بها صلاح الدين ، ولعلنا - أيضاً - نقف مع ومضات تاريخية ، نرى فيها هذه الصورة كيف اجتمعت في صلاح الدين ؟ وكيف كان حال الأمة في ذلك الوقت ؟ بعد أن رأينا ومضات من حالها وقت سقوطها ، فمما ورد في هذا الشأن أن النصارى بنوا حصنا بجوار دمشق ، وبدأوا يناوشون ملك حماة الملك المظفر ، فكتب إليهم طالباً أن يهدموا هذا الحصن ، فقال : نعم نهدمه، ولكن تدفع لنا أجرة بناءه ، فدفع لهم مائة ألف فطمعوا وزادوا ، فكتب إلى صلاح الدين يستشيره - إذاً كان صلاح الدين مرجعاً لأولئك - فأرسل له يستشيره في أن يدفع لهم أو يزيد ؟، فقال له صلاح الدين حتى نرى تأثيره رحمة الله عليه :
" أقول هذا الرأي الذي قد أزمعت عليه ليس بشيء ، وإن الله يسألك عن إعطاءهم هذا المال، تعطي أعداء الله المال لماذا ؟ وأنت قادر على المسير إليهم والرأي ما هو الرأي والرأي أن تصرف هذا المال على الأجناد وترغبهم في الجهاد، بدل أن تصرف المال لأعداء الله أعد العدة لذلك وسر بعساكرهم إليهم والله في معونتك ونصرك " .
و - التأليب والتحفيز
ثم يصور لنا صلاح الدين - وقد كاتب الأمراء والقواد ليحتشدوا لهذه المعركة حطين - فماذا صور لنا في ذلك النداء ؟ فيكتب صلاح الدين في رسالة له إلى المظفر صاحب مصر في سنة 579 هـ يقول :
"وقد كاتبنا أمراء الأطراف باستعدادهم لاستدعائهم ، وأن يحزموا بجميع العساكر أوامرهم لأمرائهم ـ فماذا كانت النتيجة ؟ - فما منهم إلا من يسابق إلى تلبية النداء ، ويسارع إلى إجابة الدعاء ، ويعشق لقاء الأعداء ولا عشق لقاء الأحبة " .
يعشق لقاء الأعداء أكثر من عشقه لقاء الأحبة ! إذاً قد سرت في الأمة روحاً جديدة لم تكن موجودة فيها وقت سقوطها ؛ لأن بيت المقدس لم يكن لقوة النصارى ، فقد جاء النصارى من أواسط آسيا ، ووصلوا إلى بيت المقدس وقد هُدَّت قواهم ، وقد لاقوا بعض المجاعة في الطريق ، وجاءوا في صورة مرهقة ومتعبين ، ولكن وجد من هم أضعف منهم ، ومن هم أشد في التعب منهم ، فانتصروا عليهم ، وتماماً مثل الجدار المتصدع إذا وضعت يدك على مثل هذا الجدار سقط ، وليس هذا من قوة يدك ولكن من قوة ذلك الجدار ، وما انتصر على أمة الإسلام إلا لضعفها لا لقلة أعداءها ، فهنا ذكر لنا صلاح الدين في استجابة الأمة .
ز - قيادة علمية على طريق النصر
ثم انظروا إلى دور العلماء في عهد صلاح الدين .. جعل لهم مكانتهم البارزة ، وجعل لهم قيادتهم الرائدة، وجعل لهم كلمتهم المسموعة ، كتب القاضي العادل إلى القاضي الفاضل، إلى صلاح الدين يقول له : " إن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته ، ولا تفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه ، والامتثال لأمر شريعته ـ العالم يقول للقائد والأمير - المعاصي في كل مكان بادية والمظالم في كل موضع فاشية " .
يعني لا بد أولاً أن تصلح هذا الجانب ، وأن تصحح هذه الأوضاع الخاطئة .
ويقول في رسالة أخرى يشخص الداء الذي في الأمة قبل أن تواجه أعداءها : " إنما أوتينا من قبل أنفسنا ، ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا ، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به " ، ثم يقول له :
"ولا يغتر بكثرة العساكر والأعوان ، ولا فلان الذي يعتمد عليه أن يقاتل فلان ، فكل هذه مشاغل وليس بها النصر ، وإنما النصر من عند الله ولا نُؤمَن أن يكلنا الله إليها والنصر به واللطف منه ، واستغفر الله تعالى من ذنوبنا ، فلو لا أنها تسد طريق دعاءنا لكان جواب دعاءنا قد نزل ، وفيض دموع الخاشعين قد غسل " .
هذه القيادة العلمية الراشدة الموجِّهة التي تكشف الخلل ، وتبين الخطأ ، وتدعو إلى الإصلاح الذي فيه صلاح ما في الأمة وخالقها قبل أن يدخلوا في معركة مع الأعداء هذه القيادة يكون لها دور كبير في النصر .
ح - تحريض وإباء تحت الحصار
ثم انظروا إلى روح الأمة في ذلك الوقت ، المحاصرون في عكا حوصروا حصاراً شديداً ، ما بلغ شدة الحصار من نفوسهم وعزائمهم ، وكانوا يستنجدون بصلاح الدين ليفكوا عنهم الحصار ، فكتبوا إليه يقولون له :(/6)
" إنا قد تبايعنا على الموت، ونحن لا نزال نقاتل حتى نقتل، ولا نسلم هذا البلد أحياء ، فأبصروا كيف تصنعون في شغل العدو عنا، ودفعه عن قتالنا ـ ثم المحاصرون هؤلاء المستضعفون ماذا يقولون لصلاح الدين، فهذه عزائمنا وإياكم أن تخضعوا لهذا العدو، أو تلينوا له فأما نحن فقد فات أمرنا ـ نحن قد بعنا أنفسنا لله وتبايعنا على الجهاد، فلا تلينوا للعدو ولا تضعفوا أبداً " .
ط - روح لا تَكِلَّ تجاه من كلّ
ثم نجد هذه الصور واضحة جداً في قوة المسلمين وترابطهم وارتباطهم بالله سبحانه وتعالى ، من ذلك ما تشير إليه وقائع التاريخ أن صلاح الدين كاتبه أحد ملوك النصارى عندما كان يحاصر عسقلان ، فأراد هذا الملك أن يكتب صلحاً مع صلاح الدين قبل الشتاء حتى يرجع إلى بلده ، فأرسل إلى صلاح الدين رسولاً يقول له : إن لم يكتب الصلح في هذه الأيام القريبة وإلا سيضطر مولانا إلى أن يشتي في هذه البلاد - يعني سيدركه الشتاء ولا يستطيع أن يتحرك أو ينتقل - فماذا كتب له صلاح الدين ؟ كتب له كتاباً نفيساً وملفتاً، يقول :
" أما النزول عن عسقلان - يعني ترك الحصار - فلا سبيل إليه ، وأما تشتيته- يعني بقاءه هو وجنده في هذه البلاد - فلا بد منه ؛ لأنه قد استولى على هذه البلاد ويعلم أنه متى غاب عنها أخذت بالضرورة ، وإذا أقام إن شاء الله يعني إن ذهب وإن بقي سيأخذها المسلمون بإذن الله عز وجل"، ثم يقول : " وإذا سهل عليه أن يشتي هنا ، ويبعد عن أهله ووطنه مسيرة شهرين وهو شاب في عنفوان شبابه ووقت اقتناص لذاته، ما أسهل عليّ ، أن أشتي وأصيف وأشتي وأصيف وأنا وسط بلادي وعندي أولادي وأهلي، وأنا أعتقد أني في أعظم العبادات، ولا أزال كذلك حتى ينزل الله نصره " .
من أهازيج النصر
هذه روح الأمة ومواقفها في ذلك الوقت ، ولما كتب الله لهم النصر ما طغوا ، ولا بغوا ، ولا جحدوا نعمة الله عز وجل ، ولا فسقوا ، ولا فجروا ، بل صورت لنا كتب التاريخ والمراسلات في ذلك الوقت ما صنع المسلمون ، وبأي شيء فرحوا ؟ ولم يفرحوا بالبلاد ولا بالأموال ، وإنما فرحوا بنصرة دين الله ، وتطهير مساجد المسلمين من أوضار المسيحية والتثليث .
فكتب القاضي الفاضل يهنئ صلاح الدين بحطين ، ويقول له عن أهل مصر في مصر :
"والرؤوس إلى الآن لم ترفع من سجودها ، والدموع لم تمسح من خدودها شكراً لله عز وجل" .
ويقول هو عن نفسه أي صلاح الدين :
"وكلما فكر الخادم أن البِيَع ، يعني الكنائس تعود مساجد ، والمكان الذي يقال فيه إن الله ثالث ثلاثة، يقال فيه أنه الإله الواحد" .
فيقول أنه لا يوجد أعظم من هذا الفرح ولا أجمل منه ، ولذلك لما كتب صلاح الدين يبشر أخاه بالنصر قال له :
"وعاد الإسلام بإسلام بيت المقدس إلى تقديسه ، ووضع بنيان التقوى إلى تأسيسه ، وزوال ناموس ناقوسه ، زالت النصرانية ، وبطل بنص النصر قياس قسيسه ، ودنا المسجد الأقصى للراكع والساجد ، وامتلأ ذلك الفناء بالأتقياء الأماجد ، وطنت أوطانه بقراءة القرآن ورواية الحديث ، وذكر الدروس وحديث هدي الهدى ، وزارها شهر رمضان ، مضيفاً لها نهارها بالتسبيح وليل فطرها بالتراويح " .
إذاً كانت هذه الصورة، واستدعى المهنئون تاريخ الأمة ، وقال الخطيب القاضي زكي الدين في أول خطبة في المسجد الأقصى بعد فتحه وتحريره ، قال مخاطباً صلاح الدين قال :
"جددتم للإسلام أيام القادسية ، والملامح اليرموكية ، والمنازلات الخيبرية ، والهجمات الخالدية ، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ، فاقدروا هذه النعمة حق قدرها ، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها ، فله المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة " إذاً رأينا كيف تحقق النصر عندما جاءت هذه الصورة بعد تهيئة أسبابها .
سقوط بغداد
أكثر تأثيراً وأعمق في تجلية صورة الهزيمة والنصر، ذكر ابن كثير هذه الحوادث في شهر محرم من عام 656 هـ والحقيقة أن نص ابن كثير يغني عن كل تعليق ، وكل ما نذكره هنا من هذه الوقائع ينبغي أن نربطه بواقع الأمة ، ولا يحتاج ذلك لا إلى تعليق ولا إلى تفصيل ، بل إن الناظر يرى ذلك أمام عينيه ، ويسمع أحداث ما يقع للمسلمين بإذنيه ، فلا يكاد يخطئ شيئاً من ذلك أبداً ، والتاريخ يعيد نفسه ؛ لأن الأمر مرتبط بسنة الله - عز وجل - ولن تجد لسنة الله تبديلاً ، ولن تجد لسنة الله تحويلاً ، يقول ابن كثير في وصفه هذه الوقعة يقول :
"جاء التتار إلى بغداد ، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل، يساعدونهم على البغاددة، ومعه ميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحه الله " .
من أسباب السقوط
السبب الأول : محالفة الأعداء ضد المسلمين(/7)
أن يكون من المسلمين من ينصر أعداء الدين على إخوانه المسلمين ، وهذه البلية التي ما يزال المسلمون مبتلون بها في هذا العصر ، وبعضهم يحالف أعداء الله ضد إخوانه من المسلمين ومن أولياء الله ، فأول ما ذكر جاءت إليه أمداد صاحب الموصل ، تقدم فروض الولاء والطاعة ، وتقدم المعونة والنصرة لهم فهذا أعظم بلاء وأعظم سبب من أسباب الهزيمة .
السبب الثاني : التنبه بانقطاع اللهو
ثم قال - وهذه صورة مهمة جداً - : " وأحاطت التتار بدار الخلافة في وسط بغداد - يعني قد دخلوا إلى بغداد - يرشقونها بالنبال، من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه ، وكان من جملة حظاياه وكانت مولدة تسمى عرفة ، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة ، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً ، قبل ذلك لم يكن يعلم من أمره شيئاً ، وأحضر السهم الذي رميت به الجارية ، فإذا مكتوب عليه إذا أراد الله إنفاذ قضاءه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم ، فأمر الخليفة عند ذلك بالاحتراز ، وكثرة الستائر عند دار الخلافة " . وذلك بعد أن دخلوا البلد ، ووصلوا إلى دار الخلافة ، والخليفة في مجلسه ، والجارية ترقص بين يديه ، وما انتبه إلا بعد أن جاءها السهم وقُتِلت، ففزع فزعاً شديداً فأمر بالاحتياط والتحرز، وهذه تبين لنا هذا الداء من أعظم أسباب البلاء عند الأمة المسلمة .
كما يقول القائل :
إذا كان رب البيت بالدف ضارباً *** فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
عندما يكون الذي يُنْتَظَر منه الجد ، والتحفّظ ، والتيّقظ ، والأخذ بأسباب مصالح المسلمين ، ورفع رايتهم ، وتحقيق أسباب عزتهم ، لاهياً ساهياً غافلاً نائماً لا يدري عن أمره شيئاً، فهذه لا شك أنها صورة مفزعة ، بمجرد أن ينظر إليها الإنسان ويتأمل يحكم بالهزيمة وهو مغمض العينين من غير تفكير ، ثم نتابع مع ابن كثير - رحمة الله عليه - في وصفه لخليفة الوقت في ترجمته :
"ولكن كان فيه لين ، وعدم يقظة ، ومحبة للمال وجمعه ، ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعها الناصر داود بن المعظم ، استودعه وديعة - وهو الخليفة - فأخذ هذه الوديعة واستولى عليها ، وكان قيمتها نحواً من مئة ألف دينار فاستُقْبِح هذا من الخليفة ، وهو مستقبَح ممن هو دونه بكثير " .
السبب الثالث : ضعف الاستعداد وخلوّ الإمداد
ثم مضى ابن كثير يصوِّر لنا السبب الثالث الخطير من أسباب الهزيمة، ولعل السائل أن يسأل : أين الجيوش ؟ كيف دخل التتار ووصلوا إلى دار الخلافة ؟ فهذا جواب ابن كثير - رحمة الله عليه – يقول :
" وجيوش بغداد في غاية القلة، ونهاية الذلة ، لا يبلغون عشرة آلاف فارس ، وهم وبقية الجيش قد صرفوا عن إقطاعاتهم الأجور ، والرواتب لا توجد ، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق ، وأبواب المساجد ، وأنشد الشعراء القصائد يرثون لحالهم ويحزنون على الإسلام وأهله " .
هذا حال الجيش الذي كان في ذلك الوقت لماذا ؟ لأن الخليفة لم يكن متفرغاً لتقوية الأمة ولا لإعداد الجيش ، ولا لتحقيق قول الله جل وعلا : { وأعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوة } .
ولتحقيق قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ) .
فكانت هذه جيوش بغداد الجنود يستعطون ويطلبون العطايا من الناس في الأسواق وأبواب المساجد، هؤلاء العشرة الآلاف البقية الباقية . فإذاً ضاعت الأمة عندما ضاعت قوتها وهيبتها وشوكتها .
السبب الرابع : الطابور الخامس
كما يسميه الناس اليوم الطابور الخامس ، الذي يعمل في الأمة أكثر مما يحتاج الأعداء ومما يأملون ومما يتوقعون ، قال ابن كثير : " وكل ذلك عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي ، كان هو وزير الخليفة رافضياً شيعياً خبيثاً متمالِئاً مع الأعداء ، فهو الذي فعل هذه الأفاعيل " . يقول ابن كثير : " حصل هناك نزاع بين أهل السنة وبين الشيعة ، وانتهبت بعض دورهم ، فكان هذا مما أهاجه على أن دبَّر للإٍسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أفظع منه منذ أن بنيت بغداد ، وإلى هذه الأوقات ولهذا كان أول من برز للتتار كان هذا الرجل ، وماذا كان قد صنع من قبل ، كان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش ، وإسقاط أسماءهم من الديوان ، فكانت العساكر في عهد المستنصر قريبة من مائة ألف ، وجاء التتار وهم عشرة آلاف من المتسولين ، كانوا مائة ألف عِدة هذا جيش وعساكر وجنود، وبقوا عشرة آلاف من المتسولين ، وهذا من فعل هذا الخبيث ، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبقى إلا عشرة آلاف ، ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل عليهم الأمر وحكى لهم حقيقة الحال وكشف لهم ضعف الرجال " .(/8)
وهذا هو الداء الدوي ، الذي ينخر في جسم الأمة اليوم ، عندما يكون في صفوفها أصحاب العقائد المنحرفة التي تسعى جاهدة ، إلى أن تدمر الأمة وفي قلوبها من الحقد والضغينة أعظم مما في قلوب الأعداء ، وهم أكثر عوناً للأعداء وإخلاصاً من بني جلدة الأعداء أنفسهم ، وهذا هو الذي ذكره ابن كثير رحمة الله عليه .
السبب الخامس : ممالأة الأعداء
قال : " ثم عاد إلى بغداد لما ذهب الخليفة ليقابل هولاكو ، ويعود هذا الوزير الرافضي ومعه خوجة نصير الدين الطوسي ، وكان هذا نصير الدين عند هولاكو وقد استصحبه عندما فتح بعض قلاع المسلمين " ، وكان هذا أي نصير الدين مما ينسبون إلى المستنصر العبيدي ـ يريد أن يعيد قيام الدولة العبيدية التي أزالها صلاح الدين بجهاده الذي أشرنا إليه - قال ابن كثير وكانوا يريدون إبطال السنة وإقامة الرفض وإقامة خليفة من العبيديين ، ولكن الله - سبحانه وتعالى - ما أمهله حتى مات هذا الوزير الرافضي في العام نفسه ، ثم لحقه ابن بعد ستة أشهر ، ثم يقول ابن كثير : " ولم ينج أحد من الناس بعد أن وصف القتل الشديد سوى من أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي " .
كانوا صفوفاً خامسة ، وطوابير خامسة ، ويمالئون الأعداء ، ولذلك لم يصبهم ضرر ، هؤلاء الذين يظهرون لنا أنهم أولياء وأحباء وأنهم كذا وكذا، لا يؤمن غير المسلم على أمة الإسلام أبداً لا في دينها ولا عقيدتها ، وهذا الأمر الأول ولا في مقدراتها وثرواتها ، ولا في أوضاعها وأخلاقها مطلقاً ، وهذا التاريخ يحدثنا بذلك حديثاً شافياً واضحاً .
ثم عندما وصف ابن كثير - رحمة الله عليه - ما وقع قال : " وقع هول شديد كان الناس يُقْتَلون ويبادون أربعين يوماً والسيف يعمل في أهل بغداد، حتى كسروا عليهم البيوت ، فلما هربوا صعدوا إلى الأسطحة فصاروا يقتلون على الأسطحة ، حتى سالت ميازيب بغداد من دماء المسلمين " ، وقال - رحمة الله عليه - : "عُدة من مات من المسلمين قيل ثمانمائة ألف من المسلمين ، وقيل ألف ألف - يعني مليون – " ، مما يدل على عظيم الهول .
معركة عين جالوت
عندما نتأمل سنجد ومضات النصر ظاهرة أيضاً ، فهنا المظفر قطز الذي أجرى الله على يديه هذا النصر، ماذا كان من حاله ؟ لما سمع بأمر التتار وأخذهم لبلاد الشام ، وأنهم يريدون أن يتوجهوا إلى مصر ما انتظرهم ولكن توجه هو بجيوشه ، قال ابن كثير : " وقد اجتمعت الكلمة عليه حتى انتهى إلى الشام - يعني اجتمعت الكلمة لقواد وأمراء المسلمين - ووُصِف هذا الملك بأنه كان شجاعاً وكان صالحاً " . قال ابن كثير :
" لا يتعاطى شيئاً مما يتعاطاه الملوك والأمراء ، في ذلك الزمن أي من المفاسد والمعاصي ، وكان انِ اجتمع هو التتار في عين جالوت في الجمعة في الخامس والعشرين من شهر رمضان من عام 658 هـ فاقتتلوا قتالاً عظيماً ، وكانت النصرة - ولله الحمد - للإسلام وأهله " ، فهزموا التتار الذين كانوا منتصرين قبل سنتين ، والذين فعلوا الأفاعيل في بغداد ، هزموا هذه المرة وتتبعهم المسلمين حتى بلغوا دمشق ، وحتى بلغوا وراءهم إلى حلب وهم يفرون ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة تجاوزت عشرات الآلاف إلى ما يقرب من مئات الآلاف ، فكان هذا النصر يدل على مثل هذه الصورة .
عندما تهيأت بعدُ أسباب النصر، وقتلت العامة في تلك الفترة في الجامع شيخاً رافضياً مصانعاً للتتار على أموال المسلمين ، وطهروا ذلك المجتمع من مثل هذه الانحرافات ، ثم قال ابن كثير في وصف قطز :
"كان شجاعاً بطلاً ، كثير الخير ، ناصحاً للإسلام وأهله ، وكان الناس يحبونه ويدعون له كثيراً ، وقال لما كان في القتال قُتلت فرسه ، فظل يقاتل وهو واقف فجاء بعض الأمراء ليعطونه فرساً بديلاً عنها ، فرفض ذلك وظل يقاتل ، فقالوا له : لماذا لم تقبل ونحن نريد أن لا تهزم فينهزم بك الإسلام والمسلمين ؟ فقال : أما أنا لو قتلت فكنت أروح الجنة ، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه " .
وهذه المواقف تبين لنا ملامح الهزائم وأسبابها كما تبين لنا ومضات الانتصارات وأسبابها .
المقصد إذاً - أيها الإخوة - أننا عندما نرى نصراً فينبغي لنا أن ننظر إلى ما قبله، ونرى صورة الأمة وأحوالها في ذلك الوقت ، وكذلك أمر الهزيمة ؛ فإن مثل هذه الصور تبين لنا أن سبب الهزيمة التي تقع على المسلمين اليوم ، إنما هو بمثل هذه الأسباب التي ذكرت من ضعف قوتها العسكرية ، ومن غياب القيام بالواجب من قياداتها السياسية ، ومن وجوب التفرقة والاختلافات والمنازعات فيما بينها ، وكذلك في إعلانها للمعاصي ومجاهرتها بها ، وإعلانها الحرب على الله - سبحانه وتعالى - بما تجهر به من معاصيه ، وهذا هو الذي ينبغي أن نفقهه ، وأن نفطن إليه ، وأن نعرف توجه أعداء الأمة لترسيخ هذه المعاني في حياة الأمة .(/9)
ثم نعرف أن التغيير وأن النصر آتي وقد حديثنا كان يقدم الهزائم على الانتصارات لأننا إلى حد ما في ظلال الهزائم، والانتصارات هي الأمل المرتقب بإذن الله عز وجل، وقد بدت بشائره وتبدو هنا وهناك، وتبدو في عودة الأمة إلى ربها واعتزازها بإسلامها وإيمانها وولاءها لله وبراءتها لأعداء الله، وأخذها باسباب الألفة والوحدة والاجتماع، ونبذها لأسباب الفرقة، وإن كانت هذه الصور جزئية هنا وهناك، ويسعى أعداء الله إلى إطالة أمدها وإلى تعميق آثارها وإلى توسيع دائرتها حتى لا تقوم للمسلمين قائمة، ولذلك أكثر ما يبتلى به المسلمون الشقاق والنزاع، وأكثر ما يسلط عليهم ليفتنوا الفساد والانحراف .
ولذلك أنا أوجز الحديث هنا لأختم هذا اللقاء في ما يتعلق بتكريس أسباب الهزيمة في الأمة، هناك أوضاع ومجالات تكرِّس أسباب الهزيمة والحق أن الحديث عنها الأصل أنه يطول، لكن الإشارة تغني عن الإفاضة والتوسع، مجالات كثيرة سلط أعداء الله عليها الجهود لتبقى في الأمة أسباب الهزيمة والضعف وذلك في مجالات ثلاثة رئيسة ومهمة، ربما تكون أبرز وأظهر هذه المجالات :
مجالات الضعف والهزيمة
المجال الأول : المجال السياسي
أولاً : زرع الفُرْقَة بين المسلمين على مستوى دولهم وتقطيع أوصالهم وإثارة النِزاعات العرقية والخلافات الحدودية وغير ذلك من هذه الأسباب .
ثانياً : تنحية شرع الله في كثير من بلاد المسلمين وتغييبه عن واقع الحياة .
ثالثاً : الموالاة لأعداء الله والسير في فلكهم والتحقيق لأطماعهم في بلاد المسلمين والموافقة لهم في مخططاتهم والسير وراءهم فيما يخططون ويدبرون من كيد وتدمير وهدم لبلاد المسلمين، وكذلك أيضاً في صور أخرى متعددة يطول ذكرها .
المجال الثاني : مجال التعليم
الذي يصبغ الأمة بصبغات شتى بحسب ما يوجه في أذهان أبناء الأمة المسلمة في شرق الأرض وغربها، فإذا بنا نجد مظاهر منها
1 ـ الفصل بين التعليم الديني والمدني كما يسمى .
2 ـ التضييق على التعليم الإسلامي
3 ـ تغيير المناهج وإبعادها عن الروح الإسلامية وربط الأمة بدينها وتاريخها، وذلك ظاهر في كثير من بلاد الإسلام والمسلمين .
حتى إن كل توجه يصبغ أول ما يصبغ الأمة عبر مناهج التعليم، ولذلك نجد هذه الصورة واضحة، حتى إن بعض البلاد اختزل فيها تاريخ الأمة المسلمة اختزالاً مشيناً، فنجد حظ تاريخ وترجمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يتجاوز سبعة أسطر وحظ تاريخ عثمان رضي الله عنه الطويل المديد لم يتجاوز خمسة أسطر في مناهج بعض البلاد العربية المسلمة، وهكذا يسلط على الأمة في هذا المجال والميدان الكثير من الأدواء والانحرافات التي تعمِّق هذا الجانب، وتغيير الأفكار وتشتُّت الأذهان وتقطُّع الأمة عن تاريخها والمجالات في ذلك كثيرة .
4 ـ يجعل للمواد الدينية منزلة أدنى من غيرها، وذلك من خلال ما يحدث في بعض البلاد بأن لا يدخلوا المواد الدينية في النجاح والرسوب، ينجح أو يرسب في المواد الدينية ليست هناك مشكلة، أو لا تدخل في معدلات النسب والتقديرات من الامتياز وغيره .
5 ـ اغتيال وإضعاف منابر التعليم الإسلامي ذات الأثر والتاريخ العريق، وتفريغها من مضمونها ومحتواها، وتحويرها وتحويلها إلى صور لا حقيقة لها أو إلى مظاهر لا باطن لها .
المجال الثالث : المجال الإعلامي
الذي يغير في الأمة ويرسِّخ فيها كثيراً من مجالات الانحراف والأخطاء العقدية والسلوكية والفكرية ويظهر ذلك في صور شتى كثيرة، أبرزها وأهمها
1 ـ وجود التناقض بين الحكم والواقع، بينما يأتي البرنامج الذي يسمى برنامجاً دينياً حكم غناء المرأة وحكم رقص المرأة، ثم يأتي هذا الغناء بعده وهذا الرقص فيُشْعِر الناس بالتناقض، أو إما أن يقبلوا هذين على أن كلا منها ما لله لله وما لقيصر لقيصر، او يضطرب الناس فيظنون الحلال حراماً والحرام حلالاً .
2 ـ ما يسلط على الأفكار والمعتقدات من الانحرافات فضلاً عن ما يفتك بالمسلمين في قضايا الانحراف السلوكي عبر الخلاعة والمجون وغير ذلك .
3 ـ تعظيم الأجنبي غير المسلم، وإعطاءه صورة من الحضارة والرفعة حتى أنه لا يظهر إلا في صورة المعظم المبجل، بينما غيره من المسلمين لا يعطى مثل هذه الصورة .
4 ـ تسليط الأضواء في مجتمعات المسلمين ليس على الأخيار ولا على الأبرار ولا على الدعاة العاملين ولا على العلماء المخلصين، وإنما تسلَّط الأضواء على من تاريخهم يشهد بخيانتهم للأمة وانحرافهم عن نهج الله عز وجل، وإن كانوا كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا فهذه المجالات كلها ومثلها تكرِّس أسباب الهزيمة وصورها في واقع المجتمعات.(/10)
ولذلك البشائر التي تبدو في الأفق من هذه الصحوة الإسلامية، ينبغي أن تعلم أن البداية هي في علاج هذه الانحرافات والأخطاء وفي وقف سيل الأضرار التي تجرف المجتمعات المسلمة من جرَّاء هذه الميادين والمجالات، وأيضاً أن تعلوا بإذن الله سبحانه وتعالى راية الحق وراية الجهاد، وظهر للأمة عياناً أنها إذا ارتبطت بدينها ورفعت راية التوحيد، وأرادت أن تقاتل وتحارب وتجاهد أعداءها باسم الله ان الله سيحقق لها النصر، كما ظهر ذلك في كثير من المواطن والبلاد الإسلامية هنا وهناك، هذه بعض التأملات في مواقع الهزائم والانتصارات .(/11)
تأملات في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
جاء في خطبة حجة الوداع :
- إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا .
- ويحكم (أو قال ويلكم) لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض .
- ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمانا دم ابن ربيعة بن الحارث -وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل- ، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربا العباس بن المطلب فإنه موضوع كله .
- وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وسنتي .
- إن أُمّر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا .
- لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم فاعبدوا ربكم وأقيموا خمسكم وصوموا شهركم وأطيعوا ولاة أمركم ثم ادخلوا جنة ربكم.
- اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحد تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف .
- وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فقال صلى الله عليه وسلم بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد.
هذه وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في آخر أيام حياته، حري بكل مؤمن أن يتأمل فيها وينعم النظر، فهي توجيهات لعموم المسلمين .. أولهم وآخرهم، ذكرهم وأنثاهم، حكامهم ومحكوميهم، وليبلغ الحاضر الغائب.
وهذه بعض الوقفات في هذه التوجيهات النبوية الشريفة :
الوقفة الأولى : العلاقة بين المسلمين
إن أشد المحارم عند الله تعالى هي حرمة المسلم، ولبيان عظمة حرمته عند الله تعالى شبهها بحرمة يوم عرفة في شهر ذي الحجة الحرام في مكة المكرمة (البلدة الحرام)، فالعلاقة بين المسلمين يجب أن تقوم على احترام حقوق بعضهم بعضا، ففي الحديث: "كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه" و " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله " .
إن العلاقات بين المسلمين ينبغي أن تكون مبنية على وحدة المصير ، والتعاون والتكامل ، والتناصر والتكافل، وقد ضرب لنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في ذلك، ففي المهاجرين والأنصار نموذج العلاقة الوثيقة، والأخوة الصادقة، التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم منذ بداية تأسيس الدولة، لتكون الجبهة الداخلية متينة قوية، قادرة على مجابهة أعدائها الخارجيين والمندسين .
أيها المسلمون …
أين نحن من تطبيق هذه الوصية النبوية ؟
ها هم إخواننا في فلسطين المباركة المحتلة، يسومهم اليهود المجرمون أشد العذاب، في ظل مباركة أمريكية أوروبية، وأحيانا عربية وإسلامية (فالساكت عن الحق شيطان أخرس)، أين نحن من نصرتهم وتأييدهم ؟ أين حقوق أخوّتنا الإسلامية ؟
إن سفك دم المسلم لأخيه المسلم حرمته عند الله بهذه الشدة (كما جاء في خطبة الوداع)، فكيف إذا كان القاتل من الكفار، بل من أشد الكفار عداوة لله تعالى وللمؤمنين؟ وماذا ستكون حجتنا عند الله يوم القيامة إذا بقينا متفرجين صامتين؟ إن المسلم إذا ظلم أخاه المسلم وجب علينا الأخذ على يديه لمنعه من الظلم، فمنع الكافر من ظلم المسلم والأخذ على يديه أوجب من باب أولى، فماذا نحن فاعلون لرفع الظلم والجرائم الصهيونية الإرهابية البشعة بحق إخواننا في فلسطين المحتلة والتي نراها صباح مساء؟!! إن لم نهب –نحن المسلمين- لنجدتهم فمن يفعل ؟
إن لسان حال إخواننا في فلسطين يصرخ فينا :
أخي هل تراك سئمت الكفاح وألقيت عن كاهليك السلاح
فمن للضحايا يواسي الجراح ويرفع راياتها من جديد ؟
أخي إنني ما سئمت الكفاح ولا أنا ألقيت عني السلاح
فإن أنا مت فإني شهيد وأنت ستمضي بنصر مجيد (فهل نحن فاعلون ؟)
أيها المسلمون … ينبغي أن يكون خيارنا الآن هو إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة، وإذا طلبنا الموت في سبيل الله وُهبت لنا الحياة الكريمة العزيزة ، ولنا في تاريخ المسلمين العظيم القدوة الحسنة والمثال ، فلنردد جميعنا :
فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين
الوقفة الثانية : وجوب الوحدة الإسلامية
قوله صلى الله عليه وسلم "ويحكم (أو ويلكم) لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" تحذير للمؤمنين من الفرقة والتنافر والاقتتال الداخلي بينهم، وشبه الفرقة بالكفر تنفيرا منها، أي لا ترجعوا بعد وحدتكم متفرقين مختلفين مقتتلين.
وليعلم قادة الدول العربية وهم على أعتاب قمتهم بأهمية الوحدة، فإن تعذرت الوحدة الجغرافية الآن فلا أقل من اتحاد المواقف والرؤى، فكل الدول اليوم تسعى للتكتلات والتحالفات كي يقوى شأنها ويعظم، والله سبحانه وتعالى يقول (إن هذه أمتكم أمة واحدة). ومن على منابر المساجد -بيوت الله- فإننا ندعو قادة الدول العربية :(/1)
لتوحيد الكلمة والموقف ضد العدو الصهيوني المتغطرس، الذي يمارس أشد أشكال الإذلال والمهانة للأمة العربية والإسلامية.
وندعوهم لإعادة حساباتهم وعلاقاتهم مع أمريكا (الراعي الرسمي للإرهاب الصهيوني)، فهي تهددنا بمناسبة وبدون مناسبة بوضع الدول والحركات الإسلامية المجاهدة بما يسمى بقائمة الإرهاب الأمريكية !! كذريعة بعد ذلك لضربها كما يحلو لها !!
أيها القادة …
إن أصوات شعوبكم تدعوكم للعمل قبل الكلام قائلة :
طلقوا الكلام ودعوا القرطاس فكلامهم قذائف وأقلامهم رصاص
الوقفة الثالثة : وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية ونبذ الأحكام الجاهلية
في يوم عرفة (أعظم الأيام) نزلت آية من أعظم الآيات (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فبكمال الدين تمت نعمة الله على المؤمنين، وإن الاستمساك بالكتاب والسنة هو وحده طريق النجاة والهداية، وإن الرضى بقوانين الجاهلية (مهما كانت) هو طريق الضلال والغواية، إن أحكام الشريعة كاملة شاملة، لكل زمان ومكان صالحة، فكيف نستبدلها بقوانين بشرية قاصرة ؟!
إن على المسلمين اليوم واجب الانقياد والطاعة لشريعة الله تعالى، فمن حكّمها من القادة وجبت طاعته، ولو كان عبدا مجدع الأنف، " إن أُمّر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا "، أما من استجاب لأوامر اليهود والنصارى ونبذ أحكام الدين، فلا سمع له ولا طاعة.
إن طريق العزة والرفعة من هنا يبدأ، فلنصلح أنفسنا، ولنعلن توبتنا الصادقة النصوح، ولننبذ كل أمر جاهلي يغضب الله ورسوله، ولو غضب علينا بذلك العالم بأسره، ولنعلن بكل قوة ووضوح، أن صلحنا يجب أن يكون مع الله ومع أنفسنا، لا مع أعداء الله وأعدائنا؛ اليهود الغاصبين المعتدين ومن والهم من قوى البغي والاستكبار. (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) .
الوقفة الرابعة : الوصية بالنساء خيرا
مكانة المرأة في الإسلام معروفة مشهورة، فهو الذي أعطاها حقوقها بعد منع، وأنصفها في كل الأمور بعد ظلم، وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر المؤمنين في يوم الحج الأكبر باتقاء الله في النساء .
وها هن نساء فلسطين نرى فيهن أم الشهيد وأخت الشهيد وزوجة الشهيد وابنة الشهيد وجدة الشهيد، وفوق ذلك نرى فيهن الشهيدات البطلات، نراهن صابرات محتسبات، يهدم بيتها ولا يهدم إيمانها، يستشهد ابنها فترسل باقي أولادها للميدان، وهي أمامهن حاثة مشجعة.
يا معشر المتقين …
استوصوا بالنساء خيرا كما قال نبيكم صلى الله عليه وسلم، وإلا فمن لهذه الثكلى، ومن لهذه الأسيرة ؟؟
إن لم تحرّكنا هذه الحرمات المنتهكة فأي شيء يحركنا !!
إن لم تهزنا هذه الصور المؤلمة فما الذي يهزنا !!
أم نكون كما قال الشاعر :
رب وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الثكالى اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
توصيات :
1- حث الأسر القادرة على مؤاخاة أسرة شهيد أو معتقل أو عاجز لنحقق بذلك مشروع المهاجرين والأنصار الذي شرعه المصطفى صلى الله عليه وسلم كركن متين في بناء الدولة الإسلامية الراشدة.
2- تجديد الحث على مقاطعة البضائع الأمريكية واليهودية التي بدأت تتسرب أخيرا في بعض البلدان الإسلامية، وبيان أهمية ذلك كنوع من الجهاد الذي يستطيع ممارسته كل مسلم بشكل فاعل.
وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
د. إبراهيم مهنا(/2)
تأملات قرآنية (من نبأ موسى وفرعون) (2 ـ 2)
د. أحمد عبد الله العماري
تحدث الكاتب وفقه الله تعالى في الحلقة الماضية عن ميلاد موسى ـ عليه السلام ـ وما صاحب ذلك من الأمور العظام حتى اضطر إلى الهجرة خوفاً من دعوته وملته، ويواصل في هذه الحلقة الحديث عن عودة موسى ودعوته لفرعون، والمصير الذي لاقاه فرعون لرفضه هداية الله.
13 ـ (الرحلة البرية الثانية لموسى ـ عليه السلام ـ رحلة العودة إلى الوطن):
إن من سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه حنين الإنسان إلى وطنه مهما كان في ذلك الوطن من العنت والشقاء. وإن نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ لمّا غادر وطنه بغير رضىً منه أو اختيار، وغاب عنه سنين عديدة، بسبب جور الظالمين عليه، أعد عدَّته وعاد إلى وطنه، بعد ما قضى ذلك الأجل الذي تمّ بينه وبين ذلك الشيخ الكبير، والذي يُقدَّر بعشر سنوات، ويسدل الستار على تلك السنوات العشر، لا ندري ماذا تلقَّى فيها موسى، وماذا عمل فيها؟ إلاّ رعيه للغنم فقط، ثم عقد العزم على الرجوع إلى أهله وبلاده، مستصحباً معه في طريقه أهله ومتاعه، ويلقى في تلك الرحلة من المشاهد والمواقف الشيء العظيم، والنص القرآني يبين ذلك ويوضحه بدون تفصيل.
قال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بَأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يَعْقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: 29 - 32].
إن هذا النص القرآني الكريم يحمل في طياته أخبار تلك الرحلة بإيجاز، ويعرض لنا مشاهدها باختصار، مع التمام في المعنى، وهذا من بلاغة القرآن وفصاحته وعظمته.
لقد عاد موسى ـ عليه السلام ـ إلى بلاده برفقة أهله وبعض متاعه، يحثُّ الخطو إلى بلاده ـ عادة كل غائب يعود إلى أهله وأرضه ـ لكن يفاجأ ـ عليه السلام ـ بنداءات ومشاهدات وبراهين لم يعهدها من قبل في طريقه، ممّا أثار في نفسه الخوف والوجل والقلق والحذر، ومن تلك المواقف:
1 ـ مشاهدته لنار بعيدة عنه وهو في ليلة مظلمة مطيرة؛ قاصداً الاستضاءة بها، والتصلية، والتدفئة.
2 ـ سماعه النداء من الشجرة في البقعة المباركة الصادر من الله رب العالمين.
3 ـ رؤيته لعصاه بعد إلقائها وهي متغيرة عليه في صورتها وخلقتها وحركتها، وخوفه منها.
4 ـ منظر يده بعد أن أخرجها من جيبه وهي بيضاء نقية من غير سوء.
5 ـ وجود الاطمئنان والسكون بعد أن يضع يده على قلبه، رحمة من الله ـ تعالى ـ به.
هذه المواقف العظيمة التي شاهدها موسى ـ عليه السلام ـ وهو في طريقه إلى أهله وبلاده، ما كانت تخطر بباله، ولا كان يتوقع رؤيتها وسماعها، وبناءً على ذلك أصيب بالخوف وعدم الاطمئنان، لكن عناية الله ـ تعالى ـ لعبده وتكريمه له، ترافقه من المهد إلى اللحد.
إن أعظم مشهد وموقف قابله موسى ـ عليه السلام ـ في هذه الرحلة البرية هو تكليف الله ـ تعالى ـ له بالرسالة إلى عدوه اللدود «فرعون» الذي هرب منه في أول الأمر، وهجر أهله وأرضه من أجله، وهذا تحقيق لوعد الله ـ تعالى ـ الذي لا يخلف الميعاد حيث طمأن أمّه بأنه ـ سبحانه ـ سيرُدُّه إليها، وفوق ذلك سيجعله من المرسلين. كما قال ـ سبحانه ـ: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].
ومن المواقف العظيمة التي لاقاها موسى في طريقه، كون ربه الذي خلقه يناديه، ويتكلم معه بدون واسطة، هذا هو الفضل العظيم، وهذا هو العطاء الجزيل، الذي لا منّة فيه ولا نفاذ.
أيّ تكريم، وأيّ تشريف هذا ترجع به يا موسى إلى أمك وأهلك وأعدائك بعد رحلتك المضنية، وغربتك المتعبة؟! فارقت أمك وأهلك ووطنك، وأنت في حالة يرثى لها من الخوف والمطاردة، والغربة والوحشة، تمكث في غربتك عشر سنين، والشمس تشرق عليك وتغرب، وأنت خلف غنيمات تغدو بها وتروح، والله هو الوحيد الذي يعلم ما يكُنُّه صدرك، وما يلوح في ذهنك، وما تأمرك به نفسك.(/1)
إن ما حصل لك في طريقك وأنت في رحلتك الأولى، وفي رعيك للغنم هو نوع من الابتلاء، كما أن ما حصل لك في طريقك وأنت عائد إلى أهلك ووطنك من المواقف والمشاهد العظيمة هو نوع من الابتلاء أيضاً، وإن كان هناك فرق بين الابتلائين، وتلك الابتلاءات هي سبيل التمكين.
إنّ هذا هو اختيار الله ـ تعالى ـ لك، ونِعمَ المختار، ونِعمَ الاختيار. قال ـ تعالى ـ: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}.
[طه: 13]
وهي محبة الله ـ تعالى ـ ترعاك وتكلؤك. قال ـ تعالى ـ: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39].
وهو اصطفاء الله ـ تعالى ـ لك من دون الناس بالرسالة والكلام. قال ـ تعالى ـ: {قَالَ يَا مُوسَى إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144].
ما أعظم هذه القدرة التي تحيط بك ياموسى! وما أعظم هذا التكريم الذي فزت به من بين خلق الله، اختيار واصطفاء، ومحبة وكلام، ونصر وتأييد، وعلو وتمكين، كل ذلك يأتي بعد ذلك العناء الذي لا قيته في أول حياتك، ما عقلت منها وما لم تعقل، والأعمال بالخواتيم.
ولقد حُرِم أهل الابتداع من الإيمان بهذه الصفات الإلهية ـ المحبة والكلام والرؤية والسماع ـ التي امتنَّ الله بها على عبده موسى ـ عليه السلام ـ وغيرها من الصفات الأخرى، التي ُتشِعر برحمة الله ـ تعالى ـ من خلالها، وبعزته وحكمته، وعلمه وسمعه وبصره، وقدرته ومشيئته، وإحاطته بكل شيء، وهيمنته وجبروته، وعلّوه واستوائه على عرشه، وأنه بائن من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ وذلك لفساد المدرسة التي نشأوا عليها، مدرسة الزيغ والإلحاد، والتحريف والتأويل، والتعطيل والتشبيه، والتجسيم والحلول.
وصدق الله ـ تعالى ـ القائل: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
[الأعراف: 180]
14 ـ مطالب موسى ـ عليه السلام ـ من ربه:
ولما علم موسى ـ عليه السلام ـ بتكليف الله ـ تعالى ـ له بالرسالة، لم يتردد في حملها، لكنه تذكر شيئاً من ماضيه مع فرعون وقومه، إنه عاش أول حياته في قصر فرعون، ورأى من طغيانه وجبروته الشيء الكثير، ومع ذلك حفظه الله من بأسه وبطشه، وهو في حالة ضعف وغربة، وطلب موسى من الله ـ تعالى ـ مطالب تُحققُ له، لكي يستطيع أن يقوم بأداء ما كُلِّف به خير قيام، بعضها معنوي، وبعضها حسي، ومن تلك المطالب ما ذكره الله ـ تعالى ـ في قوله ـ تعالى ـ: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَرُونَ أَخِي}.
[طه: 25 - 30]
وقال ـ تعالى ـ: {وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34] .
وقد استجاب الله ـ تعالى ـ لعبده موسى ما طلب، قال ـ تعالى ـ: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36].
وقال ـ تعالى ـ: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35].
إنّ هذه الإجابات من الله ـ تعالى ـ لعبده موسى تحمل في طياتها الرحمة والنصرة والغلبة على العدو؛ نصرة من الله ـ تعالى ـ لموسى وهارون على عدوهما فلا يصل إليهما، ونصرة من هارون لأخيه موسى ـ عليهما السلام ـ تتمثل في شد أزره وعضده، وفي الفصاحة والبيان، وفي الأنس من وحشة الطريق، وكل هذا رحمة من الله ـ تعالى ـ كما قال ـ سبحانه ـ: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53].
يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ تعالى ـ: (لقد طلب إلى ربه أن يشرح له صدره... وانشراح الصدر يُحوِّل مشقة التكليف إلى متعة، ويحيل عناءه لذة، ويجعله دافعاً للحياة لا عبثاً يثقل خطى الحياة.
وطلب إلى ربه أن ييسر له أمره... وتيسير الله للعباد هو ضمان النجاح. وإلا فماذا يملك الإنسان بدون هذا التيسير؟ ماذا يملك وقواه محدودة، وعلمه قاصر، والطريق طويل وشائك ومجهول؟!
وطلب إلى ربه أن يحل عقدة لسانه فيفقهوا قوله... وقد روي أنه كانت بلسانه حبسة، والأرجح أن هذا هو الذي عناه. ويؤيده ما ورد في سورة أخرى من قوله: {وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص: 34].
وقد دعا ربه في أول الأمر دعاءً شاملاً بشرح الصدر وتيسير الأمر، ثم أخذ يحدد ويفصل بعض ما يعينه على أمره وييسر له تمامه.
وطلب أن يعينه الله بمعين من أهله؛ هارون أخيه. فهو يعلم عنه فصاحة اللسان، وثبات الجنان، وهدوء الأعصاب...(/2)
لقد أطال موسى سؤله، وبسط حاجته، وكشف عن ضعفه، وطلب العون والتيسير والاتصال الكثير، وربه يسمع له، وهو ضعيف في حضرته، ناداه وناجاه. فها هو ذا الكريم المنان لا يُخِجلُ ضيفه، ولا يرد سائله، ولا يبطىء عليه بالإجابة الكاملة: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36].
هكذا مرة واحدة، في كلمة واحدة. فيها إجمال يغني عن التفصيل، وفيها إنجاز لا وعد ولا تأجيل... كل ما سألته أعطيته، أعطيته فعلاً؛ لا تُعطاه ولا ستعطاه؟ وفيها مع الإنجاز عطف وتكريم وإيناس بندائه باسمه «يا موسى»، وأيّ تكريم أكبر من أن يذكر الكبير المتعال اسم عبد من العباد؟)(1) ا. هـ.
ثم كلَّفه الله ـ تعالى ـ وأخاه هارون بالذهاب إلى «فرعون» الطاغية، وأمرهما أن يُلينا له في القول، لعل رحمة الله ـ تعالى ـ تدركه، ويعود عمَّا هو فيه من الظلم والطغيان، ما أحلم الله بعباده؟! بيَّن لهم عظمته سبحانه في مخلوقاته، الدالة على وحدانيته وتفرده بالأمر والنهي، والخلق والتدبير، وبعث فيهم رسلاً منهم، مبشرين ومنذرين، فخيره إليهم نازل، ولا يصعد منهم عمل صالح.
15 ـ الموقف الثاني لفرعون وملئه من موسى ـ عليه السلام ـ:
قال ـ تعالى ـ : {فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص: 36].
إن هذا الموقف يختلف عن الموقف الأول تماماً، من الضعف إلى القوة، ومن التخفي إلى الظهور، ومن المطاردة إلى المواجهة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الوحشة في الطريق إلى الأنس، ومن ضيق الصدر إلى الانشراح، ومن التلعثم إلى الفصاحة، ومن التردد إلى الانطلاقة، يحمل موسى وهارون إلى «فرعون» المعجزات الباهرات، والدلالات القاهرات، التي لو أٌلقيت على الجبال الرواسي لخشعت وخضعت وانقادت؛ بل لصارت دكاء. لكن القلوب القاسية والمغلقة تنكر الحقائق وتشكك فيها؛ بل تقف ضدها بغياً وعدواناً، وعناداً وجحوداً، بل أنكر «فرعون» الصانع كما حكى الله ذلك عنه؛ فقال: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23].
وقال ـ تعالى ـ: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه: 49].
إنها صيغة استفهام إنكاري صادرة من «فرعون». إن موسى وهارون أول ما بادرا «فرعون» في دعوتهما دعياه إلى الاعتراف بالصانع الخالق المالك المدبر لهذا الكون كله، كما قال ـ تعالى ـ: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16].
وقال ـ تعالى ـ: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47].
ومن اعترف بذلك فقد اعترف بألوهية ذلك الصانع إلزاماً، وأنه صاحب الأمر والنهي، والأسماء والصفات الحسنى، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع العليم.
لقد تلطف موسى وهارون في دعوتهما «فرعون» وذلك بتوجيه من الله ـ تعالى ـ لهما؛ لأن الهدف من دعوته هدايته، وإخراجه من الظلمات إلى النور.
قال ـ تعالى ـ: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 42 - 44].
إن في هذا التوجيه سنة ربَّانيَّة لمن يقوم بحمل المنهج الرباني ويدعو إليه، وهي أن يتلطف بمن يدعوه، ويُبيّن له بالدلائل البينات، والبراهين الساطعات ما يدعو إليه، لعله يتذكر أويخشى، فيخرج من الظلمات إلى النور، ومن الرق إلى الحرية؛ حرية العبودية لله ـ تعالى ـ. وإن الرفق واللين في بيان الحق والوصول إليه أنفع وأوقع في النفس البشرية.
يقول ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيره لهذه الآية: «هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألاَّ يخاطب فرعون إلاّ بالملاطفة واللين، وأن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل؛ ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}» [النحل: 125].(/3)
إنّ مواجهة أهل الباطل المتمكنين في الأرض كـ «فرعون» وغيره، لهو أمر صعب على النفس، خاصة وأن الله ـ تعالى ـ بين لهما أنه طغى، لأن الذي لا يستحي ممن خلقه ورزقه، وبيده محياه ومماته، فإنه من باب أولى لا يستحي من مخلوق مثله، فقد يبطش به، أو يسفّهه، أو يسجنه، أو يسلط عليه السفهاء، وإن هذه المواقف ما غابت عن «موسى وهارون» ـ عليهما السلام ـ فقد حكى الله عنهما ذلك فقال ـ تعالى ـ: {قَالا رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} [طه: 45].
لكن من كان الله ـ تعالى ـ معه فلا يخاف ظلماً ولا بخساً، ولقد وجه الله ـ تعالى ـ عبديه الصالحين بعدة توجيهات في مواجهة «فرعون» الطاغية، وأخبرهما أنه ـ سبحانه ـ معهما يسمع ويرى، ومن تلك التوجيهات الربانية:
1 ـ السرعة في تنفيذ حجج الله ـ تعالى ـ وبراهينه ومعجزاته. قال الله ـ تعالى ـ: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42]. وفسَّر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ذلك بقوله: لا تُبطئا. وبقوله: لا تضعفا. وأياً كان الشأن فالتوجيه لهما بالصمود أمام فرعون، والمبادرة في بيان دلائل الحق والإعجاز، وعدم الفتور في عرضها وبيانها. والواجب على كل من عرف شيئاً من معالم هذا الدين أن يبادر إلى تنفيذها وإرشاد الناس إليها، وألاَّ يصاب بالكسل، أو الخور والجبن في تبليغها مهما قُوبل في الطريق من الصعاب والعقبات، فهذه سُنَّة الأنبياء، بتوجيه لهم من الله ـ تعالى ـ.
2 ـ اللين في القول. لقوله ـ تعالى ـ: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44].
إن الرفق في جميع الأمور ما كان في شيء إلا زانه، كما أن الغلظة والشدة ما كانتا في شيء إلا شانتاه، وكما أن هذا التوجيه من الله لموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ جاء أيضاً لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فقال ـ تعالى ـ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
[آل عمران: 159]
3 ـ وهذه سُنَّة شرعية لمن يحملون المنهج الرباني ويبلغونه عباد الله؛ لأن الهدف إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتعريفهم بخالقهم، والخضوع والتذلل له.
4 ـ عدم الخوف في القيام بالرسالة الربانية. إن من طبيعة النفس البشرية أن يعتريها شيء من الخوف، وهو على درجات متفاوتة، والذين يحملون المنهج الرباني يدركون تبعاته وما يترتب على تبليغه ونشره، وموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ وقع لهما شيء من الخوف من طاغية عصرهما «فرعون» أن يبطش بهما، ويعتدي عليهما لأول وهلة يلتقيان معه، لجهله من جانب، ولظلمه وطغيانه وجبروته من جانب آخر، والله ذكر ذلك في كتابه فقال ـ تعالى ـ: {قَالا رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45 - 46].
إن الله ـ تعالى ـ اختار من خلقه من يحمل رسالته، ويقوم بنشرها وتبليغها، وفي مقدمة هؤلاء الأنبياء والرسل ـ عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ وجاء في وصفهم في كتاب الله العزيز: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39].
يقول ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: «يمدح تبارك وتعالى {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ} أي: إلى خلقه ويؤدونها بأمانتها، {وَيَخْشَوْنَهُ} أي: يخافونه ولا يخافون أحداً سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله. {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أي: وكفى بالله ناصراً ومعيناً.
وسيّد الناس في هذا المقام ـ وفي كل مقام ـ محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، إلى جميع أنواع بني آدم، وأظهر الله كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع، فإنه قد كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وأما هو ـ صلوات الله عليه ـ فإنه بُعِث إلى جميع الخلق عربهم وعجمهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
ثم ورَّثَ مقام البلاغ عنه أمته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه، بلَّغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، في ليله ونهاره، وحضره وسفره، وسِرِّه وعلانيته، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا، فبنورهم يقتدي المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون، فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم» ا. هـ.(/4)
ما أجمل سيرة السلف الصالح من الأنبياء والرسل، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم، وكيف يخشى أو يخاف من كان الله ـ تعالى ـ معه بالنصر والتأييد، أنقذ نوحاً، وموسى، ويونس من الغرق، وإبراهيم من النار، وعيسى ومحمد من القتل، وأهلك من عاداهم، ولم يستجب لهداهم، وأخذ كلاً بذنبه، وصدق الله القائل: {إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14].
16 ـ العاقبة الوخيمة لفرعون وملئه:
لقد اقتضت حكمة الله ـ تعالى ـ أن يكون لكل مخلوق من خلقه بداية ونهاية، ولا يبقى إلاّ وجهه الكريم، قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88].
وقال ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
وقال ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
وقال ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 57].
ولقد ذكر الله ـ تعالى ـ لنا في كتابه أحوال كثير من خلقه ـ أفراد ومجموعات ـ من الذين طغوا وتجبروا وتكبروا في الأرض بغير الحق، بل بغياً وعدواناً، كما جاء في وصف فرعون وجنوده، في قوله ـ تعالى ـ: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90].
وبيَّن لنا ـ سبحانه ـ كيف أخذهم، وأنه ـ سبحانه ـ أخذ كلاً بذنبه، فقال بعد أن ذكر الله ـ تعالى ـ نوحاً، وإبراهيم، ولوطاً، وشعيباً، وهوداً، وصالحاً، وموسى ـ عليهم السلام ـ وقومهم: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
وقد وعد الله ـ تعالى ـ عباده الصالحين بالنصر والفوز المبين، والغلبة والتمكين، فقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173].
ولقد بذل رسول الله موسى ـ عليه السلام ـ جهداً عظيماً مع فرعون وملئه، لكنهم أعرضوا عنه وتنكروا له، بل ضاقوا ذرعاً به وبدعوته، ووقفوا ضده يحاورونه ويجادلونه، ويناقشونه ويشوهونه، ومع ذلك وقف نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ وقوف الجبال الرواسي على دينه، ولم يقصّر في تبليغ ما كلّف به من ربه، وترفق بفرعون وملئه في دعوته، وصبر على ما لاقى منهم في الطريق من المتاعب والمطاردة والمشاق والأذى، ووقفوا ضده مواقف مخزية، ومن تلك المواقف السيئة:
1 ـ التكذيب بآيات الله ـ تعالى ـ، والاستكبار عنها.
قال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 11].
وقال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 52].
وقال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}.
[الأنفال: 54]
قال ـ تعالى ـ: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} [يونس: 75].
وقال ـ تعالى ـ: {إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} [المؤمنون: 46].
وقال ـ تعالى ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4].(/5)
وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاَّ فِي تَبَابٍ} [غافر: 36 - 37].
وقال ـ تعالى ـ: {مِن فِرْعَوْنَ إنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ}.
[الدخان: 31]
2 ـ وصمٌهم لموسى ـ عليه السلام ـ بأنه ساحر ومسحور. وأن ما جاء به سحر.
قال ـ تعالى ـ: {قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 109].
وقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر: 23 - 24].
وقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا}.
[الإسراء: 101]
وقال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 76].
3 ـ اتهموا موسى وقومه بالفساد في الأرض.
قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127].
وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}.
[يونس: 79]
4 ـ قتلهم لأبناء بني إسرائيل، واستحياء نسائهم.
قال ـ تعالى ـ: {وَإذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الأعراف: 141].
وقال ـ تعالى ـ: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 6].
5 ـ الإنكار لربوبيّة ربِّ الأرباب.
قال ـ تعالى ـ: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23].
6 ـ العزم على قتل موسى، والتخلص منه.
قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9].
وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26].
وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28].
7 ـ ادعاء فرعون الربوبيّة.
قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38].
8 ـ ادعاؤه الكمال في الرأي والدلالة.
قال ـ تعالى ـ: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29].
إلى غير ذلك من المواقف المشينة من فرعون وقومه في حق الله ـ تعالى ـ وأنبيائه ورسله.
وقد أخذ الله ـ تعالى ـ فرعون وقومه أخذ عزيز مقتدر، وبيّن الله لنا في كتابه أنه طغى، فأخذه الله ـ تعالى ـ بالغرق ليكون عبرة لمن خلفه.
فقال ـ تعالى ـ: {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} [طه: 24].
وقال ـ تعالى ـ: {اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} [طه: 43].
وقال ـ تعالى ـ: {وَإذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 50].
وقال ـ تعالى ـ: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78].(/6)
وقال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 11].
وقال ـ تعالى ـ: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 103].
وقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130].
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 52].
وقال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}.
[الأنفال: 54]
ومن العاقبة السيئة لفرعون وجنوده، أنهم يُعرضون على النار غدواً وعشياً، ويوم القيامة يذوقون أشدَّ العذاب.
قال ـ تعالى ـ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].
ولم يقع ما حلَّ بهم إلاّ بعد ما أُنذِروا، قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [القمر: 41].
17 ـ الدروس والعبر المستفادة.
| إنَّ عَرضَ سير الأنبياء والمرسلين الذين اختارهم الله ـ تعالى ـ، واصطفاهم من خلقه على الأسماع لهو أمر مهم ومطلوب، فهم القدوات الطيبة الذين حملوا المنهج الرباني وطبقوه في أنفسهم، ثم دعوا البشر إلى اعتناقه وتطبيقه، ولاقوا في سبيل ذلك من المتاعب والمشاق ما الله به عليم، ومع ذلك حفظهم الله ـ تعالى ـ، ومكَّنهم في الأرض، وصرف عنهم كيد عدوهم، وفي معرفة سيرهم خير زاد في الطريق إلى الله ـ تعالى ـ.
| إنّ الصراع بين الحق والباطل سُنَّة من سنن الله ـ تعالى ـ، ما دامت السماوات والأرض، لا يزول هذا الصراع إلاّ بزوال هذا الكون. وما وقع بين موسى ـ عليه السلام ـ وفرعون وملئه من هذا الباب.
| إن الله ـ تعالى ـ أخبر أن التمكين في الأرض سيكون لموسى وملئه، وأن الدائرة السيئة ستكون على فرعون وملئه. قال ـ تعالى ـ: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 - 6] .
| إنّ طريقة القرآن في عرض المشاهد أو الأحداث يجمل ولايفصل، ولكن هذا الإجمال يرى فيه الناظر كأنما شاهد القصة أو الحدث كاملة أومتكاملة، وهذا من بلاغة القرأن الكريم وإعجازه، وهذا يؤخذ من قصة أخت موسى من الحدث حيث تجلَّى ذلك في عدة محاور:
الأول: الأم وابنتها وما دار بينهما في شأن موسى ـ عليه السلام ـ.
الثاني: الدور الذي قامت به أخت موسى.
الثالث: الحوار الذي دار بين أخت موسى وآل فرعون.
الرابع: رجوعها إلى أمها بالبشارة العظيمة برجوع موسى ـ عليه السلام ـ إليهما.
| إنّ الله ـ سبحانه ـ خلق الجن والإنس لعبادته وحده دون من سواه، وهداهم النجدين، وأوضح لهم الطريقين بواسطة رسله الكرام، وقد بلغوا الناس ما أنزل إليهم، وأول تكليف طلبوه منهم عبادة الله وحده وعدم الإشراك به.
| جَعَلَ ـ سبحانه ـ من سنته ابتلاء الناس بعضهم ببعض. كما قال ـ تعالى ـ : {وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: 4].
كما جعل من سنته التدافع فيما بينهم. كما قال ـ تعالى ـ {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
| إنَّ من عدل الله وفضله ومنَّته أنه حرّم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرماً. قال ـ تعالى ـ: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]. وقال ـ تعالى ـ : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
وفي الحديث القدسي الصحيح: «ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا» رواه مسلم. وقد ظلم فرعون وقومه نبي الله موسى وقومه، والمظلوم هو المنتصر في النهاية. سواء في الحياة الدنيا أو الآخرة.
| إنّ بعض خلق الله كُتِبت عليه الشقاوة في الدنيا والآخرة، فيشقى به من كان تحت ولايته، أو حوله، ومن أولئك «فرعون المثبور» ذلك الرجل الطاغية، الذي ادّعى الربوبية، كما حكى الله عنه: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24].(/7)
ووصفه الله بالطغيان وكثرة الفساد في الأرض، قال ـ تعالى ـ: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 10 - 14].
وقال ـ تعالى ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4].
| إنّ من أعظم فساد فرعون ادعاؤه الربوبية والألوهية، ثم ذبحه لأبناء بني إسرائيل خوفاً على ملكه ونفسه منهم. ولو استسلم لله ـ تعالى ـ واستجاب؛ لسَعِدَ في الدارين، ولكن لله ـ تعالى ـ الحكمة البالغة.
| إن المخاوف البحرية أيّاً كانت؛ سواء كانت أمواجاً أو غرقاً، أو حيوانات من حيوانات البحر، أوظلمات، أو غير ذلك ممَّا يتصوره الإنسان على مثل ذلك الرضيع الصغير الضعيف أو غيره، ترجع أمناً وطمأنينة وهدوءاً وسكينة بتدبير الله ـ تعالى ـ لها، فهو الخالق المصرّف الذي بيده ملكوت كل شئ، إذا أراد شيئاً قال له: كن. فيكون.
| إن بيوت الجبابرة قد يوجد فيها الاختراق، إمّا من داخلها أومن خارجها، وإذا قوي التوكل على الله لدى الإنسان قويت عزيمته، وإذا أخذ بالأسباب الشرعية في الوصول إلى الأهداف فإن الله ـ تعالى ـ يُسَهل له الطريق ويلين له القلوب ويجعل الله له مع العسر يسراً، انظر إلى ما هيأه الله لهذا الرضيع وهو في المهد! لا يعرف توكلاً، وليس له عزيمة ولا قدرة، ولا يعرف وسيلة ولا هدفاً ولا غايةً، وهو في قبضة من يريد ذبحه والتخلص منه، وليس لديه أيّ تردد في ذلك وهو داخل داره وبين جنوده وغلمانه، ومع ذلك هيّأ الله له من يعطف عليه ويدافع عنه، ويجادل فرعون في أمره وهو لا يشعر بذلك، فأصبح عدواً وحزناً لفرعون في داخل داره، ومع ذلك صرف الله عنه بطش فرعون وظلمه وطغيانه، ومع إصرار زوجة فرعون ودفاعها عن الاعتداء على ذلك الطفل استجاب فرعون لها، مع تخوفه منه وكرهه لذلك، واستنفرت خدمها للعناية بموسى ـ عليه السلام ـ فكلّفتهم البحث عن المرضعات؛ لكي يقمن بإرضاعه وإطعامه، فحضرن وحاولن أن يرضعنه، لكنه امتنع عن ذلك، فلم يلقم ثدياً على الإطلاق؛ لأن الله ـ تعالى ـ حرّم ذلك عليه لحكمة يريدها سبحانه.
| إن من يرتكب خطيئةً ـ مهما كانت ـ فإنه يصبح ضعيف الموقف، خائف النفس، وهذا يؤخذ من موقف موسى ـ عليه السلام ـ لما اقترف تلك الخطيئة ـ وهي قتل القبطي ـ فأصبح خائفاً من أن ينكشف أمره لأولئك القوم الذين يتربصون به وهو في المهد، فكم حاولوا قتله، والتخلص منه، فكيف وقد وقع منه ما يسئ إليهم؟ فعلى العاقل أن يصون نفسه من الوقوع في الزلات، حتى يكون عزيز الجانب، مطمئن النفس وإن ظُلِم؛ كما حصل لنبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ.
| إن الله ـ سبحانه ـ إذا أراد شيئا هيأ له أسبابه، وإن الله ـ سبحانه ـ قادر على إيجاد ذلك الشيء من دون أسباب، ولقد سبق في علم الله ـ تعالى ـ الأزلي أن عبده موسى ـ عليه السلام ـ سيكون من المرسلين. كما سبق في علمه ـ تعالى ـ أنه سيقع في أيدي أعدائه وهو طفل رضيع ليكون لهم عدواً وحزناً. فهيأ الله ـ تعالى ـ لعبده الضعيف من يحفظه ويكفله، ويرعاه من داخل بيوت أعدائه، وهم لايشعرون ماذا تكون العاقبة.
| إن الإنسان مهما ارتكب من الذنوب والخطايا فإن أبواب الله مفتوحة بالليل والنهار، فلا يقنط الإنسان ولاييأس من عفو الله ورحمته ومغفرته، وإن أعظم ذنب عُصيَ الله به هو الشرك.
فعلى كل من وقع في خطيئة سواء كانت كبيرة أو صغيرة أن يتوب إلى الله ـ تعالى ـ، ويستغفره، ويتوب إليه، ويندم على ذلك، ويخلص في توجهه إلى الله ولا يعود إلى ذلك.
| ليعلم ورثة الأنبياء أن الطريق الصحيح هو طريق الأنبياء؛ فليصبروا، وليحتسبوا على ما يلاقون في طريقهم، وليدعوا ربهم أن يهديهم السبيل المستقيم وأن ينجيهم من كيد الكائدين، وحقد الحاقدين، ومكر الماكرين، أسوة بالأنبياء في ذلك، ولا يستعجلوا الطريق، فإن النصر بيد الله ـ تعالى ـ: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].
| إن الرجل المصلح في هذه الحياة قد يجد معاناة في داخل النفس، ومعاناة في الطريق، ومعاناة من قلة الزاد وأنيس الطريق، ومعاناة ممَّن سيلقاهم أمامه، كيف يأوي إليهم، وكيف يقص خبره عليهم، وكيف يستقبلونه؟
لكن الرجل المؤمن بالله، والواثق بنصره، والمتوكل عليه حق التوكل، يلجأ إليه ويعتصم به ويتضرع إليه، فهو الخالق الرازق، وهو المحيي والمميت، وهو النافع وبيده مقاليد الأمور، لا رادَّ لما قضى، ولا مانع لما أعطى، ولا مذل لمن أعز ، ولا معز لمن أذل.(/8)
لقد لجأ موسى ـ عليه السلام ـ بجلال الله وعظمته فدعاه؛ فحماه الله ـ سبحانه ـ وهيأ له من الأسباب وطرق الخير الشيء الكثير.
| إن من طبيعة المرأة الخجل والحياء والضعف، وعدم القدرة على مزاحمة الرجال، وهذا يؤخذ من حال تلك المرأتين اللتين تذودان غنمهما عن ذلك المجتمع، فلا تُزاحمان القوم في السقي، وتنتظران صدورهم حتى تتمكنا من السقي بدون مزاحمة ولا مشادة. فالمرأة العاقلة تقدر وتحترم نفسها ومن وراءها، فكيف إذا كانت من بيت عز ومكانة؟ فإن مزاحمة المرأة للناس في منتدياتهم وفي قضاء حوائجهم ليس من طبيعتها، بل إذا حصل منها شيء من ذلك فإنَّه سلوك مشين، وخارج عن طبيعتها التي خلقها الله عليها.
| إن الإنسان مهما أعطي من قوة في جسمه، وفي عقله، وفي جميع جوارح، فهي من الله ـ تعالى ـ، فعليه أن يلجأ إلى من حباه تلك القوة فيعترف بالتقصير والفقر، وأن لا ملجأ من الله إلا إليه. وهذا يؤخذ من موقف موسى ـ عليه السلام ـ بعد ما سقى للمرأتين. قال ـ تعالى ـ: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، مفوضاً أمره إلى الله، ومتوكلاً عليه، ومعترفاً بضعفه وفقره أمام ربه وخالقه.
| إنّ إعانة الضعيف ومساعدته في قضاء حاجته لهو خلق عظيم، حثّ عليه الدين الحنيف، وإن نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ بادر إلى فعل الخيرات، وساعد المحتاج، وأعان الضعيف على قضاء حاجته.
وهكذا يجب على الذين يقتدون برسل الله الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وينتهجون نهجهم، ويسيرون على طريقهم غير عابئين بالعوائق والعقبات التي يلاقونها في طريقهم إلى الله ـ تعالى ـ.
| إن القوة والأمانة قلّمَا تتوفر في شخص، وقد وُصف بهما موسى ـ عليه السلام ـ في قوله ـ تعالى ـ على لسان إحدى الفتاتين: {قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26].
| إن المرأة لها أن تبدي رأيها، وتسعى في تحقيقه، وهذا يؤخذ من موقف ابنة ذلك الشيخ الكبير التي قصَّت على أبيها خبر موسى، فأمرها أبوها أن تدعوه، فذهبت إليه، في خطى حثيثة، وأدب جم، وستر كامل، ولسان طلق، وعزيمة قوية، لتبلغه دعوة أبيها، ولما وصلت إليه أبلغته الدعوة في أدب رفيع، ومنطق سليم، وأخبرته: أن والدها يريد أن يجازيك ويحسن إليك مقابل ما قدمت لنا من الخدمة في السقي. قال ـ تعالى ـ: {فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25].
| إن من مواقف الرجال الكبار وحُسنِ أخلاقهم كرمُ الضيافة، وحسن الاستقبال، وحماية الضيف، واحترام الجار، ونصرة الضعيف والمظلوم، والوقوف ضد الباطل وأهله، وهذا يؤخذ من موقف ذلك الشيخ الكبير عندما عرض عليه موسى ـ عليه السلام ـ أمره وحاله، فقال مسرياً عن موسى، ومطمئناً وناصراً له، قال: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25].
| إنّ النفس الأبيّة لاترضى أن تعيش على فتات العيش وموائد الآخرين، بل لابد أن تبحث عن وسيلة تكدح من خلالها، وتشعر بالعزة والاستعلاء بعيداً عن المسألة والاستجداء، وهذا ما وقع لموسى ـ عليه السلام ـ حيث عاش مع الشيخ الكبير عيشة عمل وكدح يرعى له الغنم مقابل تزويجه إحدى ابنتيه، واتفقا على مدة العقد اللازم والكامل برضىً واختيار.
| إن الوفاء بالعقود والالتزام بها من الإسلام، ولا يجوز الإخلال بها، أو نقضها، والله ـ تعالى ـ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ...} [المائدة: 1] الآية؛ ونبي الله موسى ـ عليه السلام ـ وفّىّ بما التزم به مع ذلك الشيخ الصالح، وأدى أكمل الأجلين.
| إن من سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه حنين الإنسان إلى وطنه، فعلى كل مغترب أن يفكر في العودة إلى أهله وبلاده؛ لكي يقوم بما يستطيع عليه من الإصلاح، بين أهله وذويه، اقتداء بنبي الله موسى ـ عليه السلام ـ فإنه لما قضى أكمل الأجلين وأتمهما ودَّع مضيفه هو وأهله ليعود إلى أهله وبلاده التي غادرها منذ زمن بعيد.
| إن الابتلاءات التي قد تحصل للإنسان في الطريق قد تكون هي سبيل التمكين في الواقع.(/9)
| إن التكاليف الربانية ليست بالشيء اليسير، إنها تكاليف عظيمة وكبيرة وثقيلة، تحتاج إلى رجال أقوياء في حملها، وفي تبليغها إلى الآخرين، وتحتاج إلى صبر ويقين، وتوكل على الله، وهمّة عالية، وموسى ـ عليه السلام ـ من أولئك الرجال العظماء، فقد صنعه الله ـ تعالى ـ على عينه، وغذاه ورباه ومحّصه حتى بلغ أشده، واستوى على سوقه، فكلّفه وأرسله، بعد أن أعطاه الله ـ تعالى ـ الحكم والعلم، فقام بما كلّف به خير قيام.
| لقد سبق في علم الله ـ تعالى ـ الأزلي أن فرعون لا يؤمن، ومع ذلك أمر عبديه ونبييه ـ موسى وهارون عليهما السلام ـ أن يذهبا إليه ويترفقا به في الحوار والنقاش لعله يتذكر أو يخشى، كل ذلك من أجل أن يرسما طريقاً في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ لمن يأتي بعدهما، من إلانة في القول، وترفق بالآخر، والصبر على المعاناة في الطريق من القريب والبعيد، والصديق والعدو، والأخذ بالأسباب، وعدم اليأس أو القنوط، فإن القلوب علمها عند الله ـ تعالى ـ يصرفها ويقلبها كيف يشاء.
| يجب على من يدعو الناس إلى دين الله ـ تعالى ـ أن يحرص على هدايتهم؛ وإن لم يهتدوا، وأن يبلغهم دين الله ـ تعالى ـ برفق ولين، كما مرّ في قصة موسى وهارون مع فرعون، وأن يلجأ إلى الله ـ تعالى ـ بالذكر والتسبيح والدعاء، وأن يطلب من الله ـ تعالى ـ التوفيق والسداد.
| إن التعاون بين أفراد البشر على تبليغ دين الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور لهو أمر مطلوب، سواء كان ذلك وفق نشاط منهجي، أو لا منهجي مادام أن النتيجة واحدة والغاية واحدة، وإن شدَّ الأزر في الطريق إلى الله ـ تعالى ـ وتوزع الأدوار، والتعاون على القيام بها، لهي من الأسباب التي تجعل العمل ناجحاً، وتجعل النفوس وثَّابةً إلى المعالي كلما حققت شيئاً من أهدافها وغاياتها.
وإن قصة موسى ـ عليه السلام ـ وطلبه من ربه ـ سبحانه ـ أن يشد أزره بأخيه هارون ـ عليه السلام ـ خير شاهد على ذلك.
| إن الله ـ تعالى ـ ليمهل للظالم ولا يهمله، ثم يأخذه بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر، وهذا ما حصل لفرعون وغيره من الأمم الظالمة، وقد أخبرنا ربنا ـ سبحانه ـ بذلك في كتابه، ولا يظلم ربك أحداً.
فقال ـ تعالى ـ: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
[العنكبوت: 40]
| إن الحق قد ينتصر بجهد الضعفاء قبل جهد الأقوياء، فلا يحقرن الإنسان أيّ جهد يقوم به، فإن مؤمن آل فرعون، وأخت موسى، وأمه، وآسية، كانوا ضعفاء، ومع ذلك قاموا بأدوار عظام في نصرة الحق.
| إن الله ـ تعالى ـ وعد عباده الصالحين بالنصر والفوز المبين، والغلبة والتمكين، فقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173].
فلا يتعجل الصالحون طريقهم، أو تمل نفوسهم، ولا يستوحشوا من قلة الناصرين أو السالكين، فإن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بدؤوا طريقهم فرادى، فما وهنوا لما أصابهم، وما ضعفوا وما استكانوا، ولنا فيهم الاقتداء والاتساء، والله ـ تعالى ـ ولي الصالحين.(/10)
تأملات كونية
3453
آثار الذنوب والمعاصي, مخلوقات الله
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/5/1420
النور
ملخص الخطبة
1- اعتبار المؤمن بما يجري من أحداث وكوارث. 2- كل ما يجري في الكون إنما هو بقدر الله. 3- نسبة الأحداث الكونية إلى الطبيعة. 4- تأملات في آية الكون. 5- مشاهد للغفلة تجاه هذا الحدث الكوني الهام. 6- عندما كسفت الشمس على عهد رسول الله. 7- خوف النبي . 8- تأملات في زلزال تركيا. 9- الاعتبار بمصارع الأمم.
الخطبة الأولى
أما بعد: مرّ على العالم في الأيام الماضية حدثان عظيمان يتعلقان بهذا الكون الذي من حولنا: الأول: كسوف الشمس، والثاني: الزلزال العظيم الذي أصاب ـ تركيا ـ فخلّف آلافاً من الضحايا والمشردين. والمسلم عندما تمر عليه مثل هذه الأحداث العظيمة وغيرها المتعلقة بالكون من حوله ينبغي أن تكون له وقفة تأمل واعتبار.
وهذه الوقفة تنطلق من العقيدة التي رسخت في قلبه وانعكست على تصوراته للكون من حوله، وهذا هو المهم، أما أهل المناهج المادية الأرضية البحتة فإنهم ينطلقون من تصوراتهم المادية لمثل هذه الأحداث، والمسلم له منطلقاته التي يحكم بها حياته هو، ونظرته إلى ما حوله من الأحداث فقلب المسلم معلق دائماً بالله، ما يرى من نعمة إلاّ ويعلم أنها من عند الله، وما يرى من مصيبة إلاّ ويعلم أنها بما كسبت يداه ويعفو عن كثير.
ويعلم المسلم أن الكون بإنسه وجنّه وسمائه أرضه وكواكبه ونجومه ومخلوقاته ما علمنا منها وما لم نعلم، إنما هي مسخرة بأمر الله يتصرف فيها كيف يشاء سبحانه، ولا معترض عليه.
والمسلم بما يحمل من عقيدة التوحيد، يعلم أن الضر والنفع بيد الله، وأن ما يجري من زلازل وبراكين وأمطار وأعاصير ورياح وكسوف وخسوف إنما هي بقدر من الله لحكمة يريدها الله، علمها البشر أو غابت عنهم. ويعلم المسلم أيضاً أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الواجب عليه عند حلول المصيبة أن يصبر ويحتسب.
فالمسلم دائماً يتأثر قلبه بالآيات الكونية التي يراها ماثلة أمام عينيه، وهذه الآيات تذكره بالله وتحيي قلبه وتجدد الإيمان فيه، وتجعله متصلاً بالله ذاكراً له، شاكراً لنعمه، مستجيراً بالله من نقمته وسخطه.
أيها المسلمون، إن مما يحزن له المسلم أن يجد بعض المسلمين ينسى مثل هذه الحقائق الإيمانية العظيمة في خضم الأحداث التي قد تفجأْه، فترى البعض ينسب مثل هذه الأحداث الكونية إلى الطبيعة ناسياً أو متناسياً قدرة الله العظيمة أو متأثراً باللوثة المادية وأن الطبيعة تخبط خبط عشواء ـ زعموا ـ أو يكون متبعاً للدراسات والتقارير التي تصدر عن الجهات التي لا تقيم للدين وزناً، فتجد إحدى الصحف التي يشرف عليها أناس من أهل الإسلام تقول في تغطيتها لأحداث الزلزال الذي أصاب تركيا: (قصد كثير من الأوربيين اسطنبول لمشاهدة الكسوف ففاجأتهم الطبيعة بمظهر آخر من مظاهرها الخارقة والفتاكة في آن) انتهى. فالكاتب يعزو ما حصل من المظهر الأول وهو الكسوف والمظهر الثاني وهو الزلزال إلى الطبيعة، ولك أن تتأمل في ذلك.
فها هنا وقفتان، كل وقفة مع ظاهرة: الأولى: كسوف الشمس:
أيها المسلمون، إننا نحن المسلمين، نقر بأن لهذه الظواهر الكونية أسباباً طبيعية وأن أهل الفلك يستطيعون معرفة وقوعه قبل وقوعه، عن طريق حسابات دقيقة ويحدد باليوم والساعة والدقيقة، ونقر أيضاً ونعتقد بأن لهذه الظواهر أسباباً شرعية أيضاً وهي المهمة، وأنها ابتلاءات يخوف الله بها عباده، من عاقبة ما يفعلون، ومن جرم ما يرتكبون، جعلها الله أسباباً لنستيقظ من غفلتنا، ولنحاسب أنفسنا ولنلتفت إلى واقعنا، فنحدث بعدها توبة، ونصحح ما عنّ فيه من أخطاء.
إن ذهاب نور الشمس والقمر كله أو بعضه أيها الأحبة، ما هو إلا إنذار وتذكير للعباد ليقوموا بما يجب عليهم من أوامر الله، ويبتعدوا عما حرم عليهم من نواهي. ولذلك كثر الخسوف في هذا العصر عما كان عليه الحال فيما مضى، فلا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف أو خسوف في الشمس أو القمر أو فيهما جميعاً، وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن مع أنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحصل إلا مرة واحدة لقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا ونسوا أهوال الآخرة، أترفوا أبدانهم، وأتلفوا أديانهم، أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة، التي هي المصير الحتمي والغاية الأكيدة فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ [الذاريات:60].(/1)
عباد الله، في الأيام المنصرمة كثر الكلام والتنبؤات التي طغت على الإعلام العالمي بأجمع، ولم يكن الإعلام الإسلامي ظاهراً، ولكنه كان غائباً حقيقةً ومنهجاً، فكان تبعاً للإعلام الغربي يردد ما يقول حرفياً دون أن تظهر السمة الإسلامية في التحليل والمتابعة ـ إلاّ من رحم الله وقليل ما هم ـ، لقد تحولت ظاهرة الكسوف في ظل هذا الإعلام إلى احتفالات وموسم للسياحة الداخلية والخارجية، وتحول الخوف والفزع والتذكر والاتعاظ الذي ينبغي أن يصاحب مثل هذه الآية العظيمة إلى شيء آخر، أنسانا مثل هذه المفاهيم، ولعل جولة في الصحافة الداخلية والخارجية تعطي الإنسان دليلاً واضحاً على ما نقول، وأصبح الخوف والفزع الذي يجب أن يعصر القلوب، تحول إلى خوف على العيون أن لا يصيبها داء الكسوف، ولست أقلل هنا من الآثار التي قد تنجم من النظر إلى الشمس وهي في كسوفها، ولكن أشير إلى أن الأمر تحول عن الخوف الأساسي إلى خوف سمه (فرعياً) وليت الذين كتبوا عن النظر إلى الكسوف كتبوا بنفس القدر عن الحكمة الأساسية من وراء الكسوف والخسوف، وهي أنهما آيتان يخوف الله بهما عباده.
نشرت جريدة الحياة في أحد أعدادها مقالاً لكاتب سخيف وهو يعلق على ظاهرة الكسوف فيقول: إذا خرجت ورأيت الكسوف وأصابك الفزع والخوف فخذ نفساً ـ هكذا فخذ نفساً ـ كتم الله نفسه، أين هدي النبي صلى الله عليه وسلم حال الكسوف؟ ولماذا تشوه عقائد الناس إلى هذه الصورة الممجوجة؟ وسمعنا بأنه قد تم بيع نظارات على البُله من الناس لحماية أعينهم من الكسوف وصلت إلى ألف ريال.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لماّ كسفت الشمس على عهده خرج فزعاً يجر رداءه مستعجلاً يخشى أن تكون الساعة، جاء في رواية مسلم أنه من فزعه صلى الله عليه وسلم أخطأ فخرج بدرع بعض نسائه لظنه رداءه حتى أدركوه بالرداء، قال ابن حجر: يعني أنه أراد لبس ردائه فلبس الدرع من شغل خاطره بذلك، وكان يوماً شديد الحر حتى أتى المسجد ونودي بالصلاة جامعة، فصلى بهم صلاة طويلة، وسُمع وهو في سجوده يقول: ((رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم، ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون))، ثم خطب الناس ووعظهم موعظة بليغة، وبيّن أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا للصلاة، فافزعوا إلى المساجد، فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره، وفي رواية: ((فادعوا وتصدقوا وصلوا))، ثم قال: ((يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وأيم الله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لا قوة من أمر دنياكم وآخرتكم، ما من شيء لم أكن رأيته إلا رأيته في مقامي هذا، حتى الجنة والنار.
رأيت النار يحطم بعضها بعضاً، فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع منه، ورأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه، ورأيت فيها امرأة تعذب في هرة لها، ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ولقد رأيتكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، يؤتى أحدكم فيقال :ما علمك بهذا الرجل، فأما المؤمن فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا، وآمنا واتبعنا، فيقال: نم صالحاً، وأما المنافق فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، ثم ذكر الدجال وقال: لن تروا ذلك حتى تروا أموراً يتفاقم شأنها في أنفسكم، وحتى تزول جبال عن مراتبها، ثم قال: ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل)) إلى آخر تلك الخطبة العظيمة البليغة الجامعة. فأين نحن من ذلك كله، وقد أحلنا ظاهرة الكسوف إلى احتفال كرنفالي عجيب؟!
فيا أيها المسلمون، هل تظنون أن فزع النبي صلى الله عليه وسلم وخروجه إلى المسجد ثم الصلاة ثم بعدها تلك الخطبة وما حصل له فيها من أحوال هل كل ذلك يكون لأمر عادي، لا والله. إنه لا يكون إلا لأمر عظيم مخيف. فعلينا في مثل هذه الأحوال، أن نفزع كما فزع نبينا صلى الله عليه وسلم وأن نلجأ إلى مساجد الله للصلاة والدعاء والاستغفار وأن نتصدق لندفع عن أنفسنا البلاء وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعتاق في كسوف الشمس لأن عتق الرقبة فكاك للمعتق من النار، فأسباب البلاء والانتقام بسبب فعل العباد، عند حدوث الكسوف أو الخسوف قد انعقدت، والفزع إلى الصلاة والصدقة، يدفع تلك الأسباب.(/2)
فإلى متى أيها الأحبة نسلم عقولنا وعقائدنا ومسلماتنا للإعلام، قد تجد عذراً لبعض الناس عندما يضحك عليهم الإعلام في قضايا سياسية أو تحليلات واقعية أو يعطي بعض المعلومات الخاطئة أو الإحصائيات المزيفة، لكن أن يصل إلى درجة العبث بمسلمات ثابتة من الدين ثم ينطلي هذا على الناس، هذا هو الذي يدمي القلب، فكفانا غفلة أيها الأحبة عن سنن الله في كونه وما يحدث فيها من تقلبات، وإن لم نكن على وعي تام ومعرفة بأساليب العلمانيين وكتاباتهم فنخشى أن تغير مسلماتنا ونحن لا نشعر. روى البخاري ومسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف في وجهه، فقالت عائشة رضي الله عنهما: يا رسول الله، أرى الناس إذا رأوا غيماً فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، فقال: ((يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)).
أيها المسلمون، والشيء بالشيء يذكر، فمن المسلّمات التي يسعى لتغييرها وتهوين شأنها عند الناس زيارة ديار المعذبين. الذي أمر به الشرع أن يهتز قلب المسلم تأثراً وأن تسيل دموعه تذكراً، وهو يمر بديار المعذبين، ذلك أنه يستشعر الرهبة وهو يمر على الديار التي طغت وتجبرت وعاندت واستكبرت حتى استحقت أن ينزل عليها غضب الرب تبارك وتعالى، ينبغي أن يتأثر وهو يمر بمواقع الخسف والعذاب وقبور المشركين، روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تدخلوا على هؤلاء المُعذبين إلاّ أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم أن يُصيبكم ما أصابهم)) وفي البخاري، أن النبي عليه الصلاة والسلام لمّا مر بالحجر قال: ((لا تدخلوا مساكن القوم الذين ظلموا أنفسهم، إلاّ أن تكونوا باكين: أن يصيبكم ما أصابهم، ثم تقنّع بردائه وهو على الرحل)) وفي رواية: ((ثم قنّع رأسه و أسرع السير، حتى أجاز الوادي)) وفي رواية: ((ثم زجر فأسرع حتى خلفها)).
والمقصود بالحجر هنا هي مدائن صالح، قال ابن حجر: "إن البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء، مما وقع فيه أولئك من الكفر، مع تمكين الله لهم في الأرض، وإمهالهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه مقلب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك". وقال: " فمن مر عليهم، ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتباراً بأحوالهم، فقد شابههم في الإهمال، ودل على قسوة قلبه، وعدم خشوعه، فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم" انتهى.
ومع الأسف أمام هذه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد أن البعض لازال يدعو إلى فتح أبواب السياحة إلى مثل هذه المناطق وتحويلها إلى مزارات ومناطق احتفالات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أسأل الله تعالى أن يبصرنا بديننا، وأن يوقظنا من غفلتنا..
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذه القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد: الوقفة الثانية: مع زلزال تركيا:
فقد سمعتم بل وربما شاهدتم عبر وسائل الإعلام بعض آثار الزلزال الذي ضرب تركيا، فأهلك عشرات الآلاف من البشر، فاللهم لا شماتة.
أيها المسلمون، إن هذه الأرض التي نعيش عليها من نعم الله الكبرى، فإن الله سبحانه وتعالى قد مكننا من هذه الأرض، نعيش على ظهرها وندفن موتانا في باطنها، قال الله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاء وَأَمْواتاً [المراسلات:25، 26]، وقال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، وقال تعالى: فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:25]، وقال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10]، وقال تعالى: هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]، والآيات في هذا كثيرة.
ومن رحمته أنه جعلها ثابتة مستقرة لا تتحرك وأرساها بالجبال حتى نتمكن من البناء عليها والعيش على ظهرها، وفي بعض الأحيان يجعل الله عز وجل هذه الأرض جنداً من جنوده، فتتحرك وتميد وتحصل الزلازل المدمرة تخويفاً للعباد وتأديباً للبعض الآخر وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
فهذه الزلازل لا شك عندنا نحن المسلمين أنها عقوبات ربانية من الله على ما يرتكبه العباد من الكفر والفسوق والعصيان، كما قال بعض السلف لما زلزلت الأرض: إن ربكم يستعتبكم.(/3)
ولما وقع زلزال بالمدينة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام فيهم خطيباً ووعظهم وقال: لئن عادت لا أساكنكم فيها. لعلم عمر بأن ما حصل ما هو إلا بسبب ذنوب الناس، وأن هذا تهديد وعقوبة من الله عز وجل. وما يقوله بعض المتحذلقين من الجغرافيين والعلمانيين بأن هذه الزلازل ظواهر طبيعية لها أسباب معروفة، لا علاقة لها بأفعال الناس ومعاصيهم، حتى صار الناس لا يخافون عند حدوثها ولا يعتبرون بها، فيستمرون في غيهم وبغيهم ولا يتوبون من كفرهم ومعاصيهم كلام باطل.
إن الكتاب والسنة يدلان على أن هذه الزلازل كغيرها من الكوارث إنما تصيب العباد بسبب ذنوبهم وكونها تقع لأسباب معروفة لا يخرجها عن كونها مقدرة من الله سبحانه على العباد لذنوبهم قال الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]. عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ)) فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَتَى ذَاكَ؟ قَال: ((إِذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ)). وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((يَكُونُ فِي آخِرِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ)) قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: ((نَعَمْ إِذَا ظَهَرَ الْخُبْثُ)). وهل يشك عاقل بظهور الخبث وفشوه وانتشاره.
إن بلاداً من بلاد الله الواسعة، كانت قائمة شاخصة، فظلم سكانها أنفسهم، فحل بهم أمر الله وسنته وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ [القصص:58].
لقد عمّ قوم نوح الغرق، وأهلكت عاداً الريح العقيم، وأخذت ثمود الصيحة، وقلبت على اللوطية ديارهم، فجعل الله عاليها سافلها، وأمطر عليها حجارة من سجيل، فساء مطر المنذرين فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]، إنها الحقيقة الصارخة: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ تلكم الذنوب، وتلكم عواقبها وما هي من الظالمين من أمثالنا ببعيد. ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها، ولا تخلخلت في دولة إلا أسقطتها. إنه ليس بين أحد وبين الله نسب، ولا يعني أن أقواماً أو مجتمعات لم يصبها شيء أنها على الاستقامة كلا، ولكن الله يمهل حتى يعتبر الناس ولا يهمل، والعقوبات الربانية تختلف فقد يكون زلزالاً وقد يكون حروباً وقد يكون تدهوراً في الإقتصاد وسوء للأوضاع المالية، وقد يكون، وقد يكون.
إن تركيا في يوم من الأيام كانت هي حاملة لواء الإسلام، وكانت تمثل الدولة الإسلامية وقد أرعبت العالم كله في وقتها عندما كانت قائمة بأمر الدين حاملة لواء الجهاد في سبيل الله، حينها كسرت أنف دول أوربا بجهادها وفتوحاتها. كان ذلك عندما كان لها تميزها بدينها وتحكيمها لشريعة ربها. واليوم لا تكاد تفرق بينها وبين أية دولة أوربية، بل إنها لتحاول الإنفصال ولو اسمياً عن كونها دولة إسلامية وتعتبر نفسها أحد دول أوربا. فاللهم لا شماتة.(/4)
قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الارْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ [الأعراف:94-102].
أيها المسلمون، كلمة أخيرة، إن الزلزال الذي ضرب تركيا وأحدث هذا التخريب العظيم على هذه المساحة الشاسعة وفي مكان لم يكن حسب تقديرات الجغرافيين وفي وقت لم يتوقعوه وحصل على إثره وفاة عشرات الآلاف، كل هذا حصل أيها الأحبة في خمس وأربعين ثانية. فلا إله إلا الله. إن قدرة الله أعظم من هذا، ما هي إلا كن فيكون، فهل من معتبر.(/5)
تبًا وهلاكًا لأتباع أبي لهب
إعداد/ معاوية محمد هيكل
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، اختصه اللَّه بالقرآن، وميزه بجوامع الكلم وفصاحة اللسان، وفضله على جميع مخلوقاته من مَلَك وإنس وجان، ختم الله به الرسالة، وهدى به من الضلالة، وبصر به من العماية، وأرشد به من الغواية، فرض على الناس طاعته، وأوجب عليهم محبته، شرح له صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره، وأعلى قدره، وجعل الذل والصغار على من خالف أمره، فصلى اللَّه وسلم وبارك عليه، وزاده رفعة ومكانة لديه، ورضي اللَّه عن آله وصحابته الأكرمين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فمازال الباطل ينفث سمومه من آن لآخر والكفر يطل علينا بوجهه القبيح، فقد تأججت نيران العداوة والبغضاء في قلوب أعداء الإسلام، وغلت مراجل الحقد في صدورهم، وتطاول اللئام على مقام سيد الأنام، مقتفين بذلك نهج أسلافهم من الكفار أتباع أبي لهب وأبي جهل وأنصار مسيلمة الكذاب، قال تعالى: كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم
[البقرة:118].
كل ذلك تحت شعاراتهم الزائفة ومبادئهم الباطلة التي يسمونها الحرية في التعبير، مع أنه لا يجرؤ أحدهم ولا يقوى أن يتطاول أو يتعرض لجناب رئيسٍ أو زعيمٍ عندهم، وكما قال الشاعر:
يقاد للسجن من سب الزعيم ومن
سب الرسول فإن الناس أحرارُ
إن الجريمة النكراء والفعلة الشنعاء التي ارتكبها الدنماركيون وغيرهم في حق سيد الأنبياء لهي نذير شؤم عليهم وبلاء، وخراب ودمار في الدنيا والآخرة، فسنة اللَّه ماضية فيمن يستهزئ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو يؤذيه أو يتعرض لمقامه الشريف بالقول أو الفعل، فحينما أكرم قيصر كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأكرم رسوله ثبت ملكه واستمر زمانًا، وأما كسرى فمزق كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فمزق اللَّه ملكه بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم [كما أورد ذلك القاضي عياض في كتابه الشفا عن الشافعي رحمه الله] وهذا مصداق قوله تعالى: إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا [الأحزاب:57]. وقوله تعالى: إنا كفيناك المستهزئين [الحجر:95]، وقوله تعالى: إن شانئك هو الأبتر [الكوثر:3].
فليسمع «أبرهة» الدنمركي شيئا مما قاله حسان بن ثابت في الرد على أمثاله دفاعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم:
هجوتَ محمدًا فأجبتُ عنه
وعند اللَّه في ذاك الجزاءُ
أتهجوه ولستَ له بكفءٍ
فشرُّكُما لخيرِكُما الفداءُ
فإن أبي ووالدَه وعِرضي
لعرضِ محمدٍ منكم وِقَاءُ
هجوتَ مباركًا برًا حنيفًا
أمين اللَّه شيمتُهُ الوَفاءُ
فمن يهجو رسولَ اللَّهِ منكم
ويمدحُهُ وينصرُهُ سواءُ
[ مسلم: 2490]
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه في مجموع الفتاوى: إن اللَّه منتقم لرسوله صلى الله عليه وسلم ممن طعن عليه وسبه، ومُظهر لدينه ولكذب الكاذبين إذا لم يُمكن الناسَ أن يقيموا عليه الحد، ونظير هذا ما حدثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العدول أهلُ الفقه والخبرة عما جربوه مراتٍ متعددة في حصار الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حاصر المسلمون فيها بني الأصفر في زمانهم قالوا: كنا نحن نحاصر الحصن أو المدينة الشهرَ أو الأكثر من الشهرِ وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة في عرضه تعجلنا فتحهُ وتيسر، ولم يكد يتأخر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك. ثم يُفتح المكان عنوة ويكون فيهم ملحمة عظيمة قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظًا عليهم بما قالوا فيه صلى الله عليه وسلم. [الصارم المسلول 2/332]
مواقف وصور لدفاع اللَّه سبحانه عن نبيه صلى الله عليه وسلم
1 ـ عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «ألا تعجبون كيف يصرف اللَّه عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مذممًا ويلعنون مذممًا وأنا محمد». [رواه البخاري 3353]
فكان الكفار من قريش يتركون ذكر النبي «محمد صلى الله عليه وسلم الدال على المدح والثناء، ويعدلون إلى ضده ويقولون «مذمم»، ولاشك أن هذا من نصرة اللَّه لنبيه صلى الله عليه وسلم لأن اللَّه صرفهم عن أن ينطقوا باسمه الشريف، وعن إيقاع الشتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 ـ وعنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه (أي يسجد ويلصق وجهه بالعفر وهو التراب) بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم.
فقال: واللات والعزى ! لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه (رجع يمشي إلى الوراء) ويتقي بيديه، فقيل له: ما لك ؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة.(/1)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا».
[رواه مسلم برقم: 2797، وأحمد 2/370]
3 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزل: وأنذر عشيرتك الأقربين [الشعراء: 214]، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحا (كلمة ينادى بها للاجتماع عند وقوع أمر عظيم)، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: «أرأيتم إن أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟» قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».
قال أبو لهب: تبًا لك، ما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قام، فنزلت: تبت يدا أبي لهب وتب.
[رواه البخاري برقم 4770]
4 ـ امرأة أبي لهب تقود حملة الإيذاء وتناصب النبي صلى الله عليه وسلم العداء:
وكانت امرأة أبي لهب - أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان - لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بابه ليلاً، وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة، وتثير حربًا شعواء على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب.
ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها فهر (حجر)، فلما وقفت عليهما أخذ اللَّه ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر ! أين صاحبك ؟ قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت:
مذممًا عصينا ü وأمره أبينا ü ودينه قلينا
ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه، أما تراها رأتك ؟ فقال: ما رأتني، لقد أخذ اللَّه ببصرها عني. [سيرة ابن هشام: 1/335، 336]
5 ـ وعن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحابه له جلوس، وقد نُحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه، فظل في كتفي محمد إذا سجد (والسلا هو المشيمة تكون مع مولود الناقة).
فانبعث شقي القوم (عقبة بن أبي معيط) فأخذه، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي ساجد، ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة. فجاءت، وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت تشتمهم، فلما قضى النبي صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم. وكان إذا دعا؛ دعا ثلاثًا، وإذا سأل؛ سأل ثلاثًا، ثم قال: «اللهم عليك بقريش» ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: «اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط». وذكر السابع ولم أحفظه، فوالذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق ! لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سُحبوا إلى القليب. [قليب بدر].
[رواه مسلم (1794)]
6 ـ عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: «إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر، فتعاقدوا باللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، ونائلة وإساف، لو قد رأينا محمدًا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله عنها تبكي حتى دخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقد قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك، فقال: يا بنية أريني وضُوءًا، فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعقروا في مجالسهم، فلم يرفعوا إليه بصرًا، ولم يقم إليه رجل، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم، فأخذ قبضة من التراب، فقال: شاهت الوجوه (قبح منظرها)، ثم حصبهم بها فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا». [رواه أحمد في المسند (1/303، 368)، وصححه أحمد شاكر برقم (2762)](/2)
7 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لما فتحت خيبر، أُهديت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجمعوا لي من هاهنا من اليهود». فجمعوا له، فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقوني عنه؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أبوكم؟» قالوا: أبونا فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم، بل أبوكم فلان». فقالوا: صدقت وبررت. فقال: «هل أنتم صادقوني عن شيء إن أنا سألتكم عنه ؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كما عرفت من أبينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أهل النار ؟» فقالوا: نكون فيها يسيرًا، ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخسؤوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدًا».
ثم قال لهم: «هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه ؟» فقالوا: نعم، فقال: «هل جعلتم في هذه الشاة سمًا ؟» فقالوا: نعم. فقال: «ما حملكم على ذلك ؟» فقالوا: أردنا إن كنت كذابًا أن نستريح منك، وإن كنت نبيًا لم يضرك».
[أخرجه البخاري برقم 5777، وأحمد في المسند 2/451]
8 ـ الأرض تتنكر لمن آذى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
عن أنس رضي الله عنه قال: كان رجلٌ نصرانيًا فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانيًا، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته اللَّه، فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعلُ محمدٍ وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له، فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم، فألقوه خارج القبر، فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه». [رواه البخاري 3617]
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يدري إلا ما كتب له، قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دُفن مرارًا، وهذا أمر خارج عن العادة، يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذبًا؛ إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد؛ إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا.
[الصارم المسلول 2/332]
9 ـ حتى الحيوانات تنتقم لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
كان النصارى ينشرون دعاتهم بين قبائل المغول من أجل تنصيرهم وقد مكن لهم الطاغية هولاكو طريق الدعوة بسبب زوجته الصليبية (ظفر خاتون) وذات مرة توجه جماعة من كبار النصارى لحضور حفلٍ مغوليٍ كبير، عقد لسبب تنصر أحد أمراء المغول، فجعل واحد منهم يتنقص النبي صلى الله عليه وسلم ويسبه وكان هناك كلب صيد مربوط فلما أكثر الصليبي الخبيث من ذلك زمجر الكلب ووثب عليه فخمشه فخلصوه منه بعد جهد، فقال بعض من حضر هذا بكلامك في حق محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: كلا، بل هذا الكلب عزيز النفس رآني أشير بيدي فظن أني أريد أن أضربه، ثم عاد إلى ما كان فيه من سب النبي صلى الله عليه وسلم فأطال، فوثب الكلب مرة أخرى على عنق الصليبي وقلع زوره فمات من حينه، فأسلم بسبب ذلك نحو أربعين ألفًا من المغول. [الدرر الكامنة لابن حجر 3/202]
01 ـ قصة عجيبة:
يروي الشيخ أحمد شاكر قصة عجيبة عن والده الإمام العلم محمد شاكر والذي كان يعمل وكيلاً للأزهر: يقول أن والده كفّر أحد خطباء مصر وكان فصيحًا متكلمًا مقتدرًا وأراد هذا الخطيب أن يمدح أحد أمراء مصر عندما أكرم طه حسين، فقال في خطبته: يتملق الأمير وينافقه «جاءه الأعمى فما عبس بوجهه وما تولى»، وهو يريد بذلك التعريض برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حيث إن القرآن ذكر قصته مع الأعمى، فقال تعالى: عبس وتولى (1) أن جاءه الأعمى [عبس: 1، 2]، فبعد الخطبة وقف الشيخ محمد شاكر أمام الناس وقال لهم: إن صلاتكم باطلة، وأمرهم أن يعيدوا صلاة الجمعة؛ لأن الخطيب كفر بهذه الكلمة التي تعتبر شتمًا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن طريق التعريض لا التصريح.
لكن اللَّه تعالى لم يدع لهذا المجرم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الآخرة. يقول الشيخ أحمد شاكر: فأقسم بالله لقد رأيته بعيني رأسي بعد بضع سنين وبعد أن كان عاليًا منتفخًا مستعزًا بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء؛ رأيته مهينًا ذليلاً خادمًا على باب مسجد من مساجد القاهرة يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلٍ وصغار حتى لقد خجلت أن يراني وأنا أعرفه وهو يعرفني - لا شفقة عليه فما كان موضعًا للشفقة ولا شماتة فيه فالرجل النبيل يسمو على الشماتة ـ ولكن لما رأيت من عبرة وعظة.(/3)
وفي الختام نقول لأمثال أبرهة الدنمركي وغيرهم ممن تُسَوِّلُ له نفسه التطاول على مقام النبي الأمين اخسئوا فلن تَعْدُوا قدركم، فالله حافظ دينه وناصر نبيه، وعلى الحكومات الإسلامية المطالبة بمحاكمة هؤلاء الذين تعرضوا بالأذى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في محاكم إسلامية وفقًا لشريعتنا المطهرة، حتى يكونوا عبرةً وعظةً لغيرهم.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
والحمد لله رب العالمين.(/4)
تتمة حديث ابن عباس احفظ الله يحفظك
242
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الألوهية
منصور الغامدي
الطائف
19/10/1419
أبو بكر الصديق
ملخص الخطبة
1- معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((احفظ الله تجده أمامك)). 2- معية الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين ونماذج منها 3- التعرف إلى الله في الرخاء (معناه وأثره) 4- الاستعداد للموت كيف يكون 5- وجوب إفراد الله بالمسألة 6- الاستعانة بالله معناها وأثرها .
