المخلصين هذا الخلق المبني على قوله تعالى وليستعفف الذين لا يجيدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله هذا الخلق المبني على قوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون هذا الخلق المبني على قوله تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى هذا الخلق المبني على الأدعية اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى هذا المبني على قوله عليه الصلاة والسلام ورجل دعته امرأته ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله هذا الخلق المبني على قوله عليه الصلاة والسلام استحيوا من الله حق الحياء قلنا يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله قال ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى والتذكر الموت والبلى وهكذا يحفظ عينه ويحفظ فرجه ويحفظ خواطره لأن الأفكار الرديئة يمكن أن تؤدي إلى أفعال رديئة وإلى نتائج سيئة وأيضا فلا بد أن نربي أنفسنا على الابتعاد عن أماكن الفتن الابتعاد عن كل ما يثير الغرائز عدم الثقة بالنفس وإنما الثقة بالله لا تقول إرادتي قوية وعزيمتي شديدة وأنا لا أنجر وأنا لا أتأثر وأنا لا يمكن أن أقع ومهما حصل فإنني سأقاوم كلا إن النبي عليه الصلاة والسلام علمنا مبدأ ترجم البخاري له فقال باب من الدين الفرار من الفتن قال عليه الصلاة والسلام يمدح الرجل يفر دينه من الفتن في شعف الجبال في رؤوس الجبال صيانة لدينه عندما ينزل الفساد في المكان فلا يرى لنفسه موقعا خارج بيته فصار بيته صومعة له فإن غلب صار الجبل هو المأوى وتحل العزلة حينئذ ومن الأدلة على هذا المبدأ الفرار من الفتن من أماكن الفتن من الأسواق الفاسدة ولذلك الصحابي قال إن استطعت أن لا تكون أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج من السوق فأفعل ذلك وإن استطعت أن لا تدخله أبدا فأفعل وإن استطعت أن لا تدخل السوق الأفسد فأفعل وإن استطعت أن لا تدخل في الوقت الأفسد الذي فيه الأفعال الأفسد فأفعل فادخل عصرا ولا تدخل عشاءا عندما قال عليه الصلاة والسلام من سمع بالدجال فلينئ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه لماذا مما يبعث به من الشبهات وهكذا اليوم يقول بضعهم أنا أثق بنفسي أنني لن أنجر ولن أسحب أكثر من هذا ولكنه في النهاية يقع سعيد بن مسيب ما أمن على نفسه فتنة النساء وهو ابن أربع وثمانين سنة عين ذهبت وأخرى يعشوا بها لا يرى بها إلا شيئا يسيرا لا تمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا يقولون لك اليوم أين نذهب بأنفسنا الشر في كل مكان الفساد في كل مكان لا نريد أن نأتيه لكن هو يأتينا أنا لا أريد الشر لكن هو يأتيني أنا لا أتعرض للشر والله لكن هو الذي يتعرض لي أنا في سلام في أمان في حال فإذا الرسالة تأتي إلى جوالي والاتصال على جوالي والصور على جوالي أنا ما طلبتها لكنها أرسلت إلي أنا لم أذهب برجلي إلى مكان الشر لكن هؤلاء لا يتركوني في شأني يصرون علي ماذا أفعل نحن اليوم نعيش وقاعا عجيبا ناس لا تريد الحرام ، الحرام يأتيها كيف تعيش في بيئة وفيها فساد إنه تحدي أنت أيها المسلم وأنت أيتها المسلمة وبعض الناس لا يستطيع أن يخرج من البيت وداخل البيت الفساد المعشعش والاختلاط موجود وأنواع الأفلام موجودة وتفتح القنوات صباح مساء أين يذهب بنفسه هذه الصالة إذا دخل وهذا الجهاز قد أشتغل كيف يصون نفسه الآن أيسجن نفسه في غرفته أم أنه يهرب خارج البيت وإلى أين يأوي ومن الذي سيدفع له نفقة غرفة يعيش فيها وهل من الحكمة أن يفعل ذلك وما هو واجبه تجاه أهله هؤلاء الذين يعيشون اليوم داخل أوساط مضطرون للعمل في شركات وفيها اختلاط مضطرون للعمل في مكاتب وفيها سكرتيرات مضطرون للعمل لكسب الرزق لا يجدوا ربما مكانا آخر بعيدا عن فتنة النساء الآن القضية عمت وطمت وانتشرت ودخلت ولم تترك مكانا إلا شيئا رحم الله وعصم الله أهله من ذلك ولذلك يتذكر الإنسان الحديث القابض على دينه كالقابض على الجمر يتذكر الحديث طوبى للغرباء أناس صالحون قليل في أهل سوء كثير إنه يتذكر إن السعيد لمن جنب الفتن إن السعيد لمن جنب الفتن إن السعيد لمن جنب الفتن ولمن ابتلي فصبر فواها حديث صحيح تلهف وحسرة واها لمن باشر في الفتنة وسعى فيها وإعجاب لمن عصم نفسه بها ما أحسن وأطيب الذي صبر يتذكر المسلم اليوم حديث لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل يقول يا ليتني مكانه يتذكر زمنا يطبق فيه الشر ولكن هل يمكن أن يعيش مع الله في بيئة فساد هل يمكن أن يعيش مع الله والمغريات من حوله هل يمكن أن يغض البصر وأن يستعمل هذه الإجراءات الشرعية في تخفيف الضغوط ضغوط الشهوات عليه الجواب نعم بإمكان الإنسان أن يدرأ عن نفسه بإمكان الإنسان أن يحمي نفسه بإمكان المسلم اليوم أن يفر من مكان الفتنة بإمكانه حتى لو فرضت عليه ولو قيد ولو أنه أسر فكبل فجاءه الحرام إليه بفاتنات وقد حدث ذلك في بعض أسرى المسلمين في سجون الصليبين في هذا الوقت فماذا يفعل ومن يعتصم بالله فقد(/9)
هدي يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد إنه الركن إذا خانتك أركان فيا أيها المسلم لن تعجز أن تجد ركنا تأوي إليه ثم تجد صاحب خير يحميك الله به وتجد بيئة طيبة تقوي إيمانك وتجد دروسا وحلقا تكون فيها يزيد الله يقينك بالعلم الذي تتعلمه فيها هناك مقويات هناك محفزات هناك إذن وسائل لتقليل الشر ولو فرض عليك الشر فإن عيشك مع الله بحديث لا يزال لسانك رطبا بذكر الله قائم وأعلم بأن من السلف من ذهب لصلاة العيد على كثرة النساء فرجع وقال لم أرى امرأة واحدة لقد غضوا أبصارهم وإن السعي في النكاح والصبر قبله بالصيام والبعد عن رفقة السوء المزينة للمنكر واستعمال الدعاء إنه شيء عظيم قال ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه لما يصبح كره الحرام شديدا لما تصبح النفرة من الحرام شديدة لما يصبح استقباح الحرام في نفسك قويا ترى السجن أحب من الوقوع في الحرام السجن بما فيه من تضييق وتكبيل وأسر وقيد ومنع للحركة أحب إليك مما يدعونك إليه لقد لجأ يوسف بالدعاء وإلا تصرف عني كيدهن اصبوا إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم وهكذا المسلم يقاوم ليقوا وإن مقاومة الشر اليوم من هؤلاء المحتسبين وممن يعينهم ومن المسلمين عموما من أعظم الوسائل في التغلب على الشر لأن المقاوم للمرض مقاومته ومحاربته للمرض نوع من الوقاية إنه تطعيم في الحقيقة ويقال في عدد من البلدان والمجتمعات والأماكن إننا لا نستطيع أن نهرب من فتنة النساء فالقضية حولنا من كل مكان وكذلك النساء ربما يقولن لا نستطيع أن نهرب من فتنة الرجال إن دعواتهم لنا بالشر في كل مكان فتأمل واقعا عجيبا لا يستطيع فيه الإنسان أن يخرج من البيئة ولكنه يقاوم إنه واقع يوسف عليه السلام لقد دعته للفاحشة واستعانت بكيد النسوة لقد تزينت وتجملت وقالت هيت لك لقد غلقت الأبواب لقد كان زوجها قليل غيرة لقد علم بالمنكر ومع ذلك أبقى يوسف في القصر أبقاه مع امرأته وهو يعلم حال امرأته وكانت لملمة القضية خشية الفضيحة الاجتماعية فقط يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك ولكن القصة فشت وكيد المرأة عظيم فاستعانت بكيد نساء أخريات اجتمعن على يوسف كيف عاش يوسف في ذلك المكان مقاوما للمنكر حتى دخل السجن سبحان الذي ثبته ولقد راودته عن نفسه فأستعصم اعترفت هي بمقاومته ولقد راودته عن نفسه فأستعصم اعترفت بصلابة موقفه لقد هددته ولأن لم يفعل ما أمره ليسجنن وتوعدته بالصغار والذل لكنه مع ذلك لم يتزحزح لم يتنازل لم يضعف لم يستجب لها لم يغير موقفه بقي ثابتا على الحق إنه شاب جميل إنه غريب في البلد إنه أعزب إنها جميلة إنها سيدته لقد أزالت الحاجز النفسي بدعوتها له وكان البدء منها ومع ذلك كان من المخلصين قال معاذ الله دعا الله لقد كان الحرام عنده قبيحا جدا ولذلك وفقه الله ثبته الله صرف عنه السوء والفحشاء فيحتاج اليوم كثير من الشباب والشابات في البيئات المختلفة في الأوساط المختلفة قد يكون الوضع في بيت عفن وقد يكون في بيئة تعليمية فيها فساد أو بيئة عمل مختلطة فيها شر كاسح ولكن إذا ثبت الإنسان وجاهد الله يثبته كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين والإنسان المسلم والمرأة المسلمة مهما كان الشر مستطيرا هنالك مجال أحيانا للهرب منه للخروج تبديل المكان هناك مجالات لتخفيف الشر أسباب لتقليل الشر فهو لا يزال يعمل بها هنالك عفة في قلب المؤمن الحقيقي وهذه المؤمنة لو فرض شيء من الخلوة هذا صفوان بن معطل السلمي صار في وضع لا يمكن أن يركب عائشة بعيره ويقود البعير ليلحقها بزوجها لقد كانت خلوة اضطرارية فماذا كانت واقع المرأة المسلمة المؤمنة التقية النقية العفيفة الشريفة وماذا كان الواقع ذلك المؤمن الذي تنحنح وأسترجع إنا لله وإنا إليه راجعون فاستيقظت باسترجاعه فسألها عما أبقاها هنا فأخبرته فنزل من بعيره أركبي وأناخ لها البعير وقاده هو يمشي وهي فوقه وهكذا في حال الاضطرار الذي صارت فيه تلك الخلوة لما كانت عظمة الله والخوف منه في النفوس ما حصل حرام وشهد الله ببراءة عائشة وبراءة صفوان وإن المسلم والمسلمة عندما يتأمل في غيرة الله عندما يتأملا في غيرته سبحانه لا أحد أغير من الله ولذلك حرم الفواحش ما ظهر وما بطن رواه البخاري وقال عليه الصلاة والسلام إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله رواه البخاري هذه الغيرة تولد عندك تولد عندكِ الغيرة أيضا لأن المؤمن إذا علم أن ربه يغار صار هو يغار الله يغار والأنبياء يغارون والمؤمنون يغارون وهكذا حتى البهائم ترى فيها غيرة ولكن اليوم مع الأسف نماذج مشينة يقول له الناصح المحتسب يا أخي أتقي الله في زوجتك ألا ترى حجابها ألا ترى مشيتها ألا ترى الشباب يتقافزون حولها كالقرود يطمعون فيها إنها لك وليس للناس يقول أسكت أمشي مالك دخل يا إرهابي عندما تكون القضية أيها الأخوة الدياثة أن تبلغ هذا المبلغ يجب أن تكون(/10)
عندنا قيام لله بالإنكار يجب أن يكون عندنا غيرة جيب أن يكون عندنا قيام لله بالحجة والنصيحة وعندما تفعل ما عليك فالله يأجرك وعندما تؤدي عندما تؤديه ولو غلبت فأنت معذور ثم لا بد أن نحافظ على الحياء هذا الحياء الذي جبلن عليه كان عليه الصلاة والسلام أشد حياء من العذراء في خدرها هذا الحياء الذي يمنع من الوقوع في الأفعال المشينة.
إذا لم تخشى عاقبة الليالي ... ... ولم تستحي فأصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ... ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ... ويبقى العود ما بقي اللحاء
الحياء خير كله ثم أشغل نفسك يا أخي ما يفيد الفراغ مصيبة إذا أتيت فراغا وصحة فأستعملها في طاعة الله العمر يمضي الوقت يفوت.
مرت سنين بالوصال والهناء ... ... فكأنها من قصرها أيام
ثم انثنت أيام هجر بعدها ... ... فكأنها من طولها أعوام
ثم أنقضت تلك السنون ... ... وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
عمرنا يفوت ماذا فعلنا فيه ملأت فراغك بأي شيء نفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
إذا كملت للمرء ستون حجة ... ... فلم يحضا بالستين إلا سدسها
ألم ترى أن النوم بالنصف حاصل ... ... وتذهب أوقات المقيل بخمسها
فتذهب أوقات الهموم بحصة ... ... وأوقات أوجاعا تميت بمسها
فحاصل ما يبقاه سدس عمره ... ... إذا بقته النفس علم حدسها
نحن نحتاج إلى ملئ الفراغ بالطاعات وتيسير سبل الحلال وإزالة العوائق إتمام المشروع اجتماع الكبير ببناء المجتمع بالأسر الصالحة والزواج الذي يعف الله به عباده لا بد أن يكون هناك لين وسهولة وتيسير لا بد أن تأخذ الأمور مجراها ولا بد من تشجيع وإعانة وتكافل لا بد أن يكون هناك دعوة صادقة إلى تكثيره وإشاعته والحث عليه والعمل به ونقول حجاب النساء حجاب النساء يدنين عليهن من جلابيبهن ولا يبدين زينتهن وليضربن بخمرهن على جيوبهن طاعة لله طاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم حياء ستر من أعين الفساق حماية من الفجار محافظة على الأمانة صيانة للعرض الحجاب كما أمر الله .
عزوا الحجاب إلى الكتـ ـاب فليتهم قرءوا الكتاب
إن التعصب مانع أن تبصر العين الصواب
ولذلك بعضهم يصر على أن الحجاب لا قيمة له وبعضهم يريده فتنة لا حجابا وقد صار بعض الحجاب اليوم بدونه الواضع أقل سوءا من الفتنة الموجودة فيه من شكله من تصميمه ولذلك فإن التجار الذين يجلبون الألبسة والذين يبيعونها لا شك أنهم يتحملون وزرا عظيما اليوم وكل من يشتري ويرضى لزوجته أو أبنته أو أهله من هذا الذي يثير الغرائز والذي يؤجج الشهوات إن هذا النزول بهذا اللباس الفاتن إلى الأماكن العامة ما الذي يتوقع أن يحصل بسببه عفة حياء غض بصر سيحدث التشجيع والدعوة والجذب للحرام ثم لا بد من إشاعة التوبة فالإنسان يزل المعصية تقع العين تزيغ وتطغى والواجب أن تتأدب فما زاغ البصر وما طغى يحدث ما يحدث باب التوبة مفتوح الله سبحانه وتعالى يحب التوبة ويحب التوابين وهكذا الإنسان يحذر الآخرين من الوقوع في هذا الحرام ويدعوهم من التوبة منه هناك أناس ربى تمنوا اليوم أن ينتشلوا من الفحشاء لقد سئموا العيش في الرذيلة هنالك من ندم ويحتاج إلى من ينتشله ويمسك بيده هناك من أدرك سواء أصابه مرض جنسي أو أصابته فضيحة أو حملت سفاحا سواء خشية فضيحة اجتماعية أو لم تخشى سواء صارت نكبة في أسر وعوائل سمعتها نظيفة وطيبة لكن لا زال هناك اليوم من يريد أن يأتي المنقذ الذي ينقذه ولذلك هي دعوة للدعاة ولكل من يمكن أن يقوم بالدور في إنقاذ هؤلاء أن يقوم به مدرسات في المدارس داعيات في الكليات دعاة في المكاتب والشركات محتسبون في الأسواق والطرقات نحتاج اليوم لمن يذكر الناس عبر الفضائيات التي يأتي منها الشر نحتاج إلى مزاحمة وأن نقول يا أيها الناس أسمعوا وعوا أفيقوا يا أيها الناس إنكم اليوم في هذه المؤامرة الكبيرة على الدين التي تريد الإطاحة بالعفة والأخلاق تهدم الأسر إنك تدعوهم إلى ترويض أنفسهم بالخير.
ومن البلاء وللبلاء علامة ألا ترى لك عن هواك نزوع
تقول يا أخي أنزع عن الهوى كفى يكفي.
العبد عبد النفس في شهواتها والحر يشبع مرة ويجوع
لو الإنسان صابر نفسه على هذا الجوع سيصبر سيصمد لكن كل ما جاعت للحرام أوردها موارده لن تشبع.
العبد عبد النفس في شهواتها والحر يشبع مرة ويجوع
يا عبد الله يا أيها الشاب يا أيها الشابة الشهوة تضطرم في النفوس وتعتلج فيها ويقول لا أدري ماذا أفعل بنفسي انتحر ألقي بنفسي من شاهق ماذا أفعل بهذه الشهوة إنها تضطرم.
صبرت على الأيام حتى تولتي وألزمت نفسي صبرها فأستمرتي
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن طمعت تاقت وإلا تسلتي(/11)
فإذا قلت أنفس لها بالحرام فإن طمعت تاقت وطلبت المزيد النفس ما تشبع من الحرام هذا الغرب بالسعار الجنسي المحموم وإطلاق الغرائز ما تركوا رذيلة ولا فاحشة ولا أنواع من هذه الوسائل التي تنشرها وتذيعها إلا فعلوه ومقنن حتى زوجوا الذكور بالذكور في الكنائس هل انتهت المشكلة عندهم هل القضية قضية كبدت فإذا فتح المكبوت أنحلت المشكلة لا.
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن طمعت تاقت وإلا تسلتي
المروءة ترك الشهوات وعصيان الهوى يا أخي قاوم الهوى إذا ما حصلت مقاومة ومجاهدة لن يحصل الحل.
فمن هجر اللذات نال المنى ومن أكبى على اللذات عض على اليدي
وفي قمع أهواء النفوس أعتزازها وفي نيلها ما تشتهي ذل سرمدي
لذة ساعة شر إلى قيام الساعة.
ولا تشتغل إلا بما يكسب العلا ولا ترضى النفس النفيسة بالردي
وفي خلوة الإنسان بالعلم أنسه ويسلم دين المرء عند التوحد
الوحدة خير من جليس السوء .
فكن حلس بيت فهو ستر لعورة وحرز الفتى عن كل غاو ومفسد
نحتاج اليوم فعلا أن نكون لله عبادا فطنا أن نطلق هذه المحرمات تماما أن نستعين بالله عزوجل الأرض تشتكي صنيع المجرمين يا إخوان البلى عم والشر قد طم بيوت تهدمت حمل بالحرام مخازي فضائح حصلت مصائب مهولة عفة زالت وطهارة تولت ولكن نحن عندنا خطوات كثيرة نقوم بها ولا زال هناك مجال عظيم للعمل ومن قال هلك الناس فهو أهلكهم ولذلك نحن لا نقول هلك الناس نقول يوجد ولله الحمد أخيار وأبرار وأتقياء وأنقياء وعفيفات وشريفات وتقيات يوجد في المجتمع لا زال قوة مقاومة يوجد وللحمد لله إلى الآن يوجد من يأبى ويرفض الحرام يوجد من يدعوا للطهارة والعفة يوجد من يرفض رفضا تاما هذه البلايا والمنكرات ولذلك فالأبواب مشرعة للعمل كلنا دعاة وكلنا مسؤولون وكلنا مخاطبون والله تعالى لا يهمل والله عزوجل يأخذ وإذا كثر الخبث راح الجميع ألم تأتيكم النذر من الهزات الأرضية في منطقة الخليج غير المعروفة بالهزات سابقا فماذا ننتظر وقد جاءنا النذير وقد جاءت الأمراض المختلفة وقد جاءت هذه الفضائح الاجتماعية بما شق صف المجتمع ولذا فلا بد من أن تقدم شيئا يا أخي المجال أمامك أن تقدم في هذا المضمار لنفسك ولغيرك ذكر نفسك وذكر غيرك .
يا نفس توبي فإن الموت قد حان ... ... واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا ... ... لقطا فتلحق أخرانا بأولانا
في كل يوم لنا ميت نشيعه ... ... نرى بمصرعه أثار موتانا
ما بالنا نتعامى عن مصائرنا ... ... ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا
يا راكضا في ميادين الهوى مرحا ... ... ورافلا في ثياب الغي نشوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعب ... ... يكفيك ما قد مضى قد كان ما كان
توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم وتوبوا إلى الله قبل أن تقول نفس يا حسرتنا على ما فرطت في جنب الله واسعوا في إيراد النفوس حياض المباح الذي جاءت به الشريعة ونحن لنا من فرج الله وشرع الله البدائل الطيبة والحمد لله.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى اللهم أحفظنا من الشرور والآثام وباعد بيننا وبين الحرام اللهم أجعلنا من جندك الذين يذبون عن شرعك ويدعون إلى سبيلك اللهم أحفظ مجتمعنا ومجتمعات المسلمين من الخنا والفجور والعصيان ومن الفتن ما ظهر منها وما بطن سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(/12)
القدس تنادينا
بقعة من أشرف بقاع العالم أرض بارك الله فيها وبارك من حولها موطن الأنبياء ومنبع الرسالات ومفتاح الحضارات منتهى مسرى نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومبدأ معراجه أم فيها نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأنبياء فكان إيذانا ً بتولي قيادة البشرية ، وفتحها الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ، وحررها الناصر صلاح الدين .
بيت المقدس وأرض فلسطين هي الأرض المباركة " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير " .
، وقال جل في علاه عن عن خليله إبراهيم ـ عليه السلام ـ : " ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين " .
، وقال عن سليمان ـ عليه السلام ـ : " ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين " .
فهي موطن الأنبياء ومأوى الصالحين ، وإليها كانت القبلة الأولى ، وانتهى إليها الإسراء ، وابتدأ منها المعراج ، وهي أرض المحشر والمنشر .
ها هي الأرض المباركة اليوم تأن وتصرخ تحت وطأة الاحتلال وظلم البغاة على ثراها الطاهر ترتكب أبشع المجازر تغتال الحرية وتؤد الإنسانية .
إنها تناديكم وا إسلاماه وا إسلاماه 000 فهل من مجيب ؟
أجيبوا يا مسلمون لبيك يا قدس لبيك يا أقصى خبرنا ماذا يجري على ثراك الطاهر ؟
ليأتيك الجواب: مجازر يتفتت منها قلب من كان له قلب قتل للأطفال وترميل للنساء واعتداء على الحرمات اقتحام للبيوت وتشريد للأمنين وترويع للمدنين ناهيك بسياسة الحرمان من الماء والغذاء والدواء مناظر مفزعة ومشاهد دامية تبعث الشفقة والرحمة في قلوب الجفاة فضلا عن الرحماء .
نساء فلسطين تكحلن بالأسى * وفي بيت لحم قاصرات وقصر
وليمون يافا يابس في أصوله * وهل شجر في قبضة الظلم يزهر
ألا يا صلاح الدين هل لك عودة * فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
تناديك من شوق مأذن مكة * وبدر تنادي يا حبيبي و خيبر
ليل طويل وظلام دامس أظهر بطولة الأبطال وشجاعة الرجال .
أيها الأبطال على أرض فلسطين هنيئا ً لكم وقفتكم لقد أثبتم أنكم رجال ورددتم على اليهود فعليا ً محمد ما مات ولا خلف بنات بل خلف أبطالا يعز وجودهم في أمة من الأمم على وجه الأرض اليوم
خبروني بربكم أي أمة تتعرض للحصار وللتجويع ثم تصمد هذا الصمود بل وتأخذ زمام المبادرة فتري عدوها ما يكره .
أيها المسلمون وقعت أرض فلسطين أسيرة عدو لا يرحم لا تنفك عنصريته عن التنكيل بكل من يخالفه .
اليهود أعداء البشرية و مجرموا الإنسانية شر البرية جرائمهم منذ غابر الزمان على بني الإنسان أكثر من تحصى وأكبر من تروى .
أراذل الناس حثالة العالم من تأصل الإجرام في عروقهم من القديم عباد العجل أبناء القردة والخنازير عبد الطاغوت من لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير .
أما نقض العهود فهم أساتذته " الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون "
" أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم " .
أنها الأمة التي اعتدت في السبت بل وفي كل يوم فاستحقت لعنة الله " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية " .
" فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " .
عدوانهم على الإنسانية قديم فهم مشعلوا الفتن موقدوا نار الحروب ا ولن ينتهي سعيهم بالفساد في الأرض " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين " .
أما عدوانهم على خيرة الله من خلقه أنبياء الله ورسله فيكفيك أن تقرأ قول الله عنهم " كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون " .
قبحهم الله أهكذا يتعامل مع أنبياء الله ورسله إما التكذيب وإما القتل .
ثم زادوا في عدوانهم إلى أقصى درجة ممكن أن يصل إليها مخلوق إنه العدوان على الله . الله الذي أوجدهم من العدم فراحوا يكيلون سبهم وعدوانهم على الله .
" لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير "
" وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " .
أما توراتهم المحرفة فتخبر عن آدم أنه اختبأ من الله ـ تعالى الله عما يقولون ـ والعجيب أن الرب أخذ ينادي آدم أين أنت ؟ ! .
هذا هو سفر التكوين إصحاح : 3 عدد : 8 ، 9 يخبر عن آدم وزوجته عندما أسكنهما الله الجنة تقول التوراة :
وسمعا صوت الرب الإله ماشيا ً في الجنة عند هبوب رياح النهار ، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة ، فنادى الرب الإله آدم وقال له : أين أنت ؟ .
تعالى الله عما يقول اليهود علوا ً كبير ا ً .
وما هذا إلا مثال لما حفلت به التوراة من ظلم وتعد ٍ ليس هذا بأولها وليكون آخرها إذ أن تعديات التوراة المحرفة على الله ورسله وخيرة الله من خلقه أكثر من أن تحصى .(/1)
أمة الإسلام : حق على الأمة الإسلامية وهي تواجه عدوا ًهذه بعض صفات أن تستعد له .
إن على الأمة :
أولا ً : تقوية صلتها بالقوى الذي لا يغلب أنه الله . الله عزيز ذو انتقام .
الله الجبار المتكبر .
الله ذو الأمر الرشيد .
الله ذو البأس الشديد .
يلحق بهذه النقطة توبة جماعية منا جميعا إلى الله جل في علاه فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة .
، وهي دعوة لنا جميعا ً للتفكير قبل المعصية .
علينا أن نفكر قبل المعصية في عظمة من نعصى .
، وأن نوقن بأن المعصية لها آثار منها أنها توجب غضب الجبار وتوجب ولوج النار ـ إن لم يتب العبد منها أو يعفو ربي جل في علاه ـ ومن آثار المعاصي أيضا ً تسلط الأعداء .
فأين أنت يا أصحاب الذنوب والعيوب ؟
أمة بأسرها تعاقب بشؤم ذنوبنا ومعاصينا لخالقنا وولي نعمتنا .
ثانيا ً : علينا جميعا ً أن نوقن أن ما حصل ويحصل إنما هو بقدر الله ، قال تعالى : " ولو شاء ربك ما فعلوه " وقال جل في علاه " وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين " .
إنه الإيمان بأقدار الله كلها ، وأن ما أصبنا لم يكن ليخطئنا ، وما أخطأنا لم يكن ليصبنا .
ثالثا ً : قدر الله كله خير : " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " .
، وفي دعائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ والشر ليس إليك .
، والقاعدة القرآنية واضحة " وعسى أن تكرهوا شيئا ًوهو خير لكم " .
رب أمر ٍ تتقيه جر أمرا ً ترتضيه *** خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه
رابعا ً : العمل .. العمل
كل في ميدانه وفي مجال تخصصه ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا .
أيها المسلمون قبل أكثر من ستين سنة لم يكن لليهود دولة ولكنهم سعوا وعملوا حتى كانت لهم الدولة أما يكون هذا حافزا لنا أن نعمل من أجل استعادة حقنا .
خامسا ً : الأخوة الإسلامية ، وآه ٍ .. آه من ضياع الأخوة الإسلامية اليوم مع أن الله يقول " إنما المؤمنون إخوة " .
فهل يعقل أن يمر مسلم على أخيه المسلم ثم لا يسلم عليه ؟ !
نهيك بما هو أشد من ذلك من ظلم وإسلام للعدو ، وغيره مما لا يشكى إلا إلى الله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل في ضياع الأخوة الإسلامية اليوم .
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا *** عذب تحدر من غمام واحدِ
أو يختلف نسب ٌ يؤلف بيننا *** دين ٌ أقمناه مقام الوالدِ
سادسا ً : الثقة بوعد الله فإن الله يقول : " وإن جندنا لهم الغالبون " ويقول سبحانه وبحمده : " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " .
سابعا ً : الاستعداد لجهاد طويل فإن الله يقول : " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم ويشفى صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم " .
ويقول المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث سهل بن سعد رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها .
وعن أبي عبس عبدالرحمن بن جبر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار .
وعند الترمذي من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله .
فيا خسارتكم أيها القاعدون ما لكم قعدتم ؟ " أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " .
ما لكم ألا يحرككم ما حرك رجل رث الهيئة حركه نسيم الجنة الله أكبر إنها الجنة يا حبذا الجنة واقترابها .
إنها رياح الجنة حركت رجلا ً رث الهيئة .
في صحيح مسلم من حديث أبي بكر بن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه قال سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف ،فقام إليه رجل رث الهيئة فقال : يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول هذا ؟ قال نعم ، فرجع إلى أصحابه فقال : أقرأ عليكم السلام ثم كسر جَفن سيفه فألقاه ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل .
، وإذا كان اللوم منصب ٌ على المتخاذلين فإن البشرى لمن اقتحم العقبة وفارق الأهل والديار بل فارق الدنيا بمن عليها هنيئا ً للسابقين في الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكَلمه يدمي : اللون لون الدم والريح ريح مسك .
وفي الصحيحين عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى الكرامة .
، ولإن كان حديث الشهادة مشوقا ً فإن هناك نفوسا ًتواقة حرمت النفير أقعدتها المعاذير لكنها لا تضن بنية صالحة تسأل الله الشهادة بها دائما .(/2)
روى مسلم من حديث سهل بن حنيف ـرضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه .
ومن صدق هذه النفوس أنه وإن سد أمامها باب النفرة بأجسادها فإن أموالها هناك على أرض الرباط تجاهد وتنال من أعداء الله .
في الصحيحين عن زيد بن خالد ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا.
أما حديث النفس بالغزو فلا يحرمه إلا منافق .
روى مسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون " .
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا .
، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كتبها من يرجو عفو ربه /
أيمن سامي
المشرف العام على موقع الفقه
http://www.alfeqh.com(/3)
القدس قضية الأمة
د. علي بن عمر بادحدح
17/8/1425 هـ
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
حديثنا اليوم نجدد به أحاديث سلفت ؛ لأنه لا بد أن يكون حاضراً في الأذهان ، حيّاً في القلوب لما له من ارتباط وطيد بحقائق الأيمان والإسلام من جهة ، وبوحدة المسلمين ورابطة المؤمنين من جهة أخرى ..
ولأنه كذلك يمثل قضية الوجود الإسلامي الإيماني في مواجهة العدوان الإجرامي الظالم ؛ ولأنه من جهة ثالثة ورابعة يمثل محور الصراع بين الحق والباطل .. بين الشر والخير .. بين المعاني والقيم الفاضلة وبين الأضاليل والجرائم الفظيعة .
حديثنا مرةً أخرى عن أرض الإسراء .. عن قلب أمتنا الإسلامية النابض بالمقاومة والجهاد ، في مرور الذكرى الرابعة للانتفاضة الجهادية المباركة .. لاشك أن حدثاً مثل هذا أحسب أنه قد مرّ على الآذان و الأذهان مرور الكرام ، لم يُربط بحقائق الأيمان ، لم يستدل عليه بآيات القران ، لم يكن له صلة واضحة بما كانت غليه سيرة وسنة المصطفى العدناني صلى الله عليه وسلم .
كثيرة هي الأمور التي تمرّ بنا ، وننظر إلى جانبها المظلم دون المشرق ، وإلى حقائقها الدنيوية المادية دون حقائقها الإيمانية المعنوية .. كم نحن في حاجة إلى أن تكون قلوبنا حية بالإيمان فلا تفقه إلا فقهه ، ولاتزن إلا بميزانه ، ولا تنظر إلا بعينه بدلاً من أن نكون مستسلمين لذلك الكمّ الهائل من القول الإعلامي الزائف الذي ليس في مجمله مرتبطا بالإيمان والقران والإسلام إن لم يكن محايداً وبعيداً عن ذلك فهو يرجف بالقول الذي يعارضه ، ويلقي بالتهم التي تنقضه .
ومن هنا ؛ فإن حديثنا هذا - ولو تجدد ولو تكرر ، وإن كنا قد انقطعنا عنه فترة من الزمن - فإنه جديرٌ دائماً وأبداً ألا يرتبط بخطبة أو محاضرة أو حادثة ، لأن فعل اليوم المتكرر في كل ساعة ودقيقة وثانية .. ما الذي تسمعه ؟ جرّت هذه المقاومة الويلات والنكبات على أبناء فلسطين أوصلتهم كما يقول بعض المحللين من أبناء العرب بل من أبناء فلسطين إلى ارتفاع نسبة الفقر من 15% و20% قبل هذه المقاومة الجهادية إلى 40و50% أوصلتهم إلى أرواح أزهقت ، وبيوت هدّمت ، وأسر شتت .. وغير ذلك ، ثم ماذا بعد هذا ؟
ثم إنها أوجدت الذرائع والأسباب والمبررات للعدو لكي يجد مسوّغاً عالمياً ، ومنطقاً دولياً فيما يقوم به من الإجرام والعدوان ولست أدري وقد تكرر مثل هذا القول عبر ليس سنة و سنتين ، ولا عقداً ولا عقدين ، بل أكثر من ذلك لم يعد أحد يفقه مثل هذا القول ويقبله إن كان حيّ القلب يقض الضمير راشد العقل عالي الهمة حراً في نفسه لا يقبل بالذل والظيم .
لننظر إلى الجانب الآخر لننظر إلى الحقائق ولأبدأ معكم ببعض الومضات من الحقائق القرانية في الآيات القرانية التي تكشف لنا صوراً أخرى غير ذلك الوهم المسيطر على قلوب الخائفين والدنيويين وغير ذلك .. الوهم المسيطر على المتاجرين من السياسيين وغير ذلك .. الوهم المسيطر على الغافلين الدنيويين الراكنين إلى حياتهم .
{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } .
سنة ربانية ماضية ، آية قرانية ، أو شطر آية حقيقتها ثابتة .. أين نراها اليوم لننتقل إلى هناك إلى أرض العزّة والقوة والمقاومة والجهاد ، في زمن - كما أسلفت مراراً - ران وغلب على كثير من المسلمين الذلة والخنوع والخوف والاستسلام .. لماذا حقق أهلنا وإخواننا في فلسطين معادلة غريبة شاذة لا تُفهم إلا بمقياس الإيمان ؟ لماذا ومن أين جاءوا بهذه الشجاعة والقوة والبطولة ؟ وكيف تسنى لهم هذا الثبات رغم قوة البطش وشدة العدوان ، وتوالى الجرائم ، ومع ذلك يقفون برؤوس مرفوعة ، وصدور مشرعة ، وأقدام ثابتة ، وكلمات تعبر عن معاني القوة والعزة ؟
إنها الآية القرآنية والسنة الربانية ، قال تعالى : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } .
لقد وقع التغير هناك تغير حقيقي يظهر في صور شتى ، بدءاً من الارتباط بالقرآن حفظاً لآياته وتلاوة لها ، وتدبراً لمعانيها ، ومروراً بتربية المساجد التي تعلّقت بها قلوب الشباب قبل الشيب ، والصغار قبل الكبار .. وانتهاءاً إلى التربية العظيمة للأمهات الفاضلات المربيات المجاهدات .
وقد سمعت خلال الأيام الماضية ، ورأيت مقابلات بقدر ما فيها من حزن وألم ، بقدر ما فيها من عظمة واستعلاء ..
أم فلسطينية ، لها سبعة أبناء ليس عندها واحد منهم مطلقاً ؛ واحد منهم مضى شهيداً ، وستة في الأسر ، وهي تقول : " بقيت واحدةً مفردةً ، لكني لا أضعف ولا ألين ، بل أفتخر وأعتز بهم " .
ثم تلتفت إلينا وإلى الجميع لتقول : أين المسلمون ؟ وأين العرب منا ؟ بل تلتفت إلى ما هو أدنى إليها وأقرب منها : أين المسئولون عنا في بحثهم عن معاناتنا ، ووقوفهم إلى جانبنا وغير ذلك كثير وكثير .(/1)
ثم ننظر كذلك إلى القدوات التي صارت تعلوا هناك وترتفع .. إنها ليست قدوات المغنين والمغنيات ، أو الراقصين والراقصات ، أو اللاعبين واللاعبات ! إنها قدوات الاستشهاديين والاستشهاديات .. إنها قدوات اليوم يتحدث بها الصغير في سن السادسة والسابعة من عمره .. لقد أصبحت البطولة شغفاً عظيماً ، وأملاً كبيراً ، وروحاً تسري في الدماء والعروق .
لقد صار القوم على غير ما نحن عليه في ترفنا وغفلتنا ، وانشغالنا بدنيانا ، واستسلامنا الضعيف الخانع لواقعنا ، ورضوخنا وذلتنا لهيمنة أعدائنا ..
لقد كسروا الطوق البشري ، وتعلقوا بالطوق الرباني .. لقد نظروا إلى الحقائق في ضوء الإيمان فعرفوا أن الظواهر لا تغني شيئاً ، وأن الحقائق وراء هذه الظواهر تكشف أن العاقبة للمتقين ، وأن جند الله لهم الغالبون ، وأن ذلك يُرَى رأي العين لمن كان في قلبه يقينٌ راسخٌ ، وإيمانٌ صادق ..
إنها كذلك عِبر إسلامية .. نظرة في كل أمرٍ من الأمور ، ليس هناك من الأسباب المادية ، ولا من الحقائق الدنيوية ما يمكن أن يفسر شيئاً من ذلك ! ولذلك هم يفسّرونه بالمعاني الإيمانية ، والسنن الربانية ، والحقائق المعنوية .. وذلك ما نراه في واقع ذلك التضييق .
وانظروا إلى كثرة الناس في المساجد ، ودروس العلم ومسيرات البيارق في المسجد الأقصى ، وعناية الناس بالعمل الخيري ، وتكاتفهم وتعاطفهم مع كل شهيد يُستشهد ، كيف يخلف في أهله رغم شدة الظروف وقسوتها وعظمة الفقر وسعته .
لقد تغيرت الصورة إلى صورة لن نقول إنها نموذجية ، لكنها تحقق حداً من المعاني الإيمانية والإسلامية في صدق الإيمان ، وفي قوة اليقين ، وفي التعلق بالله عز وجل ، وفي الارتباط بمنهجه ، وفي الاقتداء بسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ حتى تجددت عندنا معاني غائبة في واقع حياتنا ؛ من إيثار الآخرة على الدنيا ، ومن التضحية والفداء في ميادين المعارك والجهاد ، وذلك أمرٌ آخرٌ ينبغي الالتفات له ، وفي مقابل ذلك أيضاً جاء التغيّر عند القوم الذين يعادونهم ، عند شذّاذ الأرض وأفاعيها وأفاكيها ؛ من اليهود الغاصبين - عليهم لعائن الله - لقد كانت أجيالهم الأولى أشد ارتباطاً بعقيدتها منهم وأكثر تضحية ، وجاءت الأجيال المتتالية والمهاجرون الذين وعدوا بالنعيم والترف والثراء فتغيروا ، ولم يعد حالهم كحالهم الأوائل . وجاء ذلك أيضاً بسنة الله عز وجل فيما هم عليه .
ونحن إنما نشير إشارات ونضيء إضاءات ؛ لعلنا نعتبر وندّكر .. أنتقل إلى آيات أخرى :
قال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } .
يخاطبنا الله فيقول : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } يا أصحاب العقول انتبهوا ، والتفتوا إلى الحقائق ..
أمر عجيب .. جيش هو الخامس في العالم ، وشراذم من حيث الناحية المادية والعددية ، قليلة لا تملك من أسباب القوة المادية شيئاً يذكر بالمقارنة لعدوها ! وما هي النتيجة ؟!
انظروا إلى هذه الآيات تصف لنا حال فئة من اليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد أن نقضوا العهود ، وطعنوا المسلمين في ظهرهم ، وأرادوا ارتكاب الجريمة العظمى بمؤامرتهم على قتل المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وقد بنو الحصون وعندهم الأموال الطائلة .. هذه الآيات تصف ما كانوا عليه من أوهام الدنيا التي يعيشون فيها ، بل إن القرآن يخاطب أهل الإيمان { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا } ما كان أحد يتصور ذلك ! مقام طويل ، ومال وفير ، وعدد غفير ، ومجتمع مترابط منعزل عن غيره !
قال تعالى : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ } أخذوا أسباب القوة المادية بأعظم وأعلى صورها { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا }
إن قدر الله غالب ، وإن سنته ماضية ، وإن نصره لعباده متحقق ، وإن العاقبة للمتقين .. ذلك ما تكشف عنه هذه الحقائق ونحن ننظر إلى المواجهة غير المتكافئة .. فماذا نرى ؟
يأتينا كثير من الناس ليرينا الجانب المظلم .. كم قتل من أبناء فلسطين ، كم هدّم من بيوتهم .. وكأنهم يمكن للناس أن يأخذوا حقوقهم من غاصبيها ، وأن يستعيدوا كرامتهم من مهينها دون أن يدفعوا ضريبة ! ولكن يكفيهم أن يجلسوا على الطاولات ، وأن يعقدوا المؤتمرات ، وأن يأكلوا أشهى الوجبات ، ثم يصدروا البيانات وفي آخر الأمر يحققون الانتصارات !
مَنْ مِن المغفلين يصدّق إن هذا يمكن أن يقع في واقع الحياة ! وكيف استطاع أولئك الشذاذ المجرمون المغتصبون لهذه الأرض أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه ؟(/2)
لقد بذلوا أموالهم ، وسفكوا في أول الأمر دماءهم ، وتعاظمت معهم المعونة من قبل أولياءهم وحلفاءهم ، ولا بد أن نوقن بأنه لا يمكن أن يكون تغيير ذلك بغير ذلك !
لكننا ننظر إلى الجانب الآخر .. إلى جانب العدو الذي تكبّد خسائر لم يتكبد مثلها في الحروب التي خاضها كلها مع جيوش ودول كاملة ومنظّمة .
يكفينا أن نشير إلى بعض الإحصاءات المذكورة خلال هذه الفترة القصيرة : ثلاثة عشر ألف وخمس مائة عملية جهادية منوعة ، أوقعت ألفاً وسبعة عشر قتيلاً ، وأكثر من خمسة آلاف جريح ، وأوقعت فيهم بعد ذلك ما هو أفظع وأنكى وأشد .. إنه ما أشارت إليه الآية في قوله تعالى : { وقذف في قلوبهم الرعب } .
إنهم يعيشون خوفاً دائماً ، وهلعاً فضيعاً ، أقضّ مضاجعهم ، وأذهب نومهم ، وملأ العيادات النفسية بالمراجعين منهم .. إن قضايا النصر لا تبدو في صورها المادية النهائية ، بل هي بالحقيقة متدرجة ، تبدأ بالقلق والخوف ثم تمرّ بالحيرة والاضطراب ، ثم تنتهي إلى الخور والاستسلام ، وتلك المراحل هي التي تمرّ بها كل معركة ومواجهة .
لننظر إلى حالهم وواقعهم .. لننظر إلى الحقائق والأرقام ، وقد سئل بعض اليهود فأجاب بما لا يجيب به بعض أبناءنا من العرب والمسلمين .. قيل له : ولكننا نقتل منهم أكثر مما يقتلون ! قال : " إن الأعداد في مثل هذه المواجهة غير موضوعية ، لقد قُتل من الأمريكان خمسون ألفاً وقتلوا من الفيتناميين ثلاثة ملايين ، وخرجوا خاسرين ، وقُتل من الفرنسيين بضعة آلاف ، وكان شهداء الجزائر نحو مليون ، ولكنهم كانوا منتصرين ! " .
وهكذا ؛ فإن القضية ليست قضية الأعداد والأرقام ، ولكنها قضية القوة والمعنوية والثبات وما في النفوس من طمأنينة ، تراها رغم كل هذا الهول في نفوس إخواننا الذين تركوا تعلقهم بالناس ، وربطوا حبالهم برب الناس .
إنهم لم يعودوا ينتظرون اليوم منا حتى دعم مادي ، وقد انقطع ذلك إلا ما رحم الله .. لم يعودوا ينتظرون منا اليوم دعماً سياسياً ، ولم تعد هناك إلا البيانات والبيانات .. لم يعودوا - فضلاً عن ذلك - ينتظرون أن يقف أحد إلى جوارهم في خندقهم ، ولذلك ننظر إلى هذه المعالي ، وننظر إلى قادة الكبار عند الأعداء وهم يقرون بأن المعضلة كبيرة .
أما الاقتصاد فهو في تدهور مستمر ، وأما البطالة فهي في زيادة مضطربة ، وأما السياحة فقد صارت أثراً بعد عين ، وأما الأمن فإنه لم يعد متوفراً في أي شبر في تلك الأرض وأي بقعة منها .. ولذلك نرى هذه الصورة صورة واضحة ، تؤيدها اللفتة القرآنية الثالثة :
قال تعالى : { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون الله ما لا يرجون }
جرحٌ هنا وجرٌح هناك .. قتلٌ هنا وقتلٌ هناك .. لكن هنا إيمان ، واحتساب وأجر ، وتكفير سيئات : ( ما يصيب المسلم من همٍّ ولا غمٍ ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها عنهم خطاياه ) ذلك ما يؤمن به إخواننا ..
وهنا قتيل وهناك قتيل .. لكن هذا شهيد ، وذاك إلى جهنم وبئس المصير .
يقين لا بد أن يكون راسخاً في نفوسنا وقلوبنا ، بموجب آيات ربنا ، وأحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم ، وتلك قضية واضحة ظاهرة في قضايا الألم الذي يشعر به الطرف الآخر ، والعناء الذي يقاسيه ، والخوف الذي يسيطر عليه ؛ حتى إنه قد ارتفعت نسب المراجعين للعيادات النفسية بنسبة 50% في كل عام عن الذي قبله ، وتزيد نسبة البطالة بنسبة 4.18 % في كل عام عن الذي قبله ، وتزيد نسب أخرى كثيرة توجع العدو ، ولولا ما يلقاه من دعم ويصب له من مالٍ ، ويقع له من خياناتٍ ، وتقدّم له من معلومات لكان الأثر أكثر وأعظم ولكنها إرادة الله سبحانه وتعالى .
وها هم يعترفون بذلك ، والأرقام تشهد به ، والحقائق تدل عليه .. لقد أصبحوا - كما يقول بعضهم – : " في دائرة دموية مفرغة ، لا يمكن الخروج منها .. الناس لا يخرجون من بيوتهم خوفاً من العمليات الاستشهادية ، الجمهور متعب ومرهق ومتشائم ، وإسرائيل وقوتها لا تستطيع أن تفعل شيئاً ! " .
" إن طريقة مواجهة أجهزة الأمن الإسرائيلية للانتفاضة لم تخفق فقط ، بل إنها أدت إلى انتقال حمى العمليات الاستشهادية إلى فصائل لم تتبنها من قبل ، وحصلت إسرائيل على عكس النتائج التي راهنت على تحقيقها ".
تلك أقوالهم في صحفهم - ومن قبل خبرائهم - والروح المعنوية مختلفة تماماً 50% زيادة استهلاك المهدئات والأدوية النفسية ، والصدمة في كل حادث من تلك الحوادث والعمليات الجهادية يكون عدد المصابين أربعة أضعافهم ، مصابون بما يعرف بالصدمة والخوف والهلع ، ويراجعون المستشفيات ، ويُحملون في الإسعافات مثل الذين أصيبوا بالجراحات ..
معدل الخوف رصد من خلال الدراسات العلمية في أشهر ثلاثة متتالية - ليس في هذا العام بل فيما قبله - وكانت النسب 57% ، ثم 68% ، ثم 78%(/3)
والمال معبود اليهود كما قال الله جل وعلا : { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } هذا المال وهذا الاقتصاد الذي يضعف ويشتد بعضه ، يؤذن بأمور كثيرة لصالح إخواننا في أرض فلسطين ، وكأننا نرى في ذلك ما قاله الله سبحانه وتعالى : { وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } ، إله اليهود كان عجل من ذهب ، ويوشك هذا أن يتفجر فلا يبقى حينئذٍ أمر يبقيهم في ديارهم أو أرضهم ، كما سنذكر وكما هو حال واقعهم في هذه الوقائع .
وما نرى من جهة أخرى كيف هي النظرة التي تتغير حتى كما يقولون عالمياً والرأي العام والعالمي ، ونرى كيف تنظر الشعوب اليوم وتتكشف لها الحقائق ، ويتكلم من كان صامتاً بأمور تكشف هذه الحقائق عن اليهود وظلمهم ، وبفيهم رغم ما يحاصر به كل معترض ومنتقل في كل بقعة من الأرض .
هذه حادثة وقعت قبل يومين ، في إطلاق الصواريخ على اليهود :
إحدى الساكنات في مغتصبة من هذه المغتصبات ، تقول : " نحن ندرس بجدية فكرة هجرة هذه البلدة ، وكنا في السابق نقول هذا بيتنا ولن نتركه ! أما الآن فنحن نفكر بالأولاد والتعليم والعمل .. لقد تغير كل مجرى حياتنا ؛ نحن نعيش في رعب دائم لا ندري متى سيسقط الصاروخ الثاني وأين ؟ " .
وعجيب هذا الأمر لتنظروا كيف هي رعاية الله .. كيف يستطيع أولئك في ظل الظروف الأمنية والإرهابية والعدوانية أن يصنعوا صاروخاً حتى ولو كان صاروخاً صغيراً ، وانظروا كيف أقضّ المضاجع ، وقد أطلقت نحو خمسمائة صاروخ خلال هذه الفترة من الانتفاضة ، وأقضت المضاجع !
وانظروا إلى التطور العجيب الذي هو بالمقياس الواضح توفيق وإعانة من الله عز وجل .. انتفاضة من الحجر إلى مسدس أو إطلاق نار إلى الصواريخ والقدرة على تدمير الدبابات الإسرائيلية المحصنة .. ما الذي يدلنا ذلك يدلنا ذلك على تحقيق موعود الله عز وجل : { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }
من كان مع الله فالله معه .. من اعتمد على الله عز وجل فإن الله جاعل له مخرجاً وفرجاً ، ومثبتٌ قلبه ، ومطمئنٌ نفسه ، وجاعلٌ له في كل مواجهة ما يعينه بها ، ويثبته فيها .. وهذا أمره واضح وكثير ..
إننا لو مضينا مع هذه الحقائق ؛ لوجدنا أننا نحن الضعفاء الذين نحتاج إلى قوة ، ونحن الذين نحتاج أن نراجع معاني العزة في نفوسنا .. نحن الذين نحتاج أن ننظر إلى الآيات القرآنية أن نقرأ السيرة النبوية .. أن نعيد مرةً أخرى ارتباطنا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. أن نفقه الدنيا وحقائقها في واقع وضوء القرآن وثوابته .
إن الإرجاف الإعلامي اليوم جعلنا على إحدى صور كلها لا نريدها لأنفسنا : إما أننا لم يعد يعنينا شيء ، ولم نعد نلتفت إلى الأمر كله ، وإلى القضية بقضها أو قضيضها .. كما شغلنا بذلك أمور أخرى كثيرة ، أو أننا ننظر إلى الجانب الذي تكرّسه بعض وسائل الإعلام العربية والإسلامية .. أولئك قومٌ قد هُدّمت بيوتهم ، وأزهقت أرواحهم ، وأُسر آبائهم .. فما بالهم يصنعون ذلك ؟ لماذا يختارون الطريق الشاق ؟ لماذا يسيرون في هذه الأشواك ؟ لماذا وليس هناك قدرة على النصر ؟ لماذا لا يغيرون ؟ لماذا لا يتوقفون ؟ لماذا لا يؤثرون حياتهم الدنيا على هذا الجحيم الذي لا يطاق ؟
ونحن نقول ذلك ، واليهود المعادون يقولون غيره ، ويقولون إن المقياس لصالح أهل الأرض ضد المغتصبين والمحتلين ، وإما أننا نكتفي بالحوقلة ، وننسى أن نكون بقلوبنا ودعائنا ومالنا وقدرتنا في كل جانب من الجوانب ، ولو أن نبقي هذه المعاني حية فإنها محور الصراع .
نسأل الله عز وجل أن يثبت إخواننا في أرض الإسراء ..
الخطبة الثانية :
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
وإنه لا بد لنا أن نحقق أخوتنا الإيمانية ..
قال تعالى : { إنما المؤمنون إخوة }
وأن نحقق رابطتنا الإسلامية : ( المسلم أخو المسلم ) ولا بد لنا في الحقيقة أن نحقق ذاتيتنا وعقيدتنا بالنظر والتأمل والتدبر وفق حقائق القرآن وثوابت الإيمان ، دون أن نتأثر بهذه الوقائع وما يتلوها من الأوهام والتحليلات .
ولعلي أشير أيضاً إلى جانب آخر :
إن الذين يكثرون القول علينا من المآسي والنكبات التي يقولون إنها حلت بإخواننا ، ويُبدون حزنهم على ذلك أو تأثرهم به ، ثم يدعون إلى ترك المقاومة وكأن تركها سيجعل العدو يقدم الورود بدلاً من الرصاص !
نقول بدلاً من ذلك : اجعلوا هذه المأساة محركة للآخرين .. أين نحن من بيوت هدّمت ؟ أين نحن من أسر لم يعد لها عائلٌ إما هو أسير أو شهيد ؟ أين نحن من أي جانب من الجوانب ؟ أين الدول العربية ؟ أين الجيوش ؟ أين السياسات ؟ أين القيادات ؟(/4)
لِمَ لا يقال ذلك ؟ لِمَ يكون الحل هو عند أولئك الضعفاء الذين لا يملكون شيئاً من أسباب الحياة الدنيوية والمادية سياسية أو مالية أو عسكرية ؟ لِمَ لا نجعل ذلك وهذا الذي نريده أن يكون لنا تواصل وصلة نحقق بها هذا الفهم الصحيح .. نحقق بها تلك الأخوة الصادقة .. نحقق بها تلك الرابطة الإيمانية الوثيقة .. وننتظر ونوقن بأن النصر مع الصبر ، وأن سنة الله الماضية جاعلة للمتقين فرجاً ، وجاعلة للمؤمنين نصراً { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } .
وأعلم كذلك أن بعضاً منا قد يقول - وهو ممن نَفَسُه قصير - قد طال الأمر ، وتوالت السنون ، وتجاوزت نصف قرنٍ !
ونقول مرةً أخرى كما بينت لنا آيات القرآن شدة الأمر وصعوبته وطوله ، وأنه مرهون بسنة الله عز وجل .. قال تعالى : { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } .
ونحن نوقن بهذا القُرب ، لا نعرف أمده ولا مدّته ، لكن الناظر رأي العين ؛ فضلاً عن فقه القلب و يقينه يرى أن الأمور سائرة في طريقها المحتوم ، وأن العاقبة للمتقين .. وكلنا يوقن بأن الظلم والعدوان في سنة الله عز وجل بالمقياس الإنساني والإسلامي والإيماني عاقبتها وخيمة ، وكما أخبرنا الحق بذلك سبحانه وتعالى : { ولتعلمن نبأه بعد حين }
وكما قال جل وعلا : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } .
وكما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) .
ولكنها برهان لا بد أن يقدم من أهل الإيمان .. ولكنها قيمة وثمن لا بد أن يدفعه أهل الإيمان ، وأهلنا هناك يدفعونه ويلقون أجره من الله عز وجل دنيا وأخرى .. ولعلنا نجتهد أن ندفعه بكل وسيلة من تحقيق انتمائنا لإسلامنا ، والتزامنا بديننا ، وترابطنا مع إخواننا ، وتصحيح مفاهيمنا ، وتبديل وجهات نظرنا بما يتفق مع قرآننا وهدي نبينا صلى الله عليه وسلم .
نسأل الله جل وعلا أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً ..(/5)
القرآن العظيم وهجره
251
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
منصور الغامدي
الطائف
18/3/1420
أبو بكر الصديق
ملخص الخطبة
- منزلة القرآن وفضله على الأمة والبشرية – أمثلة لتأثّر العرب ببلاغة القرآن - تأثر الصحابة بالقرآن وأثره فيهم – لمن يَمنح القرآن كنوزه وأسراره – حال كثير من الناس مع القرآن وهجرهم له وصور ذلك
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الاخوة الكرام، إن القرآن العظيم هو الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس، بل جعل هذه الأمة تبلغ ذروة الفضائل والمجد، إنه الأصل الذي يرجع إليه، والنبع الذي تتفجر منه عيون الإيمان وليقين، وفيه ترد يقين النفوس، ولذة عيون المتدبرين، وملاذ قلوب المنكسرين وبماذا يمكن أن تصفه عيون الشعر مهما أوتي أصحابها من بيان وإبداع، إذ هو كلام الله المنزلْ، تكلم به حقيقة ـ سبحانه ـ، وهو صراطه المستقيم، وحبل الله المتين.
أيها الاخوة الكرام، شهدت الأرض ميلادا عظيما بنزول القرآن على محمد إذ شع نوره عليها، وأورقت أغصانها، وسرت الحياة الطيبة في عروقها، أما السماء فكان لها شأن آخر، لقد ملئت حرسا شديدا وشهبا، ولما لم يعد الجن قادرين على استراق السمع كما كانوا من قبل بسبب كثرة الشهب في السماء والرمي بها، ظن الإنس والجن أن ذلك مؤذن بخراب العالم أو هلاك أهل السماء، ولكن الصحيح أن الله أراد بأهل الأرض رشدا، نعم لقد أراد بهم رشدا في أن يعرفهم العقيدة والتوحيد، وأن لا إله إلا هو ـ سبحانه ـ، التي تعني نزع السلطان الذي يزاوله الكهان، ومشيخة القبائل، والأمراء والحكام على الناس ورده كله إلى الله، والتي تعني التأثير على القلوب والشعائر، وواقعيات الحياة، والتأثير في المال، والأرواح والأبدان، لتعود كلها مكومة بشريعة من عند الله.
ونزل القرآن على العرب فرأوا أنهم أمام هيبة رائعة وروعة مخوفة وخوف تقشعر منه الأبدان، فأحسوا ـ وهم الفصحاء ـ أنهم ضعفاء أمام هذا الكمال العظيم، فاستسلموا لبلاغته، وتعلقت قلوبهم به وارتبطت نفوسهم بإعجازه.
هذا الطفيل بن عمرو الدوسي جاء إلى مكة، فلم يزل كفار قريش يقولون: إن محمدا فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه، ولا تسمعن منه شيئا، قال الطفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا، ولا أكلمه حتى حشوت في أذني كرسفا خوفا أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن اسمعه، فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله قائم يصلي عند الكعبة فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن أسمع بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر، وما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقوله، فإن كان الذي يقوله حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته، فلما سمع القرآن من النبي غضا طريا قال: (والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه)، ولقد أثرت كلمات القرآن في نفسه، وسرت إلى عقله وقلبه همسات دافئة هادئة تحمل هداية القرآن.
وهنا رجل آخر كان جبارا في الجاهلية شديدا على المسلمين المستضعفين يومئذ، فلما سمع قول الله ـ تعالى ـ: طه % مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى إلى قوله: إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا اله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصلاةَ لِذِكْرِى، كسرت تلك الآيات أعواد الشرك في قلبه، وأذابت صخور الجاهلية، وقال: ما ينبغي لمن يقول هذا أن يعبد معه غيره، فأصبح ذاك الرجل إذا سار من فج سار الشيطان من فج آخر، إنه الفاروق عمر بن الخطاب ، الذي قال: اعلموا أن هذا القرآن ينبوع الهدى وزهرة العلم، وهو أحدث الكتب عهدا بالرحمن، به يفتح الله أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، ألا وإن قراءة القرآن مع الصلاة كنز مكنون وخير موضوع، فاستكثروا منه ما استطعتم، فإن الصلاة كنز مكنون، والزكاة برهان، والصبر ضياء، والصوم جنة، والقرآن حجة لكم أو عليكم فاكرموا القرآن ولا تهينوه، فإن الله مكرم من أكرمه ومهين من أهانه.
أيها المسلمون، لقد خرج القرآن جيلا مميزا في تاريخ الإسلام كله وفي تاريخ البشرية جميعه، هو جيل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ، هذا العدد الضخم الذي لم يتجمع مثله بعده في مكان واحدا، وليس السبب في تجمعه لأن الرسول بينهم كما يضنه البعض، وإلا لانتهت الرسالة، والدعوة بموته ، ولكن ثمة سبب آخر هو أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ استقوا من نبع القرآن، وتكيفوا به، وتخرجوا عليه، على الرغم من وجود الثقافات المختلفة في ذلك العصر، وسبب آخر جعل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يبلغون ما بلغوا من الفضائل والرفعة، هو أنهم لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع، ولا يقصد التذوق والمتاع، إنما كانوا يتلقون القرآن للعمل به في أنفسهم وفي مجتمعهم الذي يعيشون فيه، كما يتلقى الجندي الأمر في الميدان.(/1)
إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروح، روح المعرفة المنشئة للعمل، ومن الأمثلة على ذلك آية تحريم الخمر، حينما نزلت جرى رجل في سكك المدينة يعلن: "ألا إن الخمر قد حرمت"، فالذي كان في يده شيء من الخمر رماه، والذي كان في فمه شربة مجها، والذي كان عنده في أوان أراقها، استجابة لأمر الله ـ تعالى ـ: إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا.
أيها الاخوة الكرام، إننا ـ ونحن نقرأ كلام الله سبحانه ـ نمر كثيرا على صفات منزل هذا القرآن وأسمائه وهو رب العالمين، فما هو أثر هذه الصفات والأسماء على القلوب الحية؟
إنك وأنت تقرأ آيات يتجلى فيها الرب في جلباب الهيبة والعظمة والجلال كما في قوله ـ تعالى ـ: الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى، فإن الأعناق تخضع، والنفوس تنكسر، والأصوات تخشع، والكبر يذوب كما يذوب الملح في الماء.
وإذا تجلى ـ سبحانه ـ بصفات الرحمة واللطف والبر والإحسان كما في قوله ـ تعالى ـ: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وقوله: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، حينها تنبعث قوة الرجاء من العبد، وينبسط أمله، ويسير إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلما قوي الرجاء حد في العمل.
وإذا تجلى الله بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة، وتطلعت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات.
وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم، ونصرة لأوليائه، وحمايته لهم كما في قوله ـ تعالى ـ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وقوله: ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وغيرها من الآيات، فإنه تنبعث من العبد قوة التوكل عليه، والتفويض إليه، والرضا به في كل ما يجريه على عبده، ويقيمه فيه. هذا بعض ما في هذا الكتاب العظيم المملوء حكمة وهدى ونورا وبركة وشفاء.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، لا تأخذه سنة ولا نوم، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الذي أوتي السبع المثاني والقرآن العظيم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين صلى الله عليهم وسلم تسليما كثيرا.
أيها المؤمنون، إن حال كثير من الناس في هذا الزمان مع القرآن بخلاء جدا، إنه ربما يمر الأسبوع على بعضهم أو الشهر وهم لم يقرأوا سطرا واحدا من القرآن، ولربما يمضي على بعضهم شهور لم يقرأ فيها القرآن، نعوذ بالله من الخذلان، لقد شكا النبي إلى ربه من هجر القرآن: وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً والهجر للقران أنواع:
أولا: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه، فتجد بعضهم يستمع إلى إذاعات الدنيا، ويستمع إلى ما حرم الله من لهو الحديث، وإذا مر بسمعه القرآن أغلق الجهاز أو المذياع، نعوذ بالله من ذلك.
ثانيا: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، حيث يلجأ بعض الناس إلى تحكيم القوانين، أو تحكيم أعراف القبائل في النزاعات والخصومات.
ثالثا: كهجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد الله ـ سبحانه ـ به منه.
رابعا: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به.
خامسا: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
أيها الأخ الكريم، ومن العمل به اتباع أمره بالإنفاق في سبيل الله، وقد وعدنا وهو الذي لا يخلف وعده بأن يخلف علينا، قال ـ تعالى ـ: وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وقال ـ تعالى ـ: مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وعن أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله يقول: ((ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه أحد باب فقر ـ أو كلمة نحوها ـ))[1] وقال : ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أيسر منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا الله ولو بشق تمرة))[2]، ووعظ النبي الناس فقال: ((أيها الناس تصدقوا ومر على النساء فقال: يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار))[3]، والصدقة دليل على صدق إيمان العبد ولذلك قال : ((والصدقة برهان))[4].(/2)
أيها الأخوة الكرام، هذه جمعية تحفيظ القرآن الكريم التي لها نشاط مميز في تعليم القرآن الكريم لكافة أعمار المجتمع، مع اختلاف مستوياتهم التعليمية، وقد اضطلعت بهذه المهمة العظيمة وهي تعمل ليل نهار وتضاعف من جهودها أيام الإجازات، كما أن لها مشاريع ضخمة مستقبلة تهدف إلى خدمة كتاب الله، ولا شك أنهم ماجورون على ذلك ـ إن شاء الله ـ وقد كفتنا هذا الجهد العظيم، وتطلب منا طلبا متواضعا هو أن ندعم مسيرتها، ونخدم كتاب ربنا، وننصر دين نبينا ، وقال : ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر))[5].
فأدخل يدك في جيبك وأخرج ما تجود به نفسك الطيبة، وتذكر أن الله يراك وأنت تنفق لخدمة كتابه العظيم، فيا له من تشريف وتكريم لنا.
اللهم أعط منفقا خلفا، اللهم أعط منفقا خلفا.
ألا وصلوا وسلموا...
---
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/231)، والترمذي: كتاب الزهد – باب ما جاء ((مثل الدنيا مثل أربعة نفر)) حديث (2325)، وقال: حسن صحيح. والبزار (3/243)، والطبراني في الكبير (22/341)، قال محقق المعجم الكبير: وهو صحيح.
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الزكاة – باب الصدقة قبل الرد، حديث (1413)، ومسلم: كتاب الزكاة – باب الحث على الصدقة ولو بشعة تمرة... حديث (1016).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الحيض – باب ترك الحائض الصوم، حديث (304)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان... حديث (79).
[4] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، حديث (223).
[5] صحيح، أخرجه الطبراني في الكبير (8014)، والأوسط (6082) وقال: لا يُرون هذا الحديث عن أم سلمة إلا بهذا الإسناد، تفرد به عبد الله بن الوليد الوصافي، وحسّن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (2/30)، والهيثمي في المجمع (3/115)، وصححه بطرقه الألباني في السلسلة ا(/3)
القرآن الميسر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.. أما بعد:
نقف وقفة تأمل مع قول الله -تبارك وتعالى-:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}(17) سورة القمر. فنتأمل أقوال المفسرين في ذلك، لنعلم أن الله تعالى قد سهَّل تلاوة وحفظ كتابه الكريم. فهو حاضرٌ سهل التناول، ميسر الإدراك فيه جاذبية متكررة؛ ليقرأ ويتدبر، وفيه جاذبية الصدق والبساطة وموافقة الفطرة واستجابة الطبع، لا تنفذ عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، وكلما تدبره القلب عاد منه بزادٍ جديد وكلما صحبته النفس زادت به ألفة وله أنساً.
قال القرطبي -رحمه الله-وهو يفسر هذه الآية:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}
أي: "سهّلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه ، فهل من طالبٍ لحفظه فيعان عليه ؟ ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر، مأخوذ من يسَّر ناقته للسفر: إذا رحَلها، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه كما قيل :
وقمت إليه باللجام ميسراً هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
وقال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله يقرأ كله ظاهراً إلا القرآن. وقال غيره: ولم يكن هذا لبني إسرائيل، ولم يكونوا يقرؤون التوراة إلا نظراً غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله عليهم، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلب، فيسَّر الله -تعالى- على هذه الأمة حفظ كتابه؛ ليذكروا ما فيه، أي: يفتعلوا الذكر والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب فيهم.
{فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}قارئ يقرؤه . وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب: فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه، وكُرر في هذه السورة للتنبيه والإفهام. 1
وقال الألوسي في روح المعاني: "وقيل المعنى سهلنا القرآن للحفظ لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلاسة اللفظ وشرف المعاني وصحتها وخلوه عن الوحشي ونحوه فله تعلق بالقلوب، وحلاوة في السمع فهل من طالبٍ لحفظه ليعان عليه ؟ ومن هنا قال ابن جبير : لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن. وأخرج ابن المنذر وجماعة أنه قال: يسرنا القرآن هوّنا قراءته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: لولا أن الله يسّره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الناس أن يتكلم بكلام الله –تعالى-.
وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنه مر برجل يقول: سورة خفيفة، فقال: لا تقل ذلك ولكن قل : سورة يسيرة؛ لأن الله -تعالى- يقول :{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}والمعنى: الذي ذكر أنسب بالمقام. 2
وقال ابن كثير:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}أي: سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراده؛ ليتذكر الناس كما قال: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}وقال –تعالى-: {فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين }، وقال الضحاك :عن ابن عباس: لولا أنّ الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى. قلت: ومن تيسيره –تعالى- على الناس تلاوة القرآن: ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف)3.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان: تعلُّم الكتاب والسنة أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة، والله -جل وعلا- يقول في سورة القمر مرات متعددة:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}، ويقول –تعالى- في الدخان:{فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} فهو كتاب ميسر بتيسير الله لمن وفقه للعمل به والله -جل وعلا- يقول: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}....إلى أن قال: ولتعْلَم أن كتاب الله وسنة رسوله في هذا الزمان أيسر منه بكثير في القرون الأولى.4
وهنا ندرك أن حفظ القرآن ميسر وسهل بإذن الله –تعالى-، لمن أراد حفظ كتاب الله تعالى ، وأنه سيتجاوز بإذن الله أي معوقات قد تعوقه ، لأن سبحانه سيسهل عليه حفظ كتابه إن كان صادقاً في ذلك ، مخلص النية ...
نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحفظ كتابه ، وحسن عبادته ،...
والحمد لله رب العالمين .
________________________________________
1 -انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/134).
2 -روح المعاني للألوسي (14/84).
3 -تفسير ابن كثير (4/266).والحديث في الصحيحين
4 -أضواء البيان (7/435-436).(/1)
القرآن نور الأنوار
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
حديثنا موصول عن منبع الهداية ومعلم النور الذي به حياة القلوب ، وسكينة النفوس ، ورشد العقول ، واستقامة الجوارح ، وطيب الحياة الدنيا ، ونجاة الحياة الآخرة .
كتاب الله – سبحانه وتعالى - كلامه العظيم حكمته البالغة شريعته النافعة ، ذلكم في سياق حديثنا عن المبادئ التي هي أعظم أسباب القوة ، وأول أسباب النهوض ، وعندنا مبادئنا وعقائدنا وشرائعنا مصدرها الأول ومنبعها الأعذب .
كتاب الله – سبحانه وتعالى - وقفنا لننظر ما السر في نكوصنا وهزائمنا وضعفنا رغم ثبات مبادئنا ، ورسوخ عقائدنا ، وحفظ كتابنا ! ذلكم أن الصلة بيننا وبينه وأن الأمر المطلوب منا له ومعه وبه وفيه يشهد نقصاً عظيماً وخللاً كبيراً .
وقد أشرنا إلى أن المهم الذي ينبغي أن نحرص عليه ، والواجب الذي نركز فيه هو الفهم لكتاب الله ، واليقين بما جاء فيه ، وقد قدمنا لذلك تعظيما لكتاب الله – سبحانه وتعالى - وبيانا للأسس الجامعة والقضايا الكلية التي ينبغي أن تلج إلى قلوبنا لتتهيأ للإقبال على هذا الكتاب العظيم كلام رب العالمين .
ولعلنا اليوم ما نزال في حاجة ماسة إلى قضية الفهم والتدبر ؛ حتى نأخذ منها حظاً وافراً يقودنا إلى قوة اليقين ، وعظمة الاعتقاد بكل ما جاء في كتاب الله – سبحانه وتعالى - من غير شك ولا اضطراب ، ومن غير حيرة ولا تردد .
الفهم والتدبر والخشوع والتأثر والخضوع والتمثل هذه مدخلها الفهم والإقبال على القرآن إقبالا صحيحاً فهم يقود إلى تدبر وخشوع يقع به التأثر وخضوع واستسلام .. يقع به الاستجابة والتمثل لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أما الفهم والتدبر فآياته وأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته فيه عظيمة .. { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } .
والتفكّر في آياته المسموعة وآياته المشهودة ، ولهذا أنزل الله القرآن ليُتدبر ويُتفقه فيه ويُعمل به ، لا لمجرد التلاوة مع الإعراض عنه ، كما ذكر ذلك ابن القيم - رحمه الله - وأما مسألة الخشوع والتأثر فنستمع إلى آية من كتاب الله : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } .
ووصف الله - عز وجل - للمتأثرين الخاشعين بقوله :
{ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } .
قال ابن تيمية - رحمه الله - : "إن خشوع القلب للقرآن واجب ، ولابد أن نستحضر ذلك الوصف الذي وصفته أسماء في المتفق عليه عندما قالت رضي الله عنها : "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تليت عليهم الآيات كان وصفهم كما جاء في كتاب الله تدمع أعينهم وتخشع قلوبهم تصديقا لما جاء في هذه الآيات العظيمة ".
وأما الخضوع والتمثل فهو الغاية النهائية الاستجابة الحقيقية ، والامتثال الصادق يقول فيه جل وعلا : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }.
الخشوع الحقيقي هو الانقياد للحق ، ومن موجبات الخشوع الاستجابة والعمل وفي حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه – قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين يعملون به تقدمه البقرة وآل عمران) ثم وصفهما النبي - عليه الصلاة والسلام – وقال : (تحاجان عن صاحبهما).
وشاهدنا قوله : ( أهل القرآن الذين يعملون به ) ، أولئك هم المنتفعون .. أولئك هم المستحقون لشفاعة القرآن .. أولئك الذين حيت به قلوبهم ، وقويت به عزائمهم ، ورشدت به عقولهم ، واستقامت به أحوالهم ، وكان حكماً فيما بينهم ، وفصلا فيما يقع منهم من خلاف تصديقاً لكتاب الله سبحانه وتعالى ، قال القرطبي رحمه الله :
"
فما أحق من علم كتاب الله أن يزدجر بنواهيه ، ويتذكر ما شرح له فيه ، ويخشى الله ويتقيه ويراقبه ويستحييه ؛ فإنه قد حمل أعباء الرسل ، وصار شهيداً في يوم القيامة على أهل الملل ) .
ليس أمرا هيناً كلام الله - عز وجل - .. كتابه وهدايته الأخيرة للناس الذي تكفل بحفظه ، فلذلك ينبغي أن يكون هذا هو الأصل الذي نتعامل به مع القرآن ، حتى يحدث في نفوسنا أولاً التأثير المنشود ، ثم يفيض على قلوبنا ونفوسنا إلى واقع حياتنا لنتحرك به ، ولنحرّك به واقعنا ، ونقوم به اعوجاجنا ، ونستدرك به نقصنا ، ونكمل به ما وقع من خلل في حياتنا ، وذلك هو التأثير المنشود الذي عندما فقدنا كثيراً منه ظلّ القرآن في حياتنا ، كأنما هو غائب شاهد ، وكأنما هو قد عطل في واقع نفوسنا وقلوبنا فتعطل في واقع حياتنا وأحوالنا .(/1)
وذلك ما كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يحذرون منه ، ويستحضرونه دائماً ، روى الإمام أحمد في كتاب الزهد ، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - وهو من أرقّ الصحابة وأكثرهم مواعظ ، كانت مواعظ قلبه تفيض على لسانه ، فإذا بها تلج إلى القلوب ، وتأثر في النفوس ، يقول رضي الله عنه وأرضاه في معاني الصلة بالقرآن الكريم : " أخوف ما أخاف أن يقال لي يوم القيامة : يا عويمر أعلمت أم جهلت ! ؛ فإن قلت علمت لا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا أخذت بفريضتها ، الأمر هل ائتمرت ؟ والزجر هل ازدجرت ؟ وأعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ودعاء لا يسمع " .
هكذا كانت قلوبهم ونفوسهم .. هكذا أدركوا أنه لابد من فهم وتدبر يحصل به خشوع وتأثر ينطبق ويليه استجابة وتمثل ، وذلك الذي نحتاج إليه ، ولعلنا هنا ونحن نريد أن نيسر الأمر على أنفسنا ، وأن نعين أنفسنا على أن نبلغ مثل هذه الغايات سيما في هذا الزمان الذي كثرت فيه الملهيات وعظمت فيه المشغلات ، وكثرت فيه الفتن ، وتعاظمت فيه المحن ، وصرفت القلوب بالشهوات ، وضلّت العقول بالشبهات إلا من رحم الله ، أفلسنا في حاجة إلى عصمة نعتصم بها ، وإلى ملجأ نلجأ إليه ، فأي ملجأ أعظم من الله ؟ وأي عصمة أعظم من عصمة كتاب الله ؟ وأي نور يبدد الظلمات أعظم وأقوى وأبلج من نور الله عز وجل ؟ ونور كلامه سبحانه وتعالى ؟ كم نحن في حاجة ماسة إلى أن نعيد القول ونردده ونكرره ونزيده في مثل هذه المعاني ، ومهما زاد ؛ فإنه قليل لأن البون شاسع ، والهوة سحيقة ، والفرق عظيم وهائل بين ما تنزلت به الآيات ، وما دعت إليه الشريعة ، وما هو واقع في الحياة ، بل ما هو مستقر في القلوب والنفوس .
ولعلنا هنا نذكر بعضاً مما يعيننا على ذلك ويؤدي بنا إليه في خطوات ميسورة بإذن الله عز وجل ؛ لأننا لا نريد أن نلقي القول على عواهمه ، ولا نريد أن يكون حديثنا مجرد كلمات عظيمة أو ضخمة أو بليغة ، أو ربما يكون فيها شيء من التعظيم والتأثير المؤقت الذي لا ينبني عليه عمل ، ولا نخرج به إلى تغيير واقع ولا نبدأ فيه في تغيير أحوالنا علّ الله - عز وجل - أن يتداركنا برحمته ويغير إذا غيرنا ما في نفوسنا ما في واقعنا كما وعدنا الحق سبحانه وتعالى .
خطوات أولها: حسن الاستماع والإصغاء لكتاب الله عز وجل
كم نسمع من نشرات الأخبار ..كم يسمع كثيرون من الأغنيات ، وكم نسمع من الأخبار والأحوال والأقوال ، وكل ذلك يصب في قلوبنا كدراً يخلط صفاء الإيمان ، وظلمة تطفئ نور اليقين وأحوالاً تقسوا بها القلوب ، كم نسمع من غيبة ونميمة ، كم نسمع من لعن وشتيمة ، أليس لنا حظ نطهر به القلوب من إصغاء يفيض على قلوبنا الخير والنور والهدى والتقى ؟ كم نستمع قبل أن نتلوا ؟ كم نستمع من الآيات ؟ والقرآن قد سجل في أشرطة ويبث عبر موجات الأثير ، ويتلى حتى على الشاشات ، ونستطيع أن نسمعه إذا واظبنا على الصلوات في الجماعات وهو يتردد في المحاريب أناء الليل وأطراف النهار .
ما حظ آذاننا من هذا الإصغاء ؟ وما حظ قلوبنا من هذا الإصغاء ؟
حسن الاستماع هو الأول والمبدأ والفاتحة والبداية {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} وتأمل بلاغة القرآن المعجزة {الذين يستمعون} وليس يسمعون ، فالاستماع أعظم من السماع السماع .. كلام عابر يمرّ على أذنك .. تكون سائراً في طريقك فهذا يتكلم ، لقد سمعته لكنك لم تستمع له .. لم تلق له بالاً .. لم تعطه أذناً واعية ..لم تعطه قلباً حاضراً ، فذلك أمر آخر ، إنما المقصود الاستماع الذي تتوجه له بكليتك ، وتقصده بعنايتك ، وتفرّغ له من وقتك ، وتهيئ له نفسك ، وتستحضر له كل الأسباب التي يقع بها أثره .. { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } .
والفاء للتعقيب السريع ، إن كان استماع حقيقي فثمت بإذن الله - عز وجل - استجابة صادقة {فيتبعون أحسنه} ، والله - سبحانه وتعالى - أمرنا بذلك وبيّن أنه سمة هدايته : { فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ } .
والحق - جل وعلا - يقول : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }.
وكذلك تأمل {فاستمعوا وأنصتوا } ، ثم حينئذٍ تتنزل الرحمة ، وتغشى النفوس والقلوب ، ونرى حينئذ آثار الخشوع والسكينة والتدبر والتأمل عندما نحسن هذا السماع والإصغاء .
ومن كلام وهب بن منبه - رحمه الله – قال : " من أدب الاستماع سكون الجوارح ، وغضّ البصر ، والإصغاء بالسمع ، وحضور القلب ، والعزم على العمل ، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى " .
ومن كلام سفيان الثوري رحمه الله : " أول العلم الاستماع ، ثم الفهم ، ثم الحفظ ، ثم العمل ، ثم النشر ، فما أحرانا أن نبدأ بهذا ، وهذا ليس لأحد فيه عذر ، حتى الأمّي الذي لا يقرأ عنده فرصة سانحة لينهل من هذا الكتاب العظيم المشغول الذي لا يفرغ " .(/2)
ليست له حجة عنده وقت في سيارته عنده وقت وهو مستلق على فراشه أن يستمع هذه الآيات عنده وقت ؛ لأن هذه الأسباب قد توفرت وتيسرت ، لكنها الصوارف المشغلة .. لكنها الاهتمامات المنافسة .. لكنها الدنيا التي استولت على قلوب الناس إلا من رحم الله .
الثاني: حسن النية
وقد أخرتها وحقها التقديم ؛ لننظر أنها فاعلة فيما قبلها وبعدها ، ونعني بذلك أن نقبل بصدق ، وأن نستمع وأن نتلو وأن نتعلق بالقرآن في كل أحواله ، وأحوالنا معه بنية خالصة بنية نبتغي بها وجه الله .. بنية نتلمس بها علاج أدواء قلوبنا ، وبرء علل نفوسنا ، وذلك ما نحتاج إليه .. نحتاج إلى هذه النية الخالصة حتى تتحقق لنا النتائج المثمرة ؛ فإننا نعلم أن كل أمر وعمل بلا إخلاص لا ثمرة له .
قال ابن القيم رحمه الله : " العمل بلا إخلاص كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه يحمل حملاً كثيراً لكنه تراب ليس له منه إلا ثقل الوزن دون النفع والفائدة " ، ومن هنا قال القرطبي:
" إذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه بنية صادقة ما الذي يحصل له ؟ عامله الله – سبحانه و تعالى - بما يحب الله له أفهمه كما يجب وجعل له في قلبه نورا ".
ومن كلام ابن تيمية: " من تدبر القرآن طالباً الهدى منه تبين له طريق الحق والله عز وجل قد وعد من أقبل أقبل الله عليه ومن صدق وأخلص أثاب الله عليه ومن تجرد لله عز وجل أعطاه الله عز وجل بقدر إخلاصه { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } " .
وذلك أمر نحتاج فيه إلى مجاهدة نفوسنا .
والثالث: حسن التلاوة:
{ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } .. (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم .
قال النووي رحمه الله :
" اعلم أن التلاوة أفضل الأذكار ليس هناك شيء أفضل من ذكر الله عز وجل ، وأفضل ذكر الله كلامه - سبحانه وتعالى - وتلاوة كتابه " ، فما بالنا كذلك منقطعين عن ذلك إلا نزراً يسيراً نقرؤه بلا روية ، وبلا حسن ترتيل ، وبلا استحضار معانٍ كما ينبغي أن يكون الأمر .
ولذلك قال العلماء: " المطلوب شرعاً إنما هو تحسين الصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والانقياد والطاعة " كما ذكر ذلك ابن كثير .
ومن هنا قال النووي: " الترتيل مستحب للتدبر ولغيره " ، فكم حظنا من ذلك ؟ وقد أشرنا من قبل إلى أنه ينبغي ألا ننقطع عن هذا ، وأن يكون لنا حظ من تلاوة متأنية نحيا بها ، ونحيا فيها ، ونحيا معها ، ونستعيذ الله - سبحانه وتعالى - في أولها لتنصرف عنا شرور الشياطين ، ومضلات العقول وصوارف النفوس الأهواء { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه } .
وذلك كله تهيئة للمقصد الأعظم من بعد في حسن التفكر والتدبر الذي لا يمكن أن يكون إلا بمثل هذه الأمور السابقة ، وهو أمر عظيم وخطواته كثيرة ، ونحن نشير إلى قليل حتى يكون عوناً لنا ، ونسأل الله أن لا يكون حجة علينا .
اجعل لنفسك حظاً من تلاوة على الصفة السابقة في الأوقات التي تستحضر فيها فكرك ، وتحيي فيها قلبك بعيداً عن الناس وعن دنيا الناس ، وعن شواغل وصوارخ الدنيا .
وأفضل ذلك الليل أوله أوسطه آخره .. في أي وقت منه عندما تخلد إلى بيتك وتسكن إلى راحتك وتنعزل وحدك اجعل أنيسك كتاب الله ؛ فإن هذه التلاوة أعظم ما يفيض بها على قلبك النور والهدى ، وعلى عقلك الفهم والإدراك بإذن الله سبحناه وتعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً } .
قالوا : هي أشد مواطأة بين القلب واللسان ، يتفق القلب مع اللسان ، ويندمج معه ، ويكون معه ؛ لأنه لا صوارف تصرف ولا شواغل تشغل فحينئذ يكون الأثر أعظم ، والطريق إلى التفكر والتدبر أيسر بإذنه سبحانه وتعالى ، ومدارسة جبريل - عليه السلام - لسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت في الليل وفي ليالي رمضان العظيمة .. لماذا لهذا المعنى الذي تشير إليه هذه الآيات العظيمة ؟ قال ابن حجر رحمه الله :
" المقصود من التلاوة الحضور والفهم ومظنته الليل ؛ لأن الليل مظنة ذلك لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية " وكم في هذا من أثر عظيم ! .
ثم كذلك أمر آخر الوقوف مع دلالات الآيات ، كما روى حذيفة عن سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - عندما قال : " صليت مع النبي فافتتح البقرة فاختمها ، ثم النساء فاختتمها ، ثم آل عمران واختتمها ، يقرأ مترسلاً ، إذا مر بآية فيها تسبيح سبّح ، وإذا مرّ بآية فيها سؤال سأل ، وإذا مر بآية فيها تعوذ تعوّذ " .(/3)
أحضر ذلك في نفسك ، وطبّقه عندما تتلوا ، كلما مر تسبيح سبّح .. كلما مرّ وعد اسأل الله عز وجل ؛ فإن ذلك يعين على ولوج هذه المعاني وتعلق القلب بها وحياة النفس معها وذلك ما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - كما روى ذلك كثير من أصحابه - رضوان الله عليهم -ومن المعين على ذلك استحضار أحوال النزول ، وذلك عندما نعرف بعض أسباب النزول ، ونعرف الوقائع .
ألسنا قد مر بنا كثيراً ما جاء من الآيات بشأن غزوة الأحزاب !كيف كان هذا الوصف مؤثراً لمن كان عالماً وعارفاً بهذه الأحداث وما مر فيها ؟
{ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ** هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً } .
عندما نتذكر كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربط على بطنه حجرين من شدة الجوع ، في ذلك الوقت عندما نتذكر حادثة حذيفة عندما قال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم : من يذهب ويأتي بخبر القوم وأضمن له العودة ! فلم يقم أحد من الصحابة .. عندما نعرف تلك الملابسات نعرف كم كان لهذه الآيات من عظمة ويكون لها في نفوسنا تأثير .
{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ }.
أصحاب النبي في يوم أحد وبعد أحد { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } .
وكثيرة هي الأحوال التي إذا عرفنا شيئا منها أصبح للقرآن في قلوبنا أثراً غير ما نقرأ بلا تمعن ولا فهم ولا معرفة ، ولعلنا نستعين على ذلك بأمرين اثنين أختم بهما.
أولا: استحضار عظمة المتكلم سبحانه وتعالى
فهذا كلام رب الأرباب ، وملك الملوك جبار السماوات والأرض ..خالق الخلق ، وواهب الرزق ، ليس كلاماً له مثيل في الحياة كلها ، ليس نظير فيما تسمعه وتقرؤه من كلام الدنيا وأهلها كلهم ، فإذا استحضرت ذلك كان له أثر.
ثانياً: استحضار عظمة الخطاب
إنه خطاب لك إنه كما قال الحسن :
" رأوها رسائل من ربهم كانوا يتفكرون بها ويتدبرونها بالليل وينفذونها ويعملون بها في النهار " ، نسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا حسن الفهم لكتابه ، وحسن العمل بأوامره ونواهيه ، ونسأله أن يحيي به قلوبنا ويرشد به عقولنا ويحسن به أحوالنا ، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه ، فاتقوا الله في السر والعلن واحرصوا على أداء الفرائض والسنن ، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن .
وإن ثمرة مثل هذه الخطوات نراها في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرة أصحابه ، أذكر بعضا منها في هذه الومضات.
أولها: الاستجابة الدائمة
ليست المؤقتة ولا العارضة ، ولا التي تنشأ عن تأثير محدد ، بل دائماً يكون حينئذ هذا الإنسان المؤمن قرآنياً كما كانت عائشة - رضي الله عنها - تقول : " كان خلقه القرآن " ؛ فإن هذا معروف ولكن قالت : " ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أنزل الله { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } إلا قال في صلاته سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ؛ لأنه جاءه الأمر فسبح بحمد ربك واستغفره فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته " ، وروت عائشة قالت :
كان يكثر - عليه الصلاة والسلام - أن يقول سبحان ربي العظيم سبحانك اللهم وبحمدك سبحانك ربنا وبحمدك يتأول القرآن أن يطبقه ويمتثله ويأتينا من بعد ذلك .
ثانياً: الاستحضار للاعتبار
إن هذه الخطوات تقودنا إلى هذا الاستحضار الذي يقع به الاعتبار ، ومثل ذلك في قصة أبي بكر وعمر يوم خرج هذا وخرج ذاك ما الذي أخرجكما هكذا ، قال لهما سيد الخلق عندما لقيهما قالوا أخرجنا الجوع قال : ما أخرجني إلا الذي أخرجكما .. رسول الله يخرج من بيته من شدة الجوع يلقى صاحبيه جائعين يمضي إلى رجل من الأنصار فلا يجده في بيته ، ثم يأتي الأنصاري فيفرح بهذه الغنيمة برسول الله وصاحبيه - رضوان الله عليهما - فيذبح لهم ، ويستعذب لهم الماء فيأكلون وجبة شهية هنية ، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن حيّ في قلبه : ( والله لتسألن عن نعيم هذا اليوم ) .
نعيم يوم عابر مر بعد جوع شديد ومع ذلك استحضر النبي صلى الله عليه وسلم :
{ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } .
لم تغب عنه الآيات ..لم تغب عنه ذكراها ..لم تغب عنه موعظتها ، وإن كانت الحالة عابرة فكم نحن في حاجة إلى مثل هذا إذا أخذنا بذلك والعودة بعد الغفلة .
مثلها قصة أبي بكر لما أوقف نفقته على مسطح بن أثاثة عندما تكلم في عائشة مع المتكلمين ، وخاض مع الخائضين ، فقال أبو بكر: " والله لا أنفق على مسطح شيئا أبداً " ، فتنزلت الآيات :(/4)
{ وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
قال أبو بكر: " بلى أحب أن يغفر الله " فأعاد النفقة ، وقال: " والله لا أقطعها أبداً ما حييت "
تلك القلوب العائدة .. تلك القلوب المتذكرة .. تلك الراجعة إلى الحق والآخرة .. المرتقية إلى ذرى المعالي عندما يحيا القرآن في قلوبها .
كلنا نعرف قول الحق جل وعلا :
{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } .
نقرأ الآية مراراً وتكراراً .. نرددها في صلواتنا أي شيء أحدثت في واقعنا.
أنس يروي عن أبي طلحة - وكان من أثرياء الصحابة - وكان له بستان قبالة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – اسمه [ بئر حاء ] فيه شجر كثير ، وماء عذب ، لما نزلت الآية تحركت في نفسه معانيها .. اشتاقت إلى ثوابها نفسه ، فجاء إلى رسول الله وقال : " إن أحب أموالي إلي بئر حاء وإني جعلتها لله ولرسوله فضعها يا رسول الله حيث شئت " فأثنى النبي – صلى الله عليه وسلم – عليه وقال:
( بخ بخ ذلك مال رابح ) ، ثم قال : ( أرى أن تجعلها في قرابتك ) ورواية ابن عمر قال لما نزلت هذه الآية بحثت عن أنفس شيء عندي ، فكانت له جارية رومية هي نفيسة ومحبوبة لديه ، قال فأعتقتها لوجه الله ، ولو كنت راجعا في شيء لرجعت فيها فأنكحتها نافعاً .. ذلك الذي كان يحركه إلى المعالي .
نسأل الله - عز وجل - أن يحرك قلوبنا بالقرآن ، وأن يقوي به عزائمنا ، وأن يرشد به عقولنا ، وأن يصلح به أحوالنا ، وأن يؤلف به قلوبنا ، وأن يجمع به صفوفنا ، وأن يقوي به عزائمنا .
... ...(/5)
القرآن وأعداء الأمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وبعد :ـ
إن المرجع الأساس للأمة الإسلامية في تعاملها مع البشر كافة إنما هو كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وان المنهل الذي تنهل منه أحكامها إنما هو شرع ربنا جل جلاله فإذا كان الأمر قد ورد في كتاب الله وسنة نبيه فعندها ينتفي الخيار للمؤمن ولا يصح للمسلم إلا الالتزام بما ورد؛ فقال تعالى (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )) وعلى مر الزمان والعصور ما كان المسلمون ملتزمين بهذا النهج إلا علو وارتقوا فوق كل الأمم وما زاغوا وضلوا عن هذا الصراط إلا ذلوا وانحطوا وأصبحوا في ذيل الأمم وبهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي )) والذي ينظر في أيامنا هذه إلى واقع الأمة الإسلامية يعلم يقينا أن الأمة بعيدة كل البعد عن ذلك المنهج مخالفة كل المخالفة لأمر ربها ورسولها 0
عباد الله : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة في آخر الزمان ستترك أمر ربها وستلحق بالأمم السابقة تبعا لها في أخلاقها وحضارتها واقتصادها وجميع شؤون حياتنا فقال عليه الصلاة والسلام (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه وراءهم قالوا يا رسول الله :اليهود والنصارى ؟ قال فمن إذن !)) ومن هنا يتبين لنا كيف أصبحت الأمة مقلدة لليهود وللنصارى في شتى السبل وفي كل الميادين
حتى أصبح المسلم من أصغر شؤون حياته إلى أكبرها ينظر إلى هؤلاء القوم فيحذوا حذوهم ويسير على دربهم 0
فها هي الأمة في اقتصادها تغرق بالربا الذي حرمه الله تعالى وأعلن الحرب على القائمين به ولكنها تبعية لليهود والنصارى وها هي الأمة تغرق في بحور الخمور والسفور والتبرج للمسلمات رغم تحريم شرعها لكل ذلك ولكنها تبعية الغرب حتى وصل الأمر بالبعض أنه أصبح إذا يريد حلاقة رأسه لا بد أن يتشبه بذلك الرجل الغربي ناهيك عن شربه ولبسه وأكله ونومه حتى وصل الأمر ببعض الناس إلى تقليدهم بمعاشرتهم لأزواجهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم 0
أخوة الإسلام :إن هذه التبعية للغرب والبعد عن النبع الأصيل من ديننا؛ جرأ هؤلاء الكافرين إلى التدخل في جميع شؤون حياتنا بكل وقاحة ودونما رادع يردعهم ، ولما
أصبحوا يعلمون مكمن القوة للأمة بدأوا يحاربونها في مواطن في مواطن قوتها الأصلية ، بداية من تربيتها على عقيدتها إلى التزامها بسلوكها وعاداتها0 فها هو السيد الغربي يطلق أوامره لمأجوريه في جميع أنحاء الأمة الإسلامية أن عليها تغيير مناهجها الدراسية لأن هذه المناهج لا تعجبه ولا يرى فيها التربية اللازمة لتركيع الأجيال القادمة أكثر فأكثر ، وهذا ليس غريبا علىعدو يعرف فراغ أمته وتفاهتها في مقابل أمة صاحبة رسالة, ولا بد لها أن تصحوا من جديد 0 وأخبر الله تعالى عن هذه الإرادة لهذا العدو منذ القدم فقال الله تعالى (( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء )) بل انهم لا يحبون الخير للأمة الإسلامية أبدا ويستكثرون عليها ما في أيديها من رزق الله ويحسدونها على دينها فقال تعالى (( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم )) وقال الله تعالى (( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق )).(/1)
أخوة الإسلام : ما زال هؤلاء المجرمين يضغطون ويشددون على الأمة حتى تتنازل عن أمور دينها واحدا تلو الآخر وما زال في الأمة من مرضى النفوس وضعافها من يستجيب لهؤلاء الكفرة رغبة أو رهبة حتى وصل الأمر بالمجرمين ومنافقيهم إلى الدعوة إلى توحيد الأديان والتدخل بآيات كتاب ربنا وعدد المصاحف التي يجب أن تطبع في السنة للمسلمين وتحديدها؛ وهذا أمر أخواني في الله ليس بالجديد على هذه الأمة بل أن المشركين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قد عرضوا عليه مرارا وتكرارا أن يعبدوا إلهه يوما ويعبدوا آلهتهم يوما وهي فكرة توحيد الأديان التي يدعون إليها في هذا الزمن إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما جامل أحدا في هذا الموضوع وما تنازل عن أصغر أمر من أمور العقيدة والدين حتى نزل قول الله تعالى (( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد 000)) فأين هؤلاء الذين ينطقون بلسان عدونا فيجرمون المجاهدين ويطاردون المخلصين ويضيقون على الدعاة والمصلحين أين هؤلاء من ثبات النبي صلى الله عليه وسلم في وجه المشركين وعدم تنازله عن أصغر أمور دينه لا بالترغيب ولا بالترهيب 0 ألم يقل الله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون )) ألم يسمع هؤلاء القوم إلى ما سبق من قول الله تعالى وحقيقة موقفهم منا ؟! ولماذا يصر هؤلاء على تجميل صورة عدونا في نظر الناس ,رغم أن هذا العدو يعلن عداءه للأمة دونما خجل أوعمل حساب لخاطر أحد وإن نافق المنافقون وتملق المتملقون، أم يستحي هؤلاء من موقفهم من الهوان لدرجة أن يكذبهم من ينافقون لأجله ويعلن زيف اقوالهم أمام شعوبهم بإظهاره حقيقة نواياه تجاه الأمة وتصوره لها دون مراء أو حياء.
عباد الله : إذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق يخبرنا ويعلمنا كيف التعامل مع هؤلاء الأعداء وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل رحمة للعالمين تعامل معهم وفق منهاج ربه ، أفيكون منا والعياذ بالله من هو اتقى وأحرص على الأمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! أو كما قال الله تعالى في وصف الكافرين (( قل ءأنتم أعلم أم الله )) ، وماذا بقي لأعدائنا ألا يلقوننا إياه ، إذا وصل الأمر إلى عقيدتنا وديننا وأوقات عبادتنا وتحديد كل شيء لنا في أمور ديننا أما يكفي الأمة ما تجرعت من ويلات تبيعتها لأعدائنا أما كفاها تدهور حالها وفقدانها لكل مقومات قوتها بانجرارها وراء المتربصين بها ، وواعجبا لأمة أصبح الشريف والأمين فيها منبوذا وصار الوضيع والسارق مرموق المكانة وقد أخبر الله تعالى واصفا هذا الحال المنقلب لأهل الطهارة وأهل الفجور متمثلا في قوم لوط فقال على لسانهم (( أخرجوهم من قريتكم انهم أناس يتطهرون )) ؛ وينطبق على حال الأمة في هذه الأيام قول الشاعر :-
دهرا علا قدر الوضيع به وترى الشريف يحطه شرفه
كالبحر ترسو لآلئه سفلا وتعلو فوقه جيفة
أمة الإسلام : ماذا بقي لأعدائنا أن يتركوه لنا وهاهم يصدرون الأوامر والتعليمات ويعدون القوائم بأسماء المطلوبين والإرهابيين كما يزعمون ؛ والحسرة أنه يوجد في الأمة من هو مستعد للقيام بواجبه طبعا إرضاء لهؤلاء المجرمين ؛ كما هو الحال في كل زمان ومكان ,عدو يخطط ويأمر ومأجور منافق ينفذ ويطبق ولكن الله تعالى بالمرصاد وهو وحسبنا في الكافرين وولينا على المؤمنين .
عباد الله مخطئ كل الخطأ من يظن أن عدوه يريد به خيرا أو يضمر له حسنا والله سبحانه وتعالى يخبر في كتابه عنهم بقوله (( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلوكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون )) وهم الذين قال الله تعالى عنهم (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ))(/2)
فأين أنتم يا من تعقلون ؟! هل بعد هذا البيان بيانا ؟ أي حجة للمدافعين عن نوايا أعدائنا أمام الله والناس ؟ وما هو المنطق الذي يسيّرون الأمة به ؟ إذا كان قول الله تعالى خالقهم مخالفا لهم ! ، هل أصبح قادة أعدائهم آلهة لهم يشرعون لهم ويحللون ويحرمون لهم فانطبق عليهم قول الله تعالى (( هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا )) وصدق فيهم قول الله تعالى (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما بين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم )) فاللهم لا تجعلنا ممن يصدون عنك وعن كتابك واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(/3)
القرآن يا أمة القرآن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الكريم وآله وصحبه أجمعين.. أما بعد..
فلقد أرسل الله تعالى نبينا محمد-صلى الله عليه وسلم- ليخرج الناس من غياهب الظلمات.. وأيده سبحانه بالآيات البينات والمعجزات الباهرات، وكان القرآن الكريم أعظمها قدراً، وأعلاها مكانة وفضلاً. قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله أومن أو آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أني أكثرهم تابعاً يوم القيامة) أخرجه البخاري برقم4696. إنه القرآن؛ كتاب الله ووحيه المبارك.. {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}هود:1. القرآن كلام الله المنزل، غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}الشعراء:192-194.
أحسن الكتب نظاماً، وأبلغها بياناً، وأفصحها كلاماً، وأبينها حلالاً وحراماً.{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}فصلت:42.
فيه نبأ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا.. هو الجد ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.. وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم.. هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلَق على كثرة الرد.. لا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.. {لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً}النساء:166.
أنزله الله رحمةً للعالمين، ومحجةً للسالكين، وحجةً على الخلق أجمعين، ومعجزةً باقية لسيد الأولين والآخرين. أعز الله مكانه، ورفع سلطانه، ووزن الناس بميزانه. من رفعه؛ رفعه الله، ومن وضعه؛ وضعه الله، قال -صلى الله عليه وسلم-:(إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين)رواه مسلم برقم817. إنها كرامة، وأي كرامة أن يكون بين أيدينا كتاب ربنا، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً.
حالنا مع القرآن:
من تأمل حالنا مع هذا الكتاب العظيم ليجد الفرق الشاسع والبون الواسع بين ما نحن فيه وما كان عليه سلفنا الصالح.
إهمالاً في الترتيل والتلاوة، وتكاسلاً عن الحفظ والقراءة، وغفلة عن التدبر والعمل، والأعجب من ذلك أن ترى كثيراً من المسلمين ضيعوا أوقاتهم في مطالعة الصحف والمجلات، ومشاهدة البرامج والمسلسلات، وسماع الأغاني والملهيات، ولا تجد لكتاب الله تعالى في أوقاتهم نصيباً!، ولا لروعة خطابه منهم مجيباً فأي الأمرين إليهم أحب؟! وأيهما إليهم أقرب؟!
ورسول الهدى-صلى الله عليه وسلم- يقول:(المرء مع من أحب يوم القيامة) أخرجه البخاري برقم5816. إن الكثير من الناس اليوم إذا قرؤا القرآن لم يحسنوا النطق بألفاظه، ولم يتدبروا معانيه ويفهموا مراده. فيمرون على الآيات التي طالما بكى منها الباكون، وخشع لها الخاشعون، والتي لو أنزلت على جبل{لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}الحشر:21، فلا ترق قلوبهم، ولا تخشع نفوسهم، ولا تدمع عيونهم، وصدق الله إذ يقول:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}البقرة:74. إننا - ولا حول ولا قوة إلا بالله- نمر على الآيات تلو الآيات، والعظات تلو العظات، ولا نفهم معانيها، ولا ندرك مراميها، وكأن أمرها لا يعنينا، وخطابها لا يناجينا.. فقل لي بربك ما معنى الصَّمَدُ ؟ وما المراد بـ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ؟، وما هو الْخَنَّاسِ ؟.. والواحد منا يتلو هذه الآيات في يومه وليلته أكثر من مرة..؟!
أي هجران بعد هذا الهجران، وأي خسران أعظم من هذا الخسران..؟!
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والقرآن حجة لك أو عليك) رواه مسلم برقم223.
وقال عثمان -رضي الله عنه-:"لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم".
من هم أهل القرآن؟
اسمع - رعاك الله - إلى شيء من خبر أهل القرآن وفضلهم. فلعل في ذكرهم إحياء للعزائم والهمم، وترغيباً فيما نالوه من عظيم النعم.
فأهل القرآن هم الذين جعلوا القرآن منهج حياتهم، وقيام أخلاقهم، ومصدر عزتهم واطمئنانهم، هم الذين أعطوا كتاب الله تعالى حقه.. حقه في التلاوة والحفظ، وحقه في التدبر والفهم، وحقه في الامتثال والعمل. وصفهم الله تعالى بقوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}الأنفال:2.(/1)
أنزلوا القرآن منزلته؛ فأعلى الله تعالى منزلتهم.. فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله:(إن لله تعالى أهلين من الناس، أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)رواه أحمد في مسنده وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم2165.
رفعوا القرآن وأعطوه قدره، فرفع الله قدرهم، وأكرمهم. عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إنّ من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه..) الحديث رواه أبو داود برقم4843 وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم2199. ففضلهم ليس كفضل أحد، وعزهم ليس كعز أحد، فهم أطيب الناس كلاماً، وأحسنهم مجلساً ومقاماً.. تغشى مجالسهم الرحمة، وتتنزل عليهم السكينة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)رواه مسلم برقم2699. وهم أولى الناس بالإمامة والإمارة.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة) رواه مسلم برقم 673. ولما جاءت الواهبة نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم- فجلست، قام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها، وفيه.. قال: (ماذا معك من القرآن؟) قال: معي سورة كذا وكذا، فقال: (تقرأهن عن ظهر قلبك؟) قال: نعم، فقال: (اذهب فقد ملكتها لما معك من القرآن)أخرجه البخاري برقم 1956. بل وحتى عند الدفن فلصاحب القرآن فيه شأن.. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول:(أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟)أخرجه أبو داود برقم213 وصححه الألباني. فإذا أشير إلى أحدهما قدّمه في اللحد.وهم مع ذلك في حرز من الشيطان وكيده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)رواه مسلم برقم870. وهم كذلك في مأمن من الدجال وفتنته.. فعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال )رواه مسلم برقم809.
هذا شيء من منزلتهم في دار الفناء، أما في دار البقاء فهم من أعظم الناس كرامة وأرفعهم درجة وأعلاهم مكانة.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) رواه أبو داود برقم1464وصححه الألباني في صحيح أبي دواد برقم 1300.وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حَلّهِ، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حُلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال: اقرأ وارق، ويزداد بكل آية حسنة)رواه الترمذي برقم2915 وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم8030. وهم مع هذا في موقف القيامة آمنين إذا فزع الناس، مطمئنين إذا خاف الناس، شفيعهم القرآن، وقائدهم هنالك سوره الكرام..
فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)رواه مسلم برقم804، وعن النواس بن سمعان الكلابي قال:: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران -وضرب لهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد- قال: كأنهما غمامتان أو ظلتان1 سوداوان بينهما شرق2 أو كأنهما حزقان3 من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)رواه مسلم برقم805.
فهل يا ترى يضيرهم بعد ذلك شيء..؟!
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
0000000000000
1 - الظلة : كل ما يستظل به.
2 - ضياء ونور.
3 - جماعتان(/2)
القرآن
ناصر المهدي
الرياض
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- دعوة للتدبر في قصص الصراع بين الحق والباطل قديماً. 2- نواميس الصراع كما ذكرها القرآن. 3- أحوال الكافرين حين ينتصر الإسلام. 4- الكفار يريدون استئصال الإسلام. 5- عقوبة الله القدرية تنزل بالكافرين إذا أرادوا استئصال الإسلام والمسلمين. 6- الهجمة الغربية الصليبية على الإسلام.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ونفسي ـ بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، فتقوى الله فرج ورزق، وعلم وقرب، وحسن عاقبة.
أيها المسلمون، الأمة تحتاج بشدة أن تراجع مواقفها من قرآنها فهو كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، أنزل ليُتدبر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاْلْبَابِ [ص:29]، كامل شامل وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء [النحل:89]، لكل شيئ: كل ما تحتاجه البشرية من علوم ومعارف، وبصائر و حكم، ومواقف وقوانين، ونواميس وسنن ربانية لا يحيد عنها الكون بما فيه قيد أنملة، ومن واجبنا جميعاً أن نتعرف عليها ونتدبرها، وأن نفهمها ونستفيد منها، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاْلْبَابِ [ص:29].
وبشيء من العجلة والاختصار الشديد، نمر على بعض هذه النواميس القرآنية والقوانين الإلهية، الحاكمة لحركة الكون وما فيه:
أولاً: لا يحدث شيئ في الكون كله ـ قديماً أو حديثاً أو مستقبلاً ـ صغيراً أو كبيراً إلا بقدر الله وعلمه، وحكمته وإذنه، وتدبيره وأمره، قال تعالى إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء [النمل:88]، وقال جل وعلا: مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْء [الأنعام:38].
ثانياً: خلق الله الإنسان للابتلاء، ومنحة نعمة الاختيار، ومن ثمَّ اختلف الناس إلى مؤمن وكافر، قال تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:118، 119].
ثالثاً: الصراع بين الحق والباطل قائم ومستمر، والعدوان يقع بصفة مستمرة من الباطل على الحق، وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217].
رابعاً: الحق أتباعه الأنبياء و المرسلون، والعلماء الربانيون، والدعاة المصلحون، والأتباع المخلصون، والباطل أتباعه الشيطان والجبارون، والطواغيت والمجرمون وعملاؤه المأجورون.
خامساً: هدف أهل الحق إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهدف أهل الباطل إخراج الناس من النور إلى الظلمات، قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257].
سادساً: الله جل جلاله يتولى أهل الحق وينصرهم في صراعهم مع أهل الباطل، قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
سابعاً: إذا انتصر الحق وعلا أهله، فلا إكراه في الدين، ولا استئصال للكافرين، قال تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، وقال تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [يونس:99]، وإذا كان للباطل صولة وجولة، وعلو في الأرض، فإنهم يتنادون لاستئصال الحق وأهله، وعندها ينزل عليهم عذاب يستأصلهم كلياً أو جزئياً، وسيأتي مزيد بيان لهذه السنة الربانية الهامة.(/1)
ثامناً: لليهود عُلوّان إفساديان كبيران وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً [الإسراء:4]، وقد أخبر الله عن نهاية العلو الأول بقوله تعالى: فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَالَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً [الإسراء:5]، إذن فقد تم العلو الأول وانتهى، وهم الآن ولا شك يعيشون علواً إفسادياً كبيراً، وهو الثاني والأخير، قال تعالى في آخر سورة الكهف فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء:104]، وهو ما حصل ويحصل الآن.
تاسعاً: من أشهر وأكبر وأخطر أساليب اليهود الإفسادية والتي برعوا فيها، وعلوا بسببها، إشعال الحروب بين الأمم، قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، ومن الثابت تاريخياً أن اليهود هم الذين كانوا وراء إشعال نار الحروب العالمية الأولى والثانية وما بعدها.
عاشراً: من أخص خصائص اليهود أنهم لا يقومون بأنفسهم ألبتة، بل لا بد دائما ً من اعتمادهم على غيرهم من الأمم، قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ [البقرة:61].
ومن لوازم هذا العلو الإفسادي الكبير عندهم، إقامة الهيكل المزعوم، والذي كان من المقرر له حسب خطتهم أن ينفذ عام 1997 للميلاد استعداداً للألفية السعيدة، لكن الانتفاضة الأولى التي جرت عام 1996 م أخرته قليلاً، ثم جاءت الانتفاضة الثانية المباركة، انتفاضة رجب، لتجعل اليهود في حيرة من أمرهم، وليلجئوا بعدها إلى حيلة يهودية قذرة، يصيدون بها عصافير كثيرة، هذه الحيلة هي تلك اللعبة المشهورة بين القط والفأر والكلب، وتوزيع الأدوار فيها معروف، فالفأر الخسيس هو اليهود، والقط المسكين هو العالم الإسلامي كله، والكلب الضخم المغفل هو العالم الصليبي الضال، فما على الفأر إلا أن يفتعل حركة ذكية ـ تماماً كما في أفلام الكرتون ـ ليوقع بها بين الكلب والقط، ومن ثمّ فلا مانع أن تكون هذه الحركة شديدة الإيذاء للكلب المغفل إذا كان سيتبعها استئصال القط نهائياً.
لذلك ـ أحبتي ـ ترون وتسمعون وتقرؤون عن هذه الحملة الصهيونية الإعلامية الضخمة، المدروسة المتقنة لإلصاق التهمة بالمسلمين جميعاً، ولإثارة عدوان العالم الصليبي على العالم الإسلامي كله، خصوصاً هذه البلاد المباركة حفظها الله وحماها، ووفق قادتها لما يحب ويرضى.
وعلى تقدير أن الكلب الصليبي المغفل انطلت عليه الحيلة ووقع في فخ اليهود ـ ودائماً ما يقع ـ وعزم على استئصال الإسلام والمسلمين من الأرض كلها، فإن معنى ذلك حسب سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول ولا تتخلف، أن يستأصلهم الله كما أشرت سابقاً، كلياً أو جزئياً، وهذا أوان التبيان الذي سبق أن وعدت به آنفاً، فاسمعوا وتدبروا معي هذا السياق القرآني البديع.(/2)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَىْء ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالارْضَ بِالْحقّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم:9].
هذا السياق القرآني الرائع، يتناول الفصل الأخير من قصة الصراع المتكررة، بين الحق المستضعف بقيادة الرسل وأتباعهم والباطل المستعلي المتجبر بقيادة الطواغيت وأعوانهم، وقلت سابقاً أنه عندما يكون الحق ظاهراً مستعلياً، والباطل ضعيف مقهور، فإن الله تعالى ينهى المؤمنين عن إجبار الكفار على الإيمان، ينهاهم لأنه تعالى لم يشأ أن يجعل أهل الأرض كلهم مؤمنين، أو حتى كافرين، وإنما شاء أن يكونوا مختارين، ليتحقق الابتلاء بينهم، وليستمر الصراع الذي به يتم الابتلاء، وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256]، وهذا المعنى الجليل ورد أيضاً في آخر السياق الطويل البليغ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالارْضَ بِالْحقّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم:19، 20]، أي لو شاء الله أن يجعل أهل الأرض كلهم مؤمنين فقط لفعل، ومن ثم وحسب هذه السنة الربانية الحكيمة، لا يحق لأحد الفريقين المتصارعين أن يستأصل الآخر من الأرض، بل يترك الناسُ حسب اختيارهم لأديانهم ومللهم، ولا يفهم من هذا ترك الجهاد في سبيل الله، فالجهاد إنما شرع لإزالة العوائق من أمام تبليغ دين الله، لا لفرضه بالقوة، ولا يفهم من هذا أيضاً، عدم قتل المرتد عن دين الله، لأنه قد أساء إلى جناب الدين، قبل أن يسيئ إلى نفسه بالردة، فهو كان مخيراً ألاّ يدخل في الإسلام إلا عن قناعة تامة، ومن ثمّ إذا ارتد بعد ذلك فقد أساء إلى الدين أشد الإساءة، فلذلك من بدل دينه فاقتلوه، علماً بأنه يستتاب قبلها ثلاثاً.(/3)
ونعود إلى السياق الكريم الحكيم، الذي اشتمل على قصص كل الرسل السابقين والذين كانوا على رأس قلة مؤمنة مستضعفة، وكان الطاغوت على رأس كثرة غالبة مستكبرة، فبدأً بنوح وعاد وثمود وعطف بمن بعدهم من الأمم الأقوام الذين لا يعلمهم إلا الله، هؤلاء جميعاً كانت لهم قصة واحدة، تصدق عليهم جميعاً، وعلى جميع الأمم التي من بعدهم، على الرغم من اختلاف البيئة، وتباين الشعوب، وتباعد الأزمنة والأمكنة، فتجد أن السياق الكريم يذكر حواراً موحداً بين الرسل وبين أقوامهم المستكبرين، فجميعهم فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [إبراهيم:9].
ويلحظ من الحوار إصرار الكفار على موقفهم، واعتمادهم فيما بعد على قوتهم، ويستمر الصراع ويشتد الأذى على الرسل وأتباعهم، نتيجة ميل ميزان القوى بشدة لصالح الكافرين، ولا يجد المؤمنون وسيلة إلا الصبر والتوكل على الله وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ [إبراهيم:12]، أما إذا اشتد الأذى وزاد، إلى الدرجة التي تجعل الكفار يضعون الرسل وأتباعهم بين خيارين لا ثالث لهما، إما النفي والإهلاك وإما العودة إلى دين الكفار وملتهم، وبمعنى أوضح (إما أن نكون معهم أو ضدهم) فعندها تكون نهايتهم قد حانت بإذن الله وقدرة، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [إبراهيم:13]، لنهلكن الظالمين، أي إذا نفذوا تهديدهم لنهلكنهم بعذاب استئصالي كلي أو جزيء قال تعالى عن فرعون الطاغية: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لّلأَخِرِينَ [الزخرف:54-56].
بارك الله لي ولكم في...
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وسلامٌ علىعباده الذين اصطفى، وبعد فنتابع سوياً المشهد الأخير من الصراع، والذي لم يتخلف ولا مرة واحدة عن نهاية أي صراع بين الرسل وبين أقوامهم المستكبرين، فجميع الأقوام الكافرة وبدون استثناء طلبوا أخيراً المفاصلة النهائية قال تعالى في تكملةٍ لذلك السياق البليغ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم:15]، والمعنى أن الكفار المستكبرين، المغرورين بقوتهم، قد طلبوا الفتح النهائي والشامل، وبمعنى أوضح فإنهم قد شرعوا في تنفيذ خطتهم الاستراتيجية العليا لاستئصال المؤمنين، والباطل وأهله عندما يُقدم على هذا مغروراً بقوته وجبروته، يريدون ليطفئوا نور الله، فإنهم يكونون بذلك قد تعدوا الخط الأحمر، الذي رسمه الله تعالى في حلبة الصراع بين الفريقين، وحيث إنهم لن يتوقفوا من تلقاء أنفسهم، فإن الله يوقفهم بعذاب يستأصلهم كلياً أو جزئياً.
والملاحظ أن الكفار المستفتحون، حين يعلنون الحرب النهائية على كل المؤمنين في كل الأرض، يكونون في أوج قوتهم وعظمتهم، وعلى ثقة كاملة أن خطة الاستفتاح ستنجح، فالينابيع قد جففت، والشهوات قد أججت، والشبهات قد نشرت، والأموال قد رصدت، والقوات قد حشدت، والإعلام قد أرجف وهول وطبل، والطغيان قد وصل إلى منتهاه، ويكون المؤمنون المستهدفون قلة وضعفاء، لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.
ويغلب على ظني أننا نعيش اليوم في هذه المرحلة، من الفصل الأخير من هذا الصراع الطويل المرير، وما هذه الحملة الإعلامية الصهيونية التي يشنها الإعلام الغربي المسير على المسلمين بصفة عامة ،والعرب بصفة خاصة، وأهل هذه البلاد بصفة أخص، إلا نوع من أنواع التطير قال تعالى: قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَءن ذُكّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ [يس:18، 19].(/4)
واستمعوا عباد الله لهذا السياق القرآني الرائع وكيف يبرز صلف وعنجهية الطغاة في المراحل النهائية من الصراع فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاْخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاْخَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:53-68].
عباد الله، لقد استفتح علينا الإعلام الغربي الصليبي المسير، وتطيروا بنا، وحذروا منا، وألبوا علينا، وأصبح كل مسلم ومسلمة عرضة للأذى، وصارت كل دولة تدين بالإسلام عرضة للاتهام بالإرهاب، وما أخبار إخواننا المغتربين عنكم ببعيد، لقد كشف الأعداء قناعهم المزيف، وظهر وجههم الحقيقي الكالح.
أيها الأعداء، إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:19].
أيها الكفار الأشرار، أبشروا بالحسرة والهزيمة وبئس المصير إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
حقاً يا عباد الله، لقد استفتح الأعداء، والخيبة موعود كل جبار عنيد، فأسأل الله العظيم، رب العرش الكريم أن ييسر لنا حديثاً قريباً عن هذه الخيبة وقد تحققت، بإذنه وحوله وقوته، وما ذلك على الله بعزيز، فهو القائل سبحانه: اسْتِكْبَاراً فِى الأرْضِ وَمَكْرَ السَّيّىء وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلاْوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً r وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَاكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً [فاطر:43-45]، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
عباد الله، الأمة جمعاء في أمسّ الحاجة لكي تراجع مواقفها من قرآنها، أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً [النساء:82].
ثم صلوا ـ عباد الله ـ على خير خلق الله...(/5)
القراءة الإبداعية
5/9/1426هـ 06:17 صباحا
لماذا القراءة؟ وما أهميتها بالنسبة للطالب؟
تقول الدراسات الحديثة أن نحو 70% مما يتعلمه المرء يرد إليه عن طريق القراءة.
أما الطالب، فهو يقضي معظم ساعاته في ممارسة عملية التعلم. فهو:
يحتاج إلى القراءة في تعلم جميع الموضوعات التي يدرسها.
يقدم الامتحانات التي غالبا ما تكون كتابية، أي أنها تعتمد على قدرته في القراءة والفهم ( خاصة الأسئلة الموضوعية).
يوظف مهارات القراءة في الحياة اليومية والخاصة مثل: قراءة الجرائد/ المجلات/ الأفلام المترجمة / اللافتات/ روشتة الدواء/ الفواتير/ الرسائل الخاصة/ الإعلانات والشعارات وغير ذلك.
الضعف في القراءة يؤدي إلى الضعف في الكتابة، ولكي يتقدم الطالب في عملية الكتابة عليه أن يتقن أولاً المهارات القرائية.
إذاً فالطالب يحتاج إلى تعلم مهارات القراءة من أجل توظيفها في حياته اليومية داخل المدرسة وخارجها. ... الكاتب ... المتعلم ...
...
عضو نشيط ... ...
... القراءات ... 8803 ...
... التعليقات ... 6 ...
... المشاركات ... 52 ...
... التسجيل ... 29/5/1424هـ ...
... ... ...
هل هناك مهارة واحدة فقط للقراءة؟
بمعنى، هل نقرأ كل ما تصل إليه أيدينا من المواد المكتوبة بنفس المقدار من العناية ودرجة السرعة والإتقان؟
هناك في الحقيقة مهارات متعددة للقراءة:
فقراءة الجريدة تختلف عن قراءة كتاب علمي مقررّ. وقراءة البحث تختلف عن قراءة قصة مسلية وقراءة رسالة شخصية تختلف عن قراءة قصيدة ..... وهكذا.
وما نريد أن نوصله لتلاميذنا هو:
ليست هناك مهارة واحدة فقط للقراءة، وإنما عدة مهارات أساسية.
لا تعامل كل المواد المقروءة بنفس السرعة ودرجة الإتقان.
كل ما يُقرأ يحتاج إلى تفكير قبل وأثناء وبعد القراءة . فالقراءة نفسها هي عملية تفكير.
القراءة مثل قيادة السيارة من حيث الحاجة إلى الانتباه والتركيز والتكيف في السير حسب ما يقتضيه الموقف. فالسير في شارع عريض يختلف عن السير في أزقة ضيقة.. وهكذا.
المرونة في القراءة تأتي بالتدريب على القراءة يوميا، وذلك بتوظيف جميع المهارات القرائية حسب المادة المقروءة .
فلا تستعمل قراءة الدرس كبديل لكل أنواع القراءات، فهناك:
1. قراءة الاستطلاع:
وهي بمثابة اللقاء الأول بأي كتاب أو موضوع، قبل أن يقرر الشخص ما إذا كان سيقرأه أم لا.
وبعبارة أخرى، إنها نظرة سريعة على بعض الأمور التي تلقي الضوء على محتوى المادة التي تحاول قراءتها، سواء كانت كتاباً أو موضوعاً أو مقالة أو غير ذلك. وتحدد لك مستوى المادة والأفكار التي تدور حولها تلك المادة، كالمقدمة والعرض والخلاصة، والزمن الذي كتبت فيه والمراجع التي أخذت منها بعض الأفكار والأسلوب الذي كتب به، إلى غير ذلك من الأمور.
2. القراءة العابرة أو التصفح:
وهي قراءة تصفح خفيفة سريعة، تبحث عن بعض نقاط، أو عن أفكار عامة، تكون عادة مذكورة بوضوح في المادة المقروءة، كما تكون موجزة جداً، تتمثل في كلمة أو بضع كلمات يتم العثور عليها بسهولة، كإجابات عن أسئلة من نوع: (هل؟) (من؟) (متى؟) (أين؟) ( كم؟). وتكون الإجابة عن السؤال العابر عادة قصيرة، وقد لا تتعدى كلمة أو اثنتين.
3. قراءة التفحص :
وهي قراءة متأنية نسبياَ، وتفيد عادة في تنظيم المادة. وهي تجيب عن أسئلة من نوع (لماذا؟) (وكيف؟)، إضافة إلى أسئلة القراءة العابرة.
وهي تبحث عن أفكار متفرقة يسعى القارئ إلى تجميعها. وقد يحتاج من أجل ذلك أن يقرأ المادة كلها، ولكنه يقرأها بسرعة وحرص، ماراً بالأفكار كي يجيب عن الأسئلة التي في ذهنه، وهو خلال ذلك، يتعرف على النقاط الرئيسة والحقائق والمعلومات التي تجيب عن تلك الأسئلة.
4. قراءة الدرس:
وهي قراءة متأنية دقيقة، كما أنها قراءة تأمل وتفكير. وتتطلب الأسئلة التي يجاب عنها في قراءة الدرس معلومات أكثر حرفية مما هي عليه في أنواع القراءة السريعة أو العابرة والتفحص. فالقارئ هنا يقرأ بعقل ناقد، وهو لا يكتفي بقراءة ما يرى، بل يقرأ ما بين السطور. لأن عليه أن يزن الحقائق الجديدة في ميزان خبراته الخاصة، ويتفاعل معها سلبا أو إيجابا، فتصبح بالتالي جزءاً من الخبرات الجديدة التي يضيفها إلى رصيده السابق من الخبرات. وهي التي ستساعده على التنبؤ بما سيرد من أفكار ومعلومات أثناء القراءة، فتصبح بذلك مفاتيح للفهم.
5. مهارة المجاراة ( القراءة السريعة مع الفهم السريع):
وتعني القراءة السريعة مع الفهم السريع. وهي لهذا تعتمد على المرونة، أي "القدرة على قراءة النصوص المختلفة بالسرعة الأكثر اتفاقا مع غرض ونوعية النص".
هذه المهارة ليست كالمهارات السابقة، فهي تحتاج إلى الكثير من التدريب، كما تتطلب الاستمرار في التطبيق. وحبذا لو درب المعلمون تلاميذهم عليها في المراحل الأولى بمجرد أن يتقنوا مهارات القراءة الآلية. وذلك بوضع خطة منظمة ذات أهداف واضحة تؤدي بالتالي إلى التحسن فالإتقان.(/1)
6.لكي يكون الطالب قارئا جيدا ومرناً عليه أن يتجنب المعوقات في القراءة السريعة مثل:
قراءة المادة كلمة كلمة مع أو دون تحريك الشفتين.
عودة حركة العين لما سبق وأن رأته من كلمات ومقاطع.
عدم القدرة على رؤية الكلمات التي على جانبي الكلمة التي تركز عليها العين.
كيف يوظف الطالب مهارات القراءة في جميع الموضوعات؟
هل يحتاج الطالب إلى توظيف المهارات القرائية في حصة القراءة فقط ؟
إنه يقرأ مسائل الحساب، ويقرأ التجارب في العلوم، ويقرأ كذلك كتب التربية الدينية والاجتماعيات تماما كما يقرأ التعليمات والإرشادات المتعلقة بالألعاب الرياضية والنشاط والتربية الفنية والعلوم المنزلية. وهو يقرأ أيضا أوراق العمل وأوراق الامتحانات إلى غير ذلك من الكتب والمجلات في مطالعاته الخاصة.
إذا فالطالب يحتاج إلى توظيف جميع المهارات القرائية في كل ما يقرأه، والمعلم الناجح هو الذي يساعد تلاميذه في توظيف المهارات المناسبة في الموقف المناسب.
كيف تتم عملية القراءة؟ وما أنواعها؟ وماذا يوظف منها؟
تتم عملية القراءة عموما عن طريق الإبصار إذا كانت القراءة جهرية أو صامتة، وعن طريق السماع إذا كانت القراءة سمعية. أما النوع الثالث فيتم عن طريق اللمس (طريقة بريل).
والطالب في معظم مدارسنا، يوظف نوعين من القراءة:
القراءة السمعية، وهذه تتم أثناء النقاش والاستماع.
القراءة البصرية سواء منها الجهرية أو الصامتة، أثناء القراءة للمواد التي يدرسها، وعند قراءة الأسئلة أو قراءة مواضيع التعبير أو الكلمات الصباحية أمام التلاميذ.
ما الفرق بين القراءة الجهرية والصامتة من حيث الصعوبة؟
يوظف القارئ العين والدماغ في القراءة الصامتة (5% من النشاط للعين و 95% كنشاط ذهني). بينما يضيف إلى ذلك توظيف جهاز النطق في القراءة الجهرية. ولهذا فان القراءة الجهرية هي الأكثر صعوبة وتحتاج إلى وقت أطول، لأن القارئ سيقرأ كل كلمة مع مراعاة الضوابط والوقف ونبرة الصوت وتغيره ليتواكب مع المعنى .... الخ.
ومما يجدر ذكره، أن القراءة الآلية، أي لفظ الحروف والمقاطع والكلمات والجمل والعبارات لفظا سليما مع مراعاة الضوابط والوقف والمعنى... الخ. يتوقف إتقانها مع نهاية الصف الرابع الابتدائي (10 سنوات). إلا أن بعض التلاميذ يُتقنونها قبل هذه الفترة، وبعضهم لا يتقنها إلا بعد ذلك بفترة قصيرة. وقد لا يتقنها البعض إلا بعد سنوات عدة.
والسؤال الذي يُطرح: أيهما يستعمل الطالب في حياته أكثر، القراءة الجهرية أم القراءة الصامتة الفاهمة؟
لا شك أن القراءة الصامتة الفاهمة هي التي يحتاجها الطالب والتي يستعملها طيلة حياته. وهي التي ستلازمه كطريقة للتعلم الذاتي المستقل الذي يستمر معه مدى الحياة.
كيف نشجع التلاميذ على إتقان القراءة الصامتة؟
لكي يتقن التلاميذ مهارات القراءة الصامتة التي يستخدمونها في معظم المواقف الحياتية، علينا:
أن ندربهم على مهارة الفهم، أي فهم المقروء، منذ بداية تعليمهم اللغة الفصحى في المدرسة. وأن نستفيد من البطاقات الخاطفة للتدريب على القراءة الصامتة.
أن نضع بين أيديهم مواد قرائية متنوعة للتدرب على قراءتها قراءة صامتة فاهمة، بتوظيف مختلف المهارات القرائية حسب الحاجة إليها.
أن نراقب تقدمهم في مجال الفهم السريع بالقراءة السريعة، وذلك باستعمال ساعة التوقيت. لا يكفي أن يقرأ الطالب، وإنما عليه أن يعرف مسبقا الهدف من القراءة. فإذا عرف لماذا يقرأ فهو سيعرف عندئذ ماذا يقرأ وكيف يقرأ.
يطلب بعض المعلمين من تلاميذهم أن يقرأوا مادة الدرس قائلين: افتحوا الكتاب صفحة (49) مثلا واقرأوا الدرس قراءة صامتة.
ما الخطأ الذي وقع فيه المعلم ؟
إنه لم يذكر شيئاً يدفع الطالب للقراءة ( كسؤال للبحث عن إجابته).
وهو لم يحدد وقتاً مناسباً للقراءة ( كدقيقة ونصف مثلا).
كما انه لم يخلق حافزا للقراءة عن طريق الربط بشيء سابق.
وأود هنا أن أشير إلى أمر هام. وهو أن الطالب، أي طالب، يتفاعل عادة مع الموضوع الذي يشعر أنه بحاجة إليه. أو إذا أدرك أهميته وهدفه سواء كان في الرياضيات أو اللغة أو العلوم أو الاجتماعيات... الخ.
وكلما كان الربط متينا بين المادة التي يتعلمها الطالب وحاجته، ضمن بيئته ومجتمعه، كلما سهل عليه فهمها وإدراكها.
ماذا نعني بمهارة المجاراة وضبط السرعة؟ وكيف يتدرب عليها التلاميذ؟
إنها القراءة السريعة مع الفهم السريع.
ويمكن أن يتم تدريب التلاميذ عليها خلال قراءة النصوص التي ترد في كتبهم المدرسية أو الاستعانة بنصوص خارجية. وذلك بأن يعين المعلم وقتا مناسبا للقراءة. ويوماً فيوماً ينقص المدة المقررة لقراءة نصوص مشابهة من حيث الكم والمستوى.
كما يمكن تشجيع التلاميذ بملاحظة سرعتهم وتسجيل المدة الزمنية لقراءاتهم الخارجية والعمل على إنقاص تلك المدة تدريجياً.
لا شك أن التلاميذ سيجدون متعة في ذلك، وسينجزون في فترة قصيرة ما كانوا سيحتاجون إلى إنجازه وقتا طويلا.(/2)
ولا يفوتنا هنا التركيز على الفهم، إذ لا معنى لتقليب الصفحات إن لم يقترن ذلك بفهم للمحتوى. ولنتذكر دائما أن كثيراً من الطلاب يخفقون في الإجابة عن الأسئلة الموضوعية التي يتعرضون لها، لا لعدم معرفتهم بالإجابات الصحيحة، وإنما للبطء في قراءة الأسئلة.
ماذا نعني بمهارة التخمين؟ وكيف يوظفها الطالب في قراءاته المختلفة؟
إنها العملية الذهنية التي يقوم بها الدماغ قبل قراءة النص. فقد يوحي العنوان بأفكار قد تكون في صلب الموضوع، فيخمن القارئ أو يتنبأ بما يمكن أن يرد في ذلك النص.
وهذه العملية تستمر كذلك كنشاط ذهني يمارسه القارئ خلال القراءة، فيتوقع ما سيرد من أفكار ونتائج عن طريق الربط بين الجمل.
يمكن تدريب التلاميذ على هذا النشاط الذهني أثناء أدائهم للأنشطة الصفية سواء كانت في حصة لغة عربية أو أثناء حل مسائل حسابية أو تجارب علمية.. أو وقائع تاريخية... وهكذا. المهم أن نفسح المجال للطالب ليفكر ويخمن، وبعد ذلك يقارن بين النتيجة الحقيقية وتلك التي سبق وتنبأ بها.
قد يتساءل البعض، وما الفائدة من ذلك؟
وللإجابة عن هذا السؤال نقول: ألا يكفي أن تتاح فرصة التفكير للطالب؟ أو ليس التفكير هدف عظيم بحد ذاته؟؟ ثم إن التدريب المبكر على هذه المهارة تساعد الطالب في حياته العملية في الحاضر والمستقبل، فهي أداة رائعة لقياس النتائج قبل وقوعها، فيتجنب ما هو سلبي ويقبل على ما هو إيجابي.
كيف يقيم الطالب قدرته على فهم المقروء باستعمال الأسئلة المفتاحية؟
يحتاج الطالب أولا أن يعرف الأسئلة التي يقيس بها الفهم، والأداة التي تستعمل للاستفسار عن أمر محدد: فالسؤال (بـ هل ؟) يحتاج إلى الإجابة بالنفي أو الايجاب، (من؟) للاستفسار عن الأشخاص، ( ماذا؟) للأشياء، ( أين؟) للمكان، (متى؟) للزمان، ( لماذا؟) للسبب أو المبرر و ( كيف؟) للسؤال عن الهيئة، وهو يحتاج إلى توضيح وتفسير. (وكم؟) للعدد.
هذه هي مفاتيح الأسئلة وما عداها فهي أسئلة مشتقة منها.
بعد معرفة الاستعمالات المختلفة لهذه المفاتيح، يحتاج الطالب لان يتدرب عليها. وذلك بان يضع المعلم نصا مناسباً بين أيدي التلاميذ ويطلب منهم أن يحددوا السؤال الذي ينطبق على كل إجابة يحددها هو لهم. وإذا تمكن التلاميذ من إتقان ذلك، يسهل عليهم بالتالي وضع أسئلة مشابهة لدى قراءاتهم الخاصة أو أثناء دراستهم للمواد المقررة، مما يسهل عليهم تذكر المعلومات بدلا من حفظ النصوص غيبا ( وهذا ما يحصل عادة عند كثير من التلاميذ). وكلنا نعرف أن الحفظ غيبا لا يدل على الفهم والاستيعاب.
ولو تدرب الطالب على مهارة الفهم السريع بالقراءة السريعة، وعلى الأسلوب الصحيح في الدراسة وتقييم قدراتهم على فهم المواد واستيعابها وبالتالي تذكرها، فانهم لن يلجأوا إلى الطرق الملتوية (كالغش مثلا) لدى تقديم الامتحانات، وسيدرك الطالب أن الوقت والجهد الذي بذلوه لاستعمال الأساليب الخاطئة ربما تكون أطول بكثير من الوقت الذي يحتاجونه للدراسة والفهم والاستعداد الحقيقي للامتحانات.
ماذا يكتسب الطالب من إتقانه للمهارات القرائية الأساسية؟
إن إتقان الطالب للمهارات القرائية الأساسية ليست هدفا بحد ذاته، وإنما وسيلة لأهداف هامة، فالطالب:
يكتسب عادة القراءة السريعة والفهم السريع في مطالعاته الحرة التي تستمر معه مدى الحياة.
يكتسب القدرة على التعبير بالكتابة الابداعية، وذلك بتعرفه على الأساليب المختلفة في التعبير واستعمال الألفاظ واللعب باللغة.
يكتسب القدرة على اجتياز جميع أنواع الاختبارات سواء منها الموضوعية وغير الموضوعية.
- - - - - - - انتهى - - - - - - -
أصل المقال للتربوية زينب حبش ...(/3)
القصة في كتاب الله
إعداد/ عبد الرازق السيد عيد
أصحاب السبت
(2)
الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان
الله عما يشركون، والصلاة والسلام على رسوله الكريم ونبيه الأمين محمد بن عبد
الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
أخي الكريم: هذا لقاؤنا الثاني مع قصة
أصحاب السبت، وقدمنا القصة مجملة في المقال السابق واليوم موعدنا لوقفات تأملية
نستوضح ما قد خفي من أمور، ونتأمل ما ننتفع به في مسيرتنا إلى الله، وهذا من
أَجَلِّ أهداف القصة القرآنية، ونستعين بالله ونبدأ بهذه الأسئلة والإجابة
عنها:
أولاً: هذا سؤال طرحه الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجابهم
عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا السؤال قد يخطر ببال أحدنا كما خطر ببالهم -
رضوان الله عليهم - في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير هي من نسل اليهود؟
فقال: «لا، إن الله لم يلعن قومًا قط فيمسخهم فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان
فلما غضب الله على اليهود مسخهم وجعلهم مثلهم». وفي الحديث إشارة إلى وجود
القردة والخنازير منذ بدء الخلق وقبل وجود اليهود، وجاء المسخ على صورة أشياء
موجودة في الواقع من باب التنكيل والتوبيخ.
ثانيًا: ماذا حدث للممسوخين ؟ وهل
كان لهم نسل بعد ذلك ؟
نقل ابن كثير عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
«إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجُعِلُوا قردة فُوَاقًا(1) ثم هلكوا ما كان
للمسخ نسل». وفي رواية عن الضحاك عن ابن عباس - أكثر تفصيلاً - قال: «فمسخهم
الله قردةً بمعصيتهم إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، ولم يعش مسخ قط فوق
ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل، وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر
الخلق في الستة الأيام التي ذكرها في كتابه، ومسخ هؤلاء القوم على صورة القردة
وكذلك يفعل الله بمن شاء ما شاء». اهـ.
ثالثًا: ما الذي فعله أصحاب السبت حتى
استحقوا هذه العقوبة المخزية ؟ وقد يقول قائل: معلوم أن اليهود أهل معاصٍ
وجرائم وفساد، فكم استباحوا من محرمات، وكم فعلوا من منكرات أعظم إثمًا مما
فعلوا يوم السبت، فلماذا استحقوا هذه العقوبة ؟
نقول وبأسلوب آخر: أي قدر من
وقاحة النفس، وقساوة القلب وفظاعة الذنب ذلك الذي أغضب الرب الحليم الصبور ؟
إن
المتأمل للآيات الست في سورة الأعراف والتي صاغت قصة أصحاب السبت يجدها تسجل
وتكرر على اليهود أوصاف: (الظلم، والتبديل، والاعتداء، والفسق، والتناسي،
والاستهانة بالحق، والاستخفاف بنذر العذاب الشديد).
رابعًا: يجيبنا الإمام ابن
القيم رحمه الله فيقول: «ولكن لما استحلوا محارم الله بأدنى الحيل، وتلاعبوا
بدينه وخادعوه مخادعة الصبيان ومسخوا دينه بالاحتيال مسخهم الله تعالى
قردة».
ويقول رحمه الله في موضع آخر: «وكذلك الحيل نوعان: نوع يتوصل به إلى فعل
ما أمر الله تعالى وترك ما نهى عنه، وتخليص المظلوم من يد الظالم فهذا النوع
محمود يُثاب فاعله، ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم
ظالمًا، والظالم مظلومًا، والحق باطلاً والباطل حقًا، فهذا الذي اتفق السلف على
ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، ثم قال: إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من
اليهود بمسخهم قردة لما تحايلوا على إباحة ما حرّم الله تعالى عليهم من الصيد
في يوم السبت بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة فلما وقع فيها الصيد أخذوه يوم
الأحد»، ثم يواصل فيقول رحمه الله: «قال بعض الأئمة: ففي هذا زجر عظيم لمن
يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية ممن يتلبس بالفقه وعلومه وهو غير فقيه، إذ
الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حُرماته والوقوف عندها».
اهـ.
خامسًا: يتضح مما تقدم أن أصحاب السبت بما فعلوه من إثم يبدو في ظاهره
صغيرًا وهو عند الله عظيم؛ لأنهم بذلك وقعوا في الظلم فقد ظلموا أنفسهم بارتكاب
ما حرَّم الله والاعتداء على حدوده - سبحانه - والخروج عن شريعته والتهاون
بأحكامه وحدوده والجهل الشنيع بأسماء الله وصفاته، والكذب وتغيير الحق أو
كتمانه، فكان الجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحدًا. وفي ذلك تحذير لمن يسمع
ويرى، هذه عقوبتهم في الدنيا، وفي الآخرة يقال لهم ولأضرابهم: وذلكم
ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من
الخاسرين (23) فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن
يستعتبوا فما هم من المعتبين[فصلت: 23، 24].
سادسًا: فوائد
في سطور:
1- الحذر الحذر من الاستخفاف بشيء من شريعة الله فذلك هو الهلاك.
2-
النجاة النجاة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- من أمرته بالمعروف فلم
يأتمر، ونهيته عن المنكر فلم ينته وجب اعتزاله.
4- الساكتون عن الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر مع قدرتهم على خطر عظيم.
5- ليحذر أهل الفقه من مداهنة أهل
المعصية بأي صورة من الصور.
6- من استخدم الحيلة في تحليل ما حرَّم الله أو(/1)
تحريم ما أحل الله فهو جاهل بأسماء الله وصفاته لا يرجو لله وقارًا.
7- من
تعاطى شيئًا من الفقه فليتق الله حين يُسأل عن أحكام الدين.
8- أصل فساد الدين
من طريقين: 1- الابتداع في الدين. 2- اتباع الهوى.
يقول ابن القيم رحمه الله:
«وهذان هما أصل كل شرٍّ وبلاء، وبهما كُذِّبَت الرسلُ وعُصي الربُّ - سبحانه -
ودُخلت النار، وحلّت العقوبات». اهـ.
9- الجزاء من جنس العمل ولا يظلم ربك
أحدًا.
هذا، وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما تقدم، وإلى لقاء جديد، أستودعكم
الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1) أي قدر الفُوَاق: وهو ما بين
الحليتين.(/2)
القصة في كتاب الله
بنو إسرائيل من بعد سليمان عليه السلام
الحمد لله مالك الملك يؤتي الملك من
يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل
شيء قدير، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه من الأنبياء
والمرسلين، أما بعد:
فقد تقدِّم بنا الحديث عن ملك بني إسرائيل في عهد النبيين
الكريمين داود وسليمان عليهما السلام، ورأينا كيف مكَّن الله لهم واتسع الملك
وازداد رخاءًا واستقرارًا في مدِّة حكم سليمان ونبوته التي امتدت قرابة عشرين
عامًا، لكن ماذا حدث بعد موت سليمان عليه السلام ؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه
من خلال دراستنا لآيات سورة الإسراء التي يقول الله سبحانه فيها: وقضينا
إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض
مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4) فإذا جاء وعد
أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد
فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا (5) ثم رددنا
لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين
وجعلناكم أكثر نفيرا (6) إن أحسنتم أحسنتم
لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة
ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول
مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا (7) عسى ربكم أن
يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين
حصيرا [الإسراء: 4- 8]، وسننظر في الآيات السابقة على النحو التالي:
أولاً:
معاني بعض المفردات:
1- «قضينا»: أخبرنا.
2- «الكتاب»: التوراة.
3- «الأرض»:
بيت المقدس وما حوله من أرض فلسطين.
4- «جاسوا» الجوس: الطواف بالليل والطلب مع
الاستقصاء.
5- «تتبيرا»: هلاكًا وتدميرًا.
6- «البأس» القوة والشدّة.
ثانيًا: نظرة في كتب التفسير، وهنا أحب أن أشير إلى أن المفسرين اختلفوا سلفًا وخلفًا
في تعيين العباد المُسلطين على بني إسرائيل، ولكنهم اتفقوا على كونهم من
الكفار، وكون ذلك كان قبل الإسلام، ولعل اختلاف المفسرين كان بسبب اختلاف
الدولة اليهودية وانقسامها إلى قسمين بعد موت سليمان عليه السلام، وسننظر في
أقوالهم نظرة هامة شاملة مختصرة في البيان التالي:
1- أَخْبَرْنَا بني إسرائيل
في التوراة التي أُنزلت عليهم بأنه لا بد أن يقع منهم إفساد مرتين في «بيت
المقدس» وما حوله، وسيكون إفسادهم بالمعاصي والظلم وقتل الأنبياء والعلماء
والتكبر والطغيان والعدوان.
2- فإذا وقع منهم الإفساد الأول سَلَّطْنَا عليهم
عبادًا لنا ذوي شجاعة وقوة، قيل (سنمارين) الفارسي وقيل (بختنصر) البابلي طافوا
بين ديار بني إسرائيل إهلاكًا وتدميرًا.
3- ثم رددنا لكم - يا بني إسرائيل -
الغلبة والظهور على أعدائكم، وأكثرنا أرزاقكم وأولادكم وقويناكم وجعلناكم أكثر
عددًا، وذلك بسبب إحسانكم وخضوعكم لله، وقيل ذلك كان بقيادة (العزير)، ولكنهم
عادوا إلى الإفساد فعاد التسليط عليهم.
4- فإذا حان موعد الإفساد الثاني والذي
سمَّاه القرآن «وعد الآخرة» سلَّط الله عليهم مرَّة أخرى، وكان هذا الإفساد
الثاني بأمور بلغ قمتها قتل يحيى وزكريا (عليهما السلام)، ومحاولة قتل عيسى
عليه السلام، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم
[النساء: 157]، وهنا سلَّط عليهم الله الرومان بقيادة هادريان ومن بعده...
فساموهم سوء العذاب ودمروا كل شيء وأخرجوهم من ديارهم وشتتوهم في أنحاء
الأرض.
5- وإن عدتم عدنا لم يتوقف اليهود عن الإفساد، فهو يسري في
نفوسهم سريان الدَّم في العروق وتنتشر سمومهم انتشار النار في الهشيم في كل
مكان ذهبوا إليه، وقد سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب في كل مرة، ففي
جزيرة العرب أفسدوا فسلط الله عليهم الرسول الكريم محمدًا صلى الله عليه وسلم ومن معه من
المسلمين حتى الملائكة حاربوا مع المسلمين ضد اليهود وأُخرجوا من جزيرة
العرب.
وفي أوربا سلط الله عليهم هتلر وغيره، وها هم اليوم يعودون للإفساد مرة
أخرى في أرض فلسطين، وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب تصديقًا لوعد
الله القاطع، وفاقًا لسنته التي لا تتخلف ولا تتبدل.
والحقيقة التي يجب أن
نعيها أننا نتعامل مع سنن الله الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل ولا تحابي
أحدًا: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم
فلها، وإن عدتم عدنا وهذا الكلام ليس لليهود فحسب، بل هو قانون
رباني عام لجميع الخلق، والله سبحانه عندما يقص علينا من أخبار السابقين إنما
يريد منا أن نعتبر بها ونتعلم منها الدروس والعبر التي تنفع الأمة في مسيرتها
أفرادًا وجماعات.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: وفي هذه الآيات التحذير لهذه
الأمة من العمل بالمعاصي لئلا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل، فسنَّة الله واحدة
لا تتغير، ومن نظر إلى تسليط الكفرة والظلمة على المسلمين، عرف أن ذلك بسبب
ذنوبهم، عقوبة لهم وأنهم إذا أقاموا كتاب الله وسنة رسوله مكَّن لهم في الأرض،
ونصرهم على أعدائهم. اهـ.
هذا، ولنا نظرة أخرى مع المؤرخين لا يتسع لها المجال
في هذا العدد، ونتبعها بالفوائد والدروس، فإلى ذلك نستودعكم الله الذي لا تضيع(/1)
ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/2)
القضاء في الإسلام
24 / 10 / 1426هـ
للشيخ / محمد صالح المنجد
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد.
فإن الله سبحانه وتعالى حكم بإقامة الحق بين العباد، وجعل الحكم بينهم أرفع الأشياء، وأجلها خطر، وأستخلف الخلفاء في الأرض، ليقيموا حكمه، وينصف عباده، ويقوموا بأمره، قال الله تعالى: { يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب }، فجعل الله سبحانه وتعالى الحكام بين الناس ليحكموا بالحق، ويقضوا بشرعه عزوجل، وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما }، فلم يفوض إليه الأمر بل قال لتحكم بما أراك الله وليس بما رأيت أنت، { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فأحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق }، وقال تعالى: { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به }، ومعلوم أنه تقع بين البشر اعتداءات وخصومات، ولا بد أن يكون هناك من يفصل بينهم بالعدل، وإلا ضاعت الحقوق وكثرت الاعتداءات، وعمت الفوضى وانتشر الظلم، ولما كان إقامة العدل بهذه المنزلة العظيمة واحتياج البشر إليه الشديد، جعل من أوائل وظائف الإمام أن ينصب القضاة ليحكموا بين الناس، فالإمامة، والخلافة، والإمارة، ورئاسة المسلمين، من وظائفها إذن الكثيرة نصب القضاة وتعيينهم ليحكموا بالعدل والإحسان، { إن الله يأمر بالعدل والإحسان }، { إن الله يأمركم أن تأدوا الأمانات إلى أهليها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل }، نزلت في القضاة الذين يحكمون يبن الناس، فصل الحكومات بينهم هذه المسألة العظيمة، والقضية الكبيرة، لإقامة العدل فلا شك في أهميتها في كل زمان ومكان، والقاضي غير المفتي، وهناك فروق بينهما فحكم القاضي ملزم ويرفع الخلاف، والعلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء قضاة أقوامهم وحكماء دولهم، بهم تزهوا الشعوب وينتشر الخير ويعم الرخاء.
وقد جاء ذكر مشروعية القضاء في الكتاب العزيز في قوله تعالى: { يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى }، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا حكم الحاكم فأجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم وأجتهد ثم أخطأ فله أجر "، وهذا إذا كان من أهل الاجتهاد إذا كان القاضي يحكم في مسألة من مسائل الاجتهاد وهو أهل للاجتهاد فإنه يؤجر في الحالين.(/1)
وقد تولى النبي صلى الله عليه وسلم القضاء فحكم بين المتخاصمين وفصل في القضايا التي وردت عليه، وبعث علياً إلى اليمن قاضياً وبعث معاذاً قاضياً فهكذا تولى بنفسه عليه الصلاة والسلام هذه المهمة ورتب لها من أصحابه الفقهاء العلماء من يصلح للنظر في القضايا بين الناس، والقضاء من فروض الكفاية فإذا وجد في المسلمين حاجة إليه ولم يقوموا به أثموا جميعاً، وإذا امتنعوا كل الصالحين عنه أثموا جميعاً قال أبن قدامه رحمه الله: ( القضاء من فروض الكفايات لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه فكان واجباً عليهم كالجهاد والإمامة )، قال أحمد رحمه الله: ( لا بد للناس من حاكم يعني قاض يحكم بينهم أتذهب حقوق الناس وقد قال سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط }، فلا بد أن يوفر للناس العدد الكافي ليقضي هؤلاء بينهم، فإذا لم يوفروا ذلك فالأمة آثمة من أولهم إلى أخرهم، ممن يقدر على توفير هؤلاء للأمة فلم يوفر، وكذلك فإن وظيفة القاضي عظيمة فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحكم وبيان حكم الله ورسوله في المسألة ونصرة المظلوم وأداء الحق ورد الظالم عن ظلمه، والإصلاح بين الناس، وتخليص قضايا بعضهم من بعض وقطع منازعات التي هي مادة الشر والفساد، وكذلك المحافظة على الأموال الضائعة، وعلى حقوق أربابها الذين ربما كانوا صغاراً ضياعاً أو كانوا مما لا يحسنون القيام عليها لسفه ونحوه،، ولذلك فإن الوظائف المناطة بالقاضي عظيمة كثيرة متنوعة جداً هذا عمل الرسل، { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم }، غنم اجتاحت بستاناً اجتاحت مزرعة فأفسدت فيها فما هو الحكم على صاحب الغنم؟ { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت } عاثت فيه فساداً { غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان }، يأخذوا صاحب المزرعة الغنم فيستفيد منها سنة، ويأخذ صاحب الغنم المزرعة ليعيدها كما كانت فإذا أعادها كما كانت ردها لصاحبها وأخذ غنمه، وفي شرعنا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن على أصحاب البساتين أن يحفظوها بالنهار فإذا اجتاحتها غنم فهم المفرطون، وعلى أصحاب الغنم أن يحفظوها بالليل فإذا اجتاحت مزرعة فأصحاب الغنم هم المفرطون، وقال تعالى: { وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلاً أتينا حكماً وعلماً }، ويجب على الإمام أن ينصب القضاة في البلدان لأنه المستخلف على الأمة والقائمة بأمرها، وهذا القضاء يجب على الشخص إذا تعين له ولا يوجد من يصلح له غيره ويكره إذا كان صالحاً مع وجود من هو أصلح منه، لأن عليه أن يفسح المجال لهم، ويحرم إذا كان عاجزاً غير منصف يعلم نفسه ضعيفاً يميل مع الهوى ويخير بين قبوله ورفضه إذا أستوي هو وغيره في الصلاحية والقيام به.(/2)
سئل مالك رحمه الله أيجبر الرجل على ولاية القضاء؟ قال: نعم،، إذا لم يوجد منه عوض. قيل له: بالضرب والحبس؟ قال: نعم، ولذلك ضُرِبَ بعض الكبار من هذه الأمة وحبسوا ليقبلوا القضاء، لأنهم من ورعهم رفضوه في البداية. ويحرم على الشخص أن يتولى القضاء إذا كان جاهلاً ليس بأهل لذلك، أو كان متلبساً بما يوجب فسقه، أو كان يقصد الانتقام من أعدائه، أو كان يريد أن يجعل من القضاء سلماً لتحصيل الرشوة وأكل المال الحرام، وقد كان من الخليفة الراشد عمر أن كتب إلى عماله استعملوا على صالحيكم القضاء وكفوهم، أي: أجروا عليهم من بيت المال رزقاً يكفيهم بحيث لا يكون له همٌ أو ميل أو رغبة أو استدراج للوقوع في الرشوة، هذا إذا كان أصلاً ممن يخاف الله تعالى والقاضي في اختصام الناس وشقاقهم يلي أمراً عظيماً، لأن إزالة الخصومة بين الناس من أعظم الأمور التي جاءت بها الشريعة، لأن بقاء الخصومات يؤدي إلى الاقتتال، والتناحر، وانفراط عقد المجتمع. " والقضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في حكمه فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" رواه أبو داوود. فإذن،، الرجل الذي عرف الحق فقضى به في الجنة، والذي عرف الحق فجار وظلم فهو في النار، والذي قضى على جهل فهو في النار، وهذا القضاء من أشد الوظائف خطورة لأنه يشتمل على إفتاء فإن القاضي في الحقيقة يفتي للناس ويحكم بينهم، وكذلك فإن عليه إقامة العدل فالكل لديه سواسية لا فرق بين كبير، ولا صغير، ولا ذكر، ولا أنثى، ولا وضيع، ولا رفيع في مجلس الحكم، فالكل عنده يجب أن يكون سواء، { وإن حكمت فأحكم بينهم بالقسط }، { ولم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }، { ولم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون }، إذا جار لهوى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون }، إذا عدل عن الحق لرشوة ونحوها، { فأحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق }، من سأل القضاء يجب أن لا يولاه، ومن استعان بالشفعاء للوصول إلى القضاء يجب أن يحال بينه وبينه، لقد ذكر العلماء للقضاة شروطاً عظيمةً ومن ذلك العفة فإنهم يقضون في الفروج، وكذلك في الدماء، وكذلك تحضر عندهم من النسوة وأعراض المسلمين، والقضاء بين الناس عمل جليل فإذا نوى به وجه الله وكان أهلاً له فأجره كبير عظيم، وله عند الله تعالى المثوبة الكبيرة لأنه يقطع الخصومات ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويرفع التهارج وينصر المظلوم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( المقصود من القضاء وصول الحقوق إلى أهلها وقطع المخاصمة فوصول الحقوق هو المصلحة وقطع المخاصمة إزالة المفسدة )، هكذا يلخص رحمه الله وظيفة القاضي وصول الحقوق إلى أهلها وقطع المخاصمة، فالمقصود هو: جلب تلك المصلحة وإزالة هذه المفسدة ووصول الحقوق هو العدل الذي تقوم به السماء والأرض، وقطع الخصومة: هو من باب دفع الظلم والضرر، هذا القضاء أمر لازم لقيام الأمم، هذا القضاء فيه القضاء على أيدي العابثين وأهل الفساد كي يسود الإسلام والشرع وتنهض البلدان ويتحقق العمران، ولذلك كانت المكانة عظيمة وكانت التعدي على القاضي من أخطر الأشياء، وإنما جاءت نصوص العلماء في حفظ هيبة القاضي لأنه من حفظ هيبة الشرع، فإذا أزيلت هيبة القاضي زالت هيبة الشرع، وزالت هيبة القانون الإلهي الذي أنزله الله ليحكم بين الناس، فلا بد من توقير القاضي واحترامه، ولا بد أن يكون له من الهيبة ما يقع في النفوس ليمضي الحكم، ولا يأتي المعترضون أو هؤلاء المعتدون، ولذلك كفلت الشريعة له حقوقاً عظيمةً، وأسس النبي صلى الله عليه وسلم أصول القضاء على ما أوحى الله إليه والأصل في الحكم والمرجع في القضاء للشريعة الإسلامية، فإذن الشريعة الإسلامية هي القانون الوحيد الذي يحكم بين الناس، ولذلك فإن الدساتير الجاهلية الكفرية تقول: الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر الحكم، وبعضهم يقول: المصدر الرئيس، يعني: أن هناك مصادر أخرى،، ومن أعتقد أنه يجوز أنه يكون هناك مصادر أخرى للقانون والأحكام غير الشريعة الإسلامية قد كفر بالله العظيم، وخرج عن ملة الإسلام، ولذلك فإنه لا يجوز أن يقال الشريعة المصدر الأساسي أو المصدر الأول أو مصدر من المصادر، كله كفر، وإنما الشريعة هي المصدر الوحيد للحكم ولذلك إذا لم يجد القاضي في الكتاب والسنة حكماً مباشراً فإنه يأخذ من أحكام العلماء المجتهدين أو يجتهد بنفسه إن كان مؤهلاً للاجتهاد، والحكم بين الناس مبناه على إقامة العدل والقسط من غير حيث ولا ميل ولا هوى، والتحاكم بين الناس واجب إلى شرع الله دون غيره من أحكام الطواغيت، قال تعالى: { ألم ترى إلى الذين يزعمون أنهم أمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به }، فالطاغوت كل حكم سوى حكم الله ورسوله، وكل مرجع سوى(/3)
القرآن والسنة، { ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً }.
ومن علامات المنافقين أنهم يكرهون القضاة الشرعيين، ويكرهون القضاء الشرعي ويزعمون أنه ناقص، وأنه لا يفي بحاجات العباد، وأنه لا بد من إضافة مواد وقوانين غير التي في الشريعة لتكتمل الآلة الحكمية بين الناس بزعمهم، ولذلك وصفهم الله بالأوصاف الواضحة في هذا، { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدود } وقال تعالى: { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، يعني: تلفيقاً بين شرع الله ودساتير البشر وتوفيقاً يوفقون بزعمهم بين الإسلام والكفر، { أولئك الذين يعلمون الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا }، وهؤلاء المنافقون قال تعالى عنهم: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } ، { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين }، إذن إذا كان الحق لهم بحسب القضاء الشرعي جاءوا مسرعين طائعين، وإذا كان الحق لغيرهم والقضاء عليهم اعترضوا وتمردوا، { أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون } ، { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أي يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } ولا بد من التسليم لحكم الله والرضا به والانقياد للحكم الشرعي ولو كان عليه، ولو كان هو الذي سيدفع، ولو كان هو الذي سيعوض { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجيدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً }، فلا بد أن يكون التسليم والإذعان باللسان والقلب والنفس مطمئنة لحكم الشرعي، هذا الحكم والقضاء في سائر الخصومات والمنازعات يقع من القاضي على حسب الظاهر له، لأن الباطل لا يعلمه إلا الله، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ترفعون قضاياكم إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته ممن بعض" فهو فصيح وهو ظالم، وخصمه صاحب الحق عيين لا يحسن التعبير، وذاك يعرض حجته أو يستعمل محامياً ماهراً صاحب لسان وأسلوب وتعبير وحشد للحجج ولو كانت باطلة، " ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته ممن بعض فأقضي على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار". رواه البخاري ومسلم.
وهذا يدل على أن حكم القاضي بالظاهر لا يحلل حراماً في الباطل ولا يحرم حلالاً في الباطل، وأن الذي أكل الحق إذا لم يكن لصاحبه بينه صاحب الحق ليس له بينه فحكم القاضي للآخر فإن حكم القاضي لا يجعل هذا المال حلالاً زلالاً هنيئاً مريئاً لهذا الغاصب وإنما يبقى قطعة من النار، وقد تولى كبار الصحابة القضاء معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب وقال علي رضي الله عنه، بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً، فقلت: يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء وهذا من تواضعه رضي الله عنه، فقال: " إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء "، قال علي رضي الله عنه: فما زلت قاضياً أو ما شككت في قضاء بعد ". رواه أبو داوود وهو حديث صحيح. لقد كان عهد الخلافة الراشدة متميزاً عظيماً، لأن الخلفاء على علم ونصب القضاة بالعلم، فكانت أمور الناس مستقيمة وكانت السعادة الغامرة، والعدل منتشراً، وقد ولى عمر أبا الدرداء قضاء المدينة، وشريحاً قضاء البصرة، وأبا موسى الأشعري قضاء الكوفة، وكان شريح ابن الحارث من أشهر قضاة المسلمين جاء بغزارة علمه وسعة إطلاعه وطول مدته في القضاء، وخبرته العظيمة فكان مثالاً للقضاة، ولي القضاء لعمر وعثمان وعلي ومعاوية ولم يترك القضاء إلى في أيام الحجاج.(/4)
حدث الشعبي قال: شهدت شريحاً وقد جاءتهم امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينيها فبكت، فقلت: يا أبا أمية ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة، فقال: يا شعبي إن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاءً يبكون، ومن القضاة المشهورين في تاريخ الإسلامي إياس بن معاوية، أستودع رجلاً من أمناء إياس مالاً وكان أميناً لا بأس به وخرج إلى مكة، فلما رجع صاحب المال الذي أودعه طلبه من الذي أودعه عنده فجحده، فأتى إياساً فأخبره بما حصل من الجحد، فقال له إياس: أعلم أنك أتيتني قال: لا، قال: فنازعته عند أحد؟ قال: لا، لم يعلم أحد بهذا. قال: فأنصرف وأكتم أمرك ثم عد إلي بعد يومين، فمضى الرجل فدعا إياس ذلك المستودع عنده فقال له: قد حضر عندي مال كثير أريد أن أسلمه إليك أفحصين منزلك؟، أريد أن أودع عندك المال الكثير أفحصين منزلك، قال: نعم، قال: فأعد موضع للمال وقوماً يحملونه وعاد الأول إلى إياس، فقال: أنطلق إلى صاحبك الآن فأطلب المال، فإن أعطاك فذاك وإن جحدك! فقل له: إن أخبر القاضي، فأتى الرجل صاحبه فقال: مالي وإلا أتيت القاضي وشكوت إليه وأخبرته بما جرى، فدفع إليه ماله وطلب منه أن لا يخبر أحداً، فرجع الرجل إلى إياس، قال: قد أعطاني المال، وجاء ذلك الذي أعد البيت والعمال فزبره إياس وأنتهره وقال: لا تقربني يا خائن.
وجاءه رجل يطلب مال من رجل فجحده الثاني فقال الطالب: إني دفعت المال إليه، قال: من حضر؟، دفعت في مكان كذا وكذا ولم يحضرنا أحد، قال: فأي شيء في ذلك الموضع؟، قال: شجرة، قال: فأنطلق إلى ذلك الموضع وأنظر الشجرة فلعل الله يوضح لك هناك ما يتبين به حقك، لعلك دفنت مالاً عند الشجرة ونسيت فتتذكر إذا رأيت الشجرة، فلما مضى الرجل، قال إياس لخصمه المنكر: أجلس حتى يرجع خصمك، فجلس وإياس يقضي بين المختصمين الجدد، وينظر إليه ساعة ثم يقضي، ثم ينظر إليه ثم قال له فجأة: هل ترى أن صاحبك بلغ موضع الشجرة؟، قال: لا، قال: يا عدوا الله إنك لخائن، لأنه كان قد أنكر قبل قليل أنه أخذ شيئاً لا عند الشجرة ولا عند غيرها، ولكن أخذه إياس على حين غفلة، قال: بلغ صاحبك الشجرة؟ قال: لا، قال: يا عدوا الله إنك لخائن، قال: أقلني أقالك الله، فأمر من يحتفظ به حتى جاء الرجل، فقال له إياس: قد أقر لك بحقك فخذه؟
وهكذا كان القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، وكان للقاضي هيبته وكانت الأحكام تجري بين المسلمين على وفق الكتاب والسنة، واجتهاد القضاة، ولم يكن هناك من يشوش، ويخالف، ويثير الشبهات، حتى نبتت من نابتات المنافقين في هذه الأمة، فشغبوا على حكم الكتاب والسنة، وقالوا: قاصر، وقالوا: لا يكفي، وقالوا ما قالوا بشأن الحدود وطعنوا في أحكام الشريعة، وأن الحدود وحشية، وبعضها غير مناسب، ونحو ذلك من الأشياء.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد كيدهم في نحورهم، وأن يعز الدين وأهله، وأن يعز القضاء وأحكام الشريعة، وأن يجعل لواء العدل في هذه الأحكام بين الناس منشورة، وأن يجعلنا من الراضين بحكمه وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن نكون ممن يسلموا تسليماً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الحمد لله، أشهد ألا إله إلا الله، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وأشهد أن محمداً عبد الله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك محمد إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، والشافع المشفع يوم الدين، وحامل لواء الحمد في الآخرة، وصاحب المقام المحمود، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.(/5)
عباد الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم مبينا خطر هذا المنصب: " من ولي القضاء أو جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين "، ومعنى ذلك: أن دينه على هلاك إذا لم يعدل، والذبح بالسكين فيه راحة للمذبوح وبغير السكين الألم العظيم، فذكر القضاة بالعدل فإذا عدل القاضي عن الشرع ودخلت المحسوبيات، ودخلت الشفاعات الظالمة، والواسطات، ودخلت الرشاوى، فلا شك ولا ريب بأن ذلك منذر بهلاكه، لأن " من أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع" ، " ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله " ، وفي المقابل فإنه إذا حكم بالحق فهو مأجور على أجرين أو أجر بحسب حاله، قال ابن عبدون رحمه الله: ( منزلة القاضي تأتي بعد منزلة النبوة ) فهي مسؤولية ضخمة وشاقة، ولهذا كان لا بد من اختيارهم بالشروط الشرعية، أن يكون عدلاً قائماً بالفرائض الشرعية، صادقاً ظاهر الأمانة عفيفاً عن المحارم متوقياً للمآثم مستعملاً للمروءة، وثانياً الأهلية الاستنباط الأحكام من مصادر التشريع، قادراً على الاجتهاد فهو يدرس القضايا ويتأمل فيها، فإذا كانت مبنية على أدلة ظاهرة واضحة حكم بها، وإذا كانت المسألة فيها خفاء تروى ونظر وقارن وتدبر ونظر في أحكام الحكام المسلمين من قبله، فاستفاد من أحكام القضاة الشرعيين الآخرين، وينبغي أن يتخذ عنده من أهل العلم والفضل من يستشيرهم، وكان عمر يستشير كبار الصحابة وعلماءهم، وكان يستشير كذلك من نبغ من صغارهم، فعنده علي من جهة، وابن عباس من جهة أيضاً، وكذلك يسن له أن يأخذ نفسه وأعوانه بالآداب والقواعد، وأن يكون قوياً من غير عنف، ليناً من غير ضعف، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأن يكون حليماً متأنياً ذا فطنة وتيقظ لا يؤتى من غفلة، ولا يخدع لغره، عفيفاً ورع نزيهاً بعيداً عن الطمع، ذا رأي ومشورة، وأن لا يكون جباراً، ولا عسوفة، قال علي رضي الله عنه: ( لا ينبغي أن يكون القاضي قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، ولا يخاف في الله لومة لائم ) ولما دخل التقصير في الأمة، أيها الأخوة وعما الضعف فيها ضعفت من جميع النواحي، والقضاء ناحية من النواحي، ففي بعض البلدان لا تعرف الشريعة، وفي بعضها تعرف الشرعية في الأحوال الشخصية فقط، في حدود المواريث، والنكاح، والطلاق، والخلع، ونحو ذلك،، وفي بعضها تم الاعتداء على أجزاء من الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية، فجعل فيها في أبواب الطلاق والخلع مسايرة للكفار واستجابة لضغوطهم، ما هو مخالف لأحكام الشريعة، فحتى قانون الأحوال الشخصية لم يسلم من الاعتداءات،، وهكذا لا يزال الكفار يضغطون، ويقولون: هذه الشريعة لا تفي ولا تكفي ولا بد من كذا وكذا، ولا بد من إقامة هيئات أخرى غير الهيئات الشرعية، مع أن الهيئات الشرعية لو أقيمت على الشرع والكفاية لحصل الخير العظيم، فأحكام الشريعة تتسع وتكفي لتغطية القضايا في أمور المنازعات التجارية، وفي أمور المرور والحوادث، وفي سائر الأنحاء في الحياة البشرية، لأن هذه الشريعة شاملة كاملة صالحة لكل زمان، ولكن لا بد أن يوجد في رجال الإسلام من يبرز هذه الخصائص للشريعة، وأن يبين كيف تتسع لجميع القضايا، فالعجز ليس في الشرعية، وإنما في هؤلاء المسلمين الذين يرفض بعضهم، مثل هذا فليسوا بمسلمين، وفي أبناء المسلمين الذين يرون إعجاباً بالكفرة أن قوانينهم أسد وأبلغ وأمنع، ومعلوم ما يوجد عندهم من الظلم، فترى بعض قوانينهم الآن إذا قتل الرجل زوجته يحكم عليه بالسجن أشهر مع وقف التنفيذ، وفي بضعها في الناحية المقابلة ظلم بحكم أشد مما يجب شرعاً، وقوانينهم مخترقة بهؤلاء المحامين الذين عندهم جيوش جرارة من المستشارين، ويبنون أحكامهم بفذلكات ودفاعاتهم، بفذلكات تحير القضاة الذين لا يرون في القانون ما يدفع هذه الفذلكات، فيتم الحكم لأهل الباطل أو لصاحب الباطل، وكذلك تدرأ العقوبة عن الظالم، أما هذه الشريعة فإنها ولله الحمد تعدل ولذلك يجب على القاضي أن يجلس المتخاصمين في الجلسة سواء.
دخل الأشعث بن قيس من كبار رجالات الإسلام في عهده على القاضي شريح، فقال شريح: مرحباً، وأهلاً وسهلاً بشيخنا وسيدنا وأجلسه معه، فبينما هو جالس معه إذ دخل رجل يتظلم من الأشعث، فقال شريح للأشعث بن قيس: قم فأجلس مجلس الخصم وكلم صاحبك، فقال: بل أكلمه في مجلس، قال له: لتقومن أو لأمرن من يقيمك، وهكذا كانوا لا يتوقفون في القضاء ولو على الخليفة والإمام، وقد ذكر العلماء النصوص على كفايتهم وتبيين حكم الهدية وأنها غير جائزة.
إذا خان الأمير وكاتباه ... ... وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويل ثم ويل ثم ويل ... ... لقاضي الأرض من قاضي السماء
وإن كان الوداد لذي وداد ... ... يزحزحه عن الحق الجلاء
فلا أبقاه رب العرش يوما ... ... كحله من نيل من عماء(/6)
عباد الله، وينبغي على الناس أن يعطوا القضاة الهيبة التي أعطتها الشريعة، وأن لا يماروا ويجادلوا بالباطل، وبعضهم يطلب التمييز في الحكم ورفع القضية إلى قضاة أعلى وهو يعلم أنه على باطل، ولكن يقول: هي إذا ما نفعت ما ضرت!، محاولة!، كيف تطلب التمييز ورفع القضية إلى القضاة الآخرين؟ أو إلى المجلس الأعلى للقضاء وأنت تعلم في قرارت نفسك أن الحق لصاحبك وليس لك؟ واعجبا،، وكذلك فإن بعض الناس يسيئون إلى القضاة، ويطيلون ألسنتهم بالباطل عندهم، وربما شتموهم وسبوهم وأكثر من ذلك، وهؤلاء المنافقون لا يفتئون مراراً وتكراراً أن يطعنوا في أحكام القضاة الشرعيين، وأن يتندروا بهم، ويستهزئ بهم، مع أن الذي أصدر الحكم مشهود له بالعلم، والتقوى، والورع، والعدل، والإنصاف، ولكن هكذا دائماً أحكام قضاة الشرع لا تعجب أهل النفاق فيريدون طمس الشرع، ويلتمسون الوسيلة لإلغاء أحكام القضاة الشرعيين، ولذلك نص العلماء على أنه لا يجوز إلغاء حكم القاضي إلا إذا تبين بالشرع بطلانه، أما إذا لم يتبين بالشرع بطلانه فلا يجوز التدخل في حكمه أبداً، ولذلك فإن قوانين الإسلام تنص على أنه لا يجوز أن يعزل إلى لخيانة، وتسكين فتنة، ونحو ذلك من المصالح العظيمة، ولا أن يتدخل في حكمه إلا إذا صادم الشريعة وخالفها.
عباد الله نسأل الله تعالى أن يعز هذا الدين، وأن ينشر هذا الشرع في العالمين، اللهم أجعل بلادنا معمورة بذكرك وشرعك يا أرحم الراحمين، واجعلنا رجاعين إلى الحق إنك العليم الحكيم، اللهم أنصر من نصر الدين وأخذل من خذل المسلمين، اللهم رد كيد المنافقين في نحورهم، اللهم وأقطع دابر الذين يطعنون في أحكام الشرع المبين يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم إنا نسألك أن تقطع ألسن هؤلاء المنافقين وأن تخزيهم بعذاب في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، اللهم أعز من نصر دينك وأرفع شأن من أعلى شأن وحيك، اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان، أمنا في الأوطان والدور، وأغفر وأرشد الأئمة وولاة الأمور، وأغفر لنا يا عزيز يا غفور.
سبحان ربك، رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(/7)
القناعة
مفهومها .. منافعها.. الطريق إليها
(1 ـ 2)
إبراهيم بن محمد الحقيل
يزداد التسخط في الناس وعدم الرضى بما رُزقوا إذا قلّت فيهم القناعة، وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم، ولا لباس يواريهم، ولا مراكب تحملهم، ولا مساكن تكنهم؛ حيث يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء، ولن يشبعهم شيء؛ لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم، ولا تُبصر من هم تحتهم، فيزدرون نعمة الله عليهم، ومهما أوتوا طلبوا المزيد؛ فهم كشارب ماء البحر لا يرتوي أبداً.
ومن كان كذلك فلن يحصل السعادة أبداً؛ لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح أعلى الناس في كل شيء، وهذا من أبعد المحال؛ ذلك أن أي إنسان إن كملت له أشياء قصرت عنه أشياء، وإن علا بأمور سفلت به أمور، ويأبى الله - تعالى - الكمال المطلق لأحد من خلقه كائناً من كان؛ لذا كانت القناعة والرضى من النعم العظيمة والمنح الجليلة التي يُغبط عليها صاحبها.
ولأهمية هذا الأمر - ولا سيما مع تكالب كثير من الناس على الماديات، وانغماسهم في كثير من الشهوات - أحببت أن أذكر نفسي وإخواني؛ والذكرى تنفع المؤمنين.
مفهوم القناعة:
توجد علاقة متينة بين القناعة وبين الزهد والرضى، ولذلك عرَّف بعض أهل اللغة القناعة بالرضى، والقانع بالراضي(1).
قال ابن فارس: "قنع قناعة: إذا رضي، وسميت قناعة؛ لأنه يُقبل على الشيء الذي له راضياً"(2).
وأما الزهد فهو ضد الرغبة والحرص على الدنيا. والزهادة في الأشياء ضد الرغبة(3)، وذكر ابن فارس أن مادة (زهد) أصل يدل على قلة الشيء قال: والزهيد: الشيء القليل(4).
وعرَّف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الزهد بقوله: ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله - عز وجل -(5).
ونحا فريق من أهل الاصطلاح إلى تقسيم القناعة، وجعل أعلى مراتبها الزهد كما هو صنيع الماوردي؛ حيث قال: "والقناعة قد تكون على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يقتنع بالبُلغة من دنياه ويصرف نفسه عن التعرض لما سواه؛ وهذا أعلى منازل أهل القناعة، ثم ذكر قول مالك بن دينار: أزهد الناس من لا تتجاوز رغبته من الدنيا بُلغته.
الوجه الثاني: أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية، ويحذف الفضول والزيادة، وهذا أوسط حال المقتنع، وذكر فيه قول بعضهم: من رضي بالمقدور قنع بالميسور.
الوجه الثالث: أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سُنح، فلا يكره ما أتاه وإن كان كثيراً، ولا يطلب ما تعذر وإن كان يسيراً، وهذه الحال أدنى منازل أهل القناعة؛ لأنها مشتركة بين رغبة ورهبة، فأما الرغبة: فلأنه لا يكره الزيادة على الكفاية إذا سنحت، وأما الرهبة: فلأنه لا يطلب المتعذر عن نقصان المادة إذا تعذرت"(6) ا. هـ.
وبناءً على تقسيم الماوردي فإن المنزلة الأولى هي أعلى منازل القناعة وهي الزهد أيضاً، والمنزلة الثالثة هي التي عليها أكثر الذين عرّفوا القناعة وهي مقصود مقالتنا تلك.
وعلى هذا المعنى فإن القناعة لا تمنع التاجر من تنمية تجارته، ولا أن يضرب المسلم في الأرض يطلب رزقه، ولا أن يسعى المرء فيما يعود عليه بالنفع؛ بل كل ذلك مطلوب ومرغوب، وإنما الذي يتعارض مع القناعة أن يغش التاجر في تجارته، وأن يتسخط الموظف من مرتبته، وأن يتبرم العامل من مهنته، وأن يُنافَق المسؤول من أجل منصبه وأن يتنازل الداعية عن دعوته أو يميّع مبدأه رغبة في مال أو جاه، وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته، وأن يُذِلَّ المرء نفسه لغير الله - تعالى - لحصول مرغوب.
وليس القانع ذاك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق، ولا الذي يتطلع إلى ما ليس له، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رتب الدنيا؛ لأن الخير له قد يكون عكس ما تمنى.
وفي المقابل فإن القناعة لا تأبى أن يملك العبد مثاقيل الذهب والفضة، ولا أن يمتلئ صندوقه بالمال، ولا أن تمسك يداه الملايين، ولكن القناعة تأبى أن تلج هذه الأموال قلبه، وتملك عليه نفسه، حتى يمنع حق الله فيها، ويتكاسل عن الطاعات، ويفرط في الفرائض من أجلها، ويرتكب المحرمات من رباً ورشوة وكسب خبيث حفاظاً عليها أو تنمية لها.
وكم من صاحب مال وفير وخير عظيم رزق القناعة! فلا غَشَّ في تجارته، ولا منع أُجراءه حقوقهم، ولا أذل نفسه من أجل مال أو جاه، ولا منع زكاة ماله؛ بل أدى حق الله فيه فرضاً وندباً، مع محافظةٍ على الفرائض، واجتنابٍ للمحرمات. إن ربح شكر، وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون.
وكم من مستور يجد كفافاً ملأ الطمع قلبه حتى لم يُرضه ما قسم له! فجزع من رزقه، وغضب على رازقه، وبث شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم حتى يغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا يملك درهماً ولا فلساً.
فوائد القناعة:
إن للقناعة فوائد كثيرة تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة ومن تلك الفوائد:(/1)
1 - امتلاء القلب بالإيمان بالله - سبحانه وتعالى - والثقة به، والرضى بما قدر وقسم، وقوة اليقين بما عنده - سبحانه وتعالى - ذلك أن من قنع برزقه فإنما هو مؤمن ومتيقن بأن الله - تعالى - قد ضمن أرزاق العباد وقسمها بينهم حتى ولو كان ذلك القانع لا يملك شيئاً.
يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا: ليس في البيت دقيق. وقال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: أسرُّ أيامي إليَّ يوم أُصبح وليس عندي شيء. وقال الفضيل ابن عياض - رحمه الله تعالى -: أصل الزهد الرضى من الله - عز وجل -. وقال أيضاً: القُنوع هو الزهد وهو الغنى، وقال الحسن - رحمه الله تعالى -: إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله - عز وجل -(7).
2 - الحياة الطيبة: قال - تعالى -: ((من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)) [النحل: 97]، فَسَّر الحياةَ الطيبة عليٌّ وابن عباس والحسن - رضي الله عنهم - فقالوا: الحياة الطيبة هي القناعة(8)، وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه(9).
3 - تحقيق شكر المنعم - سبحانه وتعالى -: ذلك أن من قنع برزقه شكر الله - تعالى - عليه، ومن تقالّه قصَّر في الشكر، وربما جزع وتسخط - والعياذ بالله - ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس"(10).
4 - الفلاح والبُشْرى لمن قنع: فعن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً، وقنع"(11)، وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه"(12).
5 - الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات: كالحسد، والغيبة، والنميمة، والكذب، وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة؛ ذلك أن الحامل على الوقوع في كثير من تلك الكبائر غالباً ما يكون استجلاب دنيا أو دفع نقصها، فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا؛ لأنه رضي بما قسم له.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحسد أحداً على رزق الله، ولا تَلُمْ أحداً على ما لم يؤتك الله؛ فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره؛ فإن الله - تبارك وتعالى - بقسطه وعلمه وحكمته جعل الرَّوْح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط(13).
وقال بعض الحكماء: وجدت أطول الناس غماً الحسود، وأهنأهم عيشاً القنوع(14).
6 - حقيقة الغنى في القناعة: ولذا رزقها الله - تعالى - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وامتن عليه بها فقال - تعالى -: ((ووجدك عائلا فأغنى)) [الضحى:8]، نزّلها بعض العلماء على غنى النفس؛ لأن الآية مكية، ولا يخفى ما كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تُفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال(15).
وذهب بعض المفسرين إلى أن الله - تعالى - جمع له الغنائيْن: غنى القلب، وغنى المال بما يسر له من تجارة خديجة.
وقد بيّن - عليه الصلاة والسلام - أن حقيقة الغنى غنى القلب فقال - عليه الصلاة والسلام -: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس"(16).
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟" قلت: نعم! يا رسول الله، قال: "فترى قلة المال هو الفقر؟" قلت: نعم! يا رسول الله. قال: "إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب"الحديث(17).
وتلك حقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولدَه ولو عُمِّر ألف سنة؛ يخاطر بدينه وصحته ويضحي بوقته يريد المزيد! وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس؛ وهو لا يجد قوت غده! فالعلة في القلوب: رضيً وجزعاً، واتساعاً وضيقاً، وليست في الفقر والغنى.
ولأهمية غنى القلب في صلاح العبد قام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطيباً في الناس على المنبر يقول: "إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه"(18)، وسئل أبو حازم فقيل له: ما مالك؟ قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس(19)، وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك(20).
7 - العز في القناعة، والذل في الطمع: ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزاً بينهم، والطماع يذل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا جاء في حديث سهل بن سعد مرفوعاً: "شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس"(21).
وكان محمد بن واسع - رحمه الله تعالى - يبلُّ الخبز اليابس بالماء ويأكله ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد(22).(/2)
وقال الحسن - رحمه الله تعالى -: لا تزال كريماً على الناس، ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم؛ فإذا فعلت ذلك استخفُّوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك(23).
وقال الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى -: وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس، والاستغناء عنهم؛ فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك(24).
والإمامة في الدين والسيادة والرفعة لا يحصلها المرء إلا إذا استغنى عن الناس، واحتاج الناس إليه في العلم والفتوى والوعظ. قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بِمَ سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم(25).
صور من قناعة النبي صلى الله عليه وسلم :
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيماناً ويقيناً، وأقواهم ثقة بالله - تعالى - وأصلحهم قلباً، وأكثرهم قناعة ورضيً بالقليل، وأنداهم يداً وأسخاهم نفساً، حتى كان - عليه الصلاة والسلام - يفرِّق المال العظيم: الوادي والواديين من الإبل والغنم ثم يبيت طاوياً، وكان الرجل يُسْلم من أجل عطائه صلى الله عليه وسلم ثم يحسن إسلامه. قال أنس - رضي الله عنه -: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا؛ فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها(26).
وقال صفوان بن أمية - رضي الله عنه -: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لمن أبغض الناس إليَّ؛ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ. قال الزهري: أعطاه يوم حنين مائة من النعم ثم مائة ثم مائة(27)، وقال الواقدي: أعطاه يومئذ وادياً مملوءاً إبلاً ونعماً حتى قال صفوان - رضي الله عنه -: أشهد: ما طابت بهذا إلا نفس نبي(28).
وقال أنس - رضي الله عنه -: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة"(29).
أما تلك الصورة الرائعة من بذله - عليه الصلاة والسلام - التي جعلت أقواماً وسادة وعتاة من أهل الجاهلية تلين قلوبهم للإسلام وتخضع للحق، فأمامها صور عجيبة لا تقل في جمالها عنها من قناعته - عليه الصلاة والسلام - ورضاه بالقليل وتقديم غيره على نفسه وأهله في حظوظ الدنيا؛ بل وترك الدنيا لأهل الدنيا، ومن ذلكم:
أولاً: قناعته صلى الله عليه وسلم في أكله:
أ - روت عائشة رضي الله عنها - تخاطب عروة بن الزبير - رضي الله عنهما - فقالت: "ابن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أُوقِدَت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر، والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقيناه"(30).
ب - وعنها - رضي الله عنها - قالت: "لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين"(31).
ج - وعن قتادة - رضي الله عنه - قال: كنا نأتي أنس بن مالك وخبّازه قائم، وقال: كلوا؛ فما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مُرقَّقاً حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط"(32).
ثانياً: قناعته صلى الله عليه وسلم في فراشه:
أ - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم وحشوه من ليف".
ب - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثّر في جنبه، قلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً؛ فقال: ما لي وللدنيا؛ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"(33).
ج - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سرير مشبك بالبردي عليه كساء أسود قد حشوناه بالبردي، فدخل أبو بكر وعمر عليه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم نائم عليه، فلما رآهما استوى جالساً فنظر، فإذا أثر السرير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر وعمر - وبكيا -: يا رسول الله! ما يؤذيك خشونة ما نرى من سريرك وفراشك، وهذا كسرى وقيصر على فرش الحرير والديباج؟ فقال: لا تقولا هذا؛ فإن فراش كسرى وقيصر في النار، وإن فراشي وسريري هذا عاقبته إلى الجنة"(34).
ثالثاً : تربيته صلى الله عليه وسلم أهله على القناعة:(/3)
لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أهله على القناعة بعد أن اختار أزواجه البقاء معه والصبر على القلة والزهد في الدنيا حينما خبرهن بين الإمساك على ذلك أو الفراق والتمتع بالدنيا كما قال الله تعالى (( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيما)) [ الأحزاب : 28،29].
فاخترن - رضي الله عنهن - الآخرة، وصبرن على لأواء الدنيا ، وضعف الحال، وقلة المال طمعاً في الأجر الجزيل من الله - تعالى - ومن صور تلك القلة والزهد إضافة إلى ما سبق :
أ- ما روت عائشة - رضي الله عنها - قالت: " ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر"(35).
ب - وعنها - رضي الله عنها - قالت: " ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم"(36).
ولم يقتصر صلى الله عليه وسلم في تربيته تلك على نسائه بل حتى أولاده رباهم على القناعة فقد أتاه سبي مرة، فشكت إليه فاطمة - رضي الله عنها - ما تلقى من خدمة البيت، وطلبت منه خادما يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها، وقال:"لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع"(37).
ولم يكن هذا المسلك من القناعة إلا اختيارا منه صلى الله عليه وسلم وزهداً في الدنيا، وإيثاراً للآخرة.
نعم إنه رفض الدنيا بعد أن عرضت عليه، وأباها بعد أن منحها، وما أعطاه الله من المال سلطه على هلكته في الحق، وعصب على بطنه الحجارة من الجوع صلى الله عليه وسلم. قال عليه الصلاة والسلام : " عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت:لا يا رب؛ ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك"(38).
الهوامش :
(1) لسان العرب ، مادة (قنع) (11/321)
(2) معجم مقاييس اللغة مادة (قنع) (5/33)
(3) لسان العرب ، مادة (زهد (6/97)
(4) معجم مقاييس اللغة مادة (زهد) (3/30)
(5) مجموع الفتاوى (11/27) وانظر مكارم الأخلاق عند ابن تيمية (259).
(6) مختصرا من أدب الدنيا والدين (328 - 329).
(7) انظر هذه الآثار في جامع العلوم والحكم (2/147) شرح حديث رقم (31).
(8) أخرجه عن علي والحسن الطبري في تفسيره (14/17) عند تفسير الآية (97) من سورة النحل ، وأخرجه الحاكم عن ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي (2/356).
(9) نزهة الفضلاء : ترتيب سير أعلام النبلاء (1504).
(10) أخرجه ابن ماجة (4217) والبيهقي في الزهد الكبير (818) وأبو نعيم في الحلية (10/365) وحسنة البوصيري في الزوائد (3/300).
(11) أخرجه احمد (6/19) والترمذي (2249) وقال : حسن صحيح ـ والحاكم وصححه على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي (1/34).
(12) أخرجه مسلم (1054) والترمذي (2349).
(13) أخرجه ابن أبي الدنيا في اليقين (118) الروح: الاستراحة .
(14) القناعة لابن السني (58) عن موسوعة نضرة النعيم (3173)
(15) انظر فتح الباري لابن حجر العسقلاني (11/277).
(16) أخرجه البخاري (6446) ومسلم (1051).
(17) أخرجه ابن حبان في صحيحه (685).
(18) أخرجه أحمد في الزهد (117) وأبو نعيم في الحلية (1/50).
(19) الحلية لأبي نعيم (3/231).
(20) إحياء علوم الدين (4/212) عن نضرة النعيم (3174).
(21) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/253) والقضاعي في مسند الشهاب (151) والحاكم وصححه (4/324).
(22) إحياء علوم الدين (3/293).
(23) الحلية (3/20).
(24) جامع العلوم والحكم (2/168).
(25) جامع العلوم والحكم (2/169).
(26) لطائف المعارف (307).
(27) مغازي الواقدي (2/854).
(28) أخرجه مسلم في الفضائل (2312).
(29) أخره البخاري (6459) ومسلم (2973).
(30) أخرجه مسلم (2974).
(31) أخرجه البخاري في الرقاق (6457).
(32) أخرجه أحمد (1/391) والترمذي وقال حسن صحيح (2378) وابن ماجه (419) والحاكم (4/310).
(33) أخرجه ابن حبان (704) ونحوه من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قصة إيلائه من نسائه عند أحمد (1/33) والبخاري (2468) ومسلم (1479).
(34) أخرجه البخاري (6455) ومسلم (2971).
(35) أخرجه مسلم (2970).
(36) أخرجه البخاري (6454) ومسلم (2970)
(37) جزء من حديث أخرجه أحمد (1/97-106-153) والبخاري في الفضائل وفي فرض الخمس وفي النفقات وفي الدعوات (7/71)
(38) أخرجه أحمد (5/452) والترمذي وحسنه (2348) وأبو نعيم في الحلية (8/331) وفي سنده علي بن يزيد يضعف .
Cd مجلة البيان
القناعة
مفهومها.. منافعها.. الطريق إليها
2-2
إبراهيم بن محمد الحقيل
استعرض الكاتب في الحلقة الأولى مفهوم القناعة وأهم فوائدها وآثارها، ثم عرج على صور من قناعته صلى الله عليه وسلم في المأكل والمشرب وكذا أهل بيته. ويواصل الكاتب في هذه الحلقة بقية الموضوع. البيان
صور من قناعة الصحابة والسلف الصالح:(/4)
وسار على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابتُه الكرام - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان؛ فقد عاشوا أول الأمر على الفقر والقلة، ثم لما فُتحت الفتوح واغتنى المسلمون بقوا على قناعتهم وزهدهم، وأنفقوا الأموال الطائلة في سبيل الله - تعالى - وهذه نماذج من عيشهم وقناعتهم.
أ- عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال:"رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن تُرى عورته"(1).
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى – قوله:" لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة" يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين(2).
ب- وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت:"من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم، فلما افتتح صلى الله عليه وسلم قريظة أصبنا شيئاً من التمر والوَدَك"(3).
ثم فتح الله على المسلمين وأصبح المال العظيم يرسل إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ فبقيت على قناعتها وزهدها وأخذت تفرق المال على محتاجيه؛ فقد بعث إليها معاوية ـ رضي الله عنه ـ بمئة ألف درهم. قال عروة ابن الزبير: فوالله ما أمستْ حتى فرَّقتْها، فقالت لها مولاتها: لو اشتريت لنا منها بدرهم لحماً! فقالت: ألا قلتِ لي؟(4) لقد نسيت نفسها ـ رضي الله عنها ـ، وفرقت مالها، واستمرت على قناعتها بعد وفاة رسول الله . وعن أم ذرة قالت: بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين يكون مائة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست قالت: هاتي يا جارية فطوري، فقالت أم ذرة: يا أم المؤمنين! أما استطعت أن تشتري لنا لحماً بدرهم؟ قالت: لا تعنفيني، لو أذكرتني لفعلت(5). فهل تقتدي نساء المسلمين بعائشة ـ رضي الله عنها ـ بدلاً من سَرَف الإنفاق على النفس وحظوظها واللباس والزينة؟!
ج- وعن عامر بن عبد الله أن سلمان الخير حين حضره الموت عرفوا منه بعض الجزع، قالوا: ما يجزعك يا أبا عبد الله، وقد كانت لك سابقة في الخير؟ شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مغازي حسنة وفتوحاً عظاماً! قال: يجزعني أن حبيبنا صلى الله عليه وسلم، حين فارقنا عهد إلينا قال:" ليَكْفِ اليوم منكم كزاد الراكب" فهذا الذي أجزعني، فجُمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر ديناراً، وفي رواية: خمسة عشر درهماً(6).
د - وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم - رحمه الله تعالى - يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه فكتب إليه: قد رفعت حوائجي إلى مولاي، فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك منها عني قنعت(7).
أسباب تحول دون القناعة:
ذكر الماوردي - رحمه الله تعالى - الأسباب التي تمنع القناعة بالكفاية، وتدعو إلى طلب الزيادة، وهي - على سبيل الاختصار-:
1- منازعة الشهوات التي لا تُنال إلا بزيادة المال وكثرة المادة، فإذا نازعته الشهوة طلب من المال ما يوصله إليها، وليس للشهوات حد مُتناهٍ، فيصير ذلك ذريعة إلى أن ما يطلبه من الزيادة غير متناهٍ، ومن لم يَتَنَاهَ طلبه استدام كدَّه وتعبه، فلم يفِ الْتذاذُه بنيل شهواته بما يعانيه من استدامة كده وأتعابه، مع ما قد لزمه من ذم الانقياد لمغالبة الشهوات، والتعرض لاكتساب التبعات، حتى يصير كالبهيمة التي قد انصرف طلبها إلى ما تدعو إليه شهوتها فلا تنزجر عنه بعقل، ولا تنكفُّ عنه بقناعة.
2- أن يطلب الزيادة ويلتمس الكثرة ليصرفها في وجوه الخير، ويتقرب بها في جهات البر، ويصطنع بها المعروف، ويغيث بها الملهوف؛ فهذا أعذر، وبالحمد أحرى وأجدر متى ما اتقى الحرام والشبهات وأنفق في وجوه البر؛ لأن المال آلة المكارم، وعون على الدِّين، ومتألَّفٌ للإخوان. قال قيس بن سعد: اللهم ارزقني حمداً ومجداً؛ فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال. وقيل لأبي الزناد: لِمَ تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: هي وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها. وقال بعض الحكماء: من أصلح ماله فقد صان الأكرميْن: الدِّين والعِرض.
3- أن يطلب الزيادة ويقتني الأموال ليدّخرها لولده، ويخلِّفها لورثته، مع شدة ضنه على نفسه، وكفه عن صرف ذلك في حقه، إشفاقاً عليهم من كدح الطلب وسوء المنقلب، وهذا شقي بجمعها مأخوذ بوزرها قد استحق اللوم من وجوه لا تخفى على ذي لب، منها:
أ - سوء ظنه بخالقه: أنه لا يرزقهم إلا من جهته.
ب - الثقة ببقاء ذلك على ولده مع نوائب الزمان ومصائبه.
ج - ما حُرِم من منافع ماله وسُلِب من وفور حاله، وقد قيل: إنما مالك لك أو للوارث أو للجائحة؛ فلا تكن أشقى الثلاثة.
د- ما لحقه من شقاء جمعه، وناله من عناء كده، حتى صار ساعياً محروماً، وجاهداً مذموماً.(/5)
هـ - ما يؤاخذ به من وزره وآثامه ويحاسب عليه من تبعاته وإجرامه. وقد حُكي أن هشام بن عبد الملك لما ثَقُلَ بكى ولده عليه، فقال لهم: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما كسب، وتركتم عليه ما اكتسب، ما أسوأ حال هشام إن لم يغفر الله له! وقال رجل للحسن - رحمه الله تعالى -: إني أخاف الموت وأكرهه، فقال: إنك خلَّفت مالك، ولو قدَّمتَه لسرَّك اللحاق به.
4- أن يجمع المال ويطلب المكاثرة، استحلاءً لجمعه، وشغفاً باحتجانه؛ فهذا أسوأ الناس حالاً فيه، وأشدهم حرماناً له، قد توجهت إليه سائر الملاوم. وفي مثله قال الله - تعالى - ((والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)) [التوبة:34](8).
السبيل إلى القناعة:
1- تقوية الإيمان بالله - تعالى -، وترويض القلب على القناعة والغنى؛ فإن حقيقة الفقر والغنى تكون في القلب؛ فمن كان غني القلب نعم بالسعادة وتحلى بالرضى، وإن كان لا يجد قوت يومه، ومن كان فقير القلب؛ فإنه لو ملك الأرض ومن عليها إلا درهماً واحداً لرأى غناه في ذلك الدرهم؛ فلا يزال فقيراً حتى يناله.
2- اليقين بأن الرزق مكتوب والإنسان في رحم أمه، كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - وفيه:" ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.."(9). فالعبد مأمور بالسعي والاكتساب مع اليقين بأن الله هو الرازق وأن رزقه مكتوب.
3- تدبر آيات القرآن العظيم ولا سيما الآيات التي تتحدث عن قضية الرزق والاكتساب. يقول عامر بن عبد قيس: أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتُهن مساءً لم أبال على ما أُمسي، وإذا تلوتُهن صباحاً لم أبال على ما أُصبح: ((مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا ومَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ )) [فاطر:2]، وقوله تعالى: ((وإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)) [يونس:107] ، وقوله تعالى: ((ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ويَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ومُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ))[ هود:6]، وقوله - تعالى ((سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)) [الطلاق:7](10).
4- معرفة حكمة الله - سبحانه وتعالى - في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد، حتى تحصل عمارة الأرض، ويتبادل الناس المنافع والتجارات، ويخدم بعضهم بعضاً قال - تعالى ((أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ورَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً ورَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)) [الزخرف:32] ، وقال - تعالى - ((وهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ)) [الأنعام:165] .
5- الإكثار من سؤال الله - سبحانه وتعالى - القناعة، والإلحاح بالدعاء في ذلك؛ فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الناس قناعة وزهداً ورضىً وأقواهم إيماناً ويقيناً، كان يسأل ربه القناعة؛ فعن ابن عباس: رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يدعو:"اللهم قنِّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير"(11) ولأجل قناعته صلى الله عليه وسلم، فإنه ما كان يسأل ربه إلا الكفاف من العيش والقليل من الدنيا كما قال – عليه الصلاة والسلام -: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً"(12).
6- العلم بأن الرزق لا يخضع لمقاييس البشر من قوة الذكاء وكثرة الحركة وسعة المعارف، وإن كان بعضها أسباباً؛ إلا أن الرزق ليس معلقاً بها بالضرورة، وهذا يجعل العبد أكثر قناعة خاصة عندما يرى من هو أقل منه خبرة أو ذكاءًا أو غير ذلك وأكثر منه رزقاً فلا يحسده ولا يتبرم من رزقه.
7- النظر إلى حال من هو أقل منك في أمور الدنيا، وعدم النظر إلى من هو فوقك فيها؛ ولذا قال النبي "انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله"(13) . وفي لفظ آخر قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ :"إذا رأى أحدكم مَنْ فوقه في المال والحسب فلينظر إلى من هو دونه في المال والحسب"(14).
وليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه في شيء، ومن هو أقل منه في أشياء؛ فإن كنت فقيراً ففي الناس من هو أفقر منك، وإن كنت مريضاً أو معذباً ففيهم من هو أشد منك مرضاً وأكثر تعذيباً، فلماذا ترفع رأسك لتنظر من هو فوقك، ولا تخفضه لتبصر من هو تحتك؟ إن كنت تعرف من نال من المال والجاه ما لم تنله أنت وهو دونك ذكاءًا ومعرفة وخلقاً، فلِمَ لا تذكر من أنت دونه أو مثله في ذلك كله وهو لم ينل بعض ما نلت (15)؟!(/6)
8- قراءة سِيَر السلف الصالح وأحوالهم مع الدنيا والزهد فيها والقناعة بالقليل منها، وهم قد أدركوا الكثير منها فرفضوه إيثاراً للباقية على العاجلة، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم، وإخوانه من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ثم الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان؛ فإن معرفة أحوالهم، وكيف كانت حياتهم ومعيشتهم تحفز العبد إلى التأسي بهم، وترغِّبه في الآخرة، وتقلل عنده زخرف الحياة الدنيا ومتعها الزائلة.
9- العلم بأن عاقبة الغنى شر ووبال على صاحبه إذا لم يكن الاكتساب والصرف منه بالطرق المشروعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تزول قدما عبد حتى يُسأل: عن عمره فيمَ أفناه، وعن علمه فيمَ فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه"(16) فمشكلة المال أن الحساب عليه من جهتين: جهة الاكتساب ثم جهة الإنفاق، وهذا ما يجعل تبعته عظيمة وعاقبته وخيمة إلا من اتقى الله فيه وراعى حرماته اكتساباً وإنفاقاً.
ثم ليتفكر في أنه كلما تخفف من هذا المال وكان أقل كان حسابه أيسر وأسرع؛ وذلك كمن سافر في الطائرة وحمل متاعاً كثيراً؛ فإنه إذا بلغ مقصده احتاج وقتاً طويلاً لاستلامه وتفتيشه بخلاف من كان خفيفاً ليس معه شيء، وحساب الآخرة أعسر، والوقوف فيها أطول.
ولينظر أيضاً إلى من كان المال والجاه سبب شقائه وأمراضه وهمومه وغمومه؛ فهو يشقى ويتعب في جمع المال ونيل المناصب ثم يحمل همَّ الحفاظ على المال والمنصب فيقضي عمره مهتماً مغتماً، ثم انظر ماذا يحدث له إذا خسر ماله أو أُقيل من منصبه، وكم من شخص كان ذلك سبباً في هلاكه وعطبه! نسأل الله العافية.
10- النظر في التفاوت البسيط بين الغني والفقير على وجه الحقيقة، فالغني لا ينتفع إلا بالقليل من ماله، وهو ما يسد حاجته وما فضل عن ذلك فليس له، وإن كان يملكه، فلو نظرنا إلى أغنى رجل في العالم لا نجد أنه يستطيع أن يأكل من الطعام أكثر مما يأكل متوسط الحال أو الفقير، بل ربما كان الفقير أكثر أكلاً منه، وبعبارة أخرى: هل يستطيع الغني أن يشتري مائة وجبة فيأكلها في آن واحد، أو مائة ثوب فليبسها في آن واحد؛ أو ألف مركبة فيركبها في آن واحد؛ أو مائة دار فيسكنها في وقت واحد؟! لا؛ بل له من الطعام في اليوم ثلاث وجبات تزيد قليلاً أو تنقص، وللمستور كذلك مثله، وله من اللباس ثلاث قطع تزيد قليلاً أو تنقص، ولا يستهلك من الأرض في وقت واحد إلا متراً في مترين سواء كان قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً. فعلام يُحسد وهو سيحاسب على كل ما يملك؟! وقد فهم هذا المعنى حكيم هذه الأمة أبو الدرداء - رضي الله عنه - حينما قال: أهل الأموال يأكلون ونأكل، ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس، ويركبون ونركب، ولهم فضول أموال ينظرون إليها وننظر إليها معهم وحسابهم عليها ونحن منها برآء، وقال أيضاً: الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت، ولا نتمنى أننا مثلهم حينئذ، ما أنصَفَنا إخوانُنا الأغنياء: يحبوننا على الدِّين، ويعادوننا على الدنيا(17).
بل جاء هذا المعنى في السنة النبوية. قال عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه -: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)) [التكاثر:1]، يقول:"يقول ابن آدم- مالي، مالي! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟"(18).
إن القانع قد لا ينال من الطعام أطيبه، ولا من اللباس أحسنه، ولا من العيش أرغده؛ ولكنه ينعم بالرضى أكثر من الطمَّاع وإن كان الطماع أرغد عيشاً منه؛ لأن القانع ينظر إلى الموسر وما يملك فيراه لا ينتفع إلا بقليل مما يملك، لكنه سيحاسب عن كل ما يملك.(/7)
ثم ليعلم العاقل أن كل حال إلى زوال، فلا يفرح غني حتى يطغى ويبطر، ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم ولا غنى يدوم، وكم من رجال نشؤوا على فرش الحرير، وشربوا بكؤوس الذهب، وورثوا كنوز المال، وأذلوا أعناق الرجال، وتعبَّدوا الأحرار، فما ماتوا حتى اشتهوا فراشاً خشناً يقي الجنب عض الأرض، ورغيفاً من خبز يحمي البطن من قَرْص الجوع، وآخرون قاسوا المحن والبلايا، وذاقوا الألم والحرمان، وطووا الليالي بلا طعام، فما ماتوا حتى ازدحمت عليهم النعم، وتكاثرت الخيرات، وصاروا من سراة الناس، وسيسوِّي الموت بين الأحياء جميعاً: الغني والفقير؛ فدود الأرض لا يفرق بين المالك والأجير، ولا بين الصعلوك والأمير ولا بين الكبير والصغير، فلا يجزع فقير بفقره، ولا يبطر غني بغناه(19)، وما أجمل القناعة! فمن التزمها نال السعادة، وما أحوج أهل العلم والدعوة للتحلي بها! حتى يكونوا أعلام هدى ومصابيح دجى، ولو تحلى بها العامة لزالت الضغائن والأحقاد، وحلت الألفة والمودة؛ إذ أكثر أسباب الخلاف والشقاق بين الناس بسبب الدنيا والتنافس عليها، وما ضعف الدين في القلوب إلا من مزاحمة الدنيا له، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما قال:"والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَطَ الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم"(20)، فهل من مدَّكر؟ وهل من معتبر يجعل ما يملك من دنيا في يديه، ويحاذر أن تقترب إلى قلبه فتفسده؟ "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
الهوامش:
1- أخرجه البخاري في الصلاة 442.
2- فتح الباري 1/639.
3- أخرجه ابن حبان 684 والوَدَك: دسم اللحم.
4- أخرجه أبو نعيم 2/47 والحاكم 4/13.
5- أخرجه ابن سعد في الطبقات 8/67، وأبو نعيم في الحلية 2/47
6- أخرجه الطبراني في الكبير والرواية الثانية له 6182 وأبو نعيم في الحلية 1/197وصححه ابن حبان 706 .
7- الإحياء 3/239،، والقناعة لابن السني 43 عن نضرة النعيم3173.
8- مختصراً من أدب الدنيا والدين 317-324.
9- أخرجه أحمد 1/382، والبخاري في بدء الخلق، وفي أحاديث الأنبياء وفي التوحيد 7453 ومسلم في القدر 2643 وغيرهم.
10- عيون الأخبار لابن قتيبة 3/206.
11- أخرجه السهمي في تاريخ جرجان برقم 50 والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/356.
12- أخرجه البخاري في الرقاق 6460، ومسلم في الزكاة 1055، والترمذي 2362 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
13- أخرجه البخاري في الرقاق 6490، ومسلم واللفظ له 2963
14- هذه الرواية لابن حبان في صحيحه714
15- مع الناس للشيخ علي الطنطاوي 58.
16- أخرجه الترمذي، وقال حسن صحيح(2419).
17- سير أعلام النبلاء (2/350 ـ 351).
18- أخرجه مسلم في الزهد 2958.
19- باختصار وتصرف يسير من: مع الناس 61.
20- أخرجه البخاري في الرقاق 6425، ومسلم 2961.
Cd مجلة البيان(/8)
القول الصريح عن حقيقة الضريح
إعداد محمود المراكبي
الحلقة الأولى
الحمد للَّه حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأستغفره استغفار المذنب الذليل، راجي عفو مولاه الكريم، سائلا إياه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يقبلنا بحلمه العظيم.
وأُصلي وأسلم على سيدنا محمد بن عبد اللَّه، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، بعثه ربه ليخرج الناس من ظلمات الجهل والشرك، إلى أنوار العلم والتوحيد، فالفائز من سار على دربه واتبع سنته، وعاش محسنا ومات مُقرا للَّه عز وجل بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأصلي وأسلم على جميع الأنبياء والمرسلين، ووارض اللهم عن الصحابة الأنصار والمهاجرين، وعلى آل البيت الأطهار المكرمين، وعباد اللَّه الصالحين وعنا معهم برحمة مولانا الكريم، أما بعد؛
فقد عقدت النية على كتابة هذه المقالات، حين تكشفت لي حقائق لا يعلمها كثير من الناس، ومنها: الارتباط الوثيق بين الفرق المنحرفة عن الصراط المستقيم والأضرحة، فالأضرحة ومشاهد الأئمة عند الشيعة، والأقطاب والأولياء في الفكر الصوفي، يمثلان عمود الرحى تدور حوله كثير من المعتقدات، وردهم دائما ينحصر في اتهامنا بعدم محبة آل البيت، أو الهجوم على الأولياء، ولابد لكل منصف أن يفرق بين النتائج المستخلصة من دراسة الحقائق التاريخية، الموصلة إلى أدق الإجابات، وحسم القضايا التي تباينت فيها الاتجاهات، وبين الانتصار والمحبة لآل البيت رضوان اللَّه عليهم أجمعين، فنحن نشهد اللَّه على حبهم، ونعتقد سمو مكانتهم، ونؤمن أن فاطمة رضوان اللَّه عليها سيدة نساء العالمين ما خلا مريم بنت عمران، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين، والمبشر بالجنة، وصاحب الكرَّات والمجاهد في سبيل اللَّه حتى أتاه اليقين.
إن كتابة التاريخ تأثرت بالأهواء، وتدافعت فيها التيارات، حتى أنك تسمع للحدث الواحد روايتين على تناقض تام؛ فالمؤرخ قد يتشيع لفريق، فينتصر له، بينما الآخر على الطرف النقيض، فدراستنا عن حقيقة ضريح رأس الحسين والمشهد الزينبي في القاهرة، لا يحق لعاقل أن يستغلها في اتهامنا بأننا مع هذا الفريق أو ذلك التجمع، فاللَّه من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل.
ولو حصرنا الهدف من هذا القول الصريح عن حقيقة الضريح في إماطة القناع عن وجه الحقيقة لهان الأمر، ولكن الهدف هو لماذا وُضع القناع؟ ومن صاحب المصلحة في وأد الحقيقة؟ ومن المنتفعون من وراء رواجها؟ ومن الذين سيهبون بقوة للهجوم على ما نصل إليه من نتائج؟ إن أصحاب المصالح تتعدد انتماءاتهم، وتتفاوت أهدافهم، ولن تجد في هجومهم فكرا علميا، ولكن سبا وشتما، واتهاما وتجرأ بالباطل، وهذا كله سرعان ما يتلاشى ككل زوبعة، وإذا جاء الحق، فليس للباطل مكان يرحل إليه؛ لأنه سيزهق من ساعته، نسأل المولى الكريم أن يجعلنا من أولياء الحق، ومن جند الانتصار للَّه ولرسوله، وليس بعد ذلك من شرف، وما وراءها إلا رضوان مِن اللَّه أكبر، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات.
ولسنا أول من اهتم بهذه القضية، فقد سبقنا إليها عدد من العلماء والباحثين، اجتهدوا لبيان الحق فيها، والسؤال عنها يدور منذ قرون بعيدة، فقد وجه أحد المسلمين في القرن السابع الهجري سؤالا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية جاء فيه: "ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وهداة المسلمين رضي اللَّه عنهم أجمعين، وأعانهم على تحقيق الحق المبين، وإخماد شَغَب المبطلين: في المشهد المنسوب إلى الحسين ( بمدينة القاهرة: هل هو صحيح أم لا؟ وهل حُمل رأس الحسين إلى دمشق، ثم إلى مصر؟ أم حُمل إلى المدينة من جهة العراق؟ وهل لِما يذكره بعض الناس من جهة المشهد الذي كان بعسقلان من صحة أم لا؟ ومَنْ ذَكر أمر رأس الحسين، ونقله إلى المدينة النبوية دون الشام ومصر؟ ومَنْ جزم من العلماء المتقدمين والمتأخرين بأن مشهد عَسقلان ومشهد القاهرة مكذوب، وليس بصحيح وليبسطوا القول في ذلك، لأجل مسيس الضرورة والحاجة إليه، مثابين مأجورين إن شاء اللَّه تعالى".
فالموضوع إذن يشغل بال كثيرين ومن قرون عديدة، وربما ورث جمهور المسلمين الكثير من المعتقدات على أنها مسلمات، كما أن همومهم في حياتهم اليومية أولى بالانشغال من موضوعنا هذا، ولكن الأمر يحتاج إلى إبراء الذمة، وتوضيح الحق لمن أراد، أو بحث عنه من أفراد الأمة، وقد يجد الإجابة الشافية عند ابن تيمية، فمن أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى الفتاوى الكبرى التي جمعت بعضا من علم شيخ الإسلام.(/1)
والمشكلة في قومنا اليوم أنهم لا يقرءون، وبالتالي يستمر الخطأ ويبقى، وربما يستفحل مع الأيام، ويفقد الناس علم العلماء، حتى من يريد أن يكتب في موضوع معين لا يكلف نفسه البحث في أقوال من سبقه، فلا بد لأي كتاب من إضافة جديدة، وإلا انتفى الغرض العلمي من تأليفه، وأصدق دليل على قولي هذا كتاب "مراقد آل البيت" الذي ألفه الشيخ- محمد زكي إبراهيم شيخ طريقة العشيرة المحمدية، وهي طريقة صوفية معروفة وشيخها رحمه الله كان معروفا في مصر، وله دوره في الدفاع عن الصوفية في كل مناسبة، ويشيد بتمسك طريقته بالكتاب والسنة، ورغم جهوده وغيره في إصلاح التصوف، ومحاربته لبعض البدع ومظاهر الشرك، إلا أن الرجل لم يرجع إلى ما كتبه ابن تيمية، ولم يقم بنقض أسانيده وحقائقه، وبالتالي من يقرأ كتابه يظنه جهدا علميا وتاريخيا طيبا، والحقيقة خلاف ذلك، فالكتاب يُعد أحد المفاسد التي تحتاج لجهود لإصلاحه، وتحتاج إلى نقد علمي، ومناقشة أدلته في مقابل أدلة شيخ الإسلام، مع بحث إضافي لتغطية نقاط غفل عنها ابن تيمية، والشيخ- محمد زكي إبراهيم أيضا، وقد انتصر الرجل في كتابه مراقد آل البيت لوجود عدد لا بأس به من هذه المراقد في مصر، رغم أن ذلك يخالف الحقائق التاريخية، فتراه يدافع عن وجود قبر السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب رضوان اللَّه عليهما في القاهرة، وأن رأس الحسين ( قد نقلت من عسقلان إلى القاهرة، ويسوق الشيخ أدلته، وبراهينه التي اعتمد عليها، فقلت في نفسي: لو أن الشيخ قرأ فتوى ابن تيمية لأراح واستراح، ولكن الصوفية يتبعون سياسة المقاطعة الفكرية لآراء كل من خالفهم.
لذلك زادت الرغبة في قلبي للكتابة في هذا الموضوع ليس لمناقشة شيخ العشيرة المحمدية فيما جاء في كتابه "مراقد آل البيت"، أو للرد على أدلته وبراهينه فقط، ولا ليكون تعميقا لفتوى ابن تيمية، أو نسخة حديثة منقحة من فتوى شيخ الإسلام، تُصوب في نفس الوقت ما ذهب إليه شيخ العشيرة، وإنما أردت أن أوفي الموضوع حقه، وكان لا بد عند الكتابة في هذا الموضوع من استيفاء هذه النقاط التالية: التحقيق العلمي والتاريخي لقبري السيدة زينب وسيدنا الحسين رضي اللَّه عنهما، ثم تناول موقف السنة من القبور والأضرحة، وهل لنا أن نجمع بين ضريح ومسجد في مكان واحد مع بيان لأحكام المذاهب الأربعة حول الموضوع، ثم نناقش آراء المخالفين ودعاواهم بأنهم يحبون آل البيت، ويودونهم اتباعا للمودة في القربى، ونشرح اللبس الحاصل في حجج هؤلاء، ثم تناول ما يترتب على اعتقاد الناس وجود القبرين بمصر، ثم نناقش الظروف السياسية لمقتل الحسين، التي تهيئ لخروجه من الحجاز إلى العراق حتى الشهادة ونوضح موقف الناس من خلافة أمير البلاد، وهل يجوز لأحد أن يطلب البيعة لنفسه بعد انعقادها للخليفة الأول؟ وقبل أن يطلب أحد البيعة لنفسه: هل لأحد أن يطلب الإمارة أصلا؟ وما حكم طلب الإمارة؟ إننا ما زلنا نصلى حتى اليوم نار هذه القضايا، ثم نتناول نصح الصحابة والتابعين للحسين، ثم نفسر موقفه في محاولة منا لبيان الدافع الحقيقي لخروجه، وتستمر الأحداث حتى يقتل الحسين، وتبدأ قضية رأس الحسين وموضعها اليوم.
ولمزيد من البيان كان لا بد من أن نقدم جميع وجهات النظر ثم نناقشها، ولا بد من تعميق التفكير في الحالة السياسية التي دعت الفاطميين إلى نقل رأس الحسين إلى مصر، وأيضا نناقش أدلة الأطراف المتأرجحين بين الإثبات والنفي، ثم نوضح رأي ابن تيمية باعتباره أكثر العلماء تفهما لأبعاد هذه القضية وأعمق من تكلم فيها، ونشرح أوجه اعتراضه على وجود الرأس في مصر، ثم نحسم القضية بالرأي الصحيح، والقاطع في شأنها بتوفيق اللَّه تعالى.
ثم نستكمل الموضوع بالحديث عن السيدة زينب رضوان اللَّه عليها، ونناقش ظروف دخول السيدة زينب إلى مصر كما يزعم المؤيدون، وهل دخلت مصر فعلا أم تلك فرية أخرى من افتراءات الباطنية وأين دفنت؟ وأقوال شهود العيان، ونسترشد بحقائق التاريخ، حتى نتمكن من مناقشة روايات دخولها لمصر، كما نوضح بعض المشاهد الكاذبة، والمختلقة سواء في مصر، أو غيرها من البلدان، والتي يحتاج حصرها، وتتبعها إلى دراسة مستقلة تستوفي جوانب الموضوع، وكان لزاما علينا قبل أن نختم الحديث عن هذا الموضوع أن نشرح أشهر لقب خلعه المصريون البسطاء على السيدة زينب رضوان اللَّه عليها ألا وهو رئيسة الديوان، فنعرج على الديوان، ونتعرف على هذا العالم السري الباطني العجيب.
ومسك الختام بيان حكم التصريف في ضوء الكتاب والسنة، وحكم العلماء فيمن آمن بتصريف الأولياء ، وقد تكون هذه النقطة من أهم ما يجب الإلمام به حيث نوضح أنواع الشرك التي يجب على المسلمين أن يتجنبوها لصيانة دينهم، والحفاظ على عقيدتهم ،
وهذا ما سيتم نشره بتوفيق الله تعالى في المقالات التالية تباعا(/2)
وأدعوه سبحانه أن يجعله علما نافعا للمسلمين على مر السنين والأعوام، وحسما صحيحا لمن شغلته الحقيقة فراح يبحث عنها، كما أدعوه جل شأنه أن يجعله في ميزان حسناتنا يوم القيامة واللَّه تعالى ولي التوفيق. ونسأله الهداية إلى سواء السبيل، وصلِّ اللَّهم على محمد عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه وسلم.(/3)
القياس المصدر الرابع من التشريع
إعداد/ متولي البراجيلي
الحلقة الثالثة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام على أشرف المرسلين، وبعد:
تحدثنا في اللقاءين السابقين عن تعريف القياس
وحجيته وضوابطه، ثم ذكرنا أقسام القياس وأدلته من القرآن، ونواصل البحث - إن
شاء اللَّه -:
ثانيًا أدلة السنة:وفي السنة آثار كثيرة تدل على أن النبي صلى
الله عليه وسلم نبه إلى القياس ودل على صلاحيته لاستنباط الأحكام ومنها:
1- حديث معاذ المشهور رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى
اليمن قال: «كيف تقضي إذا عُرض عليك قضاء؟».
قال: أقضي بكتاب اللَّه.
قال: «فإن لم تجد في كتاب اللَّه ؟».
قال: فبسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب اللَّه ؟».
قال: أجتهد رِأيي ولا آلو.
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: «الحمد لله
الذي وفق رسولَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله». [أبو
داود والترمذي]
وقد صحح الخطيب البغدادي الحديث قائلاً: على أن أهل العلم قد
تقبلوه واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم. [الفقيه والمتفقه]
إلا أن من
المحدثين من ضعفه من جهة السند مع القول بصحة معناه، وقد ذهب الشيخ الألباني -
رحمه اللَّه - إلى ضعف الحديث سندًا وأن في متنه مخالفة لأصل مهم، وهو عدم جواز
التفريق في التشريع بين الكتاب والسنة ووجوب الأخذ بهما معًا. [السلسلة الضعيفة
ح881]
وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: وهو الحجة في إثبات القياس
عند جميع الفقهاء القائلين به.
2- أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول اللَّه، ولدي غلام أسود [منكرًا لونه الأسود]، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «هل لك من إبل ؟» قال: نعم. قال: ما ألوانها ؟ قال: حمر. قال:
«هل فيها من أورق؟» (الأسود غير الحالك) قال: نعم. قال: فأنَّى ذلك ؟ قال: لعله
نزعه عرق، قال صلى الله عليه وسلم: «فلعل ابنك هذا نزعه عرق». [متفق عليه]
3- وعندما سألت الخثعمية عن الحج عن أبيها الذي أدركته فريضة الحج وهو شيخ كبير لا
يستطيع أن يثبت على الراحلة، فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم مستخدمًا
القياس: أرأيت لو كان على أبيك دينٌ فقضيته؛ أكان ينفعه ؟ قالت: نعم. قال صلى
الله عليه وسلم: «ودين اللَّه أحق أن يُقضى». [البخاري]
4- وعندما قال عمر: يا رسول اللَّه، لقد صنعت اليوم أمرًا عظيمًا، قبلت وأنا صائم، فأجابه رسول الله
صلى الله عليه وسلم مستخدمًا القياس: أرأيت لو تمضمضت بالماء؟ فقال: لا بأس،
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «فمه» (أي فماذا عليك). [أحمد وأبو داود]
5- قوله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرات،
هل يبقي من درنه شيء ؟» قالوا: لا. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللَّه
بهن الخطايا. [البخاري]
فالقياس: كما أن الماء مطهر من الأدران الحسية فالصلاة
مطهرة من الأدران (السيئات) المعنوية. إلى غير ذلك من أحاديث النبي صلى الله
عليه وسلم التي استخدم فيها القياس.
ثالثًا: أدلة الصحابة:
1- كتاب عمر رضي اللَّه عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه في القضاء، وفيه: اعرف الأشباه
والأمثال وقس الأمور، ثم الفهم الفهم، فيما أُدْلِيَ إليك مما ورد عليك مما ليس
في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عندك واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى
أحبها إلى اللَّه وأشبهها بالحق.
2- ولما بعث عمر رضي اللَّه عنه شريحًا على
قضاء الكوفة، قال له: انظر ما تبين لك في كتاب اللَّه فلا تسأل عنه أحدًا، وما
لم يتبين لك في كتاب اللَّه فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما
لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد رأيك.
3- وقال عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه:
من عَرَض له منكم قضاءً فليقض بما في كتاب اللَّه، فإن لم يكن في كتاب اللَّه
فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء أمر ليس في كتاب اللَّه
ولم يقض فيه نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاء أمر
ليس في كتاب اللَّه ولم يقض به نبيه ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه، فإن لم
يحسن فليقم ولا يستحي.
4- وكان ابن عباس رضي اللَّه عنهما إذا سُئل عن شيء، فإن
كان في كتاب اللَّه قال به، وإن لم يكن في كتاب اللَّه وكان عن رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم قال به، فإن لم يكن في كتاب اللَّه ولا عن رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم ولا عن أبي بكر وعمر، اجتهد رأيه.
قال ابن تيمية رحمه اللَّه: هذه
الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس - رضي اللَّه عنهم - وهم من اشهر
الصحابة بالفتيا والقضاء.
[مجموع الفتاوى 19/201]
5- ومن ذلك أيضًا: تقديم
الصحابة لأبي بكر رضي اللَّه عنه إمامًا للمسلمين وجعله خليفة رسول الله صلى(/1)
الله عليه وسلم قياسًا على تقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة،
فقالوا: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا، أفلا نرضاه لأمر
دنيانا؟!
رابعًا: أدلة المعقول:
1- إن اللَّه سبحانه ما شرع حكمًا إلاَّ
لمصلحة، وإن مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام، فإذا ساوت
الواقعة التي لا نصَّ فيها الواقعة المنصوص عليها في علة الحكم التي هي مظنة
المصلحة، قضت الحكمة والعدالة أن تساويها في الحكم تحقيقًا للمصلحة التي هي
مقصود الشارع من التشريع.
ولا يتفق وعدل اللَّه وحكمته أن يحرم شرب الخمر
لإسكاره محافظة على عقول عباده، ويبيح نبيذًا آخر فيه خاصية الخمر، وهي
الإسكار، لأن مآل هذا هو: المحافظة على العقول من مسكر، وتركها عرضة للذهاب
بمسكر آخر.
2- إن نصوص القرآن والسنة محدودة ومتناهية، ووقائع الناس وأقضيتهم
غير محدودة ولا متناهية، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية وحدها هي المصدر
التشريعي لما لا يتناهى، فالقياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع
المتجددة، ويكشف حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث ويوفق بين التشريع
والمصالح.
3- إن القياس دليل تؤيده الفطرة السليمة والمنطق الصحيح، فإن من نهى
عن شراب لأنه سام، يقيس بهذا الشراب كل شراب سام، ومن حرم عليه تصرف لأن فيه
اعتداءً وظلمًا لغيره، يقيس بهذا كل تصرف فيه اعتداء وظلم لغيره، ولا يُعرف بين
الناس اختلاف في أن ما جرى على أحد المثلين يجري على الآخر، ما دام لا فارق
بينهما.
ولعل القياس من أهم الأسباب التي جعلت الشريعة الإسلامية صالحة لكل
زمان ومكان، حيث تتسع لكل ما يطرأ على مصالح العباد وتصرفاتهم.
نفاة القياس
وأدلتهم: ومع أن الجمهور على أن القياس حجة شرعية، وأنه في المرتبة الرابعة من
الحجج الشرعية بعد القرآن والسنة والإجماع؛ إلا أنه يوجد من أهل العلم من
أنكرالقياس، كأهل الظاهر وخاصة ابن حزم - يرحمه اللَّه -.
وأوردوا أدلة مختلفة
من القرآن وآثار الصحابة ومن المعقول تنفي القياس، وسننظر إلى هذه الأدلة وكيف
وجهها أهل العلم في الرد عليهم.
أولاً: من القرآن:
1- قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله
ورسوله[الحجرات: 39].
فقال أهل الظاهر إن القياس يعارض هذه الآية لأنه
تقدُّم أو تقديم بين يدي اللَّه ورسوله بحكم يقول به في واقعة لم يرد فيها نص
من كتاب أو سنة.
2- قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم
[الإسراء: 36].
فقالوا: أي لا تتبع ما ليس لك به علم، والقياس أمر ظني مشكوك
فيه، فيكون العمل به بغير علم، ومن قبيل الظن الذي لا يغني عن الحق شيئًا، كما
جاء في القرآن الكريم.
3- قوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب
تبيانا لكل شيء <<. ففي القرآن بيان كل حكم فلا حاجة معه للقياس،
لأنه إذا جاء بحكم ورد في القرآن، ففي القرآن الكفاية، وإن جاء بما يخالفه فهو
مرفوض غير مقبول.
ومن مثل ذلك، قوله تعالى: ما فرطنا في الكتاب من
شيء[الأنعام: 38].
وقوله تعالى: ولا رطب ولا يابس إلا في
كتاب مبين[الأنعام: 59].
ثانيًا: من آثار الصحابة:
قالوا: وردت آثار
كثيرة عن الصحابة بذم الرأي وإنكار العمل به، ومن ذلك قول عمر رضي اللَّه عنه:
إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا
بالرأي فضلوا وأضلوا.
وقوله أيضًا: إياكم والمطايلة، قيل: وما المطايلة ؟ قال:
المقايسة.
وقال علي بن أبي طالب: لو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان باطن الخف أولى
بالمسح من ظاهره، وهذا يدل على ذم القياس، وأنه ليس بحجة فلا يعمل به.
ثالثًا: ومن المعقول:
قالوا: إن القياس يؤدي إلى الاختلاف والنزاع بين الأمة لأنه مبني
على أمور ظنية من استنباط علة الأصل وتحققها في الفرع، وهذه أمور تختلف فيها
الأنظار، فتختلف الأحكام، ويكون في الواقعة الواحدة أحكام مختلفة، فتتفرق
الأمة، والتفرق أمر مذموم غير محمود، وما يؤدي إليه مذموم أيضًا وهو القياس.
ثم
إن أحكام الشريعة لم تبن على أساس التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين
المختلفين، ولهذا نجد في الشريعة أحكامًا مختلفة لأمور متماثلة مثل: إسقاط
الصوم والصلاة عن الحائض في مدة حيضها، وتكليفها بقضاء الصوم دون الصلاة بعد
طهرها، وإيجاب قطع يد السارق وعدم قطع يد المنتهب، ولا فرق بين الاثنين، وإقامة
الحد على القاذف بالزنا دون القاذف بالكفر، مع أن الكفر أقبح من الزنا.
كما نجد
في الشريعة أحكامًا متماثلة لأمور مختلفة مثل: جعل التراب طهورًا كالماء، وهما
مختلفان.
فإذا كانت الشريعة لم تراع التماثل بين الأشياء في تشريعها الأحكام،
فلا حجة في القياس، لأنه يعتمد المساواة والتماثل والشريعة لم تعتبرهما.
مناقشة
أدلة نفاة القياس:الأحكام الشرعية معللة، أي أنها بنيت على عللٍ وأوصافٍ اقتضت
هذه الأحكام، سواء كانت عبادات أو معاملات، ولكن علل العبادات محجوبة عنا لا
سبيل إلى إدراكها تفصيلاً، وإن كنا جازمين بوجود هذه العلل.(/2)
أما في المعاملات
فإن عللها يمكن إدراكها بطريق سائغ مقبول، لذا يمكن طرد أحكامها في جميع
الوقائع التي تشتمل على هذه العلل جريًا وراء نهج الشريعة، في التشريع وأخذًا
بقانون التماثل الذي دل عليه القرآن في كثير من نصوصه، والتسوية بين المتماثلين
والتفريق بين المختلفين أمر مشهود له بالصحة والاعتبار، قال تعالى:
أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35) ما لكم كيف
تحكمون[القلم: 35، 36].
وقال تعالى: أم حسب الذين اجترحوا
السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات
سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون[الجاثية:
47].
فالقرآن إذن شاهد على صحة قانون التساوي بين المتماثلين والتفريق بين
المختلفين، وما القياس إلا أخذًا بهذا القانون.
أما ما احتج به نفاة القياس:
فالآيات القرآنية لا حجة لهم فيها، لأن القياس يؤخذ به حيث لا نصَّ في المسألة،
فلا يكون تقديمًا بين يدي اللَّه ورسوله.
ولأنه يكشف عن حكم اللَّه في الواقعة
التي لم يرد بحكمها نص صريح، فهو مظهر لحكم ثابت وليس مثبتًا لحكم غير موجود،
فلا يكون مخالفًا لآية: وأن احكم بينهم بما أنزل الله <<.
وأن القياس يفيدنا الظن الراجح في صحة الحكم مع ملاحظة أن من النصوص ما هو ظني
الدلالة، والظن الراجح كاف في إثبات الأحكام العملية، فلا يكون مخالفا لآية:
ولا تقف ما ليس لك به علم[الإسراء: 36]، وآية: وإن
الظن لا يغني من الحق شيئا[النجم: 28].
- وكون القرآن
تبيانًا لكل شيء، يعني تبيانه للأحكام لفظًا أو معنى، وليس معناه النص الصريح
على كل حكم.
- أما الآثار الواردة عن الصحابة في ذم الرأي والقياس، فتحمل على
الرأي الفاسد والقياس الفاسد، ونحن نسلم أن من القياس ما هو فاسد، كما أن منه
ما هو صحيح، والصحيح هو ما توافر فيه الأركان والشروط التي ذكرناها من قبل،
والفاسد ما كان خلاف ذلك، مثل قياس المبطلين الذين: قالوا إنما البيع
مثل الربا[البقرة: 275].
على أن حقيقة البيع تخالف حقيقة الربا.
ومثل ما قصَّ اللَّه علينا من قول إخوة يوسف عليه السلام: إن يسرق فقد
سرق أخ له من قبل[يوسف: 77].
وكقياس إبليس المبني على أن النار
أفضل من الطين، وغيره.
ولكن وجود قياس فاسد لا يقدح في حجية الصحيح منه، فإننا
نجد مما ينسب إلى السنة ما هو باطل قطعًا كالأحاديث الموضوعة، ولكن لا يقدح هذا
في وجوب اتباع السنة.
وأما قولهم إن القياس مثار اختلاف ونزاع، فالرد عليهم: أن
الاختلاف موجود في استنباط الأحكام الشرعية العملية، وهو سائغ طالما لا يوجد نص
صريح قطعي الدلالة في المسألة المختلف فيها، بل إن نفاة القياس أنفسهم اختلفوا
فيما بينهم في كثير من الأحكام حتى ولو كانوا من مذهب واحد، والاختلاف المذموم
هو ما كان في المسائل الاعتقادية في أصول الدين لا في فروعه، وفي الأحكام
القطعية أو المجمع عليها، لا في الأحكام الظنية.
- وأما ما قاله بعضهم من أن
الشريعة جاءت بالتفريق بين المتماثلات والتسوية بين المختلفات وبهذا فيهدم أساس
القياس، فهو قول غير سديد مطلقًا، فالشريعة لم تأت قط بما ينافي ما هو مركوز في
الفطر السليمة من تفريق بين المختلفين وتسوية بين المتماثلين وأحكامها الدالة
على ذلك كثيرة.
أما إذا جاءت الشريعة باختصاص بعض الأنواع بحكم يفرق بين
نظائره، فلا بد أن يختص هذا النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم، ويمنع مساواة غيره
به، فليس في الشريعة أحكام تخالف قانون التماثل، وأما الأمثلة التي ضربوها
فبيانها:
- أن الحائض بعد طهرها تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، فهذا مبني على
رفع الحرج في قضاء الصلاة دون الصوم، لكثرة أوقات الصلاة، والحرج مرفوع
شرعًا.
- أما وجوب حد القاذف بالزنا دون الكفر، لأن القذف بالزنا لا سبيل للناس
للعلم بكذب القاذف، فكان حده تكذيبًا له وتبرئة لعرض المقذوف ودفعًا للعار عنه،
لا سيما إن كانت امرأة، أما الرمي بالكفر فإن مشاهدة حال المسلم واطلاع
المسلمين عليه كافٍ في تكذيب القاذف، وباستطاعة المقذوف أن ينطق بكلمة الإيمان
فيظهر كذب القاذف، أما الرمي بالزنا، فماذا يفعل المقذوف حتى يظهر كذب القاذف
؟
- وكذلك إيجاب قطع يد السارق دون المنتهب، لأن السارق يهتك الحرز ويكسر القفل
وينقب الدور، ولا يمكن لصاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فكان لابد من إيجاب
القطع على السارق حسمًا لهذا البلاء على الناس، وهذا بخلاف المنتهب فإنه ينهب
المال على مرأى من الناس فيمكن مطاردته وانتزاع المال من يده، كما يمكن الشهادة
عليه لدى الحاكم فينزع منه الحق، وفضلاً عن ذلك فإن المنتهب يعاقب تعزيرًا،
فليست حقيقة السرقة كحقيقة النهب، فافترقا في الحكم.
- وأما التراب لما صار
طهورًا ورافعًا للحدث عند فقد الماء، فهذا حكم تعبدي، والأحكام التعبدية لا
تعلل.
وما أجمل المناظرة التي جرت بين أبي العباس أحمد بن سريج الشافعي، ومحمد
بن داود الظاهري.
قال أبو العباس له: أنت تقول بالظاهر وتنكر القياس، فما تقول(/3)
في قوله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن
يعمل مثقال ذرة شرا يره[الزلزلة: 7، 8].
فمن يعمل مثقال
نصف ذرة ما حكمه؟
فسكت ابن داود الظاهري طويلاً، ثم قال: أبلعني ريقي.
قال أبو العباس: قد أبلعتك دجلة.
قال ابن داود الظاهري: أنظرني ساعة.
قال له أبو العباس: أنظرتك إلى قيام الساعة... وافترقا رحمهما اللَّه.
ولقد حمل ابن حزم
الظاهري رحمه اللَّه على الأئمة حملة شديدة لأخذهم بالقياس وقال: إن كل ما لم
يأت بنص من كتاب أو سنة لا يجوز البحث عنه، فهو مما سكت اللَّه عنه، وهو
عفو.
لكن - يقول الشنقيطي - ليس كل ما سكت عنه الوحي فهو عفو، بل الوحي يسكت عن
أشياء ولابد من حلها، ومن أمثلة ذلك مسألة العول (في الميراث)، فأول عول نزل في
زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ماتت امرأة وتركت زوجها وأختيها، فجاء زوجها
وأختاها إلى أمير المؤمنين، فقال الزوج: يا أمير المؤمنين، هذه تركة زوجتي ولم
تترك ولدًا، والله يقول في كتابه: ولكم نصف ما ترك أزواجكم
إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد
[النساء:12].
فهذه زوجتي ولم يكن لها ولد، فلي نصف ميراثها بهذه الآية ولا
أتنازل عن نصف الميراث بدانق.
فقالت الأختان: يا أمير المؤمنين هذه تركة أختنا
ونحن اثنتان، والله يقول: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان
مما ترك[النساء: 176]، والله لا نقبل النقص عن الثلثين بدانق.
فقال
عمر: ويلك يا عمر، والله إن أعطيت الزوج النصف لم يبق للأختين ثلثان، وإن أعطيت
الثلثين للأختين لم يبق للزوج النصف.
(فهنا الوحي سكت ولا يمكن أن يكون عفوًا،
فلم يبين أي النصين ماذا نفعل فيهما، فلا بد من حل، فلا نقول لهم: تهارشوا على
التركة تهارش الحمر أو ننزعها من واحد إلى الآخر، فلابد من الاجتهاد).
فجمع عمر
رضي الله عنه الصحابة وأسف كل الأسف أنه لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن العول لمثل هذا.
فقال له العباس بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه: يا أمير
المؤمنين، أرأيت هذه المرأة لو كانت تُطالب (مدينة) بسبعة دنانير وتركت ستة
دنانير فقط، ماذا كنت فاعلاً ؟ قال: أجعل الدنانير الستة سبعة أنصباء، وأعطي كل
واحد من أصحاب الدنانير نصيبًا من السبعة، قال: كذلك فافعل.
وللحديث بقية إن شاء اللَّه تعالى.
المراجع:
1- الوجيز في أصول الفقه: د. عبد الكريم زيدان.
2- معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة: للجيزاني.
3- علم أصول الفقه: عبد الوهاب خلاف.
4- التأسيس في أصول الفقه: مصطفى سلامة.
5- مذكرة في أصول الفقه: للشنقيطي.
6- أصول الفقه: د. شعبان محمد إسماعيل.
7- أقيسة الصحابة وأثرها في
الفقه الإسلامي: د. محمود حامد عثمان.
8- الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي.
9- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.
10- السلسلة الضعيفة للألباني.
11- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمي(/4)
الكبائر والمعاصي
أولاً: المعاصي:
أ- تعريفها لغة وشرعاً.
ب- ألفاظ تدخل في معنى العصيان.
ج- أسباب الوقوع في المعاصي.
د- أقسام الذنوب والمعاصي.
ثانياً: الكبائر:
أ- تعريفها لغة وشرعاً.
ب- حكم مرتكب الكبيرة.
ثالثاً: الصغائر:
أ- تعريفها لغة وشرعاً.
ب- لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار.
رابعاً: آثار الذنوب والمعاصي:
أ- أثر الذنوب والمعاصي على الفرد.
ب- أثر الذنوب والمعاصي على المجتمع.
خامساً: مكفرات الذنوب والمعاصي:
أ- الفرق بين تكفير السيئات ومغفرة الذنوب.
ب- محو الذنوب.
1- الذنوب والسيئات تحت مشيئة الله.
2- هل الحسنات تمحو الكبائر.
ج- الذنوب التي لا يغفرها الله تعالى
أولاً: المعاصي:
أ- تعريفها:
لغة:
قال أبو عبيد: "وأصل العصا الاجتماع والائتلاف. ومنه قيل للخوارج: قد شقوا عصا المسلمين: أي فرّقوا جماعتهم".
وقال ابن منظور: "العصيان خلاف الطاعة، عصى العبد ربه إذا خالف أمره. وعصى فلانٌ أميره يعصيه عصياً وعصياناً ومعصية إذا لم يطعه فهو عاص وعَصِيّ".
وشرعاً:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المعصية هي مخالفة الأمر الشرعي، فمن خالف أمر الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه فقد عصى".
وقيل: "المعاصي: هي ترك المأمورات، وفعل المحظورات، أو ترك ما أوجب وفُرض من كتابه أو على لسان رسول صلى الله عليه وسلم وارتكاب ما نهى الله عنه أو رسوله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأعمال الظاهرة أو الباطنة".
ب- ألفاظ تدخل في معنى العصيان:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لفظ (المعصية) و(الفسوق) و(الكفر): فإذا أطلقت المعصية لله ورسوله دخل فيها الكفر والفسوق، كقوله: {وَمَن يَّعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}، وقال تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود:59]، فأطلق معصيتهم للرسل بأنهم عصوا هوداً معصية تكذيب لجنس الرسل، فكانت المعصية لجنس الرسل".
وقد جاء معنى العصيان بألفاظٍ كثيرة في الكتاب والسنة، ومنها في القرآن:
1- الذنب: قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت:40].
قال الراغب رحمه الله: "والذنب في الأصل: الأخذ بذنب الشيء، ويُستعمل في كل فعلٍ يُستوخم عقباه اعتباراً بذنب الشيء، ولهذا يسمّى الذنب تبعة، وعقوبة اعبتاراً لما يحصل من عاقبته".
2- الخطيئة: قال تعالى عن إخوة يوسف: {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97].
3- السيئة: قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ} [هود:114].
قال الراغب الأصفهاني: "والخطيئة والسيئة يتقاربان، لكن الخطيئة أكثر ما تُقال فيما لا يكون مقصوداً إليه في نفسه".
4- الحُوب: قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء:2].
قال الراغب الأصفهاني: "الحُوب: الإثم".
5- الإثم: قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْى} [الأعراف:33].
قال الراغب رحمه الله: "الإثم والآثام: اسمٌ للأفعال المبطئة عن الثواب".
والأثيم: "الكثير ركوب الإثم".
6- الفسوق والعصيان: قال تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7].
قال الراغب رحمه الله: "فسق فلانٌ: خرج عن حجر الشرع".
7- الفساد: قال جل وعلا: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ} [المائدة:32].
قال الراغب رحمه الله: "الفساد: خروج الشيء عن الاعتدال. قليلاً كان الخروج عنه أو كثيراً، ويُضادّه الصلاح".
8- العُتوّ: قال تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166].
قال الراغب رحمه الله: "العتُوّ: النبوّ عن الطاعة. يُقال: عتا يعتو عتواً وعتياً".
9- الإصر: قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].
قال ابن سيده رحمه الله: "الإصر: الذنب والثّقل".
ج- أسباب الوقوع في المعاصي:
1- الابتلاء بالخير والشرّ:
قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ} يقول: (نبتليكم بالشدّة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال).
2- الابتلاء بالمال والولد:
قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15].
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: {إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} أي: اختبار وابتلاء من الله تعالى لخلقه ليعلم من يطيعه ممن يعصيه".(/1)
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (لا يقولن أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس منكم أحدٌ إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} فأيكم استعاذ فليستعذ بالله تعالى من مضلاّت الفتن).
3- فتنة الشرك وهي أشرّ الفتن وأطغاها وأخبثها:
قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ} [الأنفال:39]، فبيّن تعالى بأن الدين غير الفتنة وهما متغايران.
4- فتنة العشق والافتتان بالنساء والمردان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} [التوبة:49].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما تركت بعدي فتنةً أضرّ على الرجال من النساء)).
وكان الجدُّ بن قيس يتهرّب من القتال بهذا العذر، قال عنه ابن القيم رحمه الله: "فالفتنة التي فرّ منها بزعمه هي فتنة محبة النساء، وعدم صبره عنهن، والفتنة التي وقع فيها هي فتنة الشرك والكفر في الدنيا والعذاب في الآخرة".
أما الفتنة بالأمرد فإنها أشدّ.
قال الهيتمي رحمه الله: "وحرّم كثير من العلماء الخلوة بالأمرد في نحو بيت أو دكان كالمرأة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما خلا رجلٌ بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما)) بل في المرد من يفوق النساء بحسنه، فالفتنة به أعظم، ولأنه يمكن في حقه من الشرّ ما لا يمكن في حق النساء".
قال الحسن بن ذكوان: "لا تجالس أولاد الأغنياء، فإن لهم صوراً كصور العذارى، وهم أشدّ فتنةً من النساء".
ودخل سفيان الثوري الحمام، فدخل عليه صبيٌ حسن الوجه، فقال: أخرجوه عني، أخرجوه عني، فإني أرى مع كل امرأة شيطاناً، ومع كل صبي بضعة عشر شيطاناً.
5- الفتنة بالمال:
عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)).
والمال والأولاد سبب لنسيان ذكر الله تعالى: قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر:19]: "أي: لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل الصالح الذي ينفعكم في معادكم. فإن الجزاء من جنس العمل، ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون عن طاعة الله، الهالكون يوم القيامة، الخاسرون يوم معادهم كما قال تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]".
6- شبهات أهل البدع:
قال سفيان الثوري رحمه الله: "البدعة أحبّ إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها"؛ ذلك لأن صاحبها يظن نفسه على الحق فلا يتوب أبداً، أو لأن البدعة أكبر من كبائر أهل السنة.
لذلك تواتر عن أئمة السلف في التحذير من البدعة والمبتدع. قال المرّوذي: قلت لأبي عبد الله يعني إمامنا الإمام أحمد بن حنبل - ترى للرجل أن يشتغل بالصوم والصلاة، ويسكت عن الكلام في أهل البدع؟ فكلح في وجهه. وقال: إذا هو صام وصلى واعتزل الناس؛ أليس إنما هو لنفسه؟ قلت: بلى. قال: فإذا تكلم. كان له ولغيره. يتكلم أفضل".
د- أقسام الذنوب والمعاصي:
1- تقسيمها من حيث من وقعت في حقه:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الذنوب ثلاثة أقسام:
أحدها: ما فيه ظلم الناس: كالظلم بأخذ الأموال، ومنع الحقوق والحسد، ونحو ذلك.
والثاني: ما فيه ظلم للنفس فقط كشرب الخمر والزنا إذا لم يتعدّ ضررهما.
والثالث: ما يجتمع فيه الأمران، مثل أن يأخذ المتولّي أموال الناس يزني بها ويشرب بها الخمر، ومثل أن يزني بمن يرفعه على الناس بذلك السبب ويضرّهم كما يقع ممن يحب بعض النساء والصبيان".
2- تقسيمها من حيث نوعها:
ويمكن أن تقسّم باعتبارٍ آخر وهو:
1- معاصي في الاعتقاد كالشرك والنفاق وغيرهما.
2- معاصي في الأخلاق كالزنى وشرب الخمر وغيرهما.
3- معاصي في العبادات كترك الصلاة أو التهاون بها، ومنع الزكاة وغيرها.
4- معاصي في المعاملات كعقود الربا والرشوة وشهادة الزور والسرقة وغيرها.
3- تقسيمها من حيث عظمها:
وجمهور أهل السنة يرون أن المعاصي تنقسم إلى قسمين: كبائر وصغائر.
قال ابن القيم رحمه الله: "والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، بنصّ القرآن والسنة، وإجماع السلف، وبالاعتبار".(/2)
وأنكرت طائفة تقسيم المعاصي إلى كبائر وصغائر، واستدلوا على قولهم هذا بأن كل مخالفة بالنسبة لجلال الله وعظمته كبيرة، فكرهوا تسمية أي معصية صغيرة؛ لأنها إلى كبرياء وعظمة الله كبيرة. ويؤيد هذا قول أنس بن مالك رضي الله عنه: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا نعدّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات!).
وقول جمهور أهل السنة أصوب، إذ دلّ الكتاب عليه، قال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، ففي هذه الآية بيان أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر.
وقوله جل جلاله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} [النجم:32] في الآية استثناء منقطع، لأن اللمم من صغائر الذنوب، ومحقرات الأعمال، فهو استثناء من عامة الكبائر.
ومن السنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات بينهن إن اجتنبت الكبائر)) وفي رواية ((ما لم تغش الكبائر)).
يقول الغزالي رحمه الله: "لا يليق إنكار الفرْق بين الكبائر والصغائر، وقد عُرف من مدارك الشرع".
انظر: تهذيب اللغة للأزهري (3/77).
لسان العرب (4/2981) مادة: عصى.
مجموع الفتاوى (8/269).
المعاصي وآثارها لحامد المصلح (ص 30).
مجموع الفتاوى (7/59).
مفردات الراغب (ص 331). وانظر المخصص لابن سيده (4/78).
مفردات الراغب (ص 287).
مفردات الراغب ( 261).
مفردات الراغب (ص 63).
المخصص لابن سيده (4/80).
مفردات الراغب (ص 637).
مفردات الراغب (ص 636).
مفردات الراغب (ص 546).
المخصص لابن سيده (4/80).
جامع البيان (17/25).
تفسير القرآن العظيم (4/376).
رواه الطبري في تفسيره (9/219)، وانظر: والتمهيد لابن عبد البر (12/186) وإغاثة اللهفان لابن القيم (2/160).
انظر: المعاصي وآثارها (ص 56).
رواه البخاري في النكاح باب ما يتقى من شؤم المرأة (5096)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء (2740).
انظر ترجمته في الإصابة (1/238-239).
إغاثة اللهفان (2/158).
ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/326) وقال: رواه الطبراني، وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف جداً، وفيه توثيق. وذكره المنذري في الترغيب (3/39) وقال: حديث غريب رواه الطبراني. والحديث رواه الترمذي بلفظ: (لا يخلونّ رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) كتاب الرضاع، باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات (1171) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1/343).
الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/310).
انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/310).
انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/311).
رواه البخاري في الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب (3158) ومسلم في الزهد والرقائق برقم (2961).
تفسير القرآن العظيم (4/342).
رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/132). وانظر: مجموع الفتاوى (11/472).
طبقات الحنابلة (2/216).
الاستقامة لابن تيمية (2/245-246)، وانظر: مجموع الفتاوى (28/145).
المعاصي وآثارها (ص 39).
مدارج السالكين (1/342).
انظر: الزواجر (1/13)، وشرح صحيح مسلم (2/84-85).
رواه البخاري في الرقاق باب ما يتقى من محقرات الذنوب (6492).
انظر: المعاصي وآثارها (ص 35).
المعاصي وآثارها (ص 35).
رواه مسلم في الطهارة، باب الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة مكفرات ما بينهن (233).
انظر: الزواجر (1/14).
ثانياً: الكبائر:
أ- تعريفها:
الكبيرة لغةً: من الكبر، قال ابن منظور رحمه الله: "الكبر: الإثم الكبير، وما وعد الله عليه النار، والكبرة كالكبر: التأنيث للمبالغة، وفي التنزيل العزيز: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَواحِشَ} [الشورى:37]. وفي الأحاديث ذكر الكبائر في غير موضع، واحدتها كبيرة: وهي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعاً لتعظيم أمرها".
شرعاً: "اختلف في تحديدها على أقوال:
1- أنها ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيدٌ شديد بنص كتاب أو سنة.
2- أنها كل معصية أوجبت الحدّ. وبه قال البغوي وغيره.
3- أنها كل ما نص الكتاب على تحريمه، أو وجب في جنسه حدّ، وترك فريضة تجب فوراً، والكذب في الشهادة والرواية واليمين.
4- أنها كل جريمة.
5- أنها كل ذنب ختمه الله تعالى بنارٍ أو غضبٍ أو لعنةٍ أو عذاب، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما.
6- وقال القرطبي في المفهم: "الراجح أن كل ذنبٍ نصّ على كبره أو عظمه، أو توعّد عليه بالعقاب، أو علّق عليه حدّ، أو اشتدّ النكير عليه فهو كبيرة، وهذا الكلام في غير ما قد ورد النصّ الصريح فيه أنه كبيرة من الكبائر، أو أكبر الكبائر.
ب- حكم مرتكب الكبيرة:
1- ذهبت الخوارج إلى أن مرتكب الكبيرة كافر، وحكمه في الآخرة الخلود في النار.(/3)
2- وذهب المعتزلة إلى أن مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو بمنزلة بين المنزلتين، أما في الآخرة فحكمه الخلود في النار، فخالفوا الخوارج في الاسم، ووافقوهم في الحكم.
3- وذهبت المرجئة إلى أنه لا يضر مع الإيمان معصية، فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمن كامل الإيمان، ولا يستحق دخول النار.
4- وذهب أهل السنة والجماعة إلى أن مرتكب الكبيرة مؤمنٌ ناقص الإيمان، قد نقص من إيمانه بقدر ما ارتكب من معصية، فلا يسلب اسم الإيمان بالكلية، ولا يعطى اسم الإيمان بإطلاق، فهو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وحكمه في الآخرة أنه تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر له ابتداء وأدخله الجنة، وإن شاء عذّبه بقدر معصيته، ثم يخرجه ويدخله الجنة .
لسان العرب لابن منظور (6/443) مادة: كبر.
انظر: الزواجر لابن حجر الهيتمي (1/14-25).
انظر: شرح الطحاوية (ص 371)، وشرح صحيح مسلم للنووي (2/85)، ومجموع الفتاوى (11/650).
انظر: نيل الأوطار للشوكاني (10/243)، ومجموع الفتاوى (11/654-655)، وفتح الباري (12/184).
انظر: شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص190-192).
ثالثاً: الصغائر:
أ- تعريفها:
الصغائر لغة:
قال ابن منظور رحمه الله: "الصغر: ضد الكبر. قال ابن سيده: الصغر والصغارة خلاف العِظم، وقيل: الصِّغَر في الجرم، والصَّغارة في القدْر".
والصغائر شرعا:
1- قيل: إنها ما لم يقترن بالنهي عنها وعيد أو لعن أو غضب أو عقوبة.
2- وقيل: ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو صغيرة.
3- وقيل: هي ما دون الحدّين: حدّ الدنيا، وحد الآخرة.
4- وقيل: هي كل ما ليس فيها حدٌّ في الدنيا ولا وعيدٌ في الآخرة، والمراد بالوعيد: الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب.
ب- لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار:
عن سعيد بن جبير قال: إن رجلاً قال لابن عباس رضي الله عنهما: كم الكبائر أسبع هي؟ قال: (إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار).
ويؤيد ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما، ما روى سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قومٍ نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)).
قال ابن القيم رحمه الله: "وها هنا أمرٌ ينبغي التفطّن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف، والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر. وقد يقترن بالصغيرة من قلّة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر. بل يجعلها في أعلى المراتب. وهذا أمرٌ مرجعه إلى ما يقوم بالقلب. وهو قدر زائد على مجرّد الفعل. والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره" .
لسان العرب (7/351) مادة: صغر.
انظر قواعد الأحكام للعزّ (ص 38).
الجواب الكافي (ص 136).
انظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص 371). ومجموع الفتاوى (11/650).
شرح العقيدة الطحاوية (ص 371).
جامع البيان (1/41)، وانظر: فتح الباري (12/183) ومختصر منهاج القاصدين (ص 257).
رواه أحمد في المسند (5/331)، وصححه الألباني في الصحيحة (389).
مدارج السالكين (1/356).
رابعاً: آثار الذنوب والمعاصي:
أ- أثر الذنوب والمعاصي على الفرد:
1- تضعف في القلب تعظيم الربّ جل وعلا ووقاره وهيبته وكبرياءه:
قال ابن القيم رحمه الله: "فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيم حرماته، وتعظيم حرماته تحول بينه وبين الذنوب، والمتجرئون على معاصيه ما قدروا الله حقّ قدره، وكيف يقدره حق قدره أو يعظمه ويكبره؛ ويرجو وقاره، ويجلّه من يهون عليه أمره ونهيه؟ هذا من أمحل المحال، وأبين الباطل، وكفى بالمعاصي عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله، وتعظيم حرماته، ويهون عليه حقه".
2- تُذهب حياء القلب وغيرته:
عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)).
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله لهذا الحديث تفسيرين:
أحدهما: أنه على التهديد والوعيد، والمعنى: من لم يستح فإنه يصنع ما شاء من القبائح، إذ الحامل على تركها الحياء، فإذا لم يكن هناك حياء يردعه عن القبائح فإنه يواقعها، وهذا تفسير أبي عبيدة.
والثاني: أن الفعل إذا لم تستح منه من الله فافعله، وإنما الذي ينبغي تركه هو ما يستحي منه من الله، وهذا تفسير الإمام أحمد في رواية.
وحقيقة الحياء كما نقل النووي عن العلماء: "خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي حق".
3- تنكس القلب وتزيغه، فلا يطمئن إلا بها:(/4)
إن القلب إذا غرق في أوحال المعاصي والآثام، وركن إليها واطمأن بها؛ فإن القبيح يكون لديه حسناً، والحسن قبيحاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، فما وافق هواه فهو الصواب الحلال، وما خالفه فهو الخطأ الحرام... حينئذٍ تضعف عنده إرادة التقوى، بل قد تموت لاستمراره على ما حرّم الله.
قال تعالى: عن المنافقين: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة:7].
قال البغوي رحمه الله: "طبع الله على قلوبهم فلا تعي خيراً ولا تفهمه، وحقيقة الختم الاستيثاق من الشيء كيلا يدخله ما خرج منه ولا يخرج عنه ما فيه، ومنه الختم على الباب. قال أهل السنة: أي حكم على قلوبهم بالكفر، لما سبق من علمه الأزلي فيهم".
4- توهن القلب وتظلمه:
قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور:40].
قال ابن كثير رحمه الله: "فهذا قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد، الذي لا يعرف حال من يقوده، ولا يدري أين يذهب، بل كما يقال في المثل للجاهل أين تذهب؟ قال: معهم. قيل: فإلى أين يذهبون؟ قال: لا أدري.. فالكافر يتقلّب في خمسة من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار".
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (إن للحسنة ضياء في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاناً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق).
5- حصول خيانة القلب واللسان عند ساعة الاحتضار عن النطق بالشهادة:
قال ابن القيم: "يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار، والانتقال إلى الله تعالى، فربما تعذّر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناسُ كثيراً من المحتضرين أصابهم ذلك. حتى قيل لبعضهم: قل: لا إله إلا الله، فقال: آه... آه... لا أستطيع أن أقولها. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال:
يا رُبّ قائلةٍ يوماً وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجاب
ثم قضى. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، ويقول: تاتنا تنتنا... حتى قضى".
ب- أثر الذنوب والمعاصي على المجتمع:
1- أنها سبب هلاك الأمم:
كإغراق قوم نوحٍ عليه السلام، وفرعون وقومه، وإهلاك قوم عاد بالريح العقيم، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بجعل عاليها سافلها. إلى غير ذلك.
قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]، وقال: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءاخَرِينَ} [الأنعام:6].
إن هذا النصّ في القرآن: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} وما يماثله يقرّر حقيقة، ويقرّر سنة، إنه يقرّر حقيقة أن الذنوب تهلك أصحابها، وأن الله هو الذي يهلك المذنبين، وأن هذه سنة ماضية - ولو لم يرها فرد في عمره القصير - ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب، وحين تقوم حياتها على الذنوب.. كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتأريخ: فإن هلاك الأجيال، واستخلاف الأجيال؛ من عوامله، فعل الذنوب في جسم الأمم، وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار؛ إمّا بقارعة من الله عاجله - كما كان يحدث في التاريخ القديم - وإمّا بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي، الذي يسري في كيان الأمم - مع الزمن - وهي توغل في متاهة الذنوب.
2- أنها تزيل النعم بمختلف أنواعها وأشكالها، وتحلّ النقم والمحن والفتن مكانها:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ...} [الرعد:11].
فالله تعالى لا يسلب نعمةً أنعمها على قومٍ أو مجتمع أو أمةٍ حتى يحدثوا تغيير ما هم عليه من الخير والهداية إلى الشرّ والضلالة. وكذلك لا يغيّر ما حلّ بقومٍ جزاء عصيانهم من عذاب ونكال وذل وخذلان إلى نعمةٍ ورخاء، وسلامة وإخاء حتى يغيروا ما بأنفسهم من الشر والآثام إلى توبةٍ خالصة، وطاعة للملك العلام.
3- أنها تسلب نعمة العافية في الأبدان:(/5)
جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لم تظهر الفاحشة في قومٍ قطّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)).
وعن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من النوم محمراً وجهه وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وعقد سفيان (تسعين أو مائة) قيل: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم إذا كثُر الخبث)).
قال النووي رحمه الله: "والخبث هو بفتح الخاء والباء، وفسّره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل المراد: الزنا خاصة، وقيل أولاد الزنا، والظاهر أنه المعاصي مطلقاً".
4- أنها سبب في حلول الهزائم في الحرب:
ففي أُحدٍ أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرماة بملازمة الجبل قائلاً: ((لا تبرحوا إن رأيتمونا ظَهرْنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا)) لكنهم خالفوا أمره ونزلوا من على الجبل فحلّت بهم الهزيمة.
قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:166]، أي: بسبب عصيانكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم، يعني بذلك: الرماة.
5- سبب لوقوع الخسف:
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، إذا ظهرت القيان والمعازف، وشُربت الخمور)).
وكما حصل لذلك الرجل الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((بينما رجلٌ يجرّ إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)).
6- يؤثّر حتى في الدواب:
قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَاكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} [فاطر:45].
قال القرطبي رحمه الله: "{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ} يعني: من الذنوب {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} قال ابن مسعود رضي الله عنه: يريد جميع الحيوانات مما دبّ ودرج، قال قتادة: وقد فعل ذلك زمن نوح عليه السلام".
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إن الحُبارى لتموت هزلاً في وكرها بظلم الظالم).
وعكرمة كان يقول: (دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم).
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص 74).
رواه البخاري في الأنبياء، باب حديث الغار (3484).
الجواب الكافي ص (73)، وانظر: فتح الباري (6/523).
رياض الصالحين (ص 307).
المعاصي وآثارها (ص 108-109).
تفسير البغوي (1/64-65).
تفسير القرآن العظيم (3/296).
انظر: الجواب الكافي (ص 58).
الجواب الكافي (ص 97-98).
في ظلال القرآن لسيد قطب (2/1038).
المعاصي وآثارها (ص 141).
رواه ابن ماجه في الفتن باب العقوبات (4019) قال البوصيري: "هذا حديث صالح للعمل به وقد اختلفوا في ابن أبي مالك وأبيه"، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (3/316) والصحيحة (106).
رواه البخاري في الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب)) (7095)، ومسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج (2880).
شرح صحيح مسلم (3/18).
رواه البخاري في المغازي، باب غزوة أحد (4043).
انظر: تفسير القرآن العظيم (1/401).
رواه الترمذي في الفتن، باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف (2212) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2/242).
رواه البخاري في اللباس، باب من جرّ ثوبه من الخيلاء (5789)، ومسلم في اللباس والزينة، باب تحريم التبختر (2088).
الجامع لأحكام القرآن (7/361).
الجامع لأحكام القرآن (7/361)، وانظر: الجواب الكافي لابن القيم (ص 62).
رواه الطبري في تفسيره (2/55)، وانظر الجواب الكافي (ص 62).
خامساً: مكفرات الذنوب والمعاصي:
1- التوبة:
قال تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
وعن الأغرّ المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس: توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)).
معنى التوبة:
التوبة: عبارة عن ندمٍ يورث عزماً وقصداً، وذلك الندم يورث العلم بأن تكون المعاصي حائلاً بين الإنسان وبين محبوبه.
وحقيقة التوبة كما ذكرها ابن القيم فقال: "هي الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على أن لا يعاوده في المستقبل".
حكم التوبة:(/6)
نقل النووي عن أهل العلم فقال: "اتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبةُ، وأنها واجبةٌ على الفور لا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة، والتوبة من مهمات الإسلام وقواعده المتأكدة، ووجوبها عند أهل السنة بالشرع".
شروط التوبة:
قال النووي رحمه الله: "إن للتوبة ثلاثة أركان:
1- الإقلاع.
2- والندم على فعل تلك المعصية.
3- والعزم على أن لا يعود إليها أبداً. فإن كانت المعصية لحقّ آدمي فلها ركن رابع وهو:
4- التحلّل من صاحب ذلك الحقّ. وأصلها الندم، وهو ركنها الأعظم".
قال الشيخ عثمان بن قائد النجدي رحمه الله:
شروط توبتهم إن شئت عدتها ثلاثة عُرفت فاحفظ على مهل
إقلاعه ندمٌ وعزمه أبداً أن لا يعود لما فيه جرى وقل
إن كان توبته عن ظلمِ صاحبه لا بدّ من ردّه الحقوق على عجل
وزاد ابن المبارك على ما سبق من الشروط للتوبة فقال: "الندم، والعزم على عدم العود، وردّ المظلمة، وأداء ما ضيّع من الفرائض، وأن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيذيبه بالهم والحزن حتى ينشأ له لحم طيبٌ، وأن يذيق نفسه ألم الطاعة كما أذاقها لذّة المعصية".
فزاد رحمه الله الآتي:
1- أداء ما ضيّع من الفرائض.
2- إذابة البدن الذي رباه بالسحت بالهم والحزن.
3- الجدّ في الإكثار من الطاعات.
2- الاستغفار:
قال تعالى: على لسان نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10].
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سيّد الاستغفار أن يقول أحدكم: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت)) قال: ((ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقنٌ بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة)).
قال ابن حجر نقلاً عن بعض أهل العلم: "لما كان هذا الدعاء جامعاً لمعاني التوبة كلها؛ استعير له اسم السيّد، وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج، ويرجع إليه في الأمور".
3- عمل حسناتٍ تمحوها، فإن الحسنات يذهبن السيئات:
قال تعالى: {إ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذكِرِينَ} [هود:114].
قال ابن كثير رحمه الله: "إن فعل الخيرات يكفّر الذنوب السالفة".
وقال صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها)).
وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً أصاب من امرأة قُبلةً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، قال: فنزلت: {أَقِمِ الصلاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذكِرِينَ} قال: فقال الرجل إليّ هذه يا رسول الله؟ قال: ((لمن عمل بها من أمتي)).
قال النووي رحمه الله: "هذا تصريحٌ بأن الحسنات تكفّر السيئات".
4- دعاء إخوانه المؤمنين والملائكة، واستغفارهم له حياً أو ميتاً:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ} [الحشر:10].
وعن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك مُوكَّل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل)).
وكذا دعاء الملائكة له:
قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً} [غافر:7].
يقول ابن كثير رحمه الله: "{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} أي: من أهل الأرض ممن آمن بالغيب، فقيّض الله تعالى ملائكته المقربين أن يدعوا للمؤمنين بظهر الغيب، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم السلام كانوا يؤمّنون على دعاء المؤمنين بظهر الغيب".
5- ابتلاء الله تعالى إياه بمصائب تكفّر عنه:
عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلم من نصبٍ ولا وصبٍ ولا همٍ ولا حزنٍ ولا أذىً ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة)).
6- إهداؤه ثواب الأعمال الصالحة بعد الموت:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).(/7)
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت، تصدقت، أفلها أجرٌ إن تصدقت عنها؟ قال: ((نعم، تصدق عنها)).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي حديث الباب من الفوائد: جواز الصدقة عن الميت، وأن ذلك ينفعه بوصول ثواب الصدقة إليه ولا سيما إن كان من الولد".
7- رحمة أرحم الراحمين:
جاء في حديث الشفاعة قال: ((فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حُمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة)).
وهذا الحديث دلالة على شفاعة أرحم الراحمين.
8- شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل نبي دعوة قد دعا بها فاستجيب، فجعلت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة)).
قال ابن الجوزي رحمه الله: "هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي، ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين".
9- يبتليه الله في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب ذهب، ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه، وجبينه، وظهره، كلما بردت أعيدت له في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار)).
10- إسباغ الوضوء:
عن حمران بن أبان مولى عثمان. قال: دعا عثمان بوضوء في ليلةٍ باردةٍ، وهو يريد الخروج إلى الصلاة، فجئته بماء فأكثر ترداد الماء على وجهه ويديه، فقلت: حسبك! قد أسبغت الوضوء والليلة شديدة البرد. فقال: صُبّ! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يسبغُ عبدٌ الوضوء إلاّ غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر)).
11- الصلوات الخمس:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)).
وهناك غير ما ذُكر من المكفرات.
أ- الفرق بين تكفير السيئات ومغفرة الذنوب:
قال ابن القيم رحمه الله: "فالذنوب المراد بها: الكبائر، والمراد بالسيئات: الصغائر. وهي ما تعمل فيه الكفارة، ومن الخطأ وما جرى مجراه، ولهذا جعل لها التكفير. ومنه أخذت الكفارة، ولهذا لم يكن لها سلطان ولا عمل في الكبائر في أصحّ القولين.
والدليل على أن السيئات هي الصغائر، والتكفير لها: قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31].
ولفظ "المغفرة" أكمل من لفظ "التكفير" ولهذا كان مع الكبائر، والتكفير مع الصغائر. فإن لفظ "المغفرة" يتضمن الوقاية والحفظ. ولفظ التكفير، يتضمن الستر والإزالة. وعند الإفراد: يدخل كلٌ منها في الآخر، فقوله تعالى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ} [محمد:2] يتناول صغائرها وكبائرها، ومحوها ووقاية شرّها، بل التكفير المفرد يتناول أسوأ الأعمال كما قال تعالى: {لِيُكَفّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ} [الزمر:35]".
ب- محو الذنوب:
1)- الذنوب والسيئات تحت مشيئة الله تعالى:
قال الشوكاني رحمه الله: "وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء. قال ابن جرير: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل، إن شاء عذّبه، وإن شاء عفا عنه ما لم تكن كبيرته شركاً بالله عز وجل. وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلاً منه ورحمة، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له".
2)- هل الحسنات تمحو الكبائر:
قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] هل تدخل فيها الكبائر، أم لا؟ فيه خلاف بين أهل العلم.
ولعل الراجح عدم دخول الكبائر فيها، وقد ردّ ابن عبد البر على من قال: إن الكبائر تمحوها الحسنات، فقال: "وهذا جهلٌ بيّن، وموافقة للمرجئة فيما ذهبوا إليه من ذلك، وكيف يجوز لذي لبٍ أن يحمل هذه الآثار على عمومها وهو يسمع قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}، وقوله تبارك وتعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، في آي كثيرة من كتابه.(/8)
ولو كانت الطهارة والصلاة وأعمال البرّ مكّفرة للكبائر، والمتطهر المصلي غير ذاكر لذنبه الموبق، ولا قاصد إليه، ولا حضره في حينه ذلك أنه نادم عليه، ولا خطرت خطيئته المحيطة به بباله لما كان لأمر الله عز وجل بالتوبة معنى، ولكان كل من توضأ وصلى يُشهد له بالجنة بأثر سلامه من الصلاة، وإن ارتكب قبلها ما شاء من الموبقات الكبائر، وهذا لا يقوله أحدٌ ممن له فهمٌ صحيح.
وقد أجمع المسلمون أن التوبة على المذنب فرضٌ، والفروض لا يصحّ أداء شيء منها إلا بقصدٍ ونيّة، واعتقاد أن لاعودة، فأما أن يصلي وهو غير ذاكر لما ارتكب من الكبائر، ولا نادم على ذلك فمحال".
ج- الذنوب التي لا يغفرها الله تعالى:
1- الشرك الأكبر:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48]، وقال: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)).
قال القرطبي رحمه الله: "إن من مات على الشرك لا يدخل الجنة، ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد، من غير انقطاع عذاب، ولا تصرم آماد".
ونقل ابن حزم والقرطبي والنووي الإجماع على أن المشرك يخلد في النار.
2- الشرك الأصغر:
وقد اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه تحت المشيئة، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كما يظهر ميل الإمام ابن القيم إليه في الجواب الكافي.
القول الثاني: أنه تحت الوعيد، وهو الذي مال إليه بعض أهل العلم.
3- حقوق الآدميين:
أ- أنواع المظالم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه)).
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل ما لهذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طُرح في النار)).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وحقّ غير الله يحتاج إلى إيصالها لمستحقها، وإلا لم يحصل الخلاص من ضرر ذلك الذنب، لكن من لم يقدر على الإيصال بعد بذله الوسع في ذلك فعفو الله مأمول، فإنه يضمن التبعات، ويبدل السيئات حسنات".
ب- القتل:
ذلك لأن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق:
1- حقّ الله.
2- حق الولي والوارث.
3- حق المقتول.
فحق الله يزول بالتوبة، والوارث مخير بين ثلاثة أشياء: القصاص، والعفو إلى غير عوض، والعفو إلى مال.
ويبقى حق المقتول، عن جندب رضي الله عنه قال حدثني فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يجيء المقتول بقاتله يوم القيامة، فيقول: سل هذا فيم قتلني؟ فيقول: قتلته على ملك فلان)) قال جندب: فاتَّقِها.
قال ابن القيم رحمه الله: "فالصواب والله أعلم أن يقال: إذا تاب القاتل من حق الله، وسلم نفسه طوعاً إلى الوارث، ليستوفي منه حق موروثه: سقط عنه الحقان. وبقي حق الموروث لا يضيّعه الله. ويجعل من تمام مغفرته للقاتل: تعويض المقتول. لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله، والتوبة النصوح تهدم ما قبلها. فيعوض هذا عن مظلمته. ولا يعاقب هذا لكمال توبته. وصار هذا كالكافر المحارب لله ولرسوله إذا قتل مسلماً في الصف، ثم أسلم وحسن إسلامه؛ فإن الله سبحانه يعوّض هذا الشهيد المقتول، ويغفر للكافر بإسلامه، ولا يؤاخذه بقتل المسلم ظلماً. فإن هدم التوبة لما قبلها كهدم الإسلام لما قبله. وعلى هذا إذا سلّم نفسه وانقاد، فعفا عنه الوليّ، وتاب القاتل توبةً نصوحاً، فالله تعالى يقبل توبته، ويعوض المقتول" .
رواه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب الاستغفار (2702).
مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة (ص 259).
مدارج السالكين (1/182).
شرح صحيح مسلم (17/59).
شرح صحيح مسلم للنووي (17/59)، وانظر رياض الصالحين (ص 10-11).
لوامع الأنوار البهيّة للسفاريني (1/372).
فتح الباري (11/103).
انظر: المعاصي وآثارها (ص 332).
رواه البخاري في الدعوات، باب أفضل الاستغفار (6306).
فتح الباري (11/99).
تفسير القرآن العظيم (2/462).
رواه أحمد (5/153) والترمذي في البر، باب ما جاء في معاشرة الناس (1987) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (96).
رواه البخاري في تفسير القرآن، باب قوله: {وأقم الصلاة طرفي النهار...} (4687)، ومسلم في التوبة، باب قوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (2763).
شرح صحيح مسلم (17/79).(/9)
رواه مسلم في الذكر والدعاء، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب (2733).
تفسير القرأن العظيم (4/71).
رواه البخاري في المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض (5642)، ومسلم في البر، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن (2572).
رواه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء (2401) وقال: حديث حسن صحيح.
رواه مسلم في الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631).
رواه البخاري في الوصايا، باب ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا عنه (2760)، ومسلم في الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه (1004).
فتح الباري (5/458).
رواه مسلم في الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية (183).
المعاصي وآثارها (ص 359).
رواه البخاري في الدعوات، باب لكل نبي دعوة مستجابة (6305) واللفظ له، ومسلم في الإيمان، باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته (200).
فتح الباري (11/100).
رواه مسلم في الزكاة، باب إثم مانع الزكاة (987).
رواه البزّار كما في كشف الأستار (262)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/237)، وقال: رواه البزار ورجاله موثوقون، والحديث حسن إن شاء الله. وحسّنه المنذري أيضاً في الترغيب والترهيب (1/103).
رواه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: الصلوات الخمس كفارة (528)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تُمحى به الخطايا (667) واللفظ له.
انظر: المرض والكفارات لابن أبي الدنيا ومعرفة الخصال المكفّرة لابن حجر العسقلاني، و، وغيرهما. وانظر أيضاً: منهاج السنة (6/205-238)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 327-330).
مدارج السالكين (1/338-339) باختصار.
وهي قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
فتح القدير للشوكاني (1/718)، وانظر: روح المعاني للآلوسي (4/240) (13/196).
مجموع الفتاوى (8/271).
انظر: تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك للسيوطي (1/53-54).
التمهيد (4/44-45).
رواه مسلم في الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً (93).
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/290).
انظر: مراتب الإجماع لابن حزم (ص 173)، والمفهم للقرطبي (1/290)، وشرح صحيح مسلم للنووي (1/277، 430) (2/20).
انظر: تفسير آيات أشكلت لابن تيمية (1/361-365).
الجواب الكافي (ص 317)، وانظر: عقيدة المسلمين للبليهي (1/339)، والشرك في القديم والحديث (1/176) لأبي بكر محمد زكريا.
انظر: ما قاله ابن تيمية في تلخيص كتاب الاستغاثة (1/301)، وما قاله الشيخ عبد العزيز السلمان في الكواشف الجلية (ص 322).
رواه البخاري في الرقاق، باب القصاص يوم القيامة (6534).
رواه مسلم في البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم (2581).
أورد الحافظ ابن حجر في كتابه قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج حديثاً في فضائل الحج بأن الله يتحمّل حتى التبعات وهو حسنٌ بطرقه.
فتح الباري (11/103).
انظر: مدارج السالكين (1/430).
رواه النسائي في تحريم الدم، باب تعظيم الدم (3998)، والترمذي في تفسير القرآن باب ومن سورة النساء (3029)، وصححه الألباني كما في صحيح النسائي (3/840)، وانظر: جامع الأصول (2/97-98).
مدارج السالكين لابن القيم (1/430-431)، وانظر: تفاصيل الكلام على قاتل العمد هل له توبة؟ في العواصم والقواصم لابن الوزير (9/21-68)، فقد أطال الكلام عليه ومدارج السالكين (1/424-431) وفتح الباري (3/269) والكلام على حقيقة الإسلام والإيمان لابن تيمية بتحقيق د.محمد حسن الشيباني (ص241).(/10)
الكذب آفة كل عصر
إعداد/ صلاح عبد الخالق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد تكلمنا في العدد الماضي عن آفة الكذب وأوردنا
عقوبات الكذاب في الدنيا، وفي هذا العدد نبين عقوبات الكذاب في القبر.
عن سمرة
بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول
لأصحابه: هل رأى أحد منكم من رؤيا فيقص عليه من شاء الله أن يقص وإنه قال لنا
ذات غداة: إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما قالا لي: انطلق وإني انطلقت معهما
فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد
شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه. وفي رواية: فيدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه
ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل
بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود
عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى: قال قُلت: سبحان الله، من هذا ؟
فقالا:... والذي رأيته يشق شدقه فكذاب يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق
فيُصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة. [أخرجه البخاري]
معنى الحديث
يشرشر:
يقطع. كلوب: حديدة عقفاء تكون في طرف رحل الرجل يعلق فيها الزاد. [المعجم
الوسيط ص826]
قال ابن حجر: استحق الكذاب هذا التعذيب لما ينشأ عن تلك الكذبة من
المفاسد وهو فيها مختار غير مكره ولا ملجأ، قال ابن هبيرة: لما كان الكاذب
يساعده أنفه وعينه ولسانه على الكذب بترويج باطله وقعت المشاركة بينهم في
العقوبة. [فتح الباري 12/1465]
من فوائد هذا الحديث: أن بعض العصاة يعذبون في
البرزخ من تعمد الكذب.
تحذير: تحذير إلى مروجي الإشاعات الذين ينقلون الأخبار
الكاذبة فإنهم سيعذبون في قبورهم إلى يوم القيامة كل بحسب مفاسد الكذب الذي
نشره.
من عقوبات الكذاب في الآخرة
1- يعقد بين شعرتين:
عن ابن عباس رضي
الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تحلم بحلم لم يره، كلف أن
يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه
الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ».
[البخاري 7024]
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم
يعني من كذب في الرؤيا قال رأيت في المنام كذا وكذا وهو كاذب فإنه يوم القيامة
مكلف أن يعقد بين شعيرتين، والمعلوم أن الإنسان لو حاول مهما حاول أن يعقد بين
شعيرتين فإنه لا يستطيع ولكنه لا يزال يعذب ويقال لا بد أن تعقد بينهما وهذا
وعيد يدل على أن التحلم بحلم لم يره الإنسان من كبائر الذنوب وهذا يقع من بعض
السفهاء يتحدث ويقول: رأيت البارحة كذا وكذا لأجل أن يضحك الناس، وهذا حرام
عليه. [شرح رياض الصالحين 4/197]
2- عذاب أليم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر
إليهم ولهم عذاب أليم». قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات،
قال أبو ذر رضي الله عنه: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله ؟ قال: «المسبل
والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب». [مسلم 106]
وفي رواية لمسلم: وملك
كذاب.
معنى لا يكلمهم الله: أي لا يكلمهم تكليم أهل الخيرات بإظهار الرضى بل
بكلام أهل السخط والغضب ولهم عذاب أليم أي عذاب مؤلم.
3- الكذب يؤدي إلى
النار:
في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وهذا مصداق
لقوله تعالى: وإن الفجار لفي جحيم (14) يصلونها يوم
الدين (15) وما هم عنها بغائبين[الانفطار: 14 - 16].
يقول
العلامة السعدي رحمه الله: الفجار: هم الذين قصروا في حقوق الله تعالى وحقوق
عباده لفي جحيم، أي في عذاب أليم في دار الدنيا ودار البرزخ وفي القرار جهنم.
[تفسير السعدي ص914]
أين مكان الكذاب في النار ؟
عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به
القوم فيكذب، ويل له ويل له».
[صحيح الترمذي 2315، صحيح الجامع 7136]
نلاحظ في
هذا الحديث تحذير شديد لمن كان هذا خلقه، وهذه عادة سيئة منتشرة بين الناس،
ونقول: إننا نمزح ولمن يريد أن يمزح كاذبًا يسمع إلى هذا التهديد والوعيد
الشديد وشدة التأكيد بقوله صلى الله عليه وسلم: «ويل» ثلاث مرات. الحديث.
ماذا
نعرف عن ويل: قال عطاء بن يسار: الويل وادٍ في جهنم، لو سيرت فيه الجبال لماعت،
وقيل الويل: الهلاك.
وعن أبي عياض: ويلٌ: صديد في أصل جهنم.
[تفسير ابن كثير
1/117]
العلاج
الكذب من الأمراض المدمرة، علينا أن نتخلص منه بكل الوسائل
المتاحة حتى نعيش في أمن وأمان في الدنيا ويوم لقاء الرحمن.
ومن الوسائل
المعينة على التخلص من هذه الآفة:
1- الاستعانة بالله تعالى:
قال تعالى ومن
يتوكل على الله فهو حسبه bold
[الطلاق].(/1)
وفي صحيح مسلم عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما
ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز». فاستعن بالله وتوكل عليه وجاهد نفسك في التخلص
من آفة الكذب.
2- مصاحبة الصادقين:
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله وكونوا مع الصادقين[التوبة: 119].
يقول العلامة
السعدي رحمه الله: كونوا مع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم الذين
أقوالهم صدق وأعمالهم وأحوالهم لا تكون إلا صدقًا خلية من الكسل والفتور سالمة
من المقاصد السيئة مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة.
[تفسير السعدي ص355]
وفي
الصحيحين - واللفظ لمسلم (2607)- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي
إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا».
البر:
اسم جامع للخيرات كلها ويطلق على العمل الخالص الدائم.
[فتح الباري
10/534]
معنى ذلك أن الصدق يفتح لك كل أبواب الخير الموصلة إلى الإخلاص الدائم
في الأعمال الصالحة والإكثار منها.
يقول الشاعر:
اختر قرينك واصطفيه
تفاخرًا
إن القرين إلى المقارن ينسب
ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبًا
إن الكذوب
يشين من يصحب
3- الصدق في المزاح:
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو
كان محقًا، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحًا، وبيت في أعلى
الجنة لمن حسن خلقه». [صحيح أبي داود 5/240، صحيح الجامع 1464]
ومعنى زعيم: أي:
كفيل وضامن.
في مجتمعنا نسمع كثيرًا من الناس يتكلم بكلمات شبه مضحكة وهي في
حقيقتها كاذبة بدعوى أننا نمزح ونفرح أنفسنا، وهم بذلك يقعون في شيء خطير، وذلك
بحصد كثير من السيئات والافتراء على الأبرياء، لماذا نذهب بعيدًا عن قدوتنا
أجمعين إلى يوم الدين كما حكم رب العالمين في قوله: لقد كان لكم في
رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم
الآخر وذكر الله كثيرا bold.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح: فعن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا ؟ قال: «إني لا
أقول إلا حقا». [صحيح الترمذي 1990]
ومعنى تداعبنا: أي تمازحنا.
أخي المسلم:
يا من تريد أن تمزح وتضحك؛ عليك بالصدق وأبشر ببيت في وسط الجنة إذا تركت الكذب
في المزاح.
4- هجر الكاذب والكذابين:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضا
عنه حتى يحدث توبة. [صحيح الجامع 4675]
وهذا نوع من الهجر التربوي حتى لا
يوافق المربي على الكذب ويصبح هذا الطفل والابن كذابا وحتى لا يظن أن الأب
موافق على الكذب، وخير دليل على ذلك هجر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة
تبوك.[صحيح]
5- القدوة العملية:
عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: دعتني
أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك،
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه ؟ قالت: أردت أن
أعطيه تمرا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو لم تعطيه
شيئا كتبت عليك كذبة.
في هذا الحديث يضع لنا صلى الله عليه وسلم بيانا عمليا
للتخلص من آفة الكذب وذلك بالصدق مع الأولاد بالكلام وفي الوعود؛ لأن بعض
الآباء - إلا من رحم الله - ينهي ابنه عن الكذب ويكذب أمام ابنه ويأمر بالكذب،
وهنا الطامة الكبرى وانعدام الثقة في الأب واتخاذه قدوة غير صالحة.
فاحذر أخي
المسلم من الكذب أمام الأولاد، ولا تظن أن الصغار يمكن أن تخدعهم على
الدوام.
ما يباح من الكذب
قال الإمام النووي رحمه الله: اعلم أن الكذب وإن كان
أصله محرما فيجوز في بعض الأحوال، إن الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود
محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه وإن لم يكن تحصيله إلا بالكذب جاز
الكذب، ثم إن كان تحصيل الكذب ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحا وإن كان
واجبا كان الكذب واجبا، فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله أو أخذ ماله وأخفى
ماله وسئل إنسان عنه وجب الكذب بإخفائه وكذا لو كان عنده وديعة وأراد ظالم
أخذها وجب الكذب وإخفاؤها، والأحوط في ذلك كله أن يوري، ومعنى التورية أن
يقصد بعبارته مقصودا صحيحا ليس هو كاذبا بالنسبة إليه، وإن كان كاذبا في
ظاهر اللفظ وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب
فليس بحرام في هذا الحال، واستدل العلماء: لجواز الكذب في هذا الحال بحديث أم
كلثوم رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الكذاب
الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا». متفق عليه.
وزاد مسلم في
رواية: قالت أم كلثوم ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: تعني
الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.
[رياض(/2)
الصالحين]
والحمد لله رب العالمين(/3)
الكذب آفة كل عصر
إعداد/ صلاح عبد الخالق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
فالكذب أمره خطير وشره مستطير، انتشر في كل مكان وظهر في كل زمان - إلا ما رحم الرحمن - فهو من كبائر الذنوب وفواحش العيوب، أبغض الأخلاق إلى كل الأنبياء، صاحبه في قلق واضطراب وحيرة وارتياب، ممحق للبركات، مكثر للسيئات، مفتاح لكل الموبقات، مغلاق لكل الخيرات، موجب للعذاب، طارد من الجنات إلى جحيم المهلكات.
مما يبكي العين ويدمي القلب أن مرض الكذب متغلغل في بعض النفوس كالسرطان الخبيث ويقع للأسف الشديد من الآباء أمام الأبناء، ومن المعلمين أمام المتعلمين، فصار المجتمع مريضًا- إلا ما رحم اللَّه - بهذا المرض العضال، فكان لابد من وقفة للعتاب.
تعريف الكذب: يقول الإمام النووي رحمه اللَّه: اعلم أن مذهب أهل السنة أن الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه سواء تعمدت ذلك أم جهلته لكن لا يأثم في الجهل وإنما يأثم في العمد. [الأذكار: ص474]
فالكذب: هو أن يخبر الإنسان بخلاف الواقع، فيقول: حصل كذا وهو كاذب، أو قال فلان كذا وما أشبه ذلك فهو الإخبار بخلاف الواقع. [رياض الصالحين ص560]
التخويف من الكذب: حديث القول عن الكذب: الكذب من السلوكيات المذمومة التي حذر منها القرآن في 283 آية من كتاب اللَّه عز وجل. [المعجم المفهرس ص598]
هناك آيات تحمل التهديد الأكيد والوعيد الشديد، ومن الخوف المزيد لمن كان الكذب سلوكه وخلقه ومسلكه من هذه الآيات:
1- الحرمان من نعمة الهداية: قال تعالى: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب [غافر: 28]، في هذه الآية تهديد وتخوف من الكذب لأن الكذاب محروم وبعيد عن هداية اللَّه تعالى بعيد عن الصراط المستقيم لأنه اختار الطريق المعوج المظلم طريق الكذب.
2- الطرد من رحمة اللَّه تعالى: قال تعالى: لعنة الله على الكاذبين [آل عمران: 61]. الكذاب مطرود من رحمة اللَّه تعالى، هذه الرحمة يتمناها كل صاحب عقل وقلب رشيد.
حديث السنة عن الكذاب: السنة النبوية المطهرة فيها أحاديث تشيب لها الولدان من شدة الخوف والتحذير من الكذب فعلى سبيل المثال:
عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابًا». [البخاري 6094، ومسلم 2607]
نلاحظ في هذا الحديث لهجة التحذير والتخويف في قوله: «إياكم»، لماذا ؟ لأن الكذب يؤدي إلى الفجور.
ما معنى الفجور ؟ قال الراغب: أصل الفجور الشق، فالفجور شق في ستر الديانة ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث في المعاصي وهم اسم جامع للشر.
[فتح الباري 524110]
والفجور: هو الميل عن الحق والاحتيال في رده، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : «إياكم والكذب» يعني: ابتعدوا عنه واجتنبوه، وهذا يعم الكذب في كل شيء ولا يصح قول من قال: إن الكذب إذا لم يتضمن ضررًا على الغير فلا بأس به فإن هذا قول باطل، لأن النصوص ليس فيها هذا القول والنصوص تحرم الكذب مطلقًا يعني إذا كذب الرجل في حديثه فإنه لا يزال فيه الأمر حتى يصل إلى الفجور والعياذ بالله هو الخروج عن الطاعة والتمرد والعصيان. [شرح رياض الصالحين 19114]
2- الكذب مفتاح النفاق: عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلة منهم كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر». [البخاري 34، ومسلم 58]
معنى خلة: خصلة أو صفة.
قال الإمام النووي رحمه اللَّه: الذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار: أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال قوله صلى الله عليه وسلم : «كان منافقًا خالصًا». معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال. [شرح مسلم 2/236]
قال الحافظ ابن حجر: المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال.
[فتح الباري 1/113]
3- الكذب خيانة كبيرة: عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كبرت خيانة أن تُحدث أخاك حديثًا هو لك مصدق وأنت له كاذب».
[قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (3/147): رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد]
قيل في منثور الحكم: الكذب لص لأن اللص يسرق مالك والكذب يسرق عقلك، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الكذاب كالسراب.
[أدب الدنيا والدين ص264]
آفات الكذب: للكذب آفات وأضرار متوالية في الليل والنهار لا تنتهي إلى أن تقوده إلى النار، من هذه العقوبات والآفات:
أولاً: في الدنيا:(/1)
1- انعدام الراحة والأمن: عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي: ما حفظت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة». [صححه الألباني في صحيح الترمذي 2518]
الريب: القلق والاضطراب.
[جامع العلوم والحكم ص169]
معنى ذلك: أن الكذب شك واضطراب قلق وإزعاج وانعدام طمأنينة النفس عدم هدوء البال وانشراح الصدر.
الكذب: جماع كل شر وأصل كل ذم لسوء عواقبه وخبث نتائجه لأنه ينتج عنه النميمة والنميمة تنتج البغضاء والبغضاء تؤول إلى العداوة وليس مع العداوة أمن ولا راحة.
[أدب الدنيا والدين ص267]
2- الكذب يمرض القلب: الكذب يؤدي إلى مرض القلب والقلب المريض لا يشعر بالاطمئنان والسكينة ونجد ذلك بوضوح في قوله تعالى: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون [البقرة: 8 - 10].
فالكاذب مريض القلب؛ لأن الكذب نقيض الصدق والصدق يهدي إلى البر والكذب يهدي إلى الفجور والإنسان الفاجر يحيا في الآلام النفسية بما تصوره له نفسه الأمارة بالسوء على أنه سعادة. [الكذب آفة العصر ص13]
3- دنيا الكذاب جحيم: قال الإمام ابن القيم: لا تحسب أن قوله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم (13) وإن الفجار لفي جحيم [الانفطار: 13 - 14] مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط بل في دورهم الثلاثة كذلك، أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار، فهؤلاء في نعيم وهؤلاء في جحيم، وهل النعيم إلا نعيم القلب، وهل العذاب إلا عذاب القلب ؟!
وأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر وإعراضه عن اللَّه والدار الآخرة وتعلقه بغير اللَّه وانقطاعه عن اللَّه بكل وادٍ منه شعبة وكل شيء تعلق به وأحبه من دون اللَّه فإن يسومه سوء العذاب فكل من أحب شيئًا غير اللَّه عُذب به ثلاث مرات. [الجواب الكافي ص106]، وصدق اللَّه إذ يقول: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا [طه].
5- زوال البركة والنماء: عن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذاب وكتما مُحقت بركة بيعهما».
المعنى: إن كتما وكذبا: كتم البائع وأخفى عيوب السلعة فكذب وحلف بالأيمان المغلظة بأن سلعته سليمة وذكر ثمنًا مرتفعًا جدًّا لا تستحقه السلعة وكذب المشتري بأن أعطى البائع ثمن أقل ما تستحقه هذه السلعة مستغلاً صدق البائع نتيجة الكذب: ترتب على الكذب في البيع والشراء زيادة في الثمن أو زيادة في المبيع فإنه سحت والعياذ بالله لأنه مبني على الكذب والكذب باطل وما بني على باطل فهو باطل.
[شرح رياض الصالحين 4/192]
بسبب شؤم التدليس والخداع والكذب: يزيل اللَّه عز وجل بركة هذا البيع وبركة المكسب فترى الكذاب يزداد ربحه ولكن لا بركة فيه فيضيعه فيما لا فائدة فيه في المخدرات مثلاً ولا يبارك اللَّه في حياته ولا أهله ولا أولاده.
وقانا اللَّه وإياكم، والحمد لله رب العالمين.(/2)
الكفر ملة واحدة !؟!؟
إن ما يجري على الأرض الفلسطينية من تقتيل وتشريد وتدمير واعتقالات وإبعاد وسفك لدماء الأبرياء هو ذاته الذي يجري على أرض الرافدين المسلمة وبنفس الآلة التدميرية الأمريكية وبنفس اليد الحاقدة الصليبية التوراتية المجرمة وإن اختلفت المسميات ففي فلسطين الهوية يهودية صهيونية وفي العراق نصرانية صليبية , وهدفهما واحد ألا وهو القضاء على الإسلام والصامدين من أبناء هذا الدين أينما كانوا باسم محاربة الإرهاب .
فهوية المجرم واحدة !! وعقيدته واحدة !! وهدفه واحد !! والمستهدف واحد !! , والمصيبة الكبرى أن موقف العرب وكثير من المسلمين واحد !!!! فقد بات سكوت العرب على جرائم المعتدين على إخوان العروبة والعقيدة أمرا طبيعيا وغير مستهجن أبدا ؟؟ بل إن بعض الأنظمة المسماة مسلمة وعربية تتفانى في إذلال شعوبها ومواطنيها خوفا من التعبير عن غضبهم إزاء ما يجري على الساحتين العراقية والفلسطينية وخوفا على شعور المحتل الباغي ؟؟!!.
ومن هنا يتجلى لنا بعض الحقائق التي لا يمكن لعاقل منصف أن يتجاوزها ومنها :-
أولا : يقينا لكل مسلم أن الكفر ملة واحدة من شك في ذلك يشك في دينه وعقيدته وكل من تولى الكافرين ينسب إليهم وينضوي تحت رايتهم في حكمه الشرعي وليس ثمة دليل أكبر مما يجري على أرض فلسطين والعراق وأفغانستان فالوجوه الكافرة عدة ولكن الملة والهدف واحد وهو القضاء على الإسلام فقد قال تعالى :
{ يا أيها الذين لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} .
ثانيا : الواجب على كل مسلم موحد مؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا أن يعلن بكل وضوح وصراحة أنه مع المؤمنين معادٍ للكافرين متبرئ منهم؛
فقد قال تعالى :
{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } .
ثالثا : لا يسمع أبدا صوت المنادين بالركون للظالمين ومهادنة الكافرين باسم المصلحة الوطنية المزعومة لأن هذا هو طريق الهزيمة والبعد عن النصر كما أخبر العليم في كتابه فقال جل جلاله :
{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون }.
رابعا : المطلوب أصلا خفض الجناح للمؤمنين والضرب بكل القوة على أيدي الكافرين وجهادهم بالمتاح من أساليب المقاومة دون الوقوف كثيرا عند عدتهم وعتادهم وقد خاطب الله الموالين لهم الخائفين منهم قائلا :
{ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } .
خامسا : مِن المسلّم لدى المؤمنين أن الملك والأرض لله يعطيهما من يشاء من عباده ولن يتحصل هذا بمهادنة الكافرين ولا قبول الذل للأمة فقال تعالى :
{ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} .
وقال تعالى :
{ وأن الأرض يورثها من يشاء من عباده } .
سادسا : الصبر والإيمان بالله هو طريق النصر واستبدال الخوف أمنا وليس التنازل والمفاوضات ما يرجع الحقوق .
قال تعالى :
{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا } .
سابعا : وأخيرا لنا في محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام خير قدوة حيث ضربوا المثل الحقيقي برجوعهم إلى الله واستجابتهم لأمر الله ورسوله لما اجتمع عليهم الناس وبعد إصابتهم بالأذى وكان مراد الكفار حينها القضاء على الإسلام والمسلمين كما هو حال الكفرة في هذه الأيام فوصف الله تعالى ذلك بقوله :
{الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}
فحسبنا الله ونعم الوكيل .
أما أنتم أيها المجاهدون في كل مكان ...........
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم
ولا نظنكم أبدا من أولياء الشيطان فلن تخافوهم أبدا وحتما أنتم من تخافون الله
لأنكم أنتم المؤمنين .... نعم أنتم المؤمنون .... وغيركم الله أعلم بهم وبأحوالهم .
فالثبات الثبات والله معكم ولن يتركم أعمالكم , ولن يضيع جهادكم وصبركم إن شاء الله تعالى .(/1)
الكل ميت .. فلنختر كيف نموت !!
قال الله تعالى: ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور).
إن الله تعالى أوجد الموت والحياة في الدنيا ليمتحن عباده ويبتليهم، فيميز المحسن من المسيء، وإنه سبحانه يعامل الناس معاملة المختبر، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها، كي لا يبقى للناس على الله حجة يوم القيامة.
إن الموت هو الحقيقة التي لا يماري في وجودها أحد من الناس، قال تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون . كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون). وصدق القائل:
أتحرص يا ابن آدم حرص باق وأنت تمر ويحك كل حين
وتعمل طول دهرك في ظنون وأنت من المنون على يقين
وهو الحقيقة التي يفر منها أكثر الناس، قال تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) والآية نزلت في اليهود الذين زعموا أنهم (أولياء لله من دون الناس) ولكنهم لا يتمنون الموت أبدا (بما قدمت أيديهم)، فالموت الذي نخاف حتى من مجرد ذكره آتينا حتما، وصدق الله العظيم القائل: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) لأن الموت قدر محتوم، ولا يغني حذر من قدر، وصدق القائل:
فرّ من الموت أو اثبت له لابد من أنك تلقاه
واكتب بهذي الدار ما شئته فإن في تلك ستقراه
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. فقلت: يا نبي الله أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت؟ قال: ليس كذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه وعقوبته كره لقاء الله فكره الله لقاءه".
هل نحن مستعدون للقاء الله ؟
قبل الإجابة على هذا السؤال .. ينبغي أن نسأل ماذا قدمنا في دنيانا لآخرتنا؟
هل جاهدنا في سبيل الله تعالى بأنفسنا وأموالنا وألسنتنا ؟
كم أنفقنا في سبيل الله تعالى ؟
كم منكر غيرناه ؟
وكم معروف أمرنا به ؟
هل أحسنا تربية أبنائنا وبناتنا على الإسلام ؟
أنذكر الله تعالى في الرخاء كما نذكره في الشدة ؟
هل ننصر المسلمين المستضعفين في فلسطين وفي أنحاء العالم ؟
هل أعلنا البراء من الكافرين وأظهرنا الولاء للمؤمنين ؟
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله من أكيس الناس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم له استعدادا .
وإن الناظر إلى المجاهدين في سبيل الله تعالى يجدهم من أكثر الناس استعدادا للموت، يبذلون الغالي والنفيس لإرضاء الله تعالى، متيقنين بحتمية اللقاء والجنة والنار، عاملين في الدنيا آملين في الآخرة، أجسادهم معنا وأرواحهم تحلق نحو الله تعالى مرددين هتافهم المحبوب .. غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه.
هؤلاء الأبطال قد اختاروا موتتهم فهم شهداء وإن ماتوا على الفراش، يذكرون وصية سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه (فلا نامت أعين الجبناء) وهو الذي خاض الحروب تلو الحروب حتى ما بقي في جسده إلا آثار الجراحات في سبيل الله تعالى، فيعلمون يقينا أن القتال في سبيل الله تعالى لن يقصر آجالهم، فعلام الجبن والخور !!
أيها المسلمون ...
كونوا طائعين مسلمين مجاهدين دائما تحسنوا اختيار موتكم، فإن المرء يبعث على ما مات عليه، وإن الموت قد يأتينا بغتة فلنكن مستعدين في كل حين، ولنردد كما ردد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (غدا نلقى الأحبة .. محمدا وحزبه) والمحبة دعوة تحتاج لبرهان، وبرهانها العمل بهدي الحبيب (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ومن علامات حب النبي صلى الله عليه وسلم الاقتداء بسنته والجهاد في سبيل ذلك ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
الخطبة الثانية :
يوصي النبي محمد صلى الله عليه وسلم بكثرة ذكر الموت ويصفه (بهادم اللذات)، فكثرة ذكره تحض المسلم على الاستمرار في العمل الجاد الدؤوب في سبيل الله تعالى، كما تحضه على التوبة والإنابة والاستغفار عن الذنوب والمعاصي والآثام.
وذكر الموت يحرر قلب المسلم من الخوف من غير الله تعالى (وإن بدا جبارا طاغيا مستكبرا) فالله أكبر من كل طاغية مستكبر، والجميع ميت لا محالة ماثل بين يدي رب العرش العظيم، فإما إلى جنة وإما إلى جحيم.
واعلموا معشر المؤمنين أن العبد إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث:
1- صدقة جارية .
2- علم ينتفع به.
3- ولد صالح يدعو له.
فاحرص أن يتواصل عملك الطيب بعد موتك، بهذه الأمور أو ببعضها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وتسلح بحسن الاستعداد للقاء الله تعالى، بحسن اختيار معاشك ومماتك.
ورددوا مع القائل:
كل الخلق يموت فاختر كيف تموت
قاوم اليهود
وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم
د. إبراهيم مهنا(/1)
الكهانة والعرافة والتنجيم
صالح الجبري
...
الطائف
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- اختصاص الله بعلم الغيب المطلق. 2- معنى آية: إن الله عنده علم الساعة . . . 3- التنجيم المشتهر في المجلات. 4- التشاؤم بالحيوانات أو الأرقام أو الشهور. 5- التحذير من إتيان العرافين والمشعوذين.
الخطبة الأولى
أما بعد:
تحدثنا في الأسبوعين الماضيين عن السحر وضرره وأنواعه، ثم عن طرق الوقاية منه قبل وقوعه وبعد وقوعه. وتحدثنا عن الفرق بين الساحر، وبين المعالج بالطرق الشرعية.
أما اليوم فسنختم كلامنا عن السحر بإذن الله بالحديث عن أنواع من السحر تسمى الكهانة والعرافة والتنجيم وهي أنواع منتشرة عند بعض الناس. ولابد من معرفتها والتحذير منها.
والعراف أو الكاهن هو: الذي يدعي معرفة الغيب بمقدمات يستدل بها. قال ابن تيمية: "إن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق كالحازر الذي يدعي علم الغيب ويدعي الكشف، والمنجم أيضاً يدخل في اسم العراف وفي اسم الكاهن أيضاً وادعاء معرفة الغيب تكون بأمور، منها: استخدام الشياطين والزجر والطين، والضرب في الأرض والخط في الحصى، والتنجيم والكهانة والسحر، وقراءة الكف والاستسقام بالأزلام وقراءة الحروف الأبجدية للاستدلال بها على الغيب وقراءة الفنجان، فتدعي قارئة الفنجان أنها تعلم الغيب وماذا سيحصل للإنسان. وقبل أن نبيّن هذه الأمور: نريد أن نوضح أمراً هاماً جداً بالنسبة لعلم الغيب. وهو أن المتدبر لآيات القرآن الكريم يجد أنه لا جدوى من محاولة معرفة الغيب، إذ هذا العلم من اختصاص الله علام الغيوب، ولا سبيل إلى معرفته بأي طريقة كانت يقول سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الاْرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34]. ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً [مريم:77-78]. وفي هاتين الآيتين الكريمتين دليل قاطع على عدم إمكانية الإنسان الاطلاع. لكن الله لحكمة يعلمها سبحانه قد يطلع بعض الرسل على بعض الغيب كما قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْء عَدَداً [الجن:26-28].
واطلاع الله بعض الغيب لبعض رسله لحكمة معيّنة وإلا فالرسل أنفسهم لا يعلمون ما يحدث لهم.
فهناك أمر من الله سبحانه إلى رسوله أن يعلم الناس بأنه لا حول ولا قوة إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى وأنه لا يعلمُ الغيبَ: قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188].
فإذا كان خير البشر محمد لا يعلم الغيب، فكيف بمن هم دونه مرتبة وشرفاً ومكانة؟
ومع ذلك كله إلا أننا نسمع البعض وهم يقولون: كيف يقول الله: وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الاْرْحَامِ [لقمان:34]. وقد تمكن العلم من تحديد وقت نزول المطر، وتمكن الطب من تحديد نوعية الجنين أذكر هو أم أنثى. وصدق الله: ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ [الحج:8].
لنرجع إلى الآية السابقة وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الاْرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34].
إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ: أي أن علم وقت الساعة مختص بالله سبحانه فلا يعلم أحد بوقته سواه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، كما قال: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ [الأحزاب:63]. ويقول: لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [الأعراف:187]. ونحن نعلم أن الله تبارك وتعالى بعد خلقه للسموات والأرض، خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فمه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر بالنفخ بالصور: فإذا كان إسرافيل الملك المكلف بالنفخ بالصور إيذاناً ببدء القيامة لا يعرف موعدها، إذا كان هذا هو حاله فكيف بأي منجم أو دجال يقول: إن الساعة ستقوم في يوم كذا أو في عام كذا. طبعاً لكنها أكاذيب.(/1)
وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ ويختصّ الله تعالى بمعرفة وقت إنزال المطر ومكانه المعين. أما نشرة الأرصاد الجوية في أيامنا فتعتمد على بعض الحسابات والأمارات. وما ترصده بعض الأجهزة المخصصة لمعرفة نسبة الرطوبة وسرعة الرياح فليس ذلك غيباً. وإنما هو تخمين وظن. وقد يحدث نقيضه كما أن معرفته تكون قبل مدة قريبة، يلاحظ فيها اتجاهات الرياح والمنخفضات الآتية من الشمال أو الغرب مثلاً. ورغم هذا فنحن نسمع دائماً. . يتوقع الفلكيون نزول الأمطار، ويقولون إن الفرصة مهيأة لنزول الأمطار. وتتجمع الغيوم في السماء، وتنذر الحالة بأن المطر سينزل ولكن في اللحظات الأخيرة، يأمر الله الرياح كيف يشاء فتذهب بهذه الغيوم القاتمة دون أن تنزل منها قطرة واحدة. وعلى كل فنزول المطر عملية دقيقة جداً لا يستطيع البشر أن يقوم بها مهما بلغ علمه. بل لو اجتمعت البشرية كلها على أن تنزل مطراً في مكان ما أو تمنع المطر من النزول في مكان ما فهي لا تستطيع ولن تستطيع.
وَيَعْلَمُ مَا فِى الاْرْحَامِ: وبعض الناس يقولون الطب توصل إلى تحديد نوع الجنين ذكراً كان أو أنثى، ومن قال إن هذا هو المقصود بالآية؟ علماء المسلمين من المفسرين لم يقولوا بهذا، بل الإمام القرطبي ومنذ مئات السنين قال: وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك. إذن فمعنى ما في الأرحام ليس المقصود منه هل المولود ذكرٌ أم أنثى بل معناه أوسع من ذلك بكثير، لأن الله يعلم من هو أبو المولود ومن هي أمه قبل أن يتزوجا أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:50].
إن معنى كلمة ما في الأرحام هنا: تعني حياة المولود من لحظة ولادته إلى لحظة وفاته هل هو شقي أم سعيد طويل أم قصير، ما هو لونه، هل هو صحيح أم مريض؟ ما هو عمره، وماذا سيفعل، ما هي الأحداث التي ستقع له، وماذا سيعمل؟ وأي مهنة س؟ وأي البلاد سيسافر إليها؟وبمن سيتزوج وما هو رزقه وهل سيرزق بأولاد أم لا. وهكذا فمن يعلم مثل هذه الأمور غير الله، هل يستطيع أحد من البشر أن يدعي هذا العلم، لا يستطيع ولكن الله يستطيع ذلك؟ وقد فعل فالله كتب مقادير الخلق وأرزاقهم وآجالهم قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام وهو موجود عنده سبحانه فوق العرش إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70].
وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً [لقمان:34]. أي لا تعلم نفس ماذا تكسب في الغد من خير أو شر في دنياها وأخراها. وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]. من يعلم عن ساعة موته، وأين ستكون؟ لا علم لأحد بذلك. روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه. فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت، فقال: كأنه يريدني، وسأل سليمان أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند ففعل. ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجباً منه، لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند، وهو عندك.
لهذا يقول : ((إذا أراد الله قبض عبد بأرض، جعل له إليها حاجة)).
ورغم هذه الآيات الصريحة في أن علم الغيب مختص بعلم الله سبحانه وتعالى إلا أن هذه الآيات تتعرض لمصادمات صريحة من الكهان والعرافين والدجالين ومن يصدقهم بادعائهم الغيب وخذوا أمثلة على ذلك.
التنجيم ومطالعة الأبراج: والتنجيم هو التنبؤ بواسطة النظر إلى الكواكب والنجوم ورصد حركاتها ومنازلها المقسمة على مدار الأشهر والسنة وأن لها تأثيراً على مصائر الناس. وهذا موجود ومنتشر وللأسف الشديد. وكثير من الناس يتابعون وبكل شغف. يتابعون ما يوجد في بعض الصحف والمجلات من قراءة الأبراج والنجوم، ومنهم من يصدقها. ويعتقد بأن لها علامة بسعده أو نحسه. قال العلماء: واعتقاد المعتقد أن نجماً من النجوم السبعة هو المتولي لسعده ونحسه، اعتقاد فاسد، وإذا اعتقد أن هذا النجم هو الذي يدير له أموره فهو كافر.
وهذا موجود الآن في الأبراج التي يتابعها البعض في بعض المجلات والصحف وهي مكتوبة بعدة طرق: فمنها ما يكتب على طريقة الأبراج: لبرج الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، أو العذراء وغير ذلك ومنها ما يكتب بطريقة السنوات: إذا كنت من مواليد السنة الفلانية فسنتك الجديدة سنة كذا وكذا.
وقد تكتب بطريقة الأشهر، أشهر يوجد بها السعد، وأخرى أشهر نحس.
والذين يكتبونها يستخدمون لها عناوين جذابة، أنت والحظ، ماذا تخبئ لك سنة كذا وكذا. ومن الملاحظ أن هؤلاء الكذبة من الدجالين يأتون في كلامهم بأشياء تقع دائماً:
خبر سار يصلك من إنسان تحبه: ومن الذي يوصل إليك الأخبار السارة إلا الذي يحبك.
لهذا يقول : ((من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد)).(/2)
وفي مرة أخرى يقولون: تواجهك بعض المشاكل المادية: ومن هو الذي لا يواجه المشاكل المادية في هذا العصر. وهكذا ترى ماذا يقصدون من وراء هذا الكلام: إنهم يقصدون إيهام العوام والجهال أن كلامهم قد تحقق. لقد حدث هذا علي، إذن لقد صدقوا.
وقد يخاطبون الناس بأسلوب الناصحين: كأن يقول أحدهم: انتبه وكن حذراً، فصحتك أغلى ما تملكه أو يقولون واحذر من أصدقاء السوء. وهكذا.
وبالطبع يزينون كتاباتهم هذه بقولهم بعدها: المفكر العالمي فلان، أو البرفسور فلان. بدلاً من أن يقول: المشعوذ فلان أو الدجال فلان. والملاحظ: أنهم يسرقون من بعضهم البعض. فما تجده في مجلة قد تجده بالنص بعد أسابيع في مجلة أخرى: لكن المشكلة هي في المتخلفين عقلياً الذين يصدقونهم، بل إن بعض الناس يتخذون القرارات في قضايا هامة في حياتهم كالزواج والطلاق أو السفر أو التجارة بناء على ما كتبه المنجم في تلك الأبراج. وهناك من يتقدم للزواج فتسأله الخطيبة ما هو برجك، فإذا كان برجه لا يوافق برجها كما قال العراف فيها فإنها ترفض الزواج منه، بل إن هناك من يحدد مواعيد الزواج باليوم والشهر بعد التشاور مع المنجم أو العراف. ولعلكم قرأتم أن الممثلة الفلانية تزوجت بعد أن حدد لها العراف يوم كذا وكذا وأنه يوم السعد، وهكذا وكل هذا من الكهانة والسحر ومن الكهانة التطير. وهو التشاؤم، وكان أهل الجاهلية يعتمدون على الطير فإذا خرج أحدهم لأمر، ورأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع.
وكانوا يتشاءمون بالحيوانات أيضاً فإذا رأوا الهامة مثلاً وقعت على بيت أحدهم يظن أنه سيصيبه مكروه أو أحد من أهله، وكانوا يتساءلون أيضاً عن شهر صفر ويظنون أنه شهر مشؤوم، فأبطل ذلك الرسول وقال: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)). والطيرة أمرها عظيم بل هي من الشرك لأنها تنسب الأفعال إلى غير الله. والمسلم الحقيقي هو الذي لا يبالي بالحوادث أو الوقائع التي تحدث لغيره ولا يربطها به ولا يتطير منها، لأنه يعلم أن شيء من الله وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وبدلاً من التطير وربط ذلك بالنفع أو الضر فإن على العبد أن يتوكل على الله، وأن يعلم أن كل شيء يسير بقدر الله، وعليه بالاستخارة الشرعية في كل أموره.
وأن يكون متفائلاً دائماً لأن النبي : ((لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح والكلمة الحسنة)) [رواه البخاري].
وحتى ننبه إلى مثل هذه الأمور فأقسام التشاؤم والتطير والنحس عند الناس هي على التالي:
من أناس يتشاءمون بالأيام والشهر: كشهر صفر.
أو بالحيوانات: كالغراب، البومة، أو القط الأسود، أو بالأشخاص: كالأعور، أو القبيح أو المجذوم. أو بالأرقام: كرقم 13 عند النصارى: أو رقم 7 عند أهل البادية.
أو بالأصوات: كصوت الغراب، صوت الإسعاف والمطافئ، أو عند انكسار الكأس فيقولون: انكسر العقد، أو عند الضحك الكثير، أو عند رفة العين فيقولون: سيصيبنا مكروه، وعند حكة اليد يقولون: خير، وعند حكة الرجل يقولون: شر، وكذلك عند رفة العين اليمنى يقولون: خير، وعند رنة العين اليسرى يقولون: شر، أو يقولون عن أحدهم: إنه رجل منحوس، أو قولهم: خير يا طير، وغير ذلك من البدع والشركيات والمحرمات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
قال معاوية بن الحكم: قال قلت: يا رسول الله أموراً كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان، قال: ((فلا تأتوا الكهان))، قال: كنا نتطير، قال: ((ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم)).
أي أخبره بأن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده، لا ما رآه وسمعه.
وقال : ((ليس منا من تطير، ولا من تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سُحر له)).
وقانا الله جميعاً شر السحرة والكهانة والعرافة والتنجيم.
رغم أن هذا العصر يسمى عصر الحضارة والتقدم العلمي. إلا أن الناس قد تفشت فيهم هذه الأوبئة المنافية للعقيدة، وهذا يدل على أن الشعوذة والدجل لا تحارب بالتقدم العلمي والتكنولوجي بل إنها تحارب بالعقيدة.
وهي سلاح المسلم الفعال الذي يواجه به الشرور والإفساد في الأرض لذلك نحن نرى أن المجتمعات الكافرة ورغم تقدمها الكبير إلا أن الشعوذة والدجل والتنجيم والعرافة متفشية بينهم: فقد ترى أستاذاً في الجامعة يتردد على الكهنة. بل وحتى من المسؤولين بل وحتى من رؤساء الدول. وبعضكم ربما قد قرأ كتاباً يتكلم عن رئيس دولة كبرى كانت توضع له البرامج التي تتعلق بحياته الشخصية والعلمية بعد استشارة العرافين والكهنة.
إذا فالمصدر الوحيد الذي تستطيع من خلاله أن نقاوم هذه الهجمات الشرسة على الإسلام هو القرآن والسنة.(/3)
لكن المشكلة الكبرى أن كثيراً من الناس يتساهلون في إتيان الكهنة والعرافين بل إن بعضهم يسافرون إليهم ليفكوا لهم السحر، أو ليعرف مستقبله المالي، أو الحياتي أو يطلب منهم قراءة الكف أو الفنجان أو الودع والرمل وغير ذلك: طبعاً هو يفعل ذلك لأنه فقد الثقة بالله، وكثيرون هم الذين فقدوا الثقة بالله فما أن يصيبهم سحر أو مرض، أو عين، أو لم يرزق بأولاد، ما أن يصيبهم هذا حتى يفزعون إلى غير الله، سبحان الله، أين الله، أين الذي قال: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرْضِ أَءلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62].
الجؤوا إلى الله يا عباد الله، حققوا التوحيد، ثقوا بالله، وثقوا بأنه على كل شيء قدير، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
وبعض الناس قد يقولون: بعض الكلام الذي يقوله الكاهن قد يحصل لي فعلاً، فكيف يكون دجالاً ومشعوذاً؟ والجواب: أن الكلام الذي أخبرك به الدجال إما أن يكون كلاماً عاماً من الممكن أن يحصل لأي إنسان كأن يقول: ترى غائباً من سفر بعيد: ومن الممكن جداً أن ترى غائباً من سفر بعيد.
وإما أن يخبرك بشيء خاص بك وهذا ممكن ولكن كيف؟ يشرح هذا النبي فيقول: ((إن الشياطين يركب بعضهم على بعض حتى يصلوا إلى السماء فيسمعون الخبر الذي تتناقله الملائكة)). الله عز وجل يوحي للملائكة: افعلوا كذا وكذا، وانزلوا كذا وكذا، وافعلوا لفلان كذا وكذا. فيسمع بعض الشياطين من الجن الخبر فينقلونه إلى الدجالين والكهنة الذين يخبرون به الإنس، ويكذبون على هذا الخبر الصحيح تسعة وتسعين كذبة. يأتي الكاهن فيخبر الإنسان بمائة خبر ليس منها إلا خبر واحد صادق، لكن الناس لا يتذكرون من الكلام الكاهن إلا المرة التي صدق فيها.
ويقولون: فعلاً لقد وقع ما قاله ولا يدرون أن هذا بسبب استراق السمع.
وبعضهم يقول: بمجرد أن ذهبت إلى الكاهن فإنه أخبرني باسمي واسم أبي وأمي وأخوالي وأعمامي ومهنتي ومهنتهم وهكذا. و لا يعرف أن الجواب هو في قوله الله: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]. فالشياطين يروننا ويرون أحوالنا، ويسمعون كلامنا دون أن نراهم وينقلون ذلك إلى الشياطين التي تعمل مع الكاهن الذي ذهبت إليه، ويعطونه كل المعلومات الضرورية عنك وهذا الأمر ثابت فقد أخبرنا بقوله: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة))، وبالطبع فالشيطان الملازم للإنسان يعرف عنه كل شيء خاصة إذا كان هذا الإنسان لا يعرف ذكر الله وقراءة القرآن.
فالحذر الحذر من أهل الكهانة والدجل. ومن الذهاب إليهم وإلا فالنتيجة ستكون وبالاً على الإنسان في الدنيا والآخرة قال : ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)).
وقال : ((من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )).
وقال : ((من أتى كاهناً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدقه. فقد برئ مما أنزل على محمد )).
لهذا فالواجب الحذر والتحذير من الكهانة والشعوذة وأهلها. والواجب علينا جميعاً أن نبلغ ولاة الأمور عن هؤلاء المشعوذين والدجالين لتأديبهم والأخذ على أيديهم.
ألا واتقوا الله يا عباد الله وحافظوا على عقيدتكم من الفساد أكثر مما تحافظون على صحة أبدانكم من الأمراض. فماذا يستفيد الإنسان إذا عاش سليم الجسم مريض العقيدة. فإن صحة البدن مع فساد العقيدة خسارة في الدنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً [النساء:115]. وفقنا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه.(/4)
اللؤلؤة تحفظها المحارة
الأستاذ عمرو خالد
هذا زمان فتن!!
في يوم من الأيام كان الإمام أحمد بن حنبل يسير في الطريق، وكانت هناك امرأة محجبة تسير أمامه، وفجأة اشتدت الرياح فرأى كعب المرأة دونما يقصد،، فما كان منه إلا أن أمسك جلبابه وغطى به وجهه وقال: هذا زمان فتن!!
يا الله!! قال ذلك ولم ير إلا كعبها ودون قصد منه، فماذا يقول لو كان بيننا الآن....؟!
اللؤلؤة تحفظها المحارة
حديثنا اليوم بمشيئة الله حديث خاص لذا كانت المقدمة بهذا زمان فتن، لنشعر بمسئوليتنا جميعاً تجاه موضوع اليوم.. فحديثنا بمشيئة الله سيكون عن الحجاب... أحبتي.. المرأة هي الأم، الجدة، الزوجة، الأخت، الابنة، القريبة، الجارة، هي كل المجتمع فهي التي تلد وتربي هذا المجتمع، لذا فباستقامة المرأة يستقيم المجتمع كله ولن تستقيم إلا بالحياء فإن فقدت المرأة حياءها فقل على المجتمع السلام وأعظم نقطة في حياء المرأة هي أن تداري جسدها، إن أعظم حياء المرأة الحجاب، أحبتي.. إننا دائماً نحتفظ بالأشياء الثمينة ونحافظ عليها، وكلماكان الشيء غالياً كان الحفاظ عليه أشد، ألا يستحق أغلى شيء تمتلكه المرأة أن يحافظ عليه وأن يُصان؟ وأغلى شيء تمتلكه المرأة حياؤها وأغلى ما في حياء المرأة حجابها..، ألا يستحق جسدك أن تحافظي عليه؟! ألاترين أن اللؤلؤة بديعة الشكل تحفظها المحارة....!! وأنت لؤلؤتنا التي يحفظها الحجاب
سؤال لطيف جداً....!!
وسنطرح الآن سؤالاً طريفاً جداً وهو: لماذا فُرض الحجاب على المرأة ولم يُفرض على الرجل؟! أراك تضحكين.. أما فكرت في هذا السؤال من قبل؟ هل فَرْض الحجاب على المرأة من باب التضييق عليها أم ماذا؟ إن لم يكن لديك إجابة على السؤال فإليك هذه الإجابة التي تزيدك ثقة في نفسك..، إن مائة رجل لا يستطيعون أن يجعلوا امرأة واحدة تتعلق بهم ولكن امرأة واحدة تستطيع أن تجعل مائة رجل يتعلقون بها.. ما رأيك في هذه الإجابة؟! إجابة مقنعة أليس كذلك؟! إن المرأة هي مصدر التأثير لذا كان الحجاب في حقها فرضاً.
وجاء الإسلام
إن المتأمل في التاريخ يلاحظ الآتي: العرب والرومان والأمم السابقة قبل مجيء الإسلام كانوا يرون أن قيمة المرأة تتمثل في جمال جسدها، فجاء الإسلام ليرتقي بالمشاعر الإنسانية ويعلم الناس جميعاً أنه لابد حتى نتقدم ونرتقي أن تظهر أذواقنا وتسمو نفوسنا، ووضع قاعدة ثابتة ألا وهي: أن قيمة المرأة في جمال مشاعرها وجمال إحساسها، قيمة المرأة في جمال الجوهر، قيمة المرأة في عقلها الناضج.. هذه هي قيمةالمرأة في الإسلام..
تُرى من الذي احترم المرأة وارتقى بها ومن الذي أهانها؟! هل هو الذي جعل قيمة المرأة في جمال جسدها وبدأ يستغل هذا الجسد أم الذي جعل قيمة المرأة في شخصيتها وكرامتها؟
الحجاب فريضة
بعض الأخوات الفضليات يقلن: «من قال إن الإسلام فرض الحجاب؟» وهو سؤال استنكاري تسأله كثيرات من أخواتنا ومن حقهن ذلك.. اسألي وناقشي وابحثي عن الحقيقة فوالله إن إسلامنا جميل يريد من المسلمة أن تفهم دينها ولا يريدها مجرد آلة تنفذ.. أيتها الأخت الفاضلة يجيب على سؤالك كلام الله.. {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين}.. أرجوكِ.. اقرأي كلام الله بقلبك واستشعري أن الله يكلمك..
أيتها الأخت الفاضلة اعلمي أنك من نساء المؤمنين، فهل بعد ذلك يُقال إن الكلام موجه لزوجات وبنات النبي صلى الله عليه وسلم فقط.. إن الكلام واضح وضوح الشمس.. ارتدي الحجاب حتى يعرف الناس أنك متدينة.. انك مطيعة لله عز وجل فلا يؤذيك أحد، إن الناس لايعلمون إلا الظاهر.
أيتها الأخت الفاضلة.. ألا تحبين الله؟!.. تقولين: بلى، وأقول لك إنه يأمرك بالحجاب فهل تنفذين أمره؟ إن الحجاب فريضة وليس نافلة.
يا الله!! أي توضيح بعد هذا!!؟
يقول الله عز وجل {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ماملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} إنك تقرأين هذه الآيات كثيراً.. أليس كذلك؟! ولكن وآه من لكن!! بداية نتفق على أن هذه الآيات ليست موجهة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم فقط ولكنها موجهة إلى كل المؤمنات {وقل للمؤمنات} وفي سياحة قصيرة مع الآية نرى الآتي:(/1)
{وليضربن بخمرهن على جيوبهن} كلمة الخمار في حد ذاتها مقصود بها أن تضرب المرأة بالخمار على «الجيب» الصدر وفتحة العنق - إذاً لا يصح أن تضع المرأة «إيشارب داخل الرقبة.. سبحان الله!! الموضوع الوحيد الذي فصل تفصيلاً في القرآن هو لباس المرأة، إنها والله لإشارة بليغة..
ويا له من ختام خُتمت به الآية {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} توبي إلى الله أيتها الأخت الفاضلة وارتدي الحجاب، تب إلى الله أيها الزوج وأعن زوجتك على الحجاب، تب إلى الله أيها الأب وأعن ابنتك على الحجاب تب إلى الله أيها الأخ وأعن أختك على الحجاب، والله ستحاسبون عليهن، لا أقول اغصبوهن غصباً على ارتداء الحجاب ولكن أعينوهن ووفروا لهن المناخ الذي يعينهن على ارتداء الحجاب فلتكن معاملتكم لهن معاملة راقية ولتستخدموا أرق وألطف الأساليب {اجعلها تحب الله فبحبه ترتدي الحجاب} {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المومنون لعلكم تفلحون}.
صمام أمان للبشرية
إننا في هذه الأيام في أشد الحاجة لحياء المرأة المسلمة لينضبط حياء المجتمع.. أنها قضية جوهرية ولابد أيتها الأخت الفاضلة أن تحسميها وتأخذيها مأخذ الجد لأنك تحبين الله أليس كذلك؟! لقد أضحى حجابك صمام أمان للمجتمع فحجابك هو أول خطوة لصلاح هذا المجتمع، إنه والله أمر عظيم ألاتشعرين به؟ هيا ابدئي بنفسك وتدرجي ثم ابدئي بمن حولك، واعلمي أن ربك الذي خلقك هو الذي أمرك بالحجاب ليس أحد آخر.. ألا يستحق الله أن تنفذي أمره؟!
شبهات وردود
أحياناً تكون هناك بعض العقبات أو المعوقات التي تحول بين المرأة وارتداء الحجاب وسنحاول عرض هذه العقبات أو الموانع التي تمنعك من ارتداء الحجاب وهي في حقيقة الأمر شبهات!! وسنحاول الرد عليها بمشيئة الله وبتوفيقه، وقبل عرض الشبهات والردود عليها يهتف القلب ويلهج اللسان بهذا الدعاء «اللهم ارزقنا قلوباً تحبك».
الشبهة الأولى:
«أنا لا أقتنع بالحجاب»
وأولى الشبهات التي تمنع المرأة من ارتداء الحجاب هو عدم الاقتناع والرد على هذه الشبهة هو الآتي: إلى الأخت الفاضلة التي تقول إنها لا تقتنع بالحجاب أتوجه إليها بسؤال وهو: ما دينك؟ تقولين: أنا مسلمة، وأقول لك: هل تعرفين معنى كلمة الإسلام؟ أراك حائرة في إجابة هذا السؤال، إن كلمة الإسلام أيتها الأخت الفاضلة معناها الاستسلام والأنقياد لله عز وجل القائل {وما كان لمؤمن ولامؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}.. أيتها الأخت الفاضلة.. إن الله قد أمرك بالحجاب، أي انه لا خيار لك في ذلك، لقد انتهى الأمر وحسم بقرآن يُتلى ليوم الدين، فهل لك أن تقتنعي أو لا تقتنعي بأمر قد فرضه الله، ألا تعلمين أن الأصل في العبادات التعبد وتنفيذ أمر الله دون النظر إلى أي شيء آخر!!
إننا عند الوضوء نمسح على الخف أما كان المسح أسفل الخف أولى؟!!..
أين الاستسلام المطلق لله عز وجل؟! أيتها الأخت الفاضلة.. أنت مسلمة فهل أنت مستسلمة لخالقك؟ هل أنت مستسلمة لأوامره؟
الشبهة الثانية:
«الحجاب حجاب القلب»
تقول بعض النساء «المهم الجوهر، ونيتي صافية، وقلبي سليم والحجاب حجاب القلب، إنني أصلي وأقوم الليل وأصوم الاثنين والخميس و..» هناك نساء يفعلن ذلك وزيادة ويقلن الحجاب حجاب القلب!! ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول شيئاً آخر، يقول: «لا يقوم بهذا الدين إلا من حاطه من جميع جوانبه» أيتها الأخت الفاضلة... الإسلام كل لا يتجزأ، لا يصح أن تأخذي بعضه وتتركي البعض الآخر، يقول الله عز وجل {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} تخيلي الآن وأنت بين يدي الله يسألك عن الحجاب وأنت تقولين له: «العبادات يا رب والحجاب حجاب القلب!! وليس بالضرورة أن أنفذ لك كل أوامرك يا رب فأنا أنفذ ما يرضيني أنا..!!» لا حول ولا قوة إلا بالله، إنني أخشى عليك من هذا الموقف الرهيب، فهل أنت تخشين على نفسك؟ إن الأمر غاية في الخطورة، إذا خرجت المرأة من بيتها وهي متبرجة كاشفة جسدها وشعرها فكل رجل ينظر إليها تأخذ به سيئات، تقول بعض النساء: «ولكن أنا نيتي سليمة»، «أنا مالي هو المخطئ».. لا والله انكِ لم تنفذي أمر الله فكنت دافعاً له على عدم غض البصر وهذا لا يعفيه من الحساب أمام الله هو أيضاً.. يا الله.. تأخذين سيئات بكل رجل ينظر إليك.. هل تقولين بعد ذلك أن عباداتك تكفيك؟!!
الشبهة الثالثة:
«حرارة الجو شديدة»(/2)
وتأتي بعض النساء فتقول: «الجو يكون شديد الحرارة فإذا ارتديت الحجاب سيتساقط شعر رأسي» سبحان الله!! وهذه الآلاف من النساء اللاتي يرتدين الحجاب لماذا لم يتساقط شعرهن!! أيتها الأخت الفاضلة.. إن الله لا يأمرك بشيء يضرك تيقني من ذلك، أما عن حرارة الجو يقول تعالى: {قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره» أيتها الأخت الفاضلة.. إن كان الحجاب يضايقك في الصيف اصبري واستعيني بالله.. ألا أن سلعة الله غالية.
الشبهة الرابعة:
«هناك محجبات
يفعلن كذا وكذاوكذا....!!»
وتجد بعض النساء يقلن «إنني أعرف محجبات سلوكهن (....)!!!» «وهناك محجبات يفعلن كذا وكذا وكذا!!!».. أيتها الأخت الفاضلة لا تضحكي على نفسك فهناك أناس يصلون ويفعلون كذا أو كذا وكذا!! فهل معنى ذلك أن نمتنع عن الصلاة؟! وأعرف حجاجاً يفعلون الأفاعيل!! فهل معنى ذلك أن نمتنع عن أداء فريضة الحج؟؟! أيتها الأخت الفاضلة.. العيب ليس في الإسلام إنما العيب في المسلمين، العيب ليس في الحجاب إنما العيب فيمن ترتدي الحجاب.
الشبهة الخامسة:
«لم يهدني ربي بعد!!»
وتجد بعض النساء تقول: «إنني سوف أرتدي الحجاب ولكن لم يأت الأوان، لم يهدني ربي بعد» إن شاء الله حينما يصبح عمري (50) سنة وأكون قد تمتعت بالدنيا حينها أتحجب» سبحان الله!! يقول الله عز وجل: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} لابد من النية والعمل حتى يهديك الله وتتحجبي أيتها الأخت الفاضلة.. كيف تقولين: لم يهدني ربي بعد؟ وقد هداك بالفعل والدليل على ذلك أنك تقرأين هذا المقال، فبقراءتك هذه فتح الله لك سبيل الهداية فإياك أن تكوني مثل ثمود!! {فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى».
الشبهة السادسة:
«إنني لم أتزوج بعد»
تأتي هذه الشبهة الخطيرة، فيقول البعض «بعد الزواج سوف أرتدي الحجاب، فأنا لم أتزوج بعد» وأصارحك القول بأن الكثير من الشباب حين يبحث عن شريكة حياته تجديه يبحث عن المحجبة، وإن كان هذا الأمر يشغل تفكيرك فإني أطمئنك.. لا تخافي فكل امرأة مكتوب عند الله زوجها. أيتها الأخت الفاضلة.. إليك هذا المعنى الهام.. جاء رجل إلى الحسن البصري وقال له: مَن أزوج ابنتي؟ فقال له: زوجها ذا دين، فإنه إن أحبها أكرمها وإن كرهها لم يظلمها.
فاحرصي على صاحب الدين الذي يفرح بحجابك ويحرص عليه فهذا هو الذي سيحافظ عليك. وأخيراً.. اعلمي أن هناك الكثير من البنات لم يتزوجن بعد وهن غير مرتديات للحجاب!!
الشبهة السابعة:
«إنني مازلت صغيرة»
وتجدين بعض الفتيات تقول: «إنني مازلت صغيرة» وأن الإنسان ليتعجب من هذه المقولة.. هل نضمن الحياة بعد ساعة؟! هل تضمنين عمرك؟! إننا في هذه الأيام حينمانتصفح صفحة الوفيات نجد العجب كل العجب، 40% من الوفيات في سن الشباب، إنها والله تذكرة فأين من يتذكر؟!
حدث بالفعل.. قصة حقيقية!!
هذه قصة حدثت بالفعل في مدينة الإسكندرية (مصر) يقول راويها: «إن زوجتي محجبة وهي ما شاء الله طائعة لله موصولة به، تسكن في الشقة التي أمامنا بنت متبرجة، ملبسها بعيد عن الحجاب، ولكن البنت «فيها خير، جوهرها طيب» كانت زوجتي على علاقة طيبة بهذه البنت، وفي يوم من الأيام جاءت الفتاة إلى زوجتي وقالت لها: «أريدك أن تخرجي معي لأشتري (بدلة جينز)»!! فكان تصرف زوجتي المتدينة الداعية إلى الله تصرفاً ذكياً، قالت لها: «أنا موافقة ولكن بشرط وهو أن تأتي معي في البداية إلى درس ديني ثم نذهب لشراء البدلة «الجينز»، فوافقت البنت وذهبت معها إلى الدرس وكان الدرس عن التوبة والعودة إلى الله، فبدأت البنت تسمع الدرس فتأثرت وتأثرت.. وعند انتهاء الدرس إذا بالفتاة تبكي بكاءً شديداً ولا تتكلم إلا بكلمة واحدة وهي: «تبت يا رب تبت يا رب.. ألبسوني الحجاب» تبت يا رب، حاولوا تهدئة الفتاة إلا أنها مازالت تبكي، حاولوا أن ينزلوها ولكنها رفضت وقالت «غطوني» «لا أستطيع النزول هكذا» فأحضروا لها «عباءة وطرحة» فغطت جسدها وشعرها بالكامل، وخرجت من الدرس، وفور نزولها الشارع صدمتها سيارة فماتت و{إنا لله وإنا إليه راجعون}.. أيتها الأخت الفاضلة.. إن هذه القصة الحقيقية تكفي والله، ولا أجد من الكلمات إلا أن أقول لك: أما آن لك أن ترتدي الحجاب؟!
الشبهة الثامنة:
«الموضة»
ومن المعوقات التي تعوق المرأة عن ارتداء الحجاب قولها: «أحب أن أكون على الموضة والحجاب ليس على الموضة» أيتها الأخت الفاضلة.. هل صارت «الموضة» أعز عليك من أوامر الله؟! أتضعي أمر الله في كفة و«الموضة» في كفة ثم ترجحين كفة الموضة»؟! ألهذه الدرجة صار أمر الله هيناً!!
ثم من قال إن الحجاب ليس على «الموضة»؟! أيتها الأخت الفاضلة.. والله إن للطاعة ضياء في الوجه ونوراً في القلب، ستزدادين طهراً وبهاء وجمالاً بهذا الحجاب.. هيا حرري قلبك وفكي قيودك وتذوقي حلاوة الإيمان.
الشبهة التاسعة:(/3)
«أخاف ألاأثبت عليه»
ومن الشبهات التي تجعل المرأة غير مرتدية للحجاب خوفها من عدم الثبات عليه وخوفها من خلعه وهذا كلام طيب فإن من تخلع الحجاب بعد ارتدائه تكون قد وقعت في معصية شديدة جداً جداً.. فبفعلتها هذه تكون قد فتنت عشرات الفتيات فضلاً عن أنها بهذا تستهزئ بالله عز وجل.. أيتها الأخت الفاضلة أنصحك بأن تتحدثي دائماً عن الخير لينتشر ولا تتحدثي عن الشر فينتشر.. تحدثي عن الحجاب وعن الثبات عليه ولا تتحدثي عن خلعه.. أيتها الأخت الفاضلة.. ماذا لو قال المصباح يوماً إن هناك ظلاماً فأين نجد النور؟! فإذا ارتديت الحجاب لا تقولي «أخاف ألا أثبت عليه»؟ من التي تُثبِّت النساء إذن؟!.. ويعينك على الثبات ثلاثة أشياء:
1 - الصحبة الصالحة للفتيات المتدينات.
2 - حضور وسماع دروس العلم.
3 - الدعاء والاستعانة بالله عز وجل «اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.. اللهم ثبت قلبي على الحجاب».
الشبهة العاشرة:
«أخجل من صديقاتي»
والشبهة الأخيرة التي تواجه الفتيات هي «الخجل والكسوف» من صاحباتها وجيرانها وأقاربها وعائلتها.. ستكون المحجبة الوحيدة في العائلة، في المدرسة: أيتها الأخت الفاضلة.. أتستحين من زميلاتك وأقاربك ولا تستحين من الله عز وجل؟! ثم من التي تخجل وتشعر بالخطأ؟.. التي نفذت أمر ربها وارتدت الحجاب أم التي لم تنفذ أمر ربها وعصته؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تكونون إمَّعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا» إن هذا الحديث يجعلني أتعجب..!! فإني أعلم أن لك شخصية مستقلة فأنت لا تحبين أن تكوني تابعة منقادة وهذا الحديث يحثك على الاستقلالية.. إذاً فكيف تقولين أنك تخجلين من صديقاتك وأقاربك..!؟ أيتها الأخت الفاضلة.. أرفعي رأسك عالياً فأنت على الحق وإياك أن تقللي من شأنك فأنت عند الله عزيزة بهذا الحجاب.. كوني ملاكاً يسير على الأرض.. هيا فالجنة تناديك ألا تشتاقين لها..؟! اجعلي لسان حالك: «أما آن لك يا ملك السيئات أن تستريح كفاك ما سجلته ولتستعد يا ملك الحسنات فإني عائدة إلى ربي.
فياليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
وليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والانام غضاب
اذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التراب تراب
أيتها الأخت الفاضلة.. قولي لا!!
لا يا قيود الأرض.. لا ياكل المغريات.. لا ياكل الأعذار.. لا ياكل المعوقات.. إنني اخترت رضا ربي.. ولن أرجع في قراري.. فتقبل مني وارض عني يا رب العالمين
------------------------------------------------------------------------
المصدر: http://www.islamic-oyster.com/(/4)
اللا شعور
بقلم: صبحي درويش
soubhidarwish@hotmail.com فطن البشر ببديهتهم، منذ قديم الزمان، إلى اللاشعور وأثره في حياة الإنسان.حيث أدركوا أن بعض أفعال الإنسان وأفكاره ليست نتاج تفكيره الواعي بل هي نتاج قوى خفية تؤثر فيه من حيث لا يدري أو لا يشعر.وكان الفيلسوف الألماني لايبنتز هو أول من لفت الأنظار إلى موضوع اللاشعور في العصر الحديث ولكن بحثه في اللاشعور لم يلق اهتماما واسع النطاق لأنه كان مقصورا على المجال الفلسفي والأكاديمي فقط. ثم جاء فرويد في أواخر القرن التاسع عشر وبحث في هذا الموضوع بحثا مستفيضا.وقد أثار بحثه ضجة كبرى في العالم،ونال رواجا منقطع النظير.وقد وصف وليم جيمس نظرية فرويد بأنها «أعظم اكتشاف خلال مئة عام».ولا يجوز لنا أن نغالي في نظرية فرويد كما غالى الفلاسفة القدماء في المنطق القديم الذي وضعه أرسطو.فكل واحد منهما كان في زمانه ثورة تقدمية ساعدت على تطوير الفكر البشري، ولكنه صار بعدئذ عقبة في طريق هذا التطوير.لقد أظهرت الدراسات الحديثة كثيرا من النقائص في نظرية فرويد.إن فرويد له فضل كبير في علم النفس وعلم النفس الاجتماعي، لأنه كان أول من لفت الأنظار في العصر الحديث إلى موضوع اللاشعور وأثره في حياة الإنسان. ولكن عيب فرويد انه جعل اللاشعور مقصورا على الرغبات المكبوتة، ولا سيما الرغبات الجنسية.وقد تبين أن اللاشعور عالم زاخر تكمن فيه مختلف الدوافع والعوامل وليس مقصورا على دافع واحد كما تصوره فرويد.هذا ويطلق مصطلح اللاشعور على جميع الدوافع التي تدفع الإنسان في مختلف نواحي الحياة وهو لا يعرف مصدرها فيه.فالإنسان حين يندفع بها يتصور انه فعل ذلك بإرادته واختياره ، بينما هو في الواقع مسير من حيث لا يدري كما يقول الوردي عالم الاجتماع العراقي المعروف فالحرية الفردية خرافة يولد الناس مسجونين في قفص البايولوجيا مربوطين إلى سلاسل الزمن. أسرى في أغلال الثقافة وإكراهات المجتمع. نحن نظن أننا أحرار في المجتمع وهذا أكبر من خرافة.والواقع أننا نعيش إكراهات متتالية من المهد حتى اللحد في قبضة الجينات وزنزانة الزمن وقفص الثقافة ومعتقل المجتمع. ومع هذا فإن هامش الحركة في المكان و الفكر و اللغة أفضل من البايولوجيا فيتقدم المجتمع بهامش الحرية الضئيل هذا من خيال الأفراد المبدعين. وقد وصف أحد الباحثين اللاشعور بقوله انه يحتوي على منجم من الذهب وعلى مجموعة من النفايات في نفس الوقت.وكان الباحث يعني بذلك أن اللاشعور يضم جوانب ايجابية وسلبية معا. وحسب الوردي فالعقل الباطن ليس جهازا نفسيا معينا له خصائص ووظيفته الخاصة به.والواقع أن إطلاق معنى العقل عليه من باب التجويز والتبسيط. فهو ليس عقلا ولا شيئا مما يشبه العقل وإنما هو اصطلاح عام نقصد به جميع الفعاليات النفسية التي تؤثر في سلوك الإنسان وهو لا يشعر بها على حد تعبير عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي ويصفه بأنه مجموع الرغبات المكبوتة والحوادس الخارقة معا.فكلا هذين النوعين من الحوافز ينبعث من أغوار النفس بدون أن يشعر به الإنسان. ثم يخلص إلى أن العقل الباطن حيز ذهني يجتمع فيه نوعان من الحوافز فهو مباءة العقد النفسية والرغبات المكبوتة من ناحية، وموئل الإحساس الخارق من الناحية الأخرى.وهو بهذا مصدر للشر والخير معا.ثم يصنف في كتابه خوارق اللاشعور أو أسرار الشخصية الناجحة الذين يؤمنون بوجود العقل الباطن إلى فريقين:
1-الفريق الأول منهم وهم أتباع التحليل النفسي، يعتقدون بأن العقل الباطن مكمن الرغبات المكبوتة التي لم يستطع الإنسان إشباعها لسبب من الأسباب.وهذه الرغبات تبقى في نظرهم محبوسة في العقل الباطن وهي تحت ضغط شديد ناتج عن رقابة العقل الواعي.فإذا تخدر هذا العقل أو ضعف أو غفل أو نام وجدت الرغبات المكبوتة في ذلك فرصة سانحة للخروج من حبسها وهي تظهر آنذاك بصور شتى وأساليب متنوعة..., وأهم مجال تظهر فيه هذه الرغبات المكبوتة في نظرهم هو مجال الأحلام
2-أما الفريق الثاني فيعتقدون بأن العقل الباطن هو مهبط الوحي والكشف والإلهام في الإنسان، وهو منبع العبقرية والنبوة والاختراع وما أشبه.(/1)
لقد أصبحت اليوم القوى النفسية الخارقة من الحقائق العلمية ولقد توصلت الأبحاث والدراسات النفسية في الغرب إلى أن لدى الإنسان ملكات نفسية خارقة أهمها ثلاث وهي تناقل الأفكار ( ( Telepathyورؤية الأشياء من وراء حاجز(Clairvoyance) والتنبؤ(Foreknowledge).وللباحثين في موضوع القوى النفسية الخارقة طريقتان:الأولى منها هي طريقة فحص الوقائع والتثبت من صدق شهودها وجمع الوثائق عنها.والطريقة الثانية تقوم على أساس التجريب والإحصاء.يشبه الإنسان الكمبيوتر مع الفارق الهائل في التعقيد، والمشكلة في الإنسان أنه يأتي إلى الدنيا لا يعلم شيئاً وعنده السمع والبصر والفؤاد ، والفيلسوف ديفيد هيوم يرى في كتابه عن الطبيعة البشرية أن الدماغ الإنساني يشبه لوحة شمع للتشكل. ولكن الفيلسوف الألماني كانت قال بشيء اسمه المقولات العقلية أي أن الدماغ الإنساني مركب على نحو مسبق لنقل الحواس الخام إلى قالب مدركات ثم أفكار. يقول الدكتور خالص جلبي«يعتبر الدماغ الإنساني هو مركز التعقيد الفعلي لأنه المكان التشريحي والفيزيولوجي الذي تجري فيه العمليات العصبية بدءً من التصورات وتحليل المعلومات واستيعابها وخزنها بالذاكرة وانتهاءً بالنطق والاتصال. وبعد الوصول إلى فك كامل الشيفرة الوراثية اصطدم العلماء بحقيقة أن أكثر الجينات تعمل لمصلحة الدماغ وعلى نحو تبادلي برقم فلكي مرعب. ونحن نعرف اليوم أن خلق الإنسان يتم من خلال حوالي 140 ألف أمر جيني. ولكن الرقم التبادلي هو الذي يصيبنا بالدوار. فمثلاً عرف أن الجينات أي الأوامر الوراثية المسؤولة عن تنظيم الضغط الدموي ليست جيناً واحداً مفرداً بل حوالي 200 جيناً في ضفيرة متبادلة التأثير. و حتى نقترب من التعقيد المخيف في أدغال غابة المخ فعلينا ملاحظة لوحة الفيديو الداخلي ، فإذا كانت لوحة الفيديو فيها مائة نقطة فالدماغ فيه لا يقل عن مائة مليار خلية عصبية. ومعنى هذا أن عمل الجسم يقوم على شبكات لانهائية إذا أخذنا في عين الاعتبار أن كل نورون عصبي هو كوكب دري في سماء الدماغ، وهي ليست مجرات تتباعد عن بعضها كما في النظام الفلكي، بل خلايا عصبية تتصل فيما بين بعضها البعض بمحاور على نحو مذهل. وكل خلية عصبية عندها لا يقل عن ألف ارتباط وبعض خلايا المخيخ مثل خلايا بوركنج عندها 200 ألف ارتباط. وحتى الآن نحن على السطح التشريحي ولم ندخل الدغل المخي تماماً، ومما كشف عنه أن الوعي هو شيء قشري سطحي مقابل اللاوعي أو العقل الباطن الذي يتحكم فينا بآليات غير مفهومة ولا تخضع للمنطق. ومما عرف أن الوعي واللاوعي أو العقل الباطن لا يشتغلان سوية وهما يشبهان المتغيران في معادلة رياضية واحدة وهي عند الرياضيين معادلة غير قابلة للحل. وهذا يعني أن الإنسان يشكل معادلة غير قابلة للحل عملياً. وتذهب مدرسة اريكسون ملتون في محاولة لاكتشاف علاقة اللغة بالعقل الباطن. فاللغة العليا تكلم الوعي المباشر أما اللغة الرمزية فإنها تتسلل إلى العقل الباطن فتكون أبلغ في التأثير. ومنه نفهم معنى ما قاله علماء البلاغة أن المجاز أفضل من الحقيقة أحياناً، وأن الكناية أبلغ في الإفصاح، وأن الاستعارة أقرب من التصريح. وهدف قصص ألف ليلة وليلة كانت محاولة لمداواة مريض نفسي محطم مغرم بالقتل هو الملك شهريار من خلال القصة التي تنفذ إلى اللاوعي مباشرة فتعالجه على نحو غير مباشر». يروى أن ابن سينا الفيلسوف المعروف كان إذا صعبت عليه مشكلة توضأ وصلى ثم نام فيرى حل تلك المشكلة في أحلامه ويروى مثل هذه القصة عن الفيلسوف الفرنسي ديكارت فهو قد كشف كشوفه العظيمة كما يقال وهو نائم في فراشه صباحا. وكل إنسان في ثناياه عبقري يحتاج للاكتشاف، وكثرة الطعام مهلكة، يتبعها نوم فاسد مفسد للروح، والكسل مهلكة يتبعه انطفاء الروح، ومن أجل قدح شرارة الهمة فلا بد من أهداف ومثل لامعة في الأفق، فكما يوقظ الصوت حاسة السمع، والمنظر الجميل حاسة البصر، كذلك كان المثل الأعلى محفزا موقظا للإرادة الخاملة، كما قال عالم النفس هادفيلد.إن العقل الباطن هو عقل الإيمان، بينما العقل الظاهر هو عقل التفكير والشك والتفلسف.والطريقة الحديثة في استثمار العقل الباطن هي طريقة الإيحاء والتكرار.(/2)
ومن الجوانب السلبية من اللاشعور في حياة الإنسان الاجتماعية يذكر عالم الاجتماع العراقي الوردي: التعصب التقليدي والاتجاه العاطفي.والدافع المصلحي والأنوية والتجارب المنسية والرغبات المكبوتة. وأما الجوانب الايجابية من اللاشعور يرى الوردي أن معظم المخترعات الكبرى والأفكار المبدعة في التاريخ البشري هي نتاج ومضات خاطفة انبثقت في لاشعور بعض الأفراد بين حين وآخر. ثم يذهب إلى القول إن معظم الناجحين في الحياة قد استمدوا نجاحهم من استثمار مواهبهم اللاشعورية على وجه من الوجوه.والقوى اللاشعورية تنبثق من أغوار النفس و لها اثر لايستهان به في نجاح الفرد أو .نبوغه أو تفوقه.إن التقصد والتكلف والتعجل أمور مناقضة لحوافز اللاشعور ومفسدة له. وفي الواقع نلاحظ أن كثيرا من أسباب النجاح آتية من استلهام اللاشعور والإصغاء إلى وحيه الآتي فإذا تعجل المرء أمرا وأراده وأجهد نفسه في سبيله قمع بذلك وحي اللاشعور وسار في طريق الفشل. إننا لا نقلل من أهمية الجهد والإرادة والسعي أو ننكر أثرها في نجاح الفرد لكن هناك أوقات يحتاج فيها الفرد إلى السعي والجهد وهناك أوقات تقتضي من الفرد الانسياب والاسترسال واللامبالاة وقلة الحرص والسعيد هو من استطاع أن يفرق بين هذه الأوقات هناك جانبان في اللاشعور لهما أثر الكبير في إبداع الإنسان أو في نجاحه. وكثيرا ما يقع الإنسان في خطأ مهلك حين يعتمد في حياته على التفكير المنطقي الواعي وحده، ويهمل الومضات الإبداعية أو الخارقة التي تنبثق من عقله الباطن. إن مواهب الإنسان كثيرة ومتنوعة ومازال العلم يشعر بالعجز عن اكتناه الكثير منها ويمكن تصنيف مواهب الإنسان إلى صنفين رئيسين هما المواهب الذكائية والمواهب الخارقية.وفي عام 1982 جاء الباحث الأمريكي هوارد غاردنر بنظرية جديدة مفادها إن الذكاء ليس نوعا واحدا بل هو سبعة أنواع. فآينشتاين صاحب نظرية النسبية كان في طفولته لا يجيد الكلام وظل كذلك حتى آخر حياته.وقد ظن أهله أنه لا خير فيه لأنهم كانوا يقيسون الذكاء بفصاحة اللسان وجودة النطق فهم لم يكونوا يعرفون أن آينشتاين لديه درجة عالية من نوع آخر من الذكاء ولو عاش آينشتاين في مجتمع متخلف لما تمكن من استثمار ذكائه الممتاز ولبقي طيلة حياته لا خير فيه. وأديسون المخترع العظيم لم ينجح في المدرسة في طفولته وكتب عنه مدير مدرسته أنه متخلف في ذكائه فالمدير كان يقيس الذكاء بمقياس لم يكن ينطبق على أديسون ولو كان أديسون في مجتمع متخلف لصار مصيره كمصير آينشتاين لا خير فيه.واليوم نحن نعرف أن الذكاء ليس عقلا صرفا بل عقل وعاطفة.يروى عن أديسون انه وصف الاختراع الذي يبدعه أي مخترع بأنه في معظمه حصيلة الجهد والتعب أما الإلهام فليس له في انجاز الاختراع سوى نصيب قليل جدا .إن الله يخلق البشر من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً فيجعل لهم السمع والبصر والفؤاد، فيهديه السبيل إما شاكرا وإما كفورا، وما يجعل الإنسان ينمو هو العلم، وقل رب زدني علما، ورجل صالح عالم علم النبي موسى الأسرار. وليس هناك من إنسان متفوق وإنسان دون ذلك إلا بالجهد،أو هو على حد تعبير أديسون 2 بالمائة نتيجة الإلهام و98 بالمائة نتيجة العرق وهذا قول فيه مبالغة ولكنه مع ذلك لا يخلو من الحقيقة.إن في أغوار اللاشعور قوى مبدعة تستطيع أن تقود الفرد في سبيل النجاح لو أحسن استثمارها. وفوق كل ذي علم عليم
... ... ...
... طباعة ... ...(/3)
محاضرة
الله أكبر
لفضيلة الشيخ
www.almosleh.com
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله وأشهد ألا إله إلا الله إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. . . أما بعد.
فذكر الله أيها الإخوة أعظم ما تنشرح به الصدور وتطيب، ذكر الله جل وعلا شفاء الصدور ونور البصائر وسكون الفؤاد قال الله تعالى: ?أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ?(1).
إذا مرضنا تداوينا بذكركمُ ... ... ونترك الذكر أحياناً فننتكس
إن المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذكر الله تعالى شيء يفوق الحصر فهو أعظم الذاكرين لربه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه كان ذاكراً لله جل وعلا مذ أن قال الله له: ?يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ?(2). ذاكراً لله جل وعلا في قيامه وقعوده في ذهابه ومجيئه في سفره وإقامته فهو الذي بلغ الغاية في ذكر الله تعالى في الأولين والآخرين. إن المحفوظ عنه صلى الله عليه وسلم في ذكره شيء كثير إلا أن كلمة من هذا المحفوظ تلفت الأنظار وتجذب الأسماع لكثرة ترددها وتكرارها ولوجازة لفظها و عظم معناها إنها كلمة الله أكبر، الله أكبر فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله. روى الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار، فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على الفطرة(3).
شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الكلمة كلمة الفطرة
الله أكبر ملء السمع رددها ... ... في مسمع البيد ذاك الذر والحجر
الله أكبر كلمة خير من الدنيا وما فيها فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قول العبد: الله أكبر خير من الدنيا وما فيها. الله أكبر كلمة جامعة لمعاني العبودية دالة على أصول عبادة الله تعالى وفروعها، الله أكبر أصدق كلام وأعذبه وأحلاه، الله أكبر أبلغ لفظ يدل على تعظيم الله تعالى وتمجيده وتقديسه، الله أكبر كلمة جمعت الخير ففيها الشهادة لله تعالى بأنه أكبر من كل شيء وأنه سبحانه أجل من كل شيء وأنه تعالى أعظم من كل شيء. روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حينما دعاه إلى الإسلام: يا عدي ما يفرك؟ –أي: ما الذي جعلك تهرب وتفر؟ يا عدي ما يفرك -أيفرك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله إلا الله؟ يا عدي ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟(4). إن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث يبين لنا على ماذا تقوم دعوته، إنها تقوم على إفراد الله تعالى بالعبادة وتعظيمه جل وعلا فالله سبحانه وتعالى أكبر من كل شيء ذاتاً، هو سبحانه وبحمده أكبر من كل شيء قدراً، هو جل وعلا أكبر من كل شيء معنىً وعزة وجلالاً:
رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنودا
الله أكبر أيها الإخوة عظمة لا تسعها عبارة، الله أكبر كلمة تبين شيئاً من عظمة ربنا الجليل الذي لا يحيط به وصف الواصفين، الله أكبر ?وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?(5). الله أكبر هو العظيم الممجد سبحانه وبحمده ذل له كل شيء فكل شيء خاضع له وهو فقير لديه، عزيز لا يغلب حكيم في أقواله وشرعه، الله أكبر: ?لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ?(6).
الله أكبر: ?خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَْمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ?(7).
الله أكبر: ?اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأََمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ?(8).
أيها الإخوة
الله أكبر: ?يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً?(9).
__________
(1) سورة الرعد آية (28).
(2) سورة المدثر الآيات (1-3).
(3) صحيح مسلم رقم (382). ...
(4) الإمام أحمد4/378-الترمذي2953. ...
(5) سورة الجاثية الآية (37). ...
(6) سورة البقرة الآية (107). ...
(7) سورة يونس الآية (3). ...
(8) سورة الرعد (2). ...
(9) ... فاطر: من الآية41.(/1)
الله أكبر: ?وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ?(1).
الله أكبر: ? لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?(2).
الله أكبر: ?مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?(3).
الله أكبر: ?قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ?(4).
الله أكبر تبارك جل وعلا: ?تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?(5).
تبارك الله سبحانه وبحمده له ملك السماوات والأرض كما قال جل وعلا: ?قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? (6).
الله أكبر: ?رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ?(7).
الله أكبر الله أكبر الله أكبر: ?هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?(8).
أيها الإخوة الكرام
الله أكبر كلمة جاء الأمر بها في أول بعث النبي صلى الله عليه وسلم وأول إرساله فإن الله جل وعلا قال لنبيه: ?يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ?(9).
الله أكبر كلمة أمر الله بها أهل الإيمان في آية وصفها أهل العلم بأنها آية العز فقال جل وعلا: ?وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً?(10) أي عظمه جل وعلا تعظيماً، وصفه بأنه سبحانه وبحمده أعظم من كل شيء. الله أكبر كلمة يدعى بها أهل الإسلام إلى أعظم أعمالهم وهي الصلاة وإنها تلك الكلمة التي يرددها المؤمنون في مآذنهم وتدوي بها بلدان المسلمين
الله أكبر ما أحلى النداء بها ... ... كأنه الري في الأرواح يحييها
الله أكبر كلمة يفتتح بها العبد لقاءه بربه يكررها في ركوعه وسجوده وقيامه وقعوده وفي سائر تنقلاته ليحضر في قلبه عظمة من هو واقف بين يديه فإذا قالها المؤمن وهو حاضر الفؤاد في صلاته امتلأ قلبه هيبة من الله تعالى وإجلالاً لمولاه وذلاًّ له سبحانه وبحمده فإذا امتلأ قلب العبد بذلك فلا تسأل عن صلاته إنه في مناجاة عظيمة في لقاء برب الأرض والسماء ينزل به حوائجه يدعوه كشف الضر ويسأله خير الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة الكرام
إن العبد إذا تدبر هذه الكلمة في وقوفه بين يديه كان لقوله لهذه الكلمة أثر بالغ حتى إن من السلف من كان إذا قال في صلاته: الله أكبر انخلعت القلوب هيبة من تكبيره لعظم ما قام في قلبه من تعظيم الله تعالى:
فمن قام للتكبير لاقته رحمة ... ... وكان كعبد باب مولاه يقرع
وصار لرب العرش حين صلاته نجيّاً فطوبى للذي كان يخشع
أي فيا حظه ويا سعادته وانشراحه لو كان ممن يخشع لله تعالى في صلاته وفي تكبيره.
الله أكبر أيها الإخوة كلمة كان الصحابة يعرفون بها انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير (11).
الله أكبر هذه العبادة يدعى إليها بالتكبير وتفتتح بالتكبير ثم إن رسولنا صلى الله عليه وسلم لا يعرف انقضاء صلاته إلا بالتكبير كما قال ابن عباس رضي الله عنهما (12).وهذا يدل أيها الإخوة على أن ذكر الله تعالى أكبر من كل شيء فهو أفضل الطاعات لأن المقصود بالطاعات كلها إقامة ذكر الله تعالى فهو سر الطاعات وروحها وقد قال الله تعالى في هذه الصلاة العظيمة التي يقبل فيها العباد على ربهم قال الله تعالى: ?اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ?(13).
__________
(1) ... سورة القصص الآية(70) .
(2) ... سورة الشورى الآية (12).
(3) ... سورة فاطر الآية (2) .
(4) ... سورة المؤمنون الآية (88).
(5) ... سورة الملك الآية (1).
(6) ... سورة آل عمران الآية (26).
(7) ... سورة غافر الآية (15).
(8) ... سورة غافر الآية(65).
(9) ... سورة المدثر الآيات(1- 3).
(10) سورة الإسراء الآية (111) .
(11) البخاري رقم 806 - مسلم رقم 583 . ...
(12) البخاري رقم 806 - مسلم رقم 583. ...
(13) سورة العنكبوت الآية (45).(/2)
الله أكبر كلمة أمر الله بها أهل الإسلام شكراً على إنعامه على توفيقه إلى الهداية وعلى إنعامه بأن دل القلوب على معرفته قال تعالى:?ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون?. فأعظم ما تقابل به نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم تكبير الله وإجلاله وتعظيمه وقد قال الله تعالى في غير ما آية: ?وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ?(1) أي لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحب ويرضى من الأعمال سبحانه وبحمده.
أيها الإخوة الكرام
الله أكبر كلمة ترتعد لها قلوب أعداء الله عز وجل وعلى رأسهم زعيمهم وكبيرهم إبليس الشيطان أعاذنا الله منه، هذه الكلمة لما لها من النفاذ في نفوس هؤلاء ما لا يطيقون معه بقاء، إنها تحرقهم إنها تزلزلهم إنها تأتي على مقاتلهم كلمة تخنس بها نفوس هؤلاء يخنس الشيطان وجنده يخنس الشيطان وأولياؤه روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الشيطان إذا سمع النداء للصلاة أدبر وله ضراط حتى لا يسمع صوته أي: حتى لا يسمع صوت المؤذن فإذا سكت أي: المؤذن رجع فوسوس فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته فإذا سكت رجع فوسوس.(2) هكذا أثر هذه الكلمة في الشيطان إنها كلمة تزلزل كيان أعداء الله تعالى وعلى رأسهم كبيرهم ووليهم الشيطان الرجيم أعاذنا الله منه.
الله أكبر كلمة تقمع الشيطان وفعله ولهذا كان تكبير الله عز وجل له أثر عظيم في إطفاء الحريق كما جاء في ذلك الأثر وإن كان ضعيفاً إلا أن معناه مما قبله جماعة من أهل العلم وقد عرف ذلك بالتجربة كما قال ذلك ابن القيم رحمه الله فإن التكبير له أثره في إخماد النار وذلك أن الله جل وعلا أكبر من كل كبير والشيطان مادته من النار فهو يحب الفساد ويسعى في الأرض نشراً لهذا الفساد والتكبير يقمعه ولذلك ذكر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم الحريق فكبروا فإن التكبير يطفئه. (3)
الله أكبر كلمة تنخلع لها قلوب الجبابرة
الخطب جلجل والعدو تمادى ... ... والله أكبر ترهب الأوغادا
الله أكبر كلمة أيها الإخوة إذا صدق فيها العبد كان له في سمع من وقع سمعه على هذه الكلمة أثر عظيم ومضاء كبير.
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يسأل أصحابه: سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق فإذا جاؤوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها، سلاحهم ذكر الله تعالى توحيده وتكبيره يسقط جانب هذه المدينة التي سأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلونها فيغنمون (4).
هكذا يكون الذكر الصادر من قلب صادق مؤثراً به خذلان الأعداء والظهور عليهم ولو لم يكن سيف ولا سنان فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث: لا تقوم الساعة حتى يغزوها أي: هذه المدينة سبعون ألفاً من بني إسحاق فإذا جاؤوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر كرروا ذلك ثلاثاً فكان لهم الفتح. وقد حدثنا بعض من اشتغل بقتال الصرب لما كانوا يقاتلون إخواننا في البوسنة أنهم إذا أتوا على المكان الذي فيه أعداء الله تعالى من المقاتلين الذين يقاتلون المسلمين فحصل من بعض أهل الإيمان ومن بعض المجاهدين تكبير كان ذلك مؤثراً أثراً بالغاً في نفوس العدو حتى إنه يبلغ في بعض الأحيان من الأثر والنفاذ في نفوس هؤلاء أن يتركوا سلاحهم وعتادهم ويفروا ناجين بأنفسهم وما ذاك إلا لأن الله تعالى نصير أهل الإيمان
الله أكبر فالإله نصيرنا ... ... الله أكبر من صدى الطغيان
أيها الإخوة الكرام
الله أكبر يقولها العبد المؤمن فيستولي على قلبه كبرياء من له الكبرياء في السماوات والأرض، الله أكبر يقولها العبد المؤمن فيعظم في قلبه قدر ربه جل وعلا، يعظم في قلبه قدر إلهه الذي يعبده فلا يكون في قلبه أحد أكبر من الله تعالى. إن العبد إذا قال هذه الكلمة امتلأ بها قلبه إن كان صادقاً في قوله فخرج من قلبه كل كبر وكل غرور وكل رياء وكل ارتفاع وكل تعظيم لغير الله تعالى:
نداء في القلوب له صداه ... ... يجلجل كالعواصف يوم رعد
أيها الإخوة الكرام
__________
(1) سورة البقرة الآية (185). ...
(2) البخاري رقم 1174 - مسلم رقم 389.
(3) ... الكامل في ضعفاء الرجال (4/151).
(4) مسلم رقم (2920).(/3)
الله أكبر كلمة يعلو بها المؤمن على كل علي من الخلق ولذلك شرع الله تعالى تكبيره في كثير من المواطن من الأماكن والأزمان والأحوال والرجال التي يمتلئ فيها قلب الإنسان بتعظيم غير الله تعالى فجاء التكبير عند علو الأماكن العالية جاء التكبير عند رؤية أمر يفرح به ويسر فيكون التكبير خافضاً لعظم كل عظيم غير الله تعالى فإن الله سبحانه وتعالى أكبر من كل شيء جل وعلا وهو أعظم من كل شيء سبحانه وبحمده.
الله أكبر كلمة عنت لصاحبها الوجوه سبحانه وبحمده قال الله تعالى فيما رواه النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما عذبته. (1)
أيها الإخوة الكرام
إن العظمة حق الله تعالى إن الكبرياء له جل وعلا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر؛(2) لأن الكبر ينافي حال العبد فإن حال العبد أن يكون ذليلاً صاغراً لله تعالى فإذا دب إلى قلبه شيء من الكبر فقد نازع الله تعالى شيئاً من صفاته التي اختص بها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما عذبته. (3)
أيها الإخوة الكرام
الله أكبر ذلت لعظمته سبحانه وبحمده السماوات والأرض ومن فيهن، الله أكبر خضعت لعظمته الجبابرة وذل لعزه سبحانه وبحمده كل عزيز ألم تسمع قول الله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ?(4).
ألم تسمع قول الله تعالى: ?إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً?(5).
ملكاً على عرش السماء مهيمناً تعنو لعزته الوجوه وتسجد
سبحانه وبحمده روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـ هذا الحديث الذي كررناه عليكم لما فيه من عظيم بيان حق الله بالتعظيم ـ: " العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما عذبته "(6).
الله أكبر كلمة تورث العبد تعظيم ربه ومولاه وذلك من أعظم القربات وأجل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى أن يعظمه فإن تعظيم الله تعالى قوام التوحيد كما قال ابن القيم رحمه الله:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
فمن لم يحقق التعظيم في قلبه لم يقم له توحيد ولا إيمان.
أيها الإخوة الكرام
الله أكبر كلمة تقدح في قلب العبد ضياء يحصل به تعظيم رب العالمين كيف لا وليس شيء أعظم من الله تعالى ؟قال سبحانه وبحمده: ?تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ?(7).
أيها الإخوة الكرام
إن السماوات تكاد تتشقق وتتفطر من عظمة الله تعالى فكيف تذهل القلوب عن عظمة الرب جل وعلا؟ الله أكبر كيف تذهل القلوب عن عظمة رب قال جل وعلا: ?وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ?(8).
إن الله سبحانه وبحمده أخبر في هذه الآية عن قوم -وهو حال أكثر الناس -قصروا في تعظيمه فقال سبحانه وتعالى قال جل وعلا: ?وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ?(9) أي لم يعظموه حق تعظيمه لم يعظموه التعظيم الواجب له سبحانه وبحمده فماذا كان ماذا كان من هذا القصور في التعظيم ؟كان أنواع من الضلال وأنواع من الشرك وقد دل الله سبحانه وتعالى على عظيم قدره بقوله جل وعلا: ?وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ?(10).
__________
(1) ... مسلم رقم (2620).
(2) ... فتح الباري رقم (5724).
(3) مسلم رقم (2620). ...
(4) سورة الحج الآية (18). ...
(5) سورة مريم الآية (93).
(6) مسلم رقم (2620). ...
(7) سورة الشورى الآية (5). ...
(8) ... سورة الزمر الآية (67).
(9) ... سورة الزمر الآية (67).
(10) ... سورة الزمر الآية (67).(/4)
روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه" قال: جاء حبر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن الله يضع السماء على أصبع والأرض على أصبع والجبال على أصبع والشجر والأنهار على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يقول بيده: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قرأ قول الله تعالى: ?وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ?(1)(2).
والله أكبر عرشه وسع السما والأرض والكرسي ذا الأركان
وكذلك الكرسي قد وسع الطبا ق السبع والأرضين بالبرهان
الله أكبر ولا إله إلا هو الحميد المجيد رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وجاء فيهما من حديث أبي هريرة أيضاً" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله- وفي بعض الروايات: بيده الأخرى(3) -ثم يقول: أنا الملك(4) أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟".
فالكل مفتقر إليه لذاته في أسر قبضته ذليل عانِ
سبحانه وبحمده.
أيها الإخوة الله أكبر كلمة عظيمة كيف تذهل القلوب عن معناها من تعظيم الله تعالى وقد قال الله تعالى لعباده: ( مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) .(5)ما الذي يجعلكم لا تعظمونه سبحانه وبحمده حق تعظيمه؟ مالكم تعاملون ربكم معاملة من لا يخشاه ولا يخافه ولا يرهبه ولا يعظمه؟ قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى:( ما لكم لا ترجون لله وقاراً): ما لكم لا تعرفون لله حق عظمته؟
والله أكبر من يخاف جلاله أملاكه من فوقهم ببيان
أيها الإخوة الكرام
الله أكبر فوق عباده الله أكبر قاهر فوق عباده سبحانه وبحمده وقد قال الله تعالى في بيان عظيم قدره جل وعلا: ?وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ?(6). فالله سبحانه وتعالى فوق عباده يصرف شؤونهم يدبر أمورهم لا ملجأ منه إلا إليه فالمفر إليه سبحانه وبحمده فإذا قام العباد بحقه جاءهم الله تعالى بكل خير أمدهم بكل فضل أعانهم على كل بر وإذا قصروا في ذلك كان ذلك سبباً لكثير من الضلال والفساد الذي يقع في حياة الناس في شؤونهم الخاصة وفي شؤونهم العامة وقد قال الله تعالى: ?ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?(7).
الله أكبر كلمة تورث قلب العبد تعظيم شعائر الله تعالى ومن عظم شعائر الله وما عظمه الله تعالى فهو المؤمن فإن العبد إذا صدق في تعظيمه لربه عظم كل ما يعظمه الله تعالى قال جل وعلا: ?ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ?. (8)أي: إن من عمر قلبه بتعظيم حرمات الله تعالى بتعظيم ما عظم الله تعالى من الأشخاص من الأزمان من الأمكنة من الأحوال كان ذلك دليلاً على صلاح قلبه وتقواه وقد قال الله تعالى: ?ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ? (9).
المؤمن المعظم أيها الإخوة لشعائر الله تعالى هو القائم بأمر الله تعالى طاعة له فيما أمر واجتناباً عما نهى عنه وزجر ومن قام بطاعة الله تعالى فتح له أبواب الخير فتح له أبواب الإنابة فتح له أبواب القيام بحقه سبحانه وبحمده وفتح له من أبواب السعادة والانشراح والاطمئنان ما لا يدركه غيره.
أيها الإخوة الكرام
إن من علامات تعظيم العبد لربه تعالى أن يعظم شعائره كما سمعنا في قوله تعالى: ?ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ?(10).
ومن تعظيم الله تعالى أن يعظم العبد حدود الله تعالى في نفسه فلا ينتهك حدّاً من حدود الله ولا يقع فيما حرم الله تعالى ولا يقصر في شيء مما أوجبه الله تعالى عليه بل تجده مسابقاً لطاعة الله تعالى عاملاً بما يرضيه سبحانه وتعالى مجتنباً كل ما نهى الله عنه ورسوله.
أيها الإخوة الكرام
__________
(1) ... سورة الزمر الآية (67).
(2) مسلم برقم (2786). ...
(3) مسلم رقم (2787)- فتح الباري (13/ 396). ...
(4) ... مسلم رقم (2787).
(5) سورة نوح الآية (13). ...
(6) سورة الأنعام الآية (18). ...
(7) ... سورة الروم الآية (41).
(8) ... سورة الحج الآية (32) .
(9) ... سورة الحج الآية (30).
(10) سورة الحج الآية (32) . ...(/5)
إن العبد إذا صدق في تعظيم شعائر الله تعالى وجدت عنده غضباً لحدود الله تعالى إذا انتهكت محارمه سبحانه وبحمده فتجد قلبه حزيناً منكسراً إذا عصي الله تعالى في أرضه ولم يقم بما أمر به الله تعالى من حفظ حدوده والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها " قالت في وصف حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه شعائر الله تعالى قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده- أي: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضرب بيده شيئاً قط- ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه صلى الله عليه وسلم شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك أحد شيئاً من محارم الله تعالى فينتقم لله عز وجل"(1). هكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه في شيء من الأمور إنما ينتقم لله تعالى فإنه يسمح صلى الله عليه وسلم ويعفو عمن يقصر في حقه من امرأة أو خادم إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا نيل منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في شيء من أمور الدنيا إلا عفا صلى الله عليه وسلم ولم يقابل ذلك بالانتقام إلا في شيء يتعلق بحق الله تعالى فإنه إذا انتهكت محارم الله تعالى انتقم لله عز وجل وإنما ينتقم صلى الله عليه وعلى آله وسلم تربية وتعليماً وبياناً لعظيم حق الله تعالى وأن حقه سبحانه وتعالى أن يغضب له جل وعلا.
أيها الإخوة الكرام
الله أكبر حاجز يمنع المؤمن من التورط في ألوان المعاصي والسيئات، الله أكبر حاجز يحول بين المرء وانتهاك الحرمات فإنه لا يضيع ما فرض الله تعالى عليه ولا ينتهك ما حرمه الله عليه إلا من خف في قلبه تعظيم الله تعالى وإنما يقل الخوف في قلب العبد من قلة تعظيم الله تعالى فإذا نما في قلب العبد تعظيم الله جل وعلا كان العبد مسابقاً إلى طاعة الله تعالى منتهياً عما نهى الله عنه ورسوله وإنني أذكر لكم شيئاً من سير من قص رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم حتى يتبين للمرء ما الذي يثمره التعظيم ما الذي يثمره إجلال الله وتقديره.
روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ذات يوم خرج ثلاثة نفر يمشون فأصابهم المطر فدخلوا في غار في جبل فانحطت عليهم صخرة قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه. فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت أخرج فأرعى ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب فآتي به أبوي فيشربان ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي فاحتبست ليلة فجئت فإذا هما نائمان قال: فكرهت أن أوقظهما والصبية يتضاغون عند رجلي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم- يعني: مكثنا على هذه الحال- حتى طلع الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء. قال: ففرج عنهم قدر ما دعا. ثم إن الآخر قال في دعائه :اللهم إنك تعلم أني كنت أحب امرأة من بني عمي كأشد ما يحب الرجال النساء فقلت لها أطلبها عن نفسها فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مئة دينار، فسعيت- أي: اجتهدت- في كسب هذا المبلغ الذي شرطته حتى جمعتها أي المئة الدينار فلما قعدت بين رجليها قالت وقد أحيا الله قلبها: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. يقول هذا الداعي: فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة. قال: ففرج عنهم الثلثين. وقال الآخر في دعائه وهو الأخير: اللهم إنك تعلم أني استأجرت أجيراً بفرق من ذرة فأعطيته وأبى ذاك أبى أن يأخذ أجره إما لخصومة أو لزهد أو لاستقلال هذه الأجرة، المهم أنه أبى أن يأخذ ما أعطاه فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته حتى اشتريت منه بقراً وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله أعطني حقي. فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك. فقال الرجل الأجير: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا. فكشف عنهم(2).
__________
(1) البخاري رقم (3367) - مسلم رقم (2328). ...
(2) البخاري برقم (2152) - ومسلم برقم (2743). ...(/6)
أيها الإخوة هؤلاء ثلاثة قص رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم ما الجامع بين خبرهم وقصتهم؟ إنه إجلال الله تعالى وتعظيمه إنه مراقبة الله تعالى: فانظر إلى ذاك الرجل الذي ترك الصبية يتضاغون تحت قدميه حتى أصبح الصبح ينتظر أبويه أن يستيقظا ليشربا من الحلاب، ما الذي حمله على فعل ذلك؟ إنه بر الوالدين الذي يرجو به العقبى عند الله وإلا فإنه يمكن أن يعطي الأولاد ما يكفيهم ويرفع حق والديه إلى أن يستيقظا، وذاك الذي سعى في طلب المرأة التي أحبها أشد ما يحب الرجال النساء سعى في نيل مبتغاه منها حتى إذا كان على ما وصف بين رجليها قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه قام ما الذي أقامه عنها؟ ما الذي حجزه عنها؟ إنه تعظيم الله تعالى إنه مراقبة الله تعالى وخوفه هو الذي حمله على ترك ذلك الذي سعى له وكد لتحصيله. وذاك الأجير الذي ترك أجره عند صاحبه فثمّر صاحبه المال الأجر للأجير إلى أن عاد ثم قال له طالباً أجره فقال: كل ما ترى لك من البقر وراعيها فاستاق ذلك لم يبق منه شيئاً ما الذي حمله على ذلك؟ إنه خوف الله تعالى الذي هو أعظم ثمرات تعظيم الله تعالى.
الله أكبر عالم الإسرار وال إعلان واللحظات بالأجفانِ
الله أكبر أيها الإخوة له جل وعلا الحمد وله الثناء الذي لا ينقطع وذلك لعظيم ما له من الصفات سبحانه وبحمده إذا قام بقلب العبد تعظيم الله جل وعلا فلا تسأل عن أداء الحقوق ولا تسأل عن المبادرة إلى كل ما يرضي الله تعالى فإن العبد إذا صدق مع الله تعالى طلب مراضي ربه سبحانه وبحمده حيث كانت فإنه لا يطلب جاهاً ولا يطلب شرفاً ولا يطلب ثناء ولا يطلب مالاً إنما يطلب مرضاة الله تعالى فحيث ما كانت مرضاة الله تعالى أقبل عليها وأخذ بها.
أيها الإخوة الكرام
إن العبد إذا صدق معنى الله أكبر في قلبه وجدت منه إقبالاً على أداء الأمانات إلى أهلها كما قال الله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا?(1). فإذا كان العبد مليء القلب بتعظيم الله تعالى أدى الحق واجتهد في أدائه ومن ذلك ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه مالاً فقال: ائتني بشهداء قال صاحب المال لطالب السلف: ائتني بالشهداء أشهدهم. فقال ذلك الرجل لمن طلب منه الشهداء قال: كفى بالله شهيداً ألا يكفيك الله تعالى شهيداً وأنه سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية وأنه يعلم السر وأخفى وأنه مطلع على حالنا؟ قال: فأتني بكفيل قبلت الله شهيداً لكن ائتني بكفيل يضمن هذا المال إذا لم تأت به. فقال له ذلك الرجل الذي امتلأ قلبه بتعظيم الله تعالى: كفى بالله كفيلاً ألا يكفيك أن الله رب السماوات والأرض أن الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض يكفلني؟ قال: صدقت. فدفع إليه ما طلب من المال إلى أجل مسمى فخرج هذا الذي اقترض المال واستلفه إلى جهة من الجهات ركب فيها البحر فقضى حاجته ثم إنه لما جاء الأجل التمس مركباً ليعود إلى صاحبه ليوفيه ما طلب فما وجد مركباً يحمله ولا شيئاً يسير به إلى ذلك الذي واعده وقد قرب الأجل فما كان منه إلا أن أخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها المال المقترض ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زج بها في البحر فقال يناجي ربه الذي يعامله قال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت من فلان ألف دينار فسألني كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً فرضي بك وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً فرضي بك وإني جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر وإني أستودعكها. فرماها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف لا يلوي على شيء يطلب مركباً ليذهب به إلى صاحبه انصرف وهو يلتمس مركباً يخرج إلى بلده وإنما حمله على ذلك أنه أشهد الله وجعله عليه كفيلاً حمله على زج هذا المال في هذا البحر أنه جعل الله كفيلاً وجعل الله شهيداً فخشي أن يخسر شهادة الله وكفالته فماذا كان منه وما كان خبره وقصصه؟ إن هذا الرجل طلب مركباً ليذهب به إلى صاحبه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر القصة: فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال التي رمى بها المقترض في البحر إذا بها بين يدي هذا المقترض فأخذها ماذا يريد بها ماذا عساه يفعل بها؟ أخذها ينتفع بها في بعض أمره فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم ذلك الذي أسلفه أتاه بالمال فقال له: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ الذي يسأل المقرض قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال: لم أجد شيئاً ولم أبعث لك بشيء. قال: ألم أقل لك ألم أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئتك فيه؟ قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة فانصرف بالألف دينار راشداً فبين له أنما بعث به في هذه الخشبة قد جاء(2).
__________
(1) سورة النساء الآية (58).
(2) ... البخاري برقم (2169).(/7)
الله أكبر الله أكبر ما أطيب ثمار التقوى وما أعظم عواقب التعظيم أيها الإخوة فإن العبد إذا صدق مع الله تعالى صدقه إذا صدق العبد مع ربه جل وعلا في معاملته وخوفه ورجائه ومحبته وتعظيمه صدقه الله سبحانه وتعالى فإنه سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحرر قصده وأن يعظم الله تعالى في قلبه. ومن أعظم ما يقدح في قلب العبد التعظيم أن ينظر في آيات الله تعالى فإن النظر في الآيات مما يملأ قلب العبد تعظيماً للرب جل وعلا إذا تأمل العبد هذه الأفلاك وما فيها من عظيم الصنع تأمل العبد في نفسه فيما أمره الله بالنظر إليه من عظيم المخلوقات كان لذلك من الأثر في قلبه وسلوكه تعظيماً لله تعالى وإجلالاً ما ليس لغيره.
أيها الإخوة وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب في ذلك مثلاً عظيماً بيناً واضحاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من نومه في أول نهاره كما في الصحيح كان يمسح وجهه صلى الله عليه وسلم ثم يقرأ الآيات الأخيرة من سورة آل عمران: ?الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ?(1) يقول ابن عباس: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم خرج فنظر إلى السماء فقرأ هذه ثم صلى ما كتب له ثم رجع فنام ثم ماذا كان منه لما استيقظ ثانية؟ مسح النوم عن وجهه ثم خرج فنظر إلى السماء وقرأ قول الله تعالى: ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ?.(2) (3)
إن العبد أيها الإخوة إذا تعامل مع ربه جل وعلا هذه المعاملة من النظر في آلائه ونعمه سبحانه وبحمده كان ذلك من أعظم ما يغرس في قلبه تعظيم الله تعالى وإجلاله, إن العبد إذا تعامل مع الله تعالى معاملة صادقة وفقه إلى معرفته فإن العبد إذا تعرف على الله انفتحت له أبواب المعارف كلها وتفجرت ينابيع الحكمة في قلبه ويسر الله له من الإيمان والصدق ما ليس لغيره ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أعلم الناس بالله عز وجل كانوا أعظم الناس إيماناً وأعظم الناس تعظيماً لله تعالى فكان قدر الله في قلوبهم عظيماً حتى مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بشر بعضهم بما بشره من الفضل والأجر والسبق والفوز لم يركنوا إلى هذه البشارات بل كانوا على خوف ووجل. فهذا أبو بكر صديق هذه الأمة وإمامها وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند موته: يا ليتني شعرة في صدر عبد مؤمن. وهذا عمر رضي الله عنه في مرض موته يقول: يا ليتني أخرج منها كفافاً لا لي ولا علي. وكان رضي الله عنه شديد التحري في طلب المنافقين حتى إنه يسأل حذيفة رضي الله عنه: هل سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن سمى من المنافقين؟ وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشون النفاق على أنفسهم وعلى قلوبهم لعظيم ما كانوا عليه من تعظيم الله تعالى ومعرفة حقه فإن العبد إذا عرف حق ربه جل وعلا استصغر ما يكون من العمل، وأذكر في ذلك ما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: واعلموا أنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته. (4)ففضل الله تعالى هو المحيط بالعبد أولاً وآخراً هو الذي يسوغ للعبد دخول الجنة فلولا فضل الله ورحمته سبحانه وبحمده ما كان عمله ولا كان سبباً لدخول الجنة ولا كان نعيم في الجنة إنما هو محض فضل الله ورحمته وقد قال جماعة من السلف في بيان عظيم فضل الله عليهم وأن عملهم لا يقوم بشيء من حقه سبحانه وبحمده قالوا: إن العبد لو عبد الله تعالى منذ خروجه من رحم أمه إلى أن يؤويه لحده ما أوفى الله حقه فلو كان العبد ساجداً لله تعالى منذ خروجه إلى الدنيا إلى مماته فإنه لم يف لله تعالى حقه وصدق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله..
أيها الإخوة الكرام إننا ندعو إلى تعظيم الله تعالى وإجلال الله جل وعلا بالقيام بحدوده والقيام بحقه إن الطريق الذي يوصل إلى ذلك هو ما أشرنا إليه فيما تقدم من المعرفة بالله تعالى من التفكر في آلائه ونعمه من النظر في قصص الصالحين فإن النظر في قصص الصالحين ومنهم النبيون يجد فيها الإنسان شيئاً كثيراً مما يثمر الإيمان في قلبه ويحيي في قلبه الإقبال على طاعة الله والعمل بمراضيه.
__________
(1) سورة آل عمران الآية (191). ...
(2) ... سورة آل عمران الآية (190). ...
(3) البخاري برقم (1140). ...
(4) صحيح ابن حبان برقم (348) .(/8)
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلنا من عباده الذاكرين الشاكرين وأن ييسر لنا تقواه سبحانه وبحمده وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته وأن يرزقنا تعظيمه تعظيم من لا عظمة لأحد في قلبه إلا عظمة الله جل وعلا. اللهم إنا نسألك البر والتقوى ومن العمل ما ترضى , اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.(/9)
المآتم والمساجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، أما بعد:
من المعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ختم الله به الرسل والرسالات، وجعل شريعته خير الشرائع، ناسخة لما قبلها، ولما كانت هذه الشريعة العظيمة كاملة وشاملة لشئون الحياة كلها، توعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من يحاول الزيادة عليها وعدم الاكتفاء بها بالوعيد الأكيد والتهديد الشديد، فقال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) رواه البخاري ومسلم. وفي حديث آخر ((فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)).
وهذا التهديد له أبعاده وأهدافه الكبرى؛ لأن الناس إذا لم يكتفوا بالشرع، فلا شك أنهم سيأتون ببدع وأمور جديدة محدثة تناقض شريعة الله –تعالى-، أو تضاهيها، وهذا من التشريع الذي لم يأذن به الله؛ كما قال –تعالى-:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (21) سورة الشورى. فمع تطاول العصور والدهور سيأتي من يزيد أو ينقص من الدين؛ لهذا جعل الرسول حداً ومانعاً ومزيلاً لتلك الشوائب والنتوءات في الشريعة، فبين أن كل من زاد على الدين من عند نفسه فإن تلك الزيادة والمخالفة مردودة في وجهه..
ومن الأمور التي شاعت في كثير من بلدان العالم - والتي تعتبر من الزيادات والمحدثات البدعية التي أحدثها الناس عبر العصور المختلفة وبعد عصور الخير والأفضلية عصر نبينا محمد وصحابته والتابعين- تلك البدع التي يقيمونها عند الموت والتي يقال لها: المآتم، هذه المآتم التي أحدثت ولم يسبقها في شرع الله أثارة من علم..
وهذه الأمور التي تحْدُثُ قد نهى عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك كالصياح على الميت وذكر مآثره وأعماله الطيبة بصوت مرتفع، وهو النياحة بعينها، فعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (النياحة على الميت من أمر الجاهلية؛ فإن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت فإنها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران، ثم يعلى عليها بدرع من لهب النار)) روى نحوه مسلم، وروى البخاري ومسلم عن أم عطية قالت: (إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهانا عن النياحة). والأحاديث في النهي عنها والوعيد عليها كثيرة...
ومما يفعله بعض المسلمين في ذلك: الاجتماع في المساجد لموت أحد من الناس وقراءة سورة يس، وقد أتى بها حديث مختلف في صحته،.. والعجب أن كثيراً من الناس قلّما يقرؤون القرآن إلا عند الموت أو عند المناسبات!! أما في سائر أيامهم فتجدهم في غفلة، وأمرُّ من ذلك أن يعتمد الناس على حديث ضعيف ويعمل به يحرص كل الحرص على العمل به، مع وجود الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي ترشدنا إلى العمل الصحيح عند موت أحد الناس!
ومع قراءة القرآن يحدث ذكر مآثر الميت وفضائله والثناء عليه، برفع الأصوات والنياحة المحرمة بنص الحديث الشريف..
ومنه الاجتماع لقراءة الفاتحة لروح الميت، مع أن الإنسان ليس له إلا ما سعى؛ كما قال –تعالى-:{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} سورة النجم (39). ولا يصل إليه إلا ما كان باقياً بعده بسببه، كصدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له) كما جاء في الحديث الشريف.. وكالدعاء له –أيضاً-كما جاء في الحديث عن عثمان بن عفان قال كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: (( استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل )) رواه أبو داود وصححه الألباني.(/1)
والأولى أن يتبعوا شرع نبينا محمد في تلك الأمور والحوادث فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يصلي على الجنازة ثم يحملها القوم وهم صامتون يدعون له بقلوبهم وألسنتهم، لا كما يفعل هؤلاء اليوم من رفع الصوت بالتهليل والتكبير كقولهم: (لا إله إلا الله) مرات ومرات مع أن ذكر الله مستحب في كل حال، لكن في هذا المقام يجب اتباع الشرع.. ثم كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا وضعت الجنازة على القبر يذكرهم بالله، ثم إذا دفن الميت قال: (( استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل)) ولم يأمرهم بقراءة سورة عند قبره، ولكنها من المحدثات.. فإذا رجع أهل الميت عزاهم في مصابهم وقال: ((أحسن الله عزاءكم)) ويقول: ((لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى.. اصبر واحتسب))رواه البخاري ومسلم بمعناه.. ولم يزد على ذلك ما يفعله هؤلاء الطغام من الكلمات الكثيرة والنياحة المحرمة، وكذا تهويل المصيبة وتفزيع أهالي الميت بالصياح، وذكر الفضائل والمآثر لمن مات.. وكان إذا مات أحدهم يقول الرسول-صلى الله عليه وسلم- اصنعوا لأهله طعاماً، فإنه قد أتاهم ما يشغلهم، كما قال: ((اصنعوا لآل جعفر طعاماً))1، لما مات جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- ثم يهدئ المصاب، ويذكر الناس بقدر الله-تعالى- ولم يعهد ولم يذكر عن السلف الصالح الاجتماع للمآتم في المساجد ولا غيرها، ولا ذكر أوراد وأدعية صارت عادة للناس... بل كل ذلك مما أحدثه الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله..
(ويحرم النحيب وتعداد المحاسن والمزايا وإظهار الجزع؛ لأن ذلك يشبه التظلم من الظالم، وهو عدل من الله تعالى) وهذا مما ذكر في كتب الحنابلة وغيرهم.
وكذا نبه على ذلك كثير من علماء الإسلام قديماً وحديثا؛ كالإمام النووي، وله فتوى في ذلك، وابن حجر، وابن تيمية، وابن الحاج، والعز بن عبد السلام، وابن القيم، والقاسمي، وغيرهم من علماء الإسلام في مختلف العصور..
ومما يفعله الناس في المآتم تحميل الناس وتكليفهم فوق طاقتهم، والإسراف في موائد الأكل التي تكون نفقتها على أهل الميت.. وهذا يزيد الطين بلة والمرض علة، لأن أهل الميت مشغولون بمصيبتهم، وتلك التكاليف والأشغال تزيدهم مصيبة فوق مصيبتهم، خاصة إذا كانوا من الفقراء، أو حتى كانوا من الأغنياء،..
والأولى بهؤلاء أن يتقوا الله ويرحموا أهل الميت، ويقدموا لهم الأكل وكل ما يحتاجونه في مثل هذه المناسبة..
نسأل الله أن يصلح الأمور، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه ولي الله ويذل فيه عدوه...
والله الموفق،،
000000000
1- رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الألباني.(/2)
... ... ...
المؤذن الأول ... ... ...
عائض القرني ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- سبق بلال إلى الإسلام. 2- المحبة المتبادلة بين بلال والنبي . 3- ثبات بلال على الإسلام رغم التعذيب. 4- شيء من فضائل بلال ومواقفه مع النبي . 5- امتناع بلال عن الأذان بعد موت حبيبه . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أيها المؤمنون:
من هو المؤذن الأول؟ من هو أول من صدع بصوت الحق؟ على منارة الحق، في دنيا الحق؟
إنه المولى الضعيف المسكين، الذي رفعه هذا الدين، فأصبح من ورثة جنة النعيم.
بلال بن رباح، اسم يحبه المؤمنون، وصوتٌ تتعقشه آذان الموحدين.
ولابد للمسلم أن يولد ميلادين، وأن يعيش حياتين؛ الميلاد الأول: يوم ولدته أمه. والميلاد الثاني: يوم ولد في هذا الدين.
وبلال وأرضاه، ولد ميلادين، وعاش حياتين، ولد مولى، أسره الجبابرة، وسلطوا عليه سياط العنف والكبر والعنجهية، فكان لا حساب له، ولا رأي، ولا تأثير في الحياة، وأخذ إلى مكة مفصولاً معزولاً عن أهله وأمه، وعاش في مكة، عبداً ذليلاً.
وفجأة، صدح الرسول عليه الصلاة والسلام بالحق هناك من على الصفا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وذهب عليه الصلاة والسلام إلى سادات مكة، يدعوهم إلى الحق، فكفروا به، وكذبوه وآذوه وشتموه، فأنزل الله عليه واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً [الكهف:28]. لا عليك من هؤلاء الكبار، إنهم صغار عند الله لا تعبأ بهم، ولا تعطهم شيئاً من وقتك، ما دام هذا صنيعهم، ولا تظن أن الإسلام سوف ينتصر على أكتاف هؤلاء المتكبرين. ولكن كن مع الذين يريدون وجه الله والدار الآخرة، كن مع المساكين الفقراء، كن مع الضعفاء والمستضعفين، ابحث عنهم، وقربهم من مجلسك.
وبدأ الرسول يبحث عن هؤلاء، فوجدهم في عالم الضعف، وعالم الذل، وعالم المسكنة، وكان بلال أحد هؤلاء.
رأى بلال محمداً عليه الصلاة والسلام في القلوب هو الحب، لقد فجر محمد أنهار الحب في قلوب أصحابه، حتى كان الواحد منهم في المعركة، يقدم صدره أمام صدر الرسول، عليه الصلاة والسلام، ويتمنى أن ينشر جسمه بالمناشير، ويقطع إرباً إرباً، ولا يشاك رسول الله بشوكة، ويقول: نفسي لنفسك الفداء يا رسول الله.
إنه الحب الذي جعله الله في القلوب لهذا النبي العظيم، أحب بلالٌ محمداً عليه الصلاة والسلام حباً استولى على سمعه وبصره وقلبه، فأصبح يتحرك بحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، يأكل وشخص الرسول عليه الصلاة والسلام أمام عينيه، ويشرب والرسول ماثلٌ أمامه، ولسان حاله يقول:
أحبك لا تسأل لماذا لأنني أحبك هذا الحب رأيي ومذهبي
ويقول أيضاً:
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي أفسّر ماذا الهوى لا يُفسّر
فلما أحبه شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأحب الدين؛ لأنه دين يكره الرقّ والعبودية لغير الواحد الأحد، ويكره الظلم ويحارب الظلمة.
فلما أسلم بلال ، اجتمع عليه الجبابرة، وأذاقوه أليم العذاب؛ ليترك لا إله إلا الله فأبى، سجنوه، ضربوه، قيدوه بالحبال، جروه من قدميه، يأكل الحصى من لحمه وعظمه، ألقوه في الصحراء في حر الظهيرة والشمس ملتهبة؛ ليعود إلى الكفر فأبى، وقالها كلمة خالدة أبدية: أحدٌ أحد.
من هو الواحد الأحد؟ هو الذي أرسل هذا الرسول، وأوجد هذا الإنسان، وفرض هذا الدين.
لطموه على وجهه، فارتفع صوته متأثراً ثائراً مجروحاً: أحدٌ أحد، ضربوه بالسياط حتى أكلت السياط من لحمه ودمه وهو ينشد: أحد أحد. قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد [الإخلاص:1-4].
إنها إرادةٌ ينثني لها الحديد، إنها المعجزة الكبرى التي أتى بها رسولنا ، كيف حول هؤلاء الأعراب والموالي والرقيق، من أناس فقراء مستضعفين، إلى كتائب تزلزل الدنيا بلا إله إلا الله.
يقول إقبال شاعر الإسلام:
وأصبح عابدو الأصنام قدماً حماة البيت والركن اليماني
ومر أبو بكر أمام بلال وهو يعذب، فقال لمولاه أمية بن خلف المجرم: أشتريه منك يا أمية، فقال أمية: خذه ولو بعشرة دنانير. قال أبو بكر: والله لو جعلت ثمنه مائة ألف دينار لاشتريته منك، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، فأنزل الله: وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحدٍ عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى [الليل:17-21]. أعتقه أبو بكر ، وهو لا يريد منه جزاءً ولا شكوراً، ثم ذهب به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ممزق الثياب، يتساقط دمه ولحمه من شدة التعذيب، فأخذه عليه الصلاة والسلام واحتضنه، كما تحتضن الأم طفلها، ودعا له، وعيّنه مؤذّنه الأول، أول مؤذن في التاريخ.(/1)
فكان كلما حان وقت الصلاة قام بلال يهتف: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. فتنتفض أجساد المؤمنين عند صوته، كما ينتفض الجسد إذا صدمه تيار الكهرباء!!.
وكان كلما أهمّ الرسول، ، أمرٌ، أو أصابه كرب، نادى بلالاً: ((أرحنا بها يا بلال))[1]، فيؤذن بلال للصلاة.
كان يأتي للرسول، ، بماء الوضوء والعنزة، وكان يأخذ حذاءه في يده، ويرى أن ذلك شرف لا يعدله شرف.
وكان عليه الصلاة والسلام يحبه ويدنيه منه، وسرى هذا الحب في قلب بلال، فعوضه عن كل شيء، عن أهله في الحبشة، وعن أقربائه وجيرانه وتاريخه هناك، ولكن كفى بحب محمدٍ عليه الصلاة والسلام.
وفي ذات يوم قال عليه الصلاة والسلام لبلال: ((حدثني بأرجى عملٍ عملته في الإسلام، فإني سمعت دفّ نعليك بين يدي في الجنة)).
الله أكبر، أي جائزة أعظم من أن يعرف إنسان أنه من أهل الجنة، وهو لا زال يعيش في هذه الدنيا.
فيجيب بلال رسول الله، ، قال: ((ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهّر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كُتب لي أن أصلي))[2].
بلال من أهل الجنة، شهد أهل السنة بذلك، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام، شهد له بذلك.
كان خفيف الجسم، ممشوق القامة، لونه أسود، وهذه قضية لا قيمة لها ولا وجود لها في الإسلام.
وكّله عليه الصلاة والسلام، في غزوة من الغزوات بحراسة الجيش وقال: ((من يوقظنا للصلاة؟)) قال بلال: أنا يا رسول الله، فنام الجيش وقام بلال يصلي طيلة الليل، فلما كان قبيل الفجر، حدث بلال نفسه بأن يضطجع قليلاً ليستريح، فاضطجع، فنام، وأتت الصلاة، والرسول عليه الصلاة والسلام نائم، والجيش نائم، حتى طلعت الشمس، وكان أول من استيقظ بعد طلوع الشمس، أبو بكر ثم عمر بن الخطاب ، فرأى هذه المأساة، التي حدثت لأول مرة، وفي ذلك حكمة، وهي عذر من غلبته عيناه فلم يستيقظ حتى طلعت عليه الشمس.
يستيقظ عمر، ويقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام، ويستحي أن يقول للمعلم العظيم: قم للصلاة، فالتلميذ يصعب عليه أن يقول ذلك لأستاذه، والطالب يستحي أن يقول ذلك لمعلمه، فأخذ عمر يقول – والرواية في البخاري -: الله أكبر.. الله أكبر، ويعيد التكبير، حتى استيقظ الرسول عليه الصلاة والسلام، فدعا حبيبه ومؤذنه بلالاً وأجلسه أمامه، وقال له: ما أيقظتنا. قال يا رسول الله: أخذ بعيني الذي أخذ بعينك، فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم أذّن بلال بعد طلوع الشمس، وصلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وصلى أصحابه معه[3].
بينما كان الصحابة رضوان الله عليهم، يجلسون في مجلس، فإذا أبو ذر يعير بلالاً بأمه، قال له: يا ابن السوداء!! وهل في دستور الإسلام حمراء وسوداء وبيضاء، من هو الكريم عندنا، من هو المعظّم في هذه الملة إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13]. إننا لا نعرف بالألوان، ولا بالأجناس، ولا باللغات، ولا بالبلدان، إنما نعرف بلا إله إلا الله، وبمقدار عبوديتنا لله عز وجل.
فغضب بلال من أبي ذرّ، وقال له: والله لأرفعنك إلى خليلي عليه الصلاة والسلام، ورفع أمره إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فغضب غضباً شديداً وقال له: ((أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية))[4].
إن رسول الله يؤسس منذ أن بدأ دعوته هذا المبدأ إن أكرمكم عند الله أتقاكم لا مال، ولا جاه، ولا نسب، ولا لون، ثم تأتي يا أبا ذر فتهدم ذلك كله: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) هكذا قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فلماذا نعير الناس بأجناسهم، أو ألوانهم، أو قبائلهم، إن هذه خطيئة كبرى في الإسلام، بل هي هدم للقواعد التي بني عليها هذا الدين.
ومضى بلال ولم يزدد مع الأيام إلا رفعة، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يحبه.
يصلي الرسول عليه الصلاة والسلام العيد، ثم يتكئ على بلال، ويذهب فيخطب في النساء وهو متكئ على بلال لأنه يحبه[5].
وفي اليوم المشهود، يفتح الرسول عليه الصلاة والسلام مكة في عشرة آلاف من أصحابه، يدخل فاتحاً منتصراً، فيرى الأصنام التي كانت تعبد من دون الله، فيشير إليها بعصاه فتتناثر، وتتساقط، ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً [6] [الإسراء:81].
وتحين صلاة الظهر ويجلس الناس جميعاً في صرح الكعبة المشرفة، ويقول عليه الصلاة والسلام أين بلال؟ قال: ها أنا يا رسول الله، قال: اصعد الكعبة وأذن من فوقها!! سبحان الله، أليس هذا رفعاً لرؤوس المستضعفين، أليس هذا هو العدل بعينه، أن يقوم المولى الأسود يعتلي بيت الله بأقدامه، ليهتف بنداء الحق.
أين أبو جهل؟ في النار! أين أبو لهب؟ في النار! أين أبو طالب؟ في النار!(/2)
وصعد بلال واستوى على الكعبة ليخاطب الدنيا بشهادة الحق إلى يوم الدين، فلما أذن بكى الناس، ومن الذي يرى هذا المشهد، ويرى هذه الصورة، ويسمع هذا الصوت، ويعيش هذه التفاصيل، ثم لا يبكي، شيء عجيب يوم الفتح الأكبر، الفاتح رسول الله عليه الصلاة والسلام، الدين الإسلام، المؤذن بلال، من بلال؟ المولى الأسود، وأين يؤذن؟ على سطح الكعبة المشرفة، وكان صوته جميلاً ندياً، يشجي القلوب، وتطرب له الآذان.
وبكى رسول الله عليه الصلاة والسلام، سالت دموعه، لأنه تذكر المعاناة، تذكر الأيام العصيبة التي عاشتها هذه الطائفة المؤمنة، وتذكر فضل الله عليه وإنعامه بهذا النصر المبين، لقد انتصر محمد ، وها هو مولاه وحبيبه الذي كان مطارداً معذباً مهاناً، أصبح المؤذن الأول في التاريخ، وها هو صوت بلال يجلجل في هضبات مكة وأوديتها، يزلزل الدنيا بلا إله إلا الله.
ولكن بعض الذين انتكست عقولهم، ممن لا يزال على الشرك يقول في كبر وعتو: لا أظن أن الحياة تطول بي حتى أرى ذلك العبد الأسود ينعق كالغراب على الكعبة!!.
تبا لك أيها المجرم الأثيم، أتشبّه هذا السيد بغراب ينعق؟ إنها عنجهية الكفر، وحب العلو الذي يسيطر على كثير من العقول إلى يومنا هذا.
وفجأة يموت الإمام، ولك أن تتصور رجلين محابين، معلم وتلميذ، إمام ومؤذن، عاشا الحياة معاً، حلوها ومرها، سهلها وصعبها، ليلها ونهارها، وفجأة يموت الإمام، مات عليه الصلاة والسلام إنك ميت وإنهم ميتون [الزمر:30].
لقد أظلمت الدنيا في عين بلال أمات النبي عليه الصلاة والسلام؟ نعم، إلا أن دينه لم يمت، وعلى المؤذن أن يستكمل الطريق.
ومع بزوغ الفجر، قام بلال ليؤذن، قام ليؤدي مهمته التي كلفه بها رسول الله ، وبدأ بلال يؤذن: الله أكبر.. الله أكبر.
ثم ينظر إلى المحراب فيجده خالياً من الإمام، فيلتفت إلى بيت الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنه ليس فيه، أصبح وحيداً، لا شيخ، ولا إمام، ولا رسول، فكيف يستطيع أن يكمل، بأي عبارة يؤدي، أين صدره، أين قلبه، أين كيانه، ثم تحامل على نفسه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن أتت قاصمة الظهر، أتت المعضلة التي لا يستطيع بعدها أن يتكلم ولو بكلمة واحدة، قال: أشهد أن محمداً.. ولم يستطع أن يكمل، بكى بكاءً شديداً، وبكى الناس جميعاً في بيوتهم في المدينة، النساء والأطفال، والشيوخ بكى المؤذن اختنق صوته، لم يستطع أن يكمل، فنزل ورمى بجسمه على الأرض.
أين الإمام؟ مات الإمام، وبقي المؤذن.
أين الحب؟ ذهب الحب والعطف والرحمة.
إنها قاصمة الظهر.
وحضر الصحابة ليشاهدوا ذلك المنظر، منظر المؤذن وهو ملقى على الأرض، يبكي بكاء الثكلى.
مالك يا بلال، قال: لا أؤذن.
أتاه أبو بكر الخليفة: قال مالك؟ قال لا أؤذن لأحد بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالوا: سبحان الله، من يؤذن لنا؟
قال: اختاروا لكم مؤذناً، وحمل إلى بيته .
بنتم وبنّا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
امتنع بلال عن الأذان، وذهب إلى بيته، وتبقى بقيةٌ أكملها في الخطبة الثانية إن شاء الله تعالى.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أبو داود (4/296) رقم : (4985 ، 4986) ، وأحمد (5/364 ، 371) وصححه الألباني ، كما في صحيح الجامع رقم : (7892).
[2] أخرجه البخاري (2/48) ومسلم (4/1910) رقم (2458).
[3] انظر صحيح البخاري (4/168 ، 169) ، وصحيح مسلم (1/474 ، 475) رقم (682) ، وسنن أبي داود (1/118 ، 119) رقم : (435).
[4] أخرجه البخاري (1/13) ومسلم (3/1282 ، 1283) رقم : (1661) وليس فيهما ذكر لبلال ولفظلهما : أن أبا ذر عير رجلا بأمه)).
[5] حديث اتكاء الرسول على بلال في خطبة العيد ، أخرجه مسلم (2/603) حديث رقم (885).
[6] أخرجه البخاري (92 ، 93) ، ومسلم (3/1408) رقم (1781). ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فلازال الحديث مع بلال ولازال الحب لبلال ولا زال الذكر لبلال.
انتهى الفصل الأول، وقد أعفى خليفة المسلمين أبو بكر الصديق بلالاً من الأذان، تركه الصديق ليرتاح، لأن الإمام قد مات.
وتمر الأيام، ويفتح الله على المسلمين الفتوح، ويذهب بلال يشارك بروحه وجسمه ونفسه في إعلاء كلمة لا إله إلا الله، يصل إلى الشام فاتحاً مقاتلاً، يجاهد المشركين، ويعلم الناس دينهم، وينتظر المنية حتى يلحق بحبيبه في الجنة.
وهنا مواقف مؤثرة، سجلها التاريخ، ووقف أمامها، وأنصت لها.(/3)
جاء عمر من المدينة بدابته ومعه مولاه، ليدخل بيت المقدس، يذهب إلى هناك بثوبه الممزق المرقع، ولكنه يحمل الدنيا في يديه.
قل للملوك تنحّوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
يأتي بهذا الثوب، ليصف العدل، ويمثل حقوق الإنسان، ويظهر الرحمة والقوة في آنٍ واحد.
ويجتمع المؤمنون لهذا الفتح العظيم، الصحابة، وكبار الصحابة، وأهل العهد المكي، وأهل بدر، وأهل بيعة العقبة، أساتذة الدنيا كلّها، جاءوا لحضور هذا اليوم المشهود وتحين صلاة الظهر، فيتذكر عمر تلك الأيام الخوالي، التي عاشوها مع رسول الله، عليه الصلاة والسلام، فيقول عمر لبلال رضي الله عنهما: أسألك بالله يا بلال أن تؤذن لنا.
فقال: اعفني يا أمير المؤمنين.
قال: أسألك أن تذكرنا أيامنا الأولى.
فقال الصحابة: يا بلال اتق الله، سألك أمير المؤمنين.
فقام بلال، يتحامل على جسمه، فقد أصبح شيخاً كبيراً، وارتفع صوته بالأذان، فإذا بصوت عمر يسابقه بالبكاء، ثم بكى كبار الصحابة، وبكى الجيش كله، وارتج المسجد الأقصى بالبكاء.
إن بلالاً ذكرهم شيئاً، ذكرهم تاريخاً، ذكرهم معلماً وقائداً أحبهم وأحبوه، فلا إله إلا الله ما أعظم الذكريات، ولا إله إلا الله ما أجمل تلك الأيام عاشها أولئك المؤمنون، يتمتعون برؤية نبيهم عليه الصلاة والسلام، ويتلقون عنه الوحي من السماء.
وعاد بلال إلى الشام، وانقطع عن المدينة، بعد أن خلت من نبيها عليه الصلاة والسلام، وأصبح بلال شيخاً كبيراً، وفي ليلة من الليالي، وبينا هو نائم، زاره الرسول في النوم، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيحين: ((من رآني في المنام فقد رآني))[1]، ويقول: ((من رآني في المنام فسوف يراني فإن الشيطان لا يتمثل بي))[2].
رأى بلال حبيبه، رأى شيخه، رأى الإمام، رآه بصورته، رآه بنوره وبشاشته يحاسبه ويعاتبه، هجرتنا يا بلال، ألا تزورنا، ما أعظمها من كلمات.
لعل عتبك محمودٌ عواقبه وربما صحّت الأجسام بالعلل
أو كما قيل:
يا من يعزّ علينا أن نفارقهم وجاننا كل شيء بعدكم عدم
إذا ترحّلت عن قومٍ وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم
هجرتنا يا بلال... ألا تزورنا في المدينة!!
واستيقظ بلال باكياً وسط الليل، وتوضأ، وصلى ركعتين، وأسرج راحلته لأنه لا يستطيع أن يتأخر عن أمر النبي عليه الصلاة والسلام، حياً كان أو ميتاً، لبيك يا رسول الله.
ركب بلال ناقته، وذهب إلى حبيبه عليه الصلاة والسلام، مشى وسط الصحاري والقفار.
جزى الله الطريق إليك خيراً وإن كنا تعبنا في الطريق
وصل بلال إلى المدينة ليلاً فوجد الناس نياماً، وأتى الروضة فسلم وبكى، وعاش في عالم من الذكريات والعبر والدروس، ثم حان أذان الفجر، ولحكمة يعلمها الله تبارك وتعالى، تأخر مؤذن المدينة، وتحرج بلال فهو لا يستطيع أن يترك الناس نياماً حتى تفوت عليهم الصلاة.
فصعد المنارة وأذن للصلاة، حتى إذ وصل إلى محمد رسول الله، انفجر بالبكاء، وقام الناس من المدينة، وأخذوا يبكون مع بكاء بلال .
وتتكرر المشاهد، وتتلاقى الصور، ويأتي بلال من جديد، يعانق أحبابه وأصحابه ويعانقونه، في مشهد عظيم من مشاهد الحب والوفاء.
وانتهت مهمة بلال في المدينة، لقد أتى لمهمة خاصة، ليجيب دعوة خاصة، من حبيب خاص، وعاد إلى الشام، وهناك أتته المنية فأخذ ينشد وهو في سكرات الموت.
غداً نلقى الأحبة محمد وحزبه
ومن الذي لا يفرح، وهو يعلم أنه بعد لحظات، سوف يلقى محمداً عليه الصلاة والسلام، وأبا بكر وعمر، والأخيار من الناس. نعم...
غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه
ومات بلال...
يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي [الفجر:27-30].
وفي قصة المؤذن الأول دروس:
أولاً: إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13].
فالقرشي الذي عارض الرسالة في النار، والحبشي الذي آمن بالرسالة في مقعد صدق عن مليك مقتدر.
ثانياً: إن هذا الدين لا ينتصر بكثرة العدد، ولا يعتمد على أصحاب المناصب والهيئات والأموال، ولكنه يبقى مكانه، ويأتي إليه من يحبه، يقول أبو جهل: كيف يهتدي بلال وأنا سيد بني مخزوم، وهو عبد حبشي لو كان خيراً ما سبقونا إليه [الأحقاف:11]. والجواب: الله أعلم حيث يجعل رسالته [الأنعام:124]. أليس الله بأعلم بالشاكرين [الأنعام:53]. بلى.
ثالثاً: تظهر من قصة بلال وغيرها من قصص الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، حنكة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعرفته بالفروق الذاتية لكل إنسان، واختلاف المواهب الشخصية والاستعدادات النفسية بين صحابي وآخر.
فقد أعطى الأذان لبلال لأنه الأصلح لذلك، وأعطى الراية لخالد في المعركة لأنه سيف الله المسلول، والخلافة لأبي بكر، والقافية والأدب لحسان، ومدرسة الفرائض وتوزيع المواريث لزيد بن ثابت، والقضاء وهيئة الاستشارة لعلي بن أبي طالب: قد علم كلّ أناسٍ مشربهم [البقرة:60]. وهذا الأمر يفوت على كثير من المربين والدعاة والمعلمين.(/4)
رابعاً: إن مبادئنا تبدأ من بلال وإنها تعلن صريحة قوية من على المنابر، فليس عندنا أسرار، ولا شيء نخفيه ونتكتم عليه، بل نحن واضحون وضوح الشمس في النهار، قال تعالى: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين [الحجر:94].
خامساً: من أراد أن يهدي الناس، فليزرع في قلوبهم الحب أولاً، فإذا استطاع ذلك ملك زمام القلوب، فليفعل بها ما يشاء.
وإن من يتصور أنه سوف يهدي الناس بالعصا، وسوف يسوقهم بالضرب والشتم، فقد أخطأ سواء السبيل، وقد أفلت الناس من يديه فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر [آل عمران:159].
إن سر نجاح دعوته عليه الصلاة والسلام، أنه جعل الناس يحبونه حباً، تتقطع له القلوب، وتنقاد له الأجساد، فقد كان أباً لليتامى، ومعيناً للأرامل والمساكين فأحبته القلوب، وعشقته الأفئدة، وانقادت له الأبدان.
عباد الله:
صلوا على الإمام، وترحموا على المؤذن، اللهم صلّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك ومنك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه البخاري (8/71) ومسلم (4/1775 ، 1776) رقم (2266).
[2] أخرجه البخاري (8/71) ومسلم (4/1775) رقم (2266). ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/5)
المتاجرة بالآلام في وسائل الإعلام
د. نهى قاطرجي
لم يعد الإنسان المكتئب أو الحزين أو الذي يشعر في نفسه برغبة شديدة في البكاء، يستحي من دموعه أن تنهمر أمام الناس بعد اليوم، فقد باتت هذه الفرصة متيسرة ومتاحة لكل راغب بل أًصبح البكاء اليوم منظماً وجماعياً ومحدداً بأوقات معينة، يجتمع لأجله كل أفراد العائلة ... ولسان حالهم يقول : اليوم بعد صلاة العشاء، نجتمع على جولة بكاء ... وعلى اعتبار أن هذا الموضوع يتم في الغالب بعد صلاة العشاء....
ما أقوله ليس من قبيل المزاح، أو الاستهزاء، بل هذه هي حقيقة ما جرى في بعض ليالي شهر رمضان الماضي وما يجري أيضاً في أيامنا هذه، حيث تقوم بعض المحطات التلفازية، وتحت ستار مساعدة الناس في الأعياد، بتوظيف الدموع وظيفة مزدوجة ... وظيفة النقل الحي والمباشر لدموع الآخرين ومآسيهم وأحزانهم من جهة، ووظيفة تأجيج مشاعر الحزن والألم عند المشاهدين من جهة أخرى ...
إن هذه السياسة التي وضعتها بعض المحطات في إطار ما يسمى بالتلفزيون الواقعي Real Tv والذي يقوم ببث نقل حي ومباشر (بدون روتوش) لأحداث واقعية تثير الأشجان في النفوس أكثر مما يثيره مشاهدة فيلم عربي مصري قديم، تستدعي منّا وقفة تأمل أمام هذا الواقع المؤلم الذي بات فيه الفقر والجوع، ومن أجل زيادة عدد المشاهدين، أو من أجل استقطاب المزيد من المعلنين، أو من أجل ابراز التفوق على المتنافسين، باباً للاستغلال الإعلامي...
قد يتفكر البعض ويقول: ما الضرر من وراء إدخال البهجة والفرح على قلوب الناس؟ وما الضرر من السعي إلى التقريب بين الناس والمسؤول؟ وما الضرر من إبراز حقيقة الواقع المر الذي يعيشه كثير من الناس؟
أليس في إثارة هذا الموضوع تشجيع للناس على فعل الخير؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات توضح الأسباب التي دفعتنا لإثارة هذا الموضوع، والتي تهدف بالدرجة الأولى إلى احترام الإنسان، كائناً ما كان وضعه الاجتماعي، ومن هذه الأسباب ، ما يلي:
1- خطورة موضوع الفقر بحد ذاته، حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعى المسلمين إلى الاستعاذة منه، حتى أنه ساوى بينه وبين الكفر في بعض الأحاديث كما في قوله عليه الصلاة والسلام : " كاد الفقر أن يكون كفراً " .
فلا يجوز أن يستهان بهذا الموضوع واعتباره حالة فردية، بينما الموضوع أكبر من ذلك بكثير، فقد شهدت السنوات الأخيرة ونتيجة للسياسات الرأسمالية، وانتشار العولمة المتوحشة، تزايداً كبيراً للفروقات الطبقية بين الناس، إن كان من ناحية غياب الطبقة الوسطى أو كان من ناحية أزدياد الفجوة بين الفقراء والأغنياء، ليس في لبنان وحده، بل وفي العالم بأسره، وأكبر دليل على ذلك الإحصاءات العديدة التي تؤكد أن نسبة الفقر في لبنان تجاوزت الـ35% بينما هناك في العالم اليوم 20% في المئة من الأغنياء في مقابل 80% من الفقراء، كما تشير أيضاً إلى تزايد كبير لعدد الفقراء في العالم والذي تجاوز الثلث من إجمالي سكان العالم البالغ عددهم 6 مليارات نسمة .
ومن هنا فإن ايجاد الحلول الجذرية لمشكلة الفقر، والذي يشكل بنداً من أهم البنود المدرجة على جدول أعمال ندوات ومؤتمرات الأمم المتحدة، لا يمكن أن يكون عبر برنامج تجاري تلفزيوني، يصور الناس وهم يبكون فرحاً لحصولهم على كنبة أو جهاز تلفزيون أو قالب حلوى ... ولكن يكون عبر برامج انمائية عامة تقوم بها الدولة وتتضمن تأمين المساعدات الطبية المجانية... والدائمة، فتؤمن للعجوز شيخوخة كريمة، وللمريض دخولاً كريماً إلى المستشفيات، وعناية طبية متساوية بينه وبين غيره من الناس ... كما تؤمن في الوقت نفسه فرص عمل للشباب تحميهم من نار الهجرة والبطالة والجريمة والانحراف...
كما أن ايجاد حل عجائبي لأحد الفقراء، أو جمعه بأحد المسؤولين ليستمع إلى شكواه، لا يمكن أن يكون حلاً لمشكلة ألوف من البشر والعائلات الذين لا يعلم بحالهم سوى الله عز وجل، والذين لا يملكون حتى مسؤولين يبثونهم شكواهم ...فمن لمثل هؤلاء المساكين في مثل هذه الحالة ؟ ومن لكل هؤلاء الذين يسكنون في بيوت الأعشاش وبيوت التنك وبيوت السلم ؟ ومن لكل هؤلاء الذين لا يحملون ذنباً إلا كونهم يحملون الجنسية الفلسطينية؟ إذ إن هؤلاء بتمسكهم يجنسيتهم حكم عليهم بالفقر، وسدت في وجوههم أبواب الرزق، وحرموا من العلم والطبابة والسفر والهجرة ... بل وحتى منعوا من بناء سقف يقيهم حر الشمس ومطر الشتاء...
لذاك فإن الدعوة في هذه المناسبة مجانية لكل مصور يحب أن يصور عينات حيّة مما ورد، إلى زيارة قصيرة على الأقدام لبعض تلك الأحياء، التي لا يسمح فيها بدخول السيارات، تماماً كالمحميات الطبيعية التي تحرم دخول الآليات، وشتان بين تلك المحميات الطبيعية وبين المخيمات الفلسطينية ... ويا ليت المسؤولين يتذكرون قول عمر بن الخطاب، رحمه الله عز وجل، الذي قال :" لو عثرت شاة على شاطئ دجلة لكان عمر مسؤولاً عن ذلك لعدم تعبيده الطريق" .(/1)
2- تشويه صورة الفقير والتشديد على إبراز ذله وهوانه وشدة حاجته... حيث تحرص كاميرات التصوير على عدم السماح لأية دمعة بالسقوط إلى الأرض دون التقاطها وتصويرها بالصورة البطيئة كي يساعد هذا المشهد على تأجيج مشاعر المشاهد من جهة، واعطاء المحسنين ( المعلنين) حقهم في الوقت المخصص للإعلان من جهة أخرى، وهكذا ينتهي البرنامج وقد أصبح هذا الفقير المستور أشهر انسان في البلد بل وفي العالم، يحسده قرناؤه ويفتخر بانتصاراته ... وهذا الأمر حرمه الإسلام عندما حرم التشهير بالناس، وجعل أفضل الثواب على صدقة السر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال : ( صدقة السر تطفئ غضب الرب) .
ولا يقتصر هذا التشويه لصورة الفقير على أظهار ذله وهوانه بل الأمر يتعداه إلى تمرير للفكر الرأسمالي حول الفقير والذي يظهره بمظهر الانسان الغبي، المنبوذ بين الناس، والمسؤول عن فقره، وصدق الشاعر بوصفه للفقير بقوله:
يمشي الفقير وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبوابها
وتراه مبغوضاً وليس بمذنب ويرى العداوة ولايرى أسبابها
بينما الإسلام يحترم الفقر والفقراء، ويرفع من مكانتهم، بل ويفضل الفقراء على الأغنياء، قال عليه السلاة والسلام : ( فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم )، وقال أيضاً: ( يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام ) .
إضافة إلى أن الفقير في الإسلام انسان صاحب حق على الدولة وعلى المجتمع، وهناك اختلاف كبير بين الحق والإحسان، ففيما يترك الإحسان لمشاعر وأحاسيس الأغنياء تجاه الفقراء، يأتي الحق كواجب وفرض يقتطع من أموال الأغنياء لتأمين حاجة الفقير والمعوز والمسكين، قال الله تعالى: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم به وصل عليهم " التوبة ) 103. هذا وقد وضع الإسلام مقاييس للفقر ، ذكرها ابن حزم في كتابه " المحلى" ، فقال" أن يقام للفقراء " بما يأكلون من الغوث الذي لا بد منه، ومن اللبس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يسكنهم من المطر، والصيف والشتاء وعيون المارة "
من هنا إننا لا نستغرب دعوة بعض الصحابة الفقير، إلى الدفاع عن هذا الحق، والمطالبة به حتى ولو اضطر إلى استخدام القوة، فقد روي عن ابا ذر رضي الله عنه قوله : " عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه " .
3- التجارة بدموع الناس، وهذا هو الأهم في الموضوع فالمحطات التلفازية بعرضها لمثل هذه البرامج، والتي تحاول من خلاله تبييض صفحتها، والادعاء بالاهتمام بمصالح الناس، والظهور بمظهر الإله او النبي أو الملك، لا تسلك هذا المسلك عند عرضها للبرامج الأخرى، فالمحطة التي تركز في الجانب الإصلاحي على الفقر وتتغافل عن الجانب التربوي والاخلاقي، فتسمح ( وفي اطار البرامج الواقعية أيضاً) بعرض مشاهد الاختلاط والإباحية وتخصص لها مساحات أوسع وأشمل من برامجها، لا يمكن أن يكون هدفها اصلاح المجتمع ومساعدة الناس، وإنما هدفها الأول هو تحقيق الربح المادي وإضافة مزيد من النجاحات في اطار التنافس بين المحطات العديدة...
نقطة أخيرة من المفيد الاشارة إليها، وهي تلك التي تتعلق بأضرار تلك البرامج على الفقير والمشاهد وعلى المحطات أنفسها، إذ يفقد الفقير الذي حققت جميع أمانيه في لحظة واحدة، الحافز على العمل من أجل تحسين الغد، أما المشاهد فإنه ولكثره متابعته مثل تلك البرامج يصل إلى مرحلة، يفقد فيها الإحساس والتفاعل مع دموع ومعاناة الآخرين، أما المحطات فخسارتها الكبرى هي عندما تفقد قدرتها على جذب دموع المشاهدين، فماذا ستفعل عندئذ؟ وما هي الوسيلة التي ستتبتكر لهذا الغرض؟(/2)
المجاهدون هم أولياء الله
قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) [سورة الأنفال: 45].
الخطاب هنا للمؤمنين المجاهدين في سبيل الله، حيث يبين الحق تبارك وتعالى أن طريق الفوز والفلاح إنما يكون بالصبر والثبات، والذي يعين على ذلك كثرة ذكر الله عز وجل، فمن كان ذاكرا عابدا فإنه من أولياء الله عز وجل، ومن كان من أولياء الله تعالى فإن الخوف والحزن لا يعرف لهم سبيلا، قال الله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [سورة يونس: 62]، هذه بشارة الله تعالى لهم، وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يبشرهم، حيث روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
فأي بشارة هذه، يبشرهم صلى الله عليه وسلم بحب الله تعالى لهم، والحبيب قريب من محبوبه دائما، يجيب دعاءه ولا يرده خائبا أبدا.
صفات أولياء الله ؟
من أراد أن يسعد بكونه من أولياء الله تعالى فليتشبه بهم وليتخلق بأخلاقهم، وليتأمل بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما، فقال لي: " يا غلام إني أعلمك كلمات:
احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك.
إذا سألت فاسأل الله.
وإذا استعنت فاستعن بالله.
واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك.
وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.
رفعت الأقلام، وجفت الصحف" .
إن أصدق من تكون له هذه الصفات هو : المؤمن المجاهد. فإنه علم علم اليقين أن كل قوى العالم لن تستطيع أن تضره بشيء إلا بما هو مقدر له من الله تعالى، فتجده مقداما لا يخاف، همه دائما متجه إلى الله تعالى، لا يسأل غيره ولا يستعين بسواه، كان حريصا على حفظ منهج الله تعالى في نفسه وأهله وبيته ومجتمعه، فحفظه الله تعالى بما يحفظ أولياءه المتقين.
لقد عبد الله عز وجل في السراء والضراء، وأيقن أن النصر مع الصبر، وأن الفرج آت لا محالة مع الكرب، وأن اليسر ملازم للعسر.
كما جاء في رواية أخرى :
" احفظ الله تجده أمامك.
تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة.
واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك.
واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا " .
إن المجاهد يخرج في سبيل الله تعالى آملا بإحدى الحسنيين:
النصر على الأعداء ورفع لواء الإسلام عزيزا خفاقا، أو الشهادة في سبيل الله، والشهادة هي أسرع طريق إلى الجنان وكسب رضى المنان. ومن أدب المجاهد أنه لا يتمنى لقاء العدو ولكنه لا يرضى بالدنية، فإذا لقي العدو ثبت وصبر، فإما الشهادة وإما الظفر.
قال عليه الصلاة والسلام : " يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية. فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف "
إن أولياء الله تعالى يلجئون إليه دائما، كما أرشدهم المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان من هديه عليه الصلاة والسلام إذا لقي العدو أن يتوجه إلى الله تعالى بالدعاء فيقول :
" اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم " . ودعاء المجاهد مستجاب خاصة عند لقاء العدو.
عباد الله ... كونوا من أولياء الله تعالى
عباد الله ... جاهدوا في سبيل الله تعالى بأموالكم وأنفسكم
عباد الله ... ادعوا لإخوانكم المجاهدين في فلسطين وأفغانستان وفي كل مكان
توصيات :
توجيه القائمين على المسجد بتعليق الأحاديث الواردة في الخطبة على لوحة المسجد ليحفظها الناس(/1)
المحافظة على الكليات الخمس
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
تحدثت من قبل عن الثوابت المهمة في الأحوال الملمة لإظهار المرجعية الكلية المطلقة للشريعة الإسلامية الغرّاء ، وإظهار الحرمة العظيمة المعّظمة لدم المسلم وماله وعرضه ، وبيان المكانة والمنزلة الرفيعة لأمة الإسلام وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم أمة الوسط والشهادة على العالمين التي لا تعطي الدنية في دينها والتي لا يجعل الله أهل الكفر عليها سبيلاً.
وذكرنا كذلك ما أخبرت به الآيات وما أفصحت عنه الروايات من بيان حقيقة الولاء والبراء عند الأعداء ، ولقد مرّ بنا حديث مهم فيما نحتاجه من الناحية العملية تعظيماً للإيمان وتوثيقاً وترسيخاً لليقين ثقة بالله ،وتوكلاً عليه ،واستمساكاً بدينه ، واعتصاماً بشرعه ، ويقيناً بأن النصر من عنده ،وأن الفرج بيده ،وأن الأمر كله بيده ومرجعه إليه ومنتهاه إليه سبحانه وتعالى.
وأشرنا إلى أن استنزال رحمة الله والتعرض لنصر الله إنما يكون بذلك الالتجاء الصادق ، والتضرع الخاشع ، والدعاء القانت لله - سبحانه وتعالى - ومزيداً من الأمور والثوابت والقضايا التي نحتاج إلى الكثير في معرفتها ؛ لنكون على بينة من أمرنا وعلى تعظيم لديننا ، وعلى افتخار واعتزاز بما أكرمنا الحق به - جل وعلا - لئلا تضطرب آرائنا أو تحتار أفكارنا أو تختلف مواقفنا ؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - قد عصمنا بالشريعة الغرّاء من ضلال الأهواء وفساد الآراء .
وإن الله - سبحانه وتعالى - قد جعل لنا فيها من المحاسن والمصالح ما هو عند كل مؤمن يقين لا شك فيه ، وخبر صدق لا يتخلف أبدا ، فمتى أقيمت معالمها وطبقت أحكامها ونشرت عدالتها ؛ فإن في ذلك خيريّ الدنيا والآخرة ، وإن في ذلك سعادة الأفراد والمجتمعات ، وإن في ذلك حصول الأمن والآمان ، وإن في ذلك ظهور العزة والقوة لا ينبغي أن نشك في ذلك أدنى شك ولا في أدنى لحظة أو في أقل لحظة .
ولعلنا أيضاً نقف في هذا المقام لنزيد في مثل هذه المعاني فنذكر بعض محاسن الشريعة التي خدمها علماء الأمة فاستنبطوا من الكتاب والسنة ، وقرروا وأصلوا القواعد وأظهروا وبينوا المقاصد وعرفوا كيف يظهرون ما أكرمنا الله - عز وجل - به من دوام هذه الشريعة وصلاحها لكل زمان ومكان .
فنحن ينبغي أن نرجع للكتاب والسنة وإلى أحكام الشرع ومن ذلك في الواقع تنزيل هذه الأحكام بمراعاة المصالح ودفع المفاسد ، ومعرفة الترجيح بين هذه وتلك ويسبق هذا أن نعرف الجمل العظيمة والأصول الجامعة في كثير من المعاني التي تتعلق بهذه الشريعة ومن أجلها مقاصد الشريعة أي أهدافها وغاياتها حكمها وأسرارها التي أودعها الله - سبحانه وتعالى- شرائعها الكلية وفي أحكامها التفصيلية ؛ لتؤدي إلى تحقيق المقاصد وإقامة العدل وتثمير وإنتاج الخير في هذه الحياة وادخار المثوبة والأجر والرضا والنعيم في يوم القيامة بإذن الله ويذكر أهل العلم أن هذه الشريعة الغراء عُنين عناية عظيمة بالمقاصد والحكم في كل أحوالها ، وليس ذلك من عند أهل العلم من ذوات أنفسهم ، وإنما من ما تقرر في القرآن والسنة ألسنا نرى على سبيل المثال بعض ما تدل عليه هذه الآيات : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } .. { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } .. وقول الحق جل وعلا { ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج } .
وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( إن هذا الدين يسر فأوغل فيه برفق ) .
أليست هذه في مجموعها تدلنا على أن الشريعة تقر اليسر وترفع الحرج ؟ من مثل هذا قرر العلماء وأظهروا المقاصد الكلية العظيمة العامة في هذه الشريعة ، والتي تحفظ الضرورات الخمس التي ذكر بعض أهل العلم أنها مما تواطأت عليه الشرائع والديانات السماوية :
1ـ حفظ الدين .
2ـ حفظ النفس .
3ـ حفظ العقل .
4ـ حفظ النسل .
5ـ حفظ المال .
مقومات لا تقوم الحياة إلا بها ولا تنضبط أمور المجتمعات إلا بحفظها ولا يمكن ذلك إلا بما أحكم الله عز وجل من شرعه العظيم وما قرره رسوله صلى الله عليه وسلم من هديه الكريم .
حفظ الدين الذي هو أعظم الأمور وأجل المقاصد ، وقد سبقت لنا أحاديث مفصلة في ذلك ؛ فإن هذا الأمر مما ينبغي أن ننتبه له وأن نرى كيف جعلته الشريعة في مقدمة الأمور وفي أسها ؛ فإن هذه الشريعة الغراء قد جعلت حفظ الدين من وجوه شتى :
أولها : العمل به
فإن دين الله - عز وجل - لا نعرفه لنحفظه فقط ولا نتعرف على نصوصه وأدلته لنعلم ما فيها من الأسرار أو الأحكام ، وإنما لنمتثل ذلك كما امتثله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استجابة لأمر الله : { يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } .
ونعرف القصة التي يرويها أنس في الصحيح عندما نزلت آيات تحريم الخمر :(/1)
{يا أيها الذين أمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه } ،عندما بلّغ هذه الآيات : " فرافع كأساً إلى فمه ألقاها وواضع شيء منها في فيه مجها وعمدوا إلى الدنان والزقاق فشقوها " .
واستجابتهم كانت تتميز أنها تلقائية مباشرة إذا سمعوا الأمر امتثلوه من غير تأخير في وقت ، ومن غير تأمل في نص ، ومن غير اعتراضاً على حكم دانت بذلك نفوسهم ، ورضيت به قلوبهم ، وتحركت وعملت به جوارحهم ، ثم إن الدين قد أظهر الله - عز وجل - أمره في هذه الشريعة بعد العمل به بالحكم به وفرّق بين هذا وذاك ، فالعمل به للأفراد فيما فرض الله - عز وجل - عليهم من فروض الأعيان صلاة أو زكاة أو حجاً أو نحو ذلك والأحكام المقصود أن يكون الشرع هو الحاكم الذي يحكم به بين الناس ويقضى به بينهم والذي تؤسس على ضوئه وفي ضوء أحكامه علاقات الأمة في داخل مجتمعاتها وصِلاتها بغيرها من الأمم والدول والممالك وقد قال الحق عز وجل : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } .
وبيّن الحق - سبحانه وتعالى - أهمية هذا التحاكم : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما } .
وبعد العمل به وإقرار أحكامه تأتي الدعوة إليه وهي من المهمات والواجبات في حفظ الدين تذكيراً للغافلين ، وتعليماً للجاهلين ، ودحضاً للشبهات ، وتعزيزاً لمقاومة الشهوات ، وتذكيراً بالحكم والمقاصد وتعريفاً بالمصالح ، وتحذيراً من المفاسد تلك الدعوة التي كلفت بها الأمة في مجموعها: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } .. {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } .
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ).
الدعوة إلى الدين نشر علومه .. إظهار أحكامه .. التحذير من مخالفته والتبشير بطاعته .. كل ذلك من واجبات هذا الدين التي يتحقق بها حفظه وإظهاره .
وكذلك أيضاً الجهاد في سبيله الجهاد لإعلاء هذا الدين الجهاد ؛ ليكون الدين كله لله وليظهر الدين الحق الذي رضيه الله - عز وجل - لعباده إن الدين عند الله الإسلام لكي نحمي هذا الدين :
{ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ) .
إن تشريعات الإسلام جاءت بهذه الأحكام لإقامة الدين وحفظه وإظهاره وإعلانه ، ومن جهة أخرى جاءت لحفظه بالمنع من نقضه فكل من ارتد عن الدين بعد أن يدخل فيه من غير إكراه يحل دمه ويجب قتله ( من بدل دينه فاقتلوه ) كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم .
ليس لأمة الإسلام مجال لزندقة ولا لهرطقة ولا حرية كفر باسم حرية الفكر كما يزعمون ، وكذلك ننظر إلى التشريع الإسلامي كل من سب هذا الدين أو عاب أحكامه أو استهزأ بها أو سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير جهل أو تأولاً فإنه يرتكب عظيمة من العظائم ويستحق القتل في تعرضه واستهانته واحتقاره للدين وتشريعه ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم .. جهاد لتقام الشرائع في أمة الإسلام ، وجهاد لتظهر الأحكام في أمم ومجتمعات المسلمين وليدرأ التشويه عن هذا الدين ، ولكي يكون هناك إتاحة للفرصة للبشرية التائهة الضائعة التي تعيش في تخبط لتعرف الاستقامة التي تعيش في ظلام لترى النور التي تعيش في ظلم لتبصر العدل نريد أن نعمم هذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فنصل به إلى كل شرق وغرب وإلى كل إنسان على وجه هذه البسيطة بعد أن خُوِّف منه كثير من الناس بالشبهات والادعاءات الباطلة ، وبعد أن زُيفت حقائقه وأقر فيه ما ليس منه وذلك ضرب من جهاد الدعوة مهم .
وحفظ النفس وحفظ الأرواح من مقاصد الشريعة العظمى التي قررت ذلك بحقه وفي دائرته ولأهله ولمستحقيه ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزائه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له جهنم والله سبحانه وتعالى قد ذكر لنا ذلك في نصوص كثيرة عظيمة وبيّن الحق عز وجل حرمة قتل النفس في صفات عباد الرحمن : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق } .
وحديث نبينا - صلى الله عليه وسلم - في المقام المشهود في الحجة العظمى : ( إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ) ، كما هو من حديث أبي بكرة في الصحيحين عندهما .(/2)
ولو تأملنا ؛ فإننا نرى أن القتل يسوب ويجوز بل ويجب في أحوال كثيرة حفظاً لهذه النفوس والأرواح في مجملها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا في الصحيح أنه ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ) ، وبيّن أيضاً في حديثه - عليه الصلاة والسلام - ما تعصم به الدماء من إظهار التوحيد والإقرار بالإسلام وجعل حكم القصاص من كل معتدٍ على الأرواح : { يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } .. تقرير جاءت فيه الحكمة { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } .
وغير الشرائع التي يسمونها حضارية من الأحكام والملل والمذاهب الوضعية تقرر أن هذه القِتلة تتنافى مع حقوق الإنسان أو تتعارض مع الرحمة والشفقة ، ولا ينظرون إلى حكمتها البالغة التي قالتها العرب من قبل الإسلام عندما كان قائلهم يقول " القتل أنفى للقتل " .
وقد سُدت الذرائع إلى الاعتداء على النفوس والأرواح كما ورد في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( من أشار إلى مؤمن بحديدته فهو يتوجأ بها في نار جهنم يوم القيامة ) .
كل هذا من التحريم ومن التعظيم لحقوق الأنفس فإذا زالت عصمتها وإذا فعلت ما حكمه في الشريعة إزهاقها فإن إزهاقها هو الحق وهو العدل وهو الإنصاف وهو الأمن وليس غير ذلك .
وحفظ العقل الذي دعانا الله عز وجل في الآيات الكثيرة إلى إعماله عندما تأتي الآيات مختومة بقوله جل وعلا :
{ إن في ذلك آيات لقوم يعقلون } ، { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } ، { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا } .
إعمالٌ للعقل تدبراً وتأملاً واتعاظاً وإدكاراً ثم كذلك عصمة وحفظ من مفسداته بتحريم الخمر كما مر بنا وسد الذرائع إليها فإن إسلامنا بأحكامه وتشريعاته لا يمكن أن يضاهيه تشريع بشري مهما اجتمعوا عليه وأتلفوا إليه وتواطؤا عليه وقرروه ثم عادوا فنظروا إليه وعدلوه ثم رجعوا إليه فزادوه وتشريع الله - عز وجل - ثابت محكم استمع لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يحرم الخمر ، ويلعن عاصرها ومعتصرها وشاربها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها إلى آخر ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكون ذلك أنهى وأبعد عن الوقوع فيها .
وتأمل في أقوام وأمم تبيح هذه الآفات المضرة ، ثم تدّعي أنها صاحبة التشريعات العظيمة أو الحضارية أو نحو ذلك ، وترى من آثارها البلايا العظيمة في الصحة العامة والاختلال الفظيع في الأمن العام ثم لا ننظر إلى نعمة الله - عز وجل - علنا بهذه التشريعات التي تسلم بها تلك الضرورات والتي تظهر فيها محاسن هذا الدين العظيم والله عز وجل قد نهى عن أولئك الأقوام الذين يذهبون عقولهم وإن كان ليس ذهاباً حسياً بخمر أو مخدرات أو غيرها ، ولكن بضلال وإتباع للأهواء وجحود للحق كما أخبر - سبحانه وتعالى - عن الكفرة الفجرة المنكرين الجاحدين : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } .
وأخبر الحق - جل وعلا - أن أولئك لهم أعين لكنهم لا يبصرون بها .. أذان لكنهم لا يسمعون بها .. عقول لكنهم لا يفقهون بها ، أولئك الذين عطلوا الحواس عن الإقرار بالحق والإنصاف بالعدل ، أولئك القوم الذي حمانا الله أن نكون مثلهم وجعل لنا بينة في كتابه : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } .
ثم حفظ النسل بحفظ كل ما يمنع من الفواحش والوقوع في الزنا وما أدراك ما الزنا من فاحشة تعظم أضرارها ، وتتكاثر آثارها الوخيمة الوبيلة ، حتى تكون سبباً من أسباب قطع النسل ؛ فإن بعض العلماء جعلوا بالضرورة حفظ النسب وبعضهم قالوا حفظ النسل وهم الأغلب ؛ لأن الزنى يمنع أو يكون مقصوده اللذة العابرة دون تحمل المسئولية الدائمة فلا يريد ولداً ، ولا يريد أن يتحمل من وراء ذلك مسئولية ويكون هذا من أسباب اختلاط الأنساب من جهة وقطع النسل من جهة أخرى والقرآن كما نعلم عندما حرم الزنى قال جل وعلا : { ولا تقربوا الزنى } .
فقد حرّم كل الدواعي المفضية إليه نظراً آثماً وسمعاً ماجناً وخلوة مريبة وغير ذلك مما نعلمه ولا نحتاج إلى إعادته ، ثم إننا ننظر إلى ما جاء في هذا الدين من الحث على الأمور التي تقضى بها الشهوات في ظل تشريع محكم وعقود مغلظة وحقوق معروفة وآداب مرعية فالقرآن حث على الزواج :
{ وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإيمائكم } .
ووعد على الإعانة { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } .
وفي حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عند النسائي في سننه : ( ثلاثة حق على الله أن يعينهم والناكح يريد العفاف ..) هو واحد منهم ذكره النبي صلى الله عليه وسلم .
ومدحٌ لهذا عندما نسب ذلك النبي إلى سنته فقال : ( النكاح من سنتي ) .
بل وأجر ومثوبة عندما قال عليه الصلاة والسلام : ( وفي بضع أحدكم صدقة ) .(/3)
مجتمع طاهر نظيف عفيف شريف ليس فيه ما عند القوم من إقرار زواج الذكور بالذكور والإناث بالإناث وما وراء ذلك من البلايا والأمراض المزمنة الفتاكة ثم يقولون إن حضارتهم خير من حضارتنا أو أن هذه التشريعات التي يتواطأ عليها أولئك القوم أو غيرهم أنها أفضل أو أحكم من شريعة ربنا: { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } .
وحفظ المال وقد سبقت لنا أحاديث عظيمة هذا المال الذي تنتكس به الدنيا اليوم وترتكس ؛ لأنها سارت مولية معرضة عن شرع الله القائل : { وأحل الله البيع وحرم الربا } .
ولن يتوعد الله - عز وجل - على شيء ما توعد على الربا حين قال : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله}.
وحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله الربا وآكله ومنكله وكاتبه وشاهديه ) .
وعندما قال عن الربا إنه سبعين باباً ، وإن أدناه مثل أن يزني الرجل بأمه نسأل الله - عز وجل - السلامة أترون الربا مشكلة اقتصادية كلا إنه رزية وبلية اقتصادية وفضيحة وفاحشة اجتماعية واختلال واضطراب أمني إن عواقبه الوخيمة تؤدي إلى الكثير والكثير من الأضرار وسر وراء ذلك في كل البيوع التي حرمها الشارع الحكيم من بيوع الغرر وعدم التقابض وغير ذلك ، ثم حثّنا على العمل النافع بل وتعظيم له ولمقامه فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ، ويخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أفضل كسب المرء ما كان من عمل يده ويخبر أن الرسل والأنبياء عملوا بأيديهم ورعوا الغنم وكانوا أصحاب مهن تشريفاً وتعظيماً للعمل والكسب الطيب الحلال ويأتينا التنبيه الذي يجعل المسلم في منهجه الإسلامي مراعي لأمر المال في اكتسابه وإنفاقه لأنه يسأل عنه يوم القيامة من أين اكتسبه وفيما أنفقه تشريعات الإسلام التي تحرم أكل المال بغير الحق : { ولا تأكل أموالكم بينكم بالباطل } .
وفي شأن الأيتام ولا تأكلوها إلى أموالكم ثم ينهى عن الحرية الشخصية المزعومة إذا كانت تتلف أموال الأمة أو تفسد في مصالح العامة فينهى الله عز وجل عن الإسراف والتبذير ويخبر بذلك النهي مع التقبيح له :
{ ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } .
ويلصق ذلك وينسبه إلى الشيطان يخبر الله عز وجل { إن المبذرين إخوان الشياطين } .
ويخبرنا الحق - سبحانه وتعالى - بذلك لنعلم أن المصالح العامة مرعية في هذه الشريعة الغراء ، فإذا عرفنا بعض هذه المحاسن في هذه الضرورات والمقاصد الكلية ؛ فإننا نعرف أننا في حاجة إلى المزيد من الصلة بديننا والاعتزاز به والمفاضلة له إطلاقاً على غيره وعلى كل ما سواه مما يتواطأ عليه الناس أو تعتمده الأمم نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يجعل لنا العصمة في ديننا ، وأن يرزقنا الفهم في كتابه والعلم بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والتزامهما والعمل بهما والدعوة إليهما والجهاد في سبيل نشرهما .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
إن ما نذكره من محاسن الشريعة وإبراز مقاصدها الكلية إنما هو للتأكيد على الأمور المهمة والقضايا الكلية والمفاهيم الأساسية .. إن كثيراً من ردود الأفعال عند حدوث الملمات يفتقر إلى هذه العصمة في الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإننا لا نحتاج أن تغلبنا العواطف الجياشة في المواقف التي تحتاج إلى الحكمة الهادئة ، وإننا نحتاج إلى طيش النزوات والموافقات واستجابة المؤثرات مع ضبط العقل والفهم والإدراك .
وإن الترجيح بين المصالح والمفاسد أمر من أجلّ الأمور وأعظمها ؛ فإن كل أمر تقدم عليه ينبغي أن تنظر أولاً في حكم الله - عز وجل - فيه ثم تنظر ثانياً إن كان جائزاً هل يترتب على إيقاعه مصالح لا مفاسد معها أو مصالح كثيرة ومعها مفاسد قليلة أو أنه تترتب عليه مفاسد عظيمة وليس فيه مصلحة إلا القليل ؛ فإن تشريع الله عز وجل والحكم الذي قرره أهل العلم من استنباطات الكتاب والسنة أن تلك المفاسد تدرأ وأنها تفوّت لأجلها المصالح الصغيرة حتى يتجنب المسلمون وأهل الإيمان ما تكون فيه المفاسد .
وقد أكرمنا الله - عز وجل - أيضاً فيما جاءنا من علوم هذا الدين بالقواعد الفقهية الجامع الضابطة ( لا ضرر ولا ضرار ) ، والمشقة تجلب التيسير ، واليقين لا يزول بالشك ، وغير ذلك استقراء استنبط قواعد يستعان بها في معرفة الأحوال وتنزيل الأحكام ولقد ذكر أهل العلم في هذا الكثير والكثير من الأدلة الشاهدة عليه ومن الأمثلة الواقعة مصداق له وموافقة له ؛ فإننا نحتاج إلى مثل هذا البصر في ديننا والمعرفة لأحكامنا لنكون كما قلت على مزيد من الوضوح والبينة والقوة واليقين والفخر والاعتزاز ، بل والإعلام والإشهار والجهاد والرفع لراية الإسلام في كل مكان .(/4)
والله - عز وجل - نسأل أن يعصمنا من الفتنة ، وأن يقيّنا من الضلال ، وأن يباعد بيننا وبين الزيغ ، وأن يحفظ علينا إيماننا ، وأن يزيد يقيننا ، وأن ينير بