11 - سرعة انصراف الناس بسياراتهم مع مزاحمة الحجاج مما يؤدي إلى حوادث.
12 - جمع حصى الجمار ليوم العيد وأيام التشريق سبعين حصاة.
13 - غسل حصى الجمار.
يوم النحر اليوم العاشر من ذي الحجة:
أعمال هذا اليوم:
1 - الدفع من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس بسكينة وخشوع.
2 - يستحب الإسراع عند المرور بوادي محسر إن تيسر ذلك.
3 - الانشغال بالتلبية حتى يصل جمرة العقبة ثم يقطع ويجعل منى عن يمينه والبيت عن يساره، ويرمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات يرفع يده عند كل حصاة ويكبر، ويحرص الحاج على ضرب الشاخص ويجزئه إذا وقع الحصى في الحوض.
4 - ذبح الهدي، ويستحب أن يباشره الحاج إن تيسر كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول عند ذبحه: (بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك)(7) ويوجهه إلى القبلة.
5 - يحلق شعر رأسه أو يقصر والحلق أفضل، ولا يكفي تقصير بعض شعر الرأس بل لا بد من تقصيره كله كالحلق، والمرأة تقصر من كل ظفيرة قدر أُنملة.
6 - بعد رمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير يباح للمحرم كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النكاح، ويسمى هذا التحلل الأول.
7 - يسن له بعد هذا التحلل التنظف والتطيب، والتوجه إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، ويسمى هذا الطواف (طواف الزيارة)، وهو ركن لا يتم الحج إلا به، وبعده يحل له كل شيء حتى النساء.
8 - السعي بين الصفا والمروة للمتمتع والمفرد والقارن الذي لم يسع مع طواف القدوم.
9 - إن قدم النحر على الرمي أو الطواف عليهما أو الحلق أجزأه ذلك، فيفعل الحاج الأرفق به، وإن كان الأفضل الرمي ثم الذبح ثم الحلق ثم الطواف؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُسأل يوم النحر بمنى فيقول: (لا حرج، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، قال: رميت بعدما أصبت فقال: لا حرج)(8).
تنبيهات على بعض المخالفات:
1 - رمي الجمار من بعيد، وعدم التأكد من وصولها إلى الشاخص أو الحوض.
2 - توكيل بعض الأقوياء غيرهم في الرمي مع أن التوكيل إنما ورد عن الضعفاء ونحوهم.
3 - رمي الجمرة بالنعال والحجارة الكبيرة ونحوها.
4 - القول مع كل جمرة: اللهم إغضاباً للشيطان وإرضاءً للرحمن.
5 - الوقوف للدعاء عند جمرة العقبة.
6 - رمي جمرة العقبة من خلفها.
7 - اعتقاد أن الشيطان عند الجمرات، وتسمية بعض الحجاج له شيطاناً كبيراً وشيطاناً صغيراً.
8 - بعض الحجاج - هداهم الله - في يوم العيد يحلقون لحاهم ظناً أن ذلك من الزينة وهذه معصية في وقت ومكان فاضل.
9 - تعريض الهدي بعد ذبحها إلى الإتلاف مع أنه يمكن نقلها إلى الضعفاء.
10 - الرمل والاضطباع في طواف الإفاضة والوداع، وإنما الذي شرع هو في طواف القدوم.
11 - المزاحمة الشديدة للوصول إلى الحجر لتقبيله حتى إنه يؤدي في بعض الأحيان إلى المقاتلة والمشاحنة والأقوال المنكرة التي لا تليق بهذا العمل ولا هذا المكان والله - تعالى- يقول: (( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ))البقرة: 197.
12 - اعتقاد البعض أن الحجر نافع بذاته ولذلك تجدهم إذا استلموه مسحوا بأيديهم على بقية أجسادهم وهذا جهل وضلال، فالنافع هو الله وحده، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما استلم الحجر قال: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك)(9).
13 - استلام بعض الحجاج لجميع أركان الكعبة، وربما استلموا جدرانها وتمسحوا بها وهذا جهل، فإن الاستلام عبادة وتعظيم لله - عز وجل -، فيجب الوقوف فيه على ما ورد؛ لأن الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يستلم من البيت سوى الركن اليماني والحجر الأسود.
14 - تقبيل الركن اليماني وهذا خطأ فالركن يستلم باليد.
15 - تخصيص كل شوط بدعاء معين لا يدعو فيه بغيره.
16 - الدعاء الجماعي وما فيه من التشويش على الطائفين، وهذا من البدع حيث لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة - رضي الله عنهم -.
17 - الصلاة خلف المقام مباشرة مع وجود الزحام الشديد، ويمكن أن يصلي في أي موضع من الحرم.
18 - تطويل القراءة في سنة الطواف، ثم رفع اليدين والدعاء بعدها، وهذا مخالف لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
19 - طواف بعض الحجاج جماعات متشابكين فهذا فيه مضايقة شديدة لعباد الله.
20 - الطواف حول الكعبة من داخل الحِجْرِ وهذا غير صحيح.
21 – التكبير عند محاذاة الركن اليماني مع عدم الاستلام.
22 - الجمع بين الصلوات في منى.
23 - ترك المبيت بمنى.
أيام التشريق.. الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر:
أعمال هذه الأيام:
1 - رمي الجمرات الثلاث، يبدأ بالصغرى ثم الوسطى ثم العقبة الكبرى، يرمي كل جمرة بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة يرميها في اليومين الحادي عشر والثاني عشر (إن تعجل)، وفي اليوم الثالث عشر (إن تأخر).(/4)
2 - يسن له بعد الرمي أن يتنحى يميناً ويستقبل القبلة ثم يدعو طويلاً رافعاً يديه، يفعل ذلك عند الصغرى والوسطى، أما العقبة الكبرى فلا يفعل ذلك عندها.
3 - المبيت بمنى وهو واجب.
4 - طواف الوداع وهو آخر أعمال الحج فإذا انتهى الحاج من حجه وقضاء حوائجه بمكة، وعزم على الرحيل؛ فعليه أن يودع البيت بالطواف لقول ابن عباس - رضي الله عنه -: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض"(10).
5 - استغلال هذه الأيام بطاعة الله من قراءة القرآن وذكر وتكبير وغيرها، فإذا قضى الحاج مناسكه فيستحب له أن يذكر الله، ويكثر من ذكره استجابة لما أرشد إليه ربنا - عز وجل - في قوله: (( فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ))(200) سورة البقرة.
تنبيهات على بعض المخالفات:
1 - ترك الدعاء عند الجمرة الصغرى والوسطى.
2 - رمي الجمار قبل الزوال مع أن وقته يبدأ بزوال الشمس.
3 - رمي الحصى بشدة وعنف، وصراخ وسب وشتم لهذه الشياطين على زعمهم وهذا جهل، وإنما شرع رمي الجمار لإقامة ذكر الله، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر على إثر كل حصاة.
4 - الدعاء عند جمرة العقبة.
5 - إن بعض الحجاج يبدأ الرمي بجمرة العقبة ثم الوسطى ثم الصغرى وهذا خطأ والصحيح العكس.
6 - رميهم الحصى جميعاً بكف واحدة مرة واحدة وهذا خطأ فاحش، وقد قال أهل العلم إذا رمى بكف واحد أكثر من حصاة فلن يحتسب له سوى حصاة واحدة، والواجب أن يرمي الحصى واحدة واحدة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
7 - تهاون بعض الحجاج برمي الجمار بأنفسهم، فتراهم يوكلون من يرمي عنهم مع قدرتهم على الرمي، وهذا مخالف لما أمر الله - تعالى- به من إتمام الحج حيث يقول - سبحانه -: (( وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ))البقرة: 196.
8 - توكيل بعضهم بالرمي وسفره مساء الحادي عشر، فيترك المبيت وبعض الرمي.
9 - نزول بعض الحجاج من منى يوم النحر قبل رمي الجمار؛ ليطوفوا للوداع، ثم يرجعوا إلى منى فيرموا الجمرات، ثم يسافروا وهذا لا يجوز؛ لأنه مخالف لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون آخر عهد الحاج بالبيت، وإنما الوداع آخر أعمال الحج.
وأخيراً: يا من منّ الله - تعالى- عليه بأداء هذه الفريضة، ويا من أحسن أداؤها فعاد كما ولدته أمه طاهراً نقياً من الذنوب؛ اتق الله فيما بقي من عمرك، وإياك والعودة إلى التقصير في الطاعات والعبادات، وإياك واقتراف الموبقات.
أسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معصيته، وأن يبلغنا بيته الحرام، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1- أخرجه البخاري كتاب الحج باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن يكن معه هدي برقم (1493).
2- الفقه الإسلامي وأدلته 3/121، 184، 211.
3- صفة الحج لابن عثيمين - رحمه الله - (33-37)
4- أخرجه البخاري كتاب أبواب الصلاة برقم (352)، ومسلم كتاب الصلاة برقم (516).
5 -رواه الإمام مالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن(1/214)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (503).
6- مسند أبي يعلى (4/93) برقم(2126)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6748).
7- أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر، وصححه الألباني في الإرواء وقال: صحيح .وعزوه لحديث ابن عمر وهم وإنما هو من حديث جابر- رضي الله عنه-(4/366).
8 -رواه البخاري، كتاب الحج باب إذا رمى بعدما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسياً أو جاهلاً، برقم (1648).
9- البخاري كتاب الحج باب في الرمل في الحج والعمرة برقم (1528).
10- أخرجه البخاري كتاب الحج باب طواف الوداع برقم (1668).(/5)
المنهج الأمثل لخطبة الجمعة
لفضيلة الشيخ/ صالح بن عبد الله بن حميد
الحلقة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وأشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:بعد ما سبق من مقدمات وممهدات في تعريف الخطبة وغرضها وأنواعها وأثرها هذا دخول في جزء مهم من
مقاصد هذا البحث، ذلكم هو جزء الإعداد والبناء، وسوف ينتظم ذلك الحديث عن:
عناصر البناء وطريقة البناء.
توطئة: لا يتوهم متوهم أن إعداد الخطبة وتحضيرها
مما يعيب القدرة أو يشكك في الأهلية، ولكن أن يتفوه المتصدر للخطابة وحديث
الناس بكلام مبتذلٍ لا قيمة له هزيل في معناه متهدم في مبناه. فهذا مما لا
يرتضيه عاقل.على الخطيب أن يعلم أنه كالخائض غمار معركة، فليتدرع بدروعها
ويتترس بتروسها ويلبس لها لأمتها، ولا يكون ذلك إلا بالاستعداد والتهيوء وأخذ
العدة لكل موقف.إن ذا الاطلاع الواسع والعلم الغزير إن لم يراجع نفسه حينًا
بعد حين ويُفكر طويلاً فيما يعتزم قوله ويزوق في نفسه أو قرطاسه من الألفاظ
والعبارات المناسبة، فلسوف يهتز موقفه ويضعف أسلوبه ويتراخى أداؤه، ويتناقص
عطاؤه، وينحدر في منجرف الابتذال السحيق وتكون معالجاته سطحية تفقد تأثيرها
وتخسر جمهورها.
عناصر البناء:من المعلوم مما سبق ويتأكد فيما سيأتي أن الخطبة
وسائر الأعمال العلمية والأدبية تحتاج إلى أسس ثلاثة:قلب مفكر، وبيان مصور، ولسان معبر.
فالأول يكون به إيجاد الموضوع وابتكاره وتوليده، وبالثاني تنسيقه
وترتيبه ورصه، وبالثالث عرضه والتعبير به.وهذا بسط لهذه العناصر.
1- الإيجاد
والابتكار (القلب المفكر).
وقد يعبر عنه بالاختيار (اختيار الموضوع).
من المعلوم أن بواعث الاختيار متعددة، والخطيب كلما كان صادقًا في قصده مهتمًا
بجمهوره وسامعيه جادًا في طرحه فسوف يحسن الاختيار ويقدح زناد فكره بجدية نحو
الابتكار وحسن الاختيار، يُضاف إلى ذلك الظروف المحيطة والأحوال المستجدة
والأغراض الباعثة التي تستدعي الحديث عن بعض الوقائع والتعليق على بعض الأحداث
والتفسير لبعض المواقف وتصحيح بعض المفاهيم، ونظر الخطيب الحصيف يدله على تقديم
بعض وتأخير بعض وحسن التفسير ونوع التعليق.
2- التنسيق والترتيب: ( البيان المصور ):
لا يخفى أن طريق البيان المصور هو الأسلوب.للأسلوب سلطان على القلوب
والأسماع، الأسلوب ألفاظ وجمل ينطق بها المتكلم، ويتحدث بها الخطيب، لا تكاد
تخرج من فيه حتى تعلو الهيبة وجوه السامعين، وتمتد الأعناق له احترامًا، ألفاظ
وجمل تثير في النفوس صورًا لا حدّ لها ولا انحصار، محفوفة بالإكبار والتقدير،
إذا كان هذا هو بعض أثر الأسلوب وتأثيره فكيف يكون الشأن في المعنى المحكم وقد
كسي بلفظ جميل، وألقي بأداء منسجم، وعبارات تثير في النفس أخيلة وأماني.
وينبغي أن يلحظ أن ثمت فرقًا بين أسلوب الخطابة وغيرها من ألوان الكتابة والأدب،
فالمستمع يتوجه نحو الخطيب بسمعه وذوقه وفكره، فللكلمات أثر على السمع، وللجرس
في النفس وقع.ومن أجل هذا فينبغي أن تكون ألفاظ الخطبة سهلة النطق لا يتعثر
اللسان في إبرازها، ولا تتزاحم حروفها فلا تتقارب مخارجها ولا تتباعد، كما
ينبغي أن تكون ذات جرس خاص يهز النفس ويثير الشعور، وتكون الجمل ذات مقاطع
قصيرة كل جملة كاملة في معناها.
إن من أهم خصائص الأسلوب الخطابي عنصر الشعور
والوجدان، والإثارة والتشويق وإذا فَقَدَ ذلك فَقَدَ أكبر خصائصه.
أسلوب التكرار والتفنن في التعبير عنصر في الخطابة هام، فالخطيب محتاج إلى تكرار
فكرته ومغايرة تصويره، فمرة بالتقرير ومرة بالاستفهام وأخرى بالاستنكار ورابعة
بالتهكم.أما فن الإيجاز والإطناب فيختلف من حال إلى حال فيراعي حال السامعين
في إقبالهم ومللهم ونوع الموضوع وظروف الإلقاء وردود الفعل عند السامعين.
أما ألفاظ الخطبة وعباراتها فينبغي أن تتسم بالوضوح والبيان لتكون سهلة الإدراك من
السامعين سريعة الإيصال إلى المقصود بعيدة عن التكلف.
وفي ذات الوقت تبقى
محترمة غير مبتذلة تحفظ للخطيب وخطبته الهيبة والوقار وللموقف مكانته
وجلاله.فهي ألفاظ منتقاة في غير إغراب، أسلوبها سهل ممتنع يفهمه الدهماء ولا
يجفو عنه الأكفاء.
ومن الحذق في المعرفة أن يُدرك الخطيب أن خطاب الحماس غير
خطاب التألم، وحديث الترغيب غير حديث الترهيب، وأسلوب تعداد المفاخر وزرع الثقة
غير أسلوب التواضع وذم الكبر والمتكبرين، والخطيب المتمرس هو الذي يضع كل نوع
في موضعه ويختار لكل كلمة قالبها وميدانها.
أما السجع فيجمل منه ما ليس بمتكلف،
قصير الفقرات، سهل المأخذ، يخف على السمع، ويحرك المشاعر بحسن جرسه، ويكون
خفيفًا سهلاً إذا سلم من الغثاثة وجانب الركاكة، اللفظ فيه تابع للمعنى وليس
المعنى تابعًا للفظ، ذلك أن السجع حلية والحلية لا تحقق غرضها في الجمال ما لم
تكن قليلة غير متكلفة حسنة التوزيع تبرز المحاسن ولا تغطيها.
ويرتبط بالسجع(/1)
رعاية المقاطع والفواصل فتكون جملاً قصيرة نظرًا للفائدة عند الوقف في آخرها،
والجملة إذا طالت وتأخرت إفادتها للسامع أدركه الثقل والملل، وضاعت عليه
الفائدة وحسن المتابعة.
اللسان المعبر:ويقصد به الإلقاء وحسن الإجابة فيه،
وقبل أن نبسط القول فيه يحسن التطرق لحديث مقارنة بين الارتجال والكتابة.
بين الارتجال والكتابة:كثير من الكاتبين والناقدين يستحسنون في الخطيب أن يلقي
خطبته ارتجالاً، فهذا عندهم أعظم أثرًا وأكثر انفعالاً وأقدر على إعطاء الموقف
متطلباته من خفض ورفع وتهدئة وزجر، وقد يدون المرتجل عناصر مقولته في كلمات أو
جمل يعاود النظر إليها بين فينة وفينة.وقد يوجد في الخطباء من يعد الخطبة
ويحسن تحبيرها ثم يحفظها حفظًا عن ظهر قلب.والارتجال بأنواعه وطرقه لا يكون
مؤثرًا ما لم يسبقه إعداد محكم وحبك للعناصر في النفس على نحو ما سبق في الكلام
عن الأسلوب.
وثمت فئة من الناس تكتب الخطبة وتلقيها من القرطاس وهو مسلك مقبول،
ولكن ذلك لا يؤتي ثمرته ولا يحقق غايته، ما لم يكن الخطيب أحسن الإعداد وتأمل
فيما كتب وأعاد النظر فيه تأملاً وقراءة وإصلاحًا وتخيرًا للألفاظ وانتقاءً
للعبارات، بحيث يكون في إلقائه متفاعلاً مع ما يقول مستوعبًا لما يلقي ليحرك
المشاعر ويثير العواطف ويستحسن أن يكون في قراءته وإلقائه مشرفًا على السامعين
بنظره بين فترة وأخرى ليعرف حالهم ويسبر مشاعرهم وانفعالاتهم.
الإلقاء:هو الغاية التي ينتهي إليها الإعداد والبناء، وهو الصورة التي يتلقى بها السامع، حصيلة ما جاد به خطيبه فلا يبقى للخطبة أثرها ولا لحسن الأسلوب وقعه ولا لجودة
التحضير ثمرتها ما لم يُصب في قالب من الإلقاء يحفظ الجهد ويبقي المهابة ويشنف
الأسماع، ومن أجل تحقيق ذلك يحسن مراعاة ما يلي:
جودة النطق: فيخرج الحروف من مخارجها من غير تشدق أو تكلف فيلقيها حسنة صحيحة واضحة في يسر وترفق
وتدفق.مجانبة اللحن:ينبغي للخطيب أن يعتني عناية تامة باللغة العربية صرفًا
ونحوًا فينطق لغة عربية صحيحة، فصيحة فاللحن يفسد المعنى ويقلب المقصود، وإذا
فسد المعنى أو التبس ذهب رونق الخطبة وبهاؤها وحُسْن وقعها إضافة إلى فساد
المعنى من حيث يدري أو لا يدري.
التمهل في الإلقاء:
النطق السريع المتعجل يفقد المتابعة كما أنه قد يشوه إخراج الحروف فيختلط بعضها ببعض وتتداخل المعاني
وتلتبس العبارات وقد يؤدي به التعجل إلى إهمال الوقوف عند المقاطع ورعاية
الفواصل.ومن جهة أخرى فإن التمهل والترسل في الأداء من أول الدلائل على رباطة
الجأش فيجتمع للخطيب الهدوء في الكلام، والأناة في النطق، والجزالة في
الصوت.
وهذا التمهل الذي ندعو إليه لا ينبغي أن يقود إلى هدوء بارد وتثاقل مميت
ولكنه تمهل لا يعارض ما يُطلب من الخطيب من خفض ورفع وعلو نبرات مما يبعث على
الحياة وحسن المتابعة ودفع السآمة.
الحركات والإشارات:للإشارات والحركات أثرها
أثناء الحديث والخطابة، ومن هذه الحركات ما هو لا إرادي فالغاضب يقطب جبينه
ويعبس وجهه، وذو الحماس تنتفخ أوداجه وتحمر عيناه، ومنهم من تنقبض أصابعه
وتنبسط، ومنهم من يبكي خشوعًا ورقة ويعلو صوته حماسًا وتفاعلاً.
وبعضها إرادي من إشارات توجيهية يحتاج إليها في تنبيه لبعيد أو قريب إشارات تعكس الانفعال
والمشاعر وتعين على مزيد من المتابعة والتوضيح.
وينبغي أن تكون إشارات منضبطة
بقدر معقول وانفعال غير متكلف ومتساوية مع الشعور الحقيقي.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى(/2)
المنهج الأمثل لخطبة الجمعة
لفضيلة الشيخ/ صالح بن عبد الله بن حميد
الحلقة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وأشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:بعد ما سبق من مقدمات وممهدات في تعريف الخطبة وغرضها وأنواعها وأثرها هذا دخول في جزء مهم من
مقاصد هذا البحث، ذلكم هو جزء الإعداد والبناء، وسوف ينتظم ذلك الحديث عن:
عناصر البناء وطريقة البناء.
توطئة: لا يتوهم متوهم أن إعداد الخطبة وتحضيرها
مما يعيب القدرة أو يشكك في الأهلية، ولكن أن يتفوه المتصدر للخطابة وحديث
الناس بكلام مبتذلٍ لا قيمة له هزيل في معناه متهدم في مبناه. فهذا مما لا
يرتضيه عاقل.على الخطيب أن يعلم أنه كالخائض غمار معركة، فليتدرع بدروعها
ويتترس بتروسها ويلبس لها لأمتها، ولا يكون ذلك إلا بالاستعداد والتهيوء وأخذ
العدة لكل موقف.إن ذا الاطلاع الواسع والعلم الغزير إن لم يراجع نفسه حينًا
بعد حين ويُفكر طويلاً فيما يعتزم قوله ويزوق في نفسه أو قرطاسه من الألفاظ
والعبارات المناسبة، فلسوف يهتز موقفه ويضعف أسلوبه ويتراخى أداؤه، ويتناقص
عطاؤه، وينحدر في منجرف الابتذال السحيق وتكون معالجاته سطحية تفقد تأثيرها
وتخسر جمهورها.
عناصر البناء:من المعلوم مما سبق ويتأكد فيما سيأتي أن الخطبة
وسائر الأعمال العلمية والأدبية تحتاج إلى أسس ثلاثة:قلب مفكر، وبيان مصور، ولسان معبر.
فالأول يكون به إيجاد الموضوع وابتكاره وتوليده، وبالثاني تنسيقه
وترتيبه ورصه، وبالثالث عرضه والتعبير به.وهذا بسط لهذه العناصر.
1- الإيجاد
والابتكار (القلب المفكر).
وقد يعبر عنه بالاختيار (اختيار الموضوع).
من المعلوم أن بواعث الاختيار متعددة، والخطيب كلما كان صادقًا في قصده مهتمًا
بجمهوره وسامعيه جادًا في طرحه فسوف يحسن الاختيار ويقدح زناد فكره بجدية نحو
الابتكار وحسن الاختيار، يُضاف إلى ذلك الظروف المحيطة والأحوال المستجدة
والأغراض الباعثة التي تستدعي الحديث عن بعض الوقائع والتعليق على بعض الأحداث
والتفسير لبعض المواقف وتصحيح بعض المفاهيم، ونظر الخطيب الحصيف يدله على تقديم
بعض وتأخير بعض وحسن التفسير ونوع التعليق.
2- التنسيق والترتيب: ( البيان المصور ):
لا يخفى أن طريق البيان المصور هو الأسلوب.للأسلوب سلطان على القلوب
والأسماع، الأسلوب ألفاظ وجمل ينطق بها المتكلم، ويتحدث بها الخطيب، لا تكاد
تخرج من فيه حتى تعلو الهيبة وجوه السامعين، وتمتد الأعناق له احترامًا، ألفاظ
وجمل تثير في النفوس صورًا لا حدّ لها ولا انحصار، محفوفة بالإكبار والتقدير،
إذا كان هذا هو بعض أثر الأسلوب وتأثيره فكيف يكون الشأن في المعنى المحكم وقد
كسي بلفظ جميل، وألقي بأداء منسجم، وعبارات تثير في النفس أخيلة وأماني.
وينبغي أن يلحظ أن ثمت فرقًا بين أسلوب الخطابة وغيرها من ألوان الكتابة والأدب،
فالمستمع يتوجه نحو الخطيب بسمعه وذوقه وفكره، فللكلمات أثر على السمع، وللجرس
في النفس وقع.ومن أجل هذا فينبغي أن تكون ألفاظ الخطبة سهلة النطق لا يتعثر
اللسان في إبرازها، ولا تتزاحم حروفها فلا تتقارب مخارجها ولا تتباعد، كما
ينبغي أن تكون ذات جرس خاص يهز النفس ويثير الشعور، وتكون الجمل ذات مقاطع
قصيرة كل جملة كاملة في معناها.
إن من أهم خصائص الأسلوب الخطابي عنصر الشعور
والوجدان، والإثارة والتشويق وإذا فَقَدَ ذلك فَقَدَ أكبر خصائصه.
أسلوب التكرار والتفنن في التعبير عنصر في الخطابة هام، فالخطيب محتاج إلى تكرار
فكرته ومغايرة تصويره، فمرة بالتقرير ومرة بالاستفهام وأخرى بالاستنكار ورابعة
بالتهكم.أما فن الإيجاز والإطناب فيختلف من حال إلى حال فيراعي حال السامعين
في إقبالهم ومللهم ونوع الموضوع وظروف الإلقاء وردود الفعل عند السامعين.
أما ألفاظ الخطبة وعباراتها فينبغي أن تتسم بالوضوح والبيان لتكون سهلة الإدراك من
السامعين سريعة الإيصال إلى المقصود بعيدة عن التكلف.
وفي ذات الوقت تبقى
محترمة غير مبتذلة تحفظ للخطيب وخطبته الهيبة والوقار وللموقف مكانته
وجلاله.فهي ألفاظ منتقاة في غير إغراب، أسلوبها سهل ممتنع يفهمه الدهماء ولا
يجفو عنه الأكفاء.
ومن الحذق في المعرفة أن يُدرك الخطيب أن خطاب الحماس غير
خطاب التألم، وحديث الترغيب غير حديث الترهيب، وأسلوب تعداد المفاخر وزرع الثقة
غير أسلوب التواضع وذم الكبر والمتكبرين، والخطيب المتمرس هو الذي يضع كل نوع
في موضعه ويختار لكل كلمة قالبها وميدانها.
أما السجع فيجمل منه ما ليس بمتكلف،
قصير الفقرات، سهل المأخذ، يخف على السمع، ويحرك المشاعر بحسن جرسه، ويكون
خفيفًا سهلاً إذا سلم من الغثاثة وجانب الركاكة، اللفظ فيه تابع للمعنى وليس
المعنى تابعًا للفظ، ذلك أن السجع حلية والحلية لا تحقق غرضها في الجمال ما لم
تكن قليلة غير متكلفة حسنة التوزيع تبرز المحاسن ولا تغطيها.
ويرتبط بالسجع(/1)
رعاية المقاطع والفواصل فتكون جملاً قصيرة نظرًا للفائدة عند الوقف في آخرها،
والجملة إذا طالت وتأخرت إفادتها للسامع أدركه الثقل والملل، وضاعت عليه
الفائدة وحسن المتابعة.
اللسان المعبر:ويقصد به الإلقاء وحسن الإجابة فيه،
وقبل أن نبسط القول فيه يحسن التطرق لحديث مقارنة بين الارتجال والكتابة.
بين الارتجال والكتابة:كثير من الكاتبين والناقدين يستحسنون في الخطيب أن يلقي
خطبته ارتجالاً، فهذا عندهم أعظم أثرًا وأكثر انفعالاً وأقدر على إعطاء الموقف
متطلباته من خفض ورفع وتهدئة وزجر، وقد يدون المرتجل عناصر مقولته في كلمات أو
جمل يعاود النظر إليها بين فينة وفينة.وقد يوجد في الخطباء من يعد الخطبة
ويحسن تحبيرها ثم يحفظها حفظًا عن ظهر قلب.والارتجال بأنواعه وطرقه لا يكون
مؤثرًا ما لم يسبقه إعداد محكم وحبك للعناصر في النفس على نحو ما سبق في الكلام
عن الأسلوب.
وثمت فئة من الناس تكتب الخطبة وتلقيها من القرطاس وهو مسلك مقبول،
ولكن ذلك لا يؤتي ثمرته ولا يحقق غايته، ما لم يكن الخطيب أحسن الإعداد وتأمل
فيما كتب وأعاد النظر فيه تأملاً وقراءة وإصلاحًا وتخيرًا للألفاظ وانتقاءً
للعبارات، بحيث يكون في إلقائه متفاعلاً مع ما يقول مستوعبًا لما يلقي ليحرك
المشاعر ويثير العواطف ويستحسن أن يكون في قراءته وإلقائه مشرفًا على السامعين
بنظره بين فترة وأخرى ليعرف حالهم ويسبر مشاعرهم وانفعالاتهم.
الإلقاء:هو الغاية التي ينتهي إليها الإعداد والبناء، وهو الصورة التي يتلقى بها السامع، حصيلة ما جاد به خطيبه فلا يبقى للخطبة أثرها ولا لحسن الأسلوب وقعه ولا لجودة
التحضير ثمرتها ما لم يُصب في قالب من الإلقاء يحفظ الجهد ويبقي المهابة ويشنف
الأسماع، ومن أجل تحقيق ذلك يحسن مراعاة ما يلي:
جودة النطق: فيخرج الحروف من مخارجها من غير تشدق أو تكلف فيلقيها حسنة صحيحة واضحة في يسر وترفق
وتدفق.مجانبة اللحن:ينبغي للخطيب أن يعتني عناية تامة باللغة العربية صرفًا
ونحوًا فينطق لغة عربية صحيحة، فصيحة فاللحن يفسد المعنى ويقلب المقصود، وإذا
فسد المعنى أو التبس ذهب رونق الخطبة وبهاؤها وحُسْن وقعها إضافة إلى فساد
المعنى من حيث يدري أو لا يدري.
التمهل في الإلقاء:
النطق السريع المتعجل يفقد المتابعة كما أنه قد يشوه إخراج الحروف فيختلط بعضها ببعض وتتداخل المعاني
وتلتبس العبارات وقد يؤدي به التعجل إلى إهمال الوقوف عند المقاطع ورعاية
الفواصل.ومن جهة أخرى فإن التمهل والترسل في الأداء من أول الدلائل على رباطة
الجأش فيجتمع للخطيب الهدوء في الكلام، والأناة في النطق، والجزالة في
الصوت.
وهذا التمهل الذي ندعو إليه لا ينبغي أن يقود إلى هدوء بارد وتثاقل مميت
ولكنه تمهل لا يعارض ما يُطلب من الخطيب من خفض ورفع وعلو نبرات مما يبعث على
الحياة وحسن المتابعة ودفع السآمة.
الحركات والإشارات:للإشارات والحركات أثرها
أثناء الحديث والخطابة، ومن هذه الحركات ما هو لا إرادي فالغاضب يقطب جبينه
ويعبس وجهه، وذو الحماس تنتفخ أوداجه وتحمر عيناه، ومنهم من تنقبض أصابعه
وتنبسط، ومنهم من يبكي خشوعًا ورقة ويعلو صوته حماسًا وتفاعلاً.
وبعضها إرادي من إشارات توجيهية يحتاج إليها في تنبيه لبعيد أو قريب إشارات تعكس الانفعال
والمشاعر وتعين على مزيد من المتابعة والتوضيح.
وينبغي أن تكون إشارات منضبطة
بقدر معقول وانفعال غير متكلف ومتساوية مع الشعور الحقيقي.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى(/2)
المنهج الأمثل لخطبة الجمعة
لفضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد
الحلقة الأولى
إمام وخطيب المسجد الحرام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه، وبعد:
فإن الخطيب والواعظ له دور كبير وأثر بالغ في بيئته ومجتمعه وسامعيه وقومه، فهو قرين المربي والمعلم، ورجل الحسبة والموجّه، وبقدر إحسانه وإخلاصه يتبوأ من قلوب الناس مكانًا، ويضع اللَّه له قبولاً قد لا يزاحمه فيه أصحاب الوجاهات ولا يدانيه فيه ذوو المقامات، ومردُّ ذلك إلى حسن الإجادة، وجودة الإفادة والقدرة على التأثير المكسو بلباس التقوى والمُدَثَّر بدثار الإخلاص والورع.
وهذه كلمات في النموذج الأمثل في إعداد الخطبة وصفات الخطيب، وقد حرصت أن تكون شاملة لخصائص الخطيب والخطبة ووجوه التأثير في الخطبة وإحسان إعدادها مقدمًا لذلك بمقدمة في مهمة الخطيب الشاقة وتعريف الخطبة وأنواعها وبيان أثرها.
الاستعداد الكافي للخطيب:
مهمة الخطيب مهمة شاقة ولا ريب، مشقة تحتم عليه أن يستعد الاستعداد الكافي في صواب الفكر وحسن التعبير وطلاقة اللسان وجودة الإلقاء.
مطلوب من الخطيب أن يُحَدِّثَ الناس بما يمسُّ حياتهم ولا ينقطع عن ماضيهم، ويردهم إلى قواعد الدين ومبادئه، يبصرهم بحكمه وأحكامه برفق ويُعرفهم آثار التقوى والصلاح في الآخرة والأولى، مهمته البعد عن المعاني المكرورة وجالبات الملل.
الدعوة إلى التجديد والتحديث والبعد عن المكرور، لا يغير من الحقيقة الثابتة شيئًا، وهي أن حياة الناس وأحوالهم في كل زمان ومكان صورة واحدة؛ من تصارع الغرائز، واضطراب النفوس، وغليان الأحقاد، وفي مقابل ذلك تلقي أحوالاً من البرود والانصراف والغفلة وعدم المبالاة.
والخطيب عليه أن يُهَدِّئ الثائر، ويبعث الفاتر، يطفئ ثورة الغريزة ويخفض حدة الأحقاد، ويشيع روح المودة، ويبث الإخلاص والتعاون.
نعم إن حياة الناس صورة معادة وتغيرات متناوبة، فأحداث اليوم هي أحداث الأمس، والبواعث والمثيرات في الماضي هي ذاتها في الحاضر.
فإنسان الغابة هو إنسان المدنيَّة، غير أن الأول يحارب بحجر والثاني يرمي بقنبلة، والأول قد يقتل واحدًا أو اثنين، والثاني يقتل عشرات ومئات، القوي في الغابة يستولي على مرعى أو بئر، أما قوي المدنية فيستولي على قطر بأكمله، ويأكل قوت شعب بجملته، وشعوب برمتها ويستبدّ بمصادر طاقة، وموارد حياة مصيرية.
إذا كان ذلك كذلك فكيف يكون الحال لو نجح الدعاة المصلحون في تهذيب الغرائز والتسامي بها.
إنَّ خطيب المسجد وواعظ الجماعة أشد فاعلية في نفوس الجماهير من أي جهاز من أجهزة التوجيه والحكم في المجتمع سواء أكان واليًا أو رجل عسكر أو حارس أمن، إن الجمهور قد يهابون أمثال هؤلاء لكنهم قد لا يحبونهم، أما الخطيب بلسانه ورقة جنانه وتجرده، يقتلع جذور الشر في نفس المجرم ويبعث في نفسه خشية اللَّه، وحب الحق، وقبول العدل، ومعاونة الناس، إن عمله إصلاح الضمائر، وإيقاظ العواطف النبيلة في نفوس الأمة، وبناء الضمائر الحية، وتربية النفوس العالية في عمل خالص وجهد متجرد، يرجو ثواب اللَّه ويروم نفع الناس.
ومن هذا فإنك ترى أن أداء الخطيب عمله على وجهه يكسوه بهاءً وبِشْرًا، ويرفعه إلى مكان عليّ عند الناس.
ولتعلم أن هذا ليس إطراءً ولا مديحًا، ولكنه تنبيه إلى شرف العمل ومشقته وعظم مسئوليته وثقل رسالته، وما تتطلبه من حسن استعداد وشعور صادق بالمسئولية.
وكيف لا يكون ذلك وهذه هي رسالة الأنبياء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ولا غرابة أن يصادف إيذاءً وعداءً، وحسبه أن يكون مقبولاً عند اللَّه والصفوة من عباد اللَّه.
مدخل:
لا يقصد من الكتابة عن الخطابة وأسسها ومبادئها وآدابها، أن تكون مادة ليدرسها الدارس لتجعل منه خطيبًا مفوَّها ومتحدثًا مصقعًا، إن الكتابة والأبحاث والمناهج لا تجعل من العييّ فصيحًا ولا اللسان المعقود طليقًا، ولكن هذه الكتابات والدراسات والبحوث نبراس ومنار يضيء لصاحب المواهب والاستعداد مشعلاً ينمي الموهبة ومصباحًا ينير السبيل فلا يكون حاطب ليل.
هذه الكتابات والبحوث يتكون منها علم ينير الطريق ولا يحمل على السلوك، يرشد إلى الدرب ولا يقسر على السير.
وأنت خبير بأن السراج المنير لا يستفيد منه غير البصير، أما ذو الرمد فغير منتفع، ويكفيك إشارة بأن الكاتب في علم الاقتصاد والعالم في أسسه وقواعده قد يكون أقل الناس مالاً وأضعفهم موردًا.
تعريف الخطبة:
الخطبة: بضم الخاء كلام منثور مسجوع ومرسل، أو مزدوج بينهما غايته التأثير والإقناع.
ويقصد بها هنا الخُطب التي تلقى على المنابر يوم الجمعة، بقصد حمل الناس على الخير، وترغيبهم فيه، وصرفهم عن الشر ودواعيه، وتبصيرهم بأحوالهم وواقع أمرهم حسب ما يقتضيه أمر الشرع.
والخطبة من جانب الخطيب مقدرة على التصرف في فنون الكلم، مرماها التأثير في نفس السامع ومخاطبة وجدانه.
أغراضها:(/1)
الدعوة إلى الصلاح والإصلاح، والاستمساك بأمور الشريعة، وإقامة الحق والعدل، ونشر الفضائل، وتسكين الفتن، وفضّ المشكلات، وتهدئة النفوس الثائرة، وإثارة النفوس الفاترة، ترفع الحق، وتخفض الباطل، هي صوت المظلومين، وواعظ الظالمين، ولسان الهداية، ولقد نادى موسى عليه السلام ربه: قال رب اشرح لي صدري (25) ويسر لي أمري (26) واحلل عقدة من لساني (27) يفقهوا قولي [طه: 25- 28]، فجاء الجواب الرباني: قد أوتيت سؤلك يا موسى [طه: 36].
والغرض هنا الإشارات إلى مجمل الأغراض، وسوف يُزاد الأمر بيانًا من خلال الحديث عن أنواع الخطب وخصائص الخطب المنبرية، والفقرة التالية في أثر الخطبة تعطي مزيد بسط في المقصود.
أثرها:
لا يكاد ينجح صاحب فكرة، أو ينتصر ذو حق، أو يفوز داعية إصلاح إلا بالكلمة البليغة، والحجة الظاهرة، والخطبة الباهرة.
الخطيب المفوّه يلحق بحجته، ويسبق إلى غايته، فيعلو سلطانه، ويتسع ميدانه.
ولهذا فإنّ القائد المحنّك في الجيش يتميز فيما يتميز بذرابة لسانه وحسن خطابه، فيكون خطيبًا مصقعًا ولسنًا مفهوهًا، ولا يُذكر حين يُذكر إلا منذر الجيش نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن بعده خطباء أصحابه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم من بعدهم من صالح سلف الأمة وأئمتها ممن عَلَوْا المنابر فأصغت لهم الآذان ودانت لهم الرقاب.
ولئن كانت الخطبة في بعض مساراتها طريقًا للمجد الشخصي في نيل غايتها وعظيم أثرها فإنها طريق للنفع العام والإصلاح الشامل.
والخطابة مظهر حضاري للمجتمع الراقي المستنير، يعلو قدرها، ويروج سوقها برقي المجتمع، وانتشار الثقافة فيه، كما أنها تخبو حين ضعفه وذلته.
وثمت جانب في التأثير آخر ينبغي مراعاته، وهو أن تأثير الخطيب في سامعيه ليس بالإلزام أو الإفحام، بل مردّه إلى إثارة العاطفة، وحمل السامع على الإذعان والتسليم، ولا يكون ذلك بالدلائل المنطقية تُساق جافة، ولا بالبراهين العقلية تقدم عارية، ولكنه بإثارة العاطفة ومخاطبة الوجدان.
ومن هنا فإنَّ الخطيب قد يستغني عن الدلائل العقلية ولكنه لا يمكن أن يستغني عن المثيرات العاطفية، ولعلك تدرك أن أكثر ما يعتمد عليه الخطيب في حمل السامعين على المراد مخاطبة وجدانهم والتأثير في عواطفهم.
إنّ الخطيب المرموق - كما هو معلوم - يأخذ سامعيه باستدراجه اللبق وكلماته الساحرة وصوته العذب المتردد انخفاضًا وارتفاعًا وإثارة وهدوءًا يُنشئ جوًا عاطفيًا مشحونًا، وهذا معين في التأثير لا ينضب ولا يُملّ.
أما البراهين العقلية فجافة تجلب السآمة.
وحينما يذكر خطاب العاطفة وأثرها فلا يخطر بالبال أن ذلك يعني دغدغة العواطف بالكذب والتزييف، ومخالفة الأقوال للأفعال، فهذا حبله قصير بل ضعيف واهٍ، وهذا ما سيبدو موضحًا في صفات الخطيب إن شاء اللَّه تعالى.
أنواع الخطبة:
الناظر في أغراض الخطبة ومقاصدها ومتطلبات المجتمع من ذلك يستطيع إدراك أنواعها، وهذا سردٌ لأهم أنواعها:
1- الخطب النيابية، وهي الخطب التي تكون في دور النيابة والشورى عاكسة ما يجري داخل هذه القاعات من مناقشات ومداولات وأسئلة واستجوابات مؤيدة ومعارضة.
2- الخطب الانتخابية، وهي خطب تعد وتلقى من أجل الترشيح والتزكية لشخص أو حزب أو مبادئ، مع ما يشتمل عليه ذلك من رد على المعارضين.
3- الخطب الثقافية: وهي ما يلقى في النوادي الثقافية والأنشطة العلمية والجامعية وهي في العادة تتخذ مسارًا ثقافيًا وأدبيًا وعلميًا واجتماعيًا وتوجيهيًا بما يبتعد عن الأغراض السياسية والقضائية والوعظ، وتعلو النبرة فيها بما يعرف بالمعارك الأدبية بين المنتدبين حسب اتجاهاتهم الأدبية، شعرًا ونثرًا وتليدًا وجديدًا وهي في العادة خطب لطبقة مثقفة متأدبة ذات تميز ثقافي خاص.
4- الخطب القضائية، ويظهر هذا النوع في دور القضاء وقاعات المحاكم، حين ينبري المدعون بإلقاء حججهم والسعي في إثبات دعواهم، فيقابلهم المحامون بالدفاع عن موكليهم بأسلوب خطابي بليغ مؤثر ذي ألفاظ منتقاة وإلقاء متميز وحركات مدروسة.
5- الخطب العسكرية: وهي ما يلقيه قائد العسكر على جنده وزملائه بغرض بث الروح المعنوية والقتالية فيهم وبيان شرف موقعهم وكرم موقفهم وشرح خططه العسكرية والميدانية بأسلوب انفعالي مؤثر.
6- خطب المنبر والمواعظ: وهذا هو محل البحث والنظر والتفصيل هنا، وهذا النوع يتجلى في أبهى صوره وكامل هيئته وانتظام شكله في خطب الجمعة المنبرية، وهي خطب أسبوعية دورية تتخذ أغراضًا عدة وترمي إلى مقاصد متنوعة، نشير في هذا التعريف إلى نماذج منها، إذ من المعلوم أن هذه المقاصد والأغراض تتجدد وتتنوع حسب حاجات الناس وتغير الأحوال وتقلب الظروف ودواعي التذكير.
أغراض الخطب المنبرية:
من هذه الأغراض:
أ- تثبيت العقيدة وتقوية الإيمان.
ب- الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه وبيان مزاياه.
جـ- خطب الإصلاح ومحاربة المنكرات.(/2)
د- خطب ذات موضوع خاص أو مسألة مفردة من مسائل الإسلام كالصلاة والصوم وحقوق الوالدين والجوار وحرمة الزنا والخمر والسرقة ونحو ذلك، مما مقصده التذكير والوعظ والتعليم، ونحو ذلك.
هـ- معالجة القضايا المستجدة بنظرة شرعية.
7- أنواع أخرى من الخطب: الأنواع السابقة ليست أنواعًا حاصرة ولكنها تشير إلى الأنواع البارزة السائدة المتميزة في موضوعاتها ومقاصدها، وثمت أنواع أخرى للخطبة غير شهيرة ذات موضوعات ومقاصد أخرى، كخطب النكاح والصلح والمدائح والمراثي والمناسبات الاجتماعية والمحافل الشعبية.
وللحديث بقية إن شاء اللَّه تعالى.(/3)
المهلكات والمنجيات والكفارات والدرجات
عبد العظيم بدوي الخلفي
1087
ملخص المادة العلمية
1- ذم الشح والتحذير منه وذم الهوى واتباعه. 2- فضل العدل في الغضب والرضى وبعض صوره ، وفضل القصد في الغنى والفقر وخشية الله في السر والعلانية. 3- فضل انتظار الصلاة بعد الصلاة.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات، فأما المهلكات فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
وأما المنجيات: فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية.
وأما الكفارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات.
وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام)).
هذا حديث عظيم، بيّن فيه النبي لأمته ما يهلكها وما ينجيها، وما يكفّر خطاياها ويرفع درجاتها، فذكر من كل ثلاثا:
((فأما المهلكات)) أي الموقعات لفاعلها في المهلكات ((فشح مطاع)) والشح في حرص النفس على ما ملكت وبخلها به.
وهو من لوازم النفس مستمد من أصل جبلتها، ولا يذم الإنسان عليه إلا إذا كان مطيعا له، بحيث يمنع الحقوق التي أوجبها الله في ماله، فإن أطاعه هلك.
ولذا أخبر النبي أن الشح ينافي الإيمان، فقال : ((لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا)).
وقال : ((شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع)).
وقال : ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم)).
إن البخل خلق ذميم، ومرض خبيث، يجب على كل مسلم أن يتطهر منه، فإن البخل لا يعود على البخيل بخير في الدنيا ولا في الآخرة، بل البخل شؤم على صاحبه في الدنيا والآخرة. قال تعالى: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير [آل عمران:180].
وقال تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون [التوبة:34-35].
ذلك شؤم البخل في الآخرة، وأما شؤمه في الدنيا فإنه يذهب بالنعمة، قال تعالى: إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصر منها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم [القلم:17-20].
والثاني من المهلكات: ((هوى متبع)) أي يتبعه صاحبه في كل ما يأمر به، حتى إنه ليطيعه في معصية الله، وحينئذ يكون إلهه هواه، كما قال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون [الجاثية:23].
ولقد حكم الله تعالى على متبعي الهوى بالضلال المبين، والظلم العظيم، قال الله تعالى لنبيه : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [القصص:50].
وقال تعالى: يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب [ص:26].
فإياكم واتباع الهوى، فإن جميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله، كما أن البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمى أهلها أهل الأهواء.
قال الشعبي: إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في نار جهنم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمة. والسعيد من خالف هواه، واتبع مرضاة الله قال تعالى: وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [النازعات:40-41].
والثالث من المهلكات: ((إعجاب المرء بنفسه))، والعجب داء عضال، وهو نظر العبد إلى نفسه بعين العز والاستعظام، ونظره لغيره بعين الاحتقار، وقد يكون سبب العجب المال أو الولد، أو الحسب أو النسب، أو العلم أو الرأي، ونحو ذلك.
وثمرة العجب أن يقول المرء: (أنا خير منه) كما قالها إبليس وأتباعه، فقد قال تعالى لإبليس: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ص:75].
وقال صاحب الجنتين لصاحبه: أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا [الكهف:34].
ونهاية العجب الهلاك، فقد قال تعالى لإبليس: فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين [ص:78].
وأما صاحب الجنتين فقد أهلك الله جنتيه وأحيط بثمره [الكهف:42].
ولما أعجب قارون بماله، ونسى فضل الله عليه و قال إنما أوتيته على علم عندي [القصص:78].
كانت عاقبته فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [القصص:81].(/1)
عن النبي قال: ((بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)).
وأما المنجيات فأولاها: ((العدل في الغضب والرضا)):
إن الله تعالى خلق السموات والأرض بالحق، وأنزل الكتاب بالحق والميزان، وأرسل رسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان، والميزان هو العدل، سمي العدل ميزانا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية، والعدل يدعو إلى الألفة والمحبة، ويبعث على الطاعة، وبه تعمر البلاد، فيكثر النسل، ويأمن السلطان لحصول الأمن العام.
والرسول يأمر بالعدل في الغضب والرضا، وهذا كقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [المائدة:8].
ولقد ضرب الخلفاء الراشدون في ذلك المثل الأعلى: فقد جاء رجل إلى عمر ابن الخطاب يأخذ رزقه، وكان جنديا من جنود المسلمين، ولكنه كان في الجاهلية قد قتل أخاً لعمر، فلما رآه عمر أربد وجهه وقال له: يا هذا، إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم. فقال الرجل: أوَ مانعي ذلك عندك حقا من حقوق الله؟ فقال عمر: لا. قال الرجل: ما يضيرني بغضك، إنما يأسى على الحب النساء.
فقد عرف الرجل من ورع عمر ودينه أن شدّة غضبه وغيظه وحنقه عليه وكراهيته له لا يخرج به عن العدل إلى الظلم، فلما علم بعدله ووثق بدينه أمن من بطشه.
ويدخل في ذلك عدل الآباء مع الأبناء، فإن الحب والبغض ذو أثر عظيم في الجور والظلم، فكثيرا ما نسمع أن فلانا كتب ماله لولده فلان لأنه أحب أبنائه إليه، وكثيرا ما نسمع أن فلانة حرمت ابنها فلانا لأنها تبغضه وهذا ظلم عظيم يوبقها ويهلكها، ولا ينجيها من عذاب الله إلا العدل في الغضب والرضا.
عن عامر قال: (سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله فأتى رسول الله فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال: ((أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟)) قال: لا. قال: ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)). قال: فرجع فردّ عطيته).
والثانية من المنجيات: ((القصد في الفقر والغنى))، وذلك من صفات المكرمين عباد الرحمن كما قال تعالى في وصفهم: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما [الفرقان:67].
أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق حاجتهم، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم، ولا يكفونهم، بل عدلا خيارا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، وكان بين ذلك قواما وهذا منهم تأدب بأدب الله وتعظيم لأمره، حيث قال سبحانه: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا [الإسراء:29].
إن المسلم ليس حرا في إنفاق أمواله الخاصة يصرفها كيف يشاء، إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير، فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله، فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية والإسراف والتقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي وحبس الأموال يحدث أزمات، ومثله إطلاقها بغير حساب، ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق، والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان وكان بين ذلك قواما .
وثالثة المنجيات: ((خشية الله في السر والعلانية)).
وإنما قدّم السر لأن تقوى الله فيه أعلى درجة من العلن، لما يخاف من شوب رؤية الناس، وهذه درجة المراقبة إن الله كان عليكم رقيبا [النساء:1].
وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه [يونس:61].
فإذا كان الله رقيبا على العباد وجب على العباد أن يراقبوه، وهذه المراقبة تمنع العبد من ارتكاب المنهيات، وتحثه على فعل الواجبات.
ولا يزال العبد يجتهد في المراقبة حتى يعبد الله كأنه يراه، وهذا هو الإحسان، وهو أعلى درجات الدين، وهؤلاء لهم أجر عظيم، كما قال تعالى: إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير [الملك:12].
وقد أمر الله تعالى نبيه أن يبشرهم بهذا الأجر فقال: إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم [يس:11].
فيا عبد الله: اعلم أن الله ناظر إليك، ومطلع عليك، سميع لأقوالك، عليم بنياتك وأفعالك. فإذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب.
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفى عليه يغيب.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا خشيته في السر والعلانية.
أما الكفارات: فهي الخصال التي من شأنها أن تكفّر (أي تستر) الخطيئة وتمحوها. وأولاها: ((انتظار الصلاة بعد الصلاة)).
وقد جاء في فضل ذلك أحاديث كثيرة.(/2)
منها قوله : ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله!
قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)).
وقوله : ((لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة)).
وعن أنس : أن رسول الله أخّر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل، ثم أقبل علينا بوجهه بعد ما صلى فقال: ((صلى الناس ورقدوا ولم تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها)).
وثانية الكفارات:
((إسباغ الوضوء على السبرات)).
والمراد شدة البرد، فإسباغ الوضوء في شدة البرد من كفارات الخطايا.
والثالثة: ((نقل الأقدام إلى الجماعات)).
وقد ورد في فضل المشي إلى المساجد أحاديث كثيرة، منها ((من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له في الجنة نزلا كلّما غدا أو راح)).
((من تطهر في بيته ثم مضى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة)).
((إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم)).
وعن أبيّ بن كعب قال: كان رجل لا أعلم رجلا أبعد عن المسجد منه، وإنه لا تخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلمات وفي الرمضاء؟ فقال: ما يسرّني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يَكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله : ((قد جمع الله لك ذلك كله)).
وعن جابر قال: أراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله فقال لهم: ((إنه قد بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟ فقالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك. فقال: بني سلمة دياركم تكتب آثاركم. دياركم تُكتب آثاركم)).
وأما الدرجات فهي: ((إطعام الطعام وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام)).
وقد سبق الكلام عنها في الحديث.(/3)
النار أهلها وأهوالها
42
الجنة والنار, اليوم الآخر
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
حال الخائفين حقاً من النار – صفة النار وحال أهلها أعاذنا الله منها – بعض الأعمال المتوعد عليها بالنار – بعض الأعمال المُنجية من النار
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل: وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ اتقوا يومًا الوقوف فيه طويل والحساب فيه ثقيل.
أيها الإخوة المسلمون، كل نفس لا تحمل إلا حملها، ولا تكسب إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولسوف تأتى كل نفس تجادل عن نفسها.
أهلكت كثيرًا من الناس الأماني، إيمان بلا أثر، وقول بلا عمل، ترى فيهم رجالا ولا ترى عقولا، وتسمع حسيسًا ولا ترى أنيسًا، عرفوا ثم أنكروا، وحرموا ثم استحلوا. يقول الحسن البصري رحمه الله: أمؤمنون بيوم الحساب هؤلاء؟!! كلا، كذبوا ومالك يوم الدين.
لا يدخل الجنة إلا من يرجوها، ولا يسلم من النار إلا من يخافها، ورود النار متيقَّن: وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً [مريم:71] ولكن هل الخروج منها متيقن؟!
أين الخوف من هول ذلك المورد؟ ومن ترى بالنجاة والفكاك يحظى ويسعد؟ يقول موسى بن سعد: كنا إذا جلسنا إلى سفيان كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه. من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل: قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:26-28]. حقًا وصدقًا، إن هدى الله ورحمته للذين هم لربهم يرهبون.
أيها الإخوة في الله، وهذا حديث ذكرى وتذكير، وإنذار وتخويف عما أخبر به الكتاب وصحت به الأخبار عن رسولنا محمد من الوعيد للمكذبين، والخوف على المقصرين، حديث عن النار وأهلها وأهوالها أعاذنا الله منها بمنِّه وكرمه: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
يقول الحسن البصري رحمه الله: والله ما صدق عبد بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره ما صدق بها حتى يتجهم[1] في دركها. والله ما أنذر العباد بشيء أدهى منها. فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:14-16]. إنها نار السعير، لا ينام هاربها، وجنة الفردوس لا ينام طالبها.
الخوف من النار فلذ أكباد الصالحين: إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لّلْبَشَرِ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر:35-37].
ألم تعملوا أن التخويف من النار نال الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين؟! اقرأوا في شأن الملائكة: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى اله مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29]. واقرأوا في حق الأنبياء: وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء:39].
أيها الناس، اتقوا النار، اتقوا النار ولو بشق تمرة اتقوا النار بكلمة طيبة. أكثروا من ذكرها، واعملوا للنجاة منها: ذالِكَ يُخَوّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ياعِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:16]. والنار شر دار، وعذابها شر عذاب، حرها شديد وقعرها بعيد، ومقامعها حديد، يهوي الحجر من شفيرها سبعين خريفًا ما يدرك قعرها. مسالكها ضيقة، ومواردها مهلكة، يوقد فيها السعير، ويعلو فيها الشهيق والزفير، أبوابها مؤصدة، وعمدها ممددة، يرجع إليها غمها، ويزداد فيها حرها، هي غضب الجبار ورجزه، وسخطه ونقمته.
جثت الأمم على الركب، وتبين للظالمين سوء المنقلب، انطلق المكذبون إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، وأحاطت بهم نار ذات لهب، سمعوا الزفير والجرجرة، وعاينوا التغيظ والزمجرة، ونادتهم الزبانية: فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ [النحل:29]. الهاوية تجمعهم، والزبانية تقمعهم، في مضايقها يتجلجلون، وفي دركاتها يتحطمون. ترى المجرمين مقرنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران، وتغشى وجوههم النار. الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون، وبالنواصي والأقدام يؤخذون، وفي الحميم ثم في النار يسجرون.
يصب من فوق رءوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد فوق رءوسهم. تكوى جباههم وجنوبهم وظهورهم.(/1)
ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ [القمر:48]. طعامهم الزقوم والضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع. شرابهم الحميم والغساق والماء الصديد، يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء، ويملأ البطون: يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ [إبراهيم:17]. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:38]. كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ [النساء:56].
يتمنون الموت والهلاك، ولكن أين المفر؟ ومتى الفكاك؟
وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ [الزخرف:77،78].
ثم يعلو شهيقهم، ويزداد زفيرهم، وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، فيعظم يأسهم، ويرجعون إلى أنفسهم: سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ [إبراهيم:21]. نعوذ بالله ربنا من غضبه وأليم عقابه وعذابه.
أيها الإخوة، هذه أخبار صدق عن جهنم ولظى، وأنباء حق عن السعير والحُطمة، والله لتملأن والله لتملأن: وَلَاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13].
فويل لكل مشرك ومشركة، وويل لكل خبيث وخبيثة ممن طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، ولم يؤمن بيوم الحساب: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ [الرحمن:41]. حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [القلم:10-13]. لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين، لم يكُ من المصلين، ولم يكُ يطعم المسكين، يخوض مع الخائضين، ويكذب بيوم الدين. هؤلاء هم أصحاب الجحيم عياذا بالله.
عباد الله، النار موعود بها مدمن الخمر وقاطع الرحم والمصدق بالسحر والمنان والنمام، وما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار[2]، موعود بها الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، ومن أشد الناس عذابًا طائفتان: المصورون الذين يضاهئون خلق الله[3]، والذين يعذبون الناس في الدنيا.
يا ترى ما حال المرائين من القراء والعلماء والمجاهدين؟! يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، يقولون ما لا يفعلون إذا وعظوا عنفوا وإذا وعظوا أنِفُوا.
وأصناف من القضاة في النار، ((ومن غش رعيته فهو في النار))[4]، ((ومن بايع إمامه لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفى وإن لم يعط لم يفِ))[5]، ((ومن اقتطع مال أخيه بيمين فاجرة فليتبوأ مقعده من النار))[6]، ((والذي يشرب في آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم))[7]. والذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا.
وويل لأكلة الربا ثم ويل لأكلة الربا، و((كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به))[8].
((وصنفان من أهل النار: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، والكاسيات العاريات المائلات المميلات على رءوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها))[9]، ((والنائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب))[10]، ((والمكر والخداع في النار))[11]، ((والفجور يهدي إلى النار))[12]، ((وشر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء فحشه))[13]، وويل للذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة، رحمني الله وإياكم ووقانا عذاب السموم: هذه ألوان من أهوال النار، وصنوف من أهلها؛ فاتقوا الله واتقوا النار، اتقوا النار بالبكاء من خشية الله؛ فلن يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، وعينان لا تمسهما النار؛ عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله. ومن صام يومًا زحزحه الله عن النار سبعين خريفًا .
تعوذوا بالله من النار؛ فهذا دأب الصالحين الذاكرين.
ملائكة الله السياحون يمرون بمجالس الذكر ثم يسألهم ربهم عن أحوال الذاكرين فيقول لهم وهو أعلم بهم: مِمَّ يتعوذون؟ فيقولون: من النار. فيقول: وهل رأوها ؟ قالوا: لا. والله ما رأوها. فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشد منها مخافة؟ قال فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم[14].
وجاء في خبر آخر: ((ما سأل رجل مسلم الجنة ثلاثًا، إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة. ولا استجار رجل مسلم من النار ثلاثًا، إلا قالت النار: اللهم أجره مني))[15].
اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار.
رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16].(/2)
رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً [الفرقان:66، 67].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
[1] يتجهم: أي يقع.
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب اللباس – باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار، حديث (5787).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب اللباس – باب ما وطئ من التصاوير، حديث (5954)، ومسلم: كتاب اللباس والزينة – باب تحريم تصوير صورة الحيوان... حديث (2107).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأحكام – باب من استُرعي رعية فلم ينصح، حديث (7150، 7151)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب استحقاق الوالي الغاش... حديث (142) عن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعيّة، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرّم الله عليه الجنة))، واللفظ لمسلم.
[5] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المساقاة – باب إثم من منع ابن السبيل من الماء، حديث (2358)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار... حديث (108) واللفظ له.
[6] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الإيمان – باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، حديث (137) وانظر البخاري: كتاب المساقاة – باب إثم من منع ابن السبيل من الماء، حديث (2358).
[7] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأشربة – باب آنية الفضة، حديث (5634)، ومسلم: كتاب اللباس والزينة – باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب، حديث (2065).
[8] صحيح، أخرجه أحمد (3/321)، والترمذي: كتاب الجمعة – باب ما ذُكر في فضل الصلاة، حديث (614)، والدرامي: كتاب الرقاق – باب في أكل السحت، حديث (2776) بنحوه. وصححه ابن حبان (1723)، والحاكم (4/422). وقال المنذري: رواتهما محتج بهم في الصحيح. الترغيب (3/134)، وقال الهيثمي: رجالهما رجال الصحيح (5/247).
[9] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب اللباس والزينة – باب النساء والكاسيات العاريات – حديث (2128).
[10] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الجنائز – باب التشديد في النياحة، حديث (934).).
[11] صحيح، أخرجه الطبراني في الكبير (10234) وابن عدي في الكامل (2/161) في ترجمة: جراح بن ميليح، والحاكم (4/607)، والبيهقي في الشعب (5268)، وصححه ابن حبان (567) وجوّد المنذري إسناده. الترغيب (2/359). وقال الحافظ في الفتح (4/256): إسناده لا بأس به. ثم قوّاه. وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (1057).
[12] صحيح، جزء من حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الأدب – باب قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله... ، حديث (6094) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب – باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، حديث (2607).
[13]صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأدب – باب لم يكن النبي فاحشاً، حديث (6032) و(6054)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب مداراة من يتقى فحشه، حديث (2591).
[14] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الدعوات – باب فضل ذكر الله عز وجل، حديث (6408)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار – باب فضل مجالس الذكر، حديث (2689).
[15] صحيح، أخرجه أحمد (3/117)، والترمذي: كتاب صفة الجنة – باب ما جاء في صفة أنهار الجنة، حديث (2572)، والنسائي: كتاب الاستعاذة – باب الاستعاذة من حر النار، حديث (5521)، وابن ماجه: كتاب الزهد – باب صفة الجنة، حديث (4340). وصححه ابن حبان (1014) والحاكم (1/534-535) وذكره الضياء في الأحاديث المختارة (4/388-390). وقال المنذري: رواه أبو يعلى بإسناد على شرط البخاري ومسلم. الترغيب (4/243)، وصححه الألباني، صحيح سنن الترمذي (2079) وصحيح الترغيب (3653، 3654).
الخطبة الثانية
الحمد لله المبدئ المعيد، ذي البطش الشديد، الفعال لما يريد، أحمده سبحانه وأشكره؛ فبالشكر تدوم النعم وتزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله أنذر القريب والبعيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، أزعج ذكر النار قلوب الخائفين، وأطار النوم من عيون المتعبدين.
أيها الإخوة، شاهدوا موقف القيامة بقلوبكم، وانظروا في منصرف الفريقين إلى الجنة والنار بهممكم.
أشعروا أفئدتكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها، وأطباقها ودركاتها ووقودها وحجارتها، السلاسل والأغلال، والسعير والحميم، والغساق والغسلين، وسقر والهاوية.(/3)
اذكروا بعد القعر، واشتداد الحر. ابكوا وتباكوا، اعرضوا على قلوبكم تقلب الظالمين بين أطباق النيران: لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16]. كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]. خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32] فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ [الواقعة :42-44].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله: اللهم إنا نعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. واتقوا النار التي أعدت للكافرين.(/4)
النار ووصفها
247
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
منصور الغامدي
الطائف
1/8/1419
أبو بكر الصديق
ملخص الخطبة
وصف النار وحال أهلها وطعامهم وشرابهم وخلودهم فيها – صفة أهل النار من الكفار - تلاوم أهل النار – وجوب التوبة ومحاسبة النفس
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله والاستعداد ليوم عظيم، تذهل كل مرضعة فيه عما أرضعت و تضع كل ذات حمل حملها.
إخواني في الله، مر معنا في الخطبة الماضية حديث عن الجنة التي هي نزل الكرامة والرحمة والغفران، وفي هذه الخطبة نعرج على النار التي أوقد الله عليها ألف عام حتى ابيضت وألف عام حتى احمرت وألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة ـ أجارنا الله وإياكم منها ـ.
إنها دار الذل والهوان، والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، والأنين والعبرات، دار أهلها أهل البؤس والشقاء، والندامة والبكاء، والأغلال تجمع بين أيديهم وأعناقهم، والنار تضطرم من تحتهم ومن فوقهم، شرابهم من حميم يصهروا به ما في بطونهم والجلود، وأكلهم شجر الزقوم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم، يدعون على أنفسهم بالموت فلا يجابون، ويسألون ربهم الخروج منها فلا يكلمون، كيف لو أبصرتهم وهم يسحبون فيها على وجوههم وهم لا يبصرون، أم كيف لو سمعت صراخهم وعويلهم وهم لا يسمعون: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحياةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
وحينما يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح، تزداد حسرة أهل النار وينقطع أملهم في الموت بعد أن كانوا في الدنيا لا يحبونه، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
وعن أبي هريرة قال: قال النبي : ((لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، ولا يدخل النار أحده إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة)) رواه البخاري[1].
فتوضع الأغلال في أعناقهم ويجمع بعضهم إلى بعض نكاية لهم وزيادة في العذاب، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ [الرعد:5]، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ [إبراهيم:49].
ويلبسون ثيابا من نار وإن اشتهوا الماء فإنهم يسقون من ماء صديد يتجرعونه ولا يكادون يسيغونه، هَاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص:57، 58]، عن أبي أمامة عن النبي : ((يقرب إليه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره))، وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا[2] [الكهف:29]، وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]، وإذا جاعوا أكلوا من شجرة الزقوم التي لا أقبح ولا أبشع من منظرها مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع، فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الصافات:66]، إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ كَغَلْىِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-45]، قال : ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه))[3].
ومن هذا الطعام والشراب واللباس الذي هو من النار يصف الله ـ تعالى ـ شدة حرها: كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لّلشَّوَى تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى [المعارج:15-17]، أي إنها لشدة حرها تبري الجلد واللحم عن العظيم وتنزعه ثم يبدل بعد ذلك وهي أيضا من شدة حرها: لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ [المدثر:28]، أي تأكل لحوم أصحابها وعروقهم وعصبتهم وجلودهم، قال : ((ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم)) قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: ((فضلت عليهن بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها))[4].
يخلق الله الكافرين غلاظ الأجسام نكاية بهم، قال رسول الله : ((ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث))[5] وقال : ((ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع))[6].(/1)
وهذه النار تمتلئ بالعصاة والكافرين: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ [ق:30]، إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98]. عن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة فقال النبي : ((أتدرون ما هذا، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها))[7].
وتحيط به النار من كل مكان، فلا يستطيعون الفرار أو الاختباء: لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16]، لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [الأنبياء:39]. وقال : ((إن أهون أهل النار عذابا من له فعلان وشراكان من نار يغلي منها دماغه كما يغلي المرجل (القدر) ما يرى أن أحدا أشد عذابا منها وإنه لأهونهم عذابا))[8] وقال : ((منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه النار إلى حجرته ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته))[9]. والحجزة: معقد الإزرار، والترقوة: العظم المشرف من النحر.
لقد صب عليهم العذاب صبا، وذاقوا مس سقر، وفي ذلك المكان المرعب المخيف ما لهم من ناصرين ولا صديق حميم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ % اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:63-65].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونسأله ـ سبحانه ـ أن يصرف عنا عذاب جهنم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب...
---
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق – باب صفة الجنة والنار، حديث (6569).
[2] أخرجه أحمد (5/265)، والترمذي: كتاب صفة جهنم – باب ما جاء في صفة شراب أهل النار (2583) وقال: حديث غريب وهكذا قال محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن بسر، ولا نعرف عبيد الله بن سبر إلا في هذا الحديث، واأخرجه أيضاً الحاكم: كتاب التفسير – نورة إبراهيم (2/351) وصححه ولم يتعقبه الذهبي. ومدار إسناده على عبيد الله بن بُسر، وهو مجهول كما ذكر الترمذي، وكذا قال ابن حجر في التقريب (4278)، وانظر ضعيف الترمذي (477)، فالحديث ضعيف.
[3] أخرجه أحمد (1/301، 338)، والترمذي: كتاب صفة جهنم – باب ما جاء في صفة شراب أهل النار، حديث (2585)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، كتاب الزهد – باب صفة النار، حديث (4325)، وإسناده ضعيف، فيه عنعنة الأعمش، وانظر ضعيف ابن ماجه (944).
[4] أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق – باب صفة النار، وأنها مخلوقة، حديث (3265)، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب في شدة حر نار جهنم، حديث (2843).
[5] أخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب النار يدخلها الجبارون... حديث (2851).
[6] أخرجه البخاري: كتاب الرقاق – صفة الجنة والنار، حديث (6551)، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب النار يدخلها الجبارون... حديث (2852).
[7] أخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب في شدة حر نار جهنم.... حديث (2844).
[8] أخرجه مسلم: كتاب الإيمان – باب أهون أهل النار عذاباً حديث (213)، وأخرج البخاري أول الحديث، صحيح البخاري: كتاب الرقاق – باب صفة الجنة والنار، حديث (6562).
[9] أخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب في شدة حر نار جهنم، حديث (2845).
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، خلق الإنسان في كبد، فأخذ طريق الغواية وأخذ سبيل الرشد.
والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي ذكر النار يوما فأشاح بوجهه فتعوذ منها، ثم ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوذ منها ثم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة))[1].
عباد الله، إن أهل النار في عذاب دائم لا ينقطع ولا يخفف، إنهم يسألون ربهم العودة إلى الدنيا ليعملوا صالحا، يسألونه بقلوب منكسرة يعتصرها الحزن والأسى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ % قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:106-108].
ثم يسألون الموت والراحة من هذا العذاب، ولكن هيهات وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ [الزخرف:77]، وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا [فاطر:36].(/2)
ويسألون تخفيف العذاب عنهم ولو يوما واحدا كي يستريحوا فلا يجابون ولا يخفف عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْماً مّنَ الْعَذَابِ قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ [غافر:49، 50]، قال : ((إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن دموعهم لجرت وإنهم ليبكون الدم))[2].
ثم ينادي إبليس ـ عليه لعنة الله ـ، الذي أقسم أن لا يطأ النار وحده، لكن معه أتباع وأمم كثير قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83]، وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].
لقد زين الشيطان أعمالهم القبيحة في الدنيا وهاهو يتبرأ منهم، لقد بدا للناس في صورة المحب المشفق في الدنيا الذي يريد لهم الخير ويتمنى لهم، يخلفهم ما وعدهم من الكذب أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِى هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس:60، 61].
إن سكانها هم الكفرة والمجرمون والطغاة والمتكبرون، وكل من كذب الرسل من الأولين والآخرين، كفرعون وقارون وهامان وأبي جهل وأبي لهب، إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [ص:14].
ثم يتلاوم أهل النار ويلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض، ويقول الضعفاء أنتم الذين حرفتمونا عن الهدى، ويقول الآخرون بل أنتم اتبعتمونا ولم نصرفكم عن الهدى، كَذالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ يَقُولُونَ يالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب:66-68]. لقد ندموا أشد الندم ولكن ولات ساعة مندم، وعلموا أن الحق لله وأن القوة لله جميعا، ولكن بعد انقضاء المهلة، إنهم سوف يستمر معهم العذاب خالدين مخلدين في نار جهنم فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاواتُ وَالاْرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ [هود:106، 107].
عباد الله، إنه يجب علينا محاسبة أنفسنا ومراجعتها، إنها دعوة إلى إخواننا الذين غشيهم من ظلمة المعصية ما غشيهم أن يراجعوا أعمالهم، ويعودوا إلى ربهم من قبل أن تأتي الساعة التي تحاكم الأنفس، إنها دعوة إلى الأباء والأبناء، إلى الشباب والشابات، إلى البنات والأمهات أن نسارع جميعا إلى التوبة إلى الله ـ تعالى ـ، وأن يكون في هذه الدنيا بين خوف ورجاء، خوف من عذاب الله وسخطه ورجاء فيما عنده ـ سبحانه ـ إنه يجب علينا من هذه اللحظة التوبة إلى الله والاستغفار والندم على التفريط في جنب الله ـ تعالى ـ ولذلك كان من دعاء عباد الرحمن: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:65، 66].
ألا وصلوا وسلموا على الهادي البشير والسراج المنير...
---
[1] أخرجه البخاري: كتاب الزكاة – باب اتقوا النار ولو بشق تمرة، حديث (1417)، ومسلم: كتاب الزكاة – باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، حديث (1016) بنحوه.
[2] أخرجه الحاكم: كتاب الأهوال (4/605)، وصححه، ولم يتعقبه الذهبي، وأخرجه ابن ماجه: كتاب الزهد – باب صفة النار، حديث (4324)، قال البوصيري في الزوائد (1546): فيه يزيد بن أبان الرقاشي وهو ضعيف. وذكر الألباني أن سند الحاكم على شرط الشيخين إلا أن محمد بن الفضل (عارم) اختلط فلا يُدرى هل سمع منه تلميذه قبل الاختلاط أم بعده، ثم حسنه الألباني، السلسلة الصح(/3)
النصر مع الصبر والفرج مع الشدة
في ظل الواقع العربي والإسلامي الرسمي والشعبي تأتي هذه الخطبة للتأكيد على أن الفرج قريب وإن بدا لبعض الساسة العرب غير ذلك.
فإلى كل من كل له قلب وبصيرة نهدي هذه الكلمات المستمدة من عقيدتنا وإيماننا بحتمية النصر وقرب الفرج.
قال الله تعالى: (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام . ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) [سورة الزمر: 36-38] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: " يا غلام أو يابني ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ فقلت: بلى. قال:
احفظ الله يحفظك،
احفظ الله تجده أمامك،
تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة،
إذا سألت فاسأل الله،
وإذا استعنت فاستعن بالله،
فقد جف القلم بما هو كائن،
فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه،
واعمل لله بالشكر واليقين،
واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا،
وأن النصر مع الصبر،
وأن الفرج مع الكرب،
وأن مع العسر يسرا " .
وزاد ابن أبي حاتم في روايته: " قل حسبي الله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون، كما قال هود عليه الصلاة والسلام حين قال قومه إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، قال: إني أشهد الله وأشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم" .
فتأمل في الآية والحديث تجد المفاهيم التالية :
حفظ الله للمسلمين مرهون بحفظ المسلمين لله (أي بتطبيق منهج الله تعالى في جميع أمورهم).
إذا أراد المسلمون معونة الله تعالى في الشدائد فلابد من التزامهم بمنهج الإسلام وأحكامه في أوقات الرخاء.
الاستعانة الحقيقية المؤثرة هي ما كانت بالله تعالى والاتكال لا يكون إلا على الله القوي العزيز.
لن تغير هذه القاعدة الربانية أي قوة في الدنيا مهما عظمت، فلا يملك كل الطغاة والمستكبرين مجتمعين إيذاء شخص إلا وفق قدر الله تعالى وقضائه.
العمل المتواصل الدؤوب بما يرضي الله تعالى (من رص الصفوف وإعداد العدة والجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى …الخ) هو صمام الأمان للعالم الإسلامي لضمان التأييد الرباني.
لابد من الصبر لمواجهة الشدائد، فلا يجوز الارتماء في أحضان العدو بحجة رفع الشدائد.
تلازم النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر، ومن أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم: اشتدي أزمة تنفرجي، يعني: يا أزمة ابلغي النهاية في الشدة حتى تنفرج، فإن الشدة إذا تناهت انفرجت بشهادة الاستقراء، فليس المراد حقيقة أمر الشدة بالاشتدا بل طلب الفرج، إن مع العسر يسرا .. وفيه نوع تسلية وتأنيس بأن الشدة المتناهية نوع من النعمة لما يترتب عليها، ومن كلام العلام: الشدة إذا تناهت انفرجت. وأنشد بعضهم :
إذا الحادثات بلغن النهى وكادت تذوب لهن المهج
وحل البلاء وقل العزاء فعند التناهي يكون الفرج
يا معشر اليائسين المحبطين احذروا :
قال الله تعالى : (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) قال الإمام الطبري: " يعتي القوم الذين يجحدون قدرته على ما شاء تكوينه " .
وقال تعالى: (وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا) .
في الأنبياء أسوة حسنة :
قال الله تعالى: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فنُجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين . لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) .
فالله عز وجل يسوق لنا قصص الأنبياء وصبرهم على الأذى والباساء والضراء، وحتمية تنزل النصر عليهم وعلى أتباعهم، وأن النصر يتنزل مع شدة الكرب.
وأنشد أحدهم :
أما في رسول الله يوسف أسوة لمثلك محبوسا على الظلم والإفك
أقام جميل الصبر في الحبس برهة فآل به الصبر الجميل إلى الملك
وكتب بعضهم إلى صديق له:
وراء مضيق الخوف متسع الأمن وأول مفروح به آخر الحزن
فلا تيئسن فالله ملك يوسفا خزائنه بعد الخلاص من السجن
حتمية البلاء والامتحان قبل تنزل النصر والتمكين :
قال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) [سورة البقرة: 214].(/1)
فتأمل ماذا يدخل في البأساء والضراء والخوف الشديد المزلزل. و كما جاء في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت قال: قلنا: يا رسول الله ألا تستنصر لنا الا تدعو الله لنا؟ فقال: " إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد مابين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ثم قال والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون " .
وقال الله تعالى: (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي الله عنهم في يوم الأحزاب كما قال الله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنوناهنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) .
ثم حذرنا الحق تبارك وتعالى من التشبه بالمنافقين الذين قالوا (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) .
ولما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال سجالا يدال عينا وندال عليه. قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة. رواه الشيخان .
وقوله تعالى: (مثل الذين خلوا من قبلكم) أي سنتهم كما قال تعالى: (فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين) وقوله: (وزلزلوا حتى يقول الرسل والذين آمنوا معه متى نصر الله) أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج ثم ضيق الحال والشدة، قال الله تعالى: (ألا إن نصر الله قريب) كما قال: (فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا) وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ولهذا قال: (ألا إن نصر الله قريب).
وفي حديث أبي رزين: "عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيثه فينظر إليهم قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب".
انتظار الفرج عبادة :
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج " . التدوين في أخبار قزوين ج: 2 ص: 117.
الخطبة الثانية :
التذكير بحديث الغار المشهور، وبيان أن الأعمال الصالحة سبب في تفريج الهموم والكروب:
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر فدخلوا في غار في جبل فانحطت عليهم صخرة قال فقال بعضهم لبعض ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه فقال أحدهم اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت أخرج فأرعى ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب فآتي به أبوي فيشربان ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي فاحتبست ليلة فجئت فإذا هما نائمان قال فكرهت أن أوقظهما والصبية يتضاغون ثم رجلي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما حتى طلع الفجر اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فرجة نرى منها السماء قال ففرج عنهم وقال الآخر اللهم إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء فقالت لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار فسعيت فيها حتى جمعتها فلما قعدت بين رجليها قالت اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت وتركتها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فرجة قال ففرج عنهم الثلثين وقال الآخر اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته وأبى ذاك أن يأخذ فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته حتى اشتريت منه بقرا وراعيها ثم جاء فقال يا عبد الله أعطني حقي فقلت انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك فقال أتستهزئ بي قال فقلت ما أستهزئ بك ولكنها لك اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فكشف عنهم" . متفق عليه
الأمر بالتهليل والتسبيح لله جل وعلا مع التحميد لمن أصابته شدة أو كرب :
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات وأمرني إن أصابني كرب أو شدة أقولهن: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحانه وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين . صحيح ابن حبان
توصيات :
- الدعاء بهذه الكلمات (لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحانه وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين) بعد صلوات الجمع حتى يحفظها الناس (فكل المؤمنين اليوم في شدة وكرب).
- دعوة المسلمين الذين يريدون أداء الحج للمرة الثانية بالتبرع بتكاليف الحج لدعم صمود المجاهدين في فلسطين المحتلة، فهذا أولى بكثير وأفضل عند الله تعالى من التنفل بعبادة الحج العظيمة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
د. إبراهيم أحمد مهنا(/2)
النصيحة دلائل ونماذج
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
" النصيحة دلائل ونماذج " دلائل نستنبطها من وجود النصيحة في الفرد والمجتمع إن كانت موجودة فدلالاتها خيرة كثيرة وإن كانت مفقودةً فدلائل الخير المذكورة تكون مفقودة أيضاً .
من دلائل وجود النصيحة في الفرد :
أولاً : حبه الخير للآخرين
فإن الناصح إنما ينصح من محبة وشفقة ، ويحقق كمال الإيمان الذي دعي في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .
فإن رأى غفلة - وهو ذاكر - نصح بتذكير ، وإن رأى خطأً وهو مصيب وجّه إلى الصواب يريد للجميع أن يكونوا على طريق مرظاة الله - عز وجل - يحب لهم المثوبة والأجر ويخشى عليهم العقوبة والوزر .
تلك مشاعر إيمانية يدل على وجودها وجود النصيحة .
والدليل الثاني وهو مهم أيضاً :الغيرة على دين الله
فإن القلب المؤمن الحي لا يقبل أن يرى مخالفةً ، ثم لا يتأثر والوجه المشرق بضياء الإسلام لا يمكن أن يرى منكراً ولا يتمعر .
إنها دلالة على ما كان - عليه الصلاة والسلام - كان يعفو ويسامح ، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه قائم .
إنها غيرة تكون في قلوب أهل الإيمان تدفعهم إلى أن يغيروا ما فيه مخالفة ومعصية ، فيجدون سبيلهم الأول وطريقهم الأقوم في الدعوة في الحكمة والموعظة الحسنة ، والنصيحة بالأسلوب المناسب المؤثر .
ثالثاً : إدراك المسؤولية ومعرفة الواجب .
فإن النصح ليس أمراً اختيارياً ولا شأناً اجتماعياً إنه فريضةً ربانية وشريعة إلهية ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ؛ فإن لم يستطع فبلسانه ؛ فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) .
إن الإيمان يكاد أن يتلاشى وجوده ويعفى أثره إذا لم يكن أمراً بمعروف ، ونهي عن منكر ، قال تعالى : {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } .
رابعاً : نقاء القلب وصفاء النفس
فإنه لا يمكن أن تكون تلك الغيرة الإيمانية ، ولا النصيحة الخالصة ، ولا محبة المؤمنين ما لم تكن القلوب نقيةً من كدر المعاصي ، وما لم تكن النصوص صافيةً من شوائب التوحيد والتخليط .
فإن قضيتنا المهمة : كيف تبقى قلوبنا مشرقة بالإيمان ؟ كيف تبقى نفوسنا نقيةً بالتعلق بالرحمن سبحانه وتعالى ؟
والله جل وعلى يقول : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم } .
إن تقوى الله تجعل في القلب ميزاناً دقيقاً ، يفرق بين الحق والباطل ونفساً شفافةً تتأثر لأدنى مخالفة وتحس بها .
واليوم - وقد اسودت القلوب - وقست إلا من رحم الله ، وأظلمت النفوس ، ولم يعد أحد يشعر بشيء يدعوه إلى نصحٍ أو يدفعه إلى غيرة أو يجعله يدرك مسئولية وواجباً .
إذا فالقلوب قد انتكست ورتكست أحوالها ، والنفوس قد تقلبت واستبدت بها أهواءها .
ولذلك ينبغي لنا حينئذٍ أن ندرك جسامة أمر النصيحة وعظمتها ، وأنّ وجودها يدل على تلك الحقائق الإيمانية والتربية الإسلامية ، وأن فقدها كأنما فقدت به تلك المعاني كلها !
وأما دلائل وجود النصيحة في المجتمع وفي الجماعة أي أن تكون النصيحة أمراً شائعاً غير مستنكرٍ كما قد نرى اليوم .. من ينصح يقال له : " ما لك ولناس ؟! " ، من ينصح يقال له : " لماذا تريد أن تثير الشغب ، وأن تدخل الخلاف ، وأن تشقّ الصف ؟! " .
أما حقيقية النصيحة إن وجدت في المجتمع وكانت قائمةً الناس بها ينطقون وبأمورها ولوازمها يعملون ، والمنصوحون للناصحين يشكرون ، ومنهم يتقبلون ، وبنصحهم يعملون ، فحينئذٍ تتجلى صور عظيمة من أجلها وأهمها تحقق حقيقية المجتمع الإسلامي المتكامل المتكافل ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .
وكما روى البخاري في الأدب المفرد ( المؤمن للمؤمن كاليدين يغسل إحداهما الأخرى ) .
أين هذه الصورة إذا لم تكن نصيحة ، ولم يكن أمر ونهي ، ولم يكن ذلك التواصل الذي يشيع في المجتمع ؟
ولا تكون النصيحة غريبةً مهجورةً كأنما فاعلها جاء من زمنٍ آخر ، أو من كوكب آخر أو يتكلم بلغة أخرى وذلك من عجائب زماننا هذا .
تحقيق الرسالة وصفة وصبغة الأمة ؛ فإن أمة الإسلام جعلت أمةً كاملةً في ذاتها ومكملةً لغيرها كما
قال تعالى : { كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} .(/1)
قال ابن كثير : " أمرت هذه الأمة بتكميل نفسها بالإيمان بالله عز وجل ، وتكميل غيرها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ، وذلك هو سمة هذه الأمة تصحح واقعها ، وتدعوا غيرها ، هي أمة الرسالة الخاتمة ، وهي أمة الهداية التامة هي أمة الشريعة الكاملة ، هي أمة الكتاب المحفوظ ، هي أمة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم ، هي أمة القيادة في هذه البشرية .. لا تتحقق لها السمات ، ولا تؤدي هذه الرسالة ، ولا تحقق هذه الغاية ؛ ما لم تكن النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شائعاً فيما بينها ، يتعلم عليه الصغير ، ويشب عليه الكبير ، ويختم به حياته من قد دب في العمر ، وبلغ مبلغاً عظيماً ، يكون شائعاً بين الرجال ، معروفاً بين النساء ، قائماً بين العلماء وطلبة العلم ، وبين الحكام والمحكومين ، والرعاة والرعية .. فحينئذٍ تظللنا سحائب الرحمة ، وتتنزل علينا خيرات وسمات هذه الأمة .
وتلك دلائل موجزة ، واخترت أن أذكر نماذج من نصائح غالية ثمينة ، ومواعظ مؤثرة بليغة في مجالاتٍ شتى بين آباءٍ وأبناء ، بين رعاة ورعية ، بين أصدقاء وأخوان .
حتى نرى كم لهذه النصائح من أثرٍ في بلاغتها وفي تأثيرها ، وأنها رغم طول زمانها قد حفظت لما لها من نفع وفائدة . وكم نحن في حاجةٍ إلى أن نتأمل هذه المعاني ، ونعلم حينئذٍ أن مثلها لم يكن ليكون لولا أن النفوس إلى النصيحة توجهت ، والعقول فيها تدبرت وتفكرت ، وكان ذلك أمراً مقصوداً ، تبذل فيه الجهود والأوقات ، ويبحث فيه في النصوص والدلائل ويلتمس فيه حينئذٍ الأسلوب النافع المؤثر ، والكلام البليغ الدال على عظيم المعاني وجليل المفاهيم .
هذا الحسن البصري - رحمه الله - من أئمة التابعين ، ومن كبار الناصحين ومن مشاهير الوعاظ رأى رجلاً راجعاً من جنازةٍ فسأله قائلاً : أتراه - أي هذا الميت - لو رجع إلى الدنيا لعمل صالحاً ؟!
فقال الرجل : نعم ، قال : فإن لم يكن هو فكن أنت .
أي إن لم يكن هو قادر على ذلك ؛ لأنه قد طواه الموت ، وغيبه الثرى ، وصار في باطن الأرض ، فكن أنت قبل أن تكون في مقامه فلا مجال لزيادة عمل صالح !
قال تعالى : { قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن وراءهم برزخ إلى يوم يبعثون } .
أي فكرٍ كان عند الحسن ؟ وأي قلبٍ كان عنده ؟ حتى كان متيقظاً منتهزاً للفرصة ، مستغلاً لموضع العبرة ، متأملاً في حسن الأسلوب ، مبتدئاً بسؤالٍ ، رابطاً بمقارنه ، مذكّراً بحقيقة ملموسة ..
ولعلنا نستحظر ما هو أعظم من ذلك وأجل ، يوم كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يسير مع بعض أصحابه ، فرأى في موطنٍ نائٍ جدياً أسك ميتا - جدياً مقطوع الأذن ميتاً - فقال عليه الصلاة والسلام : أيكم يشتري هذا بدرهمين ؟ فسكت الصحب الكرام ، قال : أيكم يشتريه بدرهم ؟ فسكتوا ، ثم قال أحدهم : يا رسول الله والله لو كان حياً لكان عيبه صارفاً عنه ! فقال صلى الله عليه وسلم بعد هذه اللفتة الذكية ، وبعد هذا السؤال الأريب : ( والله لهوان الدنيا على الله أهون من هذا على أحدكم ) .
فأي موعظة أبلغ ؟ وأي نصيحة أعظم ؟ وأي تأثير أكبر من صورة حية متجسدة ؟ ما الذي أوقفه ؟ ما الذي جعله ينبّه ؟ إنه قلب حي .. إنها شفقة غامرة .. إنه حرص على أمته وأصحابه عظيم .. إنه ذكاء متوقد يعرف كيف يجعل من الحركة والسكنة والموقف مجالاً ليكون عظةً وعبرة .
كم نرى من المواقف ، ولكن ليس هناك عقولاً تفكر ، ولا قلوباً تتحرك ، ولا غيرة تتقد ، ولا محبة تفيض ؛ فتمر المواقف تباعاً ليس موقفاً عارضاً بل مواقف جسيمة ، وأحداث عظيمة ، لا تجد ما يقف عندها ليتدبر ويتعظ لنفسه ، فضلاً عن أن يؤثر وينصح ويبلغ غيره ! كم في هذا المعنى وفي مثل هذه المواقف من دلائل ! وكم في هذه النماذج من عبر !
عبد الله بن عباس رضي الله عنه كان قريباً من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، يدنيه منه ويدخله إلى مجلسه ، ويجعله من مستشاريه .. تلك المكانة العظيمة ، والجاه الكبير ، والمنزلة الخاصة ، لفتت نظر والده العباس بن عبد المطلب - عم النبي صلى الله عليه وسلم - فتوجه بالنصيحة لابنه ، فبأي شيء أوصاه ونصحه ؟ لو كان لنا اليوم قريب يدخل على الملك أو الأمير ما عسى أن نطلب منه .. شفاعة في أمرٍ دنيوي ، أو وسيلة إلى كسبٍ مادي ، قال له العباس رضي الله عنه وأرضاه :
" يا بني إني أرى أمير المؤمنين يستخليك - أي يخلو بك ويجلس معك منفرداً - ويستشيرك ن ويقدمك على الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإني أوصيك بخلالٍ أربع : لا تفشين له سراً ، ولا يجربن عليك كذبا ، ولا تغتابن عنده أحداً ، ولا تطو عنه نصيحة "(/2)
ولعمري إنها لكلمات تكتب بماء الذهب ، وهي من النصائح الحكيمة البليغة ، التي تعرف مقام الحكم وأربابه ، وتعرف واجبات الرعية وآدابها ، ولذلك قال : " لا تفشين له سره " ؛ فإنه إذا استخلاك واستشارك إنما استودعك سره ، وسر أمير المؤمنين عظيم ، وإفشاؤه خطير ، " ولا يجربن عليك كذبا " أي كيف تكون موضع أمانته وموضع ثقته إن جرب عليك كذبة واحدة ! وكذلك " لا تغتابن عنده أحداً " ؛فإن ذلك دليل فسادٍ في القلب ، وشهوةٍ منحرفةٍ في النفس ، ودليل على استغلال غير حميد لذلك . ثم جاءت النصيحة العظيمة " ولا تطو عنه نصيحة " .
وأنتقل مرة أخرى إلى نصيحةٍ جميلةٍ جامعة ، ذكرها ابن الجوزي رحمه الله في نصيحته لابنه .
وكم يحتاج أبنائنا إلى نصائحنا ؟ كم من أخطائنا ما نريد أن نجنبه أبناءنا ؟ كم من منافعنا وعلومنا ما نريد أن نورثه أبنائنا ؟
أم أننا لا نلتفت إلا إلى كدٍ وكدحٍ ؛ لنعطيهم مالاً يلبسون به أو يأكلون منه ، دون أن يكون لنا عناية بأكثر من ذلك ؟!
نصيحة كاملة سجلت وحفظت وطبعت ، وصارت رسالة فريدة ، أذكر منها من كلام ابن الجوزي يقول فيها – رحمه الله - لابنه : " يا بني انتبه لنفسك ، واندم على ما مضى من تفريطك ، واجتهد في لحاق بالحاملين ما دام في الوقت سعة ، واسقي غصنك ما دامت فيه رطوبة ، واذكر ساعتك التي ضاعت فاجعلها عظة ، ذهبت لذة الكسل فيها ، وفاتت مراتب الفضائل ، وكان السلف الصالح يحبون جمع كل فضيلة ، ويبكون على فوات واحدة منها .
قال إبراهيم ابن أدهم دخلنا على عابدٍ مريض وهو ينظر إلى قدميه ويبكي ، فقلنا : ما يبكيك ؟ قال : ما اغبرتا في سبيل الله .. ما اغبرتا في سبيل الله .
وبكى آخر فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : مرّ علي يوم مضى ما صمته ، ومرت عليّ ليلة ذهبت ما قمتها .
واعلم يا بني أن الأيام تبسط ساعاتٍ ، والساعات تبسط أنفاساً ، وكل نفسٍ خزانة ، فاحذر أن يذهب نفسٍ بغير شيء ، فتأتي يوم القيامة بخزانة فارغة فتندم " .
كم نحتاج إلى أن نعظ أبنائنا وننصحهم ، ولا يكون ذلك إلا بعد أن تمتلئ نفوسنا بهذه المعاني ، وبعد أن نستحضر هذه المعاني ونعيشها ونتمثلها .
ولعل من دلائل النصيحة المهمة :
أن الناصح إذا أراد أن ينصح راجع نفسه قبل النصيحة ، وحاسبها بعد النصيحة ، كيف تريد أن تنصح ولا تمتثل ؟! ثم كيف نصحت ويكون بعد ذلك منك خلف لما نصحت ؟ وذلك من أعظم الأمور وآكدها .
ولعلي في هذا المقام أذكر ما أختم به في هذه النصيحة الجامحة الواسعة التي كتبها وتوجه بها الحسن البصري لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز في كلام واسع ، ما أذكره إنما هو جزء منه ، وفيه عظة لكل متعظ ، وعبرة لكل معتبر ، وإن كان موجهاً لأمير المؤمنين ؛ فإن عظته أوسع من ذلك وأشمل .
يقول الحسن رحمه الله : اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل ، وقصد كل جائر ، وصلاح كل فاسد ، وقوة كل ضعيف ، ونصفة كل مظلوم ، ومفزع كل ملهوف .
والإمام العادل - يا أمير المؤمنين - كالأب الحاني على ولده ، يسعى لهم صغاراً ، ويعلمهم كباراً ، يكتسب لهم في حياته ، ويدخر لهم بعد مماته .. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها ، حملته كرها ، وربته طفلاً ، تسهر بسهره وتسكن بسكونه وتفرح بعافيته وتغتم بشكايته .
والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد استأمنه سيده وستحفظه ماله وعياله ، فبدد المال ، وشرد العيال فأفقر أهله ، وضيع ماله .
واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش ، فكيف إذا أتاها من يليها ؟ وأن الله أنزل القصاص حياةً للعباد ، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم ؟
واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده ، وقلة أشياعك عنده ، وأنصارك عليه ، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر .
واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه ، يطول فيه ثواؤك ، ويفارقك أحباؤك ، ويسلمونك إلى مقرك وحيداً فريداً ، فتزود لما يصحبك ، قال تعالى : { يوم يفر المرء من أخيه* وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه } " .
وتلك مقالة عظيمة ، ونصيحة تامة كاملة ، أخلص فيها وأحب ، وأراد أن يكون أثرها في أمير المؤمنين أثراً فيما وراء ذلك من صلاح الأمة ، وقيام العدل فيها ، وشيوع الأمن والرخاء ..
وذلك ما ينبغي أن نحرص عليه ؛ فإن شاعت النصيحة بآدابها وشروطها وضوابطها كان من وراء ذلك خيراً عظيماً .
نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يوفقنا لطاعته ومرضاته ، والاستقامة على شرعة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر والنصح .. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه .(/3)
وإن من تقوى الله عز وجل بذل النصح للمسلمين ، ولقد كان أسلافنا من أئمتنا وعلمائنا وخيارنا يلتمسون النصيحة ويطلبونها أمام الناس وفي خلواتهم كما أوثر علن الأئمة الخلفاء الراشدين كأبي بكر وعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما - فأبوبكرٍ يقول : " أطيعوني ما أطعت الله فيكم ؛ فإن عصيته فقوموني " .
وكانوا يطلبون نصيحة الخلصاء والنجباء والعلماء ، كما كان من عمر بن عبد العزيز مع بعض جلسائه ، حين قال : " إذا رأيتني قد ملت عن الحق فخذ بعضدي وقل : يا عمر ما تصنع ! " .
إنما يكون ذلك في حياتنا ، وعندما نحرص عليه سنرى صوراً كثيرة ، وعظات جليلة ، ومواقف حكيمة ، ودعوة سائدة ، ونصيحة منتشرة ، فتنتشل الغافلين من غفلتهم إلى التذكير ، وتنتشل العاصين من معصيتهم إلى التوبة ، وتنتشل الكسالى من كسلهم إلى المنافسة في الخيرات ، ويعود للأمة بإذن الله - عز وجل - كثيراً من الخير والفضل والأثر المحمود الذي تنشده عندما ترجع إلى ربها ، وعندما تأتمر بأمره ، وعندما تتذكر ما أمرها جل وعلا ما تتذكره من أمر دينه وشرعه ودعوته وأوليائه وعباده .
وينبغي كذلك أن تتذكر ما في هذه الدنيا بأمر الله ، وأعظم منه ما وراء هذه الدنيا من الرجوع والمثول بين يدي الله - عز وجل - ولو أردنا أن نفيض في النصائح والمواعظ والمواقف لوجدنا في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم – أولاً وسيرة أصحابه وأسلافنا وعلمائنا إلى يومنا هذا زاداً وفيراً ، ومواقف عظيمة ، وليس المراد الاستكثار من الكلام ولا تكرار القول ؛ فإن قضيتنا أن نحرك من أنفسنا وقلوبنا ؛ لكي تتوجه إلى أن يكون نهجها أن تسمع لتعمل ، وأن تسمع لتعقل ، وأن تسمع لتصحح ، وكم نحن في حاجة إلى ذلك ؟!
أين النصيحة بين الجار وجاره ؟ أين النصيحة بين الصديق وصديقه ؟ أين النصيحة بين الأب وأبنائه ؟ أين النصيحة بين الراعي ورعيته ؟ أين النصيحة في وسائل الإعلام ؟ أين النصيحة في مناهج التعليم ؟ أين النصيحة في حياتنا كلها ومجالاتها كلها ؟
أشيعوها تجدوا نفعها وفائدتها .. تزكوا بها القلوب ، وتتطهر النفوس ، وترشد العقول ، وتستقيم الجوارح ، وتحسن الأخلاق ، وتتوطد العلائق ، وتقوى الأمة بإذن الله عز وجل .
نسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً ، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد ، وأن يلهمنا الرشد والصواب ..(/4)
النصيحة و الأمانة
...عباد الله قال الله عز وجل (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ) وقال سبحانه( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) عباد الله إن الأمانة مسئولية عظيمة إنها عبء ثقيل إلا على من خففها الله عليه إن الأمانة أن يلتزم الإنسان بالقيام بحق الله وعبادته على الوجه الذي شرعه مخلصا له الدين تبعا في ذلك سيد المرسلين وإن الأمانة التزام بالقيام بحقوق الناس من غير تقصير كما تحب أن . . . . . . .
الحمد لله أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره هو الذي يقضي بالحق ويأمر بالعدل وهو السميع البصير وأشهد الا اله الا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله الذي قام بعبادة ربه ونصح أمته وبلغ البلاغ المبين فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين(/1)
عباد الله قال الله عز وجل (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ) وقال سبحانه( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) عباد الله إن الأمانة مسئولية عظيمة إنها عبء ثقيل إلا على من خففها الله عليه إن الأمانة أن يلتزم الإنسان بالقيام بحق الله وعبادته على الوجه الذي شرعه مخلصا له الدين تبعا في ذلك سيد المرسلين وإن الأمانة التزام بالقيام بحقوق الناس من غير تقصير كما تحب أن يقوموا بحقك بأنه يجب أن تعطيهم حقوقهم والا كنت من المطففين الذين قال الله فيهم ( ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ) أيها المسلمون إن الله أمرنا أن نؤدي الأمانات إلى أهلها وأمرنا إذا حكمنا بين الناس أن نحكم بالعدل فهذان أمران لا تقوم الأمانة الا بهما أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل وإننا الآن على أبواب اختبارات الطلبة من ذكور وإناث وإن الاختبارات أمانة، أمانة وحكم فهي أمانة حين وضع الأسئلة وأمانة حين المراقبة وهي حكم حين التصحيح هي أمانة حين وضع الأسئلة فيجب على واضع الأسئلة يجب عليه مراعاتها بحيث تكون على مستوى الطلبة المستوى الذي يبين به مدى تحصيل الطالب في عام دراسته بحيث لا تكون الأسئلة سهلة لا تكشف عن تحصيل ولا صعبة تؤدي إلى التعجيز والاختبارات أمانة، أمانة حين المراقبة فعلى مراقب الطلبة أن يراعي تلك الأمانة التي ائتمنته عليها إدارة المدرسة ومن وراءها وزارة أو رئاسة وفوق ذلك دولة بائتمانه عليها المجتمع كله فعلى المراقب أن يكون مستعينا بالله يقظا في رقابته مستعملا حواسه البصرية والسمعية والفكرية يسمع وينظر ويستنتج من الملامح والإشارات على المراقب أن يكون قويا لا تأخذه في الله لومه لائم يمنع أي طالب من الغش أو من محاولة الغش وذلك لأن تمكين الطالب من الغش خيانة ومعونة على الإثم والعدوان وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( من غش فليس منا) إن تمكين الطالب من الغش ظلم لزملائه الحريصين على العلم المجدين في طلبه الذين يرون من العيب أن ينالوا درجة النجاح بالطرق الملتوية إن المراقب إذا مكن أحدا من هؤلاء المهملين الفاشلين في دراستهم إذا مكنهم من الغش فأخذ هذا الغاش درجة نجاح يتقدم بها على الحريصين المجدين كان ذلك ظلما لهم بل هو ظلم للطالب الغاش نفسه وهو في الحقيقة أعني الطالب الذي مكن من الغش هو في الحقيقة مغشوش حيث انخدع بدرجة نجاح وهمية لم يحصل بها على ثقافة ولا علم ليس له من ثقافته ولا علمه سوى بطاقة يحمل بها شهادة زيف لا حقيقة وإذا بحثت معه في أدنى مسالة مما تنبئ عنه هذه البطاقة لم تحصل منه على علم وإن تمكين الطالب من الغش خيانة لإدارة المدرسة وللوزارة أو الرئاسة التي من وراءها وهي خيانة للدولة بل خيانة للمجتمع كله إن تمكين الطالب من الغش أو تلقينه الجواب بتصريح أو تلميح ظلم للمجتمع وهضم لحقه حيث تكون ثقافة المجتمع المتمثلة في هؤلاء المتخرجين مهلهلة يظهر فشلها عند دخول ميادين السباق ويبقى مجتمعنا دائما في تأخر وفي حاجة إلى الغير وذلك لأن كل من نجح عن طريق الغش لا يمكن إذا رجع الأمر إلى اختياره أن يدخل مجال التعليم والتثقيف لانه يعلم أنه فاشل فيه وإن تمكين الطالب من الغش كما يكون خيانة وظلما من الناحية العلمية والتقديرية يكون كذلك خيانة وظلما من الناحية التربوية لأن الطالب بممارسته الغش يكون مستسيغا له هينا في نفسه فيتربى عليه ويربي عليه أجيال المستقبل ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة إن على المراقب ألا يراعي شريفا لشرفه ولا قريبا لقرابته ولا غنيا لماله ولا فقيرا لفقره إن عليه أن يراقب الله عز وجل الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور عليه أن يؤدي الأمانة كما تحملها لأنه مسئول عنها يوم القيامة وربما يقول المراقب الذي يخشى الله ويؤدي أمانته إنه إذا أدى واجب المراقبة إلى جانب من يضيع ذلك فإنه يرى بعض المضايقات وجوابنا على هذا أن نقول اتق الله اتق الله فيما وليت عليه وأقرأ قول الله عز وجل ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ) فاصبر إن العاقبة للمتقين. أيها الاخوة إن الاختبارات حكم حين التصحيح فان المعلم الذي يقدر درجات أجوبة الطلبة ويقدر درجات سلوكهم هو حاكم بينهم لان أجوبتهم بين يديه بمنزلة أجوبة الخصوم بين يدي القاضي فإذا أعطى طالبا درجات أكثر مما يستحق فمعناه أنه حكم له بالفضل على غيره مع قصوره هذا جور في الحكم وإذا كان الإنسان لا يرضى أن يقدم على ولده من هو دونه فكيف يرضى لنفسه أن يقدم على أولاد الناس من هو دونهم إن من الأساتذة من لا يتقي الله في تقدير درجات الطلبة فيعطي(/2)
أحدهم ما لا يستحق أما لأنه ابن صديقه أو ابن قريبه أو ابن شخص ذي شرف أو مال أو رئاسة أو إنه طالب ذكي يناقشه أثناء التدريس فيكون في نفسه عليه بعض الشئ فيحرمه ما يستحق من الدرجات وإن من الأساتذة من يمنع بعض الطلبة ما يستحق إما لعداوة شخصية بينه وبين الطالب وإما لعداوة شخصية بينه وبين أبيه أو لغير ذلك من الأسباب وهذا كله خلاف العدل الذي أمر الله به ورسوله فاقامة العدل واجبة في كل حال على من تحب وعلى من لا تحب فمن استحق شيئا وجب إعطاؤه ومن لا يستحق شيئا وجب حرمانه منه واقرءوا قول الله عز وجل ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئآن قوم على الا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) وتأملوا تأملوا هذا الحديث الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (فلقد أرسل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عبد الله بن رواحه إلى اليهود في خيبر ليخرص عليهم الثمار والزروع ويضمنهم ما للمسلمين منها فأراد اليهود أن يعطوه رشوة فقال رضي الله عنه منكرا عليهم تطعموني السحت والله لقد جئتكم من عند أحب الناس ألي يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنتم أبغض ألي من عتكم من القردة والخنازير ولا يحملني بغضي لكم وحبي إياه الا أعدل عليكم فقالوا بهذا قامت السموات والأرض) تأملوا أيها الاخوة تأملوا هذا الكلام العظيم من عبد الله بن رواحه رضي الله عنه كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من محبة أي إنسان ويبغض اليهود أشد من بغض القردة والخنازير حب بالغ لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبغض شديد لليهود يصرح بذلك رضي الله عنه ثم يقول لهم لا يحملني بغض إياكم وحبي إياه ألا أعدل عليكم رضي الله عن عبد الله بن رواحه وعن جميع الصحابة إن العدل أيها الأخوة لا يجوز أن يضيع بين عاطفة الحب وعاصفة البغض يقول الله عز وجل ( وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) ويقول جل وعلا في الجائرين ( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) وقال صلى الله عليه وسلم ( أهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال ) أخرجهما مسلم فاتقوا الله عباد الله وكونوا وقوامين بالقسط شهداء لله اللهم انا نسألك أن توفقنا لأداء الأمانة وأن توفقنا للحكم بالعدل والاستقامة وأن تثبتنا على الهدى وتجنبنا أسباب الهلاك والردى وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ....الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وأشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليما كثيرا
أما بعد(/3)
فاشكروا عباد الله نعمة الله عليكم فإننا ولله الحمد في هذه البلاد في نعمة ورغد وأمن وأمان نسال الله تعالى أن يديم ذلك علينا ولكننا نخشى والله نخشى أن نزل بما فتح الله علينا من النعيم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( والله ما الفقر أخشى عليكم وإنما أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم) وإنه يوجد في أسواقنا الآن يوجد في أسواقنا بكلات تلبسها النساء فوق رؤوسهن تشبه الشعر الطبيعي تجعلها المرأة فوق رأسها أو على الخلف وهذا حرام بل هو من كبائر الذنوب لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعن الواصلة والمستوصلة وفي الصحيحين أن معاوية أمير المؤمنين رضي الله عنه حج ذات عام فلما قدم المدينة وصعد المنبر أتاه احد الحراس بكبة أو قصة من شعر فأخذها رضي الله عنها بيده وقال أين علماؤكم يا أهل المدينة أين علماؤكم يا أهل المدينة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك ويقول ( إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم ) يعني بذلك هذه الكبة أو القصة أو البتلة كما يقولون الآن من الشعر فهي سبب للهلاك كما هلكت بنو إسرائيل بذلك ولهذا قال بعض العلماء إن من اتخذها فقد شابه اليهود فيها أترضى أيها المسلم أن تكون ابنتك أو زوجتك أو أختك مشابهة لنساء اليهود أترضى أن تعرض نفسك للهلاك وليس الهلاك هلاكك وحدك ولكن هلاك الأمة كلها لأن الله يقول ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) إذن هذه البتلات من الشعر حرام بل هي من كبائر الذنوب لا يحل بيعها ولا شراؤها ومن كانت عنده من أهل الدكاكين فإن الواجب عيه إحراقها وسوف يخلف الله عليه إنشاء الله لان من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه وإنني بهذه المناسبة أود الا نتلقف كل ما يرد إلينا من الخارج مما هو مصنوع أو مخيط لأن هؤلاء القوم إنما يصنعون لشعوبهم التي تتخذ مثل هذه الملابس وقد تكون الملابس مما نهى عنه الشرع في ملتنا لذلك يجب الحذر من الملابس الجاهزة وأن ننظر هل توافق ما كانت عليه هذه الأمة من الستر والحياء أو هي بخلاف ذلك ليست لنا ونحن أمة عزيزة بديننا وعاداتنا التي لا تخالف الشرع ليس لنا أن نكون أذناب لغيرنا نتلقف كل ما ورد إن بعض الناس من التجار نسأل الله لنا ولهم الهداية لا يبالون بما يوردون على هذه البلاد مما فيه صور أو مما يخالف الشرع في كونه قصيرا أو ضيقا تلبسه النساء ولكن علينا نحن أن نحارب كل ما يخالف الشرع من أي مصدر كان ومن أي جهة كانت والخلاصة أن هذه البتلات التي هي من الشعر المصنوع الذي يحسبه الإنسان طبيعيا لا يجوز للمرأة لبسها ولا يجوز شراؤها ولا يجوز الاتجار بها ولا بيعها ومن كانت عنده فعليه أن يحرقها لأنه لا يمكن الانتفاع بها بأي حال من الأحوال أيها الاخوة أيها الرجال كونوا كما جعلكم الله عز وجل كونوا قوامين على النساء بما فضل الله بعضكم على بعض وبما أنفقتم من أموالكم فالرجل هو القائم على المرأة هو المسئول عنها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم( الرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته) وإن بعض الناس يكون أمام النساء دليلا لا تعرف رجولته وهذا غلط إن بعض الناس يكون دليلا إما لكون طبيعته هكذا وإما لأن المرأة هي التي تنفق عليه لما عندها من الراتب فيخشى إذا تكلم عليها أو خالفها فيما تريد من الأمور المحرمة يخشى أن تمن عليه أو تقطع النفقة وهذا غلط هذا تصور خاطئ فإن الرزق عند الله عز وجل كما قال الله تعالى (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) إن من الأمانة التي سمعتم الكلام عنها في الخطبة الأولى إن من الأمانة التي يسال الإنسان عنها أن ينظر الإنسان ماذا يصنع أهله ماذا يلبسون ماذا يفعلون ماذا يقولون من ذا الذي يصاحبون حتى يكون على بصيرة من الأمر إن بعض النساء تسأل عن مثل هذه الأشياء المحرمة من البتلات أو الملابس تقول إن زوجها يرغب ذلك وإنه يأمرها بهذا ولكننا نقول لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق حتى لو أمر الزوج بهذا فإنه لا يطاع لأنه إذا أمر أي إنسان بمعصية الله فان أمره مردود في نحره فلا طاعة له قد يأتي الشيطان فيقول للمرأة إنك إذا عصيته في ذلك فربما يكون سببا للطلاق ولكن هذا داخل في تخويف الشيطان للإنسان من طاعة الله أو من ترك معصيته عليها أن تعتمد على الله وهي إذا اعتمدت على الله تعالى وخالفت زوجها امتثالا لأمر الله تعالى واجتنابا لنهيه فان القلوب بيد الله عز وجل فسوف يلقي الله في قلب زوجها المحبة لها إنشاء الله تعالى أسال الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن قاموا بأمر الله اللهم اجعلنا ممن قام بأمرك على ما يرضيك عنا يا رب العالمين واعلموا أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة في الدين بدعة وكل بدعة ضلالة فعليكم بالجماعة فإن يد الله(/4)
على الجماعة ومن شذ، شذ في النار وأكثروا من الصلاة والسلام على نبيكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله بها عليه عشرا اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك محمد اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك محمد اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك محمد اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرا وباطنا اللهم توفنا على ملته اللهم احشرنا في زمرته اللهم اسقنا من حوضه اللهم أدخلنا في شفاعته اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين اللهم أرضي عن خلفائه الراشدين أبى بكر وعمر وعثمان علي أفضل أتباع المرسلين اللهم أرضى عن الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .(/5)
النظافة ...
أساليب وقائيه سبق إليها الإسلام من خلال تشريع النظافة
مقدمة:
قد يتساءل المرء عن الإسلام الذي جاء به محمد r النبي الأمي إلى البشرية كافة وإلى الأمم قاطبة قبل أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان حيث التخلف والتردي الحضاري والحياة البدوية التي لا تعرف إلا العيش مع الكلاب والهوام في الكهوف وشعاف الجبال حتى قال قائلهم:
فقل للحواريات(1) يبكين غيرنا ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
وقال آخر يتغزل في محبوبته:
أحب لحبها السودان حتى حببت لحبها سود الكلاب
كيف جاء الإسلام ليحدث أولاء البدو عن أسس النظافة وقواعدها ووسائلها وأسبابها ويحذر أشد التحذير من النجاسة والقذى فيقرن التوحيد بالطهارة الشرك بالنجاسة في أوائل ما نزل من القرآن حيث قال عز وجل ?وربك فكبر وثيابك فطهر? المدثر. 3: 4 .
وقال عز وجل ?إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا? التوبة.
لقد جعل الإسلام من النظافة والطهارة ركناً ركيناً وأصلاً من الشريعة والدين قال r "الطهور شطر الإيمان"(2) ومن العجب أن هذا لم يكن مألوفاً في حياة العرب ولا غيرهم أليس هذا إعجازاً دالاً على أن القرآن ليس من عند بشر بل هو من لدن حكيم حميد.
وفي هذا البحث نتناول هذا الموضوع من خلال الفصول التالية:
النظافة عند العرب وغيرهم من اليهود والنصارى والبراهمة والمجوس قبل الإسلام وأثناءه.
موقف الإسلام من النظافة.
الكشف العلمي عن ضرورة النظافة للوقاية من الأمراض. وجه الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في هذه القضية.
أولاً: النظافة عند العرب وغيرهم:
النظافة عند العرب: "كان الغالب من أهل باديتهم لا يعاف شيئاً من المأكل لقلتها عندهم ومنهم من كان يعاف العذر ويتجنب عن أكل كل ما دب ودرج"(3) وقد كانت العرب قبل الإسلام تأكل الميتة والدم ولحم الخنزير والمنخنقة(4) والموقوذة(5) والمتردية(6) وبقايا ما تأكله السباع والطيور والهوام وربما أكلو دون تذكية وذبح. ولا يعافونها. وقد ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره "قال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو صدي بن عجلان قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام وأعرض عليهم شرائع الإسلام فأتيتهم فبينما نحن كذلك إذ جاؤا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها فاقلوا هلم يا صدي فكل قال قلت ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم فأقبلوا عليه وما ذاك؟ فتلوث عليهم هذه الآية.. حرمت عليكم الميتة والدم.. الآية.وكان العرب الجاهليه كثيراً من مظاهر الوساخة والنجاسة مما لا يخفى على أحد حتى جاء الإسلام فهذبها وحرم بعضها وكره بعضها فلله الحمد والمنة.
النظافة عند المجوس: يعتقد المجوس وهم عباد النار أن أقرب القربات إلى ربهم أن يغتسلوا ببول البقر وألا يمسوا ماءً ولا طهوراً أبداً وكانت تأخذ طابع التعبد للإله المزعوم عندهم. يقول ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس ص74 ذكر تلبيس إبليس على المجوس(7) وكانوا لا يدفنون موتاهم في الأرض تعظيماً لها ويقولون أنها نشوء الحيوانات فلا نقذرها وكانوا لا يغتسلون بالماء تعظيماً له وقولهم لأن به حياة كل شيء إلا أن يستعملوا قبله أو بعده بول البقر ونحوه ولا يبزقون فيه ولا يرون قتل الحيوانات ولا ذبحها وكانوا يغسلون وجوههم ببول البقر تبركاً به وإذا كان عتيقاً كان أكثر بركة... وإذا أرادت الحائض أن تغتسل دفعت ديناراً إلى الموبذ.. إلى أن قال ابن الجوزي رحمه الله "ومن أقوال المجوس أن الرعد إنما هو ...... العفاريت المحبوسة في الأفلاك المأسورة وأن الجبال من عظامهم والبحر من أبوالهم ودمائهم" ا.هـ قلت ولعل هذا سبب عدم استعمالهم الماء واغتسالهم به.
النظافة عند البراهمة: يقول ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس(8) وهو يبين صور عباداتهم وقربهم "ومنهم من يقف في أخثاء البقر إلى ساقه ويشعل النار فيحترق"(9)
النظافة عند النصارى: والأمة النصرانية كذلك لم تعرف النظافة في كتابها المقدس "الإنجيل. العهد الجديد" الذي حرفه الأحبار والرهبان وغيروا فيه وبدلوا فقد جاء في الاصحاح السابع من انجيل مرتس "ثم سأله الفريسيون والكتبة لماذا لا يسلك تلاميذك حسب تقليد الشيوخ بل يأكلون خبزاً بأيد غير مغسوله فأجاب وقال لهم حسناً تنبأ عنكم أشعيا أنتم المرائين كما هو مكتوب. كما ورد في إنجيل مرقس الإصحاح السادس. وأوصاهم ألا يحملوا شيئاً للطريق غير عصى فقط ولا مزود أولا نحاساً في المنطقة بل يكونوا مشدودين بنعال ولا يلبسوا ثوبين.(/1)
النظافة عند اليهود: أما اليهود فهم أمة القذى والنجاسات عبر التاريخ كله وغلى يومنا هذا وإلى الأبد وكما قال عنهم r في الحديث الذي رواه الترمذي والبزار والطبراني في الأوسط وحسنه الألباني من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي r "نظفوا ....... ولا تشبهوا باليهود" قال في تحفة الأحوذي الغناء سامة البيت وقبالته وقيل عتبته وسدته وقوله ولا تشبهوا باليهود أي في عدم النظافة والطهارة وقلة التطيب وكثرة البخل والخسة والدثاءة" أ.هـ.
النظافة والتوراة:وردت نصوص في التوراة تدعوا إلى النظافة والطهارة حرامة لكن بعض النصوص تخالف هذا كما أن فعال وأعمال اليهود تخالف هذا فمثال النصوص التي تحث على النظافة والطهارة في التوراة "العهد القديم" إذا كان فيكم رجلاً ليس بطاهر من عارض الليل فليخرج إلى خارج المحلة. ولا يدخل داخلها وعند إقبال الليل يغتسل بالماء وعند غروب الشمس يدخل داخل المحلة(10) كما ورد في التوراة الأمر بالطهارة صراحة قبل مباشرة الأعمال التعبدية من ذلك "وكلم الرب موسى قائلاً اصنع مغتسلاً من نحاس مقعده من نحاس للغسل واجعله بين خباء المحضر والمذبح واجعل فيه ماءً فيغسل هارون وبنوه منه أيديهم وأرجلهم...الخ"(11). لكن مع هذه النصوص نجد بعض التشريعات اليهودية تحبذ النجاسات وتعتبر مزاولتها نوعاً من أنواع القرب إلى الرب فمثلاً: "الدم يحمل طابعاً قدسياً عند يهود ولذلك عد من أعمال التكفير الهامة ومن أساليب تقديم القرابين من الذبائح أن يراق دم الذبيحة فيصب قسم منه على المذبح والقسم الآخر يرش على الشعب بقصد البركه"(12) كذلك يعتقد اليهود كما في كتابهم المقدس التلمود أنه يستحسن ترك بقايا الطعام على المائدة فلا يؤكل فقد ورد ما نصه "إن الذي لا يترك شيئاً من طعامه على مائدته لا يرى الخير في حياته"
ثانياً: موقف الإسلام من النظافة: إهتم الدين الإسلامي بالنظافة إهتماماً كبيراً والأدلة على ذلك واضحة وكثيرة لعل من أبرزها أن جعل النظافة مفتاحاً وطريقاً لركن من أهم أركانه فالصلاة هذه العبادة والفريضة الجليلة لا تقبل من العبد إلا إذا تطهر لها وأزال عن جسمه وثوبه ومكانه النجاسات التي تعتبر المصدر الأول للجراثيم والسبيل المهد لأمراض والأوبئة فالوضوء شرط في صحة الصلاة وبه تتم النظافة للأعضاء التي تتعرض للغبار والأوساخ أكثر من غيراه. وطهارة الثياب مطلوبة كذلك وواجبة. كما أن طهارة المكان أمر لا بد منه فإذا توفرت هذه الشروط فالصلاة صحيحة وبتوفرها تتم النظافة وتحقيق الهدف منها والذي منه حفظ الصحة والوقاية من الأمراض ولعل نظرة خاطفة لنصوص القرآن والسنة تبين لك ذلك ومنها:
?يا أيها المدثر ثم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر?. من أوائل ما نزل.
? يا بني ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد?... الأعراف31
? فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله?.
? إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين?. إلى عشرات الآيات الدالة على موضوعنا. أما الأحاديث فأكثر من أن تحصر ومنها : عن عائشة قالت قال r "ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبي مهنته" أخرجه أبو داود ومالك وأحمد.
وفي الصحيح "الطهور شطر الإيمان"(13)
بعض وسائل الإسلام لتحقيق النظافة والمجتمع والبيئة:
1. أمر الإسلام بنظافة الملابس وهذا جلي جداً فقد كان من أوائل ما نزل من القرآن إن لم يكن أول ما نزل كما قال تعالى: ?وثيابك فطهر? بعد أن قال وربك فكبر فقرن التوحيد بنظافة الثوب ولا صارف للفظ عن ظاهره. وفي الحديث الصحيح عن عائشة قالت قال رسول الله r ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبي مهنته. أخرجه أبو داود ومالك واحمد. ولقد عد الإسلام الثوب نجساً بمجرد وصول شيء من النجاسة إليه كالبول والغائط وال تصح الصلاة فيه إلا أن يكون طاهراً وإلا لم تقبل صلاة وإن كانت النجاسة قليلة أو كثيرة قال أبو داود سمعت أحمد يقول في البول والغائط يصيب الثوب قال يعيد الصلاة من قليله وكثيره"(14) كما أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت لونه أو طعمه أو ريحه فهو نجس(15) وبالتالي فالمسلم دوماً ينزه ملابسه أن تقع عليها نجاسة ولذا في الحديث المتفق عليه إن المؤمن لا ينجس..
2. نظافة الطرقات والأماكن العامة: ففي الحديث: وتميط الأذى عن الطريق صدقه"(16)
وفي الحديث أيضاً: البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها" متفق عليه.
وفي الحديث أيضاً: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه"(17) ولمسلم "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب"
3. أمر الإسلام بالاغتسال والتطهر: "شرع لنا رسول الله r أكثر من سبعة عشر غسلاً كغسل الجنابة الحيض والجمعة والعيدين وغيرها كل ذلك من شأنه أن يجعل المسلم متميزاً في نظافته ومما ورد في ذلك قوله r "حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يغسل رأسه وجسده" رواه الشيخان واللفظ لمسلم.(/2)
وأيضاً قوله r "غسل يوم الجمعة على كل محتلم وسواك ويمس من الطيب ما قدر عليه" رواه مسلم(18) دعا الإسلام إلى طهارة الفم وفي المتفق عليه "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال لقد كنا نؤمر بالسواك حتى ظننا أنه سينزل به قرآناً" دعا الإسلام إلى طهارة البدن لا سيما مواضع التعفن منه نقد علمياً رسول الله r سنن الفطره "قص الشارب وتقليم الأظافر والاستحداد والختان ونتف الإبط لنستكمل أسباب النظافة الجسدية فقد قال r" خمس من الفطرة الختان والإستحداد وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظافر" رواه الجماعة واللفظ للترمذي وأحمد.
كما يدعونا r إلى التنزه عن البول والغائط كما في المتفق عليه إنما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة".
نظافة الجلد فقد شرع الإسلام الوضوء والاغتسال لنظافة الجلد.
إلى غير ذلك من الوسائل المختلفة يعجز القلم عن حصرها وإنما اكتفينا بالإشارة إليها وبالله التوفيق.
ثالثاً: الكشف العلمي عن ضرورة النظافة للوقاية من الأمراض: لم يكن معلوماً لدى أحد وجود الجراثيم الميكروبات حتى تمكن الإنسان من اكتشاف المجاهر والميكروسكوبات وذلك في القرن الثامن عشر. فماذا وجد الإنسان: أثبت علماء الجراثيم وجود أعداد هائلة من الجراثيم على السنتيمتر المربع من الجلد الطبيعي وفي المناطق المكشوفة يتراوح العدد بين 1-5 مليون جرثومه وفي كل سنتميتر مربع واحد(19) وتتكاثر هذه الجراثيم بصورة مستمرة وللتخلص منها لا بد من غسل الجلد باستمرار ويتم ذلك بالوضوء الذي أمرنا الله تعالى به وحثنا عليه رسولنا الكريم لأنه يتكرر يومياً عدة مرات بصورة دائمة. جلد الإنسان عليه أعداد من الجراثيم لا يمكن حصرها(20) وخير تشبيه لها ما ذكره الدكتور كقمان في كتابه الخاص بجراثيم الجلد(21) حيث شبه الجلد بما عليه من أنواع الجراثيم البكترية والفيروسية والفطرية والطفيلية التي لا يعلم عددها إلا الذي خلفها وما بينها من عداوات وحروب وما لها من أشكال ومتطلبات شبهه بالكرة الأرضية بما عليها من مخلوقات حية وما بينها من اختلافات شتى وربما يفوق عدد الجراثيم المختلفة على الجلد الطبيعي عدد سكان الأرض قاطبة وقد أثبت البروفيسور فانيدوف في دراسته أن الاستحمام الواحد يزيل من جلد الإنسان أكثر مائتي مليون جرثومة.(22)
وبما أن الجراثيم لا تقف لحظة عن التكاثر فلا بد من إزالتها بشكل دوري ومستمر لتبقى أعدادها قليلة بحيث يستطيع الجسم مجابهتها وقد شرع لنا رسول الله أكثر من سبعة عشر غسلاً.كما سبق بيانه. تمرد تستقر في الفم أعداد وأنواع كثيرة من الجراثيم تزيد على مائة نوع يتراوح عددها ما بين خمسمائة إلى خمسة ألف مليون جرثومة في المليمتر الواحد من اللعاب وهي تتغذى على بقايا الطعام بين الأسنان وعليها وينتج عن نموها وتكاثرها وأحماض وإفرازات كثيرة تؤثر على الفم ورائحته وعلى لون الأسنان وأدائها فإذا لم تتم إزالة هذه الجراثيم عدة مرات في اليوم فإنها تسبب التسوس وأمراض اللثة.(23) وقد أثبت العلم الحديث أن التسوس يحدث نتيجة عدة عوامل منها فضلات الطعام ووجود الجراثيم وتخرش سطح السن كما أثبت أن للسواك أثراً فعالاً في الحفاظ على الأسنان فإنه يزيل الجراثيم على أليافه ويقتل بعضها كيميائياً"(24) كشفت لنا البحوث الطبية الأهمية الصحية البالغة لتطبيق هذه الخصال وما يترتب على إهمالها من أضرار فترك الأظافر مجلبة للمرض حيث تتجمع تحتها ملايين الخلايا الجرثومية التي تؤدي دوراً مهماً في نقل الأمراض وقد فصل ذلك الدكتور سامان في كتابه الأظافر ودورها في نقل الأمراض عام 1978م أما ترك شعر العانة فقد أصبح مسؤولاً عن انتشار مرض تقمل العانة الذي ينتشر بشكل كبير في أوربا(25) البول عبارة عن مجموعة من المواد السامة يتخلص منها الجسم عن طريق البول وإضافة لذلك فإنه البول ملوث جرثومياً لذا فالتنزه منه أمر صحي بالغ الأهمية والعلم الحديث يقول أن الغرام الواحد من براز الإنسان فيه أكثر من مائة ألف مليون جرثومه وله دور كبير في نشر الأوبئة إن ترك هنا وهناك.(26).
رابعاً: وجه الإعجاز العلمي في القرآن والسنة من خلال تشريع النظافة:
يمكن تلخيص أوجه الإعجاز في القرآن والسنة في هذه القضية فيما يلي:(/3)
سبق الإسلام سائر الشرائع والديانات السابقة والفلاسفة والأطباء والمخترعين بهذه التشريعات الوقائية العجيبة والفريدة. "وإن من أسرار الطب الوقائي في الإسلام أنه جعل النظافة أمراً تعبدياً مما جعل فيها روحاً وديمومة لا يستطيعها أي قانون آخر"(27). "البساطة في التكليف واليسر في التنفيذ بحيث لا يستلزم كلفة مادية ولا جهداً مرهقاً يقعد الهمم"(28) "الذاتية في التنفيذ أي أن المسلم يقوم بالتطبيق تعبداً لله فهو لا يحتاج إلى مدير يراقبه فواعظ المؤمن ينبع من أعماق نفسه لذا فالمجتمع الإسلامي في غنى عن الرقابة الحكومية في تنفيذ هذه القواعد الصحية"(29) الديمومة إذ الالتزام بالأوامر الإسلامية الصحيحة ليس مرهوناً بمدة أو بسن معينة بل تبقى وتطبق ما دام الإنسان قادراً على العبادة"(30) من رزق تضلعاً في القرآن الكريم والسنة النبوية يعلم أن الإسلام لم يترك شيئاً من الطب الوقائي إلا وأشار إليه بعموميات فوضع بذلك الخطوة الأولى وترك لعقل الإنسان ومختبراته أن يبحث على هداها"(31). وهذا وجه آخر من وجوه إعجازه. أنّى لنبي أمي لا يقرأ ولا يكتب أن يعرف هذه الأسرار العجيبة وأن يحدد الوسائل المناسبة لتحقيق النظافة وإبادة الجراثيم والميكروبات ولم يكن لديه أي وسيلة علمية من المجاهر والميكروسكوبات والتي لم تكتشف إلا في القرن الثامن عشر.. ومع ذلك يسن كثيراً من السنن والشرائع لم يصل إليها العلم الحديث حتى بعد أن تمكن من اكتشاف المجاهر الإلكترونية ووجود مئات المعامل والمختبرات إلا أن يكون هذا وحي أوحاه الله إليه كما قال تعالى "وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتو العلم.
(1) الحواريات النساء الشديد بياضهن.(2) رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري.(3) بلوغ الأدب في معرفة أحوال العرب. (4) التي ماتت بالخنق.
(5) التي ماتت بالضرب. (6) التي ماتت متردية من شاهق (7) صـ74 (8) ص68 (9) الأخثاء الأبوال أنظر القاموس المحيط لليفروز أبادي.
(10) سفر التثنية الاصحاح 23 فقرة -21 (11) سفر الخروج الاصحاح 30 فقره 17- 21 أنظر من اليهديه إلى الصهيونية ص131-132.
(12) سفر الأحبار الاصحاح 17 من "اليهودية إلى الصهيونية ص137 (13) رواه مسلم عن ابي مالك الأشعري. (14) أنظر مسائل الإمام أحمد ص41 . وهذا رأي غيره أيضاً من العلماء والفقهاء. (15) أنظر نيل الأوطار 1/28 (16) متفق عليه من حديث أبي هريرة. (17) متفق عليه عن أبي هريرة. (18) انظر تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ص9 (19) مجلة المجتمع العدد 98 عام 1972م (20) المرجع السابق.
(21) Noble and Somerville 1974 microbiology of nymmen. Skiing.
(22) Kligman 1965 skin becteria and their role in in ections.
(23) السواك والعناية بالأسنان للمؤلف عبدالله عبدالرزاق مسعود.(24) باسم المنساوي دراسته بعنوان السواك واستنباطات صيدلية جديدة - مؤتمر الطب الإسلامي الأول- القاهرة 1987. (25) الأمراض الجنسية عقوبة إلهية 1984م د. عبدالحامد القضاه.
(26) Learll and clarle 1980 preventive mograw hill نقلت كافة هذه الأبحاث من كتاب العدوى الطب الوقائي من أبحاث هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة. ص8-11. (27) أنظر العدوى والطب الوقائي من منشورات هيئة الإعجاز العلمي ص9 (28) المصدر السابق ص16 (29) المصدر السابق ص17 (30) المصدر السابق ص17 (31) المصدر السابق ص8 ...
موقع الإيمان
...(/4)
النفس ومراتبها (2)
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- محاسبة النفس قبل الشروع في العمل. 2- محاسبة النفس بعد أداء العمل. 3- مقامات أخرى لمحاسبة النفس. 4- مسائل يحاسب الإنسان بها نفسه في الدنيا قبل أن يسأله الله عنها يوم القيامة. 5- الحساب في الدنيا يخفف حساب الآخرة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فما زلنا نعالج أيها الإخوة علاج القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه، وقد سبق لنا أن العلاج يكون بأمرين: بمحاسبة النفس ومخالفتها، وكان آخر ما مرّ بنا الكلام على فضيلة محاسبة النفس، ثم نقول اليوم وبالله التوفيق:
محاسبة النفس نوعان، نوع قبل العمل ونوع بعده.
فأما النوع الأول: فهو أن يقف العبد عند أول همِّه ومبدء إرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه.
قال الحسن رحمه الله تعالى: "رحم الله عبدًا وقف عند همِّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر".
ولكن، كيف يكون محاسبة النفس قبل العمل؟ إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهَمّ به العبد وجب عليه أن يقف أولاً وينظر، هل ذلك العمل مقدور له أم غير مقدور ولا مستطاع؟ هل يستطيع فعله؟ هل يقدر عليه؟ فإن لم يكن مقدورًا له لم يقدم عليه، وإن كان مقدورًا له، وقف ثانية ونظر، هل فعله خير له من تركه؟ أم تركه خير له من فعله؟ فإن كان ترك العمل الذي همَّ به، وأراد أن يفعله -إن كان تركه- خيرٌ له من عمله لم يُقدم عليه، وإن كان فعله خير له من تركه وقف ثالثًا، ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله وثوابه؟ أم إرادة الجاه والثناء من المخلوق؟ ما الباعث على العمل؟ أراد به وجه الله واحتساب الثواب عنده. أم أراد الجاه والثناء والمال من المخلوق؟
فإن كان الباعث عليه إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق لم يقدم عليه, وإن أفضى به إلى مطلوبه، ينبغي عليه ألا يُقدم على العمل، وإن أفضى به إلى تحقيق مطلوبه ومبتغاه، لماذا؟ لئلا تعتاد النفس الشرك ويخف عليها العمل لغير الله تعالى، فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لوجه الله تعالى حتى يصير أثقل شيء عليها، إذا اعتاد العبد العمل لغير وجه الله وتساهل في ذلك ثقل عليه العمل لله تعالى.
وإن كان الباعث على هذا العمل إرادة وجه الله تعالى وثوابه وقف رابعًا وأخيرًا، ونظر: هل هو مُعانٌ عليه وله أعوان وأنصار ينصرونه، إذا كان العمل محتاجًا إلى ذلك أم لا؟ إن كان ليس له أعوان أمسك عنه فإن النبي أمسك عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، فإن كان مُعانًا عليه فليقدم فإنه منصور، فلا يفوِّت النجاح إلاَّ من فَوّت خصلة من هذه الخصال، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح، فهذه أربع مقامات، إذا حاسب العبد نفسه عليها قبل العمل تبين له ما يقدم عليه من العمل وما يحجم عنه، فما كل ما يريد العبد فعله يكون مقدورًا له ولا كل ما يكون مقدورًا له يكون فعله خير له من تركه، ولا كل ما يكون فعله خير له من تركه يفعله لله، ولا كل ما يفعله لله يكون معانًا عليه.
وأمَّا النوع الثاني: فهو محاسبة النفس بعد العمل، إذا حاسبها قبل أن يعمل وانشرح صدره للعمل فقام به فينبغي عليه محاسبة نفسه بعد العمل أيضًا, لماذا؟ قد وفَّى المقامات التي ذكرت وحققها لماذا يطالب بالحساب بعد العمل مرة أخرى؟ لمصالح أخرى تتبين بعد المحاسبة، ومحاسبة النفس بعد العمل ثلاثة أنواع أحدها:
محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى: إذا فعل العبد طاعة فإنه ينبغي عليه أن يحاسب نفسه بعدها، هل قصَّر في هذه الطاعة أم وفى المقامات التي ينبغي مراعاتها من حق الله في الطاعة؟ وما هي المقامات؟ هي ستة:
الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة رسول الله في العمل، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منة الله تعالى عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله.
يعني عليه أن يسأل نفسه بعد أداء الطاعة هل أخلص في العمل؟ ونصح لله في أداء هذا العمل؟ فخلّصه من الشوائب وخلّص من إرادة غير الله تعالى فيه، وهل تابع رسول الله فيه؟ بحيث يكون العمل خالصًا صوابًا، خالصًا لله، وصوابًا أي يتابعوا فيه رسول الله فلا يؤديه بالهوى إنما يقيده بمتابعة رسول الله .(/1)
ثم هل شهد الإحسان في هذا العمل؟ وما هو الإحسان؟ الإحسان كما سئل جبريل النبي عنه فقال: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) وجاء في هذا حديث أبي هريرة في البخاري وحديث عمر في مسلم: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه)) رأي العين فإن من رأى العظيم أمامه لم يشرد ذهنه، ولم يتجه في كل واد، وإنما يركز ويحضره انتباهه وتركيزه، ((فإن لم تكن تراه)) وهذا هو الواقع فعلاً فإن الله لا يُرى في الدنيا ولن تروا ربكم حتى تموتوا، كما جاء في صحيح مسلم والحديث صحيح ((فإنه يراك))، عليك أن تستيقن أن الله تبارك وتعالى وإن حيل بينك وبين رؤيته ((فإنه يراك)) وهذا دافع لك على أن تحسن في أداء العمل.
ثم من مقامات الطاعة: أن تشهد مِنّة الله عليك عندما تؤدي الطاعة، الله هو الذي مَنّ عليك ووفقك وشرح صدرك لأداء الطاعة، ولو أراد لصرف قلبك عنها، ولجعلك من الذين ينشغلون بدنياهم عن آخرتهم، لكن هو الذي رحمك ونظر إليك بعين الرحمة فهداك وأرشدك لتلك الطاعة، فلا تغتر ولا تنظر إلى نفسك نظرة الإعجاب والإدلال.
والمقام السادس: أن تشهد وأن تعترف وأن تلحظ تقصيرك في أداء الطاعة بعد ذلك كله. بعد الوفاء بكل هذه المقامات عليك أن تعرف أنك مازلت مقصرًا، وأنك لم تفعلها ولم توقعها على الوجه الذي ينبغي لله تعالى.
هذه المقامات ينبغي على العبد أن يسأل نفسه بعد أداء الطاعة هل وفاها وهل أتى بها في هذه الطاعة.
هذا أحد أنواع محاسبة النفس بعد أداء العمل.
والثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خير له من فعله، إذا فعل وعمل عملاً كان تركه خيرًا له من فعله، ولم يستن ذلك إلا بعد وقوع العمل فينبغي أن يحاسب نفسه، لماذا فعلت هذا العمل؟ قد كنت سألتُ نفسي وحاسبتها قبل فعله، وتبين لي أن فعله خير لي من تركه، فهل تابعت هواي؟ هل كان تركه خيرًا ثم تابعت أنا الهوى وتركت الحق الذي استبان؟ ينبغي أن يحاسب نفسه.
ثالثًا: ينبغي أن يحاسب نفسه على كل عمل مباح أو معتاد لِم فعله؟ لِم فعل هذا العمل المباح؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحًا، أم أراد به الدنيا والعاجلة فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به؟
والذين يهملون أنفسهم ويتركون محاسبتها ويسترسلون ويتساهلون ويُمَشون الأمور، يؤول بهم هذا الأمر إلى الهلاك، فإن هذه هي حال أهل الغرور الذين يغمضون أعينهم عن العواقب، ولا ينظرون فيها، ويُمشون الحال ويتكلون على العفو، فإنهم يهملون أنفسهم ويتركون محاسبتها فإذا فعلوا ذلك سهل عليهم مواقعة الذنوب كلها، وأنس بها وعسُر عليه فطام نفسه، ولو حضر هذا الإنسان التارك لمحاسبة نفسه رشده لعلم أن الحمية أسهل عليه من الفطام، أيهما أسهل أن يحمي الإنسان نفسه من الوقوع في المحظور والمخالفات، أو أن يفطمها عن المألوفات والأمور المعتادة؟ فطامها صعب، إن أعطيتها ما تريده فإنه يصعب عليك أن تفطمها، لكنك إن حاسبتها عند إرادتها للأشياء وبعد العمل سهل عليك حمايتها عن الوقوع فيما يغضب الله عز وجل، ولو حضر الإنسان رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد، وجماع ما مضى أيها الإخوة الكرام من الكلام على محاسبة النفس قبل العمل وبعد العمل:
أنه يجب على العبد أن يبدأ أولاً بالفرائض فيحاسب نفسه عليها، فإن تذكر فيها نقصًا تداركه بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها على أفعال المناهي المنهيات التي نهاه الله تبارك وتعالى أن يقربها فإن ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة أو بالاستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خُلِقَ له تداركه بالذكر وبالإقبال على الله تعالى، ثم يحاسبها على ما تكلمت به، وما مشت إليه رجلاه، وما بطشت يداه، وعلى ما سمعته أذناه، لماذا فعله؟ ولمن فعله؟ وعلى أيِّ وجه فعله؟ ينبغي أن يحاسب نفسه على ذلك كله، ويعلم العبد أنه لا بد أن يُنشر له ولكل حركة وكلمة منه يوم القيامة ديوانان، ديوان لمن فعلته؟ وكيف فعلته؟ السؤال الأول عن الإخلاص، والثاني عن المتابعة.
قال الله تعالى في سورة الحجر: فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].
وقال في سورة الأعراف: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:6-7]. وقال في سورة الأحزاب: ليسأل الصادقين عن صدقهم، فإذا سُئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين.
وورد في تفسير المراد من الصادقين وجهان:
الأول: أنهم هم الأنبياء والمرسلون فيسألهم الله عن إبلاغ الرسالات التي أرسلهم بها.
والثاني: أنهم المبلغون عن الرسل سيسألهم الله عن تبليغهم ما أبلغته رسلهم إياه من شريعة ربهم، العلماء والدعاة وغيرهم سيسألهم الله عز وجل.
قال ابن القيم رحمه الله: والتحقيق أن الآية تتناول هذا وتتناول هذا، تتناول الجميع.(/2)
قال قتادة رحمه الله: "كلمتان يُسئل عنها الأولون والآخرون يوم القيامة، ماذا كنتم تعملون؟ وما أجبتم المرسلين؟" أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على الخيرة من خلقك، والمصطفى من عبادك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
في الآيات التي تدل على سؤال الناس يوم القيامة، آية عظيمة في آخر سورة التكاثر، قال الله تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]. قال محمد بن جرير الطبري رحمه الله: "ثم ليسألنكم الله عز وجل عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا ماذا عملتم فيه من أين وصلتم إليه؟ وفيما أصبتموه وماذا عملتم به؟ سيسألكم الله عن ذلك، إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه.
والسؤال بل والنعيم المسؤول عنه يوم القيامة نوعان: نوع أُخذ بحله ومن حله وصُرف في حقه فيُسأل عن شكره، النعيم الذي وصلنا إليه بالحلال المحض وصرفناه في الحلال المحض نُسأل عن شكره، هل شكرتم هذه النعمة العظيمة، بل النعيم العظيم الذي جعلكم الله فيه في الدنيا، هل أتيتم بشكره وقدّمتم شكره؟ هل قمتم بواجب الله تعالى فيه؟.
والنوع الثاني: نوع أخذ بغير حِله وصُرف في غير حقه، يسئل عن الذي وصلنا إليه بغير الطريق الحلال وصرفناه في غير الحلال نسئل عن مستخرجه وعن مصرفه، من أي استخرجتموه؟ وفيما صرفتموه؟ سؤال من الله تبارك وتعالى يوم القيامة عن النعيم بنوعيه، ورضي الله عن صحابة رسول الله الذين كان الواحد منهم إذا وضع الماء في الظل ليبرد بعض الشيء ولتخف درجة حرارته وسخونته يشربه فإذا أحس فيه بشيء من البرودة بكى وقال: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8].
ماء بُرِّدَ بعض الشيء لا كل الشيء، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]. فما بالنا نحن غرقنا في النعيم إلى آذاننا وتقلبنا في أعطافه، وما زال سخطنا على قضاء الله وقدره وعدم رضانا بما رزقنا الله عز وجل، وعدم أدائنا لشكر هذه النعم. ما زال واقعًا مشاهدًا وما زلنا مصروفين عن كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله لا نلقي لذلك بالاً، وما بكم من نعمة فمن الله، كما قال في سورة النحل:
ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النحل:53]. تفزعون إلى الله، إذا مسكم ضر، ومستكم مصيبة، ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ [النحل:54].
عبد الرحمن بن عوف الصحابي الجليل الذي رآه سعيد بن جبير في خيمة ابن عباس في الحج يتعلم على يديه القرآن من كبار الصحابة من آكابرهم ومن العشرة المبشرين بالجنة، وإن لم يكن من العشرة المعدودين فهو منهم بُشر بالجنة، وهناك كثيرون لم يدخلوا في العشرة المعدودين جاءتهم البشائر من رسول الله بالجنة.
عبد الرحمن يطلب العلم ويتعلم القرآن على صحابي من سن أبنائه أو أبناء أبنائه، فيسأله سعيد بن جبير: أتتعلم القرآن على يدي ابن عباس يا عبد الرحمن؟ قال: نعم. شغلنا الغزو عن كتاب الله عز وجل، الجهاد والغزو منعهم من أن يحفظوا القرآن كله، ويتعلموا القرآن كله لمصلحة الإسلام، فما الذي شغلنا نحن عن كتاب الله عز وجل، إن كان الذي شغلهم هو الجهاد في سبيل الله عز وجل، فما الذي شغلنا نحن؟ فلنسأل أنفسنا هذا السؤال.(/3)
هل نحن في حاجة إلى أن نكرر كل جمعة الشواغل التي صرفتنا عن كتاب الله؟ وخالد بن الوليد الصحابي الجليل قائد جيوش المسلمين الفاتح المغوار البطل العظيم الذي يعرفه كل أحد في هذه الدنيا، يعرفه أهل الصين وأهل إندونيسيا والملايو وأهل جميع البلاد في الحبشة وإفريقيا والعراق وغير ذلك لمَّا عزله عمر عن القيادة وجلس في حمص وقد نشر مصحفه يتعلم ويقرأ ويبكي ويقول: شغلنا الجهاد عن تعلم كتاب الله عز وجل، هذا هو الذي شغلهم، وسمعت نفس الكلام من أحد المجاهدين الأفغان في هذه الأيام، يأسف على أنه لم يحفظ من القرآن إلا إثني عشر جزءًا فقط، ويقول إنما أردت أن أذهب إلى شيخي لأتم القرآن، شغلني الجهاد ووددت لو أن تهيأ لي مجلس أسمع فيه كل حديث روي عن رسول الله ولكني لست بمُتمكن ولست بواجد ذلك الوقت، وهذه الفرصة، فما الذي شغلنا نحن؟ هذا الذي شغل الأولين من المجاهدين والآخرين منهم، فلنسأل أنفسنا عن الذي شغلنا عن كتاب الله تعالى وإذا كان العبد محاسبًا عن كل شيء ومسؤول عن كل شيء، حتى على سمعه وبصره وقلبه، كما قال الله تعالى في سورة الإسراء: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]. إذا كان محاسبًا على ذلك كله، فهو حقيق على أنه يناقش نفسه قبل أن يُناقش الحساب، وقد دل على وجوب محاسبة العبد نفسه في الدنيا قوله تعالى في سورة الحشر: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]. يقول تعالى لينظر أحدكم ماذا قدَّم ليوم القيامة من الأعمال. أمن الصالحات التي تُنجي أم من السيئات التي توبقه؟
وكان سفيان الثوري يقول قبل أن يقوم من مجلس حديثه يقول عن الدنيا:
أرى الأشقياء لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوَّع
وإنها وإن كانت تسُر فإنها سحابة صيف عن قليل تقشّعُ
هكذا كان يقول عن الدنيا: أرى أشقياء الناس لا يسأمونها ولا يسأمون أن يغرقوا أنفسهم في ملذاتها ومتاعها، ولو فوَّت ذلك عليهم أداء حقوق الله تعالى التي خلقوا لأجلها، على أنهم فيها عراة ومجوَّع، وإنها وإن كانت تسرُ حينًا فإنها سحابة صيف عن قليل تمضي وتزول.
وقال حافظ بن أحمد الحكمي:
والموت فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءة
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
القبر روض من رياض الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيرًا فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يك شرًا فما بعد أشد ويلٌ لعبد عن سبيل ا(/4)
النفاق
أولاً: تعريف وبيان.
ثانيًا: أنواع النفاق.
ثالثًا: أركان النفاق وبواعثه.
رابعا: ذم النفاق في الكتاب والسنة.
خامسًا: خوف السلف من النفاق.
سادسًا: صفات المنافقين في الكتاب والسنة.
سابعًا: موقف المسلم من المنافقين.
ثامنًا: سبل الوقاية من النفاق.
أولاً: تعريف وبيان:
أ- النفاق لغة:
اختلف أهل اللغة في أصل النفاق:
فقيل: مأخوذ من النفق، وهو السّرب في الأرض الذي يُستَتَر فيه، سمّي النفاق بذلك لأنّ المنافق يستر كفرَه. وبهذا قال أبو عبيد.
وقيل: إنه مأخوذ من نافقاء، والنافقاء موضع يرقِّقه اليربوع من جحره، فإذا أتى من قِبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق، أي: خرج، ومنه اشتقاق النفاق؛ لأنّ صاحبه يكتم خلافَ ما يُظهر، فكأنَّ الإيمان يخرج منه، أو يخرج هو من الإيمان في خفاء.
ويمكن أنَّ الأصل في الباب واحد، وهو الخروج، والنفق المسلك النافذ الذي يمكن الخروج منه.
قال ابن رجب: "والذي فسّره به أهل العلم المعتبرون أنّ النفاق في اللغة هو من جنس الخداع والمكر، وإظهار الخير وإبطان خلافه".
ب- النفاق شرعا:
هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر.
وهو اسم إسلاميّ لم تعرفه العرب بهذا المعنى الخاصّ، وإن كان أصله الذي أُخذ منه في اللغة معروفًا.
ج- ألفاظ ذات صلة:
الزندقة:
أطلق بعض العلماء لفظ "الزنديق" على المنافق.
قال ابن تيمية: "ولما كثرت الأعاجم في المسلمين تكلموا بلفظ الزنديق، وشاعت في لسان الفقهاء، وتكلم الناس في الزنديق هل تقبل توبته؟... والمقصود هنا أن الزنديق في عرف هؤلاء الفقهاء هو المنافق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يظهر الإسلامَ ويبطن غيرَه، سواء أبطن دينا من الأديان كدين اليهود والنصارى أو غيرهم، أو كان معطّلاً جاحدًا للصانع والمعاد والأعمال الصالحة".
ينظر: لسان العرب (14/243)، مادة: (نفق).
مقاييس اللغة لابن فارس (5/455)، مادة: (نفق).
جامع العلوم والحكم (2/481).
ينظر: النهاية في غريب الحديث (5/97)، التعريفات للجرجاني (ص245).
مجموع الفتاوى (7/471).
ثانيًا: أنواع النفاق:
قال ابن القيم: "النفاق نوعان: أكبر وأصغر.
فالأكبر يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل، وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله، مكذّب به".
وقال ابن كثير: "النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب".
وقال ابن رجب: "والنفاق في الشرع ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: النفاق الأكبر، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بذمّ أهله وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار.
والثاني: النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل، وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك.
وأصول هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث، وهي خمس:
أحدها: أن يحدّث بحديث لمن يصدّقه به وهو كاذب له.
والثاني: إذا وعد أخلف، وهو على نوعين، أحدهما: أن يَعِدَ ومن نيته أن لا يفي بوعده، وهذا أشر الخُلف، ولو قال: أفعل كذا إن شاء الله تعالى ومن نيّته أن لا يفعل كان كذبا وخُلفا، قاله الأوزاعي، الثاني: أن يعِد ومن نيته أن يفيَ، ثم يبدو له فيخلِف من غير عذر له في الخلف.
والثالث: إذا خاصم فجر، ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمدًا حتى يصير الحق باطلاً والباطل حقًّا، وهذا مما يدعو إليه الكذب. فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة ـ سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا ـ على أن ينتصر للباطل، ويخيّل للسامع أنه حقّ، ويوهن الحقّ، ويخرجه في صورة الباطل، كان ذلك من أقبح المحرمات وأخبث خصال النفاق.(/1)
الرابع: إذا عاهد غدر ولم يفِ بالعهد، والغدر حرام في كلّ عهد بين المسلم وغيره، ولو كان المعاهد كافرًا، ولهذا في حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسا معاهدًا بغير حقها لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا))، وقد أمر الله تعالى في كتابه بالوفاء بعهود المشركين إذا أقاموا على عهودهم ولم ينقضوا منها شيئا. وأمّا عهود المسلمين فيما بينهم فالوفاء بها أشد، ونقضها أعظم إثما. ومن أعظمها نقض عهد الإمام على من بايعه ورضي به، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم))، فذكر منهم: ((ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه ما يريد وفَّى له، وإلا لم يفِ له)). ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها ويحرم الغدر فيها جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاء بها، وكذلك ما يجب الوفاء به لله عز وجل مما يعاهد العبد ربّه عليه من نذر التَّبرُّر ونحوه.
الخامس: الخيانة في الأمانة.
وحاصل الأمر أن النّفاق الأصغر كلَّه يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، قاله الحسن. وقال الحسن أيضا: من النفاق اختلاف القلب واللسان، واختلاف السر والعلانية، واختلاف الدخول والخروج".
وقال: "ومن أعظمِ خصال النّفاق العملي أن يعمل الإنسان عملا ويظهر أنه قصد به الخير وإنما عمله ليتوصّل به إلى غرض له سيئ، فيتمّ له ذلك، ويتوصّل بهذه الخديعة إلى غرضه، ويفرح بمكره وخداعه وحمد الناس له على ما أظهره، ويتوصّل به إلى غرضه السيئ الذي أبطنه، وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود، فحكى عن المنافقين أنهم {اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107]، وأنزل في اليهود: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188]، وهذه الآية نزلت في اليهود، سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سئلوا عنه، قال ذلك ابن عباس، وحديثه مخرّج في الصحيحين. وفيهما أيضًا عن أبي سعيد أنها نزلت في رجال من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلافه، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا".
وقال في معرض بيان خطورة هذا النفاق: "والنفاق الأصغر وسيلة وذريعة إلى النفاق الأكبر، كما أن المعاصي بريد الكفر، فكما يُخشى على من أصرّ على المعصية أن يسلَبَ الإيمانَ عند الموت كذلك يخشى على من أصرّ على خصال النفاق أن يسلَب الإيمان، فيصير منافقا خالصا".
مدارج السالكين (1/376).
تفسير القرآن العظيم (1/48).
أخرجه البخاري في الديات، باب: إثم من قتل ذميًا بغير جرم (6914).
أخرجه البخاري في الشهادات، باب: اليمين بعد العصر (2672)، ومسلم في الإيمان (108).
جامع العلوم والحكم (2/481) وما بعدها، بتصرف.
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ} (4568)، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2778).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ} (4567)، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2777).
جامع العلوم والحكم (2/493-494).
جامع العلوم والحكم (2/492-493).
رابعًا: ذمّ النفاق في الكتاب والسنة:
قال ابن القيم: "كاد القرآن أن يكونَ كلّه في شأنهم؛ لكثرتهم على ظهر الأرض وفي أجواف القبور".
1- قال الله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
قال الطبري: "يقول الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {هُمُ الْعَدُوُّ} يا محمد {فَاحْذَرْهُمْ}؛ فإن ألسنتهم إذا لقوكم معكم، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهم عين لأعدائكم عليكم".(/2)
قال ابن القيم: "ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي: لا عدوّ إلا هم، ولكن لم يرد ها هنا حصر العداوة منهم، وأنه لا عدوّ للمسلمين سواهم، بل هذا من باب إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا يتوهّم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهرًا وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحقّ بالعداوة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها؛ فإن ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين لهم ـ وهم في الباطن على خلاف دينهم ـ أشدّ عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم؛ لأنّ الحرب مع أولئك ساعة أو أيّام ثم تنقضي ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحًا ومساءً، يدلّون العدوّ على عوراتهم، ويتربّصون بهم الدوائر، ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحقّ بالعداوة من المباين المجاهر، فلهذا قيل: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}، لا على معنى أنه لا عدوّ لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحقّ بأن يكونوا لكم عدوًّا من الكفار المجاهرين".
وقال: "قد هتك الله سبحانه أستار المنافقين، وكشف أسرارهم في القرآن، وجلَّى لعباده أمورهم؛ ليكونوا منها ومن أهلها على حذر، وذكر طوائفَ العالم الثلاثة في أوّل سورة البقرة: المؤمنين والكفار والمنافقين، فذكر في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشرة آية؛ لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم، وشدّة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإنّ بلية الإسلام بهم شديدة جدًا؛ لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كلّ قالب يظنّ الجاهل أنه عِلْم وإصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد. فلِلّه كم من معقَل للإسلام قد هدموه، وكم من حِصن له قد قلعوا أساسه وخرّبوه، وكم من عَلَم له قد طمسوه، وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشُّبه في أصول غراسه ليقلعوها، وكم عَمُّوا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبليّة، ولا يزال يطرقه من شبههم سَرِيَّةُ بعد سريّة، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة:12]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]".
2- قال الله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُون (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:17، 18].
قال ابن كثير: "وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنّس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصمّ لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغيّ على الرشد. وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع. والله أعلم".
وقال ابن القيم: "قال: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل: بنارهم؛ لأن النار فيها الإحراق، وكذلك حال المنافقين ذهب نور إيمانهم بالنفاق، وبقي في قلوبهم حرارة الكفر والشكوك والشبهات، تغلي في قلوبهم قد صليت بحرها وأذاها وسمومها ووهجها في الدنيا، فأصلاهم الله تعالى إياها يوم القيامة نارا موقدة، تطّلع على الأفئدة. فهذا مثل من لم يصحبه نور الإيمان في الدنيا، بل خرج منه وفارقه بعد أن استضاء به، وهو حال المنافق عرف ثم أنكر، وأقرّ ثم جحد، فهو في ظلمات أصمّ أبكم أعمى، كما قال تعالى في حقّ إخوانهم من الكفار: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:39]".
3- قال الله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:19، 20].(/3)
قال ابن كثير: "هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضربٍ آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكّون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكّهم وكفرهم وتردّدهم كصيّب، والصيّب المطر نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر والنفاق، ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِم} [المنافقون:4]، وقال: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ وَلَاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئًا أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:56، 57]، والبرق هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، ولهذا قال: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم مّنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} [البقرة:19]، أي: ولا يجدي عنهم حذرهم شيئا لأن الله محيط بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ} [البروج:17-20] بهم. ثم قال: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أي: لشدته وقوته في نفسه وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} أي: كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعرض لهم الشكوك فأظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين".
وقال ابن القيم: "صاب عليهم صيِّب الوحي، وفيه حياة القلوب والأرواح، فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد والتكاليف التي وُظِّفت عليهم في المساء والصباح، فجعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وجدّوا في الهرب والطلب في آثارهم والصياح، فنودي عليهم على رؤوس الأشهاد، وكشفت حالهم للمستبصرين، وضرب لهم مثلان بحسب حال الطائفتين منهم: المناظرين والمقلدين، فقيل: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}. ضعفت أبصار بصائرهم عن احتمال ما في الصيّب من بروق أنواره وضياء معانيه، وعجزت أسماعهم عن تلقي وعوده ووعيده وأوامره ونواهيه، فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التيه، لا ينتفع بسمعه السامع، ولا يهتدي ببصره البصير، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}".
4- قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16].
قال ابن القيم: "خرجوا في طلب التجارة البائرة في بحار الظلمات، فركبوا مراكب الشبه والشكوك، تجري بهم في موج الخيالات، فلعبت بسفنهم الريح العاصف، فألقتها بين سفن الهالكين، {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}".
5- قال الله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاء} [النساء:143].
قال الطبري: "عنى بذلك أن المنافقين متحيّرون في دينهم، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحة، فهم لا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، ولكنهم حيارى بين ذلك".
6- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة)).
قال النووي: "العائرة: المترددّة الحائرة، لا تدري لأَيِّهِمَا تتبع، ومعنى تعير أي: تردَّد وتذهب".
7- قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} [النساء:145].
قال الطبري: "يعني جل ثناؤه بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} أن المنافقين في الطبق الأسفل من أطباق جهنم، وكلّ طبق من أطباق جهنم درك".
8- قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68].(/4)
9- عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترُجّة طعمها طيّب وريحها طيّب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة طعمها طيّب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيّب وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنظلة طعمُها مرّ أو خبيث وريحها مرّ)).
10- عن عبد الله بن كعب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل المؤمن كالخامة من الزرع، تفيؤها الريح مرة وتعدلها مرة، ومثل المنافق كالأرزة، لا تزال حتى يكون انجعافها مرّة واحدة)).
قال المهلّب: "معنى الحديث: أنّ المؤمن حيث جاءه أمر الله انطاع له، فإن وقع له خير فرح به وشكر، وإن وقع له مكروه صبر ورجا فيه الخير والأجر، فإذا اندفع عنه اعتدل شاكرا.
والكافر لا يتفقّده الله باختياره، بل يحصل له التيسير في الدنيا؛ ليتعسّر عليه الحال في المعاد، حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه، فيكون موته أشدّ عذابا عليه، وأكثر ألما في خروج نفسه".
وقال غيره: "المعنى: أن المؤمن يتلقّى الأعراض الواقعة عليه لضعف حظّه من الدنيا، فهو كأوائل الزرع شديد الميلان لضعف ساقه، والكافر بخلاف ذلك، وهذا في الغالب من حال الاثنين".
11- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي كلّ منافق عليم اللسان)).
قال المناوي: "قوله: ((عليم اللسان)) أي: كثير علم اللسان، جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حرفة يتأكّل بها، ذا هيبة وأُبّهة، يتعزّز ويتعاظم بها، يدعو الناس إلى الله، ويفرّ هو منه، ويستقبح عيبَ غيره، ويفعل ما هو أقبح منه، ويظهر للناس التنسّكَ والتعبّد، ويسارر ربّه بالعظائم، إذا خلا به ذئب من الذئاب لكن عليه ثياب، فهذا هو الذي حذّر منه الشارع صلى الله عليه وسلم هنا حذرا من أن يخطفك بحلاوة لسانه، ويحرقك بنار عصيانه، ويقتلك بنتن باطنه وجنانه".
12- عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت هذه الريح لموت منافق))، فلما قدم المدينةَ فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات.
قال النووي: "أي: عقوبةً له، وعلامة لموته، وراحةً للبلاد والعباد به".
13- عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معيَ غيري تركته وشركَه)).
قال النووي: "ومعناه أنا غنيّ عن المشاركة وغيرها، فمن عمل شيئًا لي ولغيري لم أقبله، بل أتركه لذلك الغير. والمراد: أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه، ويأثم به".
14- عن جندب رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سَمَّعَ سَمَّعَ الله به، ومن يُرَائِي يُرَائِي الله به)).
قال الخطابي: "من عمل عملا على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه، فيشيدوا عليه ما كان يبطنه ويسرّه من ذلك".
وقال النووي: "قال العلماء: معناه من رايا بعمله وسمّعه الناس ليكرموه ويعظّموه ويعتقدوا خيره سمَّع الله به يوم القيامة الناس وفضحه. وقيل: معناه من سمّع بعيوبه وأذاعها أظهر الله عيوبه. وقيل: أسمعه المكروه. وقيل: أراه الله ثوابَ ذلك أن يعطيَه إياه ليكون حسرة عليه. وقيل: معناه من أراد بعمله الناس أسمعه الله الناسَ، وكان حظَّه منه".
مدارج السالكين (1/388).
جامع البيان (28/108).
طريق الهجرتين (ص710-711).
مدارج السالكين (1/377).
تفسير القرآن العظيم (1/54).
الوابل الصيب (78).
تفسير القرآن العظيم (1/57-58) بتصرف.
مدارج السالكين (1/380-381).
مدارج السالكين (1/350).
جامع البيان (5/335-336).
أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2784).
شرح صحيح مسلم (17/128).
جامع البيان (5/338).
أخرجه البخاري في فضائل القرآن، باب: إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكّل به (5059) واللفظ له، ومسلم في صلاة المسافرين (797).
أخرجه البخاري في المرضى، باب: ما جاء في كفارة المرض (5643) واللفظ له، ومسلم في صفة القيامة (2810).
ينظر: فتح الباري (10/107).
ينظر: فتح الباري (10/107).
أخرجه أحمد (1/22)، وعبد بن حميد (11)، والبزار (305)، والبيهقي في الشعب (1777)، قال الهيثمي في المجمع (1/187): "رجاله موثقون"، وصححه الضياء المقدسي في المختارة (1/343)، والألباني في صحيح الجامع (237).
فيض القدير (2/419).
أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2782).
شرح صحيح مسلم (17/127).
أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2985).
شرح صحيح مسلم (18/116).
أخرجه البخاري في الرقاق، باب: الرياء والسمعة (6499)، ومسلم في الزهد والرقائق (2987).
أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري (3/2257).
شرح صحيح مسلم (18/116).(/5)
خامسًا: خوف السّلف من النفاق:
1- عن حنظلة رضي الله عنه قال: لقيَني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكّرنا بالنار والجنة حتى كأنّا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولادَ والضيعات، فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فوالله، إنا لنلقى مثلَ هذا. فانطلقتُ أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟)) قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكّرنا بالنار والجنة حتى كأنّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن ـ يا حنظلة ـ ساعة وساعة)).
قال النووي: "قوله: (نافق حنظلة) معناه: أنّه خاف أنه منافق حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافَه من الشرّ، فخاف أن يكون ذلك نفاقا، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك. ((ساعة وساعة)) أي: ساعة كذا وساعة كذا".
2- وعن حذيفة رضي الله عنه قال: دُعي عمر لجنازة فخرج فيها أو يريدها، فتعلّقتُ به فقلتُ: اجلس يا أمير المؤمنين، فإنّه من أولئك ـ أي: من المنافقين ـ، فقال: نشدتك الله، أنا منهم؟ قال: لا، ولا أبرئ أحدا بعدك.
3- وقال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
4- وعن الحسن: "ما خافه ـ أي: النفاق ـ إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق".
5- وعن المعلى بن زياد قال: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد: "بالله الذي لا إله إلا هو، ما مضى مؤمن قطّ ولا بقي إلا هو من النفاق مشفِق، ولا مضى منافق قطّ ولا بقي إلا هو من النفاق آمن"، قال: وكان يقول: "من لم يخف النفاق فهو منافق".
6- وعن أبي عثمان قال: قلت لأبي رجاء العطاردي: هل أدركت ممن أدركتَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشون النفاق؟ وكان قد أدرك عمر رضي الله عنه، قال: نعم، إني أدركت منهم بحمد الله صدرا حسنا، نعم شديدا، نعم شديدا.
قال ابن القيم: "تالله، لقد مُلئت قلوب القوم إيمانًا ويقينًا، وخوفهم من النفاق شديد، وهَمُّهم لذلك ثقيل، وسواهم كثير منهم لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، وهم يدّعون أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل".
أخرجه مسلم في التوبة (2750).
شرح صحيح مسلم (17/66-67).
أخرجه البزار في مسنده (2885)، وأبطله ابن حزم في المحلى (11/225)، وقال الهيثمي في المجمع (3/42): "رجاله ثقات".
أخرجه البخاري تعليقًا في الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ووصله الحافظ في تغليق التعليق (1/52).
أخرجه البخاري تعليقًا في الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ووصله الفريابي في صفة المنافق من طرق متعددة وألفاظ مختلفة.
أخرجه الفريابي في صفة المنافق (87).
أخرجه الفريابي في صفة المنافق (81)، وأبو نعيم في الحلية (2/307).
مدارج السالكين (1/388).
سادسًا: صفات المنافقين في الكتاب والسنة:
1- مرض القلب:
قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].
قال الطبري: "معنى قول الله جل ثناؤه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إنما يعني: في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله مرض وسقم، فاجتزأ بدلالة الخبر عن قلوبهم على معناه عن تصريح الخبر عن اعتقادهم. والمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه هو شكّهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله وتحيّرهم فيه، فلا هم به موقنون إيقانَ إيمان، ولا هم له منكرون إنكار إشراك، ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل مذبذبون بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما يقال: فلان يُمَرِّضُ في هذا الأمر، أي: يُضَعِّف العزمَ ولا يصحّح الروِيَّة فيه".
قال ابن القيم: "قد نهكت أمراضُ الشّبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت القصودَ السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك، فعجز عنه الأطبّاء العارفون، {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}"().
2- الطمع الشهواني:
قال الله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَض} [الأحزاب:32].(/6)
قال الطبري: "فيطمع الذي في قلبه ضعف، فهو لضعف إيمانه في قلبه، إما شاكّ في الإسلام منافق، فهو لذلك من أمره يستخفّ بحدود الله، وإما متهاون بإتيان الفواحش".
3- الزيغ بالشبه:
قال الله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:53].
قال الطبري: "يقول: اختبارا يختبر به الذين في قلوبهم مرض من النفاق، وذلك الشكّ في صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقيقة ما يخبرهم به".
4- التكبّر والاستكبار:
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5].
قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبِرا عن المنافقين عليهم لعائن الله أنهم إذا قيل لهم: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} أي: صدّوا واعرضوا عمّا قيل لهم استكبارا عن ذلك، واحتقارا لما قيل، ولهذا قال تعالى: {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}. ثم جازاهم على ذلك فقال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَّغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}".
5- الاستهزاء بآيات الله والجلوس إلى المستهزئين بآيات الله:
قال الله تعالى:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: يخشى المنافقون أن تنزل فيهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، يقول: تظهر المؤمنين على ما في قلوبهم. وقيل: إن الله أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن المنافقين كانوا إذا عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا شيئا من أمره وأمر المسلمين قالوا: لعلّ الله لا يفشي سرّنا، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: {اسْتَهْزِئُوا}، متهدِّدا لهم متوعّدا، {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}".
وقال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140].
6- الاستهزاء بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ % اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14-15].
قال ابن القيم: "لكل منهم وجهان: وجه يلقى به المؤمنين، ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين، وله لسانان: أحدهما يقبله بظاهره المسلمون، والآخر يترجم به عن سرّه المكنون، {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
قد أعرضوا عن الكتاب والسنّة استهزاءً بأهلهما واستحقارًا، وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحًا بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثار منه إلا أشرًا واستكبارًا، فتراهم أبدًا بالمتمسكين بصريح الوحي يستهزئون {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}".
7- الظن السيئ بالله تعالى:
قال الله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6].
8- عدم الثقة بوعد الله تعالى ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم:
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].
9- صدّ الناس عن الإنفاق في سبيل الله:
قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7].(/7)
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت في غزاة، فسمعت عبد الله بن أبيّ يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا من حولِه، ولئن رجعنا من عنده ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، فذكرت ذلك لعمّي أو لعمر، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني فحدّثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبيّ وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فكذّبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّقه، فأصابني همّ لم يصبني مثلُه قطّ، فجلست في البيت فقال لي عمّي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}. فبعث إليّ النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ، فقال: ((إن الله قد صدقك يا زيد)).
10- التستّر ببعض الأعمال المشروعة للإضرار بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107].
11- التفريق بين المؤمنين والدّسّ والوقيعة وإشعال نار الفتنة واستغلال الخلافات وتوسيع شقّتها والإفساد في الأرض وادعاء الإصلاح:
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11].
قال الطبري: "وهذا القول من الله جلّ ثناؤه تكذيب للمنافقين في دعواهم؛ إذا أمروا بطاعة الله فيما أمرهم الله به ونهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه قالوا: إنما نحن مصلحون لا مفسدون، ونحن على رشد وهدى فيما أنكرتموه علينا دونكم لا ضالّون، فكذّبهم الله عز وجل في ذلك من قيلهم، فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} المخالفون أمرَ الله عز وجل، المتعدّون حدودَه، الراكبون معصيتَه، التاركون فروضَه، وهم لا يشعرون، ولا يدرون، أنهم كذلك، لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين، وينهونهم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين".
12- السفه ورمي المؤمنين بالسفه:
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13].
قال الطبري: "هذا خبر من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدّم نعته لهم ووصفه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب أنهم هم الجهّال في أديانهم، الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم، من الشكّ والريب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوّته، وفيما جاء به من عند الله وأمر البعث؛ لإساءتهم إلى أنفسهم بما أتوا من ذلك، وهم يحسبون أنهم إليها يحسِنون، وذلك هو عين السفه؛ لأن السفيه إنما يفسِد من حيث يرى أنه يصلح، ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ، فكذلك المنافق يعصي ربّه من حيث يرى أنه يطيعه، ويكفر به من حيث يرى أنه يؤمن به، ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يحسن إليها، كما وصفهم به ربّنا جل ذكره، فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}، وقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} دون المؤمنين المصدّقين بالله وبكتابه وبرسوله وثوابه وعقابه {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}".
وقال ابن القيّم: "المتمسّك عندهم بالكتاب والسنّة صاحب ظواهر، مبخوس حظّه من المعقول، والدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمِل أسفارا، فهمه في حمل المنقول، وبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة، وما هو عندهم بمقبول، وأهل الاتباع عندهم سفهاء، فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يتطيرون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}".
13- موالاة الكافرين:
قال الله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا % الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:138-139].(/8)
قال الطبري: "يقول الله لنبيه: يا محمد، {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني أولياء يعني أنصارا وأخلاّء من دون المؤمنين، يعني: من غير المؤمنين. {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} يقول: أيطلبون عندهم المنعة والقوة باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي، {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزة عندهم هم الأذلاء الأقلاء، فهلاّ اتخذوا الأولياء من المؤمنين، فيلتمِسوا العزّة والمنعة والنصرة من عند الله الذي له العزة والمنعة، الذي يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، فيعزّهم ويمنعهم".
14- التربص بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
قال الطبري: "يعني جل ثناؤه بقوله: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} الذين ينتظرون ـ أيها المؤمنون ـ بكم، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} يعني: فإن فتح الله عليكم فتحا من عدوكم، فأفاء عليكم فيئا من المغانم، {قَالُواْ} لكم {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} نجاهد عدوّكم، ونغزوهم معكم، فأعطونا نصيبا من الغنيمة، فإنا قد شهدنا القتال معكم، {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} يعني: وإن كان لأعدائكم من الكافرين حظ منكم بإصابتهم منكم {قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} يعني: قال هؤلاء المنافقون للكافرين {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين، ونمنعكم منهم بتخذيلنا إياهم، حتى امتنعوا منكم فانصرفوا، {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني: فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل بإدخال أهل الإيمان جنته، وأهل النفاق مع أوليائهم من الكفار نارَه".
وقال ابن القيم: "يتربّصون الدوائر بأهل السنة والقرآن، فإن كان لهم فتح من الله قالوا: ألم تكن معكم؟! وأقسموا على ذلك بالله جهد أيمانهم، وإن كان لأعداء الكتاب والسنة من النصرة نصيب قالوا: ألم تعلموا أنّ عقد الإخاء بيننا محكم، وأن النسب بيننا قريب؟! فيا من يريد معرفتهم، خُذ صفتهم من كلام ربّ العالمين، فلا تحتاج بعده دليلاً: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}".
15- الاتفاق مع أهل الكتاب ضدّ المؤمنين والتولي في القتال:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ % لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:11-12].
16- الطبع على القلوب فلا يفقهون:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16].
17- فتنة النفس والتربّص والاغترار بالأماني:
قال الله تعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14].
18- مخادعة الله تعالى والكسل في العبادات والرياء في الطاعات وقلة ذكر الله:
قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً} [النساء:142].(/9)
قال الطبري: "فتأويل ذلك: إن المنافقين يخادعون الله بإحرازهم بنفاقهم دماءَهم وأموالهم، والله خادعهم بما حكم فيهم من منع دمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان، مع علمه بباطن ضمائرهم واعتقادهم الكفر، استدراجا منه لهم في الدنيا، حتى يلقوه في الآخرة فيوردهم بما استبطنوا من الكفر نار جهنم.
وأما قوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} فإنه يعني أن المنافقين لا يعملون شيئا من الأعمال التي فرضها الله على المؤمنين على وجه التقرّب بها إلى الله، لأنهم غير موقنين بمعاد ولا ثواب ولا عقاب، وإنما يعملون ما عملوا من الأعمال الظاهرة بقاء على أنفسهم، وحذارا من المؤمنين عليها أن يقتلوا أو يسلبوا أموالهم، فهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة قاموا كسالى إليها رياء للمؤمنين؛ ليحسبوهم منهم، وليسوا منهم؛ لأنهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم، فهم في قيامهم إليها كسالى.
وأما قوله: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً} فلعل قائلا أن يقول: وهل من ذكر الله شيء قليل؟! قيل له: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، إنما معناه: ولا يذكرون الله إلا ذكرا رياء؛ ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلب الأموال، لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد الله، مخلص له الربوبية؛ فلذلك سماه الله قليلا؛ لأنه غير مقصود به الله، ولا مبتغى به التقرب إلى الله، ولا مرادا به ثواب الله وما عنده، فهو وإن كثر من وجه نصب عامله وذاكره في معنى السراب الذي له ظاهر بغير حقيقة ماء".
وقال ابن القيم: "لهم علامات يعرفون بها مبيّنة في السنة والقرآن، بادية لمن تدبّرها من أهل بصائر الإيمان، قام بهم ـ والله ـ الرياء، وهو أقبح مقام قامه الإنسان، وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن، فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلا {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً}".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا. لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلا يؤم الناس، ثم آخذ شعلاً من نار فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد)).
قال ابن حجر: "وإنما كانت العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما؛ لقوة الداعي إلى تركهما؛ لأن العشاء وقت السكون والراحة، والصبح وقت لذة النوم".
19- التّذبذب والتردّد بين المؤمنين والكافرين:
قال الله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاء} [النساء:143].
قال الطبري: "عنى بذلك أن المنافقين متحيّرون في دينهم، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحّة، فهم لا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، ولكنّهم حيارى بين ذلك".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة)).
قال النووي: "العائرة: المتردّدة الحائرة، لا تدري لأَيِّهِمَا تتبع، ومعنى تعير أي: تردّد وتذهب".
20- مخادعة المؤمنين:
قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9].
قال الطبري: "وخداع المنافق ربّه والمؤمنين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي في قلبه من الشكّ والتكذيب؛ ليدْرَأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حكمَ الله عز وجل اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب، لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسباء، فذلك خِداعُه ربّه وأهلَ الإيمان بالله".
وقال ابن كثير: "أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذاك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18]، ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} يقول: وما يغرّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}".
21- التحاكم إلى الطاغوت والصدود عما أنزل الله و عدم الرضا بالتحاكم إليه:(/10)
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا % وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60-61].
قال ابن القيم: "إن حاكمت المنافقين إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين، وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رأيتهم عنه معرضين، فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمدا بعيدا، ورأيتها معرضة عن الوحي إعراضا شديدا، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}".
22- الإفساد بين المؤمنين:
قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].
قال ابن كثير: "{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً} أي: لأنهم جبناء مخذولون، {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي: ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة، {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: مطيعون لهم، ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدّي إلى وقوع شرّ بين المؤمنين وفساد كبير".
23- الحلف الكاذب والخوف والجبن والهلع:
قال الله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ % لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:56، 57].
قال ابن كثير: "يخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ } يمينا مؤكّدة، {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} أي: في نفس الأمر، {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي: فهو الذي حملهم على الحلف. {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً} أي: حصنا يتحصنون به، وحرزا يتحرزون به، {أَوْ مَغَارَاتٍ} وهي التي في الجبال، {أَوْ مُدَّخَلاً} وهو السرب في الأرض والنفق... {مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي: يسرعون في ذهابهم عنكم؛ لأنهم إنما يخالطونكم كرها لا محبة، وودّوا أنهم لا يخالطونكم، ولكن للضرورة أحكام، ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم؛ لأن الإسلام وأهله لا يزال في عزّ ونصر ورفعة، فلهذا كلّما سرّ المسلمون ساءهم ذلك فهم يودّون أن لا يخالطوا المؤمنين ولهذا قال: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}".
وقال الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ % اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ % ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:1-3].
قال الشافعي: "فبيّن في كتاب الله عز وجل أن الله أخبر عن المنافقين أنهم اتخذوا أيمانهم جُنَّة يعني ـ والله أعلم ـ من القتل، ثم أخبر بالوجه الذي اتخذوا به أيمانهم جُنَّة فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} بعد الإيمان كفرًا إذا سئلوا عنه أنكروه، وأظهروا الإيمان وأقروا به، وأظهروا التوبة منه، وهم مقيمون فيما بينهم وبين الله تعالى على الكفر".
وقال ابن القيم: "تسبق يمين أحدهم كلامَه من غير أن يعترض عليه؛ لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه، فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به، وكشف ما لديه، وكذلك أهل الريبة يكذبون ويحلفون؛ ليحسب السامع أنهم صادقون {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}".
وقال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].(/11)
قال الطبري: "يقول جل ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا رأيت هؤلاء المنافقين ـ يا محمد ـ تعجبك أجسامهم؛ لاستواء خلقها وحسن صورها، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} يقول جل ثناؤه: وإن يتكلموا تسمع كلامهم، يشبه منطقهم منطق الناس، {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} يقول: كأن هؤلاء المنافقين خشب مسندة، لا خير عندهم، ولا فقه لهم، ولا علم، وإنما هم صور بلا أحلام، وأشباح بلا عقول، وقوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} يقول جل ثناؤه: يحسب هؤلاء المنافقون من خبثهم وسوء ظنهم وقلة يقينهم كلّ صيحة عليهم؛ لأنهم على وجل أن ينزل الله فيهم أمرا يهتك به أستارهم ويفضحهم، ويبيح للمؤمنين قتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم، فهم من خوفهم من ذلك كلما نزل بهم من الله وحي على رسوله ظنوا أنه نزل بهلاكهم بالأسن".
وقال ابن القيم: "أحسن الناس أجسامًا وأخلبهم لسانًا وألطفهم بيانًا وأخبثهم قلوبًا وأضعفهم جنانًا، فهم كالخشب المسندة التي لا ثمر لها، قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها؛ لئلا يطأها السالكون، {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}".
24- يحبون أن يحمَدوا بما لم يفعلوا:
قال الله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188].
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه، وحلفوا وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: {لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}.
25- ظهور الرعب عليهم عند ذكر القتال في آيات الله تعالى:
قال الله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20].
26- يعيبون العمل الصالح ويرضون ويسخطون لحظوظ أنفسهم:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: {وَمِنْهُمْ} أي: ومن المنافقين {مَنْ يَلْمِزُكَ} أي: يعيب عليك {فِي} قسم {الصَّدَقَاتِ} إذا فرقتها، ويتهمك في ذلك، وهم المتّهمون المأبونون، وهم مع هذا لا ينكرون للدين، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم؛ ولهذا إن أعطوا من الزكاة {رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي: يغضبون لأنفسهم".
27- يكرهون الجهاد والاستشهاد في سبيل الله تعالى:
قال الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران:167].
قال الطبري: "يعني تعالى ذكره بذلك عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وأصحابَه الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، حين سار نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد لقتالهم، فقال لهم المسلمون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لسِرنا معكم إليهم، ولكُنّا معكم عليهم، ولكن لا نرى أنه يكون بينكم وبين القوم قتال، فأبدَوا من نفاق أنفسهم ما كانوا يكتمونه، وأبدوا بألسنتهم بقولهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ} غير ما كانوا يكتمونه ويخفونه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به".
28- يسخرون من العمل القليل من المؤمنين:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79].(/12)
عن أبي مسعود رضي الله عنه، قال: لما أمرنا بالصدقة كنّا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رئاء، فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ...}.
قال ابن كثير: "وهذا أيضا من صفات المنافقين، لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مُراءٍ، وإن جاء بشيء يسير قالوا: إن الله لغني عن صدقته".
29- الرضا بأسافل المواضع:
قال الله تعالى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:86].
قال ابن كثير: "يقول تعالى منكرا وذاما للمتخلفين عن الجهاد الناكلين عنه مع القدرة عليه ووجود السعة والطول، واستأذنوا الرسول في القعود، وقالوا: {ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}، ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء وهن الخوالف، بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاما، كما قال تعالى عنهم في الآية الأخرى: {فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19] أي: علت ألسنتهم بالكلام الحادّ القوي في الأمن، وفي الحرب أجبن شيء".
30- الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل ونسيان الله تعالى:
قال الله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67].
قال ابن كثير: "يقول تعالى منكرا على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كان هؤلاء {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي: عن الإنفاق في سبيل الله{نَسُوا اللَّهَ} أي: نسوا ذكر الله {فَنَسِيَهُمْ} أي: عاملهم معاملة من نسيهم، كقوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا}. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون عن طريق الحق الداخلون في طريق الضلالة".
وقال ابن القيم: "هم جنس بعضه يشبه بعضا، يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه، وينهون عن المعروف بعد أن يتركوه، ويبخلون بالمال في سبيل الله ومرضاته أن ينفقوه، كم ذكرهم الله بنعمه فأعرضوا عن ذكره ونسوه، وكم كشف حالهم لعباده المؤمنين ليتجنبوه، فاسمعوا أيها المؤمنون: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}".
31- الفرح بالتخلف وكره الجهاد والتواصي بالتخلف عنه:
قال الله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].
قال ابن كثير: "يقول تعالى ذاما للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم بعد خروجه، {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا} معه {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا} أي: بعضهم لبعض {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}؛ وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر عند طيب الظلال والثمار؛ فلهذا قالوا: لا تنفروا في الحرّ، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {قُلْ} لهم {نَارُ جَهَنَّمَ} التي تصيرون إليها بمخالفتكم {أَشَدُّ حَرًّا} مما فررتم منه من الحر، بل أشدّ حرّا من النار".
32- التخذيل والتثبيط والإرجاف:
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُورًا % وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} [الأحزاب:12-13].
33- البطء عن المؤمنين:(/13)
قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72].
قال الطبري: "وهذا نعت من الله تعالى ذكره للمنافقين، نعتهم لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بصفتهم فقال: {وَإِنَّ مِنْكُمْ} أيها المؤمنون، يعني: من عدادكم وقومكم، ومن يتشبه بكم، ويظهر أنه من أهل دعوتكم وملتكم، وهو منافق يبطِّئ من أطاعه منكم عن جهاد عدوكم، وقتالهم إذا أنتم نفرتم إليهم، {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} يقول: فإن أصابتكم هزيمة أو نالكم قتل أو جراح من عدوكم {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} فيصيبني جراح أو ألم أو قتل، وسرّه تخلّفه عنكم شماتةً بكم؛ لأنه من أهل الشكّ في وعد الله الذي وعد المؤمنين على ما نالهم في سبيله من الأجر والثواب وفي وعيده، فهو غير راج ثوابا، ولا خائف عقابا".
34- لا ينفعهم القرآن بل يزيدهم رجسًا إلى رجسهم:
قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ % وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124-125].
35 - العودة إلى ما نهوا عنه والتناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8].
36- الاستئذان عن الجهاد بحجة الفتنة:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: ومن المنافقين من يقول لك يا محمد: {ائْذَنْ لِي} في القعود {وَلا تَفْتِنِّي} بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم، قال الله تعالى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي: قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا".
37- اتخاذ الأعذار عند التخلف:
قال الله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:94].
قال ابن كثير: "أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} أي: لن نصدقكم، {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أي: قد أعلمنا الله أحوالكم، {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي: سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا، {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: فيخبركم بأعمالكم، خيرها وشرها، ويجزيكم عليها".
38- الاستخفاء من الناس:
قال الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108].
قال ابن كثير: "هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس؛ لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها؛ لأنه مطّلع على سرائرهم، وعالم بما في ضمائرهم، ولهذا قال: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} تهديد لهم ووعيد".
39- يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا:
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
40- الفرح بما يصيب المؤمنين من ضراء والاستياء بما يمكّن الله لهم:(/14)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ % هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ % إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:118-120].
قال ابن كثير: "يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي: يطلعونهم على سرائرهم، وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالا أي: يسعون في مخالفتهم، وما يضرّهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودّون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشقّ عليهم".
وقال ابن القيم: "إن أصاب أهل الكتاب والسنة عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمّهم، وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحص به ذنوبهم ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم، وهذا يحقق إرثهم وإرث من عداهم، ولا يستوي من موروثه الرسول ومن موروثهم المنافقون، {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ % قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:50، 51]".
وقال الله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50].
قال ابن كثير: "يعلم تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعداوة هؤلاء له؛ لأنه مهما أصابه من حسنة أي: فتح ونصر وظفر على الأعداء مما يسرّه ويسرّ أصحابه ساءهم ذلك، {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} أي: قد احترزنا من متابعته من قبل هذا {وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ}".
41- إذا اؤتمن خان وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ % فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ % فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:75-77].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله، وليكوننّ من الصالحين، فما وفَّى بما قال، ولا صدق فيما ادعى، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقوا الله عز وجل يوم القيامة، عياذا الله من ذلك".
وقال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8].
قال ابن القيم: "لبسوا ثياب أهل الإيمان، على قلوب أهل الزيغ والخسران والغل والكفران، فالظواهر ظواهر الأنصار، والبواطن قد تحيزت إلى الكفار، فألسنتهم ألسنة المسالمين، وقلوبهم قلوب المحاربين، ويقولون: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}".
وقال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9].
قال ابن القيم: "رأس مالهم الخديعة والمكر، وبضاعتهم الكذب والخثر، وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون، وهم بينهم آمنون، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).(/15)
قال النووي: "هذا الحديث مما عدّه جماعة من العلماء مشكِلا من حيث إن هذه الخصال توجد في المسلم المصدّق الذي ليس فيه شك... فإن إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال، وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كلّه، وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار: إن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلّق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حقّ من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلّدين في الدرك الأسفل من النار.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كان منافقا خالصا)) معناه: شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال. قال بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه، فأما من يندر ذلك منه فليس داخلا فيه، وهذا هو المختار في معنى الحديث".
42- تأخير الصلاة عن وقتها:
عن العلاء بن عبد الرحمن أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر، وداره بجنب المسجد، فلما دخلنا عليه قال: أصليتم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلوا العصر، فقمنا فصلينا، فلمّا انصرفنا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا)).
قال ابن القيم: "يؤخّرون الصلاة عن وقتها الأوّل إلى شرق الموتى، فالصبح عند طلوع الشمس، والعصر عند الغروب، وينقرونها نقرَ الغراب إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب، ويلتفتون فيها التفات الثعلب إذ يتيقّن أنّه مطرود مطلوب".
43- التخلف عن الصلاة في جماعة المسلمين:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من سرّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سننَ الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحطّ عنه بها سيئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
قال الشُّمُنِّي: "ليس المراد بالمنافق ها هنا من يبطن الكفر ويظهر الإسلام، وإلا لكانت الجماعة فريضة؛ لأن من يبطن الكفر كافر، ولكان آخر الكلام مناقضًا لأوله".
44- البذاء والبيان:
عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحياء والعِيّ شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق)).
قال الترمذي: "والعِيّ قلّة الكلام، والبذاء هو الفحش في الكلام، والبيان هو كثرة الكلام، مثل هؤلاء الخطباء الذين يخطبون فيوسّعون في الكلام، ويتفصّحون فيه، من مدح الناس فيما لا يُرضي الله".
قال المناوي: "والعِي أي: سكون اللسان تحرّزا عن الوقوع في البهتان لا عيّ القلب ولا عيّ العمل ولا عيّ اللسان لخلل. ((شعبتان من شعب الإيمان)) أي: أثران من آثاره، بمعنى أن المؤمن يحمله الإيمان على الحياء، فيترك القبائح حياء من الله، ويمنعه من الاجتراء على الكلام شفقا من عثر اللسان والوقيعة في البهتان. والبذاء هو ضدّ الحياء وقيل: فحش الكلام والبيان، أي: فصاحة اللسان، والمراد به هنا ما يكون فيه إثم من الفصاحة كهجو أو مدح بغير حقّ. شعبتان من النفاق بمعنى أنهما خصلتان منشؤهما النفاق، والبيان المذكور هو التعمّق في النطق والتفاصح وإظهار التقدّم فيه على الغير تيها وعجبا كما تقرر. قال القاضي: لما كان الإيمان باعثا على الحياء والتحفظ في الكلام والاحتياط فيه عدّ من الإيمان، وما يخالفهما من النفاق، وعليه فالمراد بالعيّ ما يكون بسبب التأمل في المقال والتحرز عن الوبال لا لخلل في اللسان، والبيان ما يكون بسببه الاجتراء وعدم المبالاة بالطغيان والتحرز عن الزور والبهتان. وقال الطيبي: إنما قوبل العي في الكلام مطلقا بالبيان الذي هو التعمق في النطق والتفاصح وإظهار التقدم فيه على الناس مبالغة لذم البيان وأن هذه مضرة بالإيمان مضرّةَ ذلك البيان".(/16)
وقال ابن القيم: "وجملة أمرهم أنهم في المسلمين كالزغل في النقود، يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس، وقليل ما هم. وليس على الأديان أضرّ من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قِبلهم، ولهذا جَلَّى الله أمرهم في القرآن، وأوضح أوصافهم، وبيّن أحوالهم، وكرّر ذكرهم؛ لشدة المؤنة على الأمّة بهم وعِظم البلية عليهم بوجودهم بين أظهرهم، وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرّز من مشابهتهم والإصغاء إليهم، فكم قطعوا على السالكين إلى الله طريق الهدى، وسلكوا بهم سبل الردى، وعَدُوهم ومنّوهم، ولكن وعدوهم الغرور، ومنّوهم الويل والثبور".
جامع البيان (1/122).
مدارج السالكين (1/379).
جامع البيان (22/3).
جامع البيان (17/191).
تفسير القرآن العظيم (4/370).
جامع البيان (10/171).
مدارج السالكين (1/379-380).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (4900)، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2772).
جامع البيان (1/127).
جامع البيان (1/128-129).
مدارج السالكين (1/379).
جامع البيان (5/329).
جامع البيان (5/331).
مدارج السالكين (1/381-382).
جامع البيان (5/334-335).
مدارج السالكين (1/381).
أخرجه البخاري في الأذان، باب: فضل العشاء في الجماعة (657) واللفظ له، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (651).
فتح الباري (2/141).
جامع البيان (5/335-336).
أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2784).
شرح صحيح مسلم (17/128).
جامع البيان (1/118).
تفسير القرآن العظيم (1/48-49).
مدارج السالكين (1/382-383).
تفسير القرآن العظيم (2/375).
تفسير القرآن العظيم (2/377).
أحكام القرآن (1/294).
مدارج السالكين (1/383).
جامع البيان (28/107-108).
مدارج السالكين (1/384).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {لاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرِحُونَ بِمَا أَتَوْا} (4567)، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2777).
تفسير القرآن العظيم (2/377).
جامع البيان (4/167).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ...} (14668)، ومسلم في الزكاة (1018).
تفسير القرآن العظيم (2/389).
تفسير القرآن العظيم (2/394).
تفسير القرآن العظيم (2/382).
مدارج السالكين (1/382).
تفسير القرآن العظيم (2/391).
جامع البيان (5/165).
تفسير القرآن العظيم (2/376).
تفسير القرآن العظيم (2/397).
تفسير القرآن العظيم (1/565).
تفسير القرآن العظيم (1/406).
مدارج السالكين (1/385).
تفسير القرآن العظيم (2/376).
تفسير القرآن العظيم (2/388).
مدارج السالكين (1/378).
مدارج السالكين (1/379).
أخرجه البخاري في الإيمان، باب:علامة المنافق (34)، ومسلم في الإيمان (58).
شرح صحيح مسلم (2/46-47).
أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (622).
قال في القاموس (1158): "شرقت الشمس: ضعف ضوؤها أو دنت للغروب. وأضافه $ إلى الموتى فقال: ((يؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى)) لأن ضوءها عند ذلك الوقت ساقط على المقابر، أو أراد أنهم يصلّونها ولم يبق من النهار إلا بقدر ما يبقى من نفس المحتضر إذا شرق بريقه".
مدارج السالكين (1/384).
أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (654).
ينظر: عون المعبود (2/179).
أخرجه أحمد (5/269)، والترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في العي (2027)، والبيهقي في الشعب (7706)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من حديث أبي غسان محمد بن مطرف "، وصححه الحاكم (1/51)، والألباني في صحيح الترمذي (1650).
فيض القدير (3/428).
طريق الهجرتين (719).
سادسًا: صفات المنافقين في الكتاب والسنة:
1- مرض القلب:
قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].
قال الطبري: "معنى قول الله جل ثناؤه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إنما يعني: في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله مرض وسقم، فاجتزأ بدلالة الخبر عن قلوبهم على معناه عن تصريح الخبر عن اعتقادهم. والمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه هو شكّهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله وتحيّرهم فيه، فلا هم به موقنون إيقانَ إيمان، ولا هم له منكرون إنكار إشراك، ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل مذبذبون بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما يقال: فلان يُمَرِّضُ في هذا الأمر، أي: يُضَعِّف العزمَ ولا يصحّح الروِيَّة فيه".(/17)
قال ابن القيم: "قد نهكت أمراضُ الشّبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت القصودَ السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك، فعجز عنه الأطبّاء العارفون، {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}"().
2- الطمع الشهواني:
قال الله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَض} [الأحزاب:32].
قال الطبري: "فيطمع الذي في قلبه ضعف، فهو لضعف إيمانه في قلبه، إما شاكّ في الإسلام منافق، فهو لذلك من أمره يستخفّ بحدود الله، وإما متهاون بإتيان الفواحش".
3- الزيغ بالشبه:
قال الله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:53].
قال الطبري: "يقول: اختبارا يختبر به الذين في قلوبهم مرض من النفاق، وذلك الشكّ في صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقيقة ما يخبرهم به".
4- التكبّر والاستكبار:
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5].
قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبِرا عن المنافقين عليهم لعائن الله أنهم إذا قيل لهم: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} أي: صدّوا واعرضوا عمّا قيل لهم استكبارا عن ذلك، واحتقارا لما قيل، ولهذا قال تعالى: {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}. ثم جازاهم على ذلك فقال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَّغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}".
5- الاستهزاء بآيات الله والجلوس إلى المستهزئين بآيات الله:
قال الله تعالى:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: يخشى المنافقون أن تنزل فيهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، يقول: تظهر المؤمنين على ما في قلوبهم. وقيل: إن الله أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن المنافقين كانوا إذا عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا شيئا من أمره وأمر المسلمين قالوا: لعلّ الله لا يفشي سرّنا، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: {اسْتَهْزِئُوا}، متهدِّدا لهم متوعّدا، {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}".
وقال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140].
6- الاستهزاء بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ % اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14-15].
قال ابن القيم: "لكل منهم وجهان: وجه يلقى به المؤمنين، ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين، وله لسانان: أحدهما يقبله بظاهره المسلمون، والآخر يترجم به عن سرّه المكنون، {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
قد أعرضوا عن الكتاب والسنّة استهزاءً بأهلهما واستحقارًا، وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحًا بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثار منه إلا أشرًا واستكبارًا، فتراهم أبدًا بالمتمسكين بصريح الوحي يستهزئون {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}".
7- الظن السيئ بالله تعالى:
قال الله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6].
8- عدم الثقة بوعد الله تعالى ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم:
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].
9- صدّ الناس عن الإنفاق في سبيل الله:(/18)
قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7].
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت في غزاة، فسمعت عبد الله بن أبيّ يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا من حولِه، ولئن رجعنا من عنده ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، فذكرت ذلك لعمّي أو لعمر، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني فحدّثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبيّ وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فكذّبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّقه، فأصابني همّ لم يصبني مثلُه قطّ، فجلست في البيت فقال لي عمّي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}. فبعث إليّ النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ، فقال: ((إن الله قد صدقك يا زيد)).
10- التستّر ببعض الأعمال المشروعة للإضرار بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107].
11- التفريق بين المؤمنين والدّسّ والوقيعة وإشعال نار الفتنة واستغلال الخلافات وتوسيع شقّتها والإفساد في الأرض وادعاء الإصلاح:
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11].
قال الطبري: "وهذا القول من الله جلّ ثناؤه تكذيب للمنافقين في دعواهم؛ إذا أمروا بطاعة الله فيما أمرهم الله به ونهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه قالوا: إنما نحن مصلحون لا مفسدون، ونحن على رشد وهدى فيما أنكرتموه علينا دونكم لا ضالّون، فكذّبهم الله عز وجل في ذلك من قيلهم، فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} المخالفون أمرَ الله عز وجل، المتعدّون حدودَه، الراكبون معصيتَه، التاركون فروضَه، وهم لا يشعرون، ولا يدرون، أنهم كذلك، لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين، وينهونهم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين".
12- السفه ورمي المؤمنين بالسفه:
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13].
قال الطبري: "هذا خبر من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدّم نعته لهم ووصفه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب أنهم هم الجهّال في أديانهم، الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم، من الشكّ والريب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوّته، وفيما جاء به من عند الله وأمر البعث؛ لإساءتهم إلى أنفسهم بما أتوا من ذلك، وهم يحسبون أنهم إليها يحسِنون، وذلك هو عين السفه؛ لأن السفيه إنما يفسِد من حيث يرى أنه يصلح، ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ، فكذلك المنافق يعصي ربّه من حيث يرى أنه يطيعه، ويكفر به من حيث يرى أنه يؤمن به، ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يحسن إليها، كما وصفهم به ربّنا جل ذكره، فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}، وقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} دون المؤمنين المصدّقين بالله وبكتابه وبرسوله وثوابه وعقابه {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}".
وقال ابن القيّم: "المتمسّك عندهم بالكتاب والسنّة صاحب ظواهر، مبخوس حظّه من المعقول، والدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمِل أسفارا، فهمه في حمل المنقول، وبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة، وما هو عندهم بمقبول، وأهل الاتباع عندهم سفهاء، فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يتطيرون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}".
13- موالاة الكافرين:
قال الله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا % الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:138-139].(/19)
قال الطبري: "يقول الله لنبيه: يا محمد، {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني أولياء يعني أنصارا وأخلاّء من دون المؤمنين، يعني: من غير المؤمنين. {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} يقول: أيطلبون عندهم المنعة والقوة باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي، {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزة عندهم هم الأذلاء الأقلاء، فهلاّ اتخذوا الأولياء من المؤمنين، فيلتمِسوا العزّة والمنعة والنصرة من عند الله الذي له العزة والمنعة، الذي يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، فيعزّهم ويمنعهم".
14- التربص بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
قال الطبري: "يعني جل ثناؤه بقوله: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} الذين ينتظرون ـ أيها المؤمنون ـ بكم، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} يعني: فإن فتح الله عليكم فتحا من عدوكم، فأفاء عليكم فيئا من المغانم، {قَالُواْ} لكم {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} نجاهد عدوّكم، ونغزوهم معكم، فأعطونا نصيبا من الغنيمة، فإنا قد شهدنا القتال معكم، {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} يعني: وإن كان لأعدائكم من الكافرين حظ منكم بإصابتهم منكم {قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} يعني: قال هؤلاء المنافقون للكافرين {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين، ونمنعكم منهم بتخذيلنا إياهم، حتى امتنعوا منكم فانصرفوا، {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني: فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل بإدخال أهل الإيمان جنته، وأهل النفاق مع أوليائهم من الكفار نارَه".
وقال ابن القيم: "يتربّصون الدوائر بأهل السنة والقرآن، فإن كان لهم فتح من الله قالوا: ألم تكن معكم؟! وأقسموا على ذلك بالله جهد أيمانهم، وإن كان لأعداء الكتاب والسنة من النصرة نصيب قالوا: ألم تعلموا أنّ عقد الإخاء بيننا محكم، وأن النسب بيننا قريب؟! فيا من يريد معرفتهم، خُذ صفتهم من كلام ربّ العالمين، فلا تحتاج بعده دليلاً: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}".
15- الاتفاق مع أهل الكتاب ضدّ المؤمنين والتولي في القتال:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ % لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:11-12].
16- الطبع على القلوب فلا يفقهون:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16].
17- فتنة النفس والتربّص والاغترار بالأماني:
قال الله تعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14].
18- مخادعة الله تعالى والكسل في العبادات والرياء في الطاعات وقلة ذكر الله:
قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً} [النساء:142].(/20)
قال الطبري: "فتأويل ذلك: إن المنافقين يخادعون الله بإحرازهم بنفاقهم دماءَهم وأموالهم، والله خادعهم بما حكم فيهم من منع دمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان، مع علمه بباطن ضمائرهم واعتقادهم الكفر، استدراجا منه لهم في الدنيا، حتى يلقوه في الآخرة فيوردهم بما استبطنوا من الكفر نار جهنم.
وأما قوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} فإنه يعني أن المنافقين لا يعملون شيئا من الأعمال التي فرضها الله على المؤمنين على وجه التقرّب بها إلى الله، لأنهم غير موقنين بمعاد ولا ثواب ولا عقاب، وإنما يعملون ما عملوا من الأعمال الظاهرة بقاء على أنفسهم، وحذارا من المؤمنين عليها أن يقتلوا أو يسلبوا أموالهم، فهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة قاموا كسالى إليها رياء للمؤمنين؛ ليحسبوهم منهم، وليسوا منهم؛ لأنهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم، فهم في قيامهم إليها كسالى.
وأما قوله: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً} فلعل قائلا أن يقول: وهل من ذكر الله شيء قليل؟! قيل له: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، إنما معناه: ولا يذكرون الله إلا ذكرا رياء؛ ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلب الأموال، لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد الله، مخلص له الربوبية؛ فلذلك سماه الله قليلا؛ لأنه غير مقصود به الله، ولا مبتغى به التقرب إلى الله، ولا مرادا به ثواب الله وما عنده، فهو وإن كثر من وجه نصب عامله وذاكره في معنى السراب الذي له ظاهر بغير حقيقة ماء".
وقال ابن القيم: "لهم علامات يعرفون بها مبيّنة في السنة والقرآن، بادية لمن تدبّرها من أهل بصائر الإيمان، قام بهم ـ والله ـ الرياء، وهو أقبح مقام قامه الإنسان، وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن، فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلا {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً}".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا. لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلا يؤم الناس، ثم آخذ شعلاً من نار فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد)).
قال ابن حجر: "وإنما كانت العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما؛ لقوة الداعي إلى تركهما؛ لأن العشاء وقت السكون والراحة، والصبح وقت لذة النوم".
19- التّذبذب والتردّد بين المؤمنين والكافرين:
قال الله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاء} [النساء:143].
قال الطبري: "عنى بذلك أن المنافقين متحيّرون في دينهم، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحّة، فهم لا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، ولكنّهم حيارى بين ذلك".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة)).
قال النووي: "العائرة: المتردّدة الحائرة، لا تدري لأَيِّهِمَا تتبع، ومعنى تعير أي: تردّد وتذهب".
20- مخادعة المؤمنين:
قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9].
قال الطبري: "وخداع المنافق ربّه والمؤمنين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي في قلبه من الشكّ والتكذيب؛ ليدْرَأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حكمَ الله عز وجل اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب، لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسباء، فذلك خِداعُه ربّه وأهلَ الإيمان بالله".
وقال ابن كثير: "أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذاك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18]، ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} يقول: وما يغرّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}".
21- التحاكم إلى الطاغوت والصدود عما أنزل الله و عدم الرضا بالتحاكم إليه:(/21)
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا % وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60-61].
قال ابن القيم: "إن حاكمت المنافقين إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين، وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رأيتهم عنه معرضين، فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمدا بعيدا، ورأيتها معرضة عن الوحي إعراضا شديدا، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}".
22- الإفساد بين المؤمنين:
قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].
قال ابن كثير: "{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً} أي: لأنهم جبناء مخذولون، {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي: ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة، {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: مطيعون لهم، ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدّي إلى وقوع شرّ بين المؤمنين وفساد كبير".
23- الحلف الكاذب والخوف والجبن والهلع:
قال الله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ % لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:56، 57].
قال ابن كثير: "يخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ } يمينا مؤكّدة، {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} أي: في نفس الأمر، {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي: فهو الذي حملهم على الحلف. {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً} أي: حصنا يتحصنون به، وحرزا يتحرزون به، {أَوْ مَغَارَاتٍ} وهي التي في الجبال، {أَوْ مُدَّخَلاً} وهو السرب في الأرض والنفق... {مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي: يسرعون في ذهابهم عنكم؛ لأنهم إنما يخالطونكم كرها لا محبة، وودّوا أنهم لا يخالطونكم، ولكن للضرورة أحكام، ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم؛ لأن الإسلام وأهله لا يزال في عزّ ونصر ورفعة، فلهذا كلّما سرّ المسلمون ساءهم ذلك فهم يودّون أن لا يخالطوا المؤمنين ولهذا قال: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}".
وقال الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ % اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ % ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:1-3].
قال الشافعي: "فبيّن في كتاب الله عز وجل أن الله أخبر عن المنافقين أنهم اتخذوا أيمانهم جُنَّة يعني ـ والله أعلم ـ من القتل، ثم أخبر بالوجه الذي اتخذوا به أيمانهم جُنَّة فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} بعد الإيمان كفرًا إذا سئلوا عنه أنكروه، وأظهروا الإيمان وأقروا به، وأظهروا التوبة منه، وهم مقيمون فيما بينهم وبين الله تعالى على الكفر".
وقال ابن القيم: "تسبق يمين أحدهم كلامَه من غير أن يعترض عليه؛ لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه، فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به، وكشف ما لديه، وكذلك أهل الريبة يكذبون ويحلفون؛ ليحسب السامع أنهم صادقون {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}".
وقال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].(/22)
قال الطبري: "يقول جل ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا رأيت هؤلاء المنافقين ـ يا محمد ـ تعجبك أجسامهم؛ لاستواء خلقها وحسن صورها، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} يقول جل ثناؤه: وإن يتكلموا تسمع كلامهم، يشبه منطقهم منطق الناس، {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} يقول: كأن هؤلاء المنافقين خشب مسندة، لا خير عندهم، ولا فقه لهم، ولا علم، وإنما هم صور بلا أحلام، وأشباح بلا عقول، وقوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} يقول جل ثناؤه: يحسب هؤلاء المنافقون من خبثهم وسوء ظنهم وقلة يقينهم كلّ صيحة عليهم؛ لأنهم على وجل أن ينزل الله فيهم أمرا يهتك به أستارهم ويفضحهم، ويبيح للمؤمنين قتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم، فهم من خوفهم من ذلك كلما نزل بهم من الله وحي على رسوله ظنوا أنه نزل بهلاكهم بالأسن".
وقال ابن القيم: "أحسن الناس أجسامًا وأخلبهم لسانًا وألطفهم بيانًا وأخبثهم قلوبًا وأضعفهم جنانًا، فهم كالخشب المسندة التي لا ثمر لها، قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها؛ لئلا يطأها السالكون، {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}".
24- يحبون أن يحمَدوا بما لم يفعلوا:
قال الله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188].
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه، وحلفوا وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: {لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}.
25- ظهور الرعب عليهم عند ذكر القتال في آيات الله تعالى:
قال الله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20].
26- يعيبون العمل الصالح ويرضون ويسخطون لحظوظ أنفسهم:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: {وَمِنْهُمْ} أي: ومن المنافقين {مَنْ يَلْمِزُكَ} أي: يعيب عليك {فِي} قسم {الصَّدَقَاتِ} إذا فرقتها، ويتهمك في ذلك، وهم المتّهمون المأبونون، وهم مع هذا لا ينكرون للدين، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم؛ ولهذا إن أعطوا من الزكاة {رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي: يغضبون لأنفسهم".
27- يكرهون الجهاد والاستشهاد في سبيل الله تعالى:
قال الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران:167].
قال الطبري: "يعني تعالى ذكره بذلك عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وأصحابَه الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، حين سار نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد لقتالهم، فقال لهم المسلمون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لسِرنا معكم إليهم، ولكُنّا معكم عليهم، ولكن لا نرى أنه يكون بينكم وبين القوم قتال، فأبدَوا من نفاق أنفسهم ما كانوا يكتمونه، وأبدوا بألسنتهم بقولهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ} غير ما كانوا يكتمونه ويخفونه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به".
28- يسخرون من العمل القليل من المؤمنين:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79].(/23)
عن أبي مسعود رضي الله عنه، قال: لما أمرنا بالصدقة كنّا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رئاء، فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ...}.
قال ابن كثير: "وهذا أيضا من صفات المنافقين، لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مُراءٍ، وإن جاء بشيء يسير قالوا: إن الله لغني عن صدقته".
29- الرضا بأسافل المواضع:
قال الله تعالى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:86].
قال ابن كثير: "يقول تعالى منكرا وذاما للمتخلفين عن الجهاد الناكلين عنه مع القدرة عليه ووجود السعة والطول، واستأذنوا الرسول في القعود، وقالوا: {ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}، ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء وهن الخوالف، بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاما، كما قال تعالى عنهم في الآية الأخرى: {فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19] أي: علت ألسنتهم بالكلام الحادّ القوي في الأمن، وفي الحرب أجبن شيء".
30- الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل ونسيان الله تعالى:
قال الله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67].
قال ابن كثير: "يقول تعالى منكرا على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كان هؤلاء {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي: عن الإنفاق في سبيل الله{نَسُوا اللَّهَ} أي: نسوا ذكر الله {فَنَسِيَهُمْ} أي: عاملهم معاملة من نسيهم، كقوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا}. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون عن طريق الحق الداخلون في طريق الضلالة".
وقال ابن القيم: "هم جنس بعضه يشبه بعضا، يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه، وينهون عن المعروف بعد أن يتركوه، ويبخلون بالمال في سبيل الله ومرضاته أن ينفقوه، كم ذكرهم الله بنعمه فأعرضوا عن ذكره ونسوه، وكم كشف حالهم لعباده المؤمنين ليتجنبوه، فاسمعوا أيها المؤمنون: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}".
31- الفرح بالتخلف وكره الجهاد والتواصي بالتخلف عنه:
قال الله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].
قال ابن كثير: "يقول تعالى ذاما للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم بعد خروجه، {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا} معه {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا} أي: بعضهم لبعض {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}؛ وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر عند طيب الظلال والثمار؛ فلهذا قالوا: لا تنفروا في الحرّ، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {قُلْ} لهم {نَارُ جَهَنَّمَ} التي تصيرون إليها بمخالفتكم {أَشَدُّ حَرًّا} مما فررتم منه من الحر، بل أشدّ حرّا من النار".
32- التخذيل والتثبيط والإرجاف:
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُورًا % وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} [الأحزاب:12-13].
33- البطء عن المؤمنين:(/24)
قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72].
قال الطبري: "وهذا نعت من الله تعالى ذكره للمنافقين، نعتهم لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بصفتهم فقال: {وَإِنَّ مِنْكُمْ} أيها المؤمنون، يعني: من عدادكم وقومكم، ومن يتشبه بكم، ويظهر أنه من أهل دعوتكم وملتكم، وهو منافق يبطِّئ من أطاعه منكم عن جهاد عدوكم، وقتالهم إذا أنتم نفرتم إليهم، {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} يقول: فإن أصابتكم هزيمة أو نالكم قتل أو جراح من عدوكم {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} فيصيبني جراح أو ألم أو قتل، وسرّه تخلّفه عنكم شماتةً بكم؛ لأنه من أهل الشكّ في وعد الله الذي وعد المؤمنين على ما نالهم في سبيله من الأجر والثواب وفي وعيده، فهو غير راج ثوابا، ولا خائف عقابا".
34- لا ينفعهم القرآن بل يزيدهم رجسًا إلى رجسهم:
قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ % وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124-125].
35 - العودة إلى ما نهوا عنه والتناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8].
36- الاستئذان عن الجهاد بحجة الفتنة:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: ومن المنافقين من يقول لك يا محمد: {ائْذَنْ لِي} في القعود {وَلا تَفْتِنِّي} بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم، قال الله تعالى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي: قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا".
37- اتخاذ الأعذار عند التخلف:
قال الله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:94].
قال ابن كثير: "أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} أي: لن نصدقكم، {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أي: قد أعلمنا الله أحوالكم، {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي: سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا، {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: فيخبركم بأعمالكم، خيرها وشرها، ويجزيكم عليها".
38- الاستخفاء من الناس:
قال الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108].
قال ابن كثير: "هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس؛ لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها؛ لأنه مطّلع على سرائرهم، وعالم بما في ضمائرهم، ولهذا قال: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} تهديد لهم ووعيد".
39- يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا:
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
40- الفرح بما يصيب المؤمنين من ضراء والاستياء بما يمكّن الله لهم:(/25)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ % هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ % إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:118-120].
قال ابن كثير: "يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي: يطلعونهم على سرائرهم، وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالا أي: يسعون في مخالفتهم، وما يضرّهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودّون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشقّ عليهم".
وقال ابن القيم: "إن أصاب أهل الكتاب والسنة عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمّهم، وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحص به ذنوبهم ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم، وهذا يحقق إرثهم وإرث من عداهم، ولا يستوي من موروثه الرسول ومن موروثهم المنافقون، {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ % قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:50، 51]".
وقال الله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50].
قال ابن كثير: "يعلم تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعداوة هؤلاء له؛ لأنه مهما أصابه من حسنة أي: فتح ونصر وظفر على الأعداء مما يسرّه ويسرّ أصحابه ساءهم ذلك، {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} أي: قد احترزنا من متابعته من قبل هذا {وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ}".
41- إذا اؤتمن خان وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ % فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ % فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:75-77].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله، وليكوننّ من الصالحين، فما وفَّى بما قال، ولا صدق فيما ادعى، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقوا الله عز وجل يوم القيامة، عياذا الله من ذلك".
وقال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8].
قال ابن القيم: "لبسوا ثياب أهل الإيمان، على قلوب أهل الزيغ والخسران والغل والكفران، فالظواهر ظواهر الأنصار، والبواطن قد تحيزت إلى الكفار، فألسنتهم ألسنة المسالمين، وقلوبهم قلوب المحاربين، ويقولون: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}".
وقال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9].
قال ابن القيم: "رأس مالهم الخديعة والمكر، وبضاعتهم الكذب والخثر، وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون، وهم بينهم آمنون، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).(/26)
قال النووي: "هذا الحديث مما عدّه جماعة من العلماء مشكِلا من حيث إن هذه الخصال توجد في المسلم المصدّق الذي ليس فيه شك... فإن إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال، وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كلّه، وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار: إن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلّق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حقّ من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلّدين في الدرك الأسفل من النار.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كان منافقا خالصا)) معناه: شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال. قال بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه، فأما من يندر ذلك منه فليس داخلا فيه، وهذا هو المختار في معنى الحديث".
42- تأخير الصلاة عن وقتها:
عن العلاء بن عبد الرحمن أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر، وداره بجنب المسجد، فلما دخلنا عليه قال: أصليتم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلوا العصر، فقمنا فصلينا، فلمّا انصرفنا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا)).
قال ابن القيم: "يؤخّرون الصلاة عن وقتها الأوّل إلى شرق الموتى، فالصبح عند طلوع الشمس، والعصر عند الغروب، وينقرونها نقرَ الغراب إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب، ويلتفتون فيها التفات الثعلب إذ يتيقّن أنّه مطرود مطلوب".
43- التخلف عن الصلاة في جماعة المسلمين:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من سرّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سننَ الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحطّ عنه بها سيئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
قال الشُّمُنِّي: "ليس المراد بالمنافق ها هنا من يبطن الكفر ويظهر الإسلام، وإلا لكانت الجماعة فريضة؛ لأن من يبطن الكفر كافر، ولكان آخر الكلام مناقضًا لأوله".
44- البذاء والبيان:
عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحياء والعِيّ شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق)).
قال الترمذي: "والعِيّ قلّة الكلام، والبذاء هو الفحش في الكلام، والبيان هو كثرة الكلام، مثل هؤلاء الخطباء الذين يخطبون فيوسّعون في الكلام، ويتفصّحون فيه، من مدح الناس فيما لا يُرضي الله".
قال المناوي: "والعِي أي: سكون اللسان تحرّزا عن الوقوع في البهتان لا عيّ القلب ولا عيّ العمل ولا عيّ اللسان لخلل. ((شعبتان من شعب الإيمان)) أي: أثران من آثاره، بمعنى أن المؤمن يحمله الإيمان على الحياء، فيترك القبائح حياء من الله، ويمنعه من الاجتراء على الكلام شفقا من عثر اللسان والوقيعة في البهتان. والبذاء هو ضدّ الحياء وقيل: فحش الكلام والبيان، أي: فصاحة اللسان، والمراد به هنا ما يكون فيه إثم من الفصاحة كهجو أو مدح بغير حقّ. شعبتان من النفاق بمعنى أنهما خصلتان منشؤهما النفاق، والبيان المذكور هو التعمّق في النطق والتفاصح وإظهار التقدّم فيه على الغير تيها وعجبا كما تقرر. قال القاضي: لما كان الإيمان باعثا على الحياء والتحفظ في الكلام والاحتياط فيه عدّ من الإيمان، وما يخالفهما من النفاق، وعليه فالمراد بالعيّ ما يكون بسبب التأمل في المقال والتحرز عن الوبال لا لخلل في اللسان، والبيان ما يكون بسببه الاجتراء وعدم المبالاة بالطغيان والتحرز عن الزور والبهتان. وقال الطيبي: إنما قوبل العي في الكلام مطلقا بالبيان الذي هو التعمق في النطق والتفاصح وإظهار التقدم فيه على الناس مبالغة لذم البيان وأن هذه مضرة بالإيمان مضرّةَ ذلك البيان".(/27)
وقال ابن القيم: "وجملة أمرهم أنهم في المسلمين كالزغل في النقود، يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس، وقليل ما هم. وليس على الأديان أضرّ من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قِبلهم، ولهذا جَلَّى الله أمرهم في القرآن، وأوضح أوصافهم، وبيّن أحوالهم، وكرّر ذكرهم؛ لشدة المؤنة على الأمّة بهم وعِظم البلية عليهم بوجودهم بين أظهرهم، وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرّز من مشابهتهم والإصغاء إليهم، فكم قطعوا على السالكين إلى الله طريق الهدى، وسلكوا بهم سبل الردى، وعَدُوهم ومنّوهم، ولكن وعدوهم الغرور، ومنّوهم الويل والثبور".
جامع البيان (1/122).
مدارج السالكين (1/379).
جامع البيان (22/3).
جامع البيان (17/191).
تفسير القرآن العظيم (4/370).
جامع البيان (10/171).
مدارج السالكين (1/379-380).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (4900)، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2772).
جامع البيان (1/127).
جامع البيان (1/128-129).
مدارج السالكين (1/379).
جامع البيان (5/329).
جامع البيان (5/331).
مدارج السالكين (1/381-382).
جامع البيان (5/334-335).
مدارج السالكين (1/381).
أخرجه البخاري في الأذان، باب: فضل العشاء في الجماعة (657) واللفظ له، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (651).
فتح الباري (2/141).
جامع البيان (5/335-336).
أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2784).
شرح صحيح مسلم (17/128).
جامع البيان (1/118).
تفسير القرآن العظيم (1/48-49).
مدارج السالكين (1/382-383).
تفسير القرآن العظيم (2/375).
تفسير القرآن العظيم (2/377).
أحكام القرآن (1/294).
مدارج السالكين (1/383).
جامع البيان (28/107-108).
مدارج السالكين (1/384).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {لاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرِحُونَ بِمَا أَتَوْا} (4567)، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2777).
تفسير القرآن العظيم (2/377).
جامع البيان (4/167).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ...} (14668)، ومسلم في الزكاة (1018).
تفسير القرآن العظيم (2/389).
تفسير القرآن العظيم (2/394).
تفسير القرآن العظيم (2/382).
مدارج السالكين (1/382).
تفسير القرآن العظيم (2/391).
جامع البيان (5/165).
تفسير القرآن العظيم (2/376).
تفسير القرآن العظيم (2/397).
تفسير القرآن العظيم (1/565).
تفسير القرآن العظيم (1/406).
مدارج السالكين (1/385).
تفسير القرآن العظيم (2/376).
تفسير القرآن العظيم (2/388).
مدارج السالكين (1/378).
مدارج السالكين (1/379).
أخرجه البخاري في الإيمان، باب:علامة المنافق (34)، ومسلم في الإيمان (58).
شرح صحيح مسلم (2/46-47).
أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (622).
قال في القاموس (1158): "شرقت الشمس: ضعف ضوؤها أو دنت للغروب. وأضافه $ إلى الموتى فقال: ((يؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى)) لأن ضوءها عند ذلك الوقت ساقط على المقابر، أو أراد أنهم يصلّونها ولم يبق من النهار إلا بقدر ما يبقى من نفس المحتضر إذا شرق بريقه".
مدارج السالكين (1/384).
أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (654).
ينظر: عون المعبود (2/179).
أخرجه أحمد (5/269)، والترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في العي (2027)، والبيهقي في الشعب (7706)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من حديث أبي غسان محمد بن مطرف "، وصححه الحاكم (1/51)، والألباني في صحيح الترمذي (1650).
فيض القدير (3/428).
طريق الهجرتين (719).
سابعًا: موقف المسلم من المنافقين:
1- عدم طاعتهم:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} بطاعته، وأداء فرائضه وواجب حقوقه عليك، والانتهاء عن محارمه وانتهاك حدوده، {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} الذين يقولون لك: اطرد عنك أتباعك من ضعفاء المؤمنين بك حتى نجالسك، {وَالْمُنَافِقِينَ} الذين يظهرون لك الإيمان بالله والنصيحة لك، وهم لا يألونك وأصحابك ودينك خبالا، فلا تقبل منهم رأيا، ولا تستشرهم مستنصحا بهم، فإنهم لك أعداء، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} يقول: إن الله ذو علم بما تضمره نفوسهم، وما الذي يقصدون في إظهارهم لك النصيحة، مع الذي ينطوون لك عليه، حكيم في تدبير أمرك وأمر أصحابك ودينك، وغير ذلك من تدبير جميع خلقه".
2- الإعراض عنهم وزجرهم ووعظهم:
قال الله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:138].(/28)
وقال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} [النساء:63].
قال الطبري: "يعني جل ثناؤه بقوله: {أُولَئِكَ} هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك ـ يا محمد ـ صفتهم، {يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} في احتكامهم إلى الطاغوت، وتركهم الاحتكام إليك، وصدودهم عنك، من النفاق والزيغ، وإن حلفوا بالله ما أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} يقول: فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم، ولكن عظهم بتخويفك إياهم بأس الله أن يحل بهم، وعقوبته أن تنزل بدارهم، وحذرهم من مكروه ما هم عليه من الشك في أمر الله وأمر رسوله، {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} يقول: مرهم باتقاء الله والتصديق به وبرسوله ووعده ووعيده".
3- عدم المجادلة أو الدفاع عنهم:
قال الله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107].
قال الطبري: "يعنى بذلك جل ثناؤه: {وَلا تُجَادِلْ} يا محمد فتخاصم {عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} يعني: يخونون أنفسهم، يجعلونها خونة بخيانتهم ما خانوا مِن أموال مَن خانوه ماله وهم بنو أبيرق، يقول: لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم، وما خانوه فيه من أموالهم، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} يقول: إن الله لا يحب من كان من صفته خيانة الناس في أموالهم، وركوب الإثم في ذلك وغيره، مما حرمه الله عليه".
4- النهي عن موالاتهم والركون إليهم:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118].
قال الطبري: "يعني بذلك تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم، {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} يقول: لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم، يقول: من دون أهل دينكم وملتكم، يعني من غير المؤمنين.
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطون حلفاءهم من اليهود وأهل النفاق منهم، ويصافونهم المودة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام، فنهاهم الله عن ذلك، وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم".
وقال ابن كثير: "يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة أي: يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالا أي: يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم".
5- جهادهم والغلظة عليهم:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف والسلاح، {وَالْمُنَافِقِينَ} واختلف أهل التأويل في صفة الجهاد الذي أمر الله نبيه به في المنافقين، فقال بعضهم: أمره بجهادهم باليد واللسان وبكل ما أطاق جهادهم به، وبه قال ابن مسعود رضي الله عنه. وقال آخرون: بل أمره بجهادهم باللسان، وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما. وقال آخرون: بل أمره بإقامة الحدود عليهم، وبه قال الحسن وقتادة رحمهما الله.
وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ما قال ابن مسعود من أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين بنحو الذي أمره به من جهاد المشركين.
فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم؟!(/29)
قيل: إن الله تعالى ذكره إنما أمر بقتال من أظهر منهم كلمةَ الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك()، وأما من إذا اطُّلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأُخذ بها أنكرها ورجع عنها وقال: إني مسلم فإن حكم الله في كل من أظهر الإسلام بلسانه أن يحقن بذلك له دمه وماله وإن كان معتقدا غير ذلك، وتوكّل هو جل ثناؤه بسرائرهم، ولم يجعل للخلق البحث عن السرائر، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بهم وإطلاع الله إياه على ضمائرهم واعتقاد صدورهم كان يقرّهم بين أظهر الصحابة، ولا يسلك بجهادهم مسلك جهاد من قد ناصبه الحرب على الشرك بالله؛ لأن أحدهم كان إذا اطّلع عليه أنه قد قال قولا كفَر فيه بالله، ثم أُخذ به أنكره وأظهر الإسلام بلسانه، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يأخذه إلا بما أظهر له من قوله عند حضوره إياه، وعزمه على إمضاء الحكم فيه، دون ما سلف من قول كان نطق به قبل ذلك، ودون اعتقاد ضميره الذي لم يبح الله لأحد الأخذ به في الحكم، وتولى الأخذ به هو دون خلقه.
وقوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} يقول تعالى ذكره: واشدد عليهم بالجهاد والقتال والإرعاب"().
6- تحقيرهم وعدم تسويدهم:
عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا للمنافق سيد؛ فإنه إن يك سيدًا فقد أسخطتم ربكم عز وجل))().
7- عدم الصلاة عليهم:
قال الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84].
عن عبد الله قال: لما توفي عبد الله بن أُبيّ جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أعطني قميصَك أكفنه فيه وصلِّ عليه واستغفِر له، فأعطاه قميصه وقال: ((إذا فرغت منه فآذنَّا))، فلمّا فرغ آذنه به، فجاء ليصلّي عليه، فجذبه عمر، فقال: أليس قد نهاك الله أن تصلّي على المنافقين؟! فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَّغْفِرَ اللهُ لَهُمْ}، فنزلت: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ ع
جامع البيان (21/117).
جامع البيان (5/156).
جامع البيان (5/271).
ذكره عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة.
جامع البيان (4/60-61).
تفسير القرآن العظيم (1/399).
أي: لم يرجع عن كلمة الكفر، بل أصر عليها.
جامع البيان (10/183-184).
أخرجه أحمد (5/346)، والبخاري في الأدب المفرد (760)، وأبو داود في الأدب، باب: لا يقال المملوك ربي وربتي (4977) واللفظ له، والنسائي في عمل اليوم والليلة (244)، والبيهقي في الكبرى (6/70)، وصحح المنذري إسناده في الترغيب (3/359)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (371).
ثامنًا: سبل الوقاية من النفاق:
1- الاتصاف بصفات أهل الإيمان وترك صفات أهل النفاق.
2- الجهاد في سبيل الله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات ولم يغز ولم يحدّث به نفسه مات على شعبة من نفاق)).
قال النووي: "المراد أن من فعل هذا فقد أشبه المنافقين المتخلّفين عن الجهاد في هذا الوصف؛ فإن ترك الجهاد أحد شعب النفاق. وفي هذا الحديث أن من نوى فعل عبادة فمات قبل فعلها لا يتوجّه عليه من الذم ما يتوجّه على من مات ولم ينوها".
3- كثرة ذكر الله تعالى:
قال ابن القيم: "إن كثرة ذكر الله عز وجل أمان من النفاق؛ فإن المنافقين قليلو الذكر لله عز وجل، قال الله عز وجل في المنافقين: {وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:142]، وقال كعب: من أكثر ذكر الله عز وجل برئ من النفاق. ولهذا ـ والله أعلم ـ ختم الله تعالى سورة المنافقين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]، فإن في ذلك تحذيرا من فتنة المنافقين الذين غفلوا عن ذكر الله عز وجل فوقعوا في النفاق. وسئل بعض الصحابة رضي الله عنهم عن الخوارج: منافقون هم؟ قال: (لا، المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا). فهذا من علامة النفاق: قلة ذكر الله عز وجل، وكثرة الأمان من النفاق، والله عز وجل أكرم من أن يبتلي قلبا ذاكرا بالنفاق، وإنما ذلك لقلوب غفلت عن ذكر الله عز وجل".
4- الدعاء:
عن جبير بن نفير قال: دخلت على أبي الدرداء منزله بحمص، فإذا هو قائم يصلي في مسجده، فلما جلس يتشهد جعل يتعوذ بالله من النفاق، فلما انصرف قلت: غفر الله لك يا أبا الدرداء، ما أنت والنفاق؟ قال: (اللهم غفرًا ـ ثلاثا ـ، من يأمن البلاء؟! من يأمن البلاء؟! والله إن الرجل ليفتتن في ساعة فينقلب عن دينه).
5- حبّ الأنصار:
عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)).(/30)
6- حبّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
عن زر قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأميّ صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا يحبّني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق).
قال النووي: "ومعنى هذه الأحاديث: أن من عرف مرتبة الأنصار وما كان منهم في نصرة دين الإسلام والسعي في إظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام وحبهم النبي صلى الله عليه وسلم وحبه إياهم وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثارا للإسلام، وعرف من على بن أبي طالب رضى الله عنه قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبّ النبي صلى الله عليه وسلم له وما كان منه من نصرة الإسلام وسوابقه فيه ثم أحبّ الأنصارَ وعليًّ لهذا كان ذلك من دلائل صحة إيمانه وصدقه في إسلامه؛ لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أبغضهم كان بضدّ ذلك واستُدلّ به على نفاقه وفساد سريرته. والله اعلم".
7- حب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وحبّ بني هاشم:
قال ابن تيمية: "قال بعض السلف: حبّ أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما نفاق، وحبّ بنى هاشم إيمان، وبغضهم نفاق".
8- الاتصاف التام بالصدق في الأمر كله:
قال ابن تيمية: "الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق هو الصدق، فإن أساس النفاق الذي بني عليه الكذب".
9- ترك البدع والحدث في الدين:
قال ابن تيمية: "البدع مظانّ النفاق، كما أنّ السنن شعائر الإيمان".
10- البعد عن سماع الغناء:
وسماع الغناء في الأصل محرم، ومع ذلك فإنه يؤثّر النفاق في القلب.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل).
قال ابن القيم: "وهذا كلام عارفٍ بأثر الغناء وثمرته، فإنه ما اعتاده أحد إلا نافق قلبه وهو لا يشعر، ولو عرف حقيقة النفاق وغايته لأبصره في قلبه، فإنه ما اجتمع في قلب عبد قط محبة الغناء ومحبة القرآن إلا طردت إحداهما الأخرى، وقد شاهدنا نحن وغيرنا ثقل القرآن على أهل الغناء وسماعه، وتبرمهم به، وصياحهم بالقارئ إذا طوّل عليهم، وعدم انتفاع قلوبهم بما يقرؤه، فلا تتحرك ولا تطرب ولا تهيج منها بواعث الطلب، فإذا جاء قرآن الشيطان فلا إله إلا الله كيف تخشع منهم الأصوات، وتهدأ الحركات، وتسكن القلوب وتطمئنّ، ويقع البكاء والوجد، والحركة الظاهرة والباطنة، والسماحة بالأثمان والثياب، وطيب السهر، وتمني طول الليل، فإن لم يكن هذا نفاقا فهو آخية النفاق وأساسه".
وقال: "فإن أساس النفاق أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين؛ إما أن يتهتك فيكون فاجرا، أو يظهر النسك فيكون منافقا، فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة، وقلبه يغلي بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيّجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر، وهذا محض النفاق".
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه،،،
أخرجه مسلم في الإمارة (1910).
شرح صحيح مسلم (13/56).
الوابل الصيب (ص110).
أخرجه الفريابي في صفة المنافق (73)، والبيهقي في الشعب (1/506) واللفظ له.
أخرجه البخاري في الإيمان، باب: علامة الإيمان حب الأنصار (17)، ومسلم في الإيمان (74).
أخرجه مسلم في الإيمان (78).
شرح صحيح مسلم (2/64).
مجموع الفتاوى (4/435).
مجموع الفتاوى (20/75).
مجموع الفتاوى (2/269).
أخرجه أبو داود في الأدب، باب: كراهية الغناء والزمر (4927). وروي مرفوعًا، ولا يصح. ينظر: السلسلة الضعيفة (2430).
مدارج السالكين (1/523).
إغاثة اللهفان (1/250).(/31)
الشيخ محمد بن أحمد بن زاروق الشنقيطي(الشاعر)
الطبعة الأولى 1425 هـ
لقد كانت غزوة الخندق أكبر المعارك أثرا في اهتزاز المواقف ، واختبار السرائر وظهور نفائس القدوة النبوية ، ولم يكن عبثا أن يجيء السياق القرآني لنقش هذه الأسوة في سورة الأحزاب، وفي قلب الآيات التي صورت آفاق المعركة، قال تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة …) وهذه إشارة واضحة إلى المستوى التربوي الذي وصلت إليه هذه القدوة في هذه الملحمة .
ومن هنا جاءت ضرورة استحضارها في سحمة الظروف الراهنة ، فقد عادت (قريظة) من جديد لتؤلب (الأحزاب) في غياب خطة من المواقف أو خندق يحمي مقدسات الأمة ، وفي استعداد تام لإعطاء كل ثمار (المدينة) للأحمق الغربي المطاع ، دون شرط ولا قيد !!!
وتتفاقم مأساة الأمة في حين يتسلل الناس لِواذا دون استئذان لمواقفهم المبدئية أو قناعاتهم التاريخية ، فعسى أن يساهم هذا الجَُهد في الالتحاق بالركب ، واستجلاء حقيقة القدوة والقيادة بإلقاء الأضواء على العلاقة النوعية بين القائد والجند ، تلك العلاقة التي تجعل سلطان المحبة أقوى من شُرطِيِّ الإكراه ، وحاجزَ الاحترام أسمى من حاجز الخوف ، وفي هذا المنحى تتحد مادة القدوة والقيادة في المعجم التربوي الذي يجعل القدوة والقائد مترادفين على عكس ما يشاهد اليوم من انفصام بين هذين المحورين .
لقد أشاعت غزوة الخندق جوا نفسيا هز الكيان الإسلامي ، إذ استطاع اليهود تدويل المعركة ، وبناء الأحلاف ، وحشد الحشود ، وقد صورت الآيات القرآنية توتر الموقف أروع تصوير ...
وبعيدا عن السرد التاريخي للوقائع ، فسأكتفي هنا بإبراز جوانب من القدوة التي تشبث بها الصحابة في سُدفِ الخوف لتوصلهم إلى دفء الأمان بإشراقة الإيمان .
ولن أوزع هذه القدوة توزيعاً حدودياً فكل حدث في المعركة ينطق بتفتيت الحواجز ، كل مشهد تتفاعل فيه النماذج وتتناغم فيه الألوان ، ويتملى فيه المتوسمون سموَ القدوة وشموليتها.
ولذلك قسمت الموضوع إلى مشاهدَ معلقا على كل مشهد:
المشهد الأول : العمل الجماعي في الخندق:
عن أنس : خرج رسول الله ( إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم ، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال :
اللهم إن العيش عيش الآخرهْ فاغفر للأنصار والمهاجرهْ
فقالوا محيبين له :
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا 2
وعن البراء بن عازب قال : رأيتُه ( ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبارُ
جلدةَ بطنه ، وكان كثير الشعر ، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ، ويقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا
وإن أرادوا فتنة أبينا
قال : ثم يمد بها صوته بآخرها3.
وقال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله ( الجوع ، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر ، فرفع رسول الله ( عن حجرين4.
لقد كان في مبدإ حفر الخندق الذي ذكر أهل السير أنه من اقتراح سلمان ( 5 تأصيل لاستيراد الخطط الحربية المتطورة وغيرها من مستلزمات الرقي ، وينبغي ألا يكون مبدأ الانفتاح آلية لتغطية تسلل المفاهيم الهدامة دون عرضها على مصفاة الفكر الإسلامي ، حتى لا تمس بثوابت الأمة وقيمها الحضارية ...
وفي هذا المشهد الحي تطالعنا المشاركة الفعلية للقائد في ميدان العمل ، بهذا السمو واستفراغ الوسع فتكاد حجُب الواقع تضفي عليها ضربا من الخيال والأسطورة.
إنّ عامة الناس ليكتفون بأقل من هذا فابتسامة القائد المتغطرس تجعل الناس ينسون فظاظته وعنجهيته ويندفعون في العمل الشاق على بَرْقها الخُلَّب ، ويبنون على هيكلها المحنط ألوانا من الحكايات والأساطير ، تؤلَّف فيها الكتُبُ وتصبح مثلا يتلى وأناشيد ترجَّع ، ومادة يَتلهَّى بها العابثون في السمر ...
ما نشاهده هنا هو نُقلة نوعية في تعامل القادة مع شعوبهم من جمود المراسيم إلى فاعلية المفاهيم .
في هذه الإطلالة تتشابك المعاني وتتواردُ الأفكار وتتداخل النماذج : هل نقف عند مشهد التواضع الذي ترسِمه بصورة حية تلك الأتربةُ وذلك الغبارُ الذي يغطي البطن الشريف ،أم عند مشهد المساواة العملي الذي لا نعرف عنه اليوم أكثر مما نعرفه عن العنقاء.
أم عند مشهد الصبر على هذا العمل الشاق حيث يتناسى القائد معاناته الشخصية في خضم المعاناة الجماعية ، فيُفيض على أتباعه رهاما من كلمات الرحمة والحنان .
إن هذا المزيج التربوي يُحدث في النفوس الأثر الكبير. ولكن ، هل تقف الروافد التربوية عند هذا الحد ؟ كلا إن النفوس التي تُعايش هذا الإعصار من الخوف والمشقة والإرجاف لتحتاج حاجة ماسة إلى الترويح الذي تَميسُ معه النفس دون أن تفقد طابع الجد والرزانة ؛ وهنا يتفجر منبع جديد من منابع هذه القدوة التي لا تنضب ولا تَغيض .(/1)
إن القائد الأعظم يرتجز بأبيات ابن رواحة ، بما فيها من مُثل جميلة وأدعية جليلة تسمو بأصحابها إلى العالم العلوي ، لكنها تتماوج في أنشودة أخاذة تروح عن الجند وتهدئ من أعصابهم .
ويزيد في تأثيرها ونفاذها إلى شغاف القلب صدورها من القائد الذي يشارك الرعية في أعمالهم وهمومهم ، يقول الدكتور البوطي :" فأنت تجد أن النبي ( لم يندُب المسلمين إلى حفر الخندق ثم ذهب يراقبهم في قصر منيف له مستريحا هادئا، ولا أقبل إليهم في احتفال صاخب رنّان ، ليمسك معول أحدهم فيضرب به ضربة واحدة في الأرض إيذانا ببدء العمل …"6 اهـ
وفي هذا المشهد يبرز منحى آخر من مناحي التربية هو التذكير والوعظ ، ولكنه ينساب ههنا في قالب التنغيم الذي يمتص التوتر والمشقة : اللهم إن العيش عيش الآخرة … وهنا تؤتي هذه الرسالة التربوية أكُلها فتحدث الاستجابة دون قسر ولا تكلف : نحن الذين بايعوا محمدا …
وهكذا يتكرر الإنشاد ، وتصدح النغمات مخففة هذا الجو المفعم بالمعاناة والأزمات ...
يقول الحافظ ابن حجر معلقا على الحديث:" وفيه أن إنشاد الشعر تنشيطا في العمل ، وبذلك جرت عادتهم في الحرب "7 اهـ
ويظل مد القدوة في تصاعد وتنام حينما يكشف الأتباع عن درجة من الجوع فإذا القائد يعاني درجات منه ، وهنا يقع التأسي ، وتهدأ حِدة الشكوى .
المشهد الثاني : خوارقُ أثناء الحفر:
عن جابر ( قال :"إنا يوم الخندق نحفِر ، فعرضت كُدية شديدة ، فجاءوا النبي ( فقالوا: هذه كُدية عرضت في الخندق ، فقال أنا نازل ، ثم قام وبطنه معصوب بحجر ، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذَواقا ، فأخذ النبي ( المعول فضرب ، فعاد كثيبا أهْيل (أو أهيم ) فقلت : يا رسول الله ائذن لي إلى البيت ، فقلت لامرأتي : رأيت بالنبي ( شيئا ما كان لي في ذلك صبر ، فعندك شيء ؟ فالت: عندي شعير وعَناق فذبحت العَناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البُرمة8 ثم جئت النبي ( والعجين فد انكسر ، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت طُعيم لي ، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان ، قال: كم هو ؟ فذكرت له قال : كثير طيب، فقل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنّور حتى آتي ، ثم نادى المهاجرين والأنصار فقال لهم قوموا.. فلما دخل جابر على امرأته قال ويحك جاء النبي بالمهاجرين والأنصار ومن معهم ! قالت : هل سألك كم طعامك؟ قال: نعم ، قالت : الله ورسوله أعلم.
ثم جاء النبي ( فقال: ادخلوا ولا تَضاغطوا ، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع ، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية ! قال : كلي هذا وأهدي ، فإن الناس أصابتهم مجاعة9 .
وقال البراء : لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول فاشتكينا ذلك لرسول الله ( فجاء وأخذ المعول فقال : بسم الله ثم ضرب ضربة ، وقال الله أكبر ، أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأنظر قصورها الحمرَ الساعة ، ثم ضرب الثانية فقطع آخر ، فقال: الله أكبر! أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة فقال : بسم الله ، فقطع بقية الحجر ، فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني10.
وفي هذا الموقف الصعب يفزع الناس إلى القائد الأعظم لِيُغيثَهم في الملمات الدنيوية كما يفزعون إليه في المهمات الأخروية، وهو لا يعتذر بشدة الجوع بل يشمر عن ساعد الجد، ويضرب الكُدية …
وهنا تتدخل المعجزة لتضع اللمسات الأخيرة ـ إن صح التعبير ـ على هذه الشخصية الكاملة البناء ، والتي وصلت في بشريتها المنتهي .
ويرسم الرسول ( لجنوده المستقبل الباسم ، فتبرز القصور الحمراء والقصر الأبيض من خلال لمعان قدح المعول على الحجارة ، ويحلق بالصحابة الأمل الباسم بعيدا عن واقعهم المتجهِّم ، وربما أدركوا أن هذه الكدية إن هي إلا رمز لحالتهم الراهنة ، فينبعث فيهم الأمل والتفاؤل .
وفي هذا المشهد يتواصل المد التربوي ويصب في الهدف العسكري حينما ترتفع معنويات الجند بهذه الطاقة الروحية التي أظلتهم في موقف استفرغوا فيه طاقتهم الجسدية ، وتوترت أعصابهم بشكل ملحوظ ، حتى عبر الشيخ محمد الغزالي عن هذه المعركة بأنها معركة أعصاب وليست معركة خسائر11.
ثم يكبر النبي ( في وسط هذا الجَُهد ليزود أصحابه بدفقة جديدة من الحماس ، وهكذا يستمر إيقاع القدوة متناميا ينزع الرتابة والسآمة عن النفوس باستمرار .
لقد كانت الثقة التامة تتأسس في النفوس تجاه شخصه الأعظم ( فهو الذي يُفزع إليه في كل الأمور، ليقدم الحلول لكل العقبات .
وفي هذا المشهد يتراءى معنى الزهد الذي يبعد عن الأذهان أن يكون لهذا النبي الكريم ما لأرباب الدنيا من مطامح شخصية.
ولا ينبغي أن يحجب عنا وهجُ المعجزة تلك المعاني المزهرة من استعلاء على الجشع والحرص ، والتحليق في فلك الإيثار، والقيام على خدمة الرعية في أحلك الظروف ...(/2)
إنها إشراقة في النفس وسخاء في الطبع ، ولقد ضرب النبي ( في ذلك المثل الأعلى كما قالت عائشة : " كان النبي ( أجود الناس … "12.
وفي فعله ( وأمره لامرأة جابر دلالة واضحة على منهج التكافل الاجتماعي الذي يسري في جل النظم الإسلامية سريان الدماء في العروق .
وتتفتق من أكمام هذه المعجزات نفحات التثقيف والتربية لهذه الجماعة المؤمنة على مبدإ الأخذ بالأسباب حيث لم يغِب هذا المنهج في ثورة الخوارق ، فقد شهد الطعام عملية تكثير لا إنشاء ، وأشرقت الآفاق المستقبلية للفتوح ، في إطار المجهود البدني الشاق.
المشهد الثالث:من تقنيات الحرب:
لما بلغ النبي ( غدرُ بني قريظة بعث إليهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما عبد الله بن رواحة ، وخوات بن جبير ، وقال:" انطلقوا حتى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أما لا؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتّوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس" ، فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون وقد جاهروهم بالسب والعداوة ، ونالوا من رسول الله ( وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد ، فانصرفوا عنهم ، فلما أقبلوا على رسول الله ( لحنوا له وقالوا : عَضَل والقارة ، أي أنهم على غدر كغدر عَضَلٍ والقارة .13
في هذا المشهد منظومة كاملة من أسرار الحرب تتمثل في:
أ - عدم التسرع في التصديق بالمعلومات، والتأكد من صحة الشائعات.
ب- التخاطب بالرموز للحفاظ على تماسك الصف، والسرية التامة.
ج - السيطرة على الإعلام ، وعدم بث ما يضعف معنويات الجند.
د - ضرورة معرفة القائد لكل الملابسات التي تحيط بأرضية المعركة فعلى أساس هذه المعرفة الدقيقة تبنى الخطط الحربية الناجحة.
...
... المشهد الرابع: المراوضة على الصلح:
ولما اشتد البلاء بعث رسول الله ( إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما في أن يصالح قبيلة غطفان على ثلث ثمار المدينة كي ينصرفوا عن قتال المسلمين ، فأشارا عليه بألا يفعل ذلك ، فتهلل وجه رسول الله (14.
في هذا المشهد يتكرر عقد مجلس الشورى كمبدإ في الحرب كما هو في السلم ، وفي هذه الإطلالة يتجلى لنا ما يخفق بين جوانح المصطفى من رحمة بهذه الأمة ورغبة في تجنيب أصحابه كل المكاره ، ووفائه للأنصار ، واعتماده على مراكز التأثير وصنّاع القرار، وما كان طبع المصطفى ( يرضى بدفع الفدية للمتغطرسين فإن العزف على هذه الوتيرة لا يروق للشجعان ، وقد ضربت الحرب طبولها وحمي الوطيس ، وكأنما سرحت أرواح الأنصار معه في نفس المغنى ، فصدرت عن الطرح الذي تهلل له وجه رسول الله ( .
ومهما وقف الفقهاء عند هذه النقطة ليقرر بعضهم حكما فقهيا يتعلق بالصلح على المال ، ودفع الجزية للأعداء ، فإن الأفق النبوي كان أرحب من هذه المنحى ، والغرض التربوي كان يستصدر من الأنصار حكما يتماشتى مع عزة الإسلام وغلبته قبل أن يستصدر بعضُ الفقهاء أحكامَهم من مسألة لم تستقرَّ بعد ولم تتحدد ملامحها، ولهذا ذكر أهل السير أنه لم يقع من الصلح إلا المراوضة.15
ويتراءى في ثنايا هذا المشهد هدف حربي بارز يتمثل في شق صف العدو، وتفتيت قوته وتحطيم نفسياته ، وذلك لأن التلويح بالمال يُضعف الجانب الروحي والمعنوي .
ويقابل هذا المبدأ على المستوى الداخلي مبدأ آخر هو رفع معنويات الجند وهما توأمان حربيان أنتجهما مخاض التفكير في كسب هذه المعركة الخطيرة. يقول منير محمد الغضبان – معلقاً على هذا الموقف - :" وبقي الفكر البشري يَجهد ويدأب فاتّجه إلى تحطيم الحصار عن طريق شق صف العدو، بإعطائه ثلث ثمار المدينة ، ثم التراجع عن الفكرة عند استعداد الجيش للتضحية …"16اهـ
المشهد الخامس: السعي إلى اختراق صفوف العدو:
* وقد أتى نعيم بن مسعود رسول الله ( فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت ،
وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت فقال رسول الله ( : إنما أنت رجل واحد فخذِّل عنا إن استطعت … والقصة معروفة في السير.17
* عن حذيفة ( قال : لقد رأيتُنا مع رسول الله ( ليلة الأحزاب ، وأخذتنا ريح شديدة وقُر فقال رسول الله (: ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة. فسكتنا فلم يجبه منا أحد …(ردّد ذلك رسول الله ثلاثا ) ثم قال: قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم ، فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم ، قال : اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعَرهم علي .
فلما وليتُ من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام ، حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يَصْلي ظهره بالنار ، فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميَه ، فذكرت قول رسول الله ( ولا تذعَرهم علي ولو رميته لأصبتُه، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام،فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قرَرْتُ فألبسني رسول الله ( من فضل عَباءة كانت عليه يُصلي فيها ، فلم أزل نائما حتى أصبحت ، قال : قم يا نومان .18
تَصُبُّ قصة نعيم في الخط الذي أشرنا إليه سابقا، والمتمثل في تفتيت قوة العدو، وتحطيم نفسياته.(/3)
هذا مع إقرار مبدإ الخدعة في الحرب وأن الصراع لا يقتصر على قراع الصوارم بل يتجاوز إلى معركة كبيرة تلتحم فيها كل الطاقات .
وفي قصة حذيفة يتحدد الطابع الخاص للأوامر العسكرية في الإسلام حيث تصاغ في قالب تربوي متنكرة في زي العرض والتخيير، وقد انكسرت سَورتها برافد الترغيب.
يقول عبد الله محمد الرشيد منوها بهذه القاعدة الحربية:"وقد قرر العسكريون أن القيادة الناجحة هي التي توجه جنودها إلى أهدافها عن طريق الترهيب والتشجيع ولا تلجأ إلى الأمر والحزم إلا عند الضرورة"19
وفي هذه القصة أيضا تظهر أهمية المخابرات في الحرب،وضرورة معرفة أسرار الأعداء وخططهم،قال النووي:"وفي هذا الحديث أنه ينبغي للإمام وأمير الجيش بعث الجواسيس والطلائع لكشف خبر العدو"20
وكذلك يظهر في هذه القصة أهمية إطلاع القائد على كفاءات الجند ومهاراتهم لاستخدامها في الظرفية الملائمة.وقد ظهر سر اختيار النبي ( لحذيفة حينما تفاقم الموقف واحتد،(وطلب أبو سفيان أن يعرف كل امرئ جليسه)21فظهرت رباطة جأش حذيفة في موقف لا يخلوا من فكاهة ومسحة تندر.
وفي هذا المشهد نفحات من رحمة المصطفى ( بأصحابه ومداعبتهم له ليمسح عنهم غبار الحرب وأتعاب العمل.
ويُسدل الستار على المعركة،ويختمها القائد الأسوة بتلك الكلمة الإيجابية:"الآن نغزوهم ولا يغزوننا.."22
إنها ختام مسك ينقل الجند إلى عالم مفعم بنشوة النصر،وتناس للآثار النفسية لهذه الأزمة وما عسى أن تحدثه من ثغرة في بناء الفرد.
خاتمة:
من خلال هذه الجولة التي عايشنا فيها مشاهد من آفاق هذه الأسوة الشريفة،يمكننا أن نسجل ملاحظتين أساسيتين:
1-أن غزوة الأحزاب كانت بمثابة امتحان لختم المرحلة الدفاعية،والدخول في مرحلة الهجوم،سُلِّمتْ فيها شهادات التأهيل للذين جعلوا من القدوة النبوية برنامجاً للمطالعة قرءوا على ضوئه هذا الامتحان الصعب قراءة ثانية:(ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله..(23
2-تَكاملُ القدوة في شخص النبي ( جعل كل فرد جنديا على مستوى الطاعة،قائدا على مستوى المسؤولية.
وهكذا يبقى النموذج النبوي في هذه الغزوة حركة خالدة،تتهادى في حلل التاريخ السابغة،ويتزود منها أصحابُ الهمم،وخاصة في واقعنا الراهن حيث أحدق الخطر الخارجي بالأمة لاستئصال شافتها،ودبَّ الإرجاف والإحباط في كيانها.
هوامش
الأحزاب الآية :21
2 فتح الباري : رقم 4099 ومسلم بشرح النووي ص 172، كتاب الجهاد والسير : (غزوة الأحزاب ).
3 فتح الباري : رقم 4106 ومسلم بشرح النووي ص 171 كتاب الجهاد والسير (غزوة الأحزاب)
4 سنن الترمذي برقم 2476 وقال عقبه : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
5 الفصول في سيرة الرسول ص:94 والدرر في اختصار المغازي والسير ص : 121.
6 فقه السيرة النبوية لمحمد سعيد رمضان البوطي ، ص 219، ط 11 دار الفكر .
7 فتح الباري لابن حجر العسقلاني 7/395
8 البرمة بالضم قِدر من حجارة ، القاموس 3/80 ط الثانية
9 فتح الباري رقم 4101
10 "رواه أحمد ، وفيه ميمون أبو عبد الله وثقه ابن حبان وضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات "(مجمع الزوائد 6/131) وعزاه الحافظ في الفتح إلى أحمد والنسائي وحسن إسناده :( الفتح 7/397).
11 فقه السيرة للغزالي ص 297 ط دار العلم
12 فتح الباري رقم 6
13 سيرة ابن هشام : 3/232 ط دار إحياء التراث العربي بيروت وانظر في تفسير ابن جرير 10/21-82
14 هذه القصة رواها الهيثمي مفصلة وذكر بأنها في الطبراني بسند فيه محمد بن عمرو وحديثه حسن وبقية الرجال ثقات ( مجمع الزوائد 6/133 وقد ذكرت القصة بالمعنى اختصارا).
15 سيرة ابن هشام (3/234) دار إحياء التراث العربي.
16 المنهج الحركي للسيرة ص 416 مكتبة المنار.
17 كتاب المغازي للواقدي (2/484) ، وسيرة ابن هشام (3/240) وعزاه ابن كثير إلى ابن إسحاق ، سيرة ابن كثير (3/216) وانظر الفتح (7/402) .
18 مسلم بشرح النووي ص 145 المطبعة المصرية ج12 كتاب المغازي والسير: باب غزوة الخندق.
19 القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم د.عبد الله محمد الرشيد،دار القلم/دمشق
20 شرح مسلم للنووي،ص146،كتاب المغازي والسير،باب غزوة الخندق
21 انظر مجمع الزوائد6/136/ط دار الفكر،فقد عزاه إلى البزار وقال رجاله ثقات وقد حسن ابن حجر إسناده في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية،تحقيق الأعظمي،الحديث رقم 4329
22 الفتح تحت رقم 4109
23 الأحزاب آية 22
لا تنسوا من دعواتكم كل من ساهم في تقريب
هذه المادة لكم وجزاكم الله خيراً(/4)
... ...
النية ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- معنى النية. 2-أهمية النية وموطنها. 3- أهمية حديث إنما الأعمال بالنيات. 4- الأجر والوزر والنية. 5- مواطن نحتاج فيها إلى النية وتجديدها. 6- عواصم من انحراف النية. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
قال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا [سورة الكهف:28].
عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي ستة نفر، فقال المشركون للنبي : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل الآية. يقول ابن كثير: إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي أن يجلس معهم وحدهم، ولا يجالسهم مع ضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود وليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك.
لقد أرادها المشركون إقليمية طبقية وأبى الله إلا أن تكون عالمية، فعلى أكتاف هؤلاء الضعفاء تقوَ الدعوات.
فما النية؟ ولماذا؟ وما مواطن حاجة العبد إليها؟ وما عواصم النية من الانحراف؟
أما النية: لغة: القصد والإرادة، وقد جاء في كتاب الله بلفظ الإرادة والابتغاء قال تعالى: وما ينفقون إلا ابتغاء وجه الله ، وقال تعالى: يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .
وحديث النية: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))([1]).
أصل عظيم في إسلامنا، صدر له البخاري كتابه (الجامع الصحيح) إشارة إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو مردود على صاحبه للحديث: ((إن العبد ليعمل أعمالا حسنة فتصعد الملائكة في صحف مختمة فتلقى بين يدي الله تعالى فيقول: ألقوا هذه الصحيفة فإنه لم يرد بما فيها وجهي))([2]).
والنية موطنها القلب، لذا كان القلب هو موضوع نظر الجبار سبحانه للحديث: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))([3]).
وحديث النية ثلث العلم ويدخل سبعين بابا من أبواب الفقه كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله، فبالنية تتميز العبادات عن العادات، وتتميز العبادات عن بعضها، فالصيام لابد له من نية تميزه عن الانقطاع عن الطعام لأي سبب آخر من مرض أو غيره، والصلاة لابد من نية تتميز بها الفرائض عن النوافل، وفي الصدقة لابد من النية لتتميز الزكاة عن النذر عن الكفارة وهكذا.
والعبد يؤجر على النية الصالحة ويأثم على النية الفاسدة السيئة للحديث: ((إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله عز وجل علما وما لا فهو يعمل بعلمه في ماله فيقول رجل: لو آتاني الله تعالى مثل ما آتاه لعملت كما يعمل فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يتخبط بجهله في ماله فيقول رجل: لو آتاني الله مثل ما آتاه عملت كما يعمل فهما في الوزر سواء))([4]).
وأما مواطن حاجة العبد إلى النية: فالنية لازمة لكل عمل في أوله وأثنائه وآخره.
1- في أول العمل: فبواعث العمل في الناس مختلفة فذكر رب العزة أصنافا من الناس وبواعث إقبالهم فمنهم المخادع قال تعالى: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون [البقرة:8-9].
ومنهم النفعي قال تعالى: ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [الحج:11]، قال ابن عباس: (كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء)([5]). ومنهم الصادق في إقباله قال تعالى: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد [البقرة:207]، قال ابن عباس: (نزلت في صهيب الرومي وذلك أنه لما أسلم بمكة، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية)([6]).
2- وفي أثناء العمل:
أ - في تعبدنا، للحديث: ((من صام يرائي فقد أشرك ومن صلى يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك))([7]).
ب- في جهادنا: أتى أعرابي رسول الله فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل حميه والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى مكانه فأيهم في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله))([8]). وجاء في الخبر: (إن رجلا قتل في سبيل الله وكان يدعى قتيل الحمار)([9])، لأنه رأى رجلا فانطلق ليأخذ سلبه وحماره فقتل على ذلك فأضيف إلى نيته.
والذي هاجر لينكح امرأة قال ابن مسعود: (هاجر رجل فتزوج امرأة منا وكان يسمى مهاجر أم قيس)([10]).(/1)
ج- واستحب العلماء أن يكون للعبد نية في الطيب الذي يضعه للحديث: ((ومن تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة)). قال الغزالي رحمه الله: فإن تطيب قاصدا التنعم بلذات الدنيا أو صرف القلوب إليه حتى يعرف بطيب ريحه فذلك أنتن من الجيفة يكون، وإن أراد من التطيب اتباع السنة وإراحة إخوانه فهو المأجور على فعله([11]).
3- في آخر العمل وخاتمته: وحتى تحفظ أعمالنا من الضياع والنقصان نحن بحاجة إلى النية في: ألا نمنّ بأعمالنا على الله والناس فذلك مما يذهب العمل، فالله سبحانه لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة للحديث القدسي: ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما يغمس المخيط في البحر ثم انظر بما يرجع فيه يا عبادي إنما هي أعمالكم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه))([12]).
وعندما جاءت بنو أسد إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله أسلمنا، وقاتلتك العرب ولم نقاتلك فقال رسول الله : ((إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم وأنزل الله قوله: يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ))[ق:17]([13]).
وكذا المنة على الناس لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [سورة البقرة:264]، وللحديث: ((لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر))([14])وفي قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [الأنعام:160]: جاء اللفظ القرآني (جاء) ولم يقل (عمل) إشارة إلى أن الحسنة لا تضاعف حتى تحفظها من كل ما ينقصها من منة ورياء وسمعة حتى يأتي بها رب العزة وهي محفوظة من كل شائبة وعند ذلك تكون الحسنة بعشر أمثالها فتأمل.
وما يفسد العمل أن يختمه بانحراف وردة للحديث: ((إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها))([15])، لذا كان من علامة رضا الله سبحانه وتعالى ما أخبر عنه المصطفى بقوله: ((إذا أراد الله بعبد خير استعمله. قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت ثم يقبض عليه))([16]).
وأما عواصم النية من الانحراف:
الدعاء: يقول أبو موسى الأشعري: خطبنا رسول الله ذات يوم فقال: ((يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل: قالوا: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل؟ قال: قولوا اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه))([17]).
أن تجعل باعث العمل رضا الله سبحانه، وذلك لا يكون إلا بعد طول مجاهدة ومحاسبة ومراقبة والنية الخالصة لا يمكن اكتسابها بمجرد قول باللسان كالذي يقول: نويت أن أحب فلانا في الله فلا يمكن تحقق الأمر إذا لم يكن هناك باعث إيماني غمر القلب بأنواره حتى تنبعث منه هذه النيات ولهذا امتنع جماعة من السلف عن بعض الأعمال إذا لم تحضرهم النية، وكان بعضهم يقال له: تعال نذهب لزيارة فلان فيقول: اصبر حتى أحدث له نية.
أن تعد نفسك للحساب فالله تعالى يقول: ليسأل الصادقين عن صدقهم (الصادقين المبلغين المؤدين عن الرسل)([18]) وقيل: (يقال لهم: هل كان تصديقكم لوجه الله)؟([19]). أقول فليحذر الدعاة إلى الله من أن تكون دعوتهم لشخوصهم وذواتهم وأفكارهم وليست لله تعالى، ولو كانت دعوتهم لله حقيقية لما كان هذا الشتات وتلك الفرقة وذلك التمحل والتحذلق ثم الإعراض عن الأصول من ربانية وعالمية وشمولية وجهاد والكل يقرأ كتاب الله ولكن كما تقول عائشة رضي الله عنها: (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه).
([1])متفق عليه .
([2])أخرجه الدار قطني من حديث أنس بإسناد حسن .
([3])أخرجه مسلم .
([4])رواه الترمذي .
([5])مختصر ابن كثير مجلد 2 ص 532 / سورة الحج آية (11) .
([6])مختصر ابن كثير / مجلد 1 ص 185 – سورة البقرة آية 207 .
([7])رواه البيهقي .
([8])متفق عليه .
([9])رواه أبو اسحاق الفزاري في السنن من وجه مرسل .
([10])أخرجه الطبراني بإسناد جيد .
([11])احياء علوم الدين مجلد 4 ص 364 ، والحديث أخرجه أبو الوليد الصفار مرسلا .
([12])رواه مسلم .
([13])مختصر ابن كثير مجلد 3 ص 369 والحديث رواه البزار .
([14])أخرجه أحمد وابن ماجة .
([15])متفق عليه .
([16])رواه أحمد والترمذي .(/2)
([17])رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى .
([18])مختصر ابن كثير مجلد 3 ص 83 .
([19])الألوسي مجلد 321 ص 155 . ... ...
... ...
... ...
... ...(/3)
الهجر فوق ثلاث
الحمد لله رب العالمين، أمر أن لا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:
عياذا بك اللهم علام الغيوب، ومصرف القلوب من الهجر والقطيعة، والجفاء والحقد، والعداوة والتباغض والشحناء، ومن فتنة الشيطان، بالتحريش بين المؤمنين، وإغراء العداوة بينهم لأتفه الأسباب، ومحقرات الأمور، وهم الذين طهر الله قلوبهم بالإيمان، ونزع من صدورهم حظ الشيطان، بأدب السنة والقرآن، فشرع لهم السلام والمصافحة عند اللقاء، وأمرهم بإظهار التوادد والتحابب بينهم ليطمئن كل إلى أخيه، ويفضي إليه بسره، ويطلعه على خفي أمره، ويرى فيه خير نصيح ومعين على الحق، وتكاليف الحياة ومتاع الدنيا.
وَرُبَّ أَخٍ لم يُدْنِهِ منْكَ وَالِدٌ أبرُّ منَ ابْنِ الأمِّ عنْدَ النَّوَائبِ
وَرُبَّ بَعيدٍِ حَاضِرٍ لكَ نفْعُهُ وربَّ قريبٍ شاهدٍ مثل غائب"1"
أيها الأحبة: إن الأمة الإسلامية تعاني من أمراض عدة، تحاول أن تفتك بجسمها المتين، وتهد حصنها المنيع"الإسلام"، فالأعداء يعملون لليلاً ونهاراً على إضعاف هذا الجسم والفتك به بكل ما يقدرون عليه،ولا غرابة في هذا فهم الأعداء في السابق والحاضر، إلا أن الغريب أن تجد من أبناء المسلمين من يطعن في هذا الجسد وهو لا يدري، فالذي يهجر أخاه لأسباب دنيوية، أو أغراض نفسيه فوق ثلاث ليالٍ هو يطعن في هذا الجسد المليء بالطعنات، فالهجر يعمل على القطيعة بين أبناء الإسلام، ويفسد الأخوة المتينة، ويقطع العلاقة الحميمة، فيظهر الجفاء والحقد، وتزداد العداوة والبغضاء, ويُفتح الباب للشيطان ليعمل على التحريش بين المؤمنين.
نص الحديث:
عَنْ أبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنْ رَسُولَ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا يحلُّ لمسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَياَلٍ يَلْتْقَيِاَنِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بالسَّلَامِ"2.
المعنى العام:
إن هجر المسلم يُعدُّ كبيرة شريطة أن يكون فوق ثلاث، وألا يكون لغرض شرعيٍّ؛ لما في ذلك من التقاطع والإيذاء والفساد، وقد وردت أحاديثُ كثيرة في هذا المعنى ومنها ما رواه أبو أيوب الأنصاري-رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-,قال: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال،يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا،وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"3،وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-,قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:"لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار"4، وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يكون لمسلم أن يهجر مسلماً فوق ثلاثة،فإذا لقيه سلم عليه ثلاث مرار,كل ذلك لا يرد عليه فقد باء بإثمه"5، وعن أبي خراش السلمي-رضي الله عنه-أنه سمع رسول الله-صلى الله عليه وسلم يقول-:"من هجر أخاه سنة,فهو كسفك دمه"6.
فإذا زاد الهجر بين الإخوان فوق ثلاث كان حراماً لما يترتب عليه من تفكك اجتماعي، وزيادة البغض والكراهية، والشحناء بين المتهاجرين، ويُستثنى من التحريم ما إذا عاد الهجر إلى صلاح دين الهاجر والمهجور وإلا فلا يجوز، وقد قاطع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- والصحابةُ الكرامُ الثلاثةَ الذين خلفوا في غزوة تبوك، خمسين يوماً وليلة، حتى نزلت توبتهم من فوق سبع سموات,بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت,وضاقت عليهم أنفسهم،قال-تعالى- يصور ذلك المشهد: { وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } التوبة: 118.
فإذا ترتب على هذا الهجر الزجر للمهجور عما وقع فيه من ذنب، وكان الهجر ردعاً له حتى يرجع إلى الصلاح والحق، فهذا فيه مصلحة،أما إذا لم تكن ثمة مصلحة،وكان الهجر يُؤدِّي إلى زيادة فساد المهجور وفسقه،وذهابه مع المفسدين فهذا ليس فيه مصلحة، وضرره أكبر من نفعه،فالمسلم العاقل يضع الأشياء في مكانها المناسب،ويتصرف تصرفاً يعود نفعه على المجتمع.
معاني الكلمات:
"لا يحل": أي لا يجوز.
"يهجر أخاه": أي يعتزل أخاه المسلم ويقاطعه دون عذر.
"يعرض هذا": أي يتنحى ويصرف وجهه عنه7.
شرح الحديث:
قوله-صلى الله عليه وسلم-:"لا يحل للمسلم أن يهجُر " بضم الجيم " أخاه " أي المسلم, وهو أعم من أخوة القرابة والصحبة"8". والهجر كما قال"المناوي": هو مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن, أو اللسان, أو القلب9.(/1)
قال "الإمام النووي": "يحرم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنص وتباح في الثلاث بالمفهوم، وإنما عفي عنه في ذلك؛ لأن الآدمي مجبول على الغضب، وسوء الخلق، فسومح بذلك القدر ليرجع ويزول ذلك العارض.
وقال "أبو العباس القرطبي" : المعتبر ثلاث ليال، حتى لو بدأ بالهجرة في أثناء النهار ألغى البعض وتعتبر ليلة ذلك اليوم، وينقضي العفو بانقضاء الليلة الثالثة. قال "ابن حجر" :وفي الجزم باعتبار الليالي دون الأيام جمود. .... وفي رواية شعيب في حديث أبي أيوب بلفظ: "ثلاثة أيام" فالمعتمد أن المرخص فيه ثلاثة أيام بلياليها، فحيث أطلقت الليالي أريد بأيامها، وحيث أطلقت الأيام أريد بلياليها، ويكون الاعتبار مضى ثلاثة أيام بلياليها ملفقة، إذا ابتدئت مثلاً من الظهر يوم السبت كان آخرها الظهر يوم الثلاثاء10.
قال "الشيخ العثيمين": "لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاثة أيام لكن فيما دون الثلاثة له أن يهجره، ولا ينبغي أيضاً، لكن له يهجره؛ لأن الإنسان ربما يكون بينه وبين أخيه شيء من وقفة الخواطر والشرف عليه، فيهجره، هذا رخص له النبي-صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام فقط، وبعد ذلك لا بد أن يسلم لكن إذا كان الهجر لمصلحة دينية، مثل أن يكون سبباً لا ستقامة المهجور، وتركه المعاصي فإنه لا بأس به، بل قد يكون واجباً، وقد أمر الرسول-صلى الله عليه وسلم-بهجر كعب بن مالك –رضي الله عنه-وصاحبيه هلال ابن أمية، مرارة ابن الربيع، الذين تخلفوا في غزوة تبوك، ولما رجع النبي-صلى الله عليه وسلم-من الغزوة جاء المنافقون يعتذرون للرسول-صلى الله عليه وسلم-ويحلفون أنهم معذورون، فقال الله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} التوبة: 95-96.
حتى لو رضيتم عنهم ما ينفع، أما هؤلاء الثلاثة فمنَّ الله عليهم بالصدق، وصرحوا للرسول الله-صلى الله عليه وسلم – أنهم تخلفوا بلا عذر. وكان أشبهم كعب بن مالك-رضي الله عنه-، شاب جلد وكان عنده في تلك الغزوة راحلتان يعني غنيّ يستطيع أن يخرج في هذه الغزوة، لكن سولت له نفسه التمهل: أخرج غداً أخرج غداً، حتى ذهب الوقت، ولما رجع النبي-صلى الله عليه وسلم- جاءه كعب بن مالك، وقال يا رسول الله: لقد أوتيت جدلاً. أستطيع أن أجادل وأخاطب، لو جلست عند رجل غيرك عرفت أن أتكلم لكن والله لا أقول شيئاً ترضى به عني اليوم يفضحني الله به غداً، فقال الرسول-صلى الله عليه وسلم-"أما هذا فقد صدق، اذهب فسيقضي الله فيك وفي صاحبيك" ثم أمر الناس أن يهجروهم ، ما يكلموهم، حتى أقاربهم، قال لا تلكموهم، حتى أحسن الناس خلقاً وأشدهم تحملاً محمد –صلى الله عليه وسلم-يقول كعب كنت أرد عليه السلام فأقول هل حرك شفتاه...الخ.
فإذا كان في هجر من فعل معصية لترك واجب أو فعل محرم فائدة يهجر حتى تتحقق الفائدة، وأما من كان هجره لا يفيد شيئاً بل لا يزيد الأمر إلا شدة والنار إلا اضطراما؛ لأن الشرع جاء بالمصالح وليس بالمفاسد، فإذا علمنا أننا لو هجرنا هذا العاصي لم يزدد إلا شراً وكراهة لنا وكراهة لما معنا من الخير، فإننا لا نهجره، نسلم عليه ونرد عليه السلام لأنه وإن عصى الله، والمؤمن لا يهجر فوق ثلاث، هذا هو الحكم فيما يتعلق بالهجر، وفي النهاية يسوءني أن أحد المسلمين اليوم يمر بعضهم ببعض لا يسلم أحدهم على الآخر، يتلاقيان يضرب كتف أحدهم كتف الآخر لا يسلم عليه وكأنما مر بجيفة, أو يهودي, أو نصراني، مع أنه أخوه ومع هذا إذا سلم، ما ذا يستفيد؟ عشر حسنات، ورسوخ إيمان، ومحبة ، وألفة ، ودخول الجنة، قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم"11. فبين أن إفشاء السلام من أسباب المحبة, والمحبة من الإيمان والإيمان سبب في دخول الجنة، فيؤسفنا جداّ أن نرى مسلمين يلتقي بعضهم ببعض ولا يسلم، بل ربما كانا أخوين زميلين في الدراسة، سواءً في دراسة المسجد أو دراسة الكلية أو المعهد أو المدارس الأخرى، لا يسلم بعضهم على بعض، إذاً ما فائدة العلم؟ وما فائدة طلب العلم؟ إذ لم يتربى طالب العلم بالتربية الحسنة التي دل عليها الكتاب والسنة وكان عليها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فما الفائدة من التعليم فالمتعلم والجاهل سواء، إن لم يكن الجاهل خيراً منه، ولهذا أحثكم على إفشاء السلام لفوائدة العظيمة، وهو لا يضر، لأنه عمل اللسان، واللسان لو يعمل من الصباح إلى الغروب ما كل ولا مل فنسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق والعصمة والتوبة إنه على كل شيء قدير12.(/2)
قوله-صلى الله عليه وسلم-:"فوق ثلاث" ظاهره إباحة ذلك في الثلاث، وهو من الرفق، لأن الآدمي في طبعه الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك، والغالب أن يزول أو يقل في الثلاث13.
وقوله-صلى الله عليه وسلم-:"يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا" وفي رواية "فيصد هذا ويصد هذا" هو بضم الصاد ومعنى يصد: يعرض أي يوليه عرضه بضم العين وهو جانبه، والصد بضم الصاد وهو أيضاً الجانب والناحية"14".ولأبي داود بسند صحيح من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-:" فإن مرت به ثلاث فلقيه فليسلم عليه، فإن رد عليه فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم"15، وخرج المسلم من الهجرة" ولأحمد والمصنف في الأدب المفرد" وصححه ابن حبان من حديث هشام بن عامر: "فإنهما ناكثان عن الحق ما داما على صرامهما، وأولهما فيئاً يكون سبقه كفارة" فذكر نحو حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- وزاد في آخره:"فإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعاً"16.
وقوله-صلى الله عليه وسلم-: "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام", أي هو أفضلهما وفيه دليل لمذهب الشافعي ومالك ومن وافقهما أن السلام يقطع الهجرة ويرفع الأثم فيها ويزيله، وقال أحمد وابن القاسم المالكي إن كان يؤذيه لم يقطع السلام هجرته قال الشافعية: ولو كاتبه أو راسله عند غيبته عنه هل يزول ثم الهجرة وفيه وجهان أحدهما لا يزول لأنه لم يكلمه وأصحهما يزول لزوال الوحشة والله أعلم17.
وقال "ابن حجر في الفتح:" قال أكثر العلماء: "تزول الهجرة بمجرد السلام ورده"، وقال أحمد: "لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أولاً". وقال أيضاً. "ترك الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام". كذا قال "ابن القاسم" وقال "عياض": إذا اعتزل كلامه لم تقبل شهادته عليه عندنا ولو سلم عليه، وهذا يؤيد قول ابن القاسم: قلت"أي ابن حجر"ويمكن الفرق بأن الشهادة يتوقى فيها، وترك المكالمة يشعر بأن في باطنه عليه شيئاً فلا تقبل شهادته عليه، وأما زوال الهجرة بالسلام عليه بعد تركه ذلك في الثلاث فليس بممتنع، واستدل الجمهور بما رواه الطبراني من طريق زيد بن وهب عن ابن مسعود في أثناء حديث موقوف وفيه:"ورجوعه أن يأتي فيسلم عليه" واستدل بقوله" أخاه" على أن الحكم يختص بالمؤمنين.
قال "ابن عبد البر": أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث إلا لمن خاف من مكالمته ما يفسد عليه دينه أو يدخل منه على نفسه أو دنياه مضرة، فإن كان كذلك جاز، ورب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية.
ثم إن الهجر مقامين أعلى وأدنى، فالأعلى اجتناب الإعراض جملة فيبذل السلام والكلام والمواددة بكل طريق، والأدنى الاقتصار على السلام دون غيره، والوعيد الشديد إنما هو لمن يترك المقام الأدنى، وأما الأعلى فمن تركه من الأجانب فلا يلحقه اللوم، بخلاف الأقارب فإنه يدخل فيه قطيعة الرحم18.
وهذه بعض الأمثلة عن السلف الصالح للتسابق على البدء بالسلام بعد التهاجر, فعن أبي الحسن المدائني قال: "جرى بين الحسن بن علي وأخيه الحسين كلام حتى تهاجرا فلما أتى على الحسن ثلاثة أيام من هجر أخيه فأقبل إلى الحسين وهو جالس فأكب على رأسه فقبله، فلما جلس الحسن قال له الحسين: إن الذي منعني من ابتدائك والقيام إليك أنك أحق بالفضل مني فكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به"19.
أما في زماننا هذا فإن الأمر يختلف تماماً فأنا أعرف شخصين متهاجرين لا يكلم أحدهم الآخر لمدة تزيد عن خمس سنوات وكانا زملاء في المدرسة وكنت زميلاً لهما فلم أعهد من أحدهم أنه كلم الآخر خلال خمس سنوات وتركتهم وهم على ذلك وما أدري هل اصطلحا أم لا.
ويكلمني أحد الأخوة الثقات أنه يعرف شخصين متهاجرين أكثر من سبع سنوات. فإنا لله وإنا إليه راجعون أين هؤلاء من قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" وهذا الهجر الذي حصل ويحصل إنما هو على أغراض دنيوية أو أسباب شخصية أما على محارم الله فلا تجد إلا النادر فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أنواع الهجر:
يختلف الهجر باختلاف المهجور ويمكن تلخيص ذلك في الأنواع الآتية:
1- هجر القرآن.
2- هجر الرجل زوجته، أو نساءه.
3- هجر الأقارب" وهو نوع من قطيعة الرحم"
4- هجر أهل البدع والأهواء.
5- هجر المسلمين بعضهم بعضا، ويسمى بالتهاجر.
الفرق بين التهاجر والتدابر والتشاحن:
قال ابن حجر: "التهاجر: أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام لغير غرض شرعي".
والتدابر: هو الإعراض عن المسلم بأن يلقى أخاه فيعرض عنه بوجهه.
والتشاحن: هو تغير القلوب المؤدي إلى التهاجر والتدابر20.
حكم الهجر:(/3)
يختلف حكم الهجر باختلاف المهجور فإن تعلق الهجر بالمرأة كان ذلك جائزاً، بل مأموراً به في بعض الأحيان وذلك عند النشوز, لقوله تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} النساء:34. وإن تعلق الهجر بالمسلم فإنه يعد كبيرة كما صرح بذلك "ابن حجر": "شريطة أن يكون فوق ثلاث وليس بغرض شرعي لما في ذلك من التقاطع والإيذاء والفساد، ويستثنى من تحريم هذا الهجر مسائل حاصلها أنه متى عاد" الهجر" إلى صلاح دين الهاجر والمهجور جاز وإلّا فلا "21.
وإن كان المهجور من ذوي الرحم فإنه كبيرة حتى وإن لم تبلغ المدة ثلاثة أيام، لأن الهجر هنا أضيف إليه قطيعة الرحم، وقد عد "الإمام الذهبي" هجر الأقارب مطلقاً من الكبائر22.
أما هجر أهل البدع والأهواء فإنه مطلوب على مر الأوقات مالم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق، كما قال ابن الأثير23، وللمزيد في هجر المبتدع يراجع كتاب "هجر المبتدع" للشيخ الفاضل: "بكر بن عبد الله أبو زيد".
وفيما يتعلق بحكم هجر القرآن فإنه يختلف حكم هجر القرآن باختلاف نوع الهجر, وهذا ليس مقامه.
بم يكون الهجر؟.
والهجر والهجران: يكون بالبدن, وباللسان, وبالقلب، وقوله تعالى:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}. أي بالأبدان، وقوله تعالى: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } الفرقان: من الآية30، باللسان أو بالقلب. وقوله تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } المزمل: من الآية10، محتمل للثلاثة: وقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } المدثر:5، حث على المفارقة بالوجوه كله24.
من مضار الهجر:
1- الهجر صفة قبيحة تسخط الله-عزوجل- على المتهاجرين.
2- الهجر سبب في تأخير المغفرة من الله-عزوجل-.
3- الهجر بين الإخوان فوق ثلاث حرام ويسبب تفككاً اجتماعياً.
4- هجر المرأة فراش زوجها سبب في لعنة الله والملائكة لها.
5- الهجر من حبائل الشيطان. يغوي بها أتباعه حتى يسوقهم إلى الحجيم25.
فوائد من الحديث:
1- التعبير في الحديث بالأخوة إشارة واضحة إلى الحث على التواصل والتحذير من الهجران والتقاطع.
2- خير المتقاطعين الذي يبدأ أخاه بالسلام والكلام ويواصل الأخوه ويزيل أساب التقاطع.
3- تحريم الهجران بين المسلمين أكثر من ثلاثة أيام، والحكمة من تحديد هذه المدة أنها كافية لإحلال التفكير وإبعاد العاطفة وتنامي الأخطاء ودفن الأحقاد.
4- المسلم يتناسى الأحقاد ويسرع إلى الصلح ليفوز بالفضل، والسلام في الإسلام رمز المحبة والإخاء26.
اللهم ألف على الخير قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد
والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - راجع: إصلاح المجتمع للبيحاني ص(29-30).
2 - البخاري، الفتح، كتاب الأدب، باب الهجرة،(10/507)(6077). صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي(4/1984)(2560).
3 - متفق عليه.
4 - رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7659).
5 - رواه أبو داود وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم (7775).
6 - رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم(6581).
7 - راجع: نزهة المتقين (2/1095).
8 - تحفة الأحوذي.
9 - راجع: التوقيف على مهمات التعاريف(242).
10 - راجع: فتح الباري (10/507). وشرح مسلم (16/117).
11 - صحيح البخاري(4418)، ومسلم(2769) من حديث كعب بن مالك –رضي الله عنه-.
12 - راجع : شرح رياض الصالحين، ص(138-140)، الشيخ ابن عثيمين.
13 - فتح الباري (10/511).
14 - شرح مسلم (16-117).
15 -موطأ مالك.
16 - فتح الباري(10/511).
17 - شرح صحيح مسلم للنووي(16-118).
18 - فتح الباري(10/512).
19 - الخرائطي في مساوي الأخلاق(200).
20 - انظر: الزواجر(418).
21 - المصدر السابق.(421).
22 - الكبائر(47).
23 - النهاية (5/246).
24 - راجع: المفردات للراغب(537).
25- راجع: نضرة النعيم (5690).
26 - راجع: نزهة المتقين (2/1095).(/4)
الهجرة النبوية فوائد وفرائد
سلمان بن يحي المالكي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، وبعد : لقد بعث الله نبينا محمداً بدعوة تملأ القلوب نوراً ، وتشرف بها العقول رشداً ؛ فسابق إلى قبولها رجال عقلاء ، ونساء فاضلات ، وصبيان لا زالوا على فطرة الله ، وبقيت تلك الدعوة على شيء من الخفاء ، وكفار قريش لا يلقون لها بالاً ؛ فلما صدع بها رسول الله أغاظ المشركين ، وحفزهم على مناوأة الدعوة والصد عن سبيلها؛ فوجدوا في أيديهم وسيلة هي أن يفتنوا المؤمنين، ويسومونهم سوء العذاب، حتى يعودوا إلى ظلمات الشرك، وحتى يرهبوا غيرهم ممن تحدثهم نفوسهم بالدخول في دين القيّمة، أما المسلمون فمنهم من كانت له قوة من نحو عشيرة، أو حلفاء يكفون عنه كل يد تمتد إليه بأذى، ومنهم المستضعفون، وهؤلاء هم الذين وصلت إليهم أيدي المشركين، وبلغوا في تعذيبهم كل مبلغ ، ولما رأى الرسول ما يقاسيه أصحابه من البلاء، وليس في استطاعته حينئذ حمايتهم، أذن لهم في الهجرة إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، ثم لحق بهم في المدينة ، والناظر في الهجرة النبوية يلحظ فيها حكماً باهرة، ويستفيد دروساً عظيمة، ويستخلص فوائد جمة يفيد منها الأفراد، وتفيد منها الأمة بعامة. فمن ذلك على سبيل الإجمال ما يلي:
1. ضرورة الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله : ويتجلى ذلك من خلال استبقاء النبي لعلي وأبي بكر معه؛ حيث لم يهاجرا إلى المدينة مع المسلمين، فعليّ بات في فراش النبي وأبو بكر صحبه في الرحلة ، ويتجلى كذلك في استعانته بعبدالله بن أريقط الليثي وكان خبيراً ماهراً بالطريق ، ويتجلى كذلك في كتم أسرار مسيره إلا من لهم صلة ماسّة، ومع ذلك فلم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم، ومع أخذه بتلك الأسباب وغيرها لم يكن ملتفتاً إليها بل كان قلبه مطوياً على التوكل على الله عز وجل.
2. ضرورة الإخلاص والسلامة من الأغراض الشخصية : فما كان عليه الصلاة والسلام خاملاً، فيطلب بهذه الدعوة نباهة شأن، وما كان مقلاً حريصاً على بسطة العيش؛ فيبغي بهذه الدعوة ثراء؛ فإن عيشه يوم كان الذهب يصبّ في مسجده ركاماً كعيشه يوم يلاقي في سبيل الدعوة أذىً كثيراً.
3. الإعتدال حال السراء والضراء: فيوم خرج عليه الصلاة والسلام من مكة مكرهاً لم يخنع، ولم يذل، ولم يفقد ثقته بربه، ولما فتح الله عليه ما فتح وأقر عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين لم يطش زهواً، ولم يتعاظم تيهاً؛ فعيشته يوم أخرج من مكة كارهاً كعيشته يوم دخلها فاتحاً ظافراً، وعيشته يوم كان في مكة يلاقي الأذى من سفهاء الأحلام كعيشته يوم أطلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر ناحية تبوك.
4. اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين: فالذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي يظن أن الدعوة إلى زوال واضمحلال ، فالهجرة في حقيقتها تعطي درساً واضحاً في أن العاقبة للتقوى وللمتقين. فالنبي يعلّم بسيرته المجاهد في سبيل الله الحق أن يثبت في وجه أشياع الباطل، ولا يهن في دفاعهم وتقويم عوجهم ، ولا يهوله أن تقبل الأيام عليهم، فيشتد بأسهم، ويجلبوا بخيلهم ورجالهم؛ فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أما العاقبة فإنما هي للذين صبروا والذين هم مصلحون.
5. ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة . ذلك في جواب النبي لأبي بكر لمّا كان في الغار ، وذلك لما قال أبو بكر: والله يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موقع قدمه لأبصرنا ، فأجابه النبي مطمئناً له : ما ظنّك باثنين الله ثالثهما " فهذا مثل من أمثلة الصدق والثبات، والثقة بالله، والإتكال عليه عند الشدائد، واليقين بأن الله لن يتخلى عنه في تلك الساعات الحرجة ، هذه حال أهل الإيمان، بخلاف أهل الكذب والنفاق؛ فهم سرعان ما يتهاونون عند المخاوف وينهارون عند الشدائد، ثم لا نجد لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً.
6. أن من حفظ الله حفظه الله. ويؤخذ هذا المعنى من حال النبي لما ائتمر به زعماء قريش ليعتقلوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، فأنجاه الله منهم بعد أن حثا في وجوههم التراب، وخرج من بينهم سليماً معافى، وهذه سنة ماضية، فمن حفظ الله حفظه الله، وأعظم ما يحفظ به أن يحفظ في دينه، وهذا الحفظ شامل لحفظ البدن، وليس بالضرورة أن يعصم الإنسان؛ فلا يخلص إليه البتة؛ فقد يصاب لترفع درجاته، وتقال عثراته، ولكن الشأن كل الشأن في حفظ الدين والدعوة. 7. أن النصر مع الصبر . فقد كان هيناً على الله عز وجل أن يصرف الأذى عن النبي جملة، ولكنها سنة الإبتلاء يؤخذ بها النبي الأكرم؛ ليستبين صبره، ويعظم عند الله أجره، وليعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيراً كان أم كبيراً.(/1)
8. الحاجة إلى الحلم، وملاقاة الإساءة بالإحسان . فلقد كان النبي يلقى في مكة قبل الهجرة من الطغاة والطغام أذىً كثيراً، فيضرب عنها صفحاً أو عفواً، ولما عاد إلى مكة فاتحاً ظافراً عفا وصفح عمن أذاه.
9. إستبانة أثر الإيمان . حيث رفع المسلمون رؤوسهم به، وصبروا على ما واجهوه من الشدائد، فصارت مظاهر أولئك الطغاة حقيرة في نفوسهم.
10. إنتشار الإسلام وقوته. وهذه من فوائد الهجرة، فلقد كان الإسلام بمكة مغموراً بشخب الباطل، وكان أهل الحق في بلاء شديد؛ فجاءت الهجرة ورفعت صوت الحق على صخب الباطل، وخلصت أهل الحق من ذلك الجائر، وأورثتهم حياة عزيزة ومقاماً كريماً.
11. أن من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه: فلما ترك المهاجرون ديارهم، وأهليهم، وأموالهم التي هي أحب شيء إليهم، لما تركوا ذلك كله لله، أعاضهم الله بأن فتح عليهم الدنيا، وملّكهم شرقها وغربها.
12. قيام الحكومة الإسلامية والمجتمع المسلم.
13. إجتماع كلمة العرب وارتفاع شأنهم.
14. التنبيه على فضل المهاجرين والأنصار.
15. ظهور مزية المدينة: فالمدينة لم تكن معروفة قبل الإسلام بشيء من الفضل على غيرها من البلاد، وإنما أحرزت فضلها بهجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام أصحابه إليها، وبهجرة الوحي إلى ربوعها حتى أكمل الله الدين، وأتم النعمة، وبهذا ظهرت مزايا المدينة، وأفردت المصنفات لذكر فضائلها ومزاياها.
16 سلامة التربية النبوية: فقد دلّت الهجرة على ذلك؛ فقد صار الصحابة مؤهلين للاستخلاف، وتحكيم شرع الله، والقيام بأمره، والجهاد في سبيله.
17- التنبيه على عظم دور المسجد في الأمة: ويتجلى ذلك في أول عمل قام به النبي فور وصوله المدينة، حيث بنى المسجد؛ لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المسلم برب العالمين، وليكون منطلقاً لجيوش العلم، والدعوة والجهاد.
18- التنبيه على عظم دور المرأة: ويتجلى ذلك من خلال الدور الذي قامت به عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما حيث كانتا نعم الناصر والمعين في أمر الهجرة؛ فلم يخذلا أباهما أبا بكر مع علمهما بخطر المغامرة، ولم يفشيا سرّ الرحلة لأحد، ولم يتوانيا في تجهيز الراحلة تجهيزاً كاملاً، إلى غير ذلك مما قامتا به.
19- عظم دور الشباب في نصرة الحق: ويتجلى ذلك في الدور الذي قام به علي بن أبي طالب حين نام في فراش النبي ليلة الهجرة. ويتجلى من خلال ما قام به عبدالله بن أبي بكر؛ حيث كان يستمع أخبار قريش، ويزود بها النبي وأبا بكر.
20- حصول الأخوة وذوبان العصبيات . هذه بعض الدروس والفوائد من الهجرة على سبيل الإجمال ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/2)
الهجرة بين الأمس واليوم
إعداد : زكريا حسيني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وجوه إعجاز القرآن الكريم
بعد أن أجمع أهل العلم على إعجاز القرآن بذاته، وعلى عدم استطاعة أحد من البشر أن يأتي بمثله، تعددت أقوالهم في وجوه إعجاز هذا الكتاب المبارك.
فمن إعجاز القرآن: حسن تأليفه، وفصاحته، ووجوه إعجازه، وبلاغته الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن وفرسان الكلام، قد خُصوا من البلاغة والحِكَم ما لم يُخص به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان، جعل الله لهم ذلك طبعًا وخِلْقَةً، وفيهم غريزة وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب، وتساجلوا في النظم والنثر، فما راعهم إلا رسول كريم، بكتاب عزيز: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد {فصلت: 42}.
أحكمت آياته وفصلت كلماته، وبهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، ولهذا لما سمع الوليد بن المغيرة من النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى {النحل: 90}، قال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر- وهو تشبيه منه بأنه كشجرة مُثمرةٍ.
وذكر أبو عبيد أن أعرابيّا سمع رجلاً يقرأ: فاصدع بما تؤمر {الحجر: 94}، فسجد وقال: سجدت لفصاحته. وسمع آخر رجلاً يقرأ: فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا {يوسف: 80}. فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام.
وحكى الأصمعي أنه سمع جارية تتكلم فقال لها: قاتلك الله، ما أفصحك؟ فقالت: أو يُعد هذا فصاحة بعد قول الله تعالى: وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين {القصص: 7}، فجمع في آية واحدة بين أمرين، ونهين، وخبرين، وبشارتين.
فهذا نوع من إعجازه، منفرد بذاته، غير مضاف إلى غيره على التحقيق والصحيح من القولين.
وكون القرآن أتى به النبي من عند الله معلوم ضرورة، وكونه صلى الله عليه وسلم متحديًا به معلوم ضرورة، وعجز العرب عن الإتيان به معلوم ضرورة، وكونه في فصاحته خارقًا للعادة معلوم ضرورة للعالمين بالفصاحة ووجوه البلاغة.
وإذا تأملت قوله تعالى: ولكم في القصاص حياة {البقرة: 179}، وقوله: ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب {سبأ: 51}.
وقوله: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم {فصلت: 34}، وقوله: فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون {العنكبوت: 40}، وأشباهها من الآي- بل أكثر القرآن- حققت ما بينته من إيجاز ألفاظها وكثرة معانيها وحسن تأليف حروفها، وأن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة، وفصولاً جمة، وعلومًا زواخر، ملئت الدواوين من بعض ما استفيد منها، وكثرت المقالات في المستنبطات عنها.
ثم هو في سرد القصص الطوال وأخبار القرون السوالف التي يضعف في عادة الفصحاء عندها الكلام آية لمتأمله من ربط الكلام بعضه ببعض، كقصة يوسف على طولها، ثم إذا ترددت قصصه اختلفت العبارات عنها على كثرة ترددها حتى تكاد كل واحدة تُنسي في البيان صاحبتها، ولا نفور للنفوس من ترديدها ولا معاداة لمعادها.
ومن إعجازه: الإخبار عن السابقين
أخبر القرآن عن الأمم المتقدمة على لسان نبي أُميّ لا يعرف الكتابة ولا يقرأ المكتوب كما قال تعالى: وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون {القصص: 46}، وقال تعالى: وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون {آل عمران: 44}، وقال تعالى: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون {يوسف: 102}، إلى قوله: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب {يوسف: 111}.
وأخبر عن خلق آدم وقصته مع الشيطان وقصص الأنبياء مع قومهم وخبر موسى والخضر وأصحاب الكهف وذي القرنين ولقمان وابنه وعن بعض أحكام التوراة حتى تحداهم الله بقوله: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين {آل عمران: 93}، وقال تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير {المائدة: 15}. بل قد شهد له من هداه الله من أهل الكتاب فقال تعالى: وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم {الأحقاف: 10}.
يتحداهم ذلك النبي الأمي فلا يستطيعون رد شيء مما يقول كما يقول سبحانه وتعالى: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون {العنكبوت: 48}.
ومن إعجازه: الإخبار عن الأمور المستقبلة
إخباره عن أمور مستقبلة وما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع فوقعت مطابقة لما أخبر الله به في كتابه.(/1)
كقوله تعالى: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين {الفتح: 27}، وقوله تعالى: وهم من بعد غلبهم سيغلبون {الروم: 3}، وقوله عز وجل: ليظهره على الدين كله {التوبة: 33}، وقوله جل وعلا: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض {النور: 55}، وقوله تعالى: إذا جاء نصر الله والفتح {النصر: 1} إلى آخرها.
فكان جميع هذا كما أخبر تعالى: فغلبت الروم فارس في بضع سنين، ودخل الناس في دين الإسلام أفواجًا، فما مات صلى الله عليه وسلم إلا وقد دخل الإسلام بلاد العرب كلها، واستخلف الله المؤمنين في الأرض ومكن فيها دينهم وملكهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب كما قال صلى الله عليه وسلم : "زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها". رواه مسلم.
ومنه قوله تعالى: علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله {المزمل: 20}، وذلك قبل أن يُفرض القتال لأن السورة مكية.
وقوله تعالى: سيهزم الجمع ويولون الدبر {القمر: 45}، فهزموا يوم بدر، وقوله تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم {التوبة: 14}، وقوله تعالى: لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار {آل عمران: 111}، فكان كل ذلك.
وقوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون {الحجر: 9}، فكان كذلك، فكم من ملحد وضال ومجرم قد أجمعوا كيدهم وحولهم وقوتهم، فما قدروا على إطفاء شيء من نوره ولا تغيير كلمة من كلامه، ولا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه والحمد لله، فإن الله تكفل بحفظه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وعلى الرغم مما حوته كتب الشيعة الروافض من الطعن في القرآن- ونقلهم عن أئمة أهل البيت كذبًا وافتراءً تغييره بالزيادة والنقصان- وكذلك ما تمخض عن داري نشر أمريكيتين فقذفتا لنا أخيرًا آيات شيطانية في مصحف مزعوم اسمته: "الفرقان الحق" ويوزع في إحدى الدول العربية على المتفوقين من أبنائنا الطلبة في المدارس الأجنبية الخاصة، يتألف من 77 سورة حرفوا فيه كتاب الله ونشروا فيه الباطل، فإن كل ذلك لم يؤثر في تواتر صحته عند المسلمين شيئًا، بل لم يزدد إلا تعظيمًا وتقديرًا وانتشارًا.
ومن إعجازه: تأثر المستمع به
تأثر مستمعه به ثابت في نصوص القرآن والسنة، قال سبحانه وتعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله {الحشر: 21}، وقال تعالى: تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله {الزمر: 23}، وقال تعالى مخبرًا عن تأثر الجن بالقرآن: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا {الجن: 1، 2}، روى البخاري عن ابن عباس قال: "انطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجع الشياطين فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء، قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بنخلة وهو عامد إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن تسمعوا له فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا {الجن: 1، 2}، وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن {الجن: 1} وإنما أوحى إليه قول الجن.
تأثر النصارى بالقرآن
قوله تعالى: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84) فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين {المائدة: 83- 84}.
وكذلك تأثر كفار قريش به: كما روى البخاري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون (36) أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون {الطور: 35- 37}، كاد قلبي أن يطير.(/2)
ولما سمع الوليد بن المغيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن رق فجاءه أبو جهل منكرًا عليه، قال: والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، وفي خبر الآخرين جمع قريشًا عند حضور الموسم وقال: إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه رأيًا لا يكذب بعضكم بعضًا، فقالوا: نقول: كاهن. قال: والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته ولا سجعه. قالوا: مجنون. قال: ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، وقد عرفنا الشعر كله، ما هو بشاعر. قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، ولا نفثه ولا عقده. قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا وأنا أعرف أنه باطل، وإن أقرب القول أنه ساحر، فإنه سحر يفرق بين المرء وابنه، والمرء وأخيه، والمرء وزوجه، والمرء وعشيرته، فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس، فأنزل الله تعالى في الوليد: ذرني ومن خلقت وحيدا {المدثر: 11}، وقال عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن: يا قوم قد علمتم أني لم أترك شيئًا إلا وقد علمته وقرأته وقلته، والله لقد سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قط، ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة.
هدانا الله وإياكم إلى صراطه المستقيم، وللحديث بقية إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.(/3)
الهجرة وأحكامها
أولاً: تعريف الهجرة.
1 ـ لغة.
2 ـ شرعًا.
ثانيًا: فضل الهجرة:
1 ـ الآيات القرآنية.
2 ـ الأحاديث النبوية.
ثالثًا: أنواع الهجرة:
1 ـ الهجرة المعنوية.
2 ـ الهجرة الحسية.
رابعًا: حكم الهجرة.
خامسًا: الهجرة في الأمم السابقة.
سادسًا: الهجرة الباقية إلى يوم القيامة.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فقال الشيخ أبو يعلى الزواوي رحمه الله: " قد علمت وفقنا الله وإياكم أن السلف يحفلون للهجرة ولا يحتفلون بها... وأما الاحتفال بالهجرة ولم يجر إلا في عهدنا هذا وهو حسن ما لم يعتريه ما اعترى الموالد في مصر كما علمتم، وليقتصر على التنويه بالهجرة إجمالاً وتفصيلاً" ([1]).
أولاً: تعريف الهجرة:
الهجرة لغة: اسمٌ من هجر يهجُر هَجْرا وهِجرانا([2]).
قال ابن فارس: "الهاء والجيم والراء أصلان، يدل أحدهما على قطيعة وقطع، والآخر على شد شيء وربطه. فالأول الهَجْر: ضد الوصل، وكذلك الهِجْران، وهاجر القوم من دار إلى دار: تركوا الأولى للثانية، كما فعل المهاجرون حين هاجروا من مكة إلى المدينة"([3]).
وضبط ابن منظور أيضاً التي بمعنى الخروج من أرض إلى أرض بضم الهاء: الهُجْرة([4]).
ويكون الهجر بالقلب واللسان والبدن([5]):
فمن الهجر بالبدن قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ} [النساء:34].
ومن الهجر باللسان قول عائشة رضي الله عنها لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى، أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم)) قالت: أجل، والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك([6]).
ومن الهجر بالقلب ما جاء في حديث: ((من الناس من لا يذكر الله إلا مهاجراً))([7])، قال ابن الأثير نقلاً عن الهروي: "يريد هِجران القلب وترك الإخلاص في الذكر، فكأنّ قلبه مهاجر للسانه غير مواصل له"([8]).
وقد تجتمع هذه الوجوه كلها أو بعضها في بعض أنواع الهجر.
الهجرة شرعاً:
عرّفها غير واحد بأنها ترك دار الكفر والخروج منها إلى دار الإسلام([9]).
وأعم منه ما قاله الحافظ ابن حجر: "الهجرة في الشرع ترك ما نهى الله عنه"([10])، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) ([11])، وهي تشمل الهجرة الباطنة والهجرة الظاهرة، فأما الهجرة الباطنة فهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وما يزيّنه الشيطان، وأما الظاهرة فهي الفرار بالدين من الفتن([12])، والأولى أصل للثانية.
ولما كانت الثانية أعظم أمارات الأولى وأكمل نتائجها خص بعض العلماء التعريف بها كما تقدم. ثم لما كانت هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة أشرف الهجرات وأشهرها انصرف اللفظ عند الإطلاق إليها.
وأما لفظ الهجرتين فهو عند الإطلاق يراد به الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة([13]).
([1]) الثمرة الأولى لجميعة الطلبة الجزائريين الزيتونيين ص 40، نشرة السنة الرابعة 1355ـ 1356هـ، 1936 ـ 1937م.
([2]) انظر : لسان العرب (8/4616).
([3]) معجم مقاييس اللغة (6/34) . ولم يذكر للأصل الثاني مثالاً.
([4]) انظر : لسان العرب (8/4617).
([5]) انظر : التوقيف على مهمات التعاريف (738).
([6]) أخرجه البخاري (9/325-الفتح) [5228]. وفي هذا الحديث فضل عائشة رضي الله عنها حيث إنها أخبرت مقسمة أنها في حالة الغضب الذي يسلب العاقل اختياره لا تتغير عن المحبة المستقرة في قلبها للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يترك قلبها التعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم مودة ومحبة، ثم من فطنتها رضي الله عنها أنها لما لم يكن لها بد من هجر اسمه الشريف أبدلته بمن هو صلى الله عليه وسلم أولى الناس به وهو إبراهيم عليه السلام حتى لا تخرج عن دائرة التعلق في الجملة. انظر : فتح الباري (9/326).
([7]) لم أقف عليه.
([8]) النهاية (5/245).
([9]) انظر : التعريفات للجرجاني (256) والمفردات للراغب (537) وجامع العلوم والحكم لابن رجب (1/72-73).
([10]) فتح الباري (1/16).
([11]) جزء من حديث أخرجه البخاري (1/53-الفتح) [10] من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
([12]) انظر: فتح الباري (1/54).
([13]) انظر: لسان العرب (8/4617) .
ثانيًا: فضل الهجرة:
لقد جاء في فضل الهجرة وبيان ثواب المهاجرين آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة.
فمن الآيات الكريمة:
1- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة:218].(/1)
قال ابن جرير رحمه الله: "يعني بذلك جل ذكره: إن الذين صدّقوا بالله وبرسوله، وبما جاء به، وبقوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} الذين هجروا مساكنة المشركين في أمصارهم، ومجاورتهم في ديارهم، فتحولوا عنهم، وعن جوارهم وبلادهم إلى غيرها، هجرة لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه...، وإنما سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين لما وصفنا من هجرتهم دورهم ومنازلهم، كراهة منهم النزول بين أظهر المشركين وفي سلطانهم، بحيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم إلى الموضع الذي يأمنون ذلك...
فمعنى قوله إذًا: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والذين تحوّلوا من سلطان أهل الشرك هجرة لهم، وخوف فتنتهم على أديانهم، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه، وفيما يرضى الله، {أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} أي: يطمعون أن يرحمهم الله فيدخلهم جنته بفضل رحمته إياهم"([1]).
وقال ابن سعدي رحمه الله: "هذه الأعمال الثلاثة، هي عنوان السعادة، وقطب رحى العبودية، وبها يعرف ما مع الإنسان من الربح والخسران، فأما الإيمان فلا تسأل عن فضيلته...، وأما الهجرة فهي مفارقة المحبوب والمألوف لرضا الله تعالى، فيترك المهاجر وطنه وأمواله وأهله وخلانه تقربًا إلى الله ونصرة لدينة، وأما الجهاد فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء، والسعي التام في نصرة دين الله وقمع دين الشيطان. وهو ذروة الأعمال الصالحة، وجزاؤه أفضل الجزاء. فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجين رحمة الله؛ لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة"([2]).
2- وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَاباً مّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195].
قال ابن جرير رحمه الله: "يعني بقوله جل ثناؤه: فالذين هاجروا قومهم من أهل الكفر وعشيرتهم في الله إلى إخوانهم من أهل الإيمان بالله والتصديق برسوله، وأخرجوا من ديارهم، وهم المهاجرون الذين أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بمكة...، {وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} يعني: أن الله عنده من جزاء أعمالهم جميع صنوفه، وذلك ما لا يبلغه وصف واصف؛ لأنه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"([3]).
وقال ابن كثير رحمه الله: "أي: تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران... وقوله: {ثَوَاباً مّن عِندِ اللَّهِ} إضافة إليه ونسبة إليه ليدل على أنه عظيم؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيرًا"([4]) .
وقال ابن سعدي: "فجمعوا بين الإيمان والهجرة، ومفارقة المحبوبات من الأوطان والأموال طلبًا لمرضاة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله"([5]) .
3- وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مّن وَلايَتِهِم مّن شَىْء حَتَّى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال:72].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله {وَهَاجَرُواْ} يعني: هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم، يعني: تركوهم وخرجوا عنهم، وهجرهم قومهم وعشيرتهم...{أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} يقول: هاتان الفرقتان يعني المهاجرين والأنصار، بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار"([6]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم، وجاءوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك، وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم، وواسوهم في أموالهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم، فهؤلاء بعضهم أولياء بعض"([7]) .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "هذا عقد موالاة ومحبة عقدها الله بين المهاجرين الذين آمنوا وهاجروا في سبيل الله، وتركوا أوطانهم لله، لأجل الجهاد في سبيل الله، وبين الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأعانوهم في ديارهم، وأموالهم وأنفسهم. فهؤلاء بعضهم أولياء بعض، لكمال إيمانهم وتمام اتصال بعضهم ببعض"([8]) .(/2)
4- وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ % وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} [الأنفال:74-75].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: {وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ} أووا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه، ونصروهم ونصروا دين الله، أولئك هم أهل الإيمان بالله ورسوله حقًا، لا من آمن ولم يهاجر دار الشرك، وأقام بين أظهر أهل الشرك، ولم يغز مع المسلمين عدوّهم، {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ} يقول: لهم ستر من الله على ذنوبهم بعفوه لهم عنهما، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يقول: لهم في الجنة مطعم ومشرب هنيّ كريم، لا يتغير في أجوافهم فيصير نجوا، ولكنه يصير رشحًا كرشح المسك"([9]) .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "الآيات السابقات في ذكر عقد الموالاة بين المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وهذه الآيات في بيان مدحهم وثوابهم، فقال: {وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} من المهاجرين والأنصار، أي: المؤمنون {حَقّاً} لأنهم صدقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة والموالاة بعضهم لبعض وجهادهم لأعدائهم من الكفار والمنافقين، {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ} من الله، تُمحى بها سيئاتهم وتضمحل بها زلاتهم {وَ} لهم {رِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: خير كثير من الرب الكريم في جنات النعيم"([10]) .
5- وقوله تعالى: {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ % يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ % خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:20-22].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: {الَّذِينَ ءامَنُواْ} بالله: صدقوا بتوحيده من المشركين، وهاجروا دور قومهم، وجاهدوا المشركين في دين الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأرفع منزلة عنده من سقاة الحاج، وعمار المسجد الحرام وهم مشركون"([11]).
وقال ابن سعدي رحمه الله: "ثم صرح بالفضل فقال: {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ} بالنفقة في الجهاد وتجهيز الغزاة {وَأَنفُسِهِمْ} بالخروج بالنفس {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} أي: لا يفوز بالمطلوب، ولا ينجو من المرهوب إلا من اتصف بصفاتهم وتخلق بأخلاقهم"([12]) .
6- وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [النحل:41].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم عداوة لهم في الله على كفرهم إلى آخرين غيرهم {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} يقول: من بعد ما نيل منهم في أنفسهم بالمكاره في ذات الله {لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة} يقول: لنسكننهم في الدنيا مسكنًا يرضونه صالحًا...
وقوله: {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يقول: ولثواب الله إياهم على هجرتهم فيه في الآخرة أكبر؛ لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي يدوم نعيمها ولا يبيد"([13]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان، رجاء ثواب الله وجزائه"([14]) .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "يخبر تعالى بفضل المؤمنين الممتحنين {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ} أي: في سبيله، وابتغاء مرضاته {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} بالأذية والمحنة من قومهم، الذين يفتنونهم ليردوهم إلى الكفر والشرك، فتركوا الأوطان والخلان، وانتقلوا عنها لأجل طاعة الرحمن فذكر لهم ثوابين، ثوابًا عاجلاً في الدنيا من الرزق الواسع والعيش الهنيئ الذي رأوه عيانا بعدما هاجروا وانتصروا على أعدائهم، وافتتحوا البلدان، وغنموا منها الغنائم العظيمة فتمولوا، وآتاهم الله في الدنيا حسنة، {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ} الذي وعدهم الله على لسان رسوله خير، و{أَكْبَرُ} من أجر الدنيا... {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي: لو كان لهم علم ويقين بما عند الله من الأجر والثواب لمن آمن به وجاهد في سبيله، لم يتخلف عن ذلك أحد"([15]) .(/3)
7- وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل:110].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم ومساكنهم وعشائرهم من المشركين، وانتقلوا عنهم إلى ديار أهل الإسلام ومساكنهم وأهل ولايتهم من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين أظهرهم قبل هجرتهم عن دينهم، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف وبألسنتهم بالبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله، وصبروا على جهادهم، {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} يقول: إن ربك من بعد فعلتهم هذه لهم لغفور... رحيم بهم.."([16]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة مهانين في قومهم قد واتوهم على الفتنة، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين، وصبروا، فأخبر الله تعالى أنه {مِن بَعْدِهَا} أي: تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم، رحيم بهم يوم معادهم"([17]) .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "أي: ثم إن ربك الذي ربى عباده المخلصين بلطفه وإحسانه لغفور رحيم لمن هاجر في سبيله وخلى دياره وأمواله، طالبًا لمرضاة الله، وفُتِنَ على دينه ليرجع إلى الكفر، فثبت على الإيمان وتخلص ما معه من اليقين، ثم جاهد أعداء الله ليدخلهم في دين الله، بلسانه ويده، وصبر على هذه العبادات الشاقة على أكثر الناس، فهذه أكبر الأسباب التي ينال بها أعظم العطايا، وأفضل المواهب، وهي مغفرة الله للذنوب"([18]) .
8- وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرازِقِينَ} [الحج:58].
قال ابن جرير رحمه الله: "والذين فارقوا أوطانهم وعشائرهم، فتركوا ذلك في رضا الله وطاعته وجهاد أعدائه، ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك، ليرزقنهم الله يوم القيامة في جناته رزقًا حسنًا، يعني بالحسن: الكريم، وإنما يعني بالرزق الحسن: الثواب الجزيل"([19]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عمن خرج مهاجرًا في سبيل الله ابتغاء مرضاته، وطلبًا لما عنده، وترك الأوطان والأهلين والخلان، وفارق بلاده في الله ورسوله ونصرة لدين الله {ثُمَّ قُتِلُواْ} أي: في الجهاد، {أَوْ مَاتُواْ} أي: حتف أنفسهم، أي: من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل"([20]) .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "هذه بشارة كبرى، لمن هاجر في سبيل الله، فخرج من داره ووطنه وأولاده وماله ابتغاء وجه الله، ونصرة لدين الله، فهذا قد وجب أجره على الله، سواء مات على فراشه، أو قتل مجاهدًا في سبيل الله"([21]) .
9- وقوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء:100].
قال ابن جرير رحمه الله: "ومن يفارق أرض الشرك وأهلها هربًا بدينه منها ومنهم إلى أرض الإسلام وأهلها المؤمنين، في سبيل الله، يعني في منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه، وذلك الدين القيم { يَجِدْ فِى الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً}، يقول: يجد هذا المهاجر في سبيل الله مراغمًا كثيرًا، وهو المضطرب في البلاد والمذهب... وقوله: {وَسَعَةً} فإنه يحتمل السعة في أمر دينهم بمكة، وذلك منعهم إياهم ـ كان ـ من إظهار دينهم، وعبادة ربهم علانية، ثم أخبر جل ثناؤه عمن خرج مهاجرًا من أرض الشرك فارّا بدينه إلى الله وإلى رسوله، إن أدركته منيته قبل بلوغه أرض الإسلام ودار الهجرة، فقال: من كان كذلك {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ}، وذلك ثواب عمله وجزاء هجرته، وفراق وطنه وعشيرته إلى دار الإسلام وأهل دينه"([22]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "وهذا تحريض على الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين، وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه"([23]) .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغمًا في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا"([24]) .(/4)
10- وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
قال ابن جرير: "والذين سبقوا الناس أولاً إلى الإيمان بالله ورسوله من المهاجرين الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم، وفارقوا منازلهم وأوطانهم، والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} يقول: والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله، والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام طلبًا رضا الله {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}"([25]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعدّ لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم"([26]) .
ومن الأحاديث النبوية :
1- قوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: ((أما عملت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟! وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟! وأن الحج يهدم ما كان قبله؟!)) ([27]).
قال النووي رحمه الله: "فيه عظيم موقع الإسلام والهجرة والحج، وأن كل واحد منها يهدم ما كان قبله من المعاصي"([28]).
2- قوله صلى الله عليه وسلم لأبي فاطمة الضمري: ((عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها)) ([29]).
3- قوله صلى الله عليه وسلم: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة، فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سناً)) ([30]).
4- قوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن فعل ذلك منهم – أي من أسلم وهاجر وجاهد – فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة)) ([31]).
5- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيم – والزعيم الحميل – لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة)) ([32]).
6- وقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الإيمان قال: ((الهجرة)) ([33]).
7- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن: بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله...)) الحديث([34]).
8- وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: ((أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟)) قال: الله ورسوله أعلم، فقال: ((المهاجرون، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فيقول الخزنة: أوقد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب؟! وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك. قال: فيفتح لهم فيقيلون فيه أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس)) ([35]).
9- وعن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة؟ قال: حصن كان لدوس في الجاهلية، فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة، فمرض فجزع فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيًا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم([36]) .
([1]) جامع البيان (2/355).
([2]) تيسير الكريم الرحمن (1/173 ـ 174).
([3]) جامع البيان (3/ 216).
([4]) تفسير القرآن العظيم (2/ 166).
([5]) تيسير الكريم الرحمن (1/ 306).
([6]) جامع البيان (6/ 51).
([7]) تفسير القرآن العظيم (4/ 38).
([8]) تيسير الكريم الرحمن (2/ 219).
([9]) جامع البيان (6/ 56 ـ 57).
([10]) تيسير الكريم الرحمن (2/ 220).
([11]) جامع البيان (6/ 97).
([12]) تيسير الكريم الرحمن (2/ 232).
([13]) جامع البيان (8/ 106 ـ 107).
([14]) تفسير القرآن العظيم (4/ 491).
([15]) تيسير الكريم الرحمن (3/ 61).
([16]) جامع البيان (8/ 183).
([17]) تفسير القرآن العظيم (4/ 527).
([18]) تيسير الكريم الرحمن (3/ 87 ـ 88).
([19]) جامع البيان (10/ 194).
([20]) تفسير القرآن العظيم (5/ 443).
([21]) تيسير الكريم الرحمن (3/ 332).
([22]) جامع البيان (4/ 238).
([23]) تفسير القرآن العظيم (2/ 344).
([24]) تيسير الكريم الرحمن (1/ 393).
([25]) جامع البيان (7/ 6).
([26]) تفسير القرآن العظيم (4/ 141).
([27]) أخرجه مسلم (1/112) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
([28]) شرح مسلم (2/ 497).(/5)
([29]) أخرجه النسائي (7/465) من حديث أبي فاطمة الضمري، وحسن إسناده الشيخ عبد القادر الأرنؤوط في تحقيقه لجامع الأصول (11/605) والدكتور سليمان السعود في أحاديث الهجرة (ص244) وصححه الألباني، صحيح الجامع [4045].
([30]) أخرجه مسلم [673] من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
([31]) أخرجه أحمد (3/483) والنسائي (6/21) من حديث سبرة بن أبي فاكه وهو في صحيح السنن [2937].
([32]) أخرجه النسائي (6/21) من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه وهو في صحيح سنن النسائي [2936].
([33]) أخرجه أحمد (4/114) من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه. وقال الهيثمي في المجمع (1/59) : "رجاله ثقات".
([34]) أخرجه أحمد (4/130، 202) (5/344) والترمذي (5/148) من حديث الحارث الأشعري وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب"، وصححه ابن خزيمة (2/64) وقال الألباني : "إسناده صحيح".
([35]) أخرجه الحاكم (2/70) من حديث عبد الله عمرو رضي الله عنهما وقال : "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
([36]) أخرجه مسلم في الإيمان، باب: الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر (116).
ثالثًا: أنواع الهجرة:
يمكن تقسيم الهجرة إلى نوعين اثنين:
1- الهجرة المعنوية: وهي الهجرة من الكفر إلى الإسلام ومن البدعة إلى السنة ومن المعصية إلى الطاعة، وهذا هو مقتضى الهجرة إلى الله ورسوله، لأن الهجرة إلى الله تعالى تكون بالإيمان به وتوحيده وإفراده بالعبادة خوفاً ورجاءً وحباً، وأن يجتنب الشرك صغيره وكبيره، وأن يجتنب المعاصي والكبائر، وأن يكثر من الاستغفار والتوبة لتجديد الهجرة كلما وقع فيما يضعف مسيرتها، ولذلك كان مفتاح النجاة هو التوحيد والاستغفار.
والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون باتباع سنته وتحكيمها والتحاكم إليها وتقديمها على جميع الأهواء والآراء والأذواق، ونبذ البدع والمحدثات التي ليس عليها أمر الإسلام.
2- الهجرة الحسية: ومن ذلك:
أ - الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهذه أشرف الهجرات وأفضلها على الإطلاق.
ب - الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وهذه يختلف حكمها باختلاف الظروف والأوضاع وسيأتي بيان ذلك.
ج - هجرة أهل الذنوب والمعاصي وهجرة أهل الأهواء والبدع بمفارقتهم ومقاطعتهم ومباعدتهم زجراً لهم أو حِمية منهم أو لهما معاً.
د- الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن فعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير)) ([1]).
([1]) أخرجه أبو داود [2482] وحسنه الألباني في تخريج مناقب الشام وأهله (ص79).
رابعًا: حكم الهجرة:
الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام يختلف حكمها باختلاف حالات المقيمين بديار الكفر:
أ. فتكون واجبة، وذلك في حق من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه أو إقامة واجبات دينه في ديار الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء:97].
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من مسلم بين مشركين لا تراءى ناراهما)) ([1])، ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت، ولأن القيام بواجبات دينه واجب، والهجرة من ضرورة الواجبات وتتمتها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ب. وتسقط عمن يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف كالنساء والولدان وشبههم، فالعاجز لا هجرة عليه لقوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً % فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:98-99].
ج. وتستحب في حق من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامة واجباته ي دار الكفر، فهذا تستحب في حقه ليتمكن من جهادهم، ولتكثير المسلمين ومعونتهم، والتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ومشاهدة المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكانه إقامة واجبات دينه بدون الهجرة.
وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة قبل فتحها مع إسلامه([2]).
فإن قيل : ما ضابط إظهار الدين؟
فالجواب: ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ : "إظهاره دينَه ليس مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا وغير ذلك، إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال" ([3]).(/6)
ويرى بعض العلماء أنه قد يستحب للمسلم أن يقيم في دار الكفر وذلك إذا كان يرجو ظهور الإسلام بإقامته أو إذا ترتب على بقائه بدار الكفر مصلحة للمسلمين، فقد نقل صاحب مغني المحتاج أن إسلام العباس رضي الله عنه كان قبل بدر وكان يكتمه ويكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب القدوم على النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه صلى الله عليه وسلم: ((إن مقامك بمكة خير))، ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة([4]).
ولا شك أن هذا ليس لكل أحد، وأغلب الناس سريع التأثر بما عليه الكفار، وخاصة في هذا الزمان الذي غلب فيه أهل الكفر، ونحن نرى ولوع كثير من المسلمين بتقليد الكفار واتباعهم وهم في ديار الإسلام فكيف الحال بمن هو مقيم بين أظهرهم، لا شك أن الفتنة أعظم والخطر أكبر، وأحكام الشريعة مبنية على الغالب الكثير لا على ما شذّ وندر.
([1]) أخرجه أبو داود [2645] والترمذي [1604] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع [1461].
([2]) انظر: المغني لابن قدامة (13/151).
([3]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/91-92)
([4]) مغني المحتاج (4/239) وانظر : الجهاد والقتال في السياسة الشرعية للدكتور محمد خير هيكل (1/687-692).
خامسًا: الهجرة في الأمم السابقة:
لقد حكى لنا القرآن الكريم هجرة خليل الله إبراهيم عليه السلام حيث قال الله تعالى: {فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]، أي آمن بإبراهيم لوط، وقال إبراهيم: إني مهاجر دار قومي المشركين إلى ربي إلى الشام، فهاجر من كوثا وهي قرية من سواد الكوفة إلى حرّان ثم إلى الشام، وهو ابن خمس وسبعين سنة ومعه لوط وسارة([1]).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجَرَ إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير)) ([2]).
قال ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره لهذا الحديث: "فقد أخبر أن خير أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم بخلاف من يأتي إليه ثم يذهب عنه، ومهاجر إبراهيم هي الشام، وفي هذا الحديث بشرى لأصحابنا الذين هاجروا من حران وغيرها إلى مهاجر إبراهيم، واتبعوا ملة إبراهيم ودين نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان أن هذه الهجرة التي لهم بعد هجرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة لأن الهجرة إلى حيث يكون الرسول وآثاره، وقد جعل مهاجر إبراهيم تعدل مهاجر نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن الهجرة إلى مهاجره انقطعت بفتح مكة"([3]).
وكان معروفاً أيضاً في الأمم السابقة الهجرة من دار المعاصي إلى دار الطاعة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب. فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبةٍ؟ فقال: لا، فقتله، فكمّل به مائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجلٍ عالمٍ. فقال: إنه قتل مائة نفسٍ، فهل له من توبةٍ؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا؟ فإن بها أُناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوءٍ. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم: فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)) ([4]).
قال النووي رحمه الله: "قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين والورعين ومن يقتدى بهم، وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته"([5]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "فيه فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية لما يغلب بحكم العادة على مثل ذلك إما لتذكره لأفعاله الصادرة قبل ذلك والفتنة بها، وإما لوجود من كان يعينه على ذلك ويحضه عليه، ولهذا قال له الأخير: ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، ففيه إشارة إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية، والتحول منها كلها والاشتغال بغيرها"([6]).
([1]) انظر: تفسير الطبري (20/142-143) وتفسير القرطبي (13/339-340) وزاد المسير (6/268) وتفسير السمعاني (4/176).
([2]) أخرجه أبو داود [2482]، وحسنه الألباني في تخريج مناقب الشام وأهله (ص 79).(/7)
([3]) مناقب الشام وأهله (ص80)، وانظر: المجموع (27/ 509).
([4]) أخرجه البخاري [3470]، ومسلم [2766] واللفظ له.
([5]) شرح صحيح مسلم (17/82).
([6]) فتح الباري (6/517-518).
سادسًا: الهجرة الباقية إلى يوم القيامة:
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث أن الهجرة انقطعت بفتح مكة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا)) ([1])، وعن مجاشع بن مسعود أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مجالد يبايعك على الهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام)) ([2]).
كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)) ([3])، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد)) ([4]) في غيرهما من الأحاديث.
وللعلماء في الجمع بين هذه الأحاديث والتوفيق بينها مسالك:
المسلك الأول: أن الهجرة التي انقطعت هي الهجرة من مكة إلى المدينة، وأن الهجرة الباقية هي هجر السوء وتركه في أي موضع كان، وبهذا قال أبو جعفر الطحاوي([5])، واستدل بحديث فديك أنه قال: يا رسول الله إنهم يزعمون أنه من لم يهاجر هلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا فديك أقم الصلاة، وآت الزكاة، واهجر السوء، واسكن من أرض قومك حيث شئت تكن مهاجراً)) ([6]).
المسلك الثاني: أن الهجرة المنقطعة هي الفرض والباقية هي الندب، وبذلك قال الخطابي([7]).
المسلك الثالث: أن الهجرة المنقطعة هي الهجرة من مكة إلى المدينة، أو الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لنصرته والجهاد معه، وأما الهجرة الباقية فهي الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهذه يختلف حكمها باختلاف الظروف والأحوال كما تقدم بيانه، وقد قال بهذا الجمع جمع من العلماء.
قال البغوي رحمه الله: "الأولى أن يجمع بينهما من وجه آخر، وهو أن قوله: لا هجرة بعد الفتح، أراد به من مكة إلى المدينة، وقوله: لا تنقطع الهجرة، أراد بها هجرة من أسلم في دار الكفر عليه أن يفارق تلك الديار، ويخرج من بينهم إلى دار الإسلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى ناراهما))، وعن سمرة بن جندب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله))" ([8]).
قال النووي رحمه الله: "قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة، وتأولوا هذا الحديث – أي حديث: ((لا هجرة بعد الفتح)) – تأولين:
أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام، فلا تتصور منها الهجرة.
الثاني: وهو الأصح، أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازاً ظاهراً انقطعت بفتح مكة ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة، لأن الإسلام قوي وعز بعد فتح مكة عزاً ظاهراً بخلاف ما قبله"([9]).
وقال ابن العربي رحمه الله: "الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكانت فرضاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، والتي انقطعت أصلاً هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان"([10]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "..((لا هجرة بعد الفتح)) أي: فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد فتحه المسلمون، أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة:
الأول: قادر على الهجرة منها لا يمكنه إظهار دينه ولا أداء واجباته، فالهجرة منه واجبة.
الثاني: قادر لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته فمستحبة لتكثير المسلمين بها ومعونتهم وجهاد الكفار والأمن من غدرهم والراحة من رؤية المنكر بينهم.
الثالث: عاجز بعذر من أسر أو مرض أو غيره فتجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر"([11]).
([1]) أخرجه البخاري [3077] ومسلم [1353].
([2]) أخرجه البخاري [3078] ومسلم (3/1487) واللفظ للبخاري.
([3]) أخرجه أحمد (4/99) والدارمي (2/157) وأبو داود [2479] من حديث معاوية رضي الله عنه وهو في صحيح سنن أبي داود [2166].
([4]) أخرجه أحمد (4/99) من حديث جنادة بن أبي أمية رضي الله عنه وهو في السلسلة الصحيحة [1674].
([5]) انظر : شرح مشكل الآثار (7/49-51).
([6]) أخرجه الطحاوي في شرح المشكل (7/49 ـ 50) [2639]، والطبراني في الكبير (18/ 862)، والأوسط (2319)، والبيهقي (9/ 17)، وصححه ابن حبان (4861). وفيه صالح بن بشير بن فديك لم يرو عنه غير الزهري ولم يوثقه غير ابن حبان.
([7]) انظر: شرح السنة (10/ 372 ـ 373).
([8]) شرح السنة (10/ 373 ـ 374).
([9]) شرح مسلم (13/ 8).
([10]) انظر: شرح النووي لمسلم (11/ 8).(/8)
([11]) فتح الباري (6/ 190).(/9)
الهجرة وأزمة الأمة
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
الهجرة وأزمة الأمة .. موضوع مهم نحتاج إليه ونحن مازلنا في أفياء هذه الهجرة وفي ضلالها .. ونحن قريبي عهد بالأمس بالعاشر من محرم وما فيه من فضيلة وما له من مزية .
ولعلنا نقف وقفات سريعة عابرة فيما قبل الهجرة ، وفي أثنائها ، وفي أوائل ما بعدها ؛ لننظر في هذه الهجرة نظراً اعتبارياً يعيننا على فهم حقائق واقعنا ، وعلى أن نبث في قلوبنا من يقيننا وإيماننا ، ومن قدرتنا وقوتنا ما يزيل ذلك الوهن ، وينفي ذلك الضعف ، ويمحو تلك الذلة التي تضلل على أمة الإسلام إلا من رحم الله.
صورة من الثبات على الدين عندما قبل المسلمون الأوائل دعوة سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - ودخلوا في الإسلام ، وأيقنوا بالإيمان .. واجهوا عداء قريش وأذاها وعنادها ، فأي شيء كان منهم ؟ لنرى كيف كان أثر الدين في حياة المؤمنين ؟ وما مكانته عند المسلمين ؟
كلنا يعلم تلك الرمضاء الحارقة من شمس مكة ، وهي تسطع على بلال تحت الصخر ، يعذب ويضطهد ، ويؤذى أشد الأذى وهو يهتف : " أحدٌ أحد " ، لا يقبل أن يعطي الدنية في دينه ، ولا أن يغير معتقده ، ولا أن يساوم على إيمانه.
وصهيب ، وما أدراك ما صهيب ! وخباب ، وما أدراك ما خباب ! بقي أثر السياط على ظهره إلى يوم وفاته بعد عقود من الزمان ، كان يجلد حتى يختلط لحمه بجلده بدمه حتى يبلغ الأمر به مبلغاً جاء يشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألا تدعوا لنا ألا تستنصر لنا فيثبت بمثبت الإيمان صلى الله عليه وسلم ، ويرد الأمر إلى ضرورة القوة في الدين والثبات عليه ( كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين ، وما يصده ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أوعصب ، وما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) .
فنزل الإيمان راسخاً في القلوب ، وسرى الإسلام جرياً مع الدماء في العروق ، فثبّت ذلك الإيمان .. حتى جاءت الهجرة من بعد ليست فراراً من المواجهة ، ولا خروجاً من الثبات على الدين ، لكنها تأكيداً أولوية الدين في حياة المسلمين.
جاءت هجرة الحبشة الأولى والثانية ولسنا في مسرد السيرة ، ولكننا نشير إلى الومضات التي تبين أنه لا دنية في الدين.
لما جاء عمرو بن العاص - وكان آنذاك رسول قريش - ليرد المهاجرين إلى مكة ، وجاء إلى النجاشي بما جاءه من الهدايا والأحاديث ، فطلب النجاشي - العادل - الطرف الأخر ليستمع بعد أن أساء عمراً القول ، وشوّه السمعة ، وأبثَّ الفتنة ، وأشاع الخلاف ، فجاء جعفر ابن أبي طالب مع بقية أصحابه المهاجرين .. أي صورة كانوا يمثلون ؟ صورة إيمان وإسلام ، مجتمعين موحدين ، ليس بينهم افتراق آراء ، ولا تباين أهواء ، ولا تعارض مصالح ، جمعوا كلمتهم ، واختاروا متحدثهم ، وأيقنوا بأنه لابد من أن يكون لهم موقفهم ، فماذا قال جعفر رضي الله عنه ؟
إنه كان يريد أن يحافظ على مصلحة المسلمين ، وأن يبقي على وجودهم وأن يوفر أمنهم وأن ييسر رغد عيشهم لكنه بحال من الأحوال هو ومن معه لا يمكن أن يكون ذلك كله على حساب إيمانهم أو على حساب إسلامهم فجعل حديثه إعلان بمساوئ الجاهلية وإظهاراً لمحاسن الإسلام فقال رغم حرصه على أسلوب يحفظ للمسلمين مصالحهم : " أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه ، وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان ، فخرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ،ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك " ، وانظروا إلى لغة السياسة الإسلامية الإيمانية " فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان ، فخرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ،ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك " ، فهل في هذا نفاق سياسي ؟ وهل في هذا دنية دينية ؟ إنها حنكة مع إظهار الإسلام ، مع إعلان دعوته ومع إظهار محاسنه ، ومع الوقف مع المبدأ الحق دون تميع ولا تنصل من حقائقه ومبادئه.(/1)
وكان ذلك موقف حكيم دفع عنهم الأذى ، ولم يوقعهم في حرج من دينهم الإسلامي ، فهل اكتفت الجاهلية ومبعوثها الداهية عمرو بن العاص - وكان على شركه إذ ذاك – قال : والله لأتينهم الغداة بما يبيد خضرائهم ، وغدا على النجاشي .. يريد أن يشعل الفتنة وتأليب وتشويه بقوله : إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً ! يعلم من النصرانية أنهم يقولون : " عيسى هو الله وابن الله " ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ..
وجاءت هذه المعضلة والطامة المشكلة ، والمعجزة المربكة المحيرة .. وجودهم وأمنهم وعيشهم ورغدهم أو موقفهم ودينهم وعقيدتهم : ما تقولون في عيسى؟
أي شيء يقول جعفر ؟ وأي بيان يظهر المسلمون ؟ هل يبدلون أو يغيرون ؟ هل يحافظون على دينهم أم على حياتهم ؟ قالوها كلمات واضحة : " نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ".
لا دنية في الدين ، لا مساومة في العقيدة ، لا تغيير في الإيمان والإسلام .. أي شيء جرى لهم أي مصيبة حلت بهم أي نكبة نزلت عليهم لم يحصل من ذلك شيء ؛ لأن من كان مع الله كان الله معه ..
قال النجاشي : " والله ماعدا ما قلتم فيه عودي هذا " ، فنخرت البطارقة ، قال : "وإن نخرتم ! " ، ثم قال لهم : " أنتم شيوم بأرضي ، لا يعتدي عليكم أحد " ؛ لأنهم أهل مبدأ ، أهل يقين ، أهل عزة ، أهل وضوح لا أهل تميع وذلة وترخص والتماس عرض من الدنيا بضياع الدين نسأل الله عز وجل السلامة.
ثم جاءت الهجرة الكبرى ، وجاء الإذن الرباني من الله – عز وجل - للمصطفى صلى الله عليه وسلم ، بعد أن تهيأت الأسباب ، وبعد أن أدى الجهد منه ومن أصحابه - رضوان الله عليهم - فأي شيء كانت الهجرة ؟ أي درس أعظم فيها ؟
إنه التضحية بكل شيء من أجل الدين .. كلنا يعلم هجرة أبي سلمة ومعه أم سلمة ومعهما ابنهما سلمة يمضي تاركاً وراءه دنياه ، مخلفاً وراءه حياته الأولى ومراتع صباه ، وذكريات شبابه ، يمضي إلى الله ورسوله ، إلى مرضاة الله ، وإلى طاعة الله ، إلى التزام دين الله ، إلى إعلاء راية الله ، فيأتي أهل زوجته ويقولون له : " هذه نفسك قد غلبتنا عليها أما ابنتنا فلا تمضي معك " ، فأخذوا زوجته فجاء بنو أسد - أهله - بعد أن مضى ، قالوا : " هذه ابنتكم أخذتموها أما ابننا فنأخذه " ، فأخذوا الابن في جهة ، والأم في جهة ، والأب الذي يرى زوجته تؤسر وابنه يقهر هل يصده ذلك عن المضي إلى مرضاة الله ؟ وهل يضعف يقينه بالله ؟ وهل يستسلم لظروفه وما تدرّ به في هذه الحياة ؟ كلا ! مضى إلى الله مهاجراً ، ثم ماذا ؟ تمّت له هجرته وألحق الله له زوجته وابنه من بعد.
وصهيب ، وما أدراك ما صهيب ! غنيمة الحياة الدنيا كلها وثمرة جهده وتجارته وصناعته يخرج مهاجراً ، يحيطون به قائلين : جئتنا صعلوكاً وتخرج من بين أيدينا تاجراً ثرياً ؟! فقال : أريتم لئن أعطيتكم مالي أأنتم تاركي ؟! قالوا : نعم ، قال : فإنه في مكان كذا وكذا ، فذهبوا عنه ..
ذهبوا بماله كله ، بدنياه كلها ، بأيامه ولياليه وجهده وشقاء عمره ، فهل حزن لذلك ؟ وهل مضى كسيف البال أو رجع مشدوفاً إلى المال ؟
مضى إلى الله عز وجل فاستقبله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو يقول : ( بخٍ بخٍ .. ذاك مال رابح ) وتتنزل الآيات : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد } [ البقرة:207 ] ، بيعة وصفقة رابحة.
وعبد الله ابن جحش وزوجه وأخوه أبو أحمد -كان أعمى ضريراً لا يرى وكان شاعراً - أهل بيت خرجوا جميعاً ، لم يبقى منهم أحد ، خلفوا وراءهم الديار قطعوا العلائق ليسموا إلى ما هو أعظم وأعلى من شأن الدين والإيمان واليقين.
مرّ عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل فرأى عتبة هذه الديار وقد خلت من أهلها ، والريح تخفق فيها يباباً .. نظر إلى من تركوا الدنيا ، إلى من تركوا الديار .. نظر متأملاً متعجباً ، ونظر كذلك بنظرة إنسانية حزينة متأملاً ثم قال :
وكل داراً وإن طالت سلامتها **** يوماً ستدركها النكباء والحوب
فقال أبو جهل : " ذاك ما فعل ابن أخيك فرق جماعتنا وشتت شملنا " ، وذلك هو حال الطغاة المجرمون مجرمون ويفعلون الجريمة ، فإذا التمس الناس منها خلاصاً صاروا هم المجرمون ، وصاروا هم الإرهابيون كما نرى في واقع حالنا اليوم.
أما أبو بكر وما أدراك ما أبو بكر ! وقته وعمره ماله وثروته أهله وبنوه داره وأرضه ريحه ونفسه كلها كانت تضحية في الهجرة ، حبس نفسه لصحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أشهر ، وهيأ ماله وعلف راحتيه ، وترك زوجه وأبناءه ، وترك داره وأخذ كل ماله ومضى مخاطراً بروحه وبنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/2)
حتى جاء الموقف العظيم ووقف المشركون على فم الغار ، وإذا بأبي بكر شفقة ورحمة يقول : يا رسول الله لو نظر أحدهم موضع قدمه لرآنا ! فينطق اليقين والثبات والإيمان على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم : ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ).
وتتنزل الآيات تصف هذه المواقف العظيمة: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [ التوبة: من الآية40 ].
من يحزن والله معه ؟! من يضعف والله يعينه ؟! من يذل والله يعزّه ؟! من يخاف والله يؤمنه ؟!
ذلك درس التضحية العظمى في هذه الهجرة تضحية لأمر الدين تقول لنا إن الأولوية في حياة المسلمين لأجل الدين.
كان محمد - صلى الله عليه وسلم - في مكة سيد سادتها ، وشريف أشرافها ، وذو الذروة العليا في أنسابها وقد جاءته قريش قالوا لو تريد مالاً لجمعنا لك مالاً حتى تكون أكثرنا مالاً عرضوا عليه دنياهم كلها فركنها برجله وداس عليها بإيمانه ويقينه واستعمى عليها بسمو إسلامه ويقينه عليه الصلاة والسلام.
لم تكن حياة المسلمين رغبة في الدنيا ، ولا سكون إليها ، ولا طلب إلى السلامة .. ولو كان ذلك كذلك لعاشوا مسالمين موادعين وحسبهم في ذلك أن ينكفئوا في دارهم أو أن يؤدوا شعائرهم لكنه الإيمان والإسلام أولى الأولويات في حياة المسلمين.
ليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلد ناي ، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة ، لكن الهجرة أمرٌ آخر .. إنها إكراه رجل آمنٌ في سربه ممتد الجذور في مكانه على إهدار مصالحه وتضحية أمواله والنجاة بشخصه وحسبه ، وإشعارٌ بأنه مُستباحٌ منهوبٌ قد يهلك في أول الطريق أو نهايتها ! لكنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش .
من دروس الهجرة درسان عظيمان نذكرهما ذكراً ولا نقف عندهما طويلاً ؛ لأننا نُريد من بعد أن نُذّكر بهذه الدروس كلها في محور واحد نربطه بواقعنا المؤلم المُحزن المؤسف في كثير من أحواله ، من هذه الدروس وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام .
وخلاصة هذا الدرس :
أن الدين وإقامة شعائره وإظهارها ورفع رايته هو الغاية العظمى والأولوية الكبرى التي عليها تدور حياة المسلمين ، ولأجلها يتركون الأرض والديار .. لأجلها يقطعون الصلات والعلاقات .. لأجلها يبذلون الأموال والنفقات لأجلها يجودون بالأرواح في الساحات .. ذلك هو الدرس العظيم والفقه المستنبط من الهجرة .
وأما الدرس الثاني وهو : وجوب نصرة المسلمين لبعضهم
مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكناً .
قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله : " إذا كان في المسلمين أُسراء أو مستضعفون ؛ فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة بالبدن ، بألا تبقى فينا عينٌ تطرف حتى تخرج إلى استنقاذهم إذا كان عددنا يحتمل ذلك أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحدٍ درهمٌ من ذلك " .
ذلك ليس فقه استنباط ودليل ، لكنه - قبل ذلك - فقه إيمان ويقين ، فقه استعلاء ومعرفة للحقائق الإيمانية .
وعندما مضى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هل وضع رحاله ليرتاح ؟هل ترك أذى مكة لينعم برغد العيش في المدينة ؟ هل خرج من بين الأعداء ليهنأ بالحياة بين الأصحاب ؟ أي شيء صنع صلى الله عليه وسلم ؟
منذ أول لحظة وطأت أقدامه الشريفة مدينته المنورة عمد إلى بناء المسجد وربط المسلمين بالله ، وعمد إلى المؤاخاة لربط العلائق بين المسلمين ، وعمل المعاهدة لتنظيم العلاقة مع غير المسلمين .
ومن لقي بالمدينة ؟ اليهود - عليهم لعائن الله - ، ولننظر ونستمع إلى كلام علمائنا وأمّتنا لنعرف فقههم الإيماني والعلمي معاً .
هذا وصفٌ لابن القيّم رحمه الله يصف فيه اليهود عليهم لعائن الله يقول عنهم :" هم الأمة الغضبية ، أهل الكذب والبُهت والغدر والمكر والحِيل ، قتلة الأنبياء ، وأكلة السُحت - وهو الربا والرشا - أخبث الأمم طوية ، وأرداهم سجية ، وأبعدهم من الرحمة ، وأقربهم من النقمة ، عادتهم البغضاء ، وديدنهم العداء والشحناء ، بيت الكذب والسحر والحِيَل ، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة ، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة ، ولا لمن وافقهم عندهم حقٌ ولا شفقة ، ولا لمن شاركهم عندهم عدلٌ ولا نصفة ، ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة ، ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة ، بل أخبثهم أعقلهم وأحذقهم أغشّهم أضيق الخلق صدوراً ، وأظلمهم بيوتاً ، وأنتنهم أفنية ، وأوحشهم سجية " .
أليست هذه الصفات اليوم هي عين التعصب والعنصرية ؟ أليس هذا هو جوهر العنف والإرهاب ؟ فماذا يقول اليهود ؟ ليس في أقوال علمائهم ، بل في المسطور في كتبهم بما حرّفوه !(/3)
ألا يقولون : " إن أمم الأرض كلها كلابٌ يجوز قتلها لليهود ، وأموالهم حلالٌ يجوز سبيها لهم ، ونسائهم حلالٌ يجوز استمتاعهم بها " ، ولا يجرؤ أحدٌ أن يقول ذلك ، ويتكلمون على مناهج تقول شيئاً من الحق التي تؤكده الوقائع المعاصرة ، والحقائق التاريخية الظاهرة ، والانحرافات العقدية المكتوبة المُثبتة فأي شيء جرى لأمة الإسلام عند المواقف الأولى ونحن لا نسرد السيرة .
انتصر النبي في بدر فغلى الحقد في قلوبهم ، وجاشت البغضاء في نفوسهم ، وظهرت أساليب الغدر والكذب والكيد والمكر على ألسنتهم ، ثم تفاعل ذلك كله فظهر في تصرفاتهم امرأة عربية دخلت إلى سوق بني قينقاع تبيع شيئاً لها جلست إلى صائغٍ ، فجاء بعض سفلة اليهود يريدونها أن تكشف وجهها فأبت بإيمانها ، فعمدوا إلى طرف ثوبها فعقدوه بأعلاه ، فلما قامت انكشفت عورتها ، فجعلوا يتضاحكون ويستهزئون ويسخرون .. موقفٌ واحدٌ في أمرٍ عارضٍ لامرأة واحدة ، أي شيء جرى ؟ صاحت مستنجدة أهل الإيمان والنخوة والإسلام ، فانتدب لها مسلمٌ من غير عقد مؤتمر ولا مشاورات سياسية ، ولا بحوث وبحث في القوانين الدولية ، بل امتضى لها ينتصر لها وعمد إلى الصائغ فقتله ، فاجتمع عليه اليهود فقتلوه ، فأحاط بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاصرهم وأجلاهم من بعد ، وأخذ من أموالهم ما أخذ ، وخرجوا أذلة صاغرين يوم كان كذلك المؤمنون عزوا ، وارتفعت رايتهم ، وعظمت هيبتهم ، وقويت شوكتهم ، وكانت لهم في دنيا الناس كلمتهم .
أفليست هذه دروس مهمة ؟ أفليست هذه صورٌ حية ؟ أفليست هذه صفحات ينبغي أن ننقشها على قلوبنا ، وأن نجريها مع الدماء في عروقنا ؟ وإلا بقينا أذلة صاغرين ! وإلا بقينا تافهين مغيبين ! وإلا بقينا تحت ذل وقهر الغلبة والظلم الذي يُسلط على المسلمين ..
نسأل الله عز وجل أن يرفع الغمة ، وأن يكشف البلاء عن الأمة ، وأن يُعيدها إلى العزة ، وأن يُخلف عليها في دينها استمساكاً بكتاب الله واعتصاماً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
الهجرة تأكيد للزوم الثبات على الدين ، وإعلانٌ لإظهار أولوية الدين في حياة المسلمين ، وبيانٌ أن التضحية تكون بكل شيء لأجل إعلاء الدين .
إذا فقهنا ذلك ونحن ننظر إلى واقعنا اليوم وماذا نرى فيه ؟ .
عجزٌ عربي ، ووهنٌ إسلامي ، وخزي سياسي ، وصورة مشوهة حقائق الإسلام فيها غائبة ن ومرتكزات العقيدة واهية .. ولذلك نرى ما نرى من هذه العجائب ، ونرى الغرائب ونحن نعرف ونسمع أن هذه القوات الباغية الغازية الظالمة العادية قد أعلنت بما ذكرته بألسنتها أنها " حرب صليبية " ، وأيّدت وأكدّت أنها تريد أن يكون لها الهيمنة العسكرية السياسية وأظهرت وكشفت أنها تريد أن تستولي على الموارد الاقتصادية ، وبيّنت وكشفت أنها تريد أن تهيمن على ما وراء ذلك من الأوضاع الاجتماعية ، والمناهج التعليمية ، والنُظم السياسية ، والأوضاع كلها ، وبعد ذلك نقول ما نقول ، ونسمع ما نسمع من هذه العجائب التي لاشك أن فيها معارضة يقينية ظاهرة واضحة لثوابت لا تتغير من الإيمان والإسلام ، ولحقائق لا تُنسخ من آيات القرآن ، ولمعالم واضحة جلية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة .
ولذلك - أيها الأخوة الأحبة - نكرر ما أسلفنا القول فيه : الكفر كفر ، وأهله أهل بغي وعدوان ، جمعوا ذلك مع هذا ، فليس لهم في قلب مؤمن محبة ولا موالاة ، وليس لهم في عمل مسلم نصرة ولا محاباة ، وإلا أنكر ذلك الإيمان في قلبه ، أو نقض الإسلام في حقيقته ، وأن هذا نطقت به الآيات ، وظهرت به حقائق الإسلام جلية واضحة .
ثم من بعد ذلك نرى ما نرى من دروس الهجرة في هذا التلاحم الإيماني والتواصل الإسلامي ، والأخوة التي نصّت عليها آيات القرآن ن ونرى كذلك من وراء ذلك أن يكون الدين هو رائدنا وغايتنا الأولى ، من كان مستمسكاً به ، ورافعاً له ، حقاً لا كذباً ، وصدقاً لا ادّعاءاً ، وواقعاً لا زوراً ، فنكون نحن أهل دين ، ونكون أهل نصر مع أهل اليقين بإذن الله عز وجل .
ولذلك ينبغي لنا أن نكون على بصيرة من أمرنا ، وعلى بيّنة من حقائق ديننا ، وأن نكرر ونزيد التكرار والإعادة ، وضرورة الاستمساك والاعتصام بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والنظر في أقوال الأئمة من العلماء الصادقين الذين كانوا أهل إيمان ويقين قبل أن يكونوا أهل فقه في الدين .
ولذلك من بعد هذا نتواصى بالثبات على ذلك ، ونتناصر ونتعاهد على البقاء عليه ، وعلى إشاعته فيما بيننا ، وقد ذكرنا - من قبل - اللجوء إلى الله والاعتصام به ، والتضرع إليه ، والابتهال والذل بين يديه .(/4)
وذكرنا من بعد ذلك ومن قبله الاستقامة على أمره ، والاعتصام بنهجه والالتزام بدينه ، وترك المعاصي والمحرمات ، والابتعاد عن المنكرات والمخالفات ، ولعل ذلك كله في جملته هو من درس الهجرة ؛ فإن الهجرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح عنه : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) .
و النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هاجر ليُقيم شعائر الدين ، وليجد الأرض التي يُعلي فيها راية الله – سبحانه وتعالى - عندما لم يجد ذلك في مكة التمسه في الطائف ، فلم يجده وذهب بأصحابه إلى الحبشة ، فلم يثبت حتى يسّر الله له هجرته المباركة ، فأقام دولة الإسلام ، وأنشأ مجتمع الإسلام ، وأقام العزة الإيمانية ، والوحدة الإسلامية ، ثم جاءت هيبة هذا الدين وقوته ، وظهرت من بعد ذلك - أيضاً - سماحته ورحمته بالأمم ؛ فإن الإسلام كان أرحم بكل الأمم من أديانها ومن حكامها وكذبوا وخدعوا عندما يقولون غير ذلك .
نسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً ، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم مستعصمين .(/5)
الهجرة وصناعة الأمل ...
علي الأسمري ...
...
...
ملخص الخطبة ...
1- حاجتنا إلى صناعة الأمل في ظل واقعنا المرير. 2- قصة إسلام الأنصار. 3- الهجرة النبوية دروس في صناعة الأمل. 4- المنحة قد تأتي في طيات المحنة. 5- بعض الخطوب التي ألمَّت بالمسلمين ثم كان الفرج. 6- اليأس والقنوط ليسا من صفات المؤمنين. ...
...
الخطبة الأولى ...
...
وبعد: ما أحوجنا ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل ونحن نقف مع السيرة ومع حديث الهجرة نأخذ دروسًا في ذلك، فإلى ذلك، إلى ليلة من ليالي الموسم بمنى، والذي تجتمع فيه قبائل العرب للحج، وفي مجلس من المجالس، كان ستة نفر منزوين يتحادثون ويتسامرون فيسمع حديثهم رجلان فيأتيانهم، فمن كان يظن أن يكون أولئك النفر الستة بداية مرحلة جديدة من العز والتمكين، والبذرة الأولى لشجرة باسقة ظلت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟ ومن كان يخطر بباله أن تشهد تلك الليلة من ليالي الموسم ورسول الله وصاحبه أبو بكر يطوفان بمنى حتى إذا سمعا صوت رجال يتكلمون مالا إليهم، فقالا وقالوا، وتحدثا وسمعوا، وبينا فأصغوا، فانشرحت القلوب، ولانت الأفئدة، ونطقت الألسنة بالشهادتين، وإذا بأولئك النفر من شباب يثرب يُطلقون الشرارة الأولى من نار الإسلام العظيمة التي أحرقت الباطل فتركته هشيمًا تذروه الرياح. من كان يظن أن تلك الليلة كانت تشهد كتابة السطور الأولى لملحمة المجد والعزة؟
يا سبحان الله! إن نصر الله يأتي للمؤمن من حيث لا يحتسب ولا ُيقدّر، لقد طاف رسول الله بمجتمعات القبائل وقصد الرؤساء وتوجه بالدعوة إلى الوجهاء وسار إلى الطائف، فعل ذلك كله عشر سنوات وهو يرجو أن يجد عند أصحاب الجاه والمنعة نصرة وتأييدًا، كان يقول في كل موسم: ((من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي))، ومع كل هذا لم يجد من يؤويه ولا من ينصره، بل لقد كان الرجل من أهل اليمن أو من مضر يخرج إلى مكة فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريشٍ لا يفتنك!
لم تأت النصرة والحماية والتمكين من تلك القبائل العظيمة ذات المال والسلاح، وإنما جاءت من ستة نفر جاؤوا على ضعف وقلة.
إنها الأقدار يوم يأذن الله بالفرج من عنده، ويأتي النصر من قلب المحنة، والنور من كبد الظلماء، والله تعالى هو المؤيد والناصر، والبشر عاجزون أمام موعود الله.
ستة نفر من أهل يثرب كلهم من الخزرج دعاهم رسول الله إلى الإسلام ولم يكن يتوقع منهم نصرة، وإنما أراد دعوتهم فآمنوا وأسلموا، ثم تتابعت الأحداث على نسق عجيب، قال جابر بن عبد الله وكان أحد النفر الستة قال عن قصتهم: حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا، فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعًا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه الموسم، فواعدناه العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: ((على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم وأزواجكم، ولكم الجنة))، قال جابر: فقمنا إليه فبايعناه. [مسند أحمد].
أرأيتم؟! يُعرِض الكبراء والزعماء ويستكبر الملأ وتتألب القبائل وتتآمر الوفود وتُسد الأبواب، ثم تكون بداية الخلاص بعد ذلك كله في ستة نفر لا حول لهم ولا قوة!
فهل يدرك هذا المعنى المتعلقون بأذيال الماديةِ الصارخةِ والنافضون أيديَهم من قدرة الله وعظمته؟! وهل يدرك هذا المعنى الغارقون في تشاؤمهم اليائسون من فرج قريب لهذه الأمة المنكوبةِ المغلوبة على أمرها؟!
إن الله ليضع نصره حيث شاء وبيد من شاء، وعلينا أن نعمل على أن نحمل دعوتنا إلى العالمين وأن لا نحتقر أحدًا ولا نستكبر على أحد، وعلينا أن نواصل سيرنا مهما يظلمُ الليل وتشتد الأحزان، فمن يدري لعل اللهَ يصنع لنا في حلكات ليلنا الداجي خيوط فجرٍ واعد، ومن يدري لعل آلامَنا هذه مَخاض العزة والتمكين.
عباد الله، ونحن في عامٍ هجري جديد يقبل محملاً بما فيه، وعلى أعقاب عام هجري مضى مودع بما استودعناه، نقف متذكرين هجرة المصطفى ، إنها ذكرى الاعتبار والاتعاظ لا ذكرى الاحتفال والابتداع. إنها وقفة نستقرئ فيها فصلاً من فصول الحياة خطه رسول الله وصحبه. إنها رجعة إلى العقل في زمن طاشت فيه العقول. ووقفة مع الروح في زمن أسكرت الأرواح فيه مادية صخابة جرافة.(/1)
إن من أعظم دروس الهجرة وأجل عبرها صناعة الأمل، نعم إن الهجرة تعلم المؤمنين فن صناعة الأمل. الأمل في موعود الله، الأمل في نصر الله، الأمل في مستقبل مشرق لـ"لا إله إلا الله"، الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.
لقد رأيتم كيف صنع ستة نفر من يثرب أمل النصر والتمكين. وها هو رسول الله يصنع الأمل مرة أخرى حين عزمت قريش على قتله.
قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام فيثبون عليه.
وعلى أن كل حساب مادي يقطع بهلاك رسول الله ، كيف لا وهو في الدار والقوم محيطون بها إحاطة السوار بالمعصم، مع ذلك صنع رسول الله الأمل، وأوكل أمره إلى ربه وخرج يتلو قوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس:9]. خرج الأسير المحصور يذر التراب على الرؤوس المستكبرة التي أرادت قتله، وكأن هذا التراب رمز الفشل والخيبة اللذين لزما المشركين فيما استقبلوا من أمرهم. فانظر كيف انبلج فجر الأمل من قلب ظلمة سوداء. ويمضي رسول الله في طريقه يحث الخطى حتى انتهى وصاحبه إلى جبل ثور، وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى، فحفيت قدما رسول الله وهو يرتقيه، فحمله أبو بكر وبلغ به غار ثور ومكثا هناك ثلاثة أيام.
ومرة أخرى يصنع الأمل في قلب المحنة، وتتغشى القلوب سكينة من الله وهي في أتون القلق والتوجس والخوف. يصل المطاردون إلى باب الغار، ويسمع الرجلان وقع أقدامهم، ويهمس أبو بكر: يا رسول الله، لو أن بعضَهم طأطأ بصَره لرآنا! فيقول : ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)).
وكان ما كان، ورجع المشركون بعد أن لم يكن بينهم وبين مطلوبهم إلا خُطوات. فانظر مرة أخرى كيف تنقشع عتمة الليل عن صباح جميل، وكيف تتغشى عنايةُ الله عبَاده المؤمنين، إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38].
وإذا العنايةُ لاحظتك عيونُها نم فالحوادثِ كلهن أمانُ
ويسير الصاحبان في طريق طويل موحش غير مأهول، لا خفارة لهما من بشر، ولا سلاح عندهما يقيهما:
لا دروعٌ سابغاتٌ لا قناه مشرعات لا سيوف منتضاه
قوة الإيمانِ تغني ربَها عن غرارِ السيف أو سنِ القناه
ومن الإيمانِ أمنٌ وارفٌ ومن التقوى حصونٌ للتقاة
يسير الصاحبان حتى إذا كانا في طريق الساحل لحق بهما سراقة بن مالك طامعًا في جائزة قريش مؤملاً أن ينال منهما ما عجزت عنه قريش كلها، فطفق يشتد حتى دنا منهما وسمع قراءة رسول الله ، ومرة ثالثة، وهذا الفارس على وشك أن يقبض عليهما ليقودهما أسيرين إلى قريش تذيقهما النكال، مرة ثالثة يصنع الأمل، ولا يلتفت رسول الله إلى سراقة ولا يبالي به وكأن شيئًا لم يكن، يقول له أبو بكر: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا، فيقول له مقالته الأولى: لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
لقد اصطنع الأمل في الله ونصره فنصره الله وساخت قدما فرس سراقة، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء كالدخان، فأدرك سراقة أنهم ممنوعون منه. ومرة ثالثة جاء النصر للرسول من حيث لا يحتسب، وعاد سراقة يقول لكل من قابله في طريقه ذاك: ارجع فقد كفيتكم ما ها هنا، فكان أول النهارِ جاهدًا عليهِما وآخرَه حارسًا لهما.
ويبلغ أهل المدينة خبر هجرة الرسول ، الرجل الذي قدم لهم الحياة وصنع لهم الأمل، الرجل الذي أنقذهم من أن يكونوا حطبًا لجهنم. يبلغهم الخبر فيخرجون كل غداة لاستقباله حتى تردهم الظهيرة، كيف لا وقد اقتربت اللحظة التي كانوا يحصون لها الأيام ويعدون الساعات. قال الزبير: فانقلبوا يومًا بعدما أطالوا انتظاره فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود أُطمًا من آطامهم لينظر إليه فبصر برسول الله وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا صاحبكم الذي تنتظرون.
فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله بظاهر الحرّة، تلقوه بقلوب تفيض سعادة وفرحًا. وتأمّل مظاهرَ الفرحة الغامرة قال أنس: شهدت يوم دخل النبي المدينة فلم أر يومًا أحسن منه ولا أضوأ منه. [رواه الحاكم].
قال أبو بكر: ومضى رسول الله حتى قدم المدينة، وخرج الناس حتى دخلنا في الطريق، وصاح النساء والخدام والغلمان: جاء رسول الله، الله أكبر، جاء محمد، جاء رسول الله. [رواه الحاكم].
قال أنس: لما قدم رسول الله المدينة لعبت الحبشة لقدومه فرحًا بذلك، لعبوا بحرابهم. [رواه أبو داود].
وصدق من قال:
أقبِِل فتلك ديارُ يثربُ تقبلُ يكفيك من أشواِقها ما تحملُ
القومُ مذ فارقت مكة أعين تأبى الكرى وجوانح تتململُ
يتطلعون إلى الفجاج وقولُهم أفما يطالعنا النبي المرسل
رفت نضارتها وطاب أريجها وتدفقت أنفاسها تتسلسل
فكأنما في كل دار روضة وكأنما في كل مغنى بلبل(/2)
وهكذا أيها الإخوة الكرام، تعلمنا الهجرةُ في كل فصل من فصولِها كيف نصنعُ الأمل، ونترقب ولادةَ النورِ من رحم الظلمة، وخروج الخير من قلب الشر، وانبثاق الفرج من كبد الأزمات. فما بعد اشتدادِ ألمِ المخاضِ إلا الولادة، وليس بعد ظلمةِ الليل إلا انبثاق الفجر، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5، 6]، ولن يغلب عسرٌ يسرين، فابشروا وأملوا وعودوا واستغفروا الله. ...
...
الخطبة الثانية ...
الحمد لله الذي نشر بقدرته البشر، وصرَّف بحكمته وقدَّر، وابتعث محمدًا إلى كافة أهل البدو والحضر، فدعا إلى الله، فعاداه من كفر، فاختفى واستتر، إلى أن أعز الله الإسلام برجال كأبي بكر وعمر. فصلوات الله عليه، وعلى جميع أصحابه الميامين الغرر، وعلى تابعيهم بإحسان على السنة والأثر. صلوات الله عليه ما هطلت الغمائم بهتَان المطر، وهَدَلت الحمائم على أفنان الشجر، وسلم تسليمًا كثيرًا على سيد البشر.
سلام على جَمعٍ الْتَقى حبًا في ذكر الله، وحيَّا الله قلوبًا أقبلت تأرز إلى بيوت الله، وعلى حبكم ـ أيها الجمع ـ أشهد الله، وأسأله أن يجمع قلوبنا على تقواه، وأن يظلنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله. اللهم اجعل هذا الجمع في صحائف الحسنات، في يوم تَعزُّ فيه الحسنات، واغفر اللهم لنا ما يكون من زلات. اللهم بك نعتضد، ومن فيض جودك نستمد، اللهم اجعل هذه الكلمات خالصة لوجهك الكريم، وصلة للفوز بجنات النعيم، وانفع بها من تلقاها بالقبول، وبلغنا وسامعها من الخير أجلّ المأمول، أنت أكرم مسئول على الدوام، وأحق من يرتجى منه حسن ختام.
أما بعد: عباد الله، ما أحوجَنا ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل. فمن يدري؟! ربما كانت هذه المصائب بابًا إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، أوليس قد قال الله: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة:216]؟!
لقد ضاقت مكةُ برسول الله ومكرت به فجعل نصرَه وتمكينَه في المدينة. وأوجفت قبائل العرب على أبي بكرٍ مرتدة، وظن الظانون أن الإسلامَ زائلٌ لا محالة، فإذا به يمتدُ من بعد ليعم أرجاء الأرض. وهاجت الفتنُ في الأمة بعد قتل عثمان حتى قيل: لا قرار لها، ثم عادت المياه إلى مجراها، وتتوالى الفتوحات ليصل بنو عثمان قلبَ أوربا. وأطبق التتارُ على أمةِ الإسلام حتى أبادوا حاضرتَها بغداد سُرّة الدنيا، وقتلوا في بغداد وحدها مليوني مسلم، وقيل: ذهبت ريح الإسلام، فكسر الله أعداءه في عين جالوت وعاد للأمة مجدها. وتمالأ الصليبيون وجيشوا جيوشَهم وخاضت خيولَهم في دماء المسلمين إلى ركبها، حتى إذا استيأس ضعيفو الإيمان نهض صلاح الدين فرجحت الكِفةُ الطائشةُ وطاشتِ الراجحة، وابتسم بيت المقدس من جديد. وقويت شوكةُ الرافضة حتى سيطر البويهيون على بغداد والعبيديون على مصر وكتبت مسبّة الصحابة على المحاريب، ثم انقشعت الغمة واستطلق وجه السُّنة ضاحكًا.
وهكذا يعقب الفرج الشدة، ويتبع الهزيمة النصر، ويؤذن الفجر على أذيال ليل مهزوم، فلم اليأس والقنوط؟!
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج
أيها المسلمون، إن اليأس والقنوط ليسا من خلق المسلم، قال سبحانه: وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87]. قال ابن مسعود : (أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله).
إذا اشتملت على اليأسِ القلوبُ وضاق لما بهِ الصدرُ الرحيبُ
ولم تر لانكشافِ الضرِ وجها ولا أغنى بحيلتِه الأريبُ
أتاك على قنوطٍ منك غوثٌ يمنُ به اللطيفُ المستجيبُ
وكل الحادثاتِ وإن تناهت فموصولٌ بها الفرجِ القريب
فيا أيها الغيورون على أمة الإسلام، يا من احترقت قلوبهم لآلامها، نعمّا هذا الألم وما أصدقه على إيمانكم وحبِكم لدينِكم، ولكن لا يبلغن بكم اليأسَ مبلغه، فإن الذي أهلك فرعون وعادًا وثمود وأصحاب الأيكة والذي رد التتار ودحر الصليبيين قادر على أن يمزق شمل الروم والروس ويبدد غطرسة الصهيونية ويحطم أصنام الوثنية المعاصرة.
وأنت يا من ابتلاك الله في رزقك أو صحتك أو ولدك، أنت يا من جهدك الدَّين والحاجة وانتهكتك العلل وأخذ الموت أحبابَك وعُدت في أعين الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد، أنت يا من أصبحت في مزاولة الدنيا كعاصر الحجر يريد أن يشرب منه، ويا من سُدت في وجهك منافذ الرزق وأبواب الحلال، أنت هل نسيت رحمة الله وفضله وأن الدنيا متقلبٌ بين حزن وسرور، وضيقٍ وحبور، وأن العاقبةَ لمن اتقى، وأن الجنة هي المأوى ولسوف يعطيك ربك فترضى، وأن الدنيا دار البلاء فمن سخط فعليه السخط، ومن رضي فله الرضا؟! فمع الألم يصنع الأمل، وإذا حل الأجل انقطع العمل.(/3)
اللهم إنا نعوذ بك من اليأس والقنوط ومن العجز والكسل، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك من فجاءة نقمتك وتحول عافيتك وجميع سخطك، اللهم إنا نسألك بأنَّا نشهد أن لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، نسألك بكل اسم هو لك، ونسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تدمر أعداء الدين، وأن تنصر المجاهدين، وأن تصلح من في صلاحه صلاح الإسلام والمسلمين، وأن تهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين. اللهم ثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، ولا تهلكنا وأنت رجاؤنا، اللهم عليك بمن كاد لنساء المؤمنين وسعى لإفسادهن، حسبنا الله على من خطط لفساد دينهن وتعليمهن، حسبنا الله على من سعى لتحررهن وسفورهن، حسبنا الله وكفى، ليس دون الله ملجأ ولا ملتجأ، سمع الله لمن دعا، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل. وآخر دعوانا أَنِ الحمد لله رب العالمين. ...
موقع المنبر ...(/4)
الهدي النبوي في تربية الأبناء
( ورقة مقدّمة إلى ندوة : أطفالنا في الغرب التي عقدت في دبلن يوم السبت 9/3/2002م)
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على نبيه الأمين ، و آله و صحبه أجمعين ، و بعد ..
فإن الله تعالى امتن علينا بنعمة الذرّية ، و حذّرنا من الافتتان بها فقال : ( إنّ من أموالكم و أولادكم فتنة ) ، و انتدبنا لنأخذ بحُجَز أهلينا عن النار فقال : ( قوا أنفسكم و أهليكم ناراً ) ، و ذلك من حقّ أهلينا علينا ، و تمام رعايتنا لهم ، و كلنا راع و مسؤول عن رعيته كما في الحديث .
و لأداء أمانة الرعاية لا بدّ للأبوين من الحرص و العمل على تعليم الأبناء و تربيتهم ، و لا يفوتنهما أنهما محاسبان على التهاون و التقصير في ذلك .
فقد روى الترمذي و أحمد و غيرهما بإسناد صحيح عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا وَفِى يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهَا « أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا » . قَالَتْ لاَ . قَالَ « أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ » . قَالَ فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَتْ هُمَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ .
و الشاهد هنا أنّه رتب العقوبة على الأم و ليس على البنت التي لبست المسكتين في يدها ، و لعل هذا لإقرارها على المنكر أو تسببها فيه .
و التربية السليمة تبدأ منذ نعومة الأظفار ، قال الإمام الغزّالي رحمه الله في ( الإحياء ) : ( ممّا يحتاج إليه الطفل أشد الاحتياج الاعتناء بأمر خُلُقه ، فإنّه ينشأ على ما عوّده المربي في صغره من حَرَدٍ و غضب ة لِجاجٍ و عَجلةٍ و خفّةٍ و هوىًَ و طيشٍ و حدّة و جشع ، فيصعب عليه في كِبره تلافي ذلك و تصير هذه الأخلاق صفات و هيئات راسخةٍ له ، فإن لم يتحرّز منها غاية التحرّز فضحته لابدّ يوماً ما ، و لذلك نجد أكثر الناس منحرفةً أخلاقهم ، و ذلك من قِبَل التربية التي نشأ عليها ) .
و قال الشاعر :
و ينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوّده أبوه
و قد قيل : العلم في الصغر كالنقش في الحجر ، و العلم في الكبر كالغرز بالإبر
و حدّث و لا حرج عن هدي النبي صلى الله عليه و سلّم في التربية ، لتر مدرسةً متكاملة المناهج ، راسخة الأصول ، يانعة الثمار ، وافرة الظلال في التربية و التنشئة الصالحة ، حيث اعتنى بهم بنفسه ، و أوصى بهم خيراً في العناية و الرعاية .
و من عنايته صلى الله عليه و سلم بتعليم الأطفال دعاؤه بالعلم النافع لبعضهم كما في مسند أحمد و مستدرك الحاكم بإسناد صححه و وافقه الذهبي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال : إَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِى - أَوْ عَلَى مَنْكِبِى شَكَّ سَعِيدٌ - ثُمَّ قَالَ « اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِى الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ » .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :
تشجيعه على طلب العلم ، و إفساح المجال أمامه لمخالطة من يكبرونه سنّاً في مجالس العلم :
روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم جُلُوسٌ إِذْ أُتِىَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ » . فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِى النَّخْلَةَ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِىَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ فَسَكَتُّ ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « هِىَ النَّخْلَةُ » .(/1)
و روى البخاري و غيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِى مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ – قيل إنّه عبد الرحمن بن عوف - : لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا ، وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ فَقَالَ إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ . قَالَ فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ ، وَدَعَانِى مَعَهُمْ قَالَ وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِى يَوْمَئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيَهُمْ مِنِّى فَقَالَ مَا تَقُولُونَ ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ ) حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ ، إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نَدْرِى . وْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئاً . فَقَالَ لِى يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَكَذَاكَ تَقُولُ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَمَا تَقُولُ قُلْتُ هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) فَتْحُ مَكَّةَ ، فَذَاكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ) قَال عُمَرُ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ مَا تَعْلَمُ .
و في حضور الناشئ مجالس من يكبرونه سناً و قدراً تكريم له ينبغي ألا يعدِم التأدّب و التخلّق فيه ، و من أدبه في مجلسهم أن لا يُطاولهم أو يتعالم بينهم ، أو يتقدّمهم بحديث أو كلام .
روى مسلم في صحيحه أن سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قال : لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُلاَماً فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ فَمَا يَمْنَعُنِى مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ أَنَّ هَا هُنَا رِجَالاً هُمْ أَسَنُّ مِنِّى .
و في هذا المعنى يرد قول الحسن البصري في وصيّته لابنه رحمهما الله : ( يا بني ! إذا جالست العلماء فكن على السمع أحرص منك على أن تقول ، و تعلّم حسن الاستماع كما تتعلّم حسن الكلام ) .
مع أنّ حسن الإصغاء و الاستماع أدبٌ رفيعٌ في حق الكبار و الصغار جميعاً ، و قد أحسن من قال : المتحدّث حالب ، و المستمع شارب ، فإذا كفيت مؤونة الأولى فأحسن الانتهال منها .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :
تهيئته لما ينبغي أن يكون عليه ، أو يصير عليه في كبره كالقيادة و الريادة و الإمامة ، و كفى دليلاً على ذلك تأمير رسول الله صلى الله عليه و سلم أسامة بن زيد ذي السبعة عشر ربيعاً على جيش يغزو الروم في بلاد الشام ، و فيه كبار الصحابة كأبي بكر و عمر رضي الله عنهم أجمعين ، و بعثه معاذ بن جبل رضي الله عنه أميراً على اليمن و هو في التاسعة عشرة من العمر .
و من هذا القبيل ما يدل عليه ما رواه البخاريّ في صحيحه عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه أنه قال : َلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ ، وَبَدَرَ أَبِى قَوْمِى بِإِسْلاَمِهِمْ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا فَقَالَ « صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِى حِينِ كَذَا ، وَصَلُّوا كَذَا فِى حِينِ كَذَا ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ ، فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآناً » . فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآناً مِنِّى ، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ ، فَقَدَّمُونِى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ وَكَانَتْ عَلَىَّ بُرْدَةٌ ، كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّى ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَىِّ أَلاَ تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ . فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِى قَمِيصاً ، فَمَا فَرِحْتُ بِشَىْءٍ فَرَحِى بِذَلِكَ الْقَمِيصِ .
فانظروا رحمكم الله كيف حفظ من أفواه الركبان قسطاً من كتاب الله فاق ما حفظه بنو قومه رغم تلقيهم عن خير الخلق صلى الله عليه و سلّم ، و الأغرب من ذلك أنّه تصدّر لإمامة قومه في الصلاة رغم حداثة سنّه إلى حدّ لا يُعاب عليه فيه انحسار ثوبه عن سوأته .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :(/2)
المداعبة و التعليم بطريق اللعب ، و هو من الوسائل التي تعتبرها المدارس الغربية في التربية اليوم من أنجع الوسائل و أهمها و أقربها إلى نفس الطفل و أنفعها له ، رغم أن الهدي النبوي سبق إلى ذلك و قرره و شرع فيه صاحبه صلى الله عليه و سلّم بالفعل ، في مواقف كثيرة من أشهرها ما رواه الشيخان و غيرهما من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً ، وَكَانَ لِى أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمٌ - وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ « يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ » . نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِى بَيْتِنَا ، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا .
و مداعبته صلى الله عليه و سلم لأبي عمير رضي الله عنه درسٌ عظيم يرسم منهجاً في تربية الأطفال و تعليمهم و آباءهم بأسلوب التشويق و التودد لهم ، و لذلك اهتم العلماء بهذا الحديث أيّما اهتمام .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ( الفتح ) : ( في هذا الحديث عدّة فوائد جمعها أبو العباس الطبري المعروف بابن القاصّ الفقيه الشافعي صاحب التصانيف في جزءِ مفرد ، و ذكر ابن القاصّ في أوّل كتابه أنّ بعض الناس عاب على أهل الحديث أنّهم يروون أشياء لا فائدة فيها ، و مثل ذلك التحديث بحديث أبي عمير هذا ، قال : و ما درى أنّ في هذا الحديث من وجوه الفقه و فنون الأدب و الفائدة ستين وجهاً ثمّ ساقها مبسوطةً ) .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :
الضرب و التأديب بالضوابط الشرعيّة في التعليم :
وردت في هذا الباب أحاديث جيادٌ كثيرة منها :
- ما رواه أحمد في مسنده بإسناد حسن عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ أَوْصَانِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ . قَالَ « لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئاً وَإِنْ قُتِلْتَ وَحُرِّقْتَ وَلاَ تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ وَلاَ تَتْرُكَنَّ صَلاَةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّداً فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلاَةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّداً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَلاَ تَشْرَبَنَّ خَمْراً فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَإِيَّاكَ وَالْمَعْصِيَةَ فَإِنَّ بِالْمَعْصِيَةِ حَلَّ سَخَطُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِيَّاكَ وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ وَإِنْ هَلَكَ النَّاسُ وَإِذَا أَصَابَ النَّاسَ مُوتَانٌ وَأَنْتَ فِيهِمْ فَاثْبُتْ وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ مِنْ طَوْلِكَ وَلاَ تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَباً وَأَخِفْهُمْ فِى اللَّهِ » .
- و ما رواه الشيخان عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضى الله عنها - وَهْىَ خَالَتُهُ - قَالَ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى عَرْضِ الْوِسَادَةِ ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ فِى طُولِهَا ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ ، فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ آيَاتٍ خَوَاتِيمَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا ، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّى . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِى ، وَأَخَذَ بِأُذُنِى الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا بِيَدِهِ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَوْتَرَ ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :
تعويدهم على فعل الخيرات و منه ارتياد المساجد للصلاة و التعبد :
روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله : ( حافظوا على أبنائكم في الصلاة ، و عوّدوهم الخير فإنّ الخير عادة ) .(/3)
و لهذا القول ما يؤيده في السنّة فقد روى ابن ماجة بإسناد صحيح عن مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ « الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ » .
و قد ورد في السنّة ما يدل على مشروعية تعويد الصغار على الصيام و صلاة الجماعة و اصطحابهم للحج صغاراً و من ذلك :
- روى الشيخان عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ أَرْسَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ « مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِراً فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِماً فَلْيَصُمْ » . قَالَتْ فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا ، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ . قال ابن حجر : ( في الحديث حجة على مشروعيّة تمرين الصبيان على الصيام ) .
- و روى مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لَقِىَ رَكْباً بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ « مَنِ الْقَوْمُ ؟ » . قَالُوا : الْمُسْلِمُونَ . فَقَالُوا : مَنْ أَنْتَ قَالَ : « رَسُولُ اللَّهِ » . فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ « نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ » .
- و روى ابن خزيمة في صحيحه و الترمذي و أبو داود بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعي إلى طعام ، فأكل منه ثم قال : قوموا فلنصل بكم . قال أنس : فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس ، فنصحته بالماء ، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصففت عليه أنا واليتيم وراءه ، والعجوز من ورائنا ، فصلى بنا ركعتين ثم انصرف .
و ليس المقصود تعويدهم على صلاة الجماعة في البيت إلا أن يكون ذلك في النوافل ، كالركعتين التين أم النبي صلى الله عليه و سلّم فيهما الغلامين و المرأة ، و هذا هدي نبوي شريف ، و من هديه عليه الصلاة و السلام أيضاً ربط الأبناء بالمساجد و توجيههم إليها ، بل كان يذهب أكثر من ذلك فيتجوز في صلاته مراعاة لحال الصبية الذين تصطحبهم أمهاتهم إلى المسجد .
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى قَتَادَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « إِنِّى لأَقُومُ فِى الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا ، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِىِّ ، فَأَتَجَوَّزُ فِى صَلاَتِى كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ » .
و روى النسائي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شدّاد رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي بالناس إذ جاءه الحسين فركب عنقه و هو ساجد ، فأطال السجود بين الناس حتى ظنوا أنّه قد حدث أمر فلما قضى صلاته ، سألوه عن ذلك ، فقال عليه الصلاة و السلام : (إن ابني ارتحلني ، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته ) .
فالمسجد إذن روضة يجتمع فيها الصغير و الكبير و يرتادها الرجل و المرأة ، و إن كان بيت المرأة خير لها ، و قد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم في ارتيادها يستبقون الخيرات فيذكرون ربهم ، و يأخذون العلم عن نبيهم الذي قال : ( من جاء مسجدنا هذا يتعلم خيراً أو يعلمه ، فهو كالمجاهد في سبيل الله ) و هذا حديث حسن بشواهده : أخرجه ابن ماجة و أحمد و ابن حبان في صحيحه و الحاكم في المستدرك ، و قال عنه : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ؛ فقد احتجا بجميع رواته ، و لم يخرجاه ، و لا أعلم له علة .اهـ .
لذلك كان المسجد المدرسة الأولى ، و الجامعة الأم التي تنشر العلم ، و تشيع المعارف بين الناس ، وهو المكان الأفضل و الأمثل لهذا المقصد العظيم ، و ينبغي أن لا يعدل به شيئٌ في تعليم الناس و الدعوة إلى الله إلا لضرورة .
و ما تنكبت الأمة و لاامتهنت علوم الشريعة ، و لا جفت منابعها إلا بعد أن أغفل دور المسجد في التعليم .
يقول ابن الحاج الفاسي رحمه الله في ( المدخل ) : ( … و المقصود بالتدريس ، إنما هو التبيين للأمة ، و إرشاد الضال و تعليمه ، و دلالة الخيرات ، و ذلك موجود في المسجد أكثر من المدرسة ضرورة ، وإذا كان المسجد أفضل ، فينبغي أن يبادر إلى الأفضل ويترك ماعداه ، اللهم إلا لضرورة ، و الضرورات لها أحكام أخر ) .
و قبل اصطحاب الطفل إلى المسجد يحسن تعليمه و تأديبه بآداب دخول المساجد .
سئل مالك عن الرجل يأتي بالصبي إلى المسجد أيستحب ذلك ؟ فقال : إن كان قد بلغ مبلغ الأدب و عرف ذلك ، و لا يعبث فلا أرى بأساً ، و إن كان صغيراً لا يقَر فيه ، و يعبث فلا أحبّ ذلك .
و بسط البحث في هذه الآداب و ما يتعلّق بها من أحكام ، لو استرسلنا فيه لتشعب بنا البحث و تفلتت أزمّته منّا ، و هذا يتنافى مع الوقت المتاح لتقديم هذه المقالة .(/4)
لذا نكتفي بهذا القدر ، من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال ، و نكل إتمام البحث إلى عزائمكم و أنتم أهل للبحث و المتابعة كما يظن بكم .
و صلى الله و سلم على نبيّنا محمد و آله و صحبه أجمعين .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb
alhaisam@msn.com(/5)
الهدية حِكم وأحكام
191
الهبة والهدية والوقف
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- مشروعي الهدية. 2- الحث على قبول الهدية. 3- الهدية تذهب الوغر في الصدور. 4- هدايا العمال غلول ومثله هدايا الشهود والمدرسين وأمثالهم.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ؛ إذ لا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيمن سمعها ولم يعمل بها، فتقوى الله ـ سبحانه ـ طريق الفلاح وسلم النجاح وعنوان الصلاح. فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الاْلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
أيها الناس، لا يشك غر لبيب، طافت بخلده أطياف الأمجاد وذكريات المعالي، في أن كثيرا من النفوس المسلمة في أعقاب الزمن قد تهاوت عراها وئيدا، وانجزرت أواصر المحبة والألفة فيها انجزار البحار عن شطآنها، فأصبحت لا مطمع عندها في الإبحار ولا رجاء في الاصطياد، وعند ذلك تتجدد الحوادث، وتترادف الهموم المتلونة، فتخبو معالم الإيثار الواضحة، ويمسي ما كان بارزا جليا من معالي الأمور في الأنفس مغمورا لا يكاد يبين، وإن إحساس المرء بنفسه دون سواه، إذا زاد عن حده الجبلي، فإنه يحجبه عن الإحساس بالآخرين من بني دينه، ويحصره في نطاق ضيق، لا يرى فيه إلا صورة نفسه، فيكبر شأنه ويهوِّن غيره، في غشاوة سميكة نسجها الغرور والشراهة، بل والاستئسار لكلمة ((أنا)) فيكون من شر الناس عند الله، الذين لا يرجى خيرهم ولا يؤمن شرهم.
ولأجل ذا ـ عباد الله ـ، كان المسلمون بعامة في حاجة ماسة إلى جمع الشمل، ولم الشعث، وإدارة كل دولاب وجابية، لتصب المساقي، وينهل الناس مع بعضهم صفوا.
وإن من أعظم ما يحقق ذلك عباد الله، وأجل ما يبعث الوئام في النفوس، وما يسترضى به الغضبان، ويستعطف السلطان، ويسل السخائم[1] ويدفع المغارم، ويستميل المحبوب، ويتقى به المحذور بعد الله، الهدية الهدية، الهدية التي تزيل غوائل الصدور وتذهب الشحناء من نفوس الناس، فالهدية حلوة، وهي كالسحر تختلب القلوب، وتولد فيها الوصال وتزرعها وداً، ناهيكم عن كونها مكساة للمهابة والجلال، وهي في أوجز عبارة، مصائد للقلوب بغير لغوب، ولا غرو ـ عباد الله ـ في ذلك فأصل الكلمة من الهدى، والهدى بمعنى الدلالة والإرشاد، فكأنها تهدي القلب وترشده إلى طرق المودة والتآلف.
الهدية ـ عباد الله ـ هي تمليك عين للغير على غير عوض، فإن كانت لطلب الأجر المحض من الله غلب عليها اسم الصدقة، وإن كانت لغير ذلك فهي من ذلك – أي الهدية، وهي مشروعة بين المسلمين؛ عملا بقول النبي : ((تهادوا تحابوا)) [أخرجه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي بسند حسن][2]، وفي رواية للترمذي: ((تهادوا، فإن الهدية تذهب وَحَرَ الصدر))[3].
والتهادي بين النبي وأصحابه أمر معروف مشهور ثابت بالسنة الصحيحة الصريحة، كما أن النبي رغب في قبولها والإثابة عليها، وكره ردها لغير مانع شرعي، مهما كانت قليلة أو محتقرة، فلقد قال : ((ولو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت)) [رواه البخاري][4]، وللطبراني من حديث أم حكيم الخزاعية قلت: يا رسول الله تكره رد الظلف؟ قال: ((ما أقبحه! لو أهدي إلي كراع لقبلته)) [5].
وعند البخاري في صحيحه، أن رسول الله قال: ((يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) [6] والفرسن: عظم قليل اللحم.
ففي هذا كله الحض على قبول الهدية ولو قلّت؛ لما في ذلك من التأليف والتآلف، ولو كانت يسيرة ؛ لأن الكثير قد لا يتيسر كل وقت، كما أن اليسير إذا تواصل صار كثيرا، والقليل من صاحب الود لا يقال له: قليل، فتقع المودة ويسقط التكلف.
ويزداد الأمر تأكيدا على عدم رد الهدية، إذا كانت إحدى ثلاث أشار إليها النبي في قوله: ((ثلاث لا ترد، الوسائد والدهن واللبن)) [رواه الترمذي][7]، والدهن هو الطيب.
وحاصل الأمر ـ عباد الله ـ أن العاقل الحصيف، من يستعمل مع أهل زمانه شيئا من بعض الهدايا بما قدر عليه لذي رحمه الأقرب فالأقرب، ولجيرانه أقربهما منه بابا، لاستجلاب محبتهم إياه، وإن كان عنده الشيء التافه فلا يجب أن يمتنع من بذله، لاستحقاره أو استقلاله؛ لأن أهون ما فيه لزوم البخل والمنع، ومن حقّر شيئا منعه؛ بل يكون عنده الكثرة والقلة في الحالة سِيَّيْن، لأن ما يورث الكثير من الخصال، أورث الصغير بقدره من الفعال، وإن البشر طراً مجبولون على محبة الإحسان وكراهية الأذى، واتخاذ المحسن إليهم خلا وفيا، واتخاذ المسيء إليهم عدوا بغيضا.(/1)
ويالله، فلطالما استعبد الإنسان إحسان كريم، لا سيما إذا كان في موقف الرد على الإساءة، من غيبة أو نميمة أو نحوها، ولقد روى الحافظ ابن حبان البستي بسنده، أن أبا حنيفة ـ رحمه الله ـ لما اشتهر وعلا صيته، قال فيه بعض حاسديه: كنا من الدين قبل اليوم في سعة، حتى بلينا بأصحاب المقاييس، فبلغ ذلك أبا حنيفة، فبعث إليه بهدية جزاء ما فعل، فلما قبضها القائل ندم، وملكت الهدية قلبه فكفّر عما فعل بقوله:
إذا ما الناس يوما قايسونا بآوبة من الفتيا طريفة
أتيناهم بمقياس صحيح مصيب من طراز أبي حنيفة
إذا سمع الفقيه بها وعاها وأثبتها بحبر في صحيفة
فالله أكبر! كم تزيل الهدية من السخائم؟! وكم تنسخ من الشتائم؟!
وبعد ـ عباد الله ـ فإن ما مضى من الحديث عن الهدية ببيان فضلها وأثرها وحكمها، لا يمنع كونها محل تصنيف العلماء وتقسيمهم إلى ما يجوز منها وما لا يجوز؛ ولأجل ذا فإنه يجدر بنا في مثل هذا المقام أن نشير على عجالة واختصار شديدين، إلى بعض المحاذير التي تقع فيها المجتمعات، إبان حياتهم اليومية، اجتماعية كانت أو معيشية أو وظَفِيَّة، فيما يتعلق بالهدايا المحرمة، التي قد يغفل عنها كثيرون، ويتغافل عنها مأفونون[8].
فمن ذلك ـ عباد الله ـ ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ من أنه لا يجوز للمرء المسلم إذا شفع شفاعة أن يقبل هدية ممن شفع له عند ذي سلطان مما هو مستحق له، لتكون مقابل شفاعته. وهذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار، بدليل قول النبي : ((من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى باباً من أبواب الربا)) [رواه أبو داود[9] وهو حديث حسن].
وذلك ـ عباد الله ـ أن الشفاعة الحسنة مندوب إليها، فأخذ الهدية عليها يضيع أجرها، كما أن الربا يمحق الحلال، ولا يدخل في هذا التحريم، من استأجر لإنجاز معاملة ما أو ملاحقتها مقابل أجرة معينة فهذا من باب الإجارة الجائزة بالشروط الشرعية.
ومن ذلك ـ عباد الله ـ تحريم الهدية للقاضي إذا كانت أهديت إليه لأجل كونه قاضيا، بدليل قول النبي : ((لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم)) [رواه أحمد والترمذي][10]، إلا إن كان المهدي ممن له عادة بإهداء القاضي قبل أن يكون قاضيا فلا بأس بالهدية حينئذ ما لم تكن حال خصومة قائمة للمهدي عند ذلك القاضي.
ومن الهدايا المحرمة ـ عباد الله ـ هدية بعض الأولاد دون بعض، لما في ذلك من الحيف[11] والظلم؛ حيث إن بعض الناس يعجبه بر بعض أولاده به دون بعض، لما يرى فيه من الخلال الحسنة والبر الوافي، فيكافئه على هذا بتخصيص عطية له دون غيره والله ـ سبحانه ـ يقول: اعدلوا هو أقرب للتقوى [المائدة:8].
وعن النعمان بن بشير، أن أباه أتى به إلى رسول الله فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما فقال رسول الله : ((أكل ولدك نحلته مثله؟)) فقال: لا، فقال رسول الله : ((فأرجعه)) [رواه البخاري][12]، وفي لفظ لمسلم: ((فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جور))[13]، وفي رواية لأحمد: ((أليس يسرك أن يكونوا إليك في البر سواء)) [14].
أما كيفية العدل بين الأولاد في العطية فهي أن يعطى الذكر مثل حظ الأنثيين، كما قسم الله ذلك في فريضة الميراث العادلة، وهذا هو الذي عليه المحققون من الأئمة؛ كشيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم ـ رحمهما الله ـ، ويستثنى من ذلك عباد الله، فيما لو أعطى أحد أولاده عطية بمسوغ شرعي، كأن تقوم به حاجة ليست في الآخرين من فقرؤوا مرض أو نحو ذلك مما يستلزم العطية.
ومن الهدايا المحرمة، ما يتناوله الشهود في المحاكم جزاء شهادتهم ويسمونها هدية فإذا طلبوا إليها دون مقابل، حلف أحدهم أنه ناسٍ لها، وأن قلبه ذو إغفال، فإذا رأى المنقوش قال: ذكرتها. يا للمذكر جئت بالآمال! وما علم أولئك أن أداء الشهادة واجب بنص الكتاب كما قال ـ تعالى ـ: وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ [البقرة:282]. وقال ـ سبحانه ـ: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283].
ومن ذلك ـ عباد الله ـ، ما كان من الهدايا، في مقابل التنازل عن حق الله وشرعه، أو إقرار الباطل والرضى به، كما ذكر الله ذلك عن ملكة سبأ في محاولتها مع سليمان ـ عليه السلام ـ: وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ، وقال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس، وكانت قد قالت: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.
فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:36]. قال ذلك منكرا عليهم: أي أتصانعونني بمال، لأترككم على شرككم.(/2)
ومن الهدايا المحرمة ـ عباد الله ـ، ما يعطاه العمال الذين يعينهم ولي الأمر على حاجات الناس فيعطون الهدايا لأجل المحاباة، بحيث لو كانوا في بيوتهم لم ينلهم منها شيء، فهذه حرام لا يجوز أخذها بدليل ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي استعمل رجلا على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه قال: هذا ما لكم وهذا هدية، فقال رسول الله : ((فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا))، ثم خطب الناس فكان مما قال: ((والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر)) ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطه يقول: ((اللهم هل بلغت)) [15].
جعلنا الله وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين.
[1] السخائم: جمع سخيمة بمعنى الحقد (القاموس، مادة سخم).
[2] حسن، الأدب المفرد ح (594)، سنن البيهقي (6/169).
[3] سنن الترمذي ح (2130) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وأبو معشر اسمه: نَجِيح مولى بني هاشم، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قِبَل حفظه. وقال ابن حجر فيه: ضعيف. التقريب (7150).
[4] صحيح البخاري ح (2568)، وأخرجه أيضًا مسلم (كتاب النكاح ح (104) ولفظه: ((إذا دعيتم إلى كراع فأجيبوا)).
[5] المعجم الكبير (25/ 162). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/149): وفيه من لم يعرف. قلت: ويكفي عنه ما سبق.
[6] صحيح البخاري ح (2566)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (1030).
[7] حسن، سنن الترمذي ح (2790).
[8] مأفونون: جمع مأفون بمعنى الضعيف الرأي والعقل (القاموس، مادة أفن).
[9] سنن أبي داود ح (3541).
[10] صحيح، مسند أحمد (6/386)، سنن الترمذي ح (1336) وقال: حديث حسن صحيح ولفظه: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم....".
[11] الحيف: الجور والظلم (القاموس ، مادة حيف).
[12] صحيح البخاري ح (2586)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (1623).
[13] صحيح مسلم: كتاب الهبات ح (14).
[14] مسند أحمد (4/269)، وإسناده صحيح.
[15] صحيح البخاري ح (2597)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (1832).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأتقياء البررة وعلى التابعين وأتباعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من الصور المحرمة في الهدايا، ما يهدى من أشياء محرمة كآلات لهو من معازف وغيرها، وكالتماثيل والصور المحرمة، أو ما يجلب الشر ويمنع الخير، كالأقمار المستديرة وشبهها مما يجر البلاء على المسلمين، ويقضي على دينهم والصبغة التي فطروا عليها ويحلق ما تبقى من خلال حسنة.
وكذا الإهداء والتهادي بمناسبة أعياد الكفار أو ما يسمى يوم الأم، أو ما شابه ذلك مما هو مسترق من أهل الكفر، ومغلف بأغلفة مزيفة كالحب والتصافي، والبر والصلة ونحوها. فهذا كله محرم؛ لأنه من باب التشبه بأهل الكفر، والنبي يقول: ((من تشبه بقوم فهو منهم))[1] [رواه أحمد وأبو داود]. وقديما قيل: (الطيور على أشكالها تقع).
ومن الهدايا المحرمة عباد الله، ما ابتلي به كثير من المجتمعات مما يسمى ((الرشوة)) التي يتفننون في تسميتها، أو يلقبونها بألقاب تخدع السذج، وتسر الغششة، حتى لقد انتشرت انتشار النار في يابس الحطب، حتى أفسدت كثيرا من الذمم، وصارت سببا لإفساد العمال على أصحاب العمل، فيجعلون الخدمة لمن يدفع جيداً، ومن لا يدفع فلا حول له ولا قوة، فلا يجد أمامه في قضاء حوائجه إلا نفوسا منهومة منكسة، حتى صار أسهلها من خلقها منعا وهات، وأحلاها هات وهات، والأصل في هذه الوظائف ـ عباد الله ـ أن يقوم رجالها على العدل بين الناس ليسود الأمن بين كافة أفرادهم، فالذي يقبل الرشوة أو يطلبها من الموظفين العاملين على خدمة الجمهور، يكون قد أخل بالأمن، وأفسد نظام الحكم، الراشي والمرتشي مجرمان أثيمان يدفع الأول أجرا على إفساد العدل، ويأخذ الثاني أجرا على الإخلال بالأمن، والمال الذي يأخذه المرتشي سحت ونار، لأنه يهدم شريعة قام عليها ركن العدل بين الناس، فلا جرم ـ عباد الله ـ إذا دعا عليهم النبي بقوله: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي)) [رواه ابن ماجة][2].
[1] صحيح، مسند أحمد (2/50)، سنن أبي داود (4031).
[2] صحيح سنن ابن ماجه ح (2313)، وأخرجه أيضًا بمعناه: أحمد (2/387) والترمذي ح (1337) وقال: حسن صحيح، وأبو داود ح (3580).(/3)
... ... ...
الهدية حِكم وأحكام ... ... ...
سعود الشريم ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- مشروعي الهدية. 2- الحث على قبول الهدية. 3- الهدية تذهب الوغر في الصدور. 4- هدايا العمال غلول ومثله هدايا الشهود والمدرسين وأمثالهم. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ؛ إذ لا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيمن سمعها ولم يعمل بها، فتقوى الله ـ سبحانه ـ طريق الفلاح وسلم النجاح وعنوان الصلاح. فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الاْلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
أيها الناس، لا يشك غر لبيب، طافت بخلده أطياف الأمجاد وذكريات المعالي، في أن كثيرا من النفوس المسلمة في أعقاب الزمن قد تهاوت عراها وئيدا، وانجزرت أواصر المحبة والألفة فيها انجزار البحار عن شطآنها، فأصبحت لا مطمع عندها في الإبحار ولا رجاء في الاصطياد، وعند ذلك تتجدد الحوادث، وتترادف الهموم المتلونة، فتخبو معالم الإيثار الواضحة، ويمسي ما كان بارزا جليا من معالي الأمور في الأنفس مغمورا لا يكاد يبين، وإن إحساس المرء بنفسه دون سواه، إذا زاد عن حده الجبلي، فإنه يحجبه عن الإحساس بالآخرين من بني دينه، ويحصره في نطاق ضيق، لا يرى فيه إلا صورة نفسه، فيكبر شأنه ويهوِّن غيره، في غشاوة سميكة نسجها الغرور والشراهة، بل والاستئسار لكلمة ((أنا)) فيكون من شر الناس عند الله، الذين لا يرجى خيرهم ولا يؤمن شرهم.
ولأجل ذا ـ عباد الله ـ، كان المسلمون بعامة في حاجة ماسة إلى جمع الشمل، ولم الشعث، وإدارة كل دولاب وجابية، لتصب المساقي، وينهل الناس مع بعضهم صفوا.
وإن من أعظم ما يحقق ذلك عباد الله، وأجل ما يبعث الوئام في النفوس، وما يسترضى به الغضبان، ويستعطف السلطان، ويسل السخائم[1] ويدفع المغارم، ويستميل المحبوب، ويتقى به المحذور بعد الله، الهدية الهدية، الهدية التي تزيل غوائل الصدور وتذهب الشحناء من نفوس الناس، فالهدية حلوة، وهي كالسحر تختلب القلوب، وتولد فيها الوصال وتزرعها وداً، ناهيكم عن كونها مكساة للمهابة والجلال، وهي في أوجز عبارة، مصائد للقلوب بغير لغوب، ولا غرو ـ عباد الله ـ في ذلك فأصل الكلمة من الهدى، والهدى بمعنى الدلالة والإرشاد، فكأنها تهدي القلب وترشده إلى طرق المودة والتآلف.
الهدية ـ عباد الله ـ هي تمليك عين للغير على غير عوض، فإن كانت لطلب الأجر المحض من الله غلب عليها اسم الصدقة، وإن كانت لغير ذلك فهي من ذلك – أي الهدية، وهي مشروعة بين المسلمين؛ عملا بقول النبي : ((تهادوا تحابوا)) [أخرجه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي بسند حسن][2]، وفي رواية للترمذي: ((تهادوا، فإن الهدية تذهب وَحَرَ الصدر))[3].
والتهادي بين النبي وأصحابه أمر معروف مشهور ثابت بالسنة الصحيحة الصريحة، كما أن النبي رغب في قبولها والإثابة عليها، وكره ردها لغير مانع شرعي، مهما كانت قليلة أو محتقرة، فلقد قال : ((ولو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت)) [رواه البخاري][4]، وللطبراني من حديث أم حكيم الخزاعية قلت: يا رسول الله تكره رد الظلف؟ قال: ((ما أقبحه! لو أهدي إلي كراع لقبلته)) [5].
وعند البخاري في صحيحه، أن رسول الله قال: ((يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) [6] والفرسن: عظم قليل اللحم.
ففي هذا كله الحض على قبول الهدية ولو قلّت؛ لما في ذلك من التأليف والتآلف، ولو كانت يسيرة ؛ لأن الكثير قد لا يتيسر كل وقت، كما أن اليسير إذا تواصل صار كثيرا، والقليل من صاحب الود لا يقال له: قليل، فتقع المودة ويسقط التكلف.
ويزداد الأمر تأكيدا على عدم رد الهدية، إذا كانت إحدى ثلاث أشار إليها النبي في قوله: ((ثلاث لا ترد، الوسائد والدهن واللبن)) [رواه الترمذي][7]، والدهن هو الطيب.
وحاصل الأمر ـ عباد الله ـ أن العاقل الحصيف، من يستعمل مع أهل زمانه شيئا من بعض الهدايا بما قدر عليه لذي رحمه الأقرب فالأقرب، ولجيرانه أقربهما منه بابا، لاستجلاب محبتهم إياه، وإن كان عنده الشيء التافه فلا يجب أن يمتنع من بذله، لاستحقاره أو استقلاله؛ لأن أهون ما فيه لزوم البخل والمنع، ومن حقّر شيئا منعه؛ بل يكون عنده الكثرة والقلة في الحالة سِيَّيْن، لأن ما يورث الكثير من الخصال، أورث الصغير بقدره من الفعال، وإن البشر طراً مجبولون على محبة الإحسان وكراهية الأذى، واتخاذ المحسن إليهم خلا وفيا، واتخاذ المسيء إليهم عدوا بغيضا.(/1)
ويالله، فلطالما استعبد الإنسان إحسان كريم، لا سيما إذا كان في موقف الرد على الإساءة، من غيبة أو نميمة أو نحوها، ولقد روى الحافظ ابن حبان البستي بسنده، أن أبا حنيفة ـ رحمه الله ـ لما اشتهر وعلا صيته، قال فيه بعض حاسديه: كنا من الدين قبل اليوم في سعة، حتى بلينا بأصحاب المقاييس، فبلغ ذلك أبا حنيفة، فبعث إليه بهدية جزاء ما فعل، فلما قبضها القائل ندم، وملكت الهدية قلبه فكفّر عما فعل بقوله:
إذا ما الناس يوما قايسونا بآوبة من الفتيا طريفة
أتيناهم بمقياس صحيح مصيب من طراز أبي حنيفة
إذا سمع الفقيه بها وعاها وأثبتها بحبر في صحيفة
فالله أكبر! كم تزيل الهدية من السخائم؟! وكم تنسخ من الشتائم؟!
وبعد ـ عباد الله ـ فإن ما مضى من الحديث عن الهدية ببيان فضلها وأثرها وحكمها، لا يمنع كونها محل تصنيف العلماء وتقسيمهم إلى ما يجوز منها وما لا يجوز؛ ولأجل ذا فإنه يجدر بنا في مثل هذا المقام أن نشير على عجالة واختصار شديدين، إلى بعض المحاذير التي تقع فيها المجتمعات، إبان حياتهم اليومية، اجتماعية كانت أو معيشية أو وظَفِيَّة، فيما يتعلق بالهدايا المحرمة، التي قد يغفل عنها كثيرون، ويتغافل عنها مأفونون[8].
فمن ذلك ـ عباد الله ـ ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ من أنه لا يجوز للمرء المسلم إذا شفع شفاعة أن يقبل هدية ممن شفع له عند ذي سلطان مما هو مستحق له، لتكون مقابل شفاعته. وهذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار، بدليل قول النبي : ((من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى باباً من أبواب الربا)) [رواه أبو داود[9] وهو حديث حسن].
وذلك ـ عباد الله ـ أن الشفاعة الحسنة مندوب إليها، فأخذ الهدية عليها يضيع أجرها، كما أن الربا يمحق الحلال، ولا يدخل في هذا التحريم، من استأجر لإنجاز معاملة ما أو ملاحقتها مقابل أجرة معينة فهذا من باب الإجارة الجائزة بالشروط الشرعية.
ومن ذلك ـ عباد الله ـ تحريم الهدية للقاضي إذا كانت أهديت إليه لأجل كونه قاضيا، بدليل قول النبي : ((لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم)) [رواه أحمد والترمذي][10]، إلا إن كان المهدي ممن له عادة بإهداء القاضي قبل أن يكون قاضيا فلا بأس بالهدية حينئذ ما لم تكن حال خصومة قائمة للمهدي عند ذلك القاضي.
ومن الهدايا المحرمة ـ عباد الله ـ هدية بعض الأولاد دون بعض، لما في ذلك من الحيف[11] والظلم؛ حيث إن بعض الناس يعجبه بر بعض أولاده به دون بعض، لما يرى فيه من الخلال الحسنة والبر الوافي، فيكافئه على هذا بتخصيص عطية له دون غيره والله ـ سبحانه ـ يقول: اعدلوا هو أقرب للتقوى [المائدة:8].
وعن النعمان بن بشير، أن أباه أتى به إلى رسول الله فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما فقال رسول الله : ((أكل ولدك نحلته مثله؟)) فقال: لا، فقال رسول الله : ((فأرجعه)) [رواه البخاري][12]، وفي لفظ لمسلم: ((فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جور))[13]، وفي رواية لأحمد: ((أليس يسرك أن يكونوا إليك في البر سواء)) [14].
أما كيفية العدل بين الأولاد في العطية فهي أن يعطى الذكر مثل حظ الأنثيين، كما قسم الله ذلك في فريضة الميراث العادلة، وهذا هو الذي عليه المحققون من الأئمة؛ كشيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم ـ رحمهما الله ـ، ويستثنى من ذلك عباد الله، فيما لو أعطى أحد أولاده عطية بمسوغ شرعي، كأن تقوم به حاجة ليست في الآخرين من فقرؤوا مرض أو نحو ذلك مما يستلزم العطية.
ومن الهدايا المحرمة، ما يتناوله الشهود في المحاكم جزاء شهادتهم ويسمونها هدية فإذا طلبوا إليها دون مقابل، حلف أحدهم أنه ناسٍ لها، وأن قلبه ذو إغفال، فإذا رأى المنقوش قال: ذكرتها. يا للمذكر جئت بالآمال! وما علم أولئك أن أداء الشهادة واجب بنص الكتاب كما قال ـ تعالى ـ: وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ [البقرة:282]. وقال ـ سبحانه ـ: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283].
ومن ذلك ـ عباد الله ـ، ما كان من الهدايا، في مقابل التنازل عن حق الله وشرعه، أو إقرار الباطل والرضى به، كما ذكر الله ذلك عن ملكة سبأ في محاولتها مع سليمان ـ عليه السلام ـ: وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ، وقال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس، وكانت قد قالت: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.
فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:36]. قال ذلك منكرا عليهم: أي أتصانعونني بمال، لأترككم على شرككم.(/2)
ومن الهدايا المحرمة ـ عباد الله ـ، ما يعطاه العمال الذين يعينهم ولي الأمر على حاجات الناس فيعطون الهدايا لأجل المحاباة، بحيث لو كانوا في بيوتهم لم ينلهم منها شيء، فهذه حرام لا يجوز أخذها بدليل ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي استعمل رجلا على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه قال: هذا ما لكم وهذا هدية، فقال رسول الله : ((فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا))، ثم خطب الناس فكان مما قال: ((والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر)) ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطه يقول: ((اللهم هل بلغت)) [15].
جعلنا الله وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين.
[1] السخائم: جمع سخيمة بمعنى الحقد (القاموس، مادة سخم).
[2] حسن، الأدب المفرد ح (594)، سنن البيهقي (6/169).
[3] سنن الترمذي ح (2130) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وأبو معشر اسمه: نَجِيح مولى بني هاشم، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قِبَل حفظه. وقال ابن حجر فيه: ضعيف. التقريب (7150).
[4] صحيح البخاري ح (2568)، وأخرجه أيضًا مسلم (كتاب النكاح ح (104) ولفظه: ((إذا دعيتم إلى كراع فأجيبوا)).
[5] المعجم الكبير (25/ 162). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/149): وفيه من لم يعرف. قلت: ويكفي عنه ما سبق.
[6] صحيح البخاري ح (2566)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (1030).
[7] حسن، سنن الترمذي ح (2790).
[8] مأفونون: جمع مأفون بمعنى الضعيف الرأي والعقل (القاموس، مادة أفن).
[9] سنن أبي داود ح (3541).
[10] صحيح، مسند أحمد (6/386)، سنن الترمذي ح (1336) وقال: حديث حسن صحيح ولفظه: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم....".
[11] الحيف: الجور والظلم (القاموس ، مادة حيف).
[12] صحيح البخاري ح (2586)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (1623).
[13] صحيح مسلم: كتاب الهبات ح (14).
[14] مسند أحمد (4/269)، وإسناده صحيح.
[15] صحيح البخاري ح (2597)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (1832). ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأتقياء البررة وعلى التابعين وأتباعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من الصور المحرمة في الهدايا، ما يهدى من أشياء محرمة كآلات لهو من معازف وغيرها، وكالتماثيل والصور المحرمة، أو ما يجلب الشر ويمنع الخير، كالأقمار المستديرة وشبهها مما يجر البلاء على المسلمين، ويقضي على دينهم والصبغة التي فطروا عليها ويحلق ما تبقى من خلال حسنة.
وكذا الإهداء والتهادي بمناسبة أعياد الكفار أو ما يسمى يوم الأم، أو ما شابه ذلك مما هو مسترق من أهل الكفر، ومغلف بأغلفة مزيفة كالحب والتصافي، والبر والصلة ونحوها. فهذا كله محرم؛ لأنه من باب التشبه بأهل الكفر، والنبي يقول: ((من تشبه بقوم فهو منهم))[1] [رواه أحمد وأبو داود]. وقديما قيل: (الطيور على أشكالها تقع).
ومن الهدايا المحرمة عباد الله، ما ابتلي به كثير من المجتمعات مما يسمى ((الرشوة)) التي يتفننون في تسميتها، أو يلقبونها بألقاب تخدع السذج، وتسر الغششة، حتى لقد انتشرت انتشار النار في يابس الحطب، حتى أفسدت كثيرا من الذمم، وصارت سببا لإفساد العمال على أصحاب العمل، فيجعلون الخدمة لمن يدفع جيداً، ومن لا يدفع فلا حول له ولا قوة، فلا يجد أمامه في قضاء حوائجه إلا نفوسا منهومة منكسة، حتى صار أسهلها من خلقها منعا وهات، وأحلاها هات وهات، والأصل في هذه الوظائف ـ عباد الله ـ أن يقوم رجالها على العدل بين الناس ليسود الأمن بين كافة أفرادهم، فالذي يقبل الرشوة أو يطلبها من الموظفين العاملين على خدمة الجمهور، يكون قد أخل بالأمن، وأفسد نظام الحكم، الراشي والمرتشي مجرمان أثيمان يدفع الأول أجرا على إفساد العدل، ويأخذ الثاني أجرا على الإخلال بالأمن، والمال الذي يأخذه المرتشي سحت ونار، لأنه يهدم شريعة قام عليها ركن العدل بين الناس، فلا جرم ـ عباد الله ـ إذا دعا عليهم النبي بقوله: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي)) [رواه ابن ماجة][2].
[1] صحيح، مسند أحمد (2/50)، سنن أبي داود (4031).
[2] صحيح سنن ابن ماجه ح (2313)، وأخرجه أيضًا بمعناه: أحمد (2/387) والترمذي ح (1337) وقال: حسن صحيح، وأبو داود ح (3580). ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
الهزيمة والخزي مصير الخائنين
لقد طبع اليهود على أسوأ الأخلاق، ويأتي على رأسها الغدر والخيانة، فلم يُعرف عنهم عبر تاريخهم الطويل التزام بعهد وميثاق، حتى مع أنبيائهم !!
ولقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم يهود المدينة وتوافقوا على بنود سجلت بوثيقة تعد أول دستور للدولة الإسلامية، ولكنهم سرعان ما غدروا وخانوا فنقضوا عهودهم، وكان يهود بني قينقاع أول من نقض العهد، وكانوا أكثر اليهود قوة وعدة، وكانت منازلهم أقرب المنازل للمسلمين. وهم الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن دعاهم للإسلام بعد غزوة بدر، قالوا: "لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، أما والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس". وفي هذا تهديد واضح بالحرب وإن كان مبطنا. وفيهم نزل قوله تعالى: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) فالميزان الحقيقي في النصر ليس كثرة العدد والعدة، بل هو نبل الغاية التي يحارب من أجلها، أن تكون في سبيل الله، وفي غزوة بدر (يوم الفرقان) العبر والدروس الكثيرة لكل متأمل بصير، فكان على اليهود أن يستجيبوا لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وألا يغتروا بقوتهم المادية، خاصة بعد تجربة عملية حدثت أمام أعينهم في بدر، ولكنهم وكعادة اليهود يحقدون على كل ما هو غير يهودي، فأبوا واستكبروا وعاندوا وأسروا الغدر والخيانة، وقد كان.
أخذ يهود بني قينقاع يزيدون في سخريتهم واستهزائهم بالمسلمين وكان سوق بني النضير المكان المفضل لممارسة هذه الهواية الشاذة (السخرية والاستهزاء على المسلمين)، وحدث أن دخلت امرأة مسلمة السوق وجلست إلى صائغ فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فلما أبت عمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت مستنجدة، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، أي أنهم اجتمعوا عليه فلم تعد المسألة قضية شخصية.
حدث ذلك بعد عشرين يوما من غزوة بدر، وأنزل الله تعالى فيهم (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني أخاف خيانتهم، فنبذ عهدهم وحاصرهم في حصونهم خمس عشرة ليلة، حتى استسلموا ورضوا بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعولون على حليفهم رأس النفاق عبدالله بن أبي ابن سلول في النجاة من الذبح، حيث كان الخزرج حلفاء لبني قينقاع من قبل، وأثمرت هذه العلاقة المشبوهة بين اليهود والمنافقين في نجاة بني قينقاع من الذبح، فبعد إلحاح شديد من ابن سلول حتى أنه مسك النبي صلى الله عليه وسلم وأبى أن يتركه حتى يطلقهم له بحجة أنهم مواليه، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأطلقهم وهو كاره، ولكنه أمر بإجلائهم من المدينة ومنعهم من أخذ السلاح.
هذا هو موقف الطابور الخامس، بينما كان موقف المؤمنين حقا كما فعل عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان عبادة من بني عوف له من حلفهم مثل الذي لهم من عبدالله ابن سلول، فقد جاء عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ من حلف هؤلاء الخونة وولايتهم، ونزل بذلك قرآن يتلى إلى يوم الدين، ففي ابن سلول وأمثاله كثير إلى يومنا هذا، نزل قوله سبحانه: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ويقولون نخشى أن تصيبنا دائرة). وفي عبادة وأمثاله من المجاهدين المؤمنين إلى يومنا هذا، نزل قوله تعالى: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون).
أيها المسلمون ...
مع أي فئة نريد أن نكون .. مع ابن سلول والعياذ بالله، الذي اتخذ اليهود أولياء من دون المؤمنين، أم مع عبادة رضي الله عنه الذي تبرأ من موالاة الكافرين فضلا عن الخائنين.
يا قادة العالم الإسلامي ...
لقد تحرك الجيش الإسلامي برمته من أجل امرأة مسلمة أهينت، فكيف بنا الآن وأعراض المسلمين مستباحة في فلسطين ؟
كم دم سفك ظلما وعدوانا في فلسطين وغيرها من بلاد المسملين ؟
كم بيت هدم بغير حق ؟
كم مسجد دنس وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم ؟
كم بريء سجن ؟
كم طفل شُرّد أو يتّم ؟
كم امرأة ترملت ؟
كم شريف أصبح مطاردا مطلوبا ؟
كم زرع خُرّب وأحرق ؟
كل هذا وجيوش المسلمين ساكنة لا تتحرك !!
فبدل الحركة الفورية التي ينبغي أن تكون، (فانبذ إليهم على سواء)، نجد الحركة الفورية في الاتجاه غير الصحيح، لمسالمة المعتدين وإقامة علاقات طبيعية معهم إذا انسحبوا من جزء من الأرض التي احتلوها !!(/1)
إننا نرحب بالعلاقات الطبيعية مع المعتدين الغاصبين الجاثمين على أرض الإسراء والمعراج، نعم نرحب بها لأن العلاقة الطبيعية مع المعتدي هي مقاومته لا مسالمته، وإن أطفال الحجارة وشباب المقاومة يعطون الأمة النموذج الأمثل في التعامل الطبيعي مع المعتدين، إنهم جند عبادة لا ريب، وعبادة قبره هناك في الأرض المقدسة قرب المسجد الأقصى المبارك، فكأنهم أخذوا العبرة منه وكأنهم عاهدوه على السير على دربه ومقاومة درب ابن سلول .
العلاقات الطبيعية معهم كما أخبر رب العزة، حيث نزلت هذه الآيات في بني قينقاع (وما زال بنو قينقاع يحاربون المسلمين) قال تعالى:
(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون . فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون . وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين . وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).
فهل نحن فاعلون ؟؟
وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم(/2)
الهم والحزن
2631
أمراض القلوب
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
ملخص الخطبة
1- أعراض مرض الهم والحزن في حياة الناس. 2- تخبط الكثيرين في علاج هذه الظاهرة. 3- أسباب ضيق الصدر كما ذكرها القرآن. 4- العلاج الناجح لهذا المرض وتلك الظاهرة.
الخطبة الأولى
إخوة الإيمان، إننا اليوم بصدد علاج مرض من الأمراض ومشكلة من المشاكل ووباء من الأوبئة يجعل الحياة موتاً, والدنيا نكداً وهماً، واللذة تعاسة، وتصير الأرض الواسعة ضيقة بما رحبت على أهلها.
أما أعراضه، فالهم والغم. آهات وأنّات. كدر وملل. تفجر وصخب. تعاسة وقلق، كره وبغضاء للنفس ومن حولها. ترى ما هو هذا المرض الذي هذه أعراضه.
إنه مرض ضيق الصدر، يبدأ البدن بالاضطراب، ويضيق الصدر يريد الخلاص من النفس. هذه النفس التي يوجد بها فراغ لا يدري كيف يملؤه، بها وحشة لا يدري كيف يزيلها. بها هموم وآلام لا يدري كيف يبعدها.
فيمضي المسكين وقته بالبكاء الحار. والنحيب المر، ويقضي حياته بالسفر والهروب والتمرد على الأهل والمجتمع، وينتهي به المطاف إلى الأرصفة والدخان والمخدرات ثم الانتحار.
وهذا كله استعانة بشياطين الجن والإنس، يبغي بذلك حلاً لهذه المشكلة وعلاجاً لهذا المرض، ولكن نقول له: لقد أخطأت في العلاج.
إن المتأمل ـ يا عباد الله ـ في حال مثل هؤلاء يجد أن المرض يبدأ بقطع الصلة بينه وبين الله سبحانه وتعالى. لا يصلي، وإن صلى ففي الجمع والأعياد، هائم على وجهه في هذه الأرض، فرح بشبابه، متسكع مع أحبابه، تناسى أحزانه، يغني للدنيا أعذب الألحان وينشد فيها أجمل الكلمات، يدخل بيته كالذئب المفترس، ويخرج من بيته والشياطين تطير أمام عينيه، بعيد كل البعد عن منهج الله عز وجل وطريق رسوله صلى الله عليه وسلم، معرض عن ذكر الرحمن، مقبل على ذكر الشيطان، و من هنا أحبتي تبدأ المشكلة.
عباد الله، لكل شيء سبب، فما هو سبب ضيق الصدر؟!
أخبرنا بذلك ربنا جل في علاه بقوله: فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاء [الأنعام:125].
سبحان الله!! ما أعظم هذه الآية، أين الحيارى ليجدوا سبب مشاكلهم؟ أين التائهون المكتئبون ليعلموا سبب مرضهم؟
ثلاث صفات، وصف الله بها الصدر البعيد عن هداية الله.
ضَيّقاً : أي مغلق، مطموس، لا يتسع لشيء من الهدى .
حَرَجاً : لا ينفد فيه الإيمان والخير، فهو يجد العسرة والمشقة في قبولهما
كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاء : أي أن حال هذا الصدر: كأنما يصعد بصعوبة وباستمرار في طبقات السماء، فينقص عنه الهواء، فيضيق، فيزداد ضيقاً، حتى لكأنه يختنق، وهذا هو الذي يشعر به الشخص، ضيِّق الصدر. هذا هو الذي يحسه الإنسان الذي تتخطفه الهموم والآلام والقلق والحيرة.
فهو يشعر بأن روحه تصعد ويحس أنه في سجن وأن صدره في ضيقاً.
إذاً فالسبب الأول هو البعد عن الهداية الربانية، يقول الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124].
إن الذي يعرض عن ذكر الله ويخالف أمر الله، ويخالف أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ستصبح معيشته وحياته ضنكاً ضيقة .. مليئة بالهموم والآلام والفراغ وضيق الصدر، ولو كان الشخص في عنفوان شبابه، يملك من الأموال الكثير، ومن الأرض الكثير ومن الأصدقاء الكثير، ثم أعرض عن ذكر الله فسيصيبه الكدر وضيق الصدر وسترى معيشته وحياته ودنياه ضنكاً، ستضيق به الأرض بما رحبت، لن ينفعه أمواله، لن يحمل أصدقاؤه هذا الهم من قلبه وصدره، لن يخففوا عنه، لن تسعه أرضه وإن كثرت وامتدت.
لماذا وهو الشاب؟ لماذا وهو الغني؟ كيف حدث له ضنك العيش هذا؟! لأنه أعرض عن ذكر الله، فسيرى معيشته ضنكاً عقوبة من الله.
حدث له ضنك العيش، وضيق الصدر لأنه قاسي القلب، لا يتأثر بالآيات والمواعظ. منكب على الدنيا، يجري خلف الشهوات، ويلهث وراء المنكر، وكل همه اللذائد والموبقات، لا يقر له قرار، فمن ذنب إلى معصية، ومن صغيرة إلى كبيرة.
يمل من اللذة فينتقل إلى غيرها .. يبحث عن السعادة في الفيلم والأغنية والمجلة والكرة والنكتة والطرفة .. يعيش في تعاسة، لا يخاف من الموت وأهوال الحساب وكرب القيامة. غافل عن الله متقاعس عن الخير، في وجهه ظلمة، عكستها ذنوبه وروحه المظلمة.
وبعد أحبتي، جاء دور العلاج لهذا المرض الفتاك الخطير على النفس المسلمة؟ يقول تعالى: وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82].
فما الطريق إلى شرح الصدر وإبعاد الملل والكدر عنه؟
يجيب عن هذه الأسئلة الذي خلق أنفسنا ويعلم ما يصلحها ويفسدها.(/1)
يقول الله عز وجل: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى [طه:123]، من اتبع الله فلن يضل، ولن يشقى، ولن يتخبط في القلق والاكتئاب والحيرة والفراغ، ولن يشعر بالكدر وضيق الصدر أبداً. وكيف يضيق صدره وهو يسير على منهج الله متبع لهدى الله.
ويقول الله تعالى: الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فالعلاج الثاني هو ((ذكر الله)) على كل حال، ويعلّق القلب به في كل حين، فتسبيحه وتذكره في كل وقت. فبذكر الله تدفع الآفات، وتكشف الكربات، وتغفر الخطيئات، وبذكر الله تطمئن القلوب الخائفة وتأنس الصدور الوجلة. وكيف لا تطمئن هذه القلوب وهي متصلة بالله خالقها مستأنسة بجواره، آمنة في جنابه وحماه، فتذهب عنها تلك الوحشة، ويبتعد ذلك القلق، وتفرج تلك الهموم ويزول ذلك الضيق.
ويقول الله عز وجل: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:97-99].
أما العلاج الثالث فهو الإكثار من النوافل بعد الفرائض، فهي تجعل روحك متصلة بالله تعالى. وتجعل قلبك ذاكراً له عز وجل، صلِّ الصلوات الخمس مع سننها، صم النوافل: كالأيام البيض والإثنين والخميس، قم شيئاً من الليل، وناج ربك وخالقك، واطلب منه ما أردت، أكثر من قراءة القرآن، واحفظ منه ما استطعت، جاهد نفسك حتى تنهض لصلاة الفجر، صلِّها وداوم عليها ثم انظر إلى نفسك، ماذا سيطرأ عليها ؟ ستشعر بحلاوة، وزيادة إيمان، تحسه في قلبك. في اتساع صدرك. تجده في هدوء نفسك.
ونأخذ من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم شفاءً ودواءً لهذا المرض وطمأنينة للقلب وأنساً للنفس قال صلى الله عليه وسلم: ((ما أصاب عبداً هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجاً)).
الخطبة الثانية
الحمد لله ولي المتقين والصلاة والسلام على قائد الغر الميامين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أخي الحبيب، ارفع يديك إلى الله مولاك كلما شعرت بضيق، ارفع يديك وادع بما شئت، اشك بثك وحزنك إلى الله، اترك دموعك تسيل على خديك، لتخرج ما في نفسك من ضيق وهم وألم.
آخر علاج لهذا المرض هو اختيار الرفقة الصالحة الطيبة الذين يسيرون على منهج الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اترك رفاقك الأولين، ابتعد عنهم، ولا تقترب منهم، وعش مع هذه الرفقة الصالحة، تشعر بطعم الحياة حقاً، وتحس بحلاوة الإيمان صدقاً، عش معهم .. ثم انظر إلى نفسك بعد فترة، انظر إلى حالك انظر إلى صدرك، تجده قد اتسع بعد الضيق، تجده قد استقر بعدما كان يصّعّد في السماء، تجده قد غسل تماماً، عندها ستجد للطّاعة لذة وللحياة هدفاً، عش معهم، وتذكر ذلك الذي قال الله تعالى فيه: كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ [الأنعام71].
أخي الحبيب، يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءاتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ [محمد:17]، ويقول عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدّاً [مريم:96].
وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
أخي الحبيب، قارن بين هذه الحياة السعيدة الطيبة، وبين حياة البعيدين عن منهج الله.
قارن بين المستقيمين الصالحين الطاهرين، وبين الحائرين التائهين، التعساء الأشقياء المليئين بالشك والهموم والقلق، وضيق الصدر.
أولئك الحيارى .. الذين يمثلهم شعر ذلك الشاعر الذي يقول:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت، كيف أبصرت طريقي .. لست أدري
بئس الحياة، وبئس العيش، وصدق الله إذ قال في مثل هؤلاء أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:43، 44].(/2)
أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].
أما لسان حال المؤمن التقي الراجع إلى ربه فيقول:
أنا لست إلاّ مؤمناً بالله في سري وجهري
أنا نبضة في صدر هذا الكون كيف يضيق صدري؟
أنا نطفة أصبحت إنساناً فكيف جهلت قدري؟
ولم الترفع عن تراب منه يكون قبري
إني لأعجب للفتى في لهوه، أو ليس يدري؟
أن الحياة قصيرة، والعمر كالأحلام يسري.
وصلو وسلموا..(/3)
الواجب الأول
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
قد يكون غريباً أن أتحدث عن الواجب الأول الذي يجب على كل مسلم ؛ لأن ذلك عندنا من البديهيات ، وربما كان عند كثير منا من المحفوظات .. غير أن التدبر والتأمل في الأحوال القلبية ، والهمم النفسية والممارسات العملية تدلنا على أن حاجتنا ملحة على أن نعيد الحديث ونكرره ونبطئ القول فيه ونعيد لأن واقع الأمر يكشف عن ضعف التعلق بالله ،وشدة أو غلبة أو كثرة التعلق بغيره جل في علاه ، وتكشف عن مشاعر نفسية تذهب يمنة ويسرة ، وتمضي محبة وبغضة في غير ما أراد الله جل في علاه .
وكذلكم نرى في واقع الأمر معاصٍ ترتكب ، ومحرمات تنتهك ، وأقوال من الباطل تذاع ، وأحوال من الفساد تشاع .. فأين هو إذن ذلك الواجب الأعظم ؟ أين محله من القلوب ؟ وأين موضعه من النفوس ؟ وأين أثره في الأقوال والأفعال والأحوال ؟
إن معرفة لا تنشئ عملاً ليست معرفة حقيقية ولا كافية ، وإن علماً لا يثمر سلوكاً يعد حجة على صاحبه وتسفيه لعلمه .. إن حياتنا في واقعها تحتاج إلى أن نعود إلى الصفوف الأولى الابتدائية يوم يكون في المقرر الذي يدرسه أبنائنا ونحفظه لهم اليوم : الواجب الأول معرفة الله سبحانه وتعالى ، هذه المسألة البديهية المحفوظة التي تحتاج إلى كثير وكثير من المراجعة القلبية النفسية السلوكية الواقعية .
إن معرفة الله سبحانه وتعالى أول الواجبات ، وأعظم الواجبات وأكثرها توضيحاً وإدراكاً لمسار الحياة ، وأكثرها كذلك تأثيراً في واقع السلوك الإنساني ، معرفة الله عز وجل لا يحيط بها أحد على وجه معرفة الكنه والذات ، فهو جل وعلا ليس كمثله شيء وهو البصير الخبير ، فعلمه على سبيل المثال لا يحيط به أحد من خلقه وقدرته جل وعلا لا يحدها وصف ، ولا يقيدها قدر بحال من الأحوال .. غير أن المعرفة التي نريد معرفة أسماء الله وصفاته وأفعاله المعرفة التي دل عليها حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا ) .
وقد روي من طرق كثيرة في مجموعها حسن أهل العلم هذا الحديث ، المتدبر يدرك تماماً أن المعرفة التي نريد هي معرفة التأثير والتبليغ هي المعرفة المستولية على القلوب الساكنة في النفوس التي تعيش مع الإنسان في نبض قلبه ، وجريان دمائه في عروقه ، ونور بصره في عينيه .. إنها معرفة تغمر حياته كلها وتغيرها بصبغة الإيمان والمعرفة الإلهية صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون .
{ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد }
إن المعرفة للمتدبرين للمتأملين للمتفكرين وهي بعد ذلك للمتعظين المعتبرين المذكرين وهي بعد ذلك للعاملين السابقين المتنافسين { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } .. هذه المعاني المهمة التي ينبغي التذكير بها .
قال ابن رجب رحمه الله : " في هذه المعرفة معرفة الله وما يستحقه من الأسماء الحسنى ، والصفات العلى ، والأفعال الباهرة .. وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه وخشيته ومهابته ومحبته ورجائه والتوكل عليه والرضى بقضائه والصبر على بلائه " .
أين نحن من هذا المعرفة ؟
الرضى في كثير من الأحوال يسبقه السخط والاعتراض على القضاء والقدر .. فأين نحن من هذه المعرفة ؟ ويكاد أمر المراقبة والخشية أن يخفى من النفوس ، وأن يزول من القلوب ، أين نحن من هذا الواجب الأول والتذكر والاتعاظ والاعتبار كاد أن يذهب ماؤه ، وأن ينعدم روائه من نفوسنا وقلوبنا إلا من رحم الله .
يقول ابن القيم رحمه الله تفريقاً للمعرفة التي قد نظن أنا ملكناها والمعرفة المفترض على أن نسعى إليها ونحرص عليها : " المعرفة نوعان : معرفة إقرار ؛ وهي التي يشترك فيها البر والفاجر والمطيع والعاصي ، سل العاصي ؛ فإنه أذرب الناس لساناً فيما يعرفون من آيات صفات الله وأسمائه الحسنى .. فأين هو أثرها في القلوب ، والمعرفة الثانية قال معرفة توجب الحياء منه والمحبة له وتعلق القلب به والشوق إلى لقائه وخشيته والإنابة إليه والأنس به والفرار من الخلق إليه " .
أفلسنا بحاجة إلى هذه المعرفة ، عظمة الله سبحانه وتعالى !
{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } .(/1)
ومضة قرآنية إشراقة من الصفات والأسماء والأفعال الإلهية .. أين حظها من واقع الحياة ؟ أين الذين يذلون لغير الله ويلتمسون القوة من شرق أو غرب أو عند هذا أو ذاك ؟ أين الذين يعتقدون اعتقاداً جازماً أن الملك الحق وأن التصرف المطلق إنما هو لله وليس للقوة العظمى ، وليس للأمم المتحدة أو المختلفة ؟ أين الذين يعيشون هذا المعنى وهم يواجهون الخطور أو يواجهون المحن والفتن والكروب ؟ أين هذه الحقائق في أغوار النفوس وأعماق القلوب ؟
مسائل كثيرة وآيات عديدة تأملها يبين عظمة الحق جل وعلا ..
{ إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ {95} فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } .
تأمل .. تدبر .. فالآيات في القرآن جلها في وصف ذات الله جل وعلا وأسمائه وصفاته وأفعاله .
{ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } .
بعد كل هذه المعرفة بهذه العظمة وتلك النعمة يأتي الظلم والجحد لنعم الله عز وجل ، والمضي بعيداً عن شكره وعدم الإقرار بفضله سبحانه وتعالى ، ثم تأمل خطاب القرآن وهو يثير كل عقل مفكر ، وكل قلب حي .. حتى يدرك الإنسان أن عظمة الله جل وعلا وعظمة منته ونعمته عليه ، فلا ينسى ولا يغفل أنه أسلوب القرآن في المقارنة والمفارقة التي تظهر منة الله جل وعلا وقدرته وعظمته وتظهر ضعفك أيها المخلوق ، بل ضعف الخليقة كلها بل ضعف الكون كله بما فيه وبمن فيه ؛ لأن الله خالقه ؛ ولأن الله مدبر أمره ؛ ولأن الله المتصرف بأمره ؛ ولأن الله سبحانه وتعالى هو المسخر له بما ينفع الخلق والناس في دنياهم وحياتهم .. { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} .
هذا السؤال الذي يتكرر مع كل آية كأنه يقول لنا : هل واقعكم يثبت ذلك حق لله عز وجل ؟ هل تصرفكم ويقين قلوبكم ومشاعر نفوسكم تترجم ذلك أم الأمر على غيره ؟
إذا وقعت بك الكروب ، وحلّت بك الخطوب ، وانقطع عنك الناس ، وعجزت قوى الأرض عن نصرتك في مواجهة طغاة أو متجبرين .. ليس لك إلا الله ، ولا ملتجأ إلا إليه ،ولا إفضاء بالضعف والهوان إلا إليه .. ذلكم ما فعله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في سرائه وضرائه ، في شدته وفي رخائه .. ذلكم الذي مثّله محمد عليه الصلاة والسلام صاحب القلب الموصول بالله ، صاحب المعرفة العظمى بالله .. ( أما إني أعلمكم بالله وأخشاكم له ) ترجم ذلك العلم بالله ، والمعرفة بأسمائه وصفاته إلى سلوك ظاهر في القلب المعلق بالله ، الآنس بذكر الله ، المتزلف المتقرب إلى رضوان الله ، الواثق المعتقد على قوة ونصر الله .. ذلكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وقف يوم بدر يرفع يديه إلى السماء : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً ) يتوسل ، يتضرع ، يبتهل حتى يسقط ردائه عن منكبيه فيقول أبو بكر : " حسبك يارسول الله ؛ فإن الله منجز لك ما وعدك " .
ويقول صلى الله عليه وسلم : ( لكأني أنظر إلى مصارع القوم هذا مصرع أبي جهل ، هذا مصرع أبي ابن خلف ، هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان ... )
فلم يجاوز أحد موضعه الذي عيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. تلك هي المعرفة الحقة التي ظهرت في كل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في كل حركة من حركاته .. في كل كلمة من كلماته ، في كل موقف من مواقفه .. تلك هي المعرفة الحقة التي يجب أن تخلص إلى قلوبنا عظمة الله جل وعلا في خلقه وتدبيره أمرها جليل وعظيم .(/2)
علم الله سبحانه وتعالى جزء من معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته علم الله جل وعلا المحيط الشامل .. { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين } .
كلنا يعلم قضاء الحق جل وعلا { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } ، { يعلم السر وأخفى } ، { وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر } جل وعلا ، كلما تأملنا في هذه الآيات وجدنا صورة عظيمة لها العلم المحيط الشامل الذي قال جل وعلا في وصفه : { ولا يحيطون بشيء من علمه } .
{ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها } سبحانه وتعالى هو العالم بكل شيء { يا بُني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأتِ بها الله } ، الله تعالى عالم بكل شيء .. فهل ندرك ذلك أم أن كثيرين يقولون إن أجهزة الاستخبارات ، وإن الأجهزة التقنية اللاقطة للأصوات أصبحت اليوم تعلم كل شيء ، وربما نسمع ذلك بهذه الألفاظ ، إنهم يعلمون حركاتنا وسكناتنا ، ولا أبالغ إن قلت يمكن أن نسمع من يقول إنهم يعلمون خواطرنا ونياتنا .. أين هذه الحقائق في واقع حياتنا وفي يقين قلوبنا سمع الله تعالى الذي يسمع كل شيء .. { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها }
تقول أم المؤمنين عائشة : " إن كانت المجادلة لتجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كسر بيتي ما أسمع ما تقول وقد وسع الله سمعها من فوق سبع سماوات " .
همهمات تهمهم بها ، كلمات في السر تلفظها .. كل ذلك داخل في قول { ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد } كل ذلك داخل في عموم هذه الصفات العظيمة لله جل وعلا { الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين * إنه هو السميع العليم } صورة حية نابضة بالقوة في دلالة معناها ، والقوة في تأثيرها القلبي والنفسي في كل هذه المعاني والجوانب .
كم هي المرات التي تمر بنا ونحن نحتاج إلى مدد وعرض ، كم هي الظروف التي تحل بنا ونحتاج فيها إلى قوة ونصر .. أين ملجأنا في ذلك ؟ ومن أين استمدادنا لذلك ؟ إنه كثير ما يكون في التماس أسباب الأرض ، والبحث عن قوى المادة ولا ينكر الإسلام الأسباب غير أنه لا يريد أن تكون هي مهوى الأفئدة ، وهي متعلق النفوس وهي التي تجول وترتبط بها خواطر وأفكار العقول .
إن ثمة أمر قبل ذلك كله ، إنها إرادة الله ، إنها قوة الله ، إنه الاستمداد من الله واللجوء إلى الله { ففروا إلى الله } كما أمر الله سبحانه وتعالى ، لو تأملنا لوجدنا ذلك حقاً كما بينت آيات القرآن : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } .
ألم تتأملوا في قصة قارون يوم كانت خزائنه مفاتحها – فحسب - تنوء به أولوا العصبة والقوة ، يوم قال : إنما أوتيته على علم عندي ! يوم خرج على قومه في زينته ..
إلى أي أمر انتهى أمره ؟ وكم استغرق من الوقت وكم احتاج في ظل قوة الله سبحانه وتعالى التي لا يحدّها حدّ ؟
{ فخسفنا به وبداره الأرض } .. في لحظات خفاء تعقيدية تدل على أن الأمر لم يستغرق ثوان معدودة ، والأمر في قدرته سواء ليس فيه وقت يطول أو يقصر ، وعلى عمل يعظم أو يقل ، بل أمره بين الكاف والنون ..
فرعون جبار الأرض الذي قتل وسفك والذي علَى في الأرض وابتغى فيها فساداً ، فرعون في لحظات وجيزة أدركه الغرق وانتهى أمره وكل جبار وكل عظيم من العظماء في مصرعه ونهايته عبرة لو كانت هناك قلوب تعتبر وقلوب تدّكر .. إن أمر الله سبحانه وتعالى هو النافذ ، ومشيئته هي الماضية { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } .
ذلكم ما علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس وهو غلام في مقتبل عمره ، ليعلّمنا أن هذه المعاني تُغرس منذ الصغر ، وتتحول إلى يقين راسخ : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) .
لا مشيئة تنفذ إلا مشيئة الله عز وجل ، لا معطي لرزق ولا مانع له إلا الله ، لا منهي للحياة ولا مبقي لها سواه ..
أيّ يومي من الموت أفر *** يوم لا يقدر أو يوم قدر
يوم لا يقدم لا أرهبه *** ومن المقدور لاينجو الحذر
الرزق وما أدراك ما الرزق ؟
أنا إن عشت لست أعدم قوتا *** وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي *** نفس حر ترى المذلة قهرا
ما بال الناس اليوم يغيرون مواقفهم ، ويغيرون جلودهم وكلامهم .. بل يغيرون عقيدتهم ومبدأهم لأجل موت يخشونه يظنونه بيد هذا أو ذاك ! أو لأجل لعاعة من الدنيا يطمحون إليها أو يخافون أن تمنع عنهم وهم يقرأؤن : { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } .(/3)
فأين دلالة ذلك في واقعهم ؟ وأين حقيقة ذلك في مواقفهم .. ونحن نرى الأقوال قد تغيّرت ، والمواقف قد مُسخت ، ونرى صوراً لا تمت إلى حقائق الإيمان وعزته بصلة ، ونرى صوراً لا تمثل شرف وعز الإسلام الذي أخبرنا به الفاروق عمر : " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومتى ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله " .
أين هذه المعاني وهذه المعرفة ؟ إنها تتحول في قلب المؤمن إلى صورة خاشعة ، إلى حقيقة إيمانية في القلوب مستكنة .. خذوا المثل في كلمات جامعات خاشعات لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم ، لنرى كيف ترجم هذه المعرفة في جوانب متعددة في هذه الكلمات الضارعة والدعوة الخاشعة ، في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ حيث يقول : ( اللهم بعلمك الغيب ، وقدرتك على الخلق ،أحيني ما علمت الحياة خير لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي ، اللهم أسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الحق والعدل في الغضب والرضى ، وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيماً لا يبيد وأسألك قرة عين لا تنقطع ، وأسألك برد العيش بعد الموت ، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم ، في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة ، اللهم زيينا بالإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين ) .
تأمل هذا الحديث رواه ابن خزيمة في التوحيد ، والنسائي في سنده بسند صحيح ..
( اللهم بعلمك الغيب ، وبقدرتك على الخلق ) إنه الثناء الذي يبرز حياة هذه المعاني في قلب المؤمن ، ويدلُّ على استحضاره لها في كل أحواله ، ثم يفوّض الأمر إلى ربه وخالقه .. فهو الأعلم بما يصلح له وما لا يصلحه .
( أحيني إن علمت أن الحياة خير لي ، وتوفني إن علمت أن الوفاة خير لي ) ، ثم دعاء ضارع أن يكون المرء مع الله في كل الأحوال ، لا يخرجه رضاه عن طاعة الله ، ولا يدخله غضبه في سخط الله ، لا يخرج به فقره على الرضى بقضاء الله وقسم الله ، ولا يخرجه غناه عن شكر نعمة الله ، وتصريفها ووضعها في مرضاة الله .
وهكذا يكون الأمر ، ثم ينتقل الدعاء الخاشع إلى ما وراء الحياة الدنيا ، إلى ما وراء هذه الحجب الكثيفة ، والأستار الغليظة إلى الآخرة وقوفاً بين يدي الله ، نعيماً لا يغيب ، قرة عين لا تنقطع ، لذة النظر إلى الحق سبحانه وتعالى .
ثم هذا الختم العظيم من رسولنا صلى الله عليه وسلم : ( اللهم زيينا بالإيمان واجعلنا هداة مهتدين ) .
إنها كلمات لكنها تعبر عن حقائق الإيمان ، عن وضوح وعمق وصدق هذه المعرفة بالله سبحانه وتعالى .
إنني اليوم أتساءل وقد كنت أفكر بالأمس : ما عسى يكون موضوع خطبتنا ، وذلك حال كل خطيب ، وأثناء تفكيري وجدت هذه الكلمة في خاطري وعلى لساني كلمة لفظ الجلالة الله ، وحينئذ وجدت أن الحقائق المبسوطة في كتاب الله التي هي أول واجب علينا جميعاً تحتاج إلى هذه التذكرة ، ورأيت أن قلوبنا لا تستحضرها ولا تعيشها كما ينبغي وكما يجب ، ورأيت أن نفوسنا لا تتعلق بها ولا تشتاق إليها ولا تنهل منها كما ينبغي .
ولعلنا نحتاج فعلاً إلى وقفة يطول فيها حزننا على حالنا وليس قليلاً أن تجري دموعنا على وجناتنا حزناً على خواء القلوب ، وجفاف النفوس من هذه المعاني وتلك الحقائق التي إذا غمرت القلب لم نعد نرى ما نراه من فاحش القول ، ولا سيء الفعل ، ولا خبث النية ولا غير ذلك من صور الانحراف عن الله عز وجل ، وطلب مرضاته وانحراف عن شرع الله وعن هدي رسوله صلى الله عليه وسلم .
كم نحن في حاجة إلى هذه المعرفة وسنزيد بإذن الله عز وجل فيها ، وفي تلمس الطريق إليها ، وفي بيان آثارها ، وفي بيان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في غرسها ، في قلوب أصحابه ، لعل الله عز وجل أن يتداركنا برحمته ..
نسأل الله عز وجل أن يعرفنا حق المعرفة بأسمائه وصفاته ، وأن يحي بهذه المعرفة قلوبنا ونفوسنا وأرواحنا ، وأن يقوم بها أقوالنا وأعمالنا وأحوالنا .. إنه وليّ ذلك والقادر عليه ..
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه ، وإن من أعظم الزاد زاد التقوى النهل من القرآن الكريم والوقوف عند آيات معرفة الله وعظمته سبحانه وتعالى .
وإن الجانب الآخر يجعلنا كذلك في مواجهة خطيرة مع أنفسنا ، ذلك أن الجانب المقابل الذي قد نقع فيه ، والذي قد ترويه صور حياتنا أفراداً أو أمة هو جانب جاء في القرآن كثيراً مقترناً - والعياذ بالله - بالكفر والإعراض بالله ، إنه جانب الغفلة عن هذه المعرفة ، إنه جانب إدارة الظهر لهذه المعرفة وعدم ظهور حقيقتها لواقع الحياة .. { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك } .(/4)
كم نحن مغترون بنعمة الله .. كم نحن ساهون ولا هون وغافلون وربما - والعياذ بالله - آمنون من مكر الله .. أفليس قد تصدق فينا هذه الآيات رغم خطورتها وهولها وشدتها رغم الخطاب الموجه من رب الأرباب ، ملك الملوك ، جبار السماوات والأرض بصيغة الإفراد لهذا الإنسان { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } ..
كيف تنسى خلقه لك ونعمته عليك وتسخيره المخلوقات لك ؟ كيف تنسى ذلك ؟ كيف تغتر بقوتك ؟ كيف تنسى قدرة الله عليك فتبطش بالناس ، إن كل طاغ جبار ظالم قد خلى قلبه من استحضار قدرة الله عز وجل عليه ، قد اغترّ بقوته وسطوته وجاهه وأعوانه وسلطانه ونسي أنه ما بين غمضة عين والتباهتها يبدل الله من حال إلى ، ونسي أن جبار السماوات والأرض قد قال سبحانه وتعالى : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظلمة إن أخذه أليم شديد } .
وأن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم قد قال : ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ..
أين هذا الاغترار من شبهه وصلته في وصفه والعياذ بالله بالكفار .. { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته والسماوات مطويات بيمينه } .
أين الذين يتعلقون بالقوة العظمى وينتظرون المدد من خبرات من هنا وهناك ؟ ما بالهم لا يعلقون قلوبهم وحبالهم وأمرهم بالله عز وجل ؟ ألا يقدرون قدر الله سبحانه وتعالى وهو الذي يضرب لنا فيما يجري من قضائه وقدره أمثلة فيها حياة لكل قلب ويقظة لكل فكر ، ألا نعرف أن زلزالاً لا يقضي ثوان معدودات يبيد مع الأرض كل ما أنشأه هذا الإنسان بقوته وجبروته وعلمه وما يقول عن نفسه !
ألم نرى ماء البحر كيف يغمر فيقتل الملايين ويدمر المدن والقرى !
{ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته والسماوات مطويات بيمينه } ، { مالكم لا ترجون لله وقاراً * وقد خلقكم أطواراً } .
قال الطبري في روايته عن مجاهد : " ما لكم لا تعرفون عظمة الله عز وجل " .
تلك هي المعاني في الجهة المقابلة إنها تبكيت وتوبيخ وتهديد ووعيد ، نتوجه إلى الكفار أولاً ، وإلى من يغفل فيشبههم في صفة نسيانهم لله نسوا الله فنسيهم والعياذ بالله.
نسأل الله عز وجل أن يحيي معرفته في قلوبنا ، وأن يعلّق قلوبنا بطاعته ومرضاته ، و أن يجعلنا من المتقين له ، والمنيبين إليه ، والخائفين منه ، والمتوكلين عليه ، والواثقين به .(/5)
الورع
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الورع:"عمّا قد تُخَاف عاقبته وهو ما يًعلَم تحريمه وما يُشَك في تحريمه وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله - فهذا قيدٌ مهم في الأشياء المشكوك فيها - ،وكذلك الاحتيال بفعل ما يشك في وجوبه ولكن على هذا الوجه".
وعرف ابن القيم رحمه الله بقوله: " ترك مايُخشى ضرره في الآخرة".
ومن منازل (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) منزلة الورع أيضاً وقد قال الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (المؤمنون:51) ، وقال عز وجل: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (المدثر:4) أي نفسك فطهر من الذنب فكنّى عن النفس بالثوب وهذا قول جماعة من المحققين من أهل التفسير، كما قال غيلان الثقفي :وإني بحمد الله لا ثوب غادر لبست ، ولا من غدرة أتقَنّعُ.
ولا ريب أن تطهير النفس من النجاسات وتقصيرها من جملة التطهير المأمور به إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق والمقصود أن الورع يطهر دنس القلب ونجاساته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته، وبين الثياب والقلوب مناسبة ظاهرة .
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع في كلمة واحدة فقال: ((من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه))، فهذا يعم الترك لما لا يعنيه من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.
وقال إبراهيم: (( الورع ترك كل شبهة وترك ما لا يعنيك وترك الفضلات – الأشياء الزائدة- )).
وروى الترمذي مرفوعاً : (( يا أبا هريرة كن ورعاً تكن أعبد الناس)).
ولا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وقال بعضهم: " كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في الحرام".
هناك مسألة مهمة جداً في الورع وهي قضية العلم ، لأنه لا يمكن التورُّع بدون علم ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلاماً مهماً في هذا؛ قال : " تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع الواجبات ويفعل المحرمات ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعاً- فيأتي مثلاً جيش من المسلمين أميره لا يمكن تغييره وعنده فسق وهو في جهاد يقاتل الكفرة فجاء أحدهم فقال أنا أتورع أن أجاهد وراء هذا الفاسق ، ماذا سيحصل؟؛ يجتاح العدو البلد وتقع الهزيمة في المسلمين. وأحدهم مات أبوه وعنده أموال مشبوهة وعليه ديون فلما جاء الناس يطالبون حقوقهم فقال الابن: أنا أتورّع أن أقضي ديون أبي من الشبهة فهذا الورع فاسد وهذا الإنسان جاهل، فالجهل إذاً يجعل بعض الناس يتركون واجبات بزعم الورع-، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة- غير مكفّرة- أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة العباد وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع".
ومن القواعد في الورع ما نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: (( الواجبات والمستحبات لا يصلح فيها زهدٌ ولا ورع ، وأما المحرمات والمكروهات فيصلح فيها الزهد والورع ))، وقال رحمه الله أيضاً: (( أما الورع فإنه الإمساك عما يضر- عن المحرمات- أو قد يضر-الشبهات-، فتدخل فيه المحرمات والشبهات لأنها قد تضر فإنه من اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، وأما الورع عما لا مضرة فيه أو فيه مضرة مرجوحة لما تقترن به من جلب منفعة راجحة أو دفع مضرة أخرى راجحة فجهلٌ وظلمٌ وذلك يتضمن ثلاثة أقسام لا يُتَورَّع عنها: المنافع المكافئة والراجحة والخالصة، كالمباح المحض أو المستحب أو الواجب ، فإن الورع عنها ضلالة )).
أقسام الورع:
قسّم بعض العلماء الورع إلى ثلاث مراتب فقالوا:
واجب وهو الإحجام عن المحرمات وهذا للناس كافة.
الوقوف عن الشبهات ويفعله عدد أقل من الناس.
الكفّ عن كثير من المباحات والاقتصار على أقل الضرورات وذلك للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وتفصيل ذلك الورع عن المباحات التي تشغل عن الله والآخرة ويكون عمله موافقاً للسنّة فلا يتورّع عن الزواج و الطعام مثلاً.(/1)
والورع كما تقدم إذاً عما هو محرم وعن كل شبهة وعن بعض الحلال الذي يُخشى إذا أخذ منه أن يقع في الحرام وإذا أراد خاتمة الورع وأعلى درجة فيه فالورع عن كل ما ليس لله تعالى وبالتالي لو أن الإنسان أخذ من المباح بنية صالح ( أكل بنية التقوِّي،نام بنية الاستيقاظ لقيام الليل، تزوج بنية النفقة على الزوجة وكسب الولد وإعفاف النفس وتكثير المسلمين.......الخ..) تنقلب مباحاته إلى طاعات وعبادات وفي هذه الحالة لا يسوغ له التورّع عنها ، لكن تتورع عن مباح قد يؤدي إلى حرام أو يشغل قلبك عن الله والدار الآخرة..؛ الورع في هذه الحالة سائغ.
والورع كلما أخذ به الإنسان كان أسرع جوازاً على الصراط وأخفّ ظهراً وتتفاوت في الآخرة بحسب التفاوت في درجات الورع وهو تجنب القبائح لصدق النفس وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان وكذلك البعد عن حدود الله سبحانه وتعالى وكذلك فإن الإنسان المسلم ينتبه من الاقتراب من حدود الله، لأن الاقتراب منها يوشك أن يوقعه فيها، (..تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا ..) (البقرة:187) (..تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ..) (البقرة:229) والحدود يراد بها أواخر الحلال حيث نهى عن القربان، والحدود من جهة أخرى قد يراد بها أوائل الحرام ، فلا تتعدوا ما أباح الله لكم ولا تقربوا ما حرّم الله عليكم ، فالورع يخلص العبد من قربان هذه وتعدّي هذه وهو اقتحام الحدود،فمجاوزة الحد في الحلال يمكن أن يوقعه في الكبائر العظيمة.
والإنسان المسلم عليه أن يتورع في الجوانب التي قد يؤدى الولوغ فيها للمهالك سواء في النظر .. في السمع.. في الشم.. في اللسان.. في البطن .. في الفرج..في اليد.. في الرجل .. السعي..وهكذا..
والنبي صلى الله عليه وسلم قد علمنا الورع فقال: ((الإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس))[ رواه الإمام أحمد وصححه الألباني].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنك لن تدع شيئاً لله عزوجل إلا بدّلك الله به ماهو خير لك منه)) [رواه أحمد وقال في مجمع الزوائد رجاله رجال الصحيح].
وجاء عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أربع إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفّة في طُعمة))[قال الهيثمي عنه في مجمع الزوائد رجاله رجال الصحيح].
وفي الحديث العظيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس)) وفي رواية: ((وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا إن حمى الله في أرضه محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد القلب كله ألا وهي القلب))[ رواه البخاري ومسلم].
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من حُسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه)).
نماذج عن الورع :
وحكى لنا النبي صلى الله عليه وسلم عن شخصين فيمن قبلنا تورّعا عن شيء اكتشفاه في الأرض فاشترى رجل من رجل عقار له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك مني إني اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض إنما بعتك الأرض بما فيها،فكل منهما تورع عن أخذ الذهب، فتحاكما إلى رجل عاقل فقال ألكما ولد فقال أحدهما لي غلام وقال الآخر لي جارية، قال أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا )) [رواه البخاري ومسلم].
وكذلك قصة الصحابة الذين لم يشيروا إلى الصيد وهم حُرُم، فيقول أبو قتادة رضي الله عنه: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في القاحة ومنا المحرم ومنا غير المحرم، فرأيت أصحابي يتراءون شيئاً فنظرت - وفي رواية أنهم ضحكوا ولكن لم يشيروا ولم يعينوا-فإذا حمار وحش فوقع سوطه فقالوا لا نعينك عليه بشيء إنا محرمون ، فتناولته فأخذته ثم أتيت الحمار من وراء أكمة فعقرته فأتيت به أصحابي فقال بعضهم كلوا وقال بعضهم لا تأكلوا ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمامنا فسألته فقال كلوه فهو حلال"، فكيف إذاً تورعوا عن الإشارة والمعاونة وعن الأكل منه.
وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتورع عن التمرة يجدها في بيته ،فأخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( كخ..كخ..)) ليطرحها ، ثم قال: (( أما شعرت أننا لا نأكل الصدقة))[رواه البخاري ومسلم]، وهذا فيه منع الولد أو الحفيد من أخذ التمر الذي لا يجوز له أكله مع أنه صبي صغير غير مكلّف ، وأما قصته صلى الله عليه وسلم في التمرة يجدها فقد أخرجها البخاري ومسلم أيضاً أنه قال صلى الله عليه وسلم : ((إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها )) أي لا يأكلها مع أنه جائع.(/2)
وكذلك كان صحابته رضوان الله عليهم فزينب رضي الله عنها حماها الله بالورع في قصة الإفك فمع أنها من ضرائر عائشة وقد وقع المنافقون في عائشة والناس تناقلوا كلام المنافقين وزينب من ضرائر عائشة وكانت تنافسها وتساميها عند النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لما جاء الكلام في عائشة مع وجود الداعي للكلام وأنها من الضرار، تقول عائشة رضي الله عنها : "كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري فقال يا زينب ما علمتِ ..ما رأيتِ؟ فقالت : (يا رسول الله ..والله ما علمت عليها إلا خيراً) قامت وهي التي كانت تساميني عند النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع".
وكذلك كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه سمع صوت زمارة راعٍ والإنسان غير مكلّف بما يسمع ولكن بما يستمع إليه فلا يجوز تقصّد السماع والتلذذ به، فمشى في الطريق بسرعة وابن عمر كان يضع إصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول يا نافع أتسمع فيقول نعم ، فيمضي على حاله واضعاً إصبعيه في أذنيه حتى قلت لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق. [رواه الإمام أحمد وقال أحمد شاكر إسناده صحيح].
وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه بلغ من ورعه في تلك القصة العظيمة التي رواها البخاري وهو أفضل الورعين بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان له غلام يُخرِج له الخراج ،وكان أبو بكر يأكل من خراجه فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام أتدري ما هذا فقال أبو بكر وما هو؟ قال كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه.فأدخل أبو بكر يده فقاءَ كل شيء في بطنه .[رواه البخاري].
وعن نافع عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قد فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة ، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة فقيل له هو من المهاجرين فلم نقصته من أربعة آلاف؟ قال: إنما هاجر به أبواه لأنه كان صغيراً، ليس هو كمن هاجر بنفسه.[رواه البخاري].
وعن ابن شهاب قال ثعلبة بن أبي مالك إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطاً بين نساء من نساء المدينة فبقي مرطٌ جيد فقال له بعض من عنده يا أمير المؤمنين أعطِ هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك ، يريدون أم كلثوم بنت علي لأن عمر تزوجها فتكون حفيدة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر أم سليط أحقّ ، و أم سليط هي من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عمر : فإنها كانت تزفر –تخيط-لنا القرب يوم أحد. [رواه البخاري].
فوائد الورع :
وهذا الورع أيها الأخوة ينتج عن الخوف من الله سبحانه وتعالى، فالخوف يثمر الورع والورع يثمر الزهد، فهذه المسألة مهمة جداً، فالورع له فوائد..
q اتقاء عذاب الرحمن وتحقيق راحة البال للمؤمن وطمأنينة النفس وهذه مسألة مهمة جداً.
q يكفّ عن الحرام.
q يبعده عن إشغال الوقت فيما لا يفيد.
q يجلب محبة الله لأن الله يحب المتورّعين.
q يفيد استجابة الدعاء، لأن الإنسان إذا طهّر مطعمه ومشربه وتورّع يرفع يديه فيجاب له الدعاء.
q مرضاة الرحمن و زيادة الحسنات.
q يتفاوت الناس في الدرجات في الجنة بتفاوتهم في الورع.
والمسلم إذا نقل قلبه من الدنيا فأسكنه في الآخرة وأقبل على القرآن الكريم انفتحت له الأبواب وكان فيمن يستطيع تحمّل هذا الورع، و هناك حلال محضٌ بيّن وحرام محضٌ ومسائل مشتبهة بينهما، فلبس القطن والكتان والصوف والزواج بعقد صحيح وأخذ المال من الميراث أو هبة من إنسان ماله حلال أو شراء شيء ببيع صحيح ، أمور الحلال المحض واضحة، وأمور الحرام واضحة كالميتة والدم والخنزير والخمر ونكاح المحارم ولباس الحرير للرجال وأخذ الأموال المغصوبة والمسروقة والغش والرشوة، أما المشتبهات التي ينبغي للمرء المسلم أن يتورّع عنها مثل:
ما اختلف في حلّه وحرمته
البغل متولّد ما بين الحمير والخيل
جلود السباع ولو كانت مدبوغة
التورّق وهو أن تشتري شيء بالأقساط وتبيعه نقداً لتحصّل سيولة وبعض العلماء لم يجزه مع أن الراجح جوازه لكن المسألة مختلف فيها، ونحو هذا..
إذاً من أسباب الشبهة تنازع العلماء في شيء معين هل هو حلال أو حرام وكل طائفة لهم أدلتهم،ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم حلالاً إلا بيّنه ولا حراماً إلا بيّنه ولكن بعض الناس يخفى عليهم بعض الحلال أو بعض الحرام ، ويتفاوتون في هذا ومن أسباب اختلاف العلماء فيه أنه ينقل في الشيء نصان أحدهما بالتحليل و أحدهما بالتحريم وقد يكون أحدهما صحيح والآخر ضعيف وأحدها ناسخ والآخر منسوخ فيأخذ كل طائفة من العلماء بنص من النصين فيحدث الاختلاف، أحياناً يكون الشيء فيه أمر فيقول بعضهم هذا للوجوب و بعضهم يقول هذا للاستحباب، والورع هو أن تقوم بهذا الأمر. جاء نهي فقال بعض العلماء النهي للتحريم وقال بعضهم النهي للكراهة والورع أن تتركه.(/3)
والعلماء أنفسهم قد تشتبه عليهم أشياء فلا يفتون فيها أو يتوقفون عنها، ومن أمثلة الأشياء المشتبهة ما لا يُعلَم له أصل ملكٍ كما يجده الإنسان في بيته فلا يدري أهو له أم لغيره،النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها))، ولكن من جهة التحريم والحل، فالأصل في المال الموجود في بيتك أنه لك، فجانب الحل أقوى، لكن إذا أردت الورع وتصدقت بهذا المال أحسن..
وكذلك فإن الشيء قد يجتمع فيه أحياناً سبب للحل وسبب للحرمة، فيتركه الإنسان فالنبي صلى الله عليه وسلم علّمنا عن أمور الأصل فيها الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان فلا تحل إلا بيقين،ولو حصل تردد مثل اجتماع سبب حاضر ومبيح نبقى على الأصل فيها وهو التحريم فقال صلى الله عليه وسلم في من أطلق سهماً على صيدٍ أو كلبه على صيدٍ فلما جاء ليمسك بالصيد وجد عنده كلباً آخر لا يدري الذي أمسك كلبه أو الكلب الآخر ، فإذا كان الكلب المعلَّم يجوز صيده، ومعنى ذلك أن الصيد غير المعلَّم لا يجوز صيده، فماذا يفعل إذا وجد مع الفريسة كلباً آخر لا يدري كلبه الذي صاد أو الكلب الآخر، وصل إلى الصيد الذي صاده وقع في الماء فلا يدري هل قتل بالسهم أو قتل بالغرق، الأصل يجوز الأكل مادام السهم أو البندقية خرقت و خزقت و سمّى الله على البندقية وأطلق ولكن وقوع الطائر في الماء يجعله في ريبة هل موت الطائر بفعل الرمية التي رماها أم الغرق فيتركه.
لو جاء رجل لأرض أو لسجادة وقال لنفسه هذا رجل لديه أبناء قد يكونون بالوا عليها،فأنا لن أصلي عليها، تورّع عن الصلاة عليها فما حكم هذا التورّع، هل هو شرعي أم لا؟
هذا تورع غير شرعي لأنه خالف الأصل بدون أي قرينة،والأصل في الأشياء الطهارة، فيكون هذا ورعاً فاسداً.
فسّر الإمام أحمد رحمه الله الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام –يعني الحلال المحض والحرام المحض-وقال من اتقاها فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام.
ومن ضمن الأمثلة أيضاً معاملة من ماله مختلط ، رجل يرابي ويبيع ويشتري، عنده حلال وحرام، فقال العلماء إذا كان أكثر ماله الحرام قال الإمام أحمد : ينبغي أن يجتنبه إلا أن يكون يسيراً أو لا يُعرَف، والحرام غير معيّن وليس معروفاً، فيجوز الأكل والورع تركه.وقال الزهري: لا بأس أن يُؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه . وقال سفيان: تركه أعجبُ إليّ.وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه:إن كان المال كثيراً أخرج منه قدر الحرام وتصرّف في الباقي، وإن كان المال قليلاً اجتنبه كله، وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئاً فإنه تبعد معه السلامة من الحرام . ورخّص قومٌ من السلف في الأكل ممن يُعلَم في ماله حرام ولكن لا يُعلَم على التعيين ما هو الحرام، وهذه هي الخلاصة: يجوز معاملة من ماله مختلط إذا ما علمنا الحرام أين بالضبط والورع ألا يأخذ منه.
وكذلك فإن الاستبراء للدين مهم جداً في حياة الدين المسلم، والإنسان قد لا يشبع من الشبهة وقال الثوري رحمه الله في الرجل يجد في بيته الأفلس والدراهم: أحب إليّ أن يتنزّه عنها إذا لم يدري من أين هي.
ولا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس كما روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً وقال حسن غريب وفي سنده عبدالله بن يزيد الدمشقي وهو ضعيف.
ومن تمام التقوى أن يتقِ الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة ، وقال الحسن:مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام ، وقال الثوري: إنما سمّوا المتقين لأنهم اتقوا مالا يُتّقى. وقال ابن عمر: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها. وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال وحتى يدع الإثم وما تشابه منه.(/4)
وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (( الإثم ماحاك في الصدر وكرهت أن يطّلع عليه الناس))، إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجاً وضيقاً وقلقاً واضطراباً فلم ينشرح له الصدر ومع هذا فإنه عند الناس مستنكر بحيث ينكرونه عند إطلاعهم عليه . لكن الإنسان قد يقلق من أشياء لجهله فلينتبه من هذا وليسأل أهل العلم ، وهنا تظهر أهمية الاستفتاء وسؤال أهل الذكر الثقات.الصحابة تحرجوا من أن يأكلوا من اللحم الذي صاده أبو قتادة فالنبي صلى الله عليه وسلم أكل، و فرّق العلماء بين ما صيد لأجله(لأجل المحرم) وما صاده الحلال لا لأجل المحرم فيجوز للمحرِم أن يأكل منه.لكن لو أن الشخص الحلال غير المحرم صاد لك أنت أيها المحرِم فلا تأكل. والمقصود أن سؤال أهل العلم الثقات مما يريح الإنسان فينبغي أن لا ينسى هذا وأن يكون على ذكر منه. دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت. الإثم حوازّ القلوب تحز في القلوب والنفوس. وكذلك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة وكان بعض العلماء يعرفون الحديث الضعيف بأمور بقلوبهم وهذا ليس إلا للعلماء النقاد الكبار و أما طلبة العلم العاديين فلا يمكن أن يعرف ذلك بقلبه إلا فيما ندر.
وطلب الحلال فرض على كل مسلم، وقد ادعى بعض الجهّال أن الحلال في الأرض انتهى ،وبعضهم قال باقي الحشيش والكلأ في البر والأراضي التي ليس لها أحد ونهر الفرات؛ وهذا تضييق على عباد الله ومن الجهل وقلة العلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه القاعدة المهمة جداً (( الحلل بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات))، والحلال كله طيب ولكن بعضه أطيب من بعض ، والحرام كله خبيث ولكن بعضه أخبث من بعض ، والإنسان المسلم قد يكون عنده الحلال معلوماً من قبل ثم يقع في شك فلا يلتفت لهذه الوسوسة إذا لم يكن لها دليل ولا قرينة وكذلك قد يكون يعرف الحرام من قبل فيأتي في نفسه وسوسة أن هذا ليس حراماً بدون علم ولا خبر ثقة أفتاه به أهل العلم فلا يلتفت إليه، و قد يعرف الإنسان الحل ويشك في المحرم فيكون الأصل الحل كما تقدم وهناك مثال يضربه بعض الفقهاء ويدل على قلة عقل من وقع فيه قال: اثنان وقفا فجاء طائر فاختلفا هل هذا غراب أم لا؟ فقال أحدهم عليه الطلاق أنه غراب، وقال الآخر عليه الطلاق أنه ليس بغراب، فلما أرادا أن يأتيا للتحقق طار الطائر ولم يدركاه، فصارت مشكلة فزوجة مَن طالق..!، فبعض الناس يفعل أشياء من قلة العقل، وفي هذه الحالة يقول العلماء : الأصل بقاء النكاح وحل المرأة للرجل، احتمال الطلاق وارد ومشكوك فيه. ولذلك فإن على الإنسان أن لا يورد نفسه في الموارد التي يتسبب بها في الحرج في نفسه وأن يقع في تعذيب النفس والشك، وقد يدخل الشك على بعض الناس في قضايا لا يشرع لهم أبداً السؤال فيها، فهل يجوز لإنسان دخل على بيت مسلم مستور ما يعرف عنه أي ريبة، وُضِع له الطعام ، أن يقول له : المال الذي اشتريت به هذا العشاء من أين أتيت به. هل هذا من الورع..؟!!، وفي ذلك إيذاء للمسلم لأن سؤالك هذا اتهام له..!واتهام المسلم ووضعه في موضع الشك بدون قرينة ولا دليل ولا بينة لا يجوز وسوء ظن، وإيذاء المسلم للمسلم حرام.
أحياناً تأتي أشياء تستدعي التورع مثلاً إذا دخل حلال قليل في حرام كثير فعند ذلك تكون هذه القضية مما يدفع الإنسان إلى الورع فعلاً. كذلك إذا كانت القضية في الأبضاع واللحوم كما تقدم. مثلاً هناك امرأة ثقة و جئتَ لتخطب فتاة فقالت أنا أرضعتها أو أرضعت أختها، أنا متأكدة أني أرضعت إحدى الأختين، لا أدري أيهما، فالورع أن تترك الزواج من كلتيهما. مثلاً اثنان ذبحا ذبيحتين ، إحداها ذبحها هندوسي والأخرى ذبحها مسلم ، جئت لتشتري وأنت تعلم ذلك ولكن لا تدري أيتهما التي ذبحها هذا و أيهما التي ذبحها الآخر فلا تشتري. مسألة اللحوم والأبضاع شديدة في الشرع ولذلك يحتاط فيها في أشياء أكثر من غيرها، ولكن بشرط أن لا يصل إلى الوسوسة أيضاً ، فلو أن هذه ذبيحة مسلم لا يجوز لك أن تشك فيها. إذاً هناك وسوسة في هذه القضايا لا يجوز الالتفات إليها ، وورع الموسوسين مثاله؛ قال ابن حجر في فتح الباري: "ورع الموسوسين كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون الصيد كان لإنسان ثم أفلت منه، وكمن يترك شراء ما يحتاج إليه من مجهول لا يدري أماله حلال أم حرام، وليست هناك علامة تدل على الثاني ".(/5)
هناك مسائل من الورع الدقيق لا تليق بكل الأشخاص. قال ابن رجب رحمه الله : " وهاهنا أمر ينبغي التفطّن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها وتشابهت أعماله في التقوى والورع -فهذا لو دقق يقبل منه التدقيق-، أما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ثم يريد أن يتورّع عن شيء من دقائق الشبه فإنه لا يحتمل له ذلك بل ينكر عليه" كما قال ابن عمر لأهل العراق لما جاءوا يسألونه عن دم البعوض وفيهم ممن قتل الحسين بن علي رضي الله عنه ، قالوا المحرم إذا قتل بعوضة يجوز أم عليه فدية ، فقال : "يسألوني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين وقد قال صلى الله عليه وسلم هما ريحانتاي من الجنة؟!!".
وسُئِل الإمام أحمد عن رجل يشتري بقلاً ويشترط الخوصة ، فقال الإمام أحمد: ما هذه المسائل؟ قالوا: إنه إبراهيم بن أبي نعيم . فقال: إن كان إبراهيم بن أبي نعيم فنعم هذا يشبه ذاك (هو من كبار الزهاد العابدين).ولذلك لما جاء رجل إلى الإمام أحمد يقول إن أمه تأمره بطلاق زوجته ، قال: إن كان برّ أمه في كل شيء ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل..!
فالخلاصة أن الورع منه دقائق لا تليق بأي أحد، بل ينكر على من تورع فيها إذا كان من أولئك الفسقة أو المتساهلين ، وعلى أية حال فإن الورع هو من العبادات العظيمة وملاك الدين الورع، والفقية الورع الزاهد المقيم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم له أجره العظيم يوم الدين ، والإنسان ينبغي أن يضع نفسه في الموضع الصحيح في مسألة الورع كما قال الأوزاعي: ( كنا نمزح ونضحك فلما صرنا يُقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسُّم).وهذا الورع يُتَعَلَّم ، كما قال الضحّاك بن عثمان رحمه الله : (أدركت الناس وهم يتعلمون الورع وهم اليوم يتعلمون الكلام) ، والإنسان إذا تورّع لن يعدم الحلال ولا يظن أنه سيضيق على نفسه ضيقاً لا مخرج منه فإنه يلتمس الورع الشرعي مثلما تقدم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
المصدر : موقع الصوتيات والمرئيات الإسلام(/6)
الوسطية من أبرز خصائص هذه الأمة
عبد الحكيم بن محمد بلال
إن سنة الله (عز وجل) في خلقه للكون والحياة: التكامل والتوازن، وقد خلق (جل وعلا) الإنسان في أحسن تقويم، وجعله يحوي جوانب كثيرة مختلفة: عقلاً، وروحاً، وجسداً، وعواطف، ومشاعر، ولكلٍّ منها حق، ولا يمكن الوفاء بكل حقوقها إلا بتوازن يكمِّلها جميعاً، ولا يغلِّب جانباً منها على حساب جانب آخر.
وذلك التوازن هو: الوسطية التي جاء بها الإسلام، وهي الصراط المستقيم.
حتى نفهم الوسطية (1):
لا تخرج معاني الوسطية عن: العدل والفضل والخيرية، والنِّصف والبينية، والتوسط بين طرفين، فقد استقر عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة (الوسط) أرادوا معاني: الخير والعدل والنّصَفَة، والجودة والرفعة والمكانة العالية.
ولا يصح إطلاق مصطلح (الوسطية) على أمر إلا إذا توفرت فيه صفتان:
1- الخيرية، أو ما يدل عليها.
2- البينية، سواء أكانت حسية أو معنوية.
كما يقصد بالتوازن في الشريعة الإسلامية: النظر في كل الجوانب، وعدم طغيان جانب على آخر، وذلك باجتناب الغلو والجفاء..
ولا بد من فهم حقيقة هذين الأمرين؛ لتفهم حقيقة الوسطية والتوازن، فإنه لا يمكن تحقيقها إلا بعد الفهم السليم لها.
معالم في فهم الوسطية:
أولاً: الغلو والإفراط:
قال الله (تعالى): ((يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)) [النساء: 171]، وقال : (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) (2).
والغلو: المبالغة في الشيء، والتشديد فيه بتجاوز الحد، فحقيقته: مبالغة في الالتزام في الدين، وليس خروجاً عنه في الأصل، ويكون متعلقاً بفقه النصوص، أو الأحكام، أو الحكم على الآخرين، وكما يكون فعلاً فإنه يكون تركاً، كترك النوم وتحريم الطيبات، وليس منه: طلب الأكمل من العبادة، بل هو تجاوز الأكمل إلى المشقة، ومعلوم أن الحكم بالغلو على شخص أو فعل لا يجوز إلا بالكتاب والسنة، ولا يقدر عليه إلا العلماء.
وقد أُتِيتْ بعض الدعوات والحركات من هذا الباب، فاستلزم الحذر منه، ومعرفة آفاته ومظاهره وأسبابه ليحذر منه.
فمن أخطار الغلو في الدين وعيوبه وآثاره (3):
1- كراهية الناس ونفورهم، وانفضاض الأنصار، قال : (إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة) (4).
2- الفتور أو الانقطاع، فالإنسان ملول، وطاقته محدودة.
وقد وضح طبيعة هذا الدين فقال: (إن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة) (5).
فبَيّن أنه لا يتعمق أحد في العبادة، ويترك الرفق ـ كالرهبان ـ إلا عجز، فيُغلب.
3- التقصير في الحقوق والواجبات الأخرى، وانظر قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما): (فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام)..؛ (فإن لزوجك عليك حقّاً، ولزورك عليك حقّاً، ولجسدك عليك حقّاً)(6).
4- تضييع العمر فيما لا فائدة فيه، بل ما فيه الضرر.
5- الفرقة والتمزق في الصف الإسلامي، وهو ما نشاهده ونعيشه كثيراً.
وللغلو مظاهر كثيرة، منها (7):
كثرة الافتراضات والسؤالات عما لم يقع، والمبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو تضييع الواجب، والعدول عن الرخصة في موضعها إلى العزيمة، والاشتغال بمسائل الفروع على حساب الأصول، واستفراغ الجهد في المختلف فيه مع إهمال المجمع عليه، علماً وعملاً، ومن المظاهر أيضاً: التعصب للرأي، وعدم الاعتراف بالرأي الآخر، وإلزام جمهور الناس بما لم يلزمهم به الله، والتشديد في غير محله، ككونه في غير مكانه أو زمانه أو أهله، ومنها: الغلظة والجفاء والخشونة في غير الجهاد وإقامة الحدود، وسوء الظن بالآخرين، وتهمتهم وإدانتهم، والسقوط في هاوية التكفير بلا ضوابط شرعية.
أسباب الغلو:
وللغلو دوافع وأسباب، منها:
ـ البيئة الغالية، أو المستخدمة للشدة والضغط والإكراه، ومنها: التكوين النفسي والفكري لبعض المغالين، والذكاء مع الفراغ وعدم البصيرة بالأولويات، والاعتماد على النفس من أول الأمر في تحصيل العلم أو المعرفة، أو التلقي عن الجاهلين، مع خلو الساحة من العلماء الذين يضبطون الفكر والتصور والسلوك، والتصدر للفتوى والاجتهاد قبل الاستواء والنضج.
ـ الرغبة في الطاعة مع الجهل بالسنة.
ـ وقد يكون من الأسباب أحياناً: الحظوظ النفسية، والإغراء بالدنيا.
ـ ومن أبلغ الأسباب تأثيراً: تعطيل شرع الله في الأرض، والعلمنة الصريحة، وإعراض أكثر المسلمين عن دينهم، متمثلاً في: كثرة البدع والعقائد الفاسدة، والإعراض عن منهج السلف، وشيوع الفساد، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التقصير في القيام بذلك، وشيوع الظلم، وتحكم الكافرين في مصالح المسلمين، ومحاربة التمسك بالدين، والجفوة بين العلماء والشباب، والخلل في مناهج بعض الدعوات، مع وجود قوة العاطفة لدى فئات من الشباب.(/1)
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينكر كل بادرة غلو، وينهى عن ذلك أشد النهي، كما في قصة النفر الثلاثة، الذين عزموا على الصيام، والقيام، وترك النساء (8)، وأخبر أيضاً بهلكة المتنطعين (9)، وأراد أن ينكل بمن واصلوا معه في الصيام(10)، وقد نهاهم عنه، ليرتدعوا.. وما ذاك إلا لأن الغلو شطط وانحراف وبُعْدٌ عن الصراط المستقيم، ونافذة على الانحراف والضلال.
ثانياً: التفريط والجفاء:
التفريط هو: التضييع، والتقصير، والترك، ومنشؤه ـ غالباً ـ: التساهل والتهاون.
والجفاء هو: الترك، والبعد، ويستعمل ـ غالباً ـ فيما فيه قصد الأمر، من الترك والبعد وسوء الخلق.
ومن مظاهر التفريط:
تأخير الصلاة عن وقتها، وترك إنكار المنكرات، وإهمال تربية الأولاد، وترك الأخذ بالأسباب، والغلظة في المعاملة، والسلبية تجاه الاهتمام بواقع المسلمين.
ويبدو خطر التفريط واضحاً في كونه عين العجز والكسل، ولا يتحقق به أمر الله (تعالى) ـ كما أراده (سبحانه) ـ، وأنه يقطع الإنسان عن كثير من الأجور والدرجات، فقد يخرجه من دائرة أولياء الله الصالحين، وقد يعرضه للوعيد والعقوبة، وقد يجره إلى الانحراف (والعياذ بالله).
وسببه إما أن يكون: الجهل، أو الكسل.
فأما الكسل: فما أكثر ما استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من العجز والكسل؛ الكسل الناتج من إيثار العاجلة، ونسيان الآخرة، وهو نوع من الظلم.
وأما الجهل: فداء عضال، وأَقْبِحْ باتصاف الداعية به، خاصة إذا كان الإخلال بالقدر الواجب من العلم، المتعين أو الكفائي، أو حتى القدر المستحب.
وقد يكون السبب في التفريط: الاستجابة لضغط الواقع، أو الهروب من تهمة التطرف والغلو.. ونحو ذلك مما يكون ـ في الغالب ـ إفرازاً لانحراف في المنهج، ومظهراً من مظاهر الانحراف في الفهم.
ثالثاً: الصراط المستقيم:
وهذا المعلم لا يمكن فهم الوسطية دون فهمه، ومعناه: الطريق الواضح الهادي، وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه، وهو كتاب الله، أو الإسلام، أو الرسول، أو السنة والجماعة، وحاصل كل ذلك: المتابعة لله ورسوله.
ومعنى الصراط المستقيم يدل على الوسطية في مفهومها الشرعي الاصطلاحي، فمثلاً في سورة الفاتحة جعله الله طريق الخيار الذين أنعم عليهم، وهو بين طريقي المغضوب عليهم والضالين، وفي سورة البقرة ذكره ثم ربطه بالوسطية، فقال: ((يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)) [البقرة: 142، 143]، فالصراط المستقيم يمثل أعلى درجات الوسطية.
والقرآن الكريم، وكذا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، يرشدان إلى التوسط، ويذمان التقصير والغلو، وسورة الفاتحة قد وضعت القاعدة والمنطلق، ورسمت المنهج، وحددت معالمه، ثم جاءت الآيات مقررة، قال الله (تعالى): ((إنَّ اللَّهَ يَاًمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ)) [النحل: 90]، وقال (تعالى): ((قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ)) [الأعراف: 29]، والعدل في كل الأمور: لزوم الحد فيها، وألا يغلو ويتجاوز الحد، كما لا يقصر ويدع بعض الحق.
وانظر إلى الوسطية واضحة في مثل قوله (تعالى): ((وَالَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)) [الفرقان: 67]، وفي قوله (تعالى): ((وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)) [القصص: 77]، وقوله (تعالى): ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً)) [البقرة: 201]، وفي دعائه: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي...) (11).
وكذا: فإن الوسطية سمة ثابتة بارزة في كل باب من أبواب الإسلام: في الاعتقاد، والتشريع، والتكليف، والعبادة، والشهادة والحكم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والأخلاق والمعاملة، وكسب المال وإنفاقه، ومطالب النفس وشهواتها..
ملامح الوسطية وسماتها وضوابطها:
وتحديد ذلك ضروري؛ لتتميز الوسطية عن غيرها، ولئلا تكون مجالاً لأصحاب الأهواء والشهوات، ومن تلك الملامح:
1- الخيرية: وهي تحقيق الإيمان الشامل، يحوطه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- الاستقامة: وهي لزوم المنهج المستقيم بلا انحراف، فالوسطية لا تعني التنازل أو التميع أبداً.
3- البينية: وذلك واضح في كل أبواب الدين، فالصراط المستقيم بين صراطي المغضوب عليهم والضالين.
4- اليسر ورفع الحرج: وهي سمة لازمة للوسطية.
5- العدل والحكمة: وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الوسط بالعدل (12)، وذلك هو معنى الخيار؛ وذلك لأن خيار الناس: عدولهم.
والوسطية أمر نسبي يخضع تحديده لعدة عوامل لا بد من مراعاتها، ولا يتحقق ذلك إلا بإتقان الحكمة.
مثال تطبيقي للوسطية: فعل السنن:
تتمثل مظاهر البعد عن السنة في اتجاهين (13):(/2)
الاتجاه الأول: التفريط والجفاء، ومن مظاهره: عدم العناية بها، ودعوى تقسيم الإسلام إلى لب وقشور، والانشغال بالقضايا المعاصرة فقط.
الاتجاه الثاني: الغلو، ومن مظاهره: تتبع الغرائب من السنن، والاهتمام بها على حساب الواجبات، والاهتمام بها على حساب القضايا المعاصرة، والإكثار من طرحها وإثارتها، والتكلف والتشدد في تطبيقها.
والواجب: العناية بالإسلام جملة وتفصيلاً، بالسنة والواجبات، مع الحرص على إحياء السنن المهجورة، كالتبكير للصلاة، والتبكير للجمعة، وقيام الليل، والجلوس في المسجد للذكر بعد الصبح، لما لذلك من أثر في إحياء القلوب، وإزالة قسوتها..
ولا بد من التحلي بالحكمة والتأني، وعدم التكلف، ولايسوغ الإكثار من طرحها وإثارتها على حساب ما هو أهم منها، بل يكفي تأصيلها.
نحو تربية متكاملة متوازنة:
إن التربية التي نحتاجها اليوم هي التي تأخذ الإسلام جملة وتفصيلاً، وتراعي شخصية الفرد بجميع جوانبها وأبعادها، مع التوازن في تربية الجوانب المختلفة: العقلية، والمعرفية، والوجدانية، كما توازن أيضاً في رعاية الجانب الواحد، كالجانب العقلي مثلاً، وهذا بالنسبة للفرد.
وعلى صعيد المجتمع: ينبغي ألا تكون التربية نخبوية تخص فئة من الناس دون غيرهم، وتهمل بقية الفئات، كما ينبغي أن تتكامل كل المؤسسات التربوية وتتظافر جهودها، وأن تتكامل الجهود داخل المؤسسة التربوية الواحدة، وكذلك أن تتكامل في استخدام الوسائل التربوية.
ومما يعين على ذلك: التفكير، والتخطيط، والترتيب للعملية التربوية، ووضع الأهداف الواضحة المنضبطة بالضوابط الشرعية مع المراجعة المستمرة؛ لتلافي الأخطاء، وألا تكون التربية مجرد استجابة لردود الأفعال.
ومما يجب التنبه له: أن التوازن والتكامل لا يعني أن يحمل كل شخص قدراً متساوياً من كل جانب؛ وذلك لاختلاف الأشخاص في القدرات والمواهب، ولحاجة الأمة إلى أبواب كثيرة تستدعي أن تُعنى بكل جانب فئةٌ من الفئات، كما لا يعني التوازن: ترك التخصص (14).
وجدير بالذكر: أن فهم الوسطية تزول به إشكالات كثيرة، يكثر السؤال عنها ـ بسبب عدم فهم الوسطية ـ كالتوفيق بين: العلم، والعبادة، والدعوة، والجهاد... إلخ.
تلاميذ المدرسة النبوية:
وقد كان نتاج تربية النبي -صلى الله عليه وسلم- لصحابته أن عُرفوا باستجابتهم لأمر الله (تعالى)، ومسارعتهم إلى الطاعة، حتى صار لهم في كل ميدان سهم، مع تحقيق التوازن في أنفسهم بحيث لا يُغلِّبون جانباً على حساب آخر، وتحقيقه أيضاً في المجتمع؛ حيث كان منهم متخصصون في كل ميدان هم أساتذته ومراجعه، ولم يكن ينكر بعضهم على بعض من ذلك شيئاً، بل كان من سجيتهم أن يعرف بعضهم حقوق بعض، رضي الله عنهم.
واليوم نقول ما قاله قديماً معاوية بن قرة (رحمه الله): (من يدلني على رجل بكّاء بالليل، بسّام بالنهار؟)(15).
وختاماً: عن الحسن قال: (السنة ـ والذي لا إله إلا هو ـ بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك ـ إن شاء الله ـ فكونوا)(16).
الهوامش :
1) انظر: الوسطية في ضوء القرآن الكريم، د. ناصر العمر.
2) أخرجه النسائي، وانظر صحيح سنن النسائي، ح/2863.
3) انظر: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، د. يوسف القرضاوي.
4) رواه البخاري، ح/702.
5) رواه البخاري، ح/39.
6) رواه مسلم، ح/1159.
7) انظر: آفات على الطريق، د. السيد محمد نوح، جـ 3، ص 193.
8) البخاري، 6/116.
9) صحيح مسلم، ح/1104.
10) مسلم، ح/2670.
11) مسلم، ح/2720.
12) المسند، 3/32، والترمذي، ح/2961.
13) انظر مقالاً بعنوان: تطبيق السنة بين الغلو والجفاء، لمحمد الدويش، مجلة البيان، ع/36، ص 36.
14) مقتبس من محاضرة بعنوان: التكامل والتوازن في التربية، للشيخ محمد الدويش، وانظر رسالة بعنوان: التنازع والتوازن في حياة المسلم، لمحمد حسن بن عقيل موسى، فقد بيّن جوانب التوازن المطلوبة في نوازع العلم والعبادة والدعوة والجهاد وطلب المال، وأسس ذلك التوازن.
15) سير أعلام النبلاء، جـ5، ص 154.
16) إغاثة اللهفان، 1/70.
Cd مجلة البيان(/3)
الوصايا الربانية (1)
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
وقفات ستتوالى بإذن الله عز وجل مع وصايا في غاية الأهمية ، أبدأها بلفت النظر إلى أهميتها ؛ فقد روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال: ( من يبايعني على هذه الآيات ، وتلا : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ... } إلى ثلاث آيات ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( فمن وفى فأجره على الله ومن انتقص شيئا أدركه الله بها - أي في الدنيا كانت عقوبته- ومن أخر إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له )
رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه - قال مقالة عظيمة تكشف عن أهمية ما نقف معه من هذه الوصايا القرآنية – قال :
" من أراد أن يقرأ صحيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات : { قل تعالوا أتل ما حرم عليكم ... } "
وصية مختومة ممهورة بختم ومهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر القرطبي هذه الرواية عن غير ابن مسعود وقال فيها:
" وعليها خاتمه التي لم ينفك فهذه الوصية التي وجهها الحق جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم وجعلت خطابا وتوجيها لأمته هي التي رأى الصحابة أنها خلاصة تلك الوصية وخلاصة تلك الديانة العظيمة والشريعة الكاملة التي بُعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم "
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : " في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب "
وذكر ذلك القرطبي نقلاً عن ابن عباس بقوله: " الآيات المحكمات التي ذكرها الله جلا وعلا في آل عمران أجمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ في ملة قط " .
أفليس مثل هذه الوصايا حري بنا أن نعنى بها وهي آيات تتلى في كتاب الله عز وجل وهداية وجهت لخير الخلق عليه الصلاة والسلام ؛ ولذا فإننا نقف معها هذه الوقفات المتتاليات .. نسأل الله عز وجل أن يفتح علينا بها وفي معانيها وأن يوفقنا لحسن قبولها والعمل بها .
{ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً }
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما ذكر القرطبي أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس ما حرم الله عليهم قال: " وهكذا يجب على من بعده من العلماء أن يبلغوا الناس ويبينوا لهم ما حرم الله عليهم ، وما أحلّ لقوله تعالى: { لتبيننه للناس ولا تكتمونه} فما نقوله اليوم يكون حجة لنا أو علينا ؛ فإن امتثلنا وعملنا وإن بلغنا ودعونا وذكرنا كان ذلك نوراً على نور ، وهدى على هدى وتقى على تقى ، وإن كانت الأخرى قامت الحجة ، وانقطع العذر ، وصارت الأمر إما إلى عقوبة معجلة أو مؤجلة أو إلى رحمة من الله واسعة " .
نسأل الله عز وجل من فضله ، وثمت أمر آخر، وهو الخطاب الذي يوجهه النبي صلى الله عليه وسلم ويوجهه من بعده من حملة رسالته ، وأتباع سنته .
{قل تعالوا } لمن هذا النداء إنه للخلق جميعا ويخص المسلمين وغير المسلمين معاً ؛ فإن هذا النداء هو نداء هذه الشريعة الخاتمة والرسالة التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم ، وما سبق من هذه الآيات يبين لنا حكمة وموضع هذه الآيات في هذا السياق ؛ لأن الآيات السابقة كانت تخاطبنا عن المشركين من أهل الجاهلية وأفعالهم الشنيعة التي أحلّوا فيها ما حرّم الله ، وحرموا فيها ما أحلّ الله إتباعاً لأهوائهم ، وتقريراً لأعرافهم ، وتثبيتا لجاهليتهم .
ومن هنا جاء الخطاب الرباني في مواجهتهم قبل هذه الآيات والوصايا : {قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون } .
أولئك الذين حرّفوا وبدلوا وغيّروا .. جاء النداء لتصحيح المسار ؛ فإنه لا حلال إلا ما أحل الله ، ولا حرام إلا ما حرّم الله ، ولا شرع إلا ما جاء عن الله أو بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } .
ليس هناك اختيارات ليس هناك أنواع من الأهواء التي تفضل شيئا وتؤخره وإلا كان ذلك ضرباً من مناقضة أصل الإيمان ومخالفة صفاء التوحيد : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما } .(/1)
{ويسلموا تسليما } أي يقبلوا قبولا تاما من أعماق قلوبهم ونفوسهم ، دون أدنى شك ولا أقل حرج ولا أيسر معارضة ولا شيء مما فيه ضرب من الاعتراض بحال من الأحوال، ولذلك جاء هذا الخطاب وهذه الوصية التي أُمر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام لتبين لنا جملة الأمور المهمة كما روي عن ابن عباس أن هذه الوصايا قد أجمعت عليها الشرائع كلها ولم ينسخ منها شيء قط ، وأنها خلاصة وجوهر هذا الدين ، وأنها التي بها العصمة من كل زلل ومن كل فتنة والتي من استمسك بها فقد أدّى ما عليه وقد وفّى لله جلا وعلا بما أمره به ونهاه عنه ، ومن بعد ذلك من قصّر أو فرّط فحسابه على الله عز وجل .
ومن هنا فإن هذه الآيات والوصايا تشتمل على أصول المحرمات في الأقوال والأفعال وأصول الفضائل ، وأنواع البر فهي تجمع ما نهي عنه ، وما أمر به من الكليات التي تستقيم بها الحياة ابتداء من اعتقاد القلب ويقين النفس ، وانتهاء بفعل الجوارح والسلوك ، ومروراً بألفاظ اللسان وأقواله ، وتعريجاً على العلاقات والصلات والمعاملات والأحكام والتشريعات .. فهي شاملة لذلك كله ففيها قوام الدين كله ؛ لأنها تشتمل على جوهر هذا الدين العظيم ..
قل للمتبعين لأهوائهم الذين يقدمون الظنون على الحقائق ، والذين يحللون ويحرمون بحسب أهواءهم .. قل لهم : { تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم }
فإن الذي يحل ويحرم إنما هو ما ثبت بالوحي وجاء به الشرع الكريم ونطق به الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم ، ولقد كانت استجابة الأصحاب في زمن المصطفى عليه الصلاة والسلام استجابة فريدة نادرة ذلك أنه قال لهم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )
فكانت استجابتهم ليست مقتصرة على مجرد امتثال الأمر واجتناب النهي بل المبادرة إلى ذلك في الفعل سبقاً وحرصاً ومبالغة ربما عند بعض الناس في بعض الأحوال، كما كان ابن عمر رضي الله عنهما يحرص على اقتفاء السنة وإتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم حتى ينيخ ناقته حيث أناخ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته وحتى يستظل في سفره بالشجرة التي استظل النبي صلى الله عليه وسلم تحتها، فلا يدع شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة إلا حرص أن يترسم فيها خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما قال ما قال وجاءه بعض الناس بأقوال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال : " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال رسول صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر " .
ليبّن أن المعقد إنما هو في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الأقوال إنما تفهم في ضوءهما وترجع إليهما وتنطلق منهما ، وما وافقها فهو الحق وما خالفها فربما كان اجتهادا وقع فيه خطأ .. وهكذا نرى من جهة أخرى جانب الانتهاء عن التحريم ، فلقد كان الصحابة رضوان الله عليهم كما وصف الحسن رضي الله عنه قال : " كان يدعون بينهم وبين الحرام سبعون باباً من الحلال " ؛ أي يتقون الشبهات ويبتعدون عن المحرمات بعداً عظيماً ؛ لما سيأتي ذكره في هذه الآيات والوصايا كما في قوله : {ولا تقربوا الفواحش } ؛ اجعلوا بينكم وبينها مسافة لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد قال : ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات يوشك أن يقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) .
وكم هي أقوالنا اليوم هذا لا بأس به وهذا ربما كان ليس فيه شيء وهذا ربما كان من المكروهات فما زلنا نفعل هذا ونغض الطرف عن هذا ونقع في هذا حتى وقعنا في جملة أحوالنا في كثير من المحرمات إلا من رحم الله عز وجل .
روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدّث إلى أصحابه يوماً وفي يده حرير وذهب وقال: ( إن هذان حرام على ذكور أمتي حلال على إناثها ) .
وكان في القوم رجل في يده خاتم من ذهب فنزعه من فوره ووضعه فلما انتهى المجلس قالوا له : لو أخذت خاتمك فانتفعت به . فقال : ما كنت لآخذه وقد طرحته لله ولرسوله .
مع حلّ ذلك لكنهم كانوا يريدون أن لا يكون بينهم وبين شيء من النهي صلة ولا تعلق .
ولما نزل قوله جل وعلا : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } .
لم تبقى لحظة واحدة ، ولا دقيقة واحدة قبل التنفيذ بل كانت المبادرة التي شُقت فيها قنان الخمر وسكبت الكؤوس من الأيدي ، ومُجت تلك القطرات من الأفواه ؛ لأن القلوب مسلمة لأمر الله ؛ لأن الإيمان مستكن فيها ومستقر فيها ولسان حالها كما قال جل وعلا : {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} .(/2)
هذه الآيات موجهة لهذه الحقيقة الكبرى وفي ظلالها، وبعد الآيات التي فصلت فيها فيما كان عليه أهل الشرك والجاهلية في زمان مضى وهي كذلك في جاهلية اليوم وأزمنة العصر الحاضر تختلف صورها تختلف مظاهرها لكن تتحد حقائقها وتتفق أصولها في مناقضتها ومخالفتها لأمر الله عز وجل وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم}
جملة هذه الوصايا فيها قيام الحياة كلها قيام حياة القلوب بالتوحيد والإيمان وقوام حياة الأسرة بالبر والإحسان وقوام حياة المجتمع بالعفة والطهارة وقوام حياة الإنسانية بالعدل والوفاء فالإسلام العظيم يربي الفرد ويقيم الأسرة ويطهر المجتمع ويظلل الإنسانية بعدالته.
دين كامل وتشريع عظيم هذه الوصايا موجزة في ثلاث آيات فحسب اشتملت على جملة من المأورات والمحظورات التي بها تستقيم حياة الناس جميعا مسلمهم وغير مسلمهم ؛ فإن الإسلام جاء بالعدل والإنصاف والوفاء بالحقوق وإعطاء الناس ما لهم ومطالبتهم بما عليهم ..
{ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } .
والآيات فيها أوامر وليس كلها محرمات قال المفسرون:
" إن ذكر أصول المحرمات يدل على ما يقابلها من المباحات وإن الله نوع بين نهي عن محرم وأمر ببر وواجب ليشتمل ذلك على هذا وذاك كل بحسبه في بلاغة القرآن المعجزة فبماذا كانت البداية .. "
{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا }
أول الأمر وبدايته الإيمان بالله خالصا له سبحانه وتعالى ، والتوحيد له نقيا من كل شائبة ؛ ولعلنا هنا نقف وقفات عديدة ؛ لأن الناس يتصورن الشرك في تلك الأصنام التي كانت حول الكعبة في مكة، يتصورونه فيمن يسجد لتلك الأصنام أو يذبح لها ويقتصر ذهنهم وفهمهم على مناقضة التوحيد أو مخالطته بغير ما هو عليه وما هو منه بهذه الصورة فحسب !
ولذلك ينبغي أن ننتبه أن القرآن في هذه الوصايا بدأ بأكبر المحرمات وأفظعها وأشدها إفساداً للعقل والفطرة وهو الشرك بالله وتعالى ؛ سواء كان شرك باتخاذ الأنداد له - جل وعلا - أو باتخاذ شركاء يرى أنهم يشاركونه في تصريفه للأمور وتدبيره لها ، أو اتخاذ شفعاء يكونون عنده وسطاء ، أو اتخاذ تشريع وحكم غير تشريعه وحكمه الذي أنزله في كتابه وبلغه رسوله صلى الله عليه وسلم فكل شيء وكل ضرب من ضروب الشرك ينبغي أن يكون في أعظم قائمة المحرمات المنهي عنها التي تحفظ القلب والنفس ، والتي يقوم عليها البناء .. إذ التوحيد قاعدة بناء الإسلام : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } ؛ لأنه عمل على غير إيمان لأنه عمل من غير توحيد : { ولقد وأوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } .
إن أمر توحيد الله عز وجل عظيم ففيه الاعتراف بربوبية الله - جل وعلا - خلقاً وتدبيراً ، والاعتراف بألوهيته - سبحانه وتعالى - خضوعاً وتعبداً ، والاعتراف بأسمائه وصفاته تعظيماً وإجلالاً ، إنه يشتمل على كل مشاعر القلب التي تخرج منه كل تعلّق بغير الله ، وكل رجاء في غير الله ، وكل خوف من غير الله ، وكل ذلّ لغير الله عز وجل ، ليبقى موحّداً قويّاً في صلته بربه سبحانه وتعالى ، وليبقى حينئذٍ ، وقد أقرّ بخلق الله وتدبيره ورزقه وإحيائه وإماتته وتصريفه لكل أمر ، عالماً بأن الذي أنعم ينبغي أن يُعبد ، وإذا عُبد ينبغي ألا يُشرك ، وإذا كانت له أسماء وصفات فليس له معها ولا بها ولا فيها أحد يشابهه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } .
إن امتلاء القلب بهذه الحقيقة هو أساس هذا الدين كله .. هو الذي طهّر محمد صلى الله عليه وسلم به قلوب وعقول الكافرين والجاهليين ، فأصبحوا من خلّص أصحابه رضوان الله عليهم .. صفاء في توحيدهم ، وقوة في يقينهم ، ورسوخ في إيمانهم ، وتجرد في إخلاصهم ، وعظمة في تقواهم ، وصدق في توكلهم ، وقوة في ثقتهم بالله عز وجل ، وعظمة في حبهم له ، وشدة في خوفهم منه سبحانه وتعالى .
ذلك هو جوهر الإيمان والتوحيد .. ليس مجرد كلمات تقال فحسب ، وليس مجرد إتباع للأوامر فحسب ! بل هو ذلك الشعور الذي يستقر في سويداء القلب ، وفي أغوار النفس فيملك على الإنسان كل مشاعره ، وكل خواطره ، وكل أقواله ، وكل أفعاله ، وكل أحواله فيكون في كل حركة وسكنة وكلمة وسكتة يُعبّر عن صلته بالله عز وجل وتوحيده له سبحانه وتعالى .
وحقيقة الشرك بالله تعالى كما يقول السعدي في تفسيره :
" أن يعبد المخلوق كما يعبد الله ، أو يعظمه كما يعظم الله ، أو يصرف له شيئاً من خصائص الربوبية والألوهية ؛ حتى الذين يعظّمون غير الله تعظيماً يشابهه تعظيمهم لله فيخضعون لهم ويوافقونهم ويتابعونهم ويقرّون لهم بما يخالفون من شرع الله عز وجل ؛ فإنه يصدق فيهم ما صدق في قول الله عز وجل عندما تنزلت الآيات على رسول الله عليه الصلاة والسلام : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم } " .(/3)
ثم نبين بعد ذلك أمراً مهماً وهو ما يتعلق بصور كثيرة من معارضات هذا التوحيد التي - وللأسف الشديد - ربما فشت وانتشرت في ديار الإسلام إلا ما رحم الله ؛ ولعل أبرزها ما قلنا إنه متصل بهذه الآيات في معناها ؛ وهو تحكيم غير شرع الله ، والرضا بحكم غير حكم الله ، أو النظر إلى حكم الله وتشريع رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح لهذا الزمان ! ولا يتناسب مع هذا العصر ! وأنه ينبغي لنا أن نغيّر ونبدّل ونحسّن ؛ حتى نظهر أمام المجتمعات الدولية بمظهر حضاري - كم يقال - ولست أريد أن أتحدث من تلقاء نفسي ، وكلام علماء الإسلام في القديم كثير .. أكتفي منه بنزر يسير لأنقل لكم أقوال علماء العصر في هذا الزمان من مات منهم ومن بقي في هذا الزمن ؛ لنرى أن القضية ليست قضية تشدد أو تطرف - كما يقال - بل هي قضية دين الحق آيات تتلى وأحاديث تروى ، مفاهيم واضحة ومعاقد عقدية فاصلة ، ينبغي أن تكون واضحة ..
قال الجصاص رحمه الله في هذا المعنى :
" من رد شيئا من أوامر الله تعالى ، أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام ؛ سواء رده من جهة الشك فيه ، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم ، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة " .
ويقول ابن تيمية رحمه الله :
" الإنسان متى أحل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء " .
فخطئوا فقهاء الإسلام كلهم ! وخطئوا إجماع الأمة كلها ؛ لتقولوا لنا إن مثل هذا القول يدخل في هذا الباب أو ذاك الباب أو هذا التصنيف أو ذاك التصنيف !
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية سابقا :
" إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين "
ثم ذكر القوانين الوضعية فرنسية وبريطانية مما يحكم أو يحكم به في بعض ديار الإسلام .
وقال ابن باز رحمه الله المفتي السابق:
" قد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله ، أو أن غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر ، كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج على شريعة محمد أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال " .
وكم نسمع اليوم من يأتينا بأمثلة قد ذكرها أيضا علماء العصر .. فقد ذكر الشنقيطي هذا الحكم فقال : " الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على لسان أولياءه مخالفة لما شرعه الله عز وجل على ألسنة رسله لا يشكُ في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم " .
ثم ضرب لنا أمثلة فقال:
" كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف بل يلزم استواءهما في الميراث، وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم وأن الطلاق ظلم للمرأة ، وأن الرجم والقطع ونحوها أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان ونحو ذلك .. "
وأظننا جميعاً نعلم أن مثل هذه المقالات تُقال وتكتب في الصحف ، وتسمع في الإذاعات ، وتُرى في المقابلات على الشاشات ويتحدث بعض الناس فيها على أنها سجال ورأي وحرية فكر ، ولا يفرقون بين حرية فكر وحرية كفر تنقض الدين من أصوله ، وتأتي على مناقضة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم !
وأختم بقول لشيخ الأزهر سابقاً محمد الخضر حسين يقول فيه :
" أما أن تفعل البلاد الإسلامية ما فعلته البلاد الغربية من تجريد السياسة من الدين فهو رأي لا يصدر إلا عمن يكن في صدره أن ليس للدين من سلطان على السياسة ، وهذا ما يبثه فئة يريدون أن ينقضوا حقيقة الإسلام من أطرافها ؛ حتى تكون بمقدار غيرها من الديانات الروحانية التي فصلها أهلها عن السياسة ، ثم صبغوا هذا المقدار بأي صبغة أرادوا ، فيذهب الإسلام فلا القرآن نزل ، ولا محمد صلى الله عليه وسلم بعث ، ولا الخلفاء الراشدون جاهدوا في الله حق جهاده ، ولا الراسخون في العلم سهروا في تعرف الأصول من مواردها وانتزاع الأحكام من أصولها " .
هذه أقوالهم تقول إن من يقول ذلك ينقض عرى الإسلام ويخلخل قاعدة التوحيد والإيمان .. نسأل الله عز وجل السلامة ، ونسأل الله عز وجل أن يثبت الإيمان في قلوبنا ، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا ، وأن يجعل توحيدنا خالصا لوجه الكريم ، سالماً من كل شرك وشبهة رياء .. إنه ولي ذلك والقادر عليه أقول هذا القول واستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
أما بعد :
أوصيكم أحبتي الكرام بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم ما يقدم به العبد على مولاه ، فاتقوا الله في السر والعلن ، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ..(/4)
ولنعلم أن هذه الوصية في أول ما بدأت به من التحذير من الشرك بالله عز وجل إنما هي مفتاح لما يريد الله عز وجل من الخير لأهل الإيمان والتوحيد ؛ لأن الإيمان والتوحيد هو أساس الأمر ومبدأه ومنتهاه { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } .
وفي الصحيحين من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ) .
وكذلكم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي أن الله جل وعلا قال: ( ابن آدم إنك ما لقيتني وأنت لا تشرك بي شيئاً وإن لقيتني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي ) .
وإذا أردنا أن ننتبه إلى الصور الكثيرة التي يعج بها واقع أمة الإسلام اليوم لوجدنا مخاطر كثيرة ينبغي الحذر منها وأكتفي بالإشارة إلى اثنين منها:
الأول: هو تقديم العقل على النقل
وكم نرى اليوم من ينظر إلى الأحكام والتشريعات فيقول هذه لا تتفق مع العقل .. فكيف يمكن أن نطبق هذا ؟ وكيف نستطيع أن نفعل هذا إن هذه الأحكام لا تتطابق مع مقتضى العقل وحقيقة المصلحة ؟ وكم سمعنا ذلك حتى في أحكام قد يرونها يسيرة .. فكم تسمع من امرأة أو رجل يجادلك في تشريع الله عز وجل في حجاب المرأة المسلمة ، ويناظر في ذلك بأمور يزعم أنها من العقل وحقيقتها أنها من الهوى ، ويزعم أنها عليها دلائل من الحقائق وهي ضلالات من الأوهام .. وكم نرى صوراً من ذلك في واقع الحياة .
وثانيهما: وهو مما عد اليوم من المحظورات التي ينبغي أن نكف ألسنتنا عنها ، وأن نمنع أقلامنا من الكتابة فيها ، وأن نعطلها من التدريس والتعليم .. أتعلمون ما هو هذا الأمر ؟
أمر تنزلت به الآيات من عند الله عز وجل لا يمكن لأحد من الخلق مهما كان أن يمحوها ويلغيها ! بل لا يستطيع أن يغيّر حرفاً واحداً منها مهما كان شأنه ، ومهما قال وأجلب .. إنها الحقيقة التي أريد أن أكشفها لكم بالآيات وبما جاء في كتاب الله عز وجل { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } .
ويقول الحق جل وعلا : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون الله }
ويقول كذلك : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم } .
إنه أمر الولاء والبراء .. المحبة لله والبغض في لله .. إنه أمر يصورونه على أنه مناقضة للعدالة أو مخالفة للسماحة ! وليس شيء من ذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعدل الخلق وأسمح الناس وأرأفهم بالخلق جميعاً ، ودعا وبصّر وأهدى غير المؤمنين لكنه علم وعلَّم أن بغض الكفر في ذاته وبغض الفحش والفاحشة في ذاتها أصل مرتكز من عقيدة المؤمن ، وبيّن أن أهل الكفر إن عادوا وإن ناصبوا العداء وإن كادوا واستخدموا أساليبهم في المكر والدهاء ؛ فإنه لا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله ورسوله إلا أن يكن بغضهم ، وأن يعتقد عداءهم وأن يسعى إلى مواجهته وذلك ما فعله رسول صلى الله عليه وسلم ، ويوم جاءت المواقف الفاصلة بين إيمان وكفر، مضى بعض الأنصار إلى حلفاءهم من اليهود في المدينة ينشدونهم النصر ويطالبونهم وفاء بعهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكلوا وتخاذلوا وأحجموا فأي شيء قال ذلك الصحابي :
" اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء وحلفهم وأكون مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم " .
وفي هذه الحادثة تنزل قوله جل وعلا : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } .
وكثيرة هي الصور التي قد نراها مخالفة لحقيقة التوحيد في صور غير سجود لصنم ، وغير بقاء عند قبر .. وإن كان ذلك كله من الأوهام ومن المعارضات ومن المناقضات التي تجرح التوحيد ، وقد تنقض أصله وتدخل صاحبها في دائرة الشرك أو الكفر أصغر أو أكبر كل بحسبه وبحسب حكمه .
إذاً أحبتنا الكرام :
أول ما حرّم الله علينا هو أن نشرك به شيئاً ..
إن التحريم لهذا تحريم قاطع هو أساس كل ما يأتي من المحرمات والمأمورات .. فنسأل الله عز وجل بأن يبرئ قلوبنا من الشرك به ، وأن يطهر نفوسنا من الشرك به ، وأن يطهر عقولنا من الشرك به ، وأن يجعلنا أعظم اعتماداً عليه ، وأصدق توكّل عليه ، وأشدّ إخلاصاً له ، وأعظم خوفاً منه ، وأصدق ثقة به ، وأن لا يجعل في قلوبنا من خوف ولا رهبة ولا رجاء ولا تعلق إلا به سبحانه وتعالى ..(/5)
الوصايا الربانية (2)
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد معاشر الأخوة المؤمنين :
نمضي مع الوصايا الربانية، التي عرفنا قدرها ومقامها ووقفنا على أهميتها وخطورتها، وأدركنا من قبل أنها سر النجاة وسبب السعادة والمخرج بإذن الله من كل فتنة ، والعصمة من كل محنة ؛ لأنها هدى الله عز وجل وأوامره ووصاياه ..
{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً }
ووصية اليوم هي الوصية التي أقرّتها الفطر البشرية السوية واتفقت عليها جميع الشرائع السماوية وأقرتها وتواطأت عليها جميع المجتمعات الإنسانية، وهي التي تدل على الخلق المرضي، والعقل المهدي، والنهج السوي، وهي التي تكشف عن أصالة المعدن، وحسن الوفاء وكريم المعاملة، إن هذه الوصية التي نتحدث عنها اليوم تكررت في كتاب الله كثيراً، وتنوع الأمر بها والحرص عليها ودوام التذكير بها، في سنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وتكراراً ..
{وبالوالدين إحساناً }
الوصية بالوالدين، بر الوالدين، الإحسان إلى الوالدين جاء في القرآن كثيرا متنوعا، وها هنا تقديم الجار والمجرور في ذكر الوالدين ، وتأخير الإحسان لإظهار الاختصاص والقصر وإطلاق لفظ الإحسان مذكراً ومنوّناً ليكون عاماً شاملاً ..
{بالوالدين إحساناً }
في القول والفعل وقسمات الوجه، ونظرات العين ولمسات اليدين ، وكل حركة وسكنة وفي كل وقت وآن وفي كل ظرف وحال ؛ لأنه إحسان مطلق وإحسان يكون في كل أحوالهما وفي كل أحوال أولادهما كذلك، قال الفيروز آبادي في تعريفه لبر الوالدين كلاماً نفيساً قال:
" هو الإحسان إلى الوالدين والتعطف عليهما، والرفق بهما والرعاية لأحوالهما وعدم الإساءة إليهما وإكرام صديقهما " .
غير أن كلامه وكلامي وكلام كل الخلق ليس بشيء مع كلام الله عز وجل ، ومع أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعندما كنت أبحث وأقلب رأيت أن أمسك لساني إلا من ذكر الآيات ورواية الأحاديث ؛ لندرك أن القضية دين وتشريع رباني ، وأنها سنة وتشريع وهدي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومهما قال القائلون أو عبر أهل العلم ؛ فإن ما جاء في الكتاب والسنة أبلغ وأعظم، آثرت أن نقف مع هذه الوصية ومكانة الوالدين وبرهما مع الآيات القرآنية العظيمة .
وأول هذه الوجوه اقتران حقهما بحق الله عز وجل وكم هي الآيات التي جاءت بالأمر بالتوحيد وثنت بالإحسان إلى الوالدين .. { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً }
واقترن كذلك في قوله جل وعلا : { أن اشكر لي ولوالديك } .
فأي حق أعظم من حق يأتي تالياً مباشرة لحق الله سبحانه وتعالى ؟
قال ابن عباس : " ثلاث لازمات لثلاث: وقرن بينهما فقال { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } فلا تتم طاعة الله إلا بطاعة الرسول ، { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } فلا تتم إقامة الصلاة إلا بإيتاء الزكاة .. " ثم قال في شأن شكر الله عز وجل : " { أن اشكر لي ولوالديك } فلا يتم شكر الله إلا بشكر الوالدين " .
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى ذلك ويبينه ويوضحه؛ لأن المكانة عظيمة في حديث أسماء رضي الله عنها في بيان الوجه الثاني وهو الصحبة والإحسان ولو مع الكفر لأن الله جل وعلا قال : {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً }
فهل رأيتم قدرا ومكانة أرفع، من أن يكون إنسان على غير الإيمان والتوحيد، ثم يأتي أمر الله مستنزلا بالآيات بحسن صحبته، وجاءت أسماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: ( جاءت إلي أمي وهي راغبة ، فاستفتيت رسول صلى الله عليه وسلم –لم يكن أحدا يصنع شيئا إلا بعد أن يعرف حكمه ومكانه في دين الله- فقالت: يا رسول الله أمي قدمت إلي راغبة أفأصل أمي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( نعم صل أمك )
وهذا مقام عظيم ..
ووجه ثالث من العظمة :
أن برهما معدود من الجهاد في سبيل الله ، والجهاد من أعظم الأعمال وأشرفها، وأجلها من حيث كونه بذلاً للروح ، وإزهاقا لها في سبيل الله عز وجل، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال له عليه الصلاة والسلام : ( أحيٌّ والداك ؟ ) فقال: نعم قال: ( ففيهما فجاهد) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو ..
وروى أنس أن رجلا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه - عنده عذر- فقال له الله صلى الله عليه وسلم : ( هل بقي من والداك أحد ؟ ) قال: أمي، فقال: ( قابل الله في برها فإذا فعلت فأنت حاج ومعتمر ومجاهد ) رواه أبو يعلى في مسنده والطبراني في معجمه بسند جيد وصححه العراقي(/1)
وعن ابن مسعود أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا الحديث عظيم في تقديم بر الوالدين على الأمور العظيمة والأعمال الجليلة – قال : أي العمل أفضل ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الصلاة على وقتها ) فقال : ثم أي ؟ قال : ( بر الوالدين ) قال: ثم أي ؟ قال: ( الجهاد في سبيل الله ) فقدّم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله ..
وإذا قلنا ما أعظم شيء نأمله ونرجوه ؟ وما أعظم أمنية نفكر بها ونتعلق بها ؟ فإن الجواب عند كل مؤمن ومسلم واحد وهو : دخول الجنة ونيل رضوان الله عز وجل ..
فإليكم طريقاً ممهداً سالكاً موصلاً إلى تلك الغايات العظيمة، وهو بر الوالدين .
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل الجنة قال: فسمعت قراءة فسألت من هذا ؟ فقيل : حارثة بن النعمان ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( نِعم البر ، نِعم البر )، وكان حارثة من أبر الناس بأمه.
فهذا الربط بين إخبار النبي عن كونه في الجنة وبين بره بأمه ، ظاهر الدلالة في أن هذا العمل لظهوره في حياته وعنايته به وحرصه عليه واستمراره فيه جعل له هذا المقام العالي ، وتلك الرتبة الرفيعة .
وكذلكم جاء الحديث العظيم الذي رواه أبو هريرة وفيه يثلث النبي صلى الله عليه وسلم القول فيقول: ( رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه ) قالوا: من يا رسول الله ؟ قال: من أدرك أبويه أو حدهما فلم يدخل الجنة ) .
أي لم يقم ببرهما ما يدخله الجنة ؛ لأنه فرّط وقصّر أو عقّ وجحد والعياذ بالله ..
وإذا تأملنا ذلك فإننا واجدون الصراحة والوضوح في تلك النصوص ، ومن ذلك ما رواه الترمذي وصححه وابن حبان كذلك ، وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو الدرداء قال عليه الصلاة والسلام : ( الوالد أوسط أبواب الجنة ؛ فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه ) .
قال بعض الشرّاح : " أوسط أبواب الجنة ؛ أي خيرها والمقصود بالوالد، الوالدان معاً " ، الأم والأب هما اللذان يكون من خلالهما باب هو خير الأبواب إلى الجنة ، باب برّهما والإحسان إليهما .
ولو مضينا لوجدنا ذلك أكثر وأظهر، فإن معاوية بن جاهمة السلمي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي وجه الله والدار الآخرة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك أحية أمك ؟! فقال: نعم ، قال: ارجع فبرها، قال معاوية: فأتيته من الجانب الأيمن فقلت له: يا رسول الله أني أردت الجهاد في سبيل الله - وكرر القول - فقال له: ويحك أحية أمك ؟! قال: ارجع فبرها، قال: فأتيته من أمامه فأعاد القول، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ويحك الزم رجلها فثمّ الجنة ) رواه النسائي وابن ماجه والإمام أحمد والحاكم بسند صحيح .
فهل ثمة ما هو أوضح وأظهر في الدلالة على عظمة هذا البر وهو يكرر الأمر ثلاثاً ، ويريد الجهاد مصرّاً ، والنبي يردّه إلى ذلك الباب والمسلك والطريق ؛ ليمهد له به عملاً له أجره في الآخرة ، وله نفعه في الدنيا بإذن الله سبحانه وتعالى .
وهكذا نرى الأمر واضحاً كما قلنا في رضا الله عز وجل ، فقد ورد الحديث صريحاً بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : ( رضا الله في رضا الوالد ، وسخط الله في سخط الوالد ) كما رواه أهل الحديث بسند حسن .
بل إن ثمة أمر آخر وهو أن بر الوالدين من أسباب مغفرة الذنوب، كم نصلي ، كم نستغفر، كم ننفق، نبغي مغفرة الذنب، وكل عمل صالح فيه مغفرة للذنب، غير أن ذلك ورد له اختصاص.
فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أصبت ذنباً كبيراً فهل لي من توبة ؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: هل لك من أم ؟ قال: لا ! قال: هل لك من خالة ؟ قال: نعم ، قال: فبرها . رواه الترمذي والحاكم بسند صحيح .
ولعلّ هذا التوجيه موضع عجب ، وأحسب أن كثيرا منا ربما لم يسمع هذا الحديث من قبل، يقول: أصبت ذنباً كبيراً ، يريد طريقة لتكفير الذنب ، فيسأل عن أمه ، فيقول: إنها ليست حية، فيقول: هل لك خالة ؟ والخالة بمثابة الأم ، يقول: فبرها، أي فسيكون برّها طريقاً إلى تكفير ذنبك ومغفرة ما أصابك من أثره، وهذا ولا شك من أعظم الأمور .
وكلنا يعلم كذلك أمراً آخرا وهو أثر البر في تفريج الكربات ..
وأكثرنا يعرف الحديث لقصة الثلاثة الذين آواهم الغار فسقطت عليهم صخرة فسدت مخرجهم، فقالوا: لا نجاة إلا أن نتوسل إلى الله بأخلص الأعمال التي عملناها، فكان مما قاله أحد الثلاثة: أنه كان لا يسقي أبناءه وزوجه إلا بعد أن يسقي والديه، فجاء مرة بغبوق - أي باللبن- فإذا هما نائمان، فلم يشأ أن يقدم عليهما غيرهما ولم يستطع أن يزعجهما فيوقظهما، فظل واقفا حتى انبثق ضوء الفجر، قال: ( إن كنت عملت هذا لوجهك وابتغاء مرضاتك ففرّج عنا فتزحزحت الصخرة )
فدل ذلك على أن من أسباب التفريج ؛ الحرص على هذا البر .(/2)
بل إن سعة الرزق وحسن الخاتمة وبركة العمر مربوط بذلك ، كما صح من حديث أن أنس : ( من أحب أن ينسأ له في أثره ، ويبارك له في رزقه فليصل رحمه ) وأعظم الرحم وأولاها وأولها بر الوالدين .
ومن هنا كذلك جاءت رواية أخرى في هذا الحديث بلفظ آخر من حديث علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من سره أن يمد له في عمره، ويوسع له في رزقه، وتدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه ) .
وثمة أمر مهم في غاية الأهمية، وهو أن دعاء الوالدين له خصوصية في القبول في شأن أولادهما ، وإن كان الدعاء على الأبناء، أي ليس لهما.
وقد صح في الحديث قصة جريج العابد وأن أمه دعت عليه فقالت: " اللهم لا تمته حتى يرى وجوه المومسات " فتحققت هذه الدعوة وذكرها وقد وردت في الأحاديث الصحيحة .
وثمة حديث أيضا يوضح ذلك، وهو قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن : دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم ) رواه أحمد في مسنده وقال الذهبي سنده قوي .
ومن أدل الدلائل كذلك على الأهمية أنه ما من أمر ولا من شرع ولا من حكم إلا وينتهي بانتهاء الحياة إلا هذه الشعيرة العظيمة ، وهذه الوصية المهمة ؛ فإن بر الوالدين لا ينتهي بوفاتهما، وكلنا فيما أظن يعلم ذلك الحديث الذي رواه أبو أسيد الساعدي في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فيقول : هل بقي من بر أبواي شيء أبرهما به بعد موتهما ؟ - وهذا دليل على حرص الصحابة، قد قضى حظه وقدرته وما يسر الله له من البر في حياة والديه ، ثم جاء يسأل من بعد هل بقي شيء حتى أواصل ؟ هل ثمة ما يعمل حتى أستمر - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما ) .
فهل هناك دين أعظم من هذا الدين في الوصية بالوالدين حتى بعد الوفاة، ابحث عن أصدقاءهما وأكرم أصدقاءهما لأجلهما، وابحث عن أقاربهما ومعارفهما، فاجعل ذلك استمرارا لبرهما حتى بعد موتهما، وهذا من عظيم ما في ديننا هذا.
وقد طبق الصحابة ذلك، فهذا ابن عمر يلقى أعرابياً وهو في طريق السفر قرب مكة فيركبه حماره وينزع عمامته ويضعها على رأسه ويسلم عليه ويكرمه، حتى إذا انصرف قال أصحابه: إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير ! يعني لما صنعت ذلك كله لما هذه الحفاوة وذلك الإكرام ؟ فقال ابن عمر رضي الله عنه : إن والد هذا كان من أهل ود عمر، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن من أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه) رواه مسلم في صحيحه .
ولعلنا نقف في هذه القصة لأبي هريرة لنرى صورة حية من المشاعر الفطرية التي تبين لنا عظمة وسماحة ديننا ، وأنه يريد الخير لعموم الناس فكيف بخصوصهم .. ألسنا نريد للكافر أن يؤمن ؟ ألسنا نريد للضال أن يهتدي ؟ ألسنا نريد للمنحرف أن يستقيم ؟ إن لم نكن نريد ذلك فنحن على خطأ وفي انحراف ؛ فإن أردناه فلتكن إرادتنا له لأقرب المقربين إلينا وأحب الناس إلينا وأعظمهم ؛ فضلاً علينا وهم الوالدان ..
هذا أبو هريرة يخبر يقول: كانت أمي مشركة، فكنت أدعوها إلى الإسلام فلا تستجيب، قال: فدعوتها يوما فنالت من رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي تكلمت عليه بما لا يليق - قال: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي ، فقلت : يا رسول الله إن أم أبي هريرة قد نالت منك وإني أدعوها - ماذا قال أبو هريرة، ماذا طلب من الرسول بعد أن سمع ما أغاضه في حبيبه علبه الصلاة والسلام - قال: يا رسول الله فادعو الله أن يهدي أم أبي هريرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اهد أم أبي هريرة ) يقول: فرجعت مسرعاً مستبشراً بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا بالباب مجاف - يعني مفتوحاً قليلاً - فأردت أن أدخل فقالت: مكانك يا أبا هريرة، قال: وسمعت خضخضة الماء فاغتسلت ولبست درعها، ثم خرجت وقالت: يا أبا هريرة إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي من الفرح وقلت يا رسول الله - وكانوا يحبون الخير - ادع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم حبب أبا هريرة وأم أبي هريرة للمؤمنين )، قال أبا هريرة : فما رأيت أحداً من أهل الإيمان إلا وهو يحبني .
صورة لعظمة هذا الدين وعظمة التربية الإيمانية، انظرواً كيف كان حرص أبا هريرة كان يكرر الدعوة .. انظروا كيف كظم غيظه عندما نالت أمه من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه كان يرجو لها الخير ويؤمل لها الهداية، حزن وغضب وبكى لكنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالهداية ، فلما هداها الله لم يطق من فرحته إلا أن بكى فرحاً بعد أن بكى حزيناً، ثم جاءت هذه الصورة المشرقة لندرك في الحقيقة كيف كان فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام.(/3)
{ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً }
عجبا لهذا السلوك ! وعجباً لهذا الدين العظيم الذي يعلمنا ذلك !
ولعلي هنا أقف وقفة أحسب أن الجميع سيكون ملتفتا إليهاً .. بعد هذه الوجوه كلها .. وبعد هذه الآيات الواضحات والأحاديث الصحيحة، والصور المشرقة العملية التي كانت في حياة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هل يتصور أحد أن يخطر بالبال عقوق للوالدين ؟ هل يمكن بعد هذا كله أن يكون في النفس متسع ، أو في القلب مجال لقسوة أو غلظة ؟ هل يمكن بعد هذا كله أن يلفظ اللسان بما لا يليق ؟
إن العقوق بعد هذا كله يظهر تماماً على أنه ألأم وأشد وأسوأ ما يمكن أن يصدر عن إنسان، إنه يكشف حينئذ عن انحراف في الفطرة، وضعف واختلال في الإيمان ونقص في حقيقة التمثل والالتزام بالإسلام، إنه يدلّ على انفصام بين كليات هذا الدين وحقائقه الكبرى وهدايته العظمى التي تنزلت بها الآيات ، وجاءت بها الأحاديث .. ولذلك قال بعض أهل التفسير في هذا الموطن ؛ أي في قوله { وبالوالدين إحساناً }
قالوا: جاء بالأمر وليس بالنهي عن العقوق، قال القرطبي : " لأنه لا يتصور العقوق في حق الوالدين "
كيف يمكن أن يتصور عقوق لامرأة حملتك في بطنها تسعة أشهر وأرضعتك عامين، وظلت تغذوك بحنانها وعطفها، فتسهر ليلها وتمرض في تمريضك، ويشغل بالها أمرك أكثر مما يعنيها أو يشقيها أو يتعبها شيء يتصل بها، إن الإنسان الذي يجحد بعد ذلك أو يعق يمثل الصورة الشوهاء للانحراف السيء في غاية السوء ..
ومن هنا جاء الأمر بالإحسان : { وبالوالدين إحساناً }
وكذلك نتلو الآيات الكثيرة { ووصينا الإنسان بوالديه }
وذكر ذلك على التفصيل كما هو في الآيات وكما جاء في الحديث : من أحق الناس بصحبتي يا رسول الله ؟ قال: أمك قال: ثم من ؟ قال: أمك قال: ثم من ؟ قال: أمك قال:ثم من ؟ قال: أبوك .
فقال أهل العلم : " لبر الأم ثلاثة أرباع وربع للأب، قالوا: لأنها حملت وولدت وأرضعت، وهذه كلها لا يشاركها فيها الأب " .
وإن كان حق الوالدين جميعاً عظيما لذلك كان من المتوقع ومن البدهي أن من يخرج عن هذه الأوامر الربانية وهذه السنن النبوية أنه قد خالف الدين مخالفة عظيمة تستوجب له وعيداً خطيراً ..
ومن هنا وجدنا أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر مقترناً بأعظم ذنب في الوجود كله، الحديث معلوم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالوا: بلى يارسول الله، قال : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متكئا فجلس قال: وشهادة الزور وشهادة الزور، وما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت ) .
أكبر الكبائر أعظم الذنوب على الإطلاق ثانياً وتالياً بعد الشرك بالله عز وجل، عقوق الوالدين، وما الذي تخشاه وما الذي تخاف منه في هذه الدنيا ؟ أليس حرمان رضوان الله ؟ أليس الخوف من عذاب الله ؟ إن الذي يخوض في هذا المضمار يستوجب الوعيد الشديد .. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام : ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمنان بعطائه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والديوث والرجلة ) الديوث: الذي يرضى السوء في أهله، والرجلة: المرأة المتشبهة بالرجال، رواه الحاكم وصححه ورواه البزار بإسناد جيد .
بل إن الأمر يرى رأي العين ؛ فإنه ما من ذنب إلا وقد يؤجل عذابه أو يقدم، إلا ذنبين اثنين لا بد أن يكون لهما عقوبة معجلة وإن بقيت لهما عقوبة مؤجلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس عنه قال : ( بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا البغي والعقوق ) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي
وفي رواية أبي بكرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ) . وترجم البخاري في الأدب المفرد لهذا الحديث بقوله باب عقوبة عقوق الوالدين .
وعقوق الوالدين أعظم القطيعة للرحم .. فأي شيء بعد هذا يمكن أن يقال ؟ وأي قول بعد قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ وما هو واقعنا اليوم ؟ كم نسمع من قصص مبكية محزنة مؤلمة ! كم نرى من صور عجيبة غريبة شاذة !(/4)
روي عن الأصمعي في كتب الأدب أنه قال : " عزمت أن أبحث عن أعق الناس وأبرهم .. فظل يبحث وهو يسير في حياته وهو يبحث عن هذا الأمر ، قال: حتى رأيت مرة شاباً ومعه شيخ كبير مربوط بحبل ينزع دلو ماء وهذا يشتد عليه ويغلظ له ويعرض له بالضرب أحياناً ، قال : فقلت له: ويحك ألا تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف ! فقال : ثم هو مع ذلك أبي . قال الأصمعي: فرأيت أنه أعق الناس، قال : ثم نظرت - أي في مجريات حياته مرة أخرى - : فرأيت شاباً ويحمل شيخاً في زمبيل كبير ثم يزق له كما يزق الطير لفرخه - يعني كل لحظة يأتي فيطعمه يأتي فيسقيه يأتي فيحمله - قال: فهذا أبي قال فقلت: فهذا أبر الناس .
لاحظوا الصور المتباينة .. لاحظوا الواقع الذي بلغ اليوم أن سمعنا في مجتمعاتنا ليس عن أبناء رموا بآبائهم أو بأمهاتهم في دور العجزة أو في المستشفيات وتركوهم، بل رأينا ما ولغ به الأمر إلى حد القتل وغيره، ما الذي جرى ؟ هل هذه الوصايا تتلى ؟ ألم نختم القرآن في رمضان ؟ ألا تُقرأ هذه الآيات في الصلوات ؟ ألا يعرف الناس هذه الأحاديث ؟ ألم يروا كيف كانت سيرة الأصحاب ؟ ألا يجدون في كل شيء من ديننا ما يدل على عظمة هذا الأمر ورفعة هذه الصفة ، وأهمية هذه الخلة في حياة المسلم ، وأن ضدها من العقوق هو أشنع شيء وأبشعه إن الصورة تحتاج إلى مراجعة ..
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يبرون آباءهم ويبرهم أبناءهم، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لكل ما يرضي آباءنا وأمهاتنا، وأن يسخرنا لرضاهما، وأن يجعل طريقنا إلى رضاء الله من رضاهما، ونسأله سبحانه وتعالى أن يحسن ختام من بقي له من آباءه وأمهاته، ونسأله عز وجل أن يبعدنا ويجنبنا عن كل ما يسخطهما أو يسيء إليهما .. إنه ولي ذلك والقادر عليه .
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
أما بعد معاشر الأخوة المؤمنين :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ، وإن من أعظم أبواب تقوى الله بر الوالدين وأحسب أنه مهما أطلنا الحديث وأعدناه ؛ فإن الأمر يستحق ، وإن المسألة تستدعي ، وإن الواقع يدلنا على وجود خلل كبير في هذا الباب .. ما الطريق إلى تقويمه ؟ ما الطريق إلى رجوعه إلى جادة الصواب ؟
أمور كثيرة يضيق المقام عن حصرها، لكن أولها وأعظمها : التدبر في كتاب الله والاغتراف من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لأن الحديث ليس حديث هذا الرجل أو ذاك ، وليست موعظة ذلك الواعظ أو هذا ، وليس استنباط ذلك العالم أو غيره .. إنه كلام الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن كنت مؤمناً ومسلماً فالمخاطب لك هو الله ، والموجّه لك هو رسوله عليه الصلاة والسلام .
والأمر الثاني الذي يعين على ذلك: استحضار فضل الوالدين
كما دلت على ذلك الآيات { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً } .
تذكّر نفسك وحالك وأنت طفل لا تملك من ديناك ولا من أمرك ولا من حالك ولا من تدبير شئونك شيئاً .. تذكّر كل تلك الفضائل التي لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن تقدر قدرها ؛ فضلاً عن أن توفي حقها، لو أن كل عاق أو كل مخطئ في حق والديه إذا أراد أن يلفظ الكلمة أو إذا أعرض أو إذا صنع شيئاً من ذلك تذكر الحليب التي أرضعته إياه أمه، المال الذي أنفقه عليه أبوه ، الحماية التي كان يتعرض فيها للمصاعب والمخاطر لكي يحميه .. لو تذكر قبضة أو انقباضة من انقباضات وقت الولادة ومخاضها، لشعر أنه قد أجحف في حق نفسه ، وأنه ينبغي له أن يطأطئ رأسه خجلاً من تصرفه، وأنه قد أتى بما لا يليق بحال من الأحوال حتى إن البهائم وهي بهائم تعطف الأمهات على أبناءها ، ونرى الأبناء وكيف هم يرتبطون بأمهاتهم وهذه سنة فطرية في الخلائق، فكيف بالإنسان الذي أعطاه الله العقل وأنزل عليه التشريع ، وضرب له الأمثلة من رسل الله وأنبياءه ، وصالح الأمة وعلماءها وأفاضلها ..
وأمر ثالث كذلك وهو : استحضار الثواب والفضل والأجر في البر
رأينا أن طريق الجنة عبرهما ورأينا أن استنزال رضاء الله برضاهما ، ورأينا أن تكفير الذنوب بالإحسان إليهما ، ورأينا أن تفريج الكروب بإكرامهما .. أي شيء نريد كل ما نريده نجد طريقه يمر عبرهما ، فلما نفكر في ذلك ونتأمله .
وانظر إلى الجانب الآخر المقابل وهو التذكر للوعد والوعيد والعقوبة المنتظرة في الدنيا قبل الآخرة لكل من أساء ولو بكلمة ؛ لأن الله قال : { ولا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما } .
جاء بالأدنى وجاء بما قد يكون الأعلى إذاً فذلك كله يعين .. ومما يعين كذلك، ذكر سير أهل البر بآبائهم وأمهاتهم، قصة أبي هريرة نموذج من نماذج عدة ليست في حياة الصحابة فقط بل في حياة الصحابة والتابعين وصلحاء المؤمنين إلى يوم الناس هذا .. انظر كيف يكون التوفيق حليفهم .. انظر كيف تكون السعادة مالئة قلوبهم ، انظر كيف يكون الأثر في أبناءهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بروا آباءكم تبركم أبناءكم ) .(/5)
والأمر في هذا ظاهر الدلالة، والحساب فيه والقصاص بين للعيان .. فكم رأينا من مسيء لوالده -والعياذ بالله - إنما كان ذلك من إساءة والده له والعكس كذلك، من عقّ آباءه فإنه يجد العقوق من أبناءه وذلك ظاهر .
ثم أمر مهم - أيها الأخوة الأحبة - أداء الوالدين لأدوارهم وقيامهم بواجبهم ، هو أيضا من أسباب البر، هل علّمت ابنك كتاب الله وسنة رسوله، هل وجّهته إلى الخير ؟ هل كنت قريباً منه ؟ هل حرصت على تربيته ؟ هل أحسنت في اختيار أصدقاءه ؟
ذلك هو الطريق الذي يعود عليه بالخير في استقامة في سلوكه وبراً بأبيه وأمه، أما إن أسلمته للضياع وألحقته برفقاء السوء، وغبت عنه لا تدري ما يصنع ولا ما يقول ثم تعض أصابع الندم وتقول : عقني !
ما عقك إلا من تفريطك وتقصيرك ..
والأمر يطول والحديث يتكرر في مثل هذا، ويلحق به ما هو في هذه الآيات كذلك {ولا تقتلوا أولاكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياهم } ؛ ليس المقصود في كل آن ما كان عند أهل الشرك من أنهم يقتلون أولادهم كما كان في بعض أحوال الجاهلية، فبعض الناس يقتل ابنه اليوم، يوم لا يرشده ولا يعلمه ولا يربيه، يوم يبعثه إلى بلاد الكفر أو إلى بلاد فيها الفساد والانحراف العقدي والخلقي، فكأنما هو يقتله ؛ لأنه يقتل إيمانه ويقتل خلقه ويقتل فضيلته ويقتل شرفه وخيره وغير ذلك .
إذاً هذا باب آخر من الأبواب ، وثمة أبواب أخرى كثيرة ومنها التذكير الدائم بهذه المسألة والحديث يطول والمقام يقصر ..
نسأل الله عز وجل أن يحفظنا وأن يحفظ لنا آباءنا وأمهاتنا وأن يشيع البر في أبناءنا وبناتنا ، وحسن التربية والرعاية في آباءنا وأمهاتنا ..(/6)
الوصية قبل الموت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمما لا شك فيه أن الإنسان قد يكون له أو عليه حقوق وأمانات وودائع للآخرين، وبما أن الموت يأتي بغتة، فقد أرشدنا ديننا الإسلامي إلى المبادرة بالوصية، وخاصة إذا كان لنا أو علينا حقوقاً للآخرين، فقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} البقرة:180). وفي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) متفق عليه، وهذا لفظ البخاري، وفي رواية لمسلم: (يبيت ثلاث ليال). قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك إلا وعندي وصيتي.
قال الإمام الصنعاني: قال الشافعي: معناه ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه؛ لأنه لا يدري متى تأتيه منيته فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك1.
ويمكن أن ننبه على عدة أمور استناداً إلى هذا الحديث:
1. أنه يجب كتابة الوصية أخذاً بظاهر الحديث، واستناداً إلى الآية السابقة، وهذا مذهب داود وأهل الظاهر، وذهب الجمهور إلى استحبابها. ولعلَّ القول الوسط في ذلك هو التفصيل في ذلك - والله أعلم - فيقال: أن الوصية على نوعين: واجبة: وتكون على من عليه دين، وفي ذمته حقوق، ولديه أمانات وعهد، فإنه يجب أن يوضح ذلك مفصلاً. ومسنونة: وهي التي تكون في ثلث المال فما دون لغير وارث.2
2. أنه ينبغي كتابة الوصية، والإشهاد عليها، وخاصة إذا لم يكن الموصي معروفاً بخطه.
3. أن ينبغي للموصي أن لا يحصر وصيته، بل عليه أن يجعلها عامة في كافة أعمال الخير، وخاصة التي يعم نفعها؛ إذا أراد أن يتصدق ببعض ماله من بعده.
4. أن على الإنسان إذا كتب وصيته أن يعرضها على أهل العلم ليبينوا له أحكامها، ويوضحوا له ما يجوز وما لا يجوز فيها.
5. كما يمكن أن نضيف وننبه إلى أمور، ومنها: أن من كان عليه دين فأوصى به فإنه يخرج بذلك من ذمته، وانتقل إلى عهدة الولي وله الأجر في قضائه، وعليه الوزر في تأخيره . وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرط في أدائه، وأما إذا قدر عليه وتركه ثم وصى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولي فيه.
6. أن لا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث.
7. في الحديث دليل على فضل ابن عمر لمبادرته في امتثال الأمر، ومواظبته على ذلك، حيث أنه بادر بتطبيق أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهكذا حال المؤمن.
والله نسأل أن يوفقنا إلى طاعته، وأن يجنبنا معصيته، وأن يختم لنا بالحسنى، وأن يلحقنا بعباده الصالحين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
00000000000000
1 - سبل السلام (1/142).
2 - ذكر وتذكير لصالح السدلان(74).(/1)
الوصية
30
الفرائض والوصايا
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
تقلب أحوال الإنسان في مراحل عمره وحاجته إلى الوصايا والتوجيه , والتوبة النصوح - مشروعية الوصية عند الموت – وتأكدها لمن عليه حقوق وديون – التحذير من وصية الإثم والمضارة بالوصية , وصور ذلك – آداب الوصية , ونموذج لوصية أوصى بها بعض السلف
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وعظموا أمره واجتنبوا مساخطه، وخذوا من أيامكم عبراً، واستوصوا بأنفسكم وأهليكم خيراً.
أيها المسلمون، ابنُ آدم يتقلب في هذه الحياة ـ ما أمد الله له من العمر ـ يتقلب مراحل وأطواراً من الطفولة والشباب، والكهولة والهرم، يمر خلالها بأحوال من العسر واليسر، والفقر والغنى، والحزن والسرور، والصحة والمرض، والقوة والضعف، وهو في جميع هذه الأطوار، وفي كل تلك الأحوال بحاجة إلى التذكر والتذكير، والوصايا والتوجيه. بحاجةٍ إلى التوبة النصوح، والثبات على الحق، وتحري العدل، واحتساب الثواب، وإحسان الظن بربه، متقلباً بين الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاْلِيمُ [الحجر:49،50]، أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ [الزمر:9].
كل ابن آدم بحاجة إلى هذا.. غير أن هناك فئاتٍ من الغافلين والمرضى والعجزة والمسنين ذوي حقوقٍ وأموالٍ. قد ينسيهم حرصهم على حقوقهم، وتنميتهم أموالهم ـ ينسيهم ذلك ـ حقوق الآخرين من أصحاب الديون والودائع، أو ذوي الفقر والحاجة من الأقربين وغير الأقربين، فإذا ما أصابته مصيبةٌ أو أحسَّ بدنوِّ أجله؛ راجع نفسه، وندم على ما أسلف، ولقد علم الله اللطيف المنان ضعف هذا المخلوق، فهيأ له برحمته فسحة، وفتح له باب أمل من أجل أن يعمل صالحاً، وكما شرع له ميدان حسنات حال الحياة؛ فقد شرع له فرصاً بعد الممات، وفي مثل هذا جاء قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))[1] رواه مسلم وغيره واللفظ له.
وفي حديث آخر: ((إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم))[2] رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة.
ولمثل هذا شرعت الوصية، وتكاثرت النصوص في الحث عليها. إذا وُجد مقتضيها: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة:106].
وفي الحديث الصحيح: عن ابن عمر - رضي الله عنهما – عن النبي أنه قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين))[3] وفي رواية: ((ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة)). قال عبد الله بن عمر: ((ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله قال ذلك، إلا وعندي وصيتي))[4] متفق عليه، واللفظ لمسلم، وفي حديث آخر حسن الإسناد: ((المحروم من حرم وصيته))[5]، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: من صواب الأمر للمرء أن لا تفارقه وصيته. ((ومن مات وقد أوصى مات على سبيلٍ وسنة)) حديث عند ابن ماجه[6].
معاشر الأحبة، من لزمته حقوق شرعية لله أو لعباد الله، من زكواتٍ وكفاراتٍ وديونٍ وودائع، فليسارع في أدائها، وليبادر إلى قضائها، ما دام قادراً على الأداء، متمكناً من القضاء. وإلا فليوصِ بذلك وصيةً واضحةً في لفظها ومعناها، مجودة في كتابتها، عادلةً في شهودها، من أجل أن تُحمد سيرتُه، وتُحفظ حقوقُه، ولا يبقى أهله من بعده في منازعات، ويلقى ربه وقد أدى ما عليه، وأبرأ ذمته، وابيضت صحيفته، وحسنت بإذن الله خاتمته، وخف في الآخرة حسابه، ومن قصَّر فقد تعرض لحرمان الثواب، وأهمل في براءة الذمة.(/1)
ومن لم تكن عليه حقوق، ولا تلزمه واجبات وله ورثة محتاجون وذرية ضعفاء، فليبدأ بهم، ولا يقدِّم عليهم وصيته؛ لأنهم أحق بماله وأولى بمعروفه، وأعظم في ثوابه وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9]. وقد قال عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكففون الناس)) متفق عليه[7]، واللفظ للبخاري. وفي الخبر الآخر: ((ابدأ بنفسك ثم بمن تعول)) أصل ذلك في الصحيحين[8]. وأراد رجل أن يوصي فقال له علي – رضي الله عنه -: (إنك لم تترك مالاً طائلاً، إنما تركت شيئاً يسيراً فدعه لورثتك). وسأل رجل عائشة رضي الله عنها فقال: إن لي ثلاثة آلاف، وعندي أربعة أولاد أفأوصي؟ قالت: اجعل الثلاثة للأربعة. أما إذا فاض مال الله عندك، وبسط الله لك في الرزق، فلتدخر لنفسك عملاً صالحاً، وصدقة جارية، يمتد لك ثوابها، ولتبدأ بالأقربين من غير الوارثين، فهم أحق ببرك وأولى بفائض مالك، حتى لا يتعرضوا لمهانة الفقر، وذل الحاجة، وإنه لك في ذلك صدقة وصلةٌ، وليحزم المسلم أمره، ولا يؤخر إلى شهود أمارات الموت. جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: ((أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان..)) متفق عليه واللفظ للبخاري[9].
وليُعلم ـ وفقكم الله ـ أن وجوه البر كثيرة، من فقراء الأقارب غير الوارثين، وعمارة المساجد وخدمتها، وبناء الأربطة والمساكن للمحتاجين من أهل العلم والفضل والصلاح، وقضاء ديون المعسرين، والصدقة على المحاويج، والإنفاق على طلبة العلم، وتعليم القرآن، وسقي الماء، وتعبيد طرق المسلمين، وطبع الكتب المفيدة ونشرها، والوصية بالحج والأضاحي عن نفسه وغيره، وهذا الباب بفضل الله واسع ووجوه البر فيه لا تنحصر.
ثم احذروا وصية الإثم والجَنف، وإياكم والمضارة بالوصية، وقد قال نبيكم محمد : ((إن الرجل ليعمل- والمرأة- بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار)) ثم قرأ أبو هريرة راوي الحديث: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ وَصِيَّةً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء:12، 13]. روى الحديث أبو داود والترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح غريب، وهو عند ابن ماجة بلفظ مقارب[10].
سبحان الله ـ يا عباد الله ـ كيف يتجرأ هذا المخذول ليضار في وصاياه، وهو في حالة إدبار الدنيا وإقبال الآخرة. في حال يصْدق فيها الكذوب، ويتوب فيها الفاجر، وأي قسوة أشد من هذه القسوة. فنعوذ بالله من الخذلان.
في الأوصية الجنف يغلب الجشعُ، ويحل الطمع، ويضيع الحلال، وإن ربك لبالمرصاد. ألا وإن من جار في وصيته وظلم؛ مات على جهالة، وسلك مسالك الضلالة.
إن من صور الإضرار بالوصية ـ عياذاً بالله ـ أن يقرَّ بكلِّ ماله أو بعضه لغير مستحقٍّ، أو يُقِرَّ على نفسه بدين لا حقيقة له من أجل أن يمنع الوارث من حقِّه، أو يبيع شيئاً بثمنٍ بخسٍ، أو يبيع بيعاً صورياً، أو يشتري بثمنٍ فاحشٍ من أجل أن يضر بالورثة ويمنعهم حقوقهم أو يبخسها، وتحرم الوصية للوارث، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم.
والوصية لا تصح في الأمور المبتدعة، والمسائل المحرمة كالنياحة، والتبذير، والبناء على القبور، والتكفين بالحرير والديباج والدفن في المسجد أو في بيت خاصٍ، إلا أن يجعل ذلك مقبرةً عامةً للمسلمين. ذكر ذلك فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم رحمة الله على الجميع.
ألا فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واتق الله يا عبد الله، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك، رواه البخاري[11]. ولقد قال الله في أقوام: مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس:49، 50]، أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب ما يلحق الإنسان من الثواب... حديث (1631).(/2)
[2] حسن، سنن ابن ماجه: كتاب الوصايا – باب الوصية بالثلث، حديث (2709)، وأخرجه أيضاً أحمد (6/400)، والطبراني في الكبير (4129). قال الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن. مجمع الزوائد (4/212). وحسنه الألباني إرواء الغليل (1641).
[3] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الوصايا – باب الوصايا، حديث (2738)، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب حدثنا أبو خثيمة زهير بن حرب ... حديث (1627).
[4] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب حدثنا هارون بن معروف... حديث (1627).
[5] ضعيف، أخرجه ابن ماجه: كتاب الوصايا – باب الحث على الوصية، حديث (2700)، وفي إسناده دُرُسْت بن زياد ويزيد بن أبان الرقاشي وهما ضعيفان، كما في التقريب (1825، 7683). وضعفه الألباني، ضعيف الجامع (5916).
[6] ضعيف، أخرجه ابن ماجه، كتاب الوصايا – باب الحث على الوصية، حديث (2701). قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد ضعيف لتدليس بقية، وشيخه يزيد بن عوف لم أرَ من تكلم فيه (3/140)، وضعفه الألباني، ضعيف الجامع (5848).
[7] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الوصايا – باب أن يترك ورثته أغنياء ... (2742)، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب الوصية بالثلث، حديث (1628).
[8] صحيح، أخرجه مسلم بنحوه: كتاب الزكاة – باب الابتداع في النفقة بالنفس... حديث (997). وانظر صحيح البخاري: كتاب الزكاة – باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى... حديث (1426)، وصحيح مسلم: كتاب الزكاة – باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى... حديث (1034).
[9] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الزكاة – باب فضل صدقة الشحيح الصحيح... حديث (1419)، وصحيح مسلم: كتاب الزكاة – باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، حديث (614).
[10] ضعيف، أخرجه أبو داود: كتاب الوصايا – باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية، حديث (2867)، والترمذي: كتاب الوصايا – باب ما جاء في الضرار في الوصية، حديث (2117)، وابن ماجه: كتاب الوصايا – باب الحيف في الوصية، حديث (2704)، وأخرجه بلفظ ابن ماجه أحمد في مسنده (2/278)، ومدار إسناده على شهر بن حوشب، وهو ضعيف. وانظر: نيل الأوطار للشوكاني (6/147)، وضعيف الجامع (1457، 1458). وضعيف أبي داود للألباني (614).
[11] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الرقاق – باب قول النبي : ((كن في الدنيا كأنك غريب...)) حديث (6416).
الخطبة الثانية
الحمد لله إقراراً بوحدانيته، والشكر له على سوابغ نعمته، اختصَّ بها أهل الصدق والإيمان بصدق معاملته، ومنَّ على العاصي بقبول توبته، ومدَّ للمسلم عملاً صالحاً بوصيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المفضَّل على جميع بريته. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن من أدب الوصية أن يوصيَ المسلم بنيه وأهله وأقاربه، ومن حضره واطَّلع على وصيته – يوصيهم بتقوى الله وطيب العمل، وإن لكم في إبراهيم وبنيه عليهم السلام أسوةً، وفي نبيكم محمد أعظم قدوة وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]، وأوصى محمدٌ بكتاب الله، وقال: ((الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم))[1]، وحذَر من الفتن، وأمر بالطاعة ولزوم الجماعة، وأوصى بأصحابه السابقين وبالمهاجرين وأبنائهم، كما أوصى ابنته فاطمة رضي الله عنها إذا هو مات أن تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها الأخوة، وهذه صيغة مأخوذة من جملة ما أوصى به بعض أئمة الإسلام من الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم. حيث رأوا أن يقول الموصي مخاطباً أهله، ومن حضره واطَّلع على وصيته: أوصى فلانٌ، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إلهاً واحداً. فرداً صمداً. لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً. ولم يشرك في حكمه أحداً. ويشهد أن محمداً عبده ورسوله. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ويشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنة حق وما أعده الله لأوليائه حقٌ، والنار حقٌ، وما أعده الله لأعدائه حقٌ، وهو قد رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، على ذلك يحيا، وعليه يموت إن شاء الله، ويشهد أن الملائكة حق، والنبيين حقٌ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
ثم يقول: اعلموا أني مفارقكم وإن طال المدى، فهذه أدوات السفر تُجمع، ومنادي الرحيل يُسمع، والمرء لو عُمِّر ألف سنة لا بدَّ له من هذا المصير كما ترون.(/3)
إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، فأكيسهم أطوعهم لربه وأعملهم ليوم معاده. وهذه وصية مودع ونصيحة مشفق، حسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هملاً، ولكن ليبلوكم أيكم أحسن عملاً يَابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]. يابُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. يابُنَىَّ أَقِمِ الصلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الأرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:17، 18]. أعظم فرائض الله بعد التوحيد: الصلاة، الله الله في الصلاة، فإنها خاصة الملة، وأم العبادة، والزكاة أختها الملازمة، والصوم عبادة السر لمن يعلم السر وأخفى، والحج مع الاستطاعة ركنٌ واجبٌ، هذه عُمُد الإسلام وفروضه، فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين، وعلى من يناوئكم ظاهرين. وتلقوا ربكم غير مبدلين ولا مغيرين. واسلكوا في الاعتقاد مسلك السلف الصالح وأئمة الدين، ولا تخوضوا فيما كره السلف الخوض فيه، وعليكم بالعلم النافع، فالعلم وسيلة النفوس الشريفة، وشرطه الإخلاص والخشية لله مع الخيفة. وخير العلوم علوم الشريعة، وانبذوا العلوم المذمومة فإنها لا تزيد إلا تشكيكاً. وأطيعوا أمر من ولاه الله عليكم، واجتنبوا الفتن وأسبابها، ولا تدخلوا في الخلاف، والزموا الصدق فإنه شعار المؤمنين، والكذب عورة لا تُوارى، وحافظوا على الحشمة والصيانة، وأوفوا بالعهد، وابذلوا النصح، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تطغوا في النعم، ولا تنسوا الفضل بينكم، ولا تنافسوا في الحظوظ السخيفة، وإذا أسديتم معروفاً فلا تذكروه، وإذا برز قبيحٌ فاستروه، وأصلحوا ذات بينكم، واحذروا الظلم، وصلوا الأرحام، وأحسنوا إلى الجيران، واعرفوا حقَّ الأكابر، وارحموا الأصاغر، واحذروا التباغض والتحاسد، واعلموا أن جماع الأمر تقوى الله، كان الله خليفتي عليكم في كل حال، وموعد الالتقاء دار البقاء، والسلام عليكم من حبيبٍ مودع، والله يجمع إذا شاء هذا الشمل المتصدع... ألا فاتعظوا أيها المسلمون.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (3/117)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب في حق المملوك، حديث (5156)، وابن ماجه: كتاب الوصايا – باب هل أوصى رسول الله ؟ حديث (2698). وذكره الضياء في الأحاديث المختارة (6/158)، (7/35-37)، وقال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين (2/55)، وصححه الحافظ في الفتح (5/361).(/4)
الوضع في سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم
إعداد/ متولي البراجيلي
الحلقة العاشرة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
سنتناول في هذا العدد - إن شاء الله - الحديث الموضوع على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف أنَّ جماعة من الناس على اختلاف مشاربهم وأهوائهم استحلوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم الوعيد الشديد من النبي صلى الله عليه وسلم لمن كذب عليه، كما في الصحيحين: «إن كذبًا عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار».
أولاً: الحديث الموضوع
لغة: مأخوذ من وضع الشيء يضعه وضعًا، إذا حطه وأسقطه، ويقال: وضع فلان على فلان كذا، أي ألصقه به.
اصطلاحًا: هو الحديث المختلق المصنوع، المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد سمي بالحديث رغم كونه ليس بحديث، إمَّا بإرادة القدر المشترك وهو يحدِّث به، أو بالنظر لما في زعم واضعه، وأحسن منهما أنه لأجل معرفة الطرق التي يتوصل بها لمعرفته لينفى عن المقبول ونحوه. [فتح المغيث للسخاوي، النكت على نزهة النظر لعلي حسن عبد الحميد، الإسرائيليات والموضوعات لأبي شهبة]
ثانيًا: أنواع الحديث الموضوع
1- أن يضع الواضع كلامًا من عند نفسه، ثم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الصحابي أو التابعي.
2- أن يأخذ الواضع كلامًا لبعض الصحابة أو التابعين أو الحكماء والصوفية، أو ما يروى في الإسرائيليات، فينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليروج وينال القبول.
مثال لما هو من قول الصحابة: ما يروى من حديث: أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما. فالصحيح أنه من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
مثال لما هو من قول التابعين: حديث: «كأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل...» فهو من كلام عمر بن عبد العزيز.
مثال لما هو من كلام الحكماء: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء»، فهو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب على المشهور.
مثال لما هو من كلام المتصوفة ما يروى: «كنت كنزًا مخفيًا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق، فعرفتهم بي فعرفوني».
مثال لما هو من الإسرائيليات: ما وسعني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: هو من الإسرائيليات، وليس له أصل معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم. [الإسرائيليات والموضوعات لأبي شهبة]
3- أن يأخذ الواضع حديثًا ضعيف الإسناد، فيركِّب له إسنادًا صحيحًا ليروج ويشتهر، وهذا النوع يكون موضوع الإسناد لا المتن.
ثالثًا: أسباب الوضع في الحديث
هي كثيرة، ونذكر منها ما يلي:
1- العداوة للإسلام:
وذلك بدخول كثير من الأمم المغلوبة الإسلام كالفرس والروم واليهود وغيرهم، فكان منهم طائفة من المنافقين أظهروا الإسلام وأبطنوا الحقد عليه في قلوبهم فسعوا بشتى الوسائل لإفساد الناس وتشكيكهم في دينهم، كعبد الله بن سبأ اليهودي الذي أخذ يؤلِّب الناس على عثمان رضي الله عنه ويضع الأحاديث في فضل علي رضي الله عنه كحديث: لكل نبي وصي، ووصيي علي. ولم يقف به الأمر عند هذا الحد، بل ادعى ألوهية علي رضي الله عنه، ومثل محمد بن سعيد المصلوب فقد روى عن أنس مرفوعًا: أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله.
2- ظهور الفرق المختلفة:
الشيعة ينتصرون لعلي رضي الله عنه، والعثمانية، ينتصرون لعثمان رضي الله عنه، وخوارج يعادون الشيعة وغيرهم، ومروانية ينتصرون لمعاوية وبني أمية، وقد استباح بعض هؤلاء لأنفسهم أن يؤيدوا أهواءهم ومذاهبهم بما يقويها.
وأيضًا الفرق الكلامية المختلفة من معتزلة ومرجئة وجبرية وجهمية وكرَّامية.. كان له أثر كبير في إذكاء حركة الوضع، فوضعوا أحاديث يؤيدون بها مذاهبهم المختلفة كمثل الحديث الموضوع: الإيمان قول، والعمل شرائعه لا يزيد ولا ينقص.
ومثل قولهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقد سئل عن الإيمان: هل يزيد وينقص، فقال: لا، زيادته كفر، ونقصانه شرك.
ومثل ما وضعه المرجئة: كما لا ينفع مع الشرك شيء، كذلك لا يضر مع الإيمان شيء.
وقد روى ابن حبان في كتاب المجروحين عن شيخ من الخوارج أنه كان يقول بعدما تاب: انظروا عمن تأخذون دينكم فإنا كنا إذا هوينا أمرًا صيَّرناه حديثًا. زاد غيره في رواية: ونحتسب الخير في إضلالكم.
وكذلك قال محرز أبو رجاء وكان يرى القدر فتاب منه: لا ترووا عن أحد من أهل القدر شيئًا، فوالله لقد كنا نضع الأحاديث ندخل بها الناس في القدر نحتسب بها.
وقال الشافعي: ما في أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة. [فتح المغيث للسخاوي]
ومن أمثلة الأحاديث التي وضعها الرافضة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي فقال: أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة، ومن أحبك فقد أحبني، وحبيبي حبيب الله وعدوك عدوي، وعدوي عدو الله، والويل لمن أبغضك بعدي.(/1)
3- التقرُّب إلى الحكام:
فوضع بعض ضعفاء الإيمان أحاديث في فضائل الحكام والحط من شأن أعدائهم، أو لينال رضا الحاكم.
كما حدث من أبي البختري الكذاب: فقد دخل - وهو قاض - على الرشيد، وهو يطير الحمام، فقال له الرشيد: هل تحفظ في هذا شيئًا، فروى حديثًا:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيِّرُ الحمام، فقال له الرشيد وقد أدرك كذبه: لولا أنك من قريش لعزلتك.
وكما حدث من غياث بن إبراهيم لما دخل على المهدي وهو يلعب بالحمام، فروى له حديث: «لا سبق إلا في نصل أو خفٍ أو حافر، أو جناح»، إرضاءً للمهدي، فقال المهدي له وهو خارج: أشهد أن قفاك قفا كذاب، وأمر بذبح الحمام، وقال: أنا حملته على ذلك.
وما وضعه غياث هو قوله: أو جناح، أما أصل الحديث بدون هذه الزيادة فهو صحيح.
ومعنى الحديث: لا سبق: لا عوض يؤخذ في المسابقة إلا في نصل (سهم)، أو خف (الإبل)، أو حافر (الخيل).
4- الخلافات الفقهية:
كان لها أثرها في حركة الوضع، فوضعت أحاديث في فضائل بعض الأئمة، وأحاديث في ذم بعضهم.
ومن أمثلة ذلك أنه قيل لمأمون بن أحمد الهروي: ألا ترى إلى الشافعي ومن تبعه بخراسان، فقال: حدثنا أحمد بن عبد الله، حدثنا عبيد الله بن معدان الأزدي عن أنس مرفوعًا: يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي هو سراج أمتي.
وكذلك وضعت أحاديث في الاستشهاد لبعض الفروع الفقهية، كما قيل لمحمد بن عكاشة الكرماني: إن قومًا يرفعون أيديهم في الركوع وفي الرفع منه، فقال: حدثنا المسيب بن واضح، حدثنا ابن المبارك عن يونس عن يزيد عن الزهري عن أنس مرفوعًا: من رفع يديه في الركوع فلا صلاة له.
5- التكسب والارتزاق:
كمثل الذي أراد أن يروِّج لسلعته فقال حديثًا موضوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الباذنجان لما أكل له». وهو قياس على حديث النبي الصحيح: «ماء زمزم لما شرب له». [صحيح الإرواء].
أو الآخر الذي كسدت بضاعته فوضع حديثًا فيها يقول: «الهريسة تشد الظهر». وكبعض القصَّاص الذين يتكسبون بالتحدث إلى الناس فيوردون بعض القصص المسلية والعجيبة حتى يستمع إليهم الناس ويعطوهم.
مثل ما أورده ابن حبان في كتاب المجروحين: صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرصافة، فقام بين أيديهم قائم فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله تُخلق من كل كلمة منها طير منقاره من ذهب وريشه من مرجان... وأخذ في قصة نحو عشرين ورقة، فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ويحيى ينظر إلى أحمد، فقال: أنت حدثت بهذا؟ فقال: والله ما سمعت به قط إلا الساعة، قال: فسكتوا جميعًا حتى فرغ من قصصه وأخذ قطاعه (دراهمه)، ثم قعد ينظر بقيتها، فقال له يحيى بن معين بيده: أن تعال، فجاء متوهمًا لنوال غيره، فقال له يحيى: من حدثك بهذا الحديث؟ فقال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، قال: أنا يحيى بن معين وهذا أحمد بن حنبل، ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لابد والكذب فعلى غيرنا، فقال له: أنت يحيى بن معين؟ قال: نعم، قال: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق ما علمته إلا الساعة، فقال له يحيى: وكيف علمت أني أحمق؟ قال: كأن ليس في الدنيا يحيى وأحمد غيركما، كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل غير هذا. [كتاب المجروحين لابن حبان]
6- الجهل:
لقد كان لجهلة المتصوفة والقصاص الباع الكثير في وضع أحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم حسبة لله تعالى، ويقولون نحن لا نكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نكذب له.
ومن أمثلة من وضع الأحاديث حسبة لله تعالى ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي، أنه قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم: من أين ذلك: عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة.
وروى ابن حبان في الضعفاء عن ابن مهدي قال: قلت لميسرة بن عبد ربه: من أين جئت بهذه الأحاديث: من قرأ كذا فله كذا؟
قال: وضعتها أرغِّب الناس، وكان غلامًا جليلاً يتزهد ويهجر شهوات الدنيا وغلقت أسواق بغداد لموته ومع ذلك كان يضع الحديث.
وقيل له عند موته: حسِّن ظنك؟ قال: كيف لا وقد وضعت في فضل علي سبعين حديثًا.
وكان أبو داود النخعي أطول الناس قيامًا بليل وأكثرهم صيامًا بنهار وكان يضع.
وقال ابن عدي: كان وهب بن حفص من الصالحين مكث عشرين سنة لا يكلم أحدًا وكان يكذب كذبًا فاحشًا. [تدريب الراوي]
7- الترغيب والترهيب:(/2)
وجوزت الكرَّامية وهم قوم من المبتدعة نسبوا إلى محمد بن كرَّام السجستاني (كان زاهدًا عابدًا لكنه التقط من المذاهب أرداها ومن الأحاديث أوهاها) الوضع في الترغيب والترهيب دون ما يتعلق به حكم من الثواب والعقاب ترغيبًا للناس في الطاعة، وترهيبًا لهم عن المعصية، واستدلوا بما روي في بعض طرق الحديث: «من كذب عليَّ متعمدًا ليضل به الناس»، والحديث بهذه الزيادة ليس بصحيح، وحمل بعضهم حديث: «من كذب عليَّ» أي قال إنه شاعر أو مجنون، وإنه قيل في رجل معين ذهب إلى قوم وادعى أنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم في دمائهم وأموالهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقتله وقال هذا الحديث.
وقال بعضهم: إنما نكذب له لا عليه.
وقال محمد بن سعيد المصلوب الكذاب الوضَّاع: لا بأس إذا كان كلام حسن أن يضع له إسنادًا.
وقال بعض أهل الرأي فيما حكاه القرطبي: ما وافق القياس الجلي جاز أن يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
[تدريب الراوي]
فهؤلاء أوتوا من جهلهم، وغرَّ بعض الناس ما يرونه عليهم من الزهد في الدنيا، ولكنهم كما قال تعالى: >>قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا<< [الكهف: 103، 104].
فلم يُفرقوا بجهلهم بين ما يجوز لهم وما لا يجوز لهم، كما يحكى عمن كان يتصدى للشهادة برؤية هلال رمضان من غير رؤية، زاعمًا للخير بذلك لكون اشتغال الناس بالتعبد بالصوم يكفهم عن مفاسد تقع منهم ذلك اليوم. [فتح المغيث]
ولهذا قال يحيى القطان: ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير. أي لعدم علمهم بتفرقة ما يجوز لهم وما يمتنع عليهم.
ولأن عندهم حسن ظن وسلامة صدر، فيحملون ما سمعوه على الصدق، ولا يهتدون لتمييز الخطأ من الصواب. [تدريب الراوي]
وكالحديث الطويل الذي وضعوه على أُبي بن كعب رضي الله عنه في فضائل سور القرآن سورة سورة- وما زال الناس يتداولونه فيما بينهم إلى الآن - الذي اعترف راويه بالوضع له، فقد روى الخطيب البغدادي من طريق أبي عبد الرحمن المؤمل بن إسماعيل العدوي البصري ثم المكي المتوفى بعد المائتين، وكان - كما قال أبو حاتم - شديدًا في السنة، ورفع أبو داود من شأنه؛ ما معناه: أنه لما سمعه من بعض الشيوخ سأله عن شيخه فيه، فقال رجل بالمدائن وهو حي فارتحل إليه، فأحال على شيخ بواسط فارتحل إليه، فأحال على شيخ بالبصرة، فارتحل إليه، فأحال على شيخ بعبادان، قال المؤمل: فلما صرت إليه أخذ بيدي فأدخلني بيتًا فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخ، فقلت له: يا شيخ من حدثك بهذا الحديث؟ فقال: لم يحدثني به أحد، ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن.
ولقد أخطأ كل من أودعه في كتاب التفسير كالواحدي، وابن مردويه، والثعلبي، والزمخشري، إذ الصواب تجنب إيراد الموضوع إلا مقرونًا ببيانه، والزمخشري أشدهم خطأ، حيث أورده بصيغة الجزم غير مبرز لسنده، وتبعه البيضاوي بخلاف الآخرين فإنهم ساقوا إسناده. [فتح المغيث]
فائدة:
ذكر الحافظ ابن حجر أن الاكتفاء عن بيان حاله (درجة الحديث) بالنظر في سنده طريقة معروفة لكثير من المحدثين، وعليها يحمل ما صدر عن كثير منهم من إيراد الأحاديث الساقطة معرضين عن بيانها بيانًا صريحًا.
وقد وقع هذا لجماعة من كبار الأئمة، وكان ذكر الإسناد عندهم من جملة البيان، ومن هؤلاء كما في فتح المغيث للسخاوي: الطبراني وابن منده وأبو نعيم والحكيم الترمذي وأبو الليث السمرقندي، وقد كان علماء عصرهم يعرفون الإسناد فتبرأ ذمتهم من العهدة بذكر السند. قال السخاوي: ولا تبرأ العهدة في هذه الأعصار على إيراد إسناده بذلك لعدم الأمن من المحذور به، وإن كان صنعه أكثر المحدثين في الأعصار الماضية في سنة مائتين وهلم جرًا.
[هامش تدريب الراوي]
8- ذم الخصوم:
فقد وضع قوم أحاديث في ذم من يريدون ذمه، كما أسند الحاكم عن سيف بن عمر التميمي قال: كنت عند سعد بن طريف فجاء ابنه من الكتّاب يبكي، فقال ما لك؟ قال: ضربني المعلم، فقال: أما والله لأخزينهم، حدثني عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «معلمو صبيانكم شراركم، أقلهم رحمة لليتيم، وأغلظهم على المسكين».
9- قصد الشهرة:
وذلك بإيراد أحاديث فيها غرائب ليست موجودة عند أحد من شيوخ الحديث ليشتهر بها ويعرف.
مثل الحديث الذي وضعه محمد بن سليمان بن هشام (وهو في تاريخ بغداد) حدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أسرى بي إلى السماء: فصرت إلى السماء الرابعة سقط في حجري تفاحة، فأخذتها بيدي، فانفلقت، فخرج منها حوراء تقهقه، فقلت لها تكلمي، لمن أنت؟ قالت: للمقتول شهيدًا عثمان.
مراجع الموضوع(/3)
[فتح المغيث للسخاوي، تدريب الراوي للسيوطي، كتاب المجروحين لابن حبان، النكت على نزهة النظر لابن حجر لعلي حسن عبد الحميد، الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير لأبي شهبة، نزهة النظر لابن حجر تحقيق عمرو عبد المنعم، شرح نزهة النظر لابن عثيمين، أسئلة وأجوبة في مصطلح الحديث للعدوي، تيسير مصطلح الحديث للطحان، تيسير علوم الحديث لعمرو عبدالمنعم]
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.(/4)
الوعظ والإرشاد وأثرهما في التربية الصحيحة .
إن الوعظ هو الأسلوب المباشر الصريح في التربية، ومن السهل الاعتماد على هذا الأسلوب في توجيه الناس ونصحهم، فما على المربي الا أن يتوجه بالمواعظ والنصائح إلى من يريد ويطلب منه الامتثال لها والانصياع لأوامر الله سبحانه ونواهيه.
والأمثلة التي تدل على ذلك في كتاب الله تعالى كثيرة، فمنها: ما جاء في موعظة لقمان الحكيم لابنه وهو ينهاه عن الشرك بالله ويبين له علمه الشامل لكل شيء، ويأمره بالصلاة وبالمعروف وينهاه عن المنكر ويأمره بالصبر وينهاه عن الكبر، قال الله سبحانه وتعالى: ((وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ *يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير)).
وعند التأمل في هذه الموعظة الغالية نجد أنها تتعلق بالعقيدة والعبادة والاخلاق، وهي واضحة لا غموض فيها ومقبولة للنفس السوية ولا يجد أحد مسوغاً لردها.
ومن ذلك ما جاء في دعوة نبي الله هود عليه السلام لقومه إذ خاطبهم بقوله: ((وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم)).
وهكذا ذكرهم بفضل الله عليهم، وأمرهم بطاعته، وخوفهم من عذابه، ولكنهم أصروا على الكفر فكان مصيرهم الهلاك، حتى حكي الله تعالى قولهم: ((قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِين)).
أما السنة النبوية الشريفة: ففيها أمثلة كثيرة تدل على وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه، بل أنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يعظ أصحابه في غير الخطب الراتبة -كخطب الجمعة والأعياد- وقد امره الله تعالى بذلك، فقال: ((وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا )).
قال ابن رجب الحنبلي: (والبلاغة في الموعظة مستحسنة، لانها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها، والبلاغة: هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها، وأفصحها وأحلاها للاسماع، وأوقعها في القلوب، وكان عليه صلى الله عليه وسلم يقصر خطبته ولا يطيلها، بل كان يبلغ ويوجز)).
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخولهم بالموعظة، كما في الصحيحين وغيرهما عن أبي وائل قال: كان عبد الله بن مسعود يذكرنا كل يوم خميس، فقال له رجل: يا ابا عبد الرحمن انا نحب حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم فقال: ما يمنعني ان أحدثكم الا كراهة أن أملكم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا.
وقد قال العرباض بن سارية، رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وان تأمَّر عليكم عبد، وأنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
قال الشيخ عبد المجيد الأزهري: (ذرفت منها العيون): أي سالت منها دموع العيون لشدة تأثير الموعظة في النفوس، فإنها -أي الموعظة- الكلام الدال على التخويف بطريق النصيحة...(/1)
ومن الأمثلة الظاهرة حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
(وهكذا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيدة الإيمان باليوم الآخر أساساً في التربية وقاعدة للدعوة إلى مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، لكن الإسراف في هذا الأسلوب من التربية قد يجعله مملاً ممقوتاً، وبالتالي يؤدي إلى الإعراض والنفور، ولذا يجب الاقتصاد فيه وملاحظة النتائج المترتبة عليه).
وقد أرشد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم قائلاً له: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )).
ويقول أيضاً: ((وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا))، ويقول: ((وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )).(/2)
الوقاية من أمراض القلوب
للأستاذ الدكتور/ خالد الجبير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أسأل الله العلي العظيم المنان الكريم الواحد الأحد الفرد الصمد أن يصلح نيتي ونواياكم وذريتي وذراريكم وأن يثيبني وإياكم على ما نقوم به وأن يحشرنا مع محمد صلى الله عليه وسلم وأسأل المنان الكريم العفو الرحمن الرحيم كما جمعني بكم في هذا المسجد أن يجمعني بكم بالمصطفى صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.. اللهم آمين.. اللهم آمين.. اللهم آمين..
- في منتصف شهر رمضان، وعندما أقيمت الصلاة في مسجد من مساجد حي السليمانية في صلاة الفجر وعندما أقام الصلاة المؤذن، إذا بمصلي من المصلين يقع من طوله ويختلط المسجد ماذا يعملون به، منهم من قال: نذهب به جميعاً ونترك الصلاة ومنهم من قال: نصلي ثم نذهب به للمستشفى واقترح عليهم آخر، قال: بل يأخذه ثلاثة أو أربعه ونصلي ومن أراد أن يذهب له في إسعاف العسكري فعليه أن يذهبوا إليه، في الطريق استيقظ هذا الشاب في الأربعين من عمره وبدأ بماذا؟ بدأ بلا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أكبر.. الله أكبر ولا إله إلا الله.. وصل إلى إسعاف المستشفى العسكري بادره الأخوة وعندما وضعوه على جهاز القلب رأوا في قلبه عجباً رأوا جلطه لو كانت في جمال لأهلكتها فكيف بهذا الرجل؟
يبتسم بذكر الله.. يطمئن بذكر الله.. لا إله إلا الله والله أكبر يرددها.. وطُلب الأخصائي الأول للقلب وجاء إليه ورأى حاله وتعجب من ابتسامته ثم دنا منه فرأى ما في قلبه فذهب مسرعاً ليجهز غرفة الإنعاش في الإسعاف ليأخذه إليها ويقول الزميل: عندما دخلت إليه راجعاً وجدته يُسر في أذن أحد زملائي سراً فظننت أنه يكلمه في شيء خاص فبعدت عنه ثم ما هي إلا دقيقه أو أقل وإذا بذاك الشاب يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.. ثم يموت، فيقول الزميل: فإذا بزميلي الآخر يبكي.. يبكي، سألته: لماذا؟ فبعد أن أفاق بعد ثلاث أو خمس دقائق قال لي: يا دكتور فلان هذا الرجل قال لي كلام، قلت له: ماذا قال لك؟ قال أسر لي وهو مبتسم، قال: والله إني مُتوفى و والله إني لأرى الجنة و والله إني على خير، ثم دخلت أنت فتشهد فمات.. سُئل عن هذا الرجل على أي شيء هذا الرجل، فقيل لزميلنا: هذا الرجل كان يُسابق المؤذن على المسجد فساعة يسبقه وساعة يسبقه المؤذن والغلبة دائماً لهذا الرجل.. شاب في الأربعين ما خرج من مسجدٍ إلا تذكر أنه صلى صلاة فنهته عن الفحشاء والمنكر ولم يُعهد عليه زيف، كذب، نميمة، غش، غيبة، تدنيس أو قطيعة رحم..
- أجرى أحد الزملاء عملية ترقيع شرايين لمريض وبعد ستة أيام وقد كان الزميل قد هم بإخراج هذا الرجل في ذاك اليوم لأن صحته طيبه وعندما هم بإخراجه تفاجأ الجميع أن هذا الرجل قد استدعى زوجته وأبنائه وأخوته وجمعهم أمامه وقال لهم: اسمعوا فإني والله متوفى فعليكم بكذا وكذا وسامحيني يا أم فلان عن كذا وكذا واعمل أنت يا فلان كذا وكذا ثم استدعى الطبيب وقال له: أستسمحك واسأل الله لك التوفيق فأنا متوفى فسامحني وجزاك الله على عمليتي، ثم استدعى الممرضين وقال لهم ما قال ثم نام على جنبه الأيمن وتشهد ومات.. هذا الرجل معروف عند الناس بحبه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، معروف بطيبه وحفظ لسانه معروف أحسبه والله حسيبه..
- حدثني الدكتور جاسم الحديثي وهو استشاري أمراض القلب للأطفال في المركز عندنا وهو ثقة أحسبه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا وكناه أحد الأخوة بحمامة المسجد من ورعه وتقاه وهذا كان في بريطانيا فكيف به في أرض الإسلام، حدثني وقال: حدثني شاب زميل لي وهو ثقة أحسبه والله حسيبه، أنه قد أُستدعي في ليلة من الليالي لأنه كان مناوب للكشف على رجل قد مات لكتابة شهادة وفاته وكما هو المعتاد وضع سماعته على قلب ذاك الرجل وسمع عجباً، سمع قدرة المنان العزيز الرحمن الكريم الذي يحيي العظام وهي رميم، ما أن وضع سماعته على جسد ذلك الرجل إلا وسمع "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله" فيقول: وقفت وسألت الممرض هل نحن في صلاة الفجر؟ هل سمعت أذان؟ قال: لا، فرجعت بالسماعة فوضعتها عليه إلى أن انتهى الآذان وتوقف القلب وتوقف الصوت، أتدرون من هو ذاك الرجل؟ ذاك مؤذن قد شُهد له بأشياء عجيبة، يُقال: كان يفتح المسجد قبل الآذان بنصف وكان يختم في ثلاث، وكان لم يُشهد عليه مرة أنه لم يسبح أو يهلل إذا تركه الناس، لم يغتب لم يعمل أي شيء من الفحشاء والمنكر، أحسبه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً..(/1)
- أصيب شاب في السابعة عشر من عمره بطلق ناري عن طريق الخطأ، أخذته أمه وأباه إلى المستشفى وهم في الطريق نظر هذا الشاب إلى أمه وهي تبكي، قال: أمي.. أمي.. أمي لا تحزني فإني والله على خير وإني والله مُتوفى وإني والله لأشم رائحة الجنة، وصل إلى إسعاف المستشفى العسكري بالرياض، كنتُ في غرفة العمليات، أرسلت له أحد الإخوة فعندما قرب منه قال له: دكتور أرجوك والله إني مُتوفى و والله إني لأشم رائحة الجنة أريد أمي وأبي أن أودعهما، يقول الزميل: ارتفع شعر رأسي تلعثم لساني امتلأت عيناي بالدموع لم أعرف كيف أرد، تراجعت للوراء ذهبت إلى أمه وأباه أتوا..قبلهما.. ودعهما، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، بعد صلاة المغرب وفي مسجد المستشفى وبعد أن أنهيت عملياتي في ذاك اليوم قابلت الأخ ضياء مغسل الموتى في المستشفى العسكري وهو على خير أحسبه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا..
قال لي نفس القصة وزاد عليها أنا والله من فككت أصابع يده من الشهادتين وأنا والله من مسح العرق من على جبينه وإن فيه طراوة لم أعهدها في مُتوفى، وإن في وجهه نضارة لم أرها في وجه مُتوفى قبل، سُئل أباه على أي شيء ابنك هذا؟ سبعة عشر عاماً يرى موقعه في الآخرة وهو مازال معنا في الدنيا يشم الجنة بمسكها وريحها وريحانها وهو مازال في إسعاف المستشفى العسكري بالرياض، سئل على أي شيء ابنك هذا، فقال كلاماً عجباً، قال: ابني هذا منذ بلغ وهو متعهدنا لصلاة الفجر والمسئول في المنزل عن إيقاظ الناس، ابني هذا منذ بلغ وهو صاحب قيام ليل، ابني هذا منذ بلغ وهو في الروضة من المسجد، ابني هذا منذ بلغ وهو محافظ على حلق تحفيظ القرآن، ابني هذا في الصف الثاني ثانوي علمي من الأوائل...
- في الساعة السابعة إلا ربع اتصل بي الإسعاف وقال إن هناك مريضه أصيبت بجلطة في قلبها نريدك أن تأتي فتراها فجئت مسرعاً وما أن وصلت إلى باب الإسعاف إلا وتوقف قلبها فبدأت بالتدليلك وبعد دقيقتين من التدليك إذا بها ترفع يدها، تفتح عيناها كأنها تنظر لأحد في السماء وتخاطبه بقوة وحرارة وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فأتوقف ثم تتوقف هي، وأبدأ بالتدليك فتعيد الكرة في الثانية، فأتوقف وفي المرة الثالثة رأيت عجباً رأيت قدرة المنان العزيز الرحمن الرحيم الذي يحيي العظام وهي رميم، رأيت تلك المرأة بعيني وكان معي الدكتور عبدالجبار رأيتها تتشهد وترفع يدها وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله وإذا بعيني تقع على جهاز القلب الموصل بقلبها وأرى قدرة المنان العزيز، قلب لا يعمل ولسان ينطق بلا إله إلا ا لله، خرجت إلى زوجها معزياً ذكرت له القصة وظننته ما ظننت، فرد علي بكل بساطة: يا دكتور أنا لا أستغرب! كيف لا تستغرب؟! أنا لا استغرب لماذا؟ قال: منذ تزوجتها يا دكتور منذ خمس وثلاثون عاماً هذه المرأة لم تترك قيام الليل إلا بعذر شرعي..
- في الساعة السابعة صباحاً دخلت باب الإنعاش فإذا بستة أبناء برره يقابلونني ويقولون إن أبانا يحتضر لو سمحت يادكتور خالد نريدك أن تأتي وتُلقنه الشهادة، جادلتهم فجادلوني على من يُلقنه الشهادة ومن هو الأولى بهذا فأقنعوني أن أقوم أنا بتلك المهمة، ذهبت إليه قربت منه وقبل أن ألقنه الشهادة وقبل أن أنطق نظرت إلى جهاز القلب الموصل بقلبه فوجدت ضغطه 35 العالي والواطي 18 ونبضه 25، رجل يحتضر دنوت منه، قلت له: قل أشهد أن لا إله إلا الله فحرك يده وحرك لسانه، هذا الرجل له شهران قد توقفت كليتاه ورئتاه وأصيب بجلطة في دماغه وتعطل قلبه ولكن مع لا إله إلا الله حركته.. لم تنتهي القصة رأيت العجب، رأيت الممرضة ميري-الكافرة- وإذا بها تقول لي دكتور جبير انظر.. انظر إلى الشاشة فأنظر قدرة المنان العزيز الرحمن الرحيم نبضه أصبح 115، ضغطه 125 على85 علمت أن هذا الرجل أن لا إله إلا الله لم تحرك لسانه فقط ويده بل حركت جميع أركانه وجوارحه قلبه وعقله ودماغه الذي قد انتهى بالجلطة فعلمتُ –أحسبه والله حسيبه- أن هذا الرجل على خير، فطلبت من أبنائه أن يقرءون عليه شيئاً من القرآن لأنه يحس بذكر الله فيذكروه به، وقلت لهم: قد يموت بعد نصف ساعة أو ساعة، فماذا جرى!! قدرة العزيز المنان الكريم الرحمن الرحيم.. استمر أبناؤه يقرءون عليه القرآن، أبناؤه الستة بالتواصل أربع ليالٍ وثلاث أيام لم ينقطعوا أبدا أبداًً حتى أتموا عليه قراءة المصحف ثم توفاه الله، سألت أبنائه على أي شيء أبوكم هذا، قالوا: أبونا صاحب قرآن، أبونا يختم في ثلاث وإذا أُشغل في خمس ولا يتعدى سبعا، أبونا صاحب لا إله إلا الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، أبونا صاحب سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.(/2)
- حدثني ضياء وأخوه حمد وهما مغسلا الموتى في المستشفى العسكري في الرياض وهما أحسبهما والله حسيبهما ولا أزكي على الله أحدا من أهل الطاعة والالتزام، حدثاني وقالا: أتانا رجل متوفى في السبعين من عمره من أهل سكاكا وكنا في ذاك الوقت ليس لدينا في المغسلة شيء من الطيب أو ما نطيب به الناس حتى الكافور والسدر لا يوجد عندنا، قد طلبناها من المستشفى ولم يؤمنها مكتب التموين، فيقول سألت أبنائه والكلام لحمد: هل عندكم شيء من الطيب لأبيكم؟ قالوا: لا.. نحن من سكاكا وليس عندنا شيء أبدا، فيقول والكلام لحمد: بدأت بالغسل وما أن لامس الماء جسد ذلك الرجل المسن إلا وفاحت رائحة من أطيب أنواع الطيب، أزيد الماء فتزيد الرائحة.. أزيد الماء فتزيد الرائحة.. أزيد الماء فتزيد الرائحة.. تعجبت! وقفت.. وذهبت إلى أخي ضياء وكان في المكتب، قلت له: تعال لتساعدني ولم أقل له شيء، جاء وما أن دخل المغسلة إلا وشم تلك الرائحة، قال: أحضرت له الطيب وطيبته؟ قلت: لا انظر، فصببت الماء ففاحت الرائحة، طلبت من أحد أبنائه أن يدخل، فدخل فتعجب، سئلناه هل طيبتم أباكم شيئاً قبل أن يموت؟ قال: لا إنه في الإنعاش أسبوعين وفي الثلاجة 36ساعة فلم نطيبه! قال: هل أنتم طيبتموه؟ قلنا: لا.. المهم انتهينا من غسله ونشفناه ثم قلبناه في كفنه وما أن لامس كفنه إلا وفاح من الكفن رائحة مثل الأولى فكفناه وأخذه أبناؤه وذهبوا به، ويقول الأخ ضياء فتبعت أبناؤه سألتهم: على أي شيء أبيكم هذا؟ انظروا ماذا قال: قال ابنه: أبي هذا منذ عرفت نفسي في سكاكا وهو آمر بالمعروف ناهي عن المنكر لم يرى منكراً إلا وغيره بقدر الاستطاعة ولم يرى معروفاً إلا ودل عليه بقدر الاستطاعة بلين وتودد وسماحة وأناء..(/3)
- كنت في إجازة وكنت أراجع بعض الأبحاث في بيتي وكانت الساعة الثانية ليلاً فجاءني هاجس خاطر أن آخذ أوراقي هذه وبحثي وأتمه في المستشفى ولم تكن لي عادة، فأخذت أوراقي وذهبت إلى المستشفى ودخلت قسم المسالك البولية وما أن دخلت القسم إلا وقابلتني في الساعة الثانية والربع ليلاً تلك الممرضة وقالت لي: دكتور جبير هناك رجل يحتضر تعال وصلي عليه على طريقتهم وكانت هي إيرلندية كاثولكيه، قلت لها: ما اسمه قالت: محمد. كم عمره؟ قالت: أربعون، قلت: مابه؟ قالت: سرطانه في المثانة انتشر في جميع أجزاء جسمه حتى وصل إلى دماغه وهو مغمى عليه منذ شهر لا يحس بشيء في غيبوبة تامة، قلت: كم نبضه؟ قالت: نبضه العالي قرابة الثلاثين والواطي لا أحصيه.. كم نبضه؟ قالت: في الخمسة عشر يقل أو يزيد، ذهبت إليه بحثت والغريب أني ذهبت إلى تلك الغرفة التي قالت لي الممرضة فرجعت إليها مسرعاً قلت: لم أجد شخصاً يحتضر! قالت: إنه هناك، قلت: لم أجد شخصاً يحتضر! وجدت جميع المرضى ولم أجد فيهم شخص يحتضر! فأخذتني إليه وماذا أرى؟ أرى شاباً يشع النور من وجهه، شاباً مُلأ وجهه ببياض وحمره وزينت وجهه لحية سوداء من يراه لا يظن أنه محتضرا وعندما نظرته لأول مرة كنت أظنه مستلقياً نائماً فلم أظنه محتضرا! دنوت منه قلت له: محمد، قال: نعم، قلت: كيف حالك؟ قال: بخير والحمد لله، قلت له: قل لا إله إلا الله، فقالها ثم مات... تعجبت الكافرة كيف هذا من لا نبض له أو ضعيف النبض يقول بهذه الطلاقة كلمات وأتحادث إليه، فقالت لي: هلاّ كلمت أهله، قلت: نعم.. أنا من يريد أهله، أخذت التليفون فكلمت أهله فرد أخاه قال أنا في شقة مفروشة أمام المستشفى العسكري بالرياض، سوف آتيك الآن، فجاءني وسألته بعد أن ذكرت له قصتي أني كنت في بيتي أذاكر وانسقت له انسياقاً لألقنه الشهادة فما أمر أخيك؟ أتدرون ما أمر أخيه؟ أمره عجب، قال: أخي هذا منذ عرفته لم يغتب أحداً ولم يسمح لأحداً أن يغتاب في مجلس هو فيه..- كان لي قريب في الثلاثين من عمره، أصيب بالسرطان في الدماغ، ذهب إلى الولايات المتحدة للتطبب وبعدها لم يُكتب له الشفاء فجاء إلى المستشفى العسكري بالرياض ثم جلس فترة وقبل أن يموت بثلاثة أسابيع أو أربعة أغمي عليه وقبل أن يموت بليلتين ذهبت إليه رأيت في وجهه عجباً، عيناه قد خرجت من مكانهما أنفه قد كبر عشرة أضعاف شفتان كبيرتان متشققتان، خد بل الخدان متشققة، لا تستطيع أن تنظر لوجهه بل أجزم أن أكبر أعداءه والحاقدين عليه لا يستطيعون النظر إلى وجهه، علمت أن أجله قد دنى أو ظننت أن أجله قد دنى فطلبت من الممرضات أنه إذا بدأ في الاحتضار أن يتصلوا بي بدل أن يتصلوا بأهله فترد والدته فيزعجوها بوفاته، فعلاً يوم الاثنين الساعة 6صباحا اتصل بي المستشفى وقال: إن قريبك الفلاني يحتضر، جئت إليه.. سألت الممرضة كم ضغطه؟ قالت لي: العالي25أو27 الواطي أعتقد 12أو13 لا أستطيع أن أحسبه، سألتها: كم نبضه؟ قالت: تحت الثلاثون، دخلت إليه فماذا أرى؟ أرى وجه محمد الناصع الطيب من سنة قد فاتت، كأني لم أرى وجهه من ليلتين وذاك المنظر رأيت عيناه وقد رجعت إلى مكانها وأنفه قد عاد كأنه طبيعي ووجهه وشفتاه وتلك الابتسامة المرسومة على شفتاه، تعجبت من أمره، دنوت منه، قلت: محمد، قال: نعم.. خالد، قلت له: نعم، قلت له: كيف حالك؟ قال: بخير والحمد لله، قلت له: اشهد أن لا إله إلا الله، فتشهد شهادة كاملة كأنه جالس معي جلوساً عادياً ثم توفاه الله.. وبما أنه قريبي بدأت أبحث على أي شيء كان له هذا من حسن الخاتمة، أحسبه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً، ولم أجد جواباً شافياً وبعد سنة قابلت أباه في مناسبة خاصة، ذكرت له القصة أو ذكرته بالقصة، فبعد أن امتلأت عيناه بالدموع نظر إلي وقال: أبا محمد ابني هذا غريب.. لماذا غريب؟ قال: منذ عرفته وهو لا يعرف الحقد والحسد لا يعرف ولا يمكن أن ينظر إلى ما في يد الناس لم يقل منذ حياته، أبي لماذا أعطيت فلان ولم تعطني؟ ولا يمكن أن يكون في قلبه ذرة حقد أو حسد على أحد..
بعد هذه المقدمة أبدأ محاضرتي وقبل أن أبدأ ما هو موقفنا من هذه القصص التي لا أقول قال وقال ولكني أقول قلت وسمعت وإن عن عنت فأعن عن، عن رجل واحد ثقة ومن حصلت له القضية بعينها،ماهو موقفنا؟ أترك هذا السؤال لكم للإجابة عليه ولكن محاضرتي:
ماهي سبل الوقاية من أمراض القلوب؟ كيف نقي قلوبنا من الأمراض؟
الكل في المجالس يقول: يا دكتور كثرت الجلطات.. يا دكتور كثرت التهاب الصمامات.. يا دكتور كثرت الخفقانات، يا دكتور كثرت الوخزات، يادكتور كثرت الآلام.. فما السبب؟
أخواني نحن السبب.. كيف نقي قلوبنا من الأمراض؟
ما استطعت أن أجمعه وعدوا معي وقد تجمعون أكثر مني فقد جمعت إحدى وعشرين سبباً لهذه الأمراض..
كيف نقي قلوبنا من الأمراض؟(/4)
نقيها: 1- المحافظة على الصلاة. 2- المحافظة على قراءة القرآن. 3- البعد عن الغيبة. 4- البعد عن الحسد. 5- الأمر بالمعروف. 6- ذكر الموت والتفكر في ما بعد الموت، المنافسة في أعمال الآخرة، الإيمان بالقدر خيره وشره، استصغار الأعمال واستعظام الذنوب، النفس اللوامة، التعفف عما في أيدي الناس، السيطرة على ارتفاع ضغط الدم، المحافظة على الأكل ومحاربة السمنة وعدم المبالغة في الأكل، السيطرة على السكر، السيطرة على الكلسترول، السيطرة على التهاب اللوزتين والحلق خاصة عند الأطفال، البعد عن ما حرم الله من دخان وخمور ومخدرات، المحافظة على أعضاء الجسم وخاصة الأسنان، ممارسة الرياضة, أما آخرها فقد تستغربون.. الالتزام بقواعد المرور، سوف تقولون يا أبا محمد كيف هذه؟
كيف المرور يقي بأمر الله من الأمراض العضوية؟ وأنا أقول هذه ما سردتها عليكم إنما هي كيف نقي أنفسنا من الأمراض العضوية؟
سوف أبسطها وأسأل الله أن يعينني على ذلك..
كيف الصلاة تقي من الأمراض العضوية؟
أقول لكم ألم يقل المولى جل تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) فمن يصلي الصلاة فقد كان له أمران مُنع عن الفحشاء والمنكر، وتارك الصلاة يا أخوان كالذباب يقع على كل فاجر؛ فقد يكون شارب خمر ويؤذي قلبه، شارب دخان ويؤذي قلبه، شارب مخدرات ويؤذي قلبه.. وقد يكون صاحب غيبة ونميمة وحسد لأنه لم يصل صلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فأما ما ذكرت من الثلاث الأول فتعرفون أنها مما لا شك فيه أنها سبب مباشر في الأمراض العضوية للقلب.. وتسألونني كيف يكون الحسد والغيبة والنميمة سبب مباشر للأمراض العضوية للقلب؟ أقول إن صاحب الغيبة والنميمة والحسد في قلق في محنة لا يرتاح فيصاب بأمراض عدة أغلبها الخفقان، ألم تزد هذه الأيام أمراض الخفقانات في مجتمعات أمة محمد؟! ألم تزد تلك منظمات القلب في قلوب أمة الإسلام؟! ما سببها؟
ثم ثانيها ألم يقل سبحانه وتعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) فإذا صليت صلاة مودع اطمئن قلبك وانشرح صدرك ورخصت عندك الدنيا واهتميت بالآخرة، وجعل الله الدنيا أقل شيء عندك وجعل الله الآخرة أكبر همك ومن وصل إلى هذه المنزلة فقد ارتاح قلبه ولن يأتي لابن جبير في عيادته.. تقولون كيف هذا؟ كيف؟
اضرب لنا أمثلة ، اضرب لنا شيء من أمثلتك، أقول أضرب لكم اثنان.. جاءني رجل بعد صلاة العشاء وقال: إن زوجتي مصابة بخفقان وضيقة في الصدر، أريدك يا دكتور أن تراها، قلت: أحضرها غداً الساعة الثامنة إن شاءالله..
جاء بها وعملنا لها فحوصات فلم أجد بها شيئاً في القلب، قلت لها: تعالي.. يا أختي سوف أسألك خمس أسئلة، قالت: نعم؟ قلت: أنت تشتكين من خفقان في القلب، قالت: نعم، قلت: عندك القولون؟ قالت: نعم، قلت: عندك ألم في المفاصل؟ قالت: نعم عندي موعد مع دكتور المفاصل.. قلت: عندك ألم في المعدة؟ قالت: نعم عندي موعد مع دكتورة المعدة، قلت: عندك وجع في الرقبة والرأس وصداع؟ قالت: نعم عندي موعد مع دكتور الأعصاب، قلت: عندك ضيق في التنفس؟ قالت: نعم عندي موعد مع دكتور الصدر. قلت: أختي تريدين أن يشفيك الله؟ قالت: نعم، قلت: سوف أسألك سؤالين أو ثلاثة، قالت: ما هي؟ قلت لها: أتصلين الصلوات الخمس في وقتها؟ قالت: نعم ماعدا الفجر أحياناً، قلت لها: أتذكرين الله في الصباح والمساء؟ قالت: لا، قلت: ألك ورد من القرآن؟ قالت: لا.. أتقومين الليل؟ قالت: لا ... أتوترين؟ قالت: لا ، قلت لها أتريدين الشفاء؟ قالت: نعم، قلت: سوف أكتبُ لك وصفة ولكنها من العزيز المنان الرحمن الرحيم، كتبها لعباده فالكيس منهم من يحفظها، قالت: نعم.. ماذا؟ قلت: تقومين قبل الفجر قليلاً فتصلين ما يفتح الله عليك ثم تصلين الفجر وتذكرين الله بأذكار الصباح وتقرئين القرآن وتأخذين منه ورداً ثابتا ثم تصلين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في وقتها إذا دخل وقتها، ثم تحفظين لسانك من الغيبة والنميمة، فقالت: هذا صعب يا دكتور، قلت: حاولي فوالله ما اتجه للمنان العزيز الرحمن الرحيم أحدٌ إلا ساعده، بعد ثلاث أسابيع يا إخوان جاءني زوجها بعد صلاة العشاء أيضاً، سألته عنها؟ فضحك وقال: مزقت جميع المواعيد.. شفاها الله وجزاك الله خيراً أبا محمد قلت: لا والله ما عملت شيء، هي امرأة فيها خير وصلاح عرفت بتقصيرها فكان هذا حقاً..(/5)
أما الأخرى فقد كلمني عليها أحد الأقارب وما أن جلست هي وزوجها إلا وبادرتني بكلمة تقول: يا دكتور تعبت.. تعبت.. قلت لماذا تعبتي؟ قالت: ذهبت للدكتور الفلاني والدكتور الفلاني لي سنتان وأنا أذهب إلى الدكاترة ولم أشفى تعبت قلت: مما تشتكين؟ قالت: من خفقان ضيق في الصدر كسل وهن في العظام، قلت: خيراً إن شاء الله أرسلتها للفحص وبعد أربعة أو خمسة أيام جاءتني بفحصها نظرت لأوراق فحصها وجدتها سليمة مائة في المائة قلت: أنت سليمة بالمائة لكن أنت عندك مشكلة .. قلت: أنت تفعلين كذا.. قالت: نعم ..تغتابين..نعم .. تفعلين كذا ..نعم قلت: تريدين أن تشفي؟! قالت: نعم إذاً لماذا أتيت لك؟ قلت: تتبعين هذه الأشياء، قالت: أنت دكتور أم شيخ، أنا أريد دواء ما دخلك أصلي فرضي أم لا، قلت: هذا ما عندي.. المهم بعد أسبوعين علمت عن طريق قريبي هذا أنها ذهبت إلى أحد الزملاء ودفعت خمس أو ست آلاف للكشف وفي مستشفى آخر ثلاثة آلاف وبعدها في بريطانيا وبعدها في أمريكا تبحث عن العلاج.. والعلاج عند رب الداء والدواء..
كيف القرآن يحمي به الله قلوب عباده من الإصابة بالأمراض العضوية؟
إذا قرأت القرآن، يقول الله سبحانه وتعالى :(ألا بذكر الله تطمئن القلوب) فيطمئن قلبك وينشرح صدرك وتعلم أنك تخاطب ربك فيذهب سقمك ولا تأتي إلى ابن جبير في عيادته..
أخواني 60% بل 70% ممن يرتادون علي في العيادة أسبابهم أنهم أفرطوا في حق الله وما يرجع بعضهم إلا ويشفون وما يعاند بعضهم إلا ويذهب كما ذهبت تلك المرأة.
الغيبة الحسد النميمة كيف تؤثر على الشخص؟
كذلك تؤثر.. صاحب الغيبة والنميمة يا أخوان تكون عيناها كـ(مساحات السيارة) ينظر إلى الناس هذا كذا وذاك كذا وذاك كذا ومن أين حصل على كذا ومن أين اشترى كذا، ويدخل نفسه في دوامه قلق والمصابون بالقلق هم أكثر عرضة للإصابة بالشرايين التاجية.
- جاءني رجل أستاذ في الجامعة من هؤلاء أعلمكم بماذا يعمل؟!
يمشي ساعة ونصف في اليوم، يسبح من نصف إلى ساعة يومياً، يتمرن على الحديد قليلاً، يعمل حمية، يخاف من ماذا؟ يخاف أن يصاب بجلطة في القلب وعمره قد تعدى الخمس والأربعون قليلاً وإذا به يصاب بأسوأ أمراض شرايين نظرت إليها في حياتي جئت إليه وقال لي: يا دكتور لا أدري كيف أصبت بالجلطة، أجري وأسبح وأمشي ثلاث ساعات يومياً رياضة، لا أدري كيف أصبت؟
قلت: أأنت قلق من أجل ذاك قال: نعم، قلت: أنت صاحب كذا؟ قال: نعم، قلت: أنت مما يسمى القلقين لأنك لم تعطي الله حقه، فالقلقين يا أخوان من هم أصحاب النميمة والحقد والحسد ومراقبة الناس والظلم، هؤلاء تحت اسم القلقين وهي أول وأهم أسباب الإصابة بالشرايين فيما تحت الخمسين من عمرهم.
كيف يقي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمراض العضوية بالقلب؟
إذا أنت أمرت بالمعروف الأصل القائم عليه الأمر بالمعروف في الشرع هو الخيرية للأمه، والأصل القائم عليه هو طرد الأنانية، أحب للناس ما تحب لنفسك، تسمو بذاتك لتسعد غيرك، إذا وصلت لهذه الدرجة هانت عليك الدنيا فهان عليك ما فيها وذهبت لخالقها وبارئها فأصبح أكبر همك ربك ثم كتابه..
أما إذا كنت من الذين قد أهمتهم نفوسهم ويروا الخير ولا يدلون الناس عليه ويرون المنكر ولا ينهون الناس عنه ويقول: الحمد لله أنا طيب ولا شأن لي بأحد فهو قلق في نفسه ولا يحب الخير في نفسه فيكون من أصحاب القلق الزائد عن اللزوم ، وانظروا إلى هؤلاء الأنانيين تجدونهم في قلق انظروا لهم قد تجد قريب لك أو أخ أو جار، لا شأن له بأحد إلا نفسه تجده متقوقع على نفسه، تجده قلق بداخله وتجده أكثر عرضة للأمراض وللمصائب.
أما الايمان بالقدر خيره وشره..
فهو أصل المؤمن وهو ميزان المؤمن فمن يكون إيمانه بالقدر خيره وشره في ارتفاع فلا تهمه الدنيا بما فيها يعلم أنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، فيرتاح ما جاء رزقه، ما لم يأته ليس برزقه، فيكون بعيد عن القلقين، يعرف أنه إذا مرض ولده فهو عليه أن يعمل الأسباب بل يجتهد ويجب أن يكون من المؤمنين الأقوياء لينفع الدين ولكن إذا لم تأتي له هذه، فيعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يقدرها له، فيقول: الحمد لله..
وإذا جاءته مصيبة يقول: إن لله وإنا إليه راجعون، كلنا راجعين لربنا، الحمد لله هذه من الله ولم يكتب لي هذا الولد أو لم يكتب لي أن آخذ هذا الرزق، فهو في نشوه لأنه مؤمن بالقدر خيره وشره، فلن يكون من أصحاب القلقين، وقد رأيتم يا إخوان الأمة الآن كيف هي في قلقها.. الواحد إذا ولد له ولد ومازال صغير عمره شهرين ثلاثة يفكر كيف سيدخل هذا الابن الجامعة؟ كيف نطعمه؟ كيف نسقيه؟ أنبحث له عن واسطة من الآن؟ ندخل في قلق منذ الآن ثم نسأل لماذا آباؤنا قليلي الإصابة بأمراض القلوب ونحن هذا حالنا..(/6)
بالأمس ثمانية في ليلة واحدة لم نستطع إدخالهم امتلأت المستشفيات من أمراض القلوب والسبب القلق، السبب عدم الإيمان بالقدر خيره وشره، السبب الغيبة والحسد الحقد، السبب نستحي أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فكيف لا تصاب قلوبنا بأمراض؟ وكيف لا نقلق؟ وكيف لا نكون من أصحاب هذه الأمة؟
ذكر الموت (وكفى بالموت واعظا)..
اتصل بي المستشفى وقال: إن مريضك الفلاني قد هرب، قلت: الحمد لله، -الذي عمليته غدا هرب- الحمد لله، الله لم يقدر له أن تعمل له عمليه، بعد أسبوعين أو ثلاثة جاءني هذا الولد رأيته يتمشى حول العمليات، قال: سكرتيري هناك شخص يبحث عنك، قلت له: دعه يحضر، وجدت شاب عمره 19 سنة، قال: أنا فلان الفلاني، تذكرت؟ قلت له: أنت الذي هربت، قال: نعم، قلت: لماذا هربت؟ قال: والله خفت من الموت، قلت: لماذا خفت من الموت؟ قال: لأني لم أستعد له، قلت: ولماذا لم تستعد له؟ قال: النفس والهوى والشيطان، قلت: متى أطال الله عمرك تريد أن تموت؟ قال: تضحك علي يا دكتور؟ قلت: يعلم الله أني لست بضاحك ولا مازح لكن متى تريد أن تموت؟ قال: ليس بيدي ذلك، قلت: لا ولكن أنت الآن تعترف أن أعداءك الحقيقيين هم المسيطرين عليك متى تريد أن تتفاهم مع أعداءك وتتركهم، لو سألتك الآن أتريد أن تدخل الجنة أم النار لقلت ملئ فمك أريد الجنة.. فهل عملت لها، قلت: لا.. أعدائي الثلاثة سيطروا علي، متى إذاً تريد أن تموت، قال: يا دكتور أنا في قلق وأنتم قلتوا لي خطورة العملية 2% فخفت وهربت، لأني فعلاً لا أصلي لا أفعل أي شيء فخفت أن أموت، قلت: يا بني، هل تضمن أن تخرج مع هذا الباب؟ قال: لا، قلت: دعني إذاً أقولك لك بعض القصص، قلت له: ذهبت إلى شخص كان ساهي عن الصلاة ومن الساهين الساهين عن الصلاة ومن الذين يصلون مجاملة أو في رمضان، فذهبت إليه يوم الثلاثاء عصراً أناصحه في الصلاة وبعد أن جادلني وجادلته وجادلني وجادلته، قال: يا أخي أبا محمد إذا كان الذي أتى بك موضوع الصلاة فأنسى الموضوع لا أريد أن أصليها، قلت له: يا رجل لا يجوز قد تموت غداً أو بعد غد، قال: أنا عمري أربعين سنة الآن وأبي وصل التسعين وجدي وصل المائة وإن شاء الله إذا وصل عمري للستين صليت، جادلته جادلته، فالشيطان ونفسه وهواه سيطروا عليه فتركته قُبيل المغرب.. يوم الأربعاء، الساعة العاشرة اتصل بي أحد الأخوة قال لي: يا أبا محمد إن شاء الله سنصلي على أبا فلان الذي كنتُ عنده يوم الثلاثاء، قلت: ماذا حصل؟ ذهب على طريق منطقة الشرقية يوم الأربعاء عصراً فمات في الطريق..
أخي.. أخي هذا أراد كم ليتوب؟ عشرون عاماً، أمهله ذا الطول شديد العقاب كم؟ عشرون ساعة؟
فلا يغتر أحد.. مشكلتنا يا أخواني أننا نغتر بصحتنا، بسننا، بصغرنا، بعافيتنا، ثم إذا ذهبنا لشخص في المستشفى ظننا أنه هو الذي سيموت ونحن الذين سنحيى ثم يخرج الواحد ويموت في الشارع بحادث أو خفقان كما مات أحد الأخوة من أسبوعين أو ثلاثة ذهب للمستشفى ليعود شخص في الإنعاش فمات عند باب الإنعاش.
-أجريت عملية لشخص مسن عمره 85 عاماً قد توقفت كلاه وضعف قلبه ضعفاً شديداً شديداً شديدا، وأصيب بجلطة في دماغه ورئتاه تعبه، جاءني أخصائي القلب وقال لي: يا دكتور أجري عملية لهذا الرجل ليس هناك حل إلا هذه العملية؟ ففكرت وقلت: لعلي أحتسب أجر هذه العملية ولعله يسبح ويهلل يوم أو يومين فأشاركه أجره، ثم توكلت على الله وكانت نسبة خطورة وفاته أكثر من 95% فطلبت من موظفي الدخول أن يضعوا لي حالة صغيره خطورتها قليلة جداً جداً حتى تكون حاله طويلة ومعقدة، وحاله صغيره حتى لا أجهد نفسي، فماذا كانت النتيجة؟
المحيي من؟ الله.. المميت من؟ الله.. وليس ابن جبير، والمقدر من؟ ربي.. كانت النتيجة لهذا المسن صاحب 95% وفاة يخرج من غرفة العمليات طيب مشافا الساعة 12 ظهراً، وذلك الشاب الذي لو رأيته لقلت لاعب كرة نسبته وفاته أقل من نصف في المائة، لديه صمام يريد أن يصلحه تصليح فقط، يخرج فجراً مُتوفياً من العمليات انظروا فلا تغركم حياتكم..
قصة ووقفة..(/7)
أما القصة فهي ذهبت مرة معزياً إلى رجل قد توفى الله ابنه في ثاني ثانوي وما أن ذهبت إليه وجدت ذلك الرجل المحتسب كأن لم يمت له أحد في تسبيح وتهليل وحمدت الله أن وجدت من أمة محمد على مثل هذا الاحتساب، وبعد سبعة أشهر أو ثمانية، ذهبت إلى ذاك الرجل نفسه فقد مات أخوه في أولى جامعة ووجدته عجباً وجدته باكياً ساخطاً كلما سكت دقيقة بدأ بالبكاء دقائق تعجبت من أمره، فأخذته على جنب، وقلت: عجباً لأمرك.. يموت ابنك ويكون هذا حالك من احتساب، ويموت أخوك ويكون هذا أمرك! من السخط!.. فبكى ثم بكى وقال: أبا محمد ابني مات -أحسبه إن شاء الله على طاعة على صلاة وصيام- فكلما تذكرته تذكرت قبره بأمر الله أحسبه والله حسيبه روضة من رياض الجنة، أما أخي مات وهو على معاصي بل لا يصلي فكلما ذكرته ذكرت قبره وقد أصبح حفرة من حفر جهنم، كلما ذكرته تذكرت تلك الحية السوداء وتلف على جسده، وكلما ذكرته ذكرت الملائكة وهم بالمطارق فوق رأسه، فكيف تراني لأبكي؟ فوالله ما بكيت على قدر الله ولا سخطت من قدر الله، وإنما بكيت على حال أخي، قلت له: غفر الله لي ولك فوالله إني حزين منذ ثلاثين عاماً على صديق لي مات على هذه الحالة كلما ذكرته...
أخي.. لماذا لا نتعظ بغيرنا ونضع الموت أمامنا.. وسؤال ووقفة: كم منا من الجالسين من زار المقابر في آخر عشر سنوات للاتعاظ وليس للعزاء أو المجاملة؟ كم منا يا أخوان من إذا دخل المقبرة ولو كان ذاهباً لمجاملة أو طالباً لأجر في تعزية وعندما دخلها وقف جسمه وارتفع شعره ثم بكى وتباكى عندما نظر إلى قبر من القبور وليس لتلك المقابر؟
كم منا يا أخوان ذاك الرجل؟ للأسف يا أخوان نحن إذا ذهبنا إلى المقابر للمجاملة ننسى ثلاثة أشياء أو ينسينا الشيطان والسبب قلة الإيمان وأننا وضعنا الموت خلفنا، لم نضعه أمامنا، ونسينا أن نقول الذكر الذي يقال لأهل المقابر، كأننا داخلون لبيوتنا لساحة المنزل، ثانياً ننسى التباكي والبكاء ونتذكر، أعوذ بالله.. لو كنت أنا الذي بالقبر وعلى هذا الذنب أو هذه الغيبة والنميمة أو الظلم، ماذا سيحصل لي؟ كم منا ذاك الرجل؟ كم منا من يفعل المواقف لردع نفسه وتوبته؟
أخواني.. أسألكم سؤالاً أخيراً في الموت.. كم منا يا أخوان من إذا لبس ثوبه الأبيض، تذكر الكفن فبكى وتباكى، أو كم منا يا أختاه إذا جاءت وألبست طفلها ثوبه الأبيض بكت أو تباكت لأنها تذكرت الكفن، ثم قالت: ربي أعني على التوبة من ذاك الذنب، صلاة الله أعلم بها.. يارب يا كريم يا منان يا رحيم تب علي قبل أن أصل هذا الموقف، وأعني على التوبة والمحافظة عليها، كم منا ذاك الرجل؟ وكم منا تلك المرأة؟
أخواني.. نسينا الموت إلا ما رحم ربي وضعناها وراءنا، فكانت الدنيا أسأل الله ألا تكون أكبر همنا ولكن هذا هو حال بعضنا فلذا أصيبوا بالقلق، أصبح من نسى الموت وظن أنه لن يموت أبداً ويلهث خلف الدنيا يلهث يلهث فيصاب بالقلق.. ويكون من أصحاب المقلقين ويكون تحت الخمسين، 60% منهم يأتيهم خفقان أو أمراض شرايين..
أخواني.. قال تعالى: (ألم يئن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون)..
أخواني.. عندما تقسو القلوب تمرض، وعندما تمرض تموت، ومن مات قلبه قبل أن يموت جسده قد هلك..
أخواني.. لا يمت قلبك أو يمرض قبل جسدك، هذه الآية عندما سمعها قاطع طريق جاء ليسرق رجل قد قام ليتعبد الله في منتصف الليل، وهو على الجدار فهذا العابد نطق بهذه الآية التي تزلزل الجبال: (ألم يئن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله)، فقال وهو على جداره: بلى والله آن، بلى والله آن، بلى والله آن، أتدرون من هو؟ إنه الفضيل بن عياض رحمه الله، كان قاطع طريق وعندما سمع هذه الآية، أصبح من أئمة الفقه، قال تعالى: (ومن يعشوا عن ذكر الرحمن نقيض له شيطان فهو له قرين) أخواني.. عندما يكون الشيطان قريناً يكون القلب مريضا.
- مر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على جماعة يغنون وكان فيهم مطرب بارع ذو صوت حسن، فمسكه من جلبابه وقال: يا زادان والله لو قرأت القرآن لكنت أنت من أنت، ثم ذهب عنه، فقال زادان: من هذا الرجل؟ (لأنه مطرب لا يعرف إلا المطربين) قالوا: هذا عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله، قال: صاحب رسول الله يقول لي يا زادان إن قرأت القرآن فأنت من أنت، فذهب إليه وقال: أعد علي ما قلت، فلما أعادها ذهب إلى أمه واستأذنها وذهب إلى مالك رضي الله عنه وقرأ عليه الحديث وأصبح إماماً من أئمة الحديث..
أخواني.. لنطبب قلوبنا بذكر الله لنعالج قلوبنا بذكر الله ولكن هناك شرط هدى لمن؟
للمتقين لأصحاب الروضة لأصحاب قيام الليل..
جاء شخص في الإسعاف يحس بضيقة، قلت له: اقرأ القرآن، قال: ابتعد أنت والقرآن، أنا أقرأه ليل ونهار ولم ينفعني، قلت له: أنت تصلي؟ قال: لا..(/8)
إذاً لن ينفعك لأن الله سبحانه وتعالى قال في أول سورة وأول آية من القرآن (هداً للمتقين)..
أخواني.. التوكل كيف يقي من الأمراض العضوية؟
قبل أن أتكلم عن التوكل أريد أن أسأل نفسي وإياكم سؤالاً ثم ضع علامة لك على هذا السؤال لترى ما هو موقعك من هذا التوكل، هب أن ابن من أبناءك أو أختك أو أخيك ممن يمس قلبك قد وقع في الأرض، فمن منا ذاك الرجل إذا حدث هذا أمامه من الوهلة الأولى سمى الله واسترجع ثم إن كان في البيت صوت غريب هدأ الأمر وأمر أحد أبناءه أن يسوق به السيارة وهو في الطريق أخذ يقرأ عليه الفاتحة سبع وقرأ عليه (اسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك) سبعاً ثم جعل السيارة ذكر في ذكر وكأنه في مسجد، ثم إذا وصل الإسعاف سلمه للطبيب ثم أمر زوجته، فقال لها: اذهبي فتوضئي وصلي ركعتين يطمئنك الله ويشرح صدرك، ثم ذهب وتوضأ وصل ركعتين ثم أتى إلى الطبيب، وقال له: يا دكتور ماذا حصل للولد؟ فيقول له الدكتور: لا الحمدلله إصابته خفيفة وأسعفناه..
كم منا ذاك الرجل؟
أخواني.. إن وضع الإسعاف مزري يأتي من يأتي بابنه أو أخوه أو أمه، يا دكتور أنقذنا.. أرجوك يا دكتور أرجوك.. أين رب الدكتور؟ لا بأس أن تفعل الأسباب لكن أن تتعلق بها وتكون هي همك وتنسى الرب المنان الكريم الشافي المعافي هذه ما نفتقده، اذهبوا إلى الإسعافات لترون أمة محمد ماذا تفعل؟
يجب على المسلم أن يتذكر أن هناك أمر مهم وهذا الكلام ق نقلته عن العلامة الكبير ابن القيم بتصرف:
يجب على المسلم أن يتذكر أن هناك أمر مهم عليه أن يتسلح به قبل أن يبدأ بالعلاج، علاج أقوى من أي علاج مادي ذكر أو لم يذكر بعد، عرف أو لم يعرف بعد، ألا وهو قوة قلب المريض وعلاقته مع ربه، فإن القلب متى ما اتصل برب العالمين وخالق الداء والدواء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية المادية، وقد عُلِمَ أن الأرواح متى قويت وقويت النفس تعاونا على دفع الداء وقهره، ولكن السؤال يا أخواني: كيف تقوى القلوب؟
تقوى القلوب يا أخوان: بالاعتماد على الله سبحانه وتعالى والتوكل عليه والالتجاء إليه والانطراح عليه والانكسار بين يديه والتذلل له والصدقة والدعاء والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية جربتها الأمم ووجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لم يصل إليه علم الأطباء..
أخواني.. تقولون يا أبا محمد كلامك صحيح نظري، لكن كيف نطبقه؟ تطبيقه بسيط لكن يحتاج إيمان بالقدر خيره وشره، أخي.. كم منا من الجالسين أو من غير الجالسين من لم يستفد من الابتلاء الذي ابتلاه الله به، أخي صاحب السكر صاحب الضغط، صاحب أي مرض مزمن أو غير مزمن، بل صاحب الصداع، قبل أن تأخذ الحبة أو الحبتين، أنت لديك عبادات ليست موجودة عند غيرك نسوها الناس لأنهم لم يحتاجوا إليها، لديك: التوكل والرجاء والاستغاثة والانطراح والتذلل، كل هذه عبادات تمتع بتعبد الله بهم، قبل أن تأخذ حبة سكر أو حبة الضغط ابكي و تباكى: يا معين يا كريم يا شافي يا معافي اللهم اجعل هذه سبباً في شفائي.. واشرب الماء.. وتخيل بل تأكد واجزم أن الشافي الله، أخذت ماذا؟ كسبت خمس عبادات أو ست، إذا لديك ثلاث مرات حبوب، كل مره هكذا..
أخواني.. كم منا صاحب السكر إذا جاء يضرب الأنسولين جاء في باله حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (الشوكة يشاكها المؤمن يؤجر عليها) وتوقع إن هذي شوكة.. يارب لا تحرمني أجرها يارب لا تحرمني أجرها..
الحال ماذا نحن عليه؟ تسأل هذا الرجل: يا أبا فلان ما أخبار السكر؟ (زفت) والله لم أرى خيراً.. ما أخبار الضغط؟ والله إني من تردي في تردي.. والله لم أرى خيراً خاصة بعد أن رأيت ذاك الدكتور؟ ما أخبار كذا وكذا، بي نقصان..
أعوذ بالله أين الاحتساب؟ هذه حالتنا..
- أجريت عملية لطفل يبلغ من العمر سنتين ونصف.. وبعد يومين الولد أصبح بخير، جالس بالقرب من أمه ليس لديه أي مشكلة وإذا به يصاب بنزيف شديد من القصبة الهوائية ويتوقف قلبه لمدة 45 دقيقة، ويتردى حاله، ثم أتيت إلى والدته قلت لها ما قلت، وقلت: إن ابنك هذا دماغه أعتقد أنه ذهب فمات دماغياً لأن له 45دقيقة وقلبه لم يشتغل إلا بعد 45دقيقة فالغالب أظن والله أعلم أنه كذا وكذا..
أتدرون ماذا ردت علي؟ قالت: الحمدلله اللهم اشفه إن كان في الشفاء خير له، وتركتني.. أريدها أن تبكي أريدها أن تفعل أي شيء أريدها أن تسألني أي شيء، ولا شيء..!!(/9)
وبعد عشرة أيام بدأ ابنها يتحرك.. وبعد 12يوماً وإذا به يصاب بنزيف آخر كما أصيب الأول ويتوقف قلبه كما توقف في المرة الأولى، وقلت لها ما قلت لها، وردت علي بكلمتين: الحمد لله، ثم ذهبت بمصحفها الأزرق تقرأ عليه ولا تزيد على ذلك، وتكرر هذا المنظر ست مرات.. وبعد شهرين ونصف، وبعد أن سيطر الأخوان أخصائي القصبة الهوائية على النزيف، فإذا به يصاب بخراج في رأسه تحت دماغه لم أرى مثل كثرته وحرارته تكون في الأربعين والواحد والأربعين، قلت لها: ابنك أعتقد أنه سيموت، قالت: الحمدلله.. اللهم إن كان في شفائه خيراً فاشفه يارب العالمين..
وذهبت وانصرفت عني بمصحفها الصغير..
وبعد أسبوعين أو ثلاثة شفى الله ابنها ثم بعد ذلك أصيب بفشل كلوي كاد أن يقتله، فقلت لها ما قلت، فقالت: الحمدلله اللهم إن كان في شفائه خيرا له فاشفه..
وبعد ثلاثة أسابيع شفاه الله من مرض الكلى، وبعد أسبوع من الشفاء إذا به يصاب بالتهاب شديد في الغشاء البلوري المحيط بالقلب، وصديد لم أرى مثله، فتحت صدره حتى بان قلبه ليخرج الصديد، فقلت لها: ابنك هذه المرة أعتقد أنه لا أمل له، قالت: الحمد لله..
وبعد ستة أشهر ونصف، وإذا بها يخرج ابنها من الإنعاش لا يرى لا يتكلم لا يسمع لا يتحرك كأنه جثة هامدة وصدره مفتوح وقلبه يُرى إذا نُزع الغيار، وهذه المرأة لا تعرف إلا الحمدلله، وإذا كان أحدكم سألني عن ابنه فهي قد سألتني، أبداً ستة أشهر ونصف.. لم تسألني سؤال.. يا دكتور كيف حاله؟ يا دكتور لماذا لم يشفى؟؟
الحمدلله.. الحمدلله.. الحمدلله، اللهم اشفه إن كان في الشفاء خيرا له.. وتقرأ القرآن عليه..
المهم بعد شهرين ونصف ماذا حدث؟ خرج ابنها من المستشفى يسبقها مشياً سليماً معافى كأنه لم يصبه شيئاً، لم تنته القصة، لم تنته القصة!! لم تنته القصة فكان العجب بعد سنة ونصف إذا بسكرتيري، يقول لي: إن هناك امرأة ورجل وطفلان يريدون أن يسلموا عليك، جئت وإذا به ذاك زوج تلك المرأة الذي كلما أراد أن يتكلم ويسألني، قالت له: اتركه وتوكل على الله، فلم تسيطر على نفسها فقط ولكنها سيطرت على زوجها لأنها رمت حبالها وتوكلها وتذللها وانطراحها على الحي الذي لا يموت الذي يحيي العظام وهي رميم..
رأيت مريضي هذا وقد أصبح ذو الأربع سنوات وعلى كتفها طفل عمره ثلاثة أو أربعة أشهر، قلت لزوجها مازحاً: ماشاءالله هذا رقم عشرة أم اثنا عشر، فضحك وقال(اسمعوا ما قال): يا دكتور هذا الثاني، لأننا مكثنا 17سنة في عقم نبحث عن علاج، فرزقنا الله هذا الولد ثم ابتلانا به، فرزقنا ربي الشفاء فهو المنان الكريم..
امرأة تنتظر سبعة عشر عاماً وتذهب إلى بلاد العالم للعلاج ثم يأتيها طفل كهذا ثم يصاب بما يصاب ثم تصبر، أتدرون من احترمها، أتدرون من يأتي لها بالأكل والشرب والشاي؟ الممرضات الكافرات لأنهن يحترمنها ويهابونها لأنها كما قالت لي إحداهن: هذه امرأة لديها مبادئ، لديها قوة شخصية ولكنها لم تعرف أن لديها قوة إيمان..(/10)
قصصي كثيرة في هذا المجال ولكن لا أدري أين أقف، وأذكر لكم قصة واحدة خفيفة من خمس أو ست قصص عن التوكل، جاءني أحد الأخوة وقال لي: سنعمل عملية كذا وكذا، قررنا فأدخلناه المستشفى، وبعد المستشفى جئته بعد ثلاثة أيام من العملية، والعملية هذه من أزعج العمليات لدينا، فيها ألم عجيب، المهم جئت في ساعة خروج المريض بعد ثلاثة أيام أبحث عن أي مسكن للألم أخذه، لا شيء ، لم يأخذ أي مسكن للألم، استغربت سكت، سألت الممرضة، قالت: أين أنت! هذا بعد ساعة ونصف بعد أن أتيتوا به أو ساعتين، قام يصلي واقفاً، قلت: كيف يقوم يصلي واقفاً؟ قلت: يعني الساعة 12ونصف قام يصلي واقفاً،قالت: نعم، قلت لها: أما أنا فرأيته المغرب واقفاً، الأمر لم أفكر به كثيراً، بعدين الأخوان كثروا علي في المستشفى لأنه يعمل معنا في المستشفى، يا خالد ماذا فعلت في هذا الرجل، سحر الذي فعلتم به؟ يا أخي كأنه لم يعمل عملية، أحدهم يقول: أخي فعل هذه العملية ثلاثة أسابيع وبصعوبة استطاع الحركة، وهذا وكأنه لا يشكو من شيء، فكثرت القيل والقال عليه، فقلت: لابد أن يكون في أمره شيء، فأخذت نفسي وزرته في بيته، وبعد أن انصرف الناس من بعد صلاة العشاء، مسكته على جنب وقلت له: يا أبا فلان قل لي ما أمرك، قال: كما تعرف أنا أتحمل كثير، قلت: لا أنت تكلم طبيب، أنت كما قالت الممرضة قمت الساعة 12ونصف ذهبت إلى دورة المياه وتوضأت وصليت واقفاً وأنا رأيتك المغرب وصليت واقفاً وخرجت من عندنا يوم الخميس وصليت الجمعة في المسجد ورآك من رآك كأن لم بك شيئاً، على أي شيء أنت؟ قال: والله ليس لدي شيء، فقلت: أسألك بالله أن تخبرني، فقال: أسألك بالله أن لا تذكر اسمي ما دمت حياً، قلت: لك هذا، قال: يا أبا محمد أنا في ليلة العملية (هذا الرجل حتى أعطيكم قضية الإيمان يجب أن يكون مبني قبل، التوكل لا يأتي هكذا، يأتي أحد فيقول: أنا بتوكل، مثلاً يأتي طالب في الثانوية يقول: أنا سأدخل الطب أو الهندسة، سأحصل على 97%، وهو يلعب في الشارع طول عمره، لا يمكن ذلك، التمني غير الرجاء، الرجاء أن تتمنى وتعمل لما تتمنى، أما التمني فتضع رجل على رجل وتتمنى على كيفك، المهم هذا الرجل أعرفه أنا قبل الحادثة بسبع أو ثمان سنوات، لم يقدم دنيا على دين قط، إذا أذن انتهى يغلق الكتاب ويمشي، لديه الأمور واضحة، لا يجتمعون إذا أتى الدين، الدين مبدا مهما كان، كانت أموره واضحة في قضية الصلاة، لا يقدم عليها شيء ولا تبدا بشيء، إلا لشيء من الضرورة من الضرورة أن يقضيه، ولكني لم أره في يوم من الأيام قدم دنيا على دين) المهم قلت له: ماذا عندك؟ قال: ليلة العملية عاهدت ربي أن لا آخذ مسكن حتى أجعل الآلام، فيمحو الله بهذه الآلام بعض من ذنوبي فيغفر الله لي بها، كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، قلت له: ماذا حدث؟ قال: يا أبا محمد لو أنك أنت أحسست بدبوس أنا شعرت بها، لم أحس بشيء قط، فاسأل المنان الكريم الغفور الرحمن كما محا عني ذاك الألم أن يمحو عني ذنوبي التي تقربت بذاك الألم له سبحانه..انطراح تذلل التجاء توكل صادق فكانت النتيجة لأن ربي أكرم الكرماء لأن ربي هو الكريم المنان المعين الشافي المعافي، المهم أن ننطرح له..
أخواني.. إذا نظرنا في مسببات أمراض القلوب العضوية وجدنا أن هناك روابط قوية بين أمراض القلوب المعنوية وأمراض القلوب العضوية؛ فمعظم مسببات القلوب العضوية إن لم يكن جميعها بسبب إهمال المريض نفسه وتفريطه في بدنه، إما بعمل معصية أو ترك واجب أو سنة، ستقولون لي: أثبت، أثبتها من أبحاث من سبقونا في هذا العلم من الغرب، أخواني أثبتت جميع الأبحاث الطبية التي لا تقبل الجدل، أن هناك أسباباً معينة ومعروفة بعينها وراء أمراض الشرايين، وقد اطلعت على أكثر من أربعين بحثاً علمياً تناقش أسباب أمراض الشرايين، أثناء إعدادي لهذه المحاضرة هذه الأبحاث قد أجريت على الآلاف من المرضى كلها اتفقت على أن أسباب مرض الشرايين هي:
1- الوراثة.
2- القلق.
3- الدهون .. السكر.. الدخان.. الضغط .. الخمور.. السمنة ..
(الوراثة): الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس) في كل شيء..
أخواني.. أبنائي.. أما التدخين وما أدراك ما التدخين فالتدخين أمره للأسف مشين وقبل أن أبدأ بتعداد مصائب التدخين وأضراره، يجب أن نوأصل أمراً مهما وهو أن التدخين حرام وذلك للقطع بضرره اليوم ومن قال بغير ذلك، فقد أباح الحشيش والمخدرات والخمور لأن التدخين والحشيش والمخدرات أضرارها متساوية تقريباً والتدخين يا أخواني أكثر ضررٍ على مجتمعنا من الكحول وغيره، وذلك للأسباب الآتية:
1- توفره ورخص سعره.
2- عدم اقتناع كثير من متعاطيه بحرمته وذلك بسبب توفره السهل في الأسواق.
3- عدم وجود قانون يمنعه في الأماكن العامة.(/11)
4- عدم وجود الجرأة ممن فيهم الخير بإنكاره على المدخن لأنه أمر مسلم به في المجتمع، فهو في نظر المجتمع شيء مسموح به وهو حلال في نظرهم مع أن الفتوى به، فيه حرام شربه وبيعه وحرام مكسبه..
أخواني.. إن التدخين مسئول عن أمراض الشرايين مسؤولية كاملة لمن هم تحت سن الخمسين فقد دلت الأبحاث التي أجريت لهؤلاء المرضى أن معظم المرضى هؤلاء ليس لديهم أسباب أخرى للمرض ما عادا التدخين، والتدخين يعجل بأمراض الشرايين للذين لديهم أسباب أخرى للإصابة بالمرض كأسباب الوراثية أو أمراض الضغط والسكر والدهون، فبدلاً من أن يصاب المريض بعد سن الستين لو لم يكن مدخناً أصيب تحت سن الأربعين لأنه يدخن ولديه أسباب أخرى كالكلسترول أو الضغط أو الوراثة..
أخواني.. إن التدخين مسئول عن أمراض الرئة والمعدة والأسنان واللثة وتصلب الشرايين وتصلب شرايين المخ وجلطة الدماغ وشرايين الأطراف، وإن السيجارة يا أخواني تسبب أكثر من أربعة عشر نوعاً من السرطان..
أخواني.. إن التدخين وهذا ليس من عندي، هذا تقرير منظمة الصحة العالمية من ستة أشهر، التدخين يقتل في بلادنا في آسيا واحد كل عشر دقائق، وقتل في آخر عشر سنين في أوروبا ستين مليوناً سبب موتهم المباشر كان التدخين، هو السبب الأول في موتهم..
أخواني.. إن السموم التي تطلقها تلك السيجارة كثيرة وكثيرة.. لا حصر لها ولا عد وتحتاج إلى محاضرات وفي الوقت الحاضر اتفق العلماء كلهم على هذا الضرر الواضح للتدخين، فلذا حاربوه محاربة جادة في جميع المجالات وذلك برفع سعره ومنع تناوله في الأماكن العامة وحصره في بلاد الغرب على ما فوق سن 18سنة..
أخواني.. إن الموضوع طويل وأكتفي بهذا الإيجاز عن التدخين ولكن لي بعض المشاهدات التي شاهدتها في عملي أود أن أوجزها لكم فيما يلي: 1- أمراض الشرايين تحت سن الخمسين 90% منهم من المدخنين، السبب الأول عندهم -هذه انقلوها عني عمل 14سنة في القلب- 90% من رأيت تحت سن الخمسين عندهم شرايين، 90% منهم مدخنين، أمراض الشرايين تحت الأربعين جميعهم جميعهم مدخنين، ليس لديهم أسباب أخرى..
لم أرى امرأة واحدة تحت الخمسين إلا امرأة واحدة عملت لها عملية، امرأة واحدة وفقط أن النساء في تلك العصر من عشرين سنة كان التدخين عندهم نادراً نادراً.. أما الحال الآن فالله به عليم..
من عام 1400هـ إلى 1406هـ، لم أشاهد مريضاً واحداً به جلطة من أهل نجد أو الجنوب أو بادية المملكة، واحد لم أجد، اليوم كما قلت لكم البارحة، ثمانية كلهم من أهل هذه البلد ينتظرون دورهم وكلهم بهم ذبحات خمسة منهم تحت الأربعين، والخمسة كلهم مدخنين..
المرضى المصابين بالشرايين يا أخوان.. لا يكتفي الدخان أن يعدم شرايين القلب، فهو يعدم شرايين الساقين فلي مرضى قد رقعت شرايينهم وبعد فترة قطعت أطرافهم وواحد منهم لم يتعدى الأربعين، والآخر قطعت نصف معدته، أخذت رئة من رئتاه بعد أن أجريت له عملية شرايين بعد سنة من إجراء العملية وعمره عندما أجريت له العملية 31 وعندما استأصلت معدته كان 32سنة وكان يدخن وعمره 13عاماً..
أخواني.. الشيشة أدهى وأمر ينطبق عليها ما ينطبق على التدخين ويزاد عليها واحدة وهي الناقل الأول من أسباب النقل المباشر لمرض الكبد الوبائي..
أخواني.. بعد هذه المحاضرة كل واحد منا يتمنى أن يكون قلبه ماذا؟ قلبه سليم..
فصاحب القلب السليم يرتاح في الدنيا ويرتاح في الآخرة.. قال تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)..
أسأل الله المولى الكريم الرحمن الرحيم ذي الطول شديد العقاب ربي رب السموات والأرض خالق كل شيء بارئ كل شيء حي قيوم يحيي ويموت أن يجعل قلبي وقلوبكم سليم في الدنيا والآخرة، لنتمتع بالآخرة ونتمتع بأمر الله في الدنيا فوالله من سلم قلبه نجا وهو الناجي..
أسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يريني في أولادي ولا أولادكم مكروها.. وأسأله سبحانه أن يحييني وإياكم على لا إله إلا الله والسنة مجاهدين في سبيله.. وأن يميتني وإياكم على لا إله إلا الله والسنة .. شهداء في سبيله، وأسأله سبحانه أن يصلح نيتي ونواياكم .. وذريتي وذراريكم وأن لا يريني ولا إياكم مكروها وأن لا يكون من ذريتي أو ذرياتكم أو ذراري المسلمين من يعصي ربه.. وأسأله سبحانه وتعالى أن يعصم أولادي وأولادكم وأولاد المسلمين من التدخين ومن الشراب ومن الخراب ومن الزنا ومن اللواط ومن القمار.. وأن يبعدهم عن الأشرار ويقربهم من الأخيار ويحبب إليهم الدين ويشرح صدورهم بلا إله إلا الله ويجعلهم من أهل كتابه وحفظته.. وأسأل الله لي ولكم العفو والعافية.. واعتذر منكم للإطالة.. وأسأله سبحانه أن لا يضيع أجري ولا أجركم..
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل المرسلين .. والحمد لله رب العالمين..(/12)
الوقت في السنّة النبويّة المطهرة ...
حظي الوقت بنصيب وافر من العناية فيما نُقِلَ عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال، ويمكننا تناول ذلك من خلال المحاور التالية:
أولاً: الوقت نعمة عظيمة
تؤكد السنة المطهرة ما جاء في القرآن الكريم من أن الوقت من نعم الله على عباده وأنهم مأمورون بحفظه ومسؤولون عنه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ)).(1) ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (( كثيرٌ من الناس )): "أي أن الذي يوفق لذلك قليل... فقد يكون الإنسان صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون"،(2) و"النعمة ما يتنعم به الإنسان ويستلذه، والغبن أن يشتري بأضعاف الثمن أو يبيع بدون ثمن المثل".(3)
وفي هذا الحديث "ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للمكلف مثلاً بالتاجر الذي له رأس مال، فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقُه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله، ويلزم الصدق والحذق لئلا يُغبن، فالصحة والفراغ رأس مال، وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النفس وعدو الدين، ليربح خيري الدنيا والآخرة".(4)
فمن صحَّ بدنه وتفرّغ من الأشغال العائقة ولم يسعَ لاستثمار هذه الصحة وهذا الفراغ لإصلاح آخرته ودنياه، فيستثمرهما الاستثمار الأمثل في تحقيق أهدافه التي تعينه على العيش الرغيد في الدنيا، وترقى به إلى مدارج الصالحين في الآخرة، فمن لم يكن كذلك فهو كالمغبون فيهما.
ثانيا ً: الوقت مسؤولية كبرى
وقت المسلم أمانة عنده، وهو مسؤول عنه يوم القيامة، هذا ما تؤكده السنة المطهرة، فهناك أربعة أسئلة سيُسألها العبد أمام الله عز وجل يوم القيامة، منها سؤالان خاصان بالوقت، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه )).(5) أي أن العبد في ذلك الموقف العصيب، يوم القيامة، لن تزول قدماه، ولن يبرح ذلك المكان، حتى يسأل ويحاسب عن مدة عمره بعامّة كيف قضاها، وعن فترة شبابه بخاصة كيف أمضاها، ذلك أن الشباب هو محور القوة والحيوية والنشاط، وعليه الاعتماد في العمل أكثر من غيره من مراحل العمر الأخرى، لذا فقد خُص بالسؤال عنه مستقلاً مع أنه داخل ضمن السؤال عن العمر وذلك لأهميته.
ثالثاً: الوقت وعاء العبادة
الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحوها عبادات محددة بأوقات معينة، لا يصح تأخيرها عنها، وبعضها لا يقبل إذا أدي في غير وقته، فهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالوقت، الذي هو عبارة عن الظرف أو الوعاء الذي تؤدى فيه.
ومما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على أداء العبادات في وقتها قوله حين سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: (( الصلاة لوقتها )).(6) وكان (ص) يقول إذا رأى الهلال: (( اللهم أهلّه علينا باليُمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله )).(7) وكان يقول عن هلال رمضان: (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )).(8)
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في الحث على قيام الليل وذكر الله فيه قوله: (( أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن )).(9)
كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم الحث على اغتنام عشر ذي الحجة بالعمل الصالح، وذلك في قوله: ((ما العمل في أيام أفضل منها في هذه )) قالوا ولا الجهاد قال: (( ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء )).(10)
رابعاً: الوقت في أفعال النبي (ص) :
كان النبي صلى الله عليه وسلم من أشد الناس حرصاً على وقته، وكان لا يمضي له وقت في غير عمل لله تعالى، أو فيما لا بد منه لصلاح نفسه، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه يصف حال النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: (( كان إذا أوى إلى منزله جزّأ نفسه دخوله ثلاثة أجزاء، جزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزأ جُزأه بينه وبين الناس )).(11)
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إعمار وقته بالعبادة والطاعة، فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي (ص) كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: (( لم تصنع هذا يارسول الله وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً )).(12)
خامساً: تقسيم الوقت وتنظيمه(/1)
يحث النبي صلى الله عليه وسلم الأمة على الاهتمام بتنظيم الوقت وتوجيهه لمعالي الأمور في الحياة الخاصة والعامة، فيقول فيما يرويه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (( ألم أُخْبَر أنّك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: بلى. قال: فلا تفعل، قم ونم وصم وأفطر، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لِزَورِكَ (*) عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً )).(1) ومن الأولى بالمسلم ألا يخل بهذه الموازنة بل الواجب عليه أن يوزع وقته للوفاء بهذه الحقوق دون إخلال بأحدها لصالح الآخر، وليس المقصود توزيع الوقت بين هذه الحقوق بالتساوي، وإنما المراد التسديد والمقاربة في الوفاء بها جميعاً قدر الاستطاعة.
ومما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن صحف إبراهيم عليه السلام قوله: (( على العاقل - مالم يكن مغلوباً على عقله- أن تكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيها في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب )).(2)
ومن تنظيم الوقت أن يكون فيه جزء للراحة والترويح، فإن النفس تسأم بطول الجِدِّ، والقلوب تمل كما تملّ الأبدان، فلا بد من قدر من اللهو والترفيه المباح، فعن حنظلة الأُسيدي رضي الله عنه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك ؟ قلت: يارسول الله نكون عندك تذكّرنا بالنار والجنة حتى كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا (*) الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة )) كررها ثلاث مرات. (3) هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه ويبين لهم أن القلوب تكل وتتعب وتتقلب فيجب العمل على مراعاتها والتنفيس عنها بين الفينة والأخرى بما أحل الله، وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم ذلك ووعوه وطبقوه في حياتهم العمليّة فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (أريحوا القلوب، فإن القلب إذا أكره عمي)، (4) وروى عنه أنه قال أيضاً: (إن للقلوب شهوة وإقبالاً، وفترة وإدباراً، فخذوها عند شهواتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها)، (5) وجاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قوله: (إنّي لأستجمّ نفسي بالشيء من الباطل غير المحرّم فيكون أقوى لها على الحق). (6)
سادساً: الحث على اغتنام الوقت والتحذير من إضاعته
من الأقوال المأثورة في الحث على استثمار الوقت واقتناص فرصه، حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (( اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغَنَاءك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك )). (7) فقد لخّص النبي (ص) في هذه الكلمات الموجزة البليغة ما تناوله الباحثون في كتب عدة، فهو من جوامع الكلِم، إذ تحدّث عن أهمية الوقت والمبادرة إلى استثماره واغتنام قوة الشباب وفرص الفراغ في العمل الصالح المثمر، وحذر من خمس معوّقات لاستثمار الأوقات، كل ذلك في عبارات وجيزة لا تبلغ العشرين كلمة.
كما كان صلى الله عليه وسلم يأمر بالمبادرة إلى العمل قبل حلول العوائق فيقول: (( بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر )).(8)
فهو صلى الله عليه وسلم يحث أمته على المبادرة بأداء الأعمال وعدم تأجيلها، ذلك أن حال الإنسان لا يخلو من وقوع المعوّقات من مرض أو هرم أو موت أو نحو ذلك مما يقف حائلاً دون أداء الأعمال أو إتمامها، فالمعوّقات كثيرة، والحاذق من بادر بأداء العمل قبل أن تحاصره العوائق.
أمّا قوله صلى الله عليه وسلم: (( من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل )).(9) فإنّ الطيبي(10) يقول فيه: "هذا مَثَلٌ ضربه النبي (ص) لسالك الآخرة فإن الشيطان على طريقه والنفس وأمانيه الكاذبة أعوانه، فإن تيقظ في مسيره وأخلص النية في عمله أمِن من الشيطان وكيده".(11)
وهذا المثل يصح أيضاً في حق من حدد لنفسه أهدافاً، وخاف أن تدركه المعوّقات قبل بلوغها، فتجده يحث الخطا حتى يحقق أهدافه.
وقد كان صلى الله عليه وسلميأمر بالتبكير في أداء الأعمال، فعن صخر الغامدي رضي الله عنه عن النبي (ص) أنه قال: (( اللهم بارك لأمتي في بكورها، وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار ))، وكان صخر رجلاً تاجراً، وكان يبعث تجارته من أوّل النهار، فأثرى وكثر ماله. (12)
وفي هذا المعنى أيضاً تروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( باكروا طلب الرزق والحوائج فإن الغدو بركة ونجاح )).(13)(/2)
وعن فاطمة رضي الله عنها وأرضاها قالت: مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجعة متصبّحة فحرّكني برجله ثمّ قال: (( يا بنية قومي اشهدي رزق ربك ولا تكوني من الغافلين، فإن الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس )).(14
كتاب إدارة الوقت رؤية إسلامية
موقع إسلاميات أون لاين
...(/3)
الوقت في حياة المسلمة ...
تعاني نساء كثيرات مشكلة الفراغ وأخريات يلجأن إلى ما يسمينه 'قتل الوقت' دون اهتمام كبير بوسيلة ذلك، وبين هذين الصنفين صنف ثالث يبحث عن كل ما هو مفيد ونافع لشغل أوقاتهم، فبعد قيامها بحق ربها عز وجل ثم زوجها وبيتها نجدها كالنملة حيوية وحركة وعطاءً حسنًا مؤثرًا في الآخرين.
أختي المسلمة: لقد أعطانا الله عمرًا وأمدنا بطاقات وقدرات، وأنعم علينا بالإسلام ومتعنا بنعمة الأمان والصحة والعلم وسعة الرزق, فنعم الله تحيط بنا من كل جانب: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18].
ولو سألت نفسك ما أكثر نعمة أنعمها الله عليك بعد الإسلام؟
هل هي نعمة المال أم الجمال أم الأولاد أم الصحة؟
الإجابة بعيدة كل البعد عن الأشياء التي ذكرتها، والجواب هو : نعمة الوقت.
الوقت نعمة كبيرة:
حقيقة الوقت من أكبر نعم الله على الإنسان حيث أعطانا الله وقتًا وزمنًا هذا الوقت هو عمرنا لماذا؟
للعمل والسعي والمسارعة إلى ما فيه خيرنا في الدنيا والآخرة.
ـ هناك من الدلائل الكثيرة على عظم قيمة الوقت منها:
1ـ لقد أقسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالوقت في القرآن، ولا يقسم الله بشيء إلا إذا كان غاليًا وهامًا قال تعالى: { وَالْعَصْرِ[1]إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1ـ2].
و{ وَالْفَجْرِ[1]وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1ـ2].
2ـ إن كل شعائر الإسلام مرتبطة بالوقت كالصلوات الخمس، وصيام رمضان، والحج والوقوف بعرفة.
3ـ وكذلك إقامة الحجة على الإنسان يوم القيامة مرتبطة بالوقت.
يقول تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37]. نعمركم: أي أعطيناكم عمرًا ووقتًا.
ويقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ [[لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه ....]] الحديث
أي لا يدخل المرء جنة ولا نارًا حتى يُسأل عن عمره أي الوقت الذي أعطي له في الدنيا ماذا عمل فيه.
وهناك نسأل ما علاقة هذا الكلام بنا نحن الفتيات والنساء عمومًا؟ أريد أن أقول: إن رأس مال المرأة في الدنيا هو أنفاسها والوقت هو حياتها, والمصيبة الكبرى التي تقع فيها جميع النساء إلا القليل ـ هي أن الوقت عندها ليس له قيمة، بالرغم من أن الوقت هو الحياة.
وكلنا يعرف القول المشهور 'الوقت من ذهب'.
لا والله الوقت أغلى من الذهب ولا يقدر بثمن.
لذلك يقول الحسن البصري رحمه الله:
'كل يوم تشرق فيه شمس ينادي هذا اليوم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة'.
ويقول أيضا:
'يا ابن آدم إنما أنت أنفاس وأيام فإذا ذهب نفسك ويومك فقد ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل'.
ـ فاحرص أن تخرج أنفاسك في الدنيا في عمل مفيد في الحياة يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
'كل نفس وكل عرق سيخرج في الدنيا في غير طاعة الله أو فائدة في الحياة سيخرج يوم القيامة حسرة وندامة'.
وهذه قضية إيمانية لذلك يقول العلماء أن من علاقة غضب الله ومقته على العبد أن يكون مضيعًا لوقته، ومن علامة محبة الله للعبد أن يجعل شواغله أكثر من وقته.
بداية المعصية تبدأ بالفراغ: إذا نظرنا بعين فاحصة لكل مشاكل النساء تجدها بسبب الفراغ، وما وقع النساء في الغيبة والنميمة وتصيد أخطاء الآخرين والخلافات وغير ذلك إلا وكان الفراغ وراء هذا الوقوع.
يقول الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة إذن بداية المعصية تبدأ بالفراغ, وأكبر مثال حي وصادق على ذلك امرأة العزيز التي راودت يوسف عن نفسه وهذه معصية كبيرة كان وراءها الفراغ.
ونساء المدينة كن فارغات لا يفكرن إلا في الحديث عن قصة امرأة العزيز ويوسف ـ عليه السلام ـ.
وهنا يأتي السؤال فيم تضيع المرأة في هذا العصر وقتها؟
من أشكال الفراغ وتضيع الوقت بين النساء في هذا العصر:
ـ النوم لساعات الطويلة، قراءة المجلات التافهة بالساعات إن لم تكن فاضحة، التزين الزائد عن الحد، الذهاب للتسوق وبالساعات، مشاهدة التليفزيون والأفلام والمسلسلات والتقليب في القنوات الفضائية بالساعات، الحديث في التليفون مع الأصدقاء أوقات طويلة، والكلام بين الفتيات والشباب بالساعات في الإنترنت إما في كلام ليس له قيمة أو علاقات آثمة، فضلاً عن الخروج والفسح والأكل بالأربع ساعات في المطاعم ... وغير ذلك كثير.
الزينة حلال للمرأة .. ولكن:
وأرد لمن يرد في ذهنه أننا ضد الزينة للمرأة وأقول:(/1)
إن الوقت لهو الحياة وهو سريع الانقضاء، وما مضى منه لا يرجع، ولا يعوض بشيء، والمسلمة مطالبة بحفظ وقتها، فعليها أن تحرص على الاستفادة من عمرها، وصرف وقتها فيما ترجو نفعه، والمرأة التي تمضي الساعة تلو الساعة أمام المرآة لتجميل وجه، وتسريح شعر بصورة مبالغ فيها هي ممن أضاع الوقت، وفرط في العمر، لأن الإسلام جعل الزينة وسيلة لا غاية، وسيلة لتلبية نداء الأنوثة في المرأة، وللظهور أمام زوجها بالمظهر الذي يجلب المحبة ويديم المودة، ولكن يجب أن يكون ذلك بحد معين في الوقت والمال.
والإسلام كما يرفض إضاعة الوقت في الزينة فهو كذلك لا يرضى بإضاعته في البحث عن وسائل الزينة ومتابعة المستحدثات وكثرة ارتياد الأسواق.
صور ونماذج لكيفية استغلال الوقت:
تعالي معي لنرى كيف استفاد السابقون بأوقاتهم في عظائم الأمور ومفيدها:
المحاسبي: انظري إلى المحاسبي وهو يقول: 'والله لو كان الوقت يشترى بالمال لأنفقت كل أموالي غير خاسر أشتري بها أوقاتًا لخدمة الإسلام والمسلمين فقالوا له: فممن تشتري هذه الأوقات؟ فقال: من الفارغين.
ابن عقيل: وانظري إلى ابن عقيل وهو يقول: 'أنا الآن ابن الثمانين, والله أجد همة وعزمًا واستفادة من الوقت كما كنت وأنا ابن العشرين'.إني لا آكل الطعام كما تأكلون فقالوا له: فكيف تأكل؟
قال: إني لأضع الماء على الكعك حتى يصير عجينًا فآكله سريعًا حتى لا أضيع وقتي'.
لذلك استمرت هذه الأمة 1300 سنة لقيمة الوقت في حياتهم.
أسامة بن زيد: وهذا أسامة بن زيد يقود جيشًا وعمره السادسة عشر ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عليه:
وإنه لخليق بالإمارة [أي يقدر عليها].
محمد الفاتح: وهذا محمد الفاتح يفتح القسطنطينية التي استعصت على المسلمين عدة قرون يفتحها هو وعمره ثلاثة وعشرين سنة.
النووي: كلنا يعرف النووي مؤلف كتاب رياض الصالحين هل تعرفين كم كتابًا ألف؟
لقد ألف خمسمائة كتاب ومات في الأربعين من عمره قبل أن يتزوج, وكانت أمه تطعمه وهو يكتب دون أن يشعر لكثرة مشاغله.
ابن رجب: يقول ابن رجب: لقد كتبت بإصبعي هذا أكثر من ألفين مجلد.
يقولون: فبعد موته أخذنا كتب ابن رجب وقسمناها على عمره فكان نصيب اليوم من الكتب تسعة كتب.
هؤلاء كانوا يبنون أمة فنجحوا وأشرقت هذه الأمة.
والتاريخ الإسلامي يزخر بالعالمات من النساء والفقيهات والطبيبات والشاعرات, فهذه السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ يؤثر عنها أنها روت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألفين ومئتين وعشرة أحاديث.
وكثير من النساء في ذلك الوقت كن يشغلن أوقاتهن فيما يفيد ولخدمة الإسلام والمسلمين.
الحل بيدك .. فبادري:
كيف تشغلين وقت فراغك فيما يفيد وينفع في الدنيا والآخرة؟
1. يقول تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ[7]وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:8].أي إذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الأرض ومع دوامة الحياة، فإذا فرغت من كل هذه الأعباء فتوجهي بقلبك كله إلى من يستحق أن تنصبي فيه، وتجتهدي من أجله.والمسلمة طالما احتسبت أعمال الدنيا لله تعالى بما فيها الترويح المباح الذي لا يأخذ من وقتها الكثير فهي في عبادة وهي في جهاد.فحاولي استغلال معظم لحظات حياتك في جلب الخير لك وللآخرين.
2. أشغلي نفسك بتحقيق أهداف ذات قيمة تشعرك بالحماس كحفظ سور من القرآن الكريم وقدرًا من الأحاديث النبوية، وتعلم أحكام فقهية تتعلق بالعبادات وكذلك قراءة الكتب المفيدة.
3. التحقي بدورة مفيدة [كمبيوتر ، أو تعلم لغة] أو تعلم مهارة تطورك في جانب تحبينه كالخياطة والتطريز والأعمال الفنية.
4. عليك بالدعاء فهو سهم الله النافذ، فعلى المرأة أن تدعو الله أن يشغلها بما يفيد وينفع في حياتها وفي مماتها، لأن النفس إن لم تشغليها بحق شغلتك هي بباطل.
5. مشاهدة البرامج المفيدة المتعلقة بالمرأة والنواحي الأسرية.
6. المبادرة إلى الخيرات كما أمرنا الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90] {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] أي سارعوا إليها.
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: [[بادروا بالأعمال [أي الصالحة] سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا أو غنى مطغيًا أو مرضًا مفسدًا أو هرمًا مفنداً [أي موقعًا في الفند وهو كلام المخرف] أو موتًا مجهزًا [أي سريعًا] أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر]]. [رواه الترمذي].
هذه اقتراحات بسيطة وعليك أختي المسلمة التفكير فما يشغل وقت فراغك بما ينفع بيتك وأسرتك وحياتك ومماتك.
أعدي للسؤال جوابًا ... وعن عمرك فيما أفنيتيه؟
مفكرة الإسلام ...(/2)
الوقت والحياة عائض بن عبد الله القرني
..................................................................
الحمد لله الذي كان بعبادة خبيرا بصيرا.
وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا.
وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا.
وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا.
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان:2)
والصلاةُ والسلام على من بعثَه ربُه هاديا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى اللهِ بإذنِه وسراجا منيرا، اللهم صلى وسلم على حامل لواء العزِ في بني لؤي، وصاحبِ الطودِ المنيفِ في بني عبدِ مناف ابنِ قصي، صاحبِ الغرةِ والتحجيلِ المذكورِ في التوراةِ والإنجيل، المؤيدِ بجبريل، المعلمِ الجميل، وعلى آله وصحبِه وسلم تسليما كثيرا.
دقاتُ قلبِ المرءِ قائلَةُ له ................. إن الحياةَ دقائقُ وثواني
فأرفع لنفسِك قبلَ موتِك ذكرَها ... فالذكرُ للإنسانِ عمرُ ثاني
أيها الناس!
ودعنا عاما قد انصرم، واستقبلنا عاما قد قدِم، ودعنا عاما ذهبَ بحسناتِه وسيئاتِه، نسينا ما فعلنا فيه، ولكن والله ما فعلنَا علمُها عند ري في كتابٍ لا يضل ربي ولا ينسى، غفلنا عما فعلنا ولكن ما غفلَ اللهُ عنا: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(الكهف: من الآية49). واللهِ ما فاتَ كتابُ اللهِ حسنةً ولا سيئة.
نعم ودعنا عاما منصرما، عامُ ذهبَ كأنَه لمحُ البصر، ولكن هيهاتَ ما ذهبَ من عِلمِ الله، وما ذهبَ من حسابِ الله، وما ذهبَ من إطلاعِ الله.
(قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) (المؤمنون:112)، كم مكثتم! كم تهنئتم! كم أكلتم! كم شربتم!
(قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ).
وذكرَ اللهُ عز وجل منتَه بالوقتِ والعمرِ على الناس، لكن أين من يتذكرُ العمرَ والوقتَ وهذه المنة، فقال عز من قائل: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ).
أي أولم نمهلكُم! أولم نترككُم، أولم نمدَ لكم فترةً تتذكرون فيها، وتعملون فيها، وتتدبرون فيها! ولكن هيهات.
وذكرَ اللهُ عز وجل قوما فأنكر عليهم، قوما اتخذوا حياتَهم لهوا ولعبا وعبثا وسدى وتفلتا على شرعِ الله، وتعدٍ على حدودِ الله، فقالوا في ساعةِ الندمِ ولات ساعةَ مندم: (قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ ).
وذكرَ عز وجلَ أن الشمسَ والقمرَ بحسبان، فهي لا تسيرُ إلا بوقتٍ وقدرٍ مقدر، وبلحظاتٍ محسوبةٍ عند الله، وفي آجالٍ مضروبة.
فيا من أنهى عامَه أما بحثتَ عن عامِك ماذا فعلتَ فيه! أما فتشت دفاترَك! أما تذكرتَ حسناتِك وسيئاتِك! واللهِ لتوقفنَ غدا عند من لا تخفى عليه خافية: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ).
(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)، الحسناتُ ظاهرة، والسيئاتُ شاهرة، لا يخفى على اللهِ شيء، يعلمُ السرَ وأخفى، يقولُ للعبدِ وهو يدنيه ويحاسبُه: فعلتَ يوم كذا وكذا، كذا وكذا، إنه اللهُ الذي يعلمُ السرَ وأخفى.
يا عبادَ الله!
عامُ انصرمَ عبثَ فيه العابثون، وأجادَ فيه المخلصون، أما الصالحونَ فادخروا أجل الحسنات، وأما المبطلونَ فكنزوا أقبحَ السيئات، فسوف يرى كلُ بضاعتَه يوم يبعثرُ ما في الصدور، ويحصلُ ما في الصدور: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).
كان احفظَ الناسِ لوقتِه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، كان يحفظُ دقائقَه وثوانيَه مع الله، كلُ لحظةٍ تمرُ به عملا صالحا يرفعُه إلى الواحدِ الأحد.(/1)
يقول ابنُ القيمِ في كلامٍ ما معناه: كان كلامُه صلى الله عليه وسلم ذكرا لربِه، وفعلُه ذكرا، وحركاتُه، وسكناتُه، وليلُه ونهارُه، وحلُه وترحالُه، وكلَ لحظةٍ في حياتِه ذكرا للهِ الواحدَ الأحد.
بل كان يقولُ كما عند البخاري: نعمتانِ مغبونُ فيهما كثيرُ من الناسِ؛ الصحةُ والفراغ. أي كثيرُ من الناسِ يخسرونَ الصحةَ، ويخسرونَ الفراغَ، في المعاصي، في الشهوات، في المخالفات، في سماعِ الأغنياتِ الماجنات، في المعاصي التي تغضبُ رب الأرضِ والسماوات، في المجلاتِ الخليعات، في المسرحيات، في المسلسلات، في السفر إلى البلادِ التي غِضبَ عليها الله ليعملوا فيها المعاصي التي تتهتكُ بهم في نارِ جهنمَ وبأس المصير.
كان عليه الصلاة والسلام يقول كما عند الترمذي بسندٍ حسن: اغتنم خمساً قبل خمس: شبابَك قبل هرمِك , وحياتَك قبل موتك , وفراغَك قبل شغلك , وصحتَك قبل مرضك , وغنَاك قبل فقرك..
فيا من أذهبَ لياليَه وأيامَه في الهذرِ والمذر، يا من أذهبَ أيامَه في الهذيان، وفي مخالفةِ الواحد الديان، وفي إغضابِ الرحمن، وفي الطغيانِ والعصيان والعدوان، أمامَكَ عامُ جديد، أتي يقولُ لك: يا ابنَ آدم أغتنمني في الحسنات، فوالذي نفسي بيده لأِن ذهبتُ عنكَ لا أعودُ إليك أبدا.
ولذلكَ تواصى الصالحونَ بحفظِ العمر، وبحفظِ الأوقات، فقد كان الربيعُ ابنُ خُثيم يكتبُ كلامَه من الجمعةِ إلى الجمعة، ويحاسبُ نفسَه مساءَ كلِ سبت.... لا إله إلا الله! ليتَه يدري أن من الناسِ من يركبُ في اليومِ الواحدِ خطايا كالجبال، وهو يضحك، ولا يكتبُها ولا يتذكرُها، ولا يدري بها، ولكن علمُها عند ربي في كتابٍ لا يضل ربي ولا ينسى.
قالَ أحدُ الصالحينَ لنفسِه: يا نفسُ كم تنامين! واللهِ لتنمنَ في القبرِ نومَةً طويلة:
أتيتُ القبورَ فناديتُها ... أين المعظمُ والمحتقر!
تفانوا جميعا فما مخبرُ ... وماتوا جميعا ومات الخبر
فيا سألي عن أناسٍ مضوا ... أمالك في من مضى معتبر
تروحُ وتغدُ بناتُ الثرى ... فتمحُ محاسن تلك الصور
قيل لسفيانَ الثوري: أجلس معنا نتحدث.
قال: كيف نتحدثُ والنهارُ يعملُ عملَه، ما طلعت الشمسُ إلا كانت شاهدةً على العبادِ في ما فعلوا.
ذكرَ ابنُ رجب أنه قيلَ لكرزِ ابنُ وبرَه: ألا تجلسُ معنا. قال: احبسوا الشمسَ لأجلسَ معكم.
ألا ترى الليلَ والنهارَ كيف يمرانِ في صرمِ الأعمار، ألا ترى إلى الدقائقِ والثواني لا تعود، ألا ترى إلى الشمس إذا غربت فلا يمكنُ أن تأتي في اليومِ الذي صرمتَه.
نروحُ ونغدو لحاجتِنا .. وحاجةُ من عاشَ لا تنقضي
تموتُ مع المرِ حاجتُه .... وتبقى له حاجةُ ما بقي
ولذلك شكى وبكى الصالحون والطالحون ضيقَ العمر، وبكى الأخيارُ والفجارُ انصرامَ الأوقات، فأما الأخيارُ فبكوا وندموا على أنهم ما تزودوا أكثر، وأما الفجارُ فتأسفوا على ما فعلوا في الأيامِ الخالية.
قال أهلُ السيرِ: حضرت الوفاةُ نوحا علي السلام، فقيل له يا نوحُ كم عشت؟
قال ألف سنة.
قالوا كيف وجدت الحياة؟
قال والذي نفسي بيدِه ما وجدتُ الحياةَ إلا كبيتٍ له بابان دخلتُ من هذا وخرجتُ من الآخر.
فيا ابنَ الستينَ والسبعين أنت ما عشت ألفَ سنة، فكيفَ تصفُ الستينَ والسبعينَ في معاصِ الله، وفي انتهاكِ حدودِ الله، وفي لتجرئِ على حُرماتِ الله؟
ذكروا عن الجنيدِ ابنُ محمدٍ أن الوفاةَ حضرتُه، فأخذ يقرأُ القرآنَ في سكراتِ الموتِ ويبكي، فقالوا له تقرأُ القرآن وأنت في سكراتِ الموتِ! قال سبحانَ الله، من أحوجُ مني بقراءةِ القرآنَ وقد أصبحت لحظاتِ تعدُ عليَ، أو كما قال.
وندمَ كثيرُ من المفرطينَ يومَ أتتهم سكراتُ الموت.
قال الذهبيُ أتت سكراتُ الموتِ عبدَ الملكَ ابنَ مروان، الخليفةَ الأموي، فأخذَ يتجرعُ كأسَ الموت، ويذوقُ الموت، ويشربُ الموت، ويأكلُ الموتَ وهو في تلكَ الساعة التي يذلُ فيها الجبار، ويذعنُ فيها المتكبر، ويفتقرُ فيها الغني، سمعَ غسالا بجانبَ قصرِه في الوادِ يغسلُ ملابسِه ويُنشدُ نشيدا، ما علمَ هذا الغسالُ بموتِ عبدِ الملك، وما أدراهُ بموتِ عبد الملك، ماذا أهمَه من موتِ عبد الملك!
فأخذَ عبدُ الملكِ يقولُ وهو يبكي: يا ليتني كنتُ غسالا، يا ليتني ما عرفتُ الخلافة، يا ليتني ما توليتُ المُلَك.
قال سعيدُ ابنُ المسيبِ لما بلغتُه هذه الكلمات: الحمدُ لله الذي جعلَهم يفرونَ إلينا وقت الموتِ ولا نفرُ إليهم.
وأما ابنُه الوليدُ ابنُ عبد الملكِ وليُ العهدِ الذي تولى الملكَ والخلافة، فلما حضرتُه الوفاة نزل من على كرسيِ المُلك ومرغَ وجههُ في الترابِ، وندمَ وتلبطَ بالحصى وأخذ يبكي ويقول: ما أغنى عني ماليَ هلكَ عني سلطانيَ.(/2)
وأما هارونَ الرشيدِ الذي ملكَ الدنيا من أسباني إلى السندِ ومن طاشكند إلى جنوبِ أفريقيا فإنَه قد أكمل بناءَ قصرِه قبل أن يموت بليال، ثم قال للشعراء امدحوا القصرَ وصاحبَ القصر، فدخل عليه أبو العتاهيةَ الواعظُ الزاهدُ فقال لهارونَ الرشيد، يا هارونُ نظمتُ فيك وفي قصرِك أبياتا، قال أسمعني، فقال:
عش ما بدا لك سالما في ظلِ شاهقةِ القصور.
قال هيه، يعني زد. قال:
يجري عليك بما أردتَ مع الغدو مع البكور.
قال هيه، قال:
فإذا النفوسُ تغرغرت بزفيرِ حشرجتِ الصدور .. فهناك تعلمُ موقنا ما كنت إلا في غرور.
فبكى السلطان، ونزل من على كرسيه، وما لبثَ أياما إلا وقد فاجأه الموتُ، فأخذ يتلفتُ في كتائبِ الجيشِ، في الحرس، في الأمراء، في الوزراء، وأخذ يرفعُ طرفَه إلى السماء ويقول: يا من لا يزولُ ملكُه أرحم من قد زال ملكُه.
وقد نبتت نابتةُ في الأمةِ الإسلاميةِ شبابا وشيبا، فقد عاشوا العمرَ المنصرمَ فعاشَوه في الضياع، وصرفُوه في المعصية، ودفعُوه ثمنا باهظا، وتكاليفا ضخمةً لغضبِ من اللهِ عز وجل.
ليلُهم –إلا من رحم ربُك- في سهرٍ لا ينفع، سهر موصولٍ بالعناء، سهرٍ في ليالٍ حمراء، في لعبِ بلوت، أو سهرٍ ضائع، أو في سفرٍ مضني، أو في غيبةٍ ونميمة، أو في شهادةِ زور، أو في مجالسَ في المقاهي.
وإنا ندعوهم في بدايةِ هذا العام أن يجددوا توبتَهم، وأن يعودوا إلى مسيرةِ ربِهم، وأن ينهجوا سنةَ نبيِهم عليه الصلاةُ والسلام.
نقولُ لأنفسِنا ولهم أقبل العام، ودخلَ العامُ الهجري، فاستقبلوه بتوبةٍ نصوح: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي .... جعلتُ الرجاء ربي لعفوِكَ سلم
تعاظمني ذنبي فلما قرنتُه ....... بعفوكَ ربي كان عفوكَ أعظمُ
أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التوابُ الرحيم.
....................
الحمدُ لله وليُ الصالحين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، والصلاةُ والسلام على إمامِ المتقين، وقدوةِ الناسِ أجمعين، وحجةِ اللهِ على الهالكين، وخيرَة المرسلين، وصفوةَ النبيين، وعلى آله وصحبِه والتابعين.
أما بعد أيها الناس!
انقسمَ كلُ جنسٍ من الناسِ في العامِ المنصرمِ إلى قسمين:
فالعلماء انقسموا إلى قسمين:
قسمُ خافَ اللهَ في علمِه، وراقبَ اللهَ في بضاعتِه، فأمرَ بالمعروفِ ونهى عن المنكرِ، وأنفقَ مما أتاهُ الله، وبثَ العلمَ الشرعي الذي أعطاهُ الله، فجزاءُه أن يلحَقَهُ اللهُ بالنبيين والمرسلين، وأن يبوئَهُ مقعدَ الصديقينَ في الخالدينَ يوم العرضِ الأكبر.
وعالمُ اشترى بآياتِ اللهِ ثمنا قليلا من الدنيا، فكتمَ ما آتاهُ الله، وجحدَ نعمةَ الله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
هذا العالمُ شراء بآياتِ اللهِ ثمنا قليلاً من حب الدنيا، ومن اصطيادِ مفاتِنِها، ومن التهتكِ في شهواتِها، ومن الارتشاء، وغيرِها من الأمور، فآن له أن يتوب في مطلعِ العام الهجري الذي استهلَ أيامَه قبل أيام.
وانقسم المسئولون على قسمين:
قسمُ خاف اللهَ في يومِ العرضِ الأكبر، وعلمَ أن أحكمَ الحاكمينَ هو الله، الذي لا يعذبُ عذابَه أحد، ولا يوثقُ وثاقَه أحد، الذي لا يغادرُ صغيرَة ولا كبيرةً إلا أحصاها، الذي يوقفُ الناسَ حفاةً عراة، غرلا بهما يومَ يشتدُ الكربُ من النفوس، وتدنو الشمسَ من الرؤؤس، أدرك ذلك فراقبَ اللهَ في وظيفتِه، وفي عملِه، فإن حكَم حكمَ بالعدل، وإن عمِل عملَ بالنصح، فهو صادقُ حظهُ وأجرُه على اللهِ الواحدِ الأحد.
وقسمُ خانَ اللهَ في رسالتِه، وغشَ اللهَ في معاملتِه، فأخذ منصبَه ووظيفتَه حربا لأولياءِ اللهِ، وحربا لدينِ الله، فذلك جزاءُه أن يحشرَ مع فرعونَ وأبي ابنُ خلف وأمثالِهم وأضرابِهم يومَ لا ينفعُ الظالمون معذرتُهم ولهم أللعنةُ ولهم سوءُ الدار.
وانقسمَ الشبابُ إلى قسمين:(/3)
شابُ عكفَ على القرآنِ، فاستحلىَ محاليه، ونزلَ في ميادينِه، وهبطَ في أوديتِه، فتدبر معانيه، واسترضعَ ثديَه، واستحكمَ أحكامَه، ورشف رحيقَه، وتلبس بلباسِه، قام به فتهجدَ في الليل، وعمل به في النهار، ونشرَه في الناس، وقف عند حدودِه، وتعلمَ من علومِه، ودرس دروسَه، فهذا شابُ ناصحُ مُفلح، هذا الشاب جعل المسجدَ مصلاه، وحديقتَه وبستانَه، فالتقى بإخوانِه الشباب، هذا الشاب تجمل بالسنةِ على ظاهرِه، فتجملَ وتشرفَ بسنةِ محمدٍ عليه الصلاةُ والسلام، فأسكن سنةَ الحبيبِ قلبَه وعينَه وسمعَه، ورجلَه ولحيتَه ولباسَه فكانَ أحبُ الناسِ إليه محمدا عليه الصلاةُ والسلام، فكان لسانُ حالِه يقول:
نسينا في ودادِك كل غالي ..... فأنت اليومَ أغلى ما لدينا
نلامُ على محبتِكم ويكفي ....... لنا شرفُ نلامُ وما علينا
ولمَ نلقكم لكن شوقا ............ يذكرُنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناسُ بالدنيا وإنا ...... لعمرُ الله بعدَك ما سلينا
هذا الشاب جعل من كتبِ السنةِ موصِلا ومنهجا وسيرةً وقدوةً ونبراسا، هذا الشابُ داعيةً في مجتمعِه كثّر اللهُ من أمثالِه.
وشابُ آخر صرف أوقاتَه في اللهو والعبث، مسجدُه المقهى، وسواكُه السيجارة، ومصحفُه المجلةُ الخليعة، وتلاوتُه الأغنيةُ الماجنة، إذا سافر الأخيارُ إلى مكةَ للحجِ والعمرة، سافرَ إلى بلادِ الكفرِ للمعصيةِ والزنى والفاحشة، إذا أتى الشبابُ إلى المساجد خرجَ على مساجدِ الشيطانِ المقاهي، إذا قرأ الشبابُ القرآنَ وبكوا من آياتِه، وتأثروا من عبرَ الواحدِ الديان أخذ المجلةَ الخليعةَ والجنسَ والفيديو والمسلسل والمسرحية، إذا عكف الشبابُ على الدعوةِ، وعلى تدارسِ العلم عكف على ما يمليِ الشيطانُ وأذنابُ الشيطان من سندِ فرعون وستالين ولينين وأذنابُ الحداثةِ أعداءُ اللهِ عليهم لعنةُ اللهِ وغصبُ الله.
وانقسم الشيوخُ إلى قسمان:
شيخُ اقتربَ من القبرِ، أقتربَ من الستين، فلبسَ كفنَه، وأيقنَ انه أصبح من القبرِ قاب قوسينِ أو أدنى، فأكثرَ من الاستغفارِ وحبسَ لسانَه عن الفاحشةِ والغيبةِ والنميمة وشهادةِ الزور، وأقبل يجددُ توبتَه، ويستعدُ للموت، وكأن الموتَ أصبحَ يلازمُه صباحا مساء.
وشيخُ آخر نسيَ اللهَ في شيخوختِه، فأصبحَ أشيمطَ يرتكبَ المحرمات، همُه شهادةَ الزور، لا يعرفَ الذكر، وهمُه المشاكل، وإحداثِ الفتنِ بين الأسرِ والقبائل، وجلبِ الأموالِ من غيرِ حلِها والتهتكِ في الربا، وعدم الحياءِ من الله، وقد أتاه النذيرُ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ، قال ابنُ عباسٍ النذيرُ هنا الشيبُ، ثلاثةُ لا يكلمُهم اللهُ ولا ينظرُ إليهم ولا يزكيهم ولهم عذابُ أليم، وذكر منهم (أشيمطُ زاني)، شيخُ شابت لحيتُه وشاب رأسُه لكن ما استحيَ من الله، تهتكَ في حدودِ الله، وأعرضَ عن منهجِ الله.
هذه الأجناسُ هي أقسامُ الناسِ في العامِ المنصرمِ والعامِ الذي قبلَه، فنسألُ اللهَ أن يصلحَ الحال، وأن
يتوب على سيء الحال الذي ما عرف ذي الجلالِ والإكرام.
عباد الله، صلوا وسلموا على من أمرَكم اللهُ بالصلاةِ والسلامِ عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً. وقد قال عليه الصلاةُ والسلام: من صلى علي صلاةً واحدةً صلى اللهُ عليه بها عشرا.
اللهم صلي على نبيك وحبيبِك محمد، واعرض عليه صلاتَنا وسلامَنا في هذه الساعةِ المباركة، وأرضى اللهم عن صحابتِه الأطهار من المهاجرينَ والأنصار، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
الهم أصلح أئمتنا وولاةَ أمورِنا، اللهم وفقهم لما تحبُه وما ترضاه، اللهم اكتبِ الإيمانَ في قلوبِهم، اللهم حببهم إلى القرآن، اللهم اجعلهم من حملةِ لا إله إلا الله، ومن أنصارِ لا إله إلا الله، ومن حفظةِ لا إله إلا الله.
اللهم أهلَ علينا هذا العامَ الجديدَ بالأمنِ والإيمان، والسلامةِ والإسلام، والعفوِ والرضوان، والمغفرةِ والرحمةِ يا واحدَ يا ديان.
اللهم أجعلهُ عاما حافلاً بالحسناتِ والصالحات، اللهم تب فيه على المذنبين، واقضي الدينَ فيه عن المدينين، وأشفي مرضى المسلمين يا رب العالمين.
اللهم أعد فيه شبابَنا، وأصلحِ فيه حالَنا، وقوي فيه مجدنَا، وأقم فيه علمَنا، وأعد فيه نصرَنا.
اللهم إنا نسألُك فيه من العيشِ أرغدَه، ومن العمرِ أسعدَه، ومن الوقتِ أتمَه، ومن الزمنِ أعمَه.
اللهم أجعلنا من قومٍ حفظوا الأوقات، فاستثمروها في الحسنات، وادخروها في أكبرِ الصالحات.
اللهم ولا تعلنا من قومٍ جعلوا حياتَهم لهوا ولغوا وعبثا، فخسروا أوقاتَهم، ودمروا أعمارَهم، ونسوا ربَهم، وسودوا صحائفَهم.
اللهم تقبل منا أحسنَ ما عمِلنا، وتجاوز عن سيئاتِنا في أصحابِ الجنةِ وعد الصدقِ الذي كانوا يوعدون.
ربنا إننا ظلمنا أنفسَنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.(/4)
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزةِ عما يصفون، وسلامُ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
.............................
واحات الهداية ...(/5)
الوقف نظرات وأحكام ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- الإسلام دين التكافل. 2- أهمية المال وضبط الإسلام طريقة توزيعه. 3- حق الفقراء في أموال الأغنياء. 4- الحث على عبادة الوقف. 5- تطبيق المسلمين لهذه العبادة. 6- صور متعددة للأوقاف. 7- الوقف عمل يقدمه المرء لآخرته. 8- وصايا للواقفين ونظار الأوقاف. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد: الإسلام دين الكمال والشمول، كمال وشمول يساير متطلبات الفرد وحاجات الأمة، ويحقق العزة والكرامة لأهل الإسلام في دارهم الدنيا والدار الآخرة، دين يحقق كل أواصر التكافل بين المسلمين، وكل أنواع التعاون بين المؤمنين، حوى كل سبل الخير، وشمل جميع أنواع البر قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
أيها المسلمون، إن في الناس قدرات وطاقات، والله قد قسم هذه القدرات والطاقات بين الناس ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون.
الناس بحكمة الله ورحمته وعدله يختلفون فيما أعطاهم الله من ملكات وطاقات، في هممهم وأعمالهم، في عقولهم وجهودهم، منهم من يفتح الله على يديه ويرزقه من حيث لا يحتسب، يوسع عليه في رزقه ويبسط له في ماله، وفئات أخرى قد قُدِر عليها رزقها، وقلّت مواردها، إما لنقص في قدراتها، أو عجز في مدركاتها، وإما لإعاقات في أبدانها، فهناك الصّغار والقصّار، وهناك أصحاب العاهات والإعاقات، لا يقدرون على مباشرة حرف، ولا يحسنون صنائع. ولله في ذلك تقدير وحكمة، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
أيها المسلمون، لقد أصبح المال عصب الحياة، ولهذا فإن الله جلت قدرته نظّم لكم التصرف في هذه الأموال اكتساباً وتصريفاً، فبين لكم كيف تكتسبونها وكيف تتصرفون فيها وتصرفونها، نظم ذلك لكم في حياتكم وبعد مماتكم، ففي حياة الإنسان يستطيع الحر المكلف الرشيد العاقل أن يتصرف في ماله بيعاً وشراءً وإجارةً ورهناً ووقفاً وهبةً ووصيةً، على حسب الحدود الشرعية التي بينها الشارع. وبعد ممات الإنسان حَفِظ الله له المال بأن تولى قَسمه بنفسه على أولى الناس به، ففرَض المواريث وقسّمها فقال جل وعز: ءابَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:11]. وأخبر أن هذه حدوده فقال: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].
عباد الله، إن التعاون في أعلى صوره، والرحمة بالناس في أجمل معانيها يتجسد في الاهتمام بالضعفاء من عباد الله. إن لهؤلاء الضعفاء حقاً في أموال من بسط الله عليه من أصحاب الثروات المتنامية، حق في الزكوات وحق في الصدقات. أيها المسلمون، إن الإحسان في الإسلام واسع الأبواب متعدد الطرق متنوع المسالك لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَالْمَلَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيّينَ وَءاتَى الْمَالَ عَلَى حُبّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرّقَابِ وَأَقَامَ الصلاةَ وَءاتَى الزكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
أيها المسلمون، وهذه وقفة مع صورة كبرى من صور البر والإحسان في الإسلام، صورة تغطي جانباً من جوانب التكافل، وتعالج معالجة حقيقية لكثير من حاجات المجتمع واحتياجاته، وغُصصه وآلامه، صورة تبرز ما للمال من وظيفة اجتماعية، تحقق الحياة الكريمة، وتدفع وطأة الحاجة، وينعم المجتمع كله بنعمة الأخوة الرحيمة والإلفة الكريمة. صورة يجد فيها الفقير المحتاج في مجتمعه من يشاطره همومه وآلامه، ويفرّج عنه أحزانه وغمومه، تلكم أيها الإخوة الأوقاف والأحباس. حقيقة طالما غابت عن أذهان كثير من المسلمين ممن أنعم الله عليهم بشيء من المال. فغالب الناس اليوم لا يعرفون إلا الوصية ولا يعرفون الوقف.
الوقف ـ يا عباد الله ـ من أفضل الصدقات وأجل الأعمال وأبر الإنفاق، وكلما كان الوقف أقرب إلى رضوان الله وأنفع لعباد الله كان أكثر بركة وأعظم أجراً الوقف في الدنيا برٌ بالفقراء والأصحاب، وفي الآخرة تحصيلٌ للثواب وطلبٌ للزلفى من رب الأرباب.(/1)
كم ستعيش يا عبد الله، يا من تملك شيئاً من المال في هذه الدنيا، هل فكرت أن تنفع نفسك وتوقف شيئاً من مالك لله ينفعك في قبرك ويوم معادك.
هل تعلم بأن الوقف انتفاع لك دائم متواصل، على طبقات المحتاجين من الأقربين والأبعدين، من الأحياء والميتين؟ إنه عمل صالح ومسلك رابح.
الوقف: وعاءٌ يصب فيه خيرات العباد، ومنبع يفيض بالخيرات على البلاد والعباد، تتحقق به مصالح خاصة ومنافع عامة.
الأوقاف: تُجسّد مسئولية القادرين على القيام بمسئولياتهم وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
الوقف: إحسان بالمال والقول والعمل.
في الوقف: ضمان لحفظ المال ودوام للانتفاع به وتحقيق للاستفادة منه مُدداً طويلة وآماداً بعيدة.
أيها المسلمون، لقد ذكر التاريخ الإسلامي في المجال التطبيقي لفكرة الوقف كثيراً من الأوقاف التي تبارى المحسنون من المسلمين في كل أقطارهم وعصورهم وعلى اختلاف مذاهبهم في إنشائها على جهات البر الكثيرة التي ما زال كثير منها قائماً حتى اليوم.
فمنذ أيام الإسلام الأولى بادر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بوقف جزءٍ من أموالهم، وحبس أشياء من دورهم وعقارهم. فها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرق الخير ووجوه البر قائلاً يا رسول الله: إني أصبت مالاً بخيبر لم أُصب مالاً أنفس عندي منه فما تأمرني. فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن شئت حبّست أصلها وتصدقت بها غير أن لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث)). قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضعيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمولٍ فيه، متفق عليه.
وهذا أبو طلحة رضي الله عنه كان أكثر أنصاريّ المدينة مالاً وكان أحب ماله إليه بيرحاء، مستقبل المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ طيب فيها. قال أنس بن مالك رضي الله عنه فلما نزل قوله تعالى: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن الله تعالى يقول: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عنده، فضعها حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخٍ بخٍ ذلك مال رابح وقد سمعتُ ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين))، فقال أبو طلحة أفعل ذلك يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وأوقف أبو بكر رضي الله عنه رباعاً له في مكة على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وذوي الرحم القريب والبعيد.
وأوقف عثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر والزبير رضي الله عنهم أجمعين.
ومن أمهات المؤمنين أوقفت عائشة وأم سلمة وصفية وأم حبيبة رضي الله عنهن. وخالد بن الوليد رضي الله عنه احتبس أدرعه وأعتاده في سبيل الله.
يقول جابر رضي الله عنه: ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلاّ وَقف. وقال الشافعي رحمه الله: وأكثر دور مكة وقف.
ثم سار من بعدهم الأغنياء والموسورون من المسلمين فأوقفوا الأوقاف وأشادوا الصروح، بنوا المساجد، وأنشؤوا المدارس وأقاموا الأربطة، ولو تأملت دقيق التأمل لرأيت أن هؤلاء القادرين الأخيار والأغنياء الأبرار لم يدفعهم إلى التبرع بأنفس ما يجدون وأحب ما يملكون ولم يتنازلوا عن هذه الأموال الضخمة والثروات الهائلة إلا لعظم ما يرجون من ربهم ويأمّلون من عظيم ثواب مولاهم ثم الشعور بالمسئولية تجاه الجماعة والأقربين يدفعهم كل ذلك إلى أن يرصدوا الجزيل من أموالهم ليستفيد إخوانهم أفراداً وجماعات، جمعيات وهيئات، أقرباء وغرباء.
قال بعض أهل العلم: الوقف شرع لمصالح لا توجد في سائر الصدقات فإن الإنسان ربما صرف مالاً كثيراً ثم يفنى هذا المال ثم يحتاج الفقراء مرة أخرى أو يأتي فقراء آخرون فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء وقفاً للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم من منافعه ويبقى أصله.
في الوقف تطويل لمدة الاستفادة من المال، فقد تُهيأ السبل لجيل من الأجيال لجمع ثروة طائلة، ولكنها قد لا تتهيأ للأجيال التي بعدها. فبالوقف يمكن إفادة الأجيال اللاحقة بما لا يضر الأجيال السابقة.(/2)
أيها المسلمون، الوقف ليس محصوراً ولا مقصوراً على الفقراء والمساكين كما يظن البعض، ويظن أنها أعظم أجراً من غيرها، ولكنها أوسع من ذلك وأشمل لقد كان للوقف أثر عظيم في نشر الدين وحمل رسالة الإسلام ونشاط المدارس والحركة العلمية في أقطار المسلمين وأقاليمهم في حركة منقطعة النظير غير متأثرة بالأحداث السياسية والتقلبات الاجتماعية، توفر للمسلمين نتاجاً علمياً ضخماً وتراثاً إسلامياً خالداً وفحولاً من العلماء برزوا في تاريخ الإسلام بل في تاريخ العالم كله. ففيها تحقيق مصالح للأمة وتوفير لكثير من احتياجاتها ودعم لتطورها ورقيها وصناعة حضارتها. إنه يوفر الدعم المادي للمشروعات الإنمائية والأبحاث العلمية، إنه يمتد ليشمل كثيراً من الميادين والمشروعات التي تخدم في مجالات واسعة وميادين متعددة ومتجددة.
إن المساجد لم تكن لتنتشر هذا الانتشار في تاريخ الإسلام كله إلا بطريق الأوقاف، أوقاف يصرف ريعها من أجل حفظ كتاب الله وطباعته ونشره، ويصرف في الدراسات القرآنية وخدمة علوم السنة وسائر فروع علوم الشريعة.
الأوقاف دعامة من الدعامات الكبرى للنهوض بالمجتمع ورعاية أفراده وتوفير الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية بالأوقاف، تبنى مصحّات ومستشفيات، يراعى فيها أحوال الفقراء وذوي الدخول المتدنية، تشاد بها دور وملاجئ وأربطة تحفظ اليتامى وتؤوي الأرامل وتقي الأحداث مصارع الضياع، نُزلٌ وفنادق تؤوي المنقطعين والمحتاجين من الغرباء وأبناء السبيل، مؤسسات إغاثية ترعى المنكوبين من المسلمين في كل مكان، صناديق وأوقاف لإعانة المعسرين وتسديد ديون المنقطعين. تقوم على الأوقاف مدارس وجامعات وعلوم وأبحاث، ذوي اليسار والغنى يمدون الهيئات والمؤسسات والصناديق الوقفية بأموالهم، والخبراء المتخصصون والمتفرغون الموثوقون يديرون هذه المؤسسات والصناديق بشروط دقيقة وأنظمة شاملة على ما يقتضيه الشرع المطّهر.
عن طريق الوقف انتشر في العالم الإسلامي المدارس والمكتبات والأربطة وحِلَق العلم والتأليف، وتحسنت بدعمها الأحوال الصحية للمسلمين وازدهر علم الطب، وأنشئت المستشفيات، إضافة إلى دَورها في دعم الحركة التجارية والنهضة الزراعية والصناعية وتوفير البنية الأساسية من طرق وقناطر وجسور. ناهيك عن تحقيق التكافل الاجتماعي والترابط الأسري وبناء المساكن للضعفاء ومساعدة المحتاجين، وتزويج الشباب غير القادرين، ورعاية المعوقين والمقعدين والعجزة، وبناء القبور وتجهيز لوازم التغسيل والتكفين للموتى.
أيها المسلمون، إن الإسلام في تاريخه وحضارته قد تميّز فيما تميّز، بما أبرزه المسلمون من أوقاف على مساجدهم ومدارسهم وطلبة العلم فيهم وذوي الحوائج منهم، مما كان له الأثر البالغ في نشر الإسلام وتنشئة المسلمين على العلم والصلاح وحفظ كرامة المحتاجين ورعاية الأقربين وحفظ أصول الأملاك، فأغنت بإذن الله وأغاثت وأعفّت، فعاشوا أعزةً لا يمدون يداً إلى لئيم.
أيها المسلمون، إن مال الإنسان الحقيقي هو ما قدمه لنفسه ذخراً عند ربه كما قال سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94]، وفي الحديث الصحيح يقول ابن آدم: ((مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت وما سوى ذلك فذاهبٌ وتاركه للناس)) وفي الحديث الآخر: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به بعده أو ولد صالح يدعو له)) والإنسان ينتقل من دنياه غنياً عما خلّف فقيراً إلى ما قدّم قال الله تعالى: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:272].(/3)
ففكر جيداً يا عبد الله في هذا الباب، فوالله إنه لباب عظيم من أبواب الخير، غفل عنه الكثيرون، أوقف يا عبد الله داراً صغيرةً، أو عمارةً هنا أو هناك، واجعل ريعها في أحد وجوه الخير التي سمعت تنفعك نفعاً عظيماً بإذن الله تعالى إذا خلصت النيات. واجعل على هذا الوقف شخصاً أو شخصين من أهل الخير والصلاح ممن عرفوا بالأمانة والنزاهة يرعون شؤونها ويديرون أمورها، يأتيك أجرك وأنت في قبرك، ويدعو لك كل من استفاد منها، وكلما كان الوقف متعدي النفع فهو أفضل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً نشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته)) رواه ابن ماجه. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده، فإن شعره وروثه وبوله في ميزان حسناته)) رواه ابن ماجه. هذا يا عباد الله أجر من أوقف فرساً فكيف بمن أوقف أكثر من ذلك.
أيها المسلمون، ومع العلم بأن الوقف من خصائص الإسلام إلا أننا نجد اليوم أن أهل الضلال والشرك من أصحاب الكنائس والأضرحة يعملون لدعم ونشر ضلالهم. إن المطّلع على أحوال المنصّرين الذين يجوسون خلال ديار المسلمين بغية إخراجهم من دينهم الحق وإدخالهم في دياجير ظلمة النصرانية يرى كم هم مجتهدون في إقامة الملاجئ والمدارس والمستشفيات والمستوصفات والمصانع ليَدخلوا إلى قلوب المسلمين تمهيداً لتنصيرهم من خلال إطعام جائعٍ، وكسوة عارٍ، ومداواة مريض. والمتتبع لنشاطاتهم وأحوالهم يجد أنهم قد اعتمدوا في تمويل مشاريعهم هذه على ريع الوقف الكبير الذي وقفه أبناء النصارى في العالم للكنائس، فأوقاف الفاتيكان وحدها تضم عدة بنوك وشركات صناعية واستثمارات كبرى ومناجم في عدة دول.
وفي المقابل نرى أن المشاريع الإسلامية خصوصاً الدعوية منها تعاني من اضطراب في الاستمرارية وعدم وضوح في مستقبلها المالي مما ينعكس سلباً على الدعوة الإسلامية لعدم وجود مورد مالي مستمر بسبب إحجام كثير من الموسرين من المسلمين عن وقف جزءٍ من أموالهم على مثل هذه المشاريع.
أيها المسلمون، هناك من يوقف شيئاً من ماله على أولاده وذريته من بين سائر الورثة ليؤمِّن لذريته مورداً ثابتاً يعينهم على نوائب الدهر وتقلبات الزمن فيحميهم بحد زعمه بإذن الله من الفاقة أخذاً من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) بل إن بعض الأغنياء قد يتوجسون خيفةً من أن بعض الذرية لا يحسن التصرف في الثروة أو يخشى عليهم الخلاف والنزاع والفرقة، فيقول: من أجل مصلحتهم ومصلحة ذرياتهم أوقف بعض الأعيان والأصول ليحفظ الثروة من الضياع ويكف الأيدي من التلاعب، وبهذا يكون النفع مستمراً، والفائدة متصلة غير منقطعة.
وهذا العمل أيها الأحبة حرام ولا يجوز، لأنه داخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)) فكما لا يجوز لأحد أن يوصي لبعض ورثته دون بعض، لا بشيء من أعيان المال ولا بشيء من منافعه وغلاته فكذلك لا يجوز له أن يوقف شيئاً من ماله أو عقاره لبعض من له حق في الميراث. فإن الله تعالى قد فرض لكل وارث حقه ونصيبه من الميراث، وبناءً عليه فلا يجوز أن توصي لأولادك بوقف شيء من مالك عليهم وتدع بقية الورثة، فإن هذا تعدياً لحدود الله واقتطاعاً من حق بعض الورثة لورثة آخرين. فإذا قال الإنسان أوصيت بثلثي أو ببيتي أو بعقاري يكون وقفاً على أولادي وله ورثة غير الأولاد فهذه وصيةٌ لوارث وتعدٍ لحدود الله فيكون حراماً. عافانا الله وإياكم.
وهناك من يوقف كل ماله على جميع الورثة، وهذا أيضاً مما نهى عنه بعض العلماء لأن فيه حجر على الورثة فلا يستطيعون التصرف في شيء بعد موت الواقف، لكن لا بأس أن توقف شيئاً من المال أو العقار على جميع الورثة.
نفعني الله وإياكم .. ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
الحمد لله الذي شرع لعباده من الطاعات ما يقربهم إلى رضوانه، ويرفع منازلهم في جنانه، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة الذي جعل حياته ومماته وماله كله في سبيله، وعلى آله وأصحابه الذين تنافسوا في الخير ونالوه، وتسابقوا إلى البر وحازوه، وعلى من اهتدى بهديهم وعمل بسنتهم إلى يوم الدين.(/4)
أما بعد: ألا فليتق الله الواقفون ونظّار الأوقاف وليتحرَ الواقف في وقفه أن يكون مما يتقرب به إلى الله عز وجل مبتعداً عن المبتدعات والمحرمات مبتغياً في وقفه مرضاة الله متبعاً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم معظماً حرمات الله، وليحذر مما يفعله بعض الواقفين من المقاصد السيئة الذين يجعلون من الوقف ذريعة من حرمان بعض الذرية فيحرمون البنات أو يجعلون القسمة ضيزى بين الذكور والإناث وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9]، لقد كثرت هذه المآثم حتى شوهت الأوقاف وأخفت في بعض الأحيان خيراتها ومنافعها.
أما نظّار الأوقاف والمتولون عليها فقد سلطهم الله على هذه الأوقاف ومكّنهم منها، فليتقوا الله فيما عُهد إليهم وما ائتُمنوا عليه من أموال المسلمين، فليحذروا غضب الله وسخطه يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
يا نظراء الأوقاف، إن في أعناقكم صغاراً وقصّاراً، وعجزةً وأرامل، لا يحسنون التصرف في الأموال ولا يقدرون على الإحسان في الأعمال بل لعلهم لا يعرفون ما الذي لهم. إن في أمانتكم فقراء في أشد الحاجة إلى سد العَوَز.
أيها المسلمون، إن الخونة من النظّار ومتولي الأوقاف أشد جرماً من اللصوص وقطّاع الطريق، إن اللص يحتال ويسرق من غيره، ولكن هؤلاء يسرقون مما هم مؤتمنون عليه. اللص ضرره على الأحياء، أما هذا فضرره على الأحياء والأموات اللص في الغالب لا يسرق إلا من أهل الثرى والغنى، أما هذا المجرم فيسطو على حقوق الأرامل واليتامى والمساكين، يقطع ما أمر الله به أن يوصل. ما أعظم ذنب الخونة هؤلاء وما أشد وزرهم جعلوا غلاّت الأوقاف نهباً لهم ولمن حام حولهم، فنهبت الأراضي وخرّبت الدور، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وعلى قضاة المسلمين وفقهم الله وأعانهم أو يولوا الأوقاف مزيد عناية في أهلها ومستحقيها وأصولها ونظّارها ومتوليها.
والمسلمون كلهم في الحق متضامنون ومتعاونون وعلى دفع الظلم والإثم متآزرون والجميع غداً بين يدي الله موقوفون وبأعمالهم مجزيون وعلى تفريطهم نادمون وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
أيها المسلمون، إن مما يوقف مسيرة الأوقاف أن تستمر، بل ويعطل نفعها إذا أصبحت تحت مظلة رسمية. فإن هذا يشلّ حركتها ويقطع نفعها، وإلاّ فأين أوقاف المسلمين مثلاً في بلاد الشام وأرض الكنانة وبلاد أفريقيا، بل أين هي أوقاف المسلمين في تركيا وبلاد الهند والسند وما وراء النهر، كم أوقف تجار المسلمين وأهل الخير منذ مئات السنين أشياء وأشياء في تلكم البلاد، وبقي المحتاجون ينتفعون منها. فأين هي الآن؟ ولماذا تعطلت؟ ولماذا المسلمون في تلكم البلاد بالذات يعانون ما يعانون من الفقر والحاجة؟ السبب أنها أصبحت رسمية والله أعلم أين تذهب غلاتها؟ إليك هذه المعلومة:
كان للمسلمين في أيام الدولة العثمانية أوقافاً عظيمة ومتعددة، كان هناك وقفين كبيرين على تجهيز الفتيات المعدمات اللاتي يصلن إلى سن الزواج. وكان هناك أوقاف تقوم بصرف مرتبات للعائلات الفقيرة غير الأكل، لأن الأكل المجاني كانت له أوقاف خيالية مثل وقف المطاعم الخيرية، أحدها كان يقدم أكلاً مجانياً لعدد يبلغ عشرين ألف شخص يومياً مجاناً، وكان مثل هذا في كل الولايات التابعة للدولة العثمانية. كان المطعم الخيري في جامع السليمانية تبلغ ميزانيته ما يعادل عشرة ملايين دولار تقريباً. هذا مثال واحد فقط، وإلاّ فأوقاف المسلمين في بقية البلدان أشياء خيالية، فأين هي الآن؟
ولذا فليس في صالح أحد السعي لمثل هذا الأمر، ولتبق الأوقاف في أيدي النظّار المؤتمنون ليدعم الوقف مسيرة حركة الأمة.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، ونسألك اللهم أن تجمع بها .. ... ...
... ...
... ...(/5)
الولاء والبراء
أولاً: تعريف وبيان.
أ- تعريف الولاء والبراء لغة وشرعا.
ب- علاقة الحب والبغض بالولاء والبراء.
ثانياً: أهمية عقيدة الولاء والبراء.
ثالثاً: الغلو في الولاء والبراء.
رابعاً: أصناف الناس في ميزان الولاء والبراء.
خامساً: ولاء المؤمنين بعضهم بعضاً:
أ- وجوب ولاء المؤمنين بعضهم بعضاً.
ب- من مظاهر موالاة المؤمنين.
سادساً: ولاء الكفار والمنافقين:
أ- تحريم ولاء الكفار والمنافقين.
ب- الفرق بين الموالاة والتولي، وأقسام الموالاة.
ج- من صور ولاء الكفار والمنافقين.
سابعاً: البراءة من الكفار والمنافقين ومعاداتهم.
أ- وجوب البراءة من الكفار والمنافقين ومعاداتهم.
ب- الفرق بين إظهار البراءة من الكفار والمنافقين وبين وجود ذلك في القلب.
ج- من صور البراءة من الكفار والمنافقين.
أولاً: تعريف وبيان:
أ- تعريف الولاء والبراء لغة وشرعا:
الولاء لغة:
قال ابن فارس: "الواو واللام والياء: أصل صحيح يدل على قرب... من ذلك الولي: القريب... والولاء: الموالون، يقال: هؤلاء ولاء فلان"، ثم قال: "والباب كلّه راجع إلى القرب".
وقال الخليل بن أحمد: "الولاء: مصدر الموْلى... والوالي: المعتق والحليف والولي... والموالاة: اتخاذ المولى".
وقال الراغب: "الولاء والتوالي: أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد. والوَلاية: النصرة، والوِلاية: تولي الأمر، وقيل: الوِلاية والوَلاية نحو: الدِّلالة والدَّلالة".
وقال ابن منظور: "قال ابن الأعرابي: الموالاة أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح ويكون له في أحدهما هوىً فيواليه أو يحابيه. ووالى فلان فلاناً إذا أحبه... وقد تكرر ذكر (المولى) في الحديث، قال: وهو اسم يقع على جماعة كثيرة فهو: الرب والمالك والسيد والمنعِم والمعتِق والناصر والمحب والتابع والجار وابن العم والحليف والعقيد والصهر والعبد والمعتَق والمنعَم عليه، وقد تختلف مصادر هذه الأسماء، فالوَلاية بالفتح في النسب والنصرة والعتق، والوِلاية بالكسر في الإمارة، والولاء في العتق، والموالاة من والى القوم، وقال: والولي: الصديق والنصير، ابن الأعرابي: الولي: المحب...
والموالاة: ضدّ المعاداة، والولي: ضدّ العدو.
وتولاه: اتخذه ولياً، وإنه لبيِّن الوِلاة والولية والتولي والولاء والوِلاية والوَلاية.
والولي: القرب والدنو...".
البراء لغة:
قال ابن فارس: "فأمّا الباء والراء والهمزة فأصلان إليهما ترجع فروع الباب ـ ثم قال بعد ما ذكر الأصل الأول:ـ والأصل الآخر: التباعد من الشيء ومُزايَلَتُه، من ذلك البرء وهو السلام من السقم، يقال: برئت وبرأت... ومن ذلك قولهم: برئت إليك من حقك وأهل الحجاز يقولون: إنا براء منك، وغيرهم يقولون: أنا بريء منك".
وقال الراغب: "أصل البُرء والبراءة والبَري: التقصّي مما يكره مجاورته، ولذلك قيل: بَرَأْتُ من المرض، وبِرئتُ من فلان وتبرّأت، وأبْرَأته من كذا، وبَرّأته، ورجل بَريء، وقوم برآء، وبريؤون".
وقال ابن منظور: "قال ابن الأعرابي: برئ إذا تخلّص، وبرئ إذا تنزّه وتباعد، وبرئ إذا أعذر وأنذر، ومنه قوله تعالى: {بَرَاءةٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:1] أي: إعذار وإنذار... وليلة البراء ليلة يتبرأ القمر من الشمس".
قال الزبيدي: "وقال البيضاوي: أصل تركيب البرْء لخلوص الشيء من غيره، إما على سبيل التقصي، كبَرَأ المريض من مرضه، والمديون من دينه، أو الإنشاء، كبَرَأ الله آدم من الطين".
إذن الولاء لغة يطلق على عدّة معان منها: المحبة، والنصرة، والاتباع، والقرب من الشيء، والدنو منه.
والبراء لغة يطلق على عدة معان أيضاً منها: البعد، والتنزه، والتخلص، والعداوة.
الولاء والبراءشرعا:
عرّفها كثير من العلماء بقولهم:
الولاية هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطناً، والبراء: هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار.
قال شيخ الإسلام في أصل معنى الولاية والعداوة: "والولاية ضدّ العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد. وقد قيل: إنّ الولي سمّي ولياً من موالاته للطاعات، أي: متابعته لها، والأول أصح، والولي: القريب، يقال: هذا يلي هذا أي: يقرب منه".
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: "أصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة: البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة، كالنصرة، والأنس، والمعاونة، وكالجهاد، والهجرة، ونحو ذلك من الأعمال. والوليّ ضدّ العدو".(/1)
وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: "إن الموالاة هي الموافقة والمناصرة والمعاونة والرضا بأفعال من يواليهم، وهذه هي الموالاة العامة، التي إذا صدرت من مسلم لكافر اعتبر صاحبها كافراً، أما مجرّد الاجتماع مع الكفار، بدون إظهار تام للدين، مع كراهية كفرهم، فمعصية لا توجب الكفر".
ب- علاقة الحب والبغض بالولاء والبراء:
الحب والبغض هما أصلا الموالاة والمعاداة.
قال شيخ الإسلام: "أصل الموالاة هي المحبة، كما أنّ أصل المعاداة البغض، فإن التّحابّ يوجب التقارب والاتفاق، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف، وقد قيل: المولى من الولي: وهو القرب، وهو يلي هذا، أي: هو يقرب منه.
والعدو من العدواء وهو البعد، ومنه العُدْوَة، والشيء إذا ولى الشيء ودنا منه وقرب إليه اتّصل به، كما أنه إذا عُدّى عنه، ونأى عنه، وبعد منه، كان ماضياً عنه".
والموالاة لازم الحب وكذا المعاداة لازم البغض:
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: ((ووالى في الله)): "هذا بيان للازم المحبة في الله وهو الموالاة، فيه إشارة إلى أنه لا يكفي في ذلك مجرّد الحب، بل لا بد مع ذلك من الموالاة التي هي لازم الحب، وهي النصرة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين باطناً وظاهراً".
وقال في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: ((وعادى في الله)): "هذا بيان للازم البغض في الله وهو المعاداة فيه، أي: إظهار العداوة بالفعل، كالجهاد لأعداء الله والبراءة منهم، والبعد عنهم باطناً وظاهراً، إشارة إلى أنه لا يكفي مجرّد بغض القلب، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه".
مقاييس اللغة (6/141-142).
كتاب العين (ص 8/365).
مفردات ألفاظ القرآن (ص 885-887).
لسان العرب (1/400-407).
مقاييس اللغة (1/236-237).
مفردات ألفاظ القرآن (ص 121).
لسان العرب (1/354-356).
تاج العروس (1/145).
انظر: شرح الطحاوية (ص 403)، وتيسير العزيز المجيد (ص 480)، وكتاب الإيمان لنعيم ياسين (ص 256)، والولاء والبراء في الإسلام (ص 87-92)، والموالاة والمعاداة (ص 27-31).
الفرقان (ص 53).
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/325).
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (7/309)، وانظر: الموالاة والمعاداة (1/28).
قاعدة في المحبة (ص 198).
تيسير العزيز الحميد (ص 480).
ثانياً: أهمية عقيدة الولاء والبراء:
- الولاء والبراء شرط في الإيمان:
قال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَاكِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:80، 81].
يقول شيخ الإسلام في توضيح هذه الآية: "فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف (لو) التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء}، فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه".
- الولاء والبراء أوثق عرى الإيمان:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: ((أي عرى الإيمان أوثق؟)) قال: الله ورسوله أعلم، قال: ((الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله)).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل العظيم، فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله، ابسط يدك حتى أبايعك، واشترِط عليّ فأنت أعلم، قال: ((أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحبّ ما أحبّه الله، ويبغض ما أبغضه الله".(/2)
وقال الشيخ سليمان آل الشيخ: "فهل يتمّ الدين أو يقام عَلَم الجهاد أو عَلَمُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا بالحب في الله والبغض في الله، والمعاداة في الله والموالاة في الله. ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان".
وقال الشيخ عبد الرزاق عفيفي عن الولاء والبراء: "[إنهما] مظهران من مظاهر إخلاص المحبة لله، ثم لأنبيائه وللمؤمنين. والبراءة: مظهر من مظاهر كراهية الباطل وأهله، وهذا أصل من أصول الإيمان".
كتاب الإيمان (ص 14).
رواه أحمد (4/286)، وابن أبي شيبة في الإيمان (110)، والحاكم في المستدرك (2/480)، والطبراني في المعجم الكبير (11/215)، والبغوي في شرح السنة (3468)، قال الألباني في السلسلة الصحيحة (998، 1728): "فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل، والله أعلم".
البخاري (16)، ومسلم (43).
أخرجه أحمد (4/365). والنسائي في البيعة (4177)، وصححه الألباني في صحيح السنن (3893).
الاحتجاج بالقدر (ص 62).
أوثق عُرى الإيمان (ص 38).
الولاء والبراء للقحطاني، من مقدمة الشيخ له (ص 5).
ثالثاً: الغلو في الولاء والبراء:
الولاء والبراء لهما حدود، فما نقص عن حدود الولاء المطلوب فهو تفريط، وما زاد على حدود الولاء المشروع فهو غلوٌ مذموم، وما نقص عن حدود البراء فهو تفريط، وما زاد عن حدوده فهو غلو مذموم.
ومن مظاهر الغلو في الولاء والبراء في الحياة المعاصرة خمسة مظاهر وهي:
1- الغلو في مفهوم الجماعة.
2- الغلو في التعصب للجماعة.
3- الغلو بجعل الجماعة مصدر الحق.
4- الغلو في القائد.
5- الغلو في البراءة من المجتمعات المسلمة.
من كتاب: الغلو في الدين (ص 194-250).
رابعاً: أصناف الناس في ميزان الولاء والبراء:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة فإنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه، وسلطانه كتابه.
فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان.
ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان.
قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55، 56]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [المائدة:51]، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة:71].
ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطِي من الموالاة بحسب إيمانه، ومن البغض بحسب فجوره، ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرّد الذنوب والمعاصي كما يقول الخوارج والمعتزلة.
ولا يجعَل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة، قال الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:9، 10]، فجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغي".
وقال في موضع آخر: "ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويتوارثون ويتناكحون، ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك...".
وقال الشيخ صالح الفوزان في أقسام الناس فيما يجب في حقهم من الولاء والبراء: "الناس في الولاء والبراء على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يُحَبّ محبّةً خالصة لا معاداة معها: وهم المؤمنون الخلَّص من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وفي مقدّمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّه تجب محبته أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ثم زوجاته أمهات المؤمنين، وأهل بيته الطيبين وصحابته الكرام... ثم التابعون والقرون المفضلة وسلف هذه الأمة وأئمتها... قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]، ولا يبغض الصحابة وسلف هذه الأمة من في قلبه إيمان، وإنما يبغضهم أهل الزيغ والنفاق وأعداء الإسلام كالرافضة والخوارج، نسأل الله العافية.(/3)
القسم الثاني: من يبغَض ويعادَى بغضاً ومعاداة خالصين لا محبّة ولا موالاة معهما: وهم الكفار الخلّص من الكفار والمشركين والمنافقين والمرتدين والملحدين على اختلاف أجناسهم كما قال تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، وقال تعالى: عائباً على بني إسرائيل: {تَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَاكِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:80، 81].
القسم الثالث: من يُحَبّ من وجهٍ ويبغَض من وجه، فيجتمع فيه المحبّة والعداوة: وهم عصاة المؤمنين يحَبّون لما فيهم من الإيمان، ويبغَضون لما فيهم من المعصية التي هي دون الكفر والشرك، ومحبّتهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم، فلا يجوز السكوت على معاصيهم بل ينكَر عليهم، ويؤمَرون بالمعروف، وينهَون عن المنكر، وتقام عليهم الحدود والتعزيرات حتى يكفّوا عن معاصيهم ويتوبوا من سيئاتهم، لكن لا يبغَضون بغضاً خالصاً، ويتبرّأ منهم كما تقوله الخوارج في مرتكب الكبيرة التي هي دون الشرك، ولا يحبّون ويوالَون حباً وموالاة خالصَين كما تقوله المرجئة، بل يُعتدَل في شأنهم على ما ذكرنا كما هو مذهب أهل السنة والجماعة".
مجموع الفتاوى (28/228-229).
مجموع الفتاوى (3/285).
الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (ص 279).
خامساً: ولاء المؤمنين بعضهم بعضاً:
أ- وجوب ولاء المؤمنين بعضهم بعضاً:
قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة:71].
وقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55، 56].
قال شيخ الإسلام: "إنّ المؤمنين أولياء الله وبعضهم أولياء بعض، والكفار أعداء الله وأعداء المؤمنين، وقد أوجب الموالاة بين المؤمنين، وبيّن أن ذلك من لوازم الإيمان، ونهى عن موالاة الكفار، وبين أن ذلك منتف في حقّ المؤمنين".
وقال الشيخ صالح الفوزان: "يجب على كلّ مسلم يدين بهذه العقيدة أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها، فيحب أهل التوحيد والإخلاص ويواليهم، ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم، وذلك ملة إبراهيم والذين معه، الذين أمرنا بالاقتداء بهم.
فالمؤمنون إخوة في الدين والعقيدة وإن تباعدت أنسابهم وأوطانهم وأزمانهم قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]. فالمؤمنون من أول الخليقة إلى آخرها مهما تباعدت أوطانهم وامتدت أزمانهم إخوة متحابّون يقتدي آخرهم بأوّلهم، ويدعو بعضهم لبعض، ويستغفر بعضهم لبعض".
ب- من مظاهر موالاة المؤمنين:
1- الهجرة إلى بلاد المسلمين وهجر بلاد الكافرين:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء:96، 97].
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:41، 40].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله)).
2- مناصرة المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان فيما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم.
3- التألم لألمهم والسرور بسرورهم.
4- النصح لهم ومحبة الخير لهم وعدم غشهم وخديعتهم.
5- احترامهم وتوقيرهم وعدم تنقصهم وعيبهم.
6- أن يكون معهم في حال العسر واليسر والشدة والرخاء.
7- احترام حقوقهم، فلا يبيع على بيعهم، ولا يسوم على سومهم، ولا يخطب على خطبتهم، ولا يتعرّض لما سبقوا إليه من المباحات.
9- الدعاء لهم والاستغفار لهم.
الفتاوى (28/190).
الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (ص 279-280).(/4)
ينظر: الفتاوى (28/190)، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (284-288)، والولاء والبراء (259-381)، والموالاة والمعاداة (1/241-293).
أخرجه أبو داود في الجهاد (3/224) (2787) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6062).
سادساً: ولاء الكفار والمنافقين:
أ- تحريم ولاء الكفار والمنافقين:
قال سليمان آل الشيخ: "اعلم ـ رحمك الله ـ أنّ الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم خوفاً منهم ومداراة لهم ومداهنة لدفع شرّهم فإنّه كافر مثلهم وإن كان يكره دينَهم ويبغضهم ويحبّ الإسلام والمسلمين، هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك، فكيف إذا كان في دار منَعَة واستعدى بهم ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم، وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود القباب والشرك وأهلها، بعدما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله، فإنّ هذا لا يشكّ مسلم أنّه كافر من أشدّ الناس عداوة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يستثنى من ذلك إلا المكرَه، وهو الذي يستولي عليه المشركون فيقولون له: اكفر أو افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان".
وقال الشيخ حمد بن عتيق بعد ذكره لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْراجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9]: "في هذه الآية أعظم الدليل وأوضح البرهان على أن موالاتهم محرمة منافية للإيمان وذلك أنه قال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} فجمع بين لفظة (إنما) المفيدة للحصر، وبين النهي الصريح، وذكر الخصال الثلاث، وضمير الحصر وهو لفظة (هم)، ثم ذكر الظلم المعرّف بأداة التعريف".
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن حكم موالاة الكفار، فأجاب بقوله: "موالاة الكفار بالموادة والمناصرة واتخاذهم بطانة حرام منهي عنها بنص القرآن الكريم، قال تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة:75]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران:118]، وأخبز أنّه إذا لم يكن المؤمنون بعضهم أولياء بعض والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، ويتميز هؤلاء عن هؤلاء، فإنها تكون فتنة في الأرض وفساد كبير.
ولا ينبغي أبداً أن يثق المؤمن بغير المؤمن مهما أظهر من المودّة وأبدى من النصح؛ فإن الله تعالى يقول عنهم: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء} [النساء:89]، ويقول سبحانه لنبيه: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، والواجب على المؤمن أن يعتمد على الله في تنفيذ شرعه، وأن لا تأخذه فيه لومة لائم، وأن لا يخاف من أعدائه، فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]، وقال سبحانه: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28] والله الموفق".
ب ـ الفرق بين الموالاة والتولي، وأقسام الموالاة:
الفرق بين الموالاة والتولي في المفهوم الشرعي:
قال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: "التولي: كفرٌ يخرج من الملة، وهو كالذّبّ عنهم، وإعانتهم بالمال والبدن والرأي.
والموالاة: كبيرة من كبائر الذنوب، كَبَلِّ الدواة، أو بري القلم، أو التبشّش لهم، أو رفع السّوط لهم".(/5)
وقال الشيخ سليمان بن سحمان نظماً في الفرق بين الموالاة والتولي:
وأصلُ بلاء القوم حيث تورّطوا هو الجهل في حكم الموالاة عن زلل
فما فرّقوا بين التولّي وحكمه وبين الموالاة التي هي في العمل
أخفّ، ومنها ما يكفر فعله ومنها يكون دون ذلك في الخلل
أقسام الموالاة:
تنقسم الموالاة إلى قسمين:
1- موالاة مطلقة عامّة، وهذا كفر صريح، وهي بهذه الصفة مرادفة لمعنى التولي، وعلى ذلك تحمل الأدلة الواردة في النهي الشديد عن موالاة الكفار، وأن من والاهم فقد كفر.
2- موالاة خاصة: وهي موالاة الكفار لغرض دنيوي مع سلامة الاعتقاد، وعدم إضمار نية الكفر والردة كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في إفشاء سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مكة، كما هو مذكور في سبب نزول سورة الممتحنة.
فالموالاة المطلقة العامة مرادفة لمعنى التولي، وهي بهذا الوصف كفرٌ وردّة، ومنها ما هو دون ذلك بمراتب، ولكلّ ذنب حظّه وقِسطه من الوعيد والذّمّ، بحسب نيّة الفاعل وقصده.
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: "مسمّى الموالاة يقع على شعَب متفاوِتة منها ما يوجب الردّة لذهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات".
ج ـ من صور ومظاهر ولاء الكفار والمشركين والمنافقين:
ذكر العلماء مظاهر وصورا شتى من ولاء الكفار والمشركين والمنافقين، والتي نهى الله سبحانه وتعالى عنها وشدّد في ذلك، وأخبر أنّ من تولاهم فهو منهم، وكذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في أحاديث كثيرة، وأخبر أنّ من أحبّ قوماً حُشر معهم، وهي كما يلي:
1- الرضا بكفر الكافرين، وعدم تكفيرهم، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة:
قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]، وقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256].
وعن أبي مالك سعد بن طارق عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبَد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله)).
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: "وصفة الكفر بالطاغوت: أن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها وتبغضها، وتكفّر أهلها، وتعاديهم".
وقال أيضاً: "اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض... ـ وذكر منها: ـ
الثالث: من لم يكفّر المشركين أو يشكّ في كفرهم أو صحّح مذهبهم كفر".
2- التولي العام واتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياء أو الدخول في دينهم:
قال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْء إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28].
قال ابن جرير: "وهذا نهي من الله عز وجل للمؤمنين أن يتّخذوا الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً، ولذلك كسر {يَتَّخِذِ} لأنه في موضع جزم بالنهي، ولكنه كسر الذال منه للساكن الذي لقيه وهي ساكنة، ومعنى ذلك: لا تتخذوا ـ أيها المؤمنون ـ الكفار ظهراً وأنصاراً، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلّونهم على عوراتهم، فإنّه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر، {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}: إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل".
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
قال ابن جرير: "من يتولّ اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنّه منهم، يقول: فإنّ من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍّ أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه".(/6)
وقال ابن القيم: "إن الله سبحانه قد حكم ـ ولا أحسن من حكمه ـ أنه من تولى اليهود والنصارى فهو منهم: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم، وهذا عام خُصّ منه من يتولاهم ودخل في دينهم بعد التزام الإسلام فإنّه لا يقَرّ ولا تقبَل منه الجزية، بل إمّا الإسلام أو السّيف، فإنه مرتدّ بالنص والإجماع، ولا يصحّ إلحاق من دخل في دينهم من الكفار قبل التزام الإسلام بمن دخل فيه من المسلمين... وأنّ من دان بدينهم من الكفار بعد نزول الفرقان فقد انتقل من دينه إلى دينٍ خير مِنه وإن كانا جميعاً باطلَين، وأمّا المسلم فإنّه قد انتقل من دين الحقّ إلى الدين الباطل بعد إقراره بصحة ما كان عليه وبطلان ما انتقل إليه فلا يُقَرّ".
3- الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن جنس موالاة الكفار التي ذمّ الله بها أهلَ الكتاب والمنافقين الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً} [النساء:51]... فمن كان من هذه الأمة موالياً للكفار من المشركين أو أهل الكتاب ببعض أنواع الموالاة ونحوها، مثل إتيانه أهل الباطل، واتباعهم في شيء من مقالهم وفعالهم الباطل، كان له من الذمّ والعقاب والنفاق بحسَب ذلك، وذلك مثل متابعتِهم في آرائهم وأعمالهم، كنحو أقوال الصابئة وأفعالهم من الفلاسفة ونحوهم المخالفة للكتاب والسنة، ونحو أقوال المجوس والمشركين وأفعالهم المخالفة للكتاب والسنة".
4- المحبة والمودّة الخاصة:
قال الله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ} [المجادلة:22].
قال شيخ الإسلام: "أخبر الله أنك لا تجد مؤمناً يوادّ المحادّين لله ورسوله، فإنّ نفس الإيمان ينافي موادّته كما ينفي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضدّه وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب".
وسئل الشيخ ابن عثيمين عن حكم مودّة الكفار وتفضيلهم على المسلمين، فأجاب بقوله: "لا شكّ أن الذي يوادّ الكفار أكثرَ من المسلمين قد فعل محرّماً عظيماً، فإنّه يجب أن يحبّ المسلمين وأن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، أمّا أن يودّ أعداء الله أكثر من المسلمين فهذا خطر عظيم وحرام عليه، بل لا يجوز أن يودَّهم ولو أقلّ من المسلمين لقوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً...} الآية وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الْحَقّ} [الممتحنة:1]، وكذلك أيضاً من أثنى عليهم ومدحهم وفضّلهم على المسلمين في العمل وغيره، فإنه قد فعل إثماً وأساء الظنّ بإخوانه المسلمين، وأحسن الظنّ بمن ليسوا أهلاً لإحسان الظنّ، والواجب على المؤمن أن يقدّم المسلمين على غيرهم في جميع الشئون في الأعمال وفي غيرها، وإذا حصل من المسلمين تقصيرٌ فالواجب عليه أن ينصحهم وأن يحذّرَهم، وأن يبيّن لهم مغبّة الظلم لعلّ الله أن يهديَهم على يده".
5- الركون إليهم:
قال الله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحياةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:74، 75].
وقال سبحانه: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [هود:113].
قال القرطبي: "قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ} الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، قال قتادة: معناه: لا تودّوهم ولا تطيعوهم. ابن جريج: لا تميلوا إليهم. أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم. وكلّه متقارب. وقال ابن زيد: الركون هنا الإدهان، وذلك ألا ينكِر عليهم كفرَهم. وقوله تعالى: {إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} قيل: أهل الشرك، وقيل: عامة فيهم وفي العصاة... وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإنّ صحبتهم كفر أو معصية، إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودّة".
6- اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين:(/7)
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} [آل عمران:118-120].
قال الشيخ صالح الفوزان: "ومن مظاهر موالاة الكفار: الاستعانة بهم والثقة بهم وتوليتهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين واتخاذهم بطانة ومستشارين... فهذه الآيات الكريمة تشرح دخائل الكفّار وما يكنّونه نحو المسلمين من بغض وما يدبّرونه ضدّهم من مكر وخيانة وما يحبّونه من مضرّة المسلمين وإيصال الأذى إليهم بكلّ وسيلة، وأنهم يستغلّون ثقة المسلمين بهم فيخطّطون للإضرار بهم والنيل منهم.
روى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه: لي كاتب نصراني، قال: ما لك قاتلك الله؟! أما سمعت الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [المائدة:51]؟! ألا اتخذت حنيفاً؟! قال: قلت: يا أمير المؤمنين، لي كتابته وله دينه، قال: لا أكرِمهم إذ أهانهم الله، ولا أعِزّهم إذ أذلهّم الله، ولا أدنِيهم وقد أقصاهم الله.
وروى الإمام أحمد ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فلحقه عند الحرة، فقال: إني أردتُ أن أتبعك وأصيب معك، قال: ((تؤمن بالله ورسوله؟)) قال: لا، قال: ((ارجِع فلن أستعين بمشرك)).
ومن هذه النصوص يتبيّن لنا تحريم تولِيَة الكفار أعمالَ المسلمين التي يتمكّنون بواسطتها من الاطلاع على أحوال المسلمين وأسرارهم، ويكيدون لهم بإلحاق الضرر بهم، ومن هذا ما وقع في هذا الزمان من استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين ـ بلاد الحرمين الشريفين ـ وجعلهم عمّالاً وسائقين ومستخدمين ومربّين في البيوت وخلطهم مع العوائل أو خلطهم مع المسلمين".
7- الرضا بأعمالهم أو التشبّه بهم والتزيي بزيهم:
قال شيخ الإسلام: "والموالاة والموادة وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أعوَن على مقاطعة الكافرين ومباينتهم.
ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سبباً قريباً أو بعيداً إلى نوعٍ ما من الموالاة والموادّة فليس فيها مصحلة المقاطعة والمباينة، مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة كما توجبه الطبيعة، وتدلّ عليه العادة، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلّون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات...
ولما دلّ عليه معنى الكتاب جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم))()، أمر بمخالفتهم، وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمراً مقصوداً للشارع، لأنه إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود، وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط فهو لأجل ما فيه من المخالفة.
فالمخالفة إما علّة مفردة، أو علة أخرى، أو بعض علة، وعلى التقديرات تكون مأموراً بها مطلوبة من الشارع... ولو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصبغ لم يكن لذكرهم فائدة، ولا حسن تعقيبه به، وهذا وإن دلّ على أن مخالفتهم أمر مقصود للشرع، فذلك لا ينفي أن يكون في نفس الفعل الذي خولِفوا فيه مصلحة مقصودَة، مع قطع النظر عن مخالفتهم، فإن هنا شيئين:
أحدهما: أنّ نفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين، لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنوّر قلبه، حتى رأى ما اتّصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشدّ من ضرر أمراض الأبدان.(/8)
والثاني: أنّ نفس ما هم عليه من الهدي والخلق قد يكون مضراً أو منقصاً، فينهى عنه ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال، وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضرّ أو ناقص؛ لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعَة والمنسوخة ونحوها مضرّة، وما بأيديهم مما لم ينسَخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص، فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصِّله على وجه الكمال، ولا يتصوَّر أن يكون شيء من أمورهم كاملاً قطّ، فإذاً المخالفة لهم فيها منفعة وصلاح لنا في كلّ أمورهم، حتى ما هم عليه من إتقان بعض أمور دنياهم قد يكون مضراً بأمر الآخرة أو بما هو أهمّ منه من أمر الدنيا، فالمخالفة فيه صلاحٌ لنا".
وقال الشيخ صالح الفوزان: "من مظاهر موالاة الكفار التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما؛ لأنّ التشبّه بهم في الملبس والكلام وغيرهما يدلّ على محبة المتشبّه للمتشبّه به، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم))، فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم ومن عاداتهم وعباداتهم وسمتهم وأخلاقهم كحلق اللحى، وإطالة الشوارب، والرطانة بلغتهم إلا عند الحاجة، وفي هيئة اللباس، والأكل والشرب، وغير ذلك".
8- الإقامة في بلادهم وعدم الانتقال منها إلى بلد المسلمين، والسفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس:
قال الشيخ صالح الفوزان: "ومن مظاهر موالاة الكفار الإقامة في بلادهم وعدم الانتقال منها إلى بلد المسلمين لأجل الفرار بالدين، لأن الهجرة بهذا المعنى ولهذا الغرض واجبة على المسلم؛ لأن إقامته في بلاد الكفر تدلّ على موالاة الكافرين، ومن هنا حرم الله إقامة المسلم بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97-99]، فلم يعذُر الله في الإقامة في بلاد الكفار إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة، وكذلك من كان في إقامته مصلحة دينية كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام في بلادهم...
ومن موالاة الكفار السفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس، والسفر إلى بلاد الكفار محرم إلا عند الضرورة، كالعلاج والتجارة والتعليم للتخصّصات النافعة التي لا يمكن الحصول عليها إلا بالسفر إليهم، فيجوز بقدر الحاجة، وإذا انتهت الحاجة وجب الرجوع إلى بلاد المسلمين.
ويشترط كذلك لجواز هذا السفر أن يكون مظهِراً لدينه، معتزًّا بإسلامه، مبتعِداً عن مواطن الشرّ، حذِراً من دسائس الأعداء ومكائدهم، وكذلك يجوز السفر أو يجب إلى بلادهم إذا كان لأجل الدّعوة إلى الله ونشر الإسلام".
هذا وهناك مظاهر عديدة لموالاة الكفار وفيما يلي بعضها باختصار:
1- مداهنتهم ومداراتهم.
2- طاعتهم فيما يقولون وفيما يشيرون به.
3- تقريبهم في المجلس، والدخول بهم على أمراء الإسلام.
4- مشاورتهم في الأمور.
5- مجالستهم ومزاورتهم والدخول عليهم.
6- البشاشة لهم وطلاقة الوجه.
7- الإكرام العام.
8- استئمانهم وقد خوّنهم الله.
9- ذكرهم بما فيه تعظيم لهم، كتسميتهم سادة أو حكماء.
10- إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين ومدحهم والذبّ عنهم، وهذا من نواقض الإسلام وأسباب الردّة، نعوذ بالله من ذلك.
11- التأريخ بتأريخهم، خصوصاً التأريخ الذي يعبِّر عن طقوسهم وأعيادهم كالتأريخ الميلادي.
12- الاستغفار لهم والترحّم عليهم.
مجموعة التوحيد (ص 245).
سبيل النجاة والفكاك (ص 45).
مجموع فتاوي ورسائل ابن عثيمين (3/14-15) جمع/ فهد السليمان.
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (8/422).
عقود الجواهر المنضدة الحسان (ص 146).
الموالاة والمعاداة (1/33).
الرسائل المفيدة (ص 43).
ينظر: أوثق عرى الإيمان: للشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب (ص 48)، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد: للشيخ صالح الفوزان (ص 280). والولاء والبراء: د.محمد سعيد القحطاني (ص 230). ونواقض الإيمان القولية والعملية: د.عبدالعزيز بن محمد العبداللطيف (ص 381). وسبل النجاة والفكاك: حمد بن عتيق، وغيرها.
مسلم (23).
مجموعة التوحيد (ص 32).
مجموعة التوحيد (ص 32).
جامع البيان (3/228).
جامع البيان (6/277).
أحكام أهل الذمة (1/67-68).
مجموع الفتاوى (28/199-201).
كتاب الإيمان (ص 13).
مجموع فتاوى ابن عثيمين (3/14-15) جمع/ فهد السليمان.
الجامع لأحكام القرآن (9/108).
الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (ص 281-282).
أوثق عرى الإيمان (ص 51).
البخاري (3462)، ومسلم (2103).(/9)
اقتضاء الصراط المستقيم (1/183-186، 197-198).
أخرجه أحمد (2/50، 92)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3401).
الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (ص 280).
الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (280-281).
ينظر للاستزادة ما يلي: أوثق عرى الإيمان، سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب (ص 48-52). والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ/ صالح الفوزان (ص 280-284). والولاء والبراء/ للدكتور محمد سعيد القحطاني (ص 230-247). والموالاة والمعادة/ محماس الجلعود (1/301-330). وكتاب الإيمان/ للدكتور محمد نعيم ياسين (256-259).
سابعاً: البراءة من الكفّار والمنافقين ومعاداتهم:
أ- وجوب البراءة من الكفار والمنافقين ومعاداتهم:
قال الشيخ حمد بن علي بن عتيق: "أما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله سبحانه وتعالى أوجب ذلك وأكّد إيجابه، وحرّم موالاتهم وشدّد فيها، حتى إنّه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبيَن من هذا الحكم بعد وجوب التّوحيد وتحريم ضده".
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: "يجب أن تعلم أولاً أن الله افترض على المؤمنين عداوة الكفار والمنافقين وجفاة الأعراب الذين يُعْرَفون بالنفاق ولا يؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر بجهادهم والإغلاظ عليهم بالقول والعمل".
ب ـ الفرق بين إظهار البراءة من الكفار والمنافقين وبين وجود ذلك في القلب:
قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن: "أصل البراءة المقاطعة بالقلب واللسان والبدن، وقلب المؤمن لا يخلو من عداوة الكافر، وإنما النزاع في إظهار العداوة، فإنها قد تخفى لسبب شرعي، وهو الإكراه مع الاطمئنان، وقد تخفى العداوة من مستضعَف معذور، عذَرَه القرآن، وقد تخفى لغرض دنيويّ، وهو الغالب على أكثر الخالق، هذا إن لم يظهر منه موافقة".
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: "مسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة.
فالأول: يعذَر به مع العجز والخوف، لقوله تعالى: {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}.
والثاني: لا بدّ منه، لأنّه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حبّ الله ورسوله تلازم كلي، لا ينفكّ عنه المؤمن، فمن عصى الله بترك إظهار العداوة فهو عاص الله".
وقال الشيخ حمد بن عتيق: "لا بدّ مِن أن تكون العداوة والبغضاء باديتين، أي: ظاهرتين بيّنتين.
واعلم أنّه وإن كانت البغضاء متعلّقة بالقلب فإنها لا تنفع حتى تظهر آثارها وتبين علامتها، ولا تكون كذلك حتى تقترن بالعداوة والمقاطعة، فحينئذٍ تكون العداوة والبغضاء ظاهرتين".
ج ـ من صور البراءة من الكفار والمنافقين:
1- ترك اتباع أهوائهم:
قال الله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة:120].
قال شيخ الإسلام: "فانظر كيف قال في الخبر: {مِلَّتَهُمْ} وقال في النهي: {أَهْوَاءهُم} لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقاً، والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير".
وقال الشيخ حمد: "فإذا كان اتباع أهواء جميع الكفار وسلوك ما يحبونه منهياً عنه وممنوعاً منه فهذا هو المطلوب، وما ذاك إلا خوفاً من اتباعهم في أصل دينهم الباطل".
2- معصيتهم فيما أمروا به:
قال حمد بن عتيق: "إنّ الله تعالى نهى عن طاعة الكافرين وأخبر أنّ المسلمين إن أطاعوهم ردّوهم عن الإيمان إلى الكفر والخسارة، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]، وقال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، وقال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116]... وقال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الهاً واحِداً لاَّ اله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].(/10)
وفسر النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذهم أرباباً بأنها طاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام، فإذا كان من أطاع الأحبار ـ وهم العلماء ـ والرهبان ـ وهم العباد ـ في ذلك، فقد اتخذهم أرباباً من دون الله، فمن أطاع الجهّال والفسّاق في تحريم ما أحلّ الله أو تحليل ما حرّم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله، بل ذلك أولى وأحرى".
3- ترك الركون إلى الكفرة الظالمين:
وقد نهى الله عن ذلك فقال: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [هود:113]، فنهى سبحانه وتعالى عن الركون إلى الظلمة، وتوعد على ذلك بمسيس النار وعدم النصر، والشرك هو أعظم أنواع الظلم كما قال تعالى: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فمن ركن إلى أهل الشرك ـ أي: مال إليهم ـ أو رضي بشيء من أعمالهم، فإنه مستحق لأن يعذبه الله بالنار وأن يخذله في الدنيا والآخرة.
4- ترك موادة أعداء الله:
قال الله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
قال شيخ الإسلام: "فأخبر سبحانه أنّه لا يوجد مؤمن يوادّ كافراً، فمن وادّ الكفار فليس بمؤمن".
قال الشيخ حمد بن عتيق: "فإذا كان الله تعالى قد نفى الإيمان عمّن وادّ أباه وأخاه وعشيرته إذا كانوا محادّين الله ورسوله، فمن وادّ الكفار الأبعدين عنه فهو أولى بأن لا يكون مؤمناً".
5- ترك التشبه بالكفار في الأفعال الظاهرة:
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
قال شيخ الإسلام: "إن الله تعالى جبل بني آدم بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميّز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط... فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي...وإن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحسّ والتجربة حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودّة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجرَين، وذاك لأنّ الاشتراك في البلد نوع وصف اختصّا به عن بلد الغربة... وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً ما لا يألفون غيرهم حتى إنّ ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة، إما على الملك، وإما على الدين... وتجد الملوك ونحوهم من الرؤساء وإن تباعدت ديارهم وممالكهم بينهم مناسبة تورِث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض، وهذا كلّه موجَب الطباع ومقتضاه، إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرضٌ خاص.
فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة لهم، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟! فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشدّ، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان".
وقال الشيخ حمد بن عتيق: "إذا كانت مشابهة الكفار في الأفعال الظاهرة إنما نهي عنها لأنها وسيلة وسبب يفضي إلى موالاتهم ومحبتهم، فالنهي عن هذه الغاية والمحذور أشدّ، والمنع منه وتحريمه أوكد، وهذا هو المطلوب".
وهناك صور شتى ومظاهر عديدة للبراءة وفيما يلي بعضها باختصار:
1- بغض الشرك والكفر والنفاق وأهله، وإضمار العداوة لهم كما أعلنها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فأخبر الله عنه بقوله تعالى: {إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26-27]، وقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].
2- هجر بلاد الكفر، وعدم السفر إليهم إلا لضرورة مع القدرة على إظهار شعائر الدين ومع عدم المعارضة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)).
3- أن لا يناصر الكفار، ولا يمدحهم، ولا يعينهم على المسلمين.(/11)
4- أن لا يستعين بهم، ولا يتّخذهم بطانة له يحفظون سرّه ويقومون بأهمّ أعماله، كما قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118].
قال القرطبي: "نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء ووُلَجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم".
5- أن لا يشاركهم في أعيادهم وأفراحهم، ولا يهنئهم بها، وقد فسر بعض أهل العلم قوله: {لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] أي: أعياد الكفار.
6- أن لا يستغفر لهم، ولا يترحّم عليهم، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
7- هجر مجالسهم وعدم صحبتهم.
8- عدم المداهنة والمجاملة والمداراة لهم على حساب الدين.
9- أن لا يعظم الكافر بلفظ أو فعل.
10- عدم التولي العام لهم.
11- أن لا يبدأهم بالسلام لما جاء في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبدؤوا اليهود بالسلام ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه)).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
سبيل النجاة والفكاك (ص 31).
أوثق عرى الإيمان (ص 26).
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (8/305).
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (8/359).
سبيل النجاة والفكاك (ص 44-45).
ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم، وسبيل النجاة والفكاك (ص 46).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/99).
سبيل النجاة والفكاك (ص 47).
سبيل النجاة والفكاك (ص 48-49).
سبيل النجاة والفكاك (ص 50).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/551).
سبيل النجاة والفكاك (ص 50-51).
أخرجه أحمد (2/50، 92)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3401).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/547-550).
سبيل النجاة والفكاك (ص 52).
أخرجه أبو داود في الجهاد (2645)، والترمذي في السير (1604)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1474).
الجامع لأحكام القرآن (4/178-179).
مسلم (2167).(/12)
اليدُ العلْياَ خيرٌ مِنْ اليدِ السُّفْلَى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن وآلاه. أما بعد:
نص الحديث:
عن حكيم بن حزام-رضي الله عنه-قال: "سألت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال يا حيكمُ: "إنَّ هذاَ المَالَ خَضِرُ حُلْوٌ فَمَنْ أخذَه بسخاوةِ نفسِ بُورِكَ لَهُ فيه، وَمَنْ أخذَه بإشْرَافِ نفْسٍ لَمْ يُبَارَكَ لهُ فِيهِ، وكانَ كالَّذِي يأكلُ ولا يَشْبَع، واليدُ العلْياَ خيرٌ مِن اليدِ السُّفْلىَ".
قال حكيم: فقلت يا رسول الله: والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً. حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر –رضي الله عنه-يدعو حكيماً ليعطيه العطاء، فيأبى أن يقبل منه شيئاً، ثم إن عمر-رضي الله عنه-دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل. فقال يا معشر المسلمين: أشهدكم على حكيم، إني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي-صلى الله عليه وسلم-حتى توفي-رضي الله عنه-"(1).
معاني الكلمات:
" سألت" أي طلبت منه مالاً.
"خضر حلو" بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين أي غض شهى يميل الطبع ولا يميل عنه كما لا تمل العين من النظر إلى الخضرة والفم من أكل الحلو.
"سخاوة نفس" أي عد م الإشراف إلى الشيء.
"بورك فيه" أي أغناه القليل منه عن الكثير.
"إشراف النفس" تطلعها وطمعها بالشيء.
"يَرزَأُ" براء ثم زاي ثم همزة: أي لم يأخذ من أحد شيئاً، وأصل الرزء: النقصان: أي لم ينقص أحداً شيئاً بالأخذ منه.
" اليد العليا" أي المعطية.
"اليد السفلى" أي السائلة.
المعنى العام:
كان النبي-صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقاً، وأهداهم إلى الخير طرقاً، فهو الذي لايرد سائلاً، ولا يخيب مؤملاً، ولا يمسك المال حباً فيه، وحرصاً عليه، ولا ينفقه إلا في وجوه البر والإحسان، كما يأمره الله، فيتألف به القلوب، ويستميل به الأهواء، فالمئات من الإبل، والألوف من الغنم، والعدد الكثير من الدراهم والدنانير، دفعها إلى الأقرع ابن حابس، وعيينة بن حصن، وعباس بن مرادس من الأعراب، وإلى أبي سفيان، وصفوان ابن أمية، وحكيم بن حزام من قريش وغيرهم؛ فكان أعظم عامل في هدايتهم، وأكبر سبب في إسلامهم؛ وعلموا منه أنه يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، وأنه لم يجعل الدنيا إلا مطية توصل إلى الآخرة، فلو قال لحكيم لا، وقد سأله المرة بعد المرة، أو منعه العطاء لوجد في نفسه شيئاً عليه، ولظن به الظنون، ولكنه في أدبه المفرد، وتعليمه السامي، وأسلوبه الحكيم، دفع إليه الكثير، وتذم له المال، وإشراف النفس إليه، فأصبح قانعاً بعد الطمع، وزاهداً في الدنيا بعد التفاني في حبها.
فأي كلمةٍ أبلغ في ذم المسألة، والتعرض لما في أيدي الناس، من قوله صلى الله عليه وسلم" اليد العليا خير من اليد السفلى"
قال الشاعر:
أبا مالك لا تسأل الناس والتمس بكفيك فضل الله فالله أوسع
ولو سئل الناس التراب لأوشكوا إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا.
شرح الحديث:
إن حكيم بن حزام-رضي الله عنه-سأل النبي-صلى الله عليه وسلم-مالاً فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه. فكان من هدي النبي-صلى الله عليه وسلم-وكرمه وحسن خلقه أنه لا يرد سائلاً سأله شيئاً، فما سئل شيئاً إلا أعطاه-عليه الصلاة والسلام-، ثم قال لحكيم:" إن هذا المال خضر حلو" خضر يسر الناظرين حلو يسر الذائقين، فتطلبه وتحرص عليه.
وقال القرطبي: أي: "روضة خضراء أو شجرة ناعمة غضة مستحلاة الطعم"(2).
وقال النووي: "شبهه في الرغبة فيه والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء الحلوة المستلذة فإن الأخضر مرغوب فيه على انفراده فاجتماعهما أشد وفيه إشارة إلى عدم بقائه؛ لأن الخضروات لا تبقى ولا تراد للبقاء(3).
" فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه " سخاوة نفس أي بغير شره ولا إلحاح وفي رواية بطيب نفس فإن قلت السخاوة إنما هي في الإعطاء لا في الأخذ قلت( أي النووي): السخاوة في الأصل السهولة والسعة قال القاضي: "فيه احتمالان أظهرهما أنه عائد إلى الآخذ أي من أخذه بغير حرص وطمع وإشراف عليه, والثاني إلى الدافع أي من أخذه ممن يدفعه منشرحاً بدفعه طيب النفس بورك له فيه أي انتفع به في الدنيا بالتنمية وفي الآخرة بأجر النفقة قاله القرطبي (4).
وقيل:"هو عائد إلى الآخذ أي بغير سؤال ولا تطلع ولا حرص, وقيل إلى الدافع أي أخذه ممن يدفعه منشرحاً بدفعه إليه لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس الدافع(5).
"ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه" فكيف بمن أخذه بسؤال؟ يكون أبعد وأبعد، ولهذا قال النبي-صلى الله عليه وسلم-لعمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: "ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك"(6) يعني: ما جاءك بإشراف نفس وتطلع وتشوف فلا تأخذه، وما جاءك بسؤال فلا تأخذه.(/1)
والإشراف على الشيء الإطلاع عليه والتعرض له وقيل معنى إشراف نفس أن المسؤول يعطيه عن تكره وقيل يريد به شدة حرص السائل وإشرافه على المسألة(7).
وقوله "لم يبارك له فيه" الضمير في له يرجع إلى الآخذ وفي فيه إلى المعطى بفتح الطاء ومعناه إذ لم يمنع نفسه المسألة ولم يصن ماء وجهه لم يبارك له فيما أخذ وأنفق(8).
فالمكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همته جمعها وذلك لعدم الفهم عن الله-تعالى- ورسوله فإن الفتنة معها حاصلة وعدم السلامة غالبة وقد أفلح من أسلم ورزق كفافاً(9).
قوله كالذي "يأكل ولا يشبع" أي: كمن به الجوع الكاذب وقد يسمى بجوع الكلب كلما ازداد أكلاً ازداد جوعاً؛ لأنه يأكل من سقم كلما أكل ازداد سقماً ولا يجد شبعاً ويزعم أهل الطب أن ذلك من غلبة السوداء ويسمونها الشهوة الكلبية وهي صفة لمن يأكل ولا يشبع قلت أي(العيني) الظاهر أنه من غلبة السوداء وشدتها كلما ينزل الطعام في معدته يحترق وإلا فلا يتصور أن يسع في المعدة أكثر ما يسع فيه وقد ذكر أهل الأخبار أن رجلاً من أهل البادية أكل جملاً وامرأته أكلت فصيلاً ثم أراد أن يجامعها فقالت بيني وبينك جمل وفصيل كيف يكون ذاك(10).
قال النبي-صلى الله عليه وسلم-لحكيم بن حزام:"اليد العليا خير من اليد السفلى" اليد العليا هي يد المعطي، واليد السفلى هي يد الآخذ، فالمعطي يده خير من يد الآخذ؛ لأن المعطي فوق الآخذ، فيده هي العليا كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم- والحديث في البخاري.
فأقسم حكيم بن حزام-رضي الله عنه-بالذي بعث النبي-صلى الله عليه وسلم-بالحق ألا يسال أحداً شيئاً، فقال:" يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا".
فتوفى الرسول-عليه الصلاة والسلام-، وتولى الخلافة أبو بكر-رضي الله عنه- فكان يعطيه العطاء فلا يقبله، ثم توفي أبو بكر، فتولى عمر فدعاه ليعطيه، فأبى، فاستشهد عمر عليه، فقال: اشهدوا أني أعطيه من بيت مال المسلمين فلا يقبله، قال ذلك-رضي الله عنه- لئلا يكون له حجة على عمر يوم القيامة بين يدي الله، وليتبرأ من عهدته أمام الناس، ولكن مع ذلك أصر حكيم-رضي الله عنه-ألا يأخذ منه شيئاً حتى توفي.
وفي لفظ آخر أن الرسول-صلى الله عليه وسلم-قال:" اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول"(11) فالإنسان يبدأ بمن يعول، يعني بمن يلزمه نفقته، فالإنفاق على الأهل أفضل من الصدقة على الفقراء؛ لأن الإنفاق على الأهل صدقة وصلة وكفاف وعفاف، فكان ذلك أولى، والإنفاق على نفسك أولى من الإنفاق على غيرك، كما جاء في الحديث:" ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك(12)"(13).
ذم المسألة:
عن ابن عمر-رضي الله عنهما- أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال:"لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم"(14)، والمزعة بضم الميم وإسكان الزاي وبالعين المهملة: القطعة.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:" من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر"(15).
وعن سمرة بن جندب –رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:" إن المسألة كدُّ يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمر لا بد منه"(16).و"الكد" الخدش ونحوه.
وقال عليه الصلاة والسلام:" والذي نفسي بيده إن كنت لحالفاً عليهن لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا ولا يعفو عبد عن مظلمة إلا زاده الله بها عزاً ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر(17).
وعن ابن عمر-رضي الله عنه: أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة : "اليد العليا خير من اليد السفلى والعليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة "(18).
فقوله-صلى الله عليه وسلم- والذي نفسي بيده فيه القسم على الشيء المقطوع بصدقه لتأكيده في نفس السامع, وفيه الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو أمتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك, ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال, ومن ذل الرد إذا لم يعط, ولما يدخل على المسؤل من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل.
فوائد من الحديث:
1- الحث على العطاء بسخاوة وعدم البخل والشح، ولا سيما إذا كان في العطاء تألف القلوب.
2- الحرص على المال لغير حاجة علة تحمله مسؤولية من غير فائدة، كمن به سقم الجوع يأكل ولا يفيده الأكل شبعاً.
3- أخذ المال وجمعه بطرق مشروعة لا يتعارض مع الزهد في الدنيا؛ لأن الزهد سخاوة النفس وعدم تعلق القلب بالمال.
4- التنفير من مسألة الناس ولا سيما لغير حاجة.
5- الحرص على أن يكون المرء معطياً لا سائلاً آخذاً.
6- فضيلة حكيم وغيره من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ومدى التزامهم العهد مع الله عزوجل ورسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
7- واجب الحاكم في إيصال الحقوق لأصحابها.(/2)
8- ضرب المثل بما هو معروف لتقريب المعنى إلى نفس السامع(19).
9- قد يقع الزهد مع الأخذ فإن سخاوة النفس هو زهدها تقول سخت بكذا أي جادت وسخت(20).
________________________________________
1 - البخاري(3/1145)(2974)، كتاب الخمس، باب ما كان للنبي-صلى الله عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم(2/717)(1035)، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة.
2 - راجع: شرح السيوطي على مسلم(3/115).
3 - المصدر السابق.
4 - عمدة القارئ.(9-52).
5 - الديباج شرح صحيح مسلم ابن الحجاج(3/115).
6 - متفق عليه.
7 - عمدة القارئ(9-52).
8 - المصدر السابق.
9 - راج تفسير القرطبي(10/307).؟
10 - عمدة القارئ(9-53).
11 - متفق عليه.
12 - صحيح مسلم.
13 - راجع: شرح رياض الصالحين(2/210-211).
14 - متفق عليه.
15 - رواه مسلم.
16 - رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم(1947).
17 - مسند أحمد(1/193).وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم(3024).
18 -متفق عليه.
19 - راجع: نزهة المتقين شرح رياض الصالحين(1/460-461).
20 - فتح الباري(3/336).(/3)
اليهود خونة العهود
1477
أديان, جرائم وحوادث
محمد بن صالح المنجد
الخبر
عمر بن عبد العزيز
ملخص الخطبة
1- نصوص لعن اليهود كما جاءت في الكتاب والسنة. 2- صورة مما يصنعه اليهود بإخواننا في فلسطين. 3- صور في ثبات إخواننا رغم ضعفهم. 4- الأحداث أيقظت الأمة من سباتها. 5- كيد الإعلام الغربي لقضية شعبنا المسلم. 6- مقتل الطفل محمد جمال الدرة وأثره في اليقظة.
الخطبة الأولى
عباد الله: هذه الأمة الملعونة في كتاب الله, وعلى لسان رسول الله ورسل الله من قبل, هي الأمة التي تعتدي اليوم على مقدسات المسلمين، وعلى دمائهم وبيوتهم, وأولادهم, هي الأمة الملعونة، التي لا ترقب في مؤمن إلاّ ولا ذمة.
اليهود خونة العهود, فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ، ولا تزال تطلع على خائنة منهم ، اليهود ليست لهم عهود, اليهود خونة العهود, هؤلاء هم اليهود لمن لا يعرف اليهود.
القضية قضية تاريخية, المسألة مسألة شرعية, القضية قضية عقائدية, اليهود لا يمكن مسالمتهم أبدًا وليس لهم عهد ولا ميثاق رغم أنف الذين يريدون أن يعقدوا معهم عهدًا وميثاقًا, فهم يهود مثلهم, اليهود لا يؤمن شرهم, اليهود لا يؤمن مكرهم, اليهود خلق نجس ورجس شيطاني, اليهود أعوان إبليس، اليهود سبب شقاء البشرية مع غيرهم من ألوان الكفر والشرك في الأرض, يقودهم إبليس إلى جهنم وبئس المصير, اليهود أعداؤنا كرههم في قلوبنا, جهادهم عبادتنا وقربتنا إلى الله, اليهود لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا .
هؤلاء الذين أظهر الله مكرهم, أظهر الله بغضهم, كشف الله سترهم وشرهم, وجعلهم باستمرار أعداءً للمسلمين, وتثبت الأحداث التي يقدرها رب العالمين استمرار عداوة اليهود للمسلمين, وكلما قارب السلم المزعوم على الانعقاد يجري الله حدثًا فيقدم هؤلاء على إطلاق النار على المصلين في المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة الماضية.
كان المسلمون في بني خزاعة, ولمّا أغارت بنو بكر المشركون عليهم استغاثوا بالله ربهم, وتوجهوا لنبيهم في المدينة يطلبون المدد ويقولون :
هم بيتونا بالوتيد هجدًا وقتلونا ركعًا وسجدًا
فجيش النبي عليه الصلاة والسلام عشرة آلاف مقاتل للانتقام لهم, وكان سبب فتح مكة, فمن ذا الذي ينصر المسلمين في المسجد الأقصى واليهود يطلقون النار على المصلين, ولا ندري ماذا سيحدث في هذه الجمعة.
أيها الأخوة,الله سبحانه وتعالى يقول: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ، ولما صار هذا التدافع بين المسلمين واليهود ظهرت أمور كثيرة, فكان قتل سبعين من المسلمين وجرح أكثر من ألف وخمسمائة مسلم بكل أنواع الأسلحة لم يوفر اليهود سلاحًا عندهم للمجابهة إلا واستخدموه, حتى الصواريخ, لقد قتل مسلم بصاروخ وكذلك تشتت لحمه, وتبعثر جسمه وتفرق دمه حتى لم يعد أهله يستطيعون أن يتعرفوا عليه، وهكذا رصاص الطائرات المروحية التي تطلق على المسلمين في أرض فلسطين, فيتساقطون ـ فيما نرجوا لهم شهادة عند الله عز وجل ـ, إنزال مظلي وفرق متخفية, وكذلك دبابات وتعزيزات, وتحصينات, وهكذا يخترق جيش اليهود أراضي المسلمين ليعلم أهل النفاق أنه ليس لليهود أمان, وأنهم لا يحترمون عهدًا ولا ميثاقًا, إن التشوهات التي أصابت أجساد المسلمين من رصاص الدمدم والقنابل الانشطارية, والأشياء التي يزعمونها محرمة دوليًا, والله عز وجل حرم الاعتداء وسفك الدماء بأي وسيلة كانت, إن ما يحدث هذا أيها الأخوة في شهر رجب الذي نعيش أيامه هذا الوقت, هذا الشهر الحرام سفكوا فيه دماءنا, هذا الشهر الحرام أحد أربعة شهور هي الأشهر الحرم, أعظم الشهور عند الله, هكذا لم يوفر شهر حرام ولا دم حرام, وهكذا حصلت الإعتداءات, لقد أظهر هذا الحدث بشهادة الجميع حتى الكفار أمورًا متعددة, لقد صرحوا بأنه فاجأ العالم بأمور كثيرة ومن ذلك أيها الأخوة:
البطولة العجيبة التي أظهرها المسلمون في أرض فلسطين, فيتصدى بالحجارة هؤلاء المسلمون لليهود المتترسين المتصفحين الذين يطلقون الرصاص الحي وغيره على المسلمين, فأي شجاعة؟ وأي جرأة تلك التي انبعثت في المسلم الذي يتصدى للرصاص بالحجارة, ولو كان يا ترى عند المسلمين سلاحٌ كيف كان الأمر, إذًا هذه الأمة قابلة للعمل وقابلة للإحياء, وقابلة للتصدي, وقابلة للجهاد, وفيها جرأة, وفي أفرادها شجاعة, تنقصهم قيادة راشدة, وخطة حكيمة, وإعداد جيد, واستعداد على منهج الآية: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة .
لم يهرب المسلمون عند أطلق اليهود الرصاص عليهم, بقوا في الشوارع يذهبون يجرون يركضون, يغيرون مواقعهم, يصعدون الأسطحة, يرشقون بالحجارة, بالمقلاع, بقذائف المولوتوف, بما تيسر, تقدم الأسر القتلى تلو القتلى, ويصعدون الأسطحة لقلع الأعلام الإسرائيلية.(/1)
لقد ظهرت أمور عجيبة, ومن ذلك شجاعة الصبيان, وهذه قضية بالتأكيد قد فاجأت اليهود أنفسهم, فلا ينسى العالم مشهد ذلك الصبي ذي الأربعة عشرة عامًا الذي صعد السطحاء لكي يقلع العلم اليهودي الإسرائيلي والطائرات المروحية تلاحقه, وزخات الرصاص تحاصره, والقناصة الإسرائليون من النوافذ يطلقون النار عليه, ويمضي وهو مصاب بعدما اقتلع العلم ليركض خمسة وأربعين دقيقة في الشارع حتى يتم إنقاذه وأخذه إلى المستشفى وهو ينزف.
لقد ظهرت أيها الأخوة, لقد ظهرت شجاعة الأطفال, فإذا كان هذا هو شأن الأطفال, فما هو شأن الرجال؟ ولو وجدت راية إسلامية وسلاح بأيديهم, ماذا كانوا فعلوا إذًا؟ لقد ظهر التلاحم بين المسلمين, ما كان اليهود ليحسبوا حساب عرب إسرائيل في حدود عام ثماني وأربعين ـ كما يسمونها ـ أن يقوموا بمثل هذا العمل, فإذا بهم يتصاعدون لمآزرة إخوانهم وراء الخط الأخضر المزعوم لإثبات أن الإسلام هو النشيج الذي يربط بين هؤلاء جميعًا, وهكذا قدموا أيضًا قتلى, وظهر أن الهوية الإسرائيلية التي منحها اليهود لعرب الثماني وأربعين لم تجد في تغيير ولائهم, بل تصاعد المد الإسلامي بينهم ليكونوا لحمة مع المسلمين في الطرف الآخر, وهكذا قام المسلمون في عدد من البلدان يتظاهرون تأييدًا لإخوانهم المسلمين في الداخل, وسمع كلامٌ ـ لم يكن يسمع من قبل ـ في قضية إعلان الجهاد, وأنه الحل الوحيد, ونبذ الاستسلام والسلام الموهوم, والعودة إلى أن الذي أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
أيها الأخوة: إن هذا التخطيط المسبق من اليهود لهذه القضية التي حصلت, وهذه الجرائم التي صارت ـ فعلاً ـ أيقظت في نفوس المسلمين الحمية, إن هذه الأمة التي جرى تنويمها بالأفلام والملاهي والألعاب وغير ذلك من ألوان الترف, والتي جرى تخديرها بالمغنيين والمغنيات, والراقصين والراقصات, والممثلين والممثلات, والسياحات والسفريات, وغير ذلك من أنواع الملهيات, إنها لتستيقظ اليوم وهي ترى هذه الدماء في أرض فلسطين حتى اضطرت بعض جهات الفسق إلى تغيير برامجها مواكبة للحدث, ومراعاة لمشاعر الجماهير كما يقولون, فأصبحت بزعمهم أكثر جدية من ذي قبل, وهذه ملاحظة مهمة أن تكون القضية فرضت نفسها بحيث أنهم اضطروا إلى أمور من تغيير البرامج مواكبة للحدث.
أيها الأخوة: إن مشاركة المسلمين لإخوانهم في المشاعر والتعبيرات التي ظهرت في الشارع الإسلامي جميعه تدل على أن مفهوم الجسد الواحد يمكن أن يعود, وكذلك فإن ارتفاع الأصوات التي تدعو إلى الجهاد تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن ذلك هو الخطوة القادمة لهذه الأمة, وأنه لا مناص منها إطلاقًا, الجهاد أمر يفرض نفسه لأن هذا الاحتلال لأرض الوقف الإسلامي أرض فلسطين التي لا يجوز التنازل عن شبر منها لا يمكن إزالته إلا بالجهاد, وأن الانتقام لله من هذه الشرذمة الذين قالوا يد الله مغلولة, وليست القضية قضية قديمة حتى هذا عوخوفيا يوسف كبير حاخاماتهم يقول: إن الله ندم على خلق الفلسطينين, فسب الله مستمر من اليهود قديمًا وحديثًا, أمة واحدة ملعونة, وخط مستمر ملعون في التاريخ من أول ظهورهم هكذا كانوا يقتلون الأنبياء ويعيثون في الأرض فسادًا ويسبون الله تعالى, وضعوا السم للنبي عليه الصلاة والسلام وتآمروا عليه وعلى المسلمين, واشتركوا في المؤامرة مع كفار قريش والمنافقين, الخيانة مستمرة, والقضية مستمرة, وكما حلت بالجهاد في الماضي لا تحل إلا بالجهاد في الحاضر.
أيها الأخوة: لقد رأينا وقاحتهم وهم يطلبون من الفلسطينين الكف عن إطلاق النار وضبط النفس, ضبط نفس, أي ضبط نفس في هذا الموضوع, وكيف يملك أن يضبط نفسه من يرى أفراد أسرته يقتلون؟ ومنزله وغرف بيوته تهدم بقذائف صاروخية, ثم يقولون: ضبط النفس.
ورأينا أيها الأخوة كيف تآمر الإعلام الغربي النصراني الحاقد مع الإعلام اليهودي, وبينهما نسب كبير في قضية طمس الصورة الحقيقة وتشويه الأحداث, فالتركيز مثلاً على صور لفلسطينيين قلة وندرة يطلقون رصاصًا من مسدس أو بندقية لكي يظهروا للعالم ويوهموا الناس أن القضية قضية حرب جيشين, أي جيشين؟! ومن هو الجيش الآخر؟! معظم الناس الذين اشتركوا من المسلمين بالحجارة وبأيديهم, ولو كانت الأسلحة موجودة فعلاً بأيدي مؤمنين حقًا لتغيرت النتيجة منذ أيام وانقلبت القضية.(/2)
أيها الأخوة: إن هذه الفظائع التي حدثت كان لها أثر في النفوس, ونقول دائمًا ليس في أفعال الله شرٌ محضٌ, لابد أن يوجد فيه خير بوجه من الوجوه. يقول الناس: الخسائر ضخمة, سبعون قتيل, وألف وخمسمائة جريح ومنازل متهدمة, نقول: لكن الوعي الذي أحدثته هذه الدماء في الأمة كبير جدًا, المكسب في الوعي وإيقاظ الإيمان والنفوس المتخدرة أكبر بكثير من التكلفة التي حصلت والله غالب على أمره, والله عز وجل يحدث في الواقع من المفاجأت ما تربك اليهود, ويمكرون ويمكر الله, يخادعون الله وهو خادعهم، بالتأكيد إنهم لم ولن يكونوا قد حسبوا لهذه المسألة تلك الحسابات, ولذلك هنا يبرز أهمية الإعلام الإسلامي الحقيقي عندما يقدم صورة للناس.
تأملوا أيها الأخوة في كاميرا ذلك الفلسطيني الذي صوبها بمهارة على محمد جمال الدرة وهو يقتل بجانب والده, ووالده يتوسل لهم, لقد أقضت الصورة مضاجع العالم, لكن هذه صورة, فأين بقية الصور؟ صورة واحدة فعلت هذا الفعل في العالم, والشجب والاستنكار والغثيان والاشمئزاز من أفعال اليهود, وهنالك صبيان آخرون قد قتلوا مثله ولكن لم تدركهم الكاميرات, هذه اللقطة, أنا متأكد أن اليهود كانوا سيدفعون مبالغ طائلة جدًا جدًا لمنع انتشارها ومنع عرضها لو استطاعوا فعلت هذا الفعل, فماذا كان سيحدث إذًا صورت المناظر فإذا الباقية.
أيها الأخوة إن اليهود يراهنون على أن القضية ستكون زوبعة في فنجان, وأننا لا نلبس أن نهد وأن ننام, وأن يقوم القوم لمصافحتهم وتقبيل شواربهم, وتوقيع اتفاقية السلام, لكننا نؤمن بالله وأنه على كل شيء قدير وأن الله يقلب عليهم مخططاتهم, وأن الله قادر على ايقاظ الأمة التي يراهنون على عودتها إلى النوم من جديد.
أيها المسلمون: لقد أيقظ الحدث في نفوسنا أمرًا مهمًا جدًا, أيقظ أمرًا مهمًا في نفوس المسلمين وهو الرغبة في الانتقام, هذه القضية يخشاها اليهود جدًا جدًا, أن يوجد عند المسلمين رغبة حية متصاعدة متدافعة في الانتقام, إنهم يريدون السلام لكي لا يحصل الانتقام؛ لأن دولتهم لا يمكن أن تواجه الانتقام ولكن الانتقام رغبة متحققة متجدرة متأصلة في نفوسنا ونفوس المسلمين الذين عرفوا بالأحداث وشهدوها.
أيها الأخوة سيستغل القضية المنافقون والعلمانيون والمشركون والباطنيون والقوميون, وأصحاب البدع الكفرية سيستغلون قضية الحدث وما صار في المسجد الأقصى, فهؤلاء يجب إسكاتهم وعدم الالتفات إليهم, وإنما الالتفاف حول من يتكلم عن إسلامية القضية؛ لأن القضية لا يمكن أن توصف إلا بأنها إسلامية؛ لأن أي شعار آخر للقضية فهو كاذب, لأنك لو قلت أن القضية قضية عربية والعرب فيهم نصارى وفيهم كفار ومرتدون وزنادقة وملاحدة واشتراكيون فما علاقتهم بالمسجد الأقصى؟ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون , لقد تعالت أصوات المسلمين تدعو للعمل قائلة:
طلقوا الكلام ودعوا القرطاس فكلامهم قذائف وأقلامهم رصاص
إذًا أيها الأخوة لقد أحسسنا فعلاً بأجواء جهادية, وقد طار النوم عن كثيرين, واستيقظت مشاعر دفينة, وتأججت في النفوس مشاعر كانت مطموسة وكانت مغلق عليها بالشهوات.
وهذا الذي نريده أيها الأخوة, أن يزيل المسلمون غبار النوم عنهم, أن يتركوا الانغماس في الشهوات, ويقوموا لتربية أولادهم على الجهاد, هذه هي الفائدة الكبيرة من الموضوع, تربية الأولاد على الجهاد وكره اليهود والنصارى والكفار, تربية الأولاد على الجهاد وإحياء جذوته في نفوسهم, هذا هو المطلوب الآن والاستعداد لما سيجد في المستقبل.
اللهم إنا نسألك أن تخزي اليهود والنصارى, اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين, اللهم إنا نسألك أن تحفظنا بالإسلام قائمين وقاعدين وراقدين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن الله ولي المؤمنين, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين.
عباد الله: إن الشعار العظيم الذي يرفعه المسلمون ويتأجج من حناجرهم:
خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود
هو الذي يرهب اليهود حقًا, إن اليهود لا يريدون إطلاقًا أن يتحول الحدث إلى عاصفة توقظ الأمة من رقادها, إنهم لا يريدون إطلاقًا أن تتعالى صيحات الجهاد, إنهم لا يريدون أبدًا أن يكون المسلمون يدًا واحدة, فقد فاجأهم الحدث حقًا في نتائجه وما يترتب عليه.(/3)
إنني أجزم أيها الأخوة أنهم لم يكونوا يحسبون حسابًا لتلك اللقطة التي حصلت لذلك الطفل الذي قتل بجانب أبيه, ولا لتلك الطفلة ذات الثماني عشرة شهرًا التي تعمد مستوطن يهودي مجرم أن يطلق عليها الرصاص, وهي في مقعد سيارة أبيها, فماذا تفعل طفلة عمرها ثماني عشرة شهرًا, طفلة رضيعة ماذا تفعل؟ وهل تملك أن تجري وأن تهرب حتى, وأن تدافع عن نفسها, ولكن هذه طبيعة اليهود أرانا الله إياها, هذه طبيعتهم, وهذا غدرهم, ثم يقولون إن المستوطنين في نتساريم غير قادرين على التجول, والخروج إلى وظائفهم, مساكين!! وأما هؤلاء الذين يُصلون نار الرصاص فلا عليهم شيء ولا بأس بزعمهم
محمدًا أي ذنب جئت تحمله حتى قتلت على عين الملايين
يا درة المجد قد فجرت في شرف شرارة الثأرفي وجه الشياطين
محمدًا أي جرح صرت في كبدي وماذا بعد هذا الخطب يبكيني
كأنما طلقات الحقد في جسدي والهم يفتك بي فتك السكاكيني
يا للأبوة والأشجان تخنقها والموت يبرق من أنياب تنيني
ماذا أثرت على الوجدان من شجن والقدس قبلك مغلول الذراعين
وخلف صوتك أصوات معذبة من ليل صبرا وذكرى دير ياسيني
وفي جفونك أحزان مسطرة للأرض والعرض والإحراق والهون
دموع عينيك تحكي ألف مجزرة من صنع جولدا ومن أيام شاروني
وفي المحيا سؤال حائر قلق أين الفداء؟ وأين الحب في الدين
أين الرجولة والأحداث دامية أين الفتوح على أيدي المياميني
ألا نفوسٌ إلى العلياء نافرة تواقة لجنان الحور والعيني
كرامة الأمة العصماء قد دبحت وغيبت تحت أطباق من الطين
لكنها سوف تحيى من جماجمنا وسوف نسقي ثراها بالشرايين
نفديك بالروح يا أقصى وحي هلا بميتة في سبيل الله تحيني
تهون للقدس أرواحٌ وأفئدةٌ وكل حبة رمل من فلسطيني
لكل خطب عزاء يستطاب به لكن إذا ضاع قدسي من يعزيني
أيها الأخوة: لقد كانت حادثة قتل الطفل شرارة فعلاً وكذلك الأطفال الذين قتلوا والأرواح التي أزهقت, والدماء التي سالت والبيوت التي خربت, هكذا توقظ فعلاً أقدارُ الله التي يجريها في الواقع, توقظ القلوب الميتة, وتحي النفوس التي طالت صدؤها في مستوقع الرذائل وتقول للمسلمين: انهضوا من الشهوات, يا جماعة, يا أمة, يا ناس, يا عالم, تجرون وراء الشهوات والأقصى يحدث ما يحدث فيه من قتل المصلين, وتلتهون بالمحرمات, خمر وزنا وفضائيات عاهرة, وأفلام ومسرحيات ومسلسلات, وملاهي وهكذا يفعل بالمسلمين, فأين الخير فيكم إذًا؟!
هكذا تهتف الأحداث بنفوس المسلمين, فنسأل الله عز وجل أن يجعل من هذا الشهر العظيم شهر نصر للإسلام والمسلمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(/4)
اليهود في رواية منيف " أرض السواد"
على ضوء صورتهم في الأدب العالمي والعربي د. عادل الأسطة / جامعة النجاح / فلسطين
أنجز عبد الرحمن منيف روايته "أرض السواد" ما بين (1997 و 1999)(1) ، وهذا هو الزمن الكتابي ، وتجري أحداث الرواية في الفترة ما بين (1802 و 1821) ، وهذا هو الزمن الروائي ، وهي فترة حكم داود باشا العراق(2) .
ومن القضايا التي تلفت نظر القارئ صورة اليهود في الرواية . وهي قضية لم تظهر ، في حدود علمي ، في روايات منيف السابقة . ما هي صورة اليهود في الرواية ؛ وهل صورهم عبد الرحمن منيف في حدود ما كانوا عليه وما عرف عنهم في الأدبيين العالمي والعربي أم أنه أسقط عليهم آراء عرفت عنهم في فترات لاحقة للزمن الروائي ، وكأن الزمن الكتابي ترك أثره على الزمن الروائي ، وهذا ما يلحظ أحياناً لدى كتاب لا يتمثلون الفترة التاريخية التي يكتبون عنها، إذ تتسلل أحياناً بعض مفردات أو أشياء لم تكن موجودة سابقاً ، وعرفت في فترة لاحقة ، إلى النص بطريقة عفوية . بصيغة أخرى : هل أسقط منيف ، وهو يرسم صورة اليهود في روايته ، تصورات عرفت عنهم بعد عام 1821 ، العام الذي توقفت أمامه أحداث الرواية .
للإجابة عن هذا السؤال لابد ، ابتداء ، من التوقف أمام صورة اليهود في الأدبين العالمي والعربي قبل 1821 .
صور اليهودي في الآداب الغربية على أنه ذلك المرء المنطوي على نفسه ، المعتزل ، وليس هذا التصور راجعاً إلى ما يصدر عن المؤلفين وإشكالاتهم الشخصية المسيحية أو اليهودية، فقد كان يتأثر بالمتغيرات الدينية والاقتصادية والاجتماعية ، وغالباً ما كانت الصورة تتشكل لكي تؤثر على جمهور القرّاء . وعلى أية حال فإن شخصية اليهودي كانت تبدو مثل شخصيات تاريخية لافتة ، مثل شخصية (نابليون) ، ولم تكن هناك ثمة صورة واحدة لهذه الشخصيات ، إذ رسمت لها صور عديدة سببها المتغيرات التي تلم بالتاريخ .
لم تجسد الشخصيات اليهودية ، في الكتابة المسيحية للعصور الوسطى ، موضوعات متفقاً عليها . استلهمت شخصيات العهد القديم لتشكل نموذجاً يعبر عن موقف منشود إزاء الله. وإن بدا بعض اليهود ، خلافاً للشخصيات المؤمنة ، مسؤولين عن معاناة المسيح .
لقد كانت الباروكة الحمراء والقفطان الأسود يشكلان ، في ليالي الصوم وفي أثناء الألعاب الحماسية والغامضة ، عدواً شريراً للمعتقدات المسيحية . والعلامة التي كانت تميز الشخصية اليهودية غالباً ما كانت تتجه نحو يهودا الخائن البائع . ونُعِتَ اليهودي بأنه محب للمال ومحتال وخبيث وداهية . لقد بدت هذه الصور في بعض النصوص التي ظهرت في حدود العام 1386 . وثمة إشاعات انتشرت انتشاراً واسعاً أبرزها قتل اليهود الأطفال وتسميمهم الآبار ، وأضيف إلى هذه تصورات أخرى أظهرها الأدب الإنجليزي ، على الرغم من أنه لم يعش في إنجلترا ، بين 1290 و 1556 ، يهود .
كان إذن لليهود في الآداب الأوروبية حضوران ، سلبي وإيجابي . سلبي يتمثل في الصفات السلبية التي أشير إليها ، وإيجابي يكمن في اتكاء بعض الكتاب على نماذج مؤمنة من العهد القديم غدت مثالاً للطائفة المسيحية ، لمن ينتظر منها الخلاص على الرغم من المعاناة . وظهر هذا التصور الأخير في الدراما الفرنسية ، وفيها بدت الشخصيات اليهودية ذات ملامح بطولية ، ومن الكتاب الذين أبرزوا هذا (جون ملتون ) (1671) و(أرنست بالاخ) (1924) ، وعلى الرغم من أن الشخصيات المستلهمة من العهد القديم كانت تثبت على معتقداتها ، إلا أنه لم يكن ينظر إليها على أنها متطابقة مع الشعب اليهودي . لقد نظر إليها على أنها نماذج إنسانية لها مشاكل إنسانية ، ونادراً ما نظر إليها جمهور القرّاء أو جمهور المسرح على أنه ممثلة للطائفة اليهودية .
وعلى الرغم من خاصية علمنة الأدب وتوجه الأدباء الواعي للأحداث المعاصرة إلا أن ثمة أوصافاً سلبية لليهود تعمقت في هذه النصوص . لقد صدمت صورة اليهود السلبية ، مثل أنه مستغل بلا خجل ومراب كذاب ومنطو على نفسه مكروه ، لقد صدمت كتاباً متنورين ، وعمل هؤلاء على معارضتها ودحضها ، ولكنهم في أثناء هذا كانوا يوردون هذه الصفات لتظل في خلفية الأشكال الأدبية . طبعاً لقد أراد الكتاب من الجمهور أن يُسائِل هذه الصفات ، وطلب الكتاب أيضاً من الجمهور أن يتأمل في اليهودي المقموع الذي يعاني ، وفي النهاية أن يتأمل في اليهودي المثالي .
لقد شنعت بعض الأعمال على اليهودي المرابي الذي يدمر المواطن المسيحي ويتركه يعاني ، ومن هذه "يهودي مالطاً (1588) لـ (كريستوفر مارلو) و"تاجر البندقية" (1595) لـ (شكسبير) ، وغدا (باراباس) و(شيلوك) مضحكين وشريرين ونمطين ، وأصبحا نموذجاً للأدب العالمي .(/1)
غير أن آداب القرن التاسع عشر بخاصة قللت من قسوة هذه الصورة ، وفيها غدا اليهودي ممثلاً للتجارة الحكومية ، وظهر النموذج اليهودي الممثل للروح الرأسمالية . بدا اليهودي ، هنا ، باحثاً عن ذاته وقاسي القلب يكيف نفسه ، بذكاء ومكر ، مع أي وضع . إنه يستغل ما يوجد مع الآخرين ولا يعرف إلا هدفاً هو الصعود إلى أعلى . (لربما يجدر أن نتأمل هذه الأسطر الستة ونحن نقرأ رواية منيف) .
علينا ألا ننسى صورة أخرى لليهودي ظهرت في فترات لاحقة للعصر الوسيط ، وبخاصة في عصر التنوير . أبرزت بعض الأعمال صورة إيجابية لليهودي هي صورة اليهودي النبيل ، اليهودي المتسامي ، اليهودي الذي يقف إلى جانب الآخر إذا كان ذا حظ سيئ ، يبدو اليهودي هنا ذا قلب واسع ، ويبدو مستعداً للمساعدة وكريماً . إنه يفكر بنبل ، وهو حكيم ومتسامح ، ويضحك من الآراء المسبقة التي يشكلها العالم عنه ، بل ويغفر للمجتمع . هنا يمكن أن يشار إلى (روبرت جرينه) (1592) الذي مدح حكمة الرابي (بيليزيه) وإلى (جورج هربرت) (ق 17) الذي مجد في قصيدته "اليهودي" شعب الله المختار ، وهي سابقة لعصر التنوير ، ولكن هذا العصر شهد بروز أعمال لافتة ، منها مسرحية الكاتب الألماني (جوتهولد لنسج) "ناثان الحكيم" (1779) ، ونص (ريتشارد كوبرلاند) "اليهودي" (1794) ، لقد أبرز هذان النصان التفكير المتسامح للعصر . أدرج (لنسج) في مسرحيته يهودياً مفكراً ذا قلب كبير ، ليقنع محيطه بالإنسانية الحقيقية التي هي مختفية لدى جميع الشعوب . إن ثقة (لنسج) بقوة تطور الإنسان ، وبإمكانية التسامح لديه ، أخذت ، منذ ذلك الوقت ، تميز تصورات اليهودي المثالي بعامة . وسيقرأ المرء ، في أعمال أخرى لاحقة ، عن اليهودية التي تغدو صورة ذات معنى للطموحات الإنسانية إزاء الحكمة .
وسيقرأ أيضاً عن يهود يدرجون أنفسهم لخدمة السلم العالمي وعن أطباء يهود يعانون ويحتملون من أجل التخفيف عن معاناة الناس ، كما سيقرأ المرء عن مُربٍ روحي يساعد الآخرين من أجل السيطرة على العالم والتحكم به لصالح الإنسان .
ومع ما أثارته قضية (دريفوس) في فرنسا ، بعد عام 1894 ، فإن فرنسا لم تعدم وجود كتاب هاجموا المحكمة العسكرية ، ومن هؤلاء (إميل زولا) في مقالاته التي كتبها في عام (1898) وعام (1899) . لقد رأى أن اليهودي المشنع عليه هو ضحية آراء مسبقة .
ولكن ماذا عن المرأة اليهودية ؟ إذا ما غض المرء النظر عن أدب المرأة اليهودية ووصف الحياة المعبر لليهوديات ، فإن ما يتبلور هو صفة مميزة في وصف المرأة اليهودية . تندفع هذه ، كما تصورها النصوص الأدبية ، في مغامرة الاندماج ويثير موقفها هذا الإعجاب ، ويوقظ قدرها التعاطف معها . إنها تسحر القارئ الذي ينظر إليها على أنها نموذج معارض ، نموذج يجمل سلوكاً . وتبدو المرأة اليهودية ذات جمال مدهش ، وامرأة مليئة بالحب تضحي بنفسها من أجل الآخرين ، امرأة تعشق وتتبع في عشقها صوت قلبها ، وهي تتخلى عن المعتقدات القديمة وعن شعبها ، لتجد ، في النهاية ، الإنسان فيها(3) .
وسأغض الطرف عن الصورة التي ظهرت في نصوص كتاب يهود وإسرائيليين ، لأن ما يهمني هنا هو الصورة التي رسمها كتاب غير يهود لليهود . وللقارئ العربي الذي يرغب في تتبع تصور اليهود لذاتهم في نصوصهم يمكن الإحالة ، على سبيل المثال لا الحصر ، إلى دراسة غسان كنفاني "في الأدب الصهيوني" ودراسة معين بسيسو "نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة"(4).
والآن ماذا عن صورة اليهود في الأدب العربي حتى عام 1821 ، العام الذي توقفت أمامه رواية منيف ؟ سوف أحاول إبراز هذه الصورة من خلال نماذج بعضها اشتهر وبعضها أقل شهرة ، وإن كان كاتبو الأخيرة أدباء مشهورين جداً .
تجدر الإشارة ، ابتداء ، إلى قصة الشاعر السموأل بن عاديا ، الشاعر الجاهلي المعروف. لقد ضرب المثل بوفاء هذا الشاعر وقيل "أوفى من السموأل" ، ذلك أنه شاعر آثر أن يضحي بابنه على أن ينكث بالعهد الذي أخذه على نفسه ، وظل السموأل مضرب مثل بالوفاء ، حتى أعاد الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان النظر في قصته(5) . وقد يكون طوقان فعل هذا تحت تأثير اللحظة الفلسطينية القاسية التي ساءت فيها العلاقة بين أهل فلسطين العرب والحركة الصهيونية . وذهب طوقان إلى أن السموأل لم يضح بابنه لأنه أراد أن يوفي بعهده ، وإنما فعل ذلك لأنه فضل المال على ابنه .(/2)
وإذا ما بحثنا عن صورة اليهود في القرآن الكريم(6) ، لاحظنا أن القرآن يعترف بأنبياء بني إسرائيل ويجلهم ويقدر مكانتهم ، بل أن النص القرآني يذكر صراحة أن الله – سبحانه وتعالى – فضل بني إسرائيل على العالمين . وربما يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ، فإذا كان المسيحيون يذهبون إلى أن يهودا خان معلمه وقتله ، فإن النص القرآني يقول : (وما قتلوه وما صلبوه ، ولكن شبه لهم) . ولكن الكتابة عن اليهود تتخذ ، في القرآن ، شكلاً آخر ، إذ صور اليهود بالتنكر للحق والمجادلة فيه ، وبالنفاق ونقض المواثيق ، وبالجبن والخيانة ، وبالحرص الشديد على الحياة ، وبكراهية المسلمين والكيد للإسلام ، وبالغدر بالأنبياء والإجرام والفساد في الأرض ، وبالسعي الدائم لإشعال الحروب . وهذه الصفات التي نعتوا بها في القرآن ستلازم اليهود في كثير من النصوص التي كتبت بعد نزول القرآن .
يأتي الشاعر العباسي أبو نواس على ذكر اليهود ، في بعض قصائده ، ومنها تلك التي قالها في الخمر ومطلعها :
وفتيان صدق قد صرفت مطيهم
... ... إلى بيت خمّار نزلنا به ظهرا(7)
...
ويكون صاحب الخمارة يهودياً ، ويمكن إجمال صفاته ، من خلال النص الشعري ، على النحو التالي :
يظن الآخرون به خيراً ، فيظن هو بهم شراً ، وهو لا يرضى أن يكون على دين المسيح، لكأن هذا شتيمة ، وهو يحب الآخرين ظاهراً ولكنه يضمر لهم الغدر ، وفوق هذا لا تشرفه الكنى العربية ولا تكسبه الثناء ولا الفخر . لنقرأ بعض أبيات القصيدة :
فلما حكى الزنار أن ليس مسلماً
فقلنا على دين المسيح بن مريم ؟
ولكن يهودي يحبك ظاهراً
فقلت له ما الاسم ؟ قال : سموأل
وما شرفتني كنية عربية
... ... ظننا به خيراً فظن بنا شرا
فأعرض مزوراً وقال لنا هجرا
ويضمر في المكنون منه لك الغدرا
ولكنني أكنى بعمرو ولا عمرا
ولا أكسبتني لا ثناءً ولا فخرا
...
وشبه أبو الطيب المتنبي الذي كان يشعر بالغربة في عالمه ، شبه إقامته بين بعض الأقوام التي عاش بينها بإقامة المسيح بين اليهود . ويفهم من بيته المعروف :
ما مقامي بأرض نخلة
... ... إلا كمقام المسيح بين اليهود(8)
...
أن اليهود سيئون ولا تجدر الإقامة بينهم ، لأن مصير من يقيم بينهم هو الموت .
ولم تخل كتب أبي حيان التوحيدي(9) كاتب النثر المعروف من ذكر اليهود . يرد في الليلة السابعة والعشرين من كتاب "الإمتاع والمؤانسة" المعروف جيداً ، يرد ذكر عن مجوسي ويهودي يلتقيان في الطريق ، ويملك الأول بغلة وطعاماً خلافاً للثاني ، ويرأف المجوسي باليهودي فيطعمه من طعامه ويركبه بغلته حتى يقاسمه عناء الطريق . ولما يركب اليهودي بفلة المجوسي يتخلى عنه ويتركه ولا يرأف به مع أنه – أي المجوسي – صاحب البغلة ، ويبدو اليهودي خائناً لا يحب الآخرين ، بل إنه يحتقرهم ، وهذا ما يرد على لسانه حين يسأله المجوسي عن مذهبه :
"أعتقد أن في هذه السماء إلهاً هو إله بني إسرائيل ، وأنا أعبده وأقدسه وأضرع إليه ، وأطلب فضل ما عنده من الرزق الواسع والعمر الطويل ، مع صحة البدن ، والسلامة من آفة ، والنصر على عدوي ، وأسأله الخير لنفسي ، ولمن يوافقني في ديني ومذهبي ، فلا أعبأ بمن يخالفني، بل أعتقد أن من يخالفني دمه لي يحل وحرام علي نصرته ونصيحته والرحمة به"(10) .
ويتعثر اليهودي وبغلته ، ترفسه البغلة وتلقيه أرضاً ، ويمر به المجوسي فيأخذ البغلة ويركبها ويسير ، وهنا يصرخ عليه اليهودي طالباً منه المساعدة ، فيرأف به ثانية ويسيران معاً ، وحين يُسأل المجوسي لماذا ساعد اليهودي ثانية مع أنه غدر به وخانه ، يوضح أن ما فعله اليهودي يعود إلى أنه طبع فيه تعود عليه وليس من السهل التخلي عنه .
ولعل أهم نص توقف أمامه الدارسون ، من العرب والمستشرقين ، هو قصيدة أبي اسحق الإلبيري الأندلسي(11) ، التي مطلعها :
ألا قل لصنهاجة أجمعين
... ... بدور الزمان وأسد العرين
...
وهو نص كتبه الشاعر يحرض فيه الحاكم حبوس بن باديس على وزيره اليهودي يوسف بن النفرلة الذي استبد وطغى . يوصف اليهود في النص على أنهم كفار ، وقرود أراذل ، ويستخفون بالمسلمين ويتطاولون على الصالحين ، وأنهم فراخ الزنا ، وفاسقون ، وكلاب ، وجبناء ، وسحرة ، وبشر يكنزون المال – لتقرأ هذه الأبيات :
وكيف تحب فراخ الزنا
وكيف استنمت إلى فاسق
فقد ضجت الأرض من فسقهم
تأمل بعينيك أقطارها
وهم يقبضون جباياتها
وهم أمناكم على سركم
وقد لابسوكم بأسحارهم
ولا ترفع الضغط عن رهطه
... ... وهم بغضوك إلى العالمين
وقارنته وهو بئس القرين
وكادت تميد بنا أجمعين
تجدهم كلاباً بها خاسئين
وهم يخضمون وهم يقضمون
وكيف يكون خؤون أمين ؟
فما تسمعون ولا تبصرون
فقد كنزوا كل علق ثمين
...(/3)
هكذا بدا اليهود في نصوص من الأدب العربي حتى بدايات القرن التاسع عشر ، فهل شذت صورتهم في رواية منيف عن الصورة التي بدت لهم في الأدبين العالمي والعربي ؟ لن أتوقف أمام صورة اليهود في الأدب العربي بعد عام 1821 ، وهي موضوع لفت أنظار دارسين كثر ، دفعهم لأن ينجزوا العديد من الدراسات حوله(12) .
تجري أحداث الرواية في بغداد ، أساساً ، وفي كركوك والسليمانية ، وتحفل بنماذج بشرية تنتمي إلى العراق وبلاد فارس ، وأخرى جاءت إلى العراق من بلاد آسيا الوسطى ومن فرنسا وبريطانياً ، وهذه النماذج البشرية نماذج حقيقية لها حضور في أرض الواقع كما لها حضور في الرواية ، ومنها سعيد باشا وداود باشا و (ريتش) ، ولا يعني هذا أن الشخصيات كلها شخصيات حقيقية ، فهناك شخصيات متخيلة قد يكون لها نصيب من الواقع .
نحن في الرواية أمام مسلمين ومسيحيين ويهود ، وأمام عرب وفرنسيين وإنجليز وأتراك وفارسيين ، وأمام سكان مدن وسكان بادية وسكان ريف ، وسأقتصر هنا في الكتابة عن صورة اليهود .
تحفل الرواية بنماذج يهودية عديدة ، ذكورية ونسائية ، وهي نماذج تمثل الطائفة اليهودية العراقية . هناك تجار وهناك رجال دين ، وهناك موظفون كتبة ، وهناك نسوة يبدون ، قياساً إلى النماذج النسوية العربية المسلمة داخل النص الروائي ، يبدون متحررات يمارسن ، داخل المجتمع ، أدواراً تقتصر عليهن . إنهن مغنيات وراقصات وصاحبات بيوت ترفيهية ، ولا نقرأ ، في الرواية ، عن نسوة مسلمات يقمن بهذه الأدوار في المجتمع .
ولا يشكل اليهود أفراداً يفني الواحد منهم حياته في سبيل الملة اليهودية ، ثمة تنافس بينهم يؤدي إلى الكراهية والتناحر ، فالمصلحة الخاصة لهذا أو ذاك قد تدفعه لأن يقف في وجه آخر من أبناء ملته . ثمة خصام ووئام .
ونحن نقرأ عن اليهود ، في الرواية ، من خلال النماذج الروائية ، ومن خلال آراء السارد ، ومن خلال تعليقات الشخصيات الروائية المختلفة .
هناك من بين النماذج اليهودية من يكون حضوره عابراً ، ولكن هناك أيضاً من يظل حاضراً في أجزاء الرواية الثلاثة ، حتى ليمكن القول إنه شخصية تكاد تكون رئيسية . والأخيرة تظل عالقة في ذهن القارئ أكثر من الأولى . تتمثل النماذج العابرة في شخصية رجل الدين الحاخام طقو موشي ، وفي سلطانة رجوان وابنتيها سارة وزكية ، وفي جاكي الأصفر (أبو سارة). يهتم الحاخام بالشعائر الدينية وأمور الطائفة ، وتقود الثانية جوقاً من الدقاقات ، وهي ذات صوت جميل تغني في أفراح المسلمين في بيوتهم ، وكانت ذات قوام ، رغم السمنة ، يثير شهوة الرجال ، كما يثير فضول النساء . وأما جاكي الأصفر فهو متعلم يفك الحرف ويعمل كاتباً ، يتصف بالبخل ، ويبدو حذراً من الآخرين . وأما النماذج الرئيسية فهي عزرا بن سليم روفة وساسون أفندي وروجينا حسقيل أو روجينا مراد .
المهنة التي يمارسها ساسون أفندي هي وظيفة صراف باشي لدى سعيد باشا ، ولكنه تاجر قبل هذا ، ولا يختلف عنه عزرا الذي يغدو صراف باشي إبان حكم داود الذي أقصى سعيداً . وتكون العلاقة بين ساسون وعزرا غير ودية ، إنها علاقة تقوم على التنافس ، ولكنهما، مع مرور الأيام ، يتصالحان . وتكاد صورة ساسون وعزرا لا تختلف عن صورة (شايلوك) . إنهما تاجران يهتمان كثيراً بأمر تجارتهما . وتذكرنا وظيفة كل منهما بوظيفة اليهود في الأندلس ، في القرن الخامس الهجري . لقد كان يوسف ابن النغرلة ، ومن قبله أبوه إسماعيل ، وزيرين لشؤون المال لدى ابن باديس .
يدفع عزرا المال رشوة حتى ينقذ رأسه ، ويملك ثروة هيأ لها بكثير من الذكاء ، إنه يرى أن المال وحده لا يستطيع أن يفعل شيئاً إذا لم يقده عقل وهاج . وتقوم فلسفته على أن الإنسان إذا كان قادراً على أن يكسب المال _ إذا كان بارعاً وواتاه الحظ – فالأكثر أهمية هو أن يجعل هذا وسيلة لمال أكثر ، لقوة أكبر ، لا يبدو عزرا بخيلاً ، أنه على استعداد لأن ينفق المال من أجل الحصول على منصب حتى لو لم يستعد هذا المال . لنر ما يكتبه لابنه ، وهذا يعبر عن طبيعة شخصيته ، لنر :
"وتركت لكم ثلاثة أنواع من الثروة : مالاً إذا عرفتم كيف تتصرفون به سوف يتضاعف من جيل إلى جيل ، وتركت لكم علاقات تحميكم من غدر الزمان وتقلب الأيام ، وتركت لكم سمعة تحول التراب إلى ذهب ، وتجعل كل حاكم يتلمس رأسه قبل أن يعاديكم…"(13) .(/4)
ونحن نلاحظ ، من خلال النص الروائي ، أن اليهود يملكون المال ، وأن لهم علاقات مع الحكام ، وأن الحكام بحاجة إلى أموالهم . وربما نعود هنا ثانية إلى ابن النغرلة وابن باديس . كان ابن النغرلة يملك المال ، وغدا وزيراً ، وأراد أن يستأثر بالحكم ، وحين أراد بلقين بن حبوس بن باديس أن يعزله ، دس ابن النغرلة له السم فقتله ، وربما ونحن نقرأ عن شكل العلاقة بين ساسون وعزرا نتذكر شكل العلاقة بين ابن النغرلة وبعض اليهود ، فقد كان له من بين اليهود خصوم ، وإن لم يشر أبو اسحق في قصيدته إلى هذا حيث عمم القول في اليهود ، فقد ذكرته بعض المصادر التاريخية.
هنا يمكن أن ننظر في شخصية ساسون . كما ذكرت كان ساسون تاجراً وكان صراف باشي ، ولكنه كما يراه عزرا ، كان داهية ، لننظر إلى الصورة التي يرسمها له عزرا ، يرد على لسان السارد :
"كان عزرا على يقين أن ساسون مثل أسماك الأنهار الجبلية : أشواك كثيرة ومرونة في الحركة والانتقال ، لكن لا تغادر محيطها ، إذ لو فعلت لن يقدر لها أن تعيش . قد تختفي فترة ، قد تموه نفسها ، لكن لابد أن تظهر حالما تشعر بالأمان"(14) .
اليهودي هنا ، وهو نموذج وليس نمطاً ، يمثل فرداً ولا يمثل جماعة ، لأن الحكم صادر عليه من واحد من أبناء ملته ، اليهودي هنا مؤذ ، ولكنه مرن ، وهو قد يتوارى عن الأنظار إذا ما كان هناك خطر يهدده ، ولكنه يظل مرتبطاً بالمكان الذي نشأ فيه .
ثمة صورة أخرى لساسون ترسمها يهودية ، إنها أيضاً تندرج ضمن تصور الذات اليهودية لذاتها ، كما يتخيل ذلك المؤلف . تقول روجينا عن ساسون :
"مثل ما يحب الفلوس وما يشبع منها ، يحب الكيف : البستة والمقام ، ويموت بيا ليل ويا عين ، أما إذا صاحت مرية بآخر الليل : أوف ، تتلقاه راكع خاشع ، وبعد ما تخلص الأوف يسيل كراعة وينشمر بين زرورها"(15) .
أنه ، حتى من وجهة نظر يهودية ، وإن كانت متخيلة ، يحب المال ، ولكنه يحب الغناء، وإذا ما استبد به الطرب مد يده إلى صدر المرأة . وحب المرأة ليس مقتصراً على ساسون. عزرا أيضاً له علاقات نسائية مع لورا ، ولكن العلاقات النسوية ، داخل النص الروائي ، ليست مقتصرة على اليهود .
تمثل روجينا ، مثل سلطانه ، نموذج المرأة اليهودية ، إنها اليهودية القحبة التي تدير بيت دعارة ، وهي المرأة التي يوظفها اليهود وغير اليهود للتجسس على الآخرين ، إما بالإقناع وإما بالترهيب والملاحقة ، ويجبرها على هذا من يملك القوة أو من يملك المال . وقد تخدم غير جهة. تشهد على الآغا الانكشاري سعيد عليوي ، لصالح داود باشا ، وتغادر في النهاية العراق، مع القنصل البريطاني ، إلى بريطانيا . ويستدل من هذا أنها كانت تتجسس أيضاً لصالح القنصل . ولئن كانت سلطانه رجوان تغني ، وليس في غنائها ما يعيب ، ولهذا يسمح لها العرب المسلمون بدخول بيوتهم لتغني في أفراحهم ، فإن روجينا تدير بيت دعارة ، وهي ، في نظر داود باشا وفي نظر غيره ، ليست أكثر من قواده وقحبة .
لئن كان السارد قدم لنا ، وهو يسرد ، النماذج الروائية وتركها تعبر عن ذاتها وتفصح في هذا عن رأيها في ذاتها وفي الآخرين ، فإن ما يرد على لسانه هو لم يكن يخلو من آراء في اليهود ، وفي غيرهم ، وما يهمنا هنا هو رأيه في اليهود .
تجدر الإشارة ، ابتداءً ، إلى أن السارد في الرواية كلي المعرفة ، ويبدو أحياناً كثيرة سارداً ليبرالياً لا يكتفي بنقل رواية دون غيرها ، إنه ، حين يتعدد القول في حادثة ، يورد الأقوال العديدة ، ولعل الأهم من هذا هو السؤال إن كان السارد شخصاً آخر غير عبد الرحمن منيف . ولا تقول لنا الرواية شيئاً عن هذا . فنحن لا نعرف للسارد خصائص وصفات تميزه عن عبد الرحمن منيف ، ولكننا ، في الوقت نفسه ، لا نستطيع أن نثبت أنه منيف نفسه . قد نستطيع أن نطابق بينه وبين منيف ، وقد نستطيع القول إنهما ليسا شخصاً واحداً ، ونعتمد في رأينا الأخير على أن السارد كان شاهداً على أحداث الزمن الروائي ، خلافاً لمنيف الذي ولد في القرن العشرين . وأياً كان الأمر فإن ما يهمنا هو تصور السارد لليهود ، وبعد ذلك يمكن التساؤل إن كان هذا التصور هو تصور منيف نفسه ، ولإثبات هذا قد يحتاج المرء إلى سؤال منيف عن رأيه في اليهود ، يرد على لسان السارد ما يلي :
"كيف يعجز أبو سارة عن قراءة مجرد رسالة عادية لإنسان فقير مثل حسون ؟ ألا يجوز أن يكون فيها أمر يخشاه ، ولا يريد أن يكون شاهداً أو ترجماناً ، كعادة اليهود الذين يرفضون أن يكونوا طرفاً في مشاكل … قد تؤثر على تجارتهم"(16) .
ويفهم من هذا أن السارد يرى أن اليهود يراعون أول ما يراعون مصالحهم التجارية ، وما يدعم هذا ما يرد في الرواية على لسان حسقيل بن عزرا :(/5)
"لا أهتم بالسياسة إلا بقدر تأثيرها على الأوضاع الاقتصادية والمالية ، عدا ذلك لا تعني لي السياسة شيئاً ، ولا أحب أن أصدع رأسي بخصومات هؤلاء"(17) .ويفهم من أقوال السارد أيضاً أن اليهود بخلاء ، ولا يراعون عادات العرب وتقاليدهم فيما يمس الضيف . يذهب الأسطة عواد إلى أبو سارة لكي يقرأ له هذا الرسالة التي وردت إلى حسون ، ولا يطلب أبو سارة للأسطة شايا أو قهوة ، لنصغي إلى كلام السارد :
"وكيف أن جاكي لم يفطن ، أو لم يفكر ، بأن يأمر له باستكان شاي ، رغم أن قهوة ابن زبيبة على بعد خطوتين ، وأن صانع القهوة مر عدة مرات ، وأطل برأسه وسأل ما إذا يأمره أبو سارة بأي شيء"(18) .
والسارد الذي يراقب سلوك شخوصه ويرصد حركاتهم وأقوالهم يرصد أيضاً انعكاس الأحداث على ملامحهم ، ومن خلال هذا نلحظ أنه يلحظ أن اليهود يتمسكنون . لكأن اليهودي ذليل يميل إلى التمسكن حين لا يقوى على ما لا يريد . حين يأمر الباشا عزرا ويطلب منه شيئاً لا يرضى عزرا عنه يتكلم الأخير بمسكنة . ويتكرر هذا غير مرة . لنقرأ الفقرتين التاليتين للسارد :
"صمت عزرا ، فقد أحس أن موجة من الغضب تسيطر على الباشا ، لأن الكلمات خرجت من بين أسنانه ، وهو يعرف ماذا يمكن أن يترتب إذا واصل بهذه الطريقة . قال بمسكنة:"(19)
"لكن الباشا هز رأسه بعدم اهتمام ، وكأنه يعتبر ريتش مسؤولاً ، فرد عزرا بمسكنة .."(20)
كلام السارد يفصح لنا أيضاً عن رأي في المرأة اليهودية . يأتي السارد على زيارة الآغا سعيد عليوي إلى بيت روجينا ، ويصف لنا تصرفات روجينا ، ومما يقوله السارد :
"كانت روجينا في بعض الليالي تتكلم بطريقة لا تخلو من دلع ، إذا تعتمد أن تكون قريبة جداً من الآغا ، وحين لا تكفي الكلمات للتعبير عما تريد كانت تميل عليه ، تنكزه بكتفها كوسيلة إضافية في الإقناع"(21) .
لكأن السارد هنا مقتنع بفكرة تسخير اليهودية جسدها لتحقيق ما تتطلع إليه أو ما يطلبه الآخرون منها ، ومما يعرفه السارد عن اليهود أنهم يحتفظون بالكثير من التحف النادرة ، وأنهم لا يمانعون ببيعها إذا تلقوا مقابلها مالاً مجزياً وهذا المقابل يتفاوت تبعاً للمشتري ومدى حماسته ورغبته بالتحفة ، والعادة أن تكون معروضة للبيع وغير معروضة في نفس الوقت"(22).
تفصح الرواية عن أطراف أخرى تبدي رأيها في اليهود ، وهي أطراف عديدة تختلف ثقافياً وعرقياً أيضاً ، هناك المسيحي الإنجليزي ، وهناك الحاكم في العراق الذي ولد لأم مسيحية وأسلم وغدا مسلماً ورعاً تقياً ، وهو داود باشا الحاكم المثقف ، وهناك عامة الناس من سكان بغداد .
يطلب حامد ، وهو ضابط من ضباط الآغا ، شهادة من ضابط القلم في القلعة واسمه مزاحم ، فيتردد الأخير في إصدارها لأنه مسؤول عما يصدر عنه من أوراق ويخشى من العواقب، وحين يصر مزاحم على رأيه ، يقول له حامد :
"- دفاترك صارت مثل دفاتر اليهود ما تنفتح إلا وقت الإفلاس ، فحرام إذا انفتحت نوبة بالسنة ونقشت منها شهادة حسن سلوك"(23) .
اليهود هنا ، كما يلاحظ ، مضرب مثل لأن لهم سلوكاً خاصاً بهم .
ويأتي السارد على حديث ذنون _ وذنون فنان عراقي من سكان بغداد _ عن بطرس يعقوب الذي ساعد الإنجليز في استخراج الذهب والفضة والتماثيل من الأرض ، ويختم ذنون حديثه بالقول :
"وما كفاه هذا ، صار يفتر الولاية من أولها لتاليها ، مثل يهودي أبو بيع ، منّو عنده حاجات قديمة للبيع ، منّو لقي أصنام دفنها الكفار حتى نخلص ديرة الإسلام منها … ما خلّى شيء إلا وقال للإنجليز : تعالوا ، خذوا ، شيلوا .."(24) .
ويفهم من الكلام المقتبس ، أن هناك مهناً يمارسها اليهود ، وهي شراء الأشياء القديمة ، ومنها التحف ، ويفهم منه أيضاً أنهم يبيعون كل شيء .
ويخاف اليهود من الخسارة ، وتنعكس على ملامحهم بوضوح . يرد على لسان الأسطة عواد ، وهو من عامة الشعب ، ما يلي :
"-إذا شفت اليهودي مدلغم وما يضحك لخبز التنور ، فاعرف أنه خايف ، وخوفه من الخسارة اللي صارت أو من الخسارة اللي راح تصير ، والشريف بينهم ماكل الأخضر واليابس"(25) .
أما البريطاني (ريتش) ، وهو قنصل بريطانيا في العراق في حينه ، فيقصر دور اليهود في الأحداث على المال . إنه يربط بينهم وبين المال ، فإذا كان الآخرون يشاركون في الأحداث ، وتكون مشاركتهم في السياسة ، فإن اليهود أيضاً يشاركون ، ولكن دورهم يقتصر على المال . لنقرأ ما يقوله ريتش لحسقيل :
"التغيير ، لكي يحصل ، يحتاج إلى إمكانيات ، وهذه لا توفرها إلا الأموال ، ومن أجل تأمين تلك الأموال ، لابد من الاتفاق على صيغة بين الدولة والذين يملكون المال ، وهنا يأتي دوركم"(26) .
وهذا قد يذكر قارئ (شكسبير) بـ (شيلوك) و (أنطونيو) المسيحي الذي كان يقترض المال من الأول ، فهل كان (ريتش) قارئاً جيداً لـ (شكسبير) ؟(/6)
وإذا ما تتبعنا أقوال داود باشا الذي يوظف عزرا في منصب صراف باشي ، فهمنا أنه يرى اليهود حريصين على المال ، وأن حبهم المال يسري في دمهم ، حين يتردد نادر أفندي ، وهو موظف لدى عزرا ، في إنفاق المال بأريحية ويبدو حريصاً عليه ، يعقب داود باشا :
"- هذا الأثول ، نادر أفندي ، لابد يكون به عرق يهودي ، لأن مثل هذا المرض موشغلة عادة تعودها ، هذا شيء يسري بالدم"(27) .
حتى نادر أفندي هذا يميز بين اليهود وغيرهم في علاقة اليهود وغير اليهود بالمال . يطلب داود باشا ومعاونوه من نادر أن يعطي المال لشيوخ القبائل البدو ، فيستاء من هذا لأن هؤلاء لا يعرفون المال كما يعرفه اليهود الذين له دراية وخبرة به . يرد على لسان نادر :
"اليهودي ، الفلوس ، وهي جوا الكيس ، بالظلمة ، ما يمد الإبهام والسبابة ويلمسها ، يطخ بها ، إلا ويعرفها ، ويعرف شنو يطلع وشوكت ، أما هذول البدو …"(28) .
وتتكرر العبارات التي تصف اليهود بحب المال مراراً ، من ذلك مثلاً ما ورد على لسان سيفو وهو يبدي رأيه في ص 462 من الجزء الأول في الملا حمادي :
"ملا حمادي حيال ، ما يعرف الحلال من الحرام ، الفلس ربه ومعبوده ، مثل اليهود ، أكثر من اليهود "
هذه هي صورة اليهود من خلال النماذج المصورة ومن خلال المتخيل السردي والشعبي والرسمي والإنجليزي ، ولكن ثمة ملاحظة تجدر الكتابة عنها . يريد نسيم بن ساسون أن يتزوج من زكية بنت سلطانه ، ولكنه يشترط عليها أن لا تمارس الغناء والرقص وتوافق هي على شرطه ، علماً بأن أمها مغنية وراقصة . ولهذا دلالته إذ تبرز الرواية نموذجاً يهودياً عربياً يتأثر بالبيئة والمحيط ويبدو محافظاً لا يقبل أن تمارس زوجته مهنة ترى فيها أغلبية الناس مهنة غير مقبولة ، وإن كانت تتقبلها من غيرها . وهكذا لا يكون اليهود في الرواية على شاكلة روجنيا وسلطانة : بغايا وجواسيس ومغنيين وراقصات ، ولا يكونون أيضاً قوادين ولا يكترثون للعرض . ثمة محافظون يرفضون التحرر والانفتاح والمهن غير المقبولة من المحيط(29) .
الخلاصة
لم تختلف صورة اليهود في "أرض السواد" اختلافاً جذرياً عن الصورة التي عرفتها الآداب العالمية والعربية قبل القرن التاسع عشر : اليهود تجار يحبون المال حباً جماً لدرجة أنه يغدو معبودهم ويصبحون في هذا مضرب مثل ، والمال الذي يمتلكونه يجعل الآخرين في حاجة إليهم ، وهذا قد يجر عليهم الخراب ، ولكن قد يؤهلهم لاحتلال مناصب بارزة . والمرآة اليهودية في الرواية بغي وجاسوسة وتمارس مهناً ، مثل الرقص والغناء ، وهذا التصور ربما يذكرنا بعبارة "فراخ الزنا" التي وردت في قصيدة أبي اسحق الالبيري ، وإن كان منيف لم يعمم وأشار إلى يهود محافظين .
ويلاحظ أن عبد الرحمن منيف لم يسقط على يهود العراق في حينه – أي ما بين 1802-1821 وهو الزمن الروائي كما لاحظنا – تصورات أخرى أبرزتها لهم النصوص الأدبية العالمية والعربية التي كتبت بعد هذا التاريخ . ويبدو أن الكاتب ، ظل وهو يكتب نصه ، أسير الصورة التي عرفت عن اليهود حتى ذلك الزمن .
تاريخ إنجاز الدراسة
29/7/2002
(1) عبد الرحمن منيف ، أرض السواد ، بيروت ، 1999 .
(2) حول الرواية انظر : ماهر جرار ، أرض السواد وخضار السرد ، قراءة أولى في رواية عبد الرحمن منيف ، مجلة الطريق اللبنانية ، ع4، سنة 2000م ، ص129-ص158 .
(3) حول صورة اليهود في الأدب العالمي ، وغالباً الغربي ، انظر : Horst S.und Ingrid Daemmrich في كتابيهما :
Themen und Motive in der literatur وقد صدر الكتاب في مدينة (توبنغن) في ألمانيا في عام 1987 . انظر ص191 وما بعدها والكتابة عن صورة اليهود في الأدب العالمي منتزعة من هناك مع بعض التصرف ، إذ هي ليست ترجمة حرفية .
(4) صدرت الطبعة الأولى من كتاب كنفاني عام 1966 ، وصدرت الطبعة الأولى من كتاب بسيسو في عام 1970 ، وكلاهما قرأ الأعمال الأدبية المكتوبة بالإنجليزية أو المنقولة من العبرية إليها .
(5) حول ذلك انظر : عادل الأسطة : اليهود في الأدب الفلسطيني بين 1913 و 1987 ، القدس ، 1992 . ص24 وما بعدها .
(6) حول صورة اليهود في القرآن الكريم انظر دراسة رشاد عبد الله الشامي ، رؤية مصرية لصورة اليهود في أدب إحسان عبد القدوس، وقد ظهرت الدراسة في كتاب خاص في عام 1992 ، كما ظهرت في كتاب : "صورة الآخر : العربي ناظراً ومنظوراً إليه ، من تحرير الطاهر لبيب ، بيروت ، 1999 ، وانظر ص850 و851 و852 من هذا الكتاب – أي الكتاب الذي حرره لبيب . وانظر : محمد نور الدين آفاية ، الغرب المتخيل ، بيروت ، 2000 / ص58 وما بعدها .
(7) اعتمد في قراءة هذا النص على كتاب أنيس المقدسي ، أمراء الشعر العربي في العصر العباسي ، بيروت ، 1977 ، ط11 ، ص135.
(8) انظر ديوان أبي الطيب المتنبي ، وتحديداً القصيدة التي مطلعها :
كم قتيل ، كما قتلت ، شهيدٍ
... ... ببياض الطُلى وورد الحدود
...(/7)
وهي قصيدة قالها في صباه . (ط بيروت ، 1978 ، ص319)
(9) اعتمد هنا على دراسة ورد محمدي مكاري ، الملامح القصصية في كتاب الإمتاع والمؤانسة ، انظر مجلة جذور السعودية ، ع3 ، آذار 2000 ن ص260 .
(10) السابق ، ص260 .
(11) انظر دراسة محمد بن عبد الرحمن الهدلق ، قصيدة أبي اسحق الإلبيري إلى باديس بن حبوس الصنهاجي : دوافعها وتأثيرها على أهل غرناطة ، مجلة جذور السعودية ، ع2 ، أيلول 1999 ، ص90-ص106 ، والقصيدة ملحقة بالدراسة ، والأبيات منتزعة منها.
(12) هناك العديد من الدراسات التي أنجزت حول صورة اليهود في الأدب العربي ، وقد أوردتها في دراستي "اليهود في الأدب الفلسطيني بين 1913 و 1987 . مرجع سبق ذكره .
(13) منيف ، أرض السواد ، ج1 ، ص83 .
(14) السابق ، 1 ، 196 .
(15) السابق ، 1 ، 201 .
(16) السابق ، 2 ، 124 .
(17) السابق ، 3 ، 56 .
(18) السابق ، 2 ، 125 .
(19) السابق ، 3 ، 243 .
(20) السابق ، 3 ، 247 .
(21) السابق ، 2 ، 204 .
(22) السابق ، 2 ، 344 .
(23) السابق ، 2 ، 222 .
(24) السابق ، 2 ، 380 .
(25) السابق ، 3 ، 217 .
(26) السابق ، 3 ، 57 .
(27) السابق ، 3 ، 66 .
(28) السابق ، 3 ، 109 .
(29) السابق ، 1 ، 192(/8)
اليهود كما ذكرهم القرآن
1556
أديان وفرق ومذاهب
أديان
مشبب بن فهد القحطاني
الظهران
عباد الرحمن
ملخص الخطبة
1- ضرورة دراسة اليهود ونفسياتهم وأخلاقياتهم كما ذكرها لنا القرآن الكريم. 2- تحذير الله لنا من سنن أهل الكتاب وقبائحهم. 3- قلة أدب اليهود مع الله عز وجل. 4- قلة أدب اليهود مع الأنبياء. 5- دور اليهود في الإضلال والإفساد. 6- نقض اليهود للعهود والمواثيق.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون: نعيش هذه الأيام ضجة إعلامية حول ما يسمى بالانتفاضة، والتي أثارها اليهود بدخولهم إلى ساحة المسجد الأقصى، وقد تفاعل العالمُ مع هذه الحادثة، وتكلم المتكلمون بشتى أنواع التنديد والشجب والاستنكار.
وبعد فترة سيهدأ الجميعُ، وكأن شيئا لم يكن، وسيستمر المخطط اليهودي يمضي في تحقيق طموحاتهم حتى تحينُ اللحظة الحاسمة.. والتي يعود فيها المسلمون إلى دينهم الحق، ويرفعوا راية الجهاد ضد أعداء الله.
عندها تقف تلك المهازلُ التي تخرج علينا يوما بعد يوم، ويهزم الجبناء، ويطهر الأقصى، وتعود رايةُ التوحيد خفاقة كما كانت ،بإذن الله تبارك وتعالى..
أيها الأخوة: لقد كان الحديث في الفترة الماضية عن الجهاد وكيفية الإعداد له، وبعضِ طرق الأعداء التي حصرت الجهاد في مسائل محددة، وأضعفت أثره في النفوس.
أما حديثنا في هذا اليوم فسيكون بإذن الله عن أهمّ أعدائنا على الساحة الدولية وهم اليهود.. وسنبدأ هذه السلسة بذكر بعض صفات اليهود الذين أثاروا تلك المشكلة وغيرها، وسنعتمد على في ذلك على ما ورد في كتاب الله عز وجل العالِم ُبنفسياتهم وتفكيرهم، والعالمُ بماضيهم ومستقبلهم.
أيها الإخوة نذكر بهذا الموضوع لعدة أسباب من أهمها ما يلي:
الأول: لكي نحذر من الوقوع في تلك الصفات الممقوتة.. حتى لا يحصل لنا ما حصل لهم.. .من الغضب والذل والمهانة والطرد والإبعاد من رحمة الله.
الثاني: لكي نعرف واقع أولئك القوم، فلا نصدقهم ولا نهادنهم ولا نتعاون معهم بأي حال من الأحوال.
إخوة الإيمان: لقد أمرنا الله تعالى بالحذر والابتعاد عن صفات أهل الكتاب بشكل عام، واليهودِ بشكل خاص. كما أمرنا بمخالفتهم في أشياء كثيرة... ومما يدل على ذلك أمر ه تعالى لنا بأن ندعوه في كل ركعةٍ من صلاتنا بأن يبعدنا عن طريق اليهود والنصارى. ومن سار على نهجهم.. أمرنا أن نقول اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ . ثم نقول بعد ذلك آمين.. نرفع بها أصواتنا...وترتج المساجدُ بأصوات الموحدين، معلنين البراءة من اليهود المغضوب عليهم ومن النصارى الضالين.
إن قولنا (آمين) في نهاية الفاتحة له معان عظيمةٍ يجهلها بعَضُ المسلمين. فينبغي.. أن نعيد النظر في معناها.. وأن نخرجها من قلب صادق مخلص لربه عز وجل.
كما حذرنا الله من قسوة القلب التي يتصف بها أهل الكتاب ومنهم اليهود فقال سبحانه أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ
ونهانا عن التفرقِ والاختلاف الذي حل بهم فقال جل وعلا: و لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.. وبشكل عام فنحن مأمورون بالحذر من أخلاقهم، والتشبه بهم في الأقوال والأفعال والمعتقدات.
وحتى نحذر من الوقوع في صفاتهم، فلعله من المناسب أن نستعرض بعض تلك الصفات الذميمة الممقوتة والتي منها ما يلي:
أولا: قلة أدبِهم مع الله عز وجل ومع ورسله صلوات ربي وسلامه عليهم: فاليهود يعتبرون من أقل الناس أدبا مع الله تعالى ومع رسله صلوات ربي وسلامه عليهم
فمن أمثلة قلة أدبهم مع الله عز وجل.. قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء وقولهم: عزير ابن الله وقولهم يد الله مغلولة والجواب غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وقالوا أيضاً: سمعنا وعصينا.
ومن قلة أدبهم مع ربهم أيضاً أنهم قالوا لموسى عليه السلام أرنا الله جهرة..ولم يكتفوا بهذا كله بل ألفوا الكتب على حسب أهوائهم، وقالوا هذا كلام اللِه ومن عنده... يقول تعالى مبينا هذا الواقع فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ هذا غيض من فيض من أمثلة قلة أدبهم وعدم احترامهم لله عز وجل.. الذي أنعم عليهم بنعم لا تعد ولا تحصى، وفضلهم على العالمين في وقتهم.(/1)
أما قلةِ أدبهم مع الأنبياء والمرسلين فأكثر من أن يحصى ،فلقد آذوا موسى بشتى أصناف الأذى، مع علمهم بأنه رسول من الله إليهم مما جعل موسى عليه السلام يستنكر هذا الأسلوب القبيح فقال الله تعالى حكاية عنه وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ولذلك حذرنا الله من فعلهم فقال سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا. أما أذيتهم لعيسى فكثير أيضا، وقد بلغ بهم الحال أن حاولوا صلبه لكن الله تعالى نجاه منهم.. كما قال تعالى مقرراً اعترافهم بذلك: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا.
أما أذاهم للأنبياء صلى الله عليهم وسلم.. فيقول عنه سبحانه: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ.
أيها الأخوة في الله: إن أناسا هذا طبعهم: قلةُ أدب مع الله ومع ورسله.. وقتلٌ لأفضل خلق الله.. ثم يطمع عاقل منهم أن يحترموه ويقدروه ؟ ويحسنوا علاقتهم به ويكفوا أذاهم عنه.. إن هذا ضرب من المستحيل ،وجهل بالدين.
ومن صفات اليهود المتأصلة في نفوسهم فعلُ المنكرات وعدمُ النهي عنها، ولذلك لعنهم الله تعالى بقوله لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ
بل إن اليهود لم يكتفوا بفعل المنكرات، بل شجعوا عليها حتى لو أدى ذلك إلى أن يدفعوا من أموالهم ما يوفرها ويزينها للناس.. قال تعالى مبينا حالهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وكما هو معلوم أن هذه الآية نزلت في اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.. وهذه الرغبة في إفساد الناس، موجودة عند يهود اليوم. فالناظر إلى كبرى البنوك الربوية، ودور السينما ،ومصانع إنتاج الخمور والمخدرات وشركات التدخين وبيوت الأزياء وشبكات الجنس والمنظمات السرية وغيرها، نجد أن اليهود من ورائها.
وهذه الصفة الذميمة توعد الله أصحابها بقوله إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.. لذلك نحذر من تقليد اليهود في هذه الصفة فلا نحاول أن ننشر الفساد بين المسلمين سواء عن طريق البيع أو التشجيع أو السكوتِ على المنكر.. فلا نبع ولا نشتري المجلاتِ المنحرفة ،ولا الأفلامِ المحرمة، ولانبع ولا نشتري الدخان أو أجهزة اللهو الجالبة للفتنة.. ولا أيَّ شيء يفسد الأمة..فلنحذر من هذا الخلق الذي يتحلى به بعض المسلمين رغبة في جمع المال... فلا بارك الله في مال يُعذب به صاحبُه في الدنيا والآخرة.
إخوة الإيمان: أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إله الأولين والآخرين. وصلى الله وسلم على سيد ولد أدم أجمعين.. نبينا محمد وعلى آل وصحبه أجمعين.
أما بعد:(/2)
أيها المسلمون: ومن أشهر صفات اليهود نقضهم للعهد والميثاق: فلقد نقضوا عهدهم مع الله ومع رسله في أكثر ِمن موضع.. وقد سطر الله ذلك في كتابه فقال سبحانه: أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ويقول سبحانه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.. حصل هذا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء الإسلام وقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعاهدهم نقضوا العهد أكثر من مرة.. وتآمروا مع القبائل الكافرة ضد المسلمين.. حتى انتقم الله منهم وأخزاهم.
أيها الإخوة: إذا كان هذا دأبهم مع الله ومع رسله فكيف بغيرهم؟ لاشك أن غيرهم من باب أولى.. لذا ينبغي على المسلم عدم تصديقهم مهما أعطوا من عهود ومواثيق.. خصوصا أنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين كما أخبر بذلك المولى سبحانه وتعالى فقال: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا كما أن المسلم يحذر من السير على منوالهم، فلا ينقض العهد والميثاق مهما كانت الأحوال.. استجابة لأمر الله تعالى حيث يقول: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون.
وأخيرا أيها الإخوة: هذا ما تيسر من ذكر أخلاق اليهود. ولعلنا في الجمعة القادمة نكمل ما بقي منها.. أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يعيننا على أنفسنا وعلى الشيطان. كما أساله تعالى أن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر وا(/3)
اليهود كما ذكرهم القرآن
مشبب بن فهد القحطاني
الظهران
عباد الرحمن
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ضرورة دراسة اليهود ونفسياتهم وأخلاقياتهم كما ذكرها لنا القرآن الكريم. 2- تحذير الله لنا من سنن أهل الكتاب وقبائحهم. 3- قلة أدب اليهود مع الله عز وجل. 4- قلة أدب اليهود مع الأنبياء. 5- دور اليهود في الإضلال والإفساد. 6- نقض اليهود للعهود والمواثيق.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون: نعيش هذه الأيام ضجة إعلامية حول ما يسمى بالانتفاضة، والتي أثارها اليهود بدخولهم إلى ساحة المسجد الأقصى، وقد تفاعل العالمُ مع هذه الحادثة، وتكلم المتكلمون بشتى أنواع التنديد والشجب والاستنكار.
وبعد فترة سيهدأ الجميعُ، وكأن شيئا لم يكن، وسيستمر المخطط اليهودي يمضي في تحقيق طموحاتهم حتى تحينُ اللحظة الحاسمة.. والتي يعود فيها المسلمون إلى دينهم الحق، ويرفعوا راية الجهاد ضد أعداء الله.
عندها تقف تلك المهازلُ التي تخرج علينا يوما بعد يوم، ويهزم الجبناء، ويطهر الأقصى، وتعود رايةُ التوحيد خفاقة كما كانت ،بإذن الله تبارك وتعالى..
أيها الأخوة: لقد كان الحديث في الفترة الماضية عن الجهاد وكيفية الإعداد له، وبعضِ طرق الأعداء التي حصرت الجهاد في مسائل محددة، وأضعفت أثره في النفوس.
أما حديثنا في هذا اليوم فسيكون بإذن الله عن أهمّ أعدائنا على الساحة الدولية وهم اليهود.. وسنبدأ هذه السلسة بذكر بعض صفات اليهود الذين أثاروا تلك المشكلة وغيرها، وسنعتمد على في ذلك على ما ورد في كتاب الله عز وجل العالِم ُبنفسياتهم وتفكيرهم، والعالمُ بماضيهم ومستقبلهم.
أيها الإخوة نذكر بهذا الموضوع لعدة أسباب من أهمها ما يلي:
الأول: لكي نحذر من الوقوع في تلك الصفات الممقوتة.. حتى لا يحصل لنا ما حصل لهم.. .من الغضب والذل والمهانة والطرد والإبعاد من رحمة الله.
الثاني: لكي نعرف واقع أولئك القوم، فلا نصدقهم ولا نهادنهم ولا نتعاون معهم بأي حال من الأحوال.
إخوة الإيمان: لقد أمرنا الله تعالى بالحذر والابتعاد عن صفات أهل الكتاب بشكل عام، واليهودِ بشكل خاص. كما أمرنا بمخالفتهم في أشياء كثيرة... ومما يدل على ذلك أمر ه تعالى لنا بأن ندعوه في كل ركعةٍ من صلاتنا بأن يبعدنا عن طريق اليهود والنصارى. ومن سار على نهجهم.. أمرنا أن نقول اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ . ثم نقول بعد ذلك آمين.. نرفع بها أصواتنا...وترتج المساجدُ بأصوات الموحدين، معلنين البراءة من اليهود المغضوب عليهم ومن النصارى الضالين.
إن قولنا (آمين) في نهاية الفاتحة له معان عظيمةٍ يجهلها بعَضُ المسلمين. فينبغي.. أن نعيد النظر في معناها.. وأن نخرجها من قلب صادق مخلص لربه عز وجل.
كما حذرنا الله من قسوة القلب التي يتصف بها أهل الكتاب ومنهم اليهود فقال سبحانه أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ
ونهانا عن التفرقِ والاختلاف الذي حل بهم فقال جل وعلا: و لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.. وبشكل عام فنحن مأمورون بالحذر من أخلاقهم، والتشبه بهم في الأقوال والأفعال والمعتقدات.
وحتى نحذر من الوقوع في صفاتهم، فلعله من المناسب أن نستعرض بعض تلك الصفات الذميمة الممقوتة والتي منها ما يلي:
أولا: قلة أدبِهم مع الله عز وجل ومع ورسله صلوات ربي وسلامه عليهم: فاليهود يعتبرون من أقل الناس أدبا مع الله تعالى ومع رسله صلوات ربي وسلامه عليهم
فمن أمثلة قلة أدبهم مع الله عز وجل.. قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء وقولهم: عزير ابن الله وقولهم يد الله مغلولة والجواب غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وقالوا أيضاً: سمعنا وعصينا.
ومن قلة أدبهم مع ربهم أيضاً أنهم قالوا لموسى عليه السلام أرنا الله جهرة..ولم يكتفوا بهذا كله بل ألفوا الكتب على حسب أهوائهم، وقالوا هذا كلام اللِه ومن عنده... يقول تعالى مبينا هذا الواقع فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ هذا غيض من فيض من أمثلة قلة أدبهم وعدم احترامهم لله عز وجل.. الذي أنعم عليهم بنعم لا تعد ولا تحصى، وفضلهم على العالمين في وقتهم.(/1)
أما قلةِ أدبهم مع الأنبياء والمرسلين فأكثر من أن يحصى ،فلقد آذوا موسى بشتى أصناف الأذى، مع علمهم بأنه رسول من الله إليهم مما جعل موسى عليه السلام يستنكر هذا الأسلوب القبيح فقال الله تعالى حكاية عنه وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ولذلك حذرنا الله من فعلهم فقال سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا. أما أذيتهم لعيسى فكثير أيضا، وقد بلغ بهم الحال أن حاولوا صلبه لكن الله تعالى نجاه منهم.. كما قال تعالى مقرراً اعترافهم بذلك: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا.
أما أذاهم للأنبياء صلى الله عليهم وسلم.. فيقول عنه سبحانه: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ.
أيها الأخوة في الله: إن أناسا هذا طبعهم: قلةُ أدب مع الله ومع ورسله.. وقتلٌ لأفضل خلق الله.. ثم يطمع عاقل منهم أن يحترموه ويقدروه ؟ ويحسنوا علاقتهم به ويكفوا أذاهم عنه.. إن هذا ضرب من المستحيل ،وجهل بالدين.
ومن صفات اليهود المتأصلة في نفوسهم فعلُ المنكرات وعدمُ النهي عنها، ولذلك لعنهم الله تعالى بقوله لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ
بل إن اليهود لم يكتفوا بفعل المنكرات، بل شجعوا عليها حتى لو أدى ذلك إلى أن يدفعوا من أموالهم ما يوفرها ويزينها للناس.. قال تعالى مبينا حالهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وكما هو معلوم أن هذه الآية نزلت في اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.. وهذه الرغبة في إفساد الناس، موجودة عند يهود اليوم. فالناظر إلى كبرى البنوك الربوية، ودور السينما ،ومصانع إنتاج الخمور والمخدرات وشركات التدخين وبيوت الأزياء وشبكات الجنس والمنظمات السرية وغيرها، نجد أن اليهود من ورائها.
وهذه الصفة الذميمة توعد الله أصحابها بقوله إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.. لذلك نحذر من تقليد اليهود في هذه الصفة فلا نحاول أن ننشر الفساد بين المسلمين سواء عن طريق البيع أو التشجيع أو السكوتِ على المنكر.. فلا نبع ولا نشتري المجلاتِ المنحرفة ،ولا الأفلامِ المحرمة، ولانبع ولا نشتري الدخان أو أجهزة اللهو الجالبة للفتنة.. ولا أيَّ شيء يفسد الأمة..فلنحذر من هذا الخلق الذي يتحلى به بعض المسلمين رغبة في جمع المال... فلا بارك الله في مال يُعذب به صاحبُه في الدنيا والآخرة.
إخوة الإيمان: أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إله الأولين والآخرين. وصلى الله وسلم على سيد ولد أدم أجمعين.. نبينا محمد وعلى آل وصحبه أجمعين.
أما بعد:(/2)
أيها المسلمون: ومن أشهر صفات اليهود نقضهم للعهد والميثاق: فلقد نقضوا عهدهم مع الله ومع رسله في أكثر ِمن موضع.. وقد سطر الله ذلك في كتابه فقال سبحانه: أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ويقول سبحانه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.. حصل هذا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء الإسلام وقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعاهدهم نقضوا العهد أكثر من مرة.. وتآمروا مع القبائل الكافرة ضد المسلمين.. حتى انتقم الله منهم وأخزاهم.
أيها الإخوة: إذا كان هذا دأبهم مع الله ومع رسله فكيف بغيرهم؟ لاشك أن غيرهم من باب أولى.. لذا ينبغي على المسلم عدم تصديقهم مهما أعطوا من عهود ومواثيق.. خصوصا أنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين كما أخبر بذلك المولى سبحانه وتعالى فقال: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا كما أن المسلم يحذر من السير على منوالهم، فلا ينقض العهد والميثاق مهما كانت الأحوال.. استجابة لأمر الله تعالى حيث يقول: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون.
وأخيرا أيها الإخوة: هذا ما تيسر من ذكر أخلاق اليهود. ولعلنا في الجمعة القادمة نكمل ما بقي منها.. أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يعيننا على أنفسنا وعلى الشيطان. كما أساله تعالى أن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(/3)
اليهود والعهود
المقدمة:
الحمد لله الملك العلام، والصلاة والسلام على خير الأنام، ومسك الخاتم، محمد وعلى آله وأصحابه مصابيح الظلام، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المقام.
أما بعد:
فإن بني إسرائيل"يهود" لا يرعون عهداً ولا ذمة، وهذا ما عرف عنهم على مدار التاريخ،وذلك ما جاء توضيحُهُ في الكتاب المبين، وفي سنة سيِّدِ المرسلينَ، ولنذكر بعض آيات القرآن الكريم التي تُوضِّح لنا طبيعة اليهود وتعاملهم مع العهود والمواثيق التي أخذها الله عليهم،والله نسأل أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا،وأن يجعل القرآن حجة لنا لا علينا، وأن يرزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيه عنا. آمين.
الآيات:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ( ) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ( ) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } سورة البقرة: 83-86 .
شرح الآيات:
قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أي اذكروا إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، و"الميثاق" هو: العهد و{إسرائيل} هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام؛ وبنوه: ذريته من ذكور، وإناث، و "بنو إسرائيل" بنو عم للعرب؛ لأن العرب من بني إسماعيل؛ وهؤلاء بنو يعقوب بن إسحاق؛ وجدهم واحد. وهو إبراهيم، وهذا الميثاق الذي أخذه الله عليهم بينه الله بقوله:{لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}. وعلى هذا فالميثاق اشتمل على الأمورِ التَّاليةِ:
الأول: أن لا يعبدوا إلا الله؛ لقوله: {لا تعبدون إلا الله}؛ و "العبادة" معناها: الذل، والخضوع؛ مأخوذة من قولهم طريق معبَّد. أي مذلَّل.
الثاني: الإحسان إلى الوالدين؛ لقوله: {وبالوالدين إحساناً} أي أحسنوا إلى الوالدين إحساناً؛ وهو شامل للإحسان بالقول، والفعل، والمال، والجاه، وجميع طرق الإحسان. والمراد بـ "الوالدين" الأب، والأم، والأباعد لهم حق؛ لكن ليسوا كحق الأب، والأم الأدنيين، ولهذا اختلف إرثُهم، واختلف ما يجبُ لهم في بقيةِ الحقوقِ.
الثالث: الإحسان إلى القرابة؛ لقوله:{وذي القربى}؛ وهي معطوفة على قولِهِ: {بالوالدين}؛والمعنى: وإحساناً بذي القربى؛ و{ذي} بمعنى صاحب؛و{القربى} بمعنى القرابة؛ويشمل: القرابة من قِبَلِ الأم؛ والقرابة من قِبَلِ الأب؛ لأن {القربى} جاءت بعد "الوالدين" أي القربى من قِبَل الأم، ومن قِبَل الأب.
الرابع: الإحسان إلى اليتامى؛ لقوله: {واليتامى} جمع يتيم، وهو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ من ذكرٍ أو أنثى،وأوصى الله-تعالى-باليتامى؛ لأنه ليس لهم من يُربِّيهم، أو يعولهم؛ فهم محل للرأفة، والرحمة، والرعاية.
الخامس: الإحسان إلى المساكين؛ لقوله: {والمساكين} جمع مسكين، وهو الفقير الذي أسكنه الفقر؛ لأن الإنسان إذا اغتنى-غالباً- فإنه يطغى، ويزداد، ويرتفع، ويعلو-إلا من رحم الله-؛ وإذا كان فقيراً فإنه بالعكس،وهنا يدخل الفقراء مع{المساكين}؛ لأن "الفقراء"، و"المساكين" من الأسماء التي إذا قُرنت افترقت؛ وإذا افترقت اجتمعت؛ فكلمة "الفقراء" إذا كانت وحدها شملت الفقراء، والمساكين؛و"المساكين" إذا كانت وحدها شملت الفقراء، والمساكين؛ وإذا قيل: فقراء ومساكين؛ مثل آية الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} سورة التوبة للفقراء: 60. صار "الفقراء" لها معنى؛ و"المساكين" لها معنى. فلمَّا اجتمعت افترقت؛ فـ"الفقير" من لا يجد شيئاً من الكفاية، أو يجد دون النصف. و"المسكين" من يجد نصف الكفاية دون كمالها- هذا في بعض الأقوال- وقيل غير ذلك.(/1)
السادس: أن يقولوا للناس قولاً حسناً؛ لقوله: {وقولوا للناس حسناً} اختُلف في المراد بالقول الحسن، ولعل أجمع الأقوال أن القول الحسن يشمل: الحسن في هيئته؛وفي معناه، ففي هيئته:أن يكون باللُّطف، واللين، وعدم الغلظة، والشدة، وفي معناه: بأن يكون خيراً؛ لأن كل قولٍ حسنٍ فهو خير؛ وكل قول خير فهو حسن.
السابع: إقامة الصلاة؛ لقوله:{وأقيموا الصلاة} أي ائتوا بها قويمة ليس فيها نقص؛ وذلك بأن يأتوا بها بشروطها، وأركانها، وواجباتها؛ وكمال ذلك أن يأتوا بمستحباتها؛ و{الصلاة} تشمل الفريضة، والنافلة.
الثامن: إيتاء الزكاة؛ لقوله: {وآتوا الزكاة} أي أعطوها مستحقيها؛ و "الزكاة" هي النصيب الذي أوجبه الله لمستحقه في الأموال الزكوية. ومع أن الله أخذ على بني إسرائيل هذه المواثيق والعهود، وبينها لهم، فإنهم تولوا عنها وأعرضوا عنها، وكأنه لم تكن هناك عهود ولا مواثيق، وهذه هي الطبيعة اليهودية أبداً، فقال –تعالى- بعد ذلك: {ثم توليتم إلا قليلاً منكم} التولي هو: ترك الشيء وراء الظهر؛ وهذا أبلغ من الإعراض؛ لأن الإعراض قد يكون بالقلب، أو بالبدن مع عدم استدبار. قوله: {وأنتم معرضون} هذه جملة حالية؛ أي توليتم في إعراض؛ وذلك أن المتولي قد لا يكون عنده إعراض في قلبه، فقد يتولى بالبدن، ولكن قلبه مُتعلِّق بما وراءه؛ ولكن إذا تولى مع الإعراض فإنه لا يُرجى منه أن يُقْبِل بعد ذلك.
قوله:{وإذ أخذنا ميثاقكم} يذَكِّرهم الله-سبحانه وتعالى-بالميثاق الذي أخذه عليهم؛ وبين الله-تعالى- الميثاق هنا بأمرين:
الأول: قوله: {لا تسفكون دماءكم} أي لا تهريقونها. والمراد بسفك الدم: القتل بغير حق.و{دماءكم} أي دماء بعضكم؛ لأن الأمة الواحدة كالجسد الواحد.
الأمر الثاني: قوله:{ولا تخرجون أنفسكم من دياركم}؛ أي لا يُخرج بعضُكم بعضاً من داره؛ والإخراج من الوطن لاشك أنه شاقٌّ على النفوس؛ وربما يكون أشقَّ من القتل.
قوله:{ثم أقررتم وأنتم تشهدون} أي ثم بعد هذا الميثاق بقيتم عليه،وأقررتم به، وشهدتم عليه،ولم يكن الإقرارُ غائباً عنكم، أو منسياً لديكم؛ بعد هذا كله {أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} الخطاب لمن كان في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم-؛ وإنما وجه إليهم؛ لأنهم من الأمة التي فعلت ذلك،ورضوا به.وقوله:{تقتلون أنفسكم} أي يقتل بعضُكم بعضاً؛{وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم} أي تجلونهم عن الديار؛ وهذا ما وقع فعلاً بين طوائف من اليهود قرب بعثة النبي- صلى الله عليه وسلم- حيث قتل بعضُهم بعضاً، وأخرج بعضُهم بعضاً من ديارهم. قوله:{تظاهرون} أي تعالَون؛ لأنَّ الظهور معناه العلوّ؛ كما قال- تعالى-:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} سورة الصف: 9. يعني ليعليه. وقيل:{تظاهرون} أي تعينون من يعتدي على بعضكم في عدوانه.قوله:{بالإثم} أي بالمعصية؛ {والعدوان} أي الاعتداء على الغير بغير حق؛ فكل عدوان معصية؛ وليست كل معصية عدواناً إلا على النفس؛ فالرجل الذي يشرب الخمر عاصٍ، وآثم؛ والرجل الذي يقتل معصوماً آثم، ومعتد؛ والذي يُخرجه من بلده آثم ومعتد؛ ولهذا قال: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان}؛ فهؤلاء بعد ما أخذ عليهم الميثاق مع الإقرار،والشهادة لم يقوموا به؛ أخرجوا أنفسهم من ديارهم، وتظاهروا عليهم بالإثم، والعدوان. قوله: {وإن يأتوكم} أي يجيئون إليكم؛{أسارى} جمع أسير؛ وتجمع أيضاً على أسرى؛ كما في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى} سورة الأنفال: 70. والأسير هو الذي استولى عليه عدوه. و{تفادوهم} أي تفكونهم من الأسر بفداء. قوله: {وهو محرم عليكم إخراجهم} يعني: تفدون المأسورين وهو محرم عليكم إخراجهم من ديارهم؛ فأنتم لم تقوموا بالإيمان بالكتاب كله؛ ولهذا قال مستفهماً استفهاماً استنكارياً توبيخياً: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} ووجه كونهم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض أنهم كفروا بما نهوا عنه من سفك الدماء، وإخراج أنفسهم من ديارهم؛ وآمنوا بفدائهم الأسرى؛ والذي يعبد الله على هذه الطريق لم يعبد الله حقيقة؛وإنما عبد هواه؛ فإذا صار الحكم الشرعي يناسبه قال: آخذ به؛ وإذا كان لا يناسبه راوغ عنه بأنواع التحريف،والتماس الأعذار.قوله: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة} أي ما ثوابكم على عملكم هذا إلا خزي في الحياة الدنيا، وهو الذلُّ والصَّغَار {ويوم القيامة} أي يوم البعث.{يردون إلى أشد العذاب} أي أعظمه {وما الله بغافل} نفى الله-سبحانه وتعالى-عن نفسه صفة الغفلة؛وذلك لكمال علمه، ومراقبته؛ وهذه من الصفات السلبية التي يُنزه الله عنها، و{عما تعملون}.(/2)
قوله: {أولئك} المشار إليهم هؤلاء اليهود الذين نقضوا العهد؛{اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} أي اختاروا الدنيا على الآخرة؛ فالآخرة عندهم مزهود فيها مبيعة؛ والدنيا مرغوب فيها مشتراة.وقوله: {بالآخرة} الباء هنا للبدل؛ وهي تدخل دائماً على الثمن، كقولهم: "اشتريت الثوب بدينار". قوله: {فلا يخفف عنهم العذاب} أي لا يهوَّن عنهم لا زمناً، ولا شدة، ولا قوة؛ {ولا هم ينصرون} أي ولا أحد يمنع عنهم عذاب الله.
بعض فوائد الآيات:
1. أن التوحيد جاءت به الرسل جميعاً؛ لقوله:{لا تعبدون إلا الله}، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}سورة النحل:36.
2. عظم حق الوالدين حيث قرن الله حقهما بتوحيده، وقرن شكره بشكرهما؛ فقال- تعالى-:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}سورة الإسراء: 23. وقال:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} سورة لقمان:14.
3. وجوب الإحسان إلى ذوي القربى،وإلى اليتامى والمساكين،وذلك يشمل الإحسان بالفعل والقول،وترك الإساءة إليهم قولاً أو فعلاً.
4. الحث على التخلق بمكارم الأخلاق، فعلى الإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطاً طلقاً.
5. وجوب إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة على الوجه المطلوب شرعاً.
6. أن بني إسرائيل مع هذا الميثاق الذي أخذه الله عليهم لم يقوموا به إلا القليل منهم.
7. أن بني إسرائيل أُخذ عليهم تحريم قتال بعضهم بعضاً؛ وتحريم إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم، ولكنهم تمردوا وتولوا، ونقضوا المواثيق التي أخذت عليهم، فصار يقتل بعضهم بعضاً، ويخرج بعضهم بعضاً من ديارهم.
8. توبيخ من اختار الدنيا واستحبها وفضلها على الآخرة؛ وهو مع كونه ضلالاً في الدين؛ فإنَّه يدل على سفه في العقل؛ فإنَّ الدنيا متاعها قليل ثم يفنى؛ والآخرة خير وأبقى1. والله أعلم، والحمد لله رب العالمين
________________________________________
1- راجع: " انظر: جامع البيان في تأويل القرآن لمحمد بن جرير الطبري(1/287- 320). ط: دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان. الطبعة الأولى(1421هـ). " و" الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي(1/330- 376). الطبعة الثانية. وتفسير القرآن العظيم " للحافظ ابن كثير(1/79-85). ط: دار الحديث القاهرة. الطبعة السادسة. (1413هـ). مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة. " و" فتح القدير " للشوكاني (1/115- 128). المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. مكة المكرمة. الطبعة الثانية. و" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لابن سعدي(1/55- 59). طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة. (148هـ). و" تفسير ابن عثيمين" المجلد الأول. و" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير " لأبي بكر الجزائري(1/48- 52). الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف(1414هـ)."(/3)
اليوم الآخر
1621
الإيمان
اليوم الآخر
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
ملخص الخطبة
1- الإيمان باليوم الآخر. 2- الحساب يوم القيامة وشهادة الجوارح. 3- المرور على الصراط. 4- دخول الفقراء والأغنياء الجنة. 5- كيفية تحقيق الإيمان باليوم الآخر. 6- يوم القيامة يوم الحسرة والجزاء بالمثل.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله: يقول الله جل وعلا: ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون[الزمر:68-70].
في هذه الآيات ذكرى للإيمان بيوم الله الآخر، للإيمان بيوم الميعاد الذي هو كائن لا محالة، فإن الإيمان بيوم الله الآخر ركن من أركان الإيمان لا يصح إيمان عبد حتى يعلم ويتيقن دون ريب ولا تردد أن ثمة يوماً يرجع فيه الناس إلى الله فيحاسب المحسن والمسيء، فيجازي المحسن بإحسانه ويجازي المسيء بإساءته.
والله جل جلاله قال في هذه الآيات: وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون حين تشرق الأرض بنور الله جل وعلا يضع الله جل وعلا كتاب الناس، كتاب كل أحد، كتابه الذي فيه أعماله، الذي فيه ما عمله من عمل صالح اتبع فيه رسوله وما عمل فيه من طالح عصى فيه أمر الله جل وعلا وأمر رسوله: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً [الإسراء:13-14] وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه يعني ما يطير عنه وما ينفصل عنه من عمل صالح أو غير صالح، فإنه مع المرء يلازمه حتى يخرج له يوم القيامة كتاب يلقاه منشوراً أمامه فيقرره الله جل وعلا بما فيه من العمل: ألم تعمل يا عبدي يوم كذا كذا وكذا؟ ألم تعمل يوم كذا كذا وكذا؟ فيقرر الله جل وعلا عباده بما عملوا من خير ومن شر، فأما المؤمن فهو يقر بذلك وهو يرجو عفو الله، وأما الكفار أو المجادلون فيقولون: يا ربنا أنت الحكم العدل لا نقبل علينا شهيداً إلا من أنفسنا فينطق الله جل وعلا جلودهم وينطق الله جل وعلا سمعهم وأبصارهم وينطق الله جل وعلا جوارحهم بما اكتسبوا وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين[فصلت:21-24].
إنه في ذلك اليوم تنشر الكتب ويعرف المرء عمله فيكون المؤمن فرحاً مسروراً يأخذ كتابه بيمينه، ويكون الكافر أو الفاجر خائفاً وجلاً لا يدري ما يصنع به، وترفع النار فيساق إليها الكفار ورداً، يساقون إليها فيتهافتون فيها تهافت الجراد.
وأما أهل الإيمان فإنهم يتأخرون وكذلك الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً في أمر عصيب وتفصيل في ذلك اليوم حتى تقام الظلمة دون الجسر وينصب الصراط على النار، والأنبياء يقولون وهم على الصراط: اللهم سلم سلم من شدة ما يرون من الهول، وكلٌ لا يهمه إلا نفسه، فإن المرء تهمه نفسه، فيأتي أهل الإيمان يمشون على الصراط بقدر أعمالهم ويرون الصراط ودونه الظلمة لأنهم يعطون نوراً فيعبر بعض أهل الإيمان كالبرق سرعة، وبعضهم يعبره كالراكب، وبعضهم يمشي مشياً، وبعضهم يحبو حبواً، والقلوب خائفة وجلة في أمر عصيب لأن بعده عذاب سرمدي أو نعيم سرمدي.
والناس إذا عبروا على الصراط فمن ناجٍ مُسلم، ومن مكردس في النار، فينقي الله أهل الإيمان في النار إذا لم يشأ أن يغفر لهم، ينقي ما في قلوبهم من الخبث لأن العاصي في قلبه خبث لابد أن يطهر - إن لم يغفر الله له ذلك ويطهره بمنه وكرمه -، فتكون عامة النار للكفار وتكون طبقتها العليا لأهل التوحيد يمكثون فيها زماناً طويلاً، وهم في عذاب شديد، عذاب شديد، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يشفع الشفعاء وتبقى شفاعة رب العالمين إلى آخر ما يحصل من ذلك.(/1)
وإذا جاوز أهل الإيمان القنطرة، إذا جاوزوا الصراط اجتمعوا دون الجنة فتأخر الأغنياء، تأخر الأغنياء عن دخول الجنة بنصف يوم، يعني بخمس مائة سنة، ويدخل الفقراء الجنة أول الأمر لأن حقوق المال عظيمة ولأن حقوق ما آتى الله عباده فيها أمر شديد وفيها حساب، فيؤخر الأغنياء حتى يُعطى الناس منهم حقوقهم، وعند ذلك يحصل بلوغ المنازل لهم ثم يدخل أولئك الأغنياء، يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمس مائة عام وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون[الحج:47]، ثم يدخل أهل الجنة الجنة، ودرجاتهم متفاوتة، وإن منهم لمن يتراءى درجة إخوانه كما نرى اليوم الكوكب الدري الغابر في السماء، نرى بصيص نوره ولا نرى ما فيه لأجل شدة ارتفاعه، وإن من الناس من هم مع الأنبياء ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ذلك الفضل من الله [النساء:69-70].
أيها المؤمن: إن الإيمان باليوم الآخر لابد أن نتيقنه، وما يحصل فيه يجب أن يكون في قلوبنا من غير شك ولا مرية، نرى الجنة أمامنا دائماً لا تغيب عنا، ونرى النار بهولها وعذابها وما فيها، نراها دائماً لا تغيب عنا، وهذه العقيدة، وهذا الإيمان يثمر في قلب المؤمن الرجاء في أن يكون من أهل الجنة فيحمله رجاؤه على طاعة الله وعلى خوف الله وعلى أن يأتي ما لم يأذن به الله جل وعلا، فترى الذي يخاف الدار الآخرة مراقباً لنفسه فيأتي الواجبات مسرعاً مطيعاً من الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكذلك ما أمر الله به من أداء الأمانة، وكذلك ما أمر الله به من العدل في الناس، وكذلك ما أمر الله جل وعلا به من أنواع الأوامر في التعامل مع النفس ومع الأهل في البيت ومع المسلمين ومع غير المسلمين.
إن لله في ذلك كله أوامر فيرى المؤمن الذي يرى أمامه الجنة والنار، يرى أمامه تطاير الصحف ويرى أمامه الميزان والصراط وذلك الهول مما سمع في القرآن والسنة، يرى أن نفسه لابد أن يلزمها بتقوى الله، والمؤمن الذي يعي ذلك فيجد نفسه عظيمٌ عليها أن يخالف أمر الله جل وعلا، يرى نفسه عظيمٌ عليها أن تخالف الحق أو أن تأتي الباطل، إن الاعتقاد بهذه النار وبوجودها وبأنه يدخلها الكفار وبأنه يدخلها العصاة إن لم يغفر الله لهم - وذلك في حق غير التائبين -، إن لم يشأ الله مغفرته لهم فإنهم يعذبون في ذلك، وعذاب النار من يصبر عليه.
ويتذكر المؤمن أن من أولئك الذين يعذبون من يقول الكلمة لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في النار سبعين خريفاً، يلقي الرجل الكلمة وتلقي المرأة الكلمة لا تلقي لها بالاً تظن أنها سهلة وهي تهوي بها في النار سبعين خريفاً، وقد جاء أن من الناس من يقرب من الجنة فيلقي كلمة، يتكلم بكلمة لا يدري ما فيها يتباعد كما جاء في الأثر عن الجنة كبعد صنعاء عن المدينة، وهذا من شدة أثر الكلام لأنه نوع من أنواع ما يحاسب به العبد.
كذلك أعمال القلوب من الصالحات كالإيمان والتوكل والرغبة فيما عند الله وخشية الله والبكاء من خشية الله وكتعلق القلب بالله وبأوامره هذا يؤجر عليه فيسعى المؤمن إليه، وأعمال القلوب المحرمة يراها من الكبر وسوء الظن والمسلمين من غير حجة، وكذلك من أنواع الإعجاب بالنفس وتزكية النفس ونحو ذلك من أعمال القلوب المحرمة يراها تعظم عليه، وقد قال بعض أهل العلم: رب طالح كان أعظم عند الله من فاعل طاعة، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: ذاك عمل بمعصية فلم تزل في قلبه عظيمة يتعاظمها في حق الله حتى يغفر الله له، وذلك صالح عمل بطاعة فما زال يتعاظم فعله ويعجبه ذلك ويتكبر به ولا يجل من ربه ويخاف منه حتى يحبط الله عمله.
فالأمر - أيها المؤمن لأنك مؤمن بالآخرة - الأمر خطير، والناس في غفلاتهم، وأعظم ما يعاقب به القلب أن يكون غافلاً لا يتذكر الجنة ولا يتذكر النار، لا يتذكر اليوم الآخر، تذكر قول الله جل وعلا: وجيء بالنبيين والشهداء [الزمر:69] يشهد النبيون والشهداء أنه قد أقيمت الحجة على عباد الله كما قال الله سبحانه: فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين[الأعراف:6] يسأل الله جل وعلا المرسلين: هل أديتم؟ هل بلغتم الأمانة؟ فيقولون: يا رب، اللهم قد بلغنا. ويسأل الذين أرسل إليهم: هل بُلِّغتم الأمانة؟ وهل أتتكم رسل فأعلمتكم بما أمرت ونهيت؟ فيقول الذين أرسل إليهم: نعم يا رب بلغنا، قال الله جل وعلا بعد ذلك: والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون[الأعراف:8].(/2)
أيها المؤمنون: إن الذي تثقل موازينه هو المفلح، والذي تخف موازينه هو الخاسر، وأنت رقيب على نفسك، والدنيا لن تنفعنا إلا إذا كانت ميداناً للطاعة، وإن غداً لناظره قريب، إن يوم القيامة لناظره قريب، وسيقول الناس يوم القيامة: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، سيرون ذلك حقاً حقاً، المؤمن يؤمن بذلك، ولكن عليه أن يكون إيمانه بذلك قوياً متيقناً، وأن يستحضر ذلك الإيمان، فإن استحضاره دائماً يقي المرء الهلكة، والهلكة ليست في الدنيا، وإنما الهلكة الصحيحة في الآخرة، فلمن خسر وخفت موازينه ودخل النار قال جل وعلا: ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون وفيت كل نفس، كل الأنفس توفى ما عملت، ما عملت من خير فستوفى، وما عملت من شر فستوفى، وسترى ذلك أمامك، ويأتي المؤمن وينظر إلى ساعة من ساعات عمره قضاها في غير طاعة قال عليه الصلاة والسلام: ((فتتقطع نفسه حسرات على أن أمضى ساعات من عمره ليست في طاعة الله))[1]، ووفيت كل نفس ما عملت يوفى أهل الطاعة طاعتهم، يوفى أهل الإيمان درجاتهم، يوفون أجورهم.
وأما العصاة فأيضاً يوفون أجورهم ويعطون جزاء سيئاتهم ولا يظلم ربك أحداً، فيكون المؤمن عالماً أنه سيوفى عمله، فإذا كنت تقر بذلك ولا شك في ذلك ابدأ فاعمل اليوم إذا كنت تريد أن ترى ما يسرك، وحذار من شهوة تعقبك ندماً دائماً، حذار من شهوة مال أو من شهوة جاه أو من شهوة دنيا أو من شهوة نساء أو من شهوة طمع تذهب عنك لذة اليقين وتذهب عنك الأجر في الآخرة، بل وتحمل عليك من الوزر ما لا تطيقه.
أيها المؤمن تذكر في كل حياتك قول الله تعالى: ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون يوفى كل أحد ما عمل، يوفى أهل السنة أعمالهم، ويوفى أهل البدع أعمالهم، ويوفى أهل الصلاح عملهم، ويوفى أهل السوء عملهم، والله جل جلاله حكم عدل من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد[فصلت:46].
أسأل الله جل جلاله بأسمائه الحسنى ووصفاته العلى أن يوقظنا من غفلتنا وأن يجعلنا من أتباع نبيه اللهم اجعلنا من الذين يرون الحق حقاً فيتبعونه، ومن الذين يرون الباطل باطلاً فيجتنبونه اللهم إنا ضعاف فأعنا على طاعتك اللهم إنا نعوذ بك من كيد الشياطين علينا اللهم إنا نعوذ بك وأنت المستعاذ به، نعوذ بك من كيد الشياطين علينا ومن شر أنفسنا فلا تكلنا لأنفسنا يا ربنا طرفة عين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين[الزمر:75].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
---
[1] أخرج الطبراني من حديث معاذ مرفوعاً: ((ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرّت بهم لم يذكروا الله تعالى فيها)) قال الهيثمي في المجمع (10/74): ((في شيخ الطبراني محمد بن إبراهيم الصوري خلاف)).
الخطبة الثانية
الحمد لله حق حمده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة وعليكم بلزوم تقوى الله فإن بالتقوى فخاركم ورفعتكم يوم القيامة، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته فقال جل وعلا قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً[الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء والأئمة الحنفاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.(/3)
انتحار ملحد
سليمان بن صالح الخراشي
في مساء الثالث والعشرين من شهر يوليو عام 1940م وجدت جثة "إسماعيل أدهم" طافية على مياه البحر المتوسط، "وقد عثر البوليس في معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يخبره بأنه انتحر لزهده في الحياة وكراهيته لها، وأنه يوصي بعدم دفن جثته في مقبرة المسلمين ويطلب إحراقها"(1) !! فمن هو إسماعيل هذا الذي آثر هذه النهاية المروعة ؟ !
يقول عنه صاحب الأعلام : "إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم باشا أدهم: عارف بالرياضيات، له اشتغال بالتاريخ، ولد بالإسكندرية وتعلم بها، ثم أحرز الدكتوراه في العلوم من جامعة موسكو عام 1931، وعين مدرساً للرياضيات في جامعة سان بطرنسبرج، ثم انتقل إلى تركيا فكان مدرساً للرياضيات في معهد أتاتورك ! بأنقرة ، وعاد إلى مصر سنة 1936 فنشر كتاباً وضعه في "الإلحاد" وكتب في مجلاتها، أغرق نفسه بالإسكندرية منتحراً"(2)
قلت: تأثر إسماعيل أدهم بالمد الشيوعي الإلحادي بسبب إدمانه قراءة إنتاج القوم حتى علقت أفكارهم بعقله وتمكنت من قلبه ؛ فألف إثر ذلك –كما سبق- رسالة سماها "لماذا أنا ملحد؟"(3) ! جاء فيها: قوله عن نفسه: "أسست جماعة لنشر الإلحاد بتركيا، وكانت لنا مطبوعات صغيرة أذكر منها: ماهية الدين، وقصة تطور الدين ونشأته… وبعد هذا فكرنا في الاتصال بجمعية نشر الإلحاد الأمريكية، وكانت نتيجة ذلك تحويل اسم جماعتنا إلى المجمع الشرقي لنشر الإلحاد"(4) .
وقد رد على رسالته هذه: الدكتور أحمد زكي أبو شادي برسالة عنوانها: "لماذا أنا مؤمن؟"(5). ورد عليها: محمد فريد وجدي بمقالة عنوانها "لماذا هو ملحد؟"(6)
انتحر إسماعيل مظهر وله من العمر تسعة وعشرون سنة؛ أي في ريعان شبابه، فكانت نهايته نهاية مأساوية لشاب مسلم موهوب، قال عنه الأستاذ أحمد حسن الزيات : "كان شديد الذكاء.. واسع الثقافة"،(7) وقال عنه الأستاذ محمد عبد الغني حسن بأنه صاحب "ذهن متوقد لامع"(8) كان الأول على دفعته في البكالوريا(9)، ثم حاز الدكتوراه وألّف مؤلفات كثيرة، ودرّس، وكان يحسن التحدث بست لغات(10)، كل هذا وهو في هذا العمر الصغير.. إلا أنه بعدها اختار الكفر على الإيمان، وتدرج في مهاوي الضلال إلى أن وصل إلى آخر دركاته وهي الإلحاد –والعياذ بالله- لتكون خاتمته في تكلم الجثة الطافية على مياه البحر آيةً لمن خلفه من شباب الإسلام النابهين أن لا يفتروا بذكائهم ومواهبهم، فيخوضوا –لأجلها- ذات اليمين وذات الشمال واثقين –زعموا!- من أنفسهم، معرضينها للفتن والإنسلاخ من الدين؛ إما بإدمانهم العكوف على كتب أهل الضلال والحيرة والشك كشأن أدهم، أو بمصاحبتهم وألفتهم ومن يشككهم في دينهم ويهون عليهم الطعن فيه أو التحير من بعض شرائعه، مجانبين في ذلك أهل الإيمان ساخرين من نصائحهم، لازمينهم بالتحجر وضيق الأفق!، ومبتعدين رويداً رويداً عن الصراط المستقيم؛ خشية أن يقول قائلهم –ولو بعد حين- : "لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذين نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي.." (11) !
وإسماعيل أدهم مجرد أنموذج سقته للإعتبار بحاله حيث ارتد على دبره بعدما جاءه الهدى واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وإلا فإن الأمثلة من تاريخنا القديم والحديث معلومة مشهورة .
فمن القديم مثلاً: ابن الراوندي الملحد الذي انتهى حاله إلى أن ألف كتاباً سماه "الدامغ" يزعم أنه يدمغ به القرآن !! دمغه الله. فهذا الرجل ذكر المؤرخون عنه أنه "كان في أول أمره حسن السيرة، كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك"(12) وذكروا –أيضاً- شيئاً من ذكائه وعقله، ولكن كما قال الذهبي في ترجمته "لعن الله الذكاء بلا إيمان، ورضي الله عن البلادة من التقوى"(13)!
والذي يهمنا من ترجمته هو قول الذهبي عنه : "كان يلازم الرافضة والملاحدة، فإذا عوتب قال: إنما أريد أن أعرف أقوالهم"(14) !! فكان نهاية هذا التهاون في الجلوس مع المبتدعة والملحدين أن أصبح واحدًا منهم، بل أجرأ على حرمات الله.
ومن الأمثلة المعاصرة : عبد الله القصيمي ، وحاله معلومة للكثيرين.
ومنها: الشاعر الكويتي فهد العسكر. فقد ذكر صاحبه عبد الله الأنصاري عنه أنه: "شب متديناً، يؤدي الصلاة مع والده في المسجد، ويحافظ على أدائها مع والده في كل فرض من الفروض، حتى صلاة الفجر، فقد كان والده يأخذه معه إلى المسجد وهو صغير السن؛ إلى أن تشرب الدين في عروقه ودمه"(15) ثم أصبح مؤذناً بعد ذلك(16). لكنه بعدها –كما يقول صاحبه الأنصاري- "أغرق في القراءة، واستمر في الإطلاع على مختلف الآراء والأفكار الأدبية والإجتماعية والسياسية… إلى أن تحول تحولاً كليًا في تفكيره، وفي نظرته إلى الحياة، وإلى بعض التقاليد والعادات الموروثة (17) ؛ ثم أخذ يتعاطى الخمرة التي تغزل بها كثيرًا في شعره، وهكذا، إلى أن أصبح منعزلاً في أفكاره وآرائه عن بيئته المتدينة، وعن المجتمع المحافظ" (18) .(/1)
قلت: فنصحه أهله وأقاربه وزجروه عن هذا المسلك المهلك، ولكنه أبى واستكبر، فهجروه واعتزلوه ونبذوه، فلزم العزلة والإنزواء ومعاقرة الخمر مع من هم على (مشربه) إلى أن أصابه الله بالعمى وهلك غير مأسوف عليه. وبعد وفاته لم يصل عليه أحدٌ من أهله (19)، وقاموا بحرق ما وجدوا من أشعاره التي تنضح بالكفر والاعتراض على شرع الله والاستخفاف بشعائره (20).
وسأورد أبياتًا له تدل على ذلك؛ لتعلم حال الرجل، وتعذر أهله وأقاربه على ما قاموا به . يقول العسكر (21):
ليلة ذكرياتها ملء ذهني ***** وهي في ظلمة الأسى قنديلي
ليلة لا كليلة القدر بل ***** خير وخيرٌ والله من ألف جيل
أنا ديني الهوى ودمعي نبيي ***** حين أصبو ووحيه إنجيلي
هذه كما قلت مجرد أمثلة للناكصين على أعقابهم بعد أن أبصروا الطريق، ممن قال الله فيهم { وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } وقال { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم } .
ومعرفة أسباب هذا الزيغ الذي يصيب قلوب البعض يحتاج إلى دراسة متعمقة تغور في تلك النماذج وما يماثلها لتستخرج أسبابًا مشتركة بينها؛ لكي توجد الحلول المناسبة الواقية من ذلك –بإذن الله-، فلعل الله ييسر من يقوم بذلك؛ لأهميته القصوى، لاسيما في زماننا هذا زمان المتغيرات. ويحضرني من ذلك على عجالةِ: أنني تلمحت في أحوال كثير من الزائغين ممن يمر بي ذكرهم فوجدتهم لا يخطئون واحدة من هذه الصفات:
1- الذكاء غير المنضبط بضوابط الشرع ، مما يجعل صاحبه يقتحم المهالك بدعوى الثقة في النفس !
2- الكِبر والإعجاب بالنفس، فتجد (الأنا) متضخمة عند هذا الصنف من الناس قبل زيغه. ومما يذكر عن القصيمي مثلاً أنه كان إذا ألف كتابًا ابتدأه بقصيدة له يثني فيها على نفسه وقدراته !
3- الشذوذ ومحبة تتبع الغرائب والنوادر قبل زيغه، كل هذا طلبًا (للشهرة) و(التميز).
4- التهاون في الجلوس مع المنحرفين فكرياً، بدعوى "الاستفادة" أو "الإطلاع" ! و"الصاحب ساحب" كما قيل. ورحم الله الأوزاعي لما قيل له إن فلاناً يقول: أنا أجالس أهل السنة وأجالس أهل البدع. قال: هذا رجل يريد أن يساوي بين الحق والباطل"(22)
5- عدم إخلاص النية في سلوك طريق الهداية، وإنما كان السلوك مشوباً بالمقاصد الدنيوية أو المجاملات التي سرعان ما تختفي مع طول الطريق الذي لن يصبر عليه إلا المخلصون.
6- عدم اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الإكثار من قول "اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك".
السياج الذي أقامه السلف :
لقد تنبه السلف لخطورة هذا الأمر الذي يُفسد قلوب ناشئة المسلمين، فلهذا جعلوا بينهم وبينه سياجاً واقياً استنبطوه من النصوص الشرعية (23)، يتضمن النهي عن مخالطة أهل البدع والإنحراف والبعد عن شبهاتهم وإنتاجهم (24) ؛ خشية أن يعلق شيء منها بقلب ضعيف فيتأثر به ويتشربه، فأعادوا وأكثروا حول هذا الموضوع في مصنفاتهم ومروياتهم نصحاً لأبناء المسلمين، فلا تكاد تجد مؤلفاً في العقيدة السلفية إلا ويتضمن فصولاً أو أبواباً في التحذير من أهل الزيغ والتنفير منهم ومن مسلكهم وإعراضهم عن الكتاب والسنة إلى زبالات البشر (25).
فمن ذلك: قول ابن عباس –رضي الله عنهما- : "لا تجالس أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم ممرضة للقلب" (26).
ومن ذلك: قول عمرو بن قيس الملائي: "كان يُقال: لا تجالس صاحب زيغ فيزيغ قلبك"(27)
ومن ذلك: قول الإمام أحمد وقد ذُكر عنده أهل البدع: "لا أحب لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس بهم، وكل من أحب الكلام لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة؛ لأن الكلام لا يدعو إلى خير، عليكم بالسنن والفقه الذي تنتفعون به، ودعوا الجدال وكلام أهل البدع والمراء"(28) وذكر في مسنده –رحمه الله- حديث الدجال وقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه: "من سمع بالدجال فلينأ عنه، فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فما يزال به بما معه من الشُبه حتى يتبعه"(29) فقس هذا –رعاك الله- بحال من يجالس أهل البدع والزيغ ويتضلع من كتبهم مدعياً أنه يثق بنفسه !! ساخرًا من تحذيرات أهل الإسلام.
فالسلف – رحمهم الله – نظروا إلى العلوم بهذه القسمة :
1 – العلم الشرعي النافع ؛ وهو علم الكتاب والسنة وما تفرع عنهما . وهو ماوردت النصوص بمدحه ومدح أهله،وذكر أجره العظيم لمن خلصت نيته .
2 – العلم ( الدنيوي ) المباح النافع ؛ كعلوم الزراعة والهندسة والصناعة ونحوها . وهذا العلم كلأ مباح لأهل الأرض كلهم ، هم شركاء فيه ، ومن بذل أسبابه حصله . كما قال تعالى { كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك } .
3 – العلم الضار ؛ وهو الذي لا نفع فيه في الدنيا ولا في الآخرة ، بل سيكون وبالاً على صاحبه ، وإن توهم البعض من المخدوعين خلاف ذلك ؛ كالسحر والتنجيم وعلم الكلام والفلسفة ونحوها . ومثله في زماننا : الكتابات الفكرية المنابذة للنصوص الشرعية .(/2)
والموفق لهذا التقسيم من وفقه الله .
نسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يثبتنا على الحق إلى أن نلقاه، وأن يهب لمتفوقي المسلمين الزكاء بعد أن من عليهم بالذكاء، فيكونوا قرة عين لأمتهم ، والله الموفق لكل خير .
كتبه : سليمان بن صالح الخراشي
1423هـ
-----------------------------------------------------------------
الهوامش :
(1) مجلة الرسالة : السنة الثامنة، المجلد الثاني، ص 1241، والأعلام الشرقية (ص 860) .
(2) الأعلام للزركلي (1/310 بتصرف) . وله ترجمة في الأعلام الشرقية لزكي مجاهد (ص 858-860)، وفي تراجم عربية، لمحمد عبد الغني حسن .
(3) نشرها الدكتور أحمد الهواري ضمن الأعمال الكاملة لإسماعيل أدهم (3/80) وتراجم عربية، ص 189. وذيل الملل والنحل، لسيد كيلاني، ص 91.
( 4 ) ذيل الملل والنحل، لسيد كيلاني، ص 91.
( 5 ) مجلة الرسالة، 5 أغسطس 1940م، وانظر: الإسلام والغرب، لمحمد الخير عبد القادر، ص 61، وهوامش على دفتر التنوير، لجابر عصفور، ص136. وقد ذكر أن أبا شادي نشرها في مجلة "الإمام" (سبتمبر 1937م).
( 6 ) نشرها الدكتور أحمد الهواري عقب رسالة إسماعيل مظهر، ضمن الأعمال الكاملة له (3/92).
( 7 ) وحي الرسالة (2/218).
( 8 ) تراجم عربية (ص 198) .
( 9 ) الأعلام الشرقية (ص 858) .
( 10 ) السابق (ص 859-860).
( 11 ) القائل هو أبو المعالي الجويني –غفر الله له- وهو من هو ذكاء وتمرساً في علوم الكلام، ثم ختم ذلك بقوله : "وها أنذا أموت على عقيدة أمي" ! فهل من معتبر ؟ ! . (انظر: شرح الطحاوية، ص 245، ط التركي والأرنؤط).
( 12 ) سير أعلام النبلاء (14/61).
( 13 ) السابق (14/62).
( 14 ) السابق (14/59).
( 15 ) فهد العسكر، حياته وشعره، لصاحبه عبد الله الأنصاري، ص 54. مع التنبه إلى أن صاحبه هذا يعتذر له كثيرًا ويتهجم على معارضيه من أهل الإسلام.
( 16 ) السابق، ص 25.
( 17 ) بل أحكام الشريعة ! ولكنها المدافعة بالباطل !
( 18 ) السابق، ص 56.
( 19 ) السابق، ص 84.
( 20 ) السابق، ص 75.
( 21 ) السابق ، ص 148.
( 22 ) الإبانة لابن بطة (2/456).
( 23 ) انظرها في رسالة "موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع" للدكتور إبراهيم الرحيلي (2/529-563).
( 24 ) إلا لمن أراد الرد على هذا الإنتاج العفن ، وتحذير الأمة منه ، بعد أن يتزود بالعلم الشرعي النافع .
( 25 ) انظر على سبيل المثال: "الشريعة" للآجري (3/574 وما بعدها)، و"أصول اعتقاد أهل السنة" للالكائي (2/114 وما بعدها)، و"الإبانة" لابن بطة (2/429 وما بعدها)، و"السنة" لعبد الله بن أحمد. (1/137 وما بعدها) و"البدع والنهي عنها" لابن وضاح، وغيرها.
( 26 ) الإبانة، لابن بطة (2/438).
( 27 ) السابق، (2/436).
( 28 ) الآداب الشرعية، لابن مفلح (1/220).
( 29 ) أخرجه أبو داود (4319)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.(/3)
انحراف المسجد عن القبلة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة، قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} البقرة: 144، قال ابن قدامة -رحمه الله- في المغني (1/481): (استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة إلا في الحالتين اللتين ذكرهما الخرقي -رحمه الله-(1) والأصل في ذلك قول الله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} يعني نحوه كما أنشدوا:
ألا من مبلغ عنا رسولاً وما تغني الرسالة شطر عمرو
أي نحو عمرو، وتقول العرب: هؤلاء القوم يشاطروننا، إذا كانت بيوتهم تقابل بيوتهم، وقال علي -رضي الله عنه- شطره قبله، وروي عن البراء قال: "قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى نحو بيت المقدس ستة عشرة شهراً، ثم إنه وجه إلى الكعبة، فمر رجل وكان يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- على قوم من الأنصار، فقال: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد وجه إلى الكعبة فانحرفوا إلى الكعبة) أخرجه الشيخان وغيرهما(2).
أما إذا انحرف مسجد عن القبلة انحراف ما، فكيف يفعل المصلون فيه؟
سُئل فضيلة الشيخ محمد صالح العثيمين عن مسجد تنحرف فيه القبلة عن اتجاهها الصحيح بحوالي ثلاث درجات حسب البوصلة المعدة لتحديد جهة الكعبة، وقد دأب الناس على الصلاة حسب اتجاه المسجد لعدم علم الكثيرين منهم بانحراف المسجد عن القبلة، فهل هذا الأمر يؤثر على الصحة للصلاة؟ وهل يجب تعديل المسجد؟
فأجاب بقوله: (إذا كان الانحراف لا يخرج الإنسان عن الجهة فإن ذلك لا يضر، والاستقامة أولى بلا ريب، أما إذا كان هذا الانحراف يخرج الإنسان عن جهة القبلة، مثل أن يكون متجهاً إلى الجنوب، والقبلة شرقاً، أو إلى الشمال والقبلة شرقاً، أو إلى الشرق والقبلة جنوباً، فلا ريب أنه يجب تعديل المسجد، أو يجب الاتجاه إلى جهة القبلة وإن خالف جهة المسجد)(3).
فالانحراف اليسير أذن يغتفر، ولا ينبغي الوسوسة، وتشكيك الناس في صلواتهم. وإحداث القلاقل والبلبلة في المسجد. أما إذا كان الانحراف غير يسير فيجب تعديل حسب الإمكان، وتحقيق المصلحة، إما من داخل المسجد بتعديل الفرش على الاتجاه الصحيح، أو بوضع شيءٍ يدل على الاتجاه الصحيح للقبلة، ولا يهدم المسجد، أما إذا هدم لأي سبب من الأسباب مثل التوسعة أو كان قديماً واحتيج إلى إعادة بنائه فتعدل قبلته على الاتجاه الصحيح(4).
أما المساجد التي تبنى جديدة فينبغي مراعاة القبلة فيها، والحمد لله فقد أصبح الأمر ميسوراً، وليس فيه مشقة أو كلفة، فقد وجدت الوسائل المفيدة كالبوصلة التي نستطيع من خلالها معرفة الاتجاه الصحيح للقبلة.
نسأل الله أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - الحالتين هما: شدة الخوف (كحال التحام الحرب)، والتطوع على المركب في السفر، وهناك حالة ثالثة وهي العجز عن الاستقبال، كحال المربوط إلى غير جهة القبلة. راجع: المغني (1/481، 485)، والشرح الكبير (1/517).
2 - وهذا لفظ النسائي.
3 - مجموع فتاوى ورسائل ابن العثيمين سؤال رقم (329).
4 - راجع: توصية من هيئة كبار العلماء برقم (1/32) في (12/1/1409هـ).(/1)
انحرافات في مفهوم العبودية
الخطبة الأولى
أما بعد. . .
عباد الله اتقوا الله و أطيعوه، واعلموا أن الله تعالى قد خلقكم إنسكم وجنكم لعبادته قال تعالى: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?(1) فعبادة الله تعالى وإفرادها لله وحده لا شريك له هي الغاية القصوى والمطلب الأسمى والمقصود الأعلى من الخلق كما دلت عليه الآية، فإن الله تعالى ذكر ذلك بالنفي والاستثناء اللذين هما أقوى صور الحصر والقصر، فنفى أي غاية لوجود الإنس والجن غيرَ عبادته سبحانه، وهو تعالى ذكْره، وتقدست أسماؤه، لما خلقنا لذلك لم يتركنا هملاً بلا بيان ولا توضيح للعبادة التي خلقنا لها وأمرنا بها بل بين لنا معنى العبودية لله سبحانه ووضح سبيل ذلك، فبعث الرسل مبشرين ومنذرين وإلى عبادته وحده داعين قال تعالى: ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ?(2) فكل رسول جاء إلى قومه كان أولُ ما يقول لهم: "يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيرُه "وهذه الدعوة التي جاءت الرسل بها أمرٌ فطر الله تعالى الخلق عليه ومع ذلك انقسم الخلق حيال دعوة الرسل إلى قسمين كما قال تعالى: ?هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?(3).
فمن الناس من وفقه الله إلى الإيمان فهو على الفطرة في عبوديته للواحد الديان، ومن الناس من ابتلي بالحرمان فاجتاله الشيطان فوقع في عبودية الأصنام والأوثان.
أيها المؤمنون إن العبودية لله تعالى التي هي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون وسرور النفوس مبنية على ركنين عظيمين لا تصح إلا بهما: الأول محبة الله تعالى والثاني الذل له سبحانه.
قال ابن القيم رحمه الله:
وعبادة الرحمن غاية حبه ... ... ... مع ذل عابده هما قطبان
فكلما امتلأ قلب العبد لله تعالى حباً وله سبحانه ذلاً وتعظيماً ولأوامره وشرعه انقياداً وعملاً كملت فيه العبودية لله تعالى، وهذه العبودية التي دعت إليها الرسل أمر عام واسع رحب يضرب برواقه على جميع مناحي الحياة وشؤونها، ويتبين هذا واضحاً جلياً من خلال إجالة النظر في آيات الكتاب الحكيم، ومن خلال مطالعة دواوين السنة، فإن الله تعالى خاطب عباده المؤمنين بالأمر والنهي في أمورٍ كثيرة تتعلق بمعاشهم وحياتهم.
ويمكن أن يتضح شمول العبودية لجميع مناحي الحياة من تعريف أهل العلم والفقه لمعنى العبادة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " هي اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة " فعلى هذا تكون العبادة شاملة للأعمال القلبية كمحبة الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، والتوكل عليه، والإخلاص له، والصبر لحكمه، وهي شاملة للأركان الشعائرية من الصلاة والزكاة والصيام والحج وتطوعاتها وما يتبعها، وهي أيضاً شاملة للعلاقات الاجتماعية والأحوال الشخصية و الأخلاق والفضائل التعاملية، وهي تشمل أيضاً الأحكام القضائية التشريعية والشؤون التجارية والاقتصادية والسياسية.
فالدينونة لله تعالى والعبودية له سبحانه دائرة واسعة تحيط بجميع جوانب الحياة وفروعها من آداب الأكل والشرب وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة وسياسة الحكم. وقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم هذا المعنى بل وعرفه المشركون والمخالفون لدعوة الإسلام في ذلك الوقت ففي صحيح مسلم عن سلمان رضي الله عنه قال: ((قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم حتى يعلمكم الخراءة (أي قضاء الحاجة) فقال: أجل نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه أو يستقبل القبلة ونهى عن الروث والعظام وقال: لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار))(4).
__________
(1) الذاريات:56 ... .
(2) النحل:36. ...
(3) التغابن:2. ...
(4) أخرجه مسلم في الطهارة ( رقم 262 ) . ...(/1)
والمتأمل في سيرة الصحابة الكرام رضي الله عنهم يرى ويشهد أنهم كانوا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحوال وفي أكثر الأحيان، وأنهم كانوا يتوقفون في انتظار الوحي في كثير من قضاياهم وشؤونهم إلا أنه مع مضي الأوقات وفشو الجهالات وقلة العلماء والدعاة اعترى مفهوم العبودية كثيرٌ من التغيير والتبديل والانحراف حتى أصبحنا نرى ونسمع من يدعي الانتساب إلى الإسلام ثم إنه لا يرى ضيراً ولا حرجاً أن يصرف أنواعاً من العبادات القلبية أو العملية لغير الله تعالى إما بحجة أنهم أولياء الله أو أنهم وسطاء أو أنهم وسائل أو غيرُ ذلك من الشبه و أصبحنا نرى ونشاهد من وحد الله بالقصد فلم يعبد إلا الله تعالى لكنه لم يتابع النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به فعبد الله بهواه وما تمليه عليه رغبته. . . وكلا الفريقين ضل الطريق وأخطأ السبيل فإن الله تعالى أمرنا بعبادته وحده سبحانه فقال تعالى: ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ?(1) وقال تعالى: ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً?(2) وأمرنا أيضاً أن لا نعبده إلا بما شرع قال تعالى: ?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ?(3) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))(4) رواه البخاري ومسلم. فالواجب على العبد الراغب في تحقيق عبوديته لله تعالى أن يطهر قلبه ويصفيه ويخليه من كل شائبة شرك أو قصد لغير الله تعالى فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه سبحانه. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه))(5) رواه مسلم. وعليه أيضاً أن يجتهد في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وعلى حسب متابعة العبد للنبي صلى الله عليه وسلم ينال من انشراح الصدر ورفع الذكر وكثرة الأجر عند الله سبحانه وتعالى. فعليكم عباد الله بالإخلاص والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم فليست العبرة بكثرة العمل مع التفريط في الإخلاص لله ومتابعة الرسول بل العبرة بحسن العمل قال الله تعالى: ?الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ?(6).
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: (العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه. قالوا يا أبا علي: أخلصه وأصوبه قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل وإذا كان صوابا ً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً والخالص: ما كان لله والصواب: ما كان على السنة".
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أهل الإخلاص والمتابعة وأن يوفقنا إلى خير الأقوال والأعمال، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد..
__________
(1) البينة: 5 .
(2) الجن:18.
(3) آل عمران:31 ... .
(4) أخرجه البخاري في الصلح ( رقم 2697 ) وأخرجه مسلم في الأقضية ( رقم 1718 ) من حديث عائشة رضي الله عنها .
(5) أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (رقم 2985 ). ...
(6) ... الملك : 2 .(/2)
فإنه قد تقدم لنا في الخطبة الأولى صورتان من صور الانحراف الذي طرأ على الأمة في مفهوم العبودية لله تعالى، ومن صور الانحراف في مفهوم العبودية لله تعالى أن بعض من أعمى الله بصيرتهم وأضلهم عن سواء السبيل تصوروا أو صُوّر لهم أن عبادة الله تعالى هي تلك الأقوال والأعمال التي تضبط علاقة العبد بربه من صلاة أو زكاة أو صيام أو حج أو تلاوة وذكر أما ماعدا ذلك من الأمور فليس لها بالعبادة أو العبودية لله تعالى صلة بل هي موكولة إلى الناس يفعلون فيها ما يشاؤون ويحكمون ما يريدون، ولا شك أن هذا فهم مبتور مغلوط دلّت نصوص الكتاب والسنة على بطلانه بل دل العقل على ضعفه وضلاله إذ كيف يستقيم في الأذهان أو يصح عند أولي العقول والأبصار أن يعلم النبي المختار صلى الله عليه وسلم أمته تفاصيل ودقائق آداب قضاء الحاجة ثم يعرض ويترك تعليمهم الأمور العظام والقضايا الجسام التي بها تستقيم الحياة في المدن والأمصار بل لو قال قائل: إن هذا فيه أعظم التنقيص والإزراء بالشرائع والأنبياء لما جانب رأي الألباء والعلماء. وقد خلّف هذا الفهم المغلوط انحرافاتٍ خطيرةً توشك أن تخرج بأصحابه عن سبيل أهل الإسلام ومن هذه الانحرافات الجسام أننا سمعنا من يقول ويكتب: إن الدين والعبودية لله ليس لها دخل في التجارة أو الاقتصاد أو السياسة أو الإعلام أو غير ذلك من مجالات الحياة بل آل الأمر بكثير من أصحاب هذا الفكر الضال المنحرف أن فصلوا الدين عن الحياة وجعلوا الكتاب والسنة اللذين هما سبيل النجاة ينظمان علاقة العبد بربه ولا يتجاوزون بهما هذا الحد. بل لم يقتصر الأمرُ على ذلك فرأينا أصحاب هذا الانحراف الذين ضرب النفاق قلوبهم بجرانه ينكرون على كل من يصدر عن السنة والقرآن في سياساته أو اقتصادياته أو أحكامه أو أنظمته أو سائر شؤون حياته ويقذفون بأقذع الأسماء ويصفون بأبشع الأوصاف كُل من دعا إلى تحكيم الكتاب و السنة، فتارة يسمون المتمسكين بالكتاب والسنة في دق الأمر وجليله رجعيين، وتارة ظلاميين، وتارة أصوليين، وتارة متطرفين، أو إرهابيين، فحسبنا الله ونعم الوكيل. . . أيها المؤمنون احذروا هؤلاء المضللين المنافقين فإنهم من أعظم ما يفسد الأديان ويخرب الأوطان وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم فهما سفينة النجاة وقد أمر الله بذلك فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ?فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ?(1).
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق عديدة أنه قال: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله))(2). ولا يخدعنكم هؤلاء المنحرفون بألاعيبهم وأساليبهم وتضليلاتهم فهم أشبه من ينطبق عليهم وصف النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه حذيفة رضي الله عنه عن أهل الشر الذين يكونون آخر الزمان: ((دعاة ضلالة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت: يا رسول الله صفهم لنا فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا))(3). فنعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الضلال بعد الهدى ومن الزيغ بعد الاهتداء.
__________
(1) الزخرف: 43. ...
(2) أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (رقم 128) . ...
(3) أخرجه البخاري في المناقب (رقم 3606).(/3)
بأبي أنت وأمي يا رسول الله
محمد بن شاكر الشريف
تدلهمّ على الناس الخطوب وتفجؤهم المصائب الكبيرة، فإذا تأملوها حق التأمل وجدوا فيها من فضل الله وإحسانه ما تعجز الألفاظ عن التعبير عنه. لقد فوجئ المسلمون بحفنة من الحاقدين النصارى الذين أعمى بصيرتهم شعاعُ الحق الظاهر من دين الإسلام، الدين الذي رضيه الله ـ تعالى ـ لعباده ولم يرض ديناً سواه، فذهب هؤلاء المنكوسون يفرغون حقدهم وضلالهم في العيب والذم لرسول الله ـ تعالى ـ الذي أرسله ربه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
لقد كانت فاجعة وأي فاجعة ومصيبة وأي مصيبة، لكن الله جعل من ذلك فرصة عظيمة للمسلمين لبيان حبهم لدينهم وشدة تمسكهم به، وبذل الغالي والنفس والنفيس للذود عن حبيبهم، ومهما كتب الكاتبون ومدح المادحون ونافح المنافحون فلن يستطيعوا أن يوفوه حقه اللائق به -صلى الله عليه وسلم- ، ولكنها كلمات يكتبها المسلم المحب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليعبر بها عن بعض ما بداخله، وليؤدي جزءاً مما يجب عليه نحوه، كيف لا وقد أخرجنا الله ـ تعالى ـ به من الظلمات إلى النور وهدانا به الصراط المستقيم؛ فمن أقل ما يجب علينا أن ننتهز هذه الفرصة لنعّبر عما يجيش في صدورنا تجاه هذا الرسول الأكرم الذي لم تعرف له البشرية نظيراً أو مدانياً، وما مثل الكاتبين ومثل سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا كمثل رجل دخل بستاناً مثمراً من كل أنواع الثمار التي تحبها النفوس وتشتهيها، وذلك وقت نضجها، فلم يدر من شدة جمالها وحسنها ماذا يأخذ وماذا يدع.
< كيف كان العالم قبل مجيء الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟
كان العالم كله يعيش في ظلمات الجهل والضلالة والشرك، إلا عدداً قليلاً جداً ممن حافظ على دينه من أهل الكتاب، فلم يحرفوه أو يقبلوا تحريفه ممن قام به. يقول الرسول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان...»(1)، فهذا الحديث يصور الحالة البشعة التي كان عليها العالم قبل مبعث خير البرية، حيث استوجبت من الله ـ تعالى ـ أشد البغض، وهذا لا يكون إلا مع الانغماس التام في الضلالة والبعد عن سنن الرشاد.(/1)
فقد كان العرب يئدون البنات ويحرّمون أشياء مما رزقهم الله ـ تعالى ـ بغير حجة أو برهان. قال ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ: «إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140]»(2). وكانوا يأكلون الميتة ويشربون الدم، كما قال الله ـ تعالى ـ مبيّناً حالهم، وآمراً رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول لهم: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 145]، وفوق ذلك كله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله، ويحرّمون على أنفسهم الاستفادة من بعض حيواناتهم، ويجعلون إنتاجها للطواغيت، كما نعى الله عليهم ذلك في قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103](3)، ولم يكن أهل الكتاب أحسن حالاً منهم، فحرّفوا كتابهم المنزّل على رسولهم، وافتروا على الله الكذب وأشركوا بالله، وادّعى اليهود أن لله ـ تعالى ـ ولداً، كما ادّعت النصارى أن لله ـ تعالى ـ ولداً: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله تعالى. قال الله ـ تعالى ـ في وصف ذلك: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، ولم يكونوا يتناهون عن المنكرات التي تحدث بينهم كما قال الله عنهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 ـ 79]، وكان المجوس يعبدون النار ويستحلون نكاح المحارم فينكح الرجل منهم أخته أو ابنته. وبالجملة: فقد كان العالم في ظلام دامس وشرك وضلال، حتى جاءهم الرسول الكريم بالرسالة الشاملة الهادية إلى صراط مستقيم؛ فبأبي أنت وأمي يا رسول الله!
كما يبين الحديث الغرض الذي لأجله بعثه الله ـ تعالى ـ وهو دعوة الناس إلى الله ـ تعالى ـ ومجانبة طريق الشرك والضلال، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم. قال النووي: «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، معناه: لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة، وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده، والصبر في الله ـ تعالى ـ وغير ذلك، وأبتلي بك من أرسلتك إليهم؛ فمنهم من يظهر إيمانه ويُخلص في طاعاته، ومن يتخلف ويتأبد بالعداوة والكفر، ومن ينافق»(4). ولم ينس الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كان العدل والإنصاف من شمائله أن يستثني من الشرك والضلالة طائفة من أهل الكتاب ظلت محافظة على عهد الله ـ تعالى ـ إليهم، فقال: «إلا بقايا من أهل الكتاب»؛ فالإسلام دين يحث على العدل والإنصاف وعدم غمط الناس. قال الله ـ تعالى ـ: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [آل عمران: 113] وقال: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" [آل عمران: 199]، وقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75] وغير ذلك من الآيات.
< ماذا قدّمت دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للعالمين؟(/2)
بعد أن عمَّ الشرك والجهل والضلال والظلم العالم كله، وكان في حاجة ماسة إلى من يخرجه من كل هذه الظلمات منَّ الله ـ تعالى ـ على العالمين ببعثته، كما قال ـ تعالى ـ: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]؛ فهو -صلى الله عليه وسلم- مرسل ليخرج الناس كلهم من أنواع الظلمات كلها إلى النور التام وليس جنساً دون جنس؛ إذ دعوته -صلى الله عليه وسلم- ليست قومية أو عنصرية، كما قال ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحديد: 9]، فكان -صلى الله عليه وسلم- بذلك رحمة للناس جميعاً، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
فدعا الناس إلى الله ربهم، لا يطلب منهم على ذلك أجراً أو مقابلاً، وتحمّل منهم في سبيل ذلك الأذى الكثير، ومنع العدوان على الناس حتى لو كانوا من الكافرين، فبلّغ عن ربه قوله: {وََلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] الشنآن: هو البغض.
ومنعَ الظلم بين الناس ولم يقبله حتى من أتباعه على أعدائه، وأمر بالعدل حتى مع الأعداء، فبلَّغ عن ربه ـ تعالى ـ قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
ودعا الناس إلى الوفاء بالعهود والعقود حتى مع الأعداء، ولم يكونوا كالذين قالوا: ليس علينا لمن خالفنا في ديننا أية حقوق، يستحلون بذلك ظلم من يخالفهم ويكذبون على الله وينسبون ذلك إليه(1)، فبلَّغ عن ربه ـ تعالى ـ قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91].
وقد كان النهي عن الخيانة من الأحكام التي جاء بها الرسول الكريم وبلّغها للناس، حتى من يُخشى خيانته من الأعداء؛ فلا ينبغي خيانتهم؛ لأن الخيانة خلق ذميم والله لا يحب الخائنين. قال الله ـ تعالى ـ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]؛ فإذا خاف الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو أتباعه من قوم عاهدوهم خيانةً بإمارة تلوح أو ترشد إلى ذلك، فلا ينبغي للمسلم أن يخون بناء على ما ظهر من إقدام العدو على الخيانة، ولكن عليه أن يبين لهم أن العهد الذي بيننا وبينكم قد ألغي. قال ابن كثير: «أي: أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك»(2)؛ فإن غير ذلك من الخيانة، والله لا يحب الخائنين.
وقد كان لتعليماته -صلى الله عليه وسلم- أكبر التأثير على أصحابه، فالتزموا بها حتى ضربوا أروع الأمثلة في كل ذلك؛ فعن سليم بن عامر ـ رجل من حمير ـ قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو بِرْذَوْنٍ وهو يقول: الله أكبر... الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا؛ فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلّها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء، فرجع معاوية»(3).
فما أحسن أثر دعوته -صلى الله عليه وسلم- على العالمين جميعاً، وما أقبح موقف الكافرين منه، الذين ناصبوه العداء وعاندوا دعوته، فبأبي أنت وأمي يا رسول الله!
< احتماله -صلى الله عليه وسلم- الأذى في تبليغ الدعوة:(/3)
وقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في التمسك بالحق والثبات عليه وعدم التضعضع أمام الباطل وسلطانه؛ فعن عقيل ابن أبي طالب قال: جاءت قريش إلى أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقالوا: إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا وفي مجلسنا فانهه عن أذانا، فقال لي: يا عقيل! ائت محمداً. قال: فانطلقت إليه، فجاء في الظهر من شدة الحر فجعل يطلب الفيء يمشي فيه من شدة حر الرمضاء، فأتيناهم، فقال أبو طالب: إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مجلسهم، فانْتَهِ عن ذلك! فحلَّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببصره إلى السماء فقال: أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم! قال: ما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تُشعلوا منها شعلة. فقال أبو طالب: ما كذبنا ابن أخي قط فارجعوا»(4)، يبين لهم شدة تمسكه بالحق الذي هداه الله إليه واستحالة تركه أو ترك الدعوة إليه؛ فكما أنهم عاجزون عن أن يشعلوا شعلة من الشمس فهو لا يمكنه ترك ما أوحاه الله إليه. وإزاء هذا الإباء والثبات، عادته قريش وآذوه وصدوا الناس عنه، حتى بلغ بهم الأمر أن يتعاقدوا ويتعاهدوا على مقاطعة الرسول والمؤمنين ومن يسانده من أقربائه حتى لو كانوا على دين قريش، فقاطعوهم مقاطعة اجتماعية، لا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم ولا يكلمونهم ولا يجالسوهم، وقاطعوهم مقاطعة اقتصادية لا يبتاعون منهم ولا يبيعون لهم، وكتبوا بذلك صحيفة وعلّقوها في سقف الكعبة، وظلت هذه المقاطعة ثلاث سنوات. وانظر تصويراً لتلك الحالة الصعبة التي كان فيها المسلمون: يقول سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: لقد رأيتني مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة فخرجت من الليل أبول؛ فإذا أنا أسمع قعقعة شيء تحت بولي، فنظرت فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها، فرضضتها بين حجرين ثم استففتها، فشربت عليها من الماء فقويت عليها ثلاثاً»(5)، «وكانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئاً من الطعام لعياله، فيقوم أبو لهب عدو الله، فيقول: يا معشر التجار! غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً، فقد علمتم ما لي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً، حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يديه شيء يطعمهم به»(1)؛ فما ردَّه ذلك عن دعوته، وقد بلغ الإيذاء بأصحابه مبلغه حتى اضطرهم ذلك إلى مغادرة الأوطان والهجرة منها، وترك التجارات والأموال والأهلين، وانتهى الأمر به -صلى الله عليه وسلم- إلى الهجرة وهو صابر محتسب صامد كالطود الأشم، تميد الجبال الشم وهو -صلى الله عليه وسلم- ثابت لا ينحني، ولم يقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يساوم على دعوته، أو يقبل بما يدعونه من الحلول الوسط، بأن يكتم بعض ما أنزل الله إليه في سبيل أن يمتنع الكافرون عن معاداته أو محاربته، أو أن يلين في الحق مقابل أن يلينوا معه في مواقفهم، بل رفض كل ذلك وظل صامداً فصلى الله تعالى عليه وسلم، وقد سجل القرآن الكريم هذا الموقف بقوله ـ تعالى ـ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، وقال لهم في قوة وصلابة في الحق كما أمره ربه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1ـ 6]، وعرضوا عليه الأموال والنساء والملك، فيأبى كلَّ ذلك ولسان حاله يقول: واللهِ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله ـ تعالى ـ أو أهلك دونه.(/4)
ولما مكّنه الله ـ تعالى ـ وأظهره لم يطغَ أو يظلم أحداً ولم يبغ العلو في الأرض، وإنما جاهد في الله حق جهاده، وبذل نفسه في سبيل ذلك، وسنَّ في ذلك سنناً هي في غاية العدل والكمال، فلا ظلم ولا اعتداء ولا إفساد، ولا رغبة في العلو في الأرض بالباطل، ولا رغبة في التوسع على حساب الشعوب، بل كان يدعوهم إلى الله ـ تعالى ـ لا إلى نفسه ولا إلى قومه، حتى كان العربي والعجمي في كنفه سواء؛ فهذا بلال الحبشي مؤذنٌ لصلاة المسلمين بين يدي رسول الله، وهذا صهيب الرومي الذي ترك ماله لقريش حتى لا يمنعوه من الهجرة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلقاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول له: ربح البيع أبا يحيى! وهذا سلمان الفارسي الذي يقول فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «سلمان منا أهل البيت»، وكان يدعو الناس فمن قَبِلَ منهم دعوة الله كان واحداً من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، من غير تفرقة بلون أو لغة أو جنس، وهذه هي وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن خرج مجاهداً في سبيل الله تعالى؛ مما يبين بكل وضوح نبل غاية الجهاد، وأنه جهاد لإحقاق الحق وليس للعلو في الأرض أو الإفساد؛ فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً! وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال؛ فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية؛ فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم!.. الحديث»(2) فبأبي أنت وأمي يا رسول الله!
< الأمانة في تبليغه -صلى الله عليه وسلم- الدعوة:
حيثما توجهت مع الرسول الكريم لا تجد إلا الطهر والنقاء، والثبات والقوة، والصدق والأمانة، يبلِّغ ما أوحاه الله إليه، ولا يُخفي منه شيئاً، حتى لو كان فيما أمر بتبليغه ما يدل على معاتبته على أحد التصرفات، فبلّغ قوله ـ تعالى ـ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 1ـ4]. قال ابن كثير: «ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يوماً يخاطب بعض عظماء قريش، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم، وكان ممن أسلم قديماً، فجعل يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء ويلحّ عليه، وودّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لو كفّ ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعاً ورغبة في هدايته، وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله ـ تعالى ـ: {عَبَسَ وَتَولَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 1 ـ 3]»(3)؛ فما انصرف عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعبس رغبة عنه أو استهانة به، وإنما حمله على ذلك رغبته في إسلام أولئك العظماء؛ ليعزّ بهم المسلمون، ومع ذلك فقد بلّغها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يكتمها.(/5)
وكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مولى اسمه زيد بن حارثة ـ رضي الله تعالى عنه ـ تبناه الرسول قبل البعثة، وكانت عادة العرب أن زوجة الابن تحرم على الوالد، ولو لم يكن ابناً للصلب، وإنما كان ابناً بالتبنّي، وأراد الله ـ تعالى ـ أن يهدم هذا العرف الجاهلي، فلما طُلقت زينب بنت جحش زوجة زيد ـ رضي الله تعالى عنها ـ شرع الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- زواجها ليكون هو أول من يهدم هذا العرف الجاهلي؛ لكن هذا الأمر كان صعباً على تلك البيئة؛ لتأصّل تلك العادة فيهم، فأخفى -صلى الله عليه وسلم- في نفسه هذه المشروعية، فقال الله ـ تعالى ـ له في شأن زينب بنت جحش وزوجها زيد بن حارثة مولى النبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] فبلّغها ولم يكتمها، قال أنس: «جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك! قال أنس: لو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاتماً شيئاً لكتم هذه، قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: زوّجكن أهاليكن، وزوّجني الله ـ تعالى ـ من فوق سبع سموات»(1)؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أمين على وحي الله ـ تعالى ـ يبلغه كما أنزله الله عليه، لا يزيد فيه ولا ينقص منه.
< رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالعالمين:
قال الله له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فما أرسله ـ تعالى ـ إلا ليكون إرساله رحمة للعالمين جميعاً، فمن قَبِلَ رسالته فهو ممن رحمه الله ـ تعالى ـ ومن أعرض فعلى نفسه جنى، ولقد شملت رحمته -صلى الله عليه وسلم- حتى الحيوانات؛ فعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: «كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرَة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من فجع هذه بولدها؟ رُدُّوا ولدها إليها! ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: من حرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن ُيعذِّب بالنار إلا ربُّ النار»(2) فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يرقّ لحال هذا الطائر الذي فقد ولديه، ويرحمه ويأمر من أخذهما بإطلاقهما، مع أن صيد البر حلال، لكن الرحمة التي ملأت جوانح الرسول الكريم لم يقدر معها على رؤية هذا الطائر المسكين المفجوع في ولده، حتى أمر بإطلاقه. وها هو ذا -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى رحمة كل ما فيه روح، ويحث على ذلك ببيان ما فيه من الأجر فيقول: «بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفّه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر»(3) وكان -صلى الله عليه وسلم- يرحم الصبية الصغار ويقبّلهم؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قبّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: مَنْ لا يَرحم لا يُرحم»(4)، ودعا أمته إلى رحمة الخلق جميعهم ـ من في الأرض ـ من يعقل كالإنس، ومن لا يعقل كالحيوانات، فقال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله»(5). وقد سجلت لنا السيدة خديجة ـ رضي الله تعالى عنها ـ شمائله التي طبعه الله ـ تعالى ـ عليها حتى من قبل أن تأتيه الرسالة، فقالت له لما جاءه الوحي: «واللهِ ما يخزيك الله أبداً: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»(6) فكانت هذه خِلالُه -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يوحى إليه، فلما جاءه الوحي زادت نوراً وتلألؤاً وجلالاً، فصلى الله عليك يا من أرسلك ربك رحمة للعالمين!
< الحلم والعفو والصفح من شمائله -صلى الله عليه وسلم-:(/6)
كان الحلم والعفو والصفح شيمة هذا الرسول الكريم، حتى إنه لم ينتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حدود الله تعالى؛ فقد كان لرجل من اليهود دَيْن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتاه يتاضاه منه وأغلظ له في الكلام، فردَّ عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحلم وصفح على ما يتبين من هذه الرواية حتى أدّاه ذلك إلى الإسلام؛ فقد كان زيد بن سعنة من أحبار اليهود وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- «يتقاضاه فجبذ ثوبه عن منكبه الأيمن، ثم قال: إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مطل، وإني بكم لعارف. فانتهره عمر، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : يا عمر! أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج: أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي، انطلق يا عمر أوفه حقه، أما أنه قد بقي من أجله ثلاث [أي: لم يحن أجل الدَّيْن بعدُ، بل بقي منه ثلاثة أيام] فزِدْه ثلاثين صاعاً، لتزويرك عليه»(7)، ورواه ابن حبان وفيه: «فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة رجل من الأنصار، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ونفر من أصحابه، فلما صلى على الجنازة دنا من جدار فجلس إليه، فأخذت بمجامع قميصه ونظرت إليه بوجه غليظ، ثم قلت: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب بمُطْل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم، قال: ونظرت إلى عمر بن الخطاب وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره، وقال: أيْ عدوَّ الله! أتقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أسمع وتفعل به ما أرى؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي هذا عنقك؛ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: إنَّا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر! أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعاً من غيره، مكان ما رعته، قال زيد: فذهب بي عمر فقضاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أزيدك مكان ما رعتك، فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا، فمن أنت؟ قلت: أنا زيد بن سعنة، قال: الحَبْر؟ قلت: نعم! الحَبْر، قال: فما دعاك أن تقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قلت وتفعل به ما فعلت؟ فقلت: يا عمر! كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أختبرهما منه: يسبق حِلمُه جهلَه، ولا يزيده شدةُ الجهل عليه إلا حِلماً، فقد اختبرتهما، فأشهدك يا عمر! أني قد رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً، وأشهدك أن شطر مالي ـ فإني أكثرها مالاً ـ صدقة على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقال عمر: أو على بعضهم؟ فإنك لا تسعهم كلهم، قلت: أو على بعضهم، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده.. الحديث»(1) فحلم عليه، ولم يردّ عليه بمثل ما قال، بل زاده في حقه من أجل انتهار عمر له. وعن أنس بن مالك ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء»(2) فلم يقابل جفاء الأعرابي وغلظته وقسوته عليه إلا أن التفت إليه وضحك، ثم أعطاه ما سأل؛ فما أحلمك يا رسول الله!
وقد حاربته قريش أشد المحاربة، وألَّبوا عليه القبائل وآذوه وآذوا أصحابه، فلما أمكنه الله منهم وأظهره عليهم ودخل مكة فاتحاً في عام الفتح في موقف النصر والعزة والتمكين، لم يعاملهم بما يستحقونه من العقاب البليغ، بل عفا عنهم «وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد: ما ترون أني صانع بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»(3).
< شجاعته -صلى الله عليه وسلم-:(/7)
كان لرسول -صلى الله عليه وسلم- في الشجاعة القِدح المعلَّى، فكان أسرع الناس إلى العدو وأقربهم إليه، ولم يفرّ -صلى الله عليه وسلم- من أية معركة رغم شدتها والتحام الصفوف؛ فعن أبي إسحاق قال: «جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم ولّيتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ما ولَّى، ولكنه انطلق أخِفَّاء من الناس وحُسَّر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب، اللهم نزِّل نصرك، قال البراء: كنا والله إذا احمرّ البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للَّذي يحاذي به، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم-»(4)، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا دهم المدينةَ خطر يكون أسرع الناس لاستجلائه، فعن أنس قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: لن تُراعوا، لن تُراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، في عنقه سيف، فقال: لقد وجدته بحراً أو إنه لبحر»(5) فلفرط شجاعته -صلى الله عليه وسلم- كان أول من انطلق حتى يستجلي الأمر، حتى إن أسرع الناس من بعده لم يلحقه إلا وهو راجع، وذهب على فرس عري ليس عليه سرج والسيف في عنقه، فأي شجاعة هذه التي تجعل من صاحبها يقدم بمفرده ولا ينتظر من يعاونه أو يساعده على هذا الوضع الصعب؟! وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أخبر: «أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ نجد؛ فلما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت سَمُرة فعلَّق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة، ثم إذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صَلْتاً، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله؛ فها هو ذا جالس، ثم لم يعاقبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»(1)، في هذا الوضع الصعب حيث الرجل ممسك بالسيف، والرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس معه سلاح، لكنه ظلَّ رابط الجأش واثقاً من معية الله، ولم يظهر منه خوف أو جزع، بل ثبات ويقين. قال ابن حجر: «وفي الحديث فرط شجاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقوة يقينه وصبره على الأذى وحلمه عن الجهال»(2).
< وجوب نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-:
نصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من لوازم الإيمان، وقد ضمن الله ـ تعالى ـ الفلاح لمن آمن برسوله ونَصَرَه، فقال ـ تعالى ـ: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، فالذين عزّروه هم الذين وقَّروه، والذين نصروه هم الذين أعانوه على أعداء الله وأعدائه بجهادهم ونصب الحرب لهم، وقد مدح الله ـ تعالى ـ المهاجرين الذين نصروا رسوله وشهد لهم بالصدق في إيمانهم فقال ـ تعالى ـ: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، كما شهد لمن آوى المهاجرين ونصر الرسول بأنهم هم المؤمنون حقاً فقال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74]، فكان البذل والعطاء في سبيل الله سواء بالهجرة أو بالنصرة دليل الإيمان الحق.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في مكة قبل الهجرة يطوف على الناس يطلب النصرة حتى يتمكن من إبلاغ رسالة الله ـ تعالى ـ للعالمين؛ فعن جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: «مكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة، وفي المواسم بمنى، يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي، وله الجنة؟ ..» الحديث(3)، وعندما أراد الهجرة إليهم في المدينة أخذ البيعة عليهم أن ينصروه وأن يمنعوه مما يمنعون منه أهليهم، ففي الحديث المتقدم قال لهم: «وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة»(4).(/8)
وقد أخذ الله ـ تعالى ـ الميثاق على من تقدّمنا من الأمم بنصرة الرسول الكريم؛ فما أتعس قوماً أخذ عليهم الميثاق بنصرته -صلى الله عليه وسلم-؛ فإذا هم يسخرون ويستهزئون! قال الله ـ تعالى ـ في أخذه الميثاق على من سبق من الأمم: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]، فأخذ الميثاق على النبيين كلهم وأممهم تبع لهم فيه. قال ابن كثير: «قال علي ابن أبي طالب وابن عمه ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ: «ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أُخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به وينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه»(5).
وقد بين الله ـ تعالى ـ أنه ناصر رسوله، وأن رسوله ليس في حاجة إلى نصرهم، والمسلم عندما ينصر الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- فإنما يسعى لخير نفسه، وإذا تقاعس فلن يضر إلا نفسه، وقد نصر الله رسوله في أحلك الظروف وأصعب الأوقات عندما هاجر من مكة إلى المدينة وقريش كلها تطارده بخيلها ورجلها تأمل العثور عليه، لكن الله أنجاه منهم مع ضعف الإمكانات وقلة الزاد والمعين، قال الله ـ تعالى ـ يبين ذلك: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] فمن تقاعس عن نصرة الرسول فلا يُزري إلا بنفسه، وهي منزلة من العز والشرف قد حرم منها.
وإذا كانت هناك وسائل كثيرة لنصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والانتصار له ممن سخر أو استهزأ من الكفرة والملحدين، فإن من النصرة التي يقدر عليها كل مسلم، ولا يعذر في التخلف عنها: محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وموالاته واتباع سنته، وترك الابتداع في الدين؛ إذ لا يستقيم أن يكون المسلم ناصراً حقاً للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في الوقت الذي يعصيه فيه ويخالف سنته، ويبتدع في دينه، أو يوالي أعداءه، ويناصرهم ويقف معهم في ملماتهم، وكيف تكون هناك موالاة بين المسلم وبين الكافر الذي يسخر أو يسب الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وقد قال الله ـ تعالى ـ: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؟ [المجادلة: 22].
< وجوب تعزيره وتوقيره -صلى الله عليه وسلم-:(/9)
التعزير: النصرة والحماية، والتوقير: التعظيم والإجلال، وكل ذلك يستحقه الرسول الكريم، وبذلك أمرنا رب السماوات والأرضين. قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 8 - 9] ، ومحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره يرجع إلى أمرين: أمر إلى صفاته الشخصية وشمائله التي تحلّى بها، والتي لا تدع لأي منصف اطلع عليها إلا أن يحب هذا الرسول ويوقره ويعظمه، وهذه تكون من المسلمين كما تكون من المنصفين من غير المسلمين، وهناك كمٌّ كبير من أقوالهم في ذلك، وآخر: إلى أمر الله بذلك وإيجابه على المسلمين، وهذه يختص بها الذين آمنوا بالله ورسوله، حتى يفديه المؤمن بأبيه وأمه، بل يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من كل شيء، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»(1)، بل لا بد أن يكون الرسول أحب إلى المسلم من نفسه التي بين جوانحه، فيؤْثر مرضاة الرسول على ما تطمح إليه نفسه، ويقدم أمره وسنته على محبوباته ورغباته، فعن عبد الله بن هشام قال: «كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أحبُّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الآن يا عمر!»(2)، وقد كان المسلمون من محبتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرِّضون أنفسهم للمهالك والردى في سبيل حفظ الرسول ونجاته، فعن أنس ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: «لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو طلحة بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- مجوب به عليه بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد القد يكسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة، فأشرف النبي -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبْك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك»(4). وإزاء كل ما تقدم لم يكن من المسلمين لرسولهم إلا الحب والإجلال والإكبار والرغبة في فدائه بكل ما يملكون، ولم يكن أحد من أصحابه يطيق أن يسمع شيئاً مما قد يكون فيه أدنى نقص من قدره -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: «استبَّ رجلان: رجل من المسلمين ورجل من اليهود، قال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلم فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا تخيِّروني على موسى؛ فإن الناس يُصعقون يوم القيامة فأُصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله»(5)، فلم يحتمل الصحابي الجليل أن يسمع من اليهودي تفضيل موسى ـ عليه السلام ـ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(5)، وقد روى ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قصة تبين مدى حب الصحابة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعنه «أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي -صلى الله عليه وسلم- وتشتمه فأخذ المِغْوَل فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذُكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ألا اشهدوا أن دمها هدر»(6).(/10)
ولم يكن يتصور أن يقوم أحد ممن آمن به بانتقاصه أو سبّه أو السخرية منه أو الاستهزاء به، وقد أجمع علماء المسلمين على أن من سبّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو أحداً من أنبياء الله ورسله أنه مرتد ويجب قتله، كما أن من سبّه من أهل العهد والذمة فإن عهده ينتقض بذلك ويجب قتله، فإنَّا لم نعاهدهم على سب رسولنا أو الانتقاص منه. قال محمد بن سحنون: «أجمع العلماء على أن شاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- والمتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر»(7) وقال ابن تيمية: «وتحرير القول فيه: أن السابَّ إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهويه وغيره، وإن كان ذمياً فإنه يقتل ـ أيضاً ـ في مذهب مالك وأهل المدينة، وقد نص أحمد على ذلك في مواضع متعددة. قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: «كل من شتم النبي -صلى الله عليه وسلم- أو تنقَّصه ـ مسلماً كان أو كافراً ـ فعليه القتل، وأرى أن يقتل ولا يستتاب»(8).
وبعد: فهل وفيتُ حق الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ لا، وألف لا، بل ولا قطرة في بحر حقه وفضله، فبأبي أنت وأمي يا رسول الله! اللهم إنَّا قد أحببنا نبيك وأصحاب نبيك، فاللهم احشرنا في زمرتهم!(/11)
بئس الزاد
د. علي بن عمر بادحدح
المحتويات
• المقدمة .
• صور العدوان .
• أضرار العدوان .
• أسباب العدوان .
• موانع العدوان .
• مواقف السامعين من العدوان .
• وصايا إلى من وقع عليه العدوان .
• تنبيهات عامة للمعتدى عليه .
بئس الزاد
المقدمة
وقفتنا الأولى مع الموضوع وعنوانه ؛ فإن ظواهر قد بدت في وقت من الأوقات في بيئة المسلمين ، بل ربما بين بعض خيار المؤمنين ، فكثر التنابز بالألقاب ، والتراشق بالتهم ، واستفحال الغيبة ، واستشراء النميمة ، والطعن والتعدي على الحقوق في صور كثيرة ، وأنماط مختلفة ، وأثمر ذلك - لمن خاضوا فيه وولجوا أبوابه وخاضوا مستنقعه - ألسنة لاغية ، وقلوباً قاسية ، ونتج منه قلة في التوفيق ، وبعد عن الصواب ، وظلمة في القلوب ، وضيق في الصدور وكان لذلك آثار كثيرة ، وقد كنت أريد أن يكون عنوان الدرس [ ردع المعتدين عن أعراض المسلمين ] أو [ تحذير الواقعين في أعراض المسلمين ] ثم طالعت كلمة للإمام الشافعي - رحمه الله - فعلمت فرق ما بيننا وبين علمائنا وأئمتنا، ليس في غزارة علمهم ، وإنما في نقاء وصفاء قلوبهم ، وفي عمق ودقة فهمهم ، وفي علو ورفعة همتهم ، فلما قرأت هذه الكلمة ، فكرت مرة أخرى في الموضوع بنظرة أحسب أنها أفضل وتؤتي بإذن الله - عز وجل - ثماراً أحسن، ثم غيرت العنوان بحسب ما أورده الشافعي في كلامه حيث قال : " بئس الزاد ليوم المعاد العدوان على العباد " .
وحسبنا بهذه الكلمات على قلة ألفاظها أنها كلمات أصابت المقتل فيمن خاض في هذه المعمعة ، أو وقع في هذه المزلة ؛ فإن هذا كله يكون زاداً يكتسبه الإنسان وإن كان عليه ؛ فإن القرآن قد ذكر أن ما يكون من عمل الإنسان عُدّ كسباُ له وإن كان عليه : { ومن يكسب خطيئة أو إثماً } وليس في الخطيئة مكسب بل خسارة ، فجعل الشافعي مثل هذا زاداً ، فمن شاء أن يتزود به ليوم المعاد، فليعلم أنه بئس الزاد الذي يأتي فيه الناس ، وقد ملئت قلوبهم بالإيمان وحب المؤمنين ، وملئت قلوب أولئك بالبغضاء والشحناء ، وبسوء الظن ، ونحو ذلك من البلايا والأمراض ، ويأتي الناس وقد شغلت ألسنتهم بالذكر ، وتلاوة القرآن ، والنصح والإرشاد ، ويأتي أولئك وقد شغلت ألسنتهم بالغيبة والنميمة ، والوقيعة في الأعراض نسأل الله السلامة .
فلذا نتحدث عن هذا الزاد البئيس حتى نجتنبه ، ونتناصح به ؛ حتى لا يكون مثل هذا الزاد معروضاً في بيئاتنا ، ولا مبسوطاً في مجتمعاتنا ، وحتى لا يأخذ به أحدُ منا أو من إخواننا لا من قليل ولا من كثير .
صور العدوان
وهذا العدوان على أهل الإيمان يبدأ من أقل القليل ، وينتهي إلى عظائم وكبائر ، فمنه العدوان على المسلم بقتله وإزهاق نفسه ، ومنه العدوان على المسلم بإدخال الحزن إلى نفسه ، وبين هذه وتلك صور كثيرة ومراتب عديدة .. فيها عدوان على النفس ، وعلى المال ، وعلى العرض ، وغير ذلك من صور شتى ، ولكني أذكر بعض هذه الصور التي أحسب أن الحديث فيها أكثر وأولى ؛ فإننا نعلم أن أحداً لا يخالجه الشك في عظمة جرم قاتل المسلم ! ولا يخطر ببال أحد أن يهوِّن من شأن الاعتداء على المسلم .. بسلب ماله ، أو أخذ حقه ونحو ذلك ، لكن الترخص والتساهل ، والوقوع في أبواب كثيرة كان في غير هذه الميادين ، فأسوق بعضاً منها مبتدئاً :
الصورة الأولى : سوء الظن
الذي يغلب على الفكر ، ويصرف القلب ، فلا يجعل له في محامل الخير مأخذاً ، ولا في أبواب الخير ولوجاً أو دخولاً ، وقد قال النبي - عليه الصلاة والسلام - في المتفق عليه من حديث أبي هريرة : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث .. ) قال أهل العلم : " لما سمى النبي - عليه الصلاة والسلام - الظن أكذب الحديث ، ونحن نعلم أن الكذب كبيرة من الكبائر ، فجعل الظن من أكذب الكذب ، وأكبر الكذب ؛ لأن من ظن ظن السوء ، حملته نفسه على أن لا يرى إلا السوء ، ولا يحمل القول ، ولا يرى في الفعل إلا جانب السوء ، فيكون قد جمع من المساوئ ما هو أعظم وأكثر من الكذب ، ويمر سوء الظن بعد ذلك .
الصورة الثانية : الانتقاص والاحتقار
وحسبك في ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام : ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) يكفيه شراً لو لم يكن له شر إلا أن يحقر أخاه المسلم ؛ فإنه شرٌ كبير ، وخطرٌ عظيم ، وبلاءٌ مستطير ، ينبغي أن يحذَّر منه المسلم .
الصورة الثالثة : الجرح والثلب على الأعراض
الجرح والغيبة ، والكلام في الأعراض ، وذكر المثالب والسوءات ، وتلمس العيب للأبرياء ، ويخوض من بعد ذلك إلى معمعة أكبر وأشنع وأعمق .
الصورة الرابعة : البهتان والافتراء
الذي يلصق بالمرء ما ليس فيه ، ويفتري عليه ما هو منه برئ ، ثم يتجاوز تلك القنطرة إلى هاوية أعظم في خطرها وضررها .
الصورة الخامسة : النميمة والوقيعة(/1)
والسعي إلى إلحاق الضرر وإيغال الصدور وتقطيع العلائق وبتر الصلات بين أهل الإيمان، ويمر من بعد ذلك على إلحاق الضرر المباشر في صور كثيرة يضيق المقام عن ذكرها، وليس من غرضنا في هذا المقام أن نذكر مثل هذه المثالب، فإن ذكرها بحد ذاته حتى وإن كان على سبيل ذكرٍ للواقع، هو مما قد يلم بالقلوب فيحزنها أو يجعل فيها بعض آثار من الآثار الغير المحمودة .
أضرار العدوان
وننتقل إلى أضرار هذا العدوان ؛ حتى نلفت الأنظار إلى ذلك ، ونتجنب ونجنب غيرنا مثل هذه المهالك .
الضرر الأول : استحقاق الوعيد
الذي ملئت به نصوص الكتاب والسنة في شأن من يتعدى على المسلمين ، و يلحق بهم الأذى ؛ فإن هذا كثير جداً ، وقد استفاضت به النصوص ، وليست تلك الآثار متعلقة بالوعيد مرتبطة بالدنيا بل هي في بالدنيا والآخرة وأمر الآخرة عند المسلم أعظم وأكبر فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر كما في الصحيح من حديث ابي هريرة (أتدرون من المفلس "؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت قبل أن يقضي ماعليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) والنبي عليه الصلاة والسلام يخبرنا كما في صحيح البخاري ( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون له دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) ، فينبغي أن نتأمل في مثل هذا ، وهذا حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يطير له قلب المؤمن هلعاً وخوفاً ، ويقشعر جلده ، ويقفّ شعره منه ، فهو - عليه الصلاة والسلام - يخبرنا فيما روى عنه البراء : (الربا اثنان وسبعون باباً ، أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أدنى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) فأي شيء أعظم من مثل هذا الوعيد والتنفير الذي أخبر به النبي - عليه الصلاة والسلام - ! وهذا حديث معاوية وهو حديث رواه أبو داود بسند صحيح : ( إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم ) وحديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - أيضاً عند الإمام أحمد ، وفي سند أبي داود : (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته ) ، والمتأمل يرى حقيقة ما نطق به الصادق المصدوق - عليه الصلاة والسلام - في واقع الحال ، فكم من ستر هتك لمن هتكوا الأستار ؟ وكم من عرض انتهك لمن كانوا سابقين أو مسارعين إلى انتهاك الأعراض ؟ وهذا أمر في الدنيا ، تقع له صور وأحوال ، وما في الآخر أشد واعظم كما نعرف ونعلم ، وفي حديث عنه - عليه الصلاة والسلام - ذكره المنذري في الترغيب والترهيب ، وصححه الألباني قال فيه : ( من رمى مسلماً - يريد به شينه - حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال ) وذلك ليس مثل هذا الأمر بالهين ، وليس مثل هذه النصوص تمر على من له إيمان ، ومن له قلب ، ومن يتذكر ويتعظ دون أن يقف أمامها ، ويراجع نفسه ، ويبكي على حاله ، ويتندم على ما سلف من خطئه ، ويسعه بيته ويبكي على خطيئته ويمسك عن أعراض المسلمين لسانه ، كما أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - وهذا حديث يرويه عبد الرحمن بن غنم يقول فيه : (خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله ،وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة ،المفرقون بين الأحبة ،الباغون للبراء العنت) أيضا رواه المنذري في الترغيب والترهيب بسند صحيح، الذي يتأمل يجد أن في النصوص وعيدا عظيماً على مثل هذا العدوان في صوره المختلفة .
الضرر الثاني : إيذاء المسلمين(/2)
وأذى المسلم أمر عظيم ، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً هو من جوامع كلمه : ( لا ضرر ولا ضرار ) ، ولا شك أن أذية المسلم لها خطرها وضررها ، الذي تترتب عليه في واقع التعامل بين المسلمين كثير من الأضرار ، فهذا النبي - عليه الصلاة والسلام - يبين أدنى الصور التي ربما نفعلها ولا نرى فيها غضاضة ، ينبهنا عليها النبي - عليه الصلاة والسلام - لنعرف أن ما هو أكثر منها أعظم وأخطر ، فها هو - عليه الصلاة والسلام - يقول : ( لا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه ) بمجرد هذه المناجاة التي قد تسرِّب إلى نفسه وهماً أو ظناً أنه مخصوص بالكلام ، أو أنه لا يُحب أن يسمع مثل هذا الكلام فيداخله شيء من الحزن ذلك من الأذى الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام، صورة أخرى ( إذا دخل أحدكم المسجد فليمسك بنصالها ) لا يجعلها مشيرة إلى إخوانه المسلمين ، ولو كان هذا ليس له به قصد ، وليس عنده رغبة في تهديد أو توجه لإخافة أحد ، و في صحيح مسلم :(من أشار إلى مسلم بحديدة ليخوفه بها فإنه يتوجأ بحديدته في نار جهنم ) فكل ذلك أن إلحاق الأذى بالمسلم أمر عظيم ، وحرمة المسلم قد بينها النبي - عليه الصلاة والسلام - في الموقف العظيم في حجة الوداع بالطريقة والأسلوب الحكيم الذي نبه فيه - عليه الصلاة والسلام - تنبيهاً لفت العقول ، واستحضر القلوب ، وضاعف من الأهمية للموضوع عندما سأل كما نعلم : أي بلد هذا ؟ أي شهر هذا ؟ ثم قال : ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) ، حرمة مضاعفة عظيمة .
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - يروى موقوفاً ويروى مرفوعاً - أن النبي - عليه الصلاة والسلام - نظر إلى الكعبة فقال : ( ما أعظمك وأعظم حرمتك وإن حرمة المسلم أعظم عند الله من حرمتك ) فهذا يدلنا على أيضاً أن المسألة في إيذاء المسلمين خطيرة وأن الضرر بها عظيم .
الضرر الثالث : إفساد ذات البين
وحسبك بها فيما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام وفسرها بقوله : ( هي الحالقة ، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ) .. تغير القلوب ، وانقطاع الصلات ، وانحسار المودة ، وغيض ماء المحبة .. كل ذلك يفتت أوصال المجتمع المسلم ، ثم إذا زيد فوق ذلك غرسٌ للبغضاء والشحناء ، ينشأ من بعد ذلك تدابر وافتراق ، وينشأ من بعده تقاتل واحتراب ، وينشأ من بعده أمر عظيم ، يرفع به الخير ، ويمنع به نصر الله ، كما ورد في أحاديث النبي - عليه الصلاة والسلام - ومنها : ( كنت أريت ليلة القدر فتلاحى فلان وفلان من الناس فرفعت ) ، فكم يرفع من الخير بسبب ما يقع من فساد ذات البين والتراشق والتهاتر والاختلاف والاحتراب .
الضرر الرابع : الاستهانة بالدين
لأن هذا المعتدي كأنما لم يقرأ الآيات ، ولم يمر على تلك الأحاديث ، ولا يظن بكثير من المسلمين مِن مَن يدخلون في هذه المتاهات أنهم ما عرفوا ذلك ، فلئن كانوا عرفوه ثم فعلوا ما فعلوا فكأنما استهزئوا ، أو استهتروا ، أو لم يستعظموا ما عظّمه الله - عز وجل - وعظمه رسوله عليه الصلاة والسلام .
الضرر الخامس : تبديد الأوقات والطاقات
فيما لا أقول إنه لا نفع فيه في جملته ، بل قد يكون في كثير من الأحوال يحمل ضرراً عظيماً ، ويحمل إثماً مبيناً ، ويقع بسببه للإنسان في دنياه أمور وفي أخراه عظائم - نسأل الله عز وجل أن يقينا منها ، ويجنبنا عنها - ويضيع بذلك أمور كثيرة .
وكم رأينا من قد يشغل وقته بذلك ، وليس له وقت لورد يقرأ فيه كتاب الله ، وليس له وقت يشغل لسانه بالأذكار ، ويداوم فيه بالاستغفار ، وليس عنده وقت لإعانة مسلم ، وليس عنده جهد يبذله في حماية من يحتاج إلى حمايته ، أو نصرة من يحتاج إلى نصرته من إخوانه ، فكم يضيع من الوقت والجهد فيما لا تحمد عقباه .
الضرر السادس : تضييع بعض السنن والواجبات
أليس قد قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ) ! أليس قد دعا - عليه الصلاة والسلام - إلى الذبّ عن عرض المسلم والانتصار له ! أليس قد نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - عن الخوض في هذه الأمور ، أو السكوت عنها عند رؤيتها، فكم من أمور تترك وتهمل عند من خاض في مثل هذا، أليس قد قال عليه الصلاة والسلام (من حسن إسلام تركه ما لا يعنيه) ! وكم من شغل لهؤلاء فيما لا يعنيهم ، حتى كأنهم لم يعد عندهم شيء يعنيهم ولا وقت يغنيهم ، ولا جهد يصرفونهم فيما يعينهم .
الضرر السابع : شماتة الأعداء(/3)
الذين لا يفرحهم ولا يدخل السرور إلى قلوبهم ولا يجعلهم مطمئنين مثل رؤيتهم لاختلاف المسلمين ، ورؤيتهم لما يقع بينهم من الإحن والبغضاء والشحناء ، فهم بذلك فرحين ، وهم لنار هذه الفتن مؤججين ، وهم فيها ساعين ، وهم لها مستثمرين ، يشقون الصفوف ، ويفرقون الأمة ، ولا يشوشون على أهل الإسلام ، ويقع من وراء ذلك أنهم يرون أن حيلهم قد انطلت على المسلمين ، وأن مكرهم قد استبد بهم ، وأن خططهم قد نفذت فيهم ، فهم حينئذ ينظرون إلى أولئك على أنهم من الأغرار والحمقى والسذج والمغفلين ، الذين يُستفزون فيتجاوبون ، والذين يغررون فيغترّون ، وهذا ينبغي أن لا يكون عليه حال المسلم : " لست بالخب ولا الخب يخدعني " ، وينبغي أن لا نكون عوناً لأعدائنا على إخواننا ، وألاّ نكون عوناً لأعداء الإسلام على ما يكيدون به للإسلام والمسلمين ، وهم لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة ، فهم إذا نصروا أحداً ، أو أيّدوه أو وافقوه ؛ فإنما ذلك ليكون بمثابة صبّ الزيت على النار ؛ لزيادة الاشتعال ، فينبغي أن نُضَيَّع مثل هذه الفرص على أولئك الأعداء ، وأن نحذر مثل هذه الأضرار الخطيرة العظيمة ، وهي قليل من كثير ، وتذكير بما هو مستمر أو متنامي معها ، ومتضاعف إثرها ؛ فإن هناك أضراراً كثيرة منها :كثرة البلبلة ، واضطراب الرأي ، وحيرة الفكر ، وانحسار الخير كما أسلفت في أول الحديث ، وقد قال بعض السلف - رحمة الله عليهم - عندما تجنب واعتزل بعض الاعتزال ، فقيل له في ذلك ، قال : " رأيت ألسناً لا غية ، وقلوباً لاهية ، وآذاناً صاغية ، فرأيت أن أجتنب واعتزل مثل أولئك القوم " ، وينبغي أن نكون مثل ذلك في مثل هذه الأحوال كما نذكر في بعض ما يأتي معنا إن شاء الله .
أسباب العدوان
ما الذي يوقع أهل الإسلام ومن في جملتهم في مثل هذه المزالق والمخاطر ؟ لو شققنا في هذه الأسباب ؛ فإن أهل العلم قد جعلوا لكل باب من هذه الأبواب أسباباً ، وذكروا فيه وأطنبوا فيه القول .. ذكروا في الغيبة أسباباً ، وللنميمة أسباباً ، وفي كل هذه الأبواب تحليلاً لما يدفع إليها ويوقع فيها ، ولكني أوجز ذلك في الكليات التي أحسب أنها تجمع تحتها ما يتفرق في هذه الأسباب .
السبب الأول : مرض القلب
القلوب العليلة المريضة التي فيها علة حسد لا تقبل مطلقاً أن ترى على أحد غيرها خيراً ، وإذا رأت عند أحد فضلاً ، أو لمست منه علماً ، أو رأت فيه نجدة ، وهمة ، ومثابرة ، وعملا لم تطب لها نفس ، ولم يطمئن لها قلب ، وحينئذ لا يمكن لمثل هذا المريض أن يبرأ ، إلا أن يخوض في مثل هذه الأبواب ، وتلك الأدواء ، ومرض القلب متنوع متشعب كثير ، وأعظم ما في مرض القلب مواته ، بحيث لا يهتز للوعيد ، ولا يتذكر الآخرة ، ولا يتفطن لإقباله على الله عز وجل ، ووقوفه بين يديه ؛ فإن موت القلب أعظم موت ، وأعظم ما يقع به الخسارة في دنياه وأخراه ، ولا شك أن تكاثر الأمراض على الجسد ، كتكاثر السهام على الجسد ، هذا جرح يسيل منه الدم ، وهذا جرح عميق ، وثالث غائر ، ورابع في مقتل ، وخامس يشل به عضو ، حتى إذا تكاثرت أثخنت ذلك الجسد بالجراح ، وجعلته طريحاً إما مريضاً وإما قتيلاً نسأل الله السلامة .
السبب الثاني : غلبة الهوى
فإن بعض النفوس تحب أشياء فيها حب الاستعلاء .. فيها طلب الشهرة .. فيها رغبة التفرد .. فيها نوع من حب الشذوذ .. هذه الأهواء تعصف بكثير من أصحابها ، وكما ذكر ابن القيم : " بحر الهوى إذا مدى أغرق صاحبه ، فلا يرى ولا يسمع ولا تنفتح له بصيرة ، ولا ينفتح له بصر ، فيحرم من كثير من الخير ، ولا يقوده هواه إلا لمواقع الزلل ، و المخاطر التي قلّت أن يتجنبها ، وربما فيما هو أسوأ منها " .
السبب الثالث : سوء الفهم
وهذا لعله هو علة كثيرين ، ونحسن الظن ونرجو أن يكون كل من أخطأ في هذا الباب قد سلم من مرض القلب ، ومن غلبة الهوى ، وإنما أوتي من سوء الفهم ، وأن يقوده العلم وترشده البصيرة إلى مواقع الصواب ، فيرجع هو شأن المؤمن الرجّاع الأوّاب : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } والمؤمن رجّاع إلى الحق مادام قلبه حيّ بالإيمان ، ومادامت نفسه متيقظة متفكرة .(/4)
وسوء الفهم ينشأ من مسائل فيها حق وصواب ، لكنه عند تنزيلها على الواقع يخطئ فيها ، ولا يحسن اتيانها ، أو يخل بميزانها ، فهو يقول على سبيل المثال : " الحق أحق أن يتبع " هذا كلام جيد نفيس مستحسن ، لا غبار عليه ، ولا نقد عليه ، لكنه قد يأتي بفعل يرى هو أنه يطبّق به هذه المقولة وهو عنها بعيد، كما قال أحدهم معلقاً على فهم لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام : ( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) إلى آخر الحديث ، قال تعليقاً على هذا : " لا إله إلا الله أعلاها يقاتل عليها صاحبها ، أما إماطة الأذى عن الطريق وإن كانت من شعب الإيمان ، فهل يقاتل عليها من أجلها ، لأنها هذه شعبة وتلك شعبة !!" من ساء فهمه قال كلها خصال ، وكلها شعب لا مناص من أن يكون موقفه في واحدة كموقفه في الثانية ، أو في سائرها ومثل هذا وأمثلته كثيرة ، يدخل في ذلك فقه مراعاة الأولويات ، وفقه درء المفاسد ، وجلب المصالح ، وتقدير أعظم المفسدتين ، وأعظم المصلحتين لجلب أعظم المصلحتين ، ودرء أعظم المفسدتين ، ونحو ذلك من أمور الكثيرة التي ذكرها أهل العلم ، ولست بصدد التشعب في مثل هذه القواعد ، فقد أسلفنا الحديث عنها في بعض الدروس ، ولعلي أشير أيضا في آخر الحديث التي جمعت نفائس من سير أسلافنا في بعض هذه المواضع والمواطن ؛ فإن من أمثلة سوء الفهم أن الإنسان يخطئ وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ، فما أن يخطئ المرء خطأً حتى يرى من أولئك القوم شدة ، وغلظة ، وفظاظة هي أكبر من خطأه ، وهذا كما ذكر أهل العلم لا يجوز ولا يسوغ ؛ فإن الإنكار ينبغي أن يكون على قدر المنكر .
وكذلك تجد صور أخرى ؛ فإن سيئة واحدة عند بعضهم تمحو حسنات كثيرة ، والميزان على غير ذلك ؛ فإن الحسنات الكثيرة تمحو السيئات القليلة بإذن الله عز وجل ، ومقالات أهل العلم فيما يقع من خطأ العالم أو الفاضل كثيرة بأن سيئاته توهب لحسناته بإذن الله ، وأنه إذا وقع منه خطيئة أو سيئة أو زلل أو نحو ذلك ؛ فإنه إنما كان عن اجتهاد مغفور له ، وأنه إن كان غير ذلك فإن له سيئات مكفرة ، وإن كان غير ذلك فإن له توبة واستغفار يرجى له بها القبول عند الله فتمحو بها سيئاته ، وهكذا نجد هذا الباب فيه أمثلة كثيرة ، وقواعد عديدة ، ليس هنا مجال ذكرها . ولعل هذه الأسباب الثلاثة هي أكثر ما تدور عليه أسباب العدوان على إخوانهم .
ونقف الوقفة التي ربما تكون أهم من سابقاتها ، فليس من مهمتنا أن نقع فيما نحذر غيرنا منه ، فننتقد المعتدين بالاعتداء عليهم ، ونعاتب المجرِّحين بجرحهم ، وليس فيما ذكرنا شيء من ذلك إن شاء الله ، ولكن الإفاضة في مثل ذلك قد يكون له وجه من هذه الوجوه ، فليكن ما أسلفناه إنما هو التنبيه والتذكير والتعريف .
ثم نلتفت إلى ما هو أجدى وأحرى بنا جميعاً أن نتواصى به ، و هو " كيف نمنع هذا العدوان ؟ " ، فقد نكون نحن ممن وقع فيه ، وما منا أحد إلا وقد مر به خاطر سوء ، وألمّ به على بعض إخوانه سوء ظن ، وربما حمل على بعضهم شيء من ضغينة ، أو ربما كان لبعضهم له موقف ، فكان أن ردّ الصاع صاعين ، والنبي - عليه الصلاة والسلام -مضرب المثل عندما قال : ( لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئاً فإني أُحُب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر ) رواه أبو داود .
وكذلك عندما أخبر عن الرجل أنه من أهل الجنة فبات عنده عبد الله بن عمرو ، فلم يرى عنده كثير صيام ، أو كثير صلاة فتعجب من ذلك فقال له : " ليس إلا ما رأيت غير أني لا أبيت ليلة من الليالي وليس في قلبي غش ولا غل على أحد من المسلمين " قال : " بها بلغت وهي التي عنها نعجز " أو يعجز عنها الكثيرون .
وهذا ميدان من ميادين التنافس الإيماني ، والتربية الحقيقية ، التي ينبغي أن يكشف كلٌ نفسه أمامها ، ويصارح نفسه في ميدانها، حتى لا يُبقي في قلبه مساحة تسمح بأن يدخل في مثل هذه المزالق ، أو يخوض في مثل هذه المعامع والمهامع . فنسأل الله أن يجنبنا ذلك .
موانع العدوان
ونقف وقفة مع منع العدوان ، وكيف نأخذ أسبابه ؟ وكيف نتذكر أو نتواصى به ؟ ونأخذ بوسائله لعل الله أن يجنبنا أولاً ، ويجنب إخواننا جميعاً ؛ لأن المؤمن لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، فلا تقل فلان قد خاض في هذا فدعه ؛ فإنه قد وقع في هذه الفظائع ولكن ينبغي لك أن تدعوَ له بأن يجنبه الله عز وجل مثل هذه الأفعال القبيحة ، والأعمال الشنيعة .
ومما يذكر في سيرة الحسن البصري أنه أتاه آت فقال : إن فلاناً يغتابك ويذكرك ، ويقول فيك وفيك ، فما كان من الحسن البصري إلا أن انتقى تمراً من أطيب التمر وأحسنه ، ثم أخذ منه في إناء وذهب به إلى ذلك الرجل ، وقرع عليه باب بيته ، فلما فتح أهداه ، فتعجب الرجل ! قال : " ليس عندي من الحسنات ما أهديك فإني أَضنّ بها على غيري ولكن وقد أهديتني من حسناتك أهديك تمراً " .(/5)
ولا شك أن هذا فيه بعض التنبيه والتذكير ولفت النظر ، وأن الإنسان ينبغي له أن لا يخوض مع الخائضين ، وأن لا يكون كما قلت يرد على المخطأ بخطأ مثله بل على أقل تقدير {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } ، وإذا كان له عزيمة وشرف وإيمان فليكن ممن يمتثل قول الله : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم } ورحم الله الشافعي وقد استفتحنا الحديث بكلامه فإنه كان يقول : " ما ناظرت أحداً إلا أحببت أن يظهر الحق على لسانه " تلك هي النفوس الكبيرة .. تلك هي القلوب المؤمنة .. الهمم السامية العالية ، وتلك هي العقول المتأملة المتفكرة المتدبرة ، هؤلاء أسلافنا وأئمتنا جمعوا إلى غزير العلم نقاء القلب ، وزاد التقوى الذي به بلغوا أعظم ما يبلغه من كان له علم وحفظ ، وإنما يبلغ المرء بتقواه أعظم مما يبلغه بعلمه ، والأمران مترابطان {واتقوا الله ويعلمكم الله } .
فنقف بعض الوقفات مع هذه الموانع ، التي نسأل الله أن يجنبنا وإياكم إياها ، نقسم الحديث عن هذا العدوان إلى ثلاثة أقسام .
أولاً : قسم نوجهه إلى المعتدين .
ثانياً : قسم نوجهه إلى السامعين الصامتين .
وثالثاً : نوجهه إلى المتضررين الذين ينالهم الأذى بمثل هذا .
موانع عدوان المعتدين
أولاً : تذكير وتنبيه
فنخاطبهم ونذكر أنفسنا وإيّاهم ببعض ما ينبغي أن ينتبهوا له . وأوله نداء نقول فيه احفظوا اللسان ، وقد جاءت الآيات في مثل هذا كثيرة ، والأحاديث عظيمة ، فالله جل وعلا قال : { قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون } تأمل هذه الصفة التي ذكرت في أوائل صفات المؤمنين المفلحين ، وقال تعالى : { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } وقال تعالى : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } وقال جل وعلا : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً } وقال جلا وعلا : { ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه } وقال جل وعلا : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } انظر إلى هذا الآيات في شأن هذا الاعتداء باللسان .
والنبي - عليه الصلاة والسلام - فيما صح عنه قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) ، قال النووي - رحمه الله - في الكلام على هذا الحديث : " الكلام على أربعة أنواع :
1- قول استبان لك رشده ، وتعيّن قوله ، فهو الواجب فانطق به .
2- وقول استبان لك غيّه ، والمنع منه ، فأمسك عنه .
3- وقول غلب على ظنك أن خيره أكثر من شره فتكلم به .
4- وقول لا تدري أيغلب خيره شره أم شره خيره فأمسك عنه " .
ومما يذكر من كلام حكماء الصين أن أحدهم كان يقول عبارة فيها لطافة ظرافة ، وهي تتعلق بالزرافة ، قال : كان يرغب أن تكون له رقبة مثل رقبة الزرافة ، فلما سئل عن ذلك قال حتى يكون هناك وقت بين صعود الكلمة وخروجها ، فأتأمل فيها ؛ فإن كانت في الحكمة والصواب أنفذتها وإلا أمسكتها . ولا شك أنها حكمة من حكيم .
والنبي - عليه الصلاة والسلام - قد قال : ( إن الله تجاوز لأمتي عن ما توسوس به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم به وما استكرها عليه ) وقال : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) ، ولعل تعبير بعض الأدباء والدعاة أن اللسان كالسيف ، وأن اللسان كالسنان ، وأن طعن اللسان أقوى من طعن السنان ، لا شك أنه تعبير بليغ ؛ فإن الإنسان لو كان يحمل في يده سيف ، أو يحمل في يده سكينة حادة ، ثم يسير بين الناس ويتكلم معهم ، ويخوض فيما بينهم وسيفه مشرع ، وسكّينه ظاهر ، فكم من طعنة ستقع ؟ وكم من جرح سيبتلى به هذا ، وسيقع في هذا ؟ وهذا حال المتكلم يضرب لسانه يميناً ويساراً ، ويتكلم هنا وهناك ، ويقول في هذا الباب وفي ذاك ، وإذا به يطعن ويجرج ، ويقع منه ما يقع نسأل الله عز وجل السلامة .
والنبي - عليه الصلاة والسلام - قال : ( من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( وإن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي به في جهنم سبعيناً خريفاً ) ، والأمر في ذلك يطول وحسبنا تنبيهاً منه - عليه الصلاة والسلام - للأبرار والأطهار والأشراف من أصحابه - رضوان الله عليهم - وأمهات المؤمنين - رضوان الله عليهن - فهذه عائشة - رضي الله عنها - قالت : " حسبك من صفية قصرها " فقال عليه الصلاة والسلام : ( قد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ) ، وقال - عليه الصلاة والسلام في - وصيته : ( لا تقل بلسانك إلا معروفاً ولا تبسط يدك إلاّ إلى خير ) فنقول لكل من وقع أو يقع : احفظوا اللسان .
المانع الثاني : تحذير وإخطار(/6)
احذروا الظلم ؛ فإن هذا العدوان ظلم توقعه على أخيك المسلم ، تظلمه بما قد تكون قد قلته في حقه وليس بصحيح ، أو ظننته وليس بواقع ، أو كان صحيحاً ولكنك حرمت أخاك النصح ، والرفق واللين الذي ينبغي أن يكون منك ، والستر الذي ندبت إليه، والعلاج الذي ينبغي أن تتدرج عليه ، وتترفق به ، وتصبر عليه ، وان كان من وراء ذلك نوع من غلظة وشدة فهي أيضاً في لسان الشرع لها ضوابطها ، ولها مواقعها ، ولا تنكر إن كانت في هذا الباب .
ولاشك أن من أعظم الظلم الوقوع في أعراض المسلمين ، وهذا أحد الكتّاب له كلمات فيها عظة : " أيها الظالمون الواقعون في أعراض المسلمون .. أيها المبترون اعلموا أنكم محاسبون ، وأنكم واقفون بين يدي الله ، وليس بينه وبينكم ترجمان ، كيف ارتضيتم لأنفسكم الافتراء على المسلمين ، والوقوع في أعراضهم ، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ؟ ويحكم هل أنتم مسلمون ؟ أما قرأتم قول الله عز وجل : { والذين يؤذون المؤمنون والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثما مبيناً } ؟ أما قرأتم قول الله تعالى : {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع } ؟ أما قرأتم قوله تعالى : {ما للظالمين من نصير } ؟ أما تخشون أن تقام عليكم الحدود يوم القيامة ؟ اسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد إلا أن يكون كما قال ) [متفق عليه ] .. أيها الآثمون اسمعوا حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام : ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ) " .
وأيضا هذا كما قلنا باب عظيم ينبغي أن ننتبه له ، وفيه حديث عن عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام : ( الظلم ثلاثة : فظلم لا يتركه الله ، وظلم يُغفر ، وظلم لا يغفر ، فأما الظلم الذي لا يغفر فهو الشرك لا يغفره الله ، وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد فيما بينه وبين ربه ، وأما الظلم الذي لا يُترك فظلم العباد يقتص الله لهم من بعضهم البعض ) ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة ، ولعلنا نكتفي بهذا في تذكير المعتدين ففي هذا غنية عن غيره ، والباب في هذا يطول .
مواقف السامعين من العدوان
1 ـ الذب عن عرض المسلم .
2 ـ تذكير الواقع في عرض أخيه المسلم .
3 ـ إحساسه بعدم موافقته ، وعدم مسايرته ، فضلاً عن الخوض معه . ولذا أوصى بعضهم بوصايا ، بأنه ينبغي لك أن لا تفتح لهذا أذنيك ، وأن لا تهش له وتبش ؛ حتى لا يظن أنك بكلامه سعيد ، وأنك له مؤيد وموافق .
4 ـ تذكيره بتقوى الله وما هو واقع فيه، وتذكيره بأحاديث الوعد والوعيد .
5 ـ الجمع بينه وبين من يقدح فيه ويذمه ؛ حتى يجتلي الحق ، ويقع النصح موقعه، ويتسامح الطرفان .
فإن ثبت كذبه وافتراءه وعدم رغبته في إيقاع النصح موقعه إن كان ثمة خطأ .
6 ـ الغلظة في معاملته ؛ حتى يزدجر عن مثل فعله . ويذكّر المرء في مثل هذا بقوله سبحانه وتعالى : { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } وقد ذكَّر النبي بهذه الآية في الحديث الذي بيّن فيه سيرة بني إسرائيل ، وأنه لا يمنع أحدهم أن يكون أكيله ، وقعيده ، وشريبه فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبهم بعضهم ببعض .
ثم وصية مهمة ، وهي أنه ليس من مهمتك ، وليس من أدب المسلم أن يكون نقاداً للكلام ، فكلما حضر مجلس نقل قول فلان في فلان ، أو نقل الأقوال في قضية أو مسألة ، أو نحو ذلك لا يكون هذا دأب المسلم بل كما قيل : حسب المرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع .
وكذلك ينتبه المرء الذي يعلم أنه لا يحفظ الكلام حفظاً دقيقاً، أو أنه لا يحسن فهمه وتنزيله مواقعه ، فكم من إنسان ربما سمع من عالم فتوى أو قول لم يحفظه أو لم يفقهه فنقله على غير نقله فأساء من حيث أراد الإحسان ، وربما وقع بنقله الوقيعة ، وحصل من ذلك ما لا تحمد عقباه ، وهو عن ذلك غافل وغير منتبه .
وأيضا ينبغي لأولئك السامعين أن ينهجوا نهج أسلافنا ؛ فإن البخاري ذكر أنه لم يكن يرضى أن تذكر في مجلسه غيبة مطلقاً ، ولا يسمح بذلك ، ولا يقبل به ، ولا يفتح الأبواب ؛ حتى يكون كل منا عوناً على سدّ هذه الأبواب .
وصايا إلى من وقع عليه العدوان
ثم ننتقل أخيراً إلى بعض الوصايا إلى من قد يكون وقع عليه ذلك الأذى والظلم
وقبل ذلك أيضاً نذكر تذكرة ببعض الأصول التي ذكرها الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله :
الوصية الأولى : تحريم النيل من عرض المسلم ، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة في إطار الضروريات الخمس التي من أجلها الشرائع ، ومنها حفظ العرض .
الوصية الثانية : الأصل بناء حال المسلم على السلامة والستر ؛ لأن اليقين لا يزيله الشك وإنما يزال اليقين بيقين مثله .(/7)
الوصية الثالثة : لا يُخرج عن هذين الأصلين إلا بدليل مثل الشمس في رائعة النهار على مثلها فاشهد أو دع ، ضرورة التثبت، فالتزم واجب التبين للأخبار ، والتثبت منها إذ الأصل البراءة ، فكم من خبر لا يصح أصلاً ، وكم من خبر صحيح لكن حصل عليه من الإضافات لا يصح أصلاً أو بدل أو حرف، وبالجملة فلا تقرر المؤاخذة إلا بأن تأذن لك الحجة ويقوم عندك قائم البرهان كقائم الظهيرة .
الوصية الرابعة : من تجاوزهما بغير حق متيقن ، فهو خارق لحرمة الشرع بالنيل ظلما من عرض أخيه المسلم ، وهذا مفتون .
الوصية الخامسة : يجب أن يكون المسلم على جانب كريم من سمو الأخلاق وعلو الهمة ، وأن لا يكون معبراً تمرر عليه الواردات والمختلقات ، وهذه وصية نفيسة .
الوصية السادسة : يوجد أفراد شغلهم الشاغل تطيير الأخبار كل مطار ، يتلقى لسان عن لسان، بلا تثبيت ولا روية ثم ينشر بفمه .. بلسانه بلا وعي ولا تعقل فتراه يقذف بالكلام ويطير به هناك ، فاحذر طريقتهم ، وادفع في وجهها واعمل على استصلاح حالهم ، ومن وقع في حبالهم فعليه سل يده من رابطتهم .
الوصية السابعة : التزم الإنصاف الأدبي بأن لا تجحد ما للإنسان من فضل وإن أذنب فلا تفرح بذنبه ولا تتخذ الوقائع العارضة منهية لحال الشخص ، واتخاذها رصيد ينفق منه الجراح في الثلب والطعن . وأن تدعو له بالهداية ، أما التزيد عليه ، وأما البحث عن هفواته وتصيدها فذنوب مضافة ، والرسوخ في الإنصاف بحاجة كبير من خلق رفيع ، ودين متين ، فاحذر قلة الإنصاف
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
ثم ننبه أيضا إلى بعض التنبيهات المهمة في هذا الباب ، ونختم هذا كما قلنا بما يذكَّر به المؤمن الذي قد يتعرض لمثل هذا الأذى ، ومن ذلك أن يحتسب هذا البلاء في طريق دعوته ، وإخلاصه ، وإصلاحه ، وسعيه في الخير بين الناس ؛ فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو من هو قد رمي بما هو أفظع وأعظم من ذلك ، واتهم بتهم باطلة زائفة ، وقيل فيه أنه ساحر ، وأنه مجنون ، وأنه كذاب ، وانه كذا كذا ..
تنبيهات عامة للمعتدى عليه
أولاً : الصبر هو باب عظيم من أبواب تحصيل الأجر فليحتسب وليصبر أولاً .
ثانياً : أن يدرك عواقب الأمور ، وأنه إن شغل نفسه بمثل هذا القول ؛ فإنه سيخوض مع الخائضين، ويقع فيما يحذر منه ، وسينفق وقته وجهده أيضاً فيما ينفق فيه الآخرين الوقت والجهد، فينصرف عن البناء ، وعن بذل الخير ، وعن المضي نحو صلاح الأمة ونفعها إلى أمور جانبية عارضة لا يستفيد منها ، ولا تستفيد منها الأمة المسلمة .
ثالثاً : أن يعلم أنه مطالب بالإصلاح ، فلئن كان يصلح عموم الناس ؛ فإن المتعرضين له بالأذى أولى أن يصرف لهم بعض دعاءه ، وجهده ، ونصحه ، وإرشاده وإصلاحه ؛ فإنه يكون أثر ذلك أبلغ ، فهذا الأعرابي الذي جاء يجذب النبي - صلى الله عليه وسلم - من رداءه ، ويقول : يا بني عبد المطلب إنكم قوم مطل ، فيشتد عليه عمر بن الخطاب فيقول له عليه الصلاة والسلام : ( كان أولى بك أن تذكره بحسن القول وتذكرني بحسن الأداء ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام .. عندما يكون المعتدى عليه صاحب الحلم ، وهو صاحب الصفح ، وهو المبادر بالإحسان لا شك أن هذا أبلغ في الإحسان { ادفع بالتي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }
وذي رحم قلمت أظفار ضغنه بحلمي عنه وهو ليس عنده حلم
ينبغي للإنسان أن يتنبه لذلك وأن يحرص عليه، ولا شك أيضاً أن ينتبه إلى ما ذكرناه من مخططات الأعداء فيفوّت عليهم الفرصة ، ويكون من الوعي بمكان ، ومن الإدراك لحال الأمة، وأنها ينبغي أن لا تبدد طاقاتها وأوقاتها في مثل هذه المهاترات ، وأن يكون سامي الفكر .. عالي القدر .. نيّر الرأي ، فلا يخوض أو يجنح عن جادة الصواب، ولنا في قصة موسى وحواره مع فرعون في سورة الشعراء مثل في هذا ، فقد كان فرعون يأتي بأمور جانبيه ليدخل موسى في مناقشات ومهاترات ، وكان موسى يمضي إلى تقرير الحق ، وتثبيت الوحدانية ، والدعوة إلى التوحيد ، وفي قصة الخليل مع نمرود دروس وعبر تستفاد في هذا الباب .
وأيضا نذكر أنفسنا بمثل ما يذكر به أن هذا الباب ، فقد كان فيه من أهل الفضل والصلاح والأئمة والعلماء وأسلاف كثيرون وقع عليهم مثل هذا الأذى ، ونيل من أعراضهم ، وكانوا في مواقفهم ، وفي علو هممهم ، وترفعهم عن الدنايا ، ونقاء قلوبهم ، ورجاحة عقولهم ، ما هو موضع عبرة لنا وما يكونون لنا به قدوة و أسوة حسنة لنا، وقد ذكر الشيخ بكر أبو زيد في كتابه بعض الأمثلة العجيبة عن الإمام الشاطبي وعن غيره من العلماء .
ونقول في جماع تذكير المتضررين من مثل هذا الأمر أن عليهم أموراً نذكر منها :
1 ـ ما يجب على المتضررين من العدوان الاستمساك بما عليه من الحق ، وإن كثر من عارضه فيه ، أو عيّره فيه ، ونحو ذلك ؛ فإنه ينبغي له أن يستفيد مما يسمع ؛ فإن رأى أنه على الحق ثبت عليه .(/8)
2 ـ لا يبتئس ولا يحزن لما يسمع من تلك المقالات ؛ حتى لا يؤثر ذلك على نفسه ، كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام : { إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون } .
3 ـ ليحرص أن لا يشوب قلبه البغضاء ، وأن يحيد عن الصفاء والنقاء ، وأن يحيد عن إرادة الخير للمسلمين وإن كانوا من المعتدين .
ولعلي أذكر مثال واحد في جمل عديدة تبين لنا بعض ما كان عليه حال بعض العلماء من السابقين، فهذا الإمام عبد الرحمن بن بطة الحافظ يحكي عن نفسه فيقول : " عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين ، والأبعدين ، والعارفين ، والمنكرين ؛ فإني وجدت في مكة وخراسان وغيرهما من الأماكن ، أكثر من لقيت بها موافقاً أو مخالفاً ، دعاني إلى متابعته إلى ما يقول ، وتصديق قوله ، والشهادة له ، فإن كنت صدقتّه فيما يقول وأجزت له ذلك فيما يقول ، سماني موافقاً كما يقول أهل هذا الزمان ، وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفاً ، وإن ذكرت في واحد منه أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد سماني خارجياً ، وإن قرأت عليه حديثاً في التوحيد سماني مشبهاً ، وإن كان في الرؤية سماني سالمياً ، وإن كان في الإيمان سماني مرجئياً ، وإن كان في الأعمال سماني قدرياً ، وإن كان في المعرفة سماني كرّامياً ، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبياً ، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضياً ، وإن سكتّ عن تفسير آيه أو حديث فلم أجب إلا بهما سماني ظاهرياً ، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنياً ، وإن أجبت بتأويل سماني أشعرياً ، وإن جحدتهما سماني معتزلياً ، وإن كان في السنن مثل القراءة سماني شافعياً ، وإن كان في القنوت سماني حنفياً ، وإن كان في القرآن سماني حنبلياً ، وإن ذكرت رجحان مذهب ما ذهب إليه واحد من الأخيار إذ ليس في الحكم والحديث محاباة قالوا تجنبت تزكيتهم ، ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يَقرأون عليّ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من تلك الأسامي ، ومهما وافقت بعضهم عاداني غيرهم ، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله ، ولن يغنوا عني من الله شيئاً ، وإني مستمسك بالكتاب والسنة وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الغفور الرحيم " .
ولا شك أن رضى الناس - وخاصة عند الأخطاء - أمر لا يدرك ، ولا يقبل ، ولا يسعى إليه أيضاً، وأيضاً أحب أن أختم بأن هذا الذي ذكرناه في باب الأخطاء ، وفي موارد الزلل ، وأما الإنكار المشروع ، وأما النصح والذم للأفعال الخاطئة وأما ما استثني ـ كما قد رأيت في بعض الأسئلة من أمور أبيح فيها ذكر بعض الناس أو ذكر الغيبة - فهذه الأمور بضوابطها، ولم نقصد في هذا الموضوع التفريع على كل هذه المسائل، وظاهر في سياق الحديث أن المقصود بما ألمحنا إليه من هذه الأفعال هو ما كان مذموماً في ميزان الشرع ، دون ما كان له وجهٌ مشروع ؛ فإن المشروع قد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام ، وأخذ به الصحابة ، وسار عليه سلف الأمة ، ولكنا قد رأينا فيما يظنه بعض الناس صواباً أوقعوه موقع الخطأ ، فكان فيه مثل هذا الأمر الذي استدعى مثل هذا التنبيه(/9)
باحث عن النجاة
روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ حَدِيثَهُ مِنْ فِيهِ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا: «جَيٌّ»، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ - أَيْ مُلاَزِمَ النَّارِ - كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ، وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطَنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا لاَ يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَة
قَالَ: وَكَانَتْ لأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ. قَالَ: فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانٍ هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي، فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا، وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ. فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لاَ أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ. فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ.
قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلاَتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ؟
قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ. قَالَ: فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟! قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ، مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَازِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ. قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ. قَالَ: قُلْتُ: كَلاَّ وَاللَّهِ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِنَا.
قَالَ: فَخَافَنِي، فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ. قَالَ: وَبَعَثَتْ إِلَيَّ النَّصَارَى، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى، قَالَ: فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلاَدِهِمْ فَآذِنُونِي بِهِمْ.
قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلاَدِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: الأَسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ.
قَالَ: فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ أَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ. قَالَ: فَادْخُلْ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ.
قَالَ: فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ، يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا، فَإِذَا جَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا أَشْيَاءَ اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلاَلٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ.
قَالَ: وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ، ثُمَّ مَاتَ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا. قَالُوا: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ. قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ. قَالَ: فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلاَلٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا. قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: وَاللَّهِ لاَ نَدْفِنُهُ أَبَدًا، فَصَلَبُوهُ ثُمَّ رَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ. ثُمَّ جَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَجَعَلُوهُ بِمَكَانِهِ.(/1)
قَالَ: يَقُولُ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً لاَ يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَلاَ أَرْغَبُ فِي الآخِرَةِ وَلاَ أَدْأَبُ لَيْلاً وَنَهَارًا مِنْهُ. قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَهُ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلاَنُ إِنِّي كُنْتُ مَعَكَ وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا الْيَوْمَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ رَجُلاً بِالْمَوْصِلِ، وَهُوَ فُلاَنٌ، فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، فَالْحَقْ بِهِ.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلاَنُ، إِنَّ فُلاَنًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ. قَالَ: فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ. فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلاَنُ، إِنَّ فُلاَنًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا تَرَى، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلاً عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلاَّ بِنَصِيبِينَ، وَهُوَ فُلاَنٌ، فَالْحَقْ بِهِ.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي، قَالَ: فَأَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ، فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ، فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلاَنُ، إِنَّ فُلاَنًا كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلاَنٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلاَنٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلاَّ رَجُلاً بِعَمُّورِيَّةَ، فَإِنَّهُ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ. قَالَ: فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ مَعَ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ. قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ.
قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلاَنُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلاَنٍ، فَأَوْصَى بِي فُلاَنٌ إِلَى فُلاَنٍ، وَأَوْصَى بِي فُلاَنٌ إِلَى فُلاَنٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلاَنٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلاَمَاتٌ لاَ تَخْفَى: يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلاَ يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ. فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلاَدِ فَافْعَلْ.
قَالَ: ثُمَّ مَاتَ وَغَيَّبَ، فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارًا، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ. قَالُوا: نَعَمْ. فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِيَ الْقُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا، فَكُنْتُ عِنْدَهُ وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، وَلَمْ يَحِق لِي فِي نَفْسِي.(/2)
فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي، فَأَقَمْتُ بِهَا. وَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ لاَ أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ، إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ياَ فُلاَنُ، قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ، وَاللَّهِ إِنَّهُمْ الآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ.
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ، حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي. قَالَ: وَنَزَلْتُ عَنْ النَّخْلَةِ فَجَعَلْتُ أَقُولُ لابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ: مَاذَا تَقُولُ؟ مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: فَغَضِبَ سَيِّدِي فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا؟! أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ. قَالَ: قُلْتُ: لاَ شَيْءَ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ عَمَّا قَالَ. وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِقُبَاءَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ. قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ.
ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لاَ تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَاتَانِ اثْنَتَانِ.
ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ. قَالَ: وَقَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ لَهُ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي.
فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلماسْتَدَرْتُهُ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي، قَالَ: فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ، فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَحَوَّلْ. فَتَحَوَّلْتُ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي، كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ. قَالَ: فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ. ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرٌ وَأُحُدٌ.
قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ. فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلاَثِمِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: أَعِينُوا أَخَاكُمْ. فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ الرَّجُلُ بِثَلاَثِينَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ، يَعْنِي الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلاَثُمِائَةِ وَدِيَّةٍ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ، فَفَقِّرْ لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ.
فَفَقَّرْتُ لَهَا وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ. فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ.(/3)
فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ. فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي، فَقَالَ: مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟ قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ. فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ قَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ. قَالَ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا، وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ وَعُتِقْتُ، فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَنْدَقَ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ.ورواه الطبراني في الكبير 6/222 رقم:6065].
الدروس والفوائد من القصة:
1- اهتمام الصحابة بالقصص.
2- التربية بالقصة.
3- أهمية القصة في إيصال المعلومة.
4- تعظيمهم لعبادتهم والإنفاق العظيم عليها حتى لا تخبو النار ساعة واحدة.
5- بقاء النساء في البيوت فطرة فطرت البشرية عليها.
6- إذا أراد الله بعبد خيرا هيأ له أسبابه، فهذا سلمان المجوسي كالجارية في بيتها لا يخرج أبدًا، فقدر الله انشغال أبيه بالبنيان عن الضيعة ليأمر ابنه ولأول مرة بالخروج للضيعة، وترك البيت لينقذه الله من النار.
7- أهمية التحصين من العقائد المخالفة، فلا يكفي أن تربي ولدك على معرفة الحق، وتغلق أمامه جميع أبواب الدنيا حتى يصبح لا يعرف ما ذا خلف الجدار؛ فإن من طبيعة الإنسان حب الاستطلاع.
8- أهمية التوعية بالدين الحق، ودلالة الناس عليه، وعدم التقوقع على النفس، فإن غالب الناس لا يعرفون ما عندك إذا لم تشهره، فهذا سلمان لم يسمع أبدًا بالنصرانية فضلًا أن يدعى لها.
9- أهمية الوسائل في إيصال الحق إلى الناس، فرفع الصوت بالقراءة والصلاة لفت نظر سلمان، وحمله على الدخول والاطلاع.
10- أهمية إظهار الشعائر وإعلانها وأدائها على الوجه الصحيح الأكمل، فكم ممن أسلم لمجرد رؤية المصلين.
11- مهما كانت تربية أهل الباطل وتحصينهم لأبنائهم فإن العقائد الباطلة تحمل نقضها وبطلانها في نفسها، ولكنها تحتاج إلى إزالة الستار عنها حتى يعي صاحبها.
12- قوة تأثير الحق على الخلق، فلو ترك الخلق وسماع الخير، وأبعد عنهم التشويش؛ لانقادوا إليه طائعين دون كبير جهد.
13- سرعة تأثر الشباب، وشجاعتهم في اتخاذ القرار؛ نظرًا لبعدهم عن التراكم التراثي الذي يعيق الملأ عن قبول الحق. ولهذا رغب سلمان في دين النصارى وهو لأول مرة يسمع به، بينما والده مع معرفته القديمة بالحق إلا أنه لم يلتفت إليه تمسكًا بتراث الأجداد.
14- الحرص والتركيز على دعوة الخلي من الشبه والدعايات المضللة عن الإسلام، فمهما كان دينه وعقيدته فإنه أسرع الناس استجابة، فسلمان على الرغم من تطوره وتبوئه منزلة في المجوسية سرعان ما تركها لمجرد سماع صوت الحق؛ لكونه خلياًّ من أي معلومة مشوهة عنه.
15- التهميش والإسقاط للآخرين ليست وسيلة إقناع، كما قال والد سلمان:'ليس في ذلك الدين خير'.
16- عدم التهاون بالشبه التي تعلق بأذهان الطلاب والأبناء، بل يجب إعطاؤها وقتًا وجهدًا لاقتلاعها وإزالتها.
17- القيد يتداوله جميع الظلمة على مدار العصور للصد عن هدي الله؛ إذ ليس عندهم من المناهج ما يسد حاجة الناس، وليس عندهم من الحجج ما يمكنهم من ممارسة أساليب الحوار والاقناع.
قال ابن القيم:'فأقبل [سلمان] يناظر أباه في دين الشرك، فلما علاه بالحجة لم يكن له جواب إلا القيد، وهذا جواب يتداوله أهل الباطل من يوم حرفوه، وبه أجاب فرعون موسى عليه السلام: { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ[29]}[سورة الشعراء]. وبه أجاب الجهمية الإمام أحمد لما عرضوه على السياط، وبه أجاب أهل البدع شيخ الإسلام حين استودعوه السجن'.
18- متابعة المسلم الجديد كما فعل أهل الكنيسة مع سلمان.
19- السعي إلى تخليص المسلم من قيده.
20- التخطيط للفرار إلى النجاة.
21- علو همة سلمان، فها هو لأول مرة يسمع هذا الدين، فيطلبه من منبعه الأصلي خشية الكدر، على الرغم من ترتب الغربة، والبعد عن الأهل والوطن.
22- معرفة قيمة الأمر يسهل التضحية في سبيله.
ومن تكن العلياء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها محبب
23- البحث عن أعلم الناس للأخذ عنه والارتباط به.
24- متاجرة الأحبار بأموال الناس، واستغلال الدين في جمعها، كما قال تعالى: { إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ...[34]}[سورة التوبة].
25- مهما كان ما عليه الإنسان من العلم والعبادة والتفرغ لها، إلا أنه متى تسلط على أموال الناس وخانهم سقط من أعينهم وأبغضوه، فكيف بمن لا علم له ولا منزلة؟!(/4)
26- صبر سلمان على صحبة أبغض الناس إليه مع قيامه بخدمته ليلًا ونهارًا؛ لأنه لا يعلم أحدًا أعلم منه.
27- كتمان حال الأسقف عن الناس؛ لأن سلمان يعلم أن الناس لا يقبلون قول الغريب في عالمهم، وأيضًا قد يتصدى العالم للإنكار، أو يقدم الأعذار والحجج يبرر بها صنيعه.
28- عدم الكلام إلا من عنده دليل موثق مقبول عند الآخرين عند مطالبته به.
29 عدم قبول الكلام في العالم إلا بعد التبين والتثبت التام، إذ إن الأصل فيه الصلاح والورع والنزاهة.
30- مهما تستر الإنسان على دسائسه، فإن الله سيفضحه ولو بعد حين؛ كما افتضح الأسقف بعد موته. كما قيل في قوله تعالى:{...وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ[72]}[سورة البقرة].
31- يقول الحسن البصري:'بئس الدرهم والدينار لا ينفعانك حتى يفارقانك'، فهذا الأسقف ماذا استفاد من المال الذي جمعه ولم ينفقه؟ لقد أصبح وبالًا ومقتًا عليه، ولم يربح منه شيئاً، وراح وتركه.
32- إن سلمان يطلب أمرًا تصغر أمامه الدنيا بحذافيرها، ولو أراد مالًا ودنيا لأخذ الذهب وحازه ولم يعرف به أحد، ولكنه لو فعل ذلك لم يصل إلى الخير والإسلام الذي وصل إليه، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.
33- مهما كانت مكانة الإنسان وقيمته في قلوب الناس، ومهما اشتهر به من علم، فإن الناس سرعان ما يسقطونه وينبذونه إذا عرفوا تورطه بأي خيانة.
34-المنصب والجاه والمكانة والعلم يلزم حسن الظن به، والله تعالى أعلم بسريرته، ولا نشهد له بالولاية أو النجاة عند الله، الله أعلم بما كان يعمل وما يقصده، ولهذا كان من المعتقد الصحيح عدم الشهادة لأحد من أهل القبلة بجنة، أو نار، إلا من شهد له الشرع بأحدهما.
35- الملازمة والخلطة تسفر عن حقائق الناس، ولهذا عرف سلمان عن الأسقف ما غاب عن جميع أهل بلده.
36- الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، فروح سلمان ونفسه وافقت وألفت العالم الجديد؛ نظرًا لإيمانه وصلاحه وتقواه.
37- حرص سلمان على العلم، وملازمة أهله حمله على الطلب من كل عالم أن يوصي به إلى من هو مثله في العلم والصلاح.
38- مشروعية إخبار من تحبه في الله بأنك تحبه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي أن يقول لأخيه:' أَنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ '، فقال له:'أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي فِيهِ' رواه أحمد وأبوداود. فإن في هذا زرعاً للثقة والمحبة، ومداًّ لجسور الأخوة والصحبة.
39- ينبغي لأهل العلم والإيمان تحري الدقة في عباراتهم، كما قال سلمان رضي الله عنه:'فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه'.
40- فقه سلمان ومعرفته بمنازل الناس وبعده عن المبالغة.
41- مراعاة مراتب الحب والبغض.
42- تنقل سلمان بين البلدان والأوطان، ورحلته في طلب العلم.
43- منزلة الصبر والتحمل، وعدم الاستعجال والاكتفاء بالدون.
44- ندرة العلماء العاملين في الأرض دلالة على ضلال البشر، وانحراف الفطر، وتبديل الأديان، وانتشار عبادة الأوثان.
45- معرفة العلماء بواقعهم، واطلاعهم على جميع تفاصيله.
46- معرفة العلماء بنظرائهم في سائر البلدان، والتواصل والتعاون فيما بينهم.
47- ينبغي على أهل العلم والإيمان أن يدلوا تلاميذهم على أمثالهم من أهل العلم والصلاح للتلقي عنهم، ويوصوا العلماء بهم ليهتموا بهم أكثر.
48- حرص العالم على الطالب المتميز، وتعاهده ومتابعته والوصية به.
49- معرفة أهل الكتاب بالرسول صلى الله عليه وسلم، وصفاته، وصفات بلده، وزمان بعثته.
50- بذل سلمان جل ماله في سبيل الوصول إلى الإسلام.
51- صبر سلمان وتحمله للرق والعبودية طلبًا للوصول إلى رضوان الله، مع ما عرف عنه من الشرف والغناء في قومه.
52- انتشار الإسلام من خلال أعدائه، فسلمان سمع بوصول الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم.
53- بعد اليهود عن الهداية وعدم احتفائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، على الرغم من علمهم ومعرفتهم به وبصفاته وصدقه.
54- ظلم اليهود لمن تحت أيديهم، واحتقارهم وتسلطهم عليهم، وحجبهم عن معرفة الخير والنور.
55- إخفاء سلمان عن سيده اليهودي ما يدور في نفسه وما حمله على ترك بلده من البحث عن الحق، لمعرفته بكيد اليهود وبغضهم للحق وأهله.
56- البحث عن الحق ليس مسوغا للتقصير في حق المخلوق، فسلمان لم يترك عمله ويذهب للرسول صلى الله عليه وسلم فور علمه به، والله يعلم كم تحمل في الوصول إليه، بل لما أمسى وحضر وقت راحته ذهب إليه صلى الله عليه وسلم.
57- تلطف سلمان في الوصول إلى مراده من معرفة الحق، وعدم الاعتماد على غيره في ذلك.
58- مطابقة أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء في الإنجيل وأوصاف العلماء والرهبان.
59- إتاحة الرسول صلى الله عليه وسلم الفرصة لأتباعه بالتثبت والتبين.(/5)
60- هنا وصل سلمان إلى هدفه المنشود بعد طول رحلة ومشقة ورق في البحث عن النجاة، فأصابه ما أصابه من الانكباب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم الانتظار لحظة واحدة حتى يستقبله من تلقاء وجهه.
61- اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتثبيت وتجديد الإيمان في نفوس أصحابه، ولهذا أمر سلمان بذكر قصته لأصحابه.
62 - اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم برفع الرق عن سلمان، ولم ينشغل عنه على الرغم من كثرة الأعباء والأعمال المنوطة به صلى الله عليه وسلم.
63- التكافل الاجتماعي بين الصحابة رضي الله عنهم.
64- مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم في مشروع التكافل.
65- الهداية منة ومنحة من الله تعالى يمن بها على من يشاء من عباده، ولهذا وفق سلمان لها على بعد داره، وحرم منها أبو طالب على قرابته وجواره... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
من'باحث عن النجاة' للشيخ/يحيى بن إبراهيم اليحيى
مفكرة الإسلام(/6)
باقة ورد ونسرين مهداة لكل عروسين
دار الوطن
الحمد لله الذي خلق من كل شيء زوجين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة إلى الثقلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:
فما أسعدنا في هذا اليوم المبارك، وفي هذا العرس الطيب الزكي، حيث جمع الله تعالى فيه بين زوجين، وألف فيه بين قلبين، وقرب بين بعيدين، وقرن فيه مسلماً بمسلمة، بطريق شرعي حلال، على كتاب الله تعالى، وعلى سنة رسول الله : { أما والله إن لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني } [متفق عليه].
وقال عليه الصلاة والسلام: { حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة } [النسائي وأحمد وصححه الألباني].
2- والزواج استجابة لنداء الخالق جل وعلا بقوله: [النور:32].
3- والزواج نداء الفطرة، فمن تركه إلى غيره فقد خالف الفطرة ومن خالف الفطرة فهو على شفا هلكة [الروم:30].
4- والزواج من أعظم نعم الله على عباده، فهو طريق المودة، وسبيل السعادة، وعنوان الاستقرار، ومجال الرحمة قال تعالى: [الروم:21].
5- والزواج هو الطريق الشرعي الحلال لقضاء الوطر وتصريف الشهوة، قال تعالى: [المؤمنون:5-7].
فأين الشباب المسلم التقي؟
أين أحفاد خالد وعلي؟
أين الذين هم على صلاتهم دائمون؟
ذهب الأبطال وبقى كل بطال!!
6- والزواج عصمة للشاب والشابة من الفتن والانحراف، والفسق والفجور، ولذا حث النبي أن خير الإنفاق هو الإنفاق على الزوجة والعيال، قال عليه الصلاة والسلام: { دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلهم الدينار الذي أنفقته على أهلك } [رواه مسلم].
وقال النبي : { وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أ كان عليه فيها وِزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرُ } [رواه مسلم].
8- والزواج الناجح هو ما كان مبنياً على أسسٍ شرعية سليمة، ومن أعظم تلك الأسس: اشتراط الدين في الزوج والزوجة.
ففي الزوج قال النبي : { خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي } [رواه ابن ماجه].
فينبغي لولي المرأة أن ينظر في دين الرجل وأخلاقه، لأن المرأة تصير بالنكاح مرقوقة، ومتى زوجها وليها من فاسق أو مبتدع، فقد جنى عليها وعلى نفسه.
وفي لقيام الزوجة قال النبي صلى عليه وسلم: { تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها وجمالها ودينا، فأظفر بذات الدين تربت يداك } [رواه مسلم].
فصاحبة الدين تطيع زوجها في غير معصية، وتحفظه في نفسها وماله إذا غاب، ولا تهجر فراش الزوجية، ولا تخرج من بيتها بغير علم زوجها، ولا تصوم نافلة وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيتها لأحد لا يريده، قال النبي يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم : { استوصوا بالنساء خيراً } [متفق عليه]، وقد حذر النبي : { لا يقرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر } [رواه مسلم] معنى يفرك: يبغض.
3. كن صبوراً حسن العشرة، فخيركم من راعى وداد لحظة.
4. كن غيوراً على زوجتك ولا تبالغ في إساءة الظن، فقد قال النبي ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً : ما حق الزوجة على أحدنا؟ فأجاب عليه الصلاة والسلام: { أن تطعمها إذا طعمت، وأن تكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت } [رواه أحمد وأبو داود].
7. تعلم من فقه النساء ما تعرف به كيفية معاشرة زوجتك حال الحيض والنفاس، وعلم زوجتك هذه الأحكام إن كانت تجهلها.
8. أعلم أنه لا يجوز وطء الحائض، ولا الوطء في الدبر، وللرجل الاستمتاع بزوجته حال الحيض إلا بالجماع فإنه محرم.
9. من آداب الجماع: البدء بالتسمية، وبالملاعبة والضم والتقبيل قبل الجماع فإنه أوفق للمرأة والرجل، وإذا قضى الرجل وطره فليتمهل، فإن لزوجته حقاً، ومن أراد معاودة الجماع فليغسل فرجه ويتوضأ.
10. إياك وإفشاء أسرار الزوجية، قال النبي ، وفي ذلك يقول النبي لامرأة: { أين أنت من زوجك، فإنما هو جنتك ونارك } [رواه النسائي وأحمد وحسنه الألباني].
أختي العروس:
أين من تأمر زوجها بالتقوى وتعينه؟
أين من لا تغضب زوجها ولا تهينه؟
أين العابدات القانتات؟
أين الراكعات الساجدات؟
أين حفيدات أمهات المؤمنات؟
3. لا تطلبي من زوجك خادمة شابة، فقد تكون سبباً في طلاقك!!.
4. أعلمي أن حق الزوج مقدم على جميع الأقارب، فإذا تعارضت الحقوق، فقدمي حق الزوج ولا تبالي.
5. احفظي زوجك في ماله، ولا تخرجي شيئاً من البيت دون علمه، فإن تصدقت من ماله عن رضاه، كان لك مثل أجره، وإن كان بغير رضاه، كان له الأجر وعليك الوزر.
6. إياك وجارات السوء، وصديقات السوء، اللاتي يثرنك على زوجك، ويوقعن بينك وبينه، ويقللن من شأنه أمامك.(/1)
7. أصبري على أذى زوجك، وكوني حكيمة في التعامل معه عند الغضب، يحمد لك ذلك عند الرضا، واعلمي أن المشكلات الزوجية لا تكبر إلا بالعناد والمكابرة، فلا تهدمي بيتك بسبب الكبر والعناد.
8. أجيبي زوجك إذا دعاك مهما كانت الظروف، فقد أخبر النبي عن ذلك بقوله: { لا تباشر المرأة المرأة فتصفها لزوجها كأنه ينظر إليها } [متفق عليه].
10. أنت راعية في بيت زوجك ومسئولة عن رعيتك، فمري بالمعروف وأنهي عن المنكر، ولا ترضي بوجود شيء من المنكرات في بيتك، واعلمي أنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.
فتاوى في الأفراح والزواجات
حكم تزويج من لا يصلى
س: لقد تقدم لابنتي أحد أقاربي وله فضل عليّ ولكنه مدمن على شرب الخمر ويرافق أهل السوء وقليل الصلاة أو لا يصلي، ومدمن المشاهدة للفيديو والتلفاز آلات اللهو وأنا في حرج منه، أرجو توضيح حكم الإسلام في الأمر؟.
جـ: إذا كان الخاطب لابنتك بهذا الوصف فلا يجوز لك تزويجها إياه، لأنها أمانة لديك، فالواجب عليك أن تختار لها الأصلح في دينه وأخلاقه، والذي لا يصلي لا يجوز أن يزوج بالمسلمة التي تصلي، لأنه ليس كفؤاً لها، لأن ترك الصلاة كفر أكقر لقول النبي العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر المصلين أن يجهر بعضهم على بعض في القراءة لما في ذلك التشويش والإيذاء فكيف بأصوات الدفوف والغناء؟!
وأما تصوير المشهد بآلة التصوير فلا يشك عاقل في قبحه، ولا يرضى عاقل فضلاً عن مؤمن أن تلتقط صور محارمه من الأمهات والبنات والأخوات والزوجات وغيرهن لتكون سلعة تعرض لكل واحد، أو ألعوبة يتمتع بالنظر إليها كل فاسق.
وأقبح من ذلك تصوير المشهد بواسطة الفيديو لأنه يصور المشهد حياً بالمرأى والمسمع، وهو أمر ينكره كل ذي عقل سليم ودين مستقيم، ولا يتخيل أحد أن يستبيحه من عنده حياء وإيمان.
وأما الرقص من النساء فهو قبيح لا نفتي بجوازه لما بلغنا من الأحداث التي تقع بين النساء سببه، ولا يخفى ما فيه، وأما إن كان أقبح، وهو من تشبه الرجال بالنساء مختلطين كما يفعله بعض السفهاء فهو أعظم وأقبح لما فيه من الاختلاط والفتنة العظيمة لا سيما وأن المناسبة مناسبة نكاح ونشوة عرس.
وأما ما ذكره السائل من أن الزوج يحضر مجمع النساء ويقبل زوجته أمامهن فإن تعجب فعجب أن يحدث مثل هذا من رجل أنعم الله عليه بنعمة الزواج فقابلها بهذا الفعل المنكر شرعاً وعقلاً ومروءة!!. وكيف يبيح لنفسه أن يقوم بهذا الفعل أمام النساء وفي نشوة العرس الذي هو مثار الشهوة؟! ثم كيف يمكنه أهل الزوجة من ذلك؟! أفلا يخافون أن يشاهد هذا الرجل في مجتمع هؤلاء النساء من هي أجمل من زوجته وأبهى فتسقط زوجته من عينه ويدور في رأسه من التفكير الشيء الكثير، وتكون العاقبة بينه وبين عرسه غير حميدة؟
إنني في ختام جوابي هذا أنصح إخواني المسلمين من القيام بمثل هذه الأعمال السيئة، وأدعوهم إلى القيام بشكر الله على هذه النعمة وغيرها، وأن يتبعوا طريق السلف الصالح فيقتصرا على ما جاءت به السنة، ولا يتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.
وأسأل الله تعالى أن يوفقني وإخواني المسلمين لما يحبه ويرضاه، ويعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه قريب مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين [الشيخ ابن عثيمين].
جلوس العروسين بين النساء منكر
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز: من الأمور المنكرة التي استحدثها الناس في هذا الزمان وضع منصة للعروس بين النساء يجلس عليها زوجها بحضرة النساء السافرات المتبرجات وربما حضر معه غيره منن اقاربها من الرجال.
ولا يخفى على ذوي الفطرة السليمة والغيرة الدينية ما في هذا العمل من الفساد الكبير وتمكن الرجال الاجانب من مشاهد النساء الفاتنات المتبرجات، وما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة، فالواجب منع ذلك القضاء عليه؛ حسماً لأسباب الفتنة، وصيانة المجتمعات النسائية مما يخالف الشرع المظهر. وإني أنصح جميع إخواني المسلمين بأن يتقوا الله ويلتزموا شرعه في كل شيء، وأن يحذروا كل ما حرم الله عليهم، وأن يبتعدوا عن أسباب الشر والفساد في الأعراس وغيرها؛ التماساً لرضى الله سبحانه وتعالى، وتجنباً لأسباب سخطه وعقابه [الشيخ ابن باز].
لا يجوز (زف) العريس مع العروسة
س: هل يجوز زف العريس مع العروس بين النساء في الأفراح؟
جـ: لا يجوز هذا الفعل فإنه دليل على نزع الحياء وتقليد لأهل الخنا والشر، بل الأمر واضح؛ فإن العروس تستحي أن تبرز أمام الناس فكيف تزف أمام الأشهاد؟ [الشيخ ابن جبرين]. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=36 ...(/2)
بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه
معن بن حسين نعناع
إن المطّلع على الصحف والمجلات وباقي وسائل الإعلام (المسموعة والمرئية والمقروءة) يجد أن موضوع تخفيف الوزن «الريجيم» قد طغى على هذه الوسائل الإعلامية؛ وذلك بسبب ما نشرته الإحصائيات العالمية من ارتفاع نسبة السمنة في المجتمعات وخاصة العربية منها، وأن للسمنة أضراراً كبيرة وعظيمة، من أمراضٍ تصيب القلب، وأمراض السكري، وانسداد الشرايين، وتراكم الدهون القاتلة، والمرض الخبيث «السرطان»، وغير ذلك من الأمراض العديدة. وهذه بادرةٌ جيدة من الوسائل الإعلامية أن تُولي اهتمامها بهذا الموضوع الذي هو بحقّ موضوع ضروريٌّ.
ولكن الذي أحزنني في طرح هذا الموضوع «تخفيف الوزن» أن الطرح لم يكن ذا طابع إسلامي أو شرعي. فتراهم يتكلمون عن هذا الموضوع، ويصولون ويجولون، ويستشهدون بأقوال أطباء الغرب وما توصلوا إليه من اكتشافات تخص هذا الموضوع، دون أن يذكروا ولو آية واحدة، أو حديثاً واحداً نبوياً، أو قولاً لأحد الصحابة الكرام أو لأحد علماء السلف من أطباء وغيرهم، أو يذكروا قصصاً من السيرة النبوية العطرة تحفزّ الناس على إنقاص وزنهم وعدم النّهم في الطعام، ولو أنهم رجعوا إلى ذلك لوجدوا أن الطبيب الأول -صلى الله عليه وسلم- قد تكلم عن تلك الاكتشافات التي يفخر بها أطباء الغرب اليوم قبل ألف وأربعمائة عام، فكم وكم من أحاديث قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يحذّر بها من السمنة، وأن على الإنسان أن يأكل بمقدار الحاجة، وبمقدار ما يعينه على طاعة الله وعبادته، والمضي في هذه الأرض وطلب الرزق، ومن قبله ذكر ذلك ربُّه ـ تبارك وتعالى ـ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. فالإسراف في الطعام والشراب جاء به النهي من قِبَل الله ـ تعالى ـ، والله لا ينهانا عن شيء إلا لعلمه بأنّ فيه ضرراً علينا.
ومن تلك الأحاديث التي جاءت عن النبي ما أخرجه الترمذي وأحمد(1)، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما ملأ آدميٌّ وعاءً شراً من بطن، بحسب ابن آدم أُكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسِهِ»... فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يخبرنا أن الآدمي ما ملأ وعاءً في يوم من حياته أعظم شرّاً وضرراً من ملئه لبطنه من الطعام والشراب، وأن الإنسان حسبه بعض الأُكلات، وقد أتى بهذه اللفظة بصيغة التصغير والتقليل (أُكلات) زيادة في الحثّ على تناول كميّة أقلّ، وأشار إلى أن هذه الأُكلات تكون بمقدار ما يقيم الصلب والجسد على طاعة الله وعبادته، والمشي في مناكب الأرض والسعي في الرزق، ومع ذلك كله فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من رحمته العظمى أوجد الحلّ لمن لا تكفيه هذه الأُكلات بأن يقسم معدته ثلاثة أقسام: قسم لطعامه، وقسم لشرابه، وقسم لنَفَسه فلا يملؤها كلها بالطعام فلا يدع بذلك مكاناً للشراب والنَّفَس كما هو حال الناس اليوم، فترى الواحد منهم يلتهم الطعام التهاماً دون أن يذكر اسم الله عليه، وبعد أن يملأ معدته من الطعام يقول لك: هناك آخرة، ويقصد بالآخرة الحلويات والفواكه وغير ذلك؛ ممّا لا يدع مجالاً لهضم الطعام ولخروج النَّفَس، فيقع بذلك في مشكلة مرضية قد تكون عُضالاً أحياناً. ولو كان للمستشفيات لسانٌ لأخبرتنا: كم تعاني من أولئك الذي يزدحمون على أبوابها في أيام الأعياد والمناسبات! والتي يعتبرها الناس أيام طعام وشراب فقط كشهر رمضان، ولأخبرتنا ـ أيضاً ـ: كيف أن ساعة الإنذار والخطر تدقُّ في تلك الأيام معلنةً الاستنفار العام.
والسؤال يطرح نفسه: ألم يلتفت أولئك القوم ولو لمرّة في حياتهم إلى سيرة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، ويروا كيف عانى عليه ـ الصلاة والسلام ـ هو وأصحابه من شدّة الجوع وقلّة الزاد؟ ألم يسمعوا ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما(1) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلم- من طعام ثلاثة أيام حتى قُبض -صلى الله عليه وسلم-»؟ ألم يسمعوا ما أخرجه الشيخان وغيرهما(2) من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلم- منذ قدم المدينة من طعام البُرّ ثلاث ليال تباعاً حتى قُبض»؟ ألم يسمعوا ـ أيضاً ـ ما أخرجه البخاري وغيره(3) من حديث قتادة قال: «كنا عند أنس وعنده خبّاز له، فقال: ما أكل النبي -صلى الله عليه وسلم- خبزاً مرقّقاً ولا شاة مَسمُوطةً ـ أي مشوية ـ حتى لقي الله»؟ ألم يسمعوا ـ أيضاً ـ ما أخرجه الترمذي وغيره(4) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت: لا يا ربّ، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً ـ وقال ثلاثاً أو نحو هذا ـ فإذا جعتُ تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك»؟(/1)
ألم يسمعوا ـ أيضاً ـ ما أخرجه الترمذي وغيره(5) من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبيت الليالي المتتابعة طاوياً ـ أي جائعاً ـ وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير»؟
وأين هم من قوله عليه ـ الصلاة والسلام ـ فيما أخرجه الترمذي(6) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «تجشّأ رجلٌ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «كُفّ عنا جُشاءك! فإن أكثركم شبعاً في الدينا أطولكم جُوعاً يوم القيامة»؟ والجشاء: هو الصوت الذي يخرج من الفم مصحوباً بهواء ورائحة الطعام نصف المهضوم، وباللهجة العامية (التدريع)، وهذا الجشاء لا يكون إلا بسبب كثرة الطعام ممَّا يؤدي إلى عسر الهضم.
وأين هم ـ أيضاً ـ من قول الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ: «إياكم والبطنة! فإنها مكسلة للصلاة، ومفسدة للجسم، ومؤدية إلى السّقم، وعليكم بالقصد في قوتكم، فهو أبعد من السرف، وأصح للبدن، وأقوى على العبادة»؟ وكلمة (بالقصد) تذكّرني بالحديث الذي قرأته مرة ووجدت له ثماني روايات، وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما عال امرؤ اقتصد» أي: ما افتقر امرؤ اقتصد في معيشته ووضع المال الذي يصرفه في مكانه دون إسراف فيه، وهذا المعنى موجود في قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: 29].
ألم يسمعوا إلى غير ذلك من الأحاديث؟ التي لا نريد بسردها دعوة الناس إلى العيش في فقر وفاقة، ولكن نريد بسردها دعوة الناس إلى تذكّر ما كان عليه نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وأن يتقوا الله فيما يأكلونه، وفيما يرمونه من الزائد من طعامهم في أماكن رمي القاذورات، وما أكثر ما نشاهد ذلك في زماننا! وللأسف.
وكان أحرى بهم أن يقتصدوا على ما يكفيهم، وكان أحرى بهم ـ أيضاً ـ لو كان هناك زائد من الطعام أن يحتفطوا به في أماكن التبريد والثلاجات، أو يعطوه للفقراء والمحتاجين وما أكثرهم، وكأنّهم عند رميهم للطعام لم يسمعوا قول الله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}.[الإسراء: 26 - 27]
هذا هو حال مجتمعاتنا، ليس همّها سوى الطعام والشراب؛ بينما نجد غيرنا من الأمم من حولنا قدر رسموا لأنفسهم برنامجاً في الطعام لا يتزحزحون عنه قدر أُنملة، فنجدهم قد سبقونا في التطور العلمي والتكنولوجي بكل جزئياته وتقسيماته، وكل ذلك من قلّة الطعام الذي يتناولونه لأنهم يعلمون حق العلم أن كثرة الطعام تؤثر على استيعاب الفكر والذهن فتجعله يتوقف عن العمل والعطاء، واليابان أكبر مثال على ذلك، فقلّما ترى فيهم رجلاً بديناً سميناً، بل إن العكس حاصل فيهم، وكم أدهشني ما سمعته من أحدهم: أن صاحب شركة تويوتا اليابانية لصناعة السيارات، إذا أراد الذهاب إلى عمله لا يذهب بسيارته؛ إنما يستقلّ دراجته الهوائية؛ وذلك لكي يحافظ على صحته ورشاقته! فإن ركوب السيارات كثيراً ما تجعل الإنسان سميناً، وهذا ما نشاهده اليوم.
وما أجمل قول الشاعر، وهو يضع يده على الجرح واصفاً حال المرء الأكول ـ الذي لا يهمّه خروج النَّفس أو عدم خروجه ـ وصفاً جميلاً ورائعاً، حيث قال:
أكبَّ على الخِوان وكان خفّاً
فلما قام أثقَلَه القيامُ
ووالى بينهما لُقَماً ضِخَاماً
فما مَرِئتْ له اللُّقَمُ الضخامُ
وعاجلَ بلعَهُنّ بغير مضغٍ
فهنّ بِفِيه وضعٌ فالتهامُ
ألا إن الطعام دواءُ داءٍ
به ابتُليت من القِدم الأنامُ
فداوِ سقامَ جوعك عن كفافٍ
فإكثارُ الدواء هو السِّقامُ
وأغبى العالمين فتىً أكولُ
لفطنته ببطنته انهزامُ
________________________________________
(ü) ماجستير في الحديث الشريف ـ جامعة أم درمان الإسلامية.
(1) أخرجه الترمذي واللفظ له: رقم (2380)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه أحمد: رقم (17186) عن المقداد بن معدي كرب رضي الله عنه.
(1) أخرجه البخاري واللفظ له: رقم (5374)، وأخرجه مسلم: رقم (2976).
(2) أخرجه البخاري واللفظ له: رقم (5416) وانظر: (6454)، وأخرجه مسلم: رقم (2970).
(3) أخرجه البخاري: رقم (5385)، وانظر: (5421 ـ 6457). (4) أخرجه الترمذي: رقم (2347)، وقال: هذا حديث حسن.
(5) أخرجه الترمذي: رقم (2360)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (6) أخرجه الترمذي: رقم (2478)، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.(/2)
بدائل السجن دراسة فقهية الطيب السنوسي أحمد*
من مزايا الفقه الإسلامي أنه تشريع واقعي، يتعامل مع واقع البشر ويسع جميع تصرفاتهم بأحكامه المنصوصة في الكتاب والسنة، أو المستنبطة منهما بطريق من طرق الاستنباط والاستدلال، وليس منهجاً صورياً بعيداً عن الواقع، ومن هنا وسعت قواعده وضوابطه كل جديد من الأحداث والتصرفات، وعمت بكليتها كل مكان وزمان.
ومن المسائل التي تتخرج على جملة من قواعد الفقه: مسألة بدائل السجن، وهذه دراسة فقهية مختصرة لهذه المسألة، سميتها: "بدائل السجن دراسة فقهية". أسأل الله أن ينفع بها.
وقد جعلت هذه الدراسة في ثلاثة محاور رئيسة هي:
المحور الأول: في بيان معنى العقوبة والتعزير:
وذلك بناء على أن السجن أحد أفراد التعزير، والتعزير أحد أنواع العقوبة الشرعية.
تعريف العقوبة:
العقوبة في اللغة: اسم مصدر من عاقب يعاقب عقاباً ومعاقبة، وهي الجزاء على الفعل السيئ(1)، وعرفت في الاصطلاح بأنها: الجزاء المقرر على مخالفة الشرع بانتهاك حق الله تعالى، حداً كان أو كفارة أو تعزيراً(2).
أنواع العقوبة:
العقوبة في العرف الفقهي: اسم جنس تشمل مصطلحات شرعية ثلاثة كل منها عقوبة شرعية، هي: الحد، والتعزير، والكفارة(3).
معنى التعزير:
التعزير في لغة العرب من عزره يعزره، مخففاً، ويشدد، والعزر: الرد والمنع، ولذا أطلق على التأديب؛ لأنه يمنع المؤدب من الرجوع إلى الخطأ، ويطلق التعزير على النصرة، كما قال تعالى: وآمنتم برسلي وعزرتموهم( 12 ) {المائدة: 12}؛ لأن من نصر إنساناً فقد رد عنه أعداءه ومنعهم من أذاه(4).
والتعزير في الاصطلاح: "التأديب في معصية، لا حد فيها ولا كفارة"(5).
موجب التعزير:
موجب التعزير: "كل جناية أو جريمة(6) لا حد فيها ولا كفارة"(7).
والتعزير قد يكون حقاً خالصاً لله تعالى، وقد يكون حقاً خالصاً للآدميين، وقد يكون في فعل فيه حق الله وحق الخلق.
خصائص التعزير:
تتميز التعازير عن عقوبة الحد وبقية العقوبات الشرعية الأخرى بأمور أذكر منها ما يلي:
1- أنها غير محددة شرعاً بمقدار معين ولا بنوع معين، وإنما فوض تقديرها إلى اجتهاد من يقيمها ممن هو أهل للاجتهاد من القضاة الشرعيين.
2- أنها تختلف باختلاف الناس شرفاً وضعة، كبراً وصغراً، مهابة وحقارة، والحدود لا تختلف باختلاف فاعلها. يقول القرافي: "لابد في التعزير من اعتبار مقدار الجناية والجاني والمجني عليه"(8).
3- أنها لا تسقط بالشبهات، كما نص عليه الزركشي في: المنثور قائلاً: "لا تسقط التعزيرات بالشبهة".
4- أنها تابعة للمفاسد سواء كانت جنايات أو جرائم، وسواء كانت معاصي أو مجرد مفاسد، أما الحدود فإنها باستقراء أفرادها في الشرع لم توجد إلا في معصية، كما بينه القرافي(9).
5- سعة مجالها من حيث السبب الموجب لها، وتقديرها، وعموم من تقع عليه.
6- مناسبتها للجناية قدراً ونوعاً وصفة، ولذلك تتفاوت بتفاوت الجناية، يقول العز بن عبدالسلام - رحمه الله -: "وأما التعزيرات فزواجر عن ذنوب لم تشرع فيها حدود ولا كفارات، وهي متفاوتة بتفاوت الذنوب في القبح والأذى"(10). وقال ابن تيمية - بعد أن عدد بعض الجرائم التعزيرية -: "فهؤلاء يعاقبون تعزيراً وتنكيلاً وتأديباً بقدر ما يراه الوالي على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته، فإذا كان كثيراً زاد في العقوبة، بخلاف ما إذا كان قليلاً، وعلى حسب حال المذنب، فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد في عقوبته بخلاف المقل من ذلك، وعلى حسب كبر الذنب وصغره، فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم بما لا يعاقب من لم يتعرض إلا لمرأة واحدة، أو صبي واحد"(11).
7- دخول التخيير فيها، بخلاف الحدود، حاشا حد الحرابة(12).
المحور الثاني: في السجن.
تعريف السجن:
السجن في اللغة: بفتح السين مصدر سجن، وهو نفس الحبس الواقع على الشخص المحكوم عليه، وبكسر السين: اسم للمكان الذي يسجن فيه، وقرئ قوله تعالى: قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه 33 {يوسف: 33} بالكسر على الموضع، وبالفتح على المصدر، ومادة الحبس تدل على المنع(13).
وأما السجن في اصطلاح الفقهاء فإن طائفة من الباحثين المعاصرين(14) ذكروا - حسب اطلاعهم - أن أول من عرف السجن اصطلاحاً هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن كل من أتى بعده نقل التعريف عنه، لكني اطلعت على أن ابن حزم سبق ابن تيمية؛ حيث ذكر تعريف السجن في كتابه الإحكام فقال(15): "السجن: منع المسجون من الأذى للناس أو من الفرار بحق لزمه وهو قادر على أدائه".
وتعريف ابن تيمية ذكره بقوله: "الحبس الشرعي: ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيل الخصم عليه"(16).
ومصطلح السجن له مدلول في العرف الفقهي، هو ما دل عليه تعريف ابن حزم وابن تيمية، وهو بهذا العرف أعم من أن يكون في مكان معد لذلك سلفاً أو في أي مكان.(/1)
وله مدلول في العرف المعاصر، يسبق إلى الذهن عند الإطلاق، وهو معنى يشارك المدلول الذي ذكره الفقهاء المتقدمون إلا أنه أخص منه، ويمكن أن يعرف بالمدلول المعاصر بأنه: "حبس في مكان مخصوص عن طريق السلطة القائمة" وقد صيغت له عدة تعاريف معاصرة اقتصرت على هذه النظرة"(17).
والمراد بالسجن في هذا البحث الإطلاق المعاصر وهو الحبس في المكان المعروف.
خصائص السجن:
أريد بخصائص السجن القيود التي تضمنها تعريفه، والأوصاف التي تميزه - غالباً - عن بقية العقوبات التعزيرية، ومن ذلك ما يلي:
1- إعاقة المسجون عن التصرف المطلق بنفسه.
وهذه الخاصية واضحة من تعريف السجن وواقعه؛ فإن السجن بأي إطلاق كان، يلازمه المنع من التصرف بالنفس.
2- الإهانة والإذلال في الظاهر.
دل العرف على أن السجن مكان للإهانة والذل الظاهر، ولذا قالت امرأة العزيز: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم 25 {يوسف: 25}، ولو لم يكن مكاناً للإهانة الظاهرة ما قابلته بالعمل الذي وصفته بالسوء، قال البقاعي: السجن سبب ظاهر في الإهانة(18).
3- منعه من مخالطة الآخرين مخالطة مطلقة ومنع الآخرين من مخالطته:
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض حديثه عن نفي المحارب من الأرض: بأن السجن المشروع يتضمن منع المسجون من مخالطة الناس، ومنع الناس من مخالطته(19).
أنواع السجن:
يمكن أن يقسم السجن إلى أنواع تبعاً لتعدد حيثيات التقسيم.
فمن حيث كونه مقصوداً لذاته بوصفه عقوبة تعزيرية، أو كونه تمهيداً لعقوبة أخرى محددة شرعاً، ينقسم قسمين:
الأول: سجن مقصود لذاته.
الثاني: سجن يكون تمهيداً ووسيلة إلى غيره من العقوبات المحددة شرعاً، من باب: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
وبالنظر إلى مدته: قسم قسمان(20): سجن محدد المدة، سجن دائم.
ويظهر من تصرفات أهل العلم أن محدد المدة يمكن تقسيمه إلى نوعين:
محدد بمدة زمنية معلومة. معلق على صفة تقوم بالمسجون. ذلك أنهم كثيراً ما يعلقون نهاية السجن بصفة تتعلق بالمسجون، كقول الطبري(21): "معنى النفي من الأرض في هذا الموضع: هو نفيه من بلد إلى بلد غيره، وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه، حتى تظهر توبته من فسوقه ونزوعه عن معصيته ربه". وهو كثير في كلام الفقهاء، يقولون: حتى يتوب، أو حتى يحضر الخصم، أو حتى يفصل في القضية.
الحكمة من مشروعية السجن:
الحكمة من شرع السجن هي الحكمة من شرع العقوبات التعزيرية بصفة عامة؛ إذ هو فرد من أفرادها، والعقوبات إنما شرعت للمحافظة على نظام الكون بحفظ مصالح الخلق التي لا تقوم حياتهم إلا بإيجادها وتأمينها، ودفع الفساد والإفساد عنها.
والجرائم والجنايات لا تنعدم إلا بإقامة العقوبات من حدود وقصاص وتعزيرات؛ ولذا حرم سبحانه الجرائم والجنايات، وأوجب العقوبات، وأوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالقصد من السجن: الردع، والزجر، وحفظ الأمن، والمصالح العامة، وليس الانتقام، والتشفي، أو الإيذاء، والإضرار.
طبيعة السجن في الإسلام:
طبيعة السجن أنه عقوبة تعزيرية إصلاحية ليست محتمة في كل حال، وليس وسيلة إيذاء وانتقام.
المحور الثالث: بدائل السجن:
معنى بدائل السجن:
البدائل: جمع: بديل، على غير القياس الصرفي؛ والبديل في اللغة: ما يخلف الشيء ويقوم مقامه(22).
وبدائل السجن مصطلح لم يتعرض له الفقهاء؛ ولذا لم يوجد له تعريف في كتبهم - حسب اطلاعي - وقد عرفه من أعد مشروع بدائل السجن المقترح في وزارة العدل المملكة العربية السعودية بأنه: "مجموعة من التدابير التي تحل محل عقوبة السجن وتعمل على تطبيق سياسة منع الجريمة"(23).
ويمكن الإتيان بتعريف قريب إلى تصرفات الفقهاء فيقال: بدائل السجن اصطلاحاً: "ما يحل محل السجن في تحقيق المصلحة الشرعية للفرد والجماعة من عقوبات التعزير".
مشروعية بدائل السجن:
بدائل السجن لها حكم التعزير؛ إذ هي أفراد داخلة تحت اسمه، والأصل في التعزير ثبوت شرعيته إجمالاً من الكتاب والسنة والإجماع، ويزيد طائفة من الأصوليين في مشروعية السجن أنه من باب المصلحة المرسلة، ويسندون اتخاذ الصحابة مكاناً معيناً للسجن إلى المصلحة المرسلة؛ إذ لم يكن عندهم في ذلك نص خاص قولي أو فعلي(24).
سبب التطرق إلى البدائل:
يفهم من لفظ: (البديل) لغة وعرفاً أنه عوض عن مبدل عنه، فالمبدل عنه أصل مستقر يأتي البديل خلفاً ونائباً له، ولم يتطرق متقدمو الفقهاء - حسب إطلاعي - للبحث عن قضية بدائل السجن؛ لأن السجن كان ينظر إليه على أنه أحد أفراد العقوبات التعزيرية، ولم يتقرر كونه أصلاً في العقوبات، ولم ينحصر التعزير فيه حتى يبحث له عن بديل، بل إنه بصفته فرداً من أفراد التعزير يصح أن يوصف بأنه بديل عن غيره أحياناً.
فالبحث عن بدائل السجن دليل على سبقه في باب العقوبات، وطغيان استعماله سواء كان استعمالاً مشروعاً أو غير مشروع.
ويبدو لي أن السبب في إثارة البحث عن بدائل للسجن في العصور المتأخرة، أمور منها ما يلي:(/2)
1- طغيان استعمال السجن على جل الجرائم؛ حتى أصبح التعزير منحصراً فيه غالباً.
2- التنبه إلى بعض العيوب الجسيمة للسجن وعدم تحقيقه للمصلحة المقصودة من تشريع العقوبات التعزيرية؛ ولذا عقدت مؤتمرات دولية ومحلية لدراسة أوضاع السجون وإصلاحها.
ومن العيوب التي ذكرت للسجن(25): ما يحصل للمسجون من نتائج اختلاطه بالمسجونين الذين يغلب على بعضهم الفساد والإفساد، فهو إن كان صالحاً قد يفسد، وإن غير ذلك قد يفسد غيره؛ لما علم من قوة تأثير الخلطة في الأخلاق سلباً وإيجاباً.
3- توافر بدائل للسجن، تقوم مقامه - أحياناً - مع تجنب عيوبه.
4- عدم تحقيقه - إما مطلقاً أوغالباً - للغاية التي من أجلها شرع السجن وفتحت السجون، وهي إصلاح الجاني وحماية المجتمع.
نماذج من بدائل السجن:
عنونت هذه المسألة بنماذج؛ لأن بدائل السجن نوع من أنواع العقوبات التعزيرية، ومن طبيعة التعزير أن تحديده وتقديره وتعيينه مفوض إلى اجتهاد الحاكم المتأهل لذلك.
ويترتب على ذلك أمور، منها:
1- أن السجن ليس ضربة لازب يتحتم الحكم به في كل قضية لا حد فيها ولا كفارة، بل هو فرد من أفراد التعزير، قد يختاره الحاكم وقد يختار غيره.
2- أنه من الطبيعي أن يكون للسجن بديل يقوم مقامه ويحقق غايته.
3- أن الأصل في بدائل السجن عدم حصرها؛ نظراً لتبعيتها لاجتهاد من هو أهل للاجتهاد من القضاة من ناحية، وارتباطها بتحقيق المصلحة الشرعية المقصودة من تشريع العقوبات من ناحية أخرى.
4- أن كل فرد من أفراد التعزير يصلح أن يكون بديلاً عن السجن، إذا توافرت فيه شروط البدلية، وانتفت عنه الموانع الشرعية.
وبناء على ما سبق فليس أمام الباحث إلا أن يذكر نماذج، ومن حاول حصرها فقد جاوز الصواب.
ومن النماذج التي يمكن أن تذكر: الجلد، والحرمان من ممارسة بعض التصرفات، والعزل عن العمل، والإقامة الجبرية في المنزل، وتكليف الجاني بعمل يراه القاضي، وسحب الأوراق الرسمية (جواز السفر)، إلى غير ذلك.
وقذ ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - جملة من البدائل بقوله: "قد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه، والإغلاظ له، وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب.... وقد يعزر بعزله عن ولايته... وقد يعزر بترك استخدامه في جند المسلمين... وقد يعزر بالحبس، وقد يعزر بالضرب، وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوباً"(26).
شروط إقامة البدائل:
ملاحظة تحقق الشروط لترتب آثار تصرفات المكلفين، من القضايا العلمية التي ينبغي التنبه إليها؛ إذ هي سارية في كثير من المجالات العلمية والعملية، ومع ذلك يغفل عنها كثيراً، ويترتب على هذه الغفلة خلل يجل ويصغر بحسب الحال. يقول العز بن عبدالسلام: "كل تصرف جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة، فقد شرع الله فيه من الأركان والشرائط ما يحصل تلك المصالح المقصودة الجلب بشرعه، أو يدرأ المفاسد المقصودة الدرء بوضعه"(27).
ومن الشروط التي يجب توافرها لمشروعية الأخذ ببدائل السجن ما يلي:
1- أن يكون البديل محققاً للمصلحة المقصودة من شرع التعزير:
وبيان ذلك أن البديل قد تتجاذبه المصالح البشرية الشخصية، إلا أنه لا يكون بديلاً شرعياً إلا إذا كان محققاً للمصلحة الشرعية، يقول القرافي: "متى قلنا الإمام مخير في التعزير فمعناه أن ما تعين سببه ومصلحته وجب عليه فعله ويأثم بتركه، فهو أبداً ينتقل من واجب إلى واجب كما ينتقل المكفر في كفارة الحنث من واجب إلى واجب...، والإمام يتحتم في حقه ما أدت المصلحة إليه، لا أن هاهنا إباحة ألبتة، ولا أنه يحكم في التعازير بهواه وإرادته كيف خطر له، وله أن يعرض عما شاء ويقبل منها ما شاء، هذا فسوق وخلاف الإجماع"(28).
2- أن يكون المحل قابلاً لإقامة البديل في حقه:
الجناة ليسوا في درجة واحدة ولاعلى وصف واحد، فبعضهم يكون فيه وصف يوجب تخفيف العقوبة كالمرض والصغر والكبر، وعدم قصد الجناية، وكونه امرأة، كما يتصف بعضهم بوصف موجب للتشديد كتكرر الجريمة منه، أو كونه قاصداً للجريمة، أو مماطلاً للحق مع قدرته على السداد.الخ.
3- أن لا يكون في البديل ضرر أكبر من ضرر السجن.
مع ما في السجن من مصالح متعددة؛ فإنه قد تنتج عنه أضرار، وقد يغلب ضرر السجن أحياناً على مصلحته، كما أن البديل أيضاً قد يكون فيه ضرر أشد من ضرر السجن، وإذا لم يكن بد من ارتكاب الضرر فالقاعدة الفقهية تقضي بارتكاب أخف الضررين، وإلغاء ما فيه ضرر أشد.
4- أن لا يوجد مانع من تطبيق البديل على المحكوم عليه.
القواعد والضوابط الفقهية التي تتخرج عليها بدائل السجن:
هناك عدد من القواعد الفقهية التي يمكن أن تسند إليها بدائل السجن نظراً وتطبيقاً، ومن هذه القواعد ما يلي:
القاعدة الأولى: كل تصرف لا يترتب عليه مقصوده لا يشرع ويبطل إن وقع"(29):(/3)
التصرف المحكوم عليه في هذه القاعدة يدخل تحته كل تصرف سواء كان تصرفاً مالياً أم تصرفاً غير مالي كالحد والتعزير، وغيرهما، والسجن تصرف من تصرفات الولاة، وإذا لم يحقق المقصود منه فإنه لا يجوز الأخذ به بل يعد الأخذ به حينئذ محرماً شرعاً، ويترتب على ذلك أن يؤخذ ببدائله.
وقد علم أيضاً أن السجن جنس واحد، وأن الجنايات متفاوتة من حيث الجسامة، ومن حيث قصد الجاني وعدم قصده، وتكرار الجناية من عدمها، ومن حيث خطر الجاني، والسجن وحده قد لا يكون محققاً المصلحة المقصودة، ويلزم من هذا إيجاد بدائل للسجن تحقق المصلحة الشرعية المقصودة من تشريع التعزير.
القاعدة الثانية: "الأصل ملاءمة العقوبات التعزيرية للجنايات"(30).
بناء على هذا الأصل مع ما عرف من أن السجن لا يلائم كل الجنايات، فإن إقامة بدائل للسجن أمر لا بد منه.
القاعدة الثالثة: مهما حصل التأديب بالأخف من الأفعال والأقوال والحبس والاعتقال لم يعدل إلى الأغلظ؛ إذ هو مفسدة لا فائدة فيه لحصول الغرض بما دونه"(31).
هذا الضابط الذي نص عليه العز ابن عبدالسلام، واضح الدلالة على المراد؛ إذ كل فرد من أفراد التعزير ومنها السجن إذا كان غيره أقوم بالمصلحة منه فإنه لا يعدل إلى الأشد الأغلظ.
أنواع بدائل السجن:
تقسم بدائل السجن أقساماً، فمن ذلك:
أنه بالنظر إلى تعينه وعدم تعينه، يمكن أن يقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما يتعين فيه البديل لعدم تحقيق الحبس للمصلحة الشرعية، بأن يكون - مثلا - في الحبس ظلم أو مفسدة ظاهرة للمسجون.
الثاني: ما يتعين فيه الحبس لعدم تحقيق البديل للمصلحة الشرعية، وذلك إذا كان السجن هو الوحيد من بين أفراد التعزير يحقق المقصود، سواء حماية المجتمع، أو إصلاح الجاني، أو حفظ الحقوق وغيرها.
الثالث: ما لا يتعين فيه أحدهما، بل يختار ولي الأمر ما يراه راجحاً من أفراد العقوبات التعزيرية.
وهذا التعين وعدمه قد يكون أساسه صفة قائمة بالشخص المحكوم عليه، تمنع من إقامة البديل في حقه أو تعينه، وقد يكون أساسه نوع القضية وصفتها.
وقد أشار القرافي(32) إلى نماذج من موجبات السجن فذكر منها: حبس الجاني لغيبة المجني عليه حفظاً لمحل القصاص، وحبس الممتنع عن دفع الحق، وحبس الجاني تعزيراً وردعاً عن معاصي الله تعالى، وحبس الممتنع في حق الله تعالى الذي لا تدخله النيابة كالصوم عند الشافعية، وحبس من أقر بمجهول عين أو بشيء في الذمة، وامتنع من تعيينه فيحبس حتى يعينهما.
ثم أشار إلى ما تتعين فيه البدائل قائلاً: "ولا يجوز الحبس في الحق إذا تمكن الحاكم من استيفائه فإن امتنع من دفع الدين، ونحن نعرف ماله أخذنا منه مقدار الدين، ولا يجوز لنا حبسه، وكذلك إذا ظفرنا بماله أو داره أو شيء يباع له في الدين كان رهناً أم لا فعلنا ذلك، ولا نحبسه لأن في حبسه استمرار ظلمه، ودوام المنكر في الظلم وضرره هو مع إمكان أن لا يبقى شيء من ذلك كله".
ومن ناحية أخرى يقسم البديل إلى قسمين: بديل عن أصل السجن، وبديل عن بعض المدة المقررة.
وبالنظر إلى نسبتها إلى السجن في الشدة والضعف تنقسم إلى بدائل أشد من السجن وبدائل أخف منه.
وبالنظر إلى نوع البديل يقسم إلى بديل مالي وبديل غير مالي، وبديل حسي وبديل معنوي.
الهوامش:
1- لسان العرب (619/1)، مادة : عقب.
2- التشريع الجنائي الإسلامي، لعبدالقادر عودة (609/1).
3- إعلام الموقعين (118/2).
4- النهاية في غريب الحديث (228/3).
5- القواعد الكبرى للعز بن عبدالسلام (293/1)، وإعلام الموقعين (118/2)، والتعريفات للجرجاني (85).
6- عرف الماوردي الجريمة اصطلاحاً بأنها: "محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير" الأحكام السلطانية ص: (273). وأما الجناية فأكثر الفقهاء يخصونها بالأفعال المنهي عنها الواقعة على نفس الإنسان أو أطرافه، لكن ابن رشد في بداية المجتهد (394/2-395)،وغيره، ذكروا أن الجناية تشمل التعدي على النفوس والفروج والأموال والأعراض والعقول.
7- إعلام الموقعين (118/2).
8- الفروق (182/4).
9- الفروق للقرافي (180/4)، والذخيرة له (271/8)، والأشباه والنظائر للسيوطي (748). وقد ترتب على التلازم بين الحد والمعصية أمران: 1- أن الحدود لا تقبل شهادته لأنه ذاهب العدالة. 2- أنه لا يجوز أن يبلغ في التأديب على المفاسد العادية غير المعاصي مبلغ الحد، كتأديب الصبيان والمجانين والبهائم، والتعزير على ما ليس معصية.
10- القواعد الكبرى للعز بن عبدالسلام (293/1).
11- مجموع الفتاوى (343/28).
12- الفروق (182/4).
13- معجم مقاييس اللغة (137/3)، والتعليق على الموطأ في تفسير لغاته للوقشي (33/2)، وعمدة الحفاظ (200/2).
14- السجن وموجباته في الشريعة، للدكتور محمد بن عبدالله الجريوي (37/1).
15- الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (462/2).
16- مجموع الفتاوى لابن تيمية (398/35).
17- انظر بعض هذه التعاريف في: السجن وموجباته للجريوي (40/1-42).(/4)
18- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي (79/10).
19- مجموع الفتاوى (311/15).
20- السجن وموجباته محمد الجريوي (556/1).
21- تفسير الطبري (218/6).
22- القاموس المحيط (1247).
23- مشروع بدائل السجن المقترح، إعداد وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية ص: (3).
24- نشر البنود على مراقي السعود (185/2).
25- موجبات السجن محمد الجريوي (139/1-146).
26- مجموع الفتاوى (344/28).
27- القواعد الكبرى (258/2).
28- الفروق للقرافي (182/4).
29- القواعد الكبرى للعز بن عبدالسلام (249/2)، والذخيرة للقرافي (341/4)، والفرق(184) من فروق القرافي، والمجموع المذهب للعلائي (346/2).
30- الفروق للقرافي (179/4).
31- القواعد الكبرى (157/2).
32- الفروق للقرافي (79/4-80).
*دكتوراه في أصول الفقه - كلية الشريعة بالرياض.(/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
بداية التفاهم ونهاية التخاصم
ابن رشد السلفي
هذا بداية مشروع كبير لتأليف يهدف إلى تأليف القلوب وجبر الكسر بين الجماعات الإسلامية بدأ بطرد الطرفين حتى تستقيم معادلة العمل الإسلامي ، ثم يبدأ الحل بتناول الخلاف في جرءة وتجرد.
وأنا أعرف أن كل جماعة يوجد فيها – في الغالب – تمثيل لجماعات أخرى، ولذلك فإن ما قد يصدق على منهج حركة، قد لا يصدق على مجموع أفرادها. ثم إن أخطاء – قد تحسب – على جماعة بعينها قد تكون تفردا منكرا ممن تزيى بزيها ، مع تصريحه – أحيانا – بضلالها وغيها، وما سأبدأ به من الخلاف هو بالتعبير المعاصر خِلافٌ بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، أي بين (الليث)(1) من أصحابنا وبين أهل الرأي فقط من إخواننا، فإن لم يكن هذا التناول من باب تحرير موضع النزاع فلا أقل من أن تكون من باب الشكوى:
شكوتم إلينا مجانينكم ونشكوا إليكم مجانيننا
وإذا وجدت في خطابي هذا نكهة مزاح أو مسحة أدب ، فإنما ذلك زاد المسافر في حمارة القيظ وشدة الحر، وليس من البر الصوم في السفر.
واعلم أن من أسباب الخلاف بين الفريقين:
عدم العلم بالنص: إما لبعده عن الواقع الذي لا بد من مراعاته، أو قرب النظر فيه - بعيدا عن الواقع - والقرب حجاب.ومنه الأخذ بالحقيقة في أوسع مدلولاتها، ولو كانت مماتة مهجورة وذا في مقابل الأخذ بالمجاز ، مع بعد القرينة، وقطع العلاقة مع الحقيقة والاشتغال عن المعنى الأصلي بالوضع الثاني.
ومن أسباب الخلاف الأخذ بعموم مصلحة النص – إن سلمنا مدلوله – في مقابل الأخذ بعموم نص المصلحة – إن سلمنا وجودها – وكلا المسلكين ضعيف، فإن النص لم يرسل إلى نفسه، ليراعي مصالحها، وكذلك المصلحة إنما وجدت بالنصوص، فلا تكون هي سببا لإبطالها.
ثم إن تضخم المصلحة يفضي إلى أن تكون صنما ، وعدم النظر فيها يجعلها عدما، وموقفنا:هو الإيمان بها على مراد الله بها بمواصفاتها التي رسمتها النصوص الشرعية،بدون تشبيه ولا تعطيل.
ثم إن من أسباب الخلاف الإفراط في الأخذ بالعموم حتى يلج الجمل في سم الخياط، وفي مقابلة الأخذ بالتخصيص إلى فناء الأفراد وذوبانهم في كل الأوساط .
ومنها – أيضا – القول بأن الزيادة على النص ( نسخ ) وإلحاد ولو وافقت النص ومقابل ذلك أنها زيادة خير، ونسخ إلى بدل هو التفاهم مع الغير إلى آخر ذلك من الأسباب التي سيرد ذكرها لاحقا... وإذ قد ذكرنا بالجملة هذه الأشياء فلنشرع فيما قصدنا له ولنبدأ من ذلك بكتاب العقيدة.
كتاب العقيدة: وفيه أبواب
وقد اتفق الفريقان على مسائل منها ضرورة (التغيير)أو (التبديل)، وأن الإسلام هو (الحل) أو(الفيصل)واختلفوا في هذا الكتاب في عدة أمور منها:
الباب الأول: في منهج الدعوة إلى الله، وهل هو توقيفي أو توفيقي؟
فعرفه أصحاب التوفيق بالتعريف الجامع الذي يدخل أهل الأهواء والمطامع، وعرفه أصحاب التوقيف بالتعريف المانع من دخوله، ولعل سبب الخلاف تمسك فريق بمدلول آيات تنهى عن الركون وتأمر بالصدع، فظنوا جنس الرفق ركونا للباطل ، وجنس الصدع تنكيلا بالسامع.
ففريق آخر تمسك بآيات الرفق، وظن الحكمة محل ما يرضي الآخر ويكثر (سواد المسلمين). ولهذا الفريق أن يقدح في منهج خصمه بـ(عدم التأثير)، كما أن للأول أن يقدح في خصمه بـ(فساد الوضع).
الباب الثاني:ومما يقرب من هذا الباب اختلافهم في طريقة البيان، فرأى قوم تأخيره عن الحاجة لأجل الحاجة، وعن العمل لأجل العمل.
ورأى آخرون سد مجاريه بالتشنج والانفعال وأنكى من ذلك أن يبينوا ما ليس من الحق بشدة الحق.
والذي عليه أهل العلم من الوسطين البيان بالرفق ما وجد إليه سبيل، وعدم كتمان الحق.
الباب الثالث: في التكفير
لن أتناول في هذه الحلقة موانع التكفير ولا الخلاف الشهير: هل يعذر بالجهل والتأويل أم لا ؟ فهذا خلاف معتبر ولا ضير على من تكلم فيه بعلم، نافيا أو مثبتا،إنما نظري هنا إلى طرفي الخلاف ممن غالى فكفر بما ليس كفرا، أو من فرط ، فأنكر ما يعلم ضرورة أنه كفر.
فأقول: اختلف الفريقان في هذا المضمار، فذهب فريق إلى منع الكفر في المجتمع مطلقا. وذهب آخرون إلى وجوب وقوعه بأكثرية في كل بادية وقرية.
واحتج أهل هذا القول بآية { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } ، ففهموا منه خصوص الخطاب في كل قرية.وكذلك قوله تعالى: { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } فكأنهم حملوا الآية على الإضمار – أي في كل قرية - مع أن هذا لا يناسب أصولهم في عدم تقدير الأمور.
والذين ذهبوا إلى نفي وقوعه في المجتمع مطلقا حجتهم في ذلك الأدلة التي تثبت لمن نطق بالشهادتين واستصحاب ذلك على سبيل الدوام، فلا ينتقض إسلام أحد حتى يسمع صوتا أو يجدا ريحا.
__________
(1) لا أقصد بالليث الإمام الجليل وإنما أقصد لفظه فقط، إن هذا الخطاب لا يعني بحال من كانت فيه شدة وتبني مواقف قد سبق إليها ودعمها بالدليل وإنما هو خطاب للجاهل الذي يستحدث مذاهب لم يسبق إليها مع عدم الدراية وعدم التمكن.(/1)
ولهم أيضا أن يحتجوا بالقياس على الحال أعني أنه لا يحكم على أحد بالكفر حتى يظهرذلك منه ظهوره على الدجال، قلت: ومذهبي هنا الكف عن التعليق حتى لا أُدخل تحت عموم (من علق فقد أشرك).
الكتاب الثاني: في الثقافة والاجتماع:
الباب الأول:
واختلفوا في اللغة التي ينبغي أن يفهم بها القرآن فذهب قوم إلى أنها لغة نابغة الفكر، وذهب آخرون إلى أنها لغة عنترة العصر، نعوذ بالله من هذا الفهم القاصر وهذا الفكر المعاصر، ولعل سبب الاختلاف هو غياب فهم السلف وتنزيل القرآن على أكثر من سبعة أحرف.
قلت: إنما نزل القرآن بلسان عربي مبين وإنما يهدمه من لم يعرف لغة الجاهلية الأولى، أو تشرب لغة جاهلية القرن العشرين.
واعلم أن الأولين صرحوا بأن العرف المقارن للخطاب يخصص اللفظ العام، فإذا كان لهذا العرف هذه الأهمية، فما بالك بالعرف اللغوي الذي نشأت عليه الكلمة أول مرة؟
الباب الثاني في الاجتهاد:
واتفق الفريقان على كسر باب الاجتهاد ، واختلفوا في شروطه، هل هي التمشي مع روح العصر أو الثورة على ثوابت العصر، وأحسب سبب الاختلاف هو التباين في مسالك العلة فبعضهم يصدر الحكم مستعينا بـ(مسلك الدوران) مع المجتمع والآخرون أخذوا بمسلك (الطرد)أعني طرد أكبر عدد ممكن عن الحق .
ومذهبنا ومذهب جماهير العلماء في الوسطين العزوف عن تفلسف أبي العلاء وشدة شبيب.
ونرى أن شعار أهل الميوعة في الاجتهاد(إنما البيع مثل الربا) وشعار أهل التشنج { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } وضرورة تعميم ذلك زمانا ومكانا وأفرادا وأحوالا.
فالعقلاني يقتطع النصوص ويحكّم الأذواق، و(الجهلاني ) لا يعرف مدلولات النص من عموم وإطلاق:
فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
الباب الثالث في الاختلاف:
ومن القواعد التي اختلفوا فيها، هل يراعى الاختلاف أم لا؟
فذهب قوم إلى مراعاته مطلقا، ومقابل هذا القول إنكاره مطلقا، ولعل السبب الأساسي للخلاف هو:
هل كل مجتهد مصيب في فهمه أو المصيب واحد بشحمه ولحمه. احتج القائلون بأن لا إنكار في مسائل الخلاف بحديث: " لا يصلين أحكم العصر إلا في بني قريظة" وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على من حمل الحديث على ظاهره ، ولا على من تأوله على أنه حث على المسير. فكأنهم جعلوا هذه الواقعة من الخاص الذي أريد به العام فهي تنبيه ببعض أفراد الخلاف إلى جميع أصناف الخلاف وللفريق الثاني أن يحملها على أساس أنها فعل يتطرق إليه الاحتمال ، إلا أن تطرق الاحتمال لا يجري على أصولهم في الجزم والحسم . بقي لهم الاستدلال بحديث: "اهدني لما اختلف فيه من الحق" فالاختلاف – إذن – ليس هو الحق فإن كان الخصم لا يراه حقا كله ولكن لا يرى الانكار مطلقا، فيلزمه أن لا ينكر باطلا أصلا.
- الباب الرابع: في المرأة:
اختلف الفريقان في اشتغال المرأة خارج البيت ، فذهب قوم إلى وجوب اشتغالها بالعمل في الخارج، وإلغاء وظيفة المنزل . وذهب آخرون إلى وجوب تعليقها في البيت – مطلقا -.
وسبب تنازعهم في ذلك التعارض في ظاهر الأمر بين آية { وقرن في بيوتكن } ،وبين بعض أحداث السيرة كمداواتها للجرحى...
وكذلك قياس الشبه في تردد المرأة بين أن تكون كالرجل أو كاللباس وكذلك تذبذبها بين أن تكون قوتا ومالا خاصا بالبيت، أو تفكها في المجالس والتجمعات، والفقه إلحاقها بالرجال، والمحافظة عليها كالأقوات والأموال.
ومذهبنا ومذهب أهل العلم أن الأصل إقامتها في بيتها وخروجُها لحاجتها وحاجة الأمة إليها.
ويقال للفريق الأول "رفقا بالقوارير "كما يقال للفريق الآخر " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" فإذا لم تمنع من الخروج إلى المسجد مع أفضلية البيت في حقها، وعدم تعين المسجد فلأن تخرج في حوائج أخرىأكثر تعينا أولى.
وكما ينبغي أن ينبهوا إلى خطورة العلاقة بين الجنسين، قال بعض الشعراء:
أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك لنا تدان
نعم وأرى الهلال كما تراه ... ويعلوها النهار كما علاني(/2)
بدع المساجد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها الإخوة في الله: أريد أن أتكلم معكم عن أمر هام لكل مسلم، وهذا الأمر مما يخالف شرع الله عز وجل، وهو ما ابتدعه الناس في المساجد من بدع متعددة، لم تكن في القرون الفاضلة، من عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكثير من هذه الأمور قد أشار إلى وقوعها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وجعل ظهورها من علامات الساعة.. وسنذكر منها ما هو موجود ومعايش اليوم في كثير من المساجد في مختلف بلدان العالم الإسلامي.
ثم لا بد من إزالة هذه البدع التي اعتادها الناس وألفوها، وأصبحت هي الدين الذي به يدينون، وإحلال السنن التي جاء بها رسولنا -صلى الله عليه وسلم، محلها والاكتفاء من الدين بما كان عليه هو وأصحابه تصديقاً واتباعاً لقوله: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري ومسلم. وقوله: " فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" . رواه مسلم، وزاد النسائي "وكل ضلالة في النار "
ومن تلك البدع:
أولاً: زخرفة المساجد: 1- روى أبو داود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى صححه الألباني.
2- عن عمر -رضي الله عنه- أنه أمر ببناء المسجد وقال: "أكِنَّ الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر" رواه البخاري.
وحديث ابن عباس السابق له حكم الرفع؛ لأنه يخبر عن مستقبل، وقد علم أن علم المستقبل لا يعلمه إلا الله، أو ما أطلع عليه رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد حصل ما حذر منه ووقع، فلقد بنى الناس في هذه الأيام وقبلها بقرون طويلة صروحاً ومساجد لإيقاع العوام في شراك البدع، ويبذلون أموالهم لإحالة الدين إلى العبادات الشكلية، كما حصل في إشراك كل الأمم السالفة التي اعتاضت عن جمال العقيدة بجمال جدران المعابد، وعن نور الإيمان بأنوار الهياكل، حتى جعلوا شعائر الدين أشبه باحتفالات الولائم، وأقرب الاجتماعات المآدب لشدة ما تلتهي الأذهان والعقول بالنقوش والزخارف، وما يشطح الفكر ويصرفه من التأمل في منظر المنافذ، وإبداع المنابر، مع أن القصد من المسجد كان تجريد العقل من ملهيات العالم المادي، وتخليصه من فتنة المظهر الطيني الدوني1, إلى الارتقاء بالروح والعقل إلى درجة الانشغال بالله والتفكر فيما يتلى، والذكر وتلاوة القرآن، فقلبت الموازين، واستولت الشياطين.. ولا قوة إلا بالله.
ثانياً: الذكر الجماعي: الذكر الجماعي مما اشتهر عند كثير من أهل البدع ممن ينتسب للتصوف أو التشيع ونحوهم، ومن ذلك: قراءة الأذكار بهيئة جماعية بعد الصلوات، كقراءة سورة الفاتحة، أوآية الكرسي، أو قول لا إله، إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وه على كل شيء قدير، جماعة أو غيرهما من الآيات والأذكار، ومعلوم أن هذه الصورة وهذه الهيئة من الأمور المحدثة في الدين والتي لم تكن على عهد السلف الصالح، وذكر الله ليس مجرد رفع الأصوات، أو ترديد أنغام على وتيرة واحدة.. بل إن الجهر والتجاهر بالأدعية والأذكار من الأمور غير المستحسنة في الشرع قال تعالى:{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} (205) سورة الأعراف، وقال: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } الإسراء: 110، وقد حث سبحانه وتعالى على التفكر والتذكر التدبر فيما يقرؤه الإنسان أو يذكره به، وليس مجرد القراءة فحسب.
ثالثاً: الجلوس للتعزية في المسجد: قال ابن القيم- رحمه الله-: وكان هديه- صلى الله عليه وسلم- تعزية أهل الميت، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء، ولا يقرأ له القرآن، ولا عند قبره ولا غيره، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة، وكان من هديه السكون والرضى بقضاء الله، والحمد لله والاسترجاع. ( زاد المعاد ).
رابعاً: دفن الميت في المسجد أو بناء المسجد على القبر:
وهذا مما حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته، حيث قال في مرض موته: ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) متفق عليه. وقال: ( ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ).
خامساً: الإسراف في تنوير المساجد في الأعياد ، وتزيينها بالسرج والكهرباء من الداخل والخارج والإسراف في ذلك..
سادساً: قراءة القرآن بمكبرات الصوت أثناء الموت، أو قبل صلاة الجمعة، وهذا ما حصل في هذا الزمن..
سابعاً: الأناشيد أو الأنغام التي يرددها القيم على المسجد أو غيره قبل خطبة الجمعة، ورفع ذلك بمكبرات الصوت.(/1)
ثامناً: الزيادة على الأذان المشروع: كزيادة " حي على خير العمل " التي لم يثبت بها دليل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه.. وهذا فعل الزيدية من فرق الشيعة، وكذا الروافض الإثنا عشرية.. ويزيد الروافض لفظة لم ترد في الشرع، وهي من اختراعهم وهي " أشهد أن علياً ولي الله ".
تاسعاً: استيطان مكان في المسجد: وهو أن يحجز الإنسان مكاناً معيناً يصلي فيه دائماً أو يضع شيئاً في الصف الأول-مثلاً- ويمنع الناس من الصلاة فيه.
هذا ما تيسر ذكره من بدع المساجد.. أسأل الله أن يصلح مساجدنا وأن يطهرها من البدع والخرافات.. والحمد لله رب العالمين..
000000000000
1 - أنظر إصلاح المساجد للقاسمي صـ 95(/2)
بدع يوم عرفة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله - سبحانه - يصطفي ما يشاء من خلقه ويختار، فقد اصطفى من البشرية الأنبياء والرسل، واصطفى محمداً منهم بمزيد من الاصطفاء، واصطفى من الأماكن المساجد، واختص ثلاثة مساجد بمزيد من الفضائل، وفضَّل المسجد الحرام على المسجد النبوي والمسجد الأقصى، واصطفى من الأزمنة شهر رمضان، ويوم عرفة، ومن الساعات ساعة في يوم الجمعة، وهذا له - سبحانه - لأنه هو الذي قال في كتابه الكريم: (( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ))سورة القصص:68.
وكما قلنا أن من هذه الأزمنة التي اختصها الله بمزيد من الفضائل دون بقية الأيام يوم عرفة، فهو يوم الوقوف بعرفة، والوقوف في ذلك اليوم لمن كان حاجاً على ذلك الجبل يعد أهم ركن من أركان الحج، وفيه ينزل الله تعالى - نزولاً يليق بجلاله سبحانه - إلى السماء الدنيا، ويباهي بأهل الموقف ملائكته، واحتسب النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن صام هذا اليوم محتسباً أن يكفر الله عنه من صغائر ذنوبه سنة ماضية وسنة تالية، وغير ذلك من الفضائل والمزايا التي جعلها الله في هذا اليوم العظيم.
ولكننا - مع الأسف الشديد - نرى كثيراً من الناس يتساهلون في شأن هذا اليوم، ولا يعرفون له قدره، ولا يستغلونه في طاعة الله، بل ربما ارتكبوا فيه مخالفات تغضب الله، وربما افتعلوا فيه بعض العبادات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وتعبدوا لله بذلك.
ولا شك أن التعبد لله بما لم يأذن الله به أمر لا يجوز، بل هو منكر عظيم، وصاحبه في ضلال مبين، وعمله غير مقبول؛ يقول النبي المعصوم - عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)1.
بل إن الله - سبحانه - قد حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته، فقد جاء في الحديث الذي رواه الطبراني، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة، وغيرهما بسند صحيح، وحسنه المنذري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة، حتى يدع بدعته)2.
وإليك - أخي في الله - ذكر بعض المخالفات والبدع التي يفعلها الناس في يوم عرفة سواء كانوا حجاجاً أو غير ذلك؛ وذلك لتحذرها، وتُحذِّر من تراه يقع فيها من المسلمين في ذلك اليوم الأغر، وهذه المخالفات والبدع قد أشار إليها ونبه عليها كثير من علماء الكتاب والسنة، ومن هؤلاء العلماء العلامة محمد ناصر الدين الألباني، فقد ذكر هذه البدع في كتابه "مناسك الحج والعمرة"، وقد رأيت أن ألخصها لك في نقاط معدودة، وهي كالتالي:
1. الوقوف على جبل عرفة في اليوم الثامن ساعة من الزمن احتياطاً خشية الغلط في الهلال.
2. إيقاد الشمع الكثير ليلة عرفة بمنى.
3. الدعاء ليلة عرفة بعشر كلمات ألف مرة: سبحان الذي في السماء عرشه، سبحان الذي في الأرض موطئه، سبحان الذي في البحر سبيله... إلخ.
4. رحيلهم في اليوم الثامن من مكة إلى عرفة رحلة واحدة.
5. الرحيل من منى إلى عرفة ليلاً.
6. إيقاد النيران والشموع على جبل عرفات ليلة عرفة.
7. الاغتسال ليوم عرفة.
8. قوله إذا قرب من عرفات ووقع بصره على جبل الرحمة: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".
9. قصد الرواح إلى عرفات قبل دخول وقت الوقوف بانتصاف يوم عرفة.
10. التهليل على عرفات مئة مرة، ثم قراءة سورة الإخلاص مئة مرة، ثم الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - يزيد في آخرها: "وعلينا معهم" مئة مرة.
11. السكوت على عرفات وترك الدعاء.
12. الصعود إلى جبل الرحمة في عرفات.
13. دخول القبة التي على جبل الرحمة ويسمونها "قبة آدم"، والصلاة فيها، والطواف بها كطوافهم بالبيت.
14. اعتقاد أن الله - تعالى- ينزل عشية عرفة على جمل أورق يصافح الركبان، ويعانق المشاة.
15. خطبة الإمام في عرفة خطبتين يفصل بينهما بجلسة كما في الجمعة.
16. صلاة الظهر والعصر قبل الخطبة.
17. الأذان للظهر والعصر في عرفة قبل أن ينتهي الخطيب من خطبته.
18. قول الإمام لأهل مكة بعد فراغه من الصلاة في عرفة: "أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر".
19. التطوع بين صلاة الظهر والعصر في عرفة.
20. تعيين ذكر أو دعاء خاص بعرفة كدعاء الخضر - عليه السلام - الذي أورده في الإحياء، وأوله: "يا من لا يشغله شأن عن شأن، ولا سمع عن سمع..." وغيره من الأدعية، وبعضها طويل جداً بمقدار خمس صفحات!.
21. إفاضة البعض قبل غروب الشمس.
22. ما استفاض على ألسنة العوام أن وقفة عرفة يوم الجمعة تعدل اثنتين وسبعين حجة!.(/1)
23. التعريف الذي يفعله بعض الناس من قصد الاجتماع عشية يوم عرفة في الجوامع أو في مكان خارج البلد؛ فيدعون ويذكرون، مع رفع الصوت الشديد، والخطب والأشعار، ويتشبهون بأهل عرفة3.
وغير ذلك من المخالفات والبدع التي تكون من بعض الناس في ذلك اليوم الأغر - والله المستعان-، فنسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وإلى اتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وتحكيم شريعته، والفوز برضوانه وجنته، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
000000000000
1- رواه البخاري برقم(2675).
2- وقد رواه الطبراني بلفظ: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته) وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: بإسناد حسن.
3- انظر: مناسك الحج والعمرة، صـ(53) وما بعدها. بتصرف.(/2)
بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج
الاحتفال بالإسراء والمعراج من الأمور البدعية(1)، التي نسبها الجهال إلى الشرع، وجعلوا ذلك سُنَّة تقام في كل سَنة، وذلك في ليلة سبع وعشرين من رجب، وتفننوا في ذلك بما يأتونه في هذه الليلة من المنكرات وأحدثوا فيها من أنواع البدع ضروباً كثيرة، كالاجتماع في المساجد،وإيقاد الشموع والمصابيح فيها، وعلى المنارات، والإسراف في ذلك، واجتماعهم للذكر والقراءة، وتلاوة قصة المعراج المنسوبة إلى ابن عباس، والتي كلها أباطيل وأضاليل، ولم يصح منها إلا أحرف قليلة، وكذلك قصة ابن السلطان الرجل المسرف الذي لا يصلي إلا في رجب، فلما مات ظهرت عليه علامات الصلاح، فسئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (( إنه كان يجتهد ويدعو في رجب )). وهذه قصة مكذوبة مفتراة، تحرم قراءتها وروايتها إلا للبيان(2).
وكذلك ما يفرشونه من البسط والسجادات وغيرهما، ومنها أطباق النحاس فيها الكيزان والأباريق وغيرهما، كأن بيت الله تعالى بيتهم، والجامع إنما جعل للعبادة،لا للفراش والرقاد والأكل والشرب،وكذلك اجتماعهم في حلقات، كل حلقة لها كبير يقتدون به في الذكر والقراءة، وليت ذلك لو كان ذكراًَ أو قراءة،لكنهم يلعبون في دين الله تعالى، فالذاكر منهم في الغالب لا يقول (( لا إله إلا الله )) بل يقول:لا يلاه يلله. فيجعلون عوض الهمزة ياء وهي ألف قطع جعلوها وصلاً، وإذا قالوا سبحان الله يمطونها ويرجعونها، حتى لا تكاد تفهم، والقارئ يقرأ القرآن فيزيد فيه ما ليس فيه، وينقص منه ما هو فيه، بحسب تلك النغمات، والترجيعات التي تشبه الغناء الذي اصطلحوا عليه على ما قد علم من أحوالهم الذميمة.
ثم في تلك الليلة من الأمر العظيم أن القارئ يبتدئ بقراءة القرآن والآخر ينشد الشعر، أو يريد أن ينشده، فيسكتون القارئ، أو يهمون بذلك، أو يتركون هذا في شعره، وهذا في قراءته، لأجل تشوف بعضهم لسماع الشعر وتلك النغمات الموضوعة أكثر.
فهذه الأحوال من اللعب في الدين، أن لو كان خارج المسجد منعت، فكيف بها في المسجد ؟!.
ثم إنهم لم يقتصروا على ذلك، بل ضموا إليه اجتماع النساء والرجال في الجامع، مختلطين بالليل، وخروج النساء من بيوتهن على ما يعلم من الزينة والكسوة والتحلي.
وعندما يحتاج بعضهم إلى قضاء الحاجة فإنه يفعل ذلك في مؤخر الجامع، وبعض النساء يستحين أن يخرجن لقضاء حاجتهن فيدور عليهن إنسان بوعاء فيبلن فيه، ويعطينه على ذلك شيئاً، ويخرجه من المسجد، ثم يعود كذلك مراراً، والبول في المسجد في وعاء حرام، مع ما فيه من القبح والشناعة. وبعضهم يخرج إلى السكك القريبة من المسجد فيفعلون ذلك فيها، ثم يأتي الناس إلى صلاة الصبح، فيمشون إلى الجامع فتصيب أقدامهم النجاسة أو نعالهم، ويدخلون بها المسجد فيلوثونه، ودخول النجاسة في المسجد فيها ما فيها من عظيم الإثم، وقد ورد في النخامة في المسجد أنها خطيئة، هذا وهي طاهرة باتفاق، فكيف بالنجاسة المجمع عليها.
إلى غير ذلك من الأمور العظيمة التي ترتكب باسم الدين، ودعوى تعظيم بعض الأمور التي يزعمون أن تعظيمها دليل محبة للرسول صلى الله عليه وسلم(3).
وهذه الاحتفالات في ليلة سبع وعشرين من رجب- أياً كان شكلها-، والتي يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج باطلة من أساسها، لأنه لم يثبت أنه أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة بالذات.
اختلاف العلماء في تحديد ليلة الإسراء والمعراج:
قال ابن قيم الجوزية:( فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن رجل قال: ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، وقال آخر: بل ليلة القدر أفضل فأيهما المصيب؟.
فأجاب: الحمد لله، أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، فإن أراد أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم ونظائرها من كل عام، أفضل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر، بحيث يكون قيامها، والدعاء فيها أفضل منه في ليلة القدر فهذا باطل، لم يقله أحد من المسلمين، وهو معلوم الفساد بالاطراد من دين الإسلام، هذا إذا كانت ليلة الإسراء تعرف عينها، فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة التي يظن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره، بخلاف ليلة القدر )(4) ا.هـ.
فقد اختلف العلماء في تحديد الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم.قال ابن حجر العسقلاني: ( وقد اختلف في وقت المعراج فقيل: كان قبل المبعث، وهو شاذ، إلا إن حمل على أنه وقع حينئذ في المنام).وذهب الأكثر إلى أنه كان بعد المبعث، ثم اختلفوا:
فقيل: قبل الهجرة بسنة.قاله ابن سعد وغيره.وبه جزم النووي، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه-فيكون في شهر ربيع الأول-.(/1)
وهو مردود، فإن في ذلك اختلافاً كثيراً، يزيد على عشرة أقوال منها ما حكاه ابن الجوزي أنه كان قبلها بثمانية أشهر- فيكون في رجب-، وقيل بستة أشهر- فيكون في رمضان- وحكى الثاني أبو الربيع بن سالم، وحكى ابن حزم مقتضى الذي قبله، لأنه قال: كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة، وقيل: بأحد عشر شهراً، جزم به إبراهيم الحربي حيث قال: كان في ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، ورجحه ابن المنير في شرح السيرة لابن عبد البر وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، حكاه ابن عبد البر.وقيل: بسنة وثلاثة أشهر حكاه ابن فارس. وقيل: بسنة وخمسة أشهر قاله السدي، وأخرجه من طريقه الطبري والبيهقي،فعلى هذا كان في شوال،أو في رمضان على إلغاء الكسرين منه ومن ربيع الأول،و به جزم الواقدي،وعلى ظاهره ينطبق ما ذكره ابن قتيبة. وحكاه ابن عبد البر أنه كان قبلها بثمانية عشر شهراً. وعند ابن سعد عن ابن أبي سبرة أنه كان في رمضان، قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً. وقيل كان في رجب حكاه ابن عبد البر، وجزم به النووي في الروضة. وقيل قبل الهجرة بثلاث سنين حكاه ابن الأثير.
وحكى عياض وتبعه القرطبي والنووي عن الزهري أنه كان قبل الهجرة بخمس سنين،ورجحه عياض ومن تبعه )(5).ا.هـ.
فما تقدم من أقوال العلماء، وما ذكروه في ليلة الإسراء والمعراج من الخلاف، مصداق قول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-أنه لم يقم دليل معلوم لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينها، بل النقول منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به(6).
قال ابن رجب: (وقد روي أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة، ولم يصح شيء من ذلك، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في أول ليلة منه، وأنه بعث في السابع والعشرين منه، وقيل: في الخامس والعشرين، ولا يصح شيء من ذلك)(7).ا.هـ.
وقال أبو شامة: ( وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب، وذلك عند أهل التعديل والجرح عين الكذب)(8).ا.هـ.
حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج:
أجمع السلف الصالح على أن اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية من البدع المحدثة التي نهى عنها -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ))(9) وبقوله -صلى الله عليه وسلم- (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))(10) . وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))(11) .
فالاحتفال بليلة الإسراء والمعراج بدعة محدثة لم يفعلها الصحابة والتابعون، ومن تبعهم من السلف الصالح، وهم أحرص الناس على الخير والعمل الصالح.
قال ابن قيم الجوزية: (( قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها، لاسيما على ليلة القدر، ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها، ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت )).
وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم ومع هذا فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان، ولا ذلك المكان، بعبادة شرعية، بل غار حراء الذي ابتديء فيه بنزول الوحي، وكان يتحراه قبل النبوة،لم يقصده هو ولا أحد من الصحابة بعد النبوة مدة مقامه بمكة، ولا خصَّ اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها، ولا خص المكان الذي ابتديء فيه بالوحي ولا الزمان بشيء.
ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله، كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات كيوم الميلاد، ويوم التعميد، وغير ذلك من أحواله.
وقد رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- جماعة يتبادرون مكاناً يصلون فيه فقال: ما هذا؟ قالوا: مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد ؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا، فمن أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض(12).ا.هـ(13).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:((وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال أنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها، والله سبحانه وتعالى أعلم(14).ا.هـ
وقال ابن الحاج:((ومن البدع التي أحدثوها فيه أعني في شهر رجب ليلة السابع والعشرين منه التي هي ليلة المعراج.....(15).ا.هـ.
ثم ذكر كثيراً من البدع التي أحدثوها في تلك الليلة من الاجتماع في المساجد، والاختلاط بين النساء والرجال، وزيادة وقود القناديل فيه، والخلط بين قراءة القرآن وقراءة الأشعار بألحان مختلفة، وذكر الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج ضمن المواسم التي نسبوها إلى الشرع وليست منه(16).(/2)
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ-رحمه الله-(( في رده على دعوة وجهت لرابطة العالم الإسلامي لحضور أحد الاحتفالات بذكرى الإسراء والمعراج، بعد أن سئل عن ذلك: هذا ليس بمشروع، لدلالة الكتاب والسنة والاستصحاب والعقل:
أما الكتاب:
فقد قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً}سورة المائدة: الآية(3).قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}سورة النساء: الآية59.
والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه،والرد إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته،وإلى سنته بعد موته.قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}سورة آل عمران:31. قال تعالى:{فلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}سورة النور: الآية63.
وأما السنة:
فالأول: ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).وفي رواية لمسلم:((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
الثاني: روى الترمذي وصححه، وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)).
الثالث:روى الإمام أحمد والبزار عن غضيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة))(17) إلا أنه قال: ((ما من أمة ابتدعت بعد نبيها بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة ))(18).
الرابع: روى ابن ماجه وابن أبي عاصم عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته))(19).ورواه الطبراني إلا أنه قال:((إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته ))(20)
وأما الاستصحاب:
فهو هنا استصحاب العدم الأصلي.
وتقرير ذلك أن العبادات توقيفية، فلا يقال: هذه العبادة مشروعة إلا بدليل من الكتاب والسنة والإجماع، ولا يقال: إن هذا جائز من باب المصلحة المرسلة، أو الاستحسان، أو القياس، أو الاجتهاد؛ لأن باب العقائد والعبادات والمقدرات كالمواريث والحدود لا مجال لذلك فيها.
وأما المعقول: فتقريره أن يقال: لو كان هذا مشروعاً لكان أولى الناس بفعله محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا إذا كان التعظيم من أجل الإسراء والمعراج، وإن كان من أجل الرسول الله صلى الله عليه وسلم وإحياء ذكره كما يفعل في مولده صلى الله عليه وسلم فأولى الناس به أبو بكر- رضي الله عنه- ثم عمر ثم عثمان ثم علي -رضي الله عنهم- ثم من بعدهم الصحابة على قدر منازلهم عند الله، ثم التابعون ومن بعدهم من أئمة الدين، ولم يعرف عن أحد منهم شيء من ذلك فيسعنا ما وسعهم )(21) ا.هـ.
ثم ساق – رحمه الله – كلام ابن النحاس في كتابه تنبيه الغافلين حول بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، جاء فيه: ( أن الاحتفال بهذه الليلة بدعة عظيمة في الدين، ومحدثات أحدثها إخوان الشياطين )(22).
وذكر الشيخ محمد بن إبراهيم في فتوى أخرى: (أن الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج أمر باطل، وشيء مبتدع، وهو تشبه باليهود والنصارى في تعظيم أيام لم يعظمها الشرع، وصاحب المقام الأسمى رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي شرع الشرائع، وهو الذي وضع ما يحل وما يحرم ثم إن خلفاءه الراشدين، وأئمة الهدى من الصحابة والتابعين لم يعرف عن أحد منهم أنه احتفل بهذه الذكرى،ثم قال:المقصود أن الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج بدعة،فلا يجوز ولا يجوز المشاركة فيه)(23) ا.هـ
وأفتى-رحمه الله-:(بأن من نذر أن يذبح ذبيحة في اليوم السابع والعشرين من رجب من كل سنة فنذره لا ينعقد لاشتماله على معصية، وهي أن شهر رجب معظم عند أهل الجاهلية، وليلة السابع والعشرين منه يعتقد بعض الناس أنها ليلة الإسراء والمعراج، فجعلوها عيداً يجتمعون فيه، ويعملون أموراً بدعية، وقد نهى الرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر في المكان الذي يفعل فيه أهل الجاهلية أعيادهم، أو يذبح فيه لغير الله فقال صلى الله عليه وسلم للذي نذر أن ينحر إبلاً ببوانة(24): (( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم(25)))(26).(/3)
وقال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز-رحمه الله -: (وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج، لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها، ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات ولم يجز لهم أن يحتفلوا بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه – رضي الله عنهم – لم يحتفلوا بها، ولم يخصوها بشيء، ولو كان الاحتفال بها أمراً مشروعاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة إما بالقول أو الفعل، ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر، ولنقله الصحابة – رضي الله عنهم – إلينا فقد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم كل شيء تحتاجه الأمة، ولم يفرطوا في شيء من الدين، بل هم السابقون إلى كل خير، فلو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعاً لكانوا أسبق الناس إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أنصح الناس للناس، وقد بلغ الرسالة غاية البلاغ، وأدى الأمانة، فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها من دين الإسلام لم يغفله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتمه، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أن الاحتفال بها وتعظيمها ليسا من الإسلام في شيء، وقد أكمل الله لهذه الأمة دينها، وأتم عليها النعمة، وأنكر على من شرع في الدين ما لم يأذن به الله، قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين من سورة المائدة:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً }سورة المائدة: الآية3.
وقال عز وجل في سورة الشورى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}سورة الشورى:21.
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة التحذير من البدع، والتصريح بأنها ضلالة تنيبهاً للأمة على عظيم خطرها، وتنفيراً لهم من اقترافها(27).ا.هـ.
ثم أورد – رحمه الله تعالى – بعض الأحاديث الواردة في ذم البدع مثل قوله صلى الله عليه وسلم ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)). وقوله صلى الله عليه وسلم:(( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)). وقوله صلى الله عليه وسلم: (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة )) وقوله صلى الله عليه وسلم: (( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ))(28).
فما ذكر من كلام العلماء وما استدلوا به من الآيات والأحاديث فيه الكفاية، ومقنع لمن يطلب الحق في إنكار هذه البدعة، بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وأنها ليست من دين الإسلام في شيء، وإنما هي زيادة في الدين، وشرع لم يأذن به الله، وتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى في زيادتهم في دينهم، وابتداعهم فيه ما لم يأذن به الله، وأن لازمها التنقص للدين الإسلامي، واتهامه بعدم الكمال، ولا يخفى ما في ذلك من الفساد العظيم، والمنكر الشنيع، والمصادمة لقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، والمخالفة الصريحة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المحذرة من البدع، ومما يؤسف له أن هذه البدعة قد فشت في كثير من الأمصار في العالم الإسلامي، حتى ظنها بعض الناس من الدين، فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً، ويمنحهم الفقه في الدين، ويوفقنا وإياهم للتمسك بالحق، والثبات عليه، وترك ما خالفه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبيناً محمد وآله وصحبه أجمعين(29).
________________________________________
1- هذا المقال مستفاد من كتاب البدع الحولية رسالة ماجستير للشيخ عبد الله بن عبد العزيز التويجري ص( 268- 282)
2- - يراجع: السنن والمبتدعات ص(147)، والإبداع ص (272).
3- يراجع: المدخل لابن الحاج (1/295-298).
4 - يراجع: زاد المعاد (1/57)
5- - يراجع فتح الباري (7/203)، ويراجع شرح الزرقاني على المواهب اللدنية (1/307، 308)، والطبقات لابن سعد (1/213، 214)، والوفا لابن الجوزي (1/349)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/210)، وشرح النووي على صحيح مسلم (2/209)، وعيون الأثر لابن سيد الناس (1/181، 182)، والبداية والنهاية (3/119)، وتفسير ابن كثير (3/22)، وفتاوى النووي ص(27)، وسبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد للشامي (3/94-96).
6- يراجع: زاد المعاد (1/57).
7 - يراجع: لطائف المعارف ص(168).
8 يراجع: الباعث ص (171).(/4)
9- رواه الإمام أحمد في مسنده (4/126-127). ورواه أبو داود في سننه المطبوع مع شرحه عون المعبود (12/358-360)، كتاب الفتن واللفظ له. ورواه الترمذي في سننه المطبوع مع شرحه تحفة الأحوذي (7/438-442). وقال: هذا حديث حسن صحيح ، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة. ورواه ابن ماجه في سننه (1/15-16)، في المقدمة.
10- رواه البخاري في كتابه المطبوع مع فتح الباري (5/301) كتاب الصلح، حديث رقم (2697) ورواه مسلم في صحيحه (3/1343) كتاب الأقضية، حديث رقم (1718).
11- رواه مسلم في صحيحه (3/1344-1343) كتاب الأقضية، حديث رقم (1718).
12 -رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/376، 377). كتاب الصلوات.
13 -- يراجع: زاد المعاد (1/58، 59).
14- يراجع: مجموع الفتاوى (25/298).
15 - يراجع: المدخل (1/294).
16 -يراجع: المدخل (1/294-298).وكذلك الإبداع ص(272).
17-رواه الإمام أحمد في مسنده (4/105). وذكر السيوطي في الجامع الصغير (2/480)، حديث رقم (7790)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/188)، وقال: رواه أحمد والبزار وفيه أبو بكر بن أبي مريم وهو: منكر الحديث ا.هـ.
18- قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/188)، ورواه الطبراني في الكبير وفيه أبو بكر بن أبي مريم وهو: منكر الحديث. وذكره السيوطي في الجامع الصغير (2/508)، حديث رقم (7999)،وأشار إلى أنه ضعيف.
19- رواه ابن ماجه في سننه (1/19)، المقدمة. حديث رقم (50). وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: هذا إسناد رجاله كلهم مجهولون، قاله الذهبي في الكاشف، وقال أبو زرعة: لا أعرف أبا زيد ولا أبا المغيرة. يراجع مصباح الزجاجة (1/11)، باب اجتناب البدع والجدل. وكذلك الكاشف (3/380)، ترجمة رقم (403)، (ترجمة أبي المغيرة)، ورواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة (1/22).حديث رقم (39). وفيه أبو زيد وأبو المغيرة اللذان قال عنهما الذهبي في الكاشف (3/380)، أبو المغيرة عن ابن عباس وعنه أبو يزيد مجهولون.
20- قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/189)، ورواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو: ثقة. وليس فيما ذكره قوله: ((حتى يدع بدعته )
21- يراجع: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (3/97-100).
22- يراجع: تنبيه الغافلين ص(379، 380).
23 - يراجع: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (3/103).
24- هضبة وراء ينبع قريبة من ساحل البحر.... يراجع: معجم البلدان (1/505).
25- رواه أبو داود في سننه (3/607) كتاب الأيمان والنذور، حديث رقم (3313). ورواه البيهقي في سننه (10/ 83) كتاب النذور. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/68)، حديث رقم (1341). وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: وإسناده على شرطهما. يراجع: كتاب التوحيد بحاشية الشيخ ابن قاسم ص(104-106) ويراجع: النهج السديد حديث رقم (132).
26- يراجع: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (3/104).
27- يراجع: التحذير من البدع ص (7-9).
28- رواه الإمام أحمد في مسنده (4/126).ورواه أبو داود في سننه (5/13-15) كتاب السنة،حديث رقم (4607).ورواه الترمذي في سننه (4/149، 150) أبواب العلم، حديث رقم (2816)، وقال: حديث حسن صحيح.ورواه ابن ماجه في سننه (1/ 16 )، المقدمة،حديث رقم (42، 43).
29- يراجع: التحذير من البدع ص (9).(/5)
بدعة صلاة الرغائب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
فإن صلاة الرغائب من البدع المحدثة في شهر رجب، وتكون في ليلة أول جمعة من رجب بين صلاة المغرب والعشاء ، يسبقها صيام الخميس الذي هو أول خميس في رجب.
والأصل فيها حديث موضوع على رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ورد فيه صفتها وأجرها على النحو التالي:
صفتها:
عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "رجب شهر الله، وشعبان شهري،ورمضان شهر أمتي...، وما من أحد يصوم يوم الخميس ، أول خميس في رجب ، ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة، يعني ليلة الجمعة، ثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}ثلاث مرات و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} اثنتي عشرة مرة ، يفصل بين كل ركعتين بتسليمه ، فإذا فرغ من صلاته صلى عليَّ سبعين مرة، ثم يقول : اللهم صلى على محمد النبي الأمي وعلى آله، ثم يسجد فيقول في سجوده : سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبعين مرة، ثم يرفع رأسه فيقول : رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم ، إنك أنت العزيز الأعظم ، سبعين مرة ، ثم يسجد الثانية فيقول مثل ما قال في السجدة الأولى، ثم يسأل الله تعالى حاجته فإنها تقضى . قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- والذي نفسي بيده ما من عبد ولا أمة صلى هذه الصلاة، إلا غفر الله تعالى له جميع ذنوبه ، وإن كانت مثل زبد البحر ، وعدد ورق الأشجار ، وشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته ، فإذا كان في أول ليلة في قبره ، جاء ثواب هذه الصلاة فيجيبه بوجه طلق، ولسان ذلق، فيقول له : حبيبي أبشر فقد نجوت من كل شدة ، فيقول : من أنت فو الله ما رأيت وجهاً أحسن من وجهك، ولا سمعت كلاماً أحلى من كلامك ، ولا شممت رائحة أطيب من رائحتك ، فيقول له: يا حبيبي أنا ثواب الصلاة التي صليتها في ليلة كذا في شهر كذا جئت الليلة لأقضي حقك ، وأونس وحدتك ، وأرفع عنك وحشتك، فإذا نفخ في الصور أظللت في عرصة القيامة على رأسك ، وأبشر فلن تعدم الخير من مولاك أبداً"1.
قال ابن الجوزي-رحمه الله-:"ولقد أبدع من وضعها فإنه يحتاج من يصليها أن يصوم، وربما كان النهار شديد الحر، فإذا صام ولم يتمكن من الأكل حتى يصلي المغرب، ثم يقف فيها، ويقع ذلك التسبيح الطويل ، والسجود الطويل ، فيتأذى غاية الإيذاء، وإني لأغار لرمضان ، والصلاة التراويح كيف زوحم بهذه؟! بل هذه عند العوام أعظم وأجل، فإنه يحضرها من لا يحضر الجماعات!"2.
وصلاة الرغائب أول ما أحدثت ببيت المقدس ، وذلك بعد ثمانين وأربعمائة للهجرة ،ولم يصلها أحد قبل ذلك.
فلم يرد عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه فعلها، ولا أحد من أصحابه-رضوان الله عليهم-، ولا التابعين، ولا السلف الصالح -رحمه الله عليهم –3.
حكمها :
لا شك في بدعية صلاة الرغائب، لاسيما أنها أحدثت بعد القرون المفضلة، فلم يفعلها الصحابة, ولا التابعون, ولا تابع التابعين، ولا السلف الصالح –رحمهم الله-وكانوا على الخير أحرص ممن جاء بعدهم . وقد جرى بين العز بن عبد السلام, وابن الصلاح مساجلة علمية جيدة من خلالها يتأكد لنا بدعية هذه الصلاة المحدثة . فقد أكد الإمام العز بن عبد السلام أن صلاة الرغائب موضوعة على رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وكذب عليه، وأنها مخالفة للشرع من وجوه يختص العلماء ببعضها، وبعضها يعم العالم والجاهل. فأما ما يختص به العلماء فضربان:
الأول : أن العالم إذا صلى كان موهماً للعامة أنها من السنن ، فيكون كاذباً على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بلسان الحال الذي قد يقوم مقام لسان المقام.
الثاني : أن العالم إذا فعلها كان متسبباً إلى أن تكذب العامة على رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فيقولوا : هذه سنة من السنن، والتسبب إلى الكذب على رسول الله-صلى الله عليه وسلم-لا يجوز.
وأما ما يعم العالم والجاهل فمن وجوه :
الوجه الأول : أن فعل البدع مما يغري المبتدعين الواضعين بوضعها وافترائها ، والإغراء بالباطل والإعانة عليه ممنوع في الشرع واطَّراح البدع والموضوعات زاجر عن وضعها وابتداعها ، والزجر عن المنكرات من أعلى ما جاءت به الشريعة .
الوجه الثاني : أنها مخالفة لسنة السكون في الصلاة ، من جهة أن فيها تعديد لسورة الإخلاص ، وسورة القدر ، ولا يتأتى عده في الغالب إلا بتحريك بعض أعضائه .
الوجه الثالث : أنها مخالفة لسنة خشوع القلب وخضوعه وحضوره في الصلاة ،وتفريغه لله تعالى، وملاحظة جلاله وكبريائه ، والوقوف على معاني القراءة والذكر ، فإنه إذا لا حظ عدد السور بقلبه ، كان متلفتاً عن الله تعالى،معرضاً عنه بأمر لم يشرعه في الصلاة ،والالتفات بالوجه قبيح شرعاًَ ،فما الظن بالالتفات عنه بالقلب الذي هو المقصود الأعظم .(/1)
الوجه الرابع : أنها مخالفة لسنة النوافل ، فإن السنة فيها أن فعلها في البيوت أفضل من فعلها في المساجد ، إلا ما استثناه الشرع كصلاة الاستسقاء, والكسوف, وقد قال-صلى الله عليه وسلم-: "صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة"4.
الوجه الخامس : أنها مخالفة لسنة الانفراد بالنوافل ، فإن السنة فيها الانفراد ، إلا ما استثناه الشرع ، وليست هذه البدعة المختلقة على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- منه .
الوجه السادس : أنها مخالفة للسنة في تعجيل الفطر ، إذ قال- صلى الله عليه وسلم - : "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر "5 .
الوجه السابع : أنها مخالفة للسنة في تفريغ القلب عن الشواغل المقلقة قبل الدخول في الصلاة ، فإن هذه الصلاة يدخل فيها وهو جوعان ظمآن ، ولاسيما في أيام الحر الشديد ، والصلوات لا يدخل فيها مع وجود شاغل يمكن رفعه .
الوجه الثامن : أن سجدتيها مكروهتان ، فإن الشريعة لم ترد بالتقرب إلى الله تعالى بسجدة منفردة لا سبب لها ، فإن القرب لها أسباب وشرائط وأوقات وأركان لا تصح بدونها ، فكما لا يتقرب إلى الله بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار ، والسعي بين الصفا والمروة من غير نسك واقع في وقته بأسبابه وشرائطه، فكذلك لا يتقرب إليه بسجدة منفردة، وإن كانت قربة، إلا إذا كان لها سبب فكذلك لا يتقرب إلى الله- عز وجل- بالصلاة والصيام في كل وقت وأوان وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مبعد عنه من حيث لا يشعرون .
الوجه التاسع : لو كانت السجدتان مشروعتين ، لكان مخالفاً للسنة في خشوعهما وخضوعهما ، بما يشتغل به من عدد التسبيح فيهما بباطنه ، أو بظاهره ، أو بباطنه وظاهرة.
الوجه العاشر : أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال : " لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ، إلا أن تكون في صوم يصومه أحدكم "6.
الوجه الحادي عشر : أن في ذلك مخالفة للسنة فيما اختاره رسول الله-صلى الله عليه وسلم-في أذكار السجود، فإنه لما نزل قوله-سبحانه وتعالى-:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . قال : " اجعلوها في سجودكم "7. وقوله : "سبوح قدوس" وإن صحت عن النبي-صلى الله عليه وسلم-، فلم يصح أنه أفردها بدون "سبحان ربي الأعلى" ، ولا أنه وظفها على أمته، ومن المعلوم أنه لا يوظف إلا أولى الذكرين، وفي قوله :"سبحان ربي الأعلى" من الثناء ماليس في قوله : "سبوح قدوس "8.
أقوال العلماء في صلاة الرغائب:
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي- رحمه الله- وهو يعدِّد العبادات التي أحدثها بعض الناس في رجب: "فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصح، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء، وممن ذكر ذلك من الأعيان العلماء المتأخرين من الحفاظ: أبو إسماعيل الأنصاري، وأبو بكر بن السمعاني، وأبو الفضل بن ناصر، وأبو الفرج بن الجوزي، وغيرهم، وإنما لم يذكرها المتقدمون لأنها حدثت بعدهم، وأول ما ظهرت بعد الأربعمائة، فلذلك لم يعرفها المتقدمون ولم يتكلموا فيها"9.
وقال العز بن عبد السلام-رحمه الله-:" ومما يدل على ابتداع هذه الصلاة أن العلماء الذين هم أعلام الدين، وأئمة المسلمين من الصحابة والتابعين ، وتابعي التابعين ، وغيرهم ممن دون لكتب في الشريعة ، مع شدة حرصهم على تعليم الناس الفرائض والسنن ، لم ينقل عن أحد منهم أنه ذكر هذه الصلاة ، ولا دونها في كتابه ، ولا تعرض لها في مجالسه، والعادة تحيل أن تكون مثل هذه سنة وتغيب عن هؤلاء الذين هم أعلام الدين ، وقدوة المؤمنين ، وهم الذين إليهم الرجوع في جميع الأحكام من الفرائض والسنن والحلال والحرام.... ولما صح عند السلطان الكامل- رحمه الله- أنها من البدع المفتراه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-أبطلها من الديار المصرية ، فطوبى لمن تولى شيئاً من أمور المسلمين ، فأعان على إماتة البدع وإحياء السنن .
وليس لأحد أن يستدل بما روي عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أنه قال : "الصلاة خير موضوع"10. فإن ذلك مختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه، وهذه الصلاة مخالفة للشرع من الوجوه المذكورة، وأي خير في مخالفة الشريعة؟ ولمثل ذلك قال-صلي الله عليه وسلم-:"شر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلاله"11 .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله - : "وأما صلاة الرغائب فلا أصل لها، بل هي محدثة ، فلا تستحب لا جماعة ولا فرادى ، فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى أن تختص ليلة الجمعة بقيام ، أو يوم الجمعة بصيام.
والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء ، ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلاً"12.(/2)
وقال أيضاً : "صلاة الرغائب بدعة باتفاق أئمة الدين ،لم يسنها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ولا أحد من خلفائه، ولا استحبها أحد من أئمة الدين كمالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة ،-رحمهم الله- والثوري ، والأوزاعي، والليث وغيرهم ، والحديث المروي فيها كذب بإجماع أهل المعرفة بالحديث"13.
وسئل عن صلاة الرغائب: هل هي مستحبة أم لا ؟ فأجاب : "هذه الصلاة لم يصلها رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من أصحابه، ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين ، ولا رغب فيها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ولا أحد من السلف، ولا الأئمة، ولا ذكروا لهذه الليلة فضيلة تخصها، والحديث المروي في ذلك عن النبي-صلى الله عليه وسلم-كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بذلك ، ولهذا قال المحققون : إنها مكروهة غير مستحبة والله أعلم"14.
وسئل النووي–رحمه الله–عن صلاة الرغائب، وصلاة نصف شعبان هل لهما أصل ؟ فأجاب : "الحمد لله ، هاتان الصلاتان لم يصلهما النبي-صلى الله عليه وسلم-ولا أحد من أصحابه–رضي الله عنهم–ولا أحد من الأئمة الأربعة المذكورين–رحمهم الله - ، ولا أشار أحد منهم بصلاتهما، ولم يفعلهما أحد ممن يقتدي به، ولم يصح عن النبي منها شيء ولا عن أحد يقتدي به ، وإنما أحدثت في الأعصار المتأخرة وصلاتهما من البدع المنكرات ، والحوادث الباطلات ، وقد صح عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال : "إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ضلالة "15 . وفي الصحيحين عن عائشة –رضي الله عنها– قالت: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد"16. وفي صحيح مسلم أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال : "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"17.
وينبغي لكل أحد أن يمتنع عن هذه الصلاة، ويحذر منها، وينفر عنها ويقبح فعلها، ويشيع النهي عنها، فقد صح عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه"18. وعلى العلماء التحذير منها ، والإعراض عنها أكثر مما على غيرهم ، لأنه يقتدى بهم .
ولا يغترن أحد بكونها شائعة يفعلها العوام وشبههم ، فإن الاقتداء إنما يكون برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبما أمر به لا بما نهى عنه، وحذَّر منه"19.
وسئل النووي أيضاً عن صلاة الرغائب هل هي سنة أم بدعة ؟.
فأجاب : "هي بدعة قبيحة منكرة أشد إنكار، مشتملة على منكرات فيتعين تركها والإعراض عنه20.
وقال ابن قيم الجوزية: " وكذلك أحاديث صلاة الرغائب ليلة أول جمعة من رجب كلها كذب مختلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم "21.
وقد سئل الشيخ ابن باز-رحمه الله- هذا السؤال: يخص بعض الناس شهر رجب ببعض العبادات كصلاة الرغائب وإحياء ليلة 27 منه فهل لذلك أصل في الشرع؟ .
فأجاب: تخصيص رجب بصلاة الرغائب أو الاحتفال بليلة 27 منه يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج كل ذلك بدعة لا يجوز، وليس له أصل في الشرع ، وقد نبه على ذلك المحققون من أهل العلم ، وقد كتبنا في ذلك غير مرة وأوضحنا للناس أن صلاة الرغائب بدعة ، وهي ما يفعله بعض الناس في أول ليلة جمعة من رجب22 .
فمما تقدم يتضح للقارئ الكريم أن الصلاة التي يفعلها بعض الجهلة في أول جمعة من رجب، والتي تسمى الرغائب، بدعة منكرة، لم يسنها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ولا أحد من خلفائه، ولم يستحبها صحابته والتابعون ، والأئمة المشهورون ، مع أنهم أحرص الناس على الخير، وفضائل الأعمال ، وهذا الحكم صدر عن جملة من العلماء المتفق على جلالة قدرهم وسعة علمهم ، وكذلك الحديث الوارد فيها فإنه موضوع على رسول الله-صلى الله عليه وسلم-باتفاق أئمة الحديث ، فلم يبق لمدعي فضيلتها من حجة"23 .
اللهم جنبنا البدع، واهدنا إلى صراطك المستقيم، إنك على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين,
والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - رواه ابن الجوزي في الموضوعات(2/124- 126) . وقال : هذا حديث موضوع على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد اتهموا به ابن جهيم ، ونسبوه إلى الكذب ، وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة ص (47-48) . وقال : موضوع ، ورجاله مجهولون وهذه هي صلاة الرغائب المشهورة ، وقد اتفق الحفاظ على أنها موضوعة ........ قال الفيروز آبادي في المختصر : إنها موضوعة بالاتفاق ، وكذا قال المقدسي ، ومما أوجب طول الكلام عليها ، وقوعها في كتاب رزين ابن معاوية العبدري ، ولقد أدخل في كتابه الذي جمع فيه بين دواوين الإسلام بلايا وموضوعات لا تعرف ، ولا يدرى من أين جاء بها ، وذلك خيانة للمسلمين .
2 - الموضوعات لابن الجوزي(2/202,203).
3 - الحوادث والبدع للطرطوشي ص(122).(/3)
4 - البخاري-الفتح(2/214)(731)، كتاب الأذان ، بلفظ :" فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، ورواه مسلم في صحيحه(1/539)(781)، كتاب صلاة المسافرين، ولفظه " فإن خير صلاة المرء...".
5 - متفق عليه.
6 - مسلم.
7 - أبو داود.
8 - راجع: البدع الحولية: عبد الله التويجري ص(244).
9 - لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي ص140
10 -ذكره السيوطي في الجامع الصغير(2/120)، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب وأشار إلى أنه حسن(386).
11 - رواه ابن ماجه.
12 - مجموع الفتاوى (23/132).
13 - مجموع الفتاوى(23/134). والاختيارات الفقهية ص(121).
14 - مجموع الفتاوى (23/135).
15 - سنن أبي داود، والترمذي .وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (2735).
16 - متفق عليه.
17 - رواه مسلم.
18 - رواه مسلم.
19 - مساجلة العز بن عبد السلام وابن الصلاح حول صلاة الرغائب ص(45-47).
20 - فتاوى الإمام النووي ، ص 57.
21 - المنار المنيف ص(95)
22- نشرت في ( مجلة الدعوة ) العدد رقم ( 1566 ) في جمادى الآخرة 1417 هـ .
23 - راجع: البدع الحولية ص(267). عبد الله التويجري.(/4)
بديع الزمان النورسي
بقلم: عبد الله الطنطاوي
"قلة قليلة تلك التي تعرف شيئاً ذا بال عن الشيخ المجاهد العالم العامل بديع الزمان النورسي، وهو من هو علماً ومكانه في تاريخ تركيا الحديثة التي شهدت تطورات خطيرة في هذا القرن العشرين، وما تزال آثاره حتى الآن يتفاعل بها المجتمع التركي المعاصر، الأمر الذي حدا بي إلى كتابة هذا التعريف الموجز به ليكون بمثابة المدخل إلى شخصيته".
المولد:
ولد سعيد النورسي في قرية (نُورس) الواقعة شرقي الأناضول في تركيا عام (1294هـ – 1877م) من أبوين صالحين كانا مضرب المثل في التقوى والورع والصلاح ونشأ في بيئة كردية يخيم عليها الجهل والفقر، كأكثر بلاد المسلمين في أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين. وإلى قريته (نُوْرس) يُنْسَب.
علمه:
وقد بدت عليه أمارات الفطنة والذكاء منذ طفولته، ولمّا دخل (الكُتَّاب) وتتلمذ على أيدي المشايخ والعلماء بهرهم بقوة ذاكرته، وبداهته، وذكائه، ودقّة ملاحظته، وقدرته على الاستيعاب والحفظ، الأمر الذي جعله ينال الإجازة العلمية وهو ابن أربع عشرة سنة بعد أن تبحّر في العلوم العقلية والنقلية بجهده الشخصي، فقد حفظ عن ظهر غيب، ثمانين كتاباً من أمّات الكتب العربية كما حفظ القرآن الكريم في وقت مبكر من حياته الخصبة الحافلة.
كما عكف على دراسة العلوم العصرية، أو العلوم الكونية الطبيعية، (رياضيات، وفلك، وكيمياء، وفيزياء، وجيولوجيا) والجغرافيا والتاريخ والفلسفة الحديثة وسواها من العلوم، حتى غدا عالماً فيها، ومناظراً فذاً للمختصين بها، صار له رصيد ضخم من المعلومات، مكّنه من الانطلاق من مرتكزات علمية سليمة.
كان طالب العلم سعيد النورسي شديد الاحتفال والاشتغال والتعلّق بالفلسفة والعلوم العقلية، وكان لا يقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية وحدها، كأكثر أهل الطرق الصُّوفية، بل كان يجهد لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التي أورثتها إياه مداومة النظر في كتب الفلاسفة.
مع القرآن الكريم:
في عام 1894 تناهى إلى سمعه أن وزير المستعمرات البريطاني (غلادستون) وقف في مجلس العموم البريطاني، وهو يحمل المصحف الشريف بيده، ويهزّه في وجوه النواب الإنكليز، ويقول لهم بأعلى صوته:
" ما دام هذا الكتاب موجوداً، فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان، لذا، لا بدّ لنا من أن نعمل على إزالته من الوجود، أو نقطع صلة المسلمين به".
فصرخ العالم الشاب سعيد النورسي من عمق أعماقه:
"لأبرهننّ للعالم أجمع، أن القرآن العظيم شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها".
ورأى النّورسيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وسأله أن يدعو الله له: أن يفهّمه القرآن، وأن يرزقه العمل به، فبشّره الرسول الكريم بذلك، قائلاً له:
"سيوهب لك علم القرآن، شريطة ألا تسأل أحداً شيئاً".
وأفاق النورسيّ من نومه، وكأنما حيزت له الدنيا.. بل.. أين هو من الدنيا، وأين الدنيا منه.. أفاق وكأنما حيز له علم القرآن وفهمه، فقد آلى على نفسه ألا يسأل أحداً شيئاً، استجابة لشرط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وهبه الله ما تمنى، وصار القرآن أستاذه ومرشده وهاديه في الدياجير التي اكتنفت تركيا الكمالية.
بديع الزمان في مهبّ الأعاصير:
نستطع تمييز مرحلتين في حياة الإمام سعيد النورسيّ:
الأولى: مرحلة سعيد القديم، وتبدأ من مولده حتى نفيه إلى بلدة (بارلا) عام 1926 وهذه المرحلة هي مرحلة الإعداد الذاتي لنفسه، ومرحلة العمل الفردي، وخوض المعارك السياسية، مدافعاً عن الخلافة، وعن القرآن والإسلام، مهاجماً أعداء الإسلام وأعداء الخلافة والقرآن.
وفي هذه المرحلة:
- سافر إلى إستانبول عام 1896 ليقدم مشروعاً لإنشاء جامعة إسلامية حديثة في شرقي الأناضول - بلاد الأكراد - وأطلق عليها اسم (مدرسة الزهراء) لتكون على منوال الجامع (الأزهر) في مصر، غير أنها تختلف عن الأزهر بتدريس العلوم الحديثة إلى جانب العلوم الشرعية والعربية، وذلك من أجل النهوض بالأكراد المسلمين الذين يفتك بهم الجهل والفقر والتخلف. ولكن النورسي لم يلق قبولاً من السلطان عبد الحميد ومن وزير داخليته.
- وفي عام 1907 سافر مرة أخرى إلى استانبول، للغرض ذاته، وقابل السلطان عبد الحميد، وانتقد الاستبداد ونظام الأمن واستخبارات القصر (يلدز) فأثار عليه حاشية السلطان، وأحالوه إلى محكمة عسكرية.
وكان النورسي في منتهى الشجاعة في التعبير عن رأيه أمام القضاة العسكريين، الأمر الذي جعل رئيس المحكمة يحيله إلى الأطباء النفسانيين، للتأكد من سلامة قواه العقلية، وكانت لجنة الأطباء المؤلفة من طبيب تركي، وآخر أرمني، وثالث رومي ومن طبيبين يهوديين (!!!) قررت وضعه في مستشفى (طوب طاش ) للمجانين (!!!).
وعندما حضر طبيب نفساني إلى المستشفى، لفحص قواه العقلية، بادره النورسي بحديث رائع عميق يأخذ بالألباب، فما كان من الطبيب إلا أن يكتب في تقريره:(/1)
" لو كانت هناك ذرّة واحدة من الجنون عند بديع الزمان، لما وُجد عاقل واحد على وجه الأرض".
ثم أحيل النورسي إلى وزارة الداخلية، وكان الحوار التالي بينه وبين وزير الداخلية:
الوزير: إن السلطان يخصك بالسلام مع مرتب بمبلغ ألف قرش وعندما تعود إلى بلدك سيجعل مرتبك ثلاثين ليرة كما أرسل لك ثمانين ليرة هدية سلطانية لك.
بديع الزمان: لم أكن أبداً متسول مرتب، ولن أقبله ولو كان ألف ليرة لأنني لم آت لغرض شخصي، وإنما لمصلحة البلد، فما تعرضونه عليّ ليس سوى رشوة السكوت.
الوزير: إنك بهذا تردّ الإرادة السلطانية، والإرادة السلطانيّة لا تردّ.
بديع الزمان: إنني أردّها، لكي يستاء السلطان ويستدعيني.. عند ذلك أستطيع أن أقول له قولة الحق.
الوزير: إن العاقبة ستكون غير سارة.
بديع الزمان: تعددت الأسباب والموت واحد، فإن أعدم فسوف أرقد في قلب الأمة، علماً بأنني عندما جئت إلى إستانبول كنت واضعاً روحي على كفي.. اعملوا ما شئتم، فإني أعني ما أقول: إنني أريد أن أوقظ أبناء الأمة، ولا أقوم بهذا العمل إلا لأنني فرد من هذا البلد، لا لأقتطف من ورائه مرتباً، لأن خدمة رجل مثلي للدولة لا تكون إلا بإسداء النصائح، وهذه لا تتم إلا بحسن تأثيرها، وهذا لا يتم إلا بترك المصالح الشخصية فإنني معذور إذن عندما أرفض المرتب.
الوزير: إن ما ترمي إليه من نشر المعارف في بلدك هو موضع دراسة في مجلس الوزراء حالياً.
بديع الزمان: إذن فلِمَ يتأخر نشر المعارف، ويستعجل في أمر المرتّب؟ لماذا تؤثرون منفعتي الشخصية على المنفعة العامة؟.
- ثم ذهب إلى (سلانيك) مقرّ يهود الدونمة ومشتقاتهم من جمعية (الاتحاد والترقي) و(الماسوني) وسواهما، والتقى عدداً من شخصيات (الاتحاد والترقي) الذين كانوا يطمعون في كسب النورسيّ العبقري إلى صفهم، وكان ممن التقاهم: (عما نوئيل قره صو) رئيس المحفل الماسوني، وعضو مجلس المبعوثان (أي النواب) العثماني، وكان قره صو يطمع في النورسيّ ولكنّ المقابلة بينهما لم تطل، لأن قره صو فرَّ هارباً من اللقاء، وهو يقول: "كاد هذا الرجل العجيب – النورسي- يدخلني في الإسلام بحديثه".
و (قره صو) هذا أول صهيوني ماسوني عمل على خلع السلطان عبد الحميد وإلغاء الخلافة.
- وفي هذه المرحلة اتُّهم فيمن اتُّهم بحادثة 31 مارت (13/4/1909) وسيق إلى المحاكمة، ورأى في الساحة خمسة عشر رجلاً معلقين على أعواد المشانق، ظناً من القضاة أن هذا المنظر سوف يرهبه.. قال له الحاكم العسكري خورشيد باشا:
- وأنت أيضاً تدعو إلى تطبيع الشريعة؟ إن من يطالب بها يشنق هكذا (مشيراً بيده إلى المشنوقين)..
فقام بديع الزمان سعيد النورسي وألقى على مسمع المحكمة كلاماً رائعاً نقتطف منه ما يأتي:
"لو أن لي ألف روح لما تردّدت أن أجعلها فداء لحقيقة واحدة من حقائق الإسلام فقد قلت: إنني طالب علم، لذا فأنا أزن كل شيء بميزان الشريعة، إنني لا أعترف إلا بملة الإسلام.. إنني أقول لكم وأنا واقف أمام البرزخ الذي تسمونه (السجن) في انتظار القطار الذي يمضي بي إلى الآخرة لا لتسمعوا أنتم وحدكم بل ليتناقله العالم كله، ألا لقد حان للسرائر أن تنكشف، وتبدو من أعماق القلب، فمن كان غير محرم فلا ينظر إليها.
إنني متهيئ بشوق لقدومي للآخرة.. وأنا مستعد للذهاب مع هؤلاء الذين عُلقوا في المشانق. تصوروا ذلك البدوي الذي سمع عن غرائب إستانبول ومحاسنها، فاشتاق إليها.. إني مثله تماماً في شوقي إلى الآخرة والقدوم إليها. إن نفيكم إياي إلى هناك لا يعتبر عقوبة. إن كنتم تستطيعون فعاقبوني المعاقبة الوجدانية. لقد كانت الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد وهي الآن تعادي الحياة، وإذا كانت هذه الحكومة هكذا، فليعش الجنون، وليعش الموت، وللظالمين فلتعش جهنم".
وفي جلسة واحدة فقط صدر حكم ببراءة بديع الزمان سعيد النورسي من تلك المحكمة الرهيبة التي شنقت العشرات.
- أسس (الاتحاد المحمدي) في سنة 1909 رداً على دعاة القومية الطورانية، والوطنية الضيقة، كجمعية الاتحاد والترقي، وجمعية تركيا الفتاة.
- انضم إلى (تشكيلات خاصة) وهي مؤسسة سياسية عسكرية أمنية سرية، شكلت بأمر السلطان محمد رشاد قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، من أجل المحافظة على أراضي الدولة العثمانية، ومحاربة أعدائها. وكان قد انضم إلى هذه المؤسسة كثير من المفكرين والكتّاب، وكان النورسي من أنشط أعضاء قسم (الاتحاد الإسلامي) فيها، وأصدر مع عدد من العلماء (فتوى الجهاد) التي تهيب بالمسلمين أن يهبوا للدفاع عن الخلافة.
- وفي هذه المرحلة سافر إلى مدينة (وان) عام 1910 وبدأ يلقي دروسه ومحاضراته، متجولاً بين القبائل والعشائر الكردية، يعلمهم أمور دينهم، ويرشدهم إلى الحق.
- وفي سنة 1911 سافر إلى دمشق، وألقى في المسجد الأموي خطبته الشهيرة باسم الخطبة الشامية التي وصف فيها أمراض الأمة الإسلامية، ووسائل علاجها.(/2)
- وفي سنة 1912 عُيِّنَ بديعُ الزمان قائداً لقوات الفدائيين الذين جاؤوا من شرقي الأناضول، من الأكراد خاصة.
- وفي سنة 1916 تمكنت القوات الروسية من الدخول إلى مدينة (أرضروم) التركية، وقد تصدى النورسي وتلاميذه المتطوعون للقوات الروسية، وخاضوا عدة معارك ضدها، ثم جرح النورسي جرحاً بليغاً، ونزف نزفاً شديداً كاد يودي بحياته، الأمر الذي اضطر أحد تلاميذه إلى إعلام القوات الروسية بذلك، فاقتادوه أسيراً، وبقي في الأسر في (قوصطرما) سنتين وأربعة أشهر، ثم تمكن من الهرب من معسكرات الاعتقال، إثر الثورة البلشفية في روسيا.
عزة المؤمن:
وذات يوم قُدِّمَ هناك إلى المحكمة الحربية بتهمة إهانة القيصر الروسي.
أما قصة ذلك فهي كما يأتي:
كان خال القيصر والقائد العام للجبهة الروسية، "نيكولا نيكولافيج" يزور معسكر الأسرى فقام جميع الأسرى لأداء التحية ماعدا (سعيد النورسي). لاحظ القائد العام ذلك، فرجع ومرّ ثانية أمامه.. فلم يقم له كذلك، وفي المرة الثالثة وقف أمامه وجرت المحاورة الظريفة الآتية بينهما بواسطة مترجم القائد:
القائد: الظاهر أنك لم تعرفني؟
النورسيّ: بلى.. لقد عرفتك. إنك نيكولا نيكولافيج، خال القيصر، والقائد العام في جبهة القفقاس.
القائد: إذن فلِمَ تستهين بي؟
النورسيّ: كلا، إنني لم أستهن بأحد، وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.
القائد: وماذا تأمرك عقيدتك؟
النورسيّ: إنني عالم مسلم، أحمل في قلبي إيماناً، والذي يحمل في قلبه إيماناً هو أفضل من الذي لا إيمان له. ولو أنني قمت لك لكنت إذن قليل الاحترام لعقيدتي ومقدساتي، لذلك فإنني لم أقم لك.
القائد: إذن فإنك بإطلاقك عليّ صفة عدم الإيمان، تكون قد أهنتني وأهنت جيشي وأمتي والقيصر كذلك، يجب تشكيل محكمة عسكرية للنظر في هذا الأمر.
تشكلت المحكمة العسكرية، وقُدِّمَ إليها سعيد النورسي بتهمة إهانة القيصر والأمة الروسية والجيش الروسي.
ويسود حزن في معسكر الأسرى ويلتف حوله الضباط الأسرى من الأتراك والألمان والنمساويين ملحّين عليه القيام بالاعتذار للقائد الروسي وطلب العفو منه، إلا أنه رفض ذلك بإصرار، قائلاً لهم:
"إنني أرغب في الرحيل إلى الآخرة، والمثول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك فإنني بحاجة فقط إلى جواز سفر للآخرة، وأنا لا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني".
وتصدر المحكمة قرارها بالإعدام، وفي يوم التنفيذ تحضر ثلة من الجنود على رأسها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام، ويقوم سعيد النورسي من مكانه بابتهاج قائلاً للضابط الروسي:
- أرجو أن تسمح لي قليلاً لأؤدي واجبي الأخير.
ثم يقوم ويتوضأ ويصلي ركعتين.
وهنا يأتي القائد العام ليقول له بعد فراغه من الصلاة:
- أرجو منك المعذرة، كنت أظنك قد قمت بعملك قاصداً إهانتي ولكنني واثق الآن أنك كنت تنفذ ما تأمرك به عقيدتك وإيمانك، لذا فقد أبطلت قرار المحكمة، وإنني أهنئك على صلابتك في عقيدتك، وأرجو المعذرة منك مرة أخرى.
- في 13/8/ 1918 عُيِّنَ عضواً في (دار الحكمة الإسلامية) التي كانت تضم كبار العلماء والشعراء والشخصيات في إستانبول.
وقررت له الحكومة مرتباً، ولكنه ما كان يأخذ منه إلا ما يقيم أوده، والباقي ينفقه على طباعة رسائله العلمية التي كان يوزعها مجاناً.
- وبعد أن احتل الحلفاء (الإنكليز والفرنسيون) العاصمة إستانبول، ألَّفَ النورسي كتابه (الخطوات السّتّ) وحَكَمَ عليه الحاكم العسكري الإنكليزي بالإعدام على هذا الكتاب، وعلى نشاطه المعادي للقوات المحتلة، وأراد محبوه إنقاذه، فدعوه إلى (أنقرة) فأجابهم:
"أنا أريد أن أجاهد في أخطر الأمكنة، وليس من وراء الخنادق. وأنا أرى أن مكاني هذا أخطر من الأناضول".
- دُعِيَ إلى أنقرة سنة 1922 واستُقْبِلَ في المحطة استقبالاً حافلاً، ولكنه لاحظ أن أكثر النواب لا يصلّون، كما أن مصطفى كمال يسلك سلوكاً معادياً للإسلام، فقرر أن يطبع بياناً تضّمن عشر مواد، وجهه إلى النواب، واستهله بقوله:
"يا أيها المبعوثون.. إنكم لمبعوثون ليوم عظيم".
وكان من أثر هذا البيان الذي ألقي على النواب، أن ستين نائباً قاموا لأداء فريضة الصلاة، والتزموا الدين، الأمر الذي أغضب مصطفى كمال فاستدعى النورسي وقال له:
"لاشك أننا في حاجة ماسة إلى أستاذ قدير مثلك، ولهذا دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك السديدة، ولكن أول عمل قمت به هو الحديث عن الصلاة.. لقد كان أول جهودك هنا هو بث الفرقة بين أهل المجلس".
فأجابه بديع الزمان، مشيراً إليه بإصبعه في حدّة.
"باشا.. باشا.. إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة، وإن الذي لا يصلي خائن، وحكم الخائن مردود".
عندها فكّر مصطفى كمال بإبعاده عن العاصمة، فعيَّنه واعظاً عاما للولايات الشرقية، وبمرتب مُغْرٍ، ولكن النورسي رفض الوظيفة والراتب.(/3)
كتب النورسي ونشر في هذه المرحلة عدة كتب ورسائل منها: إشارات الإعجاز- والسنوحات- والطلوعات- ولمعات وشعاعات من معرفة النبي صلى الله عليه وسلم وسواها باللغة العربية.
المرحلة الثانية من حياته:
في عام 1923 غادر النورسي مدينة أنقرة إلى مدينة "وان" حيث انقطع للعبادة في إحدى الخرائب المهجورة على جبل "أرك" ولم يدر شيئاً عن الأعاصير التي تنتظره.
وجاء من يدعوه إلى تأييد ثورة الشيخ سعيد بيران ضد الحكومة الكمالية العلمانية المعادية للإسلام، فأبى تأييدها، ولكن هذا الموقف، وذلك الانقطاع للعبادة، لم ينجياه من غضب حكومة أنقرة التي أمرت بالقبض عليه، ونقله إلى إستانبول، ومن ثَمَّ إلى مدينة "بوردور" ثم إلى "بارلا" في جو بارد من شتاء عام 1926 القارس، فقد كان الجو باردا، ومياه البحيرة متجمدة وأحد جذافي القارب الذي يحمله إلى منفاه في المقدمة يكسر الثلوج بعصا طويلة في يده، ليفتح بذلك طريقا للقارب الشراعي.
وفي بارلا بدأت المرحلة الثانية من حياة بديع الزمان، وهي المسماة مرحلة سعيد الجديد وقد كانت حافلة بالاتهامات والملاحقات والمطاردات والسجون والمعتقلات والمحاكمات والمنافي، مما لم يمر في حياة إنسان وهو صابر محتسب، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، شعاره في ذلك:
"أعوذ بالله من الشيطان والسياسة".
وفي هذه البلدة صنع له أحد النجارين غرفة خشبية صغيرة غير مسقوفة، وضعت بين أغصان شجرة الدلب العالية حيث كان النورسي يقضي فيها أغلب أوقاته في فصلي الربيع والصيف، متعبدا لله، متأملاً متفكراً، وعاكفاً على تأليف رسائل النور طوال الليل، والناس يسمعون همهمات العالم العابد المتهجد، ولا يستطيعون الاختلاط به ومحادثته، والإفادة من علمه، لأن هذا محظور عليهم وسوف يكلفهم كثيراً.
أمضى النورسي في "بارلا" ثماني سنوات ونصف السنة، ألَّفَ فيها أكثر رسائل النور، وهو يعاني من عدة أمراض، ولا يشتهي الطعام، بل كان يكتفي من الطعام بكسيرات من الخبز مع قليل من الحساء "الشوربة" ولا يقبل هدية ولا تبرعاً ولا زكاة من أحد... كان- كما قال عن نفسه- يعيش على البركة والاقتصاد.
وفي هذه المرحلة كان يؤلف ويكتب باللغة التركية المكتوبة بالحروف العربية، ويأمر تلاميذه بالكتابة بالحروف العربية، حفاظا عليها من النسيان، فقد كان أتاتورك قد ألغى الكتابة بالحروف العربية واستبدل بها الحروف اللاتينية.
وقد أسهمت النساء بنسخ الرسائل- الكتب- التي كان يمليها بديع الزمان على بعض تلاميذه في غفلة من الرقباء لأنه كان منفيا وموضوعا تحت الرقابة، ثم يقوم هؤلاء بتهريبها إلى النساء، ليسهرن في استنساخها، ويقضين الليالي في ذلك، حتى إذا أنجزنها، سارت بها ركبان طلبة النور في طول البلاد التركية وعرضها.
ورسائل النور هذه تدعو إلى إنقاذ الإيمان، وعودة الإسلام إلى الحياة.
وتصدى بها للعلمانيين والقوميين والسياسة الميكيافيلية القائمة على التزلف والنفاق والمصالح الشخصية. السياسة التي نَحَّتِ الدين جانبا، وولَّى أصحابها وجوههم نحو أوروبا، والسير في ركابها. ولهذا رأيناه في هذه المرحلة، يقف- بكل قوة- في وجه التيارات الإلحادية الشاملة، برغم ضراوة الهجمة وشراستها، وبرغم ما تعرَّض له من نفي وسجن واعتقال.
وهذا يعني، أن شعاره في هذه المرحلة: "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة" لا يعني أنه تخلَّى عن السياسة فعلا، بل أراد به حماية تلاميذه من شرور الأشرار السياسيين، ومع ذلك، لم ينجح هو ولا تلاميذه من الملاحقة والمحاكمات والسجون التي أطلق عليها النورسي وتلاميذه اسم: المدرسة اليوسفية.
وقد جاء في قرار اللجنة المدققة لرسائل النور في مدينة (دنيزلي):
"ليس لبديع الزمان فعالية سياسية، كما لا يوجد أي دليل على أنه يؤسس طريقة صوفية، أو قائم بإنشاء أي جمعية، وإن موضوعات كتبه تدور كلها حول المسائل العلمية والإيمانية وهي تفسير القرآن الكريم".
- عندما أطلق سراحه في الخمسينيات، كان في السابعة والسبعين من العمر، وكان يقول لزائريه أو الذين يرغبون في زيارته:
"كل رسالة- من رسائل النور- تطالعونها، تستفيدون منها فوائد أفضل من مواجهتي بعشرة أضعاف"..
وكان قد طلب أكثر من مرة من تلاميذه طلبة النور، ألا يربطوا الرسائل بشخصه الضعيف، فيحطوا من قيمتها، لأن للإنسان أخطاء وعيوبا قد سترها الله عليه.
كما كان يدعو تلاميذه إلى عدم التعلق به، لا في حياته، ولا بعد مماته، فذلك له أضرار جسيمة على الدعوة.
- وكان النورسي يحب أعالي الجبال، كما كان يحب أعالي الأشجار الباسقة الشاهقة، وكان يفضل الصلاة على الصخور المرتفعة، وكان يقول لتلاميذه:
"لو كنتُ في قوة شبابكم هذا، لما نزلت من هذه الجبال."(/4)
لقد كان النورسي أمَّة في رجل، وربَّى تلاميذه بالقدوة، وحياته كانت أكبر كرامة.. إنه رجل عصر المصائب والبلايا والمهالك- كما قال عن نفسه- وهو عصرنا، وقد هيأ الأدوية الناجعة للجروح الإنسانية الأبدية، وقدَّمها إليها خلال رسائله وكتبه التي هي من نور القرآن العظيم.
وفاته:
توفي بديع الزمان النورسي في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1379هـ الموافق للثالث والعشرين من شهر آذار 1960م تاركاً موسوعة إيمانية ضخمة تسد حاجة هذا العصر، وتخاطب مدارك أبنائه، وتدحض أباطيل الفلاسفة الماديين، وتزيل شبهاتهم من أسسها، وتثبت حقائق الإيمان وأركانه بدلائل قاطعة، وبراهين ناصعة، جمعت في ثمانية مجلدات ضخام، هي: الكلمات- المكتوبات- اللمعات- الشعاعات- إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز- المثنوي العربي النوري- الملاحق- صيقل الإسلام. وقد ترجمت إلى اللغات العربية والإنكليزية، والألمانية، والأردية، والفارسية، والكردية، والفرنسية، والروسية وغيرها، ودفن في مدينة (أورفه).
وبعد الانقلاب العسكري في تركيا في 27/5/ 1960 قام الانقلابيون العسكر بنقل رفات الإمام النورسي إلى جهة غير معلومة.
وقد وصف شقيقه الشيخ عبد المجيد النورسي نقل رفات أخيه بديع الزمان في مذكراته، بعد خمسة أشهر من وفاته، فقد قالوا له:
"سنقوم بنقل رفات أخيك الشيخ سعيد النورسي من أورفه".
وقاموا بهدم قبر بديع الزمان، وقلت في نفسي: "لابد أن عظام أخي الحبيب قد أصبحت رماداً، ولكن ما إن لمست الكفن، حتى خيل إليّ أنه قد توفي بالأمس. كان الكفن سليما، ولكنه كان مصفراً بعض الشيء من جهة الرأس وكانت هناك بقعة واحدة على شكل قطرة ماء.(/5)
بر الوالدين والتحذير من العقوق
فهد بن عبد الرحمن العبيان ...
ملخص الخطبة ...
1- فضل الوالدين وحث الشارع على برهما والإحسان إليهما. 2- بعض صور العقوق والإساءة إليهما. 3- عقوبة من عق والديه وثواب من برهما. 4- حال بعض السلف في برهم لآبائهم. ...
...
الخطبة الأولى ...
...
أما بعد:
أيها المؤمنون: فإن من أعظم الروابط بين الناس رابطة خصّها الشرع الحنيف بمزيد من الاهتمام والذكر بل لقد جعلها من فرائض الدين الكبرى فأمر بوصلها والإحسان إليها والقيام بحقها ورتب عليه أعظم الأجر وأزكاه. وفي المقابل حذر من المساس بهذه الرابطة الوثيقة والإخلال بها والاعتداء عليها حتى ولو بأدنى لفظ أو نظر.
تلكم الرابطة هي ما يجمع كلاً منا بأصله الذي جعله الله تعالى سبباً لوجوده، رابطة الوالدين حيث إن شأنهما عظيم وحقهما كبير ولست في مقامي هذا أعلم جاهلاً بحقهما فالكل يعلم هذا الحق، ولكني أذكر نفسي أولاً وأذكركم ثانياً بهذا الحق العظيم الذي قرنه الله بحقه سبحانه في أكثر من آية في كتابه قال تعالى: وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: فلا تقل لهما أف أي لا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ ولا تنهرهما أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله: ولا تنهرهما أي لا تنفض يدك عليهما.
ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالقول الحسن والفعل الحسن فقال: وقل لهما قولاً كريماً أي ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم واخفض لهما جناح الذل والرحمة أي تواضع لهما بفعلك وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً أي في كبرهما وعند وفاتهما".
عباد الله: لقد أكثر الله من ذكر شأن الوالدين وأوجب الإحسان إليهما لفضلهما وعظيم معروفهما على ولدهما قال تعالى: يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين .
وقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وقال تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وقال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير .
وقال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً .
وإن كنت تظن يا عبد الله أن وقوع الوالدين في معصية يبيح لك نهرهما والإخلال بحقهما من الأدب ولين الجانب فقد أخطأت الجادة فلا أعظم جرماً من الشرك بالله والدعوة إليه ومع هذا يقول الله عز وجل معظماً لحقهما: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا .
ولقد جاءت نصوص السنة متضافرة في الدلالة على هذا الحق العظيم فمن ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود قال سألت رسول الله أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: ((الصلاة على وقتها قلت ثم أي؟ قال بر الوالدين قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)) متفق عليه.
وعن أبي هريرة قال: قال النبي : ((رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة)) أخرجه مسلم. ورغم أنف أي ذل ولصق بالرغام وهو التراب.
وعن عبد الله بن عمرو قال أقبل رجل إلى النبي فقال أبايعك على الهجرة والجهاد ابتغي الأجر من الله تعالى فقال : ((فهل لك من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) متفق عليه.
ومع كثرة النصوص والآثار الدالة على عظم شأن الوالدين ورفع مكانهما إلا أن بعض الناس قد أخلوا بهذا الجانب إخلالاً عظيماً فكم سمع الناس وقرؤوا وشاهدوا من مظاهر العقوق القولية والعملية ما يندى له الجبين ويتفطر له القلب.
ويزداد الأمر شناعة إذا كان بعض أولئك المقصرين في حق الوالدين من أهل الصلاة والجمعة والجماعة.
عباد الله: إن لعقوق الوالدين صوراً كثيرة منها إظهار العبوس عند مقابلة الوالدين بخلاف ما لو قابل أصحابه. وإنك لتعجب ممن يتكلف البشاشة والابتسامة مع الآخرين بينما يتثاقل في إظهار ذلك مع والديه.
ومن صور العقوق أيضاً رفع الصوت عليهما أو مقاطعة كلامهما بزجرهما وفرض الرأي عليهما، وهذه الطباع مما يذمها العقلاء مع الناس فكيف إذا كان ذلك مع الوالدين.
ومن صور العقوق أيضاً النظر إلى الوالدين شزراً وذلك بإحداد النظر إليهما وكأنه ينظر إلى أحد أبنائه لزجره أو كأنه ينظر إلى عدو. قال مجاهد "ما بر والديه من أحدّ النظر إليهما".
ومن صور العقوق التأخر في قضاء حاجاتهما والتسويف بها إلى أن يسأم الوالدان من سؤاله بعد ذلك.(/1)
ومن صور العقوق القيام بحق الزوجة والاعتناء به في مقابل عدم الاعتناء بحق الوالدين وعدم الاكتراث له بل وتضييعه، ولا حاجة بنا لذكر صور من العقوق بغيضة ليست من صفات المسلمين بل ولا من عادة عرب الجاهلية كضرب الوالدين أو لعنهما أو البصق عليهما أو رميهما في دور العجزة والتخلص منهما نعوذ بالله من الخزي والخذلان في الدنيا والآخرة.
عن أبي بكرة قال: قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالها: ثلاثاً، قلنا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين..)) الحديث متفق عليه.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان)) أخرجه النسائي.
وعقوبة العاق معجلة لصاحبها في الدنيا لقوله : ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) أخرجه الإمام أحمد.
وهذا مشاهد ظاهر لا يحتاج إلى دليل.
وفي المقابل فبر الوالدين مفتاح كل خير ومغلاق من كل شر فهو من أعظم أسباب دخول الجنة والنجاة من النار ثم هو دين يدخر لك في ذريتك حين ترى ثمار برك بوالديك قد أينعت في ذريتك فكما تدين تدان.
وبر الوالدين سبب في بسط الرزق وطول العمر وكذلك سبب في دفع المصائب كما جاء في خبر أصحاب الغار. كما أنه سبب في إجابة الدعاء كما جاء في صحيح مسلم في خبر أويس القرني أنه كان باراً بأمه. إلى غير ذلك مما هو مدخر للبار بوالديه من خيري الدنيا والآخرة.
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "إني رأيت شبيبة من أهل زماننا لا يلتفتون إلى بر الوالدين ولا يرونه لازماً لزوم الدين، يرفعون أصواتهم على الآباء والأمهات وكأنهم لا يعتقدون طاعتهم من الواجبات ويقطعون الأرحام التي أمر الله بوصلها ونهى عن قطعها بأبلغ الزجر وربما قابلوها بالهجر والجهر. إلى أن قال رحمه الله:وليعلم البار بالوالدين أنه مهما بلغ في برهما لم يف بشكرهما. عن زرعة بن إبراهيم أن رجلاً جاء إلى عمر فقال إن لي أماً بلغ بها الكبر وإنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها وأوضئها وأصرف وجهي عنها فهل أديت حقها قال لا. قال أليس قد حملتها على ظهري وحبست نفسي عليها. فقال عمر إنها كانت تصنع ذلك بك وهي تتمنى بقاءك وأنت تتمنى فراقها.
وجاء رجل إلى ابن عمر فقال: (حملت أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيت بها مناسك الحج أتراني جزيتها. قال: لا ولا طلقة من طلقاتها).
إلى أن قال رحمه الله: وبرهما يكون بطاعتهما فيما يأمران به ما لم يكن بمحظور، وتقديم أمرهما على فعل النافلة والاجتناب لما نهيا عنه، والإنفاق عليهما،والتوخي لشهواتهما، والمبالغة في خدمتهما، واستعمال الأدب والهيبة لهما فلا يرفع الولد صوته ولا يحدق إليهما ولا يدعوهما باسمهما، ويمشي وراءهما ويصبر على ما يكره مما يصدر منهما" انتهى كلامه يرحمه الله.
اللهم ارزقنا البر لوالدينا أحياءً وأمواتاً واجعلنا لهم قرة أعين وتوفنا وإياهم وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ...
...
الخطبة الثانية ...
أما بعد:
أيها المؤمنون: لما كان بر الوالدين من القربات العظيمة تسابق إليها الأتقياء من عباد الله من الأنبياء والرسل وأتباعهم .
هذا نوح عليه السلام يخص والديه بالدعاء بالمغفرة بقوله: رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات .
وكذا حال عيسى ابن مريم عليه السلام حين قال عنه الله عز وجل: وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً .
وكذا يحيى عليه السلام قال عنه الله عز وجل: وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً .
وأما ما كان من شأن الخليل عليه السلام مع أبيه ودعوته إياه وتحببه له فأمر قد بلغ في البر غايته قال تعالى: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً .
وما جاء عن السلف في هذا الشأن كثير جداً فمن ذلك ما جاء عن أبي حنيفة رحمه الله في بره بأمه حيث كانت تأمره أن يذهب بها إلى حلقة عمر بن ذر حتى تسأله عما أشكل عليها مع أن ابنها فقيه زمانه، ومع ذلك قال أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة رأيت أبا حنيفة يحمل أمه على حمار إلى مجلس عمر بن ذر كراهية أن يرد على أمه أمرها.
ومن ذلك ما جاء عن محمد بن بشر الأسلمي أنه قال: لم يكن أحد بالكوفة أبر بأمه من منصور بن المعتمر وأبي حنيفة، وكان منصور بن المعتمر يفلي رأس أمه.
وأما حيوة بن شريح أحد الأئمة الأعلام فقد كان يقعد في حلقته يعلم الناس فتقول له أمه قم يا حيوة فألق الشعير للدجاج فيقوم ويترك التعليم.(/2)
وقال محمد بن المنكدر: بات أخي عمر يصلي وبت أغمز رجل أمي وما أحب أن ليلتي بليلته.
وكان حجر بن الأدبر يلمس فراش أمه بيده ويتقلب بظهره عليه ليتأكد من لينه وراحته ثم يضجعها عليه.
وأما الإمام ابن عساكر محدث الشام فقد سئل عن سبب تأخر حضوره إلى بلاد أصبهان فقال: لم تأذن لي أمي.
رحم الله هؤلاء الآئمة الأبرار ما أعظم شأنهم مع والديهم، وألحقنا بهم في دار كرامته إنه جواد كريم.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وانصر عبادك الموحدين. ...
..................................................................
.............................
المنبر ...(/3)
... ...
بر الوالدين ... ... ...
خالد الشارخ ... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- انتشار عقوق الوالدين. 2- حقوق الوالدين. 3- رضا الوالدين باب من أبواب الجنة. 4- قصص في بر الوالدين. 5- صور في حياتنا من العقوق. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أيها الإخوة المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهو وصية الله لنا ولمن قبلنا، ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله [النساء: 131].
معاشر المسلمين: كانت النية أن تكون الخطبة هذه الجمعة عن العطلة الصيفية وكيفية استغلالها، ولكن حال دون ذلك كثرة شكاوي الناس وكثرة الأخبار المزعجة التي تفطر القلوب وتدمي الأسماع، وهي نذير شؤم، وعلامة خذلان، يجب على الأمة جميعها أن تتصدى لإصلاح هذا الخلل الذي بدأ ينتشر انتشار النار في الهشيم، ألا وهو عقوق الوالدين.
عقوق الوالدين أيها الإخوة من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وكيف لا يكون كذلك وقد قرن الله برهما بالتوحيد فقال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً [الإسراء: 23].
وقال تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً [الأنعام: 151].
بل هي من المواثيق التي أخذت على أهل الكتاب من قبلنا، وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً [البقرة: 83].
وها نحن نسمع بين الحين والآخر، وللأسف من أبناء الإسلام من يزجر أمه وأباه، أو يضربهما أو يقتل أمه أو أباه.
أقول ـ أيها الإخوة ـ: إن انتشار مثل هذه الجرائم البشعة ليست في الإسلام فحسب بل في عرف جميع بني آدم، أقول: إن انتشارها نذير شؤم وعلامة خذلان للأمة، ومن هنا وجب على جميع قنوات التربية والتوعية والإصلاح تنبيه الناس على خطر هذا الأمر، وإظهار هذه الصورة البشعة لمجتمعاتنا بأنها علامة ضياع وعنوان خسارة.
أيها الإخوة في الله: ما سبب انتشار أمثال هذه الجرائم؟ ولا أقول وجودها لأنها قد وجدت من قديم الزمان، لكن ما سبب انتشارها إلا انتشار الفساد والأفلام المقيتة بوجهها الكالح، وتشبه طبقة من طبقات المجتمع بصورة الشاب الغربي الذي يعيش وحده، وليست له أي صلة تربطه بذي رحم أو قريب، فيتأثر البعض بهذه المناظر فيحصل ما لا تحمد عقباه من العقوق.
أيها الأخوة المؤمنون:
قال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، لا يحد النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللاً لهما.
وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً. . الآية.
قال الهيثمي عند قوله تعالى: وقل لهما قولاً كريماً أي اللين اللطيف المشتمل على العطف والاستمالة وموافقة مرادهما وميلهما ومطلوبهما ما أمكن لا سيما عند الكبر، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ثم أمر تعالى بعد القول الكريم بأن يخفض لهما جناح الذل من القول، بأن لا يُكلما إلا مع الاستكانة والذل والخضوع، وإظهار ذلك لهما، واحتمال ما يصدر منهما، ويريهما أنه في غاية التقصير في حقهما وبرهما.
ولا يزال على نحو ذلك حتى ينثلج خاطرهما، ويبرد قلبهما عليه، فينعطفا عليه بالرضا والدعاء، ومن ثم طلب منه بعد ذلك أن يدعو لهما، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً .
وكان أبو هريرة إذا أراد أن يخرج من دار أمه وقف على بابها فقال: السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً، فتقول: ورحمك الله كما سررتني كبيراً، ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك.
أيها الإخوة المسلون:
وحق الوالدين باقٍ، ومصاحبتهما بالمعروف واجبة، حتى وإن كانا كافرين.
فلا يختص برهما بكونهما مسلمين، بل تبرهما وإن كانا كافرين، فعن أسماء رضي الله عنها قالت: قَدِمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت النبي فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال: ((نعم، صلي أمك)).
ولم يقف حق الوالدين عند هذا الحد، بل تبرهما وتحسن إليهما حتى ولو أمراك بالكفر بالله، وألزماك بالشرك بالله، قال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعلمون .(/1)
فإذا أمر الله تعالى بمصاحبة هذين الوالدين بالمعروف مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدهما به، وهو الإشراك بالله، فما الظن بالوالدين المسلمين سيما إن كانا صالحين، تالله إن حقهما لمن أشد الحقوق وآكدها، وإن القيام به على وجهه أصعب الأمور وأعظمها، فالموفق من هدي إليه، والمحروم كل المحروم من صُرف عنه.
وهاهو رسول الله يجعل حق الوالدين مقدماً على الجهاد في سبيل الله.
ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله : أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله)).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال لرجل استأذنه في الجهاد: ((أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)) [رواه البخاري].
وعنه أيضاً أن النبي قال: ((رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)) [رواه الترمذي وصححه ابن حبان].
وعن معاوية بن جاهمة قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال لرسول الله: أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها فإن الجنة تحت رجليها)) [رواه النسائي وابن ماجه بإسناد لا بأس به].
وها هو رسول الله يدعو على من أدرك أبويه أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة، فيقول كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة: ((رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبويه عنده الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة)).
وبر الوالدين من أعظم القربات وأجل الطاعات، وببرهما تتنزل الرحمات وتكشف الكربات.
وما قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار فلم يستطيعوا الخروج منه، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يفرجها فقال أحدهم: ((اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا رجعت إليهم، فحلبت، بدأت بوالدي اسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأى بي الشجر (أي بعد علي المرعى) فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغَون عند قدمي (أي يبكون)، فلم يزل ذلك دَأْبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ففرّج الله لهم حتى يرون السماء)).
وهل أتاك نبأ أويس بن عامر القرني؟ ذاك رجل أنبأ النبي بظهوره، وكشف عن سناء منزلته عند الله ورسوله، وأمر البررة الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بره بأمه، وذلك الحديث الذي أخرجه مسلم: كان عمر إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم، أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد؟ قال: نعم، قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بارٌ بها، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)). فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي.
وعن أصبغ بن زيد، قال: إنما منع أويساً أن يَقدم على النبي برّه بأمه.
ولما علم سلفنا الصالح بعظم حق الوالدين، قاموا به حق قيام.
فهذا محمد بن سيرين إذا كلم أمه كأنه يتضرع. وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد أيشتكي شيئاً؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه.
وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها.
وهذا حيوة بن شريح، وهو أحد أئمة المسلمين والعلماء المشهورين، يقعد في حلقته يعلم الناس ويأتيه الطلاب من كل مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم يا حيوة فاعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
هذه بعض نماذج بر السلف لآبائهم وأمهاتهم، فما بال شبابنا اليوم يقصرون في بر آبائهم وأمهاتهم، وربما عق أحدهم والديه من أجل إرضاء صديق له، أو أبكى والديه وأغضبهما (وهذا من أشد العقوق) من أجل سفر هنا أو هناك أو متعة هنا أو هناك.
أوصيكم يا معشر الأبناء جميعاً ونفسي ببر الوالدين، وأن نسعى لإرضائهما وإسعادهما في هذه الدنيا، أسألك بالله يا أخي ماذا يريد منك أبوك إلا أن تقف معه حين يحتاجك، وأن تسانده حين يحتاجك، بل ماذا تريد منك الأم إلا كلمة حانية، وعبارة صافية، تحمل في طياتها الحب والإجلال.(/2)
والله يا إخوان لا أظن أن أي أم أو أب يعلمان من ولديهما صدقاً في المحبة وليناً في الخطاب ويداً حانية وكلمة طيبة ثم يكرهانه أو يؤذيانه في نفسه أو ولده.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا جميعاً على بر والدينا، اللهم قد قصرنا في ذلك وأخطأنا في حقهما، اللهم فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسرفنا وما أعلنا، واملأ قلبيهما بمحبتنا، وألسنتهما بالدعاء لنا، يا ذا الجلال والإكرام. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه الذي اصطفى، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
أيها الإخوة المؤمنون:
لا أظن أنه تخفا علينا النصوص الواردة من الكتاب والسنة في فضل بر الوالدين، وحرمة عقوقهما وأن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب.
ولكن ينقصنا العمل بما نعلم، ونغفل أحياناً كثيرة عن مواضع البر مع زحمة الأعمال الدنيوية، كزيارة الوالدين وتفقد أخبارهما والسؤال عن أحوالهما وسؤالهما عن حاجتهما.
وكم نجد ونسمع من يلتمس رضا زوجه ويقدمه على رضا والديه.
فربما لو غضبت الزوجة لأصبح طوال يومين حزيناً كئيباً لا يفرح بابتسامة، ولا يسّر بخبر، حتى ترضى زوجه الميمون، وربما لو غضب عليه والداه، ولا كأن شيئاً قد حصل.
ذكر أحد بائعي الجواهر قصة غريبة وصورة من صور العقوق.
يقول: دخل علي رجل ومعه زوجته، ومعهم عجوز تحمل ابنهما الصغير، أخذ الزوج يضاحك زوجته ويعرض عليها أفخر أنواع المجوهرات يشتري ما تشتهي، فلما راق لها نوع من المجوهرات، دفع الزوج المبلغ، فقال له البائع: بقي ثمانون ريالاً، وكانت الأم الرحيمة التي تحمل طفلهما قد رأت خاتما فأعجبها لكي تلبسه في هذا العيد، فقال: ولماذا الثمانون ريالا؟ قال: لهذه المرأة؛ قد أخذت خاتماً، فصرخ بأعلى صوته وقال: العجوز لا تحتاج إلى الذهب، فألقت الأم الخاتم وانطلقت إلى السيارة تبكي من عقوق ولدها، فعاتبته الزوجة قائلة: لماذا أغضبت أمك، فمن يحمل ولدنا بعد اليوم؟ ذهب الابن إلى أمه، وعرض عليها الخاتم فقالت: والله ما ألبس الذهب حتى أموت، ولك يا بني مثله، ولك يا بني مثله.
هذه صورة من صور العقوق، يدخل الزوج وهو يعيش مع والديه أو أن والديه يعيشان عنده، يدخل البيت معبس الوجه مكفهر الجبين، فإذا دخل غرفة نومه سمعت الأم الضحكات تتعالى من وراء باب الحجرة، أو يدخل ومعه هدية لزوجه فيعطي زوجته، ويدع أمه، هذا نوع من العقوق.
ويا أخي المسلم من أحق بالبر: المرأة التي هي سبب وجودك، والتي حملتك في بطنها تسعة أشهر، وتألمت من حملك، وكابدت آلام وضعك، بل وغذتك من لبنها، وسهرت ونمت، وتألمت لألمك، وسهرت لراحتك، وحملت أذاك وهي غير كارهة، وتحملت أذاك وهي راضية، فإذا عقلت ورجت منك البر عققتها، وبررت امرأة لم تعرفها إلا سنةً أو سنتين أو شهراً أو شهرين.
وهذه قصة حصلت في إحدى دول الخليج وقد تناقلتها الأخبار، قال راوي القصة: خرجت لنزهة مع أهلي على شاطئ البحر، ومنذ أن جئنا هناك، وامرأة عجوز جالسة على بساط صغير كأنها تنتظر أحداً، قال: فمكثنا طويلاً، حتى إذا أردنا الرجوع إلى دارنا وفي ساعة متأخرة من الليل سألت العجوز، فقلت لها: ما أجلسك هنا يا خالة؟ فقالت: إن ولدي تركني هنا وسوف ينهي عملاً له، وسوف يأتي، فقلت لها: لكن يا خالة الساعة متأخرة، ولن يأتي ولدك بعد هذه الساعة، قالت: دعني وشأني، وسأنتظر ولدي إلى أن يأتي، وبينما هي ترفض الذهاب إذا بها تحرك ورقة في يدها، فقال لها: يا خالة هل تسمحين لي بهذه الورقة؟ يقول في نفسه: علَّني أجد رقم الهاتف أو عنوان المنزل، اسمعوا يا إخوان ما وجد فيها، إذا هو مكتوب: إلى من يعثر على هذه العجوز نرجو تسليمها لدار العجزة عاجلاً.
نعم أيها الإخوة، هكذا فليكن العقوق، الأم التي سهرت وتعبت وتألمت وأرضعت هذا جزاؤها؟!! من يعثر على هذه العجوز فليسلمها إلى دار العجزة عاجلاً.
هذا جزاء الأم التي تحمل في جنباتها قلباً يشع بالرحمة والشفقة على أبنائها، وقد صدق الشاعر حين وصف حنان قلب الأم بمقطوعة شعرية فقال:
أغرى أمرؤ يوماً غلاماً جاهلاً بنقوده كي ما يحيق به الضرر
قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى ولك الجواهر والدراهم والدرر
فأتى فأغرز خنجراً في قلبها والقلب أخرجه وعاد على الأثر
ولكنه من فرط سرعة هوى فتدحرج القلب المعفر بالأثر
ناداه قلب الأم وهو معفر ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر
إني أدعوكم جميعاً أيها الإخوان ألا تخرجوا من هذا المسجد المبارك إلا وقد عاهدتم الله أنه من كان بينه وبين والديه شنآن أو خلاف أن يصلح ما بينه وبينهم، ومن كان مقصراً في بر والديه، فعاهدوا الله من هذا المكان أن تبذلوا وسعكم في بر والديكم.
ومن كان براً بهما فليحافظ على ذلك، وإذا كانا ميتين فليتصدق لهما ويبرهما بدعوة صالحة أو عمل صالح يهدي ثوابه لهما.
وأما أنت أيها العاق فاعلم أنك مجزي بعملك في الدنيا والآخرة.(/3)
يقول العلماء: كل معصية تؤخر عقوبتها بمشيئة الله إلى يوم القيامة إلا العقوق، فإنه يعجل له في الدنيا، وكما تدين تدان.
ذكر العلماء أن رجلاً حمل أباه الطاعن في السن، وذهب به إلى خربة فقال الأب: إلى أين تذهب بي يا ولدي، فقال: لأذبحك فقال: لا تفعل يا ولدي، فأقسم الولد ليذبحن أباه، فقال الأب: فإن كنت ولا بد فاعلاً فاذبحني هنا عند هذه الحجرة فإني قد ذبحت أبي هنا، وكما تدين تدان.
اللهم أعنا على بر والدينا، اللهم وفق الأحياء منهما، واعمر قلوبهما بطاعتك، ولسانهما بذكرك، واجعلهم راضين عنا، اللهم من أفضى منهم إلى ما قدم، فنور قبره، واغفر خطأه ومعصيته، اللهم اجزهما عنا خيراً، اللهم اجزهما عنا خيراً، اللهم اجمعنا وإياهم في جنتك ودار كرامتك، اللهم اجعلنا وإياهم على سرر متقابلين يسقون فيها من رحيق مختوم ختامه مسك.
اللهم أصلحنا وأصلح شبابنا وبناتنا، اللهم أعلِ همتهم، وارزقهم العمل لما خلقوا من أجله، واحمهم من الاشتغال بتوافه الأمور، وأيقظهم من سباتهم ونومهم العميق وغفلتهم الهوجاء والسعي وراء السراب. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
برامج عملية لحفظ القران الكريم
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
المحتويات :
• المقدمة .
• برنامج التصحيح .
• برنامج الحفظ .
• برنامج التمكين .
• برنامج المراجعة .
برامج عملية لحفظ القران الكريم
المقدمة
ولسنا بحاجة إلى بيان فضيلة هذا العمل وأثره في النفوس والقلوب ، وما يجري الله به على فاعله من الخيرات والبركات ، فذلك معلوم مشهور من جهة .
وليس هو مقصدنا في هذا المقام من جهة أخرى ، وقد سبق أن طرحة موضوعاً شبه متطابق مع هذا الموضوع ، وعندما نظرت إلى تاريخه وجدت أنه مضى على إلقاء الموضوع الأول أكثر من سبع سنوات ، ثم إن هذا الموضوع يتميز عن الأول بمزيد من التفصيل والبرمجة العملية التي تحدثنا عنها في الإلقاء الأول بالأسبوع الماضي ،ولعلنا نحاول أيضاً أن نضيف كثير من التوجيهات والتنبيهات التي تذلل الصعاب ، وتعين على تحقيق المراد بعون الله - جلا وعلا - وسنتحدث في هذا الموضوع من خلال تمهيد مختصر ، ثم نفصل القول في أربعة برامج :
1 - برنامج التصحيح
2 - برنامج الحفظ
3 - برنامج التمكين
4 - برنامج المراجعة
أما التمهيد ففيه نقطتان :
الأولى : قبل البداية .
والثانية : عند البداية .
وقبل البداية نحتاج إلى ثلاثة أمور :
أ - إخلاص النية.
ب - وإصلاح العمل.
ج - وإذكاء الأمل.
إخلاص النية
فكل عمل بلا إخلاص هباء، وكل عمل لا يراد به وجه الله - عز وجل - لا يكتب له التوفيق ، ولا ينتهي إلى الغاية المحمودة ، ولا يصيب الأمل المنشود ونحن نعلم ذلك وتدل عليه نصوص كثيرة.
وأما إصلاح العمل
فإن الله - جلا وعلا - قد قال : { واتقوا الله ويعلمكم الله }، ونحن نعلم أن العمل الصالح هو الذي يورث نور القلب، وانشراح الصدر، وسكينة النفس، وحدة الذهن، وقوة الحافظة، وسلامة الجوارح ؛ فإن الله - جلا وعلا - يمنُّ على من استخدم جوارحه في طاعته ومرضاته ، وسخر بدنه وملكاته فيما يحب الله ويرضى .. يمنُّ الله - جلا وعلا - عليه بحفظ حواسه وسلامتها له ويزيده فيها ما يميزه عن غيره بإذن الله - عز وجل - وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال : " إن العبد ليحرم العلم بالذنب يصيبه " ، وكما قال الله جلا وعلا : { واتقوا الله ويعلمكم الله }؛ فإن من أراد أن يتهيأ لحفظ القرآن، وطلب العلم، ومعرفة الحق والاستزادة من الفقه في الدين فإن طريقه أن يتطهر قلبه ويزكي نفسه بإصلاح العمل وإصلاح القصد لله سبحانه وتعالى.
وأما إذكاء الأمل
فنعني به الثقة بالله - سبحانه وتعالى - والأمل في عطائه ومنته وجوده ، فلا يتسرب اليأس إلى نفسك في هذا الأمر - أي حفظ القرآن - ولا في غيره من الأمور ؛ فإن بعض الناس يغلق على بعضه أبواب الأمل وما يزال يسرب على نفسه ويجلب إليها المثبطات والمحبطات ويكثر ويعظم لها العوائق فحينئذً لا يكون عنده اندفاع ولا حماس ولا تهيؤ نفسي ولا قوة عملية لحفظ ولا لغيره من الأعمال ، ولقد كان من تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ولأمته أن يبعث الأمل دائماً حتى يكون ذلك موقد لشعلة العمل ومذكي لنار الحماسة ومعلياً لمعالي الهمم بإذن الله - سبحانه وتعالى - فلا بد لنا من إخلاص وصلاح وأمل حتى نتهيأ لهذا العمل الصالح ولغيره.
وأما عند البداية فنحتاج أيضاً إلى ثلاثة أمور :
1- ملائمة الابتداء.
2- ومواصلة الارتقاء.
3- وكفاءة الأداء.
أما ملائمة الابتداء
فنعني بها ألا تأخذنا الحماسة ، فنبدأ بدية مندفعة لا تتناسب مع مقدرتنا وطاقاتنا أو إمكاناتنا ولا تتوافق مع ظروفنا ومشاغلنا وبيئتنا وهذا يحصل كثيراً عندما يستمع المرء إلى تفضيل لأمر من الأمور ، أو ثواب في عمل من الأعمال ، فتتحمس نفسه ويشتاق إلى ذلك الأجر والثواب ، فيبدأ بدايةً قوية شديدة أخذاًً فيها بأقصى طاقته بالغاً فيها غاية جهده فلا لبث بعد قليل أن تقعده العوائق ، وتصرفه الصوارف ؛ لأن واقع الحال يختلف مع ما أخذ به نفسه من الشدة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ) ، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع ولا نريد أن نطلق مع العواطف دون أن نقدر الأقدار ونحسب الحساب ألازم لكل عمل وما يحتاجه من وقت وما ينبغي تهيئته له من ظرف وما يحتاج إليه أيضاً من طاقة وبذل وعمل.
وأما مواصلة الارتقاء(/1)
فنعني بها الاستمرارية التي تتحقق به النتائج والتي تعظم بها الحصيلة والتي تجنى بها الثمار ؛ فإن المرء قد يحن الأمر ويتقنه ويبدأ فيه ويحصله ، ثم لا يلبث أن ينقطع فيضيع ما قد حصله ، ويتبدد ما قد جمعه فيعود مرةً أخرى كأنما يبدأ من الصفر من جديد ، فيجمع ويكسب ويحصّل ، ثم لا يستمر ولا يبني على ما سبق ، فلا يزال في مكانه يسير دون أن يتقدم ، ودون أن يرتقي ، ودون أن يضيف إلى رصيده مكتسبات حقيقية لها صفة الدوام والاستمرار ، ولها صفة الحفظ والاستقرار ؛ فإن كثير من الناس في هذا الشأن كمن يحرث في ماء البحر - كما يقال - والذي يحرث ماء البحر لا يخرج بنتيجة ولا يحصل على ثمرة مطلقة.
وأما كفاءة الأداء
فإننا لا نريد أن نستمر بعمل ناقص وبإتقان مختل ؛ فإن هذا يشبه الذي يمشي بالعرج ؛ فإنه ما يزال يتعثر ويتأخر وإن كان مستمراً ثم إنه كذلك يجد أنه يحتاج في كل مرةً أن يرمم عمله الذي أنجزه وأن يصلح ويكمل ثمرته الذي زرعها على أكمل وأتم وجه ؛ فإن الكمال والتمام يريح الإنسان ويوفر وقته ويوفر جهده ، وأما الذي يعمل العمل فيتمه من غير إحكام ؛ فإنه كأنه في بعض الأحوال لم يصنع شيء فيكون كحال الذي توقف وانقطع مثله مثل الذي يستمر على خلل ونقص دون أن يراعي الكفاءة والكمال المنشود.
وبعد ذلك نبدأ أحبتي الكرام بالبرامج التي نريد أن نأخذ بها لكي نحصل هذه الثمرة العظيمة.
أولاً : برنامج التصحيح
ونحن بهذا التصحيح تصحيح التلاوة والقراءة القرآنية لأنه لا يصلح ولا يمكن ولا ينفع الحفظ بدون هذا التصحيح قد قال الحق جلا وعلا عن القرآن : {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربياً مبين }، فلا بد من إتقان القراءة وتصحيحها وفصاحتها العربية وبلاغتها القرآنية والحق جلا وعلا يقول : { قرآناً عربياً غير ذي عوجاً }، فلا ينبغي أن يكون خلل في هذه القراءة من وجوهها المتعددة ويبين الحق جلا وعلا الفرق فيقول : { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين }، وفي حديث عائشة رضي الله عنها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم كما أنه قال : ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران أجر التلاوة وأجر المشقة ) ، فهو يشق عليه لكنه يعالج ويغالب ويجتهد حتى يستقيم لسانه بقراءة صحيحة فصيحة متقنة ، فحينئذٍ إذا حفظ حفظ هذه الصحة وحفظ ذلك الإتقان وإلا يفعل ذلك كذلك ؛ فإنه يحفظ قرآن فيه أخطاء لا ينبغي أن يأخذ بها ولا تصح تلاوته بها وإذا أردنا أن نعرف ما الذي يشتمل عليه هذا التصحيح ؛ فإننا نجد نقاط كثيرة تتركز في ثلاثة مجالات :
1- معرفة النطق بالحروف. أي تصحيح المخارج ونطقها أي الحروف صحيحة فصيحةً.
2- معرفة الضبط بالشكل ؛ فإن كثير من الناس قد يحسن نطق الحروف ، لكنه يخطئ في قراءتها فلا يضبط حركاتها فيرفع منصوباً ويجر مضموماً ونحو ذلك.
3- والثالث معرفة القراءة بالرسم - أي الرسم القرآني - لأن القرآن برسمه ليس كغيره من الكتابات ، فيه كتابة خاصة بهذا الرسم العثماني الذي انعقد عليه الاجماع يحتاج المرء معه إلى تدرب.
ننتقل الآن إلى الطريقة العلمية ثم إلى البرنامج كيف؟ أو ما هي الطريقة التي يمكن بها لمن لا يحسن التلاوة القرآنية ولا يصححها ، ويخطئ فيها ويتتعتع ، ولا يكاد يستطيع أن يقرأ قراءةً مسترسلة ، وإذا قرأ قراءة مسترسلاًً أخطأ فيها كثيراً ، وتوقف فيها كثيراً ! نقول هناك الطريقة تتعلق بمبدأين اثنين :
1- التلقين.
2- الاستماع.
والتلقين له مرحلتان :
المرحلة الأولى : التي تعنى بصحة المخارج وإتقان الحركات والشدة والمدود .
وهذه الطريقة قد لا يقرأ فيها آيات قرآنية أو سور قرآنية ، بل الأصل والأغلب أنه يتعلم ويتعلق بالحروف فيرددها منفردة ، ثم يرددها مرة أخرى بحركاتها المختلفة - فتحةً أو كسرةُ أو ضمةً - ثم يرددها موصلة مع غيرها من الحروف - وسيما حروف المد - ثم يرددها ثالثاً وهي مشددة في سياق كلمات قرآنية مختارة ، وهنا يحصل له هذا الأمر بطريقتين اثنتين :
1- الترديد والتفريق
يردد هذه الحروف مفرقة ومجتمعة فيتقنها ، ثم يفرق فيما بينها ، فيفرق بين الحروف التي تختلط عند بعض الناس أو لا يحسنون نطقها مثل الذال والثاء والطاء على سبيل المثال ، وبين الزاي والسين والصاد ، وبين الشين والجيم وغيرها من الحروف المختلطة ؛ فإنه إذا ردد هذه الأحرف - كما سنذكرها - على منهج معين أتقن الحرف من جهة ، وميز وفرّق بينه وبين الحرف الآخر من جهة أخرى.
2- التجريب والتوصيل(/2)
بحيث يجرب نطق هذه الأحرف في كلمة أو كلامات موصولة فيضبطها نطقاً وحركةً وتشديداً ومداً ، ويضبطها كذلك رسماً ؛ لأنه على هذه الطريقة يأخذ الكلمات في هذا التطبيق من كلمات القرآن الكريم برسمه المعروف ، فحينئذً يكون قد تجاوز المرحلة الأولى وهي أن يعرف الحروف وحركاتها وصلاتها وينطق ويلفظ الكلمات القرآنية صحيحة نحن في دائرة الكلمات فحسب هذا يتلقاه في المناهج أو الكتب المنشورة المعروفة في هذا الباب مثل " القاعدة البغدادية " ، و" القاعدة النورانية " وغيرها ..
هذه تعتمد على الحروف التي ربما بعض الناس يرون أنها لا تصلح ، ولكننا نقول إنها تصلح وتصلح وتصلح ، وهي التي تقيم الألسن وتعودها على صحة النطق .
هذه الأحرف التي يرددها الصغار فيقولون : " باء فتحة باء ، وباء كسرة بي ، وباء ضمة بو " ، ثم يصلونها بكلمات أخرى أو بحروف أخرى ، ثم ينطقون كلمات قرآنية .. هذه تلين الألسنة للقرآن وتحسن إتقان الحروف من مخارجها وضبطها بحركاتها ووصلها بغيرها، والقاعدة النورانية مضبوطة في طبعة جيدة بحروف كبيرة وملونة ، بحيث تعين الذي يدرسها ، ومعها شريط مسجل يطبق هذه القاعدة ، ويطبق هذه الحروف بصوت ، فيجتمع مع القراءة الصوت ، قد يقول البعض : " إن هذا يعني كأننا لا نعرف القراءة ؟! " نقول : نحن نقول ذلك لمن لا يحسن ولا يتقن تلاوة القرآن ، وكثير من الناس لا يكاد يحسن إلا قصار السور ، وإذا قرأ قصار السور أيضاً أخطأ فيها فهذا أنفع.
المرحلة الثانية في التلقين هي : مرحلة قراءة النصوص القرآنية
يعني يقرأ من القرآن وهنا يحصل به أيضاً أن ينتقل أو يبدأ بمرحلتين :
1- قصار السور
فيحرص على أن يردد وأن يتلقن ممن يعلمه ويلقنه من المتقنين القراء ؛ بحيث يتلقن قصار السور في أول الأمر استماع وترديد ومطالعة وتأكيد ، يستمع ويردد حتى يتقن اللفظ ويطالع ويأكد على سماعه قراءته حتى يتأقلم ويألف رسم القرآن ويعرف إشاراته ومختصراته المعروفة ، ثم يقرأ أيضاً في السور المتوسطة بعد ذلك قليلاًً حتى ينطلق لسانه ، وفي هذه المرحلة يبدأ بالاستماع والترديد ، لكنه بعدها يأخذ بالابتداء والتجديد ، يعني يبدأ بالقراءة من عند نفسه والشيخ يستمع له ويصحح ، هذا بالنسبة للطريقة الأولى في التصحيح وهي التلقين ، وهي الأتم الأكمل ، وهي لمن كان مستواه في غاية الضعف أو في مبتدأ الأمر.
2- طريقة الاستماع
يستمع ويردد مباشرةً بدون أن يبدأ بالحروف ، وبدون أن يبدأ بالحركات ، وهذا يكون غالباً لمن هو في مرحلةً جيدة يعرف القراءة وينطلق لسانه بها إلى حدٍ كبير ، لكنه يحتاج إلى إقامة اللسان ولينه بالقرآن ، وهذا يفيده المصاحف المسجلة بطريقة المصحف المعلم الذي يقرأ ثم يسكت حتى تردد ما قرأه على نفس الطريقة ، وبنفس الإجادة والإتقان ، ومن هذا مصحفٌ للشيخ الحصري - رحمه الله - اسمه " المصحف المعلم " كاملاً بهذه الطريقة ، وفي إذاعة القرآن " كيف تقرأ القرآن " للشيخ عبدالباري محمد - وهو أيضاً الآن مصحف كامل يباع في الأسواق - يفيدك ، إذ هو يقرأ ثم يقرأ بعده جملة من التلاميذ يرددون وراءه بإتقان جيد ، وصوت واحد ، فإذا رددت معهم أو إذا استمعت للشيخ ولترديد التلاميذ كان ذلك أعون لك على معرفة القراءة ، وتستمع وأنت تمسك المصحف ، فتجمع إلى حسن السماع والإتقان المخارج ، وتجمع إلى ذلك معرفة القراءة وضبط الرسم الذي يعينك بعد هذا أن تقرأ قراءتك دون معين خارجياً إلى حداً ما ، هذا بالنسبة للطريقة العملية.
نأتي إلى البرنامج ، وماذا نعني بالبرنامج ؟
قلنا في الدرس الذي مضى أننا نريد أن نوزع الأوقات وأن نحسبها ، ونتذكر ما قلناه بأن الجمع إضافة ، وأن الضرب مضاعفة ، وأن القسمة تجزئة .. نريد أن نجعل برنامجاً مجدولاً يمكن أن نوزعه على الأيام وعلى الأشهر والأعوام ، وبالتالي نلتزمه ونأخذ به ، فنصل إلى نتيجة .
هنا - على سبيل الإجمال - مرحلة التلقين الأولى التي فيها هذه القاعدة النورانية أو غيرها ، إن كان سيعطي لنفسه ساعةً في كل يوم ؛ فإنه يحتاج إلى نحو شهرين ونصف ليتقن هذه الحروف وطريقة أدائها بشكل جيد جداً ، وإذا أخذ بساعة كل يومين - يعني ثلاثة أيام في الأسبوع - فإنه يحتاج إلى نحو أربعة أشهر ، وليس لمضاعفة شهران ونصف خمسة أشهر ، لماذا؟ لأنه وإن كان المدة أقل لكنه مع السير سوف يختصر كثيراً مما يحتاج إليه في البداية .
وإن اختار أن يكون درسه أو وقته لا يتيح له إلا ساعة في الأسبوع ؛ فإنه يحتاج إلى ثمانية أشهر حتى يتقن ذلك بإذن الله ، وقد يقول قائل : إن هذه مدة طويلة ! فنقول : خذ بها ستنتهي ، وكم من الناس عنده هذه المشكلة ، وهو إلى الآن قد مضى عليه خمس أو عشر سنوات ، وهو لم ينتقل من مرحلة إلى أخرى ! خذ نفسك ببرنامج وإن طال ؛ فإن ثمرته في أخر الأمر ملموسة محسوسة .
أما مرحلة التلقين الثانية وهي : قراءة السور وترديدها(/3)
فإنه كما قلنا يأخذ السور القصار من سورة الضحى - مثلاً - إلى الناس ، وعدد هذه السور اثنان وعشرون سورة ، لو أخذ أيضاً ساعةً في كل يوم ؛ فإنه يحتاج إلى أسبوعين ، وإن أخذ ساعة في كل يومين ؛ فإنه يحتاج إلى شهر ، وإن أخذ ساعة في الأسبوع ؛ فإنه يحتاج إلى شهرين برنامجه إذا أخذ الساعة في اليوم في المرحلة الأولى ، والثانية في شهرين ينتهي من الأمر كله من حيث الحروف ومن حيث تلاوة هذه السور ، وإن أخذ ساعة في كل يومين فخمسة أشهر ، وإن أخذ الثالث فعشرة أشهر الحد الأقصى الذي يتقن فيه هذا .
لكن هل هذا يكفي ؟ نقول : كلا ! إن الذي يريد أن يحفظ ولا زال بعد هذا يحتاج إلى إلى أن يقرأ ختمةً كاملةً قراءةً مصححة وهذا أتم وأفضل ؛ لأن القراءة تلقين ، وبعض المواطن قد يحتاج فيها إلى معرفة قراءتها ؛ لأن قراءتها تختلف عن ما هو ظاهر في القرآن من الكتابة ، فبعضه فيه الإمالة مثل " مَجْرَاهَا " ، وبعضه فيه كلمات تنطق بزيادة أو بنقص أو نحو ذلك يتعلمها وإن كان هذا ليس بالضرورة لكل أحد ، قد يقرأ خمسة أجزاء ثم يكون قادراً على أن يقرأ بعد ذلك قراءة صحيحة ، ومع ذلك وضعنا الجدول والبرنامج لمن يريد أن يختم ختمةً كاملة قراءة تصحيح ؛ فإنه لو أخذ صفحةً واحدةً يقراءه على الشيخ أو يقرؤه الشيخ إياها في كل يوم ؛ فإنه يحتاج في البداية إلى نصف ساعة في كل يوم ، لكنه حينئذ هذا الوقت سيكون معين له على قوة وجودة القراءة من بعد ، وبهذا سيحتاج الجزء - وهو عشرون صفحة - عشرين يوماً ، فإذا أخذ خمسة أجزاء سيحتاج إلى ثلاثة أشهر إذا اكتفى بذلك ، وإلا يأخذ خمسة أجزاء أخرى ستكون عدتها أو مدتها شهر ونصف لماذا ؟ لماذا شهر ونصف وليست ثلاثة أشهر؟ القراءة تحسنت فأصبحت النصف ساعة التي يقضيها في كل يوم يقرأ فيها صفحتين لا صفحة واحدة ، ثم إذا أخذ بعد ذلك وأراد أن يستمر ؛ فإنه سينهى عشرة أجزاء ، إذا أراد العشرة الثانية فإنه بتجربة إن شاء الله ينهي في النصف الساعة خمس صفحات قراءة مصححة ، وبالتالي العشرة أجزاء الثانية سيأخذها في شهرين ، وإذا استمر وأراد أن يتم العشرة الأجزاء الأخيرة ؛ فإنه سيقرأ في النصف ساعة عشرة صفحات ، ومعنى ذلك أنه سيقرأ العشرة أجزاء في شهر واحد ، إذ المصحف كاملاً ثلاثون جزءاً يتمه بهذه الطريقة في ستة أشهر ونصف ، يكون قرأ قراءة صحيحة كاملة ، وهذه هي الخطوة الأولى أو البرنامج الأول.
البرنامج الثاني : برنامج الحفظ
الله جلا وعلا يقول : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون * بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآيتنا إلا الظالمون }، فحفظ القرآن في الصدور من أعظم النعم ومن أعظم الأعمال الفاضلة التي يعظم بها الأجر من كثرة القراءة أثناء الحفظ ومن تيسر القراءة بعد الحفظ ، إضافة إلى ما يكون من جراء ذلك كما قلنا من أثر محمود على القلب والنفس ، ولقد امتدح الحق - جلا وعلا - أولئك فقال : { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارةً لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفورً شكور } ، وقد قال الحق - جلا وعلا - ليكون ذلك معين لنا على العمل : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } ، إنه ميسر والدعاء والترغيب والحث والحظ قائم بقوله : {فهل من مدكر }، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِى الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا ) .
إذاً هذه مقدمتنا التي نحث فيها ونشجع ، أما الطرقة العملية فقد أشرت من قبل إلى أنها يمكن أن تكون على وجهين ولا أحبذ هنا قبل أن نبدأ في ذكر الطريقتين لا أحبذ تكثير الطرق في عرض حفظ القرآن لأن بعض الناس قد صنع في ذلك كتباً أو توجيهاً ذكر فيها أكثر من عشرين طريقة وأحسب أن الحفظ ملكة ومهارة لا تحتاج إلى كثير من هذه الطرائق ، بل بعض هذه الطرائق في الحقيقة وإنما هو وسيلة لطريقة حقيقية ، فلذلك نحن نقول عندنا طريقتان :
الأولى : طريقة الحفظ بالصفحة والمقطع
وهي التي قد بينها من قبل التي يقرأ فيها المرء صفحته الكاملة أو مقطعه المقرر للحفظ ، يقرأه قراءة متأنية مضبوطة ، ويعيد هذه القراءة مرة ثانية وهو متأمل مستحضر ذهنه ، ويعيدها ثالثة وهو مؤكد على محاولة حفظها ورسمها في ذهنه ، ويعيدها رابعة أو خامسةً إن شاء ، لكنه يمكن أن يبدأ بعد القراءة الثالثة .(/4)
وأفضّل لعموم الأخوة أن يبدأوا في التسميع بعد الخامسة – أي بعد خمس مرات – يقرأ الواحد قراءة للصفحة ، يبدأ بعد الخامسة يغلق مصحفة ويقرأ صفحته من حفظه ، فهل ترونه يحفظها ويسمعها بعد ذلك كاملة؟ الجواب : لا ! سيقف وقفةً أو وقفتين أو ثلاثة ، والغالب أنه لا يزيد عن ثلاث أو أربع وقفات ، كلما وقف فتح المصحف ونظر حيث وقف أو حيث تعثر وواصل فيعيد بعد ذلك تسميع هذه الصفحة مرةً أخرى ، فالمواطن التي وقف فيها ونظر لن يعيد الخطأ فيها ، قد يبقى من هذه الثلاثة أو الأربع خطئان يتوقف عندهما ثم إذا جاءت الثالثة ؛ فإنها في غالب الأحوال يكون حفظه للصفحة قد كان متقناً ومجوداً وجيداً فيعيدها في مقامه ذاك ثلاث مرات أو خمس مرات بهذه الطريقة يحفظ الصفحة كاملة كأنها لوح كامل .
وهذه الطريقة عموماً نقولها هنا وقلناها أيضاً في التصحيح ، عندما قلنا في قضية الاستماع بدل تلقين الجزء الأفضل الاستماع لكامل الآية وترديدها ، هذه الطريقة الكلية التي تنظر إلى الشيء كله ولا تجزئه أجزاءً هي الأقوى والأكثر استقراراً حتى في تعلم اللغات " التعلم بالحروف " إذا أردت أن تتعلم لغة وتبدأ تتعلمها بالأحرف المفردة ، يطول أمد تعليمك ولا يكون تعلمك لها بالقوة ، لو أنك بدأت بتعلم الكلمات والأساليب مباشرة ؛ لأنها مع بعض المساعدات تجعلك تفهم الكلمة في سياقها وتفهم مع السياق الأساليب والتراكيب والجمل الرابطة ونحو ذلك وليس هذا مقصودنا الآن.
إذاً حفظ الصفحة على هذا النحو له مزايا عديدة منها أنه يكون الحفظ أقوى ربطاً ، فالآيات مترابطة ليس بين الآيات توقف أو تلكأ لماذا ؟ لأنه حفظها كلها كلوح واحدٍ وكنص واحد فهو يسترسل من أول الصفحة إلى أخرها بدون توقف.
والثاني : أن هذه الطريقة أوضح تصوراً ، فهو يتصور الصفحة كاملة من مبتدأها إلى منتهاها ، وإلى تجزئة آياتها ؛ لأنه أعادها مراراً في صورة ذهنية واحدة ، فيعين ذلك مع الحفظ على التصور كلهما يخدم بعضه بعضاً ؛ فإنه قد يقرأ الصفحة وفي ذهنه أنه بقي منها آية ، في الأسطر الثلاثة يحفظ الصفحة التي بعدها لكنه الآن لا يستحضر هذه الآية ، ولا يستطيع أن يتجاوزها ؛ لأنه يعرف أن هناك نقصاً ساعده على استحضار هذا النقص ، وربما يقوده التصور إلى أن يستذكر ويواصل حينئذٍ هذا المقطع أو تلك الآية دون حاجة أن يرده أحد.
الطريقة الثانية : طريقة الآية
أن يجعل الوحدة للحفظ هي الآية ، فالذي يقرأه ويردده بالطريقة التي سبقت ليس الصفحة كاملة ، وإنما الآية واحدة يقرأها مرةً وثانية وثالثة ثم يعيدها ، وإذا أخطأ يعيدها حتى يحفظها ، ثم يقرأ الثانية ويفعل بها كذلك ، لكن لا بد أن يربط الأولى بالثانية ، وإذا حفظ الثالثة أعاد الأولى والثانية والثالثة ولا يقول إنني قد حفظت الأولى جيداً فلا أحتاج إلى إعادتها ؛ فإن هذا وهم يظنه لأنه قد سمعها أو رددها قريباً لكن لا يثبت الحفظ إلا إذا ماتم التكرار ، وهذا أمر بيّن عيب هذه الطريقة لمن لا يعتني بوصل الآيات أنه عند أخر كل آية يقف ؛ لأنه حفظ هذه الآية وحدها ما التي بعدها إن لم يجد الربط يقف حتى تلقيه أول كلمة من الآية فينطلق حتى أخر الآية ، ثم يقف حتى تعطيه الكلمة فينطلق فلا يعرفه الطلاب الذين يحفظون بهذه الطريقة في كل مرةً يقف يأخذ أول الآية ، والذي لا يحسن ربط الصفحات أيضاً في الطريقة الأولى يقف عند نهاية الصفحة حتى تعطيه كلمة من الصفحة التي تليها فينطلق ، لكننا نحن نقول : في السطر طريقة الصفحة إذا بدأ في الصفحة الثانية فليبدأها من الآية الأخيرة من الصفحة الأولى حتى يربط فيما بينهما ربطاً ، وسنرى ذلك أيضاً في برنامج التمكين والمراجعة إن شاء الله.
هناك مساعدات لهذه الطريقة منها :
1- الكتابة
لمن أراد فإن تعاضض الحواس على النص الواحد يجعله أقوى في الحفظ ؛ فإنه يقرأ بعينه ويحسن به أن يرفع صوته بالقراءة ليسمع نفسه ، فهذا يعين على تواطئ القلب واللسان ، فإذا زاد إلى ذلك أنه كتب هذه الآيات كما نرى بالذات في أفريقيا وفي غيرها يكتبون على الألواح ما الغرض من الكتابة هو أن يحفظ وأن يكتب فيكون هذا الكتاب كأنما هو ينقش الآيات في قلبه وصدره ، ولذلك ماذا يصنعون بهذه الألواح في الغالب ؟ عندهم ألواح يكتبون عليها بنوع من الحبر الذي يزال ، فإذا انتهى من ألواح انتهى من الفرض اليومي ماذا يصنع؟ يغمس ألوح في الماء فيمحوه لماذا؟ يمحوه من ألوح لأنه قد حفظه في لوح قلبه وانتهى بهذا لا يمحو ألوح حتى يكون ما فيه قد سطر ونقش في قلبه فلا يكاد ينسى منه شيئاً.
2- السماع : كثرة السماع استمع للقرآن الذي تحفظه استمع للأشرطة وأنت ذاهب وأنت قادم ؛ فإن كثرة السماع مع الحفظ تعضضه وتقويه وتثبته بإذن الله عز وجل.
3- التسميع :(/5)
لا تقنع بأن تقرأ لنفسك وتصحح ؛ فإنك أحياناً تغفل ، وإنك أحياناً تظن أنك مصيب وأنت مخطئ ، وإنك تنتقل في الآيات إلى موضع آخر دون أن تنتبه فإذا استطعت بين فينة وأخرى أن يستمع لك غيرك فهذا مما لاشك فيه أنه نافع ومفيد.
ننتقل إلى الجدول الجدول الزمني وتقسيم الأجزاء وهذه الجداول لمن أراد أن يأخذ البرنامج ويلتزمه فيصل إلى النتيجة في آخر الأمر ، وإذا وصل يدعو لمن أعانه بأن يشاركه في الأجر ، وأن يمن الله - عز وجل - عليه بالمثوبة .
هذا البرنامج لم أشأ أن أفصل فيه كثيراً جعلته في جانبيين أو برنامجين إما أن يكون قد قرر على نفسه نصف صفحة في اليوم أو صفحة لأن نصف الصفحة سبعة أسطر ونصف ، ونحن نتوقع الذي يبدأ بالحفظ يكون قد أتم التصحيح ، فقراءته إذاً سلسة وليست صعبة ، وصحيحة وليست خاطئة ، وسبعة أسطر ونصف يعني ليست بشيء كثير ، كم يستغرق في حفظ نفس الصفحة بالطريقة التي قلناها لا أقول للمستوى المتوسط بل حتى دون المتوسط يستغرق نحو عشرين دقيقة ، لا يقولن أحد إن عشرين دقيقة قليلة !
أقول هذا وقت كافي لمن أراد أن يحفظ ، أما إذا كان مسك المصحف يسمع هنا ، ويتكلم مع هذا ، وينظر إلى هذا ، ويكتب كلاماً ، ويرد على الهاتف ، فهذا يحتاج إلى أربعمائة دقيقة وليس إلى عشرين دقيقة ؛ لأنه لم يتفرغ لهذا الحفظ ..
لذلك عشرين دقيقة كافية لنصف صفحة في اليوم ، إذاً كم يحتاج الجزء - الذي هو عشرين صفحة - منه من الدقائق ، وكم يحتاج من الأيام ، انظر الرياضيات وجدول الضرب .. قلنا نصف صفحة عشرين دقيقة ، العشرين صفحة ( 800 ) دقيقة ، ليست هناك مشكلة ، إذن كم هي الأيام ؟ إذا كان يحفظ نصف صفحة في يوم ففي كم يوم يحفظ عشرين صفحة التي هي الجزء ؟ أربعين يوماً لكنهم نسوا ما قلناه في الدرس الذي مضى ، قلنا: الطرح احتياط ، نطرح أيضاً مدة من الزمن ، ونقول يحتاج إلى شهر ونصف خمسة وأربعين يوماً ، خمسة أيام زايدة للني لم يؤدي المطلوب ، وهناك أيام جمعة ، هذا احتياط حتى لا يبدأ في برنامج ثم يخرب هذا البرنامج ويحطمه من المرة الأولى ، لا بد أن يكون هناك حساب دقيق واحتياطيات حتى لا تنخرم هذه الميزانية ، ولتكون دقيقة بإذن الله عز وجل ، إذاً أنهى جزءًا في شهر ونصف ، المرحلة التي يريدها أربعة أجزاء يريد أن يحفظها بالطريقة التي قلنا " نصف صفحة في عشرين دقيقة " ، يحتاج إلى ستة أشهر ونصف للأربعة أجزاء ، وعنده شهر ونصف من قبل الجزء الأول ، أصبحت الخمسة أجزاء في كم؟ في ثمانية أشهر هذه المرحلة الأولى.
ثم نأخذ مرحلة ثانية وهي : عشرة أجزاء
بنفس المعدل إذا أخذناها بالدقائق تحتاج إلى ثمانية آلاف دقيقة ، يقسمها على الستين حتى تعرف الساعات ، لكن يهم من الأيام عشرة أجزاء ستستغرق منه مع الإضافة مع الاحتياط ستة عشر شهراً - سنة وربع السنة – لا حظوا إذا حسبتم ستلاحظون أن هذه المدة أكثر قليلاً من المدة التي سبقت ، لو أخذناها بنفس الحساب لماذا ؟ لأن الرصيد يكثر الآن ، فلو جعلنا نفس المعدل سوف نجعل عملنا كالقربة المخروقة نحفظ من هنا ويخرج من هنا ،ولا نخرج بنتيجة ، لا بد أن نزيد في المدة بقدر يدخل معه برنامج المراجعة الذي سيأتي ذكره لاحقاً ، حتى لا يأتيني أحد في اللقاء القادم - مثلاً – ويقول : أنا حسبت ووجدت أن هناك فرق في المدة المدة الزائدة مقصودة لذاتها .
إذاً العشرة الأجزاء في المرحلة الثالثة بعد هذه العشرة الأجزاء .
خمسة عشر جزءاً في الأولى ، نأخذ الآن عشرة أجزاء أيضاً ، وبنفس الطريقة والمعدل لا نعطيها ستة عشر شهراً ، ولكن ثمانية عشر شهراً - سنةً ونصف السنة - زيادة شهرين كاملين ؛ لأننا نعلن أن هذا يحتاج إلى ذلك الخمسة أجزاء الأخيرة ، ولماذا نقول خمسة أجزاء أخيرة ؟ لأن منطقة الوسط منطقة قوة في آخر الأمر يريد أن ينتهي ، ويريد أن يعجل ، فلو جعلنا له الأخيرة طويلة لربما فتر ، أو ربما تعجل ، ننظر إلى هذا حتى في مناهج مقررات مدارس التحفيظ ، يجعلون القدر أحياناً متناسقاً بهذه الطريقة ، الخمسة الأجزاء الأخيرة يحتاج فيها إلى ثمانية أشهر بالمعدل الذي ذكرناه مع الزيادة والاحتياط ، طيب .. ثلاثون جزءاً عدتها بالدقائق أربع وعشرون ألف دقيقة ( أربعمائة ساعة ) ، هل تعتقدوا أن أربعمائة ساعة كثير ، لو قسمتها على أربع وعشرين ساعة ستعطيك أياماً محدودة ، فجملة الزمن ليس كثيراً لمن تأمل ، لكن تفريقه مهم حتى يتشرب ويحفظ شيئاً فشيئاً ، المدة كاملة بهذا الحساب أربع سنوات .
ونحن نضيف عليها أيضاً نصف سنة ، فنقول : إن المجموع أربع سنوات ونصف ، إذا كان يحفظ نصف صفحة هل نصف صفحة قليل أم كثير ؟ ليست كثير ، ومع ذلك - كما قلت - قد يقول بعض الناس نصف صفحة قليل ، خذ نصف صفحة وأربع سنوات ونصف وتختم .(/6)
وكنت قد طلبت من أحد مدرسي التحفيظ أن يساعد في وضع الجداول فصنع شيئاً لكنه لم يصلني ، و أخبر عن قصة رجل في السبعين من عمره ، عزم على حفظ القرآن ، ونحن نعرف أن رجلاً في السبعين ممكن أن نقول يتزوج يقع منه ، أراد أن يسافر يقع ، لكن في السبعين يفكر يحفظ ماذا يقول الناس ؟ يقولون : لا يمكن ..
فوضع برنامجاً وحفظ وأتم الحفظ وهو ابن خمسة وسبعين عاماً ، أي في خمس سنوات ، وهذا واقع وهو حقيقة ليس خيالاً.
البرنامج الثاني هو : إذا أراد أن يحفظ صفحة في اليوم
والصفحة أيضاً ليست كثيرة ، وهذا ربما يكون للطلاب ولصغار السن .. الفروق موجودة الكبير حدة ذهنه أقل ، وكثرة مشاغله أكثر ، الصفحة في اليوم الواحد تستغرق ثلاثين دقيقة - كما قلنا - بحد زايد ودون المتوسط .
ثلاثون دقيقة على الطريقة التي قلناها في كل يوم ، الجزء عشرون صفحة مفترض أن يأخذ عشرين يوماً ، نحن نقول يأخذ شهراً كاملاً ، حتى يكون هناك احتياط ، أو خمسة وعشرون يوماً ، الأربع الأجزاء التي تلي هذا الجزء الأول ستأخذ كم من المدة؟
المفترض عشرون صفحة تأخذ عشرين يوماً ، لكن جعلناها خمسة وعشرين ، وإن أردت شهراً فلا بأس ، ثم الأربعة أجزاء من المفترض أن تأخذ ثلاثة أشهر ونصف ، نحن نجعلها أربعة أشهر ، ويكون مع ما مضى المجموع أربعة أشهر ونصف كاملاً للأجزاء الأولى ، ثم يأخذ المرحلة الأولى عشرة أجزاء ، لكن - كما قلنا - سنزيد فيها من حيث المدة .
العشرة أجزاء من المفترض لو أخذنا جزء في الشهر وأجملنا أو رأينا الإجمال فهناك يكون عشرة أشهر ، لكننا نقول أحد عشر شهراً ، والعشرة الأجزاء الثالثة اثنا عشر شهراً ، يعني سنة كاملة - يزيد على المدة المعتادة شهرين - الأجزاء الخمسة الأخيرة مفترض في خمسة أشهر ، نحن نقول في ستة أشهر ونصف ، إجمالي الجدول ثلاثون جزءاً في ثمانية عشر ألف دقيقة ( ثلاثمائة ساعة ) ، ( أربعة وثلاثين شهراً ) ، ( سنتان وعشرة أشهر ) بالتمام والكمال ، وإن أردت أن تضيف الشهرين ستكون في ثلاث سنوات ، وهذا يكون كاملاً بإذن الله عز وجل.
البرنامج الثالث : برنامج التمكين
ونعني به تمكين الحفظ والنصوص أيضاً فيه كثيرة ؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول : ( تعاهدوا القرآن ؛ فإنه أشد تفلتاً من الإبل في عقلها ) وفي رواية : ( تفصياً ) يعني يتفلت ويهرب .
والنبي عليه الصلاة والسلام أخبر فقال : ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ) ، فلا بد من أن يكون الحفظ متيناً وجيداً من البداية ، وإن لم يكن ذلك كذلك ؛ فإن هناك عرج دائم وخللٌ مستمر ، وتصدعٌ ظاهر ، كالذي يبني البيت بسرعة ؛ فإنه يتصدع ، والسباكة تخرب ، والنجارة تتعطل ، فما يزال يصرف عليه في صيانته ، وما يزال يتعب ويقلق ويتنكد من هذا ، مما لو أنه زاد في الوقت ، أو زاد في المال أو أتقن في العمل لارتاح من ذلك كله ، وهذا مطرد في سائر أعمال الحياة.
الطريقة العملية عندنا أيضاً فيها مرحلتان :
المرحلة الأولى :مرحلة ضبط الحفظ في موضعه
يعني في الحصة التي يحفظها في القدر الذي قرره في هذا اليوم ، بعيداً عن التمكين الذي يجمع الأجزاء الكثيرة أو الكم الكبير هذه الطريقة تحتاج منه إلى عدة أمور :
1- المتانة الأولية
ونعني بها أن لا يقبل في حفظه الأول لمقطعه أو صفحته أي خطأ أبداً ، وأن لا يعد نفسه قد حفظ حتى يكون محفوظة الجديد مثل حفظه وإتقانه للفاتحة ، ولا يرضى بدون ذلك ، طلاب التحفيظ يحفظون الصفحة وفيها خطأ أو خطأين يقولون : لا بأس ، غداً أو في المراجعة لا نريد أن يكون كذلك ؛ فإن الخلل في الأصل يبقى أثره ممتداً.
2- المطابقة التقابلية
وأعني بذلك الحفظ الجديد ، يحسن أن تقابله مع غيرك فتسمّع له ؛ لأنه أحياناً يسبق النظر مع العجلة ، فتقرأ الكلمة وتحفظها وتسمعها بنصها أو بضبطها بطريقة خاطئة وأنت لا تشعر ، وكثيرون ممن حفظوا يعلمون أن هناك مواطن حفظوها مع العجلة على غير صوابها ، فما يزالون كلما مروا بهذا الموضع أخطأوا ذلك الخطأ .
ولذلك لا يجبر هذا الخطأ ويصحح إلا من البداية ، إذا جعلت غيرك يستمع لقراءتك وإلى حفظك صوبك في أول الأمر وسدد لك ذلك مباشرةً.
3- المداومة التتابعية
ونعني بها أن الحفظ الجديد لا بد أن يدمن قراءته وتسميعه لنفسه في يومه ذاك ما استطاع من المرات ، الصفحة التي حفظها صباح هذا اليوم أو ضحى هذا اليوم خلال الأربعة وعشرين ساعة التي بعد حفظه لا بد أن يكررها ما استطاع أن يقرأها ، في صلاة نافلته ، أو وهو سائر يقرأها ، أو عند نومه يقرأها عند يقظته ولا يقرأ غيرها في ذلك اليوم ، يدمنها حتى تكون عندها أحفظ شيء ، وأتقن شيء في الحفظ .وهذا لا بد منه في التمكين .(/7)
النصف ساعة التي قلناها ذلك هو الحفظ الأول ، لكن هذا التمكين يأخذ من الوقت مالا يحتاج إلى جهد ، ولا يحتاج منك أن تمسك المصحف ، ولا أن تغلق الباب ، ولا أن تتفرغ ، ولكن وأنت ذاهب وأنت آتٍ ، وأنت رايح وأنت غاد ، اقرأ وأنت تصلي في نافلتك ، وأنت تصلي في وترك ، وأنت تصلي في قيام ليلك ، في كل وقت اقرأ واقرأ واقرأ وأعد ، حتى تصبح هذه المواصلة جيدة.
4- المواصلة المنهجية
وهو أن يواصل هذا التمكين والتمتين أولاً بأول ، مع محاولته قدر الاستطاعة أن يربط هذا التمكين بما يستطيع من تأمل وفهم للمعاني ، وهذا منهج جيد لأنه يعينه على هذا كثيراً.
العوامل المساعدة لهذه الطريقة في هذه المرحلة الأولى هي :
القراءة في النوافل
كما قلنا القراءة المستمرة القراءة المحرابية ، أن يصلي بغيره إمام ؛ لأن صلاة المحراب لا بد أن تكون فيها متقناً وحافظاً والقراءة الجهورية أن يرفع صوته بالقراءة إذا خلا بنفسه ، وأن يعيد هذه الآيات بالصوت العالي ؛ فإن هذا أيضاً يتقن وكذلك السماع المستمر إذا استمع إلى الآيات التي حفظها ، والسورة التي حفظها ، وهو يستمع لها كثيراً ؛ فإن ذلك يضبط بإذن الله - عز وجل - هذه المرحلة الأولى للحفظ الأدني.
أما الحفظ الشامل فهناك مرحلة ثانية وهي : التي تتعلق بأمرين اثنين المتشابهات والمنفردات
المتشابهات نحن نعلم أن الله عز وجل قال : { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } ، من معاني هذه الجملة في التفسير أنه يشبه بعضه بعضاً ، وكثيرة هي الآيات التي لا يختلف بعضها عن بعض إلا في حرف واحد ، أو في تقدّم كلمة على كلمة ، وليس هذا موضوع حديثنا.
وقد خرجت كتب كثيرة تجمع الآيات المتشابهة بنفس رسم المصحف في مكانها ، هذا بعد أن تحفظ الأجزاء أو تحفظ السور الطوال ، وتبدأ عندك متشابهات ما بين سور البقرة وما بين سورة الأعراف ، ومتشابهات ما بين التوبة وما بين الصف ، تبدأ حينئذٍ تنظر إلى هذه الكتب ، وهي تجمع لك الآيات المتفرقة في موضع واحد مع اختلافها ، حتى تتقنها وتميز الفرق بينها وتعرفها .
والمنفردات نعني بها الآية التي هي في القرآن على سياق واحد ، لكنها في موضع واحد انفردت بصياغة أو بسورة مختلفة عن غيرها ، كقوله تعالى : { جنات تجري تحتها الأنهار } ، موضع واحد في القرآن في سورة التوبة ، وكذلك { ما أهل به لغير الله به } في موطن واحد ، وهكذا يعرف الموطن الواحد فيعرف موضعه من السورة فيضبطه فلا يكاد يخطئ فيه بإذن الله - عز وجل - الوقت يدركنا ، ولذلك نختصر في هذا ، وربما بعض التفاصيل قد سبق ذكرها كما قلت في ذلك الدرس السابق .
البرنامج الأخير الذي نريد أن نقف عنده : برنامج المراجعة
وقبل أن أبدأ فيه أقول : خذوا ما ذكرناه في السابق ، أي في هذه البرامج الثلاثة بقوة ؛ فإن أخذتم به بقوة كانت المراجعة أيسر ما يكون من أتقن التلاوة تصحيحاً ، ومن ضبط الحفظ إيجادة ، ومن مكنه توفيقاً وتمتيناً لا يحتاج بعد ذلك من المراجعة إلا إلى شيء يسير بإذن الله عز وجل .
وفي المراجعة أيضاً نصوص ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( عرضت علي ذنوب أمتي فرأيت من أعظمها رجل حفظ شيئاً من القرآن ثم نسيه ) ، والمعاهدة التي ذكرت في الحديث أيضاً تدل على هذا ( تعاهدوا القرآن ؛ فإنه أشد تفلتاً - أو تفصياً - من الإبل في عقلها ) ، والمعاهدة أن يبقى الإنسان على العهد فيرد ويرجع مرة بعد مرة المراجعة على مراحل .
المرحلة الأولى : المراجعة المبدئية الأولية
أي في أوائل بداية الحفظ ، عندما يبدأ يحفظ الصفحة والثانية ، وكذا نقول لا بد أن يربط وأن يراجع الصفحة الأولى مع الثانية ، والأولى والثانية مع الثالثة ، والأولى والثانية والثالثة مع الرابعة ، والأولى والثانية والثالثة والرابعة مع الخامسة ، خمس صفحات لا ينبغي له أن يتنازل عن ربطها ببعضها ، وصلتها ببعضها عند حفظه الجديد .
ومعنى ذلك أنه إذا حفظ خمس صفحات في كم يوم سيعيدها ويسمعها ويراجعها ؟ يوم واحد ؛ لأننا قلنا أنه لا بد أن يكررها ، فإذن هذه الخمسة لو توقف عنها بعد ذلك وبدأ في خمس جديدة فلا بأس ، ثم سيراجع العشر صفحات في كم ؟ في يومين ، ثم سيراجع العشرين في كم ؟ إذن الجزء الأول ينبغي أن يعيده في كل أربعة أيام مرة ، ماذا سيكون حال هذا الجزء في الحفظ والسهولة ؟ قوياً متيناً سهلاً واضحاً حاضراً في الذهن كل ذلك الإجابة عليها : نعم .. لا تستكثر وقتاً في ذلك ، ولا تقل الخمس كثيرة ، الآن سمعتها " نعم " أعدها ؛ فإن الحفظ يحتاج إلى الإعادة والمراجعة وهذه المرحلة الأولى .
المرحلة الثانية : التي كم قلنا يبدأ فيها بعشر صفحات بدل خمس صفحات(/8)
هذه عشر صفحات تصبح جدوله اليومي في القراءة والمراجعة عشر صفحات ، ففي كل يوم في الأسبوع ستة أيام سيراجع ستين صفحة ، إذن الحد الأجزاء الثلاثة مع الأول أربعة أجزاء ، يكفيه عشر صفحات في اليوم بحيث في كل أسبوع سوف يراجع كل ما حفظه إلى أربعة أجزاء تقريباً ، لا يتجاوز الأسبوع إلا وقد أعاد كل ما حفظه ، ما يمر الأسبوع من السبت إلى الجمعة إلا وقد كرر وراجع وسمع كل ما حفظه بدون ذلك .
خذوا البرنامج وطبقوه تجدوا النتيجة ، أم تريدوا النتيجة بدون ذلك ؟ أظن في غالب الأحوال أن لا تحصل إلا للمنفردين من الناس الذين ربما أتاهم الله - عز وجل - ملكات أو صدق في نيته فأعطاه الله عز وجل هبة لا يعرف لها تدبيراً ولا سبباً إلا إنها من نعم الله عز وجل عليه .
المرحلة الثالثة : خمسة أجزاء " مائة صفحة "
يكون حفظه أو مراجعته فيها خمسة عشر صفحة في كل يوم ، وفي سبعة أيام مائة وخمسة ، يعني هناك زيادة أيضاً عندنا احتياطية ، ففي الأسبوع أيضاً سيراجع الأجزاء الخمسة في مرحلته الثالثة ، خمسة مع الأربعة الأولى - التي قلناها - يضبط فيها ذلك .
المرحلة الثالثة إذا وصل العشرة أجزاء يكون حصته من القراءة والتسميع في كل يوم عشرين صفحة يعني جزء ، والعشرة أجزاء في عشرة أيام .
المرحلة الرابعة : إذا كان عشرين جزءاً
ينبغي أن تكون مراجعته وقراءته في اليوم ثلاثين صفحة ، يعني جزء ونصف ، بعض الناس يقول : هذا كثير ! نقول : كثير إذا أردت تتصور أنك ستفتح المصحف وتقرأ وتجد نفسك قد نسيت ، لكن إذا كنت قد سرت على الطريق ، فإن الثلاثين هذه كشربة الماء ؛ لأنك قد أدمنتها في أول التصحيح ، وفي الحفظ ، وفي التمكين ، وفي المراجعات السابقة .
إذا فإنها ستكون أيسر من اليسر نفسه ، سيأخذ في العشرين جزء ثلاثين صفحة يومياً ، في أربعة عشر يوماً سيكون أتم هذه العشرين جزءاً ، يعني في كل أسبوعين يمر على ما حفظه كله ، إذا أتمّ الثلاثين جزءاً حصته تكون أربعين صفحة يتمها في خمسة عشر يوماً - أي في أسبوعين - ثم ينبغي له إذا صنع ذلك كذلك أن يبقى وأن يختم قدر استطاعته على أقل تقدير خمس ختمات ، بمقدار هذا المعدل ؛ فإنه حينئذٍ - إن شاء الله - يكون قد أتم الحفظ على الوجه الصحيح التام لهذه البرامج الأربعة التي أشرنا إليها ، وأحببت أن يكون عندنا تركيز فيها حتى لا نتشتت .
وهناك طبعاً أمور كثيرة تعين على هذا - كما قلنا - الإمامة في الصلوات عموماً ، والاشتراك في برامج التحفيظ ومسابقاته الكبرى والصغرى ؛ لأن هذا يعين على ذلك ، وقيام الليل الذي هو دأب الصالحين ؛ فإنه من أعون الأمور على هذا من حيث إنه طاعة ، ومن حيث أنه في وقت مناسب وملائم .
وبقي أن أشير إلى أنسب الأوقات
أنسب الأوقات ما كان فيه المرء خالياً بنفسه من جهة ، وليس متصلاً بعمل سابق من جهة أخرى ، مثلاً عند الاستيقاظ من النوم - أي بعد الفجر - ليس هناك شيء شاغل له من قبل ، ولا شيء قد شغل فكره ، فيكون مهيأ لذلك أو عند النوم ؛ فإنه يكون قد أزاح كل ما سبق ، فعنده وقت قبل النوم في هدوءه وسكينته ، فكذلك يكون كذلك أو في منتصف النهار لمن يأتي إلى بيته ويقيل فقيلولته تكون فترة انقطاع عن الخلق ، وراحة وهدوء يمكن أن يستغل فيها نصف الساعة أو الساعة التي قلناها .
المحتويات :
• المقدمة .
• برنامج التصحيح .
• برنامج الحفظ .
• برنامج التمكين .
• برنامج المراجعة .
برامج عملية لحفظ القران الكريم
المقدمة
ولسنا بحاجة إلى بيان فضيلة هذا العمل وأثره في النفوس والقلوب ، وما يجري الله به على فاعله من الخيرات والبركات ، فذلك معلوم مشهور من جهة .
وليس هو مقصدنا في هذا المقام من جهة أخرى ، وقد سبق أن طرحة موضوعاً شبه متطابق مع هذا الموضوع ، وعندما نظرت إلى تاريخه وجدت أنه مضى على إلقاء الموضوع الأول أكثر من سبع سنوات ، ثم إن هذا الموضوع يتميز عن الأول بمزيد من التفصيل والبرمجة العملية التي تحدثنا عنها في الإلقاء الأول بالأسبوع الماضي ،ولعلنا نحاول أيضاً أن نضيف كثير من التوجيهات والتنبيهات التي تذلل الصعاب ، وتعين على تحقيق المراد بعون الله - جلا وعلا - وسنتحدث في هذا الموضوع من خلال تمهيد مختصر ، ثم نفصل القول في أربعة برامج :
1 - برنامج التصحيح
2 - برنامج الحفظ
3 - برنامج التمكين
4 - برنامج المراجعة
أما التمهيد ففيه نقطتان :
الأولى : قبل البداية .
والثانية : عند البداية .
وقبل البداية نحتاج إلى ثلاثة أمور :
أ - إخلاص النية.
ب - وإصلاح العمل.
ج - وإذكاء الأمل.
إخلاص النية
فكل عمل بلا إخلاص هباء، وكل عمل لا يراد به وجه الله - عز وجل - لا يكتب له التوفيق ، ولا ينتهي إلى الغاية المحمودة ، ولا يصيب الأمل المنشود ونحن نعلم ذلك وتدل عليه نصوص كثيرة.
وأما إصلاح العمل(/9)