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيتواصل الحديث مع الوصية العظيمة والكلمات البليغة، التي حباها رسول الله لحبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وهو لا يزال آنذاك غلاما يافعا.
والوصية الثانية: قوله : ((احفظ الله تجده أمامك))، أو تجاهك، فمعنى هذه الوصية، أن من حفظ الله وراعى حقوقه، وجد الله معه في جميع الأحوال يحوطه وينصره ويحفظه بل ويوفقه ويؤيده ويسدده فإنه سبحانه قائم على كل نفس بما كسبت، وهو تعالى مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
قال قتادة : من يتق الله يكن معه، ومن يكن معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل .
ولقد كان بعض السلف يوصي إخوانه بكلمات نافعة عظيمة الأثر كتب بعضهم لأخيه: أما بعد: فإن كان الله معك فمن تخاف، وإن كان عليك فمن ترجو.
ومعية الله سبحانه لعباده المتقين الذين حفظوا أوامره، واجتنبوا نواهيه تقتضي النصر والتأييد لهم، قال الله تعالى لموسى وهارون: لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [طه 46]، وكما في خبر هجرة النبي وصاحبه الصديق رضوان الله عليه إلى المدينة عندما كانت قريش تطاردهم في كل مكان، وكان قد تملك الصديق الخوف، فخاطبه النبي خطاب الواثق بربه فقال: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).
وفي الحديث عن أبي هريرة : ((إن الله تعالى يقول: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)).
الوصية الثالثة: قول : ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ))، وهذا يعني: أن من اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال الرخاء والصحة، فقد تعرف بذلك إلى الله؛ بينه وبينه معرفة، وهذه المعرفة هي معرفة خاصة تقتضي القرب من أرحم الراحمين، ومحبته سبحانه لعبده، وإجابته لدعائه، حينئذ لا تسأل عن طمأنينة العبد بربه، وثقته به في إنجائه من كل كرب وشدة، فهذا يونس بن متى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، نادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجاب الله دعاءه ونجاه من الغم، أما فرعون الذي علا في الأرض وجعل أهلها شيعا، لما أدركه الغرق قال: آمنت، فقال الله تعالى: آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [يونس 91]، قال الضحاك : اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة .
فإذا تبين أن التعرف إلى الله في الرخاء يوجب معرفة الله لعبده في الشدة، فلا شدة يلقاها العبد في الدنيا أعظم من شدة الموت، فإن كانت خاتمته خيرا فالموت آخر شدة يلقاها، وإن كان مصير العبد إلى شر والعياذ بالله فالموت أهون مما بعده، وكان السلف يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه.
قال أبو عبد الرحمن الشبلي: كيف لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضان، ولما احتضر أبو بكر بن عباس وبكوا عليه قال: لا تبكوا، فإني ختمت القرآن في هذه الزاوية ثلاث عشرة ألف ختمة: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [فصلت 30].
الوصية الرابعة: قوله : ((إذا سألت فاسأل الله)) وهذه الوصية أمر بإفراد الله تعالى بالسؤال، ونهي عن سؤال غيره من الخلق كما قال تعالى: واسألوا الله من فضله [النساء 32]
وفي الحديث: ((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع))، وقد بايع النبي جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئا، منهم الصديق وأبو ذر وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطه فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه رضي الله عنهم، فسؤال الله تعالى هو المتعين عقلا وشرعا لوجوه متعددة، منها:
أن السؤال فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل، وذلك لا يصلح إلا لله وحده، فلا يصلح الذل إلا له بالعبادة والمسألة، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول في دعائه: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصنه عن المسألة لغيرك.
أما من أكثر المسألة بغير حاجة فإنه يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، كما ثبت ذلك في الصحيحين، لأنه أذهب عز وجهه وصيانته وماءه في الدنيا، فأذهب الله من وجهه في الآخرة جماله وبهاءه الحسي، فيصير عظما بغير لحم ويذهب جماله وبهاؤه المعنوي فلا يبقى له عند الله وجاهة .
اللهم كما صنت وجوهنا عن السجود لغيرك، فصنها عن المسألة لغيرك.
الخطبة الثانية(/1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فكما أن سؤال غير الله فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل، ففي سؤال الله تعالى عبودية عظيمة، لأن فيها إظهار الافتقار إليه، واعترافا بقدرته على قضاء الحوائج، وفي سؤال المخلوق ظلم، لأن المخلوق جزما عاجز عن جلب النفع لنفسه، ودفع الضر عنها فكيف يقدر على ذلك لغيره؟!
والذي بيده خزائن السماوات والأرض، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء أحق من يسأل ويطلب منه قضاء الحوائج، جاء في الحديث القدسي: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر))، قال بعض السلف: إني لأستحي من الله أن أسأله الدنيا وهو مالكها، فكيف أسأل من لا يملكها؟! وكان بعض السلف يتواصون في طلب الحوائج إلا من الله، قال طاووس لعطاء: إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونك حجابه ، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تسأله ووعدك أن يجيبك.
الوصية الرابعة: قوله : ((وإذا استعنت فاستعن بالله)).
والاستعانة طلب العون من الله وحده، وسبب استعانة العبد بالله عز وجل دون غيره من الخلائق، لأن العبد عاجز عن جلب مصالحه ودفع مضاره بنفسه، ولأنه لا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله عز وجل فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، وهذا تحقيق معنى قول: لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإنه لا تحول للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بالله، هذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوز الجنة.
وكل مسلم محتاج إلى الاستعانة بالله عز وجل في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت، وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا معين على ذلك كله إلا الله تعالى، ونحن نقرأ في كل ركعة من صلاتنا إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة 4] والاستعانة تجمع أصلين: الثقة بالله، والاعتماد عليه.
والاستعانة بالله هي الوسيلة لتحقيق عبادة الله على الوجه الذي يرضيه، فأهل العبادة الاستعانة بالله عليها غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها، ولهذا كان أفضل ما يسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته، وهو الذي علمه النبي لحبه معاذ بن جبل : ((يا معاذ، والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
فأنفع الدعاء: طلب العون على مرضاته ومن الناس من يكون معرضا عن عبادة ربه والاستعانة به، فلا عبادة ولا استعانة، بل إن سأله أحدهم واستعان به، فعلى حظوظه وشهواته، لا على مرضاة ربه وحقوقه، فإنه سبحانه يسأله من في السماوات والأرض؛ يسأله أعداؤه وأولياؤه، ويمد هؤلاء وهؤلاء، وأبغض خلقه إليه عدوه إبليس، ومع هذا فقد سأله حاجة فأعطاه إياها، ومتعه بها، ولكن لما لم تكن عونا له على مرضاته، كانت زيادة له في شقوته وبعده عن الله وطرده عنه، وهكذا كل من استعان به على أمر سأله إياه ولم يكن عونا على طاعته، كان مبعدا له عن مرضاته قاطعا له عنه ولا بد.
وليتأمل العاقل هذا في نفسه وفي غيره، وليعلم أن إجابة الله السائلين ليست لكرامة السائل عليه، بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته، ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينيه، ويكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته له، فيمنعه حماية وصيانة وحفظا، لا بخلا على كلأ، فمن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به، فصار مخذولا. كتب الحسن إلى عمر بن بعد العزيز: لا تستعن بغير الله فيكلك الله إليه(/2)
تجهيز المجاهدين وإعانتهم وخدمتهم
في هذا الزمن الذي لم يعد يتسنى فيه لكل من أراد الجهاد أن يجاهد بنفسه قد لا نجد لأحد عذرا لأن باب الجهاد مفتوح من طرق أخرى , فإذا قام المجاهدون في فلسطين وغيرها من أرض الجهاد بواجبهم من الجهاد بالنفس فلا يعني ذلك أن يجلس باقي المسلمين مطمئني البال ومرتاحي الخاطر لا يجدون في أنفسهم ملامة ولا إثما.
بل إن هؤلاء المجاهدين الذين يحملون الواجب عن الأمة بأسرها لهم أيضا حقا واجبا في ذمة باقي المسلمين حتى يتمكنوا من مواصلة جهادهم وتضحياتهم وقد جاءت النصوص الدالة على ذلك كثيرة في كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ومن ذلك :-
أولا: إن الذي يجهز المجاهدين أو يرعى أسرهم من بعدهم يكتب له مثل أجرهم .
روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : {من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا }.
وروى الترمذي وابن ماجة عن زيد بن خالد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من فطر صائما كان له مثل أجره لا ينقص من أجره شيء ومن جهز غازيا في سبيل الله كان له مثل أجره لا ينقص من أجر الغازي شيء}.
وروى الطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من جهز غازيا في سبيل الله فله مثل أجره ومن خلف غازيا في أهله بخير وأنفق على أهله فله مثل أجره}.
ثانيا: خيانة المجاهدين من بعدهم ليست كخيانة غيرهم من الناس .
روى مسلم عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين فيخونه فيهم إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء , فما ظنكم ؟ }.
ثالثا: إن الذي يعين المجاهد في سبيل الله في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله .
روى أحمد وابن أبي شيبة والحاكم عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : {من أعان مجاهدا في سبيل الله أو غازيا في عسرته أو مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله }.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :لأن أجهز سوطا في سبيل الله أحب إلي من حجة بعد حجة الإسلام .
رابعا: تجهيز المجاهدين من أفضل الصدقات عند الله تعالى .
روى الترمذي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصدقات ظل فسطاط في سبيل الله ومنحة خادم في سبيل الله أو طروقة فحل في سبيل الله } , ومعنى الحديث : الترغيب في إعانة المجاهد إما بخيمة يستظل بها أو بخادم يساعده أو بناقة صالحة للركوب يزيد عمرها عن ثلاث سنوات فإن هذا أفضل الصدقات عند الله تعالى .
خامسا: خدمة المجاهدين وإدخال السرور عليهم من أفضل القربات.
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : لأن أشيع رفقة في سبيل الله فأصلح لهم أحلاسهم وأرد عليهم من دوابهم أحب إلي من عشر حجج بعد حجة الإسلام .
وكان عامر بن عبد قيس إذا خرج للغزو يقف يتوسم بالمجاهدين فإذا رأى رفقة توافقه قال لهم : يا هؤلاء : إني أريد أن أصحبكم للجهاد وأن أجاهد معكم على أن تعطوني من أنفسكم ثلاث خصال ! فيقولون : ما هي ؟ فيقول :
الأولى : أن أكون خادمكم لا ينازعني أحد منكم في الخدمة !
والثانية : أن أكون مؤذنا لكم لا ينازعني أحد منكم في الأذان !
والثالثة : أن أنفق عليكم بقدر طاقتي !
وهكذا كان سلفنا رضوان الله عليهم إذا خرج أحدهم للجهاد يجتهد أن يكون خادم لرفقائه وأن يدخل عليهم السرور ما استطاع وأن ينفق عليهم ما وجد لذلك سبيلا وأن يؤثرهم على نفسه إذا لم يجد سعة بما يقدر عليه احتسابا لذلك عند الله وابتغاء لمرضاته ورغبة في ثوابه .
عن أبي الجهم ابن حذيفة العدوي قال : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمي ومعي شنة من ماء فقلت : إن كان به رمق سقيته من الماء ومسحت به وجهه فإذا أنا به يشهق فقلت له : أسقيك فأشار: أي نعم ,فإذا رجل يقول: آه , فأشار ابن عمي أن انطلق إليه , فإذا هو هشام بن العاص أخو عمرو بن العاص رضي الله عنهما , فأتيته فقلت : أسقيك ؟ فسمع رجلا آخر يقول: آه , فأشار هشام أن انطلق إليه , فجئته فإذا هو قد مات ! ثم رجعت إلى هشام فإذا هو قد مات!! ثم أتيت ابن عني فإذا هو قد مات !!! رحمهم الله جميعا .
فانظر يا رعاك الله إلى إيثارهم وهم في مثل هذه الحال فهم يجودون بأشد ما يحتاجون إليه وفي أصعب الأوقات وأعصبها فما نقول نحن في رخائنا ونحن نبخل بالقليل الذي قد لا نحتاجه أبدا وصدق الله تعالى إذ قال : { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم }.(/1)
تجيب عليها لجنة الفتوى
@
شكبة العروس
يسأل: محمد محمود- عابدين:
هل الشبكة من حق الزوج أو الزوجة أو كليهما، وهل من حق الزوجة التصرف فيها دون إذن الزوج؟
الجواب: المصاغ الذي يعطيه الزوج لزوجته وهو ما يسمونه ب "الشبكة" إما أن يكون هدية من الزوج لزوجته فهو حق لها، وإما أن يكون جزءًا من المهر المتفق عليه بينهما فهو حق لها وملك لها أيضًا، ولها ولاية التصرف فيه بكل التصرفات الجائزة شرعًا ما دامت كاملة الأهلية، فلها أن تشتري به وتبيعه وتهبه لغيرها أو تتصدق به للفقراء، وليس لأحد حق الاعتراض عليها في ذلك لأن الشرع ملكها إياه، قال تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا {النساء: 4}. وبناءً عليه فإن الشبكة إن كانت من المهر المتفق عليه فتجب كاملة للزوجة بعد الدخول، أما إن فارقها قبل الدخول بها فلها نصف المهر بما في ذلك الشبكة.
زكاة الأراضي
يسأل سائل: اشتريت قطعة أرض بالتقسيط في 10-1995 وبعت هذه القطعة في 6-2005 وقبضت ثمنها، فهل عليَّ عن السنين العشرة الماضية زكاة مال؟ وكيف تحسب؟
الجواب: يشترط في زكاة مال التجارة أن يكون قد نوى صاحبه عند شرائه أو تملكه أنه للتجارة، فإن كان هذا السائل نوى بشرائه قطعة الأرض هذه التجارة فيخرج زكاتها عن السنين الماضية، بدءًا من يوم شرائها، وتحسب الزكاة زكاة مال عن قيمة شراء الأرض إذا بلغ النصاب فيخرج عن كل سنة ربع العشر، وبالله التوفيق.
العجز عن الوفاء بالنذر
ويسأل : أ . المجتمع - بني سويف :
نذرت أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر إن حقق الله لي أمرًا ما، وقد تحقق والحمد لله، وصمت الأيام المذكورة لمدة خمس سنوات ، ولكني أتعب من الصيام صيفًا وأنا ما أزال طالبًا بالدراسة ، فهل لي من كفارة عن هذا النذر ، أرجو الإفادة .
الجواب : من نذر طاعة فلم يطق أداءها أو عجز عن أدائها بعد أن كان قادرًا عليها ؛ فعليه كفارة يمين ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "من نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين". {سنن أبي داود، وقال الألباني ضعيف مرفوعًا وهو موقوف على ابن عباس، ضعيف الجامع (5863)}
إخراج الزكاة على أقساط
ويسأل سائل : هل يجوز عند وجوب إخراج الزكاة من المال الذي بلغ النصاب {عند حلول الأجل} أن أخرجها على أقساط أم لابد من إخراجها دفعة واحدة؟
الجواب : الزكاة متى وجبت وجب المبادرة بإخراجها على الفور مع القدرة على ذلك لأنها حق لأصحابها ، ودين في ذمة مخرجها ، ولأن أَمْرَ اللهِ تعالى بإيتاء الزكاة أمْرٌ على الفور مع توفر الشروط السالفة، وعليه يتوجه الأمر على الملكف بها لأن حاجة الفقراء ناجزة وحقهم ثابت في الزكاة ، فيخرجها ولا يؤخرها، اللهم إلا بعذر ؛ كأن يكون المال غائبًا فيمهل حتى يأتي المال ويحصل عليه ، أو ينتظر إخراجها لجار أو نحو ذلك ، والله أعلم.
المريض بسلس البول
ويسأل الطالب : محمد محمود محمد عطية الشوربجي - الشرقية - منيا القمح- القراقرة:
يحدث لي كثيرًا عندما أخرج من الحمام وأثناء الوضوء شعور أن هناك نقطًا بولية تنزل ، فما حكم الصلاة؟ وأيضًا ما حكم الملابس التي يصيبها الماء هل أصلي فيها ؟ وهل يمكن لي أن أؤم الناس في الصلاة علمًا بأن هذا الوضع يتكرر دائمًا (وهو سلس البول)، أفيدونا أفادكم الله ؟
الجواب : إذا كانت النقط الخارجة منك بعد الخروج من الخلاء طارئة فعليك التطهر منها وجوبًا لتصح الصلاة بعد ذلك، ويمكنك قبل الاستنجاء القيام ثم الجلوس مرة أخرى والتنحنح فإن ذلك قد يُنزل ما بقي من نقط بولية محتجزة.
فإذا استمر نزول هذه النقط بحيث كلما تطهرت منها عادت لتخرج ثانية فأنت معذور وتتطهر وتصلي على حالتك ، ثم يشترط لك حينئذ إذا توضأت أن تصلي مباشرة، لأن من شروط الوضوء للصلاة دخول وقتها في حق من به سلس بول .
أما عن إمامتك للناس وأنت على هذه الحال ، فإن العلماء اشترطوا في الإمام إذا كان يؤم الأصحاء أن يكون سالمًا من الأعذار كسلس البول وانفلات الريح والجرح السائل والرعاف وغيره، لأن صلاتهم جازت لعذر ، وهم يصلون مع وجود الحدث حقيقة ، فلا يتعدى العذر لغيرهم لعدم الضرورة .
وإن كان المالكية والشافعية لم يشترطوا السلامة من العذر لصحة الإمامة قائلين بأن الأحداث إذا عفي عنها في حق صاحبها عفي عنها في حق غيره. وإن كان الاحتياط لصلاة المصلين وصحتها وسلامتها هو الأفضل. والله أعلم .
خلق آدم
يسأل سائل عن معنى الحديث "خلق الله آدم على صورته".
وهل هذا الحديث يُعد حجة لمن يشبهون ويمثلون في باب الصفات؟
الجواب: هذا الحديث ثابت وصحيح وقد أخرجه البخاري وغيره، وأهل السنة والجماعة يؤمنون بجميع النصوص الواردة في صفات الله تعالى ويفوضون علم الحقيقة والكيفية لله تعالى، ومثل هذا الحديث لا يعد حجة للمشبهة والممثلة، لأن الله ليس كمثله شيء ولا تشبه صفاته أو تكيف بصفات خلقه سبحانه وتعالى.(/1)
قال الإمام الذهبي رحمه الله في الميزان: أما معنى حديث الصورة فنرد علمه إلى الله ورسوله ونسكت كما سكت السلف مع الجزم بأن الله تعالى ليس كمثله شيء.
مواريث
يسأل سائل: توفي رجل وترك زوجة وأربعة أبناء وأربع بنات، لكن لم توزع التركة إلا بعد عشرين عامًا، كبرفيها الأبناء وعملوا بجهدهم على زيادة التركة، فهل للبنات اللاتي تزوجن في حياة الأب حق في الميراث الأصلي الذي تركه الأب أم في ما وصلت إليه التركة الآن.
الجواب: ترث الزوجة ثمن المال الذي تركه هذا الرجل ثم يقسم باقي ما تركه الأب عند الوفاة بين أبنائه للذكر مثل حظ الانثيين وما زاد عن أصل التركة بعد ذلك بعمل الإخوة يعامل معاملة الشركة فيكون للورثة جزء وللعاملين على تنمية المال جزء، يحكم به أحد أصحاب الخبرة.
مواريث
يسأل: أسامة زكريا- ميت بشار- منيا القمح- شرقية:
1- توفي رجل وترك أبًا وأمًا وزوجة وابنين وخمس بنات، فما ميراث الأب؟
الجواب: للأب السدس، وللأم السدس، وللزوجة الثمن، وما بقي للأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين.
2- توفي رجل وترك ثلاثة أبناء منهم ابن مات في حياة أبيه، فهل لأولاد هذا الابن ميراث في جدهم؟
الجواب: أولاد الابن محجوبون بالأبناء الذكور، فليس لهم نصيب في التركة ولكن طبقًا لقانون الوصية الواجبة يستحق أولاد الابن مثل نصيب أبيهم في حدود الثلث وصيةً وليس ميراثًا. والله أعلم.(/2)
تحريم الأنفس المعصومة
أولاً: تعريف وبيان:
1- معنى النفس:
قال الخليل بن أحمد رحمه الله: "النَّفسُ وجمعها النُّفُوس لها معان:
النَّفْسُ: الروح الذي به حياة الجسد، وكل إنسانٍ نَفْسٌ، حتى آدم عليه السلام، الذكر والأنثى سواء, وكلُّ شيءٍ بعينه نَفْسٌ, ورجلٌ له نَفْسٌ، أي: خُلُق وجَلادة وسَخاء".
ويشيع استعمال هذه اللفظة في جملة من المصطلحات منها:
النَّفْسُ: العقل الذي يكون التمييز به.
النَّفْسُ: الذات.
النَّفْسُ: الروح، ومنه: خرجت نفسُه، إذا مات (واللفظ بهذا الإطلاق مؤنثة).
النَّفْسُ: شخص الإنسان، ومنه: أسرتُه أحد عشر نَفْساً (واللفظ بهذا الإطلاق مذكر).
النَّفْسُ: نفس الأمر، ذات الشيء وعينه.
النَّفْسُ: النفس السائلة: الدَّم السائل.
2- معنى العصمة:
العصمة لغة:
قال ابن فارس رحمه الله: "العين والصاد والميم أصل واحد صحيح يدلّ على إمساكٍ ومنع وملازمة, والمعنى في ذلك كلِّه معنًى واحد, من ذلك العصمة: أن يعصم الله تعالى عبده من سوءٍ يقع فيه".
وقال ابن منظور رحمه الله: "العصمة في كلام العرب: المنع. وعصمة الله عبده: أن يعصمه مما يُوبقه. عَصَمَه يَعْصِمُه عَصْماً: منعه ووقاه".
العصمة اصطلاحاً:
قال الجرجاني رحمه الله: "العِصْمة: ملكة اجتناب المعاصي مع التمكين منها, والعصمة المُقَوِّمَةُ: هي التي يثبت بها للإنسان قيمة بحيث من هتكها فعليه القصاص أو الدية, والعصمة المؤثِّمة: هي التي يُجعل من هتكها آثماً".
3- المقصود بالأنفس المعصومة:
المقصود بالأنفس المعصومة الأنفس التي عُنيت الشريعة الإسلامية بحفظها بسبب الإسلام أو الجزية أو العهد أو الأمان.
وأما غير ذلك من الأنفس كنفس المحارب, أو من وجبت عليه عقوبة شرعية من قصاص أو رجم أو تعزير فليست من الأنفس المعصومة.
العين، مادة: نفس.
انظر: معجم لغة الفقهاء (ص484)، التعريفات (ص312)، القاموس الفقهي (ص357).
مقاييس اللغة، مادة: عصم.
لسان العرب، مادة: عصم، وينظر: القاموس المحيط، مادة: عصم.
التعريفات (ص195)، ينظر: التوقيف على مهمات التعاريف (ص516)، معجم لغة الفقهاء (ص314).
انظر: روضة الطالبين (9/148).
ثانيًا: الرحمة في الإسلام:
كانت البشرية قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في ضلالة عمياء وجاهلية جهلاء، لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، أحسنُهم حالا من كان على دين محرّفٍ مبدّل، التبس فيه الحقّ بالباطل، واختلط فيه الصدق بالكذب، فبعث الله سبحانه نبيّه ومصطفاه محمّدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وكانت الرحمة المطلقة العامّة هي المقصد من بعثته صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:7]، فحصر سبحانه وتعالى المقصد من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في تحقيق الرحمة للعالمين، والعالمون جميع الخلق. ولقد كان أسّ هذه الرحمة وقطبها هو الفرقان بين الحق والباطل وبين الضلالة والهدى.
فهو صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: ((أنا محمد وأحمد والمقفّي والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة)).
وقد كان صلى الله عليه وسلم رحمة للناس في أحلك الظروف وأقساها وأشدّها، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين))، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)).(/1)
بل كان أيضا رحمة للبهائم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمّرة فجعلت تُفرِّش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((من فجع هذه بولدها؟ رُدّوا ولدها إليها))، ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: ((من حرق هذه؟)) قلنا: نحن، قال: ((إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار))، وعن عبد الله بن جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذِفراه فسكت، فقال: ((من ربّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟)) فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: ((أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملّكك الله إياها؟! فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه)).
كما كان صلى الله عليه وسلم رحمة حتى للجمادات، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع، فلما اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم المنبر حنّ الجذع حتى أتاه فالتزمه فسكن.
قيل: هو بمعنى العاقب، أي: الذي ليس بعده نبي. وقيل: هو الذي يقتفي أي: يتبع الأنبياء الذين قبله. انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (15/106).
أخرجه مسلم في الفضائل (2355).
أخرجه البخاري في بدء الخلق (3231) واللفظ له، ومسلم في الجهاد (1795).
الحُمَّرة بضم الحاء وتشديد الميم وقد تخفف: طائر صغير كالعصفور. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/439).
تفرِّش أي: ترفرف بجناحيها وتقرُب من الأرض. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3/430).
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (382)، وأبو داود في الجهاد (2675)، وصححه الحاكم (4/239)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2268). وأخرجه أحمد (1/404) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود مرسلاً.
ذِفرى البعير أصل أذنه، ومثناه ذفريان. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/161).
تُدئِبه بضم التاء، ودال مهملة ساكنة، بعدها همزة مكسورة وباء موحدة، أي: تتعبه بكثرة العمل. قاله المنذري في الترغيب والترهيب (3/146).
أخرجه أحمد (1/204)، وأبو داود في الجهاد (2549)، وصححه الحاكم (2/109)، ووافقه الذهبي، وصححه الضياء في المختارة (9/158)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (20).
أخرجه البخاري في المناقب (3583)، والترمذي في الجمعة (505) واللفظ له.
ثالثًا: مقصد حفظ النفس:
أرسل الله نبيه صلى الله عليه وسلم بدينٍ كلُّه رحمة وخير وسعادة لمن اعتنقه وتمسّك به، قال الله تعالى: {ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57، 58]، وتتجلّى رحمة الإسلام في مقاصده العظيمة وقواعده الجليلة ونُظمه الفريدة وأخلاقه النبيلة، فهو رحمة في السلم والحرب، ورحمة في الشدة والرخاء، ورحمة في الوسع والضيق، ورحمة في الإثابة والعقوبة، ورحمة في الحكم والتنفيذ، ورحمة في كل الأحوال.
ولتحقيق هذه الرحمة جاء الإسلام بحفظ الضروريات الخمس التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج واضطراب وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين.
وهذه الضروريات الخمس هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وأعظمها بعد مقصد حفظ الدين مقصدُ حفظ النفس، فقد عُنيت الشريعة الإسلامية بالنفس عناية فائقة، فشرعت من الأحكام ما يحقّق لها المصالح ويدرأ عنها المفاسد، وذلك مبالغة في حفظها وصيانتها ودرء الاعتداء عليها.
والمقصود بالأنفس التي عنيت الشريعة بحفظها الأنفس المعصومة بالإسلام أو الجزية أو العهد أو الأمان، وأما غير ذلك كنفس المحارب فليست مما عنيت الشريعة بحفظه، لكون عدائه للإسلام ومحاربته له أعظم في ميزان الشريعة من إزهاق نفسه، بل وقد تكون النفس معصومة بالإسلام أو الجزية أو العهد أو الأمان ومع ذلك يجيز الشرع للحاكم إزهاقها بالقصاص أو الرجم أو التعزير، ولا يقال: هذا مناف لمقصد حفظ النفس؛ لكون مصلحة حفظها والحالة هذه عورضت بمصلحة أعظم، فأخِذ بأعظم المصلحتين.
وقد وضعت الشريعة الإسلامية تدابير عديدة كفيلة بإذن الله بحفظ النفس من التلف والتعدي عليها, بل سدّت الطرقَ المفضية إلى إزهاقها أو إتلافها أو الاعتداء عليها, وذلك
بسدّ الذرائع المؤدّية إلى القتل.
فممّا جاءت به الشريعة لتحقيق هذا المقصد:
1- تحريم الانتحار والوعيد الشديد لمن قتل نفسه:(/2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجّأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلّدا فيها أبدا, ومن شرب سُمّا فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار جهنم خالدا مخلّدا فيها أبدا, ومن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا)).
قال السندي: "((تردى)) أي: سقط، ((يتردى)) أي: من جبال النار إلى أوديتها، ((خالدا مخلدا)) ظاهره يوافق قوله تعالى: {وَمَن يَّقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الآية لعموم المؤمن نفسَ القاتل أيضا, لكن قال الترمذي: قد جاءت الرواية بلا ذكر خالدا مخلّدا أبدا, وهي أصح؛ لما ثبت من خروج أهل التوحيد من النار, قلت: إن صحّ فهو محمول على من يستحلّ ذلك, أو على أنه يستحقّ ذلك الجزاء, وقيل: هو محمول على الامتداد وطول المكث, كما ذكروا في الآية والله تعالى أعلم. ((ومن تحسى)) آخره ألف, أي: شرب وتجرّع, والسمّ بفتح السين وضمّها وقيل: مثلّثة السين: دواء قاتل يطرح في طعام أو ماء, فينبغي أن يحمل ((تحسى)) على معنى أدخل في باطنه ليعمّ الأكل والشرب جميعا, ((يجأ)) بهمزة في آخره, مضارع: وجأته بالسكين إذا ضربته بها".
2- النهي عن القتال في الفتنة:
عن الأحنف بن قيس قال: خرجت وأنا أريد هذا الرجل, فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد يا أحنف؟ قال: قلت: أريد نصر ابنَ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني عليًّا ـ قال: فقال لي: يا أحنف, ارجِع, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار))، قال: فقلت أو قيل: يا رسول الله, هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: ((إنه قد أراد قتل صاحبه)).
قال النووي: "معنى ((تواجها)): ضرب كلّ واحد وجه صاحبه, أي: ذاته وجملته, وأمّا كون القاتل والمقتول من أهل النار فمحمول على من لا تأويل له, ويكون قتالهما عصبية ونحوها, ثم كونه في النار معناه: مستحقّ لها, وقد يجازى بذلك, وقد يعفو الله تعالى عنه, هذا مذهب أهل الحق".
3- النهي عن الإشارة بالسلاح ونحوه من حديدة وغيرها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه, وإن كان أخاه لأبيه وأمه)).
قال النووي: "فيه تأكيد حرمة المسلم, والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه, وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) مبالغة في إيضاح عموم النهي في كل أحد, سواء من يتّهم فيه ومن لا يتّهم, وسواء كان هذا هزلا ولعبا أم لا؛ لأن ترويع المسلم حرام بكل حال؛ ولأنه قد يسبقه السلاح كما صرّح به في الرواية الأخرى, ولعن الملائكة له يدلّ على أنه حرام".
4- النهي عن السبّ والشتم المفضي للعداوة ثم التقاتل:
قال تعالى: {وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّا مُّبِينًا} [الإسراء53].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل ـ يا محمد ـ لعبادي يقل بعضهم لبعض التي هي أحسن؛ من المحاورة والمخاطبة, وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يقول: إن الشيطان يسوء محاورة بعضهم بعضا {يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يقول: يفسد بينهم, يهيج بينهم الشر، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّا مُّبِينًا} يقول: إن الشيطان كان لآدم وذريته عدوّا قد أبان لهم عداوته بما أظهر لآدم من الحسد وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة".
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)).
قال المناوي: "((سِباب)) بكسر السين والتخفيف ((المسلم)) أي: سبّه وشتمه, يعني التكلّم في عرضه بما يعيبه, ((فسوق)) أي: خروج عن طاعة الله ورسوله, ولفظه يقتضي كونه من اثنين, قال النووي: فيحرم سبّ المسلم بغير سبب شرعي, وقتاله أي: محاربته لأجل الإسلام كفر حقيقة, أو ذكره للتهديد وتعظيم الوعيد, أو المراد الكفر اللغوي وهو الجحد, أو هضم أخوة الإيمان".
انظر: روضة الطالبين (9/148).
أخرجه البخاري في الطب, باب: شرب السم والدواء (5333), ومسلم في الإيمان (158) واللفظ له.
حاشية السندي (4/67) باختصار.
أخرجه البخاري في الإيمان, باب: {وإن طائفتان من المؤمنين} (30), ومسلم في الفتن وأشراط الساعة (5139) واللفظ له.
شرح صحيح مسلم (18/11).
أخرجه مسلم في الإيمان (158).
شرح صحيح مسلم (16/170).
جامع البيان (15/102) باختصار.
أخرجه البخاري في الإيمان, باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله (46), ومسلم في الإيمان (97) .
فيض القدير (4/84) باختصار.
رابعًا: عظم جرم قتل النفس بغير حق:(/3)
جاءت نصوص الكتاب والسنة بتحريم الاعتداء على النفس وعدّ ذلك من كبائر الذنوب؛ إذ ليس بعد الإشراك بالله ذنب أعظم من قتل النفس المعصومة.
وقد توعّد الله سبحانه قاتلَ النفس بالعقاب العظيم في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة.
1- قال الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151].
قال البغوي: "حرّم الله تعالى قتلَ المؤمن والمعاهد إلا بالحق، إلا بما يبيح قتله من ردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم".
وقال القرطبي: "وهذه الآية نهيٌ عن قتل النفس المحرّمة مؤمنة كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها".
2- وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء:33].
3- وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً P يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان:68، 69].
4- وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذالِكَ فِى الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ } [المائدة 32].
قال الطبري رحمه الله بعد أن حكى الخلاف في تفسير الآية: "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: تأويل ذلك أنه من قتل نفسا مؤمنة بغير نفس قتلَتْها فاستحقّت القوَد بها والقتلَ قصاصا, أو بغير فساد في الأرض بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها, فكأنما قتل الناس جميعا فيما استوجب من الله جلّ ثناؤه, كما أوعده رَبُّه بقوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}. وأما قوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} فأولى التأويلات به قول من قال: مَنْ حرّم قتل مَنْ حرّم الله عز ذكره قتله على نفسه فلم يتقدّم على قتله فقد حيي الناس منه بسلامتهم منه, وذلك إحياؤه إياها, وذلك نظير خبر الله عز ذكره عمن حاج إبراهيم في ربّه, إذ قال له إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِى وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِى وَأُمِيتُ} فكان معنى الكافر في قوله: (أنا أحيي) أنا أترك من قدرتُ على قتله, وفي قوله: (وأميت) قتله من قتله, فكذلك ينعقد الإحياء في قوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} من سلِم الناس من قتله إياهم إلا فيما أذن الله في قتله منهم فكأنما أحيا الناس جميعا".
5- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور)).
6- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما)).
قال ابن حجر: "قوله: ((من دِينه)) كذا للأكثر بكسر المهملة من الدين، وفي رواية الكشميهني: ((من ذَنبه)). فمفهوم الأول: أن يضيق عليه دينه، ففيه إشعار بالوعيد على قتل المؤمن متعمداً بما يتوعّد به الكافر. ومفهوم الثاني: أنه يصير في ضيق بسبب ذنبه، ففيه إشارة إلى استبعاد العفو عنه لاستمراره في الضيق المذكور. وقال ابن العربي: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول".
7- وعن عبد الله بن مسعود: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أوّل ما يقضى بين الناس في الدماء)).
قال النووي: "فيه تغليظ أمر الدماء, وأنها أوّل ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة, وهذا لعظم أمرها وكثير خطرها, وليس هذا الحديث مخالفًا للحديث المشهور في السنن: ((أول ما يحاسب به العبد صلاته)) لأنّ هذا الحديث الثاني فيما بين العبد وبين الله تعالى, وأما حديث الباب فهو فيما بين العباد, والله أعلم بالصواب".(/4)
وقال ابن حجر: "وفي الحديث عظم أمر الدّم, فإن البداءة إنما تكون بالأهمّ, والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة, وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك".
8- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة, ناصيته ورأسه بيده, وأوداجه تشخب دما, يقول: يا ربّ, هذا قتلني, حتى يدنيه من العرش)).
قال المباركفوري: "قوله: ((يجيء المقتول بالقاتل)) الباء للتعدية, أي: يحضره ويأتي به, ((ناصيته)) أي: شعر مقدّم رأس القاتل, ((ورأسه)) أي: بقيته بيده, أي: بيد المقتول, ((وأوداجه)) هي ما أحاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح واحدها ودَج بالتحريك, ((تشخب)) بضم الخاء المعجمة وبفتحها أي: تسيل دما, ((يقول: يا رب، قتلني هذا)) أي: ويكرّره, ((حتى يدنيه من العرش)) من الإدناء, أي: يقرب المقتولُ القاتلَ من العرش, وكأنه كناية عن استقصاء المقتول في طلب ثأره, وعن المبالغة في إرضاء الله إياه بعدله".
9- وعن أبي سعيد رضي الله عنه، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يخرج عنق من النار يتكلم يقول: وكِّلت اليوم بثلاثة: بكلّ جبار, وبمن جعل مع الله إلها آخر, وبمن قتل نفسا بغير نفس, فينطوي عليهم فيقذفهم في غمرات جهنم)).
10- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسَه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حلّه).
قال ابن حجر: "قوله: (إن من ورطات) جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك، يقال: وقع فلان في ورطة أي: في شيء لا ينجو منه، وقد فسرها في الخبر بقوله: (التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها)، (سفك الدم) أي: إراقته، والمراد به القتل بأيّ صفة كان، لكن لما كان الأصل إراقة الدم عبَّر به".
11- وعن إبراهيم النخعي قال: "من مات من أهل الإسلام ولم يصب دماً فارجُ له".
معالم التنزيل (3/203).
الجامع لأحكام القرآن (7/133).
جامع البيان (6/202) باختصار.
أخرجه البخاري في الديات (6871) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (88).
أخرجه البخاري في الديات (6862).
فتح الباري (12/195).
أخرجه البخاري في الديات, باب قوله تعالى: ((ومن يقتل مؤمنا متعمدا)) (6357), ومسلم في القسامة والمحاربين (3178).
شرح صحيح مسلم (11/167).
فتح الباري (11/397).
أخرجه الإمام أحمد (2551), والنسائي في تحريم الدم, باب: تعظيم الدم (3934), والترمذي في تفسير القرآن, باب: ومن سورة النساء (2955) وحسنه, وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2697).
تحفة الأحوذي (8/305) باختصار.
أخرجه الإمام أحمد (11372) واللفظ له, وابن أبي شيبة (7/51), والطبراني في الأوسط (4/203), وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2699).
أخرجه البخاري في الديات (6863).
فتح الباري (12/196).
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، باب: من قتل نفسه ومن قتل نفساً (10/462).
خامسا: حرمة دم المسلم:
1- قال الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93].
قال ابن كثير: "هذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله تعالى في غير ما آية في كتاب الله... والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً".
2- وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء:29-30].(/5)
قال الطبري: "يعني بقوله جل ثناؤه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} ولا يقتل بعضكم بعضا وأنتم أهل ملّة واحدة ودعوة واحدة ودين واحد, فجعل جل ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضهم من بعض, وجعل القاتل منهم قتيلا في قتله إياه منهم بمنزلة قتله نفسه, إذ كان القاتل والمقتول أهل يدٍ واحدة على من خالف ملَّتَهما, وأما قوله جل ثناؤه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} فإنه يعني أن الله تبارك وتعالى لم يزل رحيما بخلقه, ومن رحمته بكم كفّ بعضكم عن قتل بعض أيها المؤمنون, بتحريم دماء بعضكم على بعض إلا بحقها, وحظر أكل مال بعضكم على بعض بالباطل إلا عن تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه, لولا ذلك هلكتم وأهلك بعضكم بعضا قتلا وسلبا وغصبا, وأما قوله: {عُدْواناً} فإنه يعني به تجاوزا لما أباح الله له إلى ما حرمه عليه, {وَظُلْماً} يعني فعلا منه ذلك بغير ما أذن الله به وركوبا منه ما قد نهاه الله عنه, وقوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} يقول: فسوف نورده نارا يصلى بها فيحترق فيها, {وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} يعني: وكان إصلاء فاعل ذلك النار وإحراقه بها على الله سهلا يسيرا؛ لأنه لا يقدر على الامتناع على ربه مما أراد به من سوء, وإنما يصعب الوفاء بالوعيد لمن توعده على من كان إذا حاول الوفاء به قدر المتوعّد من الامتناع منه, فأما من كان في قبضة مُوعِدِه فيسيرٌ عليه إمضاء حكمه فيه والوفاء له, عسير عليه أمر أراده به".
3- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة)).
4- وقال صلى الله عليه وسلم في أكبر اجتماع للناس في عصره: ((ألا إن الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد ـ ثلاثا ـ ويلكم انظروا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)).
قال القاضي عياض: "قوله: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) كلّ هذا تأكيد لحرمة الدماء والأموال والأعراض، وتحريم لمظالم العباد، كتأكيد حرمة يوم النحر من شهر الحج في حرم مكة".
وقال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كرحمة يومكم هذا في شهركم هذا)) معناه: متأكدة التحريم شديدته".
5- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلّ ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا، أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا. من قتل مؤمنا فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. لا يزال المؤمن مُعنِقا صالحا ما لم يصب دما حراما، فإذا أصاب دما حراما بلَّح)). قال خالد بن دهقان وهو من رواة الحديث: سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله: ((اعتبط بقتله)) قال: الذين يقاتلون في الفتنة، فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله يعني من ذلك.
6- وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)).
قال الطيبي: "الدنيا عبارة عن الدار القربى التي هي معبر الدار الأخرى، وهي مزرعة لها، وما خلقت السموات والأرض إلا لتكون مسارح أنظار المتبصرين ومعتبرات المطيعين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} [آل عمران:191] أي: بغير حكمة، بل خلقتَها لأن تَجعلها مساكن للمكلفين، وأدلة لهم على معرفتك، فمن حاول قتل من خُلقت الدنيا لأجله فقد حاول زوال الدنيا".
7- وعن المقداد بن عمرو الكندي أنه قال: يا رسول الله، إن لقيت كافراً فاقتتلنا فضرب يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ بشجرة وقال: أسلمت لله أأقتله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتله))، قال: يا رسول الله، فإنه طرح إحدى يديّ ثم قال ذلك بعدما قطعها أأقتله؟ قال: ((لا، فإن قتلتَه فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال)).
قال الخطّابيّ: "معناه أنّ الكافر مباح الدّم بحكم الدّين قبل أن يسلم, فإذا أسلم صار مصان الدّم كالمسلم, فإن قتله المسلم بعد ذلك صار دمه مباحًا بحقّ القصاص كالكافر بحقّ الدّين, وليس المراد إلحاقه في الكفر كما تقوله الخوارج من تكفير المسلم بالكبيرة".
8- وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أنّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)).
وقال ابن العربي: "ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حقّ والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي؟! فكيف بالمسلم؟! فكيف بالتقي الصالح؟!".(/6)
9- وعن عبد الله بن عمرو قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: ((ما أطيبك وأطيبَ ريحك, ما أعظمَك وأعظمَ حرمتك, والذي نفس محمد بيده, لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك: ماله ودمه, وأن نظن به إلا خيرا)).
قال السندي: "أي: حرمة مال المؤمن ودمه وحرمة الظنّ به سوى الخير أعظم حرمة منك".
10- وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يقتل المؤمن متعمدا أو الرجل يموت كافرا)).
قال السندي: "قوله: ((إلا الرّجل)) أي: ذنب الرّجل, وكأنّ المراد كلّ ذنب ترجى مغفرته ابتداء إلا قتل المؤمن, فإنّه لا يغفر بلا سبق عقوبة, وإلا الكفر, فإنّه لا يغفر أصلا, ولو حمل على القتل مستحلاّ لا يبقى المقابلة بينه وبين الكفر, ثمّ لا بدّ من حمله على ما إذا لم يتب, وإلا فالتّائب من الذّنب كمن لا ذنب له, كيف وقد يدخل القاتل والمقتول الجنّة معًا, كما إذا قتله وهو كافر ثمّ آمن وقتل, ولعلّ هذا بعد ذكره على وجه التّغليظ، والله تعالى أعلم".
تفسير القرآن العظيم (1/548-550).
جامع البيان (5/30-36) باختصار.
أخرجه البخاري في الديات (6878)، ومسلم في القسامة (1676).
أخرجه البخاري في المغازي (4403) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (66) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وجاء عن غيره من الصحابة.
إكمال المعلم بفوائد مسلم (5/483).
شرح صحيح مسلم (8/182).
مُعنِقا من العَنَق في السير، والمراد خفيف الظهر سريع السير. انظر: غريب الحديث للخطابي (1/204)، وغريب الحديث لابن الجوزي (2/131).
بلّح الرجل إذا انقطع من الإعياء فلم يقدر أن يتحرّك، يريد به وقوعه في الهلاك بإصابة الدم الحرام، وقد تخفف اللام. قاله ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (1/151).
أخرجه أبو داود في الفتن (4270)، وصححه الألباني في صحيح السنن (3590)، والسلسلة الصحيحة (511)، وصحيح الترغيب (2450).
أخرجه ابن ماجه في الديات (2619) وصححه الألباني في صحيح السنن (2121).
انظر: تحفة الأحوذي (4/652-654).
أخرجه البخاري في الديات (6865).
انظر: فتح الباري (12/189).
أخرجه الترمذي في الديات، باب: الحكم في الدماء (1398)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1128).
فتح الباري (13/196).
أخرجه ابن ماجه في الفتن, باب: حرمة دم المؤمن (3922), والترمذي في البر والصلة، باب: تعظيم المؤمن (1955) موقوفاً على ابن عمر، وصححه الألباني لغيره في صحيح الترغيب (2441).
شرح سنن ابن ماجه (1/282).
أخرجه الإمام أحمد (16302), والنسائي في تحريم الدم (3919), وأخرجه أبوداود من حديث أبي الدرداء في الفتن والملاحم, باب: تعظيم قتل المؤمن (3724), وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (511).
حاشية السندي على سنن النسائي (7/81).
سادسا: حرمة دم الذميّ والمعاهد:
قد يخفى على كثير ممن قلَّ نصيبه من العلم حرمة دم المعاهد، ولذا جاءت الشريعة الإسلامية بالتحذير الشديد من قتل المعاهد, وهو كلّ من له عهد مع المسلمين بعقد جزية أو هدنة من حاكم أو أمان من مسلم، إلا أن ينقض العهد فيكون حلال الدم.
1- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما)).
2- وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل رجلا من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة, وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما)).
وعن رفاعة بن شدّاد قال: كنتُ أقوم على رأس المختار بن أبي عبيد الكذّاب مدَّعي النبوّة، فلمّا تبيّنتُ كذبَه هممتُ ـ والله ـ أن أسلّ سيفي فأضرب به عنقَه، فأمشي بين رأسه وجسده، حتّى ذكرتُ حديثًا حدّثنا به عمرو ابن الحمِق رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أمَّن رَجلاً على نفسه فقتله أُعطيَ لواءَ الغدر يوم القيامة))، وفي لفظ: ((من ائتمَنه رجلٌ على دمِه فقتله فأنا منه بريء وإن كان المقتول كافرًا))، وفي لفظ: ((أيّما رجل أمّن رجلاً على دمه فقتله فقد برِئت من القاتل ذمّة الله وإن كان المقتول كافرًا)).
انظر: فتح الباري (12/259).
أخرجه البخاري في الجزية (3166).
أخرجه الإمام أحمد (17378), والنسائي في القسامة, باب: تعظيم قتل المعاهد (4668) واللفظ له, وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2453).
هو رفاعة بن شداد بن عبد الله القتباني أبو عاصم الكوفي، من كبار التابعين، وثّقه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، قتل سنة 66هـ، قيل: قتله المختار بن أبي عبيد. انظر: تهذيب التهذيب (3/251).(/7)
المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، يكنى: أبا إسحاق، ولم يكن بالمختار، كان أبوه من جِلّة الصحابة. ولد المختار عام الهجرة، وليست له صحبة ولا رؤية، وأخباره غير مرضية، يقال: إنه كان في أول أمره خارجيا ثم صار زيديا ثم صار رافضيا. انظر: الإصابة لابن حجر (6/349-351).
هو عمرو بن الحمق بن كاهل بن حبيب الخزاعي الكعبي، هاجر بعد الحديبية، سكن الشام ثم الكوفة ثم قدِم مصر، شهد مع علي حروبه، وقتل بالحرَّة سنة 63هـ، وقيل: سنة 50 هـ، وقيل: سنة 51 هـ. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (2/532، 532)، وتهذيب التهذيب (8/21).
أخرجه أحمد (5/223، 224، 436)، والنسائي في الكبرى (5/225)، وابن ماجه في الديات (2688)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2345)، والبزار (2306)، والطحاوي في شرح المشكل (1/77)، وقال البوصيري في الزوائد (3/136): "إسناده صحيح، رجاله ثقات"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (440).
أخرجه أحمد (5/224، 437)، والبزار (2308)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/202)، والطبراني في الأوسط (4252، 6655، 7781)، وأبو نعيم في الحلية (9/24)، والقضاعي في مسنده (164)، قال العقيلي في الضعفاء (2/215): "أسانيده صالحة"، وقال الهيثمي في المجمع (6/285): "رواه الطبراني بأسانيد كثيرة، وأحدها رجاله ثقات"، وهو في صحيح الجامع (6103).
مصنف عبد الرزاق (9679).
سابعًا: تحريم الغدر والخيانة:
1- قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} [النساء:107].
قال الطبري رحمه الله: "يقول: إن الله لا يحب من كان من صفته خيانة الناس في أموالهم، وركوب الإثم في ذلك وغيره مما حرمه الله عليه".
وقال القرطبي: "روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية إلى قوله: {كَفُورٍ}، فوعد فيها سبحانه بالمدافعة، ونهى أفصحَ نهي عن الخيانة والغدر. وقد مضى في الأنفال التشديد في الغدر، وأنه ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال: هذه غدرة فلان".
2- وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34].
قال ابن كثير رحمه الله: "قوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} أي: الذي تعاهدون عليه الناس، والعقود التي تعاملونهم بها؛ فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه، {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} أي: عنه".
3- وقال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِين} [يوسف:52].
قال القرطبي رحمه الله: "معناه أن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم".
وقال ابن سعدي رحمه الله: "فإنّ كلّ خائن لا بدّ أن تعود خيانته ومكره على نفسه، ولا بدّ أن يتبين أمره".
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بئست البطانة)).
قال المناوي رحمه الله: "((فإنها بئست البِطانة)) بالكسر، أي: بئس الشيء الذي يستبطنه من أمره ويجعله بطانة. قال في المغرب: بطانة الرجل أهله وخاصته مستعار من بطانة الثوب. وقال القاضي: البطانة أصلها في الثوب فاستعيرت لما يستبطن الرجل من أمره ويجعله بطانة حاله. والخيانة تكون في المال والنفس والعداد والكيل والوزن والزرع، وغير ذلك".
5- وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).
قال النووي رحمه الله: "الصحيح المختار أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلّق بأخلاقهم؛ فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار".
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره)).
قال ابن تيمية رحمه الله: "فذمّ الغادر، وكل من شرط شرطا ثم نقضه فقد غدر".
7- وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سريّة أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: ((اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا...)).(/8)
قال النووي رحمه الله: "وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها، وهي: تحريم الغدر، وتحريم الغلول...".
8- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكلّ غادر لواء, فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان)).
9- وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكلّ غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة)).
قال النووي رحمه الله: " معنى: ((لكل غادر لواء)) أي: علامة يشهَر بها في الناس؛ لأن موضوع اللواء الشهرة. وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر، لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأنّ غدره يتعدّى ضرره إلى خلق كثيرين. وقيل: لأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء".
وقال ابن حجر رحمه الله: "أي: علامة غدرته، والمراد بذلك شهرته وأن يفتضح بذلك على رؤوس الأشهاد، وفيه تعظيم الغدر سواء كان من قبل الآمر أو المأمور".
10- وعن علي رضي الله عنه قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيها: ((ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدل)).
قال النووي رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((وذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)) المراد بالذمة هنا الأمان. معناه: أن أمان المسلمين للكافر صحيح، فإذا أمّنه به أحد المسلمين حرُم على غيره التعرُّض له ما دام في أمان المسلم، وللأمان شروط معروفة... وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله)) معناه: من نقض أمانَ مسلم فتعرّض لكافر أمَّنه مسلم، قال أهل اللغة: يقال: أخفرتُ الرجل إذا نقضتُ عهده، وخفرته إذا أمَّنته".
وقال ابن حجر رحمه الله: " قوله: ((ذمّة المسلمين واحدة)) أي: أمانهم صحيح، فإذا أمَّن الكافرَ واحدٌ منهم حرُم على غيره التعرّض له... وقوله: ((يسعى بها)) أي: يتولاها ويذهب ويجيء، والمعنى: أن ذمّة المسلمين سواء صدرت من واحد أو أكثر، شريف أو وضيع، فإذا أمّن أحد من المسلمين كافرا وأعطاه ذمّةً لم يكن لأحد نقضه، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحرّ والعبد؛ لأن المسلمين كنفس واحدة... وقوله: ((فمن أخفر)) بالخاء المعجمة والفاء أي: نقض العهد، يقال: خفرته بغير ألف أمّنته، وأخفرته نقضت عهده".
قال ابن تيمية رحمه الله: "جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، و النهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك".
11- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)).
قال المناوي: "أي: لا تعامله بمعاملته, ولا تقابل خيانته بخيانتك فتكون مثله, وليس منها ما يأخذه من مال من جحده حقّه إذ لا تعدّي فيه, أو المراد إذا خانك صاحبك فلا تقابله بجزاء خيانته وإن كان حسنا, بل قابله بالأحسن الذي هو العفو, وادفع بالتي هي أحسن".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
جامع البيان في تأويل القرآن (5/270).
الجامع لأحكام القرآن (12/67).
تفسير القرآن العظيم (3/40).
الجامع لأحكام القرآن (9/209).
تيسير الكريم الرحمن (ص400).
أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: في الاستعاذة (1547)، والنسائي في الاستعاذة، باب: الاستعاذة من الجوع (5468)، وابن ماجه في الأطعمة، باب: الاستعاذة من الجوع (3354)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1368).
فيض القدير (2/124).
أخرجه البخاري في الإيمان، باب: علامة النفاق (34)، ومسلم في الإيمان (58)، بنحوه.
شرح صحيح مسلم (2/47).
أخرجه البخاري في البيوع، باب: إثم من باع حر (2227).
مجموع الفتاوى (29/145).
أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1731).
شرح صحيح مسلم (12/37).
أخرجه البخاري في الأدب، باب: ما يدعى الناس بآبائهم (6177)، ومسلم في الجهاد والسير (1735) واللفظ له.
أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1738).
شرح صحيح مسلم (12/43-44) بتصرف يسير.
فتح الباري (13/71).
أخرجه البخاري في الحج، باب: حرم المدينة (1870) واللفظ له، ومسلم في الحج (1370).
شرح صحيح مسلم (9/144-145).
فتح الباري (4/86).
مجموع الفتاوى (29/145-146).
أخرجه أبو داود في البيوع (3535)، والترمذي في البيوع (1264)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (423).
فيض القدير (1/223).(/9)
تحطيم الأوثان
فهد بن محمد القرشي
مكة المكرمة
العمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فرح المؤمنين وفزع المنافقين والكافرين والمخاذلين بتكسير أصنام طالبنا. 2- رخصت دماء المسلمين عند الغرب وغلا بوذا وصنمه. 3- الأنبياء يحطمون الأصنام. 4- الصحابة والسلف يدمرون أوثان الجاهلية. 5- أقوال العلماء في هذه المسألة. 6- رد شبهات المانعين تحطيم أصنام بوذا.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله: لقد أثلج صدورنا، وأفرح قلوبنا، وأقر عيوننا، ما قامت به حكومة طالبان الإسلامية من تحطيمها للأصنام الوثنية، مقتدين مهتدين بهدي خير البرية، في حرصه على هدم الأصنام الوثنية من دون الله. في حين أن هذا العمل الجليل أقض مضاجع الكافرين على اختلاف أصنافهم أجمعين، ولكن الكفر كله ملة واحدة.
نعم عباد الله لقد ثار العالم كله على حكومة طالبان الإسلامية في تحطيمها للأصنام الوثنية، وفي مقدمتهم أمريكا، ولا غرابة في ذلك فهم أعداء الإسلام والمسلمين، ويحاربون المسلمين بكل ما يستطيعون فهم بَيْن عُبَّادٍ للأصنام أو عباد للبقر أو بني الإنسان. فنقول لهم جميعاً وفي مقدمتهم هيئة الأمم المتحدة الملحدة والتي حذر مندوبها حكومة طالبان بأنهم سيدفعون الثمن غالياً إذا قاموا بتحطيم تلك الأصنام. نقول لهم: هل الحجر في دينكم أهم من البشر؟ إن كان هذا دينكم فنحن تعلمنا من ديننا أن زوال الدنيا أهون عند الله من إراقة دم امرئ مسلم، وأن هدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من إراقة دم مسلم، وأن المسلم لا يزال في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، كما أخبرنا بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة. فأين هيئة الأمم ومن سار في ركابها من فضائح القوات الأمريكية في الصومال؟ وأين هم من ملايين الأطفال الذين ماتوا ويموتون سنوياً في بعض بلاد المسلمين، بسبب الهجوم الأمريكي والبريطاني المشترك عليها؟. وأين هيئة الأمم المتحدة عن فضائح قواتها في البوسنة والهرسك من اغتصاب وغير ذلك ؟. وأين هم من مذابح المسلمين في كل مكان؟ بل أين هيئة الأمم المتحدة من محمد الدرة وأطفال المسلمين في فلسطين الذين يفرقون بالدبابات والقنابل والرصاص على أيدي القوات الإسرائيلية؟ فهل تصدقون عباد الله أن يهب كل أولئك الرهط في صوت واحد لإنقاذ مجموعة من الحجارة بدعوى الحفاظ على الحضارة والثقافة، بينما قَتْل الملايين عندهم لا يحرك ساكناً.
لكن للأسف الشديد عباد الله ساءنا وآلمنا ما سمعنا وقرأنا من استنكار بعض الدول الإسلامية وبعض المنتسبين إلى العلم الذين همّهم مسايرة الغرب والمحافظة على مشاعره. حتى أنهم بعثوا بعوثاً ووفوداً مؤملين وراجين وطالبين من طالبان أن لا تهدم تلك الأصنام، ولكنهم رجعوا بخفي حنين. يا ويح أولئك القوم، هدم المسجد البابري فلم نسمع أصواتهم، وهو مسجد عتيق له ما يقرب من ثمانمائة عام. يا ويحهم يقتل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ولم نسمع أصواتهم، يا ويحهم يموت في أفغانستان في اليوم الواحد ما يقرب من أربعمائة طفل ولم نسمع أصواتهم. يا ويحهم أغلق المطار في وجوه حجاج بيت الله الحرام من قبل اليهود اللئام ولم نسمع أصواتهم، مع ما يعيشون فيه من ضيق وكرب لا يعلم مداه إلا الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
عباد الله: هل انتهت مشاكل المسلمين وأزماتهم ونكباتهم وسارع أولئك القوم في حلها، ولم يبق أمامهم إلا أصنام بوذا يسارعون في حلها ويحاولون في عدم هدمها، إنني أذكر أولئك بقوله تعالى: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً وقوله: ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمن يكون عليهم وكيلاً. فما عساهم أن يقولوا في إبراهيم الخليل ذلك الأواه الحليم الذي أقسم بالله العظيم ليكيدن أصنامهم بعد أن يولوا مدبرين وذكر الله عنه في كتابه العزيز أنه راغ عليهم ضرباً باليمين وسفههم بقوله: ألا تأكلون ؟، فما ذكر الله إبراهيم الخليل في كتابه العزيز إلا ما قام به من عمل عظيم ألا وهو تحطيم الأصنام غالباً.
وهذا موسى عليه الصلاة و السلام، كليم الرحمن، وأحد أولي العزم من الأنبياء، ما ذا فعل بما صنع السامري عندما فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ [طه:88]. قال الله تعالى على لسانه وَانظُرْ إِلَى الهكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى الْيَمّ نَسْفاً [طه:97].
وعيسى عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان فإنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير. كما ورد عند الشيخين البخاري ومسلم.(/1)
أما ما ورد عن إمام المرسلين وسيد الناس أجمعين وقائد الغر المحجلين، ما رواه الشيخان من فعله عليه الصلاة والسلام وبيده الكريمة لما فتح مكة نهض عليه الصلاة والسلام والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد الحرام فأقبل على الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس ويقول: وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]. قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىء الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49]. والأصنام تتساقط على وجوهها. كيف لا وقد بعث عليه الصلاة والسلام بكسر الأصنام، فعن عمرو بن عبسة أنه قال للنبي وبأي شئ أرسلك الله؟ قال: ((أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيئاً))، وروى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله : ((أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)). وعند أحمد: ((وأن أطمس كل صنم)).
أما عن بعوثه لأصحابه لهدم الأصنام فكثيرة نذكر منها ما تيسر:- أولا: بعث خالد بن الوليد إلى العزى وكان صنماً تعظمه قريش فهدمها وحطمها. ذكره بن سعد في الطبقات.
ثانياً: بعث عمرو بن العاص إلى سواع، وهو صنم لهذيل فكسره وهدمه. ذكره بن سعد أيضاً.
ثالثاً: بعث علي بن أبي طالب إلى الفليس وهو صنم طي ليهدمه، وكان صنماً منحوتاً على جبل من جبالهم فهدمه وكسره. كما عند ابن سعد في الطبقات.
رابعاً: بعث سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة وكانت بالمُشَللْ عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم فهدمها وكسرها. كما عند ابن سعد.
خامساً: بعث الطفيل بن عمرو إلى ذو الكفين وهو صنم عمرو بن حُمَمَة الدوسي ليهدمه، فهدمه وجعل يحشي النار في وجهه ويحرقه وهو يقول:
يا ذا الكفين لست من عبادك ميلادنا أقدم من ميلادكَ
إني حششت النار في فؤادكَ
[رواه ابن سعد].
سادساً: بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الخَلَصة صنم لدوس، وقال له : ((هل أنت مريحي من ذي الخلصة))، فنفر إليه ومعه أصحابه فكسره وهدمه. [رواه البخاري ومسلم].
سابعاً: بعث أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لتحطيم اللات وهو صنم لثقيف، وفيها نكتة لطيفة ليسمعها أصحاب القلوب المريضة الذين انتكست فطرهم وأصبحوا يخافون من غير خالقهم.
نعم عباد الله: يخافون من الساحر والكاهن ونحوهم. لما قدم المغيرة ومن معه لهدم ذلك الصنم، استنكفت ثقيف كلها رجالها ونساؤها وصبيانها حتى خرج العواتق من الحجال، لا ترى ثقيف أنها مهدومة، يظنون أنها ممتنعة، فقام المغيرة فأخذ الكرزين ـ وهو فأس له حد ـ وقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالفأس ثم سقط يركض فأربح أهل الطائف بضجة واحدة، وقالوا: أبعد الله المغيرة قتلته الربة، وفرحوا حين رأوه ساقطاً، وقالوا لأصحابه: من شاء منكم فليقرب، وليجتهد على هدمها، فوالله ما تستطاع ،فوثب المغيرة بن شعبة فقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة وقدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجراً حجراً حتى سووها بالأرض ولسان حالهم يقول:
نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
قال ابن القيم رحمه الله في فقه هذه القصة وفوائدها ومنها: "هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتاً للطواغيت، وهدمها أحب إلى الله ورسوله، وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير، وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله ويشرك بأربها مع الله، لا يحل إبقاؤها في الإسلام ويجب هدمها". وقال أيضاً رحمه الله: "إنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً فإنها من شعائر الكفر والشرك، فهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة على هدمها البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته. وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أو أعظم شركاً عندها وبها، والله المستعان".
كيف لا عباد الله وقد أمر النبي بهدم وحرق مسجد الضرار وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين ومأوى للمنافقين، وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار، فمشاهد الشرك التي يدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بالهدم وأوجب، كما ذكر ابن القيم رحمه الله.
وقد جاء في معجم البلدان أنه لما غلب عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب على ناحية سجستان في أيام ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه سار إلى الدوار فحصرهم في جبل الزون، وعلى الزون صنم من ذهب فقطع يديه وقطعه المسلمون وكسروه.(/2)
عباد الله: هذا هدى الكتاب والسنة، وهدي الصحابة رضوان الله عليهم في تحطيم الأصنام والأوثان، أفيأتي بعدهم من يشكك في هذه الملة الحنيفية والسنة الربانية بحجج واهية أملتها عليهم ضرورة مجاراة العصر والحضارات الكافرة وما هذه الشبهة التي يلوكونها ويرددونها إلا تخذيل لأتباع رسالة نبينا محمد علم أولئك أم جهلوا.
عباد الله: قد جاء الوعيد الشديد لمن نصب الأصنام والأوثان كما حدث للطاغية عمرو بن لحي الخزاعي إمام الشرك والوثنية، فقد قال : ((رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبة في النار)) [رواه البخاري]. وكان أول من سيب السوائب، وأول من غير دين إبراهيم الخليل فأدخل الأصنام إلى الحجاز.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من عصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله وعلى آله ومن والاه.
أما بعد:
فيا عباد الله، اعلموا رحمكم الله أن الإجماع منعقد على وجوب كسر هذه الأصنام والأوثان، حتى إن الأمام الشافعي رحمه الله نقل عن أئمة العلم بمكة أنهم كانوا يأمرون بهدم ما بني على القبور. ونقل الملا علي قاري الحنفي رحمه الله قول العلماء في وجوب محو الصور. وهذا الذي نقله مما يقول به عامة علماء الأحناف وغيرهم. وقال أبو يحيى الشافعي في "أسنى المطالب": ويلزم المكلف القادر كسر الأصنام ثم نقل عن صاحب الإحياء أنه قال" ليس لأحد أن يمنع أحداً من كسرها، وأن الصبي غير المكلف مأجور على كسرها.
أما ابن العربي المالكي رحمه الله: فقد أوجب كسر الأصنام. وقد نقل صاحب "تيسير العزيز الحميد" الحنبلي إجماع أهل العلم على هدم ما بني على القبور. وقد سبق نقل نصوص عن بعض أئمة الحنابلة فيما مضى.
ثم اعلموا عبد الله: أن الأدلة الدالة على تحطيم الأصنام عامة، فأين إخراج الأصنام المعدة للتراث أو النفع الاقتصادي أو المعدة للسياحة ونحوه. قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].
ثم نقول لهم: هل هناك نفع لشيء وصفه الله تعالى بأنه رجس كما قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاْنصَابُ وَالاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]. وجاء في الحديث الصحيح عن جابر مرفوعاً: ((إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) فقد حرم المصطفى بيع الأصنام ولم تجعل باباً من أبواب الاتجار والنفع الاقتصادي، وهل أصنام العرب عباد الله إلا من الآثار القديمة التي هي إرث حضاري فاسد؟ فهل تركها أم حطمها؟ وقد سبق الجواب عملياً منه ثم أرسل أصحابه لهدمها.
وأما ما يقال من أنها لا تشكل خطراً على المسلمين فلو كانت كما يقال لم يتفق الرسل عليهم الصلاة والسلام على تحطيمها وعدم إبقائها، إذ الأصنام وكل ما يعبد من دون الله خطر على التوحيد الذي أمر الله به عز في علاه، ثم ألا يكفي بوذا في بلاد الوثنيين حتى يقر على رؤوس المسلمين في أفغانستان.
وأخيراً عباد الله: اعلموا أن ما تركه المسلمون من الأصنام والتماثيل والمعبودات في البلدان التي فتحوها على ثلاثة أقسام: _ في البلدان التي فتحوها على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما كان في هذه الأصنام داخلاًً في كنائسهم ومعابدهم التي صولحوا عليها، فتترك بشرط عدم إظهارها كما في الشروط العمرية.
القسم الثاني: أن تكون تلك الأصنام والتماثيل من القوة والإحكام بحيث يعجزون عن هدمها وإزالتها، مثل تلك التماثيل الهائلة المنحوتة في الجبال والصخور، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته: أن ما كان من الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة ،بل تتم في أزمنة متعاقبة حتى تكتمل وتكون ماثلة للعيان.
القسم الثالث: أن تكون تلك الأصنام مطمورة تحت الأرض أو مغمورة بالرمال ولم تظهر إلا بعد انتهاء زمن الفتوحات الإسلامية. وهذا مثل كثير من آثار الفراعنة في مصر. كما ذكر المقريزي رحمه الله تعالى في خططه: أن أبا الهول كان مغموراً تحت الرمال، ولم يظهر منه إلا الرأس والعنق دون الباقي بخلافه اليوم. وقد توفي المقريزي رحمه الله في القرن التاسع يعني بعد الصحابة بثمانمائة عام على أقل تقدير.
وقد سئل المؤرخ الزركلي كما في كتابه (شبه جزيرة العرب) عن الأهرام وأبي الهول ونحوها هل رآه الصحابة الذين دخلوا مصر؟ فقال كان أكثرها مغموراً بالرمال، ولا سيما أبا الهول.
ولذلك عباد الله: لا يصح مطلقاً نسبة ترك هذه الأصنام والتماثيل إلى خير القرون، فإنهم أحرص الناس على إقامة التوحيد وشعائره وإزالة الشرك ومظاهره.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة رسولك وعبادك الصالحين.(/3)
تحية المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه، والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ :
فإنه يُشرع للداخل إلى المسجد أن يركع ركعتين؛ لحديث أبي قتادة أنَّ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، قال:(إذا دخل أحدُكم المسجدَ، فليركعْ ركعتينِ قبلَ أنْ يجلسَ)(1).
وعنه-رضي الله عنه-، قال:(دخلتُ المسجد ورسول الله-صلى الله عليه وسلم-جالس بين ظهراني الناس، قال:فجلست، فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟) قال: فقلت: يا رسول الله، رأيتك جالساً والناس جلوس، قال: (فإذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يركع ركعتين)(2).
وهاتان الركعتان هما تحية المسجد، فينبغي على من دخل المسجد أن لا يجلس حتى يركعهما، وقد اختلف العلماء في حكم تحية المسجد، فقال الإمام الشوكاني -رحمه الله-: (وقد ذهب إلى القول بالوجوب الظاهرية كما حكى ذلك عنهم ابنُ بطال. وذهب الجمهور إلى أنها سنة، وقال النووي: إنه إجماع المسلمين قال: وحكى القاضي عياض عن داود وأصحابه وجوبها، قال الحافظ في الفتح: واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب(3).
وبوب النووي -رحمه الله-، في شرحه صحيح مسلم ": (باب استحباب تحية المسجد بركعتين، وكراهة الجلوس قبل صلاتهما، وأنها مشروعة في جميع الأوقات)(4). ثم قال -رحمه الله-، في الشرح في ذكر الفوائد المستفادة من حديث أبي قتادة رضي الله عنه: "قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)، وفي الرواية الأخرى: (فلا يجلس حتى يركع ركعتين)، فيه استحباب تحية المسجد بركعتين، وهي سنة بإجماع المسلمين، وحكى القاضي عياض عن داود وأصحابه وجوبهما، وفيه التصريح بكراهة الجلوس بلا صلاة وهي كراهة تنزيه، وفيه استحباب التحية في أي وقت دخل، وهو مذهبنا وبه قال جماعة، وكرهها أبو حنيفة والأوزاعي والليث في وقت النهي، وأجاب أصحابنا أن النهي إنما هو عمَّا لا سببَ له؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم-صلى بعد العصر ركعتين قضاءً سنة الظهر، فخصَّ وقت النهى وصلَّى بهم ذات السبب، ولم يترك التحية في حال من الأحوال؛ بل أمر الذي دخل المسجد يوم الجمعة وهو يخطب أن يقوم فيركع ركعتين، مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية، فلو كانت التحية تترك في حال من الأحوال لتركت الآن؛ لأنه قعد وهي مشروعة قبل القعود، ولأنه كان يجهل حكمها، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قطع خطبته وكلمه وأمره أن يصلي التحية، فلولا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم عليه السلام هذا الاهتمام، ولا يشترط أن ينوي التحية بل تكفيه ركعتان من فرض أو سنة راتبة أو غيرهما، ولو نوى بصلاته التحية والمكتوبة انعقدت صلاته وحصلتا له، ولو صلى على جنازة أو سجد شكراً أو للتلاوة أو صلى ركعة بنية التحية لم تحصل التحية على الصحيح من مذهبنا(5).
"وإستحب بعض المتأخرين من أصحاب أحمد في الحاج إذا دخل المسجد الحرام أن يستفتح بتحية المسجد فخالفوا الأئمة والسنة وإنما السنة أن يستفتح المحرم بالطواف كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد بخلاف المقيم الذي يريد الصلاة فيه دون الطواف فهذا إذا صلى تحية المسجد فحسن" قاله شيخ الإسلام رحمه الله.6
وقال الحافظ ابن حجر أن حكم المسجد الحرام كحكم بقية المساجد فقال: "واستثنى المحاملي المسجد الحرام؛ لأن تحيته الطواف، وفيه نظر لطول زمن الطواف بالنسبة إلى الركعتين، والذي يظهر من قولهم إن تحية المسجد الحرام الطواف إنما هو في حق القادم، ليكون أول شيء يفعله الطواف، وأما المقيم فحكم المسجد الحرام وغيره في ذلك سواء، ولعل قول من أطلق أنه يبدأ في المسجد الحرام بالطواف لكون الطواف يعقبه صلاة الركعتين فيحصل شغل البقعة بالصلاة غالباً وهو المقصود، ويختص المسجد الحرام بزيادة الطواف، والله أعلم"(7).
وفى الجملة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكمل الله له ولأمته الدين وأتم به صلى الله عليه وسلم عليهم النعمة فنسأله تعالى أن يوزعنا شكر ذلك وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته...
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - متفق عليه.
2 - رواه مسلم.
3 - نيل الأوطار (3/83).
4 - شرح صحيح مسلم (5/225).
5 - شرح النووي على صحيح مسلم (5/225-226).
6 - مجموع الفتاوى: 22/226
7 - فتح الباري (2/411).(/1)
تحية ودفاع عن عرضه - صلى الله عليه وسلم-
محمد بن عائض القرني
ما بالُ مكةَ قد ضجت نواحيها؟ ... ودمع طيبةَ يجري من مآقيها؟
ما للجزيرةِ قد مادت بساكنها؟ ... فاهتز شامخُها وارتج واديها!
ما للعروبةِ والإسلامِ روَّعَها ... خَطبٌ ألمَّ وظُلمٌ من أعاديها؟
أيسخرون من الهادي الذي شرفت ... به البريةُ قاصيها ودانيها؟!
أيسخرون من الأنوارِ قد كشفت ... مجاهلَ الظلم فانزاحت غواشيها
أيسخرون من المجدِ الذي خضعت ... له الجبابرُ حتى ذل طاغيها
أيهزؤون به؟ شُلت أكفُّهُمُ ... ودمر الله ما تجني، وجانيها
أعداءُ كلِّ نبي جاء يُنقذُهم ... من الضلالةِ لما أُركسوا فيها
محمدٌ خيرُ من سارت به قدم ... وأكرمُ الناس ماضيها وباقيها
أوْفَى الخليقةِ إيماناً وأكملُها ... ديناً، وأرجحُها في وزن باريها
من مثلُه في الورى بِراً ومرحمةً؟ ... ومن يشابهُه لطفاً وتوجيها؟
جاءت رسالتُه للناس خاتمةً ... وجاء بالنعمة المسداةِ يهديها
أحيا الحنيفيةَ الغراءَ متبِعاً ... نهجَ الخليلِ ولم يخطئْ مراميها
وسار في كنفِ الرحمنِ يكلؤه ... إلى الحسانِ من الأخلاقِ يبنيها
هو البشيرُ لمن أصغى لدعوتِه ... هو النذير لمغرور يعاديها
كسرى تَكَسَّرَ إذعاناً لهيبته، ... قصورُُ قيصرَ هُدت من أعاليها!
وأقبلت أممٌ شتى مبايعةً ... تمُد للعدلِ والإحسانِ أيديها
نالت بدعوته نُعمى ومكرُمةً ... وأسعد الله بعد البؤسِ ناديها
في الهندِ والصينِ والقوقازِ طائفةٌ ... تذود عن عرض خير الناس تنزيها
وفي (أُورُبَّةَ) أقوامٌ قلوبُهُمُ ... بدين أحمدَ قد نالت أمانيها
الصامدون بوجهِ الكُفرِ ما ضَعُفُوا ... يجابهون المنايا في تحديها
يفدون عرضَ رسولِ الله ما بخلوا ... وبالنفوس إذا نادى مناديها!
حتى إذا نشر الأنذالُ حقدَهُمُ ... وبارزوا اللهَ من عدوانهم تيها
تؤزُّهم زُمَرٌ ضاقت نفوسُهم ... لهم عيونٌ شُعاعُ الحق يُعشيها
بنو اليهودِ ومن ساءت سريرتُه ... فأبدل الصدقَ تزويراً وتمويها
أيسخرون من المعصومِ ويلهُم؟ ... ويطلبون له ذماً وتشويها؟
من جاء بالملةِ البيضاءِ صافيةً ... نقيةً؛ وبنور الوحي يحييها
أقام بالعدلِ مجداً لا زوال له ... وأمَّةً كنفُ الرحمنِ يحميها
من بئرِ زمزمَ سُقياها ومطعمُها ... من تمر طيبةَ قد طابت مغانيها
أرواحُها بظلالِ البيتِ هائمةٌ ... من دونه تُرخِصُ الدنيا وما فيها!
فداءُ عرضِ رسولِ الله أنفسُنا ... وكلُّ نفس وما تحويه أيديها
وصلِّ يا ربِّ ما هبَّ النسيمُ على ... معلمِ الأممِ الحَيرَى وهاديها
تحيةً لرسولِ الله أبعثُها ... ويومَ هجرتِه الغراءِ أهديها
... تحية ودفاع عن عرضة -صلى الله عليه وسلم-(/1)
تخطي الرقاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه ربه رحمة للعالمين, نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ :
فلا يجوز للداخل إلى المسجد أن يتخطَّى الرقاب، ويُفرِّق بين الجالسين، أو يقيم أحداً من مكانه؛ ليجلس هو، ولكن له –إن لم يجد مكاناً- أن يقول: افسحوا، ففي "صحيح مسلم" أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال:(لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا).
وفي صحيح البخاري أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-,قال:(لا يغتسل رجل يوم الجمعة،ويتطهر ما استطاع من طهر،ويدهن من دهنه،أو يمس من طيب بيته،ثم يخرج؛ لا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام؛ إلا غفر الله ما بينه وبين ا لجمعة الأخرى).
وعن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من اغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة، فلم يتخطَّ أعناق الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته؛ كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها)(1).
وعندما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة وهو يخطب قال له -صلى الله عليه وسلم-: (اجلس فقد آذيت)(2).
و" قَدْ فَرَّقَ النَّوَوِيّ بَيْن التَّخَطِّي وَالتَّفْرِيق بَيْن الِاثْنَيْنِ وَجَعَلَ اِبْن قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي التَّخَطِّي هُوَ التَّفْرِيق . قَالَ الْعِرَاقِيّ : وَالظَّاهِر الْأَوَّل , لِأَنَّ التَّفْرِيق يَحْصُل بِالْجُلُوسِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَتَخَطَّ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي حُكْم التَّخَطِّي يَوْم الْجُمُعَة فَقَالَ التِّرْمِذِيّ : حَاكِيًا عَنْ أَهْل الْعِلْم إِنَّهُمْ كَرِهُوا تَخَطِّي الرِّقَاب يَوْم الْجُمُعَة وَشَدَّدُوا فِي ذَلِكَ . وَحَكَى أَبُو حَامِد فِي تَعْلِيقه عَنْ الشَّافِعِيّ التَّصْرِيح بِالتَّحْرِيمِ , وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي زَوَائِد الرَّوْضَة : إِنَّ الْمُخْتَار تَحْرِيمه لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة وَاقْتَصَرَ أَصْحَاب أَحْمَد عَلَى الْكَرَاهَة فَقَطْ . وَرَوَى الْعِرَاقِيّ عَنْ كَعْب الْأَحْبَار أَنَّهُ قَالَ : لَأَنْ أَدَع الْجُمُعَة أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَخَطَّى الرِّقَاب . وَقَالَ اِبْن الْمُسَيِّب لأَنْ أُصَلِّي الْجُمُعَة بِالْحَرَّةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ التَّخَطِّي . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة نَحْوه وَلَا يَصِحّ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَة صَالِح مَوْلَى التَّوْأَمَة عَنْهُ . قَالَ الْعِرَاقِيّ : وَقَدْ اسْتُثْنِيَ مِنْ التَّحْرِيم أَوْ الْكَرَاهَة الْإِمَام أَوْ مَنْ كَانَ بَيْن يَدَيْهِ فُرْجَة لَا يَصِل إِلَيْهَا إِلَّا بِالتَّخَطِّي , وَهَكَذَا أَطْلَقَ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَقَيَّدَ ذَلِكَ فِي شَرْح الْمُهَذَّب فَقَالَ إِذَا لَمْ يَجِد طَرِيقًا إِلَى الْمِنْبَر أَوْ الْمِحْرَاب إِلَّا بِالتَّخَطِّي لَمْ يُكْرَه لِأَنَّهُ ضَرُورَة , وَرُوِيَ نَحْو ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيّ , وَحَدِيث عُقْبَة بْن الْحَارِث الْمَرْوِيّ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ , قَالَ " صَلَّيْت وَرَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الْعَصْر ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَاب النَّاس إِلَى بَعْض حُجَر نِسَائِهِ فَفَزِعَ النَّاس مِنْ سُرْعَته فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ " الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى جَوَاز التَّخَطِّي لِلْحَاجَةِ فِي غَيْر الْجُمُعَة , فَمَنْ خَصَّصَ الْكَرَاهَة بِصَلَاةِ الْجُمُعَة فَلَا مُعَارَضَة بَيْنهمَا عِنْده , وَمَنْ عَمَّمَ الْكَرَاهَة لِوُجُودِ عِلَّة التَّأَذِّي فَهُوَ مُحْتَاج إِلَى الِاعْتِذَار عَنْهُ , وَقَدْ خَصَّ الْكَرَاهَة بَعْضهمْ بِغَيْرِ مَنْ يَتَبَرَّك النَّاس بِمُرُورِهِ وَيَسُرّهُمْ ذَلِكَ وَلَا يَتَأَذَّوْنَ لِزَوَالِ عِلَّة الْكَرَاهَة الَّتِي هِيَ التَّأَذِّي قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ "3.
والحاصل أن على الراغب في الصلاة في الصفوف الأولى أن يبكر بالحضور إلى المسجد، حتى يتمكن من الجلوس فيها، ولا يأتي متأخراً ويتخطى رقاب الجالسين، فيسبب لهم الأذية، ويوقع نفسه في هذه المعصية، فإذا كان حريصاً على الصفوف الأولى بكَّرَ بالحضور، وإلا جلس حيث انتهى به المجلس.
وقد تكون غاية هؤلاء الذين يتخطون الرقاب الوصول إلى أما كن خاصة في المسجد، يلازمون الصلاة فيها؛ كالصف الأول، أو خلف الإمام، أو قرب المنبر، ولا يلذ لهم التعبد أو الإقامة إلا بها، وإذا أبصر من سبقه إليها، فربما اضطره إلى التنحي له عنها؛ لأنها محتكرة، أو يذهب عنها مغضباً، وهو يحوقل ويسترجع(4).(/1)
قال الشيخ القاسمي: (ولا يخفى أن محبة مكان من المسجد على حدة ناشئ من الجهل، أو الرياء والسمعة، وأن يقال: إنه لا يصلي إلا في المكان الفلاني، أو إنه من أهل الصف الأول، مما يحبط العمل ملاحظته ومحبته، فنعوذ بالله)(5).
فعلى المسلم أن يحرص على أن يتزود من فعل الخير، ولا يكون حضوره إلى المسجد إلا لاكتساب الحسنات، والتعرض لنفحات الرحمن، لا يأتي فيكسب السيئات بسبب أفعاله: من تخطيه رقاب الآخرين، وإيذاء المصلين، والتشويش عليهم.
وفَّقَ اللهُ الجميعَ لما يحبه ويرضاه، وزوَّدنا الله التقوى، وصلى الله على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم،والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر صحيح أبي داود رقم (331).
2 - رواه أبو داود والنسائي وأحمد وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (989).
3 - عون المعبود، للآبادي عند شرح الحديث السابق.
4 - المسجد في الإسلام لخير الدين وانلي (صـ 83).
5 - المسجد في الإسلام لخير الدين وانلي (83-84).(/2)
تخفيف الإمام على الناس في الصلاة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمن حكمة الله - جل وعلا - أن شرع للناس صلاة الجماعة؛ ليزداد أجر المصلين، ويتآلفوا فيما بينهم، ويشعروا بالوحدة والقوة، كما جاء في الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده سبعاً وعشرين).[1]
ولكن الناس باختلافهم ومشاغلهم المتنوعة، قد تثقل عليهم الجماعة في المسجد، والتأخر حتى تنقضي، فيميلون نحو أدائها فرادى، أو في غير المسجد، وحينها يذهب المقصود الشرعي من الجماعة، غير أن هذا الدين مكتمل البناء، لا يبني أمراً نقيض آخر، ولا يقول قولاً معارضاً لقول - حاشاه - .
ومن واجب الأمة - جماعات وأفراداً، أئمة ومأمومين - التيسير والتبشير، والبعد عن التنفير مهما كان الأمر، لا سيما في شعائر الله، ومقاصد الشريعة، فهي أحق بأن تهوَّن للناس، فيقَرَّبون إليها، فلا يحسن التنفير عن العبادة في أي حال - ولو كان على سبيل الاجتهاد في العبادة -.
فعن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رجل: يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة؛ مما يطول بنا فلان. فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشد غضبًا من يومئذ، فقال: (أيها الناس إنكم منفِّرون! فمن صلى بالناس فليخفف؛ فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة).[2]
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - قال: أقبل رجل بناضحين (الناضح: هو البعير الذي يستقى عليه)، وقد جنح الليل، فوافق معاذًا يصلي، فترك ناضحه، وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل وبلغه أن معاذًا نال منه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه معاذًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (يا معاذ أفتَّان أنت؟). أو ( فاتن ) ثلاث مرات، (فلولا صليت بسبح اسم ربك، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى؛ فإنه يصلي وراءك الكبير، والضعيف، وذو الحاجة).[3]
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإنه منهم الضعيف، والسقيم، والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)[4]. إلى غير ذلك من الأحاديث.
هكذا راعى النبي - صلى الله عليه وسلم - أحوال أمته، ولم يشق عليهم، فيسَّر لهم الأمر، وأمر الأئمة أن ييسروا على الناس، (فمن صلى بالناس فليخفف)، لئلا ينفروا عن الدين.
وبهذا تُعلم لنا أمور:
1- حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إرشاد أمته، ومعالجة الخطأ بطريقة الإقناع كأن يذكر سبب أمره وحكمته، (فإنه منهم الضعيف، والسقيم، والكبير). ولا بد من مراعاة أحوالهم جميعاً، والرفق بهم فسبحان القائل: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة.
2- نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التثقيل على الأمة، ومنه: المشقة تجلب التيسير.
3- مراعاة أحوال الضعفاء وذوي الحاجة، وكبار السن، وأهل الضرورات بقراءة قصار السور.
4- من صلى منفرداً فله أن يطول ما شاء.
وهكذا كل مسألة فيها مشقة وعسر لا بد من التيسير فيها، والتخفيف؛ لأن ذلك من مقاصد الشريعة الحنيفية السمحة.
إذاً فالأصل في إمامة الناس التخفيف لجذب قلوبهم وإعانتهم على الصلاة، بدلاً من تنفيرهم عن المساجد.. لكن هناك حالات نادرة يسن فيها إطالة القراءة في الصلاة قليلاً، كقراءة سورة السجدة في الركعة الأولى في صلاة فجر يوم الجمعة، وسورة الإنسان في الركعة الثانية منها، وكذا الإطالة في الصلوات النافلة كصلاة التراويح، إذا كان المأمومون يرغبون وينشطون ذلك، وإلا فالأصل التخفيف على الناس، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر معاذاً وغيره بالتخفيف على الناس وهم في عهد الرسالة والوحي ومشاهدة الآيات الحية الصادقة على قوة الدين وصدق الرسالة فكيف بنا في زمن ضعف الهمة في أمور الدين، وقلة الخشوع أو عدمه! فينبغي للأئمة مراعاة أحوال الناس كافة، فإنما فُرض في الصلاة من القرآن سورة الفاتحة وما عداها فهو سنة، ومن المشكلة أن تنقر الفروض والأركان في الصلاة كالركوع والقيام منه والسجود والقيام منه، ويشق على الناس في أمر السنة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخفيف فيها.
ولا يعني هذا أيضاً أن يستغل الناس فرصة التخفيف لينقروا الصلاة نقر الغراب الدم، أو يصلوا دائماً بالسور القصيرة جداً، بل مثل ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً من القراءة بسور معلومة مثل الأعلى والشمس وضحاها، وما شاكلها من السور والمقاطع من القرآن الكريم.
نسأل الله أن يوفق الناس لما فيه الخير.
والحمد لله رب العالمين.
________________________________________(/1)
[1] - رواه البخاري (620)، ومسلم (650). واللفظ له.
[2] - صحيح البخاري:(1/46 برقم:90،670،672 ،5759 ، 6740).
[3] - رواه البخاري: (5/2264برقم: 5755 )ومسلم:(1/339برقم:465).
[4] - رواه البخاري: (1/248برقم:471) ومسلم: (1/341برقم:467)(/2)
تخفيف المهور وتيسيرها
رضا بن محمد السنوسي ...
1- الزواج نشاط فطري أحله الله عز وجل. 2- دفع المهر للمرأة جزء من تكريم الإسلام لها. 3- لم يحدد الإسلام قيمة معينة للمهر. 4- تفاوت مهور الصحابة على قلتها. 5- ظهور التغالي في المهور والمباهاة في نفقات الزواج. 6- من بركة المرأة قلة مهرها. ...
...
الخطبة الأولى ...
...
أما بعد:
أحبابنا في الله: الزواج طبيعة فطرية وارتباط حيوي وثيق يحفظ الله به النسل البشري في مجال الحياة، ويحقق به العفة والنزاهة والطهر لكلا الزوجين، وقد جعل الله لهذا الزواج أتم نظام وأكمله، حقق به السعادة لكلا الزوجين، وحفظ لهما الحقوق.
وفي طليعة هذا النظام أن فرض للمرأة حقاً على الرجل، ألا وهو الصداق الذي يعطيه لها دلالة صدق على اقترانه بها ورغبته فيها، وأنها موضع حبه وبره وعطفه ورعايته.
ولقد تفردت شريعة الإسلام على غيرها من الشرائع والقوانين، بأنها كرمت المرأة، وأحسنت إليها، وأثبتت لها حقها في التملك وحيازة المال بعد أن كانت في الجاهلية كسقط المتاع، تباع وتشتري، ولهذا أوجب الإسلام على من يتقدم لخطبة المرأة أن يدفع لها الصداق، وهو عبارة عن نوع من التقدير والاحترام، وليس ثمناً أو قيمة لها وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً [النساء:4].
ولا يظنن أحد أن المهر ثمن للمرأة، أو ثمن لجمالها، أو للاستمتاع بها، أو ما يعتقده بعض العامة أنه قيمة لها، بل الحق أن المهر عطية من الله للمرأة، وهو حق لها تتصرف فيه كيف شاءت.
والإسلام لم يحدد مقدار المهر وكميته، وذلك لتباين الناس واختلاف مستوياتهم وبلدانهم وعاداتهم، ولكن الاتجاه العام في الشريعة الإسلامية يميل نحو التقليل فيه، فذاك أقرب لروح الدين، فيكون حسب القدرة وحسب التفاهم والاتفاق.
وقد كان السلف الصالح – رضوان الله عليهم – يتزوجون على القبضة من الطعام وعلى تعليم القرآن، أخرج البخاري: (5135) بسنده عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ، فقالت: إني وهبت من نفسي، فقامت طويلاً، فقال رجل: زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هل عندك من شيء تصدقها))؟ قال: ما عندي إلا إزاري فقال: إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فالتمس شيئاً فقال: ما أجد شيئاً، فقال: ((التمس ولو كان خاتماً من حديد))، فلم يجد، فقال: ((أمعك من القرآن شيء))؟ قال: نعم سورة كذا وكذا وسورة كذا، لسور سماها، فقال: ((قد زوجناكها بما معك من القرآن)).
ولقد خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله ما مثلك يرد، ولكنك كافر، وأنا مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره، فكان كذلك، أسلم، وتزوجها رضوان الله عليهم أجمعين.
بل إن سعيد بن المسيب رحمه الله زوج ابنته على درهمين.
وعلماء الأمة يرون أن الشارع لم يقدر المهر بقدر معين، بل تركه إلى اتفاق الطرفين الأب والزوج، أو الزوج والزوجة، وتراضيهما في تحديده مع مراعاة حال الخاطب وقدرته، قال تعالى: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:24].
والصحابة – رضوان الله عليهم – كانوا يمهرون ملء الكف من الدقيق أو السويق أو التمر، أخرج أبو داود: (2110) بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي قال: ((من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل)).
وقد تزوج عبد الرحمن بن عوف على وزن نواة من ذهب، أخرجه أبو داود: (2019) بسنده عن أنس أن رسول الله رأى عبد الرحمن بن عوف ردعُ زعفران، فقال النبي : ((مهيم)) أي مالك ؟ فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة. قال: ((ما أصدقتها))؟ قال: وزن نواة من ذهب، قال: ((أولم ولو بشاة)).
ورسولنا هو الأسوة والقدوة لهذه الأمة فلم يكن يزيد في مهر نسائه أو بناته عن خمسمائة درهم، أخرجه أبو داود: (2106) بسنده عن أبي الجعفاء السلمي قال: خطبنا عمر رحمه الله فقال: ألا لا تغالوا بصداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها النبي ، ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشر أوقية.
ولقد ظهر في المجتمع اليوم التغالي في المهور والتباهي في نفقات الزواج، فهذه علبة مذهبة للمهر، وتلك ريالات فضة معقودة بشكل أنيق، وهذه أدوات تجميل، كل هذه زيادات على ما قرره الشارع الحكيم، وسرف بيّن وخيلاء ظاهرة، يضاف إلى ذلك الولائم المرهقة وقصور الأفراح الفخمة، كل هذا حدا بالشباب إلى العزوف عن الزواج والإعراض عنه، وما ظهر الفساد وانتشر الشر إلا يوم أن رأى الشباب أن مفتاح الزواج مسئولية ترهق كواهلهم، وأعباء ثقيلة لا طاقة لهم بها، فأحجموا عنه وتولوا عنه، وهم معرضون.(/1)
والناظر في حال الشاب حديث التخرج من أين له أن يأتي بآلاف الريالات حتى يكوّن أسرة وينشئ بيتاً حسب رغبة أهل الفتاة التي يخطبها وحسب العادات والتقاليد التي يحتكمون إليها؟ أليس من العقل بل من الدين أن يتعاون الآباء والأمهات، فيكونوا عوناً للشباب على الزواج، ويسعون بكل وسيلة إلى تسهيله وتيسيره والتخفيف من أعبائه؟ أليس من الأولى لهم من أن يساهموا في إحصان أبنائهم بدلاً من الانحراف والانجراف والسفر إلى خارج البلاد؟
إن المسئولية الملقاة على عواتق أهل الرأي والعلم في هذا المجتمع، تحتم عليهم القيام بواجب النصح والإرشاد وبيان الحق والتحذير من الآثار السيئة للمغالاة في المهور في تكاليف الأعراس التي أصابت مجتمعنا، أين التكافل الاجتماعي؟ أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ لابد أن يوجد للعامة من الناس القدوة والأسوة من أهل الفضل والعقل في تخفيف المهور، وتيسير أمر الزواج، والبعد عن التكاليف التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي إسراف وتبذير وتضييق لطلب الحلال وتيسير في سلوك طريق الحرام، فاتقوا الله – عباد الله – واحرصوا على أمر أبنائكم وبناتكم، وهيئوا لهم السبل الموصلة إلى سعادتهم في إقامة عش الزوجية سكناً ورحمة ومودة، واسلكوا من الوسائل ما يؤدي إلى إعفاف الشباب وإحصانهم من مغريات الفتن التي نعيشها في هذا الزمان، وأعينوهم بما عندكم حتى تستقيم لهم الحياة، وتسعدوا بهم في الدنيا والآخرة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم اسلك بنا طريقك المستقيم، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم يسر أمر كل مسلم ومسلمة، وأمر كل مؤمن ومؤمنة، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. ...
...
الخطبة الثانية ...
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. . . أما بعد:
إخوة الإسلام:
الإسلام في حرصه على إقامة الحياة الزوجية الهانئة إنما يقيمها على الدين والخلق، أخرج الترمذي: (1085) بسنده عن أبي حاتم المزني قال رسول الله : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد)) قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال: ((إذا جاءكم من ترضون دين وخلقه فأنكحوه)) ثلاث مرات.
والإسلام اعتبر أن المرأة كلما كان مهرها قليلاً كان خيرها كثيراً، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة)) [مشكاة المصابيح: 3097].
وأخرجه أحمد: (6/91) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها)).
فاتقوا الله – عباد الله – ويسروا أمر الزواج، واحرصوا على من ترضون دينه وخلقه، وإياكم من الرغبة في المال دون الدين، فالمال عرض زائل وعارية مستردة، والبقاء للدين، واحرصوا – رحمكم الله – على تيسير أموركم والبعد عن الإسراف والتبذير، فالأيام المقبلة أيام أعراس، فاحرصوا – رحمكم الله – على ما ترضون به ربكم وتسعدون به أنفسكم.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. ...
المنبر
...(/2)
تداعي الأمم على المسلمين
عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثم يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الآكلة على قصعتها .
قال: قلنا يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ ؟
قال: أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن.
قال: قلنا وما الوهن ؟
قال: حب الحياة وكراهية الموت " . رواه أحمد وأبو داود
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لثوبان :
" كيف بك يا ثوبان إذا تداعت عليكم الأمم كتداعيكم على قصعة الطعام تصيبون منه ؟
قال ثوبان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أمن قلة بنا ؟
قال : لا أنتم يومئذ كثير ولكن يلقى في قلوبكم الوهن ؟
قالوا : وما الوهن يا رسول الله ؟
قال : حبكم الدنيا وكراهيتكم القتال . مجمع الزوائد ج: 7/287 رواه أحمد والطبراني في الأوسط
وفي رواية ابن أبي شيبة : " قال أكثركم غثاء كغثاء السيل " .
وفي رواية (مسند الشاميين) : "حب الدنيا وكراهية الآخرة " .
وفي رواية الطيالسي وشعب الإيمان : " يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم بحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت" .
يحذر المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من خطورة ابتعاد المسلمين عن طريق الجهاد في سبيل الله تعالى، ويبين أننا بترك الجهاد نصبح أذلة ضعاف بحيث يتجرأ علينا أعداء الله تعالى فيهاجموننا ويقاتلوننا بل ويجتمعون على ذلك .
والتداعي الاجتماع ودعاء البعض بعضا، والأمم فرق الكفر والضلالة ودولها، فالكفار يدعو بعضهم بعضا لمقاتلة المسلمين وكسر شوكتهم وسلب أموالهم وديارهم، كما يجتمع الأكلة أو (الآكلة) إلى قصعتهم يأكلونها .
حال المسلمين يومئذ :
ويصف النبي صلى الله عليه وسلم حال المسلمين يومئذ (وما أشبه حال أمتنا الآن بهذا الوصف ولا حول ولا قوة إلا بالله) بما يلي :
1- كثرة عددهم وقلة عملهم : فما أكثر أعداد المسلمين اليوم إذ فاقوا المليار وربع المليار، ولكن أكثرهم كغثاء السيل، قال البخاري: "والغثاء : الزبد وما ارتفع عن الماء وما لا ينتفع به" (كتاب التفسير).
وفي عون المعبود: "ولكنكم غثاء كغثاء السيل -بالضم والمد وبالتشديد أيضا- ما يحمله السيل من زبد ووسخ . شبههم به لقلة شجاعتهم ودناءة قدرهم " .
2- حبهم الدنيا وكراهيتهم الآخرة : فهم متعلقون بالدنيا وملذاتها وشهواتها، لذلك تركوا الجهاد والقتال في سبيل الله تعالى، ورضوا بأي حياة مهما كانت ذليلة، بل صار كثير من المسلمين (المثقفين !) يفلسفون هذا الأمر ويجعلونه من الدين بحجة أنه لا قبل لنا بأمريكا وحلفائها، بل وانساق بعضهم يردد مقولات أمريكا ودعوتها لجعل كل عمل مقاوم لرد العدوان وطرد اللاحتلال إرهابا يجب أن يحارب .
وهذه الحال هي التي أطمعت قوى الكفر والاستكبار فينا، فصرنا مرعوبين من أعدائنا، وصار أعداؤنا لا يهابوننا ولا يحسبون لنا حسابا لأنهم علموا أننا تركنا الآخرة وانغمسنا في ملذات الدنيا كما وصف المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتأمل في اللفظ المستخدم في الحديث (لينزعنّ) أي ليخرجن المهابة أي الخوف والرعب، (وليقذفن) أي ليرمين الوهن، والوهن في اللغة الضعف، ولكنه أراد ما يوجبه وما سببه، لذلك فسره بحب الدنيا وكراهة الموت فتأمل " وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ " .
و ماذا بعد ؟
هذا ليس نهاية المطاف، فإن الخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم باق إلى يوم القيامة، فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين وإني لأرجو أن تكونوا هم يا أهل الشام ". رواه أحمد والبزار والطبراني.
وفي رواية: " .. وأين هم يا رسول الله ؟ قال: في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس " .
فإن ابتغينا العزة والرفعة لنا ولأمتنا فيبنغي علينا :
التمسك بحقنا المشروع في الدفاع عن أرضنا ومقدساتنا . "من مات دون أرضه فهو شهيد".
دعم كافة أشكال الانتفاضة والمقاومة على أرض فلسطين خاصة وكل أرض إسلامية عامة، بجميع أنواع الدعم المادي والمعنوي، مهما اجتهد المغرضون والمنافقون لمنع ذلك .
تربية أنفسنا وأبنائنا على حب الآخرة وحب الاستشهاد في سبيل الله، وإحياء سنة التنافس والتسابق على الخيرات (وفي مقدمتها الجهاد في سبيل الله) .
اليقين الراسخ بأن نصر الله قريب والتبشير بذلك، والعمل على أن نكون أهلا ليتنزل نصر الله على أيدينا .
وأخيرا يبشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن تجمع أعداء الله لقتالنا سبيل لوحدتنا ووقف الفتن بيننا، وتأمل ما رواه أبو داود في باب ارتفاع الفتنة في الملاحم :(/1)
عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لن يجمع الله على هذه الأمة سيفين سيفا منها وسيفا من عدوها " .
توصيات :
دعوة المسلمين عامة والحجاج خاصة للتقرب إلى الله تعالى خاصة ونحن مقبلين على أيام عظيمة (العشر الأول من ذي الحجة) وسؤالهم الدعاء لإخوانهم المرابطين في فلسطين وفي ثغور الإسلام .
الدعوة لصيام يوم عرفة ولجعله مناسبة للتجمع على هذه العبادة والدعاء قبل الإفطار في المساجد والملتقيات لعل الله عز وجل يرحمنا سيما وهذا اليوم هو أعظم الأيام عند الله تعالى .
وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم
د. إبراهيم مهنا(/2)
تدبر القرآن .. لماذا وكيف؟
إبراهيم بن عبد الرحمن التركي
القرآن هادي البشرية ومرشدها ونور الحياة ودستورها، ما من شيء يحتاجه البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءاً، عَلِمه مَنْ عَلِمه، وجهله من جهله.
ولذا اعتنى به صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعوهم تلاوة وحفظاً وفهماً وتدبراً وعملاً. وعلى ذلك سار سائر السلف. ومع ضعف الأمة في عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن وانحسر حتى اقتصر الأمر عند غالب المسلمين على حفظه وتجويده وتلاوته فقط بلا تدبر ولا فهم لمعانيه ومراداته، وترتب على ذلك ترك العمل به أو التقصير في ذلك، "وقد أنزل الله القرآن وأمرنا بتدبره، وتكفل لنا بحفظه، فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره"(1).
وليس المقصود الدعوة لترك حفظه وتلاوته وتجويده؛ ففي ذلك أجر كبير؛ لكن المراد التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر. ومن ثم العمل به من جهة أخرى كما كان عليه سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى -.
ولذا فهذه بعض الإشارات الدالة على أهمية التدبر في ضوء الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح.
أما التدبر فهو كما قال ابن القيم: "تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله"(2).
وقيل في معناه: "هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة"(3).
أولاً: منزلة التدبر في القرآن الكريم:
1- قال الله - تعالى -:(( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)) [ص: 29] في هذه الآية بين الله - تعالى - أن الغرض الأساس من إنزال القرآن هو التدبر والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها.
قال الحسن البصري: "والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل"(4).
2- قال - تعالى -:(( أفلا يتدبرون القرآن ...)) [النساء: 82].
قال ابن كثير: " يقول الله تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة: أفلا يتدبرون القرآن"(5)، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب.
3- قال - تعالى -:(( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به)) [البقرة: 121].
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال: "والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله"(6).
وقال الشوكاني: "يتلونه: يعملون بما فيه"(7) ولا يكون العمل به إلا بعد العلم والتدبر.
4 - قال - تعالى -:(( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون)) [البقرة: 78].
قال الشوكاني: "وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر"(8)، وقال ابن القيم: "ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني"(9).
5 - قال الله - تعالى -:(( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)) [الفرقان: 30].
قال ابن كثير: "وترك تدبره وتفهمه من هجرانه"(10).
وقال ابن القيم: "هجر القرآن أنواع... الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه"(11).
ثانياً: ما ورد في السنة في مسألة التدبر:
1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده"(12).
فالسكينة والرحمة والذكر مقابل التلاوة المقرونة بالدراسة والتدبر.
أما واقعنا فهو تطبيق جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي - في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها.
2 - روى حذيفة - رضي الله عنه -: "أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فكان يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ"(13).
فهذا تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ.
3 - عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها:(( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)) [المائدة: 118] (14).
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم التدبر على كثرة التلاوة، فيقرأ آية واحدة فقط في ليلة كاملة.
4 - عن ابن مسعود قال: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"(15).
فهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم الصحابة القرآن: تلازم العلم والمعنى والعمل؛ فلا علم جديد إلا بعد فهم السابق والعمل به.
5 - لما راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال: "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث"(16).(/1)
فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود بتلاوته لا مجرد التلاوة.
6 - وفي الموطأ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها فأسقط آية فقال: يا فلان! هل أسقطت في هذه السورة من شيء؟ قال: لا أدري. ثم سأل آخر واثنين وثلاثة كلهم يقول: لا أدري، حتى قال: ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما يدرون ما تلي منه مما ترك؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت أبدانهم وغابت قلوبهم؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه".
ثالثاً: ما ورد عن السلف في مسألة التدبر:
1 - روى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: "تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزوراً"(17).
وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن؛ فما بقي إلا أنه التدبر.
2 - عن ابن عباس قال: "قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل عن الناس فقال: يا أمير المؤمنين! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا، فقلت: والله ما أحب أن يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة. قال: فزبرني عمر، ثم قال: مه! فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفاً؟ قلت: متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا: كلٌ يقول الحق عندي - ومتى يحتقوا يختصموا، ومتى اختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا، فقال عمر: لله أبوك! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها(18)"، وقد وقع ما خشي منه عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن؛ لكنه لا يجاوز تراقيهم.
3 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به. وفي هذا المعنى قال ابن مسعود: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به"(19).
4 - قال الحسن البصري: "إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، وما تدبُّر آياته إلا باتباعه، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً وقد - والله! - أسقطه كله ما يُرى القرآن له في خلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَسٍ! والله! ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعة متى كانت القراء مثل هذا؟ لا كثَّر الله في الناس أمثالهم"(20).
5 - وقال الحسن أيضاً: "نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به؛ فاتخذوا تلاوته عملاً (21). أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به".
6 - كان شعبة بن الحجاج بن الورد يقول لأصحاب الحديث: "يا قوم! إنكم كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في القرآن"(22). وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه.
7 - عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: "لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً. أو قال: أنثره نثراً"(23).
8 - قال ابن القيم: "ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة.
فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتناديه كلما فترت عزماته: تقدمَ الركبُ، وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيلَ الرحيلَ.
فاعتصم بالله واستعن به وقل: "حسبي الله ونعم الوكيل"(24).
وحتى نتدبر القرآن فعلينا:(/2)
1- مراعاة آداب التلاوة من طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من شواغلها وحصر الفكر مع القرآن والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه.
2- التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع، وألا يكون همه نهاية السورة.
3- الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفة متأنية فاحصة مكررة.
4- النظرة التفصيلية في سياق الآية: تركيبها - معناها - نزولها - غريبها - دلالاتها.
5- ملاحظة البعد الواقعي للآية؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته وواقعه، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به.
6- العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها.
7- الاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية.
8- النظرة الكلية الشاملة للقرآن.
9- الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن.
10- الثقة المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له.
11- معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه.
12- الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة.
13- العودة المتجددة للآيات، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة؛ فالمعاني تتجدد.
14- ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة.
15- التمكن من أساسيات علوم التفسير.
16- القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب: (القواعد الحسان لتفسير القرآن) للسعدي، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي، وكتاب (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله - عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني، وكتاب (دراسات قرآنية) لمحمد قطب(25).
وبعد: فما درجة أهمية تدبر القرآن في عقولنا؟ وما نسبة التدبر في واقعنا العملي فيما نقرأه في المسجد قبل الصلوات؟ وهل نحن نربي أبناءنا وطلابنا على التدبر في حِلَق القرآن؟ أم أن الأهم الحفظ وكفى بلا تدبر ولا فهم؛ لأن التدبر يؤخر الحفظ؟
ما مقدار التدبر في دروس العلوم الشرعية في المدارس، خاصة دروس التفسير؟ وهل يربي المعلم طلابه على التدبر، أم على حفظ معاني الكلمات فقط؟
تُرى: ما مرتبة دروس التفسير في حِلَق العلم في المساجد: هل هي في رأس القائمة، أم في آخرها - هذا إن وجدت أصلاً؟
ما مدى اهتمامنا بالقراءة في كتب التفسير من بين ما نقرأ؟
لماذا يكون همُّ أحدنا آخر السورة، وقد نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟
ومتى نقتنع أن فوائد التدبر وأجره أعظم من التلاوة كهذ الشعر؟ أسئلة تبحث عن إجابة؛ فهل نجدها لديك؟
الهوامش:
(1) حول التربية والتعليم ،د. عبد الكريم بكار ، ص 226.
(2) نضرة النعيم ، ص 909.
(3) قواعد التدبر الأمثل للميداني ، ص 10.
(4) تفسير ابن كثير ، 7/64 ، ط : طيبة .
(5) تفسير ابن كثير ، 3/364 ،ط: طيبة
(6) تفسير ابن كثير ، 1/403.
(7) فتح القدير ، 1/135.
(8) فتح القدير ، 1/104.
(9) بدائع التفسير ، 1/300.
(10) تفسير ابن كثير 6/108.
(11) بدائع التفسير 2/292.
(12) رواه مسلم ، ح/2699.
(13) رواه مسلم ، ح /772.
(14) رواه أحمد ، ح /20365.
(15) رواه الطبري في تفسيره ، 1/80.
(16) رواه الدارمي والترمذي برقم 2870 ، وصححه ورواه أحمد وأبو داود بلفظ : لم يفقه.
(17) نزهة الفضلاء ، تهذيب سير أعلام النبلاء ، 1/35/أ.
(18) نزهة الفضلاء ، تهذيب سير أعلام النبلاء ، 1/279.
(19) الجامع لأحكام القرآن ، 1/39-40 وانظر مجلة المجتمع عدد 1216.
(20) الزهد 276 وانظر مفاتيح للتعامل مع القرآن للخالدي ، ص 46.
(21) مدارج السالكين ، 1/485.
(22) نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء ، 2/582.
(23) الزهد لابن المبارك ، 97 ، وانظر نضرة النعيم ، 913.
(24) مدارج السالكين ، ج1 ، ص 485 ، 486.
(25) انظر كتاب مفاتيح للتعامل مع القرآن للخالدي ، ص 66.
Cdمجلة البيان(/3)
تربية الأبناء
أولاً: مفهوم تربية الأبناء.
ثانياً: العلاقة بين مفهوم التربية والتعليم.
ثالثاً: المسؤولية التربوية.
رابعاً: المعوقات التربوية:
1- إهمال الأسرة تربية الأبناء حتى يعتادوا الشر.
2- فقدان القدوة الحسنة في البيئة الأسرية.
3- تفويض الأمور التربوية إلى الخادمات.
4- وجود القدوة السيئة والخلطة بهم.
خامساً: كيفية بناء الجوانب الشخصية لدى الأبناء:
1- البناء العلمي.
2- البناء الاعتقادي.
3- البناء الأخلاقي.
4- البناء التعبدي.
5- البناء الاجتماعي.
6- البناء الصحي.
7- البناء الفكري.
8- البناء العملي المهني.
سادساً: الأساليب المعينة على تربية الأبناء:
1- التربية بالقدوة.
2- التربية بالترغيب والترهيب.
3- التربية بالقصة.
4- التربية بالموعظة.
5- التربية بضرب الأمثال.
سابعاً: المبادئ التربوية الهامة:
1- اقتران العلم النظري بالممارسات العملية.
2- التدرج في العملية التربوية.
3- توجيه الملكات والمواهب حسب ميول المربَّى.
4- مراعاة تكليف الطفل ما يعقله عند العملية التربوية.
5- مراعاة الفروق الفردية.
6- المتابعة والتقويم.
7- ترك المجال للولد في اللعب والترويح.
8- استخدام أسلوب التعريض عند العملية التربوية.
ثامناً: من أقوال السلف.
تاسعاً: ملحقات البحث: (قصص، أبيات شعرية، محامد، أدعية، مراجع للتوسع).
أولاً: مفهوم تربية الأبناء:
التربية لغة: مشتقة من أصول ثلاثة:
الأصل الأول: ربا يربو، بمعنى زاد ونما، ومنه قوله تعالى: {وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ} [الروم: 39].
الأصل الثاني: رَبّ يَرُب بوزن مدّ يمُدّ، بمعنى أصلحه، وتولّى أمره، وساسه وقام عليه.
يقال: ربّ الشيء إذا أصلحه، وربّيت القوم أي: سُستُهم.
الأصل الثالث: رَبِي يَربىَ على وزن خَفِي يَخْفَى، بمعنى نشأ وترعرع؛ وعليه قول ابن الأعرابي:
فمن يك سائلاً عني فإني بمكّة منزلي وبها ربَيْت
الأبناء لغة: جمع ابن، وأصله بنو، قال ابن فارس: "الباء والنون والواو كلمة واحدة، وهو الشيء يتولّد عن الشيء كابن الإنسان وغيره".
وتربية الأبناء: تنشئتهم وإعدادهم في جميع جوانبهم الشخصيّة وفق المنهج الإسلامي لتحقيق العبودية لله عز وجل.
لسان العرب (5/126) مادة ربا.
لسان العرب (5/95–96) مادة ربب.
لسان العرب (5/128) مادة ربا.
لسان العرب (5/128) مادة ربا.
مقاييس اللغة (1/303) مادة بنو.
الجوانب الشخصية: الجانب الإيماني، والعلمي، والفكري، والأخلاقي، والاجتماعي، والصحي، والمهني. انظر: الجوانب الأساسية لمقداد يالجن (ص 6).
ينظر: الدراسات التربوية لأحمد الغامدي (ص21)، وأصول التربية الإسلامية لخالد الحازمي (19).
ثانياً: العلاقة بين مفهوم التربية والتعليم:
التربية أعم وأشمل من التعليم؛ ذلك أن التعليم يعتني بتنمية الجانب العقلي فقط من جوانب الإنسان، وهذا الجانب يُعَدّ جزءاً من التربية التي تُعنى بتنمية جميع جوانب الإنسان.
ينظر: جوانب التربية الإسلامية الأساسية لمقداد يالجن (ص26).
رابعاً: المعوقات التربوية:
1- إهمال الأسرة تربية الأبناء حتى يعتادوا الشر:
قال ابن القيم: "فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدًى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً".
2- فقدان القدوة الحسنة في البيئة الأسرية:
قال القاسمي: "إذا لحظ المرء ما ينجم من التربية المنزلية يجد أنه كما يكون الأهل يكون الطفل في الغالب، فإن كانوا ذوي نظام وطباع كريمة شبّ الطفل كذلك لما علم من أنه ميّال للتقليد والمحاكاة، وإن كانوا جهلاء أغبياء وذوي خمول أو ضعف في العزيمة شبّ الطفل على ذلك".
3- تفويض الأسرة الأمور التربوية إلى الخادمات:
قال أحمد محمد جمال: "إن الشغالات يلعبن دوراً مهمًّا في حياة الأطفال النفسية فكثيراً ما يلجأن إلى تخبئة الحقائق، والسماح للأطفال بتصرفات تناقض أوامر الوالدين".
4- وجود القدوة السيئة والخلطة بهم:
قال القاسمي ناصحاً الوالدين: "ويمنع الصبيّ من لغو الكلام وفحشه، ومن اللعن والسب، ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك؛ فإن ذلك يسري لا محالة من قرناء السوء، وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء".
تحفة المودود (ص139).
موعظة المؤمنين (ص204).
نساء وقضايا (ص 48).
موعظة المؤمنين (ص204).
خامساً: كيفية بناء الجوانب الشخصية لدى الأبناء:
1- البناء العلمي:
يقول ابن الجوزي ناصحاً ابنه: "فينبغي لذي الهمّة أن يترقّى إلى الفضائل، فيتشاغل بحفظ القرآن وتفسيره، وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمعرفة سيره وسير أصحابه والعلماء من بعدهم، ولا بدّ من معرفة ما يقيم به لسانَه من النحو، ومعرفة طرف مستعمل في اللغة، والفقه أصل العلوم، والتذكير حلواؤها وأعمّها نفعاً".(/1)
والبناء العلمي يكون بالأمور التالية:
ـ التنويه بفضل العلم ومكانة العلماء، وغرس ذلك في نفوس الأبناء.
ـ تعليمهم آداب طالب العلم.
ـ تركيز الأبناء على التخصّص العلمي حسب استعداداتهم وميولهم.
ـ تعليمهم المنهجية في الطلب.
2- البناء الاعتقادي:
قال ابن قدامة: "فإذا بلغ الصبيّ فأول واجب عليه تعلّم كلمَتَي الشهادة وفهم معناهما، وينبغي أن يتعلّم الإيمانَ بالبعث والجنة والنار...".
ويكون البناء الاعتقادي بالآتي:
ـ تعليم الأبناء المسائل الإيمانية والمباحث العقدية.
ـ استخدام الأدلة العقلية والحقائق العلمية في دعم المباحث العقدية.
ـ تكوين عاطفة قوية دافعة إلى السلوك الحسن لدى الأبناء بموجب العقيدة الصحيحة.
ـ توضيح آثار التربية الإيمانية على الفرد المسلم للأبناء.
3- البناء الأخلاقي:
قال ابن القيم: "ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خُلُقه؛ فإنه ينشأ على ما عوّده المربي في صغره".
ويتمثل البناء الأخلاقي في الآتي:
ـ تعريف الأبناء بأهمية الأخلاق وغرسها في قلوبهم.
ـ الوقوف بهم على معالم الأخلاق وحدودها وضوابطها.
ـ تنشئة الأبناء على القيم الأخلاقية في جميع المراحل العمرية، مع استخدام كافة الأساليب التربوية في ذلك.
ـ تنمية روح الالتزام والإرادة الأخلاقية.
4- البناء التعبّدي:
قال أبو الوليد الباجي لابْنيْه موصياً لهما: "وتنقسم وصيّتي لكما قسمين: فقسم فيما يلزم من أمر الشريعة؛ فأما القسم الأول فالإيمان بالله عز وجل... والتمسك بكتاب الله... وإقام الصلاة فإنها عمود الدين... ثم أداء زكاة المال لا تؤخّر عن وقتها... ثم صيام رمضان فإنه عبادة السرّ وطاعة الربّ... ثم الحج إلى بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلاً...".
ويتركز البناء التعبّدي فيما يلي:
ـ تنمية روح المحبة للعبادات بالتعريف بها وذكر فضلها وأهميتها.
ـ تنشئة الأبناء على العبادة منذ المراحل الأولى، وتدريبهم عملياً عليها بالأساليب التربوية.
ـ تحلية نفوسهم بالنيات الحسنة، وتطهيرها من النيات السيئة.
ـ تكوين الوعي الكامل لدى الأبناء بالآثار التربوية للعبادات.
5- البناء الاجتماعي:
قال القاسمي: "الوقت الذي تمضيه في أداء الواجبات الاجتماعية ليس بوقت ضائع؛ لأن حبّ الغير ومعاونته والعمل على نشر العلم وتقليل وطأة الفاقة كلها من دلائل السعادة".
والبناء الاجتماعي يكون بالآتي:
ـ تنمية روح الأخوة الإيمانية لدى الأبناء.
ـ تعريفهم بمقاصد الوحدة الإسلامية والتكافل الاجتماعي.
ـ تعليمهم الحقوق الاجتماعية، مع بيان أهميتها في بناء كيان المجتمع.
ـ تكوين شخصية اجتماعية مراعية لضوابط الخلطة الاجتماعية.
6- البناء الصّحي:
قال السعدي: "أولى الناس ببرّك وأحقّهم بمعروفك أولادك؛ فإنهم أمانات جعلهم الله عندك، ووصّاك بتربيتهم تربية صالحة لأبدانهم وقلوبهم... فإنك إذا أطعمتهم وكسوتهم وقمت بتربية أبدانهم فأنت قائم بالحقّ مأجور".
ويتمثل البناء الصحي في الآتي:
ـ تعليم الأبناء الالتزام بقواعد الصحة العامة.
ـ تبصيرهم بأن الفرائض والسنن الإسلامية تساعد على صحة البدن.
ـ تعويدهم على ممارسة الرياضة البدنية وفق الضوابط الشرعية.
ـ تبصيرهم بآداب البناء الجسمي.
7- البناء الفكري:
قال السعدي: "وينبغي للوالد أن يشاور أولاده في الأمور المتعلقة بهم، ويستخرج آراءهم، ويعوّدهم على تربية أفكارهم وتنمية عقولهم".
والبناء الفكري يكون بالأمور الآتية:
ـ تعويد ذهن الأبناء على الاستنباط واستخراج المسائل العلمية من النصوص.
ـ تنميتهم على استدامة التفكير والنظر المعتبر في مخلوقات الله عز وجل.
ـ إبعاد ذهن الأبناء عن التفكير في الأمور الفاسدة.
ـ ترويض أذهانهم على تدبر وتفهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
8- البناء العملي المهني:
قال جمال الدين القاسمي: "خليق بالآباء ـ وإن كانوا في غنىً أو جاه ـ أن يربّوا أولادهم على مبدأ الاعتماد على النفس والاستقلال بأن يستعدّ في حياة والديه للعمل؛ لأن الحياة لا تقوم إلا بالحركة والسعي والعمل والتدبير".
ويتمثل البناء المهني في الآتي:
ـ تبصير الأبناء بفضل العمل وأهميته، وتنمية ذلك في نفوسهم.
ـ تعليم الأبناء أخلاقيات العمل وآدابه.
ـ تعليمهم الفنون الاقتصادية حسب رغباتهم وقدراتهم.
لفتة الكبد إلى نصيحة الولد (ص30–34).
ينظر: علم النفس التربوي في الإسلام ليوسف القاضي ومقداد يالجن (ص282–291).
مختصر منهاج القاصدين (ص20).
ينظر: علم النفس التربوي في الإسلام (ص241–267).
تحفة المودود (ص146).
ينظر: علم النفس التربوي في الإسلام (ص356–360).
الوصية للباجي (ص28–30).
علم النفس التربوي في الإسلام (ص306–334).
جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب (ص16).
الحقوق الاجتماعية: كحق الوالدين، والحقوق الزوجية، وحق الجوار... الخ.
ينظر: علم النفس التربوي في الإسلام (ص363–379).
بهجة قلوب الأبرار، المجموعة الكاملة: قسم الحديث (128).(/2)
ينظر: علم النفس التربوي في الإسلام (ص385–394).
الرياض الناضرة، المجموعة الكاملة: قسم الثقافة (1/415).
ينظر: جوانب التربية الإسلامية لمقداد يالجن (ص83–134).
جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب (ص47).
ينظر: أصول التربية الإسلامية للحازمي (ص171–128).
سادساً: الأساليب المعينة على تربية الأبناء:
1- التربية بالقدوة:
قال القاسمي: "فمن أخصّ واجبات معلّميهم أن يكونوا قدوة حسنة، وأن يقوّوا فيهم ـ وهم في بدء نشأتهم ـ حبّ العمل وامتلاك النفس والصبر والثبات".
2- التربية بالترغيب والترهيب:
قال السعدي: "فالموفّق لا يزال مع أولاده في حثّ على الخير وترغيب، وزجر عن الشر وترهيب، وتربية عالية وتأديب، حتى يرى من فلاحهم ما تقرّ به عينه في الحياة، وبعد الممات".
3- التربية بالقصة:
قال منّاع القطان: "ممّا لا شكّ فيه أنّ القصة المحكمة الدقيقة تطرق السامع بشغف، وتنفذ إلى النفس البشرية بسهولة ويسر... ولذا كان الأسلوب القصصي أجدى نفعاً وأكثر فائدة، والمعهود حتى في حياة الطفولة أن يميلَ الطفل إلى سماع الحكاية، ويصغي إلى رواية القصة... هذه الظاهرة الفطرية ينبغي للمربّين أن يفيدوا مِنها في مجالات التعليم".
4- التربية بالموعظة:
قال ابن القيم: "القابل الذي عنده نوع غفلة وتأخّر يدعَى بطريق الموعظة الحسنة".
5- التربية بضرب الأمثال:
قال عبد الرحمن النحلاوي: "فالتربية بالأمثال القرآنية والسنة النبوية طريقة تربوية قائمة بذاتها، توظّف العقل والوجدان وتربيهما... وهي طريقة ذات نتائج فعالة في حياة الفرد والجماعة، ذات أثر عميق في النفس والسلوك، وفي كيان المجتمع وتكوين علاقاتهم".
جوامع الآداب (ص23).
بهجة قلوب الأبرار، المجموعة الكاملة: قسم الحديث (ص 128).
مباحث في علوم القرآن (ص305).
مفتاح دار السعادة (ص217).
التربية بضرب الأمثال (ص10).
سابعاً: المبادئ التربوية الهامّة:
1- اقتران العلم النظري بالممارسات العملية:
قال القاسمي: "فمن أراد أن يحصل لنفسه خلقُ الجود فطريقه أن يتكلّف تعاطي فعل الجود وهو بذل المال، فلا يزال يطالب نفسه ويواظب عليه تكلّفاً مجاهداً نفسَه حتى يصير ذلك طبعاً له".
2- التدرّج في العملية التربويّة:
قال ابن خلدون: "اعلم أن تلقينَ العلوم للمتعلّمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدرّج شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً".
3- توجيه الملكات والمواهب حسب ميول المربَّى:
قال ابن القيم: "ومما ينبغي أن يعتمَد حالُ الصبي وما هو مستعدّ له من الأعمال ومهيّأ له منها؛ فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غيره ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعدّ له لم يفلِح فيه، وفاته ما هو مهيّأ له، فإذا رآه حسنَ الفهم صحيحَ الإدراك جيّد الحفظ واعياً فهذه من علامات قبوله وتهيُّئِه للعلم... وإن رآه بخلاف ذلك من كلّ وجه وهو مستعدّ للفروسية... مكّنه من أسباب الفروسية والتمرّن عليها".
4- مراعاة تكليف الطفل ما يعقله عند العملية التربوية:
مرّ عمر بن الخطاب على امرأة وهي توقِظ ابنها لصلاة الصبح، فهو يأبى، فقال:
(دعيه، لا تعنتيه، فإنها ليست عليه حتى يعقلها).
5- مراعاة الفروق الفردية:
قال ابن قدامة وهو يعدّد وظائف المعلم: "ومنها: أن ينظرَ في فهم المتعلّم، ومقدار عقله، فلا يُلقي إليه ما لا يدركه فهمه، ولا يحيط به عقله".
6- المتابعة والتقويم:
قال القاسمي: "ومهما رأى فيه ـ أي: في الصبي ـ مخايل التمييز فينبغي أن يحسن مراقبته، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء... فالصّبي المستحي لا ينبغي أن يهمَل، بل يستعان على تأديبه".
7- ترك المجال للولد في اللّعب والترويح:
فعن الحسن أنه دخل منزله وصبيان يلعبون فوق البيت، ومعه عبد الله ابنه، فنهاهم، فقال الحسن: (دَعْهم، فإن اللعب ربيعهم).
8- استخدام أسلوب التعريض عند العملية التربوية:
قال القرافي وهو يعدّد صفات المربي: "أن يزجرَ المتعلّم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن، ولا يصرّح؛ لأن التصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم".
موعظة المؤمنين (ص197).
المقدمة (1/734).
تحفة المودود (ص148).
انظر: العيال لابن أبي الدنيا (ص220).
مختصر منهاج القاصدين (ص26).
موعظة المؤمنين (ص204).
انظر: العيال لابن أبي الدنيا (ص335).
انظر: إحياء علوم الدين (2/71).
ثامناً: من أقوال السلف:
ـ قال ابن عمر رضي الله عنهما لرجل: (يا هذا، أحسِن أدبَ ابنك، فإنّك مسؤول عنه، وهو مسؤول عن برِّك).
ـ قال سعيد بن العاص رضي الله عنه: (إذا علّمتُ ولدي القرآن وأحججته وزوّجته فقد قضيتُ حقّه، وبقي حقّي عليه).
ـ قال سفيان الثوري: "من حقّ الولد على الوالد أن يحسنَ أدبه".
انظر: العيال لابن أبي الدنيا (ص231).
انظر: العيال لابن أبي الدنيا (ص225).
انظر: العيال لابن أبي الدنيا (ص232).
تاسعاً: ملحقات البحث:
قصص:(/3)
1- قال محمد بن عمران الضبي: سمعت أبي يحكي قال: مرّ سفيان الثوري بزياد بن كثير، وهو يصفُّ الصبيانَ للصلاة، ويقول: استووا، اعتدلوا، سوّوا مناكبكم وأقدامكم، اتّكئ على رجلك اليسرى، وانصب اليمنى، وضَع يديك على ركبتيك، ولا تسلّم حتى يسلّم الإمام من كلا الجانبين، فقام سفيان ينظر، ثم قال: "بلغني أنّ الأدب يطفئ غضب الربّ".
2- قال حسن بن علي بن حسن: دخلت مع أبي على حسن بن علي، فقال: كم لابنك هذا من سَنَة؟ قال: سبع سنين، قال: فمره بالصلاة.
3- قال رجل للأعمش: هؤلاء الأطفال حولك! قال: اسكت، هؤلاء يحفظون عليك أمر دينك.
أبيات شعرية:
ينشأ الصغير على ما كان والده ... ... إنّ الأصولَ عليها ينبت الشجر
عوّد بنيك على الآداب في الصغر
فإنما مثل الآداب تجمعها
هي الكنوز التي تنمو ذخائرها ... ... كيما تقرّ بهم عيناك في الكبر
في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
ولا يخاف عليها حادث العبرِ
وإنّ من أدبته في الصبا
حتى تراه مورقاً ناضراً ... ... كالعود يسقى الماء في غرسه
بعد الذي أبصرت من يبسه
قد ينفع الأدبُ الأحداث من صغر
إنّ الغصون إذا قوّمْتها اعتدلت ... ... وليس ينفع بعد الشيبة الأدبُ
ولن تلين إذا قوّمتها الخُشبُ
محامد:
1- الحمد لله ربّ العالمين، بيّن بقويم الشرع حقوق البنات والبنين، وأقام بقسطاط العدل ميزانه في العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فطر الوالدين على محبة الذرية، وأبان بحكمته البالغة منهج التأديب والتربية، وأشهد أن محمداً عبده المبعوث بأجل العبادات، وأكمل الآداب، أكرم نبي ووالد، وأفضل مربٍّ وأخلص عابد، فاللهم صلّ وسلِّم وبارك على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
2- الحمد لله العظيم شأنه، العزيز سلطانه، الدائم بره وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مَنّ على من يشاء بالأولاد، وجعلهم فتنة يتبين بها الشاكر الذي يقوم بتربيتهم ويصونهم عن الفساد، والمهمل الذي يتهاون بتهذيبهم فيكون عليه حسرة في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، دعانا إلى الإصلاح والتأديب والتربية والتهذيب؛ القائل: ((ما نحل والدٌ ولداً نحلاً أفضل من أدب حسن))، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد.
أدعية:
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة:127].
{رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} [آل عمران:138].
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
{رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى والِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].
مراجع للتوسع:
كتاب العيال لابن أبي الدنيا.
الوصية لأبي الوليد الباجي.
تحفة المودود بأحكام المولود لابن قيم الجوزية.
لفتة الكبد إلى نصيحة الولد لابن الجوزي.
جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب لجمال الدين القاسمي.
تحرير المقال في آداب وأحكام وفوائد يحتاج إليها مؤدّبو الأطفال للهيثمي.
انظر: الحلية لأبي نعيم (7/79).
انظر: العيال لابن أبي الدنيا (ص222).
انظر: الكفاية في علم الرواية (ص215).
أدب الدنيا والدين للماوردي (ص238).
جواهر الأدب للهاشمي (ص709).
جامع بيان العلم وفضله (1/86).
جواهر الأدب (ص709).(/4)
تربية البنات
صالح الجبري
الطائف
5/4/1418
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- كراهية البنت من صفات الجاهلية. 2- حرمة إكراه البنات على الزواج بغير الكفؤ. 3- التفريط في تربية البنات. 4- تربية البنات على الحجاب.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أبناؤنا نعمة من الله علينا، ومنحة منه إلينا. لهذا فالواجب علينا أن نتقبلها منه شاكرين وأن نكون بما حبانا به راضين، سواء كان الموهوب لنا ذكرا أو أنثى.
فالخير كل الخير في الذي يختاره الله لنا، قال تعالى وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
وإن مما يحز في النفس، أن نرى بعض الناس ممن هم في أشد الحاجة إلى تعليم الأدب والأخلاق نرى أحدهم حيثما يخبر بأن زوجته قد ولدت ذكراً فرح واستبشر، وتهلل وجهه وانفق الكثير من ماله ابتهاجاً بهذا المولود.مع أنه لا يدري، فربما يكون هذا الولد سببا في شقائه وطغيانه إذا ما كبر وترعرع. وأما إذا أخبر بأنها وضعت أنثى غضب واغتم وأظلمت الدنيا في وجهه، وأصابته كآبة شديدة، وانطوى على نفسه.ولا شك بأن هذا التصرف هو شبيه بما كان يحدث من أهل الجاهلية الأولى الذين قال الله فيهم: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:57-59].
لكن رغم هذا التحذير فهناك الكثير من الرجال، لا يزال يستقبل قدوم البنات بالتجهم والعبوس، والمشكلة الكبرى هي إذا كانت البنت المولودة، هي الثالثة أو الرابعة، فتكون ولادتها مصيبة من المصائب خاصة على الأم المسكينة التي تعيش في خوف وقلق من ردة فعل الأب. وقد سمعنا عن أزواج طلقوا زوجاتهم بسبب هذا الموضوع. وكأن الزوجة هي المسؤولة الوحيدة. ونحب أن ننبه هنا إلى أن الطب الحديث قد أثبت أنه ليس للزوجة ذنب إذا أنجبت أنثى، لهذا ليس من حق الزوج أن يغضب أو يثور إذا حدث ذلك، لماذا؟ لأن الطب يقول: إن البويضة التي تحملها المرأة لها نوع واحد في كل نساء الأرض. بعكس الحيوان المنوي الذي يفرزه الرجل، فهو عند الرجل يحتوي على نوعين ولنقل عليها (أ + ب).
فإذا كان الحمل ناتجاً عن الرجل الذي يحمل النوع (أ) مثلاً كان المولود بنتا، وإذا كان ناتجاً عن النوع الآخر (ب)، كان المولود ذكرا، إذن الرجل هو المسؤول عن هذا الأمر، فَلِمَ التشنيع والظلم، لِمَ؟
ويروى في ذلك أنه كان لأبي حمزة الأعرابي زوجتان، فولدت إحداهما بنتا، فعز عليه ذلك واجتنبها، وصار يسكن في بيت الأخرى، فأحست الأولى به يوماً عند الثانية فجعلت تلاعب ابنتها الصغيرة وتقول:
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا تالله ما ذلك في أيدينا
بل نحن كالأرض لزارعينا ننبت ما قد بذروه فينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
فلما سمعها ندم على ما فعل ورجع إليها. لهذا فليتق الله أمثال هؤلاء وليعلموا أنه من الجحود والنكران أن يتكبروا على نعمة الله سبحانه وتعالى لأنه يقول: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49-50]. وليس هذا فقط بل إن واثلة بن الأسقع يقول: (إن من يُمنِ المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأنّ الله تعالى قال: يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ فبدأ بالإناث، والغريب أنّ مسلسل الظلم يعتمد عند بعض الناس. فبعدما تنشأ البنت تسمع أول ما تسمع كلمات الدعاء عليها بالموت، حتى ولو بالمزاح والمداعبة، فإذا طلبت شيئاً وألحت في طلبه أفهمت أنها أرخص من أن تعطى ما تطلب، وإذا اختصمت مع أخيها الولد، فضربته، ضُرِبَت وأُهِينَت على مسمع ومرآى من الولد حتى يشمت فيها ويرضى. وقد يعاملها إخوتها الذكور بالقسوة والشدة، والويل لها كل الويل إذا تأخرت في تلبية أي طلب لهم. فعندها قد يضربونها ويشتمونها ويحتقرونها وقد يكون هذا بمساعدة الوالد. أين هؤلاء عن ما رواه ابن عباس أن الرسول قال: ((من كان له أنثى فلم يئدها، ولم يصنها، ولم يؤثر ولده-الذكور- عليها، أدخله الله تعالى الجنة)) [أبو داود في الأدب 5146 باب فضل من عال يتيماً، والحاكم صححه ووافقه الذهبي].(/1)
وقد يزوّجها فاسقاً عاصياً أو يتاجر بها، أين هؤلاء عن معاملة الرسول لبناته فقد كان يستقبل ابنته فاطمة إذا دخلت عليه ويقبلها ويجلسها مكانه ويقول: ((مرحباً يا ابنتي)) [البخاري، كتاب الأنبياء، باب علامات النبوة في الإسلام][1].
وعن أبي قتادة قال: (خرج علينا النبي وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها، حتى قضى صلاته يفعل ذلك بها)[2] [البخاري: (5650)].
فأين نحن من هذا المنهج النبوي العظيم؟ وبعضهم إذا بلغت سن الزواج يقطع الأمر دونها من قبل الأب أو الولي فيرد ذلك ويقبل. ويأخذ ويعطي، ويشترط من الشروط ما يشاء، ويطلب من المهر ما يريد فلا يؤخذ لها رأي ولا يعرض عليها أمر، رغم أن الرسول يقول: ((لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر)) [البخاري ومسلم][3].
ورغم هذا إلا أن البعض لا يبالي بذلك، ولو حصل وأيدت الفتاة رأيها بالاعتراض أو الانتقاد على هذا الوضع فإنها تصبح عند ذلك الفتاة الوقحة السيئة الأدب التي لا تملك خلقاً ولا حياءً، رغم أن الإسلام يعطيها الحق في اختيار الزوج المناسب لها فعن ابن عباس: (أن جارية بكراً أتت النبي فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي بين أن توافق أو ترفض) [صحيح ابن ماجة 1520].
إن علينا أن نعلم أن النتيجة المباشرة لهذه المعاملة السيئة، بالغة الخطورة في المجتمع. فهي أولاً تغرس في نفس البنت شعوراً بالمهانة والضعف، حتى إذا أصبحت أماً لم يكن في مقدورها أن تبث في نفوس أبنائها الشعور بالغيرة والاعتداد بالكرامة، وكيف تفعل ذلك وهي تفقد هذا الشعور أصلاً.
ثم إن البنت عندما تشعر أنها مظلومة مهضومة الحق. فإن هذا الشعور قد يولِّد لديها التمرد على أوامر الدين لأنها تظن أن هذه التصرفات هي من الدين، وهي ليست كذلك فتتمرد وتصبح ضحية للأفكار الهدامة التي بثها أعداء الإسلام عن المرأة المسلمة، فتتحيين أول فرصة تحصل عليها للانفلات والتسيب، ويتولَّد لديها الحقد والرغبة في الانتقام. فإذا تزوجت بعد ذلك فإنها لن تجد أمامها من تثأر منه وتنتقم إلا زوجها وأولادها، مما ينتج عنه حدوث الخصام والمشاكل التي لا تنتهي.
وإذا كنا نعترض على القسوة في تربية البنات. فهناك بالمقابل بعض الناس يفرض في تدليلهن والتساهل معهن إلى أقصى حد. فتنشأ الابنة مدللة خليعة لا هم لها إلا نفسها، أو الاهتمام بأخبار الموضات والتقليعات من الشرق والغرب أو إمضاء الساعات الطويلة أمام الهاتف، أو النزول للأسواق بصورة مستمرة لمتابعة كل ما يجد فيها من البضائع وغيرها.ويزداد الأمر سوءاً إذا كانت الأم مشغولة عن تربية البنات بزياراتها وخروجها الدائم من المنزل، والأسوأ من ذلك إذا كانت الأم من هذا النوع المستهتر بالدين والأخلاق كاللاتي يربين بناتهن على الطريقة الغربية، أو حسب ما يشاهدونه في الأفلام والمسلسلات، فيجنين على أنفسهن وبناتهن.
يقول لي طبيب فاضل: حَضَرَتْ إلى المستشفى فتاة شابة حاولت الانتحار عن طريق تناول بعض الأدوية، ويقول: بعد أن قمنا بإجراء الإسعافات اللازمة، وتم إنقاذها بفضل الله. سألت الأم التي كانت ترافقها عن سبب محاولتها الانتحار ثم يقول: إن الأم وللأسف الشديد أم متعلمة، وتحاول الظهور أمام الناس بمظهر الأم العصرية المتعلمة، يقول: فقالت لي: أنا أترك الحرية لابنتي تفعل ما تشاء، وقد حدث لابنتي أنها أحبت شاباً ولكنه لم يقابلها بالحب حتى بعد أن دعته للمنزل وأفهمته بذلك، ولكنه رفض فغضبت البنت وحاولت الانتحار.
ويضيف قائلاً: بعد هذا الكلام بيني وبين الأم بيومين جاءتني الأم مرة أخرى تسأل عن أحد الأطباء، عن اسمه، وعن ما يتعلق بحياته. لماذا؟ يقول: اكتشفت أن الابنة رأته فأعجبت به، فأرسلت الأم اللعوب كي تجمع المعلومات عنه تخيلوا الأم تفعل ذلك. سبحان الله.
مثل هذه الأم لا تُؤمن على تربية مجموعة من الأغنام، فكيف تُؤْمََن على تربية بناتها وهي تعيش بهذا الفكر المنحرف، كيف؟!(/2)
ومن التدليل عدم تدريب البنت على أعمال المنزل من طهي وتنظيف وترتيب مما يولِّد في نفس البنت نفوراً من دخول المطبخ، وأعمال البيت المختلفة. ويزداد الأمر سوءً عندما تتزوج البنت. فتذهب إلى منزل الزوج وهي لا تعرف شيئاً أو تعرف القليل فقط، فينشأ الصراع بينها وبين الزوج، خاصة إذا طلبت خادمة وكانت حالة الزوج لا تسمح بذلك، فتبدأ بالتمرد والاستكبار على الزوج وعلى حقوقه نتيجة لأنها لم تتربى في الأساس على الخلق الحسن وعلى التجهيز المبكر في أداء أعمال المنزل، وعلى التنبيه عليها بأن اهتمامها بمنزلها وبحقوق زوجها عليها. هو من أعظم الطاعات والقربات إلى الله كما جاء هذا في الحديث العظيم: فقد أتت أسماء بنت يزيد الأنصارية إلى النبي (فقالت: با أبي أنت وأمي يا رسول الله. أنا وافدة النساء إليك. إن الله عز وجل بعثك إلى الرجال والنساء كافة فآمنا بك وبايعناك. إنا معشر النساء مجهودات مقصورات، قواعد بيوتكم، وحاملات أولادكم وإنكم معشر الرجال: فضلتم علينا بالجمع والجماعات وشهود الجنائز والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن أحدكم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مجاهداً حفظناكم في أموالكم وغزلنا لكم أثوابكم وربينا أولادكم. أنشارككم في هذا الأجر والخير، قال الرسول : ((هل سمعتم مسألة امرأة قط أحسن من مقالتها في أمر دينها، فقالوا: يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا؟ فالتفت إليها : يا أسماء أبلغي من خلفك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها، يعدل ذلك كله)).
فأين بناتنا من هذه التربية، ألا ما أبعد المسافة بين بنات السلف وبنات الخلف.
[1] عودة الحجاب (ص:223).
[2] عودة الحجاب (ص:222).
[3] عودة الحجاب (ص:333).
الخطبة الثانية
أما بعد:
فإن الأخطار التي تواجه البنات في هذا العصر، هي أخطار عظيمة ورهيبة.وإذا لم تكن البنت قد ربيت تربية صحيحة فإنها قد تقع فريسة لإحدى هذه الأخطار المنتشرة في هذا العصر.
فعلى الأسرة مثلاً نصح البنات منذ الصغر على الحجاب وتدريبهن عليه.ثم إذا كبرن على الأسرة أن تلزمهن بالحجاب وبالحشمة وستر العورات لقوله تعالى: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:30].
وتحذير البنت من التبرج من الأفضل أن يكون عن طريق الإقناع وغرس أوامر الله ورسوله في ذلك في نفسها. ونحن نقول هذا الكلام لأن هناك البعض من الفتيات قد دُرِبن على أن الحجاب عادة من العادات لذلك ترى بعضهن يخرجن من بيوت آبائهن بأكمل حشمة، حتى إذا ابتعتدن عن المنزل خلعن الحجاب رداء الحياء وظهرهن للأعين في أقبح صورة من الفتنة والإغراء.
إذن على الأسرة أن تعلم البنات أن الحجاب أمر من أوامر الله وأن التي لا تستجيب لهذا الأمر فهي منافقة لقوله : ((وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم)). كذلك على اٍلأسرة أن توضح للبنت أن الحجاب لم يفرض لانعدام الثقة في النساء والبنات، وإنما هو حماية لهن من أصحاب القلوب المريضة، وحماية للرجال من ما يقع أبصارهم عليه من الفتنة والإغراء، لهذا يقول سبحانه وتعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].
كذلك على الأسرة إفهام البنات أن الأزياء الفاضحة هي من وسائل الإغراء والله ينادي ويقول: يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26]. ويقول : ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)).
والتبرج فتنة من الفتن وعلى الأسرة أن تضرب بيد من حديد وتمنع البنات والنساء من التبرج، وعلى الوالد في ذلك مسؤولية عظيمة في أمرهن بالمعروف وينهيهن عن المنكر وإلا حق عليه قول النبي : ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن ينزل عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)).
كذلك على الأسرة منع البنات وتحذيرهن من مشاهدة واقتناء أفلام الحب أو العنف والتي تحرض البنت على أهلها، والمرأة ضد زوجها، وتبارك الحب الحرام، والعلاقات المشبوهة.
وعلى الأسرة أن توضح للبنت أن هذا الحب الذي تروجه الأفلام والمسلسلات والروايات إنما هو حب شهوة، وهو مرفوض ولو كان باسم الزمالة والخِطبة.(/3)
هذا الحب المشبوه بِحرّ الويلات ويفسد العلاقات، وتنتهك الأعراض، لهذا حذر القرآن من مثل هذا الحب ممثلاً في حب امرأة العزيز ليوسف، هذا الحب الشهواني الذي أدى بها إلى التصريح برغبتها الحرام، لكن الله ردها عن يوسف فقال: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:23-24].
لهذا لا يصدق أحد أن في زماننا هذا حباً عفيفاً، أو كما كان يطلق عليه الحب العذري بين قيس وليلي، كلا فالشهوة عاتية ولا يمكن أن توضع النار بجانب البترول، وليس هناك إلاَّ طريق واحد، وهو الزواج الحلال.
كذلك على الأسرة أن تحمي بناتها من الصحف والمجلات التي تبرز الصور الخليعة، وتنشر قصص العبث واللهو والحذر من أولئك الذين ينشرونها بين الناس مما أفسد عقول البنات وأفكارهن، وصدق الله: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19].
أخيراً على الأسرة أن تربي في البنات الشعور بأنهن مسؤولات أمام الله عن أعمالهن وسلوكهن. وأن يشعرن برقابته الدائمة معهن في كل لحظة وأنه يعلم السر وأخفى، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ [غافر:19]. لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [سبأ:3].
وأن تغرس الأسرة في بناتها أيضاً حب الله والخوف منه والرغبة في ثوابه، والرهبة من عقابه لقوله تعالى: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاْلِيمُ [الحجر:49-50]. وقد ثبت - وهذا شيء ملاحظ - أن قلوب البنات والنساء أسرع إلى التأثر بالدين وتعاليمه من الرجال.
فهل نحن فاعلون، إن من يربي بناته ويجتهد في تربيتهن التربية العميقة على طاعة الله ورسوله ويتعب في ذلك ويصبر على صعوبة تربيتهن، فإنه يدخل في حديث النبي عن عقبة بن عامر الذي قال فيه: ((من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جِدته -يعني ماله - كن له حجاباً من النار)) [صحيح الجامع 5/34].
وقال أيضاً: ((من كن له ثلاث بنات يؤدبهن، ويرحمهن، ويكفلهن وجبت له الجنة البتة، قيل: يا رسول الله فإن كانتا اثنتين، قال: وإن كانتا اثنتين)) قال: فرآى بعض القوم أن لو قالوا له: واحدة، لقال: واحدة. [البخاري في الأدب وأحمد- الترغيب والترهيب]. إنه لفضل عظيم ولا شك في ذلك.
ونسأل الله العلي القدير أن يعيننا على تربية أنفسنا وأزواجنا وبناتنا وأولادن(/4)
تسلية المصاب
الحمد لله المنفرد بالبقاء والقهر، الواحدِ الأحدِ الفرد الصمد، ذي العِزَّة والستر، الذي لا ندَّ له فيبارَى، ولا معارض له فيمارى، ولا شريك له فيدارى، كتب الفناء على أهل هذه الدار، وجعل عقبى الذين اتقوا الجنة وعقبى الكافرين النار، قدر مقادير الخلائق وأقسامها، وبعث أمراضها وأسقامها، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وجعل للذين أحسنوا الدرجات، وللذين أساؤا الدركات، رحمة وعدلاً، أحمده على حلو القضاء ومره، وأعوذ به من سطواته ومكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهاً لم يزل عظيماً علياً، جباراً قهاراً قوياً، جل عن التشبيه والنظير، وتعالى عن الشريك والظهير، وتقدَّس عن التعطيل، وتنزه عن التمثيل.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله رحمة للعباد، ونقمة على الكفرة من أهل البلاد، فدعا إلى الجنة، وأرشدهم إلى اتباع السنة، وجعل أعلاهم منزلة أعظمهم صبراً، فمن استرجع في مصيبته واحتسبها ذخراً، كان له منزلةً عاليةً وقدراً، وكان مقتفياً هدياً ومتبعاً أثراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته الأخيار، وسلم تسليماً كثيراً مستمراً متصلاً متعاقباً ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد:
أيها المسلمون: يقول الله-تبارك وتعالى-:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة:157).
وقال-تعالى-: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(التغابن:11). قال علقمة وجماعة من المفسرين: "هي المصائب تصيب الرجل، فيعلم أنه من عند الله فيرضى ويسلم".
عباد الله: إن المصاب لا بد أن يعلم أن الذي ابتلاه بمصيبته أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل البلاء ليُهلكه به ولا ليعذبه، ولا ليجتاحه، وإنما ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرّعه وابتهاله وليراه طريحاً على بابه لائذاً بجنابه، مكسور القلب بين يديه رافعاً قصص الشكوى إليه(1).قال الله-تعالى-:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}(البقرة:155) .
وقال-تعالى-:{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10). وقال-تعالى-:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد:31).
أيها المسلمون: إن الله-سبحانه وتعالى-قد بشر أصحاب المصائب إنهم صبروا بالأجر العظيم والكبير، فلله الحمد على فضله وجزيل عطائه، وهذا رسوله-صلى الله عليه وسلم-يبشر الصابرين على المصائب، بقوله:(ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذىً ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كثر بها من خطاياه)(2) .
وقال-عليه الصلاة والسلام-: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)(3). فإذا صبر صاحب المصيبة حصل على الأجر والثواب والمغفرة والرحمة.
قال الفضيل بن عياض-رحمه الله-: "إن الله-عزوجل-ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالخير"(4).
عبد الله: متى ما أصابك مكروه في بدنك, أو مالك, أو ولدك، أو حبيبك فاعلم أن الذي قدره حكيم عليم لا يفعل شيئاً عبثاً، ولا يقُدر شيئاً سدى، وأنه- تعالى-رحيم قد تنوعت رحمته على عبده، يرحمه فيعطيه، ثم يرحمه فيوفقه للشكر، ويرحمه فيبتليه، ثم يرحمه فيوفقه للصبر، فرحمة الله متقدمة على التدابير السارة والضارة ومتأخرة عنها، ويرحمه أيضاً بأن يجعل له بذلك البلاء مكفراً لذنوبه وآثامه ومنمياً لحسناته ورافعاً لدرجاته(5).(/1)
أيها الأخ المصاب: انظر في حال الأنبياء وهم أرفع درجة من غيرهم إلا أن الله-سبحانه وتعالى-ابتلاهم بأنواع الابتلاءات لكي يختبرهم, ويمتحنهم, ولكنهم عباد الله الذين اصطفاهم كانوا أصبر الناس على البلوى قال ابن الجوزي-رحمه الله-يصف ابتلاءات الأنبياء حيث قال:"ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تعتور فيها الأمراض والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى يقاسي فرعون, ويلقى من قومه المحن، وعيسى بن مريم لا مأوى له إلا البراري في العيش الضنك، ومحمد-صلى الله عليه وعليهم أجمعين- يصابر الفقر، وقتل عمه حمزة وهو أحب أقاربه إليه، ونفور قومه عنه، وغير هؤلاء من الأنبياء والأولياء، ولو خلقت الدنيا للذة لم يكن حظ للمؤمن منها(6).
وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- :(الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)(7).
طُبِعَتْ عَلَى كَدْرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا صَفْواً مِنَ الأَقْذاءِ وَالأَكْدَارِ
وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قلت يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال:(الأنبياء) قلت: ثم من؟ قال: (الصالحون إن كان أحدهم ليُبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحتويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء)(8).فما عليك أيها المصاب إلا أن تتأسى بأنبياء الله، فتصبر على ما أصابك، وتحتسب الأجر من الله-عزوجل-.
أيها المصاب الكريم: اعلم أن الجزع لا يرد المصيبة بل يضاعفها، وهو في الحقيقة يزيد في مصيبته، بل يعلم المصاب أن الجزع يشمتُ عدوه، ويسوء صديقه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب أخزى شيطانه، وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات في الأمر الديني قال النبي-صلى الله عليه وسلم-:(اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر) فهذا هو الكمال الأعظم، لا لطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بالويل والثبور، والتسخط على المقدور(9).
قال ابن عبد العزيز لأمٍ مات ابنها: اتق الله واحتسبيه عند الله واصبري، فقالت: مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع(10).
أيها المسلمون عباد الله: إن الناس عن المصيبة ينقسمون إلى أربعة مراتب كل بحسب إيمانه، وصبره، ورضاه بقضاء الله وقدره فالأول
التسخط: وهو على أنواع:
الأول: أن يكون بالقلب كأن يتسخط على ربه يغتاظ مما قدره الله عليه، فهذا حرام، وقد يؤدي إلى الكفر قال- تعالى-:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج:11).
الثاني: أن يكون التسخط باللسان كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وهذا حرام.
الثالث: أن يكون التسخط بالجوارح كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور وما أشبه ذلك وكل هذا حرام مناف للصبر الواجب.
المرتبة الثانية الصبر: وهو كما قال الشاعر:
والصبرُ مثل اسمه مر مذاقته *** لكن عواقبه أحلى من العسل
فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه لكنه يتحمله، وهو يكره وقوعه ولكن يحميه من السخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده، وهذا واجب؛ لأن الله-تعالى-أمر بالصبر فقال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(لأنفال: من الآية46).
المرتبة الثالثة: الرضاء بأن يرضى الإنسان بالمصيبة بحيث يكون وجودها وعدمها سواء فلا يشق عليه وجودها، ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر؛ لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا ، أما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه لكن صبر عليه.
المرتبة الرابعة: الشكر : وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته وربما لزيادة حسناته قال –صلى الله عليه وسلم-:(ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها الشوكة يشاكها)(11) .
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على نعمائه، والشكر له على إحسانه وتوفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:(/2)
أحبتي الكرام: يقول-تبارك وتعالى-:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة:156)، وقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، إلاَّ آجره الله في مصيبته وأخلف الله له خيراً منها). وقد تضمنت هذه الآية الكريم قوله إنا لله وإليه راجعون" علاجاً من الله ورسوله لأهل المصائب. فإنها من أبلغ علاج المصائب، وأنفعه للعبد في عاجله وآجله، فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته.
فالمصاب لا بد أن يتذكر أموراً لكي يتسلى بها عن مصابه، فمن هذه الأمور ما يلي:
أولاً: الإيمان بالقضاء والقدر وأن ما أصابك من الفجيعة بفقد حبيب إنما هو بقدر الله، لم يأت من عدو ولا حاسد قال-تعالى-: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51).
وقال-تعالى-: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}(التغابن: من الآية11), وقال-عليه الصلاة والسلام-:(كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنه)(12) .
ثانياً : العلم بأن الموت سبيل كل حي, وأن الجميع مصيرهم إليه. قال-تعالى-:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}(آل عمران: من الآية185).
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدبا محمول
وقال آخر:
وما الناس إلا هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين عريق
ثالثاً: أن تعلم عبد الله: أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، لذا فهي مليئة بالمصائب، والأكدار, والأحزان كما قال الله-تعالى-:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}(البقرة:155) .
رابعاً: أخي الكريم: اعلم أن الجزع لا يفيد، بل يضاعف المصيبة، ويفوت الأجر، ويعرض المرء للإثم . قال علي ابن أبي طالب-رضي الله عنه-: "إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت المقادير وأنت مأزور".
خامساً: أن تتذكر أن العبد وأهله وماله ملك لله -عز وجل-فله ما أخذ، وله ما أعطى ، وكل شي عنده بأجل مسمى ، قال لبيد:
وما المال والأهلون إلا ودائع ولابد يوماً أن ترد الودائع
سادساً: التعزي بالمصيبة العظمى، وهي مصيبة فقد النبي-صلى الله عليه وسلم- كما قال-عليه الصلاة والسلام-: (إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي ،فإنها أعظم المصائب)(13).فلن تصاب الأمة بعد نبيها بمثل مصيبتها بفقده-عليه الصلاة والسلام-.
سابعاً: الاستعانة على المصيبة بالصلاة ،قال-تعالى- :{اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة}(البقرة: من الآية153) وقد كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-إذا حزبه أمر صلى "(14). ومعنى حزبه :أي نزل به هم, أو أصابه غم .ولما أخبر ابن عباس بوفاة أحد إخوانه استرجع وصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ثم قام وهو يقول :"استعينوا بالصبر والصلاة" .قال ابن حجر : أخرجه الطبري بإسناد حسن " . ومعنى استرجع :"إنا لله وإنا إليه راجعون".
ثامناً: تذكر ثواب المصائب والصبر عليها فقد وعد الله لمن صبر الجنة: قال-تعالى-: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد:24).
وقال-عليه الصلاة والسلام-: "يقول الله-عز وجل-: (ما لعبدي المؤمن عندي جزاءً إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)(15) وصفيه هو الحبيب المصافي كالولد والأخ وكل من يحبه الإنسان، والمراد باحتسبه: صبر على فقده راجياً الأجر من الله على ذلك.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا واستر عيوبنا، اللهم هون علينا مصائب الدينا، اللهم عزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك.
والله المستعان.
________________________________________
1 - راجع: تسلية أهل المصائب ص(225).
2 -متفق عليه.
3 - رواه مسلم.
4 - الإحياء(4/139).
5 - الصبر وأثره ص(8).
6 - ابن الجوزي.
7 - رواه مسلم (2956).
8 - ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم(144).
9 - اصبر واحتسب عبد الملك القاسم ص(23).
10 - تسلية أهل المصائب ص(224).
11 - مجموع فتاوى ابن عثيمين (2/109).
12 - رواه مسلم.
13 - رواه ابن سعد وصححه الألباني، في صحيح الجامع (347).
14 - رواه أبو داود وحسن سنده ابن حجر، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (4703).
15 -.رواه البخاري .(/3)
تسمية المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فلا بأس بأن يسمى المسجد، فيقال مسجد فلان، ومسجد بني فلان، وهذه التسمية تكون على سبيل التعريف والتمييز، لا الشهرة والمباهاة، والافتخار، وهذه الإضافة ليست للملك، وإنما هي للتمييز والتعريف.
وقد بوب البخاري في صحيحه: باب هل يُقال: مسجد بني فلان؟ وساق حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سابق بين الخيل التي أضمرت من الحيفاء، وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق"1.
قال الحافظ ابن حجر: "قوله: باب هل يقال مسجد بني فلان؟ أورد فيه حديث بن عمر في المسابقة، وفيه قول بن عمر: إلى مسجد بني زريق، وزريق بتقديم الزاي مصغراً، ويستفاد منه جواز إضافة المساجد إلى بانيها أو المصلي فيها، ويلتحق به جواز إضافة أعمال البر إلى أربابها، وإنما أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام لينبه على أن فيه احتمالاً، إذ يحتمل أن يكون ذلك قد علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن تكون هذه الإضافة وقعت في زمنه، ويحتمل أن يكون ذلك مما حدث بعده، والأول أظهر، والجمهور على الجواز، والمخالف في ذلك إبراهيم النخعي فيما رواه بن أبي شيبة عنه، أنه كان يكره أن يقول: مسجد بني فلان، ويقول: مصلى بني فلان، لقوله -تعالى-:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ}الجن: 18، وجوابه: إن الإضافة في مثل هذا إضافة تمييز لا ملك"2.
وقال فضيلة الشيخ محمد صالح المنجد وهو يتكلم عن أحكام وآداب المسجد بعد أن ذكر حديث ابن عمر الذي في البخاري: "ففي هذا جواز إضافة المساجد إلى بانيها أو المصلين فيها إذا كانوا من قوم معينين، أو من قبيلة معينه، فيقال: مسجد بني فلان، ولا حرج في ذلك.
وكذلك تضاف إلى من بناها إذا أُمن من ذلك الرياء؛ لأن بعض الناس عندما يسمون المساجد بأسمائهم يكون في ذلك رياء؛ لأن المسألة تعتمد على النية، والمساجد لله فلا يجوز أن يشرك مع الله -سبحانه وتعالى- أحد في بناء المساجد، أو في أي عمل بر وإحسان، ولعل الأولى أن لا يقال: مسجد فلان، ابتعاداً عن الرياء، ولكن إذا أمن الرياء؛ كما إذا مات الشخص فلم يعد يخشى عليه من الرياء فلا بأس بذلك""3".
نسأل الله أن يفقه المسلمين في أمر دينهم، ونسأله أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
0000000000
1 - أخرجه البخاري – الفتح- رقم (420).
2 - فتح الباري (1/515-516).
3 - من شريط لفضيلة الشيخ بعنوان قصة يوم الوشاح.(/1)
تسوية الصفوف
الحمد لله الكريم الرحمن، العظيم المنان، له الفضل وله النعمة وله الثناء الحسن على نعمه وآلائه، وما أسداه من فضله وجوده على عباده، وصلى الله على النبي العدنان، وعلى آله وأصحابه ذوي المكارم والعرفان، وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
فإن من مقاصد ديننا الحنيف أن يعيش المسلمون في حياة يسودها النظام، والألفة، والالتزام، والبعد عن كل فرقة واختلاف واضطراب في جميع شؤون الحياة..
وكانت الصلاة من أعظم ما يدل على أن ديننا العظيم أمر بالدقة في كل شيء، ومن ذلك الإتيان بالصلوات في أوقات معلومة، يعبد المسلون بها رباً واحداً ويتبعون نبياً ماجداً، ويسلكون منهجاً راشداً، ووجهتهم في ذلك ربهم العظيم الذي عنت له الوجوه-سبحانه-..
وتعتبر الصلاة بما تلزم به المصلين من وحدة الصفوف أمراً ذا تأثير، جعل الكثير من المشركين والنصارى وغيرهم يعتنقون الإسلام؛ لمجرد رؤيتهم تلك الصفوف العجيبة في شكلها ومظهرها.. ويستغرب أولئك: كيف هذا.. والمسلمون نراهم في كثير من حياتهم وأعمالهم ومواعيدهم في فوضى وعدم انضباط؟! فإذا ما قاموا إلى صلاتهم تغيرت حياتهم تماماً وأصبحوا متفقين منتظمين متجهين إلى مكان واحد بصفوف منظمة ورائعة!! ما الذي جعلهم هكذا؟.فنقول: إنه الدين الذي وحد بينهم وجعلهم صفاً واحداً...
ولمزيد من الكمال والتمام ومعالجة الأخطاء التي تحصل أثناء الاصطفاف للصلاة، فإننا نضع بين يدي إخواننا النصائح التالية:
يجب على المسلمين أن يستشعروا عظمة الصلاة، وعظمة الاجتماع لها، وعظمة العظيم -سبحانه وتعالى- الذي قاموا لأجل عبادته وطاعته، وعلينا أن نلتزم بآداب الدين في الصفوف وتسويتها، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتسوية الصفوف وتعديلها، بأن تكون مستوية بلا عوج ولا انحراف فيها، فقال: (( سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة)) رواه البخاري ومسلم؛ وقد توعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من يخالف ذلك ولا يتم صفه ولا يسويه فقد روى الإمام مسلم وغيره عن النعمان بن بشير قال: ( كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسوي الصف حتى يجعله مثل الرمح أو القدح، قال: فرأى صدر رجل ناتئاً، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (( سووا صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)).
أخي الكريم: بعد أن سمعنا وقرأنا هذه الأحاديث الشريفة عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فكيف تكون تسوية الصفوف؟! إن تسوية الصفوف تكون كالآتي:
1. تسوية المحاذاة، وهذه واجبة، ومعنى المحاذاة أي الاستواء بالمناكب، وهو ما فوق الذراع في أعلى البدن، وبالأكعب في أسفل البدن، بحيث تكون متلاصقة لا فراغ بينها.
2. أن تكون الصفوف مستوية ليس فيها اعوجاج من أولها إلى آخرها، ولهذا يقول الصحابي النعمان بن بشير: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسوي الصف حتى يكون مثل الرمح أو القدح.. والرمح معروف باستوائه واعتداله.
3. ألا يتقدم ولا يتأخر على من بجانبه بل يجعل الكعب بالكعب، وهذا يقال له: التراص في الصفوف ولهذا يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (( تراصوا ولا تدعوا فرجات للشيطان)) رواه أبو داود وإسناده صحيح. وعن عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله )) رواه أبو داود وصححه الألباني.
4. إكمال الصف الأول ثم الذي يليه لما جاء في الحديث عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (( أتموا الصف الأول ثم الذي يليه، فإن كان نقصاً فليكن في الصف المؤخر)). رواه الإمام أحمد وغيره، وهو حديث صحيح.صححه الألباني وغيره.
ولا يجوز الاصطفاف في الصف الثاني وفي الأول خلة تتسع لإنسان؛ لما سبق من الأحاديث.
ومن التنبيهات في هذا الموضوع:
لا يصح الإصطفاف بين السواري ( الأعمدة) لأنها تقطع الصفوف؛ ولأنها موضع صلاة إخواننا من الجن؛ كما جاء ذلك في الحديث.. وقد ورد عن أنس بن مالك أنه قال -في الصلاة بين السواري-: (كنا ننهى عن الصلاة بين السواري ونطرد عنها، وقال: (لا تصلوا بين الأساطين وأتموا الصفوف).
قال القرطبي: روي أن سبب كراهة ذلك أنه مصلى الجن المؤمنين. ولكن يجوز الصلاة بين السواري عند الضيق وعدم سعة المسجد للمصلين، يقول ابن العربي: ( ولا خلاف في جوازه عند الضيق، وأما عند السعة فهو مكروه للجماعة، فأما الواحد فلا بأس به، وقد صلى -صلى الله عليه وسلم- في الكعبة بين سواريها ).
هذا ما أردت أن أذكر به إخواني الكرام، وأشكركم على حسن المتابعة -، والجزاء من عند الله.
والله الموفق،،،(/1)
تشنيف الآذان بأسرار الأذان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن شرائع الإسلام وفرائضه، لا تخلوا من حكم وأسرار أودعها الله سبحانه وتعالى فيها لمن تأملها وتدبرها وتفكر فيها، فالأذان من شعائر الإسلام التي أودعه الله أسراراً وحكماً بليغة لا يعرفها إلا العالمون بدينه, وسنظهر هنا بعضاً من هذه الأسرار متوكلين على الله، راجين منه أن يوفقنا إلى الصواب ويلهمنا طريق الرشاد، ويسدد خطانا نحو الهدى، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اعلم أيها السامع بإذن قلبك, وفقني الله وإياك لا متثال أمر ربي وربك، أن الصلاة أعظم أركان الإسلام، وأجلُّ قواعد الإيمان، وهي قربان المؤمن ونوره، وهي عمود الدين, وعمود الإيمان, والميزان الذي من أوفى به استوفى، وهي خدمة الله في الأرض, هي خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر، وهي قربان كل تقي, وليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة.
ولما كانت من أعظم شعائر الإيمان، كان من أعظم شعائرها الأذان؛ لأن الإنسان لا يزال يتقلب في الأطوار، وينتقل في طلب الأوطار، لاهياً بما هو فيه من دنس دنياه، عما خلق له من طاعة مولاه، مشغولاً بما ينبغي الاشتغال عنه, فإذا دخل وقت الصلاة احتاج إلى ما يحثه عليها، ويرغبه إليها، لئلا يلهو عنها بأعماله، ويتشاغل عنها بأشغاله، فكان الأذان هو المرغب إلى أدائها، والمحرك للهمة إلى إجابة ندائها، وكان أول لفظ يقرع السمع منه.
(الله أكبر).زجراً عن الاشتغال بما هو دونه، إذ من شأن كل إنسان بالطبع، أن يطلب أكبر الأمرين فإذا كان كذلك فليفرغ إلى من هو أكبر. فاختيار هذا اللفظ لدلالة الاسم الشريف على جميع صفات الكمال, ونعوت الجلال واشتماله على سائر الأسماء الحسنى, والصفات العليا, لا إله إلا هو وحده لا شريك له.
و(أكبر) أفعل التفضيل الدال على عموم متعلقه, حدِّقْ فلا شيء مما يخطر بالبال أو يجوزه الوهم والخيال إلا والله أكبر منه, ولا يخفى لطف هذا وحَثّه على ترك السوى، وعلى اجتماع القلب عليه سبحانه, وتعظيمه والثناء عليه, واستحضار عظمته وكبرائه, وجلاله واستحقاقه لجميع أجزاء المحامد، وإفراد الشكر ودقائق المدح, ولهذا كان التكبير مفتاح الصلاة لقدوم العبد بين يدي جبار السموات والأرض, ليستحضر في صلاته أنه بين يدي الملك الفعال لما يريد, المذل لكل جبار عنيد.,والإله الحق الذي كل الكائنات لا شيء بالنسبة إليه:(وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) فكما كان التكبير مفتاح الصلاة كان مفتاح الأذان؛ لأنه يفتح القلوب بذكر علام الغيوب.
ثم إنَّه لما كان التكبير أول الأذان كرر أربع مّرات تأكيداً؛ لأن السامع في بادئ الأمر متشاغل بما هو فيه فحسن التأكيد هناك زيادة في حضه على الإقبال واطراح الأشغال, وإطفاء لنار الشيطان, وإخماداً لجمرات المعاصي والطغيان، ولما كانت نيران الشهوات تشتعل في كل آن، وجمرات المعاصي تتسعر على كل إنسان كان في التكبير من الإطفاء لها ما لا يخفى على أهل العرفان.
(أشهد أن لا إله إلا الله):
وإذا سمع السامع التكبير بسمعه وقلبه, واجتمع لأداء ما نودي إليه بجوارحه، ولبِّه، والتفت إلى الأكبر الأعظم, سمع قول المنادي (أشهد أن لا إله إلا الله) تذكيراً للسامع بذلك, ليحضه على الالتفات إلى إلهه المنفرد بالألوهية، والتفرغ عن أشغاله وأعراضه, والقيام بطاعته, والفرار إليه, والوقوف بكليته بين يديه، ونفي ما سواه, وإثباته فرداً مختصاً, بالألوهية منفرداً, بالربوبية حقيقاً بالإجلال، أهلاً للعزة والكمال, معروفاً بالخير والإفضال, متعرفاً إلى خلقه بالفضل والإحسان، مسدياً دقائق الجود وجلائله إلى كل إنسان.
عن عتبان بن مالك –رضي الله عنهما- يرفعه: (لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه)(1).
وقال-صلى الله عليه وسلم-: (من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة)(2), وعن عمر-رضي الله عنه-، قال-صلى الله عليه وسلم-: (أبشروا وبشروا من ورائكم أنه من شهد أن لا إله إلا الله صادقاً بها دخل الجنة)3. وغيرها من الأحاديث .
وأما تأكيد تكرارها, فتأكيد وحض على الإقبال عليه بالقلب, والقالب ,والتلذذ بذكره، وحلاوة المكرر يعرفها ذوو الذوق السليم، ولطف المناسبة بين التكبير والشهادة ظاهر؛ لأنه لما أخبر أن الله أكبر كان ترغيبا للعبد في ترك ما سوى الأكبر, وأمراً له بالإقبال عليه والوقوف بالذل بين يديه, وباستشعار الخضوع وملازمة الخشوع، ثم أتى بعد ذلك بما هو أعلى ترقّيا, وهو نفي الألوهية عن سواه، وحصرها فيه ترهيباً للعبد عن تساهله في طاعة إلهه الذي لا إله إلا هو, وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وإذا كان الأكبر لا إله غيره شهادة الحق فكيف يليق بالعبد, المضطر إليه أن يشتغل عنه.
(أشهد أن محمدا رسول الله).(/1)
ثم إنه حسن إتباع الشهادة بأختها وهي:"أشهد أن محمداً رسول الله" صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنها لا تقبل هذه إلا بهذه, وللإعلام بأنه-صلى الله عليه وسلم-رسول مرسل من الله عز وجل.
فالتكبير لإيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة, والشهادة لله-سبحانه وتعالى-بالإلهية لإدراك التبري من الإشراك، والشهادة لمحمد-صلى الله عليه وسلم-بالرسالة للإقرار بما جاء به المختار من الملك الجبار للبراءة من النار، قال-صلى الله عليه وسلم-وقد سمع مؤذناً قال: "الله أكبر" "الله أكبر" فقال-صلى الله عليه وسلم-: (على الفطرة) فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله" فقال-صلى الله عليه وسلم-: (بريء هذا من الشرك) فقال: "أشهد أن محمداً رسول الله" قال-صلى الله عليه وسلم-(خرج من النار).(4)وفي التذكير به-صلى الله عليه وسلم-والشهادة برسالته من الحض على اتباعه, واقتفاء آثاره, في الأقوال, والأفعال, والحركات, والسكنات, والقيام بأمره, وإجابة داعية, والإصغاء إلى مناديه, وزيادة ترغيب إلى الصلاة التي جعلت قرة عينه فيها مالا يخفى, وإظهاراً لشرفه-صلى الله عليه وسلم-وإغاضة لمن لم يقبل دعوته, ولم يعد بإجابته, وإعلاناً لدينه الذي جاء به من عند الله-سبحانه-وتذكيراً لمحبة له-صلى الله عليه وسلم-وترويحاً للمشوق إليه, ولإتباع التلذذ بذكر الله-سبحانه-بذكر حبيبه للانشراح بذكر الأحباب ولئلا يتخلى عباده عن ذكره-صلى الله عليه وسلم-وليكون ذكره مبدأ للصلاة, وختاماً فإنه كما جاء في الأذان الذي هو نداء للصلاة, ودعاء إليها الشهادة له بالرسالة, كذلك جاء في التشهد الذي هو آخر الصلاة الشهادة له-صلى الله عليه وسلم-بالرسالة بعد السلام عليه وقبل الصلاة عليه-صلى الله عليه وسلم-إشارة إلى أنه بهذه العبادة العظيمة سرا لندائه، وبهذه النعمة الجسيمة.
(حي على الصلاة):
اعلم أنه بعد تحلي القلب عما سوى الله-سبحانه-بالعلم بأنه الأكبر والشهادة له بالإلهية وحده, وأنه الواجب أن يعبد بحق, والشهادة لرسوله-صلى الله عليه وسلم-بالرسالة الذي هو الهادي إلى الصراط المستقيم، والمعلّم لِلْخَلْقِ كل خُلُقٍ لم يبق للعبد عذر عن طاعة الله-سبحانه-، وطاعة رسوله-صلى الله عليه وسلم- فحسن حينئذ النداء للصلاة (بحي على الصلاة) أي هلُمّ وأقبل إلى الصلاة, وما أحسن إتيان هذا الأمر بالإقبال والقيام إلى الصلاة، وإذا كان الأمر عن الرب الإله المفضل المنعم الرحمن الرحيم، العفو الحليم على لسان رسوله الذي هو بالمؤمنيين رؤوف رحيم،-صلى الله عليه وسلم-فكيف يليق بعاقل أن يتساهل في امتثال هذا الأمر العظيم، أو يؤثر غيره عليه، ويتمهل في القيام إليه, ويتغافل عن الوثوب لإجابة أمره، أو يتكاسل عن النهوض لأداء واجب شكره، وهل يتثبط عن إجابة سلطان هذا الداعي، أو يقعد عن امتثال هذه الأمر الذي لا يغفل عنه واعي.
(حي على الفلاح):
وبعد الأمر بالإقبال على الصلاة وتكراره للتأكيد شرع في ترغيبه بقوله:(حي على الفلاح)أي هلُمّ وأقبل إلى ما به الفلاح، والصلاة هي سبب الفلاح، ومفتاح باب النجاح، وبها ينال العبد ما يروم، ويبلغ ما يتمناه من الحي القيوم، والفلاح هو الفوز, والنجاة, والبقاء في الخير, والصلاة هي سببه الأعظم وأصله المعظم، ولهذا جاء في الكتاب العزيز في وصف المتقين:"الذي يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذي يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ، أولئك على هدى من ربهم وألئك هم المفلحون" وقال تعالى "قد أفلح المؤمنون ، الذين هم في صلاتهم خاشعون" وسماها النبي- صلى الله عليه وسلم-فلاحاً فقال النبي-صلى الله علي وسلم-: (الجفاء كل الجفاء, والكفر, والنفاق من سمع منادي الله-تعالى-ينادي بالصلاة ويدعو إلى الفلاح فلا يجيبه).(5)
وفي قوله: (حي على الفلاح) بعد الأمر بالصلاة من الترغيب إليها ما لا يخفى حسنه كأنه يقول هلم إلى ما به الفوز والنجاة في الدنيا والأخرى، وكثيراً ما يأتي بعد الأمر الترغيب, وبعد النهي الترهيب بحسب ما تقتضيه المقام.
أخرج مسلم عن عمر-رضي الله عنه-عن النبي-صلى الله وسلم-أنه قال:(إذا قال المؤذن: "الله أكبر" فقال أحدكم: "الله أكبر", ثم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله" قال: "أشهد أن لا إله إلا الله", ثم قال: "أشهد أن محمداً رسول الله" قال: "أشهد أن محمداً رسول الله", ثم قال: "حي على الصلاة" قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله", ثم قال: "حي على الفلاح" قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله", ثم قال: "الله أكبر" "الله أكبر" قال: "الله أكبر" "الله أكبر" ثم قال: "لا إله إلا الله" قال: "لا إله إلا الله" من قلبه دخل الجنة"(6).(/2)
فلما ندب-صلى الله عليه وسلم-إلى القول كما يقول المؤذن, وكان في القول كما يقول تأديباً للنفس, وتنبيهاً لها من سنة الغفلة, وضرباً لها بسوط الإزعاج, وجذباً لها بأزمة الاشتياق, وعطفاً لها عن أودية الفراق, وتشويقاً لها إلى بلوغ المرام, والتفاتاً بها إلى رفيع المقام, وتمريناً لها على الطاعة, وارتحالاً عن طلل الإضاعة, لتذهب حلاوة الذكر مرارة النسيان, وتجري بها أنها المراقبة إلى رياض الإيمان, فتبسم زهور المحبة, وتطيب أثمار المناجاة، وتغرد طيور جنات الشهود ليسمع أرباب السماع, ويعوا ويفوز بالتمتع بفواكه (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)(7). فإذا سمع العبد الأذان بقلبه وآذانه, ونطق به بفؤاده ولسانه, كان أرفع إنابة وأسرع إجابة, وأجدر أن لا يتغافل عن امتثال أوامره،وسماع زواجره, ولما قال المؤذن: "حي على الصلاة" "حي على الفلاح" وعلم السامع أن الأمر عظيم, والخطب جسيم، وأنه يدعوه إلى البدار إلى خطاب الملك الجبار، والقيام بين يدي ملك الأملاك، ومدير الأفلاك، الذي خلقه في أحسن تقويم، وخصه بإحسانه العميم، فخلق له السمع, والبصر, والفؤاد، ووكل به ملائكة يحفظونه في كل إصدار وإيراد
فحسن أن يقول عند أمره بالقيام لمناجاة الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني لا حول عن معصية الله إلا بقوة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله.
فإذا علم العبد عجزه عن القيام بأمر الله، وضعفه عن ترك مناهي الله، ونظر بعين البصيرة إلى حقارته وذله, وأنه ليس له حول ولا قوة على إجابة هذا الداعي، وأداء ما طلبه منه من حميد المساعي، واجتناب البطالة, والفرار عن أدران الجهالة.
(لا إله إلا الله)
لما كان الله-سبحانه-هو الأول والآخر، ومنه البداية وإليه النهاية، ختم هذا العقد الفريد بلفظ "لا إله إلا الله" الذي قامت به السموات والأرض, فكان ابتداء الأذان بلفظ الجلالة من "الله أكبر"، وختمه بها أيضاً من "لا إله إلا الله" وفي حسن الختام بها التفاؤل بأن يكون آخر الكلام فيفوز قائلها بحسن الختام، فقد قال-صلى الله عليه وسلم-وفيما أخرجه الإمام أحمد, وأبو داود, والحاكم, في المستدرك عن معاذ بن جبل-رضي الله عنه-: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)(8).
فكان ختم الأذان بهما لما فيهما من الفضل العظيم, والفيض العميم, ولإفرادها مع تشفيع كلمات الأذان سر لطيف يفهمه كل ذي فهم شريف، إذ لا يخفى على الفطن العارف القايل(9) في ظل رياض المعارف أن الله-سبحانه-وتر يحبّ الوتر، كما أخبر بذلك المصطفى-صلى الله عليه وسلم-أهل الصّفا، فلما كانت كلمات الأذان شفعاً, وترت بكلمة الشهادة, كما وترت صلاة النهار بصلاة المغرب, وصلاة الليل بصلاة الوتر، قال-صلى الله عليه وسلم- : (المغرب وتر النهار, فأوتروا صلاة الليل)(10).
فالشهادة في أول الأذان المقصود منها تنبيه ذوي الأشغال ,والتحريض في المبادرة بسلوك الامتثال، والسامع في أوّل الأذان أقرب إلى الغفلة والانشغال بالمحال، وهو في آخر الأذان بخلاف ذلك الحال إذا كان واعياً للمقال، وأمّا من استولت كثافة الغفلة على فؤاده, وقطعت عوائق الخسران طرق رشاده, فهو بمعزل عن الجميع، وإذا نودي إلى الخير فهو غير سميع.
فائدة:
إعلم وفقني الله وإياك أن الصلوات الواجبات خمس، والسنن المؤكدة، التي كان النبي-صلى الله عليه وسلم لا يتركها حضراً وسفراً سنة الفجر, ووتر الليل، وفي كلمات الأذان إلى ذلك إشارة؛ لأن الظهر, والعصر, والعشاء أربعاً أربعاً، والتكبير كلمتا الشهادة على رواية التربيع والترجيع مشابهة لها في كونها أربعاً أربعاً، وصلاة الفجر وسنتها ركعتان ركعتان، وحي على الصلاة, وحي على الفلاح مثنى مثنى, ولما كانت "حي على الفلاح" تابعة في المعنى "لحي على الصلاة" وكانت سنة الفجر تابعة لصلاة الفجر حصلت المناسبة ووقعت المشابهة، ولما كان المغرب وتر صلاة النهار، والوتر المندوب إليه وتر صلاة الليل، ناسب الوترين التكبير في آخر الأذان، وكلمة الشهادة إشارة إلى تغاير الوترين وصحة الإيثار بواحدة, وفي إيجادها في كونها كلها كلمات ذكر الله-سبحانه-إشارة إلى المغرب الذي هو وتر النهار، فإنه لا يكون إلا ثلاثاً؛ لأنه لو جعل الوتر النهار مشابهاً لذهب الوتر وكانت كلماته شفع11.
اللهم نبهنا من سنة الغفلة, وأزل عن القلب ر تاجه وقفله, وافتح مسامعنا لسماع ندائك, وفقه قلوبنا لفهم دعائك. واجعل قرة أعيننا في الصلاة, وفهم معاني كلماتك، وأقبل بقلوبنا إلى ما به الصلاح والفلاح. واجعلنا ممن لهجت منهم بذكرك الألسنة, والقلوب, والأرواح، واختم أعمالنا وأقوالنا بكلمة الشهادة،آمين اللهم آمين.
________________________________________
1 - صححه الألباني في صحيح الجامع رقم(7720).
2 - المعجم الأوسط،وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (6318).
3 - وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 35)
4 - أخرجه أبو الشيخ في الأذان.
5 - الطبراني في الكبير عن معاذ.(/3)
6 -صحيح مسلم.
7 - سنن الترمذي.
8 -
9 - من القيلولة
10 -
11 - راجع/ رسالة الأمير الصناعي تشنيف الآذان بأسرار الأذان.(/4)
تشنيف الآذان
بأسرار الأذان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن شرائع الإسلام وفرائضه، لا تخلوا من حكم وأسرار أودعها الله سبحانه وتعالى فيها لمن تأملها وتدبرها وتفكر فيها، فالأذان من شعائر الإسلام التي أودعه الله أسراراً وحكماً بليغة لا يعرفها إلا العالمون بدينه, وسنظهر هنا بعضاً من هذه الأسرار متوكلين على الله، راجين منه أن يوفقنا إلى الصواب ويلهمنا طريق الرشاد، ويسدد خطانا نحو الهدى، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اعلم أيها السامع بإذن قلبك, وفقني الله وإياك لا متثال أمر ربي وربك، أن الصلاة أعظم أركان الإسلام، وأجلُّ قواعد الإيمان، وهي قربان المؤمن ونوره، وهي عمود الدين, وعمود الإيمان, والميزان الذي من أوفى به استوفى، وهي خدمة الله في الأرض, هي خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر، وهي قربان كل تقي, وليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة.
ولما كانت من أعظم شعائر الإيمان، كان من أعظم شعائرها الأذان؛ لأن الإنسان لا يزال يتقلب في الأطوار، وينتقل في طلب الأوطار، لاهياً بما هو فيه من دنس دنياه، عما خلق له من طاعة مولاه، مشغولاً بما ينبغي الاشتغال عنه, فإذا دخل وقت الصلاة احتاج إلى ما يحثه عليها، ويرغبه إليها، لئلا يلهو عنها بأعماله، ويتشاغل عنها بأشغاله، فكان الأذان هو المرغب إلى أدائها، والمحرك للهمة إلى إجابة ندائها، وكان أول لفظ يقرع السمع منه.
(الله أكبر).زجراً عن الاشتغال بما هو دونه، إذ من شأن كل إنسان بالطبع، أن يطلب أكبر الأمرين فإذا كان كذلك فليفرغ إلى من هو أكبر. فاختيار هذا اللفظ لدلالة الاسم الشريف على جميع صفات الكمال, ونعوت الجلال واشتماله على سائر الأسماء الحسنى, والصفات العليا, لا إله إلا هو وحده لا شريك له.
و(أكبر) أفعل التفضيل الدال على عموم متعلقه, حدِّقْ فلا شيء مما يخطر بالبال أو يجوزه الوهم والخيال إلا والله أكبر منه, ولا يخفى لطف هذا وحَثّه على ترك السوى، وعلى اجتماع القلب عليه سبحانه, وتعظيمه والثناء عليه, واستحضار عظمته وكبرائه, وجلاله واستحقاقه لجميع أجزاء المحامد، وإفراد الشكر ودقائق المدح, ولهذا كان التكبير مفتاح الصلاة لقدوم العبد بين يدي جبار السموات والأرض, ليستحضر في صلاته أنه بين يدي الملك الفعال لما يريد, المذل لكل جبار عنيد.,والإله الحق الذي كل الكائنات لا شيء بالنسبة إليه:(وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) فكما كان التكبير مفتاح الصلاة كان مفتاح الأذان؛ لأنه يفتح القلوب بذكر علام الغيوب.
ثم إنَّه لما كان التكبير أول الأذان كرر أربع مّرات تأكيداً؛ لأن السامع في بادئ الأمر متشاغل بما هو فيه فحسن التأكيد هناك زيادة في حضه على الإقبال واطراح الأشغال, وإطفاء لنار الشيطان, وإخماداً لجمرات المعاصي والطغيان، ولما كانت نيران الشهوات تشتعل في كل آن، وجمرات المعاصي تتسعر على كل إنسان كان في التكبير من الإطفاء لها ما لا يخفى على أهل العرفان.
(أشهد أن لا إله إلا الله):
وإذا سمع السامع التكبير بسمعه وقلبه, واجتمع لأداء ما نودي إليه بجوارحه، ولبِّه، والتفت إلى الأكبر الأعظم, سمع قول المنادي (أشهد أن لا إله إلا الله) تذكيراً للسامع بذلك, ليحضه على الالتفات إلى إلهه المنفرد بالألوهية، والتفرغ عن أشغاله وأعراضه, والقيام بطاعته, والفرار إليه, والوقوف بكليته بين يديه، ونفي ما سواه, وإثباته فرداً مختصاً, بالألوهية منفرداً, بالربوبية حقيقاً بالإجلال، أهلاً للعزة والكمال, معروفاً بالخير والإفضال, متعرفاً إلى خلقه بالفضل والإحسان، مسدياً دقائق الجود وجلائله إلى كل إنسان.
عن عتبان بن مالك –رضي الله عنهما- يرفعه: (لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه)(1).
وقال-صلى الله عليه وسلم-: (من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة)(2), وعن عمر-رضي الله عنه-، قال-صلى الله عليه وسلم-: (أبشروا وبشروا من ورائكم أنه من شهد أن لا إله إلا الله صادقاً بها دخل الجنة)3. وغيرها من الأحاديث .
وأما تأكيد تكرارها, فتأكيد وحض على الإقبال عليه بالقلب, والقالب ,والتلذذ بذكره، وحلاوة المكرر يعرفها ذوو الذوق السليم، ولطف المناسبة بين التكبير والشهادة ظاهر؛ لأنه لما أخبر أن الله أكبر كان ترغيبا للعبد في ترك ما سوى الأكبر, وأمراً له بالإقبال عليه والوقوف بالذل بين يديه, وباستشعار الخضوع وملازمة الخشوع، ثم أتى بعد ذلك بما هو أعلى ترقّيا, وهو نفي الألوهية عن سواه، وحصرها فيه ترهيباً للعبد عن تساهله في طاعة إلهه الذي لا إله إلا هو, وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وإذا كان الأكبر لا إله غيره شهادة الحق فكيف يليق بالعبد, المضطر إليه أن يشتغل عنه.
(أشهد أن محمدا رسول الله).(/1)
ثم إنه حسن إتباع الشهادة بأختها وهي:"أشهد أن محمداً رسول الله" صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنها لا تقبل هذه إلا بهذه, وللإعلام بأنه-صلى الله عليه وسلم-رسول مرسل من الله عز وجل.
فالتكبير لإيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة, والشهادة لله-سبحانه وتعالى-بالإلهية لإدراك التبري من الإشراك، والشهادة لمحمد-صلى الله عليه وسلم-بالرسالة للإقرار بما جاء به المختار من الملك الجبار للبراءة من النار، قال-صلى الله عليه وسلم-وقد سمع مؤذناً قال: "الله أكبر" "الله أكبر" فقال-صلى الله عليه وسلم-: (على الفطرة) فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله" فقال-صلى الله عليه وسلم-: (بريء هذا من الشرك) فقال: "أشهد أن محمداً رسول الله" قال-صلى الله عليه وسلم-(خرج من النار).(4)وفي التذكير به-صلى الله عليه وسلم-والشهادة برسالته من الحض على اتباعه, واقتفاء آثاره, في الأقوال, والأفعال, والحركات, والسكنات, والقيام بأمره, وإجابة داعية, والإصغاء إلى مناديه, وزيادة ترغيب إلى الصلاة التي جعلت قرة عينه فيها مالا يخفى, وإظهاراً لشرفه-صلى الله عليه وسلم-وإغاضة لمن لم يقبل دعوته, ولم يعد بإجابته, وإعلاناً لدينه الذي جاء به من عند الله-سبحانه-وتذكيراً لمحبة له-صلى الله عليه وسلم-وترويحاً للمشوق إليه, ولإتباع التلذذ بذكر الله-سبحانه-بذكر حبيبه للانشراح بذكر الأحباب ولئلا يتخلى عباده عن ذكره-صلى الله عليه وسلم-وليكون ذكره مبدأ للصلاة, وختاماً فإنه كما جاء في الأذان الذي هو نداء للصلاة, ودعاء إليها الشهادة له بالرسالة, كذلك جاء في التشهد الذي هو آخر الصلاة الشهادة له-صلى الله عليه وسلم-بالرسالة بعد السلام عليه وقبل الصلاة عليه-صلى الله عليه وسلم-إشارة إلى أنه بهذه العبادة العظيمة سرا لندائه، وبهذه النعمة الجسيمة.
(حي على الصلاة):
اعلم أنه بعد تحلي القلب عما سوى الله-سبحانه-بالعلم بأنه الأكبر والشهادة له بالإلهية وحده, وأنه الواجب أن يعبد بحق, والشهادة لرسوله-صلى الله عليه وسلم-بالرسالة الذي هو الهادي إلى الصراط المستقيم، والمعلّم لِلْخَلْقِ كل خُلُقٍ لم يبق للعبد عذر عن طاعة الله-سبحانه-، وطاعة رسوله-صلى الله عليه وسلم- فحسن حينئذ النداء للصلاة (بحي على الصلاة) أي هلُمّ وأقبل إلى الصلاة, وما أحسن إتيان هذا الأمر بالإقبال والقيام إلى الصلاة، وإذا كان الأمر عن الرب الإله المفضل المنعم الرحمن الرحيم، العفو الحليم على لسان رسوله الذي هو بالمؤمنيين رؤوف رحيم،-صلى الله عليه وسلم-فكيف يليق بعاقل أن يتساهل في امتثال هذا الأمر العظيم، أو يؤثر غيره عليه، ويتمهل في القيام إليه, ويتغافل عن الوثوب لإجابة أمره، أو يتكاسل عن النهوض لأداء واجب شكره، وهل يتثبط عن إجابة سلطان هذا الداعي، أو يقعد عن امتثال هذه الأمر الذي لا يغفل عنه واعي.
(حي على الفلاح):
وبعد الأمر بالإقبال على الصلاة وتكراره للتأكيد شرع في ترغيبه بقوله:(حي على الفلاح)أي هلُمّ وأقبل إلى ما به الفلاح، والصلاة هي سبب الفلاح، ومفتاح باب النجاح، وبها ينال العبد ما يروم، ويبلغ ما يتمناه من الحي القيوم، والفلاح هو الفوز, والنجاة, والبقاء في الخير, والصلاة هي سببه الأعظم وأصله المعظم، ولهذا جاء في الكتاب العزيز في وصف المتقين:"الذي يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذي يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ، أولئك على هدى من ربهم وألئك هم المفلحون" وقال تعالى "قد أفلح المؤمنون ، الذين هم في صلاتهم خاشعون" وسماها النبي- صلى الله عليه وسلم-فلاحاً فقال النبي-صلى الله علي وسلم-: (الجفاء كل الجفاء, والكفر, والنفاق من سمع منادي الله-تعالى-ينادي بالصلاة ويدعو إلى الفلاح فلا يجيبه).(5)
وفي قوله: (حي على الفلاح) بعد الأمر بالصلاة من الترغيب إليها ما لا يخفى حسنه كأنه يقول هلم إلى ما به الفوز والنجاة في الدنيا والأخرى، وكثيراً ما يأتي بعد الأمر الترغيب, وبعد النهي الترهيب بحسب ما تقتضيه المقام.
أخرج مسلم عن عمر-رضي الله عنه-عن النبي-صلى الله وسلم-أنه قال:(إذا قال المؤذن: "الله أكبر" فقال أحدكم: "الله أكبر", ثم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله" قال: "أشهد أن لا إله إلا الله", ثم قال: "أشهد أن محمداً رسول الله" قال: "أشهد أن محمداً رسول الله", ثم قال: "حي على الصلاة" قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله", ثم قال: "حي على الفلاح" قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله", ثم قال: "الله أكبر" "الله أكبر" قال: "الله أكبر" "الله أكبر" ثم قال: "لا إله إلا الله" قال: "لا إله إلا الله" من قلبه دخل الجنة"(6).(/2)
فلما ندب-صلى الله عليه وسلم-إلى القول كما يقول المؤذن, وكان في القول كما يقول تأديباً للنفس, وتنبيهاً لها من سنة الغفلة, وضرباً لها بسوط الإزعاج, وجذباً لها بأزمة الاشتياق, وعطفاً لها عن أودية الفراق, وتشويقاً لها إلى بلوغ المرام, والتفاتاً بها إلى رفيع المقام, وتمريناً لها على الطاعة, وارتحالاً عن طلل الإضاعة, لتذهب حلاوة الذكر مرارة النسيان, وتجري بها أنها المراقبة إلى رياض الإيمان, فتبسم زهور المحبة, وتطيب أثمار المناجاة، وتغرد طيور جنات الشهود ليسمع أرباب السماع, ويعوا ويفوز بالتمتع بفواكه (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)(7). فإذا سمع العبد الأذان بقلبه وآذانه, ونطق به بفؤاده ولسانه, كان أرفع إنابة وأسرع إجابة, وأجدر أن لا يتغافل عن امتثال أوامره،وسماع زواجره, ولما قال المؤذن: "حي على الصلاة" "حي على الفلاح" وعلم السامع أن الأمر عظيم, والخطب جسيم، وأنه يدعوه إلى البدار إلى خطاب الملك الجبار، والقيام بين يدي ملك الأملاك، ومدير الأفلاك، الذي خلقه في أحسن تقويم، وخصه بإحسانه العميم، فخلق له السمع, والبصر, والفؤاد، ووكل به ملائكة يحفظونه في كل إصدار وإيراد
فحسن أن يقول عند أمره بالقيام لمناجاة الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني لا حول عن معصية الله إلا بقوة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله.
فإذا علم العبد عجزه عن القيام بأمر الله، وضعفه عن ترك مناهي الله، ونظر بعين البصيرة إلى حقارته وذله, وأنه ليس له حول ولا قوة على إجابة هذا الداعي، وأداء ما طلبه منه من حميد المساعي، واجتناب البطالة, والفرار عن أدران الجهالة.
(لا إله إلا الله)
لما كان الله-سبحانه-هو الأول والآخر، ومنه البداية وإليه النهاية، ختم هذا العقد الفريد بلفظ "لا إله إلا الله" الذي قامت به السموات والأرض, فكان ابتداء الأذان بلفظ الجلالة من "الله أكبر"، وختمه بها أيضاً من "لا إله إلا الله" وفي حسن الختام بها التفاؤل بأن يكون آخر الكلام فيفوز قائلها بحسن الختام، فقد قال-صلى الله عليه وسلم-وفيما أخرجه الإمام أحمد, وأبو داود, والحاكم, في المستدرك عن معاذ بن جبل-رضي الله عنه-: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)(8).
فكان ختم الأذان بهما لما فيهما من الفضل العظيم, والفيض العميم, ولإفرادها مع تشفيع كلمات الأذان سر لطيف يفهمه كل ذي فهم شريف، إذ لا يخفى على الفطن العارف القايل(9) في ظل رياض المعارف أن الله-سبحانه-وتر يحبّ الوتر، كما أخبر بذلك المصطفى-صلى الله عليه وسلم-أهل الصّفا، فلما كانت كلمات الأذان شفعاً, وترت بكلمة الشهادة, كما وترت صلاة النهار بصلاة المغرب, وصلاة الليل بصلاة الوتر، قال-صلى الله عليه وسلم- : (المغرب وتر النهار, فأوتروا صلاة الليل)(10).
فالشهادة في أول الأذان المقصود منها تنبيه ذوي الأشغال ,والتحريض في المبادرة بسلوك الامتثال، والسامع في أوّل الأذان أقرب إلى الغفلة والانشغال بالمحال، وهو في آخر الأذان بخلاف ذلك الحال إذا كان واعياً للمقال، وأمّا من استولت كثافة الغفلة على فؤاده, وقطعت عوائق الخسران طرق رشاده, فهو بمعزل عن الجميع، وإذا نودي إلى الخير فهو غير سميع.
فائدة:
إعلم وفقني الله وإياك أن الصلوات الواجبات خمس، والسنن المؤكدة، التي كان النبي-صلى الله عليه وسلم لا يتركها حضراً وسفراً سنة الفجر, ووتر الليل، وفي كلمات الأذان إلى ذلك إشارة؛ لأن الظهر, والعصر, والعشاء أربعاً أربعاً، والتكبير كلمتا الشهادة على رواية التربيع والترجيع مشابهة لها في كونها أربعاً أربعاً، وصلاة الفجر وسنتها ركعتان ركعتان، وحي على الصلاة, وحي على الفلاح مثنى مثنى, ولما كانت "حي على الفلاح" تابعة في المعنى "لحي على الصلاة" وكانت سنة الفجر تابعة لصلاة الفجر حصلت المناسبة ووقعت المشابهة، ولما كان المغرب وتر صلاة النهار، والوتر المندوب إليه وتر صلاة الليل، ناسب الوترين التكبير في آخر الأذان، وكلمة الشهادة إشارة إلى تغاير الوترين وصحة الإيثار بواحدة, وفي إيجادها في كونها كلها كلمات ذكر الله-سبحانه-إشارة إلى المغرب الذي هو وتر النهار، فإنه لا يكون إلا ثلاثاً؛ لأنه لو جعل الوتر النهار مشابهاً لذهب الوتر وكانت كلماته شفع11.
اللهم نبهنا من سنة الغفلة, وأزل عن القلب ر تاجه وقفله, وافتح مسامعنا لسماع ندائك, وفقه قلوبنا لفهم دعائك. واجعل قرة أعيننا في الصلاة, وفهم معاني كلماتك، وأقبل بقلوبنا إلى ما به الصلاح والفلاح. واجعلنا ممن لهجت منهم بذكرك الألسنة, والقلوب, والأرواح، واختم أعمالنا وأقوالنا بكلمة الشهادة،آمين اللهم آمين.
000000000000
1 - صححه الألباني في صحيح الجامع رقم(7720).
2 - المعجم الأوسط،وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (6318).
3 - وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 35)
4 - أخرجه أبو الشيخ في الأذان.
5 - الطبراني في الكبير عن معاذ.
6 -صحيح مسلم.(/3)
7 - سنن الترمذي.
8 -
9 - من القيلولة
10 -
11 - راجع/ رسالة الأمير الصناعي تشنيف الآذان بأسرار الأذان.(/4)
تعامل الرسول مع الأطفال ... ...
عبد الرحمن بن علي العسكر ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- أهمية الشباب. 2- ضرورة العناية بالنشء. 3- خطورة مرحلة الطفولة. 4- عناية النبي بالأطفال. 5- نماذج من معاملته للأطفال. 6- حرص النبي على تعليم الأطفال والشباب. 7- نعمة الذرية. 8- السبيل لصلاح الأولاد. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى.
أيها الناس، زينة الحياة الدنيا وعدّة الزمان بعد الله هُم شباب الإسلام والناشئون في طاعة ربهم، لا تكاد تعرف لهم نزوة أو يعهد منهم صبوة، يتسابقون في ميادين الصالحات، أولئك لهم الحياة الطيبة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله سبحانه. في الحديث: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله))، وذكر منهم: ((شابًا نشأ في طاعة الله)).
عباد الله، لئن تطلعت الأمة لإصلاح ناشئتها ورغبت أن تقرّ أعينها بصلاحهم فعليها أن تهتمّ بتربيتهم، وتسليحهم بسلاح الإيمان، وتحصينهم بدروع التقوى، وأخذهم بجدِّ وقوة العلم النافع والعمل الصالح.
إن العناية بالنشء مسلك الأخيار وطريق الأبرار، ولا تفسد الأمم إلا حين يفسد أجيالها الناشئة، ولا ينال منها الأعداء إلا حين ينالون من شبابها وصغارها.
عباد الله، إن الشاب في فترات تكوينه يمر بمراحل، كل مرحلة أهمّ من الأخرى. ألا وإن من أهم تلك المراحل مرحلة الطفولة، فهي السن الذي يتعرف فيه الطفل على مجريات الحياة، فيعرف الصحيح، ويعرف الخطأ، ويعلم الصواب، ويتعوّد على الغلط، ((كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصرنه أو يمجسانه)).
لهذا كانت مرحلة الطفولة من أخطر المراحل، ولقد كان السلف الصالح يعنون بأبنائهم منذ نعومة أظفارهم، يعلّمونهم وينشّئونهم على الخير، ويبعدونهم عن الشرّ، ويختارون لهم المعلمين الصالحين والمربين والحكماء والأتقياء.
عباد الله، محمد سيد ولد آدم وأعظم الناس مكانة هو القدوة في كل شيء، ولقد راعى الأطفال واهتم بأمرهم. ألا فليقتد بذلك الناصحون، لم يكن يتضجر ولا يغضب منهم، إن أخطؤوا دلهم من غير تعنيف، وإن أصابوا دعا لهم.
وإليكم ـ يا عباد الله ـ نماذج من معاملته لأطفاله :
روى الإمام أحمد في مسنده أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع النبي العشاء، فإذا سجد رسول الله وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما من خلفه أخذًا رفيقًا ووضعهما على الأرض، فإذا عاد إلى السجود عادا إلى ظهره حتى قضى صلاته، ثم أقعد أحدهما على فخذيه، يقول أبو هريرة: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، أردهما؟ فبرقت برقة في السماء، فقال لهما: ((الحقا بأمكما))، فمكث ضوؤها حتى دخلا.
وعن أم خالد رضي الله عنها قالت: أتيت رسول الله مع أبي وأنا صغيرة، وعلي قميص أصفر، فقال رسول الله : ((سنه سنه))، أي: حسن حسن، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة على ظهر رسول الله، فزبرني أبي، فقال رسول الله : ((أبلي وأخلِقي، ثم أبلي وأخلقي))، فعمرت أم خالد بعد ذلك. رواه البخاري.
ولما جاءت أم قيس بنت محصن إلى رسول الله بابنٍ لها صغيرٍ لم يأكل الطعام، فحمله رسول الله فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله. وتقول أم الفضل رضي الله عنها: بال الحسين بن علي رضي الله عنهما في حجر النبي ، فقلت: يا رسول الله، أعطني ثوبك والبس ثوبًا غيره حتى أغسله، فقال: ((إنما ينضج من بول الذكر، ويغسل من بول الأنثى)) رواه الثلاثة.
عباد الله، لقد كان يلاعب الأطفال، ويمشي خلفهم أمام الناس، وكان يقبلهم ويضاحكهم. روى الإمام أحمد وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد عن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي وقد دعينا إلى طعام فإذا الحسين بن علي يلعب في الطريق، فأسرع النبي أمام القوم ثم بسط يديه ليأخذه، فطفق الغلام يفرّ ها هنا ويفرّ ها هنا، ورسول الله يلحقه يضاحكه حتى أخذه، فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه ثم اعتنقه ثم أقبل علينا وقال: ((حسين مني وأنا من حسين)).
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت أذناي هاتان وبصر عيناي هاتان رسول الله أخذ بيديه جميعًا بكفي الحسن أو الحسين، وقدماه على قدم رسول الله ، ورسول الله يقول: ((ارقه ارقه))، قال: فرقى الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله ، ثم قال رسول الله : ((افتح فاك))، ثم قبله، ثم قال: ((اللهم أحبه فإني أحبّه)) رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني في معجمه.
وجاء الأقرع بن حابس إلى رسول الله فرآه يقبّل الحسن بن علي، فقال الأقرع: أتقبّلون صبيانكم؟! فقال رسول الله: ((نعم))، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد ما قبلت واحدًا منهم قط، فقال له رسول الله : ((من لا يرحم لا يرحم)) متفق عليه.(/1)
أيها الناس، لقد بلغ من عناية الرسول بأطفاله أن ألقى لهم باله حتى أثناء تأديته للعبادة، يقول أبو قتادة: كان رسول الله يصلي وهو حامل أمامة بنت بنته زينب، فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها، وكان إذا سمع بكاء الصبي وهو في صلاته تجوّز فيها مخالفة الشفقة من أمه. متفق عليهما.
وكان رسول الله يخطب ذات يوم فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: ((صدق الله ورسوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما))، ثم أكمل خطبته. رواه أهل السنن.
عباد الله، هذا رسول الله ، وهذه معاملته لأطفاله، أترونه يهمل تعليمهم؟! روى البخاري ومسلم أن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلامًا في حجر رسول الله ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : ((يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)). ولما أراد الحسين أن يأكل تمرة من تمر الصدقة قال له الرسول : ((كخ كخ، أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة؟!)). وروى البخاري أن النبي كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: ((أعيذكما بكلمات الله التامة من كلّ شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)).
إن عناية المصطفى تستمر معهم حتى بعد بلوغهم مبلغ الرجال، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كانت فاطمة بنت رسول الله عندي، وكانت أحبّ أهله إليه، فجرّت بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثّرت في نحرها، وقمّت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكِنت ثيابها، وأصابها من ذلك ضرّ، فسمعنا أن رقيقًا أتِي بهم النبيّ فقلت: لو أتيتِ أباك فسألتيه خادمًا يكفيك، فأتته فوجدت عنده ناسًا فاستحيت فرجعت، يقول علي: فغدا علينا رسول الله من الليل ونحن في لفاعنا ـ أي: لحافنا ـ قد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم فقال: ((مكانكما))، ثم جلس بيننا، وأدخل قدمه بيني وبين فاطمة، وجلس عند رأسها، فأدخلت فاطمة رأسها في اللفاع حياءً من أبيها، فقال: ((ما كان حاجتُك أمس إلى آل محمد؟)) فسكتت، فقلت: أنا والله أحدّثك يا رسول الله، إنّ هذه جرّت عندي بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكنت ثيابها، وخبزت حتى تغير وجهها، وبلَغَنا أنه قد أتاك رقيق فقلت: سليه خادمًا، فقال : ((أوَلاَ أدلّكما على ما هو خير لكما من خادم؟! إذا أويتما إلى فراشكما فسبّحا الله ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبّرا أربعًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود واللفظ له.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه فيما تحت أيديكم وما استرعاكم الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واشكروا نعمة الله عليكم بهؤلاء الأولاد الذين جعلهم الله فتنة لكم، فإما قرّة عين في الدنيا والآخرة، وإما حسرة وندم ونكد. وإن من شكر نعمة الله عليكم فيهم أن تقوموا بما أوجب الله عليكم من رعايتهم وتأديبهم بأحسن الأخلاق والأعمال وتنشئتهم تنشئة صالحة.
عباد الله، الأطفال هم حياة البيوت، بيت لا أطفال فيه بيت فيه نقص. إنهم ـ أيها الإخوة ـ يملؤون البيت إزعاجًا ولكنهم يملؤونه فرحًا وسرورًا، يملؤونه فوضى ولكنهم يملؤونه ضحكًا وابتهاجًا.
سئل غيلان بن سلمة الثقفي: من أحب ولدك إليك؟ فقال: "صغيرهم حتى يكبر، ومريضهم حتى يبرأ، وغائبهم حتى يحضر".
عباد الله، شعور يحسّ به الوالد حين يرى صغاره أمامَه، ويتذكّر قول الرسول : ((لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرّ منه))، ويرى ما هو فيه وما مر به من فتن لا يثبت فيها إلا من عصمه الله، وماذا بعده؟ أو كيف السبيل إلى وقايته مما أمامه؟
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن ثمة أمورًا جعلها الله من فِعل الأب وتنفع الابن من بعده، ومن أهمّ هذه الأمور صلاح الوالد في نفسه، فإنه سبب لحفظ الله عز وجل لأبنائه من بعده، يقول الله سبحانه: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (حفظهما الله بصلاح والدهما ولم يذكر الله للولدين صلاحًا).(/2)
وإن الله بفضله وكرمه إذا أدخل المؤمنين الجنة يلحِق بالآباء أبناءهم وإن كانوا دونهم في العمل، يقول الله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما عند هذه الآية: (إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل كي تقرّ بهم أعينهم)، وجاء في حديث مرسل: ((إن الله ليحفظ المرء المسلم من بعده في ولده وولد ولده وفي داره والدويرات حوله)).
عباد الله، لا يغلبنّكم الشيطان على باب آخر مفتوح للمؤمنين وهو دعاء الوالد لولده، فقد صحّ عنه من حديث أبي هريرة أنه قال: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شكّ فيهن))، وذكر منهن: ((دعوة الوالد لولده)).
ولقد كان دأب الأنبياء عليهم السلام الدعوة لأبنائهم، يقول إبراهيم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40]، وقال هو وولده إسماعيل: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، وقال زكريا: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا صالحًا، وسيروا على النهج، وأصلحوا النشء؛ تسعدوا في حياتكم وبعد وفاتكم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد... ... ...
... ...
المصدر:http://www.alminbar.net ... ...(/3)
تعرف على الله في الرخاء
1675
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الدعاء والذكر
مازن التويجري
الرياض
21/9/1419
جامع حي النزهة
ملخص الخطبة
1- قصة يونس والعبرة منها. 2- وفي مقابلها قصة موت فرعون. 3- صورة من استغاثة الأنبياء بربهم واستجابته لهم. 4- قصة أصحاب الغار وفائدة العبادة في الرخاء. 5- أعظم شدة ننتظرها الموت فكيف نفرج هذه الشدة. 6- كل الصور التي ذكرنا موضوعها ودرسها من عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون:
كم مضى من عمر الحياة! وكم سلف من العصور! وكم تقلب من الدهور! أمم على إثرها أمم, وأجيال تعقب أجيالاً, ورجال على إثر رجال, أحوال متباينة, وصور متغايرة, وأمور تدار, والله يخلق ما يشاء ويختار.
فتعالَ نستخبر الخبر كي نستقي العبر
اسألوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون العبر
هذا يونس بن متّى نبي الله يسقط في لجج البحار فيبتلعه الحوت فهو في ظلمة جوف الحوت في ظلمة جوف البحر في ظلمة الليل, في ظلمات ثلاث, فلا أحد يعلم مكانه, ولا أحد يسمع نداءه, ولكن يسمع نداءه من لا يخفى عليه الكلام, ويعلم مكانه من لا يغيب عنه مكان, فدعا وقال وهو على هذه الحال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [الأنبياء: 87], فسمعت الملائكة دعائه, فقالت: صوت معروف في أرض غريبة, هذا يونس لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة.
فيجئ الجواب الإلهي له: فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [الصافات: 144]. أتاه الجواب بالنجاة فنجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين [الأنبياء:88].
قال الحسن البصري: "ما كان ليونس صلاة في بطن الحوت, ولكن قدم عملاً صالحًا في حال الرخاء فذكره الله في حال البلاء, وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه فإذا عثر وجد متكأً".
وأما رسول الله فيقول: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) [1].
وفي البحر قصص أخرى وعبر تترى, فهذا الطاغية فرعون يدركه الغرق فيدعو بالتوحيد آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين [يونس: 90], وسمعت الملائكة دعائه فنزل جبريل إليه سريعًا, منجدًا؟ لا, مغيثًا؟ لا, وإنما يأخذ من حال البحر ووحله فيدسه في فيه خشية أن تدركه الرحمة.
وبعدها آتاه الجواب آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [يونس: 91].
لقد سمعت الملائكة دعاء كلا المكروبين, ولكن فرق عظيم, فالأول: تقول فيه: صوت معروف في أرض غريبة, هذا يونس لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة.
وأما الآخر فينزل جبريل يدس الوحل في فيه خشية أن تدركه الرحمة.
يا ترى! ما الفرق بين الحالين, والكرب واحد, والصورة واحدة؟!! إن الفرق واضح, والبون شاسع.
فرق بين من عرف الله في الرخاء ومن ضيعه, فرق بين من أطاع الله في الرخاء ومن عصاه.
فيونس رخاؤه صلاة ودعاء ودعوة.
وفرعون رخاؤه ظلم وفسق وكفر وجحود.
وأما رسول الله عليه السلام فيقول: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
ولا يزال لطيف صنع الله عز وجل بأوليائه وعباده الصالحين يتوالى عليهم في حال الشدائد والكرب, فيفرج كربهم, وينفِّس شدائدهم حيث كان لهم مع الله معاملة في الرخاء.
فهذا نبي الله أيوب, كان كثير المال, من سائر صنوفه وأنواعه، من العبيد والأنعام والمواشي والأراضي, وكان له أولاد كثير وأهلون, فسلب ذلك كله وابتلي في جسده بأنواع البلاء, لم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما ربه.
وطال مرضه حتى عافه الجليس, وأوحش منه الأنيس, ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، ترعى له حقه, فضعفت حالها وقل مالها, حتى كانت تخدم الناس بالأجر ثم عافها الناس لما عرفوا أنها زوجة أيوب خشية أن تعديهم, وكانت تقول له: يا أيوب لو دعوت ربك لفرج عنك. فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحًا, فهل قليل لله أن أصبر له سبعين سنة, ولما عافهما الناس اضطرت أن تبيع ظفائرها, فعندما علم أيوب بذلك نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [الأنبياء: 83], فيأتيه الجواب: فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين [الأنبياء: 84].
وأما رسول الله فيقول: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
وزكريا يدخل على مريم فيجد عندها رزقًا, يجد عندها فاكهة لم يأتِ أوان حصادها بعد, قال: أنى لك هذا قالت هو من عند الله [آل عمران: 37]. ورجع زكريا وفكر ورأى، فإذا هو طاعن في السن وامرأته مع كبر السن عقيم لا تلد, ولكن!! الذي يرزق الشيء في غير أوانه قادر على أن يرزقه ولدًا وإن كان طاعنًا في السن وامرأته عاقر.
قال بعض السلف: قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضرًا عنده فخافته فقال: يا رب, يا رب, يا رب, فقال الله: لبيك لبيك لبيك, قال: رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبًا... [مريم: 4], هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء.(/1)
فجاءه الجواب على الفور: يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميًا [مريم: 7].
لماذا هذا؟ وكيف حصل؟! لا تسل, وحسبك أن تقول إنه عرف الله في الرخاء فعرفه الله في حال الشدة والكرب والحاجة.
وأما رسول الله فيقول: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
ثم استخبر خبر الثلاثة من بني إسرائيل الذين قص النبي عليه السلام قصتهم, وأخبر خبرهم, يوم أن آواهم المبيت إلى غار فتدهدهت عليهم صخرة عظيمة أغلقت فم الغار, فإذا الغار صندوق مغلق محكم الإغلاق, مقفل موثق الإقفال.
إن نادوا فلن يسمع نداؤهم, وإن استنجدوا فلا أحد ينجدهم, وإن دفعوا فسواعدهم أضعف وأعجز من أن تدفع صخرة عظيمة سدت باب هذا الغار, وكانت كربة, وكانت شدة, فلم يجدوا وسيلة يتوسلون بها في هذه الشدة إلا أن يتذكروا معاملتهم في الرخاء, فدعوا الله في الشدة بصالح أعمالهم في الرخاء.
دعا أحدهم ببره والديه, يوم أتى فوجدهما نائمين، وطعامهما قدح من لبن في يده، وصبيته يتضاغون من الجوع, وكان بين خيارين إما أن يوقظ الوالدين من النوم, وإما أن يطعم الصبية!! فلم يختر أيًا من هذين الخيارين, ولكن اختار خيارًا ثالثًا وهو أن يقف والقدح على يده والصبية يتضاغون عند قدميه، ينتظر استيقاظ الوالدين الكبيرين, والوالدان يغطان في نوم عميق حتى انبلج الصبح وأسفر الفجر فاستيقظا، وبدأ بهما وأعرض عن حنان الأبوة وقدم عليه حنان البنوة على الأبوة فشرب أبواه وانتظر بنوه.
((اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه)).
ثم دعا الآخر, فتوسل إلى الله بخشيته لله ومراقبته يوم أن قدر على المعصية, وتمكن من الفاحشة ووصل إلى أحب الناس إليه، ابنة عمه, بعد أن اشتاق إليها طويلاً وراودها كثيرًا وحاول فأعيته المحاولة, حتى إذا أمكنته الفرصة واستطاع أن يصل إلى شهوته وينال لذته خاطبت فيه تلك المرأة مراقبة الله فقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه, فارتعد القلب واقشعر الجلد, ووجفت النفس وتذكر مراقبة الله تعالى فوقه، فقام عنها, وهي أحب الناس إليه وترك المال الذي أعطاها.
((اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه)).
ودعا الثالث فتوسل بعمل صالح قربه, وهو الصدق والأمانة حيث استأجر أجراء فأعطاهم أجرهم, وبقي واحد لم يأخذ أجره فنمّاه وضارب فيه, فإذا عبيد وماشية وثمر.
ثم جاء الأجير بعد زمن طويل يقول: أعطني حقي.
لقد كان يستطيع أن يقول: هذا حقك أصوعٌ من طعام, ولكنه كان أمينًا غاية الأمانة, نزيهًا غاية النزاهة, فقال: حقك ما تراه, كل هذا الرقيق, وكل هذه الماشية, كلها لك, فكانت مفاجأة لم يستوعبها عقل هذا الأجير الفقير, فقال: "اتق الله ولا تستهزء بي" فقال: يا عبد الله إني لا أستهزء بك, إن هذا كله لك, فاستاقه جميعًا, ولم يترك له شيئًا.
((اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه)).
وتنامت دعواتهم, وتنامت مناجاتهم، فإذا الشدة تفرج والضيق يتسع, وإذا النور يشع من جديد فيخرجون من الغار يمشون[2].
وأما رسول الله فيقول: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
التعرف على الله بالتزلف إليه بالنوافل والقربات في حال الرخاء.
وكما كشف عن الأفراد كروب وفرجت شدائد, لأنهم عرفوا الله في الرخاء, فكذا تفرج عن الأمة كروب وتنفس عنهم شدائد إذا عرفوه في الرخاء.
أما طاف الأحزاب بالمدينة وهم عشرة آلاف، والمسلمون ثلاثة آلاف, وكانت شدة فرجت عن قوم عرفوا الله في الرخاء، فأرسل الله الريح فاقتلعت الخيام, وكفأت القدور, وإذا بالجيش يرتحل من غير نزال ولا قتال.
أمَا نزل التتار حول دمشق فطوقوها كما يطوق اللجام رأس الفرس, فما خرج إليهم جيش ولا احتشدت أمامهم حشود الجنود، ولكن أنزل الله الجليد وكثر عليهم الثلج وكأنما يقول لهم: لا مقام لكم فارجعوا [الأحزاب: 13].
ونحن اليوم نعيش شدة تعيشها الأمة, تدكها دكًا. فنعرف أن الأمة اليوم تدفع الثمن الباهظ ثمن غفلة طويلة ونسيان لله, وطول صدود عنه, فها نحن ندعو في الشدة, ندعو في الشدة, ندعو في الشدة, ولكن طالما أطلنا التفريط في الرخاء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني الله وإياكم بهدي سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين.
---
[1] رواه أحمد في المسند ح (2800).
[2] قصة أصحاب الغار رواها البخاري ح (2272)، ومسلم ح (2743).
الخطبة الثانية
أيها الأخوة المؤمنون:
إن الشدائد في طريقنا لن تخطئنا, ولن نخطئها, وإن خير ما نلقى به هذه الشدائد معرفة الله في الرخاء.
والصحة رخاء, الشباب رخاء, المال رخاء, الأمن رخاء, الفراغ رخاء, القوة رخاء, فهل نعرف الله في هذا الرخاء.(/2)
وأما الشدائد فقد تخطئنا شدة الفقر, فلا نفتقر, وقد تخطئنا شدة المرض فلا نمرض, ولكن لن تخطئنا الشدة التي لا أشد منها, هل يخطئنا الموت؟! وهل أشد منه؟ وهل كرب أعظم منه؟ ولكنها شدة تفرج بمعرفة الله في الرخاء, وإن ربنا أكرم وأرحم وأبر من أن يخذل عبدًا عند ذل ذلك المصرع، وهو قد تعرف عليه حال الرخاء إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [فصلت: 30].
قال بعض السلف: يدخل هؤلاء الجنة, وإن لذة الفرحة لا تزال في قلوبهم يوم بشروا عند الموت بالجنة.
أمامنا شدة لن تخطئنا ولن نخطئها, أمامنا شدة القبر, وشدة الحشر, وشدة العرض, وشدة المنقلب إما إلى جنة وإما إلى نار.
هذه شدائد نحن أحوج ما يكون إلى أن يعرفنا الله فيها.
إن من عرف الله في الرخاء يدخل الجنة, ويقول عند دخولها: إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم [الطور: 28].
أما المعرضون عن ربهم في الرخاء فيعرضون على النار ويقال لهم: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون [الأحقاف: 20].
يا عبد الله:
((احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده أمامك, تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).(/3)
تعلم المرأة للهندسة ونحوها
الكاتب : المشرف العام على موقع الوسط
التاريخ : 1/9/1426
إن التعلم حق مشروع ضمنه الإسلام لكل فرد من المسلمين ، بل هو مطلب شرعي خاطب به القرآن المسلمين عموماً ، وحثهم على تحصيله .
( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) .
وقال تعالى : ( وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به ) .
وقال : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) .
وقال : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) .
والعلوم نوعان :
1. علوم شرعية دينية : وهي مأخوذة من الشرع كعلم التفسير والحديث والفقه ، وهذا النوع يشرع تعلمه للنساء أيضاً باتفاق العلماء .
2. علوم عقلية دنيوية : وهي مأخوذة من العقل والتجربة كالطب والحساب .
مجموع الفتاوى 19/228-234 .
والعلوم العقلية والدنيوية نوعان :
1. علوم ضارة كعلوم السحر والشعوذة ، فهذه علوم يحرم تعلمها وتعليمها على الرجال والنساء لما فيها من الضرر والفساد على الناس ، كما قال تعالى : ( ويتعلمون منهما مايضرهم ولا ينفعهم ) .
2. علوم نافعة كالطب والحساب والهندسة فالأصل فيها جواز تعلمها وتعليمها لما فيها من المنفعة والمصلحة ، وقد تكون فرض كفاية عند توقف حاجة الأمة ومصالحها عليها .
والإباحة في هذا النوع شاملة للرجال والنساء لما يلي :
أن الأدلة الشرعية الدالة على مشروعية تعلم هذه العلوم والمعارف عامة مطلقة لم تفرق بين جنس الرجال وجنس النساء ن وإن كانت بعض هذه العلوم أليق بالرجال وبعضها أليق بالنساء .
أن مناط المشروعية هو وجود المنفعة الراجحة ، وهذا معنى لا يوجب التفريق بين الرجال والنساء ، فالمرأة تنتفع بهذه العلوم وغيرها بذلك ، فيكون وصف الذكورة والأنوثة وصفاً طردياً غير مؤثر في هذا الباب .
أن الأصل استواء الرجال النساء في الأحكام فإذا جازت دراسة هذه العلوم بالنسبة للرجال فالنساء كذلك ، ومنع النساء من ذلك يحتاج إلى دليل لأنه خلاف الأصل .
القياس على بعض العلوم المباحة التي كانت النساء يتعلمنها في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كما في قوله للشفاء العدوية : " ألا تعلِّمين حفصة رقية النملة كما علمتيها الكتابة " رواه أبوداود وأحمد .
وقال عروة : " ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة " الإصابة 4/349 .
ولما تعجب عروة من علم عائشة رضي الله عنها بالطب بينت له السبب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمرض فيأتيه أطباء العرب ويصفون له الدواء فكانت تحفظه وتصنعه للنبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد في المسند 6/67 .
وقد بوب البخاري باب : " هل يداوي الرجل المرأة ، والمرأة الرجل " و باباً في " المرأة ترقي الرجل " وذلك ضمن كتاب الطب في صحيحه ، وهذه المداواة والمعالجة لا تتم إلاّ بتعلم ، فإذا شرع للمرأة تعلم الطب فغيره من العلوم النافعة كذلك بجامع وجود المنفعة الراجح في كل منهما .
المهم .. أن تكون المرأة في دراستها لهذه العلوم والمعارف ملتزمة بالضوابط الشرعية العامة في خروجها وحديثها وسلوكها ..
والله أعلم
المصدر : الوسط نت(/1)
تعنت اليهود
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
الآيات:
يقول المولى -جل وعلا- حكاية عن بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ( ) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( ) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } سورة البقرة: 55-59.
شرح الآيات:
قوله: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى } أي واذكروا يا بني إسرائيل إذ قلتم؛ والخطاب لمن كان في عهد الرسول-صلى الله عليه وسلم-. قوله: { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ } أي لن ننقاد، ولن نصدق،?ولن نعترف لك بما جئت به. قوله: { حَتَّى ن اللَّهَ جَهْرَةً } {نَرَى} بمعنى نبصر؛ ولهذا لم تنصب إلا مفعولاً واحداً؛ لأنها رؤية بصرية. قوله: { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ } يعني الموت الذي صُعقوا به؛ { وََأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } أي ينظر بعضُكم إلى بعضٍ حين تتساقطُون.
قوله:{ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } أصل "البعث" في اللغة الإخراج؛ ويطلق على الإحياء، كما في هذه الآية؛ ويدل على أن المراد به الإحياء هنا قوله-تعالى-: { مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ }؛ وهو موت حقيقي، وليس نوماً؛ لأنَّ النَّومَ يُسمَّى وفاةً؛ ولا يُسمَّى موتاً؛ كما في قولِهِ-تعالى-:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} سورة الأنعام(60). وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} سورة الزمر(42).
وقوله: { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } هذه نعمة كبيرة عليهم أن الله-تعالى- أخذهم بهذه العقوبة، ثم بعثهم ليرتدعوا؛ ويكون كفارة لهم؛ ولهذا قال: { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تشكرون الله -سبحانه وتعالى-.
قوله: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } أي جعلناه ظلاً عليكم؛ وكان ذلك في التيه حين تاهوا؛ وقد بقوا في التيه بين مصر والشام أربعين سنة يتيهون في الأرض؛ وما كان عندهم ماء، ولا مأوى؛ ولكن الله -تعالى- رحمهم، فظلل عليهم الغمام؛ و{الْغَمَامَ} الظاهر أن المراد بالغمام هنا السحاب البارد الذي يكون به الجو بارداً، ويتولد منه رطوبة، فيبرد الجو. قوله: { وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } يقولون: { الْمَنَّ } شيء يُشبه العسل؛ ينْزل عليهم بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس؛ فإذا قاموا أكلوا منه { وَالسَّلْوَى } طائر ناعم يسمى "السُّمَانَى"، أو هو شبيه به؛ وهو من أحسن ما يكون من الطيور، وألذه لحماً. قوله: { كُلُوا } الأمر هنا للإباحة؛ يعني أننا أبحنا لكم هذا الذي أنزلنا عليكم من المن والسلوى { مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } {مِنْ} هنا لبيان الجنس؛ لأنهم أبيح لهم أن يأكلوا جميع الطيبات. قوله: { وَمَا ظَلَمُونَا } أي ما نقصونا شيئاً؛ لأنَّ الله لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين. قوله: { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي لا يظلمون بهذا إلا أنفسهم؛ أما الله-تبارك وتعالى- فإنهم لا يظلمونه؛ لأنه -سبحانه وبحمده- لا يتضرر بمعصيتهم، كما لا ينتفع بطاعتهم.(/1)
قوله: { وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ } أي واذكروا يا بني إسرائيل إذ قلنا ادخلوا هذه القرية. و{ ادْخُلُوا } أمر كوني وشرعي؛ لأنهم أُمروا بأن يدخلوها سجداً وهذا أمر شرعي؛ ثم فُتحت، فدخلوها بالأمر الكوني. وقد اختلف المفسرون في تعيين هذه القرية؛ ولعلَّ الصواب أن المراد بها: بيت المقدس؛ لأن موسى قال لهم: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} سورة المائدة(21). قوله: { فَكُلُوا مِنْهَا } أمر إباحة وإرشاد وامتنان، فقد أبحنا لكم أن تأكلوا منها { حَيْثُ شِئْتُمْ } أي في أي مكان كنتم من البلد في وسطها، أو أطرافها تأكلون ما تشاءون {رغداً} أي طمأنينة، وهنيئاً لا أحد يعارضكم في ذلك، ولا يمانعكم. قوله: { وَادْخُلُوا الْبَابَ } أي باب القرية؛ لأن القرى يجعل لها أبواب تحميها من الداخل والخارج {سجداً} منصوب على أنه حال من الواو في قوله –تعالى-: {ادخلوا} أي ساجدين. والمعنى: إذا دخلتم فاسجدوا شكراً لله. قوله: {وقولوا حطة} أي قولوا هذه الكلمة {حطة} أي احطط عنا ذنوبنا، وأوزارنا. والمراد: اطلبوا المغفرة من الله -سبحانه وتعالى- إذا دخلتم وسجدتم. قوله: {نغفر لكم خطاياكم} "المغفرة" هي ستر الذنب، والتجاوز عنه؛ ومعناه أن الله ستر ذنبكم، ويتجاوز عنكم، فلا يعاقبكم؛ لأن "المغفرة" مأخوذة من المغفر، وهو ما يوقى به الرأس في الحرب؛ لأنه يستر ويقي. و{خطاياكم} جمع خَطِيَّة، كـ"مطايا" جمع مطية؛ و "الخطية" ما يرتكبه الإنسان من المعاصي عن عمد. قوله: {وسنزيد} أي سنعطي زيادة على مغفرة الذنوب {المحسنين} أي الذين يقومون بالإحسان في عبادة الله، وفي معاملة الخلق.
قوله: {فبدل الذين ظلموا} أي فاختار الذين ظلموا منهم على وجه التبديل، والمخالفة {قولاً غير الذي قيل لهم} وذلك أنهم قالوا: "حنطة في شعيرة" بدلاً عن قولهم: "حطة". قوله: {فأنزلنا} الفاء للسببية؛ والمعنى: فبسبب ما حصل منهم من التبديل أنزلنا {على الذين ظلموا} أي عليهم {رجزاً} أي عذاباً {من السماء} أي من فوقهم؛ كالحجارة، والصواعق، والبَرَد، والريح، وغيرها؛ والمراد بـ{السماء} هنا العلوّ، ولا يلزم أن يكون المراد بها السماء المحفوظة؛ لأن كل ما علا فهو سماء ما لم يوجد قرينة؛ كما في قوله –تعالى-: {وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} سورة الأنبياء(3). قوله: {بما كانوا يفسقون} الباء هنا للسببية. أي بسبب؛ و "ما" مصدرية. أي بكونهم فسقوا. و{كانوا} المراد تحقيق اتصافهم بذلك. و{يفسقون} أي يخرجون عن طاعة الله-عز وجل-.
فائدة:
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه إحدى الآيات الخمس التي في سورة البقرة التي فيها إحياء الله -تعالى- الموتى؛ والثانية: في قصة صاحب البقرة؛ كما في قوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى} سورة البقرة(73). والثالثة: في الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال الله لهم: {مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} سورة البقرة(243). والرابعة: في قصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، فقال: {أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } سورة البقرة(259). والخامسة : في قصة إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى...} سورة البقرة(260) الآية.
بعض فوائد الآيات:
1. تذكير الله –تعالى- بني إسرائيل بنعمته عليهم، حيث بعثهم من بعد موتهم.
2. سفاهة عقول بني إسرائيل؛ وما أكثر ما يدل على سفاهتهم!؛ فهم يؤمنون بموسى، ومع ذلك قالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}.
3. وجوب الشكر على من أنعم الله عليه بنعمة؛ لقوله –تعالى-: {لعلكم تشكرون}.
4. نعمة الله-تبارك وتعالى- بما هيأه لعباده من الظلِّ؛فإن الظلّ عن الحرّ من نعم الله على العباد.
5. بيان نعمة الله على بني إسرائيل بما أنزل عليهم من المن والسلوى يأتيهم بدون تعب، ولا مشقة.
6. أن الإنسان إذا أنعم الله عليه بنعمة فينبغي أن يتبسط بها، ولا يحرم نفسه منها؛ لقوله- تعالى-: {كلوا من طيبات ما رزقناكم}.
7. أن المباح من الرزق هو الطيب الحلال؛ لقوله: {كلوا من طيبات}؛ وأما الرزق المكتسب عن طريق الحرام فهو خبيث.
8. أنه يجب على من نصره الله، وفتح له البلاد أن يدخلها على وجه الخضوع، والشكر لله؛ لقوله: {وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة}.
9. حرمة تأويل النصوص الشرعية للخروج بها عن مراد الشارع منها.
10. أنَّ الإحسان سبب للزيادة, سواء كان إحساناً في عبادة الله، أو إحساناً إلى عباد الله.(/2)
11. أفضيلة أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم- على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم، وعدم تعنتهم لأمر الله أو أمر رسوله؛ مع ما كانوا يلقونه من التعب والمشقة في أسفارهم وغزواتهم مع النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ ومن ذلك في غزوة تبوك، وفي ذلك الحر الشديد، والجوع القاتل؛ فلم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم خرق العادة، ولا إيجاد معدوم أو مستحيل. مع أنه صلى الله عليه وسلم لو دعا ربه أن يجعل لهم الأرض ذهباً لاستجاب له، ومع ذلك لم يطلبوا من نبيهم ذلك، حتى لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم، فجمعوا ما معهم، فجاء قدر مبرك الشاة فدعا الله فيه وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله -تعالى- فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر. وأما بنو إسرائيل " يهود" مع أنهم شاهدوا الآيات البينات، والمعجزات القاطعات, وخوراق العادات، ومع هذا خالفوا وكفروا، وظلموا أنفسهم.
12. بيان عقوبة هؤلاء الظالمين، وأن الله أنزل عليهم الرجز من السماء .1
والله أعلى وأعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
________________________________________
1 - راجع: " تفسير القرآن العظيم" للحافظ ابن كثير(1/89- 96). ط: دار الحديث القاهرة. الطبعة السادسة. (1413هـ). مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة. و "جامع البيان في تأويل القرآن" لمحمد بن جرير الطبري(1/328- 346). ط: دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان. الطبعة الأولى(1421هـ). و " الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي(1/403- 417). الطبعة الثانية. و " تفسير ابن عثيمين ". المجلد الأول. و " أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" لأبي بكر الجزائري(1/56- 60). الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف(1414هـ). و " فتح القدير" للشوكاني(1/137- 142). المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. مكة المكرمة. الطبعة الثانية. و" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لابن سعدي(1/60- 61). طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة. (148هـ).(/3)
تفسير القرآن الكريم
لفضيلة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالقرآن الكريم: هو كلام الله تعالى المنزل على أشرف خلقه، وخاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم لهداية الناس، وإرشادهم في كل زمن إلى ما به صلاح دنياهم في جميع شئونها، وصلاح دينهم وآخرتهم.
والقول في تفسير هذا القرآن ليس بالأمر الهين الذي يستطيعه كل أحد، ويقدر عليه كل من عرف القراءة والكتابة، لأنه كلام الله العلي الأعلى الذي أعجز الجن والإنس أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، ولكن قد تفضل الله بتيسيره للمتدبرين، والمتفقهين ليزكوا به نفوسهم ويطهروا بالفقه فيه أرواحهم وأخلاقهم، قال تعالى في غير آية: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر.
والقرآن مائدة الله التي مدها لعباده، وحديقته التي زينها بمختلف الفواكه والزهور والرياحين وفتح أبوابها لكل طالب، ويسر النفع بها لكل راغب، فمن دخل تلك الحديقة، وجلس على هذه المائدة لا بد أن ينال حظًا من طعامها وثمارها، أو من روحها وشذى طيبها، وهم في ذلك على قدر جهدهم وعلى تفاوت صدقهم وحرصهم، فمنهم البحر الخضم، ومنهم النهر، ومنهم النهير، ومنهم الجدول، ومنهم دون ذلك: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها والكل متى صلحت نيته وخلص مقصده لله، وسلك السبيل في يقين بالحاجة إلى هذه المائدة والحديقة، حاجة لا غنى له عنها، ولا يجدها إلا في هذه المائدة والحديقة، ومن كان كذلك، وسلك السبيل، فلا بد أن يصل إلى بغيته وينتهي إلى طلبته، ويجد غذاء قلبه وروحه على قدر طاقته، وعلى سعة واديه، فلا يدعن أحد شياطين الأنس والجن تلعب بعقله، وتزيغ به عن القرآن وتخدعه عنه وعن هدايته، باسم النصيحة له، والإجلال للقرآن والإعظام لشأنه أن تناله أفهام العامي أو تدرك مقاصده عقول البسطاء، أو تعرف مراد الله منه طبقة الأميين، وأنه لا تفهم آياته غير عقول العلماء المتبحرين من السابقين، إن ذلك من خدع شياطين الإنس والجن يصدون الناس بها عن معرفة حقيقة دينهم، ويحولون بها بين القلوب وغذائها النافع وريها الطيب من ماء القرآن العذب وفواكهه الكثيرة التي أدنى الله لكل مسلم من جناها ما يستغني به عن كل غذاء؛ وقرب موردها لكل وارد حتى لا يجد له يوم القيامة عذرًا ينفع، ولا حجة تدفع عنه عذاب المعرضين عن ذكر الله الذين أطاعوا سادتهم وكبراءهم فأضلوهم السبيل.
وليس القصد من هذا والغرض منه أن يكون كتاب الله مهزلة يعبث به كل جاهل، وملعبة يقول فيه كل أحد برأيه، ويؤوله بهواه، ويتكلم في تفسيره بجهله، فيحرف القول عن موضعه بما يبطل حدوده ويقضي على آياته، ويزعم أنه يفسر القرآن بالقرآن ويرشد منه إلى الهداية والعرفان، كلا ثم كلا، إنما نقصد بقولنا: إن العامي يقرأ ليفهم، لا ليتبرك بتكرير الألفاظ، ويقرأ القرآن كما يقرأ كتابًا يجيئه من عظيم يأمره ويرشده ويتدبره ويعود نفسه التدبر ويمرنها على الفهم وذوق كلام الله تعالى، فإنه إذا قرأ كذلك فتح الله له من آيات أصول الإسلام في توحيد الآلهية والعبادة، وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ما لا يجد مثله في كتاب آخر، وينتفع من ذلك بما لا ينتفع بمثله ولا ببعضه من أي كتاب آخر، وما لا يغني عنه أي كتاب غير القرآن، فإن لقي في سبيله عقبة، فلا يحاول إغفالها والإغضاء عنها، بل يعمل على تذليلها بالرجوع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم، فإن لم يقدر على ذلك بنفسه فليستعن بمن تطمئن نفسه إليه من أهل العلم الذين هم أوسع منه إطلاعًا، وأكثر منه إدراكًا لمراد الله تعالى، وإلمامًا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف الصالح والعلماء
المحققين، فإن اختلف عليه قول العلماء في ذلك فليفزع إلى الله معلم إبراهيم عليه السلام وليدع بما كان يدعو به الرسول صلى الله عليه وسلم : "اللهم رب جبريل وميكائيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أهدني لما اختلفت فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". فإنه إن شاء الله مهتد إلى الحق بتوفيق الله وهدايته، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.(/1)
وليعلم كل من ينصح لنفسه، ويريد لها الخير- أن الله أنزل القرآن هداية عامة، لكل أحد موردًا عذبًا لكل مسلم، وأن الله لم يخص به طبقة دون طبقة، ولا عالمًا دون عامي، ولا أهل زمن دون غيرهم، ولا الماضين دون اللاحقين، فإنه حجة الله الباقية على مدى الدهور والأيام، وهو الكتاب المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه نفوس المؤمنين وقلوبهم، وهو الذي سيسأل عنه كل أحد في أول مرحلة من مراحل الآخرة- القبر- وما بعدها لا يستثني الله من ذلك السؤال عاميّا ولا غير عامي، ولا ينفع عنده جوابًا عن هذا السؤال في أي موقف من مواقف الآخرة ولا مرحلة من مراحلها، أن يقول: كنت عاميًا لا أعرف، أو أميًا لا أقرأ، فقلدت غيري، وسمعت الناس يقولون فقلت مثل ما قالوا. فخذ حذرك، واستعد للجواب، يوم لا تغني نفس عن نفس شيئًا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون.
وخير ما يفسر القرآن: القرآن، فإنك تقرأ الآية من السورة، فيخفى عليك معناها، فإذا جئت السورة الأخرى، وجدتها بأسلوب أوضح، ولفظ أبسط، وكذا تجد القرآن يقص القصص بألوان متعددة، ويسوق العبر في صور شتى، ويبين السنن الإلهية في عبارات متشابهة؛ وذلك قوله تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني.
والذوق القرآني العلمي لا يكون مع الإعراض عن التلاوة، ثم تأخذ المصحف وتطلب الآية الواحدة ثم تحاول فهمها، كلا، إن الذوق القرآني إنما ينعم به من اتخذ القرآن له خليلاً وصاحبًا ورفيقًا في قيامه وقعوده ومضجعه، وليله ونهاره وشأنه كله مع الإيمان به، والاتباع لأوامره والوقوف عند حدوده جهد الاستطاعة، ذلك هو الذي يكسب ذوق القرآن، ويفقه في القرآن، وييسر الله به تدبر القرآن، ويفتح الله به مغلق القلوب، ويبصرها بنور القرآن.
والله تعالى قد يقصد إلى معنى من المعاني أو حكم من الأحكام لكنه ينزله في عدة آيات مملوءة بالمواعظ والتخويف والتبشير والترغيب والترهيب، فيكون هذا المعنى أو الحكم لا يفهم على حقيقته إلا بهذه الآية أو الآيات مجتمعة، وبهذا النظم المحكم، فإذا أنت قطعت أوصال هذه الآيات، وفرقت أولئك الأخوات ثم حاولت الوصول إلى هذا المعنى أو الحكم بعد ذلك، فأنت غير مستطيع ولا واصل، وإذا وصلت إلى شيء فإنما وصلت إلى معنى مشوه أو حكم محرف؛ لأنك
سلكت غير السبيل، وأخذت في غير المنهج، وعدوت على آيات الله فمزقت شملها.
ومن هنا نجد كثيرًا من المتكلمين في القرآن وتفسيره يحيد بهم هذا العدوان عن قصد السبيل، ويأخذ بهم هذا الطريق المعوج إلى معاني تنفر منها النفوس الطيبة، وتمجها الأذواق القرآنية السليمة.
والقرآن لم ينزله الله ليكون تابعًا لمذهب فلان أو رأي فلان، وإنما أنزله مهيمنًا على كل كتاب سبق نزوله من عند الله، وعلى كل كتاب يحدثه أحد من الناس بعد القرآن، فالقرآن حاكم غير محكموم عليه، والقرآن حجة، ولا حجة عليه، والقرآن إمام ولا إمام قبله، بل كل أحد فيجب أن يكون مؤتمًا بالقرآن في قوله وهديه وعمله.
فإذا ما عكست الحقائق، وقلبت الأوضاع وجعلت القرآن تابعًا لمذهبك، فلا مناص لك من أن تحرفه، أو تؤوله تأويلاً هو إلى التحريف أقرب منه إلى التفسير، وقد جنى كثير من أتباع المذاهب الكلامية والفروعية على هذا القرآن والسنة أعظم جناية، بمحاولتهم لتلك الأغراض الفاسدة إذ حكمت عليهم قواعدهم التي زعموها حقائق ثابتة، وبراهين قطعية، بأن يردوا كثيرًا من آيات القرآن؛ أو يعزلوها عن وظيفتها العربية من الفهم والأفهام، والدلالة على المعنى الذي أنزلها الله دالة عليه، وجرّ تحريفهم هذا- الذي زعموه تفسيرًا- إلى بلاء عظيم وفساد في الأمة كبير، وصدق الله إذ قال: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين.
والحمد لله رب العالمين(/2)
تفسير سورة القيامة.. (الحلقة الأولى)
إعداد/ د. عبد العظيم بدوي
* مجلة التوحيد / يقول اللَّه تعالى: لا أقسم بيوم القيامة (1) ولا أقسم بالنفس اللوامة (2) أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه (3) بلى قادرين على أن نسوي بنانه (4) بل يريد الإنسان ليفجر أمامه (5) يسأل أيان يوم القيامة (6) فإذا برق البصر (7) وخسف القمر (8) وجمع الشمس والقمر (9) يقول الإنسان يومئذ أين المفر (10) كلا لا وزر (11) إلى ربك يومئذ المستقر (12)
ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر (13) بل الإنسان على نفسه بصيرة (14) ولو ألقى معاذيره [القيامة: 1- 15].
بين يدي السورة
سورة مكية تعالج موضوع البعث والجزاء، وتركّز بوجهٍ خاص على القيامة وأهوالها والساعة وشدائدها، وحالة الإنسان عند الاحتضار، وما يلقاه الكافرُ في الآخرةِ من المصاعب والمشاق.
ونستطيعُ القول بأنّ السورة قد انقسمت ثلاثة أقسام:
الأول: القسم على أن البعث حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وذكر بعض أهوالها.
الثاني: ذِكر القيامتين الصغرى والكبرى وحال الإنسان فيهما.
الثالث: ذِكْرُ الأدلة على إمكان البعث.
وقد تضمنت السورة في ثناياها إشارةً خفيفةً إلى كيفية تلقي النبي صلى الله عليه وسلم للوحي عن جبريل عليه السلام.
تفسير الآيات
استفتحت السورة بالقسم من اللَّه عز وجل بيوم القيامة، وبالنفسّ اللّوامة، على أنّ البعث حق، والجزاء حق، لا أقسم بيوم القيامة (1) ولا أقسم بالنفس اللوامة، ويومُ القيامة معروفٌ، وسيأتي ذكره والحديث عنه في أثناء السورة، أما النّفْسُ اللوامة فقد قال الحسن البصري:
هي نفسُ المؤمن، إن المؤمن والله ما نراه إلا يلومُ نفسه: ما أردتُ بكلمتي، ما أردتُ بأكلتي، ما أردتُ بحديث نفسي؟ وإنّ الفاجر يمضي قُدُمًا ما يعاتبُ نفسه، وعنه أيضًا أنه قال: ليس أحدٌ من أهل السماوات والأرضين إلا يلومُ نفسه يوم القيامة، يعني أن المحسن يلومُ نفسه على تقصيرها، والمسئَ يلوم نفسه على إساءتها، وكل من القولين وجه.
أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه يعني هل يظنّ الإنسانُ أنّا لا نقدرُ على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة، بلى قادرين على أن نسوي بنانه، فهي القدرة لا على مجرد جمع العظام أيّا كان، بل على أن نسوي بنانه، والبنان أطرافُ الأصابع، وفيها البصمات التي تخصّ كل إنسان، بحيث إن كل بصمة لا تشبه الأخرى، فهو إذن الجمعُ الدقيق، وإعادةُ التكوين الإنساني بأدق ما فيه.
ثم يكشف ربنا سبحانه عن العلّة التي تحملُ الإنسان على استبعاد البعث فيقول: بل
يريد الإنسان ليفجر أمامه إنه يريدُ أن يركب طريق الفجور، إنّه يريد أن يركب طريق الفسوق والعصيان، إنّه يريد أن يحقّق لنفسه كل ما تشتهيه من الحلال والحرام على حدّ سواء، فهو لذلك لا يريد أن يصدق بالبعث، لأن التصديق بالبعث معناه الإيمان بالحساب والجزاء، والثواب والعقاب، وهذا الإيمان يصدّ عن طريق الفجور، ويصدّ عن الفسوق والعصيان، وهو يريدُ أن يُعْطي نفسه حظها من الشهوات والملذات وإن كانت محرمة، فلذلك هو يحاول أن يُبْعدَ عن نفسه شبح الآخرة، ويحاولُ أن يمنّي نفسه لتفعل ما تشاء، فلا حساب ولا جزاء، هذه هي علة ظنّه: أن لن نجمع عظامه، ولذلك فهو يسأل سؤال المنكر أو المستبعد: يسأل أيان يوم القيامة ؟ متى هذا الوعد إن كنتم صادقين [الملك: 25]، أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد، فالكافر يسأل هذا السؤال للإنكار، وعُصاة المسلمين يسألونه للاستبعاد، ليفتحوا أمام أنفسهم الأمل، ويعدوها بالتوبة بعد حين، فالعُمر باقٍ، وبابُ التوبة مفتوحٌ، فليأخذوا حظّهم من الشهوات المحرمة، فالموت منهم بعيد ! والقيامة أبعد!! اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين [يوسف: 9].
فيا غافلاً انتبه، ويا طويل الأمل أقصر، فالموت يأتي بغتةً:وكم من صحيح
مات من غير علّةٍ وكم من عليل عاش حينًا من الدهر كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فقل: «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور». الحمدُ لله الذي ردّ عليّ روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره». يا نفس اجتهدي في طاعة اللَّه، فلعلّ هذا اليوم آخرُ أيامك، وإذا أمسيت فقل: يا نفسُ، اجتهدي في طاعة اللَّه، فلعلّ هذه الليلة آخر لياليكِ، فإذا أويت إلى فراشك فقل: «باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفُعه، إن أمسكت نفسي فارْحَمْها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظُ به عبادك الصالحين».
ثم ذكر تعالى بعض أهوال يوم القيامة، الذي ينكره المنكرون، ويستبعدُه المستبعدون، بينما هو قريب جدًّا، كما قال تعالى: إنهم يرونه بعيدا (6) ونراه قريبا [المعارج: 6، 7]، قال تعالى:(/1)
فإذا برق البصر أي تقلّب بسرعة، والتفت يمينًا وشمالاً، لا يستطيعُ أن يثبت من شدّة الأهوال، كما قال تعالى: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار (42) مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء [إبراهيم: 42، 43]، وقال تعالى: واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين [الأنبياء: 97]، وقوله تعالى: وخسف القمر أي: ذهبَ نوره، وجمع الشمس والقمر ؟ فيجاب: كلا لا وزر لا ملجأ ولا
مفرّ، إلى ربك يومئذ المستقر أي المرجع والمصير، ولقد أخبر اللَّه عباده أن لا ملجأ ولا منجى لهم من اللَّه إلا إلى اللَّه، فقال تعالى: استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير [الشورى: 47]، وقال تعالى: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين (50) ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين [الذاريات: 50، 51]. وقوله تعالى: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بما قدّم بين يديه في حياته قبل مماته، وبما أخر بعد مماته، كما قال تعالى: إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين [يس: 12]، فالمراد بآثارهم هنا: (ما أخّر) في سورة القيامة، والمراد أنّ الإنسان يتركُ أثرًا في الناس، خيرًا كان أو شرًا، فإذا مات أتاه ما يستحق على آثاره من ثواب وعقاب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً فله أجرُها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ، ومن سنّ في الإسلام سنّةً سيئةً كان عليه وزرها ووزْرُ مَنْ عمل بها مِنْ بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء». ومعنى هذا أنه لا يضيع من عمل العاملِ شيء، بل كل عمل عمله فهو مُحصً له، كما قال تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء [آل عمران: 30].
وقال تعالى: ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا، وكما قال تعالى في الحديث القدسيّ: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللَّه، ومَنْ وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه».وقوله تعالى: بل الإنسان على نفسه بصيرة (14) ولو ألقى معاذيره يعني أنه شاهدٌ على نفسه، عالمٌ بما فَعَلَه، ولو اعتذر وأنكر، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: ضَحِكَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم أو تبسم، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا تسألوني عن أيٍّ شيء ضحكتُ ؟». قالوا: يا رسول اللَّه، مِنْ أيِّ شيءٍ ضحكت ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «عجبتُ من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: أي ربّ، أليس وعَدْتَني أن لا تَظْلِمَني ؟ قال: بلى. فيقول: فإني لا أقبلُ عليّ شاهدًا إلا مِنْ نفسي، فيقولُ اللَّه تبارك وتعالى: أَوَلَيْسَ كفى بي شهيدًا وبالملائكة الكرامِ الكاتبين ؟ قال: ويردد هذا الكلام مرارًا، قال: فيختم على فيه وتتكلم أركانه
بما كان يعمل. فيقول: بعدًا لكنّ وسُحقًا، عنكنّ كنتُ أجادل».
قال تعالى: ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون (19) حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (20) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (21) وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون (22) وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [فصلت: 10- 23].
وحينئذٍ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا [النساء:42]، والشاهد أنه كان يجادل عن نفسه ويناضل عنها وهو يعلمُ حقيقة أمرها، حتى إذا شهدت عليه جوارحه أقرّ واعترف، وصدق اللَّه: بل الإنسان على نفسه بصيرة (14) ولو ألقى معاذيره.وللحديث بقية بإذن اللَّه تعالى.(/2)
تقديم الأكمل
نحمدك اللهم على ما آتيتنا من النعم، ونشكرك يا من خلقتنا وأوجدتنا من عدم، ونصلي ونسلم على عبدك ورسولك محمد النبي الأكرم، وعلى آله وصحبه ومَن سار على طريق الحق والتزم.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ من مسائل الإمامةِ في الصَّلاةِ مسألةَ تقديم الأكملِ من حيث صفة الحرية والعبودية والحضر والبداوة وغيرها، فهل يقدم الحرُّ على العبدِ، والحضريُّ على البدويِّ ونحوهم، أم أنَّ الاعتبار بالأقرأ والأعلم وغير ذلك من الصفات؟ هذه المسائلُ تكلَّم فيها الفقهاءُ:
تقديمُ الحرِّ على العبدِ:
أصحاب المذاهب الأربعة على أنه إذا اجتمع حر وعبد فإن الحر أولى بالإمامة..
قال السرخسي: (وأما العبد فجواز إمامته؛ لحديث أبي سعيد مولى أبي أسيد قال: عرست وأنا عبد فدعوت رهطاً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم أبو ذر، فحضرت الصلاة فقدموني فصليت بهم، وغيره أولى؛ لأن الناس قلما يرغبون في الاقتداء بالعبد، والجهل عليهم أغلب؛ لاشتغالهم بخدمة المولى عن تعلم الأحكام، والتقوى فيهم نادرة).1
وقال الخرشي: (وأن الحر يقدم ندباً على ذي الرق).2
وقال أبو إسحاق الشيرازي: (وإن اجتمع حر وعبد فالحر أولى؛ لأنه موضع كمال، والحر أكمل).3
وقال ابن قدامة: (ويقدم الحر على العبد؛ لأنه من أهل المناصب).4
ويتضحَ ممَّا سبق ذكرُهُ أنَّ الحُرَّ يُقدَّمُ على العبدِ في إمامَةِ الصَّلاةِ لعدة أمور:
1. لأن الناس قلما يرغبون في الصلاة خلف العبد.
2. لأنه يغلب عليهم الجهل لانشغالهم بالخدمة.
3. لأن الإمامة موضع كمال، والحر أكمل من العبد.
لكن إذا كان العبد أتقى وأعلم من الحر فهو المقدم، وهو رواية عن الإمام أحمد ذكرها صاحب المبدع عنه5، وقد قيَّد الأفضلية صاحب كتاب (المحيط) ابن مازه الحنفي وغيره، كما ذكر ذلك عنه ابن نجيم في البحر الرائق6، فقالوا بتقديم العبد إذا كان أفضل وأعلم من الحر..
تقديمُ الحاضرِ عَلَى البادِي:
الحاضر هو من سكن المدن والقرى، والبادي هو البدوي وهو من سكن البادية عربياً كان أو أعجمياً. وقد نصَّ الحنفيةُ والحنابلةُ على تقديم الحاضر على البادي، وإليك بعض نصوصهم، قال السرخسي: (وأما جواز إمامة الأعرابي فإن الله-تعالى- أثنى على بعض الأعراب بقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} سورة التوبة:99، وغيره أولى؛ لأن الجهل عليهم غالب، والتقوى فيهم نادرة، وقد ذمَّ اللهُ -تعالى-بعض الأعراب بقوله:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } سورة التوبة:97.7
وقال ابن نجيم: (وأما الكراهة فمبنية على قلة رغبة الناس في الاقتداء بهؤلاء، فيؤدي إلى تقليل الجماعة المطلوب تكثيرها للأجر.. والغالب على الأعراب الجهل.. وعلى قياس هذا إذا كان الأعرابي أفضل الحاضرين كان أولى).8
والسبب في تقديم الحاضر على البادي في الإمامة كما ذكر بعض الفقهاء هو:
أن الجهل على سكان البادية أغلب، والتقوى فيهم نادرة، وقلة رغبة الناس في الاقتداء بالبدو؛ فيسبب تقليل الجماعة المطلوب تكثيرها، ولأن الحضري أجدر بمعرفة حدود الله وأحرى بإصابة الحق، ولأن الأغلب على أهل البادية الجفاء.9
والخلاصة أن الأكمل في الإمامة- وليس على وجه الوجوب أو الاستحباب- أن يقدم الحر على العبد، والحضري على البدوي؛لما ذُكِرَ من الأسباب..
ولكن لابد أن يُعلَم أنَّ العبد والبدوي إذا كانا أفضل الموجودين علماً وتقوى وأكثر تلاوة فإنهما يُقدَّمان، والعلم عند الله -تعالى-، وهذا ما اختاره ابن نجيم في البدوي كما قدمنا ذكر كلامه.
وكذلك ما جاء في رواية الإمام أحمد وصاحب كتاب المحيط الحنفي المتقدم ذكره، من أن العبد إذا كان أفضل الموجودين وأعلمهم فهو المقدَّم في الإمامة.. وهذا القول هو الموافق لحديث النبي-صلى الله عليه وسلم-:(يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعملهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً..) رواه مسلم.وفي رواية(سناً). حيث لم يعتبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا حراً ولا عبداً ولا حاضراً ولا بادياً، بل الأمر كل الأمر في كثرة التلاوة والعمل بالقرآن والعلم بأمور الدين، والهجرة والإسلام.. والله أعلم.
________________________________________
1- المبسوط (1/41).
2- الخرشي على مختصر خليل (2/45).
3- المهذب (1/106).
4- الكافي (1/187).
5- المبدع (2/63).
6- البحر الرائق (1/369).
7- المبسوط (1/41).
8- البحر الرائق (1/369).
9- انظر: أحكام الإمامة والائتمام للمنيف ص191-195.(/1)
تلاوة القرآن
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
حديثنا موصولٌ بالقرآن رأيناه محوراً لحياة أمة الإسلام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام ، ووقفنا متأملين في عظيم قدره ورفيع منزلته وجليل مقامه وعظيم منة الله - عز وجل - علينا به .
ولعلنا نقف وقفات متتابعة عن واجبنا تجاه القرآن ، وكيف نحقق ما نصبو إليه ؟ وما نذكر أنفسنا به من أن شفاء أدوائنا وعلاج أمراضنا كله في العودة إلى الكتاب والسنة ، ولابد من شيءٍ من التأني ومن التروي والتفصيل إلى حدٍ ما في مثل هذه المعاني علّها أن تكون عوناً لنا على صدق عودتنا وعلى صواب منهجنا وعلى كمال صلتنا بكتاب ربنا .
وأول ما نقف عنده : تلاوة القرآن .
إذ هي أول صلة وهي جسر إلى التدبر وطريقٌ إلى فهم المعاني وسبيلٌ إلى معرفة علوم القرآن وهي كذلك مُعينة على التزام الأوامر واجتناب النواهي وما يلحق بذلك من واجبات .
وهذه التلاوة القرآنية نزل بها أمر الله - عز وجل - للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولأمته من بعده لأن الأمر له ولأمته كما جاء في قول الحق عز وجل :
{ إنما أُمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها ووله كل شيء وأُمرت أن أكون من المسلمين* وأن أتلو القرآن } .
أي وأُمرت أن أتلو القرآن قال ابن كثير أي أتلوه على الناس وأُبلغهم إياه والمقصود أن النبي أُمر بتلاوة القرآن لنفسه ولأمته ولتبليغه للناس وبيانه ولتحريك القلوب به وإحياء النفوس به بإذن الله - عز وجل - .
وقد جاء في دعاء إبراهيم : { ربنا وأبعث فيهم رسولٌ منهم يتلو عليهم آياتك } .
وقال جل وعلا : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة } .
فالتلاوة هي الطريق إلى هذا العلم والجسر إلى ذلك الفهم .
وهي الباب الذي يلج منه الإنسان إلى تأثر قلبه وميل نفسه وهداية عقله واستقامة سلوكه بالقرآن الكريم : { وأتلو ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته } .
أمرٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشغل لسانه بتلاوة القرآن وأن يجعله مِلئ الأسماع والآذان حتى يقع به تحريك النفوس والقلوب بإذنه - جل وعلا - وقال سبحانه وتعالى : { وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه } .
وهذا يبيّن أن شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وشأن أهل الإيمان والآية في معنى اطلاع الله - عز وجل - ومعرفته بكل أحوال الإنسان وذكر منها على وجه الخصوص الشأن والحال الذي ينشغل فيه المرء بتلاوة القرآن فهذه تلاوة القرآن أمر الله وهي النفع والفائدة والباب الذي يلج منه إلى كثير من الفوائد والمنافع .
ولنقف مع الأجر ، ولننظر إلى الأثر ، ولنعرف الآداب ، ولنجتنب المحاذير في شأن تلاوة القرآن ، أما الأجر فتأتينا الآيات التي تُهيّج النفوس المؤمنة والقلوب المُحبة المتشوقة إلى مثوبة الله ورضوانه :
{ إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفورٌ شكور } .
وصيغة المضارع كما نعلم أنها صيغة الاستمرار والدوام فألسنتهم دائمة مشغولة بذكر الله وتلاوة القرآن :
{ الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة } .
والقرآن من إقامة الصلاة وهو لبّها في قراءة الفاتحة وما بعدها : { وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور } .
فهو بابٌ عظيم من أبواب المتاجرة مع رب الأرباب وملك الملوك الذي لا تنفذ خزائنه والذي يعطي عطاء ليس له وصف ولا له حد والذي لو أعطى كل سائل مسألته ما نقص من مُلكه شيءٌ إلا كما ينقص المخيط إذا غُمس في ما البحر ثم أُخرج منه .
ويبيّن الحق جل وعلا أن المقبلين عليه بتلاوة كتابه وتدبر آياته أنه - سبحانه وتعالى - يقابله وفاءاً بالأجر منه ومن أوفى من الله - سبحانه وتعالى - وزيادة وإكراماً بالفضل والمزيد من الإحسان منه - سبحانه وتعالى - ومن أكرم منه جل وعلا .
وبيّن الحق - عز وجل - بعد ذلك أنه غفورٌ شكور يغفر لمن غَفَلَ أو سها أو قصّر أو فرّط ويشكر من ذكر وأقبل وتقدم لمرضاة الله سبحانه وتعالى .
وهذه أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي تبيّن لنا عظيم الأجر والمنفعة التي نجنيها بتلاوة القرآن التي قصرّنا قيها وربما مرت بنا أيام وليالٍ لم نقرأ فيها آية ولم ننظر فيه في مصحف ولم نتفرغ فيها لإحياء قلوبنا بهذه الآيات .
هذه عائشة رضي الله عنها تروي عن رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة – أي الذي يحسن التلاوة ويجيدها تصحيحاً وترتيلاً مع السفرة الكرام البررة ، منزلته مع الملائكة الأطهار في منزلة عالية سمواً بإيمانه وارتفاعاً وقرباً لصلته بالله عز وجل ورفعة لمنزلته وتعظيماً لأجره - والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران ) .(/1)
الذي يُعاني مشقة في القراءة فهو لا يُجيدها ولا يُحسنها فليقبل على القراءة ؛ فإن الله عز وجل يُعظم له أجره ويكون له أجر المشقة وأجر التلاوة بإذن الله .
وفي حديث ابن مسعود : ( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشرة أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ) .
فكم نُضيّع عندما نُقصّر في التلاوة من أجور وحسنات مضاعفة إلى أضعاف لا يعلمها إلا الله ؟ وكم في كل آية من حرف ؟ وكم في كل سورة من حرف ؟ وكم في كل جزءٍ من حرف ؟ وكم في القرآن كله من حرف ؟ وكم في الحروف من حسنات ؟ وكم في الحسنات من مضاعفات ؟ وكم في هذا من فضل ونعيمٍ وأجر ومثوبة نحن في أمّس الحاجة إليها فضلاً عن ما يكون وراء ذلك من نفع القلوب والنفوس والعقول والسلوك .
وإذا تأملنا أيضاً ؛ فإننا واجدون في هدي وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً ما يربط بالقراءة في شأنٍ هو عند المرء المؤمن عظيم ٌ وأمر هو عنده من الأمور المهمة وهو أمر الآخرة .
جاء في حديث أبي أمامة عن رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ) .
وفي حديث عبد الله بن عمر عن المصطفى - عليه الصلاة والسلام - أنه قال :
( الصيام والقرآن يشفعان للمسلم ، يقول الصيام أظمأته في الهواجر ويقول القرآن أسهرته في الليالي وكلٌ يطلب الشفاعة فيُشفعان فيه ) والأحاديث كلها من الصحيحة .
وفي حديث أبي هريرة يبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الباب من أعظم الأبواب التي يتنافس فيها المتنافسون ويتطلع إليها المتطلعون المتشوقون إلى الإقبال على الله ، وعلى نيل رضوانه وإلى تحصيل الأجر والثواب فهو عليه الصلاة والسلام يقول : ( لا حسد إلا في اثنتين رجلٌ علمه الله القرآن فهو يتلوه أناء الليل وأناء النهار فقال رجلٌ "أي آخر" لو أن الله أعطاني مثله لفعلت فعله والآخر رجلٌ أتاه الله مال فسلطه على الحق في هلكته ) .
هكذا يبيّن لنا النبي - عليه الصلاة والسلام - أن الأمنيات تتعلق بهذه التلاوة والقراءة والصلة بالقرآن الكريم ، وأن ميدان التنافس والحسد المحمود وهو الغبطة إنما يكون في هذا ولم تكن النفوس تتطلع ولا الأعناق تشرأب إلى الأموال وكثرتها ولا إلى الجاه وعظمته ولا إلى السلطان وقوته وسطوته وإنما إلى القرآن وتلاوته وأجره ومثوبته وفتحه وتأثيره في القلوب والنفوس وهذا الذي ينبغي أن نتنبه له .
وأما الأثر بعد الأجر فما أدراك ما هذا الأثر أثرٌ لا يقتصر على الإنسان المسلم المؤمن بل يتعداه حتى إلى الكافر بل يتجاوز الإنس إلى الجن بل يتجاوز عالم الأحياء إلى عالم الجمادات تأمل ما جاء في كتاب الله لبيان هذه الحقيقة في شأن أهل الكفر قال الله جل وعلا : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } .
قال ابن كثير : " أي إذا تُليّ لا تسمعوه " .
ورُوي عن مجاهد أنه قال :" ألغوا فيه بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق " ، ولماذا كانوا يصنعون ذلك ؟ لماذا كانوا يتبعون النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا قرأ القرآن صفروا وصفقوا وخلطوا أو جاء قائلهم يروي القصص ؟ لأنهم كانوا يخشون الأثر الذي يتوجه إلى القلوب والنفوس فيغيّرها ، ومن هنا كانوا يعرفون أنهم لو تركوا القرآن يُتلى حتى دون تفسير وحتى دون تعريفٍ بالمعاني ؛ فإنه له تأثيره الذي لا يُنكر مطلقاً .
بل قد وقع هذا في هذا العصر بتجارب مخبرية معملية طبية أن القرآن قد وُجد له تأثير في كافر لا يعرف اللغة العربية .. وُجِدَ أنه عند قياس كهربية جسمه واضطرابه وتوتره أنه عند سماع القرآن يحصل له نوع تغير فيه نوع سكينة وهدوء وطمأنينة ، وهو كافر غير مسلم وهو لا يعرف العربية ، وهو لا يعرف ما الذي يُتلى عليه حتى نقول إنه تأثر به .
وهذا الوليد - وهو أحد أعلام الكفر في الجاهلية وأحد صناديد قريش وأحد بلغاء العرب وفصحائهم - عندما تُلي عليه القرآن قال للنبي - عليه الصلاة والسلام - : أعد عليّ ، فأعاد ثم قال : " والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر وإنه يعلو ولا يُعلى عليه وما هذا بقول بشر " .
هكذا شهد الأعداء بأثر تلاوة القرآن ، ومثل الوليد كان يعرف المعاني وكان يُدرك الإعجاز وكان يلمس البيان والبلاغة التي يعرف مدى تأثيرها عند العرب .
وهذا القرآن أيضاً يقص علينا التأثير : { قل أوحي إليّ أنه استمع نفرٌ من الجن فقالوا إنا سمعنا قراءناً عجباً * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نُشرك بربنا أحدا } .
حتى هذا العالم الذي لا نراه من الجن مخلوقات الله قد أقبلت واستمعت وأنصتت وتأثرت وءامنت وأسلمت .(/2)
بل انظر إلى ما هو أعظم من ذلك وأجلى .. { لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } .. { ولو أن قرآناً سُيرت به الجبال أو قُطعت به الأرض أو كُلم به الموتى } والتقدير لكان هذا القرآن هو الذي يُحدث مثل هذا الأثر ، فكيف لا تتأثر به قلوب ءامنت بربها ، وأسلمت لمولاها ، واتبعت رسولها ، ورضيت هذا الإسلام ديناً لها .. كيف لا يحصل هذا الأثر ؟ إننا قد انقطعنا عن التلاوة وانقطعنا عن الأسباب المؤدية لهذا التأثير فكيف حينئذٍ نشكو انعدام الأثر ونحن لم نبدأ بإيجاد المؤثر ؟ الذي يتأمل ينظر إلى هذا فيعرف ما ينبغي أن تكون عليه التلاوة .
وننتقل إلى الأدب وإلى الأداء الذي ينبغي أن يكون في تلاوة القرآن لندرك أننا بهذا نُحصّل بإذن الله - عز وجل - الأجر ويتحقق لنا الأثر .
فأول ذلك : الترتيل
قال عز وجل : { ورتل القرآن ترتيلا } .
وجاء القوم أرتالاً أي بعضهم إثر بعض أي شيئاً فشيئا .
وهذه أم سلمة نعتت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في سنن أبي داود وغيره نعتت قراءته أي وصفتها ، فنعتت قراءة مفسرة حرفاً حرفا .
أي أنه كان يتلو القرآن بتؤدة وتأني وترتيل ، حتى كأنك تسمع كل حرفٍ وحده وتميزه عن غيره.
وهذا أنس كما في البخاري سُئل رضي الله عنه عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال :
( كان يمد مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم) .
فمدها رضي الله عنه وأرضاه ليبيّن كيفية قراءة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
وعندما ننظر أيضاً إلى ما اتفق عليه الشيخان من رواية ابن مسعود أن رجلٌ جاء فقال : قرأت المفصلة في ركعة ، فقال ابن مسعود : هذاً كهذ الشعر - أي سرعة وتتابع من غير ترتيل وحُسن تلاوة - هذاً كهذّ الشعر ، إن أقواماً يقرءون القرآن لا يُجاوز تراقيهم ، ولكن إذا وقع في القلب فيرسخ فيه نفعٌ .
فهذا هو الذي يُقصد به الترتيل يُقصد به التوقير والإجلال للقرآن وحصول فرصة التدبر والتأمل ومن بعد ذلك حصول فرصة التغير والتأثر بهذا القرآن .
ومن هنا قال ابن عباس كما ذكر النووي في التبيان قال : " لئن أقرأ سورة أُرتّل فيها أحب إليّ من أن أقرأ القرآن كله " . أي من غير ترتيل وحُسن تلاوة .
وهذا ابن مسعود يروي عنه الأجوري في آداب حملة القرآن أنه قال : " لا تنثروه نثر الدقل - وهو رديء التمر- ولا تهذوه هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة " .
إذا أردنا الأثر فلابد من اتباع الطريقة الصحيحة .
وأيضاً مع الترتيل التحسين ، وهو تزيين القرآن بالصوت الحسن والحرص على تحسين الصوت وتحسين الأداء مع هذا الترتيل .
قال النووي رحمه الله : " أجمع العلماء من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار أئمة المسلمين على استحباب تحسين الصوت بالقرآن " .
وفي هذا أحاديث كثيرة منها حديث أبي هريرة عند الشيخين عن رسول الله عليه الصلاة والسلام : ( ما أذن الله لشيءٍ ما أذِن لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن يجهر به ) .
وفي حديث النبي - عليه الصلاة والسلام - لأبي موسى الأشعري أنه قال : ( لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود ) .
وثناءه على حُسن صوته دليل على استحبابه وعلى الترغيب فيه ، قال عليه الصلاة والسلام كما في رواية مسلم :
( لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك - جذب حُسن صوت أبي موسى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقف يُنصت ويستمع - فقال أبو موسى : أما لو علمت أنك تسمعني لحبّرته لك تحبيراً ) . أي لبالغت في تحسينه وتجويده وتزيينه .
وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البراء عند الإمام أحمد وابن حبان والحاكم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( زيّنوا القرآن بأصواتكم ) .
مع التحرّز مما ليس مشروعاً من التغني الذي يخرج عن حد التلاوة وآدابها وضوابطها وقواعدها وغير ذلك .
ومع الترتيل والتحسين يأتي التحزين ، وهو من الأمور المهمة التي تتحرك بها القلوب وتتهيّج بها النفوس ، وفي هذا يأتينا تذكيرٌ بقول الله عز وجل : { ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا } .
ورُوي عن أبي صالح أن قوماً من أهل اليمن قدموا على أبي بكر في خلافته فجعلوا يقرئوا القرآن ويبكون فقال أبو بكر : " هكذا كنا " .
وهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يُخبرنا عن ذلك ، ويبيّن علي رضي الله عنه تغير الناس في ذلك في روايات كثيرة وأحداث عديدة .
وقال الغزالي فيما نقله النووي عنه البكاء مستحب مع القراءة وعندها وطريقته في تحصيل ذلك أن يُحضر في قلبه الحزن لئن يتأمل ما فيه من الوعد والوعيد والتهديد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في ذلك ؛ فإن لم يحضره حزن وبكاء فليبكي على فقد ذلك فإنه من أعظم المصائب .(/3)
وقال الأجوري - رحمه الله - أحب لمن يقرأ القرآن أن يتحزن ويتباكى ويُخشع قلبه ، ويتفكر في الوعد والوعيد ليستجلب بذلك الحزن ألم تسمع إلى ما نعت الله به - عز وجل - من هو بهذه الصفة وأخبرنا بفضلهم بقوله : { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } .
ثم ذمّ قوم استمعوا القرآن فلم تخشع له قلوبهم فقال جل وعلا :
{ أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون } .
ثم يبيّن الحق - جل وعلا - لنا أن هذه التلاوة بهذه الآداب ينبغي مراعاتها فذكر في سياق مدح بعض أهل الكتاب ممن ءامنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو قادهم ارتباطهم الصحيح بكتابهم إلى الإيمان بالنبي وبالإسلام قال : { الذين أتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته } .
وقد قال بعض المفسرين : إن المراد بهذا هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومرادنا ما معنى حق تلاوته ما معنى أن يُتلى حق تلاوته .
قال ابن كثير في تفسيره عن ابن مسعود ، والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يُحل حلاله ويُحرم حرامه ويقرأه كما أُنزل ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأول شيئاً منه على غير تأويله .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : { يتلونه حق تلاوته يتبعونه حق اتباعه } .
وجعل التلاوة من الاتباع كما في قوله جل وعلا : { والقمر إذا تلاها } ، أي إذا تبعها .
ولابد أن ندرك أننا محتاجون إلى الارتباط بالقرآن تلاوة وترتيلاً ، وأن ذلك ولو كان قليلاً ؛ فإن القليل فيه خيرٌ كثير ، وأجرٌ كبير ونفعٌ عميم وقد ورد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه عبدالله بن عمر أنه قال : ( من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كُتب من القانتين ومن قام بألف آية كُتب المقنطيين ) رواه أبي داود في سننه بسندٍ حسن .
والله نسأل أن يردنا إلى دينه رداً جميلا وأن يجعلنا ممن يتلون القرآن حق تلاوته ويحيون به قلوبهم.
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أول واجباتنا في تجاه كتاب ربنا هو أن نقبل عليه ونتلوه ونقرأه ، ولعلنا نقف وقفة أخيرة مع التقصير والانحراف في هذا الجانب .
فأما التقصير فمشهود معروف في الانقطاع عن التلاوة وعدم الختم الذي روى النووي فيه ما كان عليه السلف فذكر أن أكثره ختم القرآن في شهرين وذكر في أقله ختمه في يوم وليلة وعدّد من كان بعض من رُوي أنه كان يختم في يوم وليلة بل عدّد وذكر بعض من رُوي أنه قد ختم في قراءته وصلاته .
والنبي - عليه الصلاة والسلام - ردّ عبد الله بن عمرو إلى ثلاثة أيام وفي رواية إلى خمسة وعلى كل حال التقصير في هذا بيّن .
وأما الانحراف فقد وقع أيضاً في مجتمعات المسلمين فصارت التلاوة للتنغيم والتطريب وصارت القراءة للاستحسان الأصوات أو للمنافسة أو لابتغاء الدنيا أو لغير ذلك من أغراض لا يتحقق بها الصلة ، ولا يقع بها التأثير وربما لا يُكتب لأصحابها الأجر فقد ورد في حديث عبد الرحمن بن شبل الذي رواه الإمام أحمد والطبراني بسندٍ صحيح عن المصطفى عليه الصلاة والسلام : ( اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه ) .
فهذه المحذورات وهذا الذي صار يتكسب به وأحياناً يُحرف القرآن في تلاوته ليوافق أهواء من يوافق من أهواء البشر تزلفاً وتملقاً ونفاقاً وغير ذلك مما قد نراه .
وفي حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( اقرءوا القرآن من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القِدح يتعجلونه ولا يتأجلونه ) .
قال أهل العلم في تفسير وشرح ذلك : يتعجلونه أي يتعجلون الأجر والمثوبة له من أهل الدنيا لطلب المال والجاه والتزلف والتقرب ولا يتأجلونه إخلاصاً لله وابتغاء لمرضاته .
وفي حديث عمران الذي رواه الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : ( سيجيء أقوام يسألون بالقرآن - أي يجعلونه وسيلة للتكسب والسؤال وأما تعليم القرآن فقد جوّز أهل العلم أخذ الأجرة على تعليمه بشرائط وضوابط واضحة معروفة أما السؤال والتسول به فقد جاء في هذا الحديث - سيجيء أقوامٌ يسألون بالقرآن فمن سأل بالقرآن فلا تعطوه ) .
وهذا فاروق الأمة - رضي الله عنه - عمر يقول : " لقد أتى علينا حينٌ وما نرى أن أحدٌ يتعلم القرآن يريد به إلا الله فلما كان هاهنا أي في عهد عمر " . يصف التغير من عهد النبي إلى عهده فيقول فلما كان هاهنا بأخرة خشيت أن رجالاً يتعلمونه يريدون به الناس وما عندهم فأريدوا الله بقرآنكم وأعمالك .
فنسأل الله - عز وجل - أن يُعيذنا من هذا الظلام والزيغ ، ونسأله - عز وجل - أن يجعل قلوبنا مقبلة على كتابه تدبراً وتأملاً وتغيراً وتأثرا ونسأله - عز وجل - أن يشغل ألسنتنا بذكره وتلاوة كتابه .(/4)
... ... ...
تمكين ذي القرنين .. الحدث والعبرة ... ... ...
سليمان حمدالعودة ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- التمكين في الأرض مطلب للأقوياء والملوك وغيرهم 2- التمكين من غير إيمان يعني متعة وشهوات قد تنقلب في الدنيا قبل الآخرة إلى حسرات و نكبات 3- ذو القرنين ملك عادل توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في نبوته 4- مسير ذي القرنين إلى مشرق الدنيا ومغربها 5- عدل ذي القرنين في الأمم التي ملكه الله أمرها 6- بناء ذي القرنين للسد مع عدم أخذ الأجرة عليه ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أيها الأخوة المسلمون: وحيث سبق الحديث عن التوكل وآثاره، وعن صنف من غير المتوكلين وسلوكياتهم، فقد آن الأوان لعرض نموذج من المتوكلين على الله، أولئك الذين فهموا حقيقة التوكل على الله، وما عطلوا الأخذ بالأسباب المأذون بها شرعا، فأورثهم ذلك استقامة على الهدى وتمكينا في الأرض، ورضى الخالق، ومحبة الخلق، دون علو واستكبار، ودون ضعف ومسكنة واستجداء الآخرين، أو تعلق وركون إلى الكافرين.
تلك وربي هي حقيقة التمكين التي تستحق الإشادة والذكر، وسواها من أنواع الغلبة والرئاسة لا تعدو أن تكون تسلطا على رقاب الناس، وتحكما في مصالح الخلق ومعاشهم، وحجرا أبلها على أفكارهم ومعتقداتهم، لا تلبث أن تزول لأنها لا تملك مقومات الثبات، ولا تستخدم أسلوب الإقناع، أو تسمع للدليل، بل تقيس الأمور بمقياس السادة والعبيد!
هذا التمكين في الأرض مطلب يبحث عنه السادة والزعماء، ويظل يلهث في بيداء سرابه المغرمون بالكراسي، فتنقطع أنفاس الكثيرين منهم دون أن يحققوه، لأنه منحة إلهية ذات مواصفات وشروط معينة لا يهبها الله إلا من شاء من خلقه.
وغاية ما يمكن أن يحققه الكثير منهم رغد العيش له ولمن حوله، والاستمتاع بشهوات الدنيا فترة من الزمن، وربما فاجأته الأقدار فتكدر صفو العيش، وتحولت المسرات إلى أحزان، واقتيد الملوك الأباطرة، وأصبحوا في عداد العبيد المأسورين، وتضاءل الملك العريض من حوله، وكان نصيبه من الدنيا ملجأ ضيقا يستتر به إن لم يكن حظه سجنا مظلما يغيب فيه.
وإذا كان هذا جزاء وفاقا لمن تنكبوا عن صراط الله المستقيم، ونحوا شرع الله عن أرضه وخلقه، وغرتهم الحياة الدنيا، وغرهم بالله الغرور، فتعالوا بنا لنقف على صورة أخرى من التمكين رضي الله عنها، وخلد القرآن ذكرها.
وكان ذو القرنين نموذجا لها : إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً [الكهف:84-85].
وذو القرنين من عباد الله الصالحين، ونتوقف في نبوته، كما توقف النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال: ((وما أدرى أتبع نبي أم لا؟ وما أدري ذا القرنين كان نبيا أم لا(2)))
لقد أعطاه الله ملكا عظيما فيه من أدوات التمكين والجنود مما لم يؤتاه الملوك، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم من العرب والعجم، وطاف الأرض كلها حتى بلغ قرني الشمس، مشرقها ومغربها، ولهذا سمى بذي القرنين.
وليس يتم التمكين إلا بالعلم الذي يصون الملك عن أسباب التفكك والانهيار، ويمنع الملوك من التكبر والظلم الذي يجعل مصيرهم الدمار والهلاك، وبهذا فسر ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدى وقتادة والضحاك قوله تعالى: وآتيناه من كل شيء سبباً يعني علما(3).
أجل، إن ذا القرنين مع توكله على الله، لم يتواكل ويغفل الأسباب المؤدية إلى تمكينه في الأرض، بل استخدم ما منحه الله من علم في سبيل تعريف الخلق بالخالق، وتحطيم قوى الشرك وإذلال المشركين، وتحقيق العبودية لله رب العالمين، مما هو في مكانة أمثاله من ملوك الأرض، ولم يصنع شيئا يستحيل أن يصنعه البشر، وما ينسج عنه في ذلك من الإسرائيليات والقدرات الخارقة للعادة، لا تستقيم مع النقد، ولهذا أنكر معاوية، رضي الله عنه، على كعب الأحبار، في حوار لطيف، حين قال له: أنت تقول أن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب: إن كنت قلت ذاك فإن الله تعالى قال: وآتيناه من كل شيء سبباً .
ثم علق ابن كثير على هذه المحاورة بقوله: وهذا الذي أنكره معاوية، رضي الله عنه على كعب الأحبار هو الصواب، والحق مع معاوية في الإنكار(4).
إخوة الإيمان: وحتى تعلموا طرفا من علم ذي القرنين وعدله ودستوره وسياسته في الملك في البلاد التى افتتحها في معنى قوله تعالى: حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في حين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً [الكهف:86-88].(/1)
قال أهل التفسير: إنه سلك طريقا حتى بلغ إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، حتى أبصر الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط في عين حمئة، قيل: ماء وطين أسود، وقيل: إنها حارة لمواجهتها وهج الشمس عند غروبها، وملاقاتها الشعاع بلا حائل، وبه جمع العلماء بين مختلف الأقوال في العين الحمئة(2).
المهم أنه بلغ أمة من الأمم ، ذكر أنها كانت عظيمة من بنى آدم، وحين مكنه الله منهم، وحكمه فيهم، وأظفرهم بهم خيره، إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منّ أو فدى، فعرف عدله وإيمانه حين قال: أما من ظلم أي استمر على كفره وشركه بربه فسوف نعذبه أي في الدنيا بنوع من العذاب ، ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً أي في الآخرة، وفيه إثبات المعاد والجزاء فله جزاءً الحسنى في الدار الآخرة عند الله عز وجل وسنقول له من أمرنا يسراً أي قولا معروفا.
وهذه غاية العدل، وقمة العلم، وعلامة الهدى ودليل التمكين في الأرض دون جهل أو استعلاء، وتلك تجربة خاضها ذو القرنين، فما أفشى القتل جزافا، ولا استخدم البطش تجبرا وتسلطا.
ومن مغرب الأرض إلى مشرقها يصل ذو القرنين، ويمكن الله له في الأرض ويقهر الأمم، ويدعوهم إلى الله فإن هم أطاعوه وإلا أذلهم، وأرغم أنوفهم، واستباح أموالهم، واستخدم من كل أمة ما يستعين به – بعد الله – ومع جيوشه على أهل الإقليم المتاخم لهم، وهكذا جاب الأرض، طولها وعرضها، في مدة قال بنو إسرائيل: إنها بلغت ألفا وستمائة سنة، والله أعلم.
ولما انتهى إلى مطلع الشمس، وجدها تطلع على قوم لم يجعل الله لهم من دونها سترا، قيل: المعنى أنهم كانوا يسكنون سهولا شاسعة، ولا يوجد عندهم جبال تحجب عنهم الشمس، وقيل كانوا لا يملكون بيوتا أو أبنية تمنع عنهم أشعة الشمس وحرها، وقيل: ما كانوا يملكون شيئا يغطون به أجسادهم، وكانوا عراة فإذا أشرقت أصابتهم بأشعتها (1).
وإذا كان القرآن لم يقص علينا من أخباره معهم كما قص في أخبار من كانت الشمس تغرب عندهم، فلا شك أن المعاملة بالعدل والحسنى، والدعوة إلى الإيمان والهدى، منهج داوم عليه ذو القرنين في كل الممالك التى مر بها والقرى، استوجبت ذكره في القرآن، ورضي عنه الرحمن، وكان بذلك نموذجا صالحا للممكنين في الأرض ..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:41].
اللهم انفعنا بالقرآن، واملأ قلوبنا بالإيمان، ولا تجعلنا من أهل الشقوة والخسران.
(2) رواه الحاكم والبيهقي ، وصححه الألباني ( صحيح الجامع الصغير 5 / 121 ) .
(3) تفسير ابن كثير 5 / 185 ، 186 .
(4) تفسير ابن كثير 5 / 186 .
(2) تفسير ابن كثير 5 / 188 .
(1) مع قصص السابقين في القرآن / صلاح الخالدى / 333 . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله رب العالمين، مالك الملك يؤتى الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء بيده الخير، وهو على كل شىء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الخلق خلقه، والأمر أمره، وإليه المرجع والمآل وحده، كل شىء هالك إلا وجهه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أوحى إليه ربه، وعلمه ما لم يكن يعلم، وتلك من دلائل نبوته، وصدق رسالته.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعل آله وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين ... وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد إخوة الإسلام، فلم يكن تطواف ذي القرنين ينتهي عند حدود مغرب الأرض ومشرقها، بل هيأ الله له من الوسائل والإمكانيات، ما بلغه شمالها، وهناك وجد أمة لا يكادون يفقهون قولا: وذلك لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس(1).
وهى أمة عاجزة عن الدفاع عن نفسها، واتكالية ترغب من الآخرين حل مشكلتها، ولذلك قالوا لذي القرنين: فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً [الكهف:94](3)
وهذه الأمة تجاورها أمتان كثير عددها، ويستفحل خطرها، وتعيث فسادا فيما حولها، إنهما يأجوج ومأجوج الذين قال الله في وصفهم: وهم من كل حدب ينسلون [الأنبياء:96].
هما أمتان من سلالة آدم عليه السلام، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه، وهما المكثرتان لبعث النار، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: ابعث بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها فيقال: إن فيكم أمتين، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه، يأجوج ومأجوج(5))).
لقد كان من رحمة الله لهذه الأمة أن وصلها ذو القرنين، وكان بناؤه السد برهانا آخر على تمكينه في الأرض، فكيف وقع ذلك كله؟(/2)
لقد بلغ ذو القرنين بين السدين، وهما جبلان متقابلان، بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على تلك البلاد، فيعيثون فيها فسادا، ويهلكون الحرث والنسل، ويقال إن هذه المنطقة الواقعة جنوبي جبال القوقاز، وهى المسماة الآن بأرمينيا وجورجيا وأذربيجان – والله أعلم (1).
فطلب القوم الذين يسكنون فيها من ذي القرنين أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدا، ويعطوه من المال ما يعينه على هذه المهمة ... ولكن ذا القرنين، بعلمه وتمكين الله له، رد عليهم بقوله ما مكني فيه ربى خير يعنى: ما أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعون، وكذلك قال سليمان – عليه السلام - حين جاءته هدايا وأموال (بلقيس) صاحبة سبأ أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون [النمل :36].
وكذلك تلتقي كلمات الصالحين مع كلمات الأنبياء والمرسلين، عليهم السلام، وكلها الثقة بالله، والتوكل عليه وحده، والاستغناء بما عنده، وكذلك يظهر لك توكل ذي القرنين، واعتماده أساسا على الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه [الطلاق:3].
ثم شرع ذو القرنين في بناء السد، وكان عملا جبارا، وتخطيطا رائعا، فهو أولا يطلب من هذه الأمة المشاركة بمجهودها العضلي، وما تملكه من آلات البناء، ثم يطلب قطع الحديد حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولا وعرضا قال: انفخوا: أي أججوا عليه النار، ولك أن تتخيل حجم وضخامة هذه النار التى يلزمها صهر هذه الأطنان من الحديد في هذا الممر الشاهق الارتفاع.
ولما كانت هذه المجموعة مشغولة بجمع قطع الحديد وصهرها، فهناك مجموعة أخرى تجمع النحاس، وتذيبه في القدور.
فلما تم صهر الحديد في الممر، وتم صهر النحاس في القدور – أو في أي مكان آخر – جاءت المرحلة الأخيرة من مراحل بناء السد قال آتوني أفرغ عليه قطراً والقطر كما قال ابن عباس وغيره: النحاس المذاب، فأمرهم بصب النحاس المصهور المذاب على الحديد المصهور المذاب فتخلل النحاس وسط الحديد واختلطا وصارا معدنا واحدا قويا متينا ثم تركا حتى جمدا، فصار سدا منيعا عجيبا مدهشا.
وإذا أردت أن تعلم مرة أخرى علم ذي القرنين، وتدرك حجم تمكينه في الأرض، وتفقه معنى قوله تعالى إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً فاقرأ كتابا متخصصا في الصناعة الحديثة، وقف على ما انتهى إليه عالم اليوم بمصانعه الضخمة، وآلياته الجبارة، المتقدمة، وستدرك أن ذا القرنين، بما علمه الله سبق هذه الصناعة بقرون، وعلمه الله ما لم يعلمه غيره إلا بعد آلاف السنين.
يقول سيد قطب – رحمه الله – (وقد استخدمت هذه الطريقة حديثا في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إلى الحديد تضاعف مقاومته وصلابته، وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين وسجله في كتابه الخالد سبقا للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله (1)).
وهكذا إخوة الإيمان، ينبغي أن تكون دعائم التمكين في الأرض توكلا على الله، ينفي الاعتماد على غيره، أو الاستعانة بما سواه.
قوة وتخطيط تأخذ بكل أسباب القوة الممكنة شرعا عقلا، فلا تدع مجالا للتواكل والتراخي، وإضاعة الفرص، وهدر الطاقات سدى.
وسياسة حازمة عادلة مع خلق الله، تسوسهم بشرع الله، تكافئ المحسن وتفرق بين المؤمنين والكافرين، وتكرم العلماء والصلحاء، وتأخذ على أيدي الفسقة والسفهاء، وتأطرهم على الحق أطرا.
إن الأرض أرض الله، وإن الخلق خلقه، والسموات مطويات بيمينه، وتعسا لمن يحارب الله وهو الذي أوجده ومكنه، ولن يفلح قوم نصبوا العداوة لشرعه، وعادوا أولياءه، وما أنكد عيش من كان همه صرف الناس عن العبودية الحقة لله، ومهما طال ليل الظالمين فالعاقبة في النهاية للمتقين، ولا يقدر التمكين حق قدره إلا المؤمنون، فبالحق يحكمون، وبالعدل يسوسون، ولا تغتر بالمستكبرين، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون.
(1) ابن كثير 5 / 192 .
(3) الخالدي ، مع قصص السابقين / 338 .
(5) انظر صحيح البخاري مع الفتح 8 / 441 في تفسير سورة الحج ، وصحيح مسلم في كتاب الإيمان ، باب بعث النار .
(1) الخالدي / 337 .
(1) في ظلال القرآن 4 / 2293 . ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
?تموت الحُرّة ولا تأكل بثدييها
التاريخ: 27 نيسان - أبريل 2006
? الشيخ كمال خطيب - نائب رئيس الحركة الإسلامية
إننا نعرف تماما ونعلم جيدا أن أغلب - إن لم تكن كل - الأنظمة العربية لا تملك من أمرها شيئا، وأن سيادتها حتى على دولها هي سيادة منقوصة، وتحكمها قرارات السفير الأمريكي في تلك العواصم، أو أن الأوامر والفرمانات تأتيها مباشرة من واشنطن.
وإننا نعلم تماما كذلك أن زعماء تلك الأنظمة إنما هم حجارة شطرنج، تتقاذفها يد اللاعب الأمريكي كيفما يشاء، وينقلها متى يشاء، وبالتالي فإنهم الذين يؤدون الأدوار زمانا ومكانا، وفق مخططات وبرامج وغايات الكابوي الأمريكي، الذي لا يتردد بأن يلهب بكرباجه ظهورهم إن رأى منهم حالة من العناد أو التردد في تنفيذ أوامره.
وإننا نعلم كذلك أن هذه الأنظمة كانت دائما وأبدا تعتبر القضية الفلسطينية حملا ثقيلا وهمّاً أثقل على كواهلها، وكم تمنت أن تتخلص من هذا الهم الذي اسمه القضية الفلسطينية حتى تشرّع وتمهّد لها السبيل نحو اسرائيل، وإقامة العلاقات معها حتى كان الفرج لما علمت هذه الأنظمة بوجود المباحثات السرية بين الفلسطينيين وبين اسرائيل في أوسلو، وما أعقب ذلك من اتفاقيات بكل نتائجها المأساوية على الشعب الفلسطيني، سواء كان ذلك فيما يخص الحدود أو القدس أو حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، أقول أنّه الفرج وإزاحة الهم وإنزال الحمل الثقيل، والذي كان بمبادرة وقرار فلسطيني، حتى لا يكون مجال لتوجيه اللوم للعرب بأنهم هم الذين قصّروا في الدفاع عن القضية الفلسطينية.
وفي الوقت الذي كانت فيه الدبابات الإسرائيلية ليس فقط تدوس أوراق اتفاقية أوسلو وتمزقها، بل إنها كانت تحرث بيوت مخيم جنين وتسويها بالأرض، في نفس تلك الأيام عقدت القمة العربية في بيروت، والتي انحصرت نتائجها في إطلاق مبادرة شهيرة عرفت بإسم (المبادرة العربية)، والتي تمثلت بدعوة اسرائيل للإعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، مقابل وعد بإعتراف كل الدول العربية بإسرائيل، وحتى هذه المبادرة قامت اسرائيل بالبصق في وجوه أصحابها، لما قامت بمحاصرة الرئيس الفلسطيني، وإهانته وإذلاله وتدمير طائراته، وتدمير المقر الذي كان يقيم فيه، حتى قضى - رحمه الله - بالمرض المفاجئ ، بل ولعله بالسمّ.
واليوم وبعد إذ جرت الإنتخابات الفلسطينية مطلع هذا العام وأسفرت عن فوز حركة حماس بأكثرية مقاعد المجلس التشريعي، ولقد قادها ذلك الفوز لتشكيل الحكومة الفلسطينية، التي وقف على رأسها الأستاذ اسماعيل هنية.
هذا الخيار الديمقراطي الفلسطيني لم يعجب أمريكا، التي تزعم أنها تقود الجيوش وتعلن الحروب من أجل إرساء الديمقراطية، وطبعا فإنه كذلك لم يعجب اسرائيل، ولعل هذا يكون مفهوما، فإسرائيل وأمريكا هما العدوتان اللدودتان للشعب الفلسطيني وحقوقه، ولكن ما لم يكن مفهوما أن الحصار الذي فرضته أمريكا واسرائيل وحلفاؤها على الشعب الفلسطيني ومحاولة تجويعه وإذلاله، وأن المقاطعة التي دعت أمريكا واسرائيل لفرضها ضد الحكومة الفلسطينية الجديدة بقيادة حماس، قد تمت الإستجابة لها من قبل حكومات وأنظمة عربية، كانت وما تزال تعتبر القضية الفلسطينية هما كبيرا وحملا ثقيلا، ولعلنا قلنا قبل أسابيع بأن خوف هذه الأنظمة من فوز حماس لا يقل عن خوف اسرائيل وأمريكا، نظرا لكون فوز حماس يشكل عدوى عند الشعوب العربية، إن هي أعطيت وبحق ممارسة الخيار الإنتخابي الديمقراطي، والذي سميته يومها بإسم (انفلونزا حماس).
إن هذه الأنظمة التي تسير اليوم في فلك اسرائيل وأمريكا، وحتى لو لم تعلن ذلك، فإنها في الحقيقة تمارس سياسة الحصار والتجويع والتضييق على الشعب الفلسطيني وعلى حكومته الشرعية، تمشيا مع القرارات والسياسة التي انتهجتها اسرائيل وأمريكا.
صحيح أنه وخلال المئة سنة الأخيرة كانت الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية مثل الخاتم في الإصبع البريطانية والإسرائيلية والأمريكية، حتى بات وكأنه من المفروغ منه والمُسلّم به أن لا تقول لا لأولئك الظلمة والمستبدين مع أنها الدول التي تملك الجيوش والأموال والأرصدة، فأن تأتي حركة تحرير مثل حركة حماس وفي ظروف الإحتلال، ورغم كل أصناف المعاناة وقلة الحيلة، وضعف الإمكانات وانعدام الموارد، وبعد إذ حظيت بثقة أبناء الشعب الفلسطيني، وإذا بها تقول لا للقرار الأمريكي، ولا للهيمنة الإسرائيلية، فإنما هو الأمر الشاذ عن القاعدة، نعم، إن القاعدة أن يسير الكل في التلم الأمريكي، وأن يلهثوا خلفها في قافلة العبيد والشاذ هو الخروج عن تلك القافلة، رفضا لها، وكفرا بها، وتمردا عليها.(/1)
وإن أولئك الذين يسيرون ضمن قافلة الذل الأمريكية من العرب والمسلمين من أصحاب الفخامة والجلالة والسيادة والسمو والمعالي يعتبرون هذا السلوك في سياسة حماس حماقة وانفعالا وبعيدا عن العقلانية والواقعية، وأنهم لا يتقنون الفهلوةالسياسية، ولا يجيدون قراءة الظروف والسطور وما بينها، وبالتالي فإنهم جعلوا أنفسهم أعضاء في جوقة الظلم والقهر الأمريكية والإسرائيلية، وراحوا يطالبون حماس بتنفيذ مطالب اسرائيل وإلا فإنه الحصار والتجويع والتضييق اقتصاديا، وعدم الجلوس معهم ولا استقبالهم للتضييق سياسيا.
لا شك أن طراز حماس هو طراز فريد وشاذ وغير مألوف ضمن أنماط السياسيين والقياديين في العالم العربي والإسلامي في عصرنا، وصحيح أن حماس بموقفها هذا عادت لتفضح من أوشكوا على إقامة الأفراح والليالي الملاح بإنتهاء الكابوس الفلسطيني، الذي نغّص عليهم عيشهم، وباعد بينهم وبين الجيران بني العمومة من تل أبيب.
لقد قالت العرب قديما في المثل المشهور:«تموت الحرة ولا تأكل بثدييها»، أي أن المرأة الشريفة وبنت الأصل تفضّل الموت جوعا على أن تبيع شرفها وتتاجر بعرضها من أجل لقمة الخبز، فما قيمة الحياة إذا كانت ممرغة بالذل والإهانة والعار.
ومع الأسف فإن الكثير من الأنظمة العربية، ومن أجل أن تحافظ على نفسها، وتبقى متسلطة على الحكم في بلادها، فإنها قد أكلت بكرامة شعبها وحقوقه ومقدساته ومقدراته، إنهم أهانوا شعوبهم وأذلوهم، وجعلوا أولئك الأراذل من أقزام هذا الزمان يتطاولون على هذه الأمة ويهينونها في كرامتها وفي هويتها وفي رسولها وفي أرضها وفي عرضها.
فحماس اليوم تخرج عن القاعدة وترفض أن تأكل بثديي الشعب الفلسطيني، لأنه شعب حر وأصيل وشريف، وأنها ترفض أن يستمر مشوار اغتصاب حقوقه والتفريط في ماضيه وحاضره ومستقبله، وانها التي تصر على حقه التاريخي في أرضه وإعادة اللاجئين والسيادة الكاملة على القدس وكَنْسِ الإحتلال بالكامل، وانها التي ترفض المضي في نفس الطريق الذي سلكه من كانوا قبلها ممّن أكلوا ومع الأسف بثديي الشعب الفلسطيني وقضيته، وامتلأت جيوبهم وأرصدتهم وكروشهم، حتى باتت قصصهم اكثر من ان تحصيها الكتب والمجلدات ، لا بل انهم الذين يجب ان يملأوا افواههم بالماء فهو خير لهم ولكن المؤسف ان منهم من لا يزال يسمح لنفسه بأن يتكلم باسم الشعب الفلسطيني رغم انهم فشلوا في الانتخابات ، لا بل ان الايام تكشف وبحق انهم ينسقون مع اسرائيل وامريكا وبعض الانظمة العربية ويتشاورون في انجع الوسائل للضغط على حماس وحصارها وافشالها ، ولعلهم يتحركون من خلال حكومة ظل اقاموها ظانين بأن الشعب الفلسطيني سيتقبلهم رغم جرائمهم التي ارتكبوها بحقه .
ان هذا الحصار والمقاطعة والتضييق من امريكا واسرائيل وحلفائهم وعبيدهم من العرب والمسلمين ما هو الا محاولة لدفع حماس لان تكون تلك الحرة التي تقبل ان تأكل بثدييها ، ولكن اصرار حماس على تحمل ذلك وخلفها الشعب الفلسطيني البطل الذي رفع شعار ( الحصار ولا العار ) و ( الجوع ولا الركوع ) انما تأكيد على ان الحرة فعلا تفضل الموت على الاكل بالتفريط بالكرامة والعزة والثوابت .
والغريب واللافت ان كل السياسات المعتمدة اليوم والتي تسعى لاذلال العرب عموما والشعب الفلسطيني خصوصا فانها جميعا تتناقض مع تاريخ العرب وما هو معروف عنهم من الاباء والشموخ ورفض الضيم.
والا فما معنى ان الديمقراطية التي اتت بايهود اولمرت لرئاسة الحكومة في اسرائيل هي ديمقراطية محترمة ويستدعى اولمرت في نفس يوم انتخابه لزيارة امريكا وكذلك لزيارة مصر ، بينما نفس الديمقراطية التي اتت باسماعيل هنية لرئاسة الحكومة الفلسطينية هي غير محترمة وغير منطقية ، وفي نفس يوم اعلان الحكومة الفلسطينية يعلن البيت الابيض عن مقاطعتها وترفض مصر لقاء وزير خارجيتها في لقاء رسمي مع وزير الخارجية الفلسطيني محمود الزهار ، وكذلك فعلت الاردن ، ان هذا كله يراد من خلاله الضغط على حماس وحكومتها من اجل الاستجداء والاستخذاء.
ويروى ان علامة العرب الاصمعي قد شك في لفظ استخذى ( اي خَضَعَ ) وأحب ان يتثبت اهي مهموزة ام غير مهموزة فقال لاعرابي : اتقول استخذيت أم استخذأت ؟ فقال الاعرابي: لا اقولها ، فقال له الاصمعي: ولم ؟! فقال الاعرابي : لأن العرب لا تستخذي ( اي لا تخضع ) .(/2)
رحم الله ذلك الاعرابي ! لقد أبى الاستخذاء كلمة ، فكيف لو رأى العرب اليوم يقبلونها حقيقة في كل نواحي حياتهم ، لا بل انهم الذين ما عادوا يطيقون وجود من لا يستخذي بينهم وكأنهم ارادوا للكل ان يمشوا في قافلة العبيد والاستخذاء والذل والهوان ، بل ماذا سيقول الاعرابي صاحب الاصمعي لو رأى العرب يفرضون الحصار والتجويع والحرمان على الشعب الفلسطيني لانه يرفض ان يستخذي وان يخضع للصوص هذا الزمان واقزامه من الذين ضحكت لهم الدنيا ، فكانت لهم الصولة والجولة والغلبة ، واذا بهم يريدون ان يجعلوا الدنيا كلها تسبح بحمدهم وتتنازل عن حقوقها وعن كرامتها رهبة وخوفا من بطشهم وظلمهم .
إني تذكرت والذكرى مؤرقة
مجدا تليدا بأيدينا أضعناه
أنّى اتجهت الى الاسلام في بلد
تجده كالطير مقصوصا جناحاهُ
ويح العروبة كان الكون مسرحها
فأصبحت تتوارى في زواياه
كم صرفتنا يد كُنا نُصرفها
وبات يملكنا شعب ملكناه
ليس فقط ان العرب وانظمتهم في زماننا لم يكونوا جادين ولو مرة واحدة باسترداد الحق الفلسطيني الضائع والحمى المستباح ، بل انهم اليوم يمارسون كافة اصناف التخذيل والتضييق على من يفكر مجرد تفكير للتأكيد على ذلك الحق وعدم نسيانه ، انهم بهذا التصرف وهذا السلوك المستهجن يقضون مضاجع عمر بن الخطاب وخالد وطارق وصلاح الدين والظاهر بيبرس ممن علموا الدنيا كلها كيف تكون العزة وكيف يعاقب المتطاولون المعتدون لا ان يكافئوهم .
لا بل ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتململ في قبره من قبيح صنع هؤلاء ومن عباءة الذل التي البسوها أمتهم وشعوبهم.
لو أسمعوا عمر الفاروق نسبتهم
واخبروه الرزايا انكر النسبا
ابواب اجدادنا منحوتة ذهبا
فها هياكلنا قد اصبحت خشبا
من زمزم قد سقينا الناس قاطبة
وجيلنا اليوم من اعدائنا شربا
وليس انهم فقط اقضوا مضجع عمر بن الخطاب من رضاهم بالذل وركوبهم مركب العار وسيرهم في قافلة العبيد الامريكية وهم يشتركون في جريمة التضييق على الشعب الفلسطيني وحكومته لابتزاز مواقف لصالح اسرائيل ، بل ان الشاعر العربي الجاهلي امرؤ القيس كذلك يتأذى من اخبارهم وسوء صنيعهم ، وهو الذي عرف عنه الانشغال باللهو والصيد والخمر والنساء ، فما صحا من سكرته تلك ولا قام من كبوته الا وقد ضاع ملك ابيه ، فقام يحاول استرداد ذلك الملك المسلوب وقال جملته المشهورة ( اليوم خمر وغدا أمر ) واتجه صوب بلاد الروم يبحث عن حلفاء يساعدونه في استرداد ملك ابيه المسلوب ، حتى ان ما اصابه في الطريق من عناء وتعب وهوان وهو ابن النعيم والترف والملك ، قد ابكى خادمه الذي كان معه ، فقال امرؤ القيس في ذلك:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وايقن أنا لاحقان بقيصرا
قلت لا تبكِ عينك إنما
نحاول ملكا او نموت فَنُعذرا
انه الملك او الموت في مفهوم إمرؤ القيس وانه الموت او العذر وانني اربأ بكم يا اصحاب السيادة والفخامة والجلالة ان يكون امرؤ القيس اكثر منكم رجولة وحميمة واذا كان هو قد صحا من سكرته ، فمتى تفعلون انتم ذلك ؟!
نعم ان الواجب يملي عليكم وان الاصالة العربية تحتم عليكم ان تعملوا من اجل استرداد الحق المغصوب ، ولما انكم لم ولن تفعلوا ذلك ، فعلى الاقل من اجل ان تعذروا وعلى الاقل لا تكونوا في خدمة من يريدون حصار وخنق من يحاولون ان يقولوا للدنيا كلها اننا عرب واننا مسلمون واننا فلسطينيون لا نقبل الضيم ولا نرضى بالهوان ، يا هؤلاء لا يكن امرؤ القيس أنبل منكم ، ولا تكن امرأة ضعيفة ولكنها حُرّة وشريفة أغير منكم واطهر !!
رحم الله قارئا دعا لنفسه ولي بالمغفرة
{ ...والله غالب على أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون }(/3)
تنبيه العمال إلى أسباب حبوط الأعمال
إعداد/ أحمد صلاح رضوان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وبعد:
فإن اللَّه جلت قدرته وسعت رحمته كل شيء، قال تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون [الأعراف: 156].
وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث عن واسع فضل اللَّه ومغفرته لعباده المؤمنين، فقد روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة تحمل صبيًا وتلقمه ثديها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تظنون أنها تلقي بولدها في النار؟» فقالوا: لا يا رسول اللَّه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فالله أرحم بعبيده من هذه بولدها».
وروى الإمام أحمد في مسنده وأبو يعلى من حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الشيطان: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال اللَّه تعالى: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
قال المناوي رحمه اللَّه: وهذا وعدٌ من الرحمن بالغفران.
ولكن ليتنبه السالك إلى اللَّه تعالى أن السلف كانوا مع زهدهم وعبادتهم وقربهم من اللَّه تعالى وعلمهم بسعة رحمة اللَّه يخافون ألا يتقبل منهم، قال تعالى: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون
[المؤمنون: 60]
وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: «هم الذين يصومون ويتصدقون ويخشون ألا يتقبل منهم».
والمرويات عن السلف في ذلك كثيرة مما يدل على إخلاصهم وخوفهم من اللَّه تعالى، لذلك فمن الأمور الخطيرة والتي ينبغي التنبيه عليها مسألة ردّ العمل أو حبوط الأعمال، وهذه المسألة بيّن اللَّه تعالى خطرها وعظم شأنها وضرب لذلك مثلاً في سورة البقرة، فقال تعالى: أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون، وفي صحيح البخاري عن عبيد بن عمير رحمه اللَّه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضرب اللَّه مثلاً لعمل، قيل أي عمل ؟ قال: لعمل رجل كان يعمل بطاعة اللَّه ثم أحرق الشيطان عليه عمله.
وها هي بعض الأسباب المؤدية إلى حبوط العمل - عسى اللَّه تعالى أن يحفظنا ويحفظ علينا ديننا.
أسباب محبطات الأعمال
أولاً: الشرك بالله تعالى:
وهو الداء الخبيث والمرض القاتل لا محالة إلا أن يتوب صاحبه، ومن تاب، تاب اللَّه عليه، قال تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [الزمر: 65]
وقال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما [النساء].
وليعلم المسلم أن الشرك بالله تعالى لا تقوم أمامه قائمة من عملٍ أبدًا لقوله تعالى: ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [الأنعام].
ويقول تعالى في سورة الإسراء: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا قال: وهو مؤمن لأن الكفر والشرك لا يصلح معهما أي عملٍ قط، ودليله ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد اللَّه بن جدعان وكان رجلاً مشركًا مات في الجاهلية يطعم الطعام وينصر المظلوم وله من أعمال البر الكثير، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما نفعه ذلك، إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين».
إن من سنن اللَّه تعالى التي لا تتغير أن اللَّه لا يقبل من عباده عملا إلا أن يأتوا بالتوحيد الذي هو حق اللَّه على العبيد، ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على دابته فقال: «يا معاذ». فقلت: لبيك رسول اللَّه وسعديك. فقال: «يا معاذ بن جبل». قلت: لبيك رسول اللَّه وسعديك. فعاد الثالثة. فقلت: لبيك رسول اللَّه وسعديك. فقال: «أتدري ما حق اللَّه على العباد». قلت: اللَّه ورسوله أعلم. فقال: «حق اللَّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا».
وما قرر النبي صلى الله عليه وسلم النداء إلا لأمر عظيم ينبغي ألا يغفل الناس عنه لأنهم ما خلقوا إلا لعبادة اللَّه تعالى؛ لقوله سبحانه: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات: 56]، أي إلا ليوحدون.
وقال تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير، قال ابن كثير رحمه اللَّه: نذير بالتوحيد ونذير عن الشرك.
كذلك في أمر الشفاعة يوم القيامة، فهي خاصة بأهل التوحيد الذين خلّصوا أنفسهم من دنس الشرك، ودليله ما رواه أحمد في مسنده من حديث أبي موسى ورواه الترمذي وابن حبان عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني آتٍ من عند ربي فخيرني بين أمرين: أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترتُ الشفاعة، وهي لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا».(/1)
روى الإمام أحمد من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه، وذكره ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللَّه أوحى إلى يحيى بن زكريا عليهما السلام أني آمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن وأن تأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فجمع يحيى بن زكريا عليهما السلام بني إسرائيل وقال: إن اللَّه أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وأن أمركم أن تعملوا بهن، وأولهن: أن تعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئًا، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله من ذهب أو من ورِق فجعل العبد يعمل ويؤدي نتاج عمله إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك».
فيا أخي الحبيب: إياك أن تشرك بالله ربك الذي خلقك فسواك فعدلك، وهو الذي أطعمك ورزقك وأعطاك ومنحك وهو الذي بيده كل شيء وإليه يرجع الأمر كله، فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون.
ثانيًا: الرياء
مثل أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الناس إليه.
ثالثًا: انتهاك محارم الله في الخلوة
وفي سنن ابن ماجه من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه الألباني في الصحيحة (5028) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتين أقوام من أمتي يوم القيامة بحسنات كأمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها اللَّه هباءً منثورًا، فقال الصحابة رضي الله عنهم: صفهم لنا يا رسول اللَّه نخشى أن نكون منهم؟ فقال: هم منكم يصلون كما تصلون ويصومون كما تصومون ويأخذون من الليل ما تأخذون، غير أنهم إذا خلوا بمحارم اللَّه انتهكوها». نسأل اللَّه السلامة والعافية.
رابعًا: المن بالعمل الصالح
الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر
[البقرة]
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا ينظر اللَّه إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم». فقالوا: صفهم لنا يا رسول اللَّه، فقد خابوا وخسروا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسبل إزاره، والمنان بعطيته، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب».
خامسًا: رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم
وقد عدّ العلماء رفع الصوت بعد وفاته كرفعه في حياته أو عند قبره قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [الحجرات:2].
قال القرطبي: هذا في حال حياته وبعد مماته لأنه محترم حيًا وميتًا صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم فعبر بغض الصوت مع أن الغض للبصر، وهذا أعلى مراتب الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك لا تقدم كلامًا على كلامه وأمرًا على أمره صلى الله عليه وسلم وذلك لأن من شروط قبول العمل أن يكون صوابًا (أي على هدي رسول الله) قال ابن القيم رحمه الله: وإياك أن ترد الأمر لأول وهله لمجرد مخالفته هواك فتعاقب بتقليب القلب عند الموت، لقوله تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون [الأنعام: 011]
سادسًا: التألي على الله
روى أبو داود في سننه في كتاب (الأدب) باب النهي عن البغي، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين أحدهما مطيع والآخر مقصر فما زال المطيع بالمقصر يؤنبه في ذات الله حتى قال له المقصر: خلني وربي أكنت علي رقيبًا، فقال المطيع والله لا يغفر الله لك، وفي رواية (والله ليدخلنك الله النار) فقال الله للمطيع: أكنت بي عالمًا أم كنت على ما في يدي قادرًا ادخل النار) قال أبو هريرة: فوالله إنه تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
وروى مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن رجلا قال والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان قد غفرت لفلان وأحبطت عملك».
سابعًا: كراهية شيء مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإن عمل به:
قال تعالى: ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [محمد: 9].
فكراهية شيء من شرع الله تعالى وهدي نبيه الأمين محبط للعمل كالذي يعتقد أن الشرع لا يصلح في هذه الأزمنة ويرونه جمودًا ورجعية.
فهذه بعض أسباب حبوط العمل، أسأل اللَّه تعالى أن يحفظنا ويحفظ علينا ديننا، ونسأله التوفيق والرشاد، إنه على كل شيء قدير.(/2)
تنظيف المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف وأكرم مبعوث إلى العالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
إن مما اختص الله به هذه الأمة المرحومة أن جعل لها الأرض طهوراً ومسجداً، فأيما رجل من المسلمين أدركته الصلاة فليصلّ حيث أدركته. وإن الإسلام وضع للمسجد مكانة ومنزلة عظيمة واهتم بنظافتها، فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان بسند جيد عن عائشة - رضي الله عنها – أن النبي - صلى الله عليه وسلم – أمر ببناء المساجد في الدور وأمر بها أن تنظف وتطيب..
وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (عرضت عليَّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد).1
وإن المساجد بيوت الله - عز وجل – جعلها لعبادته فيجب صيانتها من الأقذار والروائح الكريهة. روى مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن..
وفي الحديث المتفق عليه عن جابر - رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: (من أكل الثوم أو البصل والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم).
ولقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم – في جدار المسجد نخامة فتناول حصاة فحكه2 وعدها خطيئة وقال: (البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها).3 وفي حديث أبي ذر عند مسلم قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ووجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن).
قال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة لمجرد إيقاعها في المسجد؛ بل به وبتركها غير مدفونة..
وروى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح أنه تنخم في المسجد ليلة فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها، ثم قال: الحمد لله الذي لم يكتب عليَّ خطيئة الليلة. قال: فدل على أن الخطيئة تختص بمن تركها وعلة النهي ترشد إليه وهي تأذي المؤمن بها.4
إذن لقد أولى الإسلام المساجد بالاهتمام وحث على نظافتها، لأن في ذلك أجراً عظيماً وعلى المسلم المحافظة على نظافة المسجد وذلك حال دخوله المسجد فلا يأتي إلا نظيفاً متطيباً حتى لا يؤذي المسجد ومن في المسجد، بل الواجب عليه إذا رأى قذراً أن يزيله كما أمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد كان الصحابة يحافظون على نظافة المسجد، ويطيبونه، فقد كان عبد الله يجمر المسجد (أي يعطره) إذا قعد عمر على المنبر.5
ولا يفهم أحد من المسلمين أن نظافة المسجد إنما هي وظيفة الخادم لبيت أو المنظف فقط؛ بل هي قربة وعبادة ومهمة كل مسلم، وتعاهد المسجد لا يقتصر على شخص معين، بل كل مسلم مسؤول عن تعاهده أو المحافظة على أثاثه ونظافته، كما يتعاهد بيته، ويحافظ عليه، بل المسجد أولى من البيت؛ لأنه بيت الله.
وقد أمر الله - تعالى- المسلمين بأخذ زينتهم عند كل مسجد، وما ذلك إلا لتبقى بيوت الله نظيفة، تفوح منها الروائح الزكية الطيبة التي تحث من ارتيادها على المكوث فيها، وأداء شعائر الله وفرائضه .
ولقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم – الداخل إلى المسجد أن يتأكد من نظافة جسده ونعله، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه – قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه، فرضعها عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – صلاته قال: (ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن جبريل أتاني، فأخبرني أن فيهما قذراً – أو قال: أذى- وقال: إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً فليسمحهما، وليصل فيهما).6
وبوب مسلم في صحيحه "باب نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها مما له رائحة كريهة عن حضور المسجد حتى تذهب تلك الريح وإخراجه من المسجد"
وذكر حديث جابر عنده والبخاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته ...
فيجب على كل المسلم أن يهتم بنظافة مسجده وقد قال الله - تعالى-: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}7.
أسأل الله أن يوفقنا لطاعته واجتناب معاصيه إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________(/1)
1- قال في الثمر المستطاب أخرجه أبو داود ( 1/76 ) والترمذي ( 2/150 ) قالا : ثنا عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق البغدادي : ثنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج عن المطلب بن حنطب عن أنس مرفوعا به . وقال الترمذي : ( حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ) قال : ( وذاكرت به محمد بن إسماعيل ( يعني : البخاري ) فلم يعرفه واستغربه وأيا ما كان فإن للحديث شاهدا مرسلا نحوه أخرجه ابن أبي داود كما في ( الفتح ) فهو به حسن إن شاء الله تعالى وقد صححه ابن خزيمة . ثم رجعت عن هذا وذهبت إلى أن الحديث ضعيف فانظر ( ضعيف أبي داود ) ( رقم 71 )
2 - البخاري مع الفتح برقم (409).
3- البخاري مع الفتح برقم (415).
4- إصلاح المساجد للقاسمي ص215.
5- أخرجه أبو داود.
6- انظر المسجد في الإسلام لخير الدين وانلي ص145.
7 -(32) سورة الحج.(/2)
تهيئة النفوس لأحداث المستقبل
الشيخ محمد صالح المنجد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين وبعد ،
فالمستقبل غيب لا يعلمه إلا الله )وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ..) (الأنعام:59)
)قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ...) (النمل:65)
)إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان:34)
وهذا الغيب قد يطلع الله على بعضه من يشاء سبحانه وتعالى )عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (الجن)
وقد ذكر لنا ربنا في كتابه ونبينا – صلى الله عليه وسلم – في سنته مما أوحى إليه ربنا بعض أنباء الغيب فصار عندنا أمور من الغيب علمناها بإخبار الله لنا وصار ما يحدث في المستقبل بالنسبة لنا ثلاثة أمور :
أولا : شيء معلوم وقوعه يقينا ، كالدجال والدابة وخروج ياجوج وماجوج و أشراط الساعة الصغرى والكبرى التي ذُكِرت لنا فانه غيب مستقبلي معلوم لنا يقينا بإخبار الله ورسوله .
ثانيا : شيءٌ يُتَوَقَعْ حصوله بالقرائن والمؤشرات ، وهذا ظن قد يقع وقد لا يقع وهو محل دراسة استشراف المستقبل .
ثالثا : أمور مفاجئة قد لا تكون لها مؤشرات ولا قرائن تحدث فجأة ، فلابد من الثبات عند وقوعها اعتمادا على الإيمان بالله – سبحانه – وعلى ما اعد العبد به نفسه لمواجهتها من خلال الارتباط بالله – سبحانه – عقيدة وعملا .
وهذا المستقبل فيه أحداث كثيرة ومفاجآت متعددة .إن هذا الغيب المستقبلي وهذه الأشياء التي يتوقع حدوثها أو تفاجئها لابد أن نهيئ أنفسنا لها . والإنسان مجبول على التطلع للمستقبل ومعرفته ومتشوق إلى معرفة ما يكون فيه ولذلك تحسر زهير في شعره فقال :
واعلم ما في اليوم و الأمس قبلهم
ولكنني عن علم ما في غد عمي
وقد حاولت البشرية أن تعرف ما في الغيب عن طرق باطلة كثيرة كالسحر والكهانة والعرافة والتنجيم والخط بالرمل وقراءة الكف والنظر في الفنجان وحساب الجمل ومتابعة الأبراج وكتب خرافية ألفوها في هذا كالجفر المنسوب إلى كذبا إلى جعفر الصادق وبعض الكتب التي تتحدث عن الملاحم ونحوها مما هو مبني على إسرائيليات أو أحاديث مكذوبة وموضوعة هذه مصادر لا تسمن ولا تغني.
و أما الطرق لاستشراف المستقبل ومحاولة معرفة ما يكون فيه فإننا قد سبق أن قلنا أن منه ما يكون قطعيا يقينيا بالخبر الصادق ، وقد اخبرنا عن هذا بأمثلة كرفع العلم و فشو الجهل وظهور الزنا واستحلال الخمر والمعازف وكثرة القتل والاستخفاف بالقتل وخروج المسيح الدجال ونزول المسيح المهدي ووقوع الملاحم الكبرى بيننا وبين النصارى من جهة وبيننا وبين اليهود من جهة ، قال الإمام احمد – رحمه الله - : كل ما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – إسناد جيد أقررنا به .
وكذلك من الأشياء التي تكون في الغيب توقعات الأشياء التي تكون في المستقبل توقعات ممكن تكون مبنية على سنن إلاهية وربانية تتكرر كسنة الابتلاء وسنة الله في المترفين وسنة الله في الظالمين وسنة الله في أعداء الدين وسنة المدافعة التي اخبرنا الله عنها .
ومن الطرق كذلك الرؤى والأحلام وقد اخبرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الرؤيا الصالحة بأنها جزء من النبوة لأنها من المبشرات قال ( الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له ) .
ومن الناس من جعل هذه الرؤى ملاذه وجعلها تحذيرا يستسلم به وهروبا من الواقع وتخاذلا عن العمل وقعودا عن السعي والبذل .
ولا بد من معرفة الضوابط الشرعية للرؤى والأحلام فمثلا:
لا نجزم أن هذه رؤيا فقط تكون حديث نفس أو أضغاث أحلام .
لا يجوز الجزم بتفسير معين فيها لان تفسير الرؤى ظن ولا يجوز الكلام فيها .
لا يجوز بغير علم بتفسيرها لانه كالفتوى .
لا ينبني عليها مواقف وتصرفات .
لا يؤخذ منها أحكام .
هي مبشرات ومثبتات وعلى احسن الأحوال قرائن وليست بأدلة فهي بشائر تبعث الأمل ويتفاءل بها ويستعد بها المرء لأمور قد تحدث له في المستقبل .
وكذلك من الطرق الفراسة والإلهام قال ابن حجر : أما الفراسة فنسلمها لكن لا نجعل شهادة القلب حجة لانا لا نتحقق كونها من الله أو من غيره ، فهذه التي تُلقى في القلب فراسة لكن لا نستطيع أن نجعلها دليلا يعتمد عليه قال ابن القيم – رحمه الله - : وللفراسة سببان أحدهما جودة ذهن المتفرس وحدة قلبه وحسن فطنته والثاني ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطئ للعبد فراسة ،ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيميه – رحمه الله – أمورا عجيبة .(/1)
فهو اخبر بأشياء لكن لما اخبر بها هل كان يجوز الجزم بأنها ستقع ؟ الجواب لا لكن بعض ما اخبر به كان صحيحا فلقد اخبر الناس أن التتار سيتحركون ويقصدون الشام ، وان الدائرة والهزيمة عليهم والظفر للمسلمين ، ولما طلب إلى الديار المصرية و أريد قتله اجتمع أصحابه لوداعه وقالوا : لقد تواترت الكتب بان القوم عاملون على قتلك فقال : والله لا يصلون إلى ذلك أبدا ، هذه فراسته ما أُلِقِيَ في قلبه لم يكن من الممكن الجزم لحظة إخباره بها أنها ستقع أنها ستحصل ، فقالوا له : أتحبس ؟ قال : نعم ويطول حبسي ثم اخرج و أتكلم بالسنة على رؤوس الناس .
فقد يكون لبعض الناس فراسة وحدس قوي ولكن لا نستطيع لو اخبرنا بهذا الجزم عند الإخبار انه سيقع كما يخبر وهكذا إذا الفراسة والرؤى .ولنضرب مثلا على رؤيا من الرؤى اخبر بعضهم قال : رأيت جماعة من الصالحين ثار عليهم بعير هائج فخافوا فقام إليه بعضهم فنحروه ، فقال معبرٌ : هذه أمة كفر وعدو يثور على المسلمين هائج يخبط.. يبطش.. يضرب.. يظلم.. ثم تكون نهايته على يد بعض المسلمين وان ذلك يكون يوم النحر في الحج.
هذه الرؤيا مثلا هل نستطيع أن نجزم بان هذا التفسير صحيح ؟ لأ الله اعلم ، هل هذه النهاية على يد المسلمين فعلا ؟ الله اعلم، هل هذا سيكون يوم النحر أو في يوم غير النحر ؟ الله اعلم ، هل هذا سيكون يوم النحر في هذه السنة أو السنة التي بعدها أو التي بعدها أو بعد عشرين سنة ؟ الله اعلم ، إذا كل ما يُخْبَرُ به من تفسير الرؤى والأحلام ظن وإذا كان أبو بكر الصديق الذي هو أبو بكر الصديق لما فسر رؤى قال النبي – عليه الصلاة والسلام – له ( أصبت بعضا و أخطأت بعضا ) فكيف بغيره ممن هو اقل منزلة منه بكثير في العلم والإيمان .
أيها الاخوة نحن إذا في قضية الغيب نوقن بأنه لا يعلمه إلا الله لكن هناك مؤشرات في بعض الأحداث هناك قرائن ممكن يُستوحى من خلالها يفهم يتوقع بعض الأشياء والمسلم ذكي فَطِنْ حكيم يأخذ الحكمة ويتعامل مع الواقع بناء على نور الكتاب والسنة .
نريد أن نتحدث في موضوع أعداد النفوس لأحداث المستقبل ، نحن نعمل أن المستقبل ملئ بالأحداث وكلما قام في الواقع أفعال و أعمال وأحداث وأمور كبار وجب على المسلم أن يستعد لها ، هناك نذر العاصفة إذا جاءت لها نذر
أرى خلل الرماد وميض جمر و أخشى أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكر وان الحرب مبدؤها كلام
وهذه الأشياء التي نراها في الواقع كحشد الكفار قوتهم مثلا دليل على ماذا؟ على إمكان وقوع أذى وشر وحرب على المسلمين فماذا يوجب هذا بالنسبة لنا ؟ استعدادا نفسيا ومعنويا وماديا لهذه الأشياء المرتقبة و المتوقعة و لنذكر بعض الأصول الشرعية المتعلقة بموضوع الإعداد إعداد النفوس لما يستقبل أو الاستعداد للأحداث المستقبلة فعلى سبيل المثال :
أولا: قصة يوسف – عليه السلام – لما عبر الرؤيا بأنه سيكون هناك سبع رخاء ثم سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن ثم عام يغاث فيه الناس وفيه يعصرون .. ماذا انبنى على هذا الخبر ؟ اخبرهم بخبر مما علمه الله إياه في تأويل الرؤى انه سيكون هناك سبع شداد، إذاً ما هو التصرف عندما علم بذلك هل ناموا ؟ كلا قال ).. فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ ..) (يوسف:47)
إذا تدبير محكم ).. فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) (يوسف:47)
هذا يخزن لمواجهه أحداث المستقبل من القحط )ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) (يوسف:48)
فكان في ذلك الخبر وما بعده تهيئه .
ثانيا : هيأ الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – لرحلة المعراج وهو حدث ضخم جدا بغسل قلبه بماء زمزم وكان الشق شقان في صباه مرة عند حليمة السعدية كما في صحيح مسلم والثاني ليلة الإسراء والمعراج كما في البخاري قال ابن حجر : الشق الأول كان لاستعداده لنزع العلقة التي قيل له عندها هذا حظ الشيطان منك والشق الثاني كان لاستعداده للتلقي الحاصل له في تلك الليلة .
ثالثا : مثال ثالث اخبر ورقة بن نوفل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن سنة إلاهية ستحدث له كما حدثت للأنبياء من قبله ليستعد – عليه الصلاة والسلام – نفسيا لها ، قال : يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك يا ليتني كنت شابا لأقوم معك بالمواجهة إذ يخرجك قومك فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( أو مخرجي هم ؟ ) قال نعم .
هل ورقة قال ذلك عن وحي ؟ لأ ،لكن قالها عن سنة ربانية في الأنبياء قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي إلا عاداه قومه إذا توقع من الآن يا محمد – صلى الله عليه وسلم- توقع مواجهه لابد هذه سُنة في الأنبياء سُنة يأتي رجل بمثل ما جئت به إلا عودي ، جئت مخالفا لقومك في عبادتهم ودينهم وملتهم توقع الأذى إذاً .(/2)
رابعا : مثال آخر تهيئة الرسول – صلى الله عليه وسلم – للهجرة قال ( إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين) وهما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة .
خامسا :مثال خامس تهيئة النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه لتوقع البلاء ونزوله والتعامل معه إذا حدث قال حذيفة كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (فقال : أحصوا لي كم يلفظ الإسلام ؟ فقلنا يا رسول الله أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة من السبعمائة قال : إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا ، قال : فابتلينا ) فعلا حصل ما اخبر به ، إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا قال فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا .
فهذا الإخبار منه – عليه الصلاة والسلام – قيل في أحد وقيل في حفر الخندق ، وقال حذيفة : ابتلينا ولعل ذلك كما كان في عهد بعض أمراء الظلم كما أشار إليه ابن حجر – رحمه الله – مثل الحجاج وربما يصلي بالناس في غير الوقت الشرعي ابتلوا الصحابة حتى جعل الواحد لا يصلي إلا سرا لأنه لو صلى في الوقت علنا لأخذه وبطش به الحجاج وغيره .
سادسا : أعد النبي – عليه الصلاة والسلام – الأنصار لمستقبل فيه سيلقون أَثَرَه لن تكون الإمارة فيهم ولا الخلافة فيهم ولا القيادة لهم فقال للأنصار ( إنكم ستلقون بعدي أثرة ) هذا شيء يخبرهم به بماذا سيستعدون لذلك ؟ قال ( فاصبروا حتى تلقوني وموعدكم الحوض ) رواه البخاري .
كانت تهيئة النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه لأمور عامة لهم جميعا اخبرهم مثلا أن الدنيا ستفتح عليهم وحذرهم من الافتتان بالدنيا واعد بعضهم نفسيا كالأنصار وفرادى كذلك كما حصل لعبد الله بن عمرو قال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( يا عبد الله بن عمرو كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس ) قال لبعض أصحابه : أن يستعدوا لأيام عصيبة وقالوا : وكيف بنا يا رسول الله ؟ ماذا نفعل إذا جاء هذا ؟ قال ( تأخذون ما تعرفون – الحق الواضح تأخذه تعمل به – وتذرون ما تنكرون – الذي لا تعرفونه من أمر دينكم فلا تلتفتوا إليه – قال وتقبلون على أمر خاصتكم – هذه المجموعة المؤمنة الصافية النقية تلتزمون بها وتكونون معه، هؤلاء أهل العلم والإيمان هؤلاء طريقهم هو الصحيح ودربهم هو السعيد – قال وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم ) لان العامة ممكن يكونوا على ضلال بل كثيراً ما يكونون على ضلال ما عليك من العامة انظر الخاصة اتبعهم .
فاعد أبا ذر نفسيا وهذا مثال آخر فقال أبو ذر – رضى الله عنه – ركب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حمارا و أردفني خلفه وقال ( يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع ؟ -ترى هذا إعداد نفسي يا أخوان الآن المربي النبي – عليه الصلاة والسلام – يعد أصحابه – كيف بك إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع ؟ قال : الله ورسوله اعلم ، قال : تعفف ) لا تسال الناس ولا تمد يدك إليهم اصبر اصبر على ألم الجوع تعفف . قال (يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس موت شديد -إما بسبب قحط أو طاعون أو وباء أو غير ذلك –يكون البيت فيه بالعبد – البيت القبر والعبد معروف ومعنى ذلك أن الناس يشتغلون ببعض موتاهم حتى لا يوجد فيهم من يحفر قبرا لميت أو يدفن إلا إذا أعطي عبدا أو وصيفا فيقال خذ العبد كامل هذا لك بس احفر لنا قبر من كثرة الموتى – كيف تصنع ؟ قلت : الله ورسوله اعلم ، قال : اصبر ، قال : يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء – حجارة الزيت محل بالمدينة في الحرة حصل أنه جاءها بعض الظلمة بجيش واستباح مدينة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واستحر القتل بأهلها حتى غرقت حجارة الزيت في الدماء وعاث فيها ثلاثة أيام وقيل خمسة ، مسلم بن عقبه المري هذا – يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع ؟ قال : الله ورسوله اعلم، قال : اقعد في بيتك واغلق عليك بابك قال : فان لم اترك قال : فات من أنت منهم فكن فيهم – يعني الزم اهلك وعشيرتك أو الزم خليفة المسلمين الذي بايعته - قال : فآخذ سلاحي قال : إذاً تشاركهم في ما هم فيه ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف فالق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك ) رواه احمد وصححه الألباني .
طبعا هذا خاص بقتال الفتنة بين المسلمين يتخذ سيفا من خشب يمتنع عن القتال ، إذ دخل عليه واحد قتله يبوء بإثمه وإثمه ويذهب هذا شهيدا في غير قتال المسلمين إذا ثار عليه واحد يدافع عن نفسه وسنأتي على هذا إن شاء الله .(/3)
النبي – عليه الصلاة والسلام – في مثال آخر اعد معاذ بن جبل قبل أن يرسله في رحله دعوية إلى اليمن أعده نفسيا زوده بمعلومات مهمة قال – عليه الصلاة والسلام – ( انك تأتى قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا اله إلا الله ) الحديث . إذا هؤلاء أهل الكتاب عندهم حجج عندهم أشياء معلومات سابقة عندهم كلام ليسوا خالين ينبغي أن تستعد يا معاذ تستعد للحجة.. المناظرة.. المواجهة.. الدعوة.. المداخل.. تعرف كيف تناقش هؤلاء القوم .
كانت هناك بعض الإخبار أيضا للاختبار أخبار عن أشياء مستقبلية للاختبار فمثلا قال الله - تعالى – )قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (الفتح:16)
وقد ذكر المفسرون في هؤلاء القوم أولى البأس الشديد قيل هم هوازن قيل ثقيف قيل بنو حنيفة قيل فارس والروم وقيل رجال أولي باس شديد من غير تعيين فرقة محددة ، الله – عز وجل – قال لهؤلاء الذين تخلفوا عن الحديبية تستحدث مواجهه مع قوم أولي باس شديد والمفترض الثبات والقتال لهؤلاء وعدم التخلف فكان هذا الخبر اختبارا وامتحانا .
وقد يكون الخبر أحيانا بشرى لطمأنة القلوب لقد صدق الله رسوله رؤيا بالحق ).. لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ..) (الفتح:27)
اطمأنت قلوب المؤمنين بهذه الآيات بعدما رجعوا من شروط صلح الحديبيه التي ظنوها هزيمة لهم وليست في مصلحتهم رجعوا وفي نفوسهم ما فيها .
وقد تكون هذه الأخبار تثبيتا لأفئدة المؤمنين واستعدادا تهيئة نفسية لجهاد يكون في المستقبل هل كان في مكة جهاد ؟ لأ، ماذا كان في مكة ؟ ).. كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ..) (النساء:77)
، لماذا ؟ لأن القلة المؤمنة غير مهيأة للمواجهة . العربي من طبيعته أيها الاخوة أن فيه انفه وحمية وإذا واحد ضربه كف يمكن يقوم عليه بالسيف يقطع رأسه ، لما اسلم أوائل الصحابة قامت قريش في تعذيبهم ففوجئت قريش بنوعية غريبة من العرب ما عهدوها ضربوهم ما قاموا عليهم بالسيف ..جوعوهم.. سجنوهم.. سبوهم.. شتموهم.. عذبوهم ما رفعوا عليهم السلاح هذا ماهو من طبع العربي العربي فيه انفه وإذا كان واحد فعل له شيئا فعل له شيئين فاستغربت قريش ما طبيعة هؤلاء الذين يضبطون أنفسهم وبالرغم من الاستفزاز لقد مارست قريش على الصحابة استفزازا عظيما في مكة عظيما جدا ، ما رفعوا السلاح لماذا ؟ لأنه لم يكن من المصلحة رفع السلاح وقيل لهم ( كفوا أيديكم )وهذا من الانضباط العجيب الذي ينبغي أن يتمتع به المؤمنون عندما لا يكون من المصلحة رفع السلاح لكن في آيات في مكة كانت تنزل تشير إلى جهاد سيحدث مثلا سورة القمر مكية فيها آية )سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (القمر:45) إذا فيه جمع سيتجمع ويهزمون وكيف يهزمون يعني ؟ بغير قتال ، سورة ص فيها آية )جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ) (صّ:11)
قبل سنوات في تهيئة إذا قامت عملية التهيئة النفسية للمواجهة هذه من أسس النصر .
وقيام مواجهة قبل وقتها من أسباب الهزيمة وهكذا كان ما حصل يوم بدر ويوم الأحزاب.وكان تانيس النبي – عليه الصلاة والسلام – والصحابة قبل اللقاء بمدة .
عثمان بن عفان رجل حيي جدا لم يكن ربما يتخيل انه سيصبح يوما خليفة على المسلمين وانه سيكون في فتنة وثوار يقومون عليه ويريدونه على التنازل على الخلافة . ما هو الموقف الصحيح أن يتنازل أو لا يتنازل ؟ عثمان لم يتنازل بقي إلى النهاية لم يتنازل عن الخلافة لماذا ؟ لأنه كان هناك إعداد نفسي بخبر من الصادق المصدوق لعثمان رواه الترمذي عن عائشة قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يوما فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمَّصك الله فلا تخلعه ) ثلاث مرات . وبناء على ذلك تصرف عثمان تصرف بناء على الخبر المسبق.
فيه تهيئة نفسية حصلت قبل سنوات يمكن قبل عشرات السنين . وقال النبي – عليه الصلاة والسلام – للصحابة ( والله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم )
نحن طبعا بعد عصر الصحابة وفي آخر الزمان هل جاءتنا أخبار تهيؤنا لأشياء ؟ طبعا على سبيل المثال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب فمن حضرة فلا يأخذ منه شيئا )رواه البخاري .(/4)
نحن الآن عندنا خبر يقيني قطعي من الوحي أن نهر الفرات سيحسر سينحسر عن جبل من ذهب سماه جبلا لكثرته، ثم نهى عن اخذ شيء منه لماذا ؟ لما سيحصل من الفتنة والاقتتال عنده حتى يموت من المائة تسعة وتسعين ، تسعة وتسعين في المائة من المتقاتلين على كنز الفرات سيموتون ويقول كل واحد منهم لعلي أكون أنا الذي أنجو و أفوز بالذهب ( قال فمن حضره فلا يأخذ منه شيئا ) ترى هذه تهيئة نفسية هذه معلومات ليُبْنى عليها في المستقبل وهذه فائدة العلم تهيؤك نفسيا للموقف الصحيح أولا تعلم ماذا سيحدث وثانيا ما هو الموقف إذا حدث هذا .
حذيفة تخصص – رضى الله عنه – بالسؤال عن الأمور عن الأشياء عن التوقعات السيئة ، في أشياء خير تقع وفي أشياء شر ، حذيفة كان يسأل كثيرا عن الشر إذا صار شر ماذا نفعل ؟ قال : كان الناس يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن كثير وكنت أسئلة عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر وجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر قال ( نعم قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم وفيه دخن – فيه غبش وخلط – قلت : وما دخنه ؟ قال : قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر – يقولون أشياء صحيحة وأشياء خاطئة – قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم دعاة إلى أبواب جهنم – هؤلاء قادة الأحزاب الجاهلية وقادة النظريات الجاهلية – من أجابهم إليها قذفوه فيها ، قلت : يا رسول الله صفهم لنا ، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، قلت : فان لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها – يعني الضالة – ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ) الوفاء للدين.. الثبات على الدين.. البقاء على الدين حتى آخر قطرة من الدم .
عبد الله بن مسعود قال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم ( كيف بكم إذا أتت عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير ميقاتها ؟ قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ -الآن هذا يقول كيف هذه تهيئة نفسية كيف بكم إذا جاء كذا وحصل كذا ، طيب ماذا تأمرنا أن نفعل- قال : صلي الصلاة لميقاتها واجعل صلاتك معهم سبحة) حديث صحيح رواه ابن داوود، ( ليس يا أم عبد طاعة لمن عصى الله قالها ثلاثا ) حديث صحيح . إذا أجبرت على الصلاة معهم في غير الوقت أنت صلي وحدك في الوقت واجعل صلاتك معه بنية النافلة لكن لا يجوز لك أن تؤخر الصلاة عن وقتها .
عائشة في موقف آخر لما بلغت مياه بني عامر لما خرجت إلى موقعه الجمل وكان المفترض أن لا تخرج نبحت الكلاب لما جاءت على مكان يقال له ماء الحوئب موضع في الطريق ، ماء الحوئب نبحت الكلاب قالت عائشة : أي ماء هذا ؟ قالوا : ماء الحوئب ، قالت : ما أظن إلا أني راجعة فقال بعض من كان معها : بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله – عز وجل – ذات بينهم ، قالت : إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لنا ذات يوم ( كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوئب ) قال في واحدة من زوجاتي ستنبح عليها كلاب في ذلك الموضع ، إشارة إلى أنها ينبغي أن لا تذهبن لكن مازالوا بها حتى أقنعوها بمواصلة الطريق وحصل ما حصل .(/5)
النبي- عليه الصلاة والسلام – حذرنا وأعطانا مؤشرات و أعطانا علامات في قضية فتنة الدجال وقال ( سأصفه لكم وصفا لم يصفه إياه نبي قط )وصفه لنا وصفا دقيقا جدا كأننا نراه وصف لنا هيئة وشكله ووجهه وعينه وماذا في عينه من العور والعين الثانية من العيب وحده ممسوحة والثانية كأنها عنبة طافية وصف لنا الجلدة الزائدة الموجودة فيه ومكتوب بين عينيه كافر يقرؤها الأمي والكاتب كان وصفا دقيقا وقال ( يا عباد الله فاثبتوا يا عباد الله فاثبتوا )وهيأنا نفسيا لمحنة الدجال أعطانا أوصاف كثيرة في محنة الدجال و أعطانا إجراءات لمواجهه فتنة الدجال وكل هذا تهيئة نفسية للأحداث التي ستأتي وقال لنا في ضمن الإجراءات والأفعال والتي نتخذها لمواجهه فتنة الدجال ( من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل يأتيه وهو يحسب انه مؤمن فيتبعه ) مما يبعث به من الشبهات وفي بداية أخرى قال ( فمن أدركه منكم فليقرا عليه فواتح سورة الكهف ) واخبرنا أن الناس يفرون من الدجال إلى الجبال واخبرنا بأشياء كثيرة لكن الشاب الذي يخرج من أهل المدينة من خيرة أهل الأرض يومئذ لمواجهة الدجال لما الدجال يقطعة نصفين ويباعد بينهما ثم يركبه مرة أخرى بأمر الله يقول له الدجال كأنه يقول : هل الآن آمنت بي ؟ يقول : ما ازددت فيك إلا يقينا أنت الدجال الذي حدثنا أنت الكذاب الذي حدثنا عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهذه اهمية العلم في مواجهه هذه الفتن . وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – (ليأتين على الناس زمان يكون عليهم امراء سفهاء يقدمون شرار الناس ويظهرون بخيارهم ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها فمن ادرك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا ) قال الهيثمي رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح خلا عبد الرحمن بن مسعود وهو ثقة .
النبي – عليه الصلاة والسلام – قال لأبي ذر ( إذا بلغ البناء يعني بالمدينة سلعا ترحل إلى الشام )لما بلغ البناء سلعا ذهب أبو ذر إلى الشام . اخبر عبد الله بن حواله عبد الله بن حواله حوالي في بلاد غامد معروفه قال لعبد الله بن حواله قال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنودا مجندة جند بالشام وجند باليمن وجند بالعراق ،قال ابن حواله : خر لي يا رسول الله إن أدركت ذلك قال : عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عبادة فأما أن أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غدركم – جمع غدير وهو الحوض – فان الله توكل لي بالشام و أهله ) حديث صحيح رواه ابو داوود ، اختلف مفسروا الحديث هل هذه الأجناد الثلاثة مجتمعة أو متفرقة ؟ يعني فرق هل هي على شيء واحد أو انهم مختلفون وقال له الصحابي : خر لي اذهب إلى أي مكان ؟ فقال : عليكم بالشام ومعروف ما سيكون عليه الأمر آخر الزمان في الشام عندما يكون نزول المسيح بالشام وقتال الدجال بالشام وقتل اليهود بالشام ونهاية أمر المؤمنين إلى الشام وانتصار المؤمنين وحصار المؤمنين في طور سيناء من ياجوج وماجوج ثم خروجهم بعد ذلك هذه مرج دابق بالشام التي سيكون فيها الحرب العظيمة بين المسلمين والنصارى وهزيمة النصارى أمام المسلمين هذه في نهاية الزمان عقب دار المؤمنين بالشام لكن هو كان يعد يخبره عن أشياء وعبد الله بن حواله سأله: ماذا افعل إذا حصل هذا ؟
هذه شواهد شرعية على إعداد المؤمن لأحداث المستقبل فرديا وجماعيا إن قضية النظر إلى المستقبل أيها الاخوة مسألة مهمة وتتشوق إليها النفوس لكن لا يعلم الغيب إلا الله هناك استثناءات أخبار معينة علمناها يقينا بالوحي بالكتاب والسنة هناك أشياء يمكن أن يتوقعها الإنسان ويبقى توقع يعني إذا جاءك واحد وقال : أنا أتوقع أن يحدث كذا وكذا و كذا لحظة الكلام حتى لو جاب قرائن وشواهد قال : وعندي شواهد وعندي تحليلات عندي إشارات أن هذا سيحدث أو قال واحد : سيحدث حرب وأنني أتوقع ذلك وقريبا ولماذا ؟ هناك حشد للقوات وهناك و هناك ، يبقى هذا توقع الجزم به غيب لا يعلمه إلا الله لكن إذا الإنسان توقع الشيء توقع ووجدت المؤشرات والشواهد والقرائن عليه هل سيبقى أعمى وقاعد و نايم أو انه سيستعد لذلك على الأقل نفسيا وهذه مسالة مهمة .(/6)
والتوقعات أيضا ممكن تكون مبينة على دراسات تحليلية و استقصاءات يعني مثلا ما توقع الآن نضوب المياه مثلا في مكان معين في إجراءات مثلا توقع مثلا مجيء عاصفة إذا الآن حصل يعني في الأرصاد الجوية بناء على صور الأقمار الصناعية ومؤشرات معينة توقعوا عاصفة ماذا يفعل الناس ؟ يحذرون الناس قبلها ليأخذوا اهبتهم توقع ثوران بركان مثلا منطقة معروفة بالزلازل كيف تبني المساكن فيها ؟ يتغير طبيعة بنيان المساكن في إجراءات تتخذ لتوقعات المستقبل في توقعات رجم الغيب كما قلنا قراءة الفنجان والكف هذه لا يبنى عليها ولا شيء لان أصلا ليست قرائن ولا أدلة رجم بالغيب ما فيها أي شيء موثوق يمكن الأخذ به لكن دراسة استشراف المستقبل الإعداد والتخطيط بناء على ذلك هذا من الحكمة وقد غفل عنه المسلمون وقد سبق الغرب إليه بالدراسات المستقبلية وسموه علم المستقبل وخصصوا له جامعات ومراكز و أندية وهناك معاهد خاصة له كمعهد هملر ومعهد هدسون والجمعية الدولية لدراسات المستقبل ولهم مؤتمرات ونظريات ودوريات ونشرات ومجلات هذه يستفيدون منها كثيرا ويدرسون قضايا متعددة حتى بعضه يتعلق بالمعادن والمياه والسكان وعن زيادة عدد السكان أشياء كثيرة وكما ضربنا أمثلة بالتغيرات الجوية والتصحر وزيادة حرارة الأرض بعض هذه الأشياء الدراسات تنبني عليها أشياء في اتخاذ احتياطات اتخاذ احتياطات ونحن المسلمين أولى بالحكمة من غيرنا ونحن عندنا أشياء ليست عند غيرنا وينبغي أن نكون سباقين نحن نملك نصوصا تخبر بأمور الغيب لا يملكونها وأنا اضرب لكم مثالا واحدا على التخبط الذي يعيشه شخص ليس عنده قران وسنة وشخص عنده قران وسنة في مجال البحث العلمي وموضوع في الفلك الآن الكفار يدرسون فيما يدرسون ينفقون أموال طائلة في قضية بناء مساكن على القمر والمريخ ، سكن البشر على كواكب أخرى طيب ينفقون أموال لأنهم يظنون ربما يكون فعلا فيه مجال خصب للسكن والمعيشة والاستثمار في الكواكب الأخرى لو أنت مسلم تراس معهد الفضاء أو معهد دراسة الكواكب هل يمكن أن تنفق أموال في هذا الجانب ؟ الجواب لا .. لماذا؟ لأن عندك آية قول الله تعالى (...وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ..) (البقرة:36) فهم العلماء منها انه ما في كوكب آخر ممكن نستقر عليه غير الأرض معروفه محسوسة المسألة فأي إنفاق مال في دراسة على إمكانية أن نسكن على كوكب آخر ستذهب هباء منثورا لأنها )مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ..) (طه:55)
حتى يرث الله الأرض ومن عليها وتقوم الساعة إذا لاحظ كيف الذي يملك نصوص الوحي ممكن يوفر أموال والذي لا يملك نصوص الوحي تضيع عليه أموال طائلة وأوقات وجهود ودراسات كلها مالها داعي لان إضاعة أموال في شيء لا يمكن لا يمكن السكن والاستقرار على الكواكب الأخرى نحن عندنا ثروة لا تقدر بثمن فنملك نصوصا تخبر بأمور الغيب لا يملكونه ونملك سننا الهية نعرفها لا يعرفونها وقد يعرفون بعضها وقد يتقرؤون كتابا وسنة نبينا لمعرفتها )سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب:62)
ونملك من أصحاب العقول والفراسة الإيمانية من المسلمين الصادقين من يمكن أن يفهم من القرائن والمؤشرات أشياء كثيرة تساعد المسلمين على الاحتياط للمستقبل ثم نشترك مع الكفار في قضية الأبحاث الدراسات الأخرى فنحن في الحقيقة مؤهلين للاحتياط للمستقبل اكثر منهم وعندنا أشياء ليست عندهم لكننا قاعدون لا نأخذ بأسباب القوة وهذه من أسباب القوة بدأت الأمة الإسلامية تستيقظ وبدأت الأمم الكافرة تئن تحت طارق الحضارة المادية وتتهاوى تحت آثار الرذيلة والظلم وبدا الغربيون يقرون بانهيار حضارتهم وأنها آيلة للزوال والسقوط ودقوا نواميس الخطر من الأشياء المستقبلية التي عندنا ضدهم أن الإسلام سينتشر رغما عنهم مهما حشدوا مهما فعلوا مهما خططوا مهما حاربوا مهما بغوا وطغوا مهما جففوا منابع مهما استأصلوا مهما قتلوا الإسلام قادم نحن نوقن بهذا يقينا لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال ( ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا ادخله الله هذا الدين ) إذا )يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ..) (التوبة:32)
لابد أن تحصل عندنا أخبار من الغيب أن مدينة روما ستفتح بعد أن فتحت القسطنطينية عندنا أخبار بنزول عيسى وقتال اليهود وهزيمة النصارى .
لكن لابد أن نعرف كيف نتعامل مع هذه الأخبار(/7)
أولا :بين الشرع والقدر فقد يميل الإنسان إلى أشياء تعفيه عن العمل خاصة عند وجود المحن وعند وجود المغريات فترى العجز والفتور ضعف الهمة فنحن لا يمكن بناء على إننا نؤمن بنزول المسيح ابن مريم وخروج المهدي أن نترك قتال الكفار وجهاد الكفار والدعوة إلى الله والبذل لهذا الدين فلو واحد قال : ينزل ابن مريم والمهدي وسينتصر المسلمون اقعدوا لا داعي للعمل ، هذا الرجل من أين ضلاله من أين أتى ؟ لا يفهم التعامل بين الشرع والقدر ، قدر الله كون في قدر سيأتي لا يعني أن لا تقوم بما طلب الشرع منك أن تقوم به يجب عليك أن تقوم به بما طلب به منك الشرع أن تعمله .
أيها الاخوة إننا يجب علينا مع علمنا بان المستقبل للإسلام والدين منصور وان العاقبة للمتقين لكن يجب أن نعمل ليتحقق النصر على أيدينا لكي نكون نحن المشاركين بحصول وعد الله أن وعد الله عندما يحصل لا يحصل بملائكة تنزل فتقاتل بدون وجود مؤمنين يعملون أو يقاتلون فيما المؤمنون يعملون ويقاتلون والله ينزل ملائكته لتؤيدهم انه لا تحصل هناك خوارق تسبب انتصار المسلمين دون أن يعمل المسلمون شيئا انهم يعملون ثم الله يجري لهم كرامات ممكن تحصل لهم كرامات .
ثانيا : الأصل والاستفتاء الأصل أن الإسلام على سبيل المثال يعني في كيف التعامل مع الأشياء التي تكون في الأحداث المستقبلية الإسلام دين الجماعة والناس مدنيون بطبعهم والأصل أن المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم الأصل انك تجاهد وانك تتعلم العلم مع إخوانك وانك تختلط بالناس وانك تنصح وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعو إلى الله وتمارس دورك في نشر الدين ومحاربة الشر والفساد والجهاد في سبيل الله لكن في حالة يكون فيها الخروج للجبل والعزلة بعيدا واخذ قطيع غنم واعتزال الناس هو المتعين عليك لكن متى يكون هذا ؟ عندما لا يكون هناك مجال للدعوة أبدا ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إطلاقا ولا الجهاد في سبيل الله ولا التقاء مع إخوانك المسلمين ، هنا إذا كان بقاؤك وسط الناس سيفسدك ولابد هنا تخرج تذهب تعتزل اعتزل في هذه الحالة فالخطأ يحدث عندما يأتي بعض الناس يطبق أحاديث العزلة في الوقت الذي يمكن فيه الخلطة والقيام بأمر الدين فيحدث هناك تقصير شديد منه .
ثالثا : الخطأ في تطبيق أحاديث الفتن على الواقع فبعض الناس مثلا إذا صار أي حدث قال : هذا هو الحديث الفلاني هذا هو تفسير النص الفلاني مع أن هناك فوارق يعني إذا دققت في النص وشرح العلماء للنص والواقع الذي حدث ستجد هناك فروقا كما فهم بعضهم من حديث ( تصالحون الروم صلحا آمنا فتغزون انتم وإياهم عدوا من ورائكم ) وذهب وطبق هذا الحديث على حدث وقع قبل اكثر من عشر سنين فصار هذا ضلالا مبينا وين هذا الحديث من الواقع ؟! فسبب الجهل والتعجل والجرأة يعمد بعض الناس إلى اخذ النصوص يقول هذا الحدث هو هذا النص وليس ذلك لهل الجهل إنما هو لهل العلم .
أحاديث الفتن ما ذكرت لنا إلا لنستفيد منها والذين يقولون لا تطبق أحاديث الفتن على الواقع مخطئون لأن النبي – عليه الصلاة والسلام – ما ذكرها إلا لفائدة لكن كيف يتم التطبيق هنا المشكلة من الذي يطبق ؟ من الذي يقول هذا الحديث هذا الحدث هو المقصود بهذا الحديث من الذي يقول هذا ؟ أهل العلم وليس أهل الجهل ولا أهل الغرور الذين يظنون أنفسهم طلبة علم وهم من أهل الجهل .
رابعا : بين العلم بالحدث وكيفية التعامل مع الحدث أن العلم بالحدث انه سيقع ومعرفة كيف يتعامل الإنسان معه شيء آخر فكثير من الناس يتوقعون أشياء لكن عقولهم تبقى عاجزة عن معرفة الطريقة الصحيحة للتعامل مع هذه الأحداث ولذلك لا يستفيدون كثيرا ينبغي أن يكون لهذا العلم بالأحداث المتوقعة أو المجزوم بها بالنص اثر في تحركاتنا وتصرفاتنا و أفعالنا وان لا تكون مجرد ترف عقلي أو تحصيل ذهني و إنما يكون فيها عمل مثلا خذ فتنة الدجال إذا علمت بها هناك احتياطات شرعية يعني أن ينا الناس عن الدجال إلى الجبال فلينأ عن الدجال يعني يبتعد عنه إذا فوجئ بالدجال يقرأ عليه فواتح سورة الكهف هذا كيفية التعامل مع الحدث لما قال لعثمان (إن أرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله ) هو يعرف عثمان انه يمكن أن يعرف من حديث النبي انه يولى الخلافة لكن إذا حدث هذا ماذا يفعل ؟ هذا هو الجواب إذا صار قتال بين المسلمين قامت قبائل وتحاربت مع بعضها لا في راية إسلامية ولا جهاد ولا شيء سلب ونهب وصار قتال عام بين المسلمين أو كما حدث مثلا قتال على الملك هؤلاء يؤيدون هذا وهؤلاء يؤيدون هذا وليس هناك راية إسلامية وليس هناك خليفة للمسلمين ينصر قتال جاهلي قتال أعمى على الملك ما هي النصيحة ؟ قال ( كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل واتخذ سيفا من خشب والزم البيت ولا تخرج للناس )(/8)
في هذه إجراءات ولذلك قالت عديسة بنت اهبان بن صيفي الغفاري جاء علي بن أبي طالب إلى أبي فدعاه إلى الخروج معه فقال له أبي : إن خليلي وابن عمك عهد إلي إذا اختلف الناس أن اتخذ سيفا من خشب فقد اتخذته فان شئت خرجت به معك قالت : فتركة .رواه الترمذي وهو حديث صحيح .
طبعا المراد من اتخاذ سيف من خشب يعني الامتناع عن المشاركة في القتال طبعا هذا قتال الجاهلية الذي يكون بين المسلمين القتال الأعمى أما قتال الكفار وجهادهم فهو شيء آخر وشان عظيم وباب من أبواب الجنة ونصرة الله ورسوله والثمن المقدم )إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ..) (التوبة:111)
لكن لو واحد سال كيف يكون قتال الفتنة و أني أدافع عن نفسي كيف يكون ؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الاستقامة : وقد تواتر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – انه أمر بالإمساك عن القتال في الفتنة و أمر فيها بان يلحق الإنسان بإبله وبقره وغنمه وكذلك قال : وطلب المظلوم حقه من الله ولم يأذن للمظلوم أن يبغي عليه بقتال الباغي في مثل هذه الصور التي يكون القتال فيها فتنة ، كما أذن بدفع الصائل بالقتال حيث قال ( من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ) فان قتال اللصوص ليس قتال فتنة .
انظر الى كلام شيخ الإسلام هذا العالم قال فان قتال اللصوص ليس قتال فتنة إذ الناس كلهم أعوان على ذلك إلى آخر كلامه –رحمه الله - .
ففي فرق إذا أن يخرج عليك واحد يسلب مالك يريد أن يهتك عرضك يقتل فتدفع عن نفسك هذا قتال شرعي وبين أن الناس يتهارجون يتقاتلون في راية عمياء فتدخل فيهم وتقاتل مع الناس وتقول أنا من قبيلة كذا وصار قتال قبلي جاهلي ، فرق بين هذا وهذا .
أما الإعداد لأحداث المستقبل فانه رفع الجاهزية للفرد و الأمة لتكون على مستوى الأحداث وذلك بإعداد نفسي معنوي وجسمي مادي حتى يكون المسلمون على مستوى المواجهة ، إن قضية الإعداد المادي أمامنا أحداث كثيرة الله اعلم بها ومؤشرات على حروب عظيمة طويلة وأسلحة فتاكة وبغي وظلم وتجبر وتكبر في الأرض إنها آله الغرب الحمقاء التي تريد أن ترمي بها بلاد المسلمين فما هي الأمور التي ينبغي على المسلمين أن يستعدوا بها لأحداث المستقبل :
q الإعداد الإيماني العقدي: أن نربي أنفسنا وأبناءنا على الإيمان بالله ورسوله والولاء لدينه وعبادة المؤمنين و البراء من الكافرين وان نرسخ في النفوس كره الكفار ووجوب جهادهم كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ، والكفار مهما عملوا فعداوتهم لا تنقطع فان نطقت ألسنتهم بالموادعة فان قلوبهم تأبى إلا الغدر )كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ..) (التوبة:8) لا نقصد الإسلام ( يرضونكم بأفواههم ) الإسلام دين عظيم ، ( يرضونكم بأفواههم ) الصيام عبادة جميلة )..وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة:8)
q فمن الاستعداد لذلك أن يعلم المسلم انهم أعداؤه مهما طال الزمن )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) (آل عمران) وجميع الكفار أعداء لنا لا يجوز الاعتماد عليهم ولا الركون إليهم )وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ..) (هود:113)
q وقد حذرنا من مولاتهم )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ..) (المائدة:51)
q وكذلك فقد امرنا بالاستعداد لمواجه هؤلاء وقد قال الله – سبحانه وتعالى – لنا )وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ..) (لأنفال:60)
q كذلك فان إحياء روح الجهاد في المسلمين من الأمور المهمة في الاستعداد لأحداث )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55)(/9)
q ، لقد غزا الصليبيون بلاد المسلمين في القرن الخامس وحصل نزال ومواقعات وكان المسلمون في ضعف وتفرق وقال ابن الأثير المؤرخ يصف حال المسلمين : لولا اختلاف المسلمين لما استطاع الفرنج خذلهم الله أن يملكوا ما ملكوه من بلاد المسلمين واتفق لهم يعني من المصادفات التي حصلت التي كانت في مصلحة الإفرنج النصارى اشتغال عساكر الإسلام وملوكه بقتال بعضهم بعض وقد تفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء واختلف الأهواء وتمزقت الأموال الكامل لابن الأثير في حوادث سنة 497 هـ ، وهكذا حصل في الأندلس وهكذا حصل في أماكن أخرى أن التفرق تفرق المسلمين هو السبب في تسلط الأعداء عليهم وهكذا فلابد إذا من إشاعة أمر وحده المسلمين والتقائهم والاستعداد لمواجهه الكفار وملاقاتهم . والنبي – صلى الله عليه وسلم – قال (من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى ) رواه مسلم . وقال (ألا أن القوة الرمي ) وقال ( المؤمن القوي خير واحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ) ولنعلم بان قوة الإيمان أهم و أولى من قوة البدن والسلاح وهذه تكون بتغذية النفس المؤمنة بالعبادات التي تقوي الإيمان وكذلك فان هذا الاستعداد لملاقاة الكفار وان يكون الإنسان على ذكر من هذا الأمر وهو الغزو مهم ولذلك قال ( من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو ما ت على شعبة من النفاق ) يموت على أمر من الجاهلية فلابد أن تحدث نفسك بالغزو أن تحديث النفس بالغزو إعداد لأحداث المستقبل حدث نفسك انه أمر مهم جدا أشارت إليه النصوص الشرعية وكذلك فمن سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه والخير معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة وأيضا فلابد من نفض الغبار وترك كل ما يخذل ويثبط عن القيام بالفريضة العظيمة سنام الإسلام وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ( إذا تبايعتم بالعينة – الحيلة على الربا – وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) وكذلك فانه إذا نزلت بالمسلمين النازلة وحل العدو بلادهم فلابد من القيام لمنازلتهم وفي قضية الصليبيين لما جاءوا إلى بلاد الشام في القرن الخامس الهجري كانوا وضع المسلمين حرجا جدا فر تقرف وضعف ولكن بدأت أولى تلك المحاولات على أيدي المخلصين في التصدي لهؤلاء وكانت طوائف من المسلمين تخرج تشن حرب العصابات على هؤلاء الكفار ولذلك لم ينعموا بالأمن والاستقرار في بلاد الشام ولم يصفو المقام لهم وقام مودود وغيره من شجعان المسلمين بتكوين تلك البدايات لهذه الفرق الإسلامية التي اقظت مضاجع الصليبيين ، وقضى السلاجقة في عام 494للهجرة على حملة صليبية جاءت من غرب أوروبا لدعم إخوانهم في بيت المقدس وفي 497 استطاع السلاجقة إبادة الجيش الصليبي في الرهى بعد معركة جرت بينهم واخذ بعض الأمراء الصليبيين في الأسر ، وفي عام 513 استطاع السلاجقة تدمير الجيش الصليبي في انطاكيا وقتلوا قائده روجر في المعركة وقتل من الصليبيين خمسة عشر ألفا ولم ينجو منهم إلا القليل وسمي المكان بساحة الدم وفي عام 518 سار بلدوين الثاني باستخلاص أمراء الصليبيين من الأسر فهزم جيشه واخذ هو أسيرا وضم إلى بقية الأمراء الاسارى من النصارى وفي عام 529 بدا العمل الجاد لجهاد الصليبيين بقيادة عماد الدين زنكي – رحمه الله – اكمل المشوار بعده ابنه نور الدين الشهيد ثم صلاح الدين الأيوبي وهكذا طهرت كثير من بلاد المسلمين من النصارى الصليبيين واستنقذت مدن الشام وسواحله وحصونه وقلاعه منهم وكان طردهم من آخر معقل لهم في عكا على أيدي المماليك المسلمين . إذا حدثت الفاجعة وحدثت المصيبة وكانت جللا عامة لكن نهضت الأمة وقامت شيئا فشيئا تدريجيا كما يتبين لنا من تسلسل هذه التواريخ كيف استطاعوا في النهاية طرد الأعداء ولكن المهم أن الأعداء لم يكونوا في هذا الوقت ينعمون بقرارة عين ولا شعور بأمن لان هؤلاء الفدائيين المسلمين كانوا لهم بالمرصاد وكانوا يغيرون على قوافلهم وإمداداتهم لهؤلاء الصليبيين ولذلك ما كانوا أبدا يشعرون بأمن وطمأنينة في بلاد المسلمين المحتلة .
q ومن الأمور المهمة في إعداد النفس بالإيمان الإيمان بالقضاء والقدر )قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ..) (التوبة:51)
q وان يعلم الإنسان بان الأجل مكتوب )كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ..) (العنكبوت:57)
q لا تقل لو عطيناه ابره ما مات ولو أخذناه للطوارئ ما مات ولو حصل الأجل المكتوب سيحصل ).. قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ..) (آل عمران:154)(/10)
q لأحدث الله سببا يجعلهم يخرجون من بيوتهم من أسرتهم إلى المكان الذي أراد الله أن يموتوا فيه بسبب أو بآخر لابد أن يحدث وان الرزق مكتوب بيد الله – سبحانه – وان التولي عن فرائض الله خشية على المال وعلى الدنيا نفاق وانه ليس هناك شر محض وكل ما تراه أنت شر ليس شرا من جميع الوجوه مهما حصل من الجرائم ومهما حصل من الاعتداءات والبغي والظلم والاحتلال والقمع والقتل فان فيه خيرا لوجه من الوجوه ).. وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ..) (آل عمران:140) الأمة ممكن ما تستيقظ إلا بما يحدثه أعداؤها فيها من الصدمات ).. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ..) (الرعد:11) هذا من الإعداد معرفة سنن الله – سبحانه وتعالى – ومعرفة مآل الطاغين وعقابه الظالمين ولابد أن يزولوا ولو أقسمت بالله العظيم أن دولة الكفر ستنهزم ستنهزم ولم تكن حانثا لان الله يمهل ولا يهمل وان الله اخبر بأنه سيأخذ الظالمين ولا بد وانه سيزيلهم ولابد لكن هناك سنن ).. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ..) (آل عمران:140) تارة للمسلمين وتارة للكفار تارة تكون الغلبة لهؤلاء وتارة لهؤلاء لتيخذ منكم شهداء وليمحص الذين آمنوا وهو سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة )... وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة:253)
q من الاستعدادات الإيمانية التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب والتعلق بالله وحده لا بالشرق ولا بالغرب والثقة بنصر الله – عز وجل – والعمل بحديث ( احفظ الله يحفظك ) فلو قال فلو جاء من الشرور والكوارث كيف احفظ نفسي ؟ كيف احفظ أولادي ؟ كيف احفظ بيتي ؟ نقول احفظ الله يحفظك )إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ..) (الحج:38)
q ثم أن تموت وربك راض عنك خير لك من أن تموت متوليا يوم الزحف .
q وقضية مهمة جدا إذا جاء البأس جاءت الشدة جاءت الحرب جاءت النكبة فقال الله – تعالى – )فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ...) (الأنعام:43)
q ما هو التضرع ؟ دعاء مع إلحاح وإظهار الافتقار تضرعوا ( فولا إذ جاءهم باسنا تضرعوا ) لماذا شرع قنوت النوازل ؟ قنوت النوازل لماذا شرع ؟ عند البأساء وعند الشدة هكذا إذا ( تضرعوا ).
q و إحسان الظن بالله الذين يقولون أن الكفار سيدمرون وان قوتهم ستستمر وانه لا نصر لنا وان ...هؤلاء يسيئون الظن بالله ، الله – عز وجل – ارحم واكرم من أن يجعل العزة للكفار والاستمرار لغلبتهم دائما لا يمكن ).. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ..) (آل عمران:140) في سنة ، سنة المدافعة والمداولة والمدافعة )..وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ..) (البقرة:251)
q فلابد من ضرب هؤلاء بهؤلاء ودفع هؤلاء بهؤلاء ولو ما حدث ذلك ستزول المساجد من الأرض بكلها ولابد من التفاؤل والاستبشار والنبي – صلى الله عليه وسلم – قال (بشروا بشروا بشروا ) وان ذكر فقط عيوب الأمة من دون ذكر الأشياء الطيبة الموجودة فيها والإيجابيات هذا ظلم و إعطاء نظرة غير صحيحة عن الواقع مهما كثر الشر في الأمة ففيها خير أمتي كالغيب كالغيث.
q وكذلك معرفة طبيعة الصراع ومن هو المستهبر من هو المستفيد ومعرفة قدرات المسلمين وواقع المسلمين وهل هم مهيئون للمواجهة ، هذه قضية مهمة لأن إعلان المواجهة في غير توقيتها خطأ عظيم يمكن أن يردي وقد عرفنا ما كان موقف المسلمين الشرعي في مكة وكذلك فان المسلمين إذا دخل عليهم من أقطارها فلابد أن يقوموا وقومتهم التي تنهض تدريجيا مع الاستعانة بالله كفيلة لطرد هؤلاء الغزاة ولو بعد حين .
q الثبات وقت المحن والتثبيت في نقل الأخبار وان يلزم الإنسان جماعة المسلمين والصالحين ويواصل العلاقة مع العلماء الناصحين وطلبة العلم العاملين وان مستشيرا متأنيا تاركا للارتجالية والاستعجال والتهور والاندفاع .
q وكذلك أن لا يحصل التنازع والاختلاف وإذا حدث نسعى فر راب الصدع بين أهل السنة قال تعالى ).. وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ..) (لأنفال:46)
q والكفار هم المتفرقين )....تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ..) (الحشر:14)(/11)
q وكذلك فان الكفار يسرهم أن يكون المسلمون متفرقين فينبغي أن نكربهم وان نحزنهم باجتماعنا وعدم تفرقنا لما وقع الخلاف بين علي ومعاوية – رضى الله عنهما – طمع ملك الروم في المسلمين واعد جيشا كبيرا وصار يقترب شيئا فشيئا من بلاد المسلمين وحدود المسلمين فكتب إليه معاوية – رضى الله عنه – يقول : والله لإلم تنتهي وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك و لأضيقن عليك الأرض بما رحبت .فعند ذلك خاف ملك الروم وكف وبعث يطلب الهدنة ، المرجع البداية والنهاية لابن كثير . فلابد من تحقيق مبدأ الاخوة الإسلامية هذا كله احتياطات للمستقبل ولابد من العمل بها والتوازن وضبط الانفعالات والبحث عن المخارج الشرعية .
q وكذلك العقيدة السليمة التي نحيا عليها ونموت عليها وان يكون الإنسان مهتما بصحته وبدنه ونشاطه بعيدا عن الترف والاستغراق في الشهوات (اخشوشنوا و تمعددوا ) وهكذا يكون المسلمون على أهبة وعلى قوة ثم القوة المعنوية مهمة جدا لابد أن نشيع أننا الأعلى )وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)
q هذه الآية قيلت للمسلمين متى ؟ في وقت كان فيهم سبعين قتيلا ، في وقت حصل فيه مصيبة عظيمة عليهم ومع ذلك الله قال له 0 ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الاعلون )إذا الدرس العظيم يا إخوان رفع المعنويات في أوقات الشدة .
q وكذلك قال تعالى )الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ..) (آل عمران:173)
q هذا شيء يحطم المعنويات ). فَزَادَهُمْ إِيمَاناً ..) (آل عمران:173)
q ارتفعت المعنويات (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) لما بلغت القلوب الحناجر واجتمع الأحزاب برد شديد وقوة قد أتوا بها من جميع الجهات )وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الأحزاب:22) فالرجوع إلى هذا الدين والتمسك به اعظم أسباب النصر وهذه فرصتنا للدعوة إلى الله عندما يكون الناس في وجل وتهيب وتخوف من المستقبل أو تحدث لهم مصيبة وكارثة يكونون اقبل للدعوة من غيرها من الأوقات ولذلك فإننا لابد أن ننشط في هذا الأمر لحشد المسلمين لصالح الإسلام .
q وكذلك فان العلم بأنه مهما طال الليل واشتد الظلم فلابد من نهاية مهم قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ( ولكنكم تستعجلون ) فلا ينبغي للمسلمين الاستعجال و إنما أن يعملوا لموعود الله وتحصيله وينظروا إلى الجنة التي أعدها الله لهم ( الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ) انهم ينبغي عليهم أن يحتسبوا الألم الذي يجدونه عند خروجهم في سبيل الله )وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ..) (النساء:104)
q لكن الفرق قال – تعالى – (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) أن عمير بن حمام الأنصاري – رضى الله عنه – قدم لنا النموذج على أن تطلع المؤمن إلى الجنة هو الذي يجعله مقداما لا يهاب في القتال في سبيل الله فقال : لإن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة وهكذا قال انس بن النضر لسعد بن معاذ الجنة ورب النضر اني أجد ريحها من دون أحد .ولذلك قاتل قتالا عجيبا وجود ثمانين طعنة ورمية وضربة في جسده يدل على أن الرجل قاتل وهو مطعون ولم يكف عن القتال من أول سهم جاءه و انغرس فيه ولا من أول ضربة وقعت في جسده استمر ولذلك تخرق جسده ما عرفته أخته إلا من بنانه شامة كانت فيه أما الوجه معالم الجسد كلها راحت وهكذا يعلم المسلمون بأنه لا يمكن أن يركنوا إلى أعداء الله وان هؤلاء يريدون إخراجنا من قريتنا أو أن نعود في ملتهم ولذلك قال الله )وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ..) (البقرة:190) )وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ..) (البقرة:191)
q )وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ..) (البقرة:193)
q.لابد أن نحقق التوحيد وان نخلص لرب العالمين وهذه واحدة مهمة .
ولنبدأ بذكر بعض الأمور مرقمة بعد العرض الإجمالي :
تحقيق التوحيد والإخلاص لله – عز وجل – )مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ..) (التغابن:11) )إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49) )قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ..) (التوبة:51) )يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن:29) )إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ..) (الحج:38)
الاعتصام بالكتاب والسنة )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ..) (آل عمران:103)(/12)
( تركت فيكم ما إن تسمكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي ) قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - : وطريق النجاة من الفتن هو التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما روي ذلك عن علي مرفوعا 0 تكون فتن قيل : ما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله ) ولما وقع من أمر عثمان ما كان وتكلم الناس في أمر الفتنة أتيت أبي بن كعب يقول أحد التابعين فقلت : أبا المنذر ما المخرج ؟ قال : كتاب الله
العبادة والعمل الصالح قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (العبادة في الهرج كهجرة إلي ) فمهما اضطربت الأمور واختلت فان صلتك بالله وعبادتك له في تلك الحال دليل على قوة الإيمان في قلبك لأنه مهما كان الخوف ومهما كانت قعقعة السلاح فوق الرؤوس لم تشغلك عن الطاعة والعبادة هذا يعني قوة الإيمان العبادة في الهرج في الهرج في المرج في اختلاط الأمور في الحرب أن تبقى تتذكر صلاتك وذكرك ودعائك وتلاوتك للقران هذا دليل على قوة الإيمان .
التضرع إلى الله والاستغفار والتوبة والتسبيح والدعاء )فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:43)
قال العلماء : ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة ولما ادخل أحد السلف السجن قعد يصوم فقال له : ابن أخته : مالك ؟ قال : ألم يقل الله (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) فان الله ما دام احدث لي امتحان فسأحدث له عبادة . وهكذا تكون مواجهه الفتن والمحن بالعبادة .
التزود بالعلم الشرعي يجب أن لا نكون نحن الذين تنطبق علينا أشراط الساعة قلة العلم بل نحن نرفع العلم وننشر العلم ونشهر العلم ونخرج العلماء ونربي العلماء ونعد العلماء ونلتف حول العلماء الصادقين المخلصين العاملين ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن وحدثت البدع والفجور ووقع الشر فيهم ، قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - : فكل أنواع الفتن لا سبيل للتخلص منها والنجاة منها إلا بالتفقه في كتاب الله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة – رضى الله عنهم – ومن سلك سبيلهم من أئمة الإسلام ودعاة الهدى .
الالتجاء بعد الله إلى أهل العلم المثبتين العاملين الصادقين الذين جربوا في الفتن فثبتوا وصبروا ما غيروا ولا بدلوا هؤلاء هم المطلوبون هؤلاء الذين بقوا على المنهج الصحيح هؤلاء الذين لم يحرفهم ترغيب ولا ترهيب ما بدلوا ولا غيروا أما الذي ينتقل من التحدي إلى الانبطاح في أحضان الأعداء ينتقل من التحدي إلى الاستسلام لهم و إقامة الجسور معهم بزعمه الذي ينتقل من اتباع الدليل إلى التساهل في الفتاوى وما يعلن هذا أي خير وأي رجاء فيه ولا يمكن لمثل هذا أن يكون ملجأ بعد الله ، قال علي بن المديني : اعز الله الدين بالصديق يوم الردة وبأحمد يوم المحنة ، هؤلاء الرجال الذين يلجؤوا إليهم ، بشير بن عمرو قال : شيعنا ابن مسعود حين خرج ودعناه فنزل في طريق القادسية فدخل بستانا فقضى حاجته ثم توضأ ومسح على جوربيه ثم خرج وان لحيته ليقطر منها الماء فقلنا له : اعهد إلينا فان الناس قد وقعوا في الفتن ولا ندري هل نلقاك أم لا ؟ انظر كيف لجؤوا إلى عبد الله بن مسعود بعد الله ، قال : اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر وعليكم بالجماعة فان الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة .لما أبو موسى الاشعري دخل مسجد ووجد بعض أهل البدع متحلقين حلق حلق رجع إلى ابن مسعود الارسخ علما ليستشيره ماذا يفعل . ابن القيم يقول عن شيخ الاسلام ابن تيميه : وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا فسبحان الذي أوجد في الأمة هؤلاء الأوتاد وهؤلاء العلماء وهؤلاء الرجال الذين يثبتون الناس .
لزوم جماعة المسلمين كما دل عليه في حديث حذيفة والجماعة ليست بالكثرة ولكن من كان الحق وان كان وحده كما قال ابن مسعود – رضى الله عنه - : لو أن فقيها يعني عالم بالكتاب والسنة على راس جبل لكان هو الجماعة وقال ابن مسعود : الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك .
تحقيق مبدأ الاخوة الإسلامية وذلك بالولاء للمؤمنين وعدم إعانة الكافرين عليهم ولا مظاهرة المشركين ضد المسلمين وكذلك فلابد أن يكون من الاخوة إعانة المسلم للمسلم لا يسلمه لا يخذله لا يظلمه وهكذا يكون له نصيرا ومعينا .(/13)
القيام بأمور المسلمين عند الشدة إغاثة وإسعافا للمصاب واهتماما بالضعيف وإردافا للعاجز وتضحية وبذلا وهكذا تقديم ما يمكن من الإسعاف للكبار والصغار والنساء وهكذا ترى شباب المسلمين إذا نزل في بلد منهم مصيبة فزعوا حتى أداروا المنشئات من اجل راحة الناس وكذلك فان العمل لخدمة الناس مهم ومطلوب جدا لأجل التثبيت فترى الزلزال إذا وقع في بلد من بلاد المسلمين رأيت أهل الإسلام الصادقين هم الذين يفزعون للإسعاف والمساعدة والانتشال والإطعام والإغاثة ونصب الخيام والإيواء ونحو ذلك هذا عمل أهل الدين .
التسلح بالأخلاق المهمة عند الفتن ومنها التأني والرفق وعدم العجلة والحلم (ما كان الرفق في شيء إلا زانه )وكذلك الصبر وهو مهم جدا )..وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة:155)
( إن من ورائكم أيام الصبر ) هذه تهيئة نفسية لنا قال – عليه الصلاة والسلام – (الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل اجر خمسين رجلا يعملون مثل عملك قالوا يا رسول الله اجر خمسين منهم قال : اجر خمسين منكم ) فاصبر فانك في النوازل رائد والدرب نعلم شائك وطويل فالصبر روضات لأبناء الهدى ولجنة الرحمن تلك سبيل . قل ( ربنا افرغ علينا صبرا ) ( صبرا آل ياسر فان موعدكم الجنة ) ( اصبروا فانه لا يأتي عليكم الزمان إلا الذي بعده شر منه ) وهكذا إذا كان الكفار مدحهم عمرو بن العاص قال في الكفار : إن فيهم لخصالا أربعا :
v انهم لأحلم الناس عند فتنة ، هذا عمرو بن العاص يصف الروم النصارى يقول :
v احلم الناس عند فتنة يعني لو وقع فيهم حرب وفتنة فان يبقى عندهم تفكير سليم عقول تفكر
v وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة يعني إذا وقعت عليهم حرب شوف الحرب العالمية الأولى والثانية قاموا عمروا بلادهم هكذا .
v و أوشكهم كرة بعد فرة هذه المسلمون أولى بهم منها ولم يقصد عمرو مدح أهل الصليب و إنما قصد الثناء على هذه الخصال .
بعض الكفار قد توجد فيه خصلة لكنه يستعملها في المعصية ونحن نريد أن نكون أولى بهم منها في الطاعة .
العدل والإنصاف في الأمر كله وهكذا لا ينبغي أن يكون عندنا أي نوع من الظلم للآخرين و إنما العدل في الأمور أن العدل مهم في أوقات المحنة .
الثقة بنصر الله وان المستقبل للإسلام ( بشروا ولا تنفروا ) )..وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ..) (الحج:40) ).. وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (لأعراف:128)
بشر هذه الأمة بالسند والرفعة والتمكين في الأرض فأعلنوا هذه البشائر بين الناس وفي الهجرة يقول انزل الله سكينته على ، في بدر النبي – صلى الله عليه وسلم – وضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا قال هذا مصرع فلان وضع حدد المكان الذي يقتل فيه أبو جهل هذا مصرع فلان حدد مكان موت أميه بن خلف هذا مصرع فلان قال الراوي فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، الحديث رواه مسلم في غزوة احد ، في غزوة الأحزاب ما هو شعار المسلمين ؟(حم لا ينصرون ) تفاؤل بان الكفار لا ينصرون ، غزوة حنين النبي – عليه الصلاة والسلام – لما رأى شائهم وضعنهم ونعمهم اجتمعوا قال ( تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله ) هذا هو التفاؤل .
ثم يا أيها الاخوة عندنا من عدالة قضيتنا وبغي وظلم أعدائنا ما يجعلنا نعمل بان المستقبل للإسلام ، إن هناك أحداثا ضخاما تحدث وقد يكون فيها مصائب على المسلمين وويلات وذهاب أموال وانفس وزرع لكن فيها كشف للمنافقين ووضوح السبيل وافتضاح العدو وكذلك إيقاف زحف عولمته وكره المسلمين له وظهور الفتاوى المحررة وهكذا انكشاف العدو مكسب لان الله قال ).. وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55)
وفي هذه الويلات استنفار طاقات الأمة لمواجهه هؤلاء وتوعية وسعي وبذل وظهور لجهود المخلصين وسعي لوحدة رأيهم وصفهم
عدم استعجال النتائج ورؤية ثمرة الجهود فان القضية بأمر الله )..إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ..) (الرعد:11) ).. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ..) (الروم:4)
يأتي بالنصر متى شاء – عز وجل – وكذلك نظر في عواقب الأمور وحذر من الإشاعات .
--------------------------------------------------------------------------------
المصدر : موقع الصوتيات والمرئيات الإسلامية(/14)
توازن الرعب
أولا: أفكار للموضوع
- قال الله تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) [النساء: 104] .
لقد استطاع أبطال الانتفاضة الفلسطينية معايشة معاني هذه الآية عمليا، فحققوا ما بات يعرف بتوازن الرعب، فالخسائر لن تكون –فقط- في الطرف الفلسطيني الذي عانى الكثير من ويلات الاحتلال الصهيوني البغيض، بل أصبحت الخسائر اليومية في صفوف المحتلين (وعلى جميع الصعد) هي السمة الأبرز في هذه الانتفاضة المباركة –انتفاضة الأقصى- وأصبحت أسطورة تحقيق الأمن الذي زعمه (المجرم شارون) شيئا من الوهم والسراب.
كل هذا مع فارق كبير جدا بيننا وبينهم، فالمجاهدون الأبطال يرجون من الله تعالى ما لا يرجوه المحتل الغاصب، وشتان ما بين رجاء ورجاء. فالمجاهدون يرجون رحمة الله (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله). ويرجون تجارة لن تبور (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلوة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور).
أما هم فإنهم كما أخبر المولى سبحانه: (لا يرجون حسابا) و (لا يرجون لقاءنا) (بل كانوا لا يرجون نشورا).
- قال الله تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين . ويذهب غيظ قلوبهم) [التوبة: 14-15].
إن الاستجابة لأمر الله تعالى بمقاتلة المعتدين هي التي تحقق توازن الرعب كمرحلة أولى يتبعها النصر الكامل كما وعد الحق تبارك وتعالى، وإن العمليات الاستشهادية البطولية التي ينفذها المجاهدون في فلسطين المحتلة تأتي بمثابة المبشرات لهذه الأمة المؤمنة، فعملياتهم التي تشفي صدور المؤمنين وتذهب غيظ قلوبهم، تأتي لتحرك كل قلب مؤمن بالله عز وجل ليشارك في شرف الجهاد على أرض الإسراء والمعراج، يشارك بدعائه وماله ودمه، كما شارك الشهيد المصري البطل (عصام مهنا الجوهري)، وكما شارك الجندي الأردني البطل (أحمد الدقامسة) .
لقد تحقق الشطر الأول من الآية الكريمة وإن المؤمنين لينتظرون تحقق الشطر الثاني قريبا بإذن الله، أما الشطر الأول فقد بدت بشائره منذ أن اختط المجاهدون في الأرض المباركة طريق الشهادة بدمائهم الزكية، فبدؤوا بالقتال فجاءت البركات الربانية سريعا بالتوفيق والسداد، وإذا بالعدو يدفع يوميا ضريبة احتلاله الغالية، وإننا نرى الذعر والخوف الشديد على وجوههم كل يوم منذ اندلاع انتفاضة الأقصى المباركة، وإذا بالمستوطنين يصرخون بحرقة للخلاص من هذا (الجحيم)، وهاهم الطلبة اليهود المطالبون بالخدمة العسكرية يمتنعون من تنفيذ الأمر ويفضلون السجن على القتال. فأي خزي أكبر من هذا.
أما الشطر الثاني فإن إخوانكم في فلسطين ينتظرونكم لتشاركوهم هذا الشرف، شرف النصر والتحرير، واستعادة مقدسات المسلمين. إنهم يستصرخونكم بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل . إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير) [براءة: 38-39] .
- قال الله تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) [التوبة: 36] .
إن أبطال المقاومة والانتفاضة على ثرى فلسطين المحتلة قاتلوا وما زالوا يقاتلون، وسيبقون كذلك إن شاء الله حتى تحقيق موعود الله تعالى بالنصر والتمكين. وإنهم عندما يقرؤون هذه الآية ليتساءلون أين جيوش المسلمين وبأسهم؟ بل أين إيمانهم بالله وعزمهم؟ إن المشركين يقاتلون المسلمين كافة (أي مجتمعين متفقين متحدين) لذا ينبغي على المسلمين أن يتحدوا ويتجمعوا، فلا يتنازعوا ويفترقوا.
ها هي أمريكا تساند اليهود المحتلين في كل محفل (سياسي وعسكري)، جيش الاحتلال يقصف بأحدث الأسلحة الأمريكية، وينسحب الوفد الأمريكي من مؤتمر مكافحة العنصرية في (دوربان) في جنوب أفريقيا لمصلحة الوفد الصهيوني، وتبقى أوروبا في المؤتمر لتنفيذ باقي الدعم للكيان الصهيوني، فتحول بنجاح صيغة البيان الختامي إرضاء لشارون وحكومته. وإليكم هذا الخبر:
قال وزير خارجية الكيان الصهيوني شيمون بيريز بتهكم:
إن البيان الختامي لمؤتمر دوربان لمناهضة العنصرية يشكل هزيمة مؤلمة للجامعة العربية. ونقلت صحيفة «هآرتس» العبرية عن بيريز زعمه بأن البيان الختامي لم تتمكن دول غير ديمقراطية من إملائه معترفاً ومشيداً بالمساعدة الأمريكية ل"إسرائيل" وإنقاذها من إدانة البيان لها بالعنصرية كآخر احتلال استيطاني في الألفية الثالثة.
وفي لهجة تنم عن نشوة الفرح بالانحياز الأمريكي للكيان قال بيريز:
إن الولايات المتحدة رسمت وبينت الطريق للجميع، وبعد أن قالت: «قف فإن كل شيء قد توقف».
و نقلت الصحيفة عن مايكل مليشور نائب وزير الخارجية الصهيوني قوله:(/1)
إن البيان لم يتضمن كلمة إدانة واحدة ل"إسرائيل" .
فهلا توحد المسلمون ؟
على الأقل في موقف سياسي مشرف، يتبعه مواقف عملية للوصول إلى استعادة كامل حقوقهم في مسرى نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: توصيات
صلاة الغائب على شهداء فلسطين (خاصة الاستشهادي الأخير).
الدعوة لجمع التبرعات دعما للمجاهدين في فلسطين (وذلك أضعف الإيمان).
التنويه بالمهرجان الحاشد المقام في فلسطين المحتلة عام 48 (أم الفحم) بعنوان الأقصى في خطر والحض على متابعته عبر شبكة الإنتر نت حيث سيبث مباشرة من هناك.(/2)
توجيهات عامة حول طرق تدريس القرآن الكريم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
لا شك أن الإنسان ما زال بحاجة إلى نصح وتوجيه في عمله، حتى يستطيع الرقي بنفسه وعمله كل يوم شيئاً فشيئاً، ومن ذلك المدرس، فإنه ما زال يستفيد من تجارب ونصح إخوانه المدرسين الذين قد طرقوا قبله هذا الباب، وسجلوا حصيلة خبرتهم وتجربتهم في أسطر حتى يستفيد من أتى بعدهم وسلك مسلكهم.. لذا سنذكر جملة من التوجيهات العامة حول طرق تدريس القرآن الكريم.
1. ينبغي للمدرس أن يتدرج مع الطالب في تعليمه الأداء؛ فيحرص في البداية على إجادته نطق الكلمات والحروف، ومساعدته على التخلص من عيوب النطق كالفأفأة، والتأتأة، بالإضافة إلى مساعدته على التخلص من تأثير اللهجات المحلية، أو اللغات الأعجمية، على نطق بعض الكلمات أو الحروف، ونحو ذلك من صور اللحن الجلي، ثم يدربه على إتقان الأداء، وتجاوز اللحن الخفي شيئاً فشيئاً.
2. ينبغي للمدرس أن لا يسمح للطالب الذي تكثر أخطاؤه بالانتقال من المقطع الذي هو فيه إلى مقطع جديد، ويتأكد ذلك إذا كانت الأخطاء في الحركات ونطق بعض الكلمات.
3. ينبغي للمدرس أن يدرب الطالب على قيامه باكتشاف خطئه بنفسه، وأن لا يرد عليه في كل خطأ، وبخاصة في درس التلاوة، ويكون ذلك -مثلاً- عن طريق سؤاله عن الحرف أو الحركة التي أخطأ فيها، أو العلامات التي لم يراعها.
4. على المدرس أن يكلف كل طالب وفق طاقته؛ لأن نتيجة تكليفهم فوق طاقتهم: شعورهم بالعجز، ومن ثَمَّ بالإحباط. ونتيجة تكليفهم أقل من قدرتهم إيجاد فراغ وملل من طول الجلوس من غير عمل ممارس، مما يدفعهم إلى الرغبة الشديدة في الخروج المبكر.
5. تكون الخطوات الأساسية التي يقوم بها الطالب عادة في الحلقة:
أ - حفظ الدرس الجديد لذلك اليوم ثم تسميعه.
ب - مراجعة ما يكلف به من مراجعة حفظ قديم، ثم قراءته على المدرس أو من ينيبه عنه من الطلبة.
6. ينبغي للمدرس أن يوازن بين الحفظ الجديد والمراجعة، وأن يحرص على ضبط الطلاب لما أتموا حفظه سابقاً كحرصه على حفظهم لدرس جديد.
7. على المدرس أن لا يستمع لأكثر من طالب في وقت واحد! حتى يتأكد من عدم خطأ أحد الطلاب بكلمة أو حرف، وحتى يتابع الطالب متابعة جيدة من جهة الأداء.
8. في حال كثرة الطلاب يمكن للمدرس أن يجعل له عرفاء من الطلبة المجيدين المنضبطين، بحيث يقرؤون عليه في أول وقت، ثم يقومون بالاستماع للطلاب، فمن أجازه أولئك العرفاء بادر بالقراءة على المدرس.
9. على المدرس أن يحرص على تعظيم الطلبة للقرآن الكريم، ومن وسائل ذلك:
أ - تعويدهم على عدم التكلم أثناء القراءة، والتزام المدرس بذلك، فإن احتاج للكلام أثناء تسميع طالب عليه أوقف القارئ حتى ينهي كلامه.
ب - تعويدهم على آداب حمل المصحف ووضعه، والمبالغة في إرشاد وزجر من يهمل مصحفه.
ت - تعويدهم على وصف القرآن بالعظيم، والكريم، والمبارك ونحو ذلك، دون ذكره باسمه مجرداً.
10.على المدرس أن يلتزم بآداب التلاوة أثناء القراءة على الطلاب، وأن يدربهم على الالتزام بها، ومن ذلك: الجلوس جلسة مناسبة بوقار وسكينة، والطهارة، والمحافظة على الإتيان بالاستعاذة والبسملة في مواضعها.
11.أن يعمل المدرس جاهداً على تقوية الدوافع الذاتية على الحفظ والدراسة لدى الطلبة، ولا يقصر ذلك على تشجيع الطالب من قبل ولي الأمر، أو إجباره على الذهاب إلى الحلقة؛ إذ أنه متى توقف تشجيع الأهل، وكبر الطفل وشب عن الطوق، وأصبح ما يمارسونه من ضغط وإجبار بالنسبة له عديم التأثير: انقطع عن الحفظ وترك الدراسة. ولعل من أبرز الأمور التي يمكن من خلالها للمدرس تقوية دافع الحفظ والاستمرار في الحلقة لدى الطالب ما يلي:-
أ - إيجاد هدف لدى الطالب يكون واضحاً في ذهنه يسعى إلى تحقيقه، مع إقناعه بسهولة تحقيقه لهدفه إذا ما واصل الحفظ والدراسة في الحلقة، وإرشاده إلى سبل تحقيق ذلك الهدف والوسائل المعينة عليه.
ب - إشباع ما يمكن من احتياجات الطالب الفكرية والنفسية والاجتماعية في المرحلة الزمنية التي يمر بها.
ت - ترغيبه بما ورد في النصوص الصحيحة في فضل القرآن الكريم وحملته التالين له، العاملين بما فيه.
ث - تشويقه بالحضور إلى الحلقة عن طريق الأمور التالية:-
- حسن معاملته وتقديره، ووضعه مع رفقة صالحة يُسر أثناء مصاحبتها.
- إعطاؤه ما أمكن من الشهادات التقديرية والهدايا المناسبة.
- ترشيحه بين آونة وأخرى للمشاركة في الأنشطة التي تقيمها الحلقة مثل: الرحلات، والزيارات، والمخيمات، والملتقيات... ونحو ذلك.
- ثناء المدرس عليه، والدعاء له بالتوفيق بعد قراءته إن كان مجيداً لحفظ ما قرأ عليه.
- إشعاره بتمييزه على الآخرين من زملائه الذين في سنه من الذين لا يحضرون إلى الحلقة، ويمكن تحقيق ذلك الشعور بالتمييز بواسطة:
1. التعاون مع ولي الأمر لقيام المنزل بدوره في ذلك.(/1)
2. إرسال إشعار لولي الأمر بتفوق ابنه بين آونة وأخرى.
3. ترشيحه للقراءة على جماعة المسجد بعد أحد الفروض، وإعطاؤه جائزة رمزية من إمام المسجد بعد انتهاء القراءة أمام الجماعة.
4. تكليفه بإمامة زملائه في إحدى الرحلات أو المخيمات.
5. ترشيحه للقراءة في الاحتفالات والمناسبات والمختلفة.
6. التنسيق مع مدرسته النظامية -إن أمكن- للإشادة بتفوقه في القراءة، وإرجاع السبب في ذلك إلى انتظامه في الحلقة.
7. كتابة اسمه مع المتفوقين في لوحة الإعلانات في مسجد الحي، ونحو ذلك من الوسائل التي يختلف تقديرها باختلاف البيئة والإمكانات.
ج - بالنسبة للطلبة صغار السن:
- يمكن استخدام الجوائز الرمزية لحفز هممهم كإعطائهم شيئاً من الحلوى أو اللعب المباحة.
- إذا لم ينفع فيهم الترغيب وحده فلا بأس من مزجه بشيء من الترهيب، سواء أكان ترهيباً معنوياً؛ مثل: حرمانه من المزايا التي تعطيها الحلقة لطلابها الجيدين، أو إبلاغ المنزل بتقصيره.. نحو ذلك. أم ترهيباً بدنياً مثل: الإيقاف في الحلقة، والضرب غير المبرح عند الحاجة إليه.. ونحو ذلك.
12. ينبغي للمدرس استخدام ما يمكن من وسائل الإيضاح في درس التلاوة، أو أثناء تعليم أحكام التجويد، ومن أبرزها:
أ - القراءة المثالية من قبل المدرس أو أحد الطلبة المجيدين أو من يتم استضافته من خارج الحلقة.
ب - الأشرطة المسجلة.
ت - المصحف في درس التلاوة وأثناء شرح أحكام التجويد.
ث - أحد كتب التجويد.
ج - السبورة سواء أكانت ثابتة أم متنقلة، ويفضل استخدام الأقلام والطباشير الملون... إذا تيسر ذلك لتوضيح علامات الإعراب (الحركات) واصطلاحات وعلامات الوقوف والمد، ونحو ذلك.
ح - الصحف الحائطية ونحوها، إن كانت متيسرة.
13. ينبغي للمدرس إرشاد طلابه إلى ما يناسب من الأسباب والوسائل المعينة على الحفظ الجيد، وهي كثيرة منها:-
1. الإخلاص لله -تعالى- والرغبة في مرضاته، ونيل ثوابه الذي رتبه على قراءة وحفظ كتابه العزيز.
2. العمل بأوامر القرآن الكريم واجتناب نواهيه.
3. تدبر الآيات التي يقرؤها، وما ترشد إليه من توجيهات ونواهٍ، ومواعظ وعبر؛ لأن الحفظ متى اقترن بالفهم كان أرسخ وأثبت.
4. ترك كافة الصوارف والملهيات التي تمنع الحفظ أو إجادته.
5. دعاء الله -تعالى- والتضرع واللجوء إليه وسؤاله التوفيق للوصول إلى أفضل النتائج.
6. عدم التحدث فيما لا يعني، واستغلال المرء ما يمكن من حالات سكوته بقراءة القرآن الكريم وحفظه.
7. أكل القدر اليسير من الحلال، والتقيد بالسنة في الأكل، وعدم الإفراط في الشبع؛ نظراً لحاجة من يفعل ذلك إلى الشرب الكثير مما يفضي إلى النوم الطويل، والخروج المتكرر.
8. التركيز وجمع الهم أثناء حفظ القرآن الكريم، وعدم تشتيت الذهن وتشعيب الفكر في أمور مختلفة.
9. التفرغ للحفظ والتقليل من المشاغل والأعمال بقدر الإمكان.
10. تكرار ما تم حفظه، وإلزام الطالب نفسه بعدم مرور وقت طويل دون المراجعة والاستذكار.
11. الاستمرار في الحفظ من مصحف ذي رسم واحد.
12. الابتداء في الحفظ من آخر المصحف، وبخاصة للطلاب صغار السن وضعيفي العزيمة.
13. اختيار المكان والزمان المناسب، ومن أنسب الأمكنة للحفظ بيوت الله، وكذا الأماكن الخالية من الشواغل والأصوات المزعجة، والحر المؤذي، أو البرد، وغير ذلك.. ومن أنسب الأوقات للحفظ: في الليل وخاصة في الثلث الأخير منه، وكذا بعد صلاة الفجر. وفي أوقات الهدوء التام، وعندما يكون الإنسان مرتاحاً نفسياً وبدنياً.. والله أعلم.
هذه جملة من النصائح والتوجيهات النافعة إن شاء الله -تعالى-.
والحمد لله رب العالمين.
المرجع/ (نحو أداء متميز لحلقات تحفيظ القرآن الكريم) ص30-36. بتصرف يسير. وزيادات نافعة.(/2)
توحيد الحاكمية
أولاً: تعريف وبيان.
ثانياً: توحيد الحاكمية.
1- أقسام التوحيد.
2- عبارة: "توحيد الحاكمية".
3- المقصود من توحيد الحاكمية.
4- علاقة توحيد الحاكمية بأقسام التوحيد.
أ- علاقته بتوحيد الألوهية.
ب- علاقته بتوحيد الربوبية.
ج- علاقته بتوحيد الأسماء والصفات.
د- علاقته بتوحيد المتابعة.
ثالثاً: توحيد الحاكمية وحقيقة الإيمان والإسلام.
رابعاً: وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه.
خامساً: مفاسد الإعراض عن حكم الله تعالى.
أولاً: تعريف وبيان:
الحاكميّة لغة على وزن فاعليّة، وهو من المصادر الصناعية.
والمصدر الصناعي يطلق على كل لفظ زيد في آخره ياء النسب المشدّدة ثم تاء التأنيث المربوطة، وتسمّى تاء النقل؛ لأن الاسم قبل اتصالها به كان له حكم المشتق من أجل ياء النسب، ثم لما اتصلت به نقلته إلى الاسمية المحضة، فصار يدل على معنى مجرد لم يكن يدل عليه قبل الزيادة. وهذا المعنى المجرّد الجديد هو مجموعة الصفات أو الأحكام أو القواعد الخاصة بذلك اللفظ. ويُعدّ هذا المصدر من المولَّد المقيس على كلام العرب، والحاجة إليه ماسّة في المصطلحات العلمية، ولذا ظهر استخدامه في وقت مبكّر فقالوا ـ مثلاً ـ عن مذهب أبي حنيفة، أي مجموع أصوله وقواعده وآرائه قالوا عنه: "الحنفية"، وهكذا "المالكية والشافعية والحنبليّة"، وقالوا عن مذهب نفي الصفات: "الجهميّة"، وعن مذهب نفي القدر: "القدريّة"، وعن مذهب نفي الكسب والاختيار: "الجبرية" وهكذا...
والمراد بالحاكمية في مبحثنا هذا قضية الحكم والتشريع، وما يتعلق بذلك من المسائل والأبحاث.
انظر: النحو الوافي (3/186-187) لعباس حسن.
ثانياً: توحيد الحاكمية:
قبل الخوض في الكلام عن توحيد الحاكمية لا بدّ من تقديم مقدمة في بيان أقسام التوحيد عند أهل السنة والجماعة. وذلك فيما يلي:
1- أقسام التوحيد:
التوحيد عند أهل السنة والجماعة قسمان:
1) توحيد المعرفة والإثبات، ويضم توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، ويسمّى أيضًا بالتوحيد العلمي، وبتوحيد الكلمات الكونيات، وبتوحيد أفعال الله تعالى وصفاته.
2) توحيد القصد والطلب، وهو توحيد الألوهية، ويسمّى أيضًا بالتوحيد العملي، وبتوحيد الكلمات الشرعيات، وبتوحيد أفعال العباد لله تعالى.
ويجب أن يعلم أن هذا التقسيم من الحقائق الشرعية التي دلّ عليها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس أمرًا حادثًا، أو أمرًا اصطلاحيًا أنشأه بعض العلماء، بل من استقرأ الآيات الواردة في التوحيد في كتاب الله تعالى وجدها لا تخرج عن هذه الأنواع، ولا تقصُر عنها.
إذا عُلم أن أقسام التوحيد اثنان أو ثلاثة يجب أن يعلم بأنّه لا تعارض بين هذين التقسيمين؛ لأن من جعله اثنين اعتبر ما يجب على قوتي العبد: قوته الإدراكية العلمية، وقوّته الإرادية العملية، فهو بحسب ما يجب على العبد، ومن جعله ثلاثة لاحظ أن ما يجب على قوة العبد العلمية إما راجع إلى أفعال الله تعالى أو إلى صفاته، فصارت القسمة ثلاثية، فهو بحسب متعلَّق التوحيد.
ويرى بعض العلماء أن التوحيد أربعة أقسام، فزاد توحيد المتابعة وهو إفراد النبي صلى الله عليه وسلم بالطاعة والاتباع، وذلك إتمامًا للشهادتين، ولا مشاحاة في ذلك ما دَام المعنى المقصود صحيحًا.
وبعد هذه المقدّمة عن أقسام التوحيد نتطرّق إلى الكلام عن توحيد الحاكمية من خلال الأسئلة التالية:
2- عبارة "توحيد الحاكيمة":
إنّ التعبير بـ "توحيد الحاكمية" لا محذور فيه ما لم يتضمن معنى فاسدًا، فإذا تضمن ذلك كان اللفظ صحيحًا والقصد فاسدًا سيِّئا، ولذلك قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخوارج لما قالوا له: "لا حكم إلا الله" وكان قصدهم فاسدًا، قال لهم مقولته المشهورة: "كملة حق أريد بها باطل".
قال النووي رحمه الله: "معناه أن الكلمة أصلُها صِدق، قال الله تعالى: {إن الحكم إلا لله}، لكنهم أرادوا بها الإنكار على علي رضي الله عنه في تحكيمه".
فإذا كان المعنى المقصود من هذه العبارة صحيحًا فلا محذور فيها، ولكن متى ما تضمّنت معنى فاسدًا كتكفير أصحاب المعاصي أو تكفير كل من خالف شرع الله في حكمٍ إمّا جهلاً وإما خطأ وإمّا مكرهًا وإما لشهوة وإمّا لشبهة، فهذه يقال فيها مثل ما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كلمة حق أريد بها باطل" فلم يحمله المعنى الباطل المراد من تلك الكلمة على ردّها مطلقًا، وهذا من كمال علمه ودقّة فقهه وشدّة احترازه من أن يردّ باطلاً بباطل رضي الله عنه.
فإن قيل: إن عبارة "توحيد الحاكمية" مصطلح حادث لم يجر على ألسنة العلماء المعتبرين.(/1)
فالجواب: أن العبرة بالمعاني لا بالمباني، والأمور بمقاصدها، ولشيخ الإسلام كلام نفيس في الألفاظ التي اصطلح عليها المتكلمون ولم ترد في الكتاب والسنة، ولا جرت على ألسنة سلف الأمة. وهذا نصّه: "وهذا التقسيم ينبّه أيضًا على مراد السلف والأئمة بذم الكلام وأهله، إذ ذاك متناول لمن استدل بالأدلة الفاسدة، أو استدلّ على المقالات الباطلة. فأما من قال الحق الذي أذن الله فيه حكمًا ودليلاً فهو من أهل العلم والإيمان: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4]. وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحاتهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة... فالسلف والأئمة لم يذموا الكلام لمجرّد ما فيه من الاصطلاحات المولَّدة كلفظ الجوهر والعرض والجسم وغير ذلك، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه، لاشتمال هذه الألفاظ على معان مجملة في النفي والإثبات... فإذا عُرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات، ووزنت بالكتاب والسنة بحيث يثبت بحق الذي أثبته الكتاب والسنة، وينفى الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة كان ذلك هو الحق، بخلاف ما سلكه أهل الأهواء من التكلم بهذه الألفاظ نفيًا وإثباتًا في الوسائل والمسائل من غير بيان التفصيل والتقسيم الذي هو من الصراط المستقيم، وهذا من مثارات الشبه".
فإذا كان هذا في الاصطلاحات الموَلّدة التي كان الغرض من وضعها التسلل إلى نفي الصفات أو تأويلها، فكيف الأمر بالنسبة لعبارة صحيحة أساء فهمها أو استخدامها بعض الناس؟!
3- المقصود من توحيد الحاكمية:
المراد بتوحيد الحاكمية إفراد الله عز وجل بالحكم، وهو أن يعتقد العبد أن الحكم لله سبحانه وحده لا شريك له فيه، فله الحكم في الدنيا، وله الحكم في الآخرة، وله الحكم الكوني، وله الحكم الشرعي، فمن اعتقد أن أحدًا غير الله يحكم بين العباد يوم القيامة، أو اعتقد أن أحدًا غير الله يتحكم في الكون ويتصرف فيه، أو اعتقد أنه يجوز الخروج عن شريعة الله أو تشريع ما لم يأذن به الله، فهذا قد نقض هذه الشعبة العظيمة من شعب الإيمان, وخلع ربقة الإسلام من عنقه والعياذ بالله.
وقد جمع الشيخ عبد الرحمن بن سعدي هذه المعاني لتوحيد الحاكمية فقال: "فإن الربّ والإله هو الذي له الحكم القدري والحكم الشرعي والحكم الجزائي، وهو الذي يؤله ويعبد وحده لا شريك له، ويطاع طاعة مطلقة فلا يعصى، بحيث تكون الطاعات كلها تبعًا لطاعته".
وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين:8]: "وحكمُه يتضمن نصره لرسوله على من كذّبه وجحد ما جاء به، بالحجة والقدرة والظهور عليه، وحكمَه بين عباده في الدنيا بشرعه وأمره، وحكمَه بينهم في الآخرة بثوابه وعقابه".
4- علاقة "توحيد الحاكمية" بأقسام التوحيد:
إن "توحيد الحاكمية" ليس قسيمًا لأقسام التوحيد المشهورة، ولكن له تعلّق بكلّ قسم منها ويندرج تحته باعتبار معيّن:
أ- علاقته بتوحيد الألوهية:
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "فسّر العلماء رحمهم الله العبادة بمعانٍ متقاربة، من أجمعها ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وهذا يدل على أن العبادة تقتضي الانقياد التام لله تعالى، أمرًا ونهيًا واعتقادًا وقولاً وعملاً، وأن تكون حياة المرء قائمة على شريعة الله، يحلّ ما أحل الله، ويحرم ما حرّم الله، ويخضع في سلوكه وأعماله وتصرفاته كلها لشرع الله، متجردًا من حظوظ نفسه ونوازع هواه... فلا يكون عابدًا لله من خضع لربه في بعض جوانب حياته، وخضع للمخلوقين في جوانب أخرى... فمن خضع لله سبحانه وأطاعه وتحاكم إلى وحيه فهو العابد له، ومن خضع لغيره وتحاكم إلى غير شرعه فقد عبد الطاغوت وانقاد له... والعبودية لله وحده، والبراءة من عبادة الطاغوت والتحاكم إليه، من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، فالله سبحانه هو رب الناس وإلههم، وهو الذي خلقهم، وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحييهم ويميتهم، ويحاسبهم ويجازيهم، وهو المستحق للعبادة دون كل ما سواه قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، فكما أنه الخالق وحده، فهو الآمر سبحانه، والواجب طاعة أمره... ومما تقدم يتبين لك أيها المسلم أن تحكيم شرع الله والتحاكم إليه ممّا أوجبه الله ورسوله وأنه مقتضى العبودية لله والشهادة بالرسالة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم".
ومن الأدلة الواضحة الدالة على أن توحيد الحاكمية شعبة من شعب توحيد الألوهية وأن الإشراك فيه إشراك في العبادة قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].(/2)
فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله}، قال: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم! فقال صلى الله عليه وسلم: ((أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه، ويحلّون ما حرم الله فتحلونه؟!)) قال: قلت: بلى. قال: ((فتلك عبادتهم)).
وعن أبي البختري قال: "انطلَقوا إلى حلال الله فجعلوه حرامًا، وانطلَقوا إلى حرام الله فجعلوه حلالاً، فأطاعوهم في ذلك. فجعل الله طاعتهم عبادتهم، ولو قالوا: اعبدونا لم يفعلوا".
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم، وصاموا لهم، ودعوهم من دون الله، فهذه عبادة للرجال".
وقال أيضاً: "هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم. فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.
والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما الطاعة في المعروف))".
وقال ابن حزم رحمه الله: "لما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم، ويحلون ما أحلوا، كانت هذه ربوبية صحيحة وعبادة صحيحة، قد دانوا بها، وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله وعبادةً، وهذا هو الشرك بلا خلاف".
ب- علاقته بتوحيد الربوبية:
بيّن كبار علماء العصر: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الله بن غديان، والشيخ عبد الله بن قعود اندراج هذا النوع تحت توحيد الربوبية، وذلك في إجابة لهم عن سؤال عن أنواع التوحيد وتعريف كل منها، فكان جوابهم:
"أنواع التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وتوحيد الأسماء والصفات، فتوحيد الربوبية: هو إفراد الله تعالى بالخلق والرزق والإحياء والإماتة وسائر التصريف والتدبير لملكوت السموات والأرض، وإفراده تعالى بالحكم والتشريع بإرسال الرسل وإنزال الكتب، قال الله تعالى: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف: 54]، وتوحيد الألوهية:...".
فمن جعل التشريع حقًا لغير الله تعالى فقد وقع في شرك الربوبية، قال الأستاذ: محمد رشيد رضا رحمه الله متكلمًا عن شرك الربوبية: "هو إسناد الخلق والتدبير إلى غير الله تعالى معه، أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم عن غيره، أي غير كتابه ووحيه الذي بلغه عنه رسله".
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن من لوازم إفراد الله تعالى بالربوبية إفراده تعالى بالحكم. قال تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالاً قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59].
قال الشيخ محمد الأمين رحمه الله: "لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم، سبحانه جل وعلا أن يكون له شريك في التحليل والتحريم".
وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: "إن الحكم بما أنزل الله من توحيد الربوبية لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمّى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أربابًا لمتبعيهم فقال سبحانه: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31]، فسمّى الله المتبوعين أربابًا حيث جُعلوا مشرِّعين مع الله تعالى، وسمّى المتبعين عبادًا حيث إنهم ذلوا لهم وأطاعوهم في مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى...". ثم ذكر حديث عدي ابن حاتم المشهور.
فمن أعطى أهلية التشريع ووضع القوانين والأحكام لأمثاله من البشر فقد وقع في شرك الربوبية، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عن هؤلاء المقننين والمشرعين: "وإن ظهر يقينا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية، سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه".
ج- علاقته بتوحيد الأسماء والصفات:
إن من أسماء الله عز وجل التي ورد ذكرها في القرآن الكريم الحَكَم والحاكم والحكيم.(/3)
قال تعالى: {أفغير الله أبتغي حكمًا وهو الذي أنزل عليكم الكتاب مفصلاً} [الأنعام:114].
وقال تعالى: {فاصبر حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين} [الأعراف: 87]، وقال تعالى عن قول نوح: {ربّ إنّ ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} [هود: 45].
وقال تعالى: {وهو الحكيم الخبير} [الأنعام: 18، 73] في آيات كثيرة جدًا.
ووصف سبحانه وتعالى نفسه بأنّه يحكُم وأنه سبحانه حكيم في أحكامه كلها.
قال تعالى: {ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم} [الممتحنة:10].
وقال تعالى: {إن الله يحكم ما يريد} [المائدة: 1].
وقال تعالى: {الملك يومئذ لله يحكم بينهم} [الحج: 56].
وعن شريح عن أبيه هانئ أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنّونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله هو الحكَم، وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟)) فقال: إنّ قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحسن هذا، فما لك من الولد؟)) قال: لي شريح ومسلم وعبد الله، قال: ((فمن أكبرهم؟)) قلت: شريح، قال: ((فأنت أبو شريح)).
فلا يتمّ الإيمان بهذه الصفة لله عز وجل إلا بإثباتها له سبحانه وإفراده تعالى بها، وذلك بالإيمان بأنّ له سبحانه وحده الحكم الشرعي والحكم القدري والحكم الجزائي، فمن أشرك مع الله أحدًا في التشريع، أو أشرك مع الله أحدًا في التقدير، أو أشرك مع الله أحدًا في الحساب والجزاء فقد اختل توحيده للأسماء والصفات.
د- علاقته بتوحيد المتابعة:
قال الشيخ محمد بن إبراهيم: "وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتّبع المحكَّم ما جاء به فقط، ولا جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك والقيام به فعلاً وتركًا وتحكيمًا عند النزاع".
وقد سبق نقل كلام الشيخ ابن باز رحمه الله في أن تحكيم شرع الله تعالى من مقتضى الشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم...} [النساء: 65]: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرًا وباطنًا".
وقال ابن القيم رحمه الله: "أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسمًا مؤكدًا بالنفي قبلَه على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرّد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضًا حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضا والتسليم، وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض".
وقال أيضًا في معرض بيان معنى الرضا بالنبي صلى الله عليه وسلم رسولاً: "وأما الرضا بنبيه صلى الله عليه وسلم رسولاً فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، ولا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه".
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم، في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء أن لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما حكم، ويسلموا تسليمًا" .
انظر: القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد. للأستاذ: عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر. والتحذير من مختصرات الصابوني في التفسير (ص 30 حاشية 2) للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد.
أخرجه مسلم (2/749) [1066] من طريق عبيد الله بن أبي رافع عنه.
شرح صحيح مسلم (7/173-174).
درء التعارض (1/43-45).
القول السديد (ص 102).
التبيان في أقسام القرآن (ص43).
مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (1/77-84).
أخرجه الترمذي (5/259-260) [3095] وحسنه شيخ الإسلام كما في المجموع (3/67) [وهو في صحيح السنن [2471].
أخرجه الطبري في تفسيره (14 / 211-212) [16637].
مجموع الفتاوى (7/67).
كذا العبارة في المجموع وفيها قلب والصواب: بتحريم الحرام وتحليل الحلال.
مجموع الفتاوى (7/70).
الفصل (3/266).
فتاوى اللجنة الدائمة (1/55) الفتوى رقم [8943].
تفسير المنار (2/55).
أضواء البيان (7/163-168) باختصار.
المجموع الثمين (1/33).
أضواء البيان ( ).(/4)
أخرجه أبو داود (4955)، والنسائي (5387)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4145).
فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (12/251).
تفسير بن كثير (3/211).
التبيان في أقسام القرآن (ص 270).
مدارج السالكين (2/180).
مجموع الفتاوى (7/37-38).
ثالثاً: توحيد الحاكمية وحقيقة الإيمان والإسلام:
إن من مقتضى الإيمان بالله عز وجل الإيمان بحكمه سبحانه وقبوله والرضا به والتسليم له، قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا} [النساء: 65].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "أقسم الله بربوبيته لرسوله التي هي أخص أنواع الربوبية والتي تتضمّن الإشارة إلى صحة رسالته صلى الله عليه وسلم أقسم بها قسمًا مؤكدًا أنه لا يصلح الإيمان إلا بثلاثة أمور:
الأول: أن يكون التحاكم في كل نزاع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن تنشرح الصدور بحكمه، ولا يكون في النفوس حرج وضيق منه.
الثالث: أن يحصل التسليم التام بقبول ما حكم به وتنفيذه بدون توان أو انحراف".
وقال ابن حزم رحمه الله: "فسمى الله تعالى تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم إيمانًا، وأخبر تعالى أنه لا إيمان إلا ذاك، مع أنْ لا يوجد في الصدر حرج مما قضى، فصح يقينًا أن الإيمان عمل وعقد وقول؛ لأن التحكيم عمل، ولا يكون إلا مع القول ومع عدم الحرج في الصدر وهو عقد".
وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} [آل عمران:23].
وقال الله تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} [النور:47-51].
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا} [النساء: 60-62].
قال ابن تيمية رحمه الله: "ذمّ المدَّعين الإيمان بالكتب كلها وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة، ويتحاكمون إلى بعض الطواغيب المعظمة من دون الله، كما يصيب ذلك كثيرًا ممن يدعي الإسلام وينتحله، في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك وغيرهم، وإذا قيل لهم: تعالوا إلى كتاب الله وسنة رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضًا، وإذا أصابتهم مصيبة في عقولهم ودينهم ودنياهم بالشبهات والشهوات أو في نفوسهم وأموالهم عقوبة على نفاقهم قالوا: إنما أردنا أن نحسن بتحقيق العلم بالذوق ونوفق بين الدلائل الشرعية والقواطع العقلية التي هي في الحقيقة ظنون وشبهات".
فإذا كان المتأوّل الذي رد أحكام الشرع بالظنون والشبهات له نصيب من هذا الوعيد فكيف بمن إذا دعي إلى تحكيم الشرع المنزّل قال: "السيادة للشعب وليست للدين" لا شك أن هذا منافٍ للإيمان ومناقض للإسلام.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "والآية ناطقة بأن من صدّ وأعرض عن حكم الله ورسوله عمدًا ولاسيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقًا لا يعتدّ بما يزعمه من الإيمان وما يدعيه من الإسلام".
وقال ابن القيم رحمه الله مبينًا التلازم بين الإيمان وبين رد الخصومات والنزاعات إلى شرع الله تعالى: "جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورةَ انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولاسيما التلازم بين هذين الأمرين، فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم وأن عاقبته أحسن عاقبة".
وقال ابن كثير رحمه الله: "فدل على أن من لم يتحاكم في محلّ النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنًا بالله، ولا باليوم الآخر".(/5)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "الرد إلى الكتاب والسنة شرط في الإيمان، فدل ذلك على أن من لم يردّ إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت كما جاء في الآية: {ألم تر إلى الذين يزعمون...} الآية، فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله فهو كاذب في ذلك".
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه".
وإن حقيقة الإسلام هي الاستسلام التام لله عز وجل ولا يتم ذلك إلا بقبول دينه والتسليم لشرعه والرضا بحكمه، قال ابن تيمية رحمه الله: "فالإسلام يتضمّن الاستسلام لله وحده، فمن أسلم له ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده".
وهذا هو معنى الرضا بالإسلام دينًا، قال ابن القيم رحمه الله: "وأما الرضا بدينه فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى رضي كل الرضا، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم تسليمًا، ولو كان مخالفًا لمراد نفسه أو هواها أو قول مقلده وشيخه وطائفته" .
المجموع الثمين (1/35).
الدرة (ص 338).
مجموع الفتاوى (12/339-340).
تفسير المنار (5/227).
إعلام الموقعين (1/49-50).
تفسير ابن كثير (3/209).
تفسير السعدي (2/90).
تحكيم القوانين (ص 2).
مجموع الفتاوى (3/91).
مدارج السالكين (2/118).
رابعاً: وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه:
إن الآيات الدالة على وجوب تحكيم شرع الله والتحاكم إليه، والمحذرة من التحاكم إلى غيره كثيرة في كتاب الله تعالى، وكلام العلماء عليها معروف مشهور حتى أضحى ذلك علمًا ضروريًا عند المسلمين، قال العلامة ابن باز رحمه الله: "ومعنى هذا أن العبد يجب عليه الانقياد التام لقول الله تعالى وقول رسوله وتقديمهما على قول كل أحد، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة".
ولكن توالت شبه الكفرة الملحدين وتواردت سمومهم على الأمة، وصادف ذلك ضعفًا من المسلمين وتناحرًا بينهم وبعدًا كبيرًا عن الدين الصحيح، وتلك الشبهات ضعيفة في أول سيرها وهزيلة في حقيقة أمرها، ولكنها وجدت من يغذيها في رحلتها حتى لا تنقطع بها السبيل وتصل إلى قلوب المسلمين، والمتنبهون لخطورة الأمر ما بين ساكت ومتكلّم لا يبلغ صوتُه إلا من رحم الله، ففعلت تلك الشبهات فعلتها الشنيعة، وشيّدت في قلوب المسلمين حصونها المنيعة، فصار من يدعو إلى تحكيم الشريعة، قد أتى جريمة فظيعة، والعجب أن يجد من يتهمه بذلك من إخوانه المسلمين قبل أعدائه الملحدين، فيا لغربة الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إلى الماء يسعى من يغصّ بلقمة إلى أين يسعى من يغصّ بماءٍ؟!
وقد انعقد الإجماع على أنه لا شرع إلا ما شرعه الله، ولا حلال إلا ما أحله الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، وأن تشريع الأحكام هو حقّ لله وحده، فمن أعطى غيره هذا الحق أو أعرض عن شرع الله وسَخِطَه ولم يرض به فهو كافر بإجماع المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه، أو حرّم الحلال المجمع عليه، أو بدّل الشرع المجمع عليه، كان كافرًا مرتدًا باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا أنزل قوله على أحد القولين: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله".
وقال أيضًا: "إن الحاكم إذا كان ديِّنًا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار، وإن كان عالمًا لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون من أهل النار، وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص، وأما إذا حكم حكمًا عامًا في دين المسلمين، فجعل الحق باطلاً، والباطل حقًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، ونهى عما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهى الله عنه ورسوله، فهذا لون آخر، يحكم فيه رب العالمين وإله المرسلين، مالك يوم الدين الذي {له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون}".(/6)
وانظر قوله: "وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص، وأما إذا حكم حكمًا عامًا..." أي إذا شرع حكمًا مخالفًا لشرع الله تعالى وألزم به عامة المسلمين أو غيّر حكمًا من أحكام الله تعالى المعلوم من الدين بالضرورة فهذا داخل فيما ذكره وإن كان في باقي الأحكام جاريًا على شرع الله، فكيف الأمر بالنسبة لمن رفض شرع الله جملة وتفصيلاً ورأى عدم صلاحية الكتاب والسنة لاستنباط الأحكام منهما والتحاكم إليهما، وأعطى صلاحية التشريع لغير الله، فما أجازته الأغلبية فهو الجائز حتى لو كان في دين الله حرامًا، وما منعته الأغلبية فهو الممنوع حتى لو كان في دين الله مباحًا، لا شكّ أن هذا أعظم كفرًا ومحادة لله عز وجل.
وفيما يلي نسوق بعض الآيات الواردة في بيان وجوب الحكم بما أنزل الله تعالى والتحاكم إليه وبيان التحذير من التحاكم إلى الطاغوت:
1. قال الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا} [النساء:58].
قال ابن تيمية رحمه الله: "على الحكام أن لا يحكموا إلا بالعدل، والعدل هو ما أنزل الله".
2. وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور:63]. وقال: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينًا} [الأحزاب:36].
قال ابن القيم رحمه الله: "فدل هذا على أنه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسألة من المسائل حكمٌ طلبي أو خبري، فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلاً، فدل على أن ذلك مناف للإيمان".
وقال الشافعي رحمه الله: "ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر على من سمعهما مقطوع إلا بإتيانهما".
قال ابن تيمية رحمه الله: "إن ترك المسلم ـ عالمًا كان أو غير عالم ـ ما علم من أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لقول غيره كان مستحقًا للعذاب... ومن اتبع ما بعث الله به رسوله كان مهديًا منصورًا بنصرة الله في الدنيا والآخرة".
3. وقال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213]. وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً} [النساء:105].
فبين أن الغاية من إنزال الكتاب هو الحكم بين الناس بالعدل، قال ابن تيمية رحمه الله: "فإن الله سبحانه هو الحكم الذي يحكم بين عباده، والحكم له وحده، وقد أنزل الله الكتب وأرسل الرسل ليحكم بينهم، فمن أطاع الرسول كان من أوليائه المتقين، وكانت له سعادة الدنيا والآخرة، ومن عصى الرسول كان من أهل الشقاء والعذاب".
4. وقال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون} [المائدة: 50].
قال شيخ الإسلام: "أهل الإيمان والإسلام والعلم والدين إنما يحكمون بكتاب الله وسنة رسوله".
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم "الياسق"، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدّمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير".
فقد ذمّ الله عز وجل في هذه الآية من يبتغي حكم الجاهلية ويريده، وهو كل حكم مخالف لشرع الله، فكيف بمن يشرّعون ما لم يأذن به الله، ولم ينزل به سلطانًا، ويجعلون تشريعهم ذلك عامّا لازمًا تجب طاعته، ويضفونه بالقداسة والحرمة ويصفونه بالفوقية, ويعتبرون من خالفه أو لم يرض به من أكابر المجرمين الذين تجب معاقبتهم بيد أنه لو خالف حكم الله المتفق عليه جهارًا نهارًا كأن يطوف بقبر أو يستغيث بميت أو يدعو إلى بدعة أو يسب الله ورسوله أو يشرب الخمر أو يبيعها أو يرمي المحصنات المؤمنات أو غير ذلك من المخالفة لشرع الله المنزل فإنهم لا يكترثون لذلك ألبتة فضلاً عن أن يكترثوا له كما يكترثون لمخالفة أحكامهم التي شرعوها من دون الله، وهذا في الحقيقة منتهى مضاهاة الله تعالى في التشريع، نسأل الله السلامة والعافية.
5. وقال تعالى: {ولا يُشركُ في حكمه أحدا} [الكهف: 26].(/7)
قرأ ابن عامر (ولا تُشركْ) بالتاء المثناة من فوق وبجزم الكاف على أن (لا) ناهية، وقرأ الباقون (ولا يُشركُ) بالياء المثناة من تحت وبالرفع على الخبرية.
قال الشيخ محمد الأمين رحمه الله: "الإشراك بالله في حكمه والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد، لا فرق بينهما ألبتة، فالذي يتبع نظامًا غير نظام الله وتشريعًا غير تشريع الله، كالذي يعبد الصنم ويسجد للوثن لا فرق بينهما ألبتة بوجه من الوجوه، فهما واحد وكلاهما شرك بالله".
6. وقال تعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا} [النساء:65].
قال شيخ الإسلام: "فعلى جميع الخلق أن يحكِّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأفضل المرسلين وأكرم الخلق على الله، ليس لأحد أن يخرج عن حكمه في شيء سواء كان من العلماء أو الملوك أو الشيوخ أو غيرهم".
وقال أيضًا: "وليس لأحد أن يخرج عن شيء مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الشرع الذي يجب على ولاة الأمر إلزام الناس به، ويجب على المجاهدين الجهاد عليه، ويجب على كل واحد اتباعه ونصره، وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق حكم الحاكم ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه".
وقال: "ما جاء به الرسول هو الشرع الذي يجب على الخلق قبوله، وإلى الكتاب والسنة يتحاكم جميع الخلق".
7. وقال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب} [الشورى:10]. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء:59].
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "الواجب على كل أحد أن لا يتخذ غير الله حكماً وأن يرد ما تنازع فيه الناس إلى الله ورسوله، وبذلك يكون دين العبد كله لله وتوحيده خالصاً لوجه الله. وكل من حاكم إلى غير حكم الله ورسوله فقد حاكم إلى الطاغوت، وإن زعم أنه مؤمن فهو كاذب. فالإيمان لا يصح ولا يتمّ إلا بتحكيم الله ورسوله في أصول الدين وفروعه، وفي كل الحقوق. فمن تحاكم إلى غير الله ورسوله فقد اتخذ ذلك رباً وقد حاكم إلى الطاغوت".
8. وقال سبحانه: {إن الحكم إلا لله يقصّ الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام:57]. وقال عز وجل عن قول يعقوب عليه السلام: {إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون} [يوسف:67]. وقال تعالى عن قول يوسف عليه السلام: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [يوسف: 40].
قال ابن تيمية رحمه الله: "فالحكم لله وحده، ورسله يبلغون عنه، فحكمهم حكمه، وأمرهم أمره، وطاعتهم طاعته، فما حكم به الرسول وأمرهم به وشرعه من الدين وجب على جميع الخلائق اتباعه وطاعته، فإن ذلك هو حكم الله على خلقه. والرسول يبلغ عن الله قال تعالى:{وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله...}.
9. وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى:21].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومن بدّل شرع الأنبياء وابتدع شرعًا، فشرعه باطل لا يجوز اتباعه، ولهذا كفر اليهود والنصارى لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ. والله أوجب على جميع الخلق أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله، ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، فعلى جميع الخلق اتباعه، واتباع ما شرعه من الدين، وهو ما أتى به من الكتاب والسنة، فما جاء به الكتاب والسنة فهو الشرع الذي يجب على جميع الخلق اتباعه، وليس لأحد الخروج عنه، وهو الشرع الذي يقاتل عليه المجاهدون، وهو الكتاب والسنة".
وقال أيضًا: "فالشرع الذي يجب على كل مسلم أن يتبعه، ويجب على ولاة الأمر نصرُه والجهاد عليه هو الكتاب والسنة".
وقال في معرض بيان عدم لزوم حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية: "فكيف يُعان من لا يعرف الحق بل يحكم بالجهل والظلم، ويلزم من عرف ما عرفه من شريعة الرسول أن يترك ما علمه من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل هذا؟! لا ريب أن هذا أمر عظيم عند الله تعالى وعند ملائكته وأنبيائه وعباده، والله لا يغفل عن مثل هذا، وليس الحق في هذا لأحد من الخلق".
فإذا كان هذا في المسائل الخلافية الاجتهادية، فكيف بمن يردّ شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويلزم الناس بشرع ما أنزل الله به من سلطان؟! لا شك أن هذا أعظم وأخطر وأضل.
10. وقال تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون} [الأعراف:3].
قال ابن القيم رحمه الله: "فأمر باتباع المنزّل منه خاصة، وأعلم أن من اتبع غيره فقد اتبع من دونه أولياء".(/8)
قال ابن تيمية رحمه الله: "متى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله، واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدًا كافرًا، يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة... ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره كان مستحقًا لعذاب الله، بل عليه أن يصبر، وإن أوذي في الله. فهذه سنة الله في الأنبياء وأتباعهم".
11. وقال تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} [المائدة:42، 48، 49].
وقال تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص:26].
فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بين الناس بالحق وهو الشرع المنزل من عنده تعالى، ونهاه عن اتباع الهوى المضل وذلك بترك الحكم بالحق الذي أنزله، وبين له وعيد من ضل عن سبيله، قال ابن القيم رحمه الله:"فقسّم سبحانه طريق الحكم بين الناس إلى الحق وهو الوحي الذي أنزله الله على رسوله، وإلى الهوى وهو ما خالفه".
فكل من لم يحكم شرع الله فهو متبع لهواه، متوعَّد بالعذاب الشديد. والعياذ بالله تعالى.
12. وقال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة:44، 45، 47].
قال ابن القيم رحمه الله: "قال ابن عباس: ليس بكفر ينقل عن الملة. بل إذا فعله فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر. وكذلك قال طاوس. وقال عطاء: هو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. ومنهم: من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحداً له. وهو قول عكرمة وهو تأويل مرجوح، فإن نفس جحوده كفر، سواء حكم أو لم يحكم.
ومنهم: من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله. قال: ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام. وهذا تأويل عبد العزيز الكناني. وهو أيضاً بعيد. إذ الوعيد على نفي الحكم بالمنزل. وهو يتناول تعطيل الحكم بجميعه وببعضه.
ومنهم: من تأولها على الحكم بمخالفة النص، تعمداً عن غير جهل به ولا خطأ في التأويل حكاه البغوي عن العلماء عموماً.
ومنهم: من تأولها على أهل الكتاب. وهو قول قتادة، والضحاك، وغيرهما. وهو بعيد، وهو خلاف ظاهر اللفظ. فلا يُصار إليه.
ومنهم: من جعله كفراً ينقل عن الملة.
والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم. فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه، مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر. وإن جهله وأخطأه؛ فهذا مخطئ، له حكم المخطئين" .
مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (1/82).
مجموع الفتاوى (3/267-268).
مجموع الفتاوى (35/388).
مجموع الفتاوى (35/361).
الرسالة التبوكية (ص44).
انظر: إعلام الموقعين (2/283).
مجموع الفتاوى (35/374).
مجموع الفتاوى (35/361).
مجموع الفتاوى (35/386).
تفسير ابن كثير (3/122-123).
وذلك بقولهم: "القانون فوق الجميع".
انظر: القراءات العشر المتواترة. إشراف ومراجعة وتدقيق الشيخ محمد كريم راجح.
أضواء البيان (7/172).
مجموع الفتاوى (35/363).
مجموع الفتاوى (35/372).
مجموع الفتاوى (35/383).
القول السديد (ص134).
مجموع الفتاوى (35/363).
مجموع الفتاوى (35/365).
مجموع الفتاوى (35/376).
مجموع الفتاوى (35/381).
إعلام الموقعين (1/82).
مجموع الفتاوى (35/372-373).
إعلام الموقعين (1/81).
مدارج السالكين (1/364-365).
خامساً: مفاسد الإعراض عن حكم الله تعالى:
إن من أعظم ما ابتلي به المسلمون في هذا القرن الأخير سقوط الخلافة الذي كان من نتائجه الوخيمة تنحية شرع الله تعالى وعدم التحاكم إليه في شئون الحياة، ثم ازداد الأمر سوءًا لما توالت شبهات الكفار والمستشرقين وأذنابهم من المنتسبين إلى الإسلام التي كان الغرض منها التشكيك في صلاحية أحكام الإسلام في هذا الزمان، وقد اتخذوا أوتارًا يدندنون عليها وسلكوا سبلاً يتسلّلون منها، من ذلك قضايا المرأة، وقضايا الرق، وقضايا الحدود كقطع يد السارق ورجم الزاني المحصن، وقضايا الحرية الشخصية كقتل المرتد، إلى غير ذلك من القضايا التي أرادوا من خلالها أن يطعنوا في الإسلام.
وقد حققوا بعض مرادهم، وشككوا كثيراً من المسلمين في بعض أحكام دينهم، على حين غفلة من بعضهم وجهل من آخرين.(/9)
ونحن نرى اليوم العواقب الوخيمة للحكم بغير ما أنزل الله في بلاد المسلمين، بعضها راجع إلى فساد في الدين، وبعضها راجع إلى فساد في الدنيا، ولأجل عظم هذه المفاسد وصف الله تعالى في موضع واحد من لم يحكم بكتابه بالكفر والظلم والفسوق، قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ساق الآيات في ذلك [المائدة:44، 45، 47]: "فأكد هذا التأكيد، وكرر هذا التقرير في موضع واحد لعظم مفسدة الحكم بغير ما أنزله، وعموم مضرته، وبلية الأمة به"، وقال رحمه الله: "لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم وعمتهم هذه الأمور".
ومن تلك المفاسد أيضًا:
1) انتشار الشرك، وفشوّ البدع، وظهور الدعاة إليهما، وتمكّنهم من بثّ شبهاتهم، ونشر دعواتهم.
2) ظهور المعاصي والإعلان بها، بل والتبجح بها والتنافس عليها.
3) تعطيل كثير من الأحكام الشرعية كجباية الزكاة وإقامة الحدود والحسبة وغير ذلك.
4) الفرقة والاختلاف والشقاق والنزاع الذي أدّى إلى سفك الدماء وسلب الأموال وإضعاف الشوكة وتقوية طمع الأعداء.
5) زعزعة بعض المبادئ في قلوب المسلمين، كمبدأ الولاء والبراء، ومبدأ الأخوة على أساس الدين لا على أساس الجنس أو الوطن أو اللغة أو الثقافة الجاهلية.
6) وكان من مفاسده العظيمة أيضًا حصول الخلاف والنزاع بين الدعاة المصلحين؛ لأنهم بعد اتفاقهم على فساد الوضع وقناعتهم بضرورة الإصلاح اختلفوا في سبيل ذلك، واستفحل الخلاف بينهم حتى أدى بهم إلى التعصب المشين والحزبية المقيتة، وقد استغلّ أعداء الدين هذه الفرقة واستثمروها في التمكين لمبادئهم والترويج لشبهاتهم.
7) تمكُّن أرباب المبادئ الهدامة من مراكز النفوذ في بلاد المسلمين مما سهل لهم إنجاز مخططاتهم وتطبيق برامجهم ومقرّراتهم.
8) نزول عذاب الله عز وجل وحلول نقمه من الزلازل والأوبئة والقحط والأعاصير وغير ذلك من النذر الربانية.
9) ذلّ المسلمين وهوانهم وخضوعهم لقرارات الكفرة بل وفرح بعضهم بتبعيتهم لهم.
إلى غير ذلك من المفاسد الكثيرة التي نعدّ منها ولا نعدّدها، والتي كلّ فرد منها أيضًا يجرُّ مفاسد أخرى لا يعلم مدى خطورتها وضررها على الأمة إلا الله تعالى.
إعلام الموقعين (2/280).
الفوائد (ص 42).(/10)
توحيد الله أولاً
44
أهمية التوحيد, نواقض الإسلام
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
حال البشرية عندما تضل عن سبيل الله – توحيد الله عز وجل , وإسلام الوجه له معناه وأهميته وعناية القرآن والسنة به – علاقة الأركان الخمسة بالتوحيد – التحذير من الشرك وأنواعه - صور جديدة من الخلل في التوحيد – الحديث عن الشرك وقوادح التوحيد لتحذير المسلمين منه لا للحكم عليهم بالكفر – خطأ منهج إغفال الحديث عن الأصول والإغراق في الفروع والمسائل النادرة , والتحذير من المسالك الكلامية
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله؛ فاتقوا الله الذي خلقكم، واستعينوا على طاعته بما رزقكم، فربُّكم جلَّت حكمته لم يخلقكم هملاً، ولم يترك أمركم في هذه الحياة مهملاً، بل خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.
أيها المسلمون: إن بني الإنسان حين يضلون عن سبيل الله يتخبطون في فوضى التدين، ويغرقون في ألوان الشرك وأوحال الجاهلية: وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32]. وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً [النساء:116].
البشر عقولهم قاصرةٌ عن أن تدرك طريق الصلاح بمفردها، أو تستبين سبيل الرشاد بذاتها. إنها لا تستطيع أن تجلب لنفسها نفعاً أو تدفع ضراً.
لا يرتفع عن النفوس الشقاء، ولا يزول عن العقول الاضطراب، ولا ينزاح عن الصدور القلق والحرج إلا حين تُوقن البصائر، وتُسلم العقول بأنه سبحانه هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الجبار المتكبر له الملك كله، وبيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله؛ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]. وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النساء:125].
أيها الإخوة: إن إسلام الوجه لله وإفراده بالعبادة يرتقي بالمؤمن في خلقه وتفكيره، يُنقذه من زيغ القلوب، وانحراف الأهواء، وظلمات الجهل، وأوهام الخرافة، ينقذه من المحتالين والدجالين، وأحبار السوء ورهبانه ممن يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً. التوحيد الخالص المخلص يحفظ الإنسان من الانفعالات بلا قيد أو ضابط.
أيها الإخوة، توحيد الله هو العبودية التامة له وحده سبحانه تحقيقاً لكلمة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله : في لفظها ومعناها والعمل بمقتضاها، يقيم المسلم عليه حياته كلها، صلاته ونسكه ومحياه ومماته.
توحيدٌ في الاعتقاد، وتوحيدٌ في العبادة، وتوحيدٌ في التشريع. توحيدٌ تُنَقَّى به القلوب والضمائر من الاعتقاد في ألوهية أحد غير الله، وتُنَقَّى به الجوارح والشعائر من أن تُصرف لأحد غير الله، وتُنَقَّى به الأحكام والشرائع من أن تتلقاها من أحدٍ دون الله عزَّ وجلَّ.
التوحيد هو أول الدين وآخره، وظاهره وباطنه، وقطب رحاه، وذروة سنامه. قامت عليه الأدلة، ونادت عليه الشواهد، وأوضحته الآيات، وأثبتته البراهين، نصبت عليه القبلة، وأُسست عليه الملة، ووجبت به الذمة، وعُصمت به الأنفس، وانفصلت به دار الكفر عن دار الإسلام، وانقسم به الناس إلى سعيدٍ وشقيٍّ ومهتدٍ وغوي.
أيها الإخوة: لقد كانت عناية القرآن بتوحيد الله عظيمة فهو القضية الكبرى، ومهمة الرسل الأولى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ [النحل:36]. وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَانِ ءالِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]. فالقرآن كله حديثٌ عن التوحيد، وبيان حقيقته والدعوة إليه، وتعليق النجاة والسعادة في الدارين عليه. حديثٌ عن جزاء أهله وكرامتهم على ربِّهم، كما أنه حديثٌ عن ضدِّه من الشرك بالله وبيان حال أهله وسوء منقلبهم في الدنيا، وعذاب الهون في الأخرى؛ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]. إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48].
والأوامر والنواهي ولزوم الطاعات وترك المحرمات هي حقوق التوحيد ومكملاته.
القرآن العظيم يخاطب الكفار بالتوحيد ليعرفوه ويؤمنوا به ويعتنقوه؛ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]. فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ الهاً ءاخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الذاريات:50-51].(/1)
وكل نبي يقول لقومه: يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ اله غَيْرُهُ [الأعراف:59]. وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]. ويُخاطَب به المؤمنون ليزدادوا إيماناً، وليطمئنوا إلى تحقيق توحيدهم، وليحذروا النقص فيه أو الخلل؛ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ [النساء:136].
ومن صفات عباد الرحمن: وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ [الفرقان:68]. ومن نعوت أهل الإيمان الموعودين بالتمكين في الأرض: يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55].
بل لقد خاطب الله أنبياءه ورسله بنبذ الشرك والبراءة من أهله والإعراض عنه وعنهم فقال عز وتبارك: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26]. وقال عز وجل: وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ الهكَ وَاله آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ الها وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:132-133]. وقال سبحانه: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مّنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66]. قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَابِ [الرعد:36]. وَادْعُ إِلَى رَبّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [القصص:87]. اتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ لا اله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106].
قال أهل العلم رحمهم الله تعليقاً على هذه الآيات وأمثالها: فإذا كان يُنهى عن الشرك من لا يمكن أن يباشره فكيف بمن عداه؟؟ ولقد قال إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام: وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ [إبراهيم:35-36]. قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟؟.
هذا بعض خبر القرآن.
أما السنة فإن بعثة رسول الله ورسالته وسيرته من أولها إلى آخرها؛ مكيِّها ومدنيّها، حضرها وسفرها، سِلمها وحربها، كلها في التوحيد منذ أن أُمر بالإنذار المطلق في سورة المدثر: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5] إلى الأمر بإنذار العشيرة فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ الهاً ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:213-214]. إلى الأمر بالصدع بالدعوة فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94]. ثم من بعده الأمر بالهجرة لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] والإذن بالقتال والجهاد: الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:40]. إلى فتح مكة حين كسرت الأصنام وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [الإسراء:81]. إلى الإعلام بدنو الحِمام فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3]. وقال وهو في مرض موته: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))[1].
لم تخلُ فترةٌ من هذه الفترات البتة من إعلان التوحيد وشواهده ومحاربة الشرك وظواهره، ويكاد ينحصر عرضُ البعثة كلِّها في ذلك؛ فما ترك عليه الصلاة والسلام تقريرَ التوحيد وهو وحيدٌ، ولا ذهل عنه وهو محصورٌ في الشعب، ولا انصرف عنه وهو في مسالك الهجرة والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وأمره ظاهر في المدينة بين أنصاره وأعوانه، ولا أغلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة الفتح المبين، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرار عرض البيعة على التوحيد ونبذ الشرك؛ فهذه سيرته المدونة وأحاديثه الصحيحة، والقرآن من وراء ذلك كله.
من أجل هذا كان التوحيد أولاً ولا بد أن يكون أولاً في كل عصر وفي كل مصر.
أما أركان الإسلام الخمسة الكبرى ومعالمه العظمى فشرعت لتعلن التوحيد وتجسده وتقرره وتؤكده تذكيراً وتطبيقاً، وإقراراً وعملاً. فالشهادتان إثبات للوحدانية، نفيٌ للتعدد وحصر للتشريع والمتابعة في شخص المرسَل المبلِّغ محمد .(/2)
الصلاة مفتتحةٌ بالتكبير المنبئ عن طرح كل من سوى الله عز شأنه واستصغار كل من دون الله عز وجل. ناهيك بقرآن الصلاة وأذكارها في منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
أما الزكاة فهي قرينة الصلاة في التعبد والاعتراف للرب الجليل وإخراجها خالصة لله طيبة بها النفس براءةً من عبادة الدرهم والدينار: وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت:6-7].
أما الصيام الحق فهو الذي يدعُ الصائمُ فيه طعامه وشرابه وشهوته من أجل ربه ومولاه.
أما الحج فشعار الأمة كلها في هذه البطاح والبقاع فهو التلبية بالتوحيد ونفي الشرك.
يقول أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في ذلك كله: (نحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة وغيرهما من العبادات إنما شرعت للتقرب إلى الله والرجوع إليه وإفراده بالتعظيم والإجلال، ومطابقة القلب للجوارح من الطاعة والانقياد).
وفي مأثور نبينا محمد في الورد اليومي الذي يجعله المسلم في حزبه: ((أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين))[2]. وفي الدعاء النبوي: ((اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم))[3].
عباد الله: ما كانت هذه الأدلة المتكاثرة، والحجج المتظافرة، والبراهين المتوافرة، إلا لعظم الأمر، وخطر شأن القضية،وشدة الخوف على الناس من الانحراف والقلوب من الزيغ. ولماذا لا يُخاف عليهم؟ والشياطين ما فتئت تترصد لبني آدم تجتالهم وتُغويهم.
وفي الحديث القدسي: ((خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أنزِّل به سلطاناً))[4]. أخرجه مسلم من حديث عياض المجاشعي.
كيف لا يكون الخوف والرسول خاطب أصحابه الصفوة المختارة من الأمة: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))؟؟[5].
ويزداد الخوف حين يتأمل المتأمل قوله : ((الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل))[6]، بل لقد أخبر عليه الصلاة والسلام: ((أن فئاماً من الأمة تعبد الأوثان وقبائل تلحق بالمشركين))[7].
والحافظ ابن كثير رحمه الله يعلِّق على قول الله تعالى: ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]. قال رحمه الله: فيه تشديد لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته.
لماذا – يا عباد الله – لا يُخاف الخلل في التوحيد والنقص في صدق التعبد والتعلق؟ لماذا لا يُحذر من الشرك وأنواعه وأسبابه والله يقول في محكم تنزيله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:106]. قال بعض أهل العلم في هذه الآية دلالةٌ على ما يتخلل بعض الأفئدة، وتنغمس فيه بعض النفوس من الشرك الخفي الذي لا يشعر به صاحبه غالباً؛ فمثل هذا وإن اعتقد وحدانية الله لكنَّه لا يخلص له في عبوديته فيتعلق بغير ربه، بل ويعملُ لحظِّ نفسه أو طلب دنياه أو ابتغاء رفعةٍ أو منزلة أو قصدٍ إلى جاهٍ عند الخلق فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب، والله أغنى الشركاء عن الشرك.
أيها الإخوة في الله: الأمر خطير ودقيق، شرك خفيٌ في المحبة والتألُّه والخضوع والتذلل، من أعطى حبَّه وذله وخضوعه وتسليمه وانقياده وطاعته لغير الله فكيف يكون حقَّق التوحيد؛ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]. اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ [التوبة:31].
هذا شرك في الخوف والرجاء، وآخر في الجهاد والتضحية، وذاك شرك في باب الأسباب، وذلك في باب النفع والضرر.
وانظروا في السحر والشعوذة والتطير والتشاؤم والرقى والتمائم، والحلف بغير الله في صور لا تكاد تُحصر. والغلو في الصالحين، ناهيك بدعاء غير الله، وطلب الغوث من المقبورين، والطواف حول الأضرحة، يدعون عندها ثم يدعونها، ويعلقون عليها القناديل والسرج والستور، ويذبحون عندها ولها، ويتمسحون، ويتطور الحال حتى يتخذونها أعياداً ومنسكاً فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة: وصورةٌ جديدةٌ من صور الخلل في التوحيد باءت بها فئات من المنتسبين إلى الإسلام تزعم الثقافة والاستنارة لا ترضى بحكم الله ولا تسلم له، بل إن في قلوبها لحرجاً، وفي صدورها لغيظاً وضيقاً؛ إذا أقيم حدٌ من حدود الله ارتعدت فرائصهم، واشمأزت قلوبهم، قاموا وقعدوا، وأرغوا وأزبدوا، ولهم إخوان يمدونهم في الغي، يزعمون الحفاظ على حقوق الإنسان، وما ضاعت حقوق الإنسان وحقوق الأمم إلا بهم وبأمثالهم.(/3)
الإسلام عندهم ظلم المرأة وهضم حقوقها، والحدود قسوة وبشاعة وتخلف، وحكم الردة تهديد لحرية الإبداع والفكر، وأحكام الشرع كلها عودة إلى عصور الظلام والتعصب والانغلاق؛ بل لقد أدخلوها في نفق الإرهاب المقيت. فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65].
الله أكبر: التوحيد صعب على الأذلاء ومن سِيموا الخسف والذل والتبعية: أَجَعَلَ الاْلِهَةَ الهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَىْء عُجَابٌ [ص:5].
صعبٌ على من استمرؤوا الفساد وولغوا في الأوحال: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45].
إنهم لا يعرفون التوحيد، ولا يعرفون صفاء الدين مستعبدون في فكرهم، مشركون في تفكيرهم. وكأنهم قالوا للذين كفروا وكرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر، بل في كلِّ الأمر، إنهم حين لم يعرفوا التوحيد ولم يحققوه أصبحوا وكأنهم فئة منفصلة عن أمة الإسلام بفكرها وسمتها ورؤيتها وغايتها، مشدودة من خارجها من الشرق والغرب في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب. وقد تجلى ذلك في تجاهلهم بل تمردهم على تاريخ الأمة وأصالتها وتراثها.
وبعد أيها الإخوة: فإن نعمة التوحيد يخرج بها قلب العبد من ظلمات الشرك وجهالاته إلى نور الإيمان بالله وتوحيده، يخرج من التيه والحيرة والضلال والشرود إلى المعرفة واليقين والطمأنينة والرضا والهداية يخرج من الدينونة المذلة لأرباب متفرقين إلى الدينونة الموحِّدة لرب الأرباب لاَ اله إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهِمْ راجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61].
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلاة – باب الصلاة في البيعة (436)، ومسلم: كتاب المساجد وموضع الصلاة – باب النهي عن بناء المساجد على القبور ... حديث (529).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (3/406)، والدارمي: كتاب الاستئذان – باب ما يقول إذا أصبح، حديث (2688)، وابن أبي شيبة: كتاب الأدب – باب في الرجل ما يقول إذا أصبح (243). قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح. مجمع الزوائد (10/116)، وصححه النووي والعراقي. فيض القدير (5/105) والألباني في تعليقه على شرح العقيدة الطحاوية (ص97)، حاشية (32).
[3] صحيح، أخرجه أحمد (4/403)، وابن أبي شيبة: كتاب الدعاء – باب في التعوذ من الشرك ... (7/88)، والبخاري في الأدب المفرد: باب فضل الدعاء، حديث (716). قال المنذري: رواته إلى أبي علي محتج بهم في الصحيح، وأبو علي وثقه ابن حبان، ولم أرَ أحداً جرحه. الترغيب (1/40)، وصححه الألباني، صحيح الأدب المفرد (551)، وصحيح الترغيب (36).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (4/125)، (5/428)، والطبراني في الكبير (4301)، والبزار (2663)، وابن ماجه: كتاب الزهد – باب الرياء والسمعة، (4205) بنحوه. بشاهد (4/237)، وجوّد المنذري إسناد أحمد، وتكلم على الحديث بكلام جيد. انظر الترغيب (1/34)، وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. المجمع (1/102)، وصححه الألباني، صحيح الترغيب (32).
[5] صحيح، أخرجه أحمد (5/428)، والطبراني في الكبير (4301)، والبزار (2663)، وجوّد إسناد المنذري في الترغيب (1/34). قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (1/102). وصححه الألباني، صحيح الترغيب (32).
[6] صحيح، جزء من حديث سبق تخريجه في حاشية رقم (3).
[7] صحيح، أخرجه أحمد (5/278، 284)، وأبو داود: كتاب الفتن والملاحم – باب ذكر الفتن ودلائلها، حديث (4252)، والترمذي: كتاب الفتن – باب ما جاء ((لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون)) حديث (2219) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه: كتاب الفتن – باب ما يكون من الفتن، حديث (3952). وصححه الحاكم (4/448)، وذكره الحافظ في الفتح (13/85)، وصححه الألباني، صحيح سنن أبي داود (3577).
الخطبة الثانية(/4)
الحمد لله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله حَمى حِمى التوحيد وسدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك، فأظهر الله به دينه على الدين كله ولو كره المشركون صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: تحقيق التوحيد يحتاج إلى يقظة قلبية دائبةٍ دائمةٍ تنفي عن النفس كلَّ خاطرة تقدح في عبودية العبد لربه، وتدفع كلَّ خالجة شيطانية في كل حركة أو تصرفٍ، ليكون ذلك كلَّه خالصاً لله وحده دون من سواه.
ومع شديد الأسف – أيها الإخوة – فإن قوادح التوحيد ومنقصاته صارت عند كثير من الناس من أخفى المعاصي معنى وإن كانت من أجلاها حُكماً، فلظهور حكمها ترى المسلمين عامَّتهم يتبرؤون منها ويغضبون كلَّ الغضب إذا نسبوا إليها وهم في هذا الغضب محقون، ولكن لخفاء معناها وقع فيها من وقع وهم لا يشعرون.
ولقد قرر أهل العلم أن الخوض في قوادح التوحيد والحديث عن مظاهر الشرك هي طريقة القرآن. وذلك من أجل تحذير المسلمين وليس الحكم عليهم به؛ فأهل السنة والجماعة لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلَّه، ولا يزال أهل العلم يتكلمون عن أحكام الردة وأسبابها، وطرق الزيغ والضلال، ومسالك الابتداع والتحذير منها، فمن علم العقائد الصحيحة وعلَّمها ودل عليها وحذر من طرق الزيغ والكفر والبدع فقد سلك مسلك حقٍّ، ونهج منهجَ نُصحٍ.
وإن مما ينبغي التنبيه إليه أن من الخطأ في المنهج وعدم التوازن في العرض وطرق التعليم أن ترى كثيراً من الكتب والمؤلفات تُفَصِّل في الفروع وأحكام المسائل حتى النادر منها وبعيد الوقوع؛ وهذا شيء في بابه حسن، ولكنهم لا يُعنون بالأصول مما يحتاجه الناس والناشئة فلا يُفضلون في التوحيد وأنواعه وحقوقه ولا يبينون ضدَّه من الشرك وأنواعه ومظاهره وأسبابه.
وثمَّت خطأ منهجي آخر وهو أن المتقدمين رحمهم الله سلكوا في باب العقائد مسالك كلامية ومصطلحات منطقية فخفي على الناس كثير من مهمات العقائد وأصول الدين، ولو سلكوا مسلك القرآن في البيان لكان المتعلمون والناس أحرى بهداية الله وفضله في هذا الباب؟!.
يقول ابن حجر الهيثمي رحمه الله: (ينبغي منع من يُشهر علمَ الكلام بين العامة لقصور أفهامهم ولأنه لا يؤمن بهم إلى الزيغ والضلال، ولابدَّ من أخذ الناس بفهم الأدلة على ما نطق به القرآن ونبه عليه، إذ هو بين واضح يُدرك ببداهة العقل).
ألا فاتقوا الله رحمكم الله: وأخلصوا دينكم لله، وحققوا توحيدكم واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.(/5)
تَوْسِعَةُ الْمَسْجِدِ
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خير خلقه وأفضل رسله محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلمَّا كانتِ المساجدُ دُورَ العبادة والأمكنة التي يجتمع الناس إليها، وهي أفضل الأمكنة عند الله كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: (خير البقاع المساجد وشرها الأسواق)(1) فإن العناية بها أفضل من غيرها من البيوت الأخرى،فعندما تمتاز بالسعة والنظافة والتهوية الجيدة يُؤدِّي المصلِّي فيها الصلاة من غير تضايق أو تضجر، ومِنْ أهمِّ الأشياء في المسجد أن يكون فسيحاً واسعاً حتى يتسع للمصلين، فيصلون داخله وهم في راحة واطمئنان.
وقد توجد بعض المساجد الضيقة التي يزدحم فيها المصلون لضيقها، ويصلون أحياناً في خارج المسجد بين حر الشمس وغيرها من الأمور التي تؤدي إلى تضايق المصلين.
وتوسعة المساجد حسب الحاجة من الأمور المهمة، فقد كان السلف الصالح-رضوان الله عليهم- يعملون على توسعة المساجد؛ لتتسع لعدد كبير من المصلين؛ حتى يتعارفوا، ويكونوا في كل حي من الأحياء كتلة واحدة، وأسرة واحدة، يضمهم مسجد واحد، ولكن أصبح الآن كلما ضاق بهم مسجد من المساجد؛ قاموا بإنشاء مسجد آخر إلى جواره، بدل من توسعة المسجد الأول، وقد يكون المسجد الجديد صغيراً، وما يلبث إلا أياماً حتى يزدحم فيه المصلون كما هو في السابق، أو يفرق جماعة المسلمين ويقسمهم إلى كتل، والمسجد الذي يفرق المسلمين يتشبه مسجد الضرار ,فينبغي التنبه لذلك.
فالواجب أن يوسع المسجد ولا يُبنى غيره عنده، بل يُنظر مكان لا يُوجد فيه مسجدٌ, ويُبنى فيه.
وعلى المسلمين أن يقصدوا المسجد الكبير؛ولو كان بعيداً؛لأن جماعة المسلمين فيه أكثر, فيكون الأجرُ فيه أعظم.
وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري -وهو على البصرة- يأمره أن يتخذ للجماعة مسجداً،ويتخذ للقبائل مسجداً،فإذا كان يوم الجمعة؛ انضموا إلى الجماعة، فشهدوا الجمعة،وكتب إلى أمراء الأجناد أن يتخذوا في كل مدينة مسجداً واحداً(2).
وقال السيوطي في كتاب "الأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع": (من المحدثات كثرة المساجد في المحلة الواحدة،وذلك لما فيه من تفريق الجمع،وتشتت الشمل، وحل عروة الانضمام في العبادة،وذهاب رونق وفرة المتعبدين،وتعديد الكلمة،واختلاف المشارب، ومضادة حكمة مشروعية الجماعات...).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "تفسير سورة الإخلاص": (كان السلف يكرهون الصلاة فيما يشبه مسجد الضرار،ويرون العتيق أفضل من الجديد؛لأن العتيق أبعد من أن يكون بُني ضراراً من الجديد الذي يُخاف ذلك فيه،وعتق المسجد مما يُحمَد له؛ولهذا قال تعالى: { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ }(3) وقال -سبحانه-: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ }(4)، فإن قدَمَهُ يقتضي كثرةَ العبادةِ فيه –أيضاً-،وذلك يقتضي زيادةَ فضلِهِ)(5).
وتوسعةُ المسجدِ يُمكن أنْ يتمَّ-إذا كان المكانُ ضيِّقاً-برفعِهِ إلى الطَّابقِ الثاني،فيصلى فيه بعد أن يمتلئ المسجدُ الأصليُّ،وهذا الأمرُ جائزٌ،واللهُ أعلمُ.
وتوسعة المساجد وإصلاحها هي من واجبات الحكومات، ولكن إذا فعلها أهل الخير فهذا فيه فضل عظيم وأجر كبير،فقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: (من بنى مسجداً -قال بكير: حسبت أنه قال-: يبتغي به وجه الله, بنى الله له مثلَهُ في الجنَّةِ) وفي رواية هارون: (بنى اللهُ له بيتاً في الجنَّةِ) متفق عليه.
وعن جابر بن عبد الله أنَّ رسولَ اللهِ-صلى الله عليه وسلم- قال: (من بنى مسجداً لله كمفحص قطاة(6) أو أصغر, بنى الله له بيتاً في الجنة)(7) فلا شك أن من وسع مسجداً أو ساهم في توسعته فله أجر عند الله -تعالى-، وله نصيب من هذا الأجر المذكور في الأحاديث –إن شاء الله-.. نسأل الله أن يوفقنا للخير أينما كنا،وأن يعيننا على فعله،وأن يعظم لنا أجر،والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
________________________________________
1 - صحيح ابن حبان (4/476)، وحسنه الألباني انظر صحيح الجامع الصغير رقم (3271).
2 - تلخيص الحبير (2/55)..
3 - سورة الحج: 33.
4 - سورة آل عمران 96.
5 - نقله الشيخ القاسمي في "إصلاح المساجد" ص 97، نقلاً من حاشية المسجد في الإسلام ص 46.
6 - مفحص: المكان التي تجثم فيه، القطاة طائر صغير.
7 - رواه ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن ابن ماجه رقم (603).(/1)
ثمرات الطهارة
دار الوطن
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي .. أما بعد:
لما كانت الطهارة فيها فوائد عظيمة وثمرات جلية وحِكَم ومنافع للقلوب والأبدان، أحببنا أن نقف على بعض ثمرات الطهارة، فليس الأمر فقط غسل هذه الأطراف للنظافة والطهارة، بل إن هناك حِكماً وفوائد عظيمة في الوضوء ومصالح لا تخطر على بال كثير من الناس، من أجل هذا وغيره من الأسباب جمعنا هذه الثمرات والفوائد، وهي كثيرة نقتصر على بعض منها.
فإليكم ثمرات الطهارة وفوائدها:
1- لما كانت هذه الأطراف هي محل الكسب والعمل، وكانت هذه الأطراف أبواب المعاصي والذنوب كلها، منها ما يكون في الوجه كالسمع والبصر، واللسان والشم والذوق، وكذا الأمر في سائر الأعضاء، كان الطهور مكفراً للذنوب كلها، أخرج الإمام أحمد والنسائي عن عبدالله الصنابحي أنه بمنديل للنبي في آخر آية الوضوء في سورة المائدة عند قوله تعالى: قال: النعمة منها تكفير السيئات.
2- أن من ثمار هذا الوضوء، أنه سيما هذه الأمة وعلامتهم في وجوههم وأطرافهم يوم القيامة بين الأمم، وليست لأحد غيرهم. والمراد بالحلية الإكثار من الوضوء وليست الزيادة على أعضاء الوضوء.
أخرج الإمام البخاري عن أبي هريرة يقول: { أن أمتي يأتون يوم القيامة غرلاً محجلين من أثر الوضوء } وفي رواية لأحمد: كيف تعرف أمتك يا رسول الله من بين الأمم فيما بين نوح إلى امتك... فذكر الحديث.
3- ومن ثمرات الطهور تنشيطه للجوارح وزيادة في ذهاب الأخلاف التي على البدن، فيقف العبد في طهارة ونشاط، وهذا مجرّب لأن الماء يعيد إليه نشاطه وقوته وحيويته، والأبلغ منه الغسل، وقد قال رسول الله أنه قال: { لا يحافظ على الوضوء إلا المؤمن } فمن ثمرات المحافظة على الطهارة الشهادة له بالإيمان.
6- أن من ثمرات الطهارة أنه إذا انتهى العبد من الوضوء وختمه بالشهادتين كان موجباً لفتح أبواب الجنة، أخرج الإمام مسلم عن عمر وعقبة رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: { من بات طاهراً بات في شعاره ملك - وهو الملاصق للجسم من الملابس - فلا يستيقض من الليل إلا قال الملك: اللهم اغفر لعبدك كما بات طاهراً }، فيحصل العبد إذا نام على طهارة على ثلاث خصال، أنه يبات الملك في شعاره، ودعاء الملك له بالمغفره، وأنه إذا مات مات على طهارة مع أن النوم موتة صغرى.
8- ومن ثمرات الطهارة أن الله يرفع صاحبها بها الدرجات، أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة : { ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قالوا: بلى، قال: إسباغ الوضوء على المكاره }، فإسباغ الوضوء في البرد ولاسيما في الليل رفعة في الدرجات، ويباهي الله به الملائكة، وينظر الله إلى صاحبه.
9- ومن ثمرات الطهارة أن الوضوء في البيت ثم الخروج إلى المسجد على الطهارة يكون ممشاه نافلة حيث إن الله كفر ذنوبه بالوضوء، ويكون صاحبه زائراً لله، أخرج الإمام الطبراني - وسنده جيد - عن سلمان إنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أنه قال: { لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه }. وقد رواه تسعة من الصحابة، وقد حسّنها ابن كثير والمنذري وابن القيم وابن حجر والشوكاني؛ لأن الضعف كان من جهة الحفظ فتظافرت بمجموعها فكان درجة الحديث الحسن لغيره، لأنه لو كان الضعف من جهة كون الراوي متهمًا بالكذب فلا يعتضد بعضها ببعض.
وحكم التسمية: الصحيح من أقوال أهل العلم أنها مستحبة. وهذا قول الجمهور، وذلك لظاهر الكتاب كما في آية المائدة في صفة الوضوء فلم يأمر الله يالتسمية، وحديث الأعرابي لمّا سأل النبي : { إذا استيقظ أحدكم من النوم فليغسل يديه ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده }، سواء كان يصب الماء على يديه، أو كان يغرف بيده، فيلزمه غسل اليدين بعد القيام من النوم. أما إذا لم يكن نائماً فيكون الغسل مستحباً؛ لأن اليدين هي الناقل لأعضاء الوضوء فيستحب غسلها قبل إدخالها في الإناء.
4- المضمضة والاستنشاق من كفّه اليمنى بغرفة واحدة للفم والأنف ثلاث مرات، لحديث عنه كما في صفة وضوئه ، أما الزيادة بعد ذلك، فلا تشرع لأنه لم يفعله ، لأنه أخشى الناس وأتقاهم لله جل وعلا.
7- مسح الرأس ومنه الأذنان، ويمسح مرة واحدة من مقدمة الرأس إلى القفا، ثم العودة مرة أخرى إلى الناصية كما ورد عنه : { ثم مسح رأسه فاقبل بهما وأدبر مرة واحدة }، أما بالنسبة للمرأة فالسنة تمسح مرة واحدة إقبالاً بلا إدبار.
8- غسل الرجلين إلى الكعبين ثلاث مرات ويدخل في ذلك أيضاً الكعبين.
تنبيه: اعلم أنه يجوز للمتوضئ أن يغسل بعض الأعضاء ثلاث مرات وبعضها مرتين وبعضها مرة. فالمتوضئ مُخيّر فأعلى الكمال ثلاث مرات، وأوسطه مرتين، وأدناه مرة واحدة، ويجوز غسل بعض الأعضاء ثلاث وبعضها مرتين وبعضها مرة.
9- المحافظة على السنة القولية التي تقال بعد الانتهاء من الوضوء.
هذه هي صفة الوضوء الكامل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ...
موقع كلمات(/1)
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=148 ...(/2)
جرائم أمريكا عبر التاريخ ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- جرائم أمريكا في اليابان وفيتنام ومع الهنود الحمر. 2- جرائم أمريكا بحق المسلمين في العراق وأفغانستان. 3- إساءة أمريكا للأسرى المسلمين. 4- سنة الله عز وجل في إهلاك الأمة الظالمة لا تتبدل ولا تتغير. 5- وجوب مناصرة الشعب العراقي بكل وسيلة. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد: كان يظن كثير من الناس ـ بسبب الإعلام المزيف لسنوات عديدة ـ بأن أمريكا هي فعلاً دولة الديمقراطية، ودولة الحرية، وأنها راعية السلام، فتبين ـ ولله الحمد ـ من خلال غزوها الصليبي لبلاد العراق، كذب ذلكم الادّعاء، وتبين زيف ديمقراطيتها وحريتها. وقد آن الأوان أن نقلب بعض أوراق التاريخ، ونُخرج ما يجهله الكثيرون عن هذه الدولة الطاغية المعتدية، من خلال عرض سريع لبعض جرائمها عبر التاريخ.
إن أمريكا عدوّة الإنسانية، ليس المسلمين فحسب، بل من كل ملة، اسألوا أفريقيا السوداء، واسألوا اليابان، واسألوا أمريكا الجنوبية، الذين يُجزرون بعشرات الملايين، أرقام خيالية، وأعداد مذهلة، ووفيات فوق حسابات البشر، قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30]. وطريقة القتل عند الأمريكان طريقة وحشية، وليست إنسانية، فهم يصبون وابلاً من أطنان القنابل على الأبرياء، وكأنهم يصبونها على جبال صماء، وصدق الله حيث يقول: إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ [الكهف:20].
في ليلة من ليالي عام 1366هـ، في الحرب العالمية الثانية، دمرت 334 طائرة أمريكية ما مساحته 16 ميلاً مربعًا من طوكيو، بإسقاط القنابل الحارقة، وقتلت مائة ألف شخص في يوم واحد، وشردت مليون نسمة، ولاحَظَ أحدُ كبار الجنرالات بارتياح، أن الرجال والنساء والأطفال اليابانيين قد أحرقوا، وتم غليهم وخبزهم حتى الموت، وكانت الحرارة شديدة جدًا، حتى إن الماء قد وصل في القنوات درجة الغليان، وذابت الهياكل المعدنية، وتفجر الناس في ألسنة من اللهب، وتعرضت أثناء الحرب حوالي 64 مدينة يابانية للقنابل، واستعملوا ضدهم الأسلحة النووية، ولذلك فإن اليابان لا تزال حتى اليوم تعاني من آثارها.
وألقت قنبلتين نوويتين فوق مدينتي هيروشيما ونجازاكي، وقال بعدها الرئيس الأمريكي هاري ترومان، وهو يكنّ في ضميره الثقافة الأمريكية: "العالم الآن في متناول أيدينا". وما بين عام 1371هـ وعام 1392هـ ذبحت الولايات المتحدة في تقدير معتدل زهاء عشرة ملايين صيني وكوري وفيتنامي وكمبودي، وتشير أحد التقديرات إلى مقتل مليوني كوري شمالي في الحرب الكورية، وكثير منهم قتلوا في الحرائق العاصفة في "بيونغ يانغ" ومدن رئيسة أخرى.
وفي منتصف عام 1382هـ سببت حرب فيتنام مقتل 160 ألف شخص، وتعذيب وتشويه 700 ألف شخص، واغتصاب 31 ألف امرأة، ونُزعت أحشاء 3.000 شخص وهم أحياء، وأحرق 4.000 حتى الموت، وهوجمت 46 قرية بالمواد الكيماوية السامة.
هذه هي أمريكا، وهذه بعض أفعالها لمن يجهلها. وأدى القصف الأمريكي "لهانوي" في فترة أعياد الميلاد، وعام 1391هـ إلى إصابة أكثر من 30 ألف طفل بالصمم الدائم. وقتل الجيش الأمريكي المدرب في "غواتيمالا" أكثر من 150 ألف فلاح، ما بين عام 1385هـ و عام 1406هـ.
وقاموا بإبادة ملايين الهنود الحمر، يصل عددهم في بعض الإحصائيات إلى أكثر من مائة مليون، وهم السكان الأصليون لأمريكا، وبعدها أصدرت قرارًا بتقديم مكافأة مقدارها 40 جنيهًا، مقابل كل فروة مسلوخة من رأس هندي أحمر، و40 جنيهًا مقابل أسر كل واحد منهم، وبعد خمسة عشر عامًا، ارتفعت المكافأة إلى 100 جنيه، و50 جنيه مقابل فروة رأس إمرأه أو فروة رأس طفل، هذه هي الحضارة الأمريكية.
وأصدرت بعد ذلك قانونًا بإزاحة الهنود من أماكنهم إلى غربي الولايات المتحدة؛ وذلك لإعطاء أراضيهم للمهاجرين، وكان ذلك عام 1245 هـ، وهُجّر إلى المناطق الجديدة أكثر من 70.000 ألف هندي، فمات كثير منهم في الطريق الشاق الطويل، وعرفت هذه الرحلة تاريخيًا: برحلة الدموع.
وفي عام 1763م أمر قائد أمريكي برمي بطانيات كانت تستخدم في مصحات علاج الجدري إلى الهنود الحمر؛ بهدف نشر المرض بينهم، مما أدى إلى انتشار الوباء الذي نتج عنه موت الملايين، ونتج عن ذلك شبه فناء للسكان الأصليين في القارة الأمريكية. إنها حرب جرثومية بكل ما في الكلمة من معنى، فكانت هذه الحادثة هي أول وأكبر استخدام لأسلحة الدمار الشامل ضد الهنود الحمر.
وفي إحدى المعارك قتلت أمريكا فيها خلال ثلاثة أيام فقط 45.000 ألف من الأفريقيين السود، ما بين قتيل وجريح ومفقود وأسير.
وأمريكا أكثر من استخدم أسلحة الدمار الشامل، فقد استخدمت الأسلحة الكيماوية في الحرب الفيتنامية، وقتل مئات الآلاف من الفيتناميين. وأمريكا أول من استخدم الأسلحة النووية في تاريخ البشرية.(/1)
هذه جرائم الطاغية الباغية رأس الكفر أمريكا في حق غير المسلمين، وهذا ما لطخته أمريكا بأيديها القذرة النجسة، وهذه بعض جرائمها وأرقامها الخيالية، فهي لا تراعي لذي حَرم حرمته، ولا لحر حريته، ولا للإنسان إنسانيته.
أيها المسلمون، وأما جرائمهم في دماء المسلمين فحدث ولا حرج، فملفاتهم سوداء من دماء المسلمين، ودم المسلم دم وحشي في قاموس أمريكا، ليس له حرمة ألبتة، بل هو في نظر أمريكا أخس من الكلاب النجسة، وقد ثبت أنهم يقولون عن الرسول أنه رجل شاذ، وتزوج عدة مرات للوصول إلى السلطة، ومثل هذه الادعاءات الملعونة، تدرس لديهم في مناهجهم الدراسية، وقد أنتجوا أكثر من 700 فيلم يسيء للإسلام والمسلمين. ويرى الرئيس السابق نكسون أن ليس هناك من شعب ـ حتى ولا الصين الشعبية ـ له صورة سلبية في ضمير الأمريكيين، بالقدر الذي للعالم الإسلامي.
أيها المسلمون، وهذه بعض جرائم أمريكا الديمقراطية، في قتلهم الوحشي الشنيع ضد المسلمين، لقد قُتل أكثر من مليون طفل عراقي، بسبب قصف الطائرات الأمريكية للعراق، وحصارها الظالم له خلال أكثر من عشر سنوات، وأصيب الآلاف من الأطفال الرضع في العراق بالعمى لقلة الأنسولين، وهبط متوسط عمر العراقيين 20 سنة للرجال، و11 سنة للنساء، بسبب الحصار والقصف الأمريكي، وأكثر من نصف مليون حالة وفاة بالقتل الإشعاعي. وقد رفع أحد المحامين النصارى الأمريكيين دعوى على الرئيس الأمريكي جورج بوش ـ الأب ـ يطالب فيها بمحاكمته على أنه مجرم حرب، بسبب ما أحدثه في العراق من قتل وتدمير.
وارتكب الأمريكان المجازر البشعة، في حرب الخليج الثانية ضد العراق، فقد استخدمت أمريكا متفجرات الضغط الحراري، وهو سلاح زنته 1500 رطل. وكان مقدار ما ألقي على العراق من اليورانيوم المنضب أربعين طنًا، وألقي من القنابل الحارقة ما بين 60 إلى80 ألف قنبلة، قتل بسببها 28 ألف عراقي. وقتل الآلاف من الشيوخ والنساء والأطفال الفلسطينيين بالسلاح الأمريكي. وقتل الآلاف من اللبنانيين واللاجئين الفلسطينيين في المجازر التي قامت بها إسرائيل بحماية ومباركة أمريكية.
وما بين تاريخ 1412و1414هـ قتل الجيش الأمريكي الآلاف من الصوماليين أثناء غزوهم للصومال. وفي عام 1419هـ شنت أمريكا هجومًا عنيفًا بصواريخ كروز على السودان وأفغانستان، وقصفوا خلاله معمل الشفاء للدواء في السودان، وقتلوا أكثر من مائتين، وحتى هذه الساعة، لا يوجد سبب واحد ومعلن للفجوة بين أمريكا والسودان غير الإسلام، بصفته كيانًا عربيًا أفريقيًا إسلاميًا موحدًا، ولأجل ذلك كثفت أمريكا جهودها، وسعت للالتقاء بجميع المعارضين "الميرغني والصادق المهدي وقارنق" وألّبت جميع جيرانها ضدها، ودعمت حركة التمرد، وبعض الدول المحيطة بها.
والعجيب أن أمريكا تسعى بكل طاقاتها، للضغط على العرب من أجل السلام مع إسرائيل، وفي نفس الوقت تقف بكل إمكانياتها في عرقلة السلام في السودان، من خلال توظيف النصارى في الجنوب، والذي تصل نسبتهم إلى 5% من السكان فقط، ويأتي القرار الأمريكي المشؤوم يدين السودان، ثم تأتي الصواريخ الأمريكية لتقصف مصنع الشفاء للأدوية، وهي لا تملك أدلة تستدل بها، وهل يقبل المنطق أن هذا المصنع يهدد الأمن الأمريكي؟ إن الهدف الحقيقي لضرب السودان هو العنجهية الأمريكية، وإضعاف السودان اقتصاديًا والضغط عليها سياسيًا.
وقتل في أفغانستان خلال ثلاثة أشهر فقط، نتيجة القصف الأمريكي ما لا يقل عن 50.000 أفغاني، جُلّهم إن لم يكونوا كلهم من المدنيين. وتسبب حصارهم لأفغانستان في قتل أكثر من 15.000 طفل أفغاني.
وحصارها على ليبيا، إذ أدى هذا الحصار الغاشم إلى كوارث كبرى، وفواجع عظمى، إذ بعد خمسة أشهر فقط من بداية الحظر الجوي والحصار، بلغت خسائر ليبيا ما يزيد على 2 مليار دولار.
وقتل عسكريو أندونيسيا أكثر من مليون شخص بدعم أمريكي.
وأما معاملتهم للأسرى فأسوء معاملة، فالإنسانية معدومة لديهم، والقيم الأخلاقية ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، وقد تمثلت في أمريكا أعظم أنواع الإرهاب المنظم، وبلغ فيهم الاضطهاد والإرهاب مبلغًا لم يشهد مثله في عالمنا الحاضر، بل وعلى مر التاريخ المتقدم، لقد خالفوا الأديان والشرائع بل والقوانين الوضعية.
لقد حرص الأمريكيون على إظهار التشفي من هؤلاء الأسرى في "غونتناموا" في كل مناسبة، حتى بلغ بهم الحال أن يتركوا هؤلاء الأسرى في مقاعدهم، لأكثر من يوم ونصف بلا أي حراك، ومن دون تمكينهم من استخدام دورات المياه، ثم يعلنون ذلك لمجرد التشفي والتهكم والسخرية من هؤلاء الأسرى.(/2)
كما توضح الصور، أن الأمريكيين حرصوا على تعطيل كافة الحواس: السمع والبصر بل وحتى الفم والأنف، وضع عليها أغطية كثيفة، والمتأمل للصور يشعر بأن الأسرى يفتقدون حتى الإحساس بالمكان، وربما الزمان، ومن الواضح خلال تصريحات المسؤولين الأمريكيين، أنهم لن يترددوا في استخدام أي وسيلة يتم من خلالها إهانة وتحطيم هؤلاء الأسرى. فهم بذلك خالفوا كل الأديان والشرائع، وخالفوا ـ أيضًا ـ القوانين الوهمية؛ فإن من الاتفاقات القانونية أن إجبار أسير الحرب على الإدلاء باعترافاته هو عمل إرهابي. هذه هي أمريكا لمن لا يعرفها وهذه بعض إنجازاتها.
أين أمة المليار من هذه الثيران الهائجة والوحوش الشريرة والمواقف الفظيعة؟! أين العقلانية؟! أين الإنسانية؟! أين القيم الأخلاقية؟! بل أين القوانين الدولية؟! أليس فيهم رجل رشيد؟! حقًا إن هذه جرائم وحشية،وأفعال شيطانية وتصرفات حيوانية صامتة.
إن أمريكا لا تلتزم لا بقانون ولا بأعراف ولا بمواثيق، وإنما تسعى لمصالحها الذاتية، وهيمنتها الشخصية، دون مراعاة لروابط دولية، فهي كانت تنادي بالديمقراطية، ولما وقعت عليها الهجمات في الحادي عشر من سبتمبر، تلاشت الديمقراطية المزعومة.
إن أمريكا تدعي مكافحة الإرهاب! وقد سبق القوائم في أعمالها ومشاريعها الإرهابية، وقد اتخذت أمريكا من هذا المصطلح وهو ما تسميه هي مكافحة الإرهاب غطاء لها في ضرب المسلمين، ومنشآتهم تحت هذا المسمى. ولذلك فإن قانون الإرهاب، وضع على المسلمين، وبالتالي امتد إلى الإسلام.
إن أمريكا تتسنم بالأحادية، والطمع والهمجية، والتدخل السافر في شؤون الدول الداخلية، دون احترام لدينهم بل وقوانينهم، فهي تُشرّع بالغداة وتنسخ بالعشي، ليس لديها قانون منضبط، فهي تنتهك القوانين والاتفاقيات، فلسان حالها يقول: لا نُسأل عما نفعل وهم يسألون! ونأخذ ما نشاء وندع ما نشاء، وننتهك حقوق من نشاء، ولا معقب لحكمنا.
يقول ممثل إحدى الولايات في مجلس الشيوخ الأمريكي، وهو يلقي خطابه قال فيه: "إن الله لم يهيئ الشعوب الناطقة بالإنجليزية لكي تتأمل نفسها بكسل ودون طائل، لقد جعل الله منا أساتذة العالم! كي نتمكن من نشر النظام حيث تكون الفوضى، وجعلنا جديرين بالحكم، لكي نتمكن من إدارة الشعوب البربرية الهرمة، وبدون هذه القوة، سيعم العالم مرة أخرى البربرية والظلام، وقد اختار الله الشعب الأمريكي ـ دون سائر الأجناس ـ كشعب مختار، يقود العالم أخيرًا إلى تجديد ذاته".
أيها المسلمون، ولما كانت سنة الله تعالى لا تتغير بتغير الزمن، ولا باختلاف الأحوال والأجواء، ابتلى الله هذه الأمة الظالمة بآلام عديدة، تخص كثيرًا من الشؤون الحياتية الاجتماعية والاقتصادية، يقول الله تعالى: وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140، 141].
ودمار أمريكا قريب إن شاء الله، ونقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا؛ لأن سنة الله تعالى الكونية التي لا محيص عنها ولا محيد، جرت في أن الأمة إذا طغت وبغت، وعاثت في الأرض فسادًا، أنه يهلكها، كما هي حال الأمم الغابرة، قال الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [النحل:112، 113].
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11]. وقال تعالى: وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]. وقال تعالى: وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج:48].(/3)
وهؤلاء عاد لما تكبروا وطغوا وتجبروا، وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15] رد الله عليهم بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِئَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِي الْحياةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ [فصلت:15، 16]. ولما عاينوا السحب في السماء، قالوا: هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا [الأحقاف:24]، رد الله عليهم بقوله: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمّرُ كُلَّ شَيْء بِأَمْرِ رَبّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [الأحقاف:24، 25].
وهؤلاء ثمود لما طغوا وتكبروا على نبي الله صالح، وقالوا له: يَاصَالحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:77]، عاقبهم الله تعالى بقوله: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [الأعراف:78]، أي: صرعى لا أرواح فيهم، ولم يفلت أحد منهم لا صغير ولا كبير، لا ذكر ولا أنثى.
وهذا قارون لما تكبر وطغى، وقال مقولته النكراء إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، رد الله سبحانه عليه: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ [القصص:81]. وقال رسول الله : ((إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ رسول الله : وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، متفق عليه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو بغى جبل على جبل، لجعل الله الباغي دكًّا) رواه البخاري في الأدب المفرد.
فجانب الظلم لا تسلك مسالكه عواقب الظلم تُخشى وهي تَنتظر
وكل نفس ستجزى بالذي عملت وليس للخلق من دنياهم وطر
والقصص الواقعية والعبر التاريخية طافحة بمثل هذا، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأمور الناس تستقيم مع العدل، الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقد قال النبي : ((ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم)) فالباغي يصرع في الدنيا، وإن كان مغفورًا له مرحومًا في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة...".
اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخرجنا من بينهم سالمين.
نفعني الله وإياكم... ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
أما بعد: أيها المسلمون، وإنه لمن الأمر المرير والجرم الكبير، ما تقوم به السياسة الأمريكية الغاشمة، والتي أسست على الإرهاب والعنف والتطرف، من أعمالها في العراق هذه الأيام، والتي أهلكوا فيها الحرث والنسل، وأبادوا الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، بل وحتى الحيوان البهيم، بل وحتى اليابس والأخضر.
أيها المسلمون، إن الدفاع عن القضية العراقية من واجبات الدين والعقيدة، ومن مستلزمات الأخوة الإيمانية وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]. وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلِمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)) وقال : ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) رواه البخاري.
والنصرة تتمثل بكل شيء يتقوون به على رأس الكفر العالمي، من المال والنفس والدعاء لهم، والقنوت في الصلوات الخمس، ومن علم أنه قد حلت بالمسلمين نازلة، من الجوع والعري والقتل والتشريد، ولم ينصرهم، وهو قادر على ذلك، فقد أتى ذنبًا عظيمًا. وما من شك أن التخاذل في هذه المواقف، يجر على المسلمين الذلة والصغار والخزي والعار.
يا أمةً طالما ذلّت لقاتلها حتى متى تخفضين الرأسَ للذنب
ألا ترين دماء الطهر قد سُفكت في كل ناحيةٍ صَوْتٌ لمنتحبِ
حتى متى تَقبلين الضيمَ خاشعةً لكل باغٍ ومأفونٍ ومغتصبِ(/4)
وأما الذين يناصرون الكفرة الصليبيين على المسلمين المستضعفين، سواء كانت المناصرة بالسلاح والقتال، أو المال والمشورة، وتسهيل الوسائل والإمكانيات، فهؤلاء منافقون، قال تعالى: بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعًا [النساء:138، 139]. وقال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52].
والدفاع عن الشعب العراقي لا يعني بوجه من الوجوه الدفاع عن النظام العراقي البعثي الخبيث، فهؤلاء شرذمة مجرمون، وحاكم العراق رجل شرير كان شؤمًا على العراق، وإن فترة حكمه هي الأسوأ في تاريخ الأمة المعاصرة، وربما في تاريخها كلها.
لقد ارتكب ضلالات كبيرة، واتخذ قرارات مهلكة، أركست الأمة في أزمات بل كوارث سياسية، هي من الخطورة بمكان، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، سيرًا على خطى فرعون من قبل مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، والتزامًا بتعليمات أستاذه من قبل ميشيل عفلق، فطبق هذا الهمجي هذا المنهج المأفون، فتعامل بقسوة مع شعبه وجيرانه وصديقه قبل عدوه، وتصرف بحمق وجهل وظلم.
إن تاريخه مليء بالظلم والكبر وعبودية الذات، وجرائمه النكراء تمثلت في إبادة أربعة آلاف قرية كردية، وخمسة وعشرين مدينة، وأباد أيضًا أكثر من مائتين وخمسين ألف قتيل كردي بريء، بأسلحة كيمائية وغازات سامة، وكل ذنبهم أنهم مسلمون، وقد فوجئوا بالموت يطوقهم من كل جانب، الرجل في عمله، والمرأة تعمل في بيتها أو حقلها، والطفل يلعب في الشارع أو ساحة بيته، أَحرَق الزرع وأباد الحيوانات ودمر الأرض.
لقد كان وجوده وأمثاله من المصالح التي كسبتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وخصوصًا في الخليج العربي، وكان وجوده مما خدم الهيمنة والسيطرة الأمريكية، فلم يكن مرفوضًا من الغرب قط كلا، وبالأخص من أمريكا.
وأما الأكذوبة الكبرى التي تجري على لسان طاغيتي أمريكا وبريطانيا، أنهم لا يضمرون إلا كل خير للشعب العراقي، فإن هذا كذب ولا يمت للحقيقة بصلة، إن تدمير قوة الأمة، وإرجاعها إلى الخلف، لتنتهي حيث بدأت، هو هدف من أهداف أعداء الإسلام، وقوة العراق كشعب مسلم أمر يخشاه الغرب الكافر، ليس لأن حاكم العراق كان لا يسير على ركابهم ومنهجهم كلا، ولكن لأن القوة قد تصير يومًا من الأيام لمن لا يسير في ركابهم ومنهجهم الضال، ولأجل ذلك كانوا حريصين على تدمير العراق، ويخططون لذلك من وقت بعيد.
بغدادُ ماذا أرى في حالِكِ الظُّلَم نجمًا يلوحُ لنا أم لفحةَ الحِمَمِ
أرى النواحي وضوءُ النارِ يلفَحُها فكيف تجتمعُ النيرانُ بالظُّلمِ؟
بغدادُ لا تسكتي رُدي على طلبي وامحي سؤالي الذي أحكيه ملءَ فمي
بغدادُ أين زمانُ العِزِّ في بلدٍ كان السلام به أسمى من العَلَمِ؟
دارَ السلامِ أيا بغدادُ، هل بعُدت عنك الجحافلُ في يومِ الوغى النَّهِمِ
بغدادُ أين سحابُ المزنِ إذ حكمت يَدُ الرشيدِ بعدلِ اللهِ في الأُممِ؟
يقولُ أنَّى سَكَبتِ المزنَ سوف أرى منه الخراجَ ويأتيني بلا غُرُمِ
أين الجحافلُ يا بغدادُ عن زمنٍ تخاذَلَ العُرْبُ عن أفعالِ مُعتصِمِ ؟
قادَ الجحافلَ لم يهنأ بشربَتِه حتى أتى ثأرَهُ في الأنجُمِ الحُرُم
بالله لا تخجلي واحكي حقيقتَنا ولتكشفي حالنا حالٌ من السَّدَمِ
بالله يا نخلةً مدَّت جذائرَها بين الفراتين في شطٍ من السَّقَمِ
هل روَّعتكِ المآسي فوق طينتِها؟ وهل سقتكِ دمًا تجريهِ بعدَ دَمِ ؟
وهل ستأتي أسودُ العُربِ يدفعُها نبضُ الكرامَةِ في قلبٍ لها هَرِمِ
النارُ نارُك يا بغدادُ فاصطبري فما يفيدكِ بعدَ الحَرقِ من نَدَمِ
واستنجدي ببني الإسلامِ إنهمو أُسدُ الوغى وأسودُ الشرك كالعَدمِ
بالله قولي أيا بغدادُ ما فتئت يَدُ المغولِ تزيدُ الجرحَ بالكَلِمِ
مرت قرونٌ ثمانٍ والجراحُ بنا تغورُ من رجسِ ما صبُّوه من نِقَمِ
تبًا لمستعصمٍ لم يحمِ دولتَه فاستهدفتها عبيدُ الرجس والصنَمِ
تبًا لمستعصمٍ كانت بطانَتُهُ تُزيغُهُ عن طريق الحقِ والقيَم
تبًا لمستعصمٍ أمست حواشيهِ تُشارك الناسَ في الأرزاقِ واللُّقمِ
تبًا لمستعصمٍ أفنى خزينتَهُ على الغواني وأهلِ الرَّقصِ والنَّغَم
تبًا لمستعصمٍ يخشى رعيَته وآمِنٌ بينَ أعداءٍ على الحُرَمِ
تبًا لمستعصمٍ لا يستحي أبدًا ينقادُ ذلاً من الأعداءِ كالبَهَم
تبًا لمستعصمٍ أبدى شجاعتَه على الرَّعِيةِ بالتنكيل والتُهَمِ
حانَ الوداعُ أيا بغدادُ فانتحبي فقد أصيبَ جميعُ القومِ بالصَّمَم(/5)
حانَ الوداعُ أيا بغدادُ قد نُحِرَتْ رجولةُ القَومِ في ميدانِ مُنتقِمِ
حان الوداعُ وعذرُ القومِ أنهمو لا يقدرون على الأرماحِ والحُسُمِ
هذا الوداعُ فموتى خيرَ عاصمةٍ مذبوحةً ربما ماتتْ بلا ألَم!
المنبر ... ...(/6)
جعفر بن أبي طالب .. الشهيد الطيار
د. علي بن عمر بادحدح
المحتويات :
• المقدمة .
• في الحب والقرب .
• في التضحية والهجرة .
• في الفطنة والدعوة .
• في الجود والكرم .
• في الشجاعة والإقدام .
جعفر بن أبي طالب .. الشهيد الطيار
المقدمة
حديثنا اليوم عن ( جعفر ابن أبي طالبٍ رضي الله عنه الشهيد الطيار ) .
وهو واحدً من خريجي مدرسة النبوة المباركة المدرسة ، التي خرّجت لنا معالم القمة والقدوة في سائر جوانب الحياة .. في العقيدة صفاءً وعمقاً وثباتاً ، وفي العبادة كثرةً وإخلاصاً وخشوعاً ، وفي الفكر إدراكاً ونضجاً ووعياً ، وفي المعاملات المالية ورعاً وبذلاً وزهداً ، وفي سائر جوانب الحياة المختلفة .
ووقفاتنا مع صحابينا الجليل جعلتها في خمس محطات :
1- في الحب والقرب .
2- في التضحية والهجرة .
3- في الفطنة والدعوة .
4- في الجود والكرم .
5- في الشجاعة والإقدام .
ولقد نال جعفر - رضي الله عنه- في كل هذه الجوانب قصباً من السبق عظيماً وقدراً وافراً كريماً ، ولعل هذه الوقفات الموضوعية تعيننا على الانتفاع من سيرة جعفر رضي الله عنه .
وهي كذلك لا تخلو - أولا تقطع - سرد الحياة التي كانت له في صورة قصصٍ وأحداث .
ونبدأ بمحطتنا الأولى : القرب والحب
فجعفرٌ قريب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحبيب ، وأما قربه فمن وجوه كثيرة :
فهو ابن عم رسول الله - عليه الصلاة والسلام - إذ هو جعفر بن أبي طالب ، واسم أبو طالبٍ عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم ، وهو الأخ الشقيق لعلي وعقيل ابني أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين .
وأمهم جميعاً فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، فنسبه موصول برسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الأب ومن جهة الأم .
وأسلم جعفر ابن أبي طالب كما ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب بعد علي رضي الله عنه بقليل .. وروى ابن إسحاق ، كما نقل عنه ابن عبد البر وابن حجر كذلك في الإصابة : " أنه أسلم بعد واحدٍ وثلاثين رجلاً ، وكان هو الثاني والثلاثين " .
وفي رواية أخرى : " أنه كان الخامس والعشرين " ، فهو من السابقين الأوائل إلى الإسلام ، وورد في بعض الروايات أن من دعاه هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
وفي رواياتٍ أخرى وإن كانت الروايات السابقة أشهر وأظهر : " أنه كان في أوائل من أسلم بعد خديجة بنت خويلدٍ رضي الله عنها وعلي ابن أبي طالبٍ وزيدٍ وبلالٍ والمقربين القريبين من رسول الله عليه الصلاة والسلام " .
وبالجملة ؛ فإن الذين سبقوا إلى الإسلام كانت لهم مزايا ومحاسن ، هي التي جاءت بهم إلى الإسلام دون غيرهم ، ممن أعرضوا وصدوا ، وممن قاوموا وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فالذين أسلموا وأقبلوا على الإسلام كان لهم زكاء نفس ، ورجاحة عقل ، وطهر قلب ، وثقب نظر ، ثم أراد الله - عز وجل - قبل ذلك بهم الخير ، فأقبلوا بقلوبهم على الإسلام ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن وجوه الحب قصصٌ كثيرة مع هذا القرب الذي كان بالنسب ، والذي كان تبعًا لذلك بالمعاشرة والمعايشة ؛ فإن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم كان فترة من الزمان في ظل رعاية وكنف أبي طالبٍ - والد جعفر رضي الله عنه - وعلي ابن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - تربى ونشأ في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعفر شقيقه وهو أسنّ من علي بعشر سنين ، فكان قريباً ومخالطاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام .
وروى البخاري من حديث البراء بن عازب ، قصة تنبئنا عن هذا القرب والحب .
اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة ، فأبى أهل مكة أن يدخل مكة ، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيامٍ ، فلما كتبوا الكتاب : " هذا ما قاضى عليه محمد صلى الله عليه وسلم .. " ، إلى آخر ما هو مذكور في قصة الحديبية ، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بما أخذ به من شان الصلح ، ثم مضى الأجل ، فلما دخلها النبي - صلى الله عليه وسلم - أي مكة في عام القضاء ، ومضى الأجل ، أتوا علياً - أي كفار مكة - فقالوا : قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ، فتبعتهم ابنة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه - عمّ النبي صلى الله عليه وسلم - وهي تقول : يا عمّ يا عمّ ، فتناولها علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأخذ بيدها وقال لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم : دونك ابنة عمك، فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي ، وقال جعفر: ابنة عمي، وخالتها تحتي ، وقال زيد: ابنة أخي ، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: ( الخالة بمنزلة الأم ) ، وقال لعلي: ( أنت مني وأنا منك ) ، وقال لجعفر: ( أشبهت خلقي وخلقي ) ، وقال لزيد: ( أنت أخونا ومولانا ). قال علي: ألا تتزوج ابنة حمزة؟ قال: ( إنها ابنة أخي من الرضاعة ) .(/1)
وانظروا إلى هذا القضاء العظيم ، وإلى هذا العقل الراجح ، وإلى التربية النفسية الفريدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وشاهده قوله لجعفر : ( أشبهت خلقي وخلقي ) ، وقد كان أشبه صحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم برسول الله من حيث الخلقة ، وأضاف النبي بنص حديثه الخلق وذلك دليل موافقةٍ وحبٍ .
وذكر الذهبي في السير رواية هذا الحديث من طريق ابن إسحاق :
عن أسامة بن زيدٍ ، عن أبيه زيدٍ ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لجعفر : ( أشبه خلقك خلقي وأشبه خلقك خلقي فأنت مني ومن شجرتي ) رجاله ثقات ، أخرجه أحمد في المسند ومثل ذلك رواه ابن سعدٍ في الطبقات .
وهذا دليل قربٍ وحبٍ واضحٍ فيما كان لجعفر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروايةً أخرى كذلك لهذا الحديث ، عن هانئ بن هانئ ، عن عليٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أشبهت خلقي وخلقي ) .
ومن صور المحبة الفياضة لجعفر في قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم ما علم بعد ذلك ، مما سيأتي في سيرة جعفر ، يوم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً من الحبشة إلى المدينة المنورة ، فوافا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعد غزوة خيبر ، وفتح الله عز وجل لهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا أدري بأيهما أسر بقدوم جعفر أم بفتح خيبر ) .
فجعل ذلك الفتح العظيم الذي كان من أعظم الفتوح من حيث الغنائم ومن أعظمها وأجلها من حيث تطهير الجزيرة من اليهود عليهم لعائن الله ، جله في قمة السرور ، لكنه قارن ذلك ووازاه وساواه وقارنه بحب النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر وسروره بقدومه .
قال الذهبي رحمه الله في السير : " وقد سر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقدوم جعفر ، وحزن - والله – لوفاته " .
ذكر ذلك في مقدمة ترجمته في السير ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب بعد جعفر أبناء جعفر ويضمهم إليه ، ويشمهم ويردفهم ويقربهم ؛ لما كان لجعفر في قلبه من الحب والمنزلة الخيرة رضي الله عنه وأرضاه .
روى مسلم في صحيحه ، عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تُلُقِّيَ بصبيان أهل بيته، قال: وإنه جاء من سفر فسُبِق بي إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة الحسن والحسين رضي اللَّه عنهم فأردفه خلفه، قال: فأُدخلنا المدينة ثلاثة على دابة " ، أي كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد ورد كذلك في شأن قدوم جعفر ما يكشف عن مزج تلك المحبة بالاجلال والتقدير لجعفر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد ذكر ابن عبد البر سياق هذه الرواية : أنه لما قدم جعفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاه المصطفى عليه الصلاة والسلام واعتنقه ، وقبّل بين عينيه ، وقال : ( ما أدري بأيهما أنا أشد فرحاً بقدوم جعفر أم بفتح خيبر ؟! ) ، وأنزله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار المسجد .
وهذا التقبيل بين عينيه إجلال وحب ، والاعتناق دليل شوقٍ من الرسول صلى الله عليه وسلم لجعفر ، وقد نأت به هجرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حوالي سبع سنين من هجرته إلى يوم فتح خيبر .
وقد ذكر ابن حجر في الإصابة أيضاً في المسند عند الإمام أحمد من حديث عليٍ رفعه قال : ( أعطيت رفقاء نجباء .. وعدّ منهم سبعة منهم جعفر بن أبي طالبٍ رضي الله عنه ) .
وسياق الحديث على أن هذه الكوكبة من أقرب وأحبّ أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم إليه .
ولذلك بلغ الحزن برسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغاً يوم استشهد جعفر بن أبي طالب .
روت عائشة رضي الله عنها قالت : لما جاءت وفاة جعفر عرفنا في وجه النبي صلى الله عليه وسلم الحزن .
وعن أسماء - أي بنت عميس - زوج جعفر رضي الله عنه ، قالت : دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بني جعفر فرأيته شمهم - أي قبلهم واعتنقهم - وذرفت عيناه عليه الصلاة والسلام ، فقلت : أبلغك عن جعفر شيئاً ؟! قال : نعم قتل اليوم ، قالت فكنا نبكي ، فرجع وقال : ( اصنعوا لآل جعفر طعامً فقد شغلوا عن أنفسهم ) .
ووردت روايات أخرى تحكي لنا حزن النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر ، وقوله عليه الصلاة والسلام فيما وردت فيه بعض الروايات ( على مثل جعفر فلتبكي البواكي ) .
وكان عليه الصلاة والسلام يحب جعفر ويقربه ، وتلك بعض مواقف الحب والقرب في محطتنا الأولى .
الثانية : في التضحية والهجرة
وهي السمة الغالبة على حياه جعفر رضي الله عنه ، فقد هاجر كما لم يهاجر غيره من الصحابة إلا نفر قليل .
قال ابن عبد البر في الاستيعاب : " هاجر الهجرتين إلى الحبشة ، وهاجر إلى المدينة المنورة فحياته كلها كانت هجرة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولإقامة الدين والدعوة إليه ، والأمان لإقامة شعائره وشرائعه " .(/2)
فهو ممن هاجر إلى الحبشة في الهجرة الأولى وهاجر إلى الحبشة مع زوجه أسماء بنت عميسٍ رضي الله عنها الهجرة الثانية ، وولد له أولاده الثلاثة في الحبشة وعاش فيها ردحاً من الزمن ، وذكر ابن حجر في الإصابة ، قال : " وعلى يديه أسلم النجاشي ومن تبعه في الحبشة " ، وذكر رواية عن ابن مسعود : " أن جعفر بن أبي طالبٍ كان أمير المهاجرين في الحبشة " ، وروى ذلك ابن سعدٍ في الطبقات .
وذلك كله يدلنا على أن جعفر رضي الله عنه كان من أهل الإيمان الراسخ ، واليقين العظيم ، والتضحية الكبيرة ترك داره وأرضه وبلاده وهاجر إلى الحبشة بعد أن أذن بذلك ، وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال : ( إن بأرض الحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد فالحقوا بأرضه ) ، فذهب جعفر رضي الله عنه في الفوج الأول الذي لم يكن يتعدى عددهم كما في بعض روايات السيرة إثني عشر أو ثمانية عشر ما بين رجلٍ وامرأة ، ثم كذلك كان في الفوج الثاني الذي زاد على ثمانين رجلاً وامرأة وكانت له المواقف العظيمة هناك .
وكانت هجرته على هذا النحو ، ثم لحاقه بالنبي صلى الله عليه وسلم سجل له هجرةً إضافيةً - أو هجرةً ثالثة - فكان ممن كانت حياته كلها هجرةً وتضحيةً في سبيل الله ، وفي سبيل إعلاء كلمه الله عز وجل .
ثم إن أبا موسى الشعري روى لنا قصة المهاجرين من الحبشة كيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فأخبر أبوموسى رضي الله عنه أنه خرج ومعه نفر من قومه من بلاده - وهو من اليمن - قال : نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقذفت بنا السفينة على أرض الحبشة ، فوافينا جعفراً وأصحابه ن ثم خرجنا معهم جميعً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافينا المدينة في أعقاب خيبر .
وهنا وقعت قصةٌ كذلك تدلنا على مسألة الهجرة وأهميتها وفائدتها ، ترويها لنا أسماء بنت عميس مذكورة في البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنة المشهورة .
هذه الرواية فيها : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم ودخل على بيته ، وعند زوجته امرأة ، فقال : من هذه ؟ قالت : أسماء بنت عميس ، فقال عمر : آل حبشية ؟ أي هل هي الحبشية التي جاءت من الحبشة ؟ فقالت : نعم ، فقال : الفاروق : سبقناكم بالهجرة ، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم !
وكان تفاخر القوم ليس بلأحساب والأنساب ، وإنما بالبذل والتضحية في سبيل الله ، وبالقرب والخدمة والذود والحماية لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
فغضبت أسماء رضي الله عنها من ذلك وحزنت - وكانوا أعظم وأحرص شيئاً على الخير والفضل في هذا الدين - فقالت : كلا والله !كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ، ويعلم جاهلكم ، وكنا في دار البعداء والبغضاء في الحبشة ، وذلك في الله وفي رسوله ، والله لا أطعم طعاماً ، ولا أشرب شراباً ، حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : ليس بأحق بي منك ولأصحابه هجرة واحدة ، ولكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان ، فأثنى بهم وعليهم ؛ لفضل الهجرة ، وترك الديار والأهل ، والعيش في الغربة حفاظاً على الدين وحرصاً على إقامته .
فقالت أسماء رضي الله عنها : فجعل أهل الحبشة يأتون إلي أرسالاً يسئلونني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانوا أفرح شيءٍ بالخير .
وهذا يدلنا على فضل الهجرة عموماً ، والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصاً ، وقد نال جعفر بن أبي طالبٍ قصب السبق في كل هذه الهجرات التي كانت في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم .
وبعد سياق الهجرة ننتقل إلى المحطة الثالثة : الفطنة والدعوة
لقد كان جعفر رضي الله عنه ذكيً أريبًا أديباً ، راجح العقل ، وافر الذكاء ، يحسن القول في وقت القول ، ويحسن ما يذكر في القول مما ينفع ولا يضر ، وكان داعية حكيمً حصيفً أريباً رضي الله عنه وأرضاه .
ولذلك كان مقدّم القول والصحابة في الحبشة ، حتى روى ابن مسعودٍ -كما أشرنا - مما ذكر ابن سعدٍ في الطبقات أنه كان أميراً للمؤمنين في الحبشة .
ونعلم جميعاً القصة الشهيرة التي نريد أن نذكر سياقها في قصة بعث قريشٍ لعياش ابن أبي ربيعه وعمر ابن العاص ليذهبا إلى النجاشي ، ويطلبا منه تسليم الصحابة - رضوان الله عليهم - الذين هاجروا إلى الحبشة ؛ فإن قريشً بجاهليتها الجهلاء ، وغطرستها العمياء ، ورغبتها في العدوان والإيذاء لن تترك المهاجرين - وقد تركوا لها مكة كلها وذهبوا إلى الحبشة - فلحقت بهم ، وأرادت أن تردهم لتشفي غيظها بعذابهم وإيذائهم ، ولتمنع تسرب الدعوة من الجزيرة إلى خارجها ؛ ولئلا يشوه المسلمون سمعتها وصورتها عند الآخرين من الأمم والأقوام ، فبعثوا حينئذٍ عمر بن العاص وعياش ابن أبي ربيعة .(/3)
وسياق الرواية نذكره من رواية أم سلمة رضي الله عنها - وكانت من المهاجرات إلى الحبشة - وهذا السياق عند الإمام أحمد في مسنده ، وهو الذي ذكره ابن إسحاق وابن هشامٍ في السيرة ونحوه ، وذكره ابن سعدٍ في الطبقات ، والبيهقي في دلائل النبوة ، وهو سياق فيه كلام نفيس ، وعرض جليل ، يدل على الذكاء والفطنة وعلى الدعوة كذلك .
قالت أم سلمة رضي الله عنها : لما نزلنا أرض الحبشة ، جاورنا بها خير جار النجاشي ، أمنا على ديننا ، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا ، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة ، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا له أدما كثيرا ، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص ، وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما : ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم ثم قدما إلى النجاشي هداياه ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم .
قالت : فخرجا حتى قدما على النجاشي ، ونحن عنده بخير دار عند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ، وقالا لكل بطريق منهم إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم ؛ فإن قومهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهما : نعم . ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما ، ثم كلماه فقالا له : أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه .
قالت : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي . قالت فقالت بطارقته حوله صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم .
أي تسليم مجرمين ، أو اتفاقيات تسليم للمجرمين أو الإرهابيين كما يزعمون اليوم .
قالت : فغضب النجاشي ، ثم قال : لاها الله إذن لا أسلمهم إليهما ، ولا يكاد قوم جاوروني ، ونزلوا بلادي ، واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم ؛ فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ، ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما ، وأحسنت جوارهم ما جاوروني .
قالت : ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ، ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا : نقول : والله ما علمنا ، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنا في ذلك ما هو كائن .
فلما جاءوا ، وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ، ولا في دين أحد من هذه الملل ؟ قالت فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه - فماذا قال جعفر ؟ استمعوا إلى الفطنة والدعوة - قال له : " أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ; ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك " .
أعتقد لو أن مؤتمرً إسلامياً كاملاً يعقد حتى يصوغ مثل هذه الدعوة الجميلة الذكية لقصر عن ذلك !
انتبهوا هنا إلى مسائل كثيرة في هذه الحادثة يقصر مقامنا عن ذكرها :(/4)
المسلمون كانوا أقلية في بلدٍ غير إسلامي ، وهم بحالهم ذلك كأنما يمثلون أوضاع الجالية المسلمة في بلادٍ غير إسلاميةٍ كما هو حال كثيرٍ من المسلمين اليوم .
فأول أمرٍ نلحظه هنا : مشورة المسلمين فيما بينهم ، ثم وحدة كلمتهم ، واجتماع أمرهم ،لم يتفرقوا ولم يختلفوا ، أجمعوا أمرهم ، ووحدوا كلمتهم ، وانتدبوا المتحدث باسمهم ، فليس هناك أقوال ولا آراء متعددة يظهرون بها لغير المسلمين .
ثم إن جعفراً رضي الله عنه أحسن المقالة ، وأظنكم توافقون أن من يسمع قول جعفر لا بد أن يوافقه ويؤيده مباشرة .
أولاً : بدأ بقوله : " أيها الملك " ، وهذا ليس فيه شيء للتعظيم لغير المسلم ، بل فيه وصف لحقيقته التي هو عليها ، فهو ملك تلك البلاد ، فليس في مثل هذا حرجٌ شرعيٌ ، بل فيه كذلك تنزل حسن ؛ لكي يكون هناك جسر يمتد منه الحديث ، وتتحد به الأرضية لكي يقبل على ذلك القول ويسمع له ويصغي .
ووردت روايات أخرى - في غير هذا السياق - أنهم كانوا إذا دخلوا على النجاشي يركعون له ، وأن عبد الله وعمرو بن العاص فعلا ذلك ، فلما جاء جعفر لم يصنع مثل هذا ، فقال له : لما لا تركع كغيرك ؟! قال : إنا لا نركع ولا نسجد إلا لله عز وجل ، فكان هذا الموقف أيضاً لفت نظرٍ إلى أن المساومة في أمرٍ شرعيٍ ثابتٍ أو عقديٍ أساسيٍ لا مجال فيه مطلقاً ، لكن قوله : " أيها الملك " ليس فيه غضاضة ، ولا حرج شرعي بحال .
ثانياً : بدأ يسرد له ، فذكر له مساوئ الجاهلية .. ذكرها بصيغةٍ موجزةٍ بليغةٍ محكمةٍ ، وبيّنها وفصّلها ، فقال : " كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف " .
أي صورة هذه ؟ أي مجتمع هذا ؟ أي أخلاق هذه ؟ إنها تلك التي تنفر منها كل نفسٍ سوية ، ويأباها كل عقلٍ راشد .
وهذه هي صور الجاهلية على حقيقتها المظلمة والكفر على صورته البشعة ، وأخلاقه الرذيلة الدميمة ، وأحواله الاجتماعية الطبقية العنصرية الظالمة الباغية .
ثالثاً : قال : " فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه " .
فإذاً هذا سرّ من أسرار اختيار الصحابة وإجماعهم على جعفر ؛ لأنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أعرف به وألصق به من غيره من بقية الصحابة ، فقوله فيه يكون عن بصيرة وعلم وخبرة وقربٍ ، أكثر من غيره ، ولذلك قال هذه المقالة .
ثم بيّن دعوة الإسلام ، فبدأ بالتوحيد : " فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان " ، ثم ذكر الجانب الأخلاقي الإنساني في الإسلام ؛ لأن هذه الجوانب الإنسانية قاسمً مشترك بين الأمم وبين الناس جميعاً ، من أصحاب الفطر السوية ، والمسلمون يحسن بهم أن يظهروا هذه الجوانب لغير المسلمين ؛ لأنها الجوانب التي تلفت العقول والأنظار ، وتسلب أو تجبي أو تميل النفوس والقلوب إلى حقائق الإسلام .
ولذلك عرضها ، فقال : " وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات " .
ثم كرر بعد ذلك الأمر بالتوحيد والصلاة والزكاة ، وهذا تلخيصٌ حسنٌ لجوامع الإسلام وأسسه وقواعده ، دون أن يخوض في التفصيل والتفريع ؛ لأنه في مقام عرضٍ إجماليٍ ، يبين حقيقة هذا الدين في كلياته وأصوله وقواعده ، ويظهر محاسنه ومنافعه وفوائده .
رابعاً :كرر بعد ذلك ؛ ليكشف حقيقة الكفر والشرك والجاهلية في معارضتها للأخلاق الفاضلة ومضادتها لحقوق الإنسان ، ومنعها لحرية الرأي والتعبير والاعتقاد ، فقال : " فعدا علينا قومنا ، فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث "
فظهر حينئذٍ أن هذا ظلم وبغي ، كل صاحب نفسٍ حرة ، وفطرةٍ سوية يكون مع هؤلاء المظلومين ضد المعتدين بغض النظر عن الدين والمعتقد .
وهذا نراه اليوم أيضاً لدى بعض الأفراد والجماعات والمجموعات والمنظمات من غير المسلمين تشبث حقيقي بحقوق الإنسان ورغبة في رد اظلم والعدوان من أي أحدٍ كان
ولذا نرى منهم مواقف عجيبة ليست منطلقة منطلقة من منطلقات الإسلام لكنها منطلقة من منطلقات الإنسان .
ولذلك نرى من يسمونهم " نشطاء السلام " يدافعون عن إخواننا في فلسطين ، يرفعون قضيتهم - وربما قتل بعضهم - كما هو معلوم ومعروف ، وهم في ذلك يرون أنهم يدافعون عن حقٍ وعدل ، ويمنعون ظلماً وجوراً ، وينصرون إنساناً مضطهداً ، دون أن ينظروا إلى دينه أو عقيدته ، فبعض المعاني الإنسانية العظيمة المشتركة راعاها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في دعوته بذكاءٍ وفطنة .(/5)
خامساً :ختمها بأحسن ختامٍ ، عندما أثنى على النجاشي وبلاده بما هو فيه ، من غير زيادة ، والمسلم الحق من يذكر الحق والواقع لإنصافٍ وعدل حتى وإن كان عند غير المسلم ، فقال : " فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ; ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك " .
وهذا يستدعي من النجاشي حميته وقوته وعطفه ،كيف يلتجئ إليّ أناس فأخذلهم ؟ كيف يرغبون في جواري فأطردهم ؟ كيف ينشدون عدلي فأظلمهم ؟
ولذلك أحسن جعفر - رضي الله عنه - هذا العرض إحساناً بالغاً فائقاً ، وأثنى على النجاشي وبلاده في مجمل أوضاعها بما هو حق ، وليس في هذا حرجٌ شرعي ! ليس من حرجٍ أن نقول عن نظام بعض تلك البلاد ، أو بعض قوانينها ، أو بعض أحوالها ما هو عدل وحق ، وما فيه مصلحة ومنفعة - وإن لم يكن قائم على أساسٍ عقدي صحيح ، وإن لم يكن منطلق من الإسلام وعقائده ومبادئه - ولذلك قال له هذا القول ، ثم ختم بقوله : " ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك " .
فلما قال هذه المقالة الجامعة الوافية الذكية ، قال النجاشي : هل معك مما جاءك به عن الله عز وجل شيء ؟
وهنا جاهزية الداعية المسلم لا يتلكأ ، فقال جعفر : نعم ! فقرأ عليه صدراً من سورة مريم ، واختيار القراءة أيضاً كان موفقاً ؛ فإن صدر سورة مريم فيه قصة زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام جميعاً ، وفيه ذكر أمورٍ يعرف جعفر أن النجاشي يعرفها من كتابه ودينه .
قالت :فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم .
ثم قال لهم النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا ، فلا والله لا أسلمهم إليكما ، ولا يكادون .
فهل استسلم عمرو بن العاص وهو داهية العرب كما تعلمون ؟
قالت : فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص : والله لآتينه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم – أي سوف آتي غدً في جولةٍ أخرى ، وأذكر عن هؤلاء المسلمين قضيةً سوف تغير موقف النجاشي عليهم أي شيء سيذكر ؟ هل هو أمر متعلق بالعقيدة والدين ؟ لنعلم أن المحرك الأساسي والجوهري في اتخاذ المواقف إنما هو العقيدة والمبدأ قبل المصلحة والمنفعة - قالت : فقال له عبد الله بن أبي ربيعة ، وكان أتقى الرجلين فينا : لا نفعل فإن لهم أرحاما ، وإن كانوا قد خالفونا ; قال والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد .
ومالِ عمرو بن العاص وهو وثني مشرك ولعيسى ابن مريم وللمسيحية والنصرانية ؟
إنما يريد الفتنة ، وهذا هو الذي يستغله أيضاً أعداء الإسلام من اليهود وغير اليهود ؛ فإنهم لا يريدون حقاً وعدلاً ، وإنما يريدون أن يطعنوا المسلمين ، ويسيئوا إليهم ، ويؤلبوا عليهم .
قالت ثم غدا عليه من الغد فقال له : أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما ، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه . قالت فأرسل إليهم ليسألهم عنه .
ونلاحظ أنه لم يقل : ماذا يقولون ؟ إنما أراد أن يجعل القضية في حس النجاشي ضخمة وعظيمة ؛ حتى إذا سمع النجاشي القول كان غضبه في غاية العظمة والشدة ، فأرسل إليهم ليسمع منهم - وهذا من عدل النجاشي إن لم يسمع من طرفٍ في كلت الحالتين .
تقول أم سلمة : ولم ينزل بنا مثلها قط . فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه ؟ قالوا : نقول والله ما قال الله وما جاءنا به نبينا ، كائنا في ذلك ما هو كائن . قالت فلما دخلوا عليه قال لهم ماذا تقولون في عيسى ابن مريم ؟ قالت فقال جعفر بن أبي طالب : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم يقول : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول .
والكلام مختصر وموجز لكنه دقيق وحكيم .
أولاً قال : نقول ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم ، فليس القول عندنا ، وليس اجتهاد وإنما هو دين ووحي .
ثم قال : إنه عبد الله وذلك ينفي أنه ابن الله ، وينفي أنه الله عز وجل ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
لكنه أضاف المعنى المعجز الذي نؤمن به ، وهو وروحه - أي التي قذفها في مريم عليها السلام - ورسوله فهو نبيٌ مرسل كرسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : " وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول " أيضاً ليبرئ مريم عليها السلام مما يقذفها بها بعض اليهود والمحرفين منهم - على وجه الخصوص - فهو جمع في ذلك محاسن عقيدة الإسلام في هذه المسألة المهمة .
فلا هو ابن الله ، ولا هو الله ، ولا هو بشر كسائر البشر ، بل هو كلمة وروح ألقاها الله إلى مريم ، وليست مريم عليها السلام ممن عنده شيء من شبه أو من قذفٍ أو من غير ذلك .(/6)
استطراد يسير نذكره لبعض علماء الإسلام : " أبوبكر الباقلاني " جاءه بعض النصارى ، وأرادوا أن يثيروا بعض الشبه ، فقالوا له : إن زوجة نبيكم قد وقع لها ما وقع - يعنون بذلك حادثة الإفك ، ويرمون بذلك عائشة ، ويغمزون في شرفها - فقال بذكاءٍ وفطنةٍ وبديهةٍ وسرعة : هما امرأتان اتهمتا في شرفهما ، وبرأهما الله عز وجل ، أما واحدة فلم يكن لها زوج وجاءت بولد ! وأما الثانية فكان لها زوج ولم تأتي بولد - يعني الأولى مريم - قال : إذا كان ولا بد من شبهة فتلك لا زوج لها وجاءت جاء بها ولد جاء منها ولد ! وأما هذه فلها زوجً ولم يأتي لها ولد فهي أبعد عن الشبهة ومع ذلك فنحن نبرأهما كما برأهما الله عز وجل .
قالت : فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا ، ثم قال : والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود - يعني بالضبط تماماً كما قلت ، وهو يعرف التحريف – وذلك كان من أثر عرض جعفر بن أبي طالب أن النجاشي أسلم ، وأكثر الروايات على أن النجاشي الذي أسلم والذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو هذا النجاشي الذي لقيه جعفر بن أبي طالب وتكلم بين يديه .
قالت فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي - والشيوم الآمنون - من سبكم غرم ثم قال من سبكم غرم ثم قال من سبكم غرم . ما أحب أن لي دبرا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم - ردوا عليهما هداياهما ، فلا حاجة لي بها ، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي ، فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه .
قالت فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار .
وهنا نرى كيف كان فطنة جعفر رضي الله عنه ، والمقام أقصر من أن نحيط بكثيرٍ من جوانب العظمة والذكاء والفطنة وحسن العرض والدعوة فيما كان من جعفر رضي الله عنه .
الرابعة : الجود والكرم
ولقد نال منها جعفر مبلغاً ورتبةً لم ينلها كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - وأبو هريرة كما تعلمون كان من أهل الصفة ومن فقراء المسلمين الذين كان ليس لهم مصدر دخلٍ ولا قوت ولا طعام إلا ما يكون من الغنائم في الجهاد ، وما يكون من إكرام المسلمين وهداياهم وصدقاتهم لهم - يقول أبو هريرة رضي الله عنه : "خير الناس للمساكين فكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إنه ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها ".
يعطي ما عنده لا يستبقي شيئاً لا قليلاً ولا كثيراً .
ولذلك كثر مدح أبي هريرة على وجه الخصوص له ؛ لأنه كان من الفقراء ويعلم شدة الفقر والجوع رضي الله عنه وأرضاه .
ولذلك قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " هذا الحديث تقييد يحمل عليه المطلق الذي رواه عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ما احتذى النعال ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب . يعني في الجود والكرم .
أخرجه الترمذي والحاكم وصححه .
وهذه روايةً ساقها الترمذي فيها طرافة ، وفيها ذكر لهذه المنقبة العظيمة لجعفر رضي الله عنه .
يقول : " كنت أسأل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الآيات من القرآن - وأنا أعلم بها - منه ما أشاء إلا ليطعمني شيئاً ، فكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب لم يجبني حتى يذهب بي إلى منزله ، فيقول لامرأته : يا أسماء أطعمينا شيئاً فإذا أطعمتنا أجابني " .
أي يسأله عن معاني بعض الآيات وهو أعلم بها هو لا يريد السؤال ولا يريد الجواب يريد حديثاً حتى يقول له تفضل وادخل البيت فينال شيء من طعام
يعرف أن أبا هريرة إنما يريد الطعام أولاً ثم يقول في تتمة الحديث أبي هريرة : " وكان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ، ويحدثهم ويحدثونه ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه بأبي المساكين " وهذه كنية اشتهرت لجعفر رضي الله عنه فهو أبوالمساكين .
وفي رواية أبي هريرة أيضاً عند الترمذي ، قال : كنا عند جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه - أبى المساكين - فكنا إذا أتيناه قرب إلينا ما خطر ، فأتيناه يوماً فلم نجد عنده شيئاً ، فأخرج جرة من عسلٍ فكسرها ، فجعلنا نلعق منها " .
فمن شدة كرمه رضي الله عنه أنه كان يكسر جراراً للعسل حتى يلعقوا ما فيها .
ثم كذلك وردت الرواية عند البخاري في هذا المعنى الذي ذكرناه ، وذلك من وجوه الكرم والجود التي كانت معروفةً عن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه .(/7)
وهذا - إن لاحظتم - يدل على بروز هذا الخلق عند جعفر رضي الله عنه ؛ لأن جعفر كان في الحبشة ، وإسلام أبي هريرة إنما كان في العام السابع بعد خيبر ، ونعلم أن جعفر رضي الله عنه - كما سيأتي - شارك في مؤتة ، واستشهد فيها .. عام واحد هو الذي كان يجمع بين أبي هريرة وجعفر في المدينة ! ومع ذلك كان كرم جعفر رضي الله عنه مشتهراً ؛ حتى لقب بـ " أبي المساكين " حتى كان أبوهريرة - وهو من هو - يذكر : أنه ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أو أفضل من جعفر بن أبي طالب ؛ لما كان لأثر كرمه ، وجوده على أبي هريرة وعلى غيره من فقراء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين .
وهذا يدلنا على هذه المنقبة العظيمة التي تدل على نفسٍ سمحةٍ سخيةٍ ، وعلى رغبةٍ في الأجر والمثوبة ، وعلى رغبة في إدخال السرور إلى قلوب الضعفاء والمحتاجين .
الخامسة : الشجاعة والإقدام
وهنا بيان لمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة وإرادته إظهار المناقب والمراتب لبعضهم ؛ فإن جعفر رضي الله عنه كان في الحبشة وقتاً طويلاً ، لم يشهد غزوة بدرٍ ، ولا أُحد ، ولا الخندق ، ولا الحديبية ، ولا خيبر ، لكنه وافى مع الصحابة خيبر فقسم له النبي عليه الصلاة والسلام من غنائم خيبر ، وأول معركةٍ أو غزوةٍ عظيمةٍ كانت بعد ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم جعفر من قادتها .
وهذه المعركة الشهيرة التي سميت غزوة - واشتهرت بأنها غزوة - وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يشارك فيها هي " غزوة مؤتة " ، وهي أول تحرك عسكري للمسلمين خارج الجزيرة العربية ، وخارج المواجهة مع العرب وقبائل العرب لمقاتلة ومنازلة الروم .
وهي الغزوة الوحيدة التي أمّر فيها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمراء ، وهي الغزوة الوحيدة التي نصّ النبي صلى الله عليه وسلم على نتيجتها وخبرها وحياً وقت وقوعها قبل عودة الصحابة ورجوعهم رضوان الله عليهم أجمعين .
أمر النبي عليهم زيد بن حارثة قال ؛ فإن قتل فجعفر بن أبي طالب ؛ فإن قتل فعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم أجمعين .
وكن النبي صلى الله عليه وسلم يدرك عظمة هذه المواجهة .
وعجيبة - أيها الأخوة – وهو أن عدة جيش المسلمين كان ثلاثة آلاف وأقل عدد ذكر في الروايات لجيش الروم أنه كان ثلاثين ألفاً أي عشرة أضعاف ، وفي بعض الروايات مائة ألف وفي بعضها مائتين ألف ، ما النتيجة المتوقعة لعشر أضعاف من الجيش يقابلون عشرهم مع قلة الزاد والعتاد ، وطول السفر والشقة .
من المفترض أن لا يأخذوا إلا سويعة من الزمان ويثنوهم عن بكرة أبيهم !
لست بصدد الحديث عن الغزوة ولكني أقول : ما نتيجتها في آخر الأمر ؟ كم عدد الذين استشهدوا في غزوة مؤتة من هذا العدد الذي كان يبلغ ثلاثة آلاف ؟
أظن أن أكثركم لا يستحضر الرقم ، وقد يتعجب منه كثيراً شهداء غزوة مؤتة اثنا عشر شهيداً - ربعهم قيادة الجيش القواد الثلاثة رضوان الله عليهم أجمعين - لم تكن القيادة بمعزل بل كانت في مقدمة الصفوف .
ثم كيف تسنى لهم أن يواجهوا الجيش حتى يفصل عنهم ، ثم ولّوا خالد بن الوليد - كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام - وكما وقع به الحال ، ثم استطاعوا أن ينسحبوا انسحاباً عسكرياً قوياً ، ولم يكن انسحاب هروبٍ أو فرار ، لماذا ؟ لأنه لو كان انسحاب هروبٍ لكان انسحاباً متعثراً مرتبكاً وكان مغرياً للأعداء أن يلحقوا بهم ، وأن يبيدوهم ، لكن الأعداء قد رأوا الهول ، فاكتفوا بأن انسحب المسلمون من أمامهم ، ورأوا أن هذه فرصةً عظيمة لهم أن لا يواجهوا هؤلاء الناس الذين كانوا يحبون الموت أكثر من حب أولئك للحياة .
وهنا وقفاتنا مع جعفر رضي الله عنه .. قاتل زيدٌ حتى استشهد ، فحمل الراية جعفر رضي الله عنه وقاتل قتال الأبطال .
ثم -كما روى بعض الصحابة - : " والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالبٍ يوم مؤتة حين اقتحم عن فرسٍ له شقراء فعقرها ثم تقدم حتى قتل رضي الله عنه " .
ومن هنا ذكر أصحاب السير - وأولهم ابن إسحاق - إن أول من عقر في الإسلام هو جعفر بن أبي طالب .
لما كانت المعركة بكثافة الجيش العدو ، ليس فيها مجال لركض الخيل ، وكانت فرسه تعيقه عن ذلك ، نزل عنها فعقرها ، ثم قاتل رضي الله عنه واقف على قدميه ، وقطعت يده اليمنى فحمل الراية بيسراه فقطعت يسراه ، ثم خرّ شهيداً رضي الله عنه وأرضاه .
وإليكم هذه الروايات التي ذكرنا فيها رواية عقر فرسه ، وقد رواها أبوداود في السنن ، وذكرها ابن عبد البر في الاستيعاب : لما قاتل جعفر قطعت يداه - والراية معه لم يلقها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة ) .
ولذلك سمي بالطيار ، وسمي بذي الجناحين ، وصح عند البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه ، أنه كان إذا رأى عبد الله بن جعفر قال : " السلام عليك يا ابن ذا الجناحين " .(/8)
وخذوا هذه الرواية وهي رواية قد كثرت في كتب السيرة ، وفي كتب السنة على اختلافٍ فيها .
قال الراوي : ولما قتل وجد به بضع وسبعون جراحا ، ما بين ضربة بسيف وطعنةٍ برمح كلها فيما أقبل من بدنه " ، وقيل : " بضع وخمسون " والأول أصح كما قال ابن عبد البر .
وذلك دليل شجاعة وإقدامٍ وثباتٍ وقوة إيمانٍ ويقينٍ وفروسيةٍ كانت لجعفر رضي الله عنهم وأرضاه .
وفي رواية ابن إسحاق قص النبي صلى الله عليه وسلم القصة في وقتها - أي في وقت حدوثها - وهي رواية بألفاظٍ أخرى في الصحيح أيضاً : لما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أخذ الراية زيد بن حارثة، فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر، فقاتل بها حتى قتل شهيدا. قال: ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا ، ثم قال: لقد رفعوا إليّ في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا، وتردد عبد الله بن رواحة بعض التردد ثم مضى ) .
وتردده رضي الله عنه ليس خوفاً على نفسه وإنما خوف على المسلمين ، وإلا ما كان لعبد الله بن رواحه في أول المعركة ما يدل على هذا ، عندما وصل المسلمون إلى مؤته وعلموا ضخامة الجيش الذي ينتظرهم وقفوا يتشاورون ماذا نصنع ؟
قال بعضهم : نرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يمدنا بمدد ! فقال عبد الله بن أبي رواحة : يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين؛ إما ظهور وإما شهادة. قال: فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة. فمضى الناس
فما كان ليتردد خوفاً أو جبنناً - حاشاه - وإنما كان يفكر في أمر المسلمين وأقدم واستشهد كيف قد يضطرب حالهم .
ثم مضى لأمره ولما ولاه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد فكان لتردده أثر .
ووردت الرواية عند ابن إسحاق - وهي مما سبقت إشارتنا إليها – عن أسماء بنت عميس قالت : لما أصيب جعفر وأصحابه، دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دبغت أربعين منا، وعجنت عجيني، وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ائتني ببني جعفر ) . فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما يبكيك، أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: ( نعم، أصيبوا هذا اليوم ) قالت: فقمت أصيح، واجتمع إليّ النساء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: ( لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما؛ فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم ) .
وروي أيضاً أنه لما جاء ذلك قال : ( على مثل جعفر فلتبكي البواكي ) وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أنه قد ضرج بالدم وأنه يطير بجناحين مخببان بالدم في الجنة إشعارً بما كان له من فضلٍ وإقدامٍ في جهاده في سبيل الله عز وجل .
وفي شجاعته أيضاً ذكر الرواة ما ذكروا من هذا الأمر ، ومن ذلك رواية عقره لفرسه ذكرها أيضاً الذهبي في سيره وهي مروية بإسناد رجاله ثقات .
وقد وردت رواية أبي هريرة عند الترمذي في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( رأيت جعفر يطير في الجنة مع الملائكة ) ، قال الترمذي هذا حديث غريب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وفيه من يضعف ، وقد ذكر العلماء رواياتٍ عديدة في هذا الشأن ساق منها ابن حجر رحمه الله قول ابن عمر لابن جعفر بن أبي طالب : " السلام عليك يا ابن ذي الجناحين " .
قال شارح : " كأنه يشير إلى حديث ابن جعفر - عبد الله بن جعفر - قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هنيئاً لك أبوك يطير مع الملائكة في السماء ) أخرجه الطبراني بإسنادٍ حسن " .
ثم ذكر ابن حجر طرقٌ أخرى عن أبي هريرة وعلي وابن عباس ، وقال في طريق ابن عباس : إن جعفر يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه .
قال : وإسناد هذه جيد - أي إسناد هذه الرواية جيد - وهذه الرواية مسوقة سياقاً آخر من حديث ابن عباس : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ قال : يا أسماء هذا جعفر مع جبريل وميكائيل مر بي فأخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا فسلّم فردّي عليه السلام ، وقال : إنه لقي المشركين فأصابه في مقادمه ثلاثة وسبعون فأخذ اللواء بيده اليمنى فقطعت فأخذه بيده اليسرى فعوضه الله من يديه جناحين يطير بهما مع جبريل وميكائيل في الجنة يأكل من ثمارها .
وهذا مما وردت به روايات بعضها ببعض .
وهكذا ختمت هذه الحياء العطرة التي كانت في أولها هجرة ، وفي آخرها شهادة ، وسطّر حسان بن ثابتٍ ذلك الموقف العظيم ، والشهادة المباركة لشهداء وقواد غزوة مؤته ، فكان مما قاله رضي الله عنه :(/9)
غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم **** إلى الموت ميمون النقيبة أزهر
أغرّ كضوء البدر من آل هاشم **** أبيّ اذا سيم الظلامة مجسر
فطاعن حتى مال غير موسد **** لمعترك فيه القنا يتكسّر
فصار مع المستشهدين ثوابه **** جنان، ومتلف الحدائق أخضر
وكنّا نرى في جعفر من محمد **** وفاء وأمراً حازما حين يأمر
فما زال في الاسلام من آل هاشم **** دعائم عز لا يزلن ومفخر
وينهض بعد حسّان، كعب بن مالك، فيرسل شعره الجزل :
وجدا على النفر الذين تتابعوا **** يوما بمؤتة، أسندوا لم ينقلوا
صلى الإله عليهم من فتية **** وسقى عظامهم الغمام المسبل
صبروا بمؤتة للإله نفوسهم **** حذر الردى، ومخافة أن ينكلوا
إذ يهتدون بجعفر ولواؤه **** قدّام أولهم، فنعم الأول
حتى تفرّجت الصفوف وجعفر **** حيث التقى وعث الصفوف مجدّل
فتغير القمر المنير لفقده **** والشمس قد كسفت، وكادت تأفل
ذهب ومضى أبو المساكين - رضي الله عنه - والمساكين يندبون فقده ، وذهب فارس الفرسان ، والشجعان يندبون فقده ، ومما قاله العلماء والأئمة في ذكره ووصفه ، ما جمع هذه الألقاب والمناقب كلها ، صدر الذهبي رحمه الله ترجمته في السير بقوله : " السيد الشهيد ، الكبير الشأن ، علم المجاهدين ، أبو عبد الله ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي الهاشمي ، أخو علي بن أبي طالب ، وهو أسن من علي بعشر سنين ، هاجر الهجرتين ، وهاجر من الحبشة إلى المدينة فوافى المسلمين وهم على خيبر إثر أخذها ، فأقام بالمدينة أشهراً ، ثم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش غزوة مؤتة بناحية الكرك ، فاستشهد وقد سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً بقدومه وحزن والله لوفاته " .
أوجز الذهبي رحمه الله إسلامه وسبقه وهجرته وفضله ، ثم إمرته وجهاده واستشهاده رضي الله عنه بهذه الكلمات العظيمة ، الدالة على فضل جعفرٍ رضي الله عنه .
وهنا نختم بملحوظاتٍ يسيرة ، ولكنها مهمة :
أولها : أن الفضل والأجر والمثوبة بالسبق والعمل والبذل ، وليس بالنسب والقرب والحب وحده ؛ فإن جعفراً رضي الله عنه - وإن كان من النبي صلى الله عليه وسلم قريب وإليه حبيب - إلا أنه كان لله عز وجل باذلاً ، وبأمره قائماً ، ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم متبعاً ، وبشأن دعوته قائماً ،فكان حينئذٍ على هذا المقام العظيم والقدر الجلي الذي كان عليه رضي الله عنه وأرضاه .
والأمر الثاني : كما نلحظ أن جعفراً رضي الله عنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاً طويلاً ، وذلك يدلنا على أن أساس الإيمان والإسلام ليس الارتباط بالأشخاص وإنما الاعتقاد بالحق والارتباط بكتاب الله وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أمر عظيم ؛ فإن جعفراً بقي محافظاً على إسلامه مع من معه من الصحابة ، يحرصون على الإيمان والطاعة والعبادة ويتصلون ويأخذون ما قد يرد إليهم من أخبار الرسول عليهم الصلاة والسلام ، ثم كانوا دعاة يدعون إلى الإسلام ويقيمونه فيما بينهم ، وربوا عليه أبناءه وأقاموه في مجتمعهم دون أن يكونوا قريبين ومتصلين مباشرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
والأمر الثالث : الحرص على السبق والفضل في مناقب الخير والدعوة ن والبذل والنصرة لدين الله - عز وجل - كما رأينا في قصة مفاضلة بين عمر وأسماء رضي الله عنهم أجمعين ، كانوا أحرص شيءٍ على الخير ، وأحب شيء إليهم أن يبذلوا وأن يسبقوا في طاعة الله ومرضاته ونصرة دينه وعون عباده .
الأمر الرابع : الخصال العظيمة التي يعظم بها أثر المسلم ، ويخلد ذكره عند الناس ، وتكون له في القلوب محبةً عظيمة ، ومكانه كبيرة .
فذلك ما كان من جوده وكرمه رضي الله عنه وأرضاه ، وما كان من شجاعته وإقدامه ، فكان في هذه الأحوال أي حال السكون وحال الإقامة على ذلك القدم من السبق في الإحسان والجود والإكرام ، وكان في موضع الشدة والقتال على ذلك القدم من السبق في الشجاعة والإقدام رضي الله عنه وأرضاه .
وأخيرً مسألة مهمة :
أن دعوة المسلم يحملها بين جنبيه ، ينشغل بها فكره ، ويهتم بها قلبه ، وينطق بها لسانه ، ويجتهد في الإحسان والإتقان بقدر ما يستطيع ؛ حتى تؤدي الدعوة ثمرتها ، وتبلغ غايتها ، كما رأينا في فطنه ودعوة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه .
نسأل الله - عز وجل - أن يلحقنا به وببقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على خيرٍ وتقى وهدى ، وعلى استمساكٍ بكتاب الله ، واتباعٍ لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
نسألك اللهم أن تلحقنا بهم في الشهداء الصالحين وفي المؤمنين العاملين برحمتك يا أرحم الراحمين ..
... ...(/10)
جعل المسجد معلماً للتاريخ ومرتاداً للسياحة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه ربه رحمة للعالمين، وإماماً للمتقين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن المساجد بنيت لغاية سامية ورفيعة، بنيت لكي يعبد الله تعالى فيها، بنيت ليجتمع فيها عباد الله الموحدون، ليؤدوا ما فرض الله عليهم، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}النور: 36، فالغاية من وجودها أن يعبد الله تعالى فيها.
والمسجد قلعة الإيمان، وحصن الفضيلة، وهو المدرسة التي يتخرج منها المسلم، وهو بيت الأتقياء، ومكان اجتماع المسلمين، ومركز مؤتمراتهم، ومحل تشاورِهم وتناصحهم، والمنتدى الذي فيه يتعارفون ويتآلفون، وعلى الخير يتعاونون، منه خرجت جيوشهم، ففتحت مشارق الأرض ومغاربها، وإليه يرجع مسافرهم أول ما يرجع، ومنه تخرج العلماء والفقهاء، فهو ملتقى الأمة، وناديها وجامعتُها، ومكان شُوراها(1).
ولما للمسجد من شأن فقد اهتم به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فحين قدم المدينة كان أول شيء أمر به هو بناء المسجد، الذي هو بناء الرجال، الذين يفدون إليه، وتتعلق به أفئدتهم، وهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم- إظهار وتنبيه لعميق الدور الذي يقوم به المسجد بناء المجتمع وتأصيل للعقيدة والتوحيد الخالص لله جل وعلا التي هي أساس ذلكم البناء.
وقد فهم المسلمون الأولون وظيفة المسجد، وما بني له، فأدوا رسالته على أكمل وجه، واعتنوا بمضمونه وجوهره، لا شكله ومظهره، فما كانوا يبالغون في بنائه ولا يهتمون بزخرفته ونقشه، بعيداً عن المقصد من وجوده، والغاية من بنائه.
خلافاً لما في عصرنا الحاضر الذي كثر فيه الاهتمام بالهيئات، والظواهر، والأشكال من زخرفة ونقوش وزينة، وتُتركت الغاية الأساسية التي يبني من أجلها المسجد، فقد بلغت بعض مساجد المسلمين اليوم من الزخرفة فيها والنقوش التي تملأ جدرانها وحيطانها، وارتفاع سُقُفِها وتشكيلها الهندسي الجذاب ما يجعلها تقصد بالزيارة، وتتخذ معلماً تاريخياً ومرتاداً للسياحة، يضرب إليه السائحون أكباد الإبل، ويتجولون في أرجائها، ويلتقطون الصور التذكارية، في رحابها.
وربما كانوا بهيئات تتنافى مع الفضيلة الشرف والخلق القويم فضلاً عن حرمة المساجد، فربما دخل أحدهم وهو على نجاسة، أو دخلت النساء متبرجات متكشفات، أو ملوثات بدماء الحيض، مع التصوير، والتدخين، وما إلى ذلك من المنكرات.. التي يتنافى مع حرمة المسجد ومكانته.
وليس المقصد منع الكفار من دخول المساجد فإنه "لا حرج في دخول الكافر المسجد إذا كان لغرض شرعي وأمر مباح؛ كأن يسمع الموعظة، أو يشرب من الماء، أو نحو ذلك. لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنزل بعض الوفود الكافرة في مسجده -صلى الله عليه وسلم-؛ ليشاهدوا المصلين، ويسمعوا قراءته -صلى الله عليه وسلم- وخطبة، وليدعوهم إلى الله من قريب، ولأنه -صلى الله عليه وسلم- ربط ثمامة بن أثال الحنفي في المسجد لما أتي به إليه أسيراً، فهداه الله وأسلم)(2).
وإنما المنع من انتهاكٌ حرُمات المساجد، والتشويش على العابدين في عبادتهم، وهو ما ينبغي على وُلاة أمور المسلمين ألّا يتسامحوا فيه، وأن يأمروا بكل ما فيه صِيانة بيوت الله وتعظيمُها: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} الحج: 30، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} الحج: 32.
فللمسجد عظمته وحرمته ومكانته في الإسلام، يجب على المسلمين أن يقوموا بها، وأن يقدروها حق قدرها ويرعوها حق رعايتها.
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يحفظ علينا ديننا، وأن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، اللهم أصلح أحولنا وأحوال المسلمين يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
0000000000
1 - راجع: المسجد في الإسلام (صـ 9-11).
2 - مجموع فتاوى ومقالات ابن باز، المجلد الثامن، حكم دخول الكفار المساجد.(/1)
جلسة مع مغترب
من هو المغترب ؟
إنه مسلم أقام في بلاد الكفار .. ألقى فيها رحله .. استقر في جنباتها .. بعدما عصفت به الرياح .. وضاقت به الأرض .. ففارق الأهل والأوطان .. وسكن في شاسع البلدان .. وهو في شرق الأرض .. وأخوه في غربها .. وأخته في شمالها .. وابنه في جنوبها .. أما ابن عمه فقد انقطعت عنه أخباره فلا يدري إذا ذكره .. هل يقول : حفظه الله ! أم يقول : رحمه الله ؟!!
المغتربون كل واحد منهم له قصة .. وكل أبٍ كسير في صدره مأساة .. وفي وجه كل واحد منهم حكاية .. ولعلنا نقف في هذا الكتاب على شيء من واقعهم .. ونجلس معهم .. نفيدهم ونستفيد منهم ..
د / محمد بن عبدالرحمن العريفي
عضو لجنة أوربا في مؤسسة الحرمين الخيرية
ص.ب : 151597 – الرياض : 11775
البريد الألكتروني : areefe@usa.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
حدثني الشيخ فقال :
كنت في بلد أوربي يكثر فيه المغتربون من اللاجئين المسلمين الذي سكنوا في هذه البلاد طلباً لحياة أفضل ، وبعدما انتهيت من صلاة التراويح وإلقاء المحاضرة بعدها ، جاء إلىّ أحد الأخوة الكرام وقال :
يا شيخ أحد الأخوة العرب سمع عن مجيئك إلى هنا للدعوة فأحب أن تقابل ابنه !! فتعجبت وقلت : أقابل ابنه ؟!!
لماذا لا أقابله هو ؟! ولماذا لا يأتي إليّ ويطلب ذلك بنفسه ؟
فقال : هو لا يصلي معنا ، ولكن ولده يشكو من مشكلة ، ويريدك أن تشارك في حلها ..
فركبت مع هذا الأخ في سيارته وذهبنا إلى هناك .. فلما دخلنا فإذا بشيخ قد ناهز الستين سنه من عمره ، طُرّد فيها وشُرّد ، وعُذّب وسجن ، ثم استقر به المقام مع فلذات كبده في بلاد الكافرين ، فعاش فيها آمناً مطمئناً يأتيه رزقه رغداً من كل مكان ، سلم عليّ بحرارة ثم أدخلني إلى غرفة الجلوس ..
وبعدها حدثني بطرف من قصة حياته المؤلمة وكيف أنه أتى إلى هذه البلاد طلباً لراحة البال في زمن الشيخوخة بعد شقاء الشباب وعذابه !! قلت له : وهل وجدت راحة البال ؟
قال : فيما يظهر للناس : نعم بيت واسع .. وسيارة فارهة .. وراتب مجزي .. ولا عمل ولا نصب .. ولا كدح ولا تعب .. ولا تشريد ولا خوف ..
كل من رآني ظن أنني مرتاح البال وتمنى لو أنه في مكاني ، ولكن الحقيقة هي أنني أتعس الناس !!
لا أحكم أولادي ولا بناتي !! .. ولا أحكم زوجتي !!
بل لا أشعر أنني رجل له شخصيته ومسئوليته .. حياتي رتيبة جداً ! بل مملة جداً .. أشعر كأنني آلة أو جهاز ينتظر صانعه أن تنتهي مدة صلاحيته ليستبدله بغيره ..
ثم تدارك هذا الشيخ الكبير نفسه وقال : عفواً يا شيخ !! أنا لم أطلب مقابلتك لأجل أن أبث إليك هذه الهموم ، فهي أكبر من أن يحويها مجلس واحد .. وإنما أردت مقابلتك لأجل مشكلة لأصغر أولادي ..
أصغر أولادي – يا شيخ – عمره تسع عشرة سنة ، وقد جاء إلى هذه البلاد وعمره خمس سنوات ، درس في مدارس هذه البلاد .. وخالط أهلها في مدارسهم .. وأسواقهم .. وبيوتهم .. وملاعبهم .. و .. ولم أكن أمنعه من شيء ، بل لم أكن أتدخل في حياته !! لأن التربية الحديثة تقرر ذلك .. وإن شئت فقل إنني لم أكن أستطع أن أمنعه من شيء !! سواء كان محرماً .. أو فاحشة .. أو غير ذلك !! لأنه يستطيع أن يتسبب في سجني أو معاقبتي لو أخبر الشرطة بذلك .. لن أطيل عليك : ولدي منذ فترة طويلة لا يصلي .. ولا يصوم .. بل هو غير مقتنع بالدين أصلاً .. كل الأديان يعتبرها ظلماً للعباد !! .. وفي الفترة الأخيرة بدأ يتضايق كثيراً .. ويعتزل في غرفته ، ولا يخالطنا ، بل صار في كل صباح يحلق رأسه بالموسى .. وله تقليعات غريبة !..
هل يمكن أن أدعوه لك لتقابله ؟ فلعل الله أن يصلح حاله على يدك ..
قلت : لا مانع من ذلك ..
فصاح الأب الشفيق : محمد .. يا محمد ..
وبعد لحظات .. دخل علينا محمد .. شاب قد امتلأ حيوية ونشاطاً .. لعبت به الشهوات كما لعب بها .. مدّ يده إلي وقال السلام عليكم ! وعليكم السلام ، كيف حالك يا محمد ؟ ..
تدخل الأب وقال : يا محمد هذا الشيخ أتى ليناقشك في الأفكار التي تثيرها دائماً عندي ، يا ولدي أنت مسلم .. يا ولدي حرام عليك .. يا ولدي .. ثم بكى الشيخ .. واشتد بكاؤه .. وصمت ..
فقلت لمحمد : ذكر أبوك أن عندك بعض الأسئلة الدينية ، هل يمكن أن أسمعها ؟ .. ولكن – عفواً – قبل أن تذكرها .. هل تفهم اللغة العربية جيداً ( 1 ) ..
فقال أفهم كثيراً منها ، ولكن لا تتكلم معي بالفصحى .
فقلت له : في البداية يا محمد : هل أنت مقتنع بأن الله موجود ؟!
فقال : شو يعني مقتنع ؟!!
فقلت له : يعني : هل أنت مؤمن أن الله موجود ؟!
فقال : شو يعني مؤمن ؟!!
فقلت له : do you believe Allah
فقال : أوه !! نعم .. نعم ..
فقلت : إن الله خلقنا ورزقنا وأمرنا بعبادته ، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين ..و ..
وطال النقاش ولم يقتنع بأن الله تعالى رب حكم عدل يستحق الطاعة والعبادة .. فلما رأيت ذلك ..(/1)
قلت له : أريد أن أسمع منك سورة الفاتحة ( الحمد لله رب العالمين ) ..
فلما أراد أن يقرأها التبست عليه !! .. وإذا هولا يحفظ قصار السور ..
فقلت له اقترب واجلس بجانبي ، فلما جلس بجانبي وضعت يدي على صدره وقرأت عليه سورة الفاتحة ثلاث مرات .. فبدأت الدموع تسيل من عينه ، فأوقفت القراءة ..
وسألته : لماذا تبكي ؟!
فقال بصوت يقطعه البكاء : لا أدري .. لا أدري ..
فوضعت يدي على صدره وتلوت : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ(22)هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ(23)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الحشر:21– 23
وقوله : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } سورة البقرة :164
وقوله : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9)وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(10)ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11)فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } فصلت : 9 – 12 .
وغيرها من الآيات التي فيها تعظيم وإجلال لله تعالى .. وكان الشاب يبكي بحرارة مع سماعه لهذه الآيات ، بل كان يتقطع بكاءً .. حتى إنني بعدما انتهيت من التلاوة حاولت إكمال النقاش معه فلم يستطع أن يتكلم بكلمة ..
فأمسكت يده وحاولت إيقافه على قدميه .. وقلت : قم صلّ ركعتين ، وابدأ حياة جديدة ..
فقام ذليلاً بين يدي خالقه ومولاه .. الذي سواه فعدله .. الذي خلقه فهو يهديه .. والذي هو يطعمه ويسقيه .. وإذا مرض فهو يشفيه .. والذي يميته ثم يحييه ..
قام بين يدي الملك جل جلاله .. وبكى .. وبكى .. فالقطيعة بينه وبين ربه قد طالت سنوات .. وبعد الصلاة وعدني أن لا يغيب عن صلاة التراويح مع الجماعة ، وحضور المحاضرات .. وكان ذلك ولله الحمد ..
هذا هو الشاب الأول ..
أما الثاني :
فهو أخ لأحد المصلين المحافظين على الصلاة معنا في المركز الإسلامي ، جاء إلى وطلب مني مقابلة أخيه الذي لا يصلي ولا يصوم ولا يتعبد لله تعالى بشيء أبداً ..
ذهبت مع هذا الأخ فلما دخلت البيت ، أجلسني في غرفة الاستقبال ، ثم صاح : محمد .. يا محمد .. هذا اسم أخيه .. شاب عمره ثمان عشرة سنة ..
جاء محمد وصافحني بلطف ثم جلس .. فقال أخوه : هذا يا محمد شيخ داعية زارنا في هذا البلد وأحب التعرف عليك !!
ردّ محمد بلطف : أهلاً وسهلاً ..
بدأت الحديث معه عن الحياة وسبب خلقنا .. وما يستحقه الله تعالى من العبادة والطاعة .. وأن هؤلاء الكفار في ظلال مبين .. وأن السعادة الحقيقة في هذا الدين ..
ثم تكلمت – بصراحة – عن المخالفات المنتشرة بين شباب المسلمين في هذه البلاد .. وعقوبة تارك الصلاة .. و ..
وبدا الفتى غير مكترث بكلامي ولا مبالٍ به .. رغم تكلفي التلطف وتزيين العبارات بالود والتبسم .. لكنه بدا غير جاد في تفهم ما أقول ..
قلت له : يا محمد ، أريد أن أسمع منك سورة الفاتحة ( الحمد لله رب العالمين ) ..
فابتدأ في قراءتها فأخطأ وصوبته .. ثم أخطأ وصوبته .. ثم أخطأ وصوبته .. فسكت !! نعم لا يحفظ سورة الفاتحة !!
قلت له : نحن نحبك .. ونحب لك الخير .. و .. وأريدك أن تأتي معنا لتصلي مع المسلمين ، وتحضر المحاضرة بعد صلاة التراويح ..
وبعد تمنع شديد منه وافق على ذلك ، وأتى معنا .. وصلى التراويح وحضر الموعظة ..
ثم خرج ولم أره بعدها .. فسألت عنه أخاه ؟!(/2)
فقال : يا شيخ !! أخي يقول إن الساعة التي قضاها في المسجد كأنها عشر سنوات .. ملل ..
فقلت : لا حول ولا قوة إلا بالله .. ثم دعوت له بالهداية ، وسكتّ ..
أما الثالث :
فقد كنت في ( السويد ) وهي بلد يكثر فيه اللاجئون وبعد صلاة التراويح والمحاضرة ( وكانت باللغة العربية ) جاء إليّ أحد الأخوة العرب وقال:هنا بعض الشباب السويديين المسلمين يريدون الجلوس معك ..وكانوا متحلقين في المسجد ينتظرون ..
فاستدعيت أحد الأخوة ليترجم بيني وبينهم .. وجلست وبدأتُ الحديث عن نعمة الهداية لهذا الدين وأهمية الثبات عليه ..
وهذا الأخ يترجم من العربية إلى الإنجليزية ..
وفجأة نادي أحد المصلين باسم هذا المترجم فقام إليه وتركنا .. فسكتّ أنتظر رجوع المترجم لأكمل الحديث .. فطال تأخره وطال سكوتي وسكوتهم ..
وفجأة نطق أحد هؤلاء بلغة عربية مكسرة قائلاً : يا شيخ ، أنا أستتيع أن أترشم كليلاً !! ( 2 ) ..
فعجبت منه وقلت : هل تفهم اللغة العربية ؟!
فقال : أنا عربي فلسطيني !! أمي وأبي فلسطينيان !! لكني مولود في هذا البلد ، وجنسيتي سويدي .. ومنذ ولادتي لم يحرص والداي على تعليمي اللغة العربية ، لكني أفهم قليلاً .. ( قال هذا الكلام بلغة عربية مكسرة مخلوطة بعبارات إنجليزية ) ..
هذا طرف من أحوال أبنائنا من شباب المسلمين في ديار الهجرة .. هذا فضلاً عن أولئك الشباب الذين يجرون وراء شهواتهم ونزواتهم ، ولم يوفقوا إلى الهداية والتوبة ..
وكلامي هذا ليس فقط عن الشباب بل والفتيات أيضاً .. هؤلاء أبناؤنا وبناتنا ..
أما أحوال الآباء فهي أنكى وأشد ..
قال الشيخ :
جاء إلىّ منكسراً ذليلاً .. وقال : يا شيخ !! مللت من هذه الحياة !! كنت أسكن في بلد من بلاد المسلمين .. أسمع الأذان .. وأشهد الصلوات .. وأذكر الله مع الذاكرين .. وأركع مع الراكعين .. ولا أرى صليباً ولا كنيسة ..
نعم كنت في عيش قليل لا أملك الأرصدة والأموال .. ولا شقة فاخرة .. ولا يعالجني مستشفى متطور .. لكنني كنت ملكاً متمكناً .. أتربع على عرش منزلي الصغير .. وأولادي وزوجتي حولي كأننا قمر حوله كواكب ..
بالأمس كنا ولا يرجى تفرقنا *** واليوم صرنا ولا يرجى تلاقينا
كنت أعلم أين يذهب ولدي .. ومع من تجلس ابنتي .. ومن تقابل زوجتي ..
ثم زين لي بعض الأقارب أن آتي إلى هذا البلد المتطور الذي يعطيني الجنسية والراحة ، والأمن والرفاهية ، والراتب والعلاج .. و .. فانخدعت بذلك وجئت إلى السويد ..
قبلت الدولة لجوئي .. أسكنوني في شقة فاخرة .. درسوا أولادي في مدارس متطورة .. عشت الأيام الأولى وكأني في حلم جميل ..
نعم تبدل صوت الأذان .. بجلجلة النواقيس والصلبان .. الوجوه المتوضئة .. المشرقة المؤمنة .. تبدلت بوجوه عليها غبرة ترهقها قترة ..
لكن هذه الحياة الجديدة .. والراحة والدعة جعلتني أغفل عن هذه الأمور ..
مضت أيامي في هذه البلاد .. ومضت الشهور وبدأت أتنبه إلى هذا الواقع الفاسد .. أخاف على أولادي من حولي .. صرت كالجبان المختبئ من عدوه الذي يمسك أولاده عن يمينه وشماله خوفاً عليهم من القتل ..
وفي يوم من الأيام :
طرق باب المنزل طارق ، فلما فتحت الباب فإذا بفتاة شقراء !!
ما تريدين ؟!!
أنا صديقةُ ( موهمد ) في المدرسة ، وأريد أن أدخل عنده في غرفته !!
فزجرتها وطرتها .. وعاتبت ولجدي وناصحته ..
وبعد يومين ..
طرق باب المنزل طارق ، فلما فتحت الباب فإذا بشاب أشقر !!
ما تريد ؟!!
أنا صديق ( سارا ) في المدرسة ، وأريد أن أدخل عندها !! في غرفتها !!
فزجرته وطرته ..
وأعلنت حالة الطوارئ في البيت .. وأصدرت المراسيم والأنظمة :
ممنوع الاختلاط ..
ممنوع الذهاب إلى أي مكان غير المدرسة .. أو المسجد يوم الجمعة ..
ممنوع مقابلة الفتيات السويديات .. أو الشباب السويديين ..
ممنوع .. ممنوع ..
وأخذت أراقب تطبيق هذه الأنظمة بكل دقة ..
ومضت الأيام وأحسست بالراحة وأن الأزمة انقضت ..
حتى كانت الكارثة الكبرى !! ..
في يوم من الأيام خرجت لأشتري بعض الأغراض الخاصة للبيت .. وبعد خروجي بدقائق خرجت زوجتي وابنتي إلى مكتب الشرطة وقدمتا شكوى ضدي !! بأنني أكبت حريتهم .. ولا أحسن التعامل معهم .. وأمنع البنت من أصدقائها !! .. والولد من صديقاته !!.. الخ القائمة الطويلة ..
فثارت ثائرة العدالة ( !! ) على هذا الأب المتخلف .. كيف يحول بين الحبيب وحبيبة ؟! كيف يمنع الشباب والفتيات عن ملذاتهم ؟! .. كيف يقع هذا في بلاد الحرية والتطور ؟!..
فلما عدت إلى البيت .. متعباً .. محملاً بالأرزاق والأطعمة .. فإذا بالشرطة ينتظرونني !! فظننت أن البيت سرق في غيابي .. أو أن أولادي وفلذات كبدي تعرضوا لخطر ..
ألقيت ما في يدي وهرعت إلى البيت لأدخل فإذا برجال العدالة والشرف ( !! ) يوقفوني !!
أنت فلان ؟
نعم !! ماذا تريدون ؟!!
عندنا بلاغ ضدك !! تعال معنا ..(/3)
واقتادوني إلى التحقيق .. ثم المحكمة .. وحُكم عليَّ بالسجن ثلاث سنوات .. لأكون عبرة للمعتبرين ..
أما أولادي فقد أعطتهم العدالة ( !! ) منزلاً في غير المدينة التي سجنتُ فيها .. وصرفوا رواتب الأولاد باسم أمهم .. ولم يخبروني بعنوانهم .. ولم يسمحوا لي بالاتصال بهم .. ولا تسأل عن حالي اليوم ..
هذا الأب الأول .. أما الثاني :
فهي امرأة تسكن مع أولادها في شقتها في مدينة بالدنمرك ..
وفي يوم من الأيام وقع شجار بين ولديها الصغيرين ( 4 ، 6 سنوات ) فضربتهما .. فبكيا بصوت مرتفع ..
فلما سمع جارها الدنمركي ( الرحيم الشفيق ) بكاء الأطفال اتصل مباشرة بالشرطة !!
فجاءوا سراعاً وهجموا على الأم وخلصوا الأطفال من الظلم والكبت ( !! ) ..
أفٍ لهم !! يظنون أنهم أرحم بالأبناء من أمهم !!..
وخلال ساعات تم ترحيل أحد الطفلين إلى مدينة في شمال الدانمرك ليتربى في كنف عائلة دنمركية ليس لديها أولاد ..
أما الآخر فأُرسل إلى عائلة في النرويج .. !! هذا خبر الطفلين ..
أما الأم فبقيت تتجرع آلام الحسرة والفراق .. في أرض العدالة والحرية والرفاهية ( !! ) ..
أيها الأخ المغترب :
كل واحد من المغتربين له قصة ..
وكل أبٍ كسير في صدره مأساة ..
وفي وجه كل واحد منهم حكاية .. فما هو الحل ؟! ..
هل الحل هو أن تستسلموا للواقع المرّ ؟ .. أم تحاولوا الإصلاح والحفاظ على دينكم وأولادكم بقدر المستطاع .. حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً ..
من خلال واقع الأخوة المغتربين سواء في أمريكيا أو كندا أو استراليا أو بريطانيا أو فرنسا أو الدول الاسكندنافية أو غيرها .. أستطيع أن أخرج بهذه الوصايا ، التي أرجو أن يكون حال من التزم بها أحسن من غيره :
الوصية الأولى :
اعلم أن الكفار أعداء لا يمكن أن ينقلبوا أصدقاء محبين للمسلمين .. أبداً .. مهما أظهروا من العدل والحب والحفاوة فهم أعداء ، ولا يرضيهم منك إلا الكفر .. { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } ..
{ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ } ..
نعم .. والله ..
فإذا كفرت – حماك الله من ذلك – أحبوك بعض الشيء .. لأنهم يفرقون بين الكافر الذي من جلدتهم وبين من دخل في دينهم من غيرهم ..
قد تقول لي : هم يستقبلوننا ويرحبون بنا ويعاملوننا معاملة حسنة .. ويعطوننا الأموال ويوفرون لنا الراحة ..
فأقول لك : إنهم يفعلون ذلك لمصالح يحصلون عليها منكم .. فهم باستقبالهم لك يربحون مكاسب كثيرة ، إن لم يربحوها كلها ربحوا بعضها ، هم باستقبالهم لك يكثرون عدد سكان بلادهم ، وبالتالي يزيد اقتصادهم وتتطور دولتهم .. هم بك يكثرون عدد العمال والموظفين ويحافظون على عدد السكان لا يتناقص .. لأن بني جلدتهم لا يتكاثرون ولا يحرصون على الإنجاب .. بل يكتفي أحدهم بعشيقة يتمتع بها حتى يموت دون أن يرزق بأولاد .. أو إن أراد أولاداً اكتفى بطفل أو اثنين على الأكثر .. فتجد أن كبار السن عندهم أكثر من الشباب .. وهم يخططون للمدى البعيد ، ويشهد لذلك تقرير نشر قريباً من إدارة الهجرة في أمريكا يصرّح بأن أمريكا لا بدّ أن تستقبل عشرين مليون مهاجر سنوياً لتحافظ على توازن البلد في السنوات القادمة .. فهم ما قبلوا لجوءك رحمة بك وإحساناً إليك .. كلا .. بل يستفيدون منك ..
وإن لم يستفيدوا منك أنت لأن فيك بقية إسلام وقد تعارض بعض ما يخالف الشريعة .. وقد يزعجهم حرصك على صلاتك وعبادتك .. استفادوا من أولادك .. فإن كان في أولادك تربية إسلامية فلم يستفيدوا منهم .. استفادوا من أولاد أولادك .. الذين ولدوا عندهم وتطبعوا بطباعهم وحملوا جنسياتهم ..
هل تعلم أن دولة البرازيل دخلها خلال الخمسين سنة الماضية مليون مسلم ، تنصر منهم إلى الآن نصف مليون !!
{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } ..{ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ } .. { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ }.. مع أن غايتهم الكبرى هي أن تتخلى عن إسلامك .. أما اعتناقك للنصرانية فهو أمر ثانوي بالنسبة لهم بدليل أنهم هم أنفسهم غير متمسكين بالنصرانية تمسكاً تاماً ..
وتأمل معي :
كم يُقتل من المسلمين بأيدي النصارى في بقاع كثيرة !! البوسنة .. كوسوفا .. الشيشان .. أريتريا .. السودان .. أندونيسيا ..
هل تظن أن النصارى هنا يختلفون عن النصارى هناك !!
إن الكفر ملة واحدة ..(/4)
ومن تأمل بدقة في هه البلاد التي تستقبل اللاجئين المسلمين وتحتفي بهم وجد أنها تغيبهم عن دينهم من خلال التعليم والوظيفة والاختلاط والنظام .. و .. ويدندنون في كل مكان : حرية .. !! .. Free والحرية والرذيلة – عندهم – وجهان لعملة واحدة .. ومن ظل متمسكاً بالأخلاق فهو رجعي متخلف !!..
الوصية الثانية :
اعتبر بقاءك في هذا البلد ليس دائماً ، نعم .. قرّر ذلك .. وأقنع به نفسك .. وزوجتك وأولادك .. بصرف النظر عن واقعيته ..
فهذا حريٌ بأن يجعل انتماءك وولاءك هو لبلاد الإسلام لا لبلاد الكفر .. وسوف يأتي يوم تعود فيه إلى بلاد الإسلام .. تسمع الأذان .. وتصلي مع المصلين ..
واقرأ هذه الفتوى بتمعن ، وهي من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين – حفظه الله ( 3 ) – حيث سئل ( 4 ) :
س / ما حكم الإقامة في بلاد الكفار ؟
ج / الإقامة في بلاد الكفار خطر عظيم على دين المسلم وأخلاقه وسلوكه وآدابه ، وقد شاهدنا وغيرُنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك ، فرجعوا بغير ما ذهبوا به ، رجعوا فسلقاً ، وبعضهم رجع مرتداً عن دينه وكافراً به وبسائر الأديان – وبعضهم بالله – حتى صاروا إلى الجحود المطلق ، والاستهزاء بالدين وأهله ، السابقين منهم واللاحقين .
ولهذا : كان ينبغي – بل يتعين – التحفظ من ذلك ، ووضع الشروط التي تمنع من الهوى في تلك المهالك .
فالإقامة في بلاد الكفر لا بد فيها من شرطين أساسيين :
الشرط الأول :
أمن المقيم على دينه ، بحيث يكون عنده من العلم والإيمان وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه ، والحذر من الانحراف والزيغ ، وأن يكون مضمراً لعداوة الكافرين وبغضهم ، مبتعداً عن موالاتهم ومحبتهم ، فإن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان ، قال الله تعالى : { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم } الآية وقال تعلى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } مثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (( أن من أحب قوماً فهو منهم )) ، (( وأن المرء مع من أحب )) ومحبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطراً على المسلم ؛ لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم ، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أحب قوماً فهو منهم )) .
الشرط الثاني :
أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع ، فلا يُمْنع من إقامة الصلاة ، والجمعة والجماعات ، إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة ، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج ، وغيرها من شعائر الدين .
فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة ، لوجوب الهجرة حينئذ ، قال في كتاب المغني ( 8/457 ) في الكلام على أقسام الناس في الهجرة : " أحدها : من تجب عليه : وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه ، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار ، فهذا تجب عليه الهجرة ، لقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " ازهـ .
وبعد تمام هذين الشرطين الأساسيين تنقسم الإقامة في دار الكفر إلى أقسام :
القسم الأول :
أن يقيم للدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه ، فهذا نوع من الجهاد ، فهي فرض كفاية على من قدر عليها ، بشرط أن تتحقق الدعوة ، وأن لا يوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها . لأن الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين ، وهي طريقة المرسلين ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه في كل زمان ومكان ، فقال : (( بلغوا عني ولو آية )) ( 5 )
القسم الثاني :
أن يقيم لدراسة أحوال الكافرين ، والتعرف على ما هم عليه من فساد العقيدة ، وبطلان التعبد ، وانحلال الأخلاق ، وفوضوية السلوك ، ليحذر الناس من الاغترار بهم ، ويبين للمعجبين بهم حقيقة حالهم .(/5)
وهذه الإقامة نوع من الجهاد أيضاً لما يترتب عليها من التحذير من الكفر وأهله ، المتضمن للترغيب في الإسلام وهديه ؛ لأن فساد الكفر دليل دليل على صلاح الإسلام ، كما قيل : وبضدها تتبين الأشياء ، لكن لا بد من شرطِ أن يتحقق مراده بدون مفسدة أعظم منه ، فإن لم يتحقق مراده بأن مُنع من نشر ما هم عليه والتحذير منه ، فلا فائدة من إقامته ، وإن تحقق مراده مع مفسدة أعظم ، مثل : أن يقابلوا فعله بسب الإسلام ورسول الإسلام وأئمة الإسلام ، وجب الكفّ
لقوله تعالى : { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
ويشبه هذا : أن يقيم في بلاد الكفار ليكون عيناً للمسلمين ليعرف ما يدبروه للمسلمين من المكايد ، فيحذرهم المسلمون ، كما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان إلى المشركين في غزوة الخندق ليعرف خبرهم .
القسم الثالث :
أن يقيم لحاجة الدولة المسلمة ، وتنظيم علاقاتها مع دولة الكفر – كموظفي السفارات – فحكمها حكم من أقام من أجله .
فالملحق الثقافي مثلا يقيم فيرعى شئون الطلبة ، ويراقبهم ويحملهم على التزام الإسلام وأخلاقه وآدابه ، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة يندرءُ بها شر كبير .
القسم الرابع :
أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج ، فتباح الإقامة بقدر الحاجة ، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة .
القسم الخامس :
أن يقيم للدراسة ، وهي من جنس ما قبلها – إقامة لحاجة – لكنها أخطر منها وأشد فتكاً بدين المقيم وأخلاقه ..
القسم السادس :
أن يقيم للسكن ، وهذا أخطر مما قبله وأعظم ؛ لما يترتب عليه من المفاسد : بالاختلاط التام بأهل الكفر ، وشعوره بأنه مواطن ملتزم بما تقتضيه الوطنية ، من مودة ، وموالاة ، وتكثير لسواد الكفار ، ويتربى أهلُه بين الكفر ، فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم ، وربما قلدوهم في العقيدة والتعبد ، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( من جامع المشرك ، وسكن معه ، فإنه مثله )) ( 6 ) فإن المساكنة تدعوا إلى المشاركة ( 7 ) .
وعن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين )) قالوا : يا رسول الله ، ولم ؟! قال : (( لا تراءى نارهما )) رواه أبو داود والترمذي ، وأكثر الرواة رووه مرسلاً عن قيس بن أبي حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الترمذي : سمعت محمداً – يعني البخاري – يقول : الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل . ا.هـ .
وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار !! تُعلن فيها شعائر الكفر ، ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله ، وهو يشاهد ذلك بعينيه ويسمعه بأذنيه ، ويرضى به !! بل ينتسب إلى تلك البلاد ، ويسكن فيها بأهله وأولاده ، ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين ، مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده ، في دينهم وأخلاقهم . ا.هـ .
الوصية الثالثة :
أهم ما ينبغي على المسلم أن يعتني به هو دينه ، فما قيمة المال والمسكن والوظيفة والمستشفى والعيش الرغيد في غير طاعة الملك المالك جل جلاله !!..
احرص على إقامة الشعائر أينما كنت .. ومن خصائص هذا الدين أنه دين ظاهر .. أينما أدركتك الصلاة فصلّ .. في السوق .. في المدرسة .. في العمل .. في المصنع .. ولا تخجل من ذلك { قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى } ..
قال الشيخ :
كنت في السويد فذهبت مع اثنين من الأخوة المقيمين المغتربين لزيارة متحف للكتب القديمة وبعض الآثار .. وبعدما دفعنا رسوم الدخول وأمضينا دقائق .. أدركنا وقت صلاة العصر ..
فقال أحدهما : يا شيخ هيا نخرج لنصلي ثم نعود ..
فسألته مستغرباً : لماذا لا نصلي هنا ؟!!
فقال : هاه !! نصلي أمامهم ؟!1 لا .. لا .. هذا صعب جداً .. جداً ..
قلت : لماذا صعب جداً .. جداً .. ؟!!
فقال : يا شيخ .. نصلي أمام السويديين ؟!!
قلت : نعم نصلي أمام السويديين .. ولماذا لا نصلي أمامهم ؟! ألست تراهم يقبل بعضهم بعضاً أمامنا .. ولا يستحون !! ويضم بعضهم بعضاً .. ولا يخجلون .. ويشربون الخمر في الشوارع .. ويكشفون عوراتهم .. ويرتكبون الأفعال المخلة بالحياء .. ويعتبرون ذلك حرية .. ونحن أحياناً ننظر إليهم ونحن معجبون بهذه الحرية !!
فلماذا لا نصلي أمامهم ونعتبرها حرية ؟!!
فوافق صاحبي على مضض ..
فأخذنا جانباً من هذا المتحف واتجهت إلى القبلة ووضعت أصبعي في أذني ..
فصاح بي صاحبي : يا شيخ !! ماذا تريد أن تفعل ؟!
فأجبته بهدوووء : سوف أؤذن ..
فقال – باضطراب شديد – : يا شيخ تؤذن هنا ؟!(/6)
قلت : نعم أليست حرية Free ..!! .. أليسوا يغنون في الشوارع والطرقات .. ويسمون ذلك Free .. !! .. سمّه أنت أيضاً : حرية Free ..!! ..
ثم أذنت وأقمت بصوت منخفض .. وصلينا .. وأكملنا زيارتنا ..
ورآنا الناس ونحن نصلي جماعة .. نكبر ونسبح .. ونركع ونسجد .. ولم يمسك بنا رجال الشرطة .. ولم يدفعونا غرامة .. ولم يقتادونا إلى السجن .. ولم تنطبق السماء على الأرض .. فلماذا يخجل بعض الأخوة من الصلاة أمام الناس .. في الحدائق والأماكن العامة .. بل إن بعض المسلمين يجمعون بين الصلاتين من غير عذر سفر ولا مرض بسبب أنهم يخجلون أن يقيموا الصلاة أمام الناس ..
أيها الأخ الحبيب : إن إظهار هذه الشعيرة وسيلة من أكبر الوسائل للدعوة إلى دين الإسلام .. { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ(45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } ..
ولا أنس أيضاً أن أذكرك أيها الرجل المبارك أن الشعائر الأخرى لا بدّ أن تظهر ، مثل : عدم مصافحة النساء .. ولا الخلوة بهن .. أسأل الله أن يحفظك عفيفاً .. ويصون دينك وإيمانك .. آمين .
الوصية الرابعة
منزلك أخي المغترب هو مملكتك التي لا يكاد يزاحمك أحد عليها ، وسوف تسأل عن أفراد هذا المنزل يوم القيامة ، ومن أحسن التعامل مع أولاده وتنشئتهم تنشئة صالحة في صغرهم نفعوه في الدنيا والآخرة .. فأحسنوا إليه في حياته وحياتهم ببرّهم له .. وطاعتهم .. وعنايتهم .. وانتفع بهم بعد مماته بدعائهم واستغفارهم .. { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } .. وكان من دعاء زكريا عليه السلام أنه قال : { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } .. فلم يسأل ربه أي ذرية .. وإنما أراداها أن تكون ذرية طيبة .. لأن الذرية الفاسدة لا تزيدك إلا عنتاً ومشقة ..
وإليك بعض التوجيهات الهامة في ذلك :
• احرص على إقامة الصلوات في أوقاتها جماعة مع أولادك في المسجد ، فإن لم تتمكن من ذلك فاحرص على إقامتها في البيت في أوقاتها دون تأخير ولا تتساهل بغياب أحد من الأولاد عن صلاتها معكم جماعة ، وذلك في جميع الصلوات .
• احرص على الأذان لكل صلاة ، ولا بأس أن تعلق ورقة في المنزل فيها بيان لأوقات الصلوات ، وتجعل أحد الأولاد مسئولاً عن الأذان للصلاة ، بحيث يكون مكان الاجتماع للصلاة معروفاً غرفة محددة من غرفات البيت فيؤذن المؤذن فيها ويجتمع الباقون لإقامة الصلاة .
• لا بد أن يكون في البيت مكتبة ، ولو صغيرة ، فيها بعض القصص والأحكام الشرعية وغير ذلك ، من الكتب والأشرطة ، ولا تبخل بما تنفقه من مال في ذلك ، فإنه من النفقة في سبيل الله التي تؤجر عليها .
• احرص على أن لا يمر أسبوع إلا ويكون في المنزل درس ديني ، حيث يجتمع أفراد العائلة كلهم وتقرؤون شيئاً من كتاب رياض الصالحين أو التفسير أو غير ذلك ، وهذا مهم جداً في ربط العائلة بعضهم ببعض ، وحتى تحفكم الملائكة وتغشاكم الرحمة ويذكركم الله فيمن عنده ، ولا تتساهل في تغيبهم عن الدرس .
وهذه الدروس المنزلية طبعاً لا تغني عن حضور الدروس المقامة في المركز الإسلامي .
• إن اصطحابك لأولادك إلى المركز الإسلامي من وقت لآخر لحضور الصلوات والدروس العلمية فيه تقوية لإيمانهم ، وربط لهم بإخوانهم المسلمين ، وزرع الشعور بالعزة الإسلامية في نفوسهم .
• لا تتكلم مع أولادك إلا باللغة العربية ، وشدد الأمر في ذلك ، امنع أولادك من الكلام بغير اللغة العربية ، ومن تكلم بلغة المدرسة أو الشارع فعاقبه وكن حازماً في ذلك ، ولا تتسامح بكلمة ولا نصف كلمة .. هذا هام جداً .. جداً ..
الوصية الخامسة :
أولادك عجينة بين يديك تفعل ما تشاء ما داموا في سني الطفولة ، وليس لك عذر إن قصرت في شيء من تربيتهم في هذه المرحلة ، فاحرص على :
أن لا يبلغ ولدك سن الثالثة إلا وقد حفظته سورة الفاتحة ، فإذا أتقنها فحفظه قصار السور كسورة الإخلاص { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
فإذا بلغ خمس سنين فحفّظه ما بعد ذلك من السور ..
حتى إذا بلغ العاشرة من عمره فإذا به يحفظ ثلاثة أجزاء أو أربعة ..
وهذا قد يبدوا صعباً في البداية ولكن إذا تعود الابن على ذلك سهل عليه { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ }
سوف تتعب قليلاً ، ولكن هل تريد الجنة من غير تعب !!
قال صلى الله عليه وسلم : (( حُفّت الجنة بالمكاره ، وحُفّت النار بالشهوات )) ( 8 ) ..وأنت لا تدري متى ترحل من هذه الدنيا وتفارق أولادك .. فحفظهم القرآن ليبقوا لم ذخراً يثقّل ميزانك عند الله تعالى يوم القيامة ..(/7)
قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعوا له )) ( 9 ) .. وأيّ صلاح أعظم من صلاح ولد حافظ لكتاب الله تعالى ...
وانتبه من أن تكون أنت أو أولادك ممن اشتكى الرسول صلى الله عليه وسلم .. كما في قوله تعالى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } ..
ويمكن أن تستعين في تدريس أولادك بأمور .. منها :
• الأشرطة المسجلة : حيث يستمع الطفل إلى الشريط ويردد وراءه حتى يحفظ .
• المدرّس الخاص : حيث يتفق عدد من الآباء مع مدرّس واحد يجلس مع أولادهم عدة جلسات في الأسبوع ويتابعهم أولاً بأوّل .
• تشجيع الولد على الحفظ من خلال الجوائز .
• التقليل من الألعاب والأجهزة التي تشغل الولد عن الحفظ ، كألعاب الكمبيوتر ونحوها .
حدثني أحد الدعاة :
أنه ذهب إلى مدينة في السويد لإلقاء المحاضرات فرأى أحد الأخوة الأعاجم لا يفهم من اللغة العربية كلمة واحدة ومع ذلك له بنتان وولد أكبرهم عمره اثنتي عشرة سنة ، وكلهم يحفظون القرآن كاملاً !!
نعم .. وقد رآهم صاحبي واختبرهم ..
ومن حسُن قصده وخلصت نيته وفقه الله تعالى وبارك فيه وفي ذريته .
ورأيت في الدانمرك رجلاً أسلم حديثاً ، ولا يفهم من اللغة العربية كلمة واحدة ، وكان حريصاً على حفظ القرآن وتعلم الدين ، حتى إنه يحمل معه دائماً مسجلاً صغيراً وإذا رأى من يتقن العربية طلب منه أن يسجل له شيئاً من سور القرآن أو الأذكار أو نحو ذلك ثم يكرر الاستماع إلى ذلك حتى يحفظه .. { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } ..
وحدثني داعية آخر :
أنه كان في استراليا ورأى طفلين مسلمين يحملان الجنسية الأسترالية – وهما من أصل سنغافوري – أحدهما عمره خمس سنوات والآخر سبع سنوات ، كلاهما يحفظ القرآن كاملاً .. ! ..
وهما لا يفهمان من اللغة العربية كلمة واحدة ..
وأخبراني هذا الداعية أنه اختبرهما وعجِب من قوة حفظهما ، قال : حتى إنني خاطبت أحدهما – باللغة الإنجليزية – وقلت له : أخبرني بالآيات التي فيها كلمة ( جهنم ) فسردها لي بسرعة .. ثم طلبت منه الآيات التي فيها كلمة ( الجنة ) فسردها لي !!
وكان الذي اهتم بحفظ هذين الطفلين عليهما هو زوج أمهما .. وكان يحفظهما القرآن عن طريق الاستماع المتكرر للسورة من جهاز التسجيل حتى يحفظها الطفل ، ثم ينتقل إلى غيرها .. فجزاه الله خيراً ..
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
الوصية السادسة :
احرص على أن تعلم أولادك الآداب الإسلامية منذ الصغر فإنهم ينشئون عليها ..
والآداب الشرعية متنوعة :
مثل آداب الطعام والشراب فيقول بسم الله قبل الأكل والحمد لله بعده ، ويأكل باليد اليمنى ..
وآداب المجالسة فيسلم عند الدخول والخروج ، ويحترم الكبير ..
ويلتزم بآداب الكلام فلا يكذب ولا يتلفظ بألفاظ بذيئة ..
وآداب الخلاء كذكر الله قبل الدخول ، وعدم استقبال القبلة أثناء قضاء الحاجة ..
وغير ذلك من الآداب ، وما ذكرته مجرد أمثلة فقط ..
فإذا أهملت تعليم ولدك الآداب الشرعية في صغره ..
هل تدري ما النتيجة ؟ سوف يتولى تأديبه غيرُك ، فيتعلم في الحضانة أن يأكل بالشوكة بيده اليسرى .. ويتعلم في الحضانة أن لا يغلق باب الخلاء ولا يستر عورته عند قضاء الحاجة .. ويتعلم في الشارع السب واللعن والكلام الفاحش ..
فتأمل الفرق بيت التربيتين ...
حدثني أحد المشايخ الدعاة يبلغ من العمر خمسين سنة أنه ألقى محاضرة في أحد المراكز الإسلامية في إيطاليا وتكلم أثناء المحاضرة عن تربية الأولاد والمسئولية نحوهم .. وكان أغلب الحاضرين من العرب المغتربين ..
قال الشيخ :
وفجأة قام شيخ كبير قد تجاوز الثمنين وقطع محاضرتي .. وصاح بأعلى صوته وقال :
يا شيخ !! أريد أن أزوجك ابنتي !! تزوجها وخذها معك !! أرجوك !! يا شيخ !! يا شيخ !!
ثم بكى .. وبكى ..
فتعجبي منه لكنني لم أرد عليه ..
فلما انتهت المحاضرة دعوته إلىّ وشكرته على حسن ظنه بي ، وبينت له أنني لا أرغب في الزواج ، ثم سألته :
ما سبب حماسك وبكائك ؟ ومقاطعتك للمحاضرة ؟؟
فقال : يا شيخ ، نحن كنا أصدقاء أربعة أتينا إلى هذه البلاد مع أولادنا طلباً لحياة أفضل ، وكبر أولادنا وبدؤوا يتفلتون من أيدينا .. ومضت السنين ومات أصحابي فتنصَّر جميع أولادهم وأنا انظر ..
أما أنا فقد كبر الآن سني .. ورقّ عظمي .. واقتربت منيتي .. أنا خائف على ابنتي .. هي اليوم في المسجد .. وغداً لا أدري أين تكون ثم بكى .. وبكيتُ وبكى من حولنا ..
الوصية السابعة :(/8)
لا بدّ أن تتعاون مع أم أولادك وتجندها معك في تربيتهم ، وتزرع فيها الصبر والاحتساب ، فأحسن اختيار زوجتك ، واحرص على أن تكون مؤمنة متحجبة عفيفة ، ثم بعد الزواج احرص على ارتقاء إيمانها وزيادة معرفتها بالدين ، وشجعها على حضور المحاضرات والدروس الشرعية ، وقراءة الكتب النافعة واستماع الأشرطة المفيدة ..
فإن الأم إذا صلحت صلح الأولاد تبعاً لها ..
الوصية الثامنة :
أخي الكريم !! منذ كم سنة أنت مقيم هنا في بلاد الغربة ؟! بين الكفار الضالين !!
بعض المغتربين جاء إلى بلاد الغربة منذ عشر سنوات وبعضهم عشرين ، ولا أبالغ لو قلت إن بعضهم جاء منذ أربعين سنة .. سكن معهم في مساكنهم .. وخالطهم في وظائفهم .. وأسواقهم .. وشوارعهم .. ومطاعمهم ..
ولكن الأسئلة الكبيرة التي أريدك أن تجيب عليها بصراحة : من خلال هذه الإقامة الطويلة :
كم شخصاً أسلم على يدك خلال هذه السنوات ؟ .. بل كم شخصاً ناقشته عن الإسلام وأزلت ما في نفسه من شبهات أو سوء فهم عن الإسلام ؟ ..
كم كتاباً أو شريطاً في الدعوة إلى الإسلام وزعت ؟ ..
كم مسلماً مقصراً نصحت ؟ ..
وفي الجانب الآخر أسألك :
كم من الأموال جمعت ؟ .. وكم شقة اشتريت ؟..
وأعوذ بالله أن أسألك : كم معصية كبيرة قارفت ؟؟..
أيها الأخ الحبيب : إن أصحاب المذاهب الضالة الهدامة يعملون دائبين في الدعوة إلى مذاهبهم في دول أوربا وغيرها أكثر من بعض المسلمين ، فانظر إلى نشاط " شهود يهوه " .. ونشاط " الشيعة " .. وغيرهم .. مع أنك على حق وهم على الباطل .. { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحا } ..
كن مشعل هداية أينما كنت ، احمل معك الكتب والأشرطة الدعوية ولن تكلف إلا مبلغاً يسيراً يعوضك الله به خيراً ..
أحد المسلمين كان يعمل في شركة كبرى ويحدث نفسه بالدعوة دائماً لكنه يخجل ويتكاسل ، وفي يوم من الأيام أحيل إلى التقاعد أحد زملائه من الموظفين الكبار ، فعمل له أصحابه حفلة توديع ، وأحضر كل واحد من زملائه هدية يودعه بها ..
قال صاحبنا : واحترتُ ماذا أقدم له ؟! فتذكرت أن هذا الموظف يحب التحف والأواني الأثرية القديمة ، فاشتريت له تحفة جميلة وخبأت بداخلها كتاباً صغيراً عن الإسلام وكتبت عنواني عليه ، وغلفتها بغلاف جميل وأهديتها إليه مع بقية زملائي ..
ومضت الأيام ..
وبعد قرابة الشهرين فوجئت باتصال من صاحبي المتقاعد يبشرني بإسلامه .. ويخبرني أنه قرأ الكتاب كله .. ثم اشتاق أن يتعلم معلومات أكثر عن الإسلام فبدأ يبحث ويسأل حتى دخلت الهداية قلبه وأسلم .. والسبب الأول هو هذا الكتاب الذي خبأته له على استحياء ..
والعجيب أن صاحبي المتقاعد بدأ يلومني : لماذا حجبت عني الهداية طوال تلك السنوات ؟!
أيها المغترب الحبيب المبارك :
هل تعلم كيف دخل الإسلام إلى الهند وباكستان والصين وكثير من بلاد أفريقيا .. وغيرها من البلاد البعيد عن مهبط الرسالة ؟؟
لم يدخلها عن طريق الدعاة .. ولا عن طريق الجهاد .. ولا عن طريق المكاتبات .. ولا .. إنما دخلها عن طريق رجال مسلمين ليسوا علماء ولا دعاة ، تجار ذهبوا إلى هناك في تجارة .. ذهبوا ليشتروا البضائع ويبيعوا بضائعهم .. ذهبوا لا يريدون إى الدنيا والمال .. وماذا كانت النتيجة ؟؟
جمع الله لهم الدنيا والآخرة .. جمعوا الأموال .. وتأثر أهل تلك البلاد بالمسلمين .. رأوا صلاتهم .. وحسن تعاملهم .. فسألوهم عن الإسلام فأخبروهم ودعوهم إليه .. فأسلم ما لا يحصى عدده من الناس بسبب هؤلاء التجار ..
في الهند مائة مليون مسلم ، ومن كان سبب هدايتهم ؟!
وفي الصين أكثر من مائة مليون ، من كان سبب هدايتهم ؟!
وفي بلاد أفريقيا مئات الملايين ، ومن كان سبب هدايتهم ؟!
إنهم هؤلاء التجار الذين دخلوا هذه البلاد طلباً للدنيا فجمع الله لهم الحسنيين ..
أيها الأخ المسلم الموفق :
إن حالك لا يختلف كثيراً عن حال أولئك التجار ، هم جاءوا إلى تلك البلاد طلباً للدنيا ، وأنت جئت إلى هذه البلاد طلباً للراحة الدنيوية والعيش الرغيد والأمن على النفس والولد .. فلماذا لا تجمع الدنيا والآخرة !! كما فعلوهم .
أخي الكريم :
لعل الله كتب الهداية لأهل هذه البلاد على يدك أنت ومن معك من المغتربين ..
لعل الله قدّر عليكم من الظروف والمشاكل ما استجلبكم به إلى هذه البلاد لهداية هؤلاء ، فلماذا لا تكونون دعاة إلى ربكم .. { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ..
وليس الدعوة للكفار فقط بل للمسلمين المقصرين المذنبين .. فهم وإن وقعوا في المعاصي أو قارفوا الكبائر فلا يزال فيهم إيمان وحب للدين ورغبة في العودة إليه ..
قال أحد الدعاة :(/9)
ألقيت محاضرة في مركز إسلامي بإحدى الدول الأوروبية .. وبعد المحاضرة جاء إليّ شاب تنبعث منه رائحة الدخان ( السجائر ) وقد بدت عليه آثار المعصية .. فصافحني وقبلني بحرارة .. ثم طلب مني أن أخبره كيف يستطيع أن يذهب للجهاد في الشيشان .. قلت له : أنت تريد أن تجاهد ؟! قال : نعم .. قلت : أتدري ما الجهاد ؟ إنه قتل للنفس .. ومفارقة للأهل والأولاد .. فقال : أليس الجزاء الجنة ؟ قلت : بلى .. قال : كل شيء يهون ..
الوصية التاسعة :
كنت في أحد البلاد الأوربية ، وبعدما صليت التراويح وألقيت المحاضرة ، دعاني أحد الأخوة إلى منزله لتناول الشاي ..
وفي ذلك المجلس اجتمع معنا قرابة الثلاثين من الأخوة المغتربين ..
آثرت في البداية أن أستمع ولا أتكلم ..
بدأ الأخوة أحاديثهم ..
احتلال البلد الفلاني ..
وغزو البلد الآخر ..
وغلاء الأسعار ..
والضرائب ..
ثم اشتدّ النقاش .. وارتفعت الأصوات .. وضجّ الصياح ..
ثم تحول الأمر إلى سبّ وتقذيع ..
هذا حالهم .. أما حالي فهو أعجب وأغرب .. لأنني أول الأمر ظننت نفسي انتقلت إلى اجتماع هيئة الأمم المتحدة .
لكني بعدما تلفتّ حولي تذكرت أني لا أزال بين هؤلاء الأخوة .. فبقيت هادئاً ..
في البداية خجلت أن آمرهم بالسكوت .. وانتظرت أن تنخفض أصواتهم .. فلم يفعلوا ..
فلما طال الأمر التفتّ إلى الذي بجانبي وقلت : هل سيطول الحال هكذا ؟!!
فقال : ما رأيت شيئاً !! هم اليوم هادئووون !! إن موعدهم الصبح !! أليس الصبح بقريب ؟!!
ثم قال : هل تريد أن أسكتهم ؟
قلت : هل تستطيع ذلك ؟!! نعم أسكتهم .
فصاح بأعلى صوته : يا جماعة !! نريد أن نستفيد من الشيخ ، يا جماعة !! هدووووء ..
فخجلوا وبدأ بعضهم يسكت بعضاً ..
فقلت لهم : أسألكم سؤالاً :
كلكم تحفظون سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ } ؟
قالوا : نعم !!
فقلت : ما معنى { اللَّهُ الصَّمَدُ } ؟ فسكتوا !!..
قلت : كلكم تحفظون { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1)مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2)وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ }
قالوا : نعم !!
فقلت : ما معنى { غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } ؟ فسكتوا !! ..
فقلت : أيها الأخوة الأخيار !! لو اشتغلتم في مجلسكم هذا بتفسير آية .. أو قراءة حديث .. أو النقاش حول تربية أولادكم .. أو حل مشاكل بناتكم .. لكان خيراً لكم مما أنتم فيه ..
كم هي المجالس التي تجلسونها وينطبق عليها قوله صلى الله عليه وسلم : (( ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ، ولم يصلوا على نبيهم ، إلا كان عليهم ترة يعني : ( حسرة وندامة ) فإن شاء عذبهم ، وإن شاء غفر لهم )) ( 9 ) ؟
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه ، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة )) ( 10 ) .
ثم قلت لهم : هذا تفسير ابن كثير موجود على الطاولة أمامكم ، فلماذا لا تستفيدوا منه ؟!!
كيف تريدون أن تنصروا هذا الدين ، وأن تدعوا الناس إليه ، وأنتم تجهلون المبادئ الأساسية من الدين ، لو سألتكم في بعض أحكام الصلاة ، أو الصيام لوجدت أكثرهم بها جاهلاً .. ثم دعوت لهم وختمت المجلس ..
وحدثني أحد الدعاة فقال : كنت في أمريكا في شهر رمضان ، وألقيت محاضرة باللغة العربية حول الأسرة وتربية الأولاد ووسائل الثبات على الدين ..
وما كادت المحاضرة تنتهي حتى قام أحدهم وسأل :
لماذا الحاكم الفلاني يفعل كذا وكذا ؟!!
فأجبته بلطف قائلاً أرجو أن تكون الأسئلة فيما يتعلق بموضوع المحاضرة ..
فقام آخر فقال : لماذا الدولة الفلانية تقاتل دولة كذا ؟!!
فاعتذرت عن الإجابة لأن الإجابة لا تفيدنا بشيء ..
فقام أحدهم متحمساً وقد ظن أنني خائف من الإجابة ، فقال :
يا شيخ !! لا تكن جباناً !! سيد الشهداء هو الذي يجهر بكلمة الحق عند سلطان جائر .. فيقتله .. فاجهر بكلمة الحق وإن وصلت إلى سلطان فقتلك !! أفلا تريد أن تكون سيد الشهداء ؟!!
فقلت له : إذاً ما رأيك أيها الأخ الشجاع أن نجمع لك الآن ثمن تذكرة سفر ، وتعود إلى بلدك وتجهر بكلمة الحق عند الرئيس ( ... ) ، ليقتلك فتكون أول الشهداء !!! ونحن بعدك إن شاء الله ..
فضحك الجميع .. وأغرقوا في الضحك .. ثم ضج المسجد بالكلام والاعتراضات ..
فصحت بأعلى صوتي قائلاً :
يا جماعة !! أنا أحدثكم عن أمور تعيشونها يومياً وتقاسون آلامها ، وأنتم تشغلونا بأمور لو تكلمنا عنها عشر سنين لما استفدنا منها شيئاً ..
ثم رفعت صوتي أكثر ، وقلت :
من منكم يستطيع أن يمنع ابنته من الزنا ؟؟
من منكم يستطيع أن يمنع امرأته من اتخاذ صديق أو عشيق ؟؟
من منكم يستطيع أن يمنع ولده من شرب الخمر ؟؟ أو ارتكاب الفواحش ؟؟
من منكم يستطيع أن يلزم أولاده بالصلاة ؟
.. أو بالصوم ؟
.. أو بالعفة عن المحرمات ؟
.. أو بعدم الاختلاط ؟؟ ..
فسكتوا جميعاً ..(/10)
فقام أحدهم وقال : بصراحة يا شيخ : لا أحد .. والله يا شيخ !! لا أحد .. لو منعت ابنتي أو ولدي من شيء اشتكاني إلى الشرطة .. حتى زوجتي ..
فقلت : أيها الأخوة الكرام :
لن يسأل الله أحداً منكم يوم القيامة عن الحاكم الفلاني أو الدولة الفلانية .. ولا عن أسعار النفط ..وأين تصرف عائداته ..
ما ذا يفيدك الكلام في هذه الأمور ما دام أنه من باب معرفة الواقع المحيط بك ، أما الاشتغال بها وإثارتها في المجالس والمحافل فهذا غير مناسب لأبداً ، بل هو مجلبة للجدال والخصومات وأنتم في غنى عن ذلك .. لن يضركم الجهل بها يوم القيامة ..
لكن والله ليسألن كل منكم يوم القيامة عن أولاده وتربيتهم .. وبناته وصيانتهن .. وزوجته وحفظها .. قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله سائل كل راع عما استرعاه : أحفظ أو ضيع ؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته ) ( 11 ) .
قال الشيخ : فلما سمعوا مني ذلك .. أنصتوا .. واستمعوا ..
أيها الأخ الحبيب :
احرص على طلب العلم .. وتعلم أحكام دينك .. بقراءة الكتب النافعة ، واستماع الأشرطة المفيدة ، ومجالسة طلاب العلم ، وحضور مجالس الذكر .. احذر أن يمرّ عليك يوم دون أن تستفيد فيه فائدة جديدة ..
سل نفسك : هل تتقن القرآن ؟ كم تمضي من الوقت يومياً في قراءة الكتب النافعة وكم تمضي في مشاهدة التلفاز ؟ ثم قارن بين الوقتين .. وسل نفسك .. ألا يستحق هذا الدين أن أبذل له أكثر وقتي تعلماً وتعليماً و دعوة ..
أيها الأخ المبارك : احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وكن مؤثراً فعّالاً ، إذا دُعيت إلى مجلس فخذ معك كتاباً نافعاً .. واقرأ عليهم ولو لمدة عشر دقائق .. عن فضل قيام الليل .. أو فضل ذكر الله تعالى .. أو فضل الصدقة .. أو غير ذلك .. ليكون مجلسكم تحفه الملائكة وتغشاه الرحمة .. ويذكركم الله فيمن عنده ..
أسأل الله تعالى أن يجعلك مباركاً أينما كنت .. آمين .
الوصية العاشرة :
إن الفراغ الكثير يؤدي إلى كثير من المفاسد .. من أعظمها : كثرة الكلام والقيل والقال .. فتجد أن كثيراً من الأخوة المغتربين يجتمعون في مجالس متعددة فيبدأ أحدهم في غيبة الآخر أو الانتقاص من عرضه .. أو التدخل في شئونه الخاصة .. أو تقديم اقتراحات وآراء في أمور شخصية دون أن يطلب منه ذلك .. وقد يكون الدافع إلى ذلك أحياناً الغيرة ..
وأحياناً تمتلئ القلوب ضغينة وحقداً .. وبغضاً وحسداً ..
أيها الأخ الحبيب :
كيف تريد أن نوحّد الأمة الإسلامية ونحن لم نستطع أن نوحّد صفوفنا المسلمة في بلد واحد ؟!! بل فرّقتنا الأحقاد والخلافات ..
إن صفاء النفس وسلامة الصدر على المسلمين عبادة من أعظم العبادات ، بل هي من صفات أهل الجنة { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } ..
وما أجمل قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل : أي الناس أفضل ؟ فقال : (( كل مخموم القلب صدوق اللسان )) قالوا صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب . قال (( هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد )) ( 12 ) .
أحسن إلى المسلمين وإن أساءوا إليك .. واحلم عليهم وإن غضبوا عليك .. واجعل صدرك واسعاً لإخوانك المسلمين ..
وإنما الدنيا أيام معدودات ..
كثير من الناس يستطيع أن يتقرب إلى الله تعالى بصلاة وصدقة وصيام .. ولكن قليلاً منهم من يستطيع أن يتقرب إلى الله بصفاء سريرته على المسلمين .. فاحذر من أن يطلع الله تعالى على صدرك فيرى فيه غلاً وحسداً على المسلمين ..
الوصية الحادية عشرة :
انتبه .. احذر من الزواج من امرأة نصرانية .. نعم قد تقول لي إن ذلك جائز في شريعة الإسلام .. فأقول لك نعم هو جائز .. ولكن عند النظر فيما ترتب ويترتب على هذا الزواج من ضياع الأبناء – غالباً – وكثرة الخلافات بين الزوجين ، أو تخلي الزوج عن دينه ، حتى يصل إلى حال يكون تعلقه بالإسلام بمجرد الاسم فقط .. ولا حول ولا قوة إلا بالله .. فلا صلاة .. ولا دعوة إلى الله .. ولا حجاب لزوجته .. ولا محاربة للاختلاط .. ولا .. ولا ..
وكلّ هذا قد رأيته بنفسي – والله – عند رجال مسلمين أقدموا على الزواج من النصرانيات ثم بعدما ذهبت سكرة الزواج .. وفرحة الحياة الجديدة .. بدأ أحدهم يجني ثمار تسرّعه في الزواج من النصرانية ..
الوصية الثانية عشرة :
ما هو مصدر تلقي الدين إليك ؟! .. سؤال مهم .. لاحظت أن بعض الأخوة المغتربين يتتبعون الرخص .. ويفرحون بمن يفتيهم بما يوافق أهواءهم .. بل بعضهم إذا سمع فتوى توافق هواه .. طار بها فرحاً ومدح المفتي قائلاً : هذا هو الشيخ العالم .. هذا هو الشيخ الذي يفهم الواقع .. هذا الذي يعيش جراح المسلمين ..
يقول ذلك عن الفتوى وإن كانت تخالف الكتاب والسنة .. أو فيها تمييع للدين .. أو تساهل بالنصوص الشرعية .. أو تحايل للبحث عن الرخص والأقوال الضعيفة .. فالمهم أنها فتوى .. فتوى !!..
أيها المسلم الحبيب :(/11)
إن الله سيسألك يوم القيامة سؤالاً واحداً { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } .. لن يسأل عن الشيخ فلان ولا فلان .. وإنما عن اتباع الكتاب والسنة .. فقط ..
أعيد عليك السؤال المهم مرة أخرى : ما هو مصدر تلقي الدين بالنسبة إليك ؟!
هل كل من لبس جبة أو عمامة وظهر في القنوات الفضائية يكون مفتياً .. ويصلح أن يكون مصدراً لتلقي الدين ؟!
إن المقياس الذي ينبغي أن تحكم به على الشيخ المفتي هو أن تكون فتاواه موافقة للكتاب والسنة .. ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ..
قال الشيخ :
ألقيت محاضرة في أحد المراكز الإسلامية .. فجاء إليّ أحدهم وقال : يا شيخ لماذا تشدد في مسألة الاختلاط .. والشيخ الدكتور فلان في قناة ( ... ) يقول إن الاختلاط بين الرجال والنساء جائز في الولائم والحفلات إذا حسنت النية .. وكان نظر بعضهم إلى بعض بغير شهوة ؟!
وألقيت محاضرة في مكان آخر إلى أحدهم .. وقال : يا شيخ ما حكم الربا ؟
قلت : حرام !! بجميع صوره وأشكاله ..
فقال : إن الشيخ فلان في قناة ( ... ) يقول : إنه ضرورة من ضرورات العصر .. ولا بأس به ..
وجاء إليّ مستفتياً عن حكم المعازف والموسيقى .. ثم قال : قد أفتى الشيخ فلان أنها حلال ..
فلا تجعل دينك عرضة لكل من أراد أن ينتقصه أو يفسده عليك .. فإنك ستحاسب وحدك .. وتسأل وحدك
{ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ }
الوصية الأخيرة :
اذكر الوقوف بين يدي الله تعالى واعلم أن هذه الدنيا دار ممرّ لا مقرّ .. واسأل الله تعالى حسن الخاتمة ..
قال صاحبي :
كنت أدرس الطب في كندا ، ولا أنسى أبداً ذلك اليوم الذي كنت أقوم فيه بالمرور اليومي على المرضى في غرفة العناية المركزة في المستشفى ، ولفت انتباهي اسم المريض الذي في السرير رقم 3 ، إنه محمد ... أخذت أتفحص وجهه الذي لا تكاد تراه من كثرة الأجهزة والأنابيب على فمه وأنفه ، إنه شاب في الخامسة والعشرين من عمره مصاب بمرض ( الإيدز ) أُخل إلى المستشفى قبل يومين إثر التهاب حادّ في الرئة .. حالته خطرة .. جداً .. جداً .. اقتربت منه .. حاولت أن أكلمه برفق : محمد .. محمد .. إنه يسمعني لكنه يجيب بكلمات غير مفهومة .. اتصلت ببيته فردت عليّ أمه .. يبدوا من لكنتها أنها من أصل لبناني .. عرفت منها أن أباه تاجر كبير يمتلك محلات حلويات .. شرحت للأم حالة ابنها ، وأثناء حديثي معها بدأت أجراس الإنذار تتعالى بشكل مخيف من الأجهزة الموصلة بذلك الفتى مؤشرة على هبوط حادّ في الدورة الدموية ، ارتبكت في حديثي مع الأم .. صرخت بها : لا بدّ أن تحضري الآن ، قالت : أنا مشغولة في عملي وسوف أحضر بعد انتهاء الدوام ، قلت : عندها ربما يكون الأمر قد فات .. وأغلقت السماعة ..
بعد نصف ساعة أخبرتني الممرضة أن أم الفتى وصلت وتريد مقابلتي .. قابلتها .. امرأة في متوسط العمر لا تبدو عليها مظاهر الإسلام .. رأت حالة ابنها فانفجرت باكية .. حاولت تهدئتها وقلت : تعلقي بالله تعالى واسألي له الشفاء ، قالت بذهول : أنت مسلم ؟!!
قلت : الحمد لله !! قالت : نحن أيضاً مسلمون ،
قلت : حسناً .. لماذا لا تقفين عند رأسه وتقرئين عليه شيئاً من القرآن لعل الله أن يخفف عنه ..
ارتبكت الأم .. ثم انخرطت في بكاء مرير ..
وقالت : هاه ! القرآن ؟! لا أعرف !! لا أحفظ شيئاً من القرآن !!
قلت : كيف تصلين .. ألا تحفظين الفاتحة ؟!!
فغصت بعبراتها وهب تقول : نحن لا نصلي إلا في العيد منذ أن أتينا إلى هذا البلد ..
سألتها عن حال ابنها ، فقالت : كان حاله على ما يرام ، حتى تردّت بسبب تلك الفتاة ..
قلت : هل كان يصلي ؟
قالت : لا ، لكنه كان ينوي أن يحج في آخر عمره ( !! ) ..(/12)
بدأت أجهزة الإنذار ترتفع أصواتها أكثر وأكثر .. اقتربتُ من الفتى المسكين .. إنه يعالج سكرات الموت .. الأجهزة تصفّر بشكل مخيف .. الأم تبكي بصوت مسموع .. الممرضات ينظرون بدهشة .. اقتربت من أذنه وقلت : لا إله إلا الله .. قل لا إله إلا الله .. الفتى لا يستجيب .. قل لا إله إلا الله .. إنه يسمعني .. بدأ يفيق وينظر إليّ .. المسكين يحاول بكلّ جوارحه .. الدموع تسيل من عينيه .. وجهه يتغير إلى السواد .. قل لا إله إلا الله .. بدأ يتكلم بصوت متقطع : آه .. آه .. ألم شديد .. آه .. أريد مسكناً للألم .. آه آه .. بدأت أدافع عبرتي وأتوسل إليه قل لا إله إلا الله .. بدأ يحرك شفتيه .. فرحت .. يا إلهي سيقولها .. سينطقها الآن .. لكنه قال : ( I cant .. I cant ) أريد صديقتي .. أريد صديقتي .. لا أستطيع .. لا أستطيع .. الأم تنظر وتبكي .. النبض يتناقص .. يتلاشى .. لم أتمالك نفسي .. أخذت أبكي بحرقة .. أمسكت بيده .. عاودت المحاولة : أرجوك قل لا إله إلا الله . لا أستطيع .. لا أستطيع .. توقّف النبض .. انقلب وجه الفتى أسوداً .. ثم مات .. انهارت الأم .. وارتمت على صدره تصرخ .. رأيت هذا المنظر فلم أتمالك نفسي .. نسيت كلَّ الأعراف الطبية .. انفجراتُ صارخاً بالأم : أنت المسئولة .. أنت وأبوه .. ضيعتم الأمانة ضيعكم الله .. ضيعتم الأمانة ضيعكم الله .. { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } ..
أخي المغترب :
تأمل في حال هذا المسكين .. وماذا لو كان ولدك أو ابنتك .. أو أخوك .. أو أنت .. نعم أنت فاحرص على طاعة الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ..
الجأ إلى الله تعالى في جميع أحوالك وسله العون والتوفيق في كل أعمالك .. سله صلاح الذرية { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ }..
وسله الثبات على الدين والنجاة من الفتن { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }..
احرص على ذكر الله تعالى في جميع أحوالك { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } .. واستشعر مراقبته إن دعتك النفس إلى معصية واعلم أنه يراك ويراقبك ..
ومجمل القول : اجعل بينك وبين ربك عز وجلّ علاقة خفية .. من قيام ليل .. أو صيام .. أو صدقة سرّ .. أو دعوة ونصح للناس .. فإن من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة ..
أسأل الله أن يحفظك ويوفقك ..
وختاماً : أيها الأخ الحبيب .. أيها المسلم المغترب ..
هذه وصايا استخرجتها لك من مكنون نصحي .. سكبت فيها روحي .. وصدقتك فيها النصح والتوجيه ..
فلا يكن نصيبي منك أقل من دعوة لي بظهر الغيب تستنزل بها الرحمات لي ولك من أرحم الراحمين ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محبك : محمد بن عبدالرحمن العريفي
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بالرياض
عضو لجنة أوربا في مؤسسة الحرمين الخيرية
1/2/1420هـ الموافق 4/5/2000م
ص.ب : 151597 – الرياض : 11775
البريد الألكتروني : areefe@usa.net(/13)
جنائزنا اليوم بين هدي الشريعة والابتداع (3)
إعداد/ راشد عبد المعطي محفوظ
الحمد لله رب العالمين، أكرمنا
بدين الإسلام العظيم، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، الرحمة
المهداة من رب العالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين.
ثم أما بعد: نستكمل أخي القارئ الكريم اليوم في هذه الحلقة الثالثة من موضوع «جنائزنا اليوم... بين هدي الشريعة.. والابتداع»، وسبق أن بينا في الحلقتين السابقتين أبعاد هذا الموضوع لأهميته لكل مسلم ومسلمة في كل زمان وفي
كل مكان، لارتباطه الوثيق بعقيدتنا وديننا وهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.وانتهينا في الحلقة الماضية من موضوع الصبر عند الابتلاء التي من أشدها الموت لما لهذا الصبر من عظيم الأثر عند اللَّه تعالى الذي كل شيء بأمره وإرادته وقدره - وعندما يجزع البعض أو يخرج عن ما أمرت به الشريعة الإسلامية ورخصت فيه كالبكاء
الذي ليس بالنواح أو معه لطم الخدود أو شق الجيوب، ولقد جاء الإسلام بنقائه وعظمته ليخرج الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام الذي هدانا اللَّه جل وعلا إليه.
ولقد حرّم رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أمورًا كثيرة كانت تحدث في الجاهلية أو حتى في بعض سنوات الإسلام الأولى ومن بين ما حرّم رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى.
1- النياحة:وهو أمر زائد على البكاء، قال ابن العربي: النوح ما كانت
الجاهلية تفعل؛ كان النساء يقفن متقابلات يصحن ويحثين التراب على رؤوسهن ويضربن وجوههن - لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة». وقال: النائحة إذا لم تتبْ قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرعٌ من جَرَبَ. (أي يسلط على أعضائها الجرب والحكة بحيث يغطي بدنها تغطية الدرع وهو القميص)، من حديث أبي موسى الأشعري(1).وقال الإمام النووي رحمه اللَّه في شرحه على هذا الحديث في عبارة «النائحة إذا لم تتب»: فيه دليل على تحريم النياحة وهو مجمعٌ عليه، وفيه صحة التوبة ما لم يمت المكلف ولم يصل إلى الغرغرة. [المرجع
السابق/ 208]وفي صحيحي البخاري ومسلم رحمهما اللَّه رحمة واسعة من حديث أم
عطية رضي اللَّه عنها قالت: أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح، فما
وَفَتْ منا غير خمس نسوة: أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ
وامرأتين، أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ وامرأة أخرى. [رواه الشيخان واللفظ هنا
للبخاري (ح1306)، ومسلم (210/7) (ح936/31)]
2- ضرب الخدود وشق الجيوب:
لحديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من شق الجيوب، وضرب الخدود، ودعا بدعوة الجاهلية».[صحيح سنن الترمذي (510/1) حديث: 999]
3- حلق الشعر:كما في حديث أبي بردة بن أبي موسى قال: «وجَع أبو موسى وجعًا فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فصاحت امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئًا، فلما أفاق قال: إني برئ مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة- وهي التي ترفع صوتها عند الفجيعة بالموت - والحالقة والشاقة».
[أخرجه البخاري (129/3)، ومسلم (70/1)، والنسائي (1/263)، والبيهقي (64/4)]
4- نشر الشَّعْرِ:
لحديث امرأة من المبايعات قالت: «كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه، وأن لا نخمش وجهًا، ولا ندعو ويلاً، وأن لا ننشر شَعْرًا».[صحيح سنن أبي داود (283/2) حديث: 3131]هذه بعض الأمور التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها لما فيها من مخالفة لشرع اللَّه تعالى وهدْي النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه بعض الأعمال التي تتم في حالة الوفاة - وتعتبر من البدع المنكرة، ومن هذه البدع: ما هو واقع قبل الوفاة
وبعدها، وما يتبع الموت من أعمال كالغسل والكفن والصلاة على الميت والدفن وغير ذلك من الأمور التي سنحاول إيجازها.قبل الوفاة:
1- اعتقاد البعض أن الشياطين
يأتون للمحتضر على صورة أبويه في زي يهودي ونصراني حتى يعرضوا عليه كل مِلّة ليضلوه. [قال ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الحديثية» نقلاً عن السيوطي: «لم يرد ذلك» أي لم يرد به نص صحيح من كتاب أو سنة - فهو قول باطل-.
2- وضع المصحف عند رأس المحتضر.
3- قراءة سورة «يس» على المحتضر.
4- توجيه المحتضر إلى القبلة.
أما فيما يتعلق بقراءة سورة «يس» وتوجيهه إلى القبلة فلم يصح في ذلك حديث، بل كره سعيد بن المسيب توجيهه إليها وقال: «أليس الميت امرأً مسلمًا؟».(/1)
وعن زُرعة بن عبد الرحمن أنه شهد سعيد بن المسيب في مرضه وعنده أبو سلمة بن عبد الرحمن فغُشي على سعيد، فأمر أبو سلمة أن يُحَول فراشه إلى الكعبة، فأفاق، فقال: حولتم فراشي ؟. فقالوا: نعم، فنظر إلى أبي سلمة فقال: أراه بعلمك ؟ فقال: أنا أمرتهم !! فأمر سعيد أن يعاد فراشه. [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (76/4) بسند صحيح عن زرعة (3)، وقد أنكر ذلك سعيد بن المسيب في المحلى (174/5)، ومالك كما في المدخل (3 / 229 -230، ولا يصح فيه حديث. المرجع السابق ص243]ما بعد الوفاة:أما بعد ما الوفاة فهي كثيرة جدًا، وسوف نكتفي هنا بذكر أهم تلك البدع:
1- اعتقاد البعض أن روح الميت تحوم حول المكان الذي مات فيه.
2- قراءة
القرآن عند الميت حتى يُباشر بغسله.
3- إخراج الحائض والنفساء والجُنب من عند الميت.
4- إبقاء الشمعة عند الميت ليلة وفاته حتى الصباح. [المدخل 236/3]
5- شق
الثوب، وقد جاء النهي عن ذلك صريحًا وواضحًا كما في حديث البخاري ومسلم السابق ذكره: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعى بدعوى الجاهلية».
6- إعفاء
بعضهم لحيته حزنًا على الميت، وحلق اللحى مخالف في أصله للسنة الصحيحة عن النبي
صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى فعله وأمره بذلك، وكذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة
الصالح.
7- تقليم أظافر الميت وحلق عانته وما فيه من مخالفة صريحة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.[المدونة للإمام مالك 180/1، والمدخل 240/3]
8- إدخال القطن في دبره وحلقه وأنفه.
المدونة للإمام مالك 180/1، والمدخل 240/3]
9- وضع غصن أخضر في الغرفة التي مات فيها.
10- ترك ثياب الميت بدون غسل إلى اليوم الثالث بزعم أن ذلك يرد عنه عذاب القبر.[المدخل 276/3]
11- قلب الطنافس والسجاجيد وتغطية المرايا والثريات.
12- الإعلان عن وفاة الميت على المنائر. [المدخل 3 / 245- 246]، وذلك من النعي المنهي عنه كما في حديث حذيفة بن اليمان أنه: «كان إذا مات له الميت قال: لا تؤذنوا به أحدًا، إني أخاف أن يكون نعيًا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي». [أخرجه الترمذي 129/2، وحسنه، وابن ماجه 450/1، وأحمد 4056/5،
والسياق له، والبيهقي 74/4]
13- قولهم عند إخبار أحدهم بالوفاة: الفاتحة على
روح فلان، والمستحب أن يطلب من الناس أن يستغفروا للميت كما في حديث أبي هريرة
رضي الله عنه وغيره في قوله صلى الله عليه وسلم لما نعى للناس النجاشي: «استغفروا لأخيكم».
هذا،
وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/2)
جنائزنا اليوم بين هدي الشريعة والابتداع
إعداد/ راشد عبد المعطي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، ثم أما بعد:
الجنازة: مشتقة من جَنَزَ إذا سَتَرَ.. ذكره ابن فارس وغيره، والمضارع يَجْنِز بكسر النون، والجِنَازة بكسر الجيم وفتحها والكسر أفصح- ويقال بالفتح للميت وبالكسر للنعش عليه ميت، ويقال عكسه. حكاه صاحب المطالع، والجمع: جنائز بالفتح لا غير(1).
وجاء في فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر رحمهم الله جميعًا: والجنائز بفتح الجيم لا غير- جمع جنازة بالفتح والكسر- لغتان، قال ابن قتيبة وجماعة: الكسر أفصح، وقيل بالكسر للنعش وبالفتح للميت، وقالوا: لا يُقال نعش إلا إذا كان عليه الميت(2).
وقول ابن حجر: قال الإمام الزرقاني رحمه الله في شرحه على موطأ الإمام مالك رحمه الله تعالى(3):
ولعل الكثير من الناس لا يحبون الكلام عن الموت وأحواله وما يجري قبله وأثناءه وبعده، ولكنهم لو علموا ما يكون من آثار هذه الأمور كلها ونتائجها لما كرهوا ذلك؛ لأن الموت قدرٌ من أقدار الله جل وعلا واقع لا محالة، ولا هروب ولا تسويف ولا تأخير فيه؛ لأن كل شيء عنده بمقدار، وصدق الله العظيم القائل: إنا كل شيء خلقناه بقدر (49) وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر [القمر: 49-50]، وقوله تعالى: كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [آل عمران:185].
ويأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم ويحضنا على أن نكثر من ذكر الموت حتى تنكسر حدة تعلقنا بالحياة الدنيا الفانية، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات: الموت».
[صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/264) (ح1210]
وفي صحيح الترمذي رحمه الله: «أكثروا ذكر هاذم اللذات: يعني الموت».
[(2/526) حديث (2307)، وقال حديث حسن صحيح]
خلق الموت والحياة
خلق الله جل وعلا الخلق لعبادته خاصة من جن وإنس؛ قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات: 56].
وما خُلق هؤلاء وغيرهم ليخلدوا في هذه الحياة، فإن لها نهاية، يعلمها الله وحده، ولكل مخلوق أجلهُ فيها.
وخلق الله الموت كما خلق الحياة للابتلاء ليرى- وهو أعلم بما كان وما سيكون- أيُّ الخلق أحسن عملاً، وصدق الله العظيم إذ يقول: تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير (1) الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور [الملك: 1، 2].
وكان هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز مخالفًا لما كان عليه سائر الأمم السابقة؛ مشتملاً على الإحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده وعلى الإحسان إلى أهله وأقاربه، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز إقامة العبودية للرب تبارك وتعالى على أكمل الأحوال، والإحسان إلى الميت وتجهيزه على أحسن أحواله وأفضلها، ووقوفه صلى الله عليه وسلم وأصحابه صفوفًا يحمدون الله تعالى ويستغفرونه - ويسألون له المغفرة والرحمة والتجاوز عنه - ثم المشي بين يديه إلى أن يُودِعَهُ حفرته، ثم يقوم هو وأصحابه على قبره سائلين له التثبيت أحوج ما كان إليه العبد الميت، ثم يتعاهده بالزيارة إلى قبره والسلام عليه والدعاء له، وكان ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الصحيح: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها تُرق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجرًا».
[صحيح الجامع: 2/841، ح: 4584]
والهُجْرُ: القبيح من الكلام، وأهجر به: استهزأ، وأهجر في نومه ومرضه هُجرًا: هَذَى.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم في ذلك تعاهد المريض في مرضه وتذكيره بالآخرة وأمْرُِهِ بالوصية والتوبةِ وأمر من حضرهُ بتلقينه شهادة أن لا إله إلا الله، لتكون آخر كلامه، ثم النهي عن لطم الخدود، وشق الجيوب، وحلق الرؤوس ورفع الصوت بالندب والنياحة وتوابع ذلك، وسنّ صلى الله عليه وسلم الحزن على الميت والبكاء عليه بكاءً لا صوت معه، وحزن القلب، وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويقول كما جاء في جزء الحديث الحسن: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يُسخط الرب».
[صحيح الجامع: 1/565 ح: 2932، 1344]
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أرضى الخلق بقضاء الله تعالى وأعظمهم له حمدًا، وبكى مع ذلك يوم مات ابنه إبراهيم رأفةً منه ورحمة للولد ورقةً عليه، والقلبُ ممتلئ بالرضا عنه عز وجل وشكره، واللسانُ منشغل بذكره وحمده.
هذا هو هَدْي نبينا صلى الله عليه وسلم ، ولابد من الاقتداء به في قوله وفعله وأمره، لأنه القدوة والمثل لنا ولمن قبلنا ولمن يأتي بعدنا إلى قيام الساعة، وصدق الله العظيم القائل: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا [الأحزاب: 21].(/1)
وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بإحسان الظن عند الموت بالله سبحانه كما في الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «لا يموتن أحدٌ منكم إلا وهو يُحسن الظن بالله تعالى».
[صحيح الجامع 2/1286 ح: 7792]
ولا يجب عليه أن يتمنى الموت للخلاص من آلام المرض وشدته كما سبق أن ذكرنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك آنفًا.
وإذا كانت عليه من الحقوق للناس فليؤدها إلى أصحابها إن تيسر له ذلك وإلا أوصى أهله بذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو ماله فليؤدها إليه قبل أن يأتي يوم القيامة لا يُقبل فيه دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه وأعطي صاحبه وإن لم يكن له عمل صالح أُخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه»(5).
فضل سداد الدين عن الميت
نختم هذه المقالة بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما- الصحيح- الذي رواه الحاكم والبيهقي والطيالسي وأحمد بإسناد حسن كما قال الهيثمي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، قال: «مات رجل، فغسلناه وكفنّاه وحنطناه، ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه فجاء معنا فتخطى خُطىً، ثم قال: لعلّ على صاحبكم دينًا؟ قالوا: نعم، ديناران، فتخلف، قال: صلوا على صاحبكم، فقال له رجل منا يقال له (أبو قتادة): يا رسول الله، هُما عليَّ، فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: هما عليك وفي مالك، والميت منهما بريء؟ فقال: نعم، فصلى عليه، فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا لَقِيَ أبا قتادة يقول- وفي رواية ثم لقيه من الغد- فقال: ما صنعت الديناران؟ قال: يا رسول الله، إنما مات أمس، حتى كان آخر ذلك».
وفي الرواية الأخرى: ثم لقيه من الغد فقال: ما فعل الديناران؟ قال: قد قضيتهما يا رسول الله، قال: «الآن حين بردت عليه جلده» أي بسبب رفع العذاب عنه بعد وفاء دينه(6).
وفي رواية النسائي رحمه الله بعد ذكر سداد الدين عن الميت جاء فيها: فلما فتح الله على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أوْلى بكل مؤمن من نفسه، مَن تَرَك دينًا فعليَّ، ومن ترك مالاً فلورثته»(7).
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (6/194). (2) فتح الباري (3/131).
(3) شرح الزرقاني على موطأ مالك (3/2). (4) صحيح سنن أبي داود (2/271 ح: 3090).
(5) أحكام الجنائز (4). (6) أحكام الجنائز (16).
(7) سنن النسائي (314 ح: 1962)(/2)
جنود الله تعالى
أولاً: تعريف وبيان.
ثانياً: من جنود الله تعالى.
1- الملائكة.
2- المجاهدون الصادقون.
3- الريح.
4- الصَّيحة.
5- الحجارة.
6- الطير.
7- المطر.
8- الغرق.
9- الرُعب والخوف.
10- النُّعاس.
11- الآيات التي أرسلها الله على قوم فرعون:
أ- الطوفان.
ب- الجراد.
ج- القُمَّلُ.
د- الضفادع.
هـ- الدم.
12- البعوض.
13- الكلمة القويّة المؤثّرة.
أولاً: تعريف وبيان:
قال الخليل بن أحمد: "جند: كُلُّ صِنْفٍ من الخَلْق يقال لهم: جُنْدٌ على حِدَةٍ".
وقال ابن منظور: "جند: الجُنْد: معروف. والجُنْد الأعوان والأنصار. والجُنْد: العسكر".
وقال ابن عاشور: "والجنودُ: جمع جند، وهو: اسم لجماعة الجيش، واستعير هنا للمخلوقات التي جعلها الله لتنفيذ أمره لمشابهتها الجنود في تنفيذ المراد".
العين (6/86).
لسان العرب (3/132).
تفسير التحرير والتنوير (14/319).
ثانياً: من أصناف جنود الله:
1- الملائكة:
قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31].
قال عطاء: "يعني: من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، لا يعلم عدتهم إلا الله".
وقال القرطبي: "أي: وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار {إِلاَّ هُوَ} أي: إلا الله جل ثناؤه".
وقال السّعدي: "فإنه لا يعلم جنود ربك من الملائكة وغيرهم {إِلاَّ هُوَ}، فإذا كنتم جاهلين بجنوده، وأخبركم بها العليم الخبير، فعليكم أن تصدقوا خبره، من غير شك ولا ارتياب".
وقد مدّ الله المؤمنين بجنوده من الملائكة عند قتالهم للكفار في ثلاث غزوات:
الأولى: غزوة بدر:
ومن الأمور التي قاموا بها:
أ- مساعدة المؤمنين في قتال الكفار:
1- قال الله جل وعلا: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9].
عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربه: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تُهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض))، فما زال يهتف بربه ماداً يديه مُستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ}، فأمده الله بالملائكة.
قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجلٍ من المُشركين أمامه إذ سمع ضربةً بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزُوم، فنظر إلى المُشرك أمامه فخر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خُطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط، فاخضرَّ ذلك أجمع. فجاء الأنصاري فحدّث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة))، فقتلوا يومئذ سبعين. وأسروا سبعين.
قال ابن جرير الطبري: "ومعنى قوله: {تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} تستجيرون به من عدوكم، وتدعونه للنصر عليهم، {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} يقول: فأجاب دعاءكم بأنيِّ ممدّكم بألف من الملائكة يُرْدِف بعضهم بعضاً، ويتلو بعضهم بعضاً".
وقال القرطبي: "الناس الذين قاتلوا يوم بدر أُردِفوا بألفٍ من الملائكة، أي: أُنزلوا إليهم لمعونتهم على الكفار".
وقال السعدي: "أي: اذكروا نعمة الله عليكم، لما قارب التقاؤكم بعدوكم، استغثتم بربكم، وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم، {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}، وأغاثكم بعدة أمور، منها أن الله أمدكم {بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ}، أي: يردف بعضهم بعضاً".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قال سبحانه في قصة بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ...}، فوعدهم بالإمداد بألف وعداً مطلقاً، وأخبر أنه جعل إمداد الألف بشرى ولم يقيده... فإن البشرى بها عامة، فيكون هذا كالدليل على ما روي من أن ألف بدرٍ باقية في الأمة، فإنه أطلق الإمداد والبشرى وقدم (به) على (لكم) عناية بالألف".
2- وعن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقيِّ، عن أبيه، وكان أبوه من أهل بدرٍ، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدرٍ فيكم؟ قال: ((من أفضل المسلمين)) أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة.
3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: ((هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب)).
ب- بُشْرى للمؤمنين وتطمين وتثبيت لقلوبهم:
1- قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10].(/1)
قال ابن كثير: "أي: وما جعل الله بعث الملائكة وإعلامه إيَّاكم بهم {إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}، وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم، {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} أي: بدون ذلك".
وقال الشوكاني: "والضمير في {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} راجع إلى الإمداد، المدلول عليه بقوله: {أَنّي مُمِدُّكُمْ}. وقولة: {إِلاَّ بُشْرَى} أي: إلاَّ بشارةً لكم بنصره. {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} أي: بالإمداد".
وقال السعدي: "{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} أي: إنزال الملائكة، {إِلاَّ بُشْرَى} أي: لتستبشر بذلك نفوسكم، {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}، وإلاَّ فالنصر بيد الله، ليس بكثرة عدد ولا عُددٍ".
2- وقال الله تعالى: {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ} [الأنفال:12].
قال البغوي: "{إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ}، الذين أمدَّ بهم المؤمنين، {أَنّي مَعَكُمْ}، بالعون والنصر، {فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ} أي: قوُّوا قلوبهم. قيل: ذلك التثبيت حضورهم معهم القتال ومعونتهم، أي: ثبتوهم بقتالكم معهم المشركين. وقال مقاتل: أي بشروهم بالنصر، وكان الملك يمشي أمام الصف في صورة الرجل ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم".
وقال ابن كثير: "هذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها، وهو أنه تعالى وتقدس وتبارك وتمجد أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين، يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا".
وقال السعدي: "وأغاثكم بعدة أمور، ومن ذلك أن الله أوحى إلى الملائكة {أَنّي مَعَكُمْ} بالعون والنصر والتأييد، {فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ} أي: ألقوا في قلوبهم وألهموهم الجراءة على عدوهم، ورغبوهم في الجهاد وفضله".
الثانية: غزوة أحد:
ومن الأمور التي قاموا بها:
أ- بشارةٌ للمؤمنين وتطمين قلوبهم:
قال الله جل وعلا: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126].
قال الطبري: "يعني تعالى ذكره: وما جعل الله وعده إياكم ما وعدكم من إمداده إياكم بالملائكة الذين ذكر عددهم {إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ}، يعني: بشرى يبشركم بها، {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ}، يقول: وكي تطمئن بوعده الذي وعدكم من ذلك قلوبكم، فتسكن إليه، ولا تجزع من كثرة عدد عدوكم وقلة عددكم. {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} يعني: وما ظفركم إن ظفرتم بعدوكم إلا بعون الله، لا من قبل المدد الذي يأتيكم من الملائكة، يقول: فعلى الله فتوكلوا، وبه فاستعينوا، لا بالجموع وكثرة العدد، فإنَّ نصركم إن كان إنما يكون بالله وبعونه ومعكم من ملائكته خمسة آلاف، فإنه إلى أن يكون ذلك بعون الله وبتقويته إياكم على عدوكم وإن كان معكم من البشر جموع كثيرة أخرى. فاتقوا الله، واصبروا على جهاد عدوكم، فإن الله ناصركم عليهم".
وقال القرطبي: "نزول الملائكة سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق فَلْيعلق القلب بالله وليثق به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب".
وقال ابن كثير: "أي: وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالهم إلا بشارة لكم وتطييباً لقلوبكم وتطميناً، وإلا فإنما النصر من عند الله الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم".
ب- قتالهم عن النبي صلى الله عليه وسلم:
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لقد رأيت يوم أحد عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين، عليهما ثيابٌ بيضٌ، يقاتلان عنه كأشدّ القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. يعني: جبريل وميكائيل عليهما السلام.
قال القاضي عياض: "فيه كرامة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وكرامة الأولياء بذلك، واستحسان الناس البياض، وتقوية قلوب المؤمنين بما أراهم الله من ذلك، ورعب لقلوب المشركين".
وقال النووي: "فيه بيان كرامة النبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى، وإكرامه إياه بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيان أن الملائكة تقاتل، وأن قتالهم لم يختص بيوم بدر، وهذا هو الصواب، خلافاً لمن زعم اختصاصه، فهذا صريح في الرد عليه".
الثالثة: غزوة الأحزاب:
قال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9].
قال مجاهد: "وقوله: {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا}، قال: الملائكة ولم تقاتل يومئذ".
وقال قتادة: "{وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} يعني: الملائكة".(/2)
وقال المفسرون: "بعث الله تعالى عليهم الملائكة، فقلَّعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرُّعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر، حتى كان سيّدُ كل خباء يقول: يا بني فلان هُلُمّ إليَّ، فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء؛ لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب".
وقال ابن القيم: "وجند الله من الملائكة يزلزلونهم، ويُلقون في قلوبهم الرُّعب والخوف، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تهيّؤوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره برحيل القوم".
وقال ابن كثير: "قوله: {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} هم الملائكة، زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف".
2- المجاهدون الصادقون:
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173].
قال ابن جرير: "قوله: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} يقول: وإن حزبنا وأهل ولايتنا لهم الغالبون، يقول: لهم الظفر والفلاح على أهل الكفر بنا والخلاف علينا".
أسلم أبو سفيان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحضر العباس رضي الله عنه، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عباس، حبِّسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمرّ به جنود الله فيراها)). قال العباس: فخرجت به حتى حبسته حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه. قال: ومرّت به القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: من هؤلاء؟ فأقول: سُليم، فيقول: ما لي ولسليم؟ قال: ثم تمر القبيلة، قال: من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة؟ حتى نفدت القبائل؛ لا تمر قبيلة إلا قال: من هؤلاء؟ فأقول: بنو فلان، فيقول: ما لي ولبني فلان؟ حتى مرّ رسول الله في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، قال: سبحان الله! من هؤلاء يا عباس؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبل ولا طاقة، والله ـ يا أبا الفضل ـ لقد أصبح مُلك ابن أخيك الغداة عظيما، قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة، قال: فنعم إذا، قلت: النجاء إلى قومك. قال: فخرج حتى إذا جاءهم؛ صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قِبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه امرأته هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الدسم الأحمش قبح من طليعة قوم، قال: ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاء ما لا قِبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: ويلك وما تغني دارك؟! قال: ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرّق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
وعن عبد الله بن حوالة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنودا مجندة، جند بالشام، وجند باليمن، وجند بالعراق)). قال ابن حوالة: خِر لي ـ يا رسول الله ـ إن أدركت ذلك؟ فقال: ((عليك بالشام؛ فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم، واسقوا من غدركم، فإن الله توكل لي بالشام وأهله)).
3- الريح:
1- قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ X تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء بِأَمْرِ رَبّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِين} [الأحقاف:24، 25].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه، فرأوه سحاباً عارضاً في ناحية من نواحي السماء {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ}، والعرب تسمي السحاب الذي يُرى في بعض أقطار السماء عشيا ثم يصبح من الغد قد استوى وحبا بعضه إلى بعض عارضاً، وذلك لعرضه في بعض أرجاء السماء حين نشأ... {قَالُواْ هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا}، ظناً منهم برؤيتهم إياه أنَّ غيثاً قد أتاهم يَحيون به، فقالوا: هذا الذي كان هودٌ يعدنا، وهو الغيث. وقوله: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ}، يقول تعالى ذكره مخبراً عن قيل نبيه صلى الله عليه وسلم هود لقومه ـ لما قالوا له عند رؤيتهم عارض العذاب قد عرض لهم في السماء: هذا عارض ممطرنا نحيا به ـ: ما هو عارض غيث، ولكنه عارض عذاب لكم، {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ} أي: هو العذاب الذي استعجلتم به، فقلتم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.(/3)
{رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} والريح مكرَّرة على ما في قوله: {هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ}، كأنه قيل: بل هو ريح فيها عذاب أليم. وقوله: {تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء بِأَمْرِ رَبّهَا} يقول تعالى ذكره: تخرّب كل شيءٍ، وترى بعضه على بعض فتهلكه. وإنما عنى بقول: {تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء بِأَمْرِ رَبّهَا} مما أرسلت بهلاكه؛ لأنها لم تدمر هوداً ومن كان آمن به.
قوله: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} يقول: فأصبح قوم هود وقد هلكوا وفنوا، فلا يُرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم التي كانوا يسكنونها.
قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} يقول تعالى ذكره: كما جزينا عاداً بكفرهم بالله من العقاب في عاجل الدنيا، فأهلكناهم بعذابنا، كذلك نجزي القوم الكافرين بالله من خلقنا، إذ تمادوا في غيهِّم وطغوا على ربهم".
وقال المفسرون: "كان المطر قد حُبس عن عاد، فساق الله إليهم سحابةً سوداء، فلما رأوها فرحوا و{قَالُواْ هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا}، فقال لهم هود: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ}، ثم بيَّن ما هو فقال: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فنشأت الريح من تلك السحابة، {تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء}، أي: تُهْلك كل شيءٍ مرت به من الناس والدواب والأموال".
وقال القرطبي: "والريح التي عُذِّبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه".
وقال السعدي: "أرسل الله عليهم العذاب العظيم، وهي الريح التي دمرتهم وأهلكتهم، ولهذا قال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ} أي: العذاب، {عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ}، أي: معترضاً كالسحاب، قد أقبل على أوديتهم التي تسيل فتسقي نوابتهم، ويشربون من آبارها وغُدْرانها، {قَالُواْ} مستبشرين: {هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} أي: هذا السحاب سيمطرنا، قال تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ} أي: هذا الذي جنيتم به على أنفسكم حيث قلتم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
قوله: {تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء} تمر عليه من شدتها ونحسها. فسلطها الله عليهم {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}.
قوله: {بِأَمْرِ رَبّهَا} أي: بإذنه ومشيئته. {فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}، قد تلفت مواشيهم وأموالهم وأنفسهم. {كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} بسبب جرمهم وظلمهم".
2- وقال الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الأحزاب:9].
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: ((نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا)). قال: فضرب الله عز وجل وجوه أعدائه بالريح، فهزمهم الله عز وجل بالريح.
وقال مجاهد: "قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً}، قال: ريح الصبا أُرسلت على الأحزاب يوم الخندق، حتى كفأت قدورهم على أفواهها، ونزعت فساطيطهم حتى أظعنتهم".
وقال الطبري: "يقول تعالى ذكره: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} التي أنعمها على جماعتكم، وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الخندق، {إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} يعني: جنود الأحزاب قريش وغطفان ويهود بني النضير، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً}، وهي فيما ذكر: ريح الصبَّا".
وقال القرطبي: "وكانت هذه الريح معجزةً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريباً منها، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق، وكانوا في عافيةٍ منها، ولا خبر عندهم بها".
وقال ابن تيمية: "وكان عام الخندق برد شديد، وريح شديدة منكرة، بها صرف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا}".
وقال ابن القيم: "وأرسل الله على المشركين جُنداً من الريح، فجعلت تُقوِّض خيامهم، ولا تدعُ لهم قِدراً إلا كفأتها، ولا طُنُباً إلا قَلَعتْه، ولا يقرُّ لهم قرار".
3- عن عائشة رضي الله عنه الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مُستجمعاً ضاحكاً حتَّى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم. قالت: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف ذلك في وجهه، فقالت: يا رسول الله، أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عَرَفْتُ في وجهك الكراهية، قالت: فقال: ((يا عائشة، ما يؤقِّنني أن يكون فيه عذابٌ، قد عُذّب قومٌ بالرِّيح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا})).
قال الكرماني: "و((عذب قوم)) أي: عاد، حيث أُهْلِكوا بريح صرصر".(/4)
وقال أبو الطيب آبادي: "هم عاد قوم هود، حيث أُهلِكوا بريح صرصرٍ".
4- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نُصرتُ بالصَّبا، وأهْلكِتْ عادٌ بالدَّبُور)).
قال ابن بطال: "وفيه الإخبار عن الأمم الماضية وإهلاكها".
وقال المظهر: "الصَّبا: الريح التي تجيء من ظهرك إذا استقبلت القبلة. والدَّبُور: هي التي تجيء من قبل وجهك إذا استقبلت القبلة أيضاً. روي أن الأحزاب لما حاصروا المدينة يوم الخندق هبت ريح الصَّبَا، وكانت شديدة، فقلَّعت خيامهم، وألقى الله تعالى في قلوبهم الخوف، فهربوا، وكان ذلك فضلاً من الله تعالى، ومعجزةً لرسوله صلى الله عليه وسلم. وأما الدَّبُور: فأهلكت قوم عاد، وقصتهم مشهورة".
وقال الحافظ ابن حجر: "ولما علم الله رأفة نبيه صلى الله عليه وسلم بقومه رجاء أن يُسلموا سَلَّط عليهم الصَّبا، فكانت سبب رحيلهم عن المسلمين لما أصابهم بسببها من الشدة، ومع ذلك فلم تهلك منهم أحداً، ولم تستأصلهم".
وقال أيضاً: "قوله: ((نصرت بالصبا)) يشير صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى في قصة الأحزاب: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا}".
4- الصَّيحة:
قال الله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: وأصاب الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله، من عقر ناقة الله وكفرهم به، {الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}، قد جَثَّمتهم المنايا، وتركتهم خموداً بأفنيتهم".
وقال القرطبي: "أي: في اليوم الرابع صِيح بهم فماتوا، وذُكِّر لأن الصيحة والصِّياح واحد. قيل: صحية جبريل، وقيل: صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم وماتوا".
وقال ابن كثير: "جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح، وزهقت النفوس في ساعة واحدة، {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}، أي: صرعى لا أرواح فيهم، ولم يفلت منهم أحد، لا صغير ولا كبير، لا ذكر ولا أنثى".
5- الحجارة:
قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82، 83].
قال مجاهد: "أخذ جبريل عليه السلام قوم لوط من سَرْحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم أكفأهم. قال: فلم يصب قوماً ما أصابهم، إن الله طمس على أعينهم، ثم قلب قريتهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل".
وقال قتادة: "بلغنا أن جبريل عليه السلام، أخذ بعُروة القرية الوسطى، ثم ألوى بها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء ضواغي كلابهم، ثم دمَّر بعضها على بعض، فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعهم الحجارة".
وقال ابن جرير الطبري: "يقول تعالى ذكره: ولما جاء أمرنا بالعذاب، وقضاؤنا فيهم بالهلاك، {جَعَلْنَا عَالِيَهَا} يعني: عالي قريتهم {سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} يقول: وأرسلنا عليها {حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ}، حجارة من طين، صفة ذلك الطين أنه نُضد بعضه إلى بعض، فَصُيِّر حجارةً، ولم يُمْطروا الطين".
وقال الشوكاني: "{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} أي: الوقت المضروب لوقوع العذاب فيه {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أي: عالي قرى قوم لوط سافلها، والمعنى: أنه قلبها على هذه الهيئة، وهي كون عاليها صار سافلها، وسافلها صار عاليها، وذلك لأن جبريل أدخل جناحه تحتها فرفعها من تخوم الأرض، حتى أدناها من السماء، ثم قلبها عليهم، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ}".
وقال السعدي: "{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} بنزول العذاب وإحلاله فيهم، {جَعَلْنَا} ديارهم {عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أي: قلبناها عليهم، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} أي: من حجارة النار الشديدة الحرارة، {مَّنْضُودٍ} أي: متتابعة تتبع من شذّ عن القرية، {مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ} أي: معلمة عليها علامة العذاب والغضب، {وَمَا هِي مِنَ الظَّالِمِينَ} الذين يشابهون لفعل قوم لوط {بِبَعِيدٍ}، فليحذر العباد أن يفعلوا كفعلهم لئلا يصيبهم ما أصابهم".
6- الطير:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} [الفيل:1-5].(/5)
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك، فترى بها {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} الذين قدموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحبشة، ورئيسهم أبرهة الحبشي الأشرم، {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ} يقول: ألم يجعل سعي الحبشة أصحاب الفيل في تخريب الكعبة {فِي تَضْلِيلٍ} يعني: في تضليلهم عما أرادوا وحاولوا من تخريبها.
وقوله: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} يقول تعالى ذكره: وأرسل عليهم ربك طيراً متفرّقة يتبع بعضها بعضاً من نواح شتى، وهي جماع لا واحد لها.
وقوله: {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ} يقول تعالى ذكره: ترمي هذه الطير الأبابيل التي أرسلها الله على أصحاب الفيل بحجارةٍ من سجيل.
وقوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ}، يعني تعالى ذكره: فجعل الله أصحاب الفيل كزرع أكلته الدوابُّ فراثته، فيبس وتفرَّقت أجزاؤه، شبَّه تقطع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم وتفرّق آراب أبدانهم بها بتفرّق أجزاء الروث الذي حدث عن أكل الزرع".
وقال الشوكاني: "{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ} أي: ألم يجعل مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة واستباحة أهلها في تضليل عما قصدوا إليه، حتى لم يصلوا إلى البيت، ولا إلى ما أرادوه بكيدهم. والهمزة للتقرير، كأنه قيل: قد جعل كيدهم في تضليل. والكيد: هو إرادة المضرة بالغير، لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشاً بالقتل والسبي، ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب والهدم".
وقال السعدي: "أي: أما رأيت من قدرة الله وعظيم شأنه، ورحمته بعباده، وأدلة توحيده، وصدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ما فعله الله بأصحاب الفيل، الذين كادوا بيته الحرام وأرادوا إخرابه، فتجهزوا لأجل ذلك، واستصحبوا معهم الفيلة لهدمه، وجاؤوا بجمع لا قبل للعرب به، من الحبشة واليمن، فلما انتهوا إلى قرب مكة، ولم يكن بالعرب مدافعة، وخرج أهل مكة من مكة خوفاً على أنفسهم منهم، أرسل الله عليهم طيراً أبابيل أي: متفرقة، تحمل حجارة محماة من سجيل، فرمتهم بها، وتتبعت قاصيهم ودانيهم، فخمدوا وهمدوا، وصاروا كعصف مأكول، وكفى الله شرهم، ورد كيدهم في نحورهم".
7- المطر:
1- أنزله الله لإهلاك قوم:
قال الله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11-12].
قال سفيان: فجرنا الأرض الماءَ وجاء من السماء، {فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ}، قال: ماء السماء والأرض، وإنما قيل: فالتقى الماء على أمرٍ قد قدر، والالتقاء لا يكون من واحد، وإنما يكون من اثنين فصاعداً؛ لأن الماء قد يكون جمعاً وواحداً، وأريد به في هذا الموضع مياه السماء ومياه الأرض، فخرج بلفظ الواحد، ومعناه الجمع. وقيل: التقى الماء على أمرٍ قد قُدر، لأن ذلك كان أمراً قد قضاه الله في اللوح المحفوظ.
وقال البغوي: "مُنْصَبّ انصباباً شديداً".
وقال القاسمي: "أي: متدفق، تدفق المطر من السحاب، فانصاب أنهار، انفتحت لها أبواب السماء، وشق لها أديم الخضراء. {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً} أي: وجعلنا الأرض كلها عيونا تتفجر. {فَالْتَقَى المَاء} أي: ماء السماء وماء الأرض {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي: على حالٍ قدَّره الله وقضاه، وهو هلاك قوم نوح".
وقال السعدي: "{فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ} أي: كثيرٍ جداً متتابع، {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً}، فجعلت السماء ينزل منها من الماء شيء خارق للعادة، وتفجرت الأرض كلها، حتى التنور الذي لم تجر العادة بوجود الماء فيه، فضلاً عن كونه منبعاً للماء؛ لأنه موضع النار، {فَالْتَقَى المَاء} أي: ماء السماء والأرض {عَلَى أَمْرٍ} من الله له بذلك، {قَدْ قُدِرَ} أي: قد كتبه الله في الأزل وقضاه، عقوبةً لهؤلاء الظالمين الطاغين".
2- أنزله الله تطهيراً وتثبيتاً للمؤمنين:
قال الله تعالى: {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ} [الأنفال:11].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (غلب المشركون المسلمين في أول أمرهم على الماء، فظمئ المسلمون وصلَّوا مجنبين محدثين، وكان بينهم رمال، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن، فقال: تزعمون أن فيكم نبياً، وأنكم أولياء الله، وقد غُلبتم على الماء، وتُصلون مجنبين محدثين! قال: فأنزل الله عز وجل ماءً من السماء، فسال كل وادٍ، فشرب المسلمون وتطهروا، وثبتت أقدامهم، وذهبت وسوسة الشيطان".
وقال مجاهد في قوله: {مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ}: "المطر، أنزله عليهم قبل النعاس. {رِجْزَ الشَّيْطَانِ}، قال: وسوسته، قال: فأطفأ بالمطر الغبار، والتبدت به الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم".(/6)
وقال الطبري: "وأما قوله عز وجل: {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ}، فإن ذلك مطرٌ أنزله الله من السماء يوم بدر ليطهر به المؤمنين لصلاتهم، لأنهم كانوا أصبحوا يومئذ مجنبين على غير ماء. فلما أنزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا، وكان الشيطان قد وسوس إليهم بما حزنهم به من إصباحهم مجنبين على غير ماء، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر. فذلك ربطه على قلوبهم، وتقويته أسبابهم، وتثبيته بذلك المطر أقدامهم؛ لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على رملة ميثاء، فلبَّدها المطر، حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها، توطئةً من الله عز وجل لنبيه عليه السلام وأوليائه أسباب التمكن من عدوهم والظفر بهم".
وقال ابن القيم: "فأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطراً واحداً، فكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلاً طهرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلَّب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهَّد به المنزل، وربط به على قلوبهم".
8- الغرق:
1- الله تعالى: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:76، 77].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد نوحاً إذ نادى ربه من قبلك، ومن قبل إبراهيم ولوط، وسألنا أن نهلك قومه الذين كذبوا الله فيما توعدهم به من وعيده، وكذبوا نوحاً فيما أتاهم به من الحقّ من عند ربه، {وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}، فاستجبنا له دعاءه، ونجيناه وأهله، يعني بأهله أهل الإيمان من ولده وحلائلهم، {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:76]، يعني بالكرب العظيم العذاب الذي أحل بالمكذبين من الطوفان والغرق والكرب شدّة الغم... وقوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا} [الأنبياء:75]، يقول: ونصرنا نوحاً على القوم الذين كذبوا بحججنا وأدلتنا، فأنجيناه منهم، فأغرقناهم أجمعين".
2- ل تعالى: {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الشعراء:65، 66].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: وأنجينا موسى مما أتبعنا به فرعون وقومه من الغرق في البحر، ومن مع موسى من بني إسرائيل أجمعين، وقوله: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} يقول: ثم أغرقنا فرعون وقومه من القبط في البحر، بعد أن أنجينا موسى منه ومن معه".
وقال ابن كثير: "أي: أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم، فلم يهلك منهم أحد. وأغرق فرعون وجنوده، فلم يبعد منهم رجل إلا هلك".
9- الرُعب والخوف:
1- قال الله تعالى: {سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: سأرعبُ قلوب الذين كفروا بي ـ أيها المؤمنون ـ منكم، وأملؤها فرَقاً حتى ينهزموا عنكم، {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأعْنَاقِ}".
وقال القاسمي: "{سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} أي: الخوف".
وقال السعدي: "{سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} الذي هو أعظم جند لكم عليهم، فإن الله إذا ثبّت المؤمنين وألقى الرعب في قلوب الكافرين لم يقدر الكافرون على الثبات لهم، ومنحهم الله أكتافهم".
2- وقال تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2].
قال ابن كثير: " أي: الخوف والهلع والجزع، وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نصر بالرعب مسيرة شهر صلوات الله وسلامه عليه؟!".
وقال القاسمي: "{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} أي: أنزله إنزالاً شديداً فيها، لدلالة مادة (القذف) عليه، كأنه مقذوف الحجارة".
وقال السعدي: "وهو الخوف الشديد، الذين هو جند الله الأكبر، الذي لا ينفع معه عدد ولا عدة، ولا قوة ولا شدة، فالأمر الذي يحسبونه ويظنون أن الخلل يدخل عليهم منه إن دخل هو الحصون التي تحصنوا بها، واطمأنت نفوسهم إليها، ومن وثق بغير الله فهو مخذول، ومن ركن إلى غير الله فهو عليه وبال، فأتاهم أمر سماوي نزل على قلوبهم التي هي محل الثبات والصبر أو الخور والضعف، فأزال الله قوتها وشدتها، وأورثها ضعفاً وخوراً وجبناً، لا حيلة لهم ولا منعة معه، فصار ذلك عوناً عليهم".
3- وقال تعالى: {سَنُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ} [آل عمران:151].(/7)
قال السدي: "لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة، انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق، ثم إنهم ندموا فقالوا: بئس ما صنعتم، إنكم قتلتموهم، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب فانهزموا. فلقوا أعرابياً، فجعلوا له جُعلاً وقالوا له: إن لقيت محمداً فأخبره بما قد جمعنا لهم. فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، فأنزل الله عز وجل في ذلك، فذكر أبا سفيان حين أراد أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما قُذف في قلبه من الرعب فقال: {سَنُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ}".
وقال الطبري: "يعني بذلك جل ثناؤه: سيلقى الله ـ أيها المؤمنون ـ {فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بربهم وجحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ممن حاربكم بأحد {الرُّعْبَ}، وهو الجزع والهلع {بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ}، يعني: بشركهم بالله وعبادتهم الأصنام، وطاعتهم الشيطان التي لم أجعل لهم بها حجة، وهي السلطان التي أخبر عن وجل أنه لم ينزله بكفرهم وشركهم. وهذا وعدٌ من الله جل ثناؤه أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر على أعدئهم، والفلج عليهم، ما استقاموا على عهده، وتمسكوا بطاعته".
4- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أُعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ قبلي: نُصرت بالرُّعب مسيرة شهرٍ...)).
قال ابن حجر: "قوله: ((نصرت بالرعب)) مفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة، ولا في أكثر منها، أما ما دونها فلا، والظاهر اختصاصه به مطلقاً، وإنما جعل الغاية شهراً، لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى لو كان وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده فيه احتمال".
وقال المناوي: "((نصرت بالرعب)) أي: بخوف العدو مني، يعني بسببه، وهو الذي قطَّع قلوب أعدائه، وأخمد شوكتهم، وبدد جموعهم".
10- النُّعاس:
1- قال الله تعالى عن يوم بدر: {إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ} [الأنفال:11].
قال الطبري: "يعني بقوله: {يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ}، يلقي عليكم النعاس، {أَمَنَةً} يقول: أماناً من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم، وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عز وجل".
وقال ابن كثير: "يُذكِّرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم، أماناً أمَّنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم".
وقال السعدي: "ومن نصره واستجابته لدعائكم أن أنزل عليكم نعاساً، {يُغَشّيكُمُ} أي: فيُذْهب ما في قلوبكم من الخوف والوجل، ويكون {أَمَنَةً} لكم، وعلامةً على النصر والطمأنينة".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُصلي تحت شجرةٍ، ويبكي حتى أصبح.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (النُّعاس في القتال أمنةٌ من الله عز وجل، وفي الصلاة من الشيطان).
2- وقال تعالى عن يوم أحد: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مّنْكُمْ} [آل عمران:154].
قال الطبري: "يعني بذلك جل ثناؤه: ثم أنزل الله ـ أيها المؤمنون ـ من بعد الغم الذي أثابكم ربكم بعد غم تقدمه قبله، {أَمَنَةً} وهي الأمان على أهل الإخلاص منكم واليقين، دون أهل النفاق والشك".
وقال ابن كثير: "يقول تعالى ممتناً على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة، وهو النعاس الذي غشيهم، وهم مشتملون السلاح في حال همِّهم وغمِّهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان".
وقال السعدي: "{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ} الذي أصابكم، {أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مّنْكُمْ}، ولا شك أن هذا رحمة بهم، وإحسان وتثبيت لقلوبهم، وزيادة طمأنينة؛ لأن الخائف لا يأتيه النعاس، لما في قلبه من الخوف، فإذا زال الخوف عن القلب أمكن أن يأتيه النعاس. وهذه الطائفة التي أنعم الله بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم همٌّ إلا إقامة دين الله، ورضا الله ورسوله، ومصلحة إخوانهم المسلمين".
وقال أبو طلحة رضي الله عنه: غشينا النُّعاس، ونحن في مصافِّنا يوم أُحدٍ. قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه.
وقال المسور بن مخرمة رضي الله عنه: سألت عبد الرحمن بن عوف عن قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً}، قال: أُلقي علينا النوم يوم أحد.
11- الآيات التي أرسلها الله على قوم فرعون:
قال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} [الأعراف:133].(/8)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أُرسل على قوم فرعون الآيات: الجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات).
وقال محمد بن إسحاق: "فرجع عدو الله، يعني: فرعون، حين آمنت السحرة، مغلوباً مفلولاً، ثم أبى إلا الإقامة عل الكفر والتمادي في الشر، فتابع الله عليه بالآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم، آيات مفصلات".
أ- الطوفان:
قال الطبري: "اختلف أهل التأويل في معنى {الطُّوفَانَ}:
فقال ابن عباس والضحاك ومجاهد وأبو مالك: الماء.
وقال عطاء وعائشة ومجاهد وعبد الله بن كثير: الموت.
وقال ابن عباس على ما رواه عنه أبو ظبيان: إنه أمرٌ من الله طاف بهم.
والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله ابن عباس على مارواه عنه أبو ظبيان أنه أمر من الله طاف بهم، وأنه مصدر من قول القائل: طاف بهم أمر الله يطوف طُوفاناً، وإذا كان ذلك كذلك، جاز أن يكون الذي طاف بهم المطر الشديد، وجاز أن يكون الموت الذَّريع".
وقال القرطبي: "قوله تعالى: {الطُّوفَانَ} أي: المطر الشديد، حتى عامُوا فيه".
وقال القاسمي: "{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} أي: على آل فرعون. والطوفان لغةً: هو المطر الغالب، ويُطلق على كل حادثة تطيف بالإنسان وتحيط به. فعمَّ الطوفان الصحراء، وأتلف عُشبها، وكسر شجرها، وتواصلت الرعود والبروق، ونيران الصواعق في جميع أرض مصر".
وقال السعدي: "{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} أي: الماء الكثير الذي أغرق أشجارهم وزروعهم، وأضرَّ بهم ضرراً كثيراً".
ب- الجراد:
قال الألوسي: "{وَالْجَرَادَ} هو المعروف، واحده جرادة، سمي به لجرده ما على الأرض، وهو جندٌ من جنود الله تعالى يسلطه على من يشاء من عباده".
وقال القاسمي: "فأكل جميع عشب أرض مصر والثمر، مما تركه الطوفان، حتى لم يبق شيء من ثمره ولا خضره في الشجر، ولا عشبٌ في الصحراء".
وقال السعدي: "فأكل ثمارهم وزروعهم ونباتهم".
وعن أبي زهير النمري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتلوا الجراد؛ فإنه جند من جنود الله الأعظم)).
قال الملا علي القاري: "قوله: ((أكثر جنود الله)) أي: هو أكثر جنوده تعالى من الطيور، فإذا غضب على قومٍ أرسل عليهم الجراد ليأكل زرعهم وأشجارهم، ويُظهر فيهم القحط، إلى أن يأكل بعضهم بعضاً فيفنى الكل، وإلا فالملائكة أكثر الخلائق على ما ثبت في الأحاديث، وقد قال عز وجل في حقهم: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31]".
ج- القُمَّلُ:
قال السدي: "فبعث الله عليهم الدَّبى وهو القمل، فلحس الأرض كلها، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيعضُّه، وكان لأحدهم الطعام فيمتلئ دَبىً، حتى إن أحدهم ليبني الأسطوانة بالجصّ، فيزلِّقُها حتى لا يرتقي فوقها شيء، يرفع فوقها الطعام، فإذا صعد إليه ليأكله وجده ملآن دَبىً، فلم يُصابوا ببلاء كان أشدَّ عليهم من الدبى".
وقال القاسمي: "فعمَّ أرض مصر، وكان على الناس والبهائم".
د- الضفادع:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأ بيوتهم منها، ولقُوا منها أذىً شديداً لم يلقوا مثله فيما كان قبله، أنها كان تثبت في قدورهم، فتفسد عليهم طعامهم، وتطفي نيرانهم".
وقال القاسمي: "فصعدت من الأنهار والخليج والمناقع، وغطَّت أرض مصر".
وقال السعدي: "فملأت أوعيتهم، وأقلقتهم، وآذتهم أذيةً شديدة".
هـ- الدم:
قال مجاهد: "الجراد يأكل زروعهم ونباتهم، والضفادع تسقط على فروشهم وأطعمتهم، والدم يكون في بيوتهم وثيابهم ومائهم وطعامهم".
وقال محمد بن إسحاق: "فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياه آل فرعون دماً، لا يسقون من بئرٍ ولا نهرٍ، ولا يغترفون من إناء إلا عاد دماً عبيطاً".
وقال القاسمي: "فصارت مياه مصر جميعها دماً عبيطاً، ومات السمك فيها، وأنتنت الأنهار، ولم يستطع المصريون أن يشربوا منها شيئاً، {ءايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ} أي: لا يُشكل على عاقل أنها آيات الله تعالى ونقمته".
وقال السعدي: "والدم إما أن يكون الرعاف، أو كما قال كثير من المفسرين: إن ماءهم الذي يشربون انقلب دماً، فكانوا لا يشربون إلا دماً، ولا يطبخون إلا بدم، {ءايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ} أي: أدلة وبينات على أنهم كانوا كاذبين ظالمين".
12- البعوض:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].(/9)
قال زيد بن أسلم: "أول جبار كان في الأرض نمرود، فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من ربكم؟ قالوا: أنت، حتى مرّ إبراهيم قال: من ربك؟ قال: الذي يُحيي ويميت؟ قال: أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبُهت الذي كفر. قال: فرده بغير طعام. قال: فرجع إبراهيم إلى أهله، فمر على كثيب أعفر، فقال: ألا آخذ من هذا، فآتي به أهلي، فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم؟! فأخذ منه فأتى أهله. قال: فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته، فإذا هي بأجود طعام رآه أحد، فصنعت له منه فقربته إليه، وكان عهد أهله ليس عندهم طعام، فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به، فعلم أن الله رزقه، فحمد الله.
ثم بعث الله إلى الجبار ملكاً: أن آمن بي وأتركك على ملكك، قال: وهل ربٌ غيري؟! فجاءه الثانية فقال له ذلك، فأبى عليه. ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك: اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام، فجمع الجبار جموعه، فأمر الله الملك ففتح عليه باباً من البعوض، فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره، فمكث أربعمائة سنة يُضرب رأسه بالمطارق، وأرحمُ الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه، وكان جباراً أربعمائة عام، فعذبه الله أربعمائة سنة كمُلكه، وأماته الله. وهو الذي بنى صرحاً إلى السماء، فأتى الله بنيانه من القواعد، وهو الذي قال الله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ}".
13- الكلمة القوية المؤثرة:
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اهجوا قريشا، فإنه أشد عليها من رشق بالنبل))، فأرسل إلى ابن رواحة فقال: ((اهجهم))، فهجاهم فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسِلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه، ثم أدلع لسانه فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينّهم بلساني فريَ الأديم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تعجل فإنّ أبا بكر أعلمُ قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبًا حتى يلخّص لك نسبي))، فأتاه حسّان ثم رجع فقال: يا رسول الله، قد لخّص لي نسبك، والذي بعثك بالحق لأسلنّك منهم كما تسلّ الشعرة من العجين، قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: ((إن روح القدس لا يزال يؤيّدك ما نافحت عن الله ورسوله)) وقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((هجاهم حسان فشفى واشتفى))، قال حسان:
هجوتَ محمدا فأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاء
هجوتَ محمدا بَرّا حنيفا رسول الله شيمتُه الوفاء
فإنّ أبي ووالدَه وعِرضي لعرض محمّد منكم وِقاء
ثكلت بنيّتي إن لم تروها تثير النقع من كنفي كداء
يبارين الأعنّة مصعدات على أكتافها الأسل الظماء
تظلّ جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتمو عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لضراب يوم يعزّ الله فيأه من يشاء
وقال الله قد أرسلت عبدا يقول الحق ليس به خفاء
وقال الله قد يسرت جندا هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معدّ سباب أو قتال أو هجاء
فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس له كفاء
قال محمد بن تمام: "الكلام جند من جنود الله، ومثله مثل الطين، تضرب به الحائط فإن استمسك نفع، وإن وقع أثّر".
وصلى الله على محمد وآله وسلم،،،
الوسيط في تفسير القرآن المجيد (4/385)، معالم التنزيل (8/271)، فتح القدير (5/463).
الجامع لأحكام القرآن (19/82).
تيسير الكريم الرحمن (ص 897).
أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم (1763).
جامع البيان (13/409).
الجامع لأحكام القرآن (7/370-371).
تيسير الكريم الرحمن (ص 316).
الفتاوى (15/37-38).
أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: شهود الملائكة بدراً (3992).
أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: شهود الملائكة بدراً (3995).
تفسير القرآن العظيم (2/302).
فتح القدير (2/422).
تيسير الكريم الرحمن (ص 316).
معالم التنزيل (3/334).
تفسير القرآن العظيم (2/304).
تيسير الكريم الرحمن (ص 316).
جامع البيان (7/190-191).
الجامع لأحكام القرآن (4/195).
تفسير القرآن العظيم (1/411). وانظر: تيسير الكريم الرحمن (ص 146).
أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: {إذ همَّتْ طائفتان منكم أن تفشلا..} (4054)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب: في قتال جبريل وميكائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد (2306) واللفظ له.
إكمال المعلم (7/270).
شرح صحيح مسلم (15/66).
أخرجه الطبري في جامع البيان (20/216).
أخرجه الطبري في جامع البيان (20/216).(/10)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن (14/144).
زاد المعاد (3/274).
تفسير القرآن العظيم (3/479).
جامع البيان (23/114).
أخرجه ابن اسحاق في السيرة (4/17)، والطبراني في الكبير (8/10) واللفظ له، والطبري في تاريخه (3/114) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3341)، وأصل القصة في البخاري كتاب المغاري (4280).
أخرجه أحمد (4/110)، وأبو داود في الجهاد، باب: في سكنى الشام (2483)، والطبراني في مسند الشاميين (1172)، وصححه الضياء المقدسي في المختارة (9/272)، وابن القيم في إعلام الموقعين (4/408)، والألباني في فضائل الشام (2).
جامع البيان (22/127) وما بعدها، بتصرف. وانظر: معالم التنزيل (7/263).
ينظر: زاد المسير (7/140)، وفتح القدير (5/24).
الجامع لأحكام القرآن (16/206). وانظر: تفسير القرآن العظيم (4/173).
تيسير الكريم الرحمن (ص 782) بتصرف.
أخرجه أحمد (313) واللفظ له، وابن جرير الطبري (20/214)، قال الهيثمي في المجمع (10/136): "رواه أحمد والبزار، وإسناد البزار متصل، ورجاله ثقات، وكذلك رجال أحمد، إلا أن في نسختي من المسند عن ربيع بن أبي سعيد، عن أبيه وهو في البزار، عن أبيه، عن جده". وحسنه العلامة أحمد شاكر في تحقيقه على المسند (22/10)، والألباني في مشكاة المصابيح (2390).
أخرجه الطبري في جامع البيان (20/216).
جامع البيان (20/214).
الجامع لأحكام القرآن (14/144).
مجموع الفتاوى (28/445).
زاد المعاد (3/274).
أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: قوله: {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم} (4829)، ومسلم في كتاب صلاة الاستسقاء، باب: التعوذ عند رؤية الريح والغيم والفرح (899) واللفظ له.
شرح البخاري (9/91).
عون المعبود (14/4).
قال القاضي عياض في إكمال المعلم (3/328): "الصَّبَا مقصور: الريح الشرقية، والدَّبُور بفتح الدال: الغربية".
أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((نصرت)) (1035) واللفظ له، ومسلم في كتاب صلاة الاستسقاء، باب: في ريح الصَّبَا والدَّبُور (900).
شرح البخاري (3/25).
ينظر: شرح الطيبي (3/280).
فتح الباري (2/605).
فتح الباري (2/348).
جامع البيان (15/380).
الجامع لأحكام القرآن (9/61).
تفسير القرآن العظيم (2/239). وانظر: فتح القدير (2/735)، وتيسير الكريم الرحمن (ص 385).
جامع البيان (15/440، 441).
جامع البيان (15/441).
جامع البيان (15/432، 435)، وانظر: تفسير القرآن العظيم (2/471).
فتح القدير (2/744).
تيسير الكريم الرحمن (ص 386-387).
جامع البيان (24/605) وما بعدها. وانظر: معالم التنزيل (8/535-541)، والجامع لأحكام القرآن (187-198).
فتح القدير (5/705). وانظر: تفسير القرآن العظيم (4/587-591).
تيسير الكريم الرحمن (ص 934-935).
جامع البيان (22/578).
معالم التنزيل (7/428). وانظر: زاد المسير (7/245)، تفسير القرآن العظيم (4/282-283).
محاسن التأويل (15/266-267). وانظر: فتح القدير (5/174).
تيسير الكريم الرحمن (ص 825).
أخرجه الطبري في جامع البيان (13/425).
أخرجه الطبري في جامع البيان (13/425).
جامع البيان (13/421).
زاد المعاد (3/175).
جامع البيان (18/473-474) بتصرف. وانظر: تفسير القرآن العظيم (3/194)، وتيسير الكريم الرحمن (ص 527-528).
جامع البيان (19/360).
تفسير القرآن العظيم (3/349).
جامع البيان (13/429).
محاسن التأويل (8/21).
تيسير الكريم الرحمن (ص 316).
تفسير القرآن العظيم (4/355).
محاسن التأويل (16/94-95).
تيسير الكريم الرحمن (ص 849).
أخرجه الطبري في جامع البيان (7/280).
جامع البيان (7/279). وانظر: الجامع لأحكام القرآن (4/232)، وفتح القدير (1/586)، وتيسير الكريم الرحمن (ص 151).
جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب: وقول الله تعالى: {فلم تجدوا ماء..}، (335) واللفظ له، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (521).
فتح الباري (1/437) بتصرف يسير.
فيض القدير (1/564).
جامع البيان (13/419).
تفسير القرآن العظيم (2/303).
تيسير الكريم الرحمن (ص 316). وانظر: أضواء البيان (2/310).
أخرجه أحمد (1/125، 138)، وأبو يعلى (1/242) واللفظ له، وصححه ابن خزيمة (899)، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (545).
أخرجه الطبري في جامع البيان (13/419).
جامع البيان (7/315).
تفسير القرآن العظيم (1/427).
تيسير الكريم الرحمن (ص 153).
أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: قوله: {أمنة نعاساً} (4562).
أخرجه الطبري في جامع البيان (7/318).
أخرجه الطبري في جامع البيان (13/62).
أخرجه الطبري في جامع البيان (13/63).
جامع البيان (13/49) وما بعدها بتصرف يسير. وانظر: معالم التنزيل (3/269)، وتفسير القرآن العظيم (2/250).
الجامع لأحكام القرآن (7/267).
محاسن التأويل (7/237).
تيسير الكريم الرحمن (ص 301).
روح المعاني (9/34).
محاسن التأويل (7/237).(/11)
تيسير الكريم الرحمن (ص 301).
أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة (6804)، والطبراني في الأوسط (9273)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2428).
مرقاة المفاتيح (7/724).
أخرجه الطبري في جامع البيان (13/59).
محاسن التأويل (7/237).
أخرجه الطبري في جامع البيان (13/61).
محاسن التأويل (7/238).
تيسير الكريم الرحمن (ص 301).
أخرجه الطبري في جامع البيان (13/65).
أخرجه الطبري في جامع البيان (13/65).
محاسن التأويل (7/238).
تيسير الكريم الرحمن (ص 301).
أخرجه الطبري في جامع البيان (5/433-434)، وفي تاريخه (1/173، 325). وانظر: الجامع لأحكام القرآن (3/285)، وتفسير القرآن العظيم (1/321).
أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2490).
حلية الأولياء (10/11).(/12)
جهاد الدعوة
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
جهاد الدعوة مهمة عظيمة ، ومسألة جسيمة ، تنزلت بها الآيات ، ورويت فيها الأحاديث ، وظهرت في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في كل أحواله وفي سائر منازله .
ذلكم الأمر المهم ، والفريضة العظيمة التي تحقق الفتح الأعظم ، فتح القلوب والعقول ، وتغيير النفوس والأرواح ، وتوجيه السلوك والأعمال .. ذلكم الأمر العظيم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم من قام به ، وأجلّ من استنفذ فيه جهده وطاقته ، ونال في ذلك المرتبة العظمى ، والذروة السامقة .
وصف ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى في كلمة واسعة شاملة ، ندخل بها إلى حديثنا وموضوعنا هذا ؛ لملامسته لكثيرٍ من أحوال أمتنا وصور واقعنا ، قال ابن القيم رحمه الله : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه - أي الجهاد - واستولى على أنواعه كلها ، فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان والدعوة والبيان والسيف والسنان ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده ، ولهذا كان أرفع العالمين ذكراً ، وأعظمهم قدراً ، وأمره الله - جل وعلا - بجهاد الكافرين من حين بعثه الله ، فقال تعالى: { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً } .
فهذه سورة مكية ، أمر فيها بالجهاد للكافرين ، ولذلك - أي لتوضيح هذا - أمر فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان وتبليغ القرآن ، وكذلك جهاد المنافقين إنما هو تبليغ الحجة ، وإلا فهم تحت قهر الإسلام ، قال تعالى : {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير } .
فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار ، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل ، والقائمون به أفراد في العالم ، والمشاركون فيه والمعاونون عليه - وإن كانوا هم الأقلين عدداً - فإنهم أعظم الناس عند الله قدراً " .
هذا الإيجاز بين الجوانب العظيمة التي جاهد فيها النبي صلى الله عليه وسلم جهاد القلب والجنان وجهاد الدعوة والبيان وجهاد السيف والسنان ، وكلها ميادين عظيمة لو أردنا أن نراها في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فهي هاهنا ثلاثة أثلاث ، اثنان منها ليس في جهاد الميادين القتالية العسكرية .
وإن جئنا إلى السيرة الفعلية النبوية في حياته صلى الله عليه وسلم ؛ فإنا واجدون من الزمان زماناً ممتداً عظيماً كان ميدان جهاد القلب والجنان والدعوة والبيان هو الأول والأخير فيه .
جهاد الدعوة المكية عشر سنوات متواليات من بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيها بقتال ، بل قد أمر بترك القتال والصبر والكف عن الكافرين والمشركين .. فهل حين لم يكن ثمة قتال ولا جهاد ، لم يكن ثَمّ دعوة ولا جهاد ؟!
لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة المكية بأعظم وأجل دورٍ في الدعوة إلى الإسلام ونشره .
فإن الغاية العظمى من هذا الدين والمسئولية الكبرى على حملته إنما هو إظهاره وإعلامه ، وبيان محاسنه وإقناع العقول به ، وغرس محبته في القلوب ، وجعل الناس كلهم يدخلون في دين الله أفواجاً ، وليكن طريقهم إلى ذلك تنوع هذه الميادين الجهادية كما فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم في الدعوة المكية ، انصب جهده لمن استجاب له ؛ ليعمق الإيمان في قلوبهم ، ويغرس العقيدة في نفوسهم ، ويثبت الإسلام فكراً ومعرفةً في عقولهم ، ويصوغ منهم أفراداً قلائل يعيشون في مجتمع مخالف مغاير ، بدءاً من التصورات والأفكار ، ومروراً بالمشاعر والعواطف ، وانتهاءً بالحديث والكلمات ، وظهوراً في الأعمال والممارسات ؛ وبذلك بقوا محافظين على هويتهم ، ثابتين على إيمانهم ، مستعلين بإسلامهم كل المخالفات والمعارضات الاجتماعية والسياسية والقولية والفعلية لم تستطع أن تنال من هويتهم ، ولا أن تغير من ثبات عقيدتهم ، وذلكم ضربٌ من ضروب الجهاد العظيم الذي تحتاجه الأمة اليوم في ديار الإسلام ، فضلاً عن أحوال المسلمين في غير ديار المسلمين ..
فأين جهاد الدعوة في هذا الميدان ؟ أين التربية التي أنشأت بلالاً تكسرت على صخرة ثباته وإيمانه الصخور العظيمة والإرهاب والعذاب الشديد ؟
لأنه قد صاغه محمد صلى الله عليه وسلم بجهاد الدعوة وتربية الإيمان صياغة فريدة ، وكذلكم الأمثلة العظيمة الكثيرة في الفترة المكية التي رغم كل تلك المعارضات لم يثبت أن ثمة موقفٍ من تراجع ، أو انسلاخ من دين ، أو تبرأ من حكم ، أو تغيير لشريعة من شريعة الإسلام !
بل كان هذا الثبات ناشئًٌ من هذه التربية والدعوة الإيمانية الجهادية ، وإن ميدان الجهاد إنما هو بذل الجهد في مرضات الله سبحانه وتعالى .(/1)
ولو مضينا لوجدنا المهاجرين إلى الحبشة الذين كانوا قلة في أرضٍ غريبة وفي بلاد غير مسلمة وفي ديار هجرةٍ وغربة ، فأي شيء صنعوا ؟ هل قاتلوا وحاربوا ؟ هل خاصموا وناوءوا ؟ وهل ذابوا وانحلوا ؟ وهل مسخوا وتشوهوا ؟ وهل أصبحوا كغيرهم من أولئك الناس في تلك المجتمعات ؟
كلا ! لقد ثبتوا على دينهم ، واستطاعوا أن يكونوا رسل دعوةٍ تشرف وتعرف بدينهم .
ويوم جاء الموقف في المواجهة بين يدي النجاشي رسل قريشٍ يؤلبون ، ويريدون أن يمارسوا إرهابهم وإجرامهم خارج أرضهم ، والمسلمون كلهم كلمة واحدة ، مجتمعون على رأي واحد ، يتحدث باسمهم واحد منهم ، فليس ثمة اختلافاتٍ ولا تبايناتٍ ، وإنما في مواجه المجتمع المخالف وفي الحديث مع غير المسلمين كانوا قلباً واحداً ، ولساناً واحداً ، ولغةً واحدة ..
ووقف جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يظهر محاسن الإسلام ، ويبين عيوب الجاهلية وعوارها بقوله : " كنا في جاهلية وكفر نشرب الخمور ونعبد الأصنام ويظلم القوي منا الضعيف - ويصف الصور القبيحة في الجاهلية - حتى بعث الله فينا رجلاً منا نعرف نسبه وشرفه ، فدعانا إلى الإسلام ، وإلى البر والصلة والصدق والعفاف ... " ، وعدد من خصال ومحاسن الإسلام ما جعل العاقل المنصف والعادل النجاشي يقر بأن أولئك القوم يحتاجون إلى نصرته ودعمه فقال لهم : " اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي " ، أي تنالون السلام لا يمسكم أحد بأذى ، فقه عظيم في جهاد الدعوة الحضاري ، وحكمة بالغة في إظهار محاسن الإسلام ومعانيه الإنسانية التي تؤثر في غير المسلمين .
ثم جاء مرة أخرى كيد الكفار ، وقال عمر بن العاص وكان إذ ذاك على كفرة : " والله لآتينهم غداً بما يبيد خضرائهم " ، وجاء إلى النجاشي فقال : " إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيما " .
إن النصارى الذين كانوا إذ ذاك يقولون بمقالة " عيسى ابن الله " أو " هو الله " ، تعالى الله عما يقولون علوً كبيراً !!
والمسلمون في هذا الأمر عقيدتهم واضحة ، فجاءت المواجه مرة أخرى ، وليس هناك مجال إلا هذا أو ذاك .. فهل تعطى الدنية في الدين ؟ وهل تُغير العقائد ؟ وهل تبدّل الحقائق بحجج قد تقال للمحافظة على المسلمين ، أو لإظهار محاسن الإسلام ، وإبداء بعض ما قد لا يفهمه غير المسلمين ؟
كلا ! عندما سئل جعفر رضي الله عنه قال : " نقول فيه ما قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو كلمة الله وروحه التي قذفها في مريم " أي جاء عيسى عليه السلام بشراً كسائر البشر !
فقال النجاشي العادل المنصف العاقل : " والله ما جاوز ابن مريم عليه السلام ما قلت مثل هذا العود " أي قولك مطابق . فنخرت البطارقة ، قال : وإن نخرتم !
فلننظر إلى هذه الصورة .. لقد كانوا في وقت وظرف وبيئة يمكن أن يكونوا فيها مهددين - وهم كذلك - ولكن فقه الإيمان ، ووضوح الرؤية ، وثوابت الإسلام كانت لديهم واضحة .
وإذا مضينا مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنا واقفون الموقف العظيم الذي يستحق أن يكون له أحاديث وأحاديث كثيرة ..
في ذي القعدة من العام السادس للهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً قاصداً تعظيم البيت ، وأداء النسك ، وجاءت هذه المسيرة بعد بدرٍ يوم الفرقان ، وبعد أحد والأحزاب .. جاءت وقريش مازالت تحكم مكة ، وتعين فيها الكفر ، وتقيم فيها الجاهلية ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن في كل حركة وسكنه وكلمة وحديث أنه يعلن في هذه المسيرة السلام والإسلام ، ولا يسير إلى مواجهةٍ عسكرية ، ومنازلة قتالية ، كيف ذاك ؟
خرج في الأشهر الحرم التي يعظم فيها القتال ويمنع ، وخرج محرماً والمحرم معلوم ما هي هيأته وما هو مقصده .
ثم ساق صلى الله عليه وسلم معه الهدي تأكيداً أنه لم يخرج لقتال ، وبياناً لتعظيمه لبيت الله الحرام ، وإشعاراً لأهل الحرم من الفقراء بأن المسلمين كذلك يهدون للبيت ولفقراء الحرم ، ولم يخرج معه من السلاح إلا بسيف في القران ، ولم يأخذ عدة حرب .
فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك خائفاً أو مداهناً ؟ كلا ! وإنما أراد أن يبين وأن يظهر وجه آخر .. قد رأيتم يا قريش يا أيها الكفار صورة من صور المواجهة في الفترة المكية ، ورأيتم من بعد المواجهات العسكرية القتالية ، وعرفتم كيف هم المؤمنون المجاهدون ، واليوم يأتي غزو جديد وجهاد مختلف .. إنه جهاد المعاني الإسلامية ، والمفاهيم الحضارية ، وجهاد الدعوة النافذ بصورته الحية المتحركة ، والقدوة المثالية المؤثرة .
ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن غافلاً ، ولم يكن تاركاً للتيقظ والحذر ؛ أرسل عيناً من خزاعة يجوس في مكة ، حتى يعرف ما قد يسمعون من الأخبار ، وأخفى مسيرته عنهم ، وأرسل طليعة من عشرين رجلاً ، حتى إذا كان هناك اعتداء أو توجه له كان على أهبة الاستعداد .(/2)
ثم خلأت القصواء - ناقة المصطفى صلى الله عليه وسلم - وبركت ، والقلوب متلهفة للبيت الحرام ، فقد حرمت منه ستة أعوام وأخرجت منه ، فضاقت بعض النفوس ، وقال الصحابة : خلأت القصواء ! فردّ رسول الهدى صلى الله عليه وسلم : ( ما خلأت وما كان لها ذلك بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ) .
إنه تعظيم البيت الحرام وهذا هو المراد ، وليس تشبيه أصحاب الفيل بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ! ولكن التشبيه منصبّ على ما جرى به قدر الله من بقاء حرمة البيت وتعظيمه ؛ لئلا تنتهك الحرمة بسفك الدماء ، وإزهاق الأرواح ، وحصول الإضطراب والخوف والهلع .. وشاور النبي صلى اله عليه وسلم أصحابه ، فعزم بعضهم على أن يتهيئوا للقتال ، وقال بعضهم : فلنخالف إليهم في ذراريهم ونقاتلهم ، وقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله إنما جئت تعظم بيت الله ، وتؤدي مناسك الله فامضي لما أراد الله .
فمضى النبي إلى ذلك ، وجاءت المفاوضات وقد أعلن النبي قبلها وكرر - عندما بلغه من الخزاعي الرسول أن قريشاً قد أكلتهم الحرب ، وقد أقسموا ألا تدخلها عليهم - فقال صلى الله عليه وسلم يكشف الجاهلية وحقيقتها وعدوانها وإجرامها وطبيعتها الاستعلائية : ( ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب ، والله لا تسألني قريش خطةً يعظمون فيها البيت إلا أجبتهم إليها ) .
وانتهى الأمر بصلحٍ رجع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يدخل إلى مكة ، لكن كان حينئذٍ هدنة ، وضعت الحرب أوزارها عشرة أعوام فيما كتب ، وكانت الشروط ثقيلة على المسلمين .. بردّ من أسلم إلى قريش ، وعدم ردّ من يسلم من المسلمين إذا ذهب إلى قريش !!
لكن أي أمرٍ هذا الذي حصل ؟
سماه الله - سبحانه وتعالى - فتحاً مبيناً ، فقال فيما تنزلت به الآيات على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في أثناء انصرافه من الحديبية : { إنا فتحنا لك فتحاً مبينا } .
حتى إن عمر تعجب وقال : أو فتح هو يا رسول الله ؟! قال : نعم
أي فتحٍ كان ذلك ، ولم يكن ثمة قتال ، ولم يكن ثمة إزاحة ، ولا دخول ولا فتحٍ ولا شيء من ذلك ؟
إنه الفتح الذي غزت فيه دعوة الإسلام كل عقل راشد ، وكل نفسٍ سوية وكل فطرة نقية ؛ لأن جو التوتر والقتال كان يهيج حمية الجاهلية وعظمتها وكبريائها الفارغة ، فلما سكنت النفوس ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العام الذي يليه ليؤدوا عمرتهم بحسب الاتفاق ، ورأى الناس بأبصارهم إيماناً يتحرك ، وإسلاماً تظهر محاسنه ، وأخوة تفيض بها القلوب ، وعظمة في الإيمان
تظهر في الركوع والسجود ..
رأوا نمطاً من الناس مختلفاً .. رأوا صورة من البشرية في أرقى صورها ، وأسمى معانيها .. رأوا حباً وتعظيماً من الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا ما فتت كل حاجزٍ في صدورهم ونفوسهم .. رأوا كيف عظمتهم وطبقياتهم في جاهليتهم .. رأوا كيف فسقهم وفجورهم .. رأوا كيف هم في سائر أحوالهم حتى إن زعماء قريش الصناديد الكبار الذين يصدون عن دين الله لم يطيقوا صبراً ، فخرجوا إلى خارج مكة لا تستطيع عيونهم أن ترى .. لا تستطيع نفوسهم أن تقبل ، فلما انتهت الأيام الثلاثة أرسلوا مباشرة إلى رسول الله أنهم يخشون الأثر الإيماني الذي ينبث بدون كلمات إلى الناس فيغزوا عقولهم وقلوبهم ، فطلبوا منه أن يخرج بعد انتهاء المدة ، فخرج وقد غرس الإيمان في القلوب ، وقد ظهرت محاسن الإسلام للعقول ، وتهاوت الجاهلية وعنجهياتها في قلوب أصحابها وأربابها .
وأمن الناس بعضهم بعضاً فكان من حق المسلم أن يأتي إلى مكة ليرعى مصالحه أو يزور إخوانه وأقاربه ، فيتحدثون : كيف أنتم في المدينة ؟ ما تصنعون مع محمد صلى الله عليه وسلم ؟
أليسوا يستعيدون التاريخ ؟ كيف كان هؤلاء مضطهدون معذبون ؟ كيف خرجوا مطاردين مهاجرين ؟ كيف أصبحت لهم دولة وكيان ؟ كيف انتصروا في بدر ؟ وكيف فعلوا وفعلوا ؟
كل ذلك عبّر عنه الإمام الزهري - التابعي الجليل - يصور لنا هذا الفتح العظيم في كلمات موجزة قال فيها : " فما فتح في الإسلام فتح قبله مثله كان أعظم منه " .
إنما كان القتال حيث النفرة بين الناس ، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضاً
التقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد في الإسلام يعقل إلى دخل فيه ، ولقد دخل في تلك السنتين - أي بين العام السادس من الهجرة والثامن - دخل في تلك السنتين مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك .
كان عدد المسلمين يوم الحديبية ألفاً واربعمائة ، وكان عددهم يوم فتح مكة بعد عامين عشرة آلاف
.. ذلكم كان ضرباً جهادياً فريداً ، وكان غزواً إسلامياً كاسحاً ، وكان هجوماً إيمانياً شاملاً ، دمّر كل الحصون التي كانت في القلوب ، واخترق كل الأوهام التي قد خالطت العقول
وذلكم كان فتحاً مبيناً بكل تلك المقاييس العظيمة التي أثرها ونتيجتها كانت أعظم من كل أثرٍ لما سبق من المواجهات والمنازلات العسكرية .(/3)
وإذا رأينا ذلك رأيناه من بعد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي التاريخ : ألم يكتب النبي للملوك والأمراء ؟ ألم يرسل الرسل ؟
هذا الأمر العظيم الذي انتشر به الإسلام في بقاع شتى من الأرض دون أن تراق قطرة دم واحدة لا لأن الجهاد قد عطل أو ألغي ! ولكن لأن وسائل الجهاد الدعوية عندما عملت عملها دكّت الحصون ، وهدمت الحواجز ، واستطاعت أن تخترقها بجهاد الدعوة إلى الله ، كيف دخل الإسلام إلى شرق آسيا ؟ وكيف ثبت أقدامه في تونس ؟
عندما فتحت بلاد إفريقيا - وهي تسمى كذلك - انتقض أهلها على المسلمين الفاتحين في أول الأمر وهاجموهم مرة أخرى ، ثم مرة ثانية رجع المسلمون وانتصروا ثم انتقضوا عليهم ، فكتب الخليفة أن ابنوا المساجد ، وأشيعوا الإسلام ، فحينئذٍ لم يكن انتقاض ، بل كان إقبال على هذا الدين .
والتتار الذين دمروا العالم الإسلامي من أول شرقه إلى وسطه وجتاحوا بعد ذلك بغداد إلى غيرها من البلاد .. هل انتصروا ؟
قد انتصروا انتصاراً عسكرياً ، وانتصر الإسلام عليهم انتصاراً أعظم يوم دخل أكثرهم في دين الله أفواجا ، وأسلم المنتصرون القاهرون ؛ لأنهم قرعتهم حجة الإسلام ، وهزمتهم محاسنه ، فانقادوا له صاغرين ، وأصبحوا جنداً في سبيله مجاهدين .. تلكم هي المفاتيح التغيرية العظيمة التي لها من الآثار ما ينبغي أن ننتبه إليه ، وخاصةً في عصرنا هذا .
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الدعاة إلى دينه ، والمنافحين عنه ، والباذلين في سبيله ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه .
وإن جهاد الدعوة أمره عظيم ، وله أثر كبير أحب أن أشير هنا إلى أمرين اثنين :
الأول : إيجابي
الثاني : سلبي
أما الأمر الإيجابي :
فهو بيان آثار جهاد الدعوة في ميدانين اثنين مهمين ، في ديار الإسلام وفي بلادٍ مسلمة نرى غير المسلمين وهم يتأثرون إذا وجد جهاد الدعوة ويدخلون في الإسلام أفواجا ، يأتون من بلادهم كافرين ويخرجون من بلادنا مسلمين ، وذلك أمر معروف وظاهر لا تخطئه العيون .
فهل قهر أولئك بسيف ؟ وهل أكرهوا على الدين ؟ وهل مورس ضدهم اضطهاد عنصري وتميز عرقي ؟
كلا ! وإنما قدمت لهم كلمة الله وعرفوا بالإسلام دين الله فانقادوا له ؛ لأنهم ليسوا على شيء ؛ ولأن عندهم من التناقض والانحراف ومن الخلل ما ليسوا به على عقيدة واضحة وديانة تامة وشريعة كاملة كما عند آخر الإسلام .
فذلك جهاد الدعوة يوم ينشط نستطيع أن نصدر من بلادنا رسل دعوة ليسوا منا وإنما من ذلك البلد ، ومن تلك الجنسية ، ومن عامل صغير إلى مفكر كبير ، ومن رجل عادي إلى سياسي بارز .. رأينا كيف اخترق الإسلام كل الأجناس والأعراق !
وإحصاءات الأمم المتحدة قبل نحو خمس سنوات تقدّم تقريراً للدين والديانات في العالم ، فتقول في هذه الإحصائية : " أن الإسلام أكثر الأديان انتشاراً على وجه الأرض ، وأنه في سرعة انتشاره يزيد بسته أضعاف على الديانة الثانية بعده " .
فهل المسلمون يبذلون في جهاد الدعوة كما يبذل غيرهم ؟ وأنتم تعلمون أن التبشير يبذل آلاف الآلاف من الملايين التي جعل شعار في إفريقيا - على سبيل المثال - أن تصبح نصرانيةً في عام كذا وكذا ، ورصدت سبعة مليارات من الدولارات لهذا المشروع .
ما الذي يحصل ؟ هل هي خبرة المسلمين وقدراتهم الفائقة ؟ هل هي وسائل إعلامهم التي تصل إلى كل مكان ؟
ليس عندهم شيء من ذلك ! وقد ذكرت لكم في إحصائيات سابقة أن لدى المنضمات التي تبشر نحواً من أربعة آلاف وست مائة ما بين قناة إذاعية وتلفزيونية متخصصة في هذه المهمة .
إنه الإسلام بطبيعته يوم يحصل امتثال الناس له ودعوتهم إليه .
وميدان آخر : المسلمون الذين ذهبوا إلى بلاد غير مسلمة وحافظوا على دينهم
ما الذي يحصل اليوم ؟ نجد الناس يصرعون ويهزمون أمام عظمة هذا الإسلام ، فيدخلون فيه أفواجاً ، أيضاً أصحاب العيون الزرقاء والشعور الشقراء أصحاب الحضارة المعاصرة .. اليوم تنهار حواجزهم الفكرية ، وخلفياتهم التصورية والعقدية أمام قوة هذا الدين ، فماذا نرى ؟
ينساح الإسلام شرقاً وغرباً وفي كل مكان ، والإحصاءات الرسمية أقل بكثير من الحقيقية ، ولسنا هنا بصدد ذلك .
فقد زرت بلاداً كثيرة - ومنها البلاد التي يضرب بها المثل في نأيها وبعدها - إلى أقصى الشرق فإذا فيها من المسلمين عدداً يضاهي ثلث المسلمين في البلاد العربية قاطبة .
وأقلية مسلمة في بلدٍ هو الثاني من بلاد العالم في عدد السكان عددهم يعادل المسلمين في البلاد العربية تقريباً .(/4)
ثم ما يزال الأمر ينتشر وانتشاره بصور كثيرة منها : عودة المسلمين الذين ظنوا أو تاهوا في تلك الحضارة إلى إسلامهم ، ومن هنا دبّ الرعب في القلوب ، وأصبحت قطعة قماشٍ على رأس فتاة مسلمة ضعيفة يثير الرعب ، حتى يأتمر به المؤتمرون ، وتعقد له مجالس الحكماء والعقلاء وسياسات الدول ؛ لتصدر قراراً أو تعتزم إصدار قرار لنزع هذه القطعة القماشية أي شيء فيها ؟ أي إرهاب وخطر عظيم منها ؟
العقلاء هناك يدركون - كما أدرك صناديد قريش - أن الإسلام يجوس خلال الديار ، وأنه ينتشر بغير ما أمرٍ يفترض عليه أو ينتقد .. تلك البلاد لها مؤتمر إسلامي سنوي يحضره من المسلمين نحو مائة ألف رجل وامرأة في مكان واحد ، لا تسجل حالة أمن واحدة فيها اختلال أو إخلاف .. يجتمعون بكل نظام وحضارة ورقي ، يطرحون من موضوعات الإسلام ومحاسنه ما أجبر كثيراً من الدوائر بالاهتمام والاعتناء ، لكن الذين في قلوبهم مرض لا يعجبهم ذلك .
أما الأمر السلبي:
إن كثيراً من هذا الخير يشوش عليه أن بعضاً من بني جلدتنا والمتكلمين بألسنتنا والمتصدرين في أمتنا
يأتون من القول والفعل ما يناقض إسلامنا ، فيوم أثيرت معركة الحجاب سمعنا من يقول : " أيها العرب والمسلمون بلاد قد سبقتنا بسنوات ، وأصدرت في ذلك القوانين ، وطبقّت العقوبات .. فما بالكم تستكثرون علينا ما هو في دياركم ؟ " .
وآخرون يقولون لك : " خذ هذا القول ، واسمع هذا العالم ، وانظر تلك الفتيا .. فما بالكم وأنتم تقولون وتفعلون تحرجون علينا ذلك ! " .
ونقول : بحمد الله عز وجل هذا أثر سلبي ، لكن الأمر قد تجاوزه ، فلا يكاد يتجاوز أصحابه ، ولا يكاد يؤثر في أحدٍ ؛ لأن المؤمن الحق ، والمسلمون الصادقون ، والوعي العظيم أصبح أكبر من أن تؤثر فيه تلك الفقاعات ، وتلك التصريحات ، وتلك المواقف التي يعرفها المسلمون .
نسأل الله - عز وجل - أن يثبت الإيمان في قلوبنا ، وأن ينشر الإسلام في ربوعنا ، ونسأله عز وجل أن يعلي رايته ، وأن ينشر دعوته وأن يسخرنا في هذا السبيل .(/5)
... ...
جهنم ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- أسماء جهنم. 2- لماذا خلق الله النار. 3- صفة جهنم. 4- من هم أهل النار. 5- إيمان المسلم بالنار. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [آل عمران:197]. متعب للنفس المسلمة أن ترى الباطل في صولة وسلطان. وأن ترى الحق في ذل وهوان ولكن ذلك يزول عندما تعلم وتوقن أن الدنيا متاع، ولابد للمتاع أن ينفد، وجهنم هي المآل والمصير للباطل وأهله.
فما جهنم؟ ولماذا؟ وما صفتها؟ ومن هم أهلها؟ وكيف النجاة منها؟
أما جهنم: فكما أنه سبحانه جعل مستقر رحمته لأوليائه الجنة فقد جعل مستقر عذابه لأعدائه جهنم.
وينبغي أن تعلم:
1- أن لجهنم أسماء تدل على شدتها وأهوالها، ومن أسمائها :
أ/ الهاوية: فأما من خفت موازينه فأمه هاوية [القارعة:8-9]. قال ابن زيد: (الهاوية النار هي أمه ومأواه التي يرجع إليها)([1]).
ب/ الحطمة: كلا لينبذن في الحطمة [الهمزة:4]. قال ابن كثير: (لأنها تحطم من فيها)([2]).
ج/ لظى: كلا إنها لظى نزاعة للشوى [المعارج:15-16]. فهي تتلظى وتلتهب وتحرق جلدة الرأس وهي الشوى وقيل الجلود والهام وقال الضحاك: (تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا)([3]).
2- الداخل إليها لا يموت فيستريح ولا يحيي حياة طيبة: ثم لا يموت فيها ولا يحي [الأعلى:13]. لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها [فاطر:36]. وعند ذاك يكون الموت أمنية الداخلين، الموت الذي كان أبغض شيء لهم في الحياة يصير أمنية يتمنونها: ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون [الزخرف:77]. قال ابن عباس: مكث ألف سنة ثم قال: إنكم ماكثون ([4]).
وأما لماذا جنهم؟:
1- فلا بد من وجود جنهم حتى لا يمضي الظالم من غير عقاب، فإذا ما اختلت موازين العدالة في الأرض فإن موازين السماء ثابتة لا تعبث بها الأهواء والمصالح والأموال والوساطات: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا [الأنبياء:47].
وللحديث: ((يأتي المقتول متعلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يأتي به العرش، فيقول المقتول لرب العالمين: يا رب سل هذا فيم قتلني؟ فيقول الله عز وجل: فيم قتلته؟ قال: قتلته لتكون العزة لفلان. فيقول الله عز وجل للقاتل: تعست))([5]).
حتى يتشفى قلب المؤمن من الطغاة والظلمة الذين سفكوا وقتلوا ونهبوا وحرفوا الأمة عن ربها، ومثلوا دور الأمناء وهم الخونة، والصادقين وهم الكذبة والعلية وهم السفلة. ويوم القيامة هو يوم العدل والقصاص، سخرية تقابلها سخرية: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون [المطففين:29]. ويوم القيامة: فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون [المطففين :34]. وعذاب يقابله عذاب: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق [البروج:10]. وشتان بين عذاب العباد وعذاب رب العباد للعباد.
2- لأن بواعث النفس للعمل ثلاثة فأما أن يكون الباعث هو معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وهذا هو حال رسول الله : ((فقد كان يقوم حتى تورمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: أفلا أكون عبدا مشكورا))([6]).
وأما أن يكون الباعث الرغبة في الجزاء والمثوبة والجنة: إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا [النبأ:31-34].
وأما أن يكون الباعث للعمل الصالح هو الخوف من عذاب الله وعقابه وناره: إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم [الطور :26-27].
وأما صفة جهنم:
مادة وقودها: فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة [البقرة:24]. والوقود هو ما يلقي في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، فوقود جهنم هم الداخلون إليها، فكلما دخلها فوج تأججت وازدادت لهيبا.
عمقها: حديث ابن مسعود: سمعنا وجبة (أي صوتا شديدا) فقلنا ما هذه؟ فقال رسول الله : ((هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها))([7]).
لونها: للحديث: ((أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء لهبها))([8]).
حرارتها: وللحديث: ((إنها لجزء (أي نارنا) من سبعين جزءا من نار جهنم وما وصلت إليكم حتى نضحت مرتين بالماء لتضيء لكم))([9]).
طعامها وشرابها: للحديث: ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه؟))([10]). وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه [الكهف:29]. والمهل الماء الأسود المنتن الغليظ الحار. قال سعيد ابن جبير: (إذا جاع أهل النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقوم، فيأكلون فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم)([11]).(/1)
ثيابهم: قال تعالى: هذا خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود [الحج:19-30]. قال سعيد بن جبير: فصلت لهم مقطعات من النار من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي)([12]). وللحديث: ((إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه - وهو الصهر- ثم يعاد كما كان))([13]).
عميان أهلها: ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم [الإسراء:97]. وعن أنس : ((قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاههم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم))([14]).
عظيمة أجسامهم: للحديث: ((ضرس الكافر مثل أحد (أي جبل أحد) وفخذه مثل البيضاء(اسم لجبل) ومقعده من النار كما بين قديد ومكة))([15]).((إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا، وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة))([16]).
أقل أهل النار عذاب: للحديث: ((إن أهون أهل النار عذابا رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل بالقمقم))([17]). والقمقم ما يسخن به الماء من نحاس وغيره.
وللحديث: ((إن أدنى أهل النار عذابا الذي له نعلان من نار يغلي منهما دماغه))([18]).
وأما من هم أهلها؟:
الملحدون: الذين يدعون العقل ولا عقل، والذين انكروا أن يكون للكون إله وعاشوا وماتوا على ذلك، فإن من العقول من لا تؤمن حتى ترى العذاب: لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم [الشعراء:201].
المشركون: الذين جعلوا مع الله إلها آخر سواء كان صنما أو شجرا أو طاغية يأخذون منه المنهج والتشريع، وأعرضوا عن منهج الله المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذين اعتقدوا أن غير الله سبحانه هو النافع الضار المحيي المميت، الرازق المانع: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداد يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب إن القوة لله جميعا وإن الله شديد العذاب [البقرة:165].
المنحلون: الذين يريدون أن تنزلق الأمة إلى مهاوي الرذيلة والخنا حتى يسهل قيادها لأعداء الله ويلتمسون لذلك الأساليب من ترويج لصور العاهرات والساقطات حيث لم يتركوا عاهرة إلا وعقدوا معها لقاء وأظهروها بمظهر المتحررة من القيود البالية، ومن يثيرون الغرائز الحيوانية بالكلمة المسموعة أو المقروءة أو المرئية ومن لا يحسنون إلا (أدب الفراش) من شعراء النهود، ومن يتكسبون الأموال بالحفلات الماجنة وتأجير الشقق للدعارة وتحويل البلاد إلى بيت دعارة باسم السياحة والانفتاح قال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [النور:19].
المجرمون: الذين لا تجدهم في مواطن الرجولة والدفاع عن الأمة وساحات الكرامة الذين لا يحسنون إلا قتل الأبرياء والعُزّل من المؤمنين، والأمة إذا فسقت ذلت وهانت وصارت نعلا بقدم الطاغية: فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين [الزخرف:54]. يسلب مالها، ويهتك عرضها، ويسلك بها سبل الضلالة والغواية والسقوط، وهي ترقص وتغني وتضحك وتصفق للمجرم الذين يغتال صالحيها: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما [النساء:93].
المضيعون لفرائض الله سبحانه: ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين [المدثر:43-45]. قال ابن كثير: (أي ما عبدنا ربنا ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا وكلما غوى غاو غوينا معه حتى جاءهم الموت)([19]).
وأما موقف المسلم من جهنم:
فإن العبد كلما ازداد معرفة كلما ازداد خشية وكلما ازداد خشية ازداد صلاحا واغتناما للأوقات قبل رحيلها، فهناك تعظم الحسرات وتسيل العيون بالدموع والعبرات أنهارا: ((إن أهل النار ليبكون حتى لو اجريت السفن في دموعهم لجرت، وإنهم ليبكون الدم مكان الدمع))([20]). وتعض الأيدي ندما وتحسرا: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا [الفرقان:27]. وتصرخ الألسن بالأمنيات: ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا [الأنعام:27]. يا ليتني قدمت لحياتي [الفجر:24]. يا ليتها كانت القاضية [الحاقة:27]. قال رب أرجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت [المؤمنون:99-100].
فكان لابد من:
1) أن تعلم أن اللذة والنشوة الحرام سوف تذوي وتذوب عند أول غمسة في النار: ((ويؤتي بأنعم أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغه ثم يقال: يا ابن آدم: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب))([21]).ويصبغ أي يغمس.(/2)
التوبة: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا [التحريم:8]. قال ابن كثير: (التوبة النصوح أن تبغض الذنب كما أحببته وتستغفر منه كلما ذكرته) وقال عمر : (إن يتوب الرجل من العمل السيئ ثم لا يعود إليه أبدا)([22]) واستيفاء شروط التوبة من الندم والعزيمة على أن لا تعود إلى الذنب ورد الحقوق إلى أصحابها والإقلاع عن المعصية.
المحاسبة: محاسبة النفس لازمة للنجاة يقول عمر : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا) فما وجدته من خير فأحمد الله عليه وما وجدته من شر فاستغفر الله عنه واعزم على أن يكون غدك خير من يومك ويومك خير من أمسك.
2) العمل: فما ذكر الله الإيمان إلا واتبعه بذكر العمل الصالح الذي يصدقه، والذي يوزن يوم القيامة هي الأعمال: فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية [القارعة:7-9]. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة:7-8].
3) المجاهدة: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [العنكبوت:69]. ((حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره))([23]) مخالفة هوى النفس وطاعة الرحمن هي السبيل إلى تلك الجنان.
4) أن تحفظ جوارحك وحواسك عن الحرام: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا [الإسراء:36]. يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [النبأ:40]. ((من يضمن لي ما بين لحييه (عظما الحنك أي اللسان) وما بين رجليه (الفرج كناية عن الزنا) ضمنت له الجنة))([24]).
وسأل عقبه بن عامر رسول الله فقال: ((يا رسول الله ما النجاة؟ فقال: امسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك))([25]).
5) أن يكون لك ورد تحافظ عليه في يومك وليلتك:
من قراءة لجزء من القرآن في كل ليلة ما أمكن.
والمحافظة على الصلوات المكتوبة في المسجد، والمحافظة على السنن الراتبة.
وأن يكون لك ركعات بعد صلاة العشاء ومن الليل.
وأن تكون محافظا على الأوراد والأدعية.
وأن تكون لك في كل باب من أبواب الخير نصيباً، لعلك تنجو وتزحزح وتفوز.
([1])مختصر ابن كثير ج3ص270 .
([2])مختصر ابن كثير ج3 ص675.
([3])مختصر ابن كثير ج3 ص549.
([4])مختصر ابن كثير ج3 ص 297.
([5])الطبراني في الأوسط وروانه رواه الصحيح .
([6])متفق عليه .
([7])مسلم .
([8])رواه البيهقي والأصبهاني .
([9])البزار والحاكم .
([10])الترمذي والنسائي وابن ماجة .
([11])مختصر ابن كثير ج2 ص417 .
([12])مختصر ابن كثير ج2 ص 536 .
([13])ابن جرير والترمذي .
([14])متفق عليه .
([15])رواه أحمد واللفظ المسلم .
([16])الترمذي وابن حبان .
([17])رواه البخاري ومسلم .
([18])الطبراني .
([19])مختصر ابن كثير ج3 ص573 .
([20])الحاكم وقال صحيح الإسناد .
([21])رواه مسلم .
([22])مختصر ابن كثير ج3 ص523 .
([23])مسلم .
([24])البخاري .
([25])الترمذي . ... ...
... ...
... ...
... ...(/3)
جَوَامعُ الخَيْرِ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
نصُّ الحديثِ:
عن أبي هُرَيْرَة-رضي الله عنه-عن النَّبِّي-صلى الله عليه وسلم-,قال:"مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْيَةً من كُرَبِ يْومِ القيامَةِ، ومَنْ يَسَّرَ على مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ في الدنْيا والآخِرَةِ، واللهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كانَ الْعَبْدُ في عَونِ أخيهِ. ومَنْ سلكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ له بِهِ طَرِيقاً إلى الجنَّةِ. وَمَا اجتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ ويَتَدارَ سُونَهُ بَيْنَهُمْ، إلَّا نَزَلَتْ عليهمُ السَّكيِنَةُ، وغَشَيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وحَفَّتهُمُ المَلائِكَةُ، وذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه. وَمَنْ بَطَّأ بِه عَمَلُهُ لمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ" 1.
مفردات الحديث:
"نَفَّسَ": أي خفف أو أزال ما في نفسه من أثرها. ونفس من التنفيس وهو أن يخفف عنه منها، مأخوذ من تنفيس الخناق وهو إرخاؤه حتى يأخذ نفساً. وفرج من التفريج، وهو أبلغ من التنفس وهو أن يزيل عنه أثر الكربة بحيث يزول همه وغمه.
"كربة": أي الشدة العظيمة.
" يسر على معسر": المعسر من أثقلته الديون وعجز عن وفائها،والتيسير عليه مساعدته على إبراء ذمته من تلك الديون.
"يسر الله عليه" : أموره وشؤونه.
"ستر مسلماً" بأن رآه على فعل قبيح شرعاً فلم يظهر أمره للناس.
"عون العبد": إعانته وتسديده لقضاء شؤونه النافعة.
"ما كان العبد" أي : مدة دوام كونه كذلك.
"ذكرهم الله فيمن عنده" أي باهى بهم ملائكة السماء وأثنى عليهم، وقبل عملهم ورفع شأنهم.
" بطأ به عمله": كان عمله الصالح ناقصاً وقليلاً فقصر عن رتبة الكمال.
"لم يسرع به نسبه" : لا يعلي من شأنه شرف النسب، ولا تبلغه وجاهة الآباء ما فاته وقصر عنه من المنازل العالية، التي يبلغها أصحاب الأعمال الكاملة عند الله- عز وجل-.
أهمية الحديث:
قال النووي -رحمه الله تعالى- في شرح مسلم: وهو حديث عظيم، جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب2. زاد ابن علان: "والفضائل والفوائد والأحكام".
فرغب بأداء حقوق أخوة الإسلام، وبطلب العلم، وبالاهتمام بدستور السماء، من حيث قراءته وفهمه، والعمل به، وتبليغه للناس. 3
المعنى العام للحديث:
إن أفراد مجتمع الإيمان والإسلام أعضاء من جسد واحد، يتحسس كل منهم مشاعر الآخرين وتنبعث فيه أحاسيسهم، فيشاركهم أفراحهم وأحزانهم: يُسر لما يحظون به من فرح وسرور وبهجة، وما يتمتعون به من أنس وصحة وسعادة. ويتألم لما ينالهم من أذى، وما يُصيبهم من مرض، وما يقع بهم من فاقة وفقر وضيق عيش وكرب، وصدق رسول الله-صلى الله عليه وسلم-إذ يقول: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى4. "اشتكى": مرض. "تداعى": دعا بعضه بعضاً إلى المشاركة فيما حصل. سائر: باقي. الحمَّى: الألم وما يُصاحبه من ارتفاع حرارة الجسم ونحو ذلك. ومن أهمِّ ما يجب على المسلم تجاه أخيه المسلم أنْ يسارع في تفريج كربه وإزالة ما يقع فيه من هم أو غم.
شرح الحديث:
قوله –صلى الله عليه وسلم-:" من نفس عمن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه، كربة من كرب يوم القيامة"، أي: أزالها وخففها عنه، مأخوذ من تنفيس خناق الثوب وإرخاؤه، حتى يأخذ نفساً، والتفريج أعظم من ذلك وهو أن يزيل كربه، فتفرج عنه كربته، ويزول همه وغمه.
والكربة: هي الشِّدَّةُ العظيمة التي تُوقعُ صاحبَها في الكرَب، وتنفيسُها أن يُخفَّفَ عنه منها. والتفريج أعظمُ من ذلك، وهو أن يُزيلَ عنه الكُربةَ، فتنفرج عنه كربتُه، ويزوله همُّه وغمُّه، فجزاءُ التَّنفيسِ التَّنفيسُ، وجزاءُ التَّفريجِ التفريجُ.
كرب الدنيا عديدة وطرق تنفيسها متنوعة: إن الحياة ملأ بالمتاعب والأكدار، وكثيراً ما يتعرض المسلم لما يوقعه في غم وهم وضيق وضنك، مما ينبغي على المسلمين أن يخلصوه منه، ومن ذلك:
1- نصرته وتخليصه من الظلم: فمن شأن المسلم أن لا يوقع ظلماً في أخيه المسلم، ولكن هذا لا يكفيه لنيل رضا الله–عز وجل- إذا لم يسعى جاهداً في تخليصه أيضاً مما يقع فيه من ظلم غيره، قال عليه الصلاة والسلام:"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"5، أي: لا يتركه للظلم ولا يترك نصرته، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً، كيف أنصره؟ قال: تحجزه، أو تمنعه، من الظلم فإن ذلك نصره"6.(/1)
2- تحليصه من الأسر: إذا وقع المسلم أسيراً في قبضة العدو؛ كان على المسلمين أن يسارعوا في تخليصه من الأيدي الآثمة، التي قد تسعى في فتنته عن دينه. فعن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:" أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني"7.
3- إقراضه المال إن احتاج إلى المال: قد يقع المسلم في ضائقة مالية، فيحتاج إلى النفقة في حوائجه الأصلية من طعام وشراب ومسكن وعلاج ونحو ذلك، فينبغي على المسلمين أن يسارعوا لمعونته، وعلى الأقل أن يقرضوه المال قرضاً حسناً، بدل أن يتخذوا عوزه وسيلة لتثمير أموالهم ، وزيادتها، كما هو الحال في مجتمعات الربا والاستغلال. قال الله- تعالى-: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} سورة البقرة:245.
3-وقال-صلى الله عليه وسلم-:"من أقرض مسلماً درهماً مرتين,كان له مثل أجر أحدهما لو تصدَّقَ به"8
كرب يوم القيامة والخلاص منها:
ما أكثر كربات يوم القيامة، وما أشد أهوالها وأفظع مخاوفها، وما أحوج المسلم لأن يجد لنفسه عملاً صالحاً في ذلك اليوم يخلصه من شيء منها، ويكشف له متنفساً للنجاة، وينير طريق الفوز بالجنة أمامه، قال-عليه الصلاة والسلام-:" يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد،فيُسمعهم الداعي،وينفذهم البصر،وتدنو الشمس منهم،فيبلغ الناس من الكرب والغم مالا يطيقون ولا يحتملون،فيقول الناس بعضهم لبعض: ألا ترون ما بلغكم،ألا تنظرون من يشفع لكم عند ربكم"9.
التيسير على المعسر:
قوله- صلى الله عليه وسلم-:"ومن يسَّر على مُعسِرٍ، يسَّرَ الله عليه في الدُّنيا والآخرة" يدل هذا على أن الإعسار قد يحصُل في الآخرة، وقد وصف الله يومَ القيامة بأنه يومٌ عسير وأنَّه على الكافرين غيرُ يسير، فدلَّ على أنَّه يسير على غيرهم قال الله- تعالى-:{وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} سورة الفرقان: من الآية26.
والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين:
1- إمّا بإنظاره إلى الميسرة: أي ينظر الدائنُ مدينه إلى وقت يملك به ما يفي دينه ويصبح ذا يسار، وذلك واجب، قال الله- تعالى-:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة:280.
2- أنْ يُبرئ الدائنُ مدينَهُ من الدَّينِ، أو يضع جزءاً منه، أو يعطيه غير الدائن ما يزول به إعساره، من تراكم دين أو نفقة. فهذا التيسير مندوب إليه، فقد جاء عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال:"من أنظر معسراً، أو وضع عنه أظلَّه الله"10.وقال–صلى الله عليه وسلم-:"من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسرٍ أو يضع عنه11.
ستر المسلم:
قوله-صلى الله عليه وسلم-:"ومن ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة" لقد كثرت النصوص التي تحث على ستر المسلم، وتحذر من تتبع عوراته وزلاته ليفضح بين الناس، فعن ابن عباس- رضي الله عنه- عن النبي-صلى الله عليه وسلم-:"من ستر عورةَ أخيه المسلم، ستر الله عورته يومَ القيامة، ومن كشفَ عورة أخيه المسلم، كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته"12.
وقد روي عن بعض السلف أنه قال: أدركت قوماً لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس فذكر الناس عيوباً، وأدركت قوماً كانت لهم عيوب، فكفُّوا عن عيوب الناس فنُسيت عيوبهم. وشاهد هذا حديث أبي بَرْزَةَ،عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال:"يا معشرَ من آمن بلسانه،ولم يدخُلِ الإيمانُ في قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعُوا عوراتهم، فإنَّه من اتَّبع عوراتهم،تتَّبع الله عورته، ومن تتَّبع الله عورته، يفضحه في بيته"13.
بل إن تتبع عورات المسلمين علامة من علامات النفاق،ودليل على أن الإيمان لم يستقر في قلب ذلك الإنسان الذي همه أن ينقب عن مساوئ الناس ليعلنها بين الملأ. كما تقدم في الحديث. لأن الأصل في المسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإذا رأى عيباً أو تقصيراً في أخيه المسلم، أن يدعو له بالاستقامة والصلاح، وأن ينصحه في السر، فهذا أحرى لقبول النصيحة,كما قال الشَّافعيُّ:
تعمدني بنُصحك في انفرادي وجنبي النصيحةَ في الجماعة
فإنَّ النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه14
لا أن يفرح ويسعد بزلة أخيه وسقطاته، ويجعل منها حديثاً يتلذذ به في المجالس، فيفضح أخاه بذلك، ويخالف أمر ربه ورسوله.
فالمسلم إذا اطلع على زلة أخيه المسلم، فهل يسترها عليه أم يعلنها؟ فإن هذا يختلف باختلاف أعمال الناس، والناس في هذا على ضربين:(/2)
1- من كان مستوراً لا يُعرف بشيءٍ من المعاصي: فإذا وقعت منه هفوة، أو زلة، فإنه لا يجوز كشفها، ولا هتكها، ولا التحدُّث بها؛ لأنَّ ذلك غيبة محرَّمةٌ، وإشاعة للفاحشة، والله-تعالى- يقول:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} سورة النور:19. قال العلماء : المراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن فيما فرط منه، أو اتهم بهم مما هو بريء منه. وقال بعضهم: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب. والمراد بالعصاة هنا العصاة المستورن الذين لم يعلنوا بمعاصيهم، وعلى هذا تحتمل النصوص الواردة في الحث على ستر المسلم.
2- من كان مشتهراً بالمعصية، مستعلناً بها بين الناس: إن من لا يبالي بما يرتكب، ولا يكترث لما يقال عنه، فهذا فاجر مجاهر بفسقه، فلا غيبة له، بل يندب كشف حاله للناس، وربما يجب، حتى يتوقوه ويحذروا شره، وإن اشتد فسقه، ولم يرتدع من الناس، وجب رفع حاله إلى ولي الأمر حتى يؤدبه بما يترتب على فسقه من عقوبة شرعية؛ لأن الستر عليه يجعله وأمثاله يطمعون في مزيد من المخالفة، فيعيثون في الأرض فساداً، ويجرون على الأمة الشر المستطير، بل مثل هذا يبحث عنه ويتتبع، لتستأصل جذور الفتنة من مجتمع المسلمين، بقوله-صلى الله عليه وسلم: " واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"15 وذلك حين احتكم إليه رجلان، قد زنى ولد أحدهما بامرأة الثاني.
التعاون بين المسلمين في كل وجوه الخير:
قوله-صلى الله عليه وسلم-: " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" إن المجتمع لن يكون سوياً قوياً، ولن يكون قوياً متماسكاً إلا إذا قام على أساس من التعاون والتضامن والتكافل فيما بين أفراده، فسعى كل منهم في حاجة غيره، بنفسه وماله وجاهه، حتى يشعر الجميع أنهم كالجسد الواحد، وهذا ما دعا إليه الإسلام وأمر به القرآن، وجعلته السنة المطهرة عنواناً لمجتمع الإيمان، قال- تعالى-:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} سورة المائدة: من الآية: 2. وقال-صلى الله عليه وسلم-: " إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً "16. ولما كان التعاون له أثر في بناء المجتمعات، وحياة الأمم والأفراد كان من أفضل الأعمال عند الله-عز وجل-، وكان عبادة لها من الأجر والثواب مثل ما للصلاة والصيام والصدقة ونحو ذلك أو يزيد،قال-عليه الصلاة والسلام-:" وتعين الرجل في دابته:فتحمله عليها،أو ترفع له عليها متاعة صدقة"17. وعن أنس-رضي الله عنه-،قال:"كنا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-في سفر،فصام بعض وأفطر بعض، فتحزم المفطرون وعملوا" وفي رواية:" فضربوا الأبنية وسقوا الركاب-وضعف الصوام عن بعض العمل، فقال في ذلك:"ذهب المفطرون اليوم بالأجر" 18، أي جاوزه واستصحبوه ومضوا به، ولم يتركوا لغيرهم شيئاً منه، وهذا على المبالغة، والمراد: أن لهم من الأجر مثل ما للصوام أو أكثر؛ لأنهم بعملهم أعانوا الصوام على صومهم.
لاشك أن أعظم ثمرة يجنيها المسلم من إعانته لأخيه هي ذاك العون والمدد من الله- تبارك وتعالى-:" والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" وكيف لا, ولا حول للإنسان ولا قوة إلا بالله عزوجل، وهو-سبحانه-المتصرف في هذا الكون،وهو المعطي والمانع، بيده قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، فيلهم الناس ليسارعوا إلى معونة من يبذل العون لغيره، ويسعوا في خدمته، وقضاء حوائجه، والاهتمام بشؤونه، والفضل منه وإليه سبحانه، ولكن سخر الناس بعضهم لبعض.
طريق الجنة:
قوله-صلى الله عليه وسلم-:"ومن سلك طريقاً يلتمسُ فيه علماً، سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة" قد يكون المراد السلوك الحقيقي للطريق، وهو المشي بما هيأ الله لنا من وسائل إلى مجالس العلماء، وقد يكون سلوك الطريق المعنوي المؤدي لحصول العلم، مثل حفظه ومدارسته ومذاكرته ومطالعته وكتابته والتفهم له ونحو ذلك من الطرق، أما قوله-صلى الله عليه وسلم-:"سهل الله به طريقاً إلى الجنة" قد يراد به تسهيل حصوله على العلم الذي هو طريق الجنة، أو يسهل له-إذا ابتغى به وجه الله-الانتفاع به والعمل بمقتضاه فيكون العلم سبباً لهدايته ولدخوله الجنة، أو يسهل الله له طريق الجنة يوم القيامة، من اجتياز الصراط، وما بعده من الأهوال، وما قبله، والله أعلم.
فالعلم النافع هو طريق معرفة الله-عزوجل- والوصول إلى رضوانه والفوز بقربه، قال- تعالى-:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} سورة فاطر: من الآية28.
ذكر الله –عز وجل-:
قوله-صلى الله عليه وسلم-:"وما جلس قومٌ في بيت من بيوتِ الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهمُ السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده"(/3)
إن ذكر الله- عز وجل- من أعظم العبادات، قال-تعالى-:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} سورة العنكبوت:45.
وذلك أن ذكر الله-عز وجل- يحمل الإنسان على التزام شرعه في كل شأن من شؤونه، ويشعره برقابة الله- تعالى- عليه فيكون له رقيب من نفسه، فيستقيم سلوكه ويصلح حاله مع الله- تعالى- ومع الخلق، ولذا أمر المسلم بذكر الله- تبارك وتعالى- في كل أحيانه وأحواله، قال- سبحانه-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} سورة الأحزاب:41. أي صباحاً ومساءً، والمراد: في كل الأوقات. قال- سبحانه-:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} سورة النساء:103. وخير ما يذكر به الله- عز وجل- كلامه المنزل على المصطفى-صلى الله عليه وسلم-لما فيه-إلى جانب الذكر- من بيان لشرع الله- تعالى-، وما يجب على المسلم التزامه، وما ينبغي عليه اجتنابه، فيأخذ منه المنهج الذي يقوم عليه سلوكه ويأخذ به إلى الفوز والسعادة.
وخير الأماكن لذكر الله-عز وجل-وتلاوة القرآن, وتعلم العلم, هي المساجد بيوت الله-سبحانه-، يعمرها في أرضه المؤمنون، وعمارتها الحقيقية إنما تكون بالعلم والذكر إلى جانب العبادة من صلاة واعتكاف ونحوها.
لقد كان فضل الله –عزوجل- عظيماً على أولئك الذين جلسوا يتلون كتابه، إذ حباهم بمكرمات أربع، كل منها دليل على علو شأنهم عنده ورفعة منزلتهم، وكفيل لهم برضوان الله- تبارك وتعالى- ومغفرته وقبوله:
1- قوله:"نزلت عليهم السكينة"، عن البراء بن عازب –رضي الله عنه-قال:" قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، فذكر ذلك للنبي-صلى الله عليه وسلم-فقال:"اقرأ فلان، فإنها السكينة تنزلت 19. وبهذه السكينة يطمئن القلب، وتهدأ النفس، وينشرح الصدر، ويستقر البال والفكر، قال- تعالى-:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} سورة الرعد:28.
2- قوله:"غشيتهم الرحمة"،عن سلمان-رضي الله عنه-:أنه كان في عصابة يذكرون الله-تعالى-، فمرَّ بهم رسول الله-صلى الله عليه وسلم-,فقال:"ماكنتم تقولون؟ فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم، فأردت أن أشارككم فيها" 20. فهذه الرحمة هي أعظم ما يحظى به المؤمن وخير ما يناله المسلم كثمرة لجهده في هذه الحياة، قال- تعالى-:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} سورة يونس:58. فطوبى لهؤلاء الذين نالتهم الرحمة فكانت تلاوتهم لكتاب الله-عز وجل- ومدارستهم له عنواناً أنهم من المحسنين: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} سورة الأعراف: من الآية56.
3- قوله-صلى الله عليه وسلم-:(حفتهم الملائكة)، عن أسيد بن حضير-رضي الله عنه- قال:" بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكنت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها. فأشفق أن تصيبه، فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي-صلى الله عليه وسلم- فقال:"اقرأ يا بن حضير، اقرأ يا بن حضير" قال: فأشفقت يا رسول الله، أن تطأ يحيى، وكان منها قريباً، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها. قال:"وتدري ما ذاك؟". قال: لا، قال:"تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم"21.
3-
4- قوله-صلى الله عليه وسلم-:(ذكرهم الله فيمن عنده). قال الله- سبحانه وتعالى-:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} سورة البقرة:152.فإذا ذكر العبد المؤمن ربه، بتلاوة كتابه وسماع آياته، قابله الله- عز وجل- على فعله من جنسه فذكره-سبحانه- في عليائه، وشتان ما بين الذكرين، ففي ذكر الله- تعالى- لعبده الرفعة، والمغفرة والرحمة، والقبول والرضوان.
عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال النبي-صلى الله عليه وسلم-:"يقول الله تعالى:أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني: فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"22.
الجزاء على الأعمال لا على الأنساب:(/4)
قوله- صلى الله عليه وسلم-:"ومن بطأ به عمله،لم يسرع به نسبه", قال النووي- رحمه الله تعالى: "من كان عمله ناقصاً لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال فينبغي ألا يتكل على شرف النسب وفضيلة الآباء، ويقصر في العمل"23. ويشهد لذلك قوله- تعالى- :{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} سورة الأنعام:132.
وقال- تعالى-:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} سورة المؤمنون:101.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة-رضي الله عنه-,قال:" قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حين أنزل عليه:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} سورة الشعراء:214: " يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً "24. فمنزلة الإنسان يوم القيامة على قدر إيمانه، وعمله، وسواء أكان ذا نسب رفيع أو وضيع وحول هذا المعنى قال بعضهم:
لعمرك ما الإنسان إلا بدينه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب25
ومما يرشد إليه الحديث:
1. أن الجزاء عند الله- تعالى- من جنس العمل، فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج، والعون بالعون، والستر بالستر، والتيسير بالتيسير.
2. الترغيب في الإحسان إلى العباد.
3. المسارعة للتوبة من الذنوب والخطايا.
4. الاهتمام بكتاب الله- تعالى-.
5. فضل الجلوس في بيوت الله لمدارسة العلم.
6. طلب العون من الله- تعالى- والتيسير.
7. ملازمة تلاوة القرآن والاجتماع لذلك.
8. الحذر من تطرق الرياء في طلب العلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - صحيح مسلم (2699)، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار- باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر).
2 - شرح مسلم.
3 - راجع: قواعد وفوائد ص 308.
4 -- متفق عليه.
5 - متفق عليه.
6 - متفق عليه.
7 - البخاري.
8 - رواه ابن حبان.
9 - رواه البخاري- (4712). ومسلم(94).
10 -- صحيح مسلم (3006)
11 - رواه مسلم .
12 - رواه ابن ماجه
13 - رواه أبو داود(4859)، وأحمد(4/420-421). وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه كتاب جامع العلوم والحكم الحديث صحيح.
14 - كتاب ديوان الإمام الشافعي ص56
15 - متفق عليه.
16 متفق عليه.
17 متفق عليه.
18 - صحيح مسلم.
19 - متفق عليه.
20 - رواه الحاكم في المستدرك(1/122).، وصححه ، ووافقه الذهبي.
21 - صحيح مسلم.
22 -- متفق عليه.
23 - راجع: شرح مسلم كتاب الذكر(15/551).
24 - متفق عليه.
25 - انظر: جامع العلوم والحكم (2/310).(/5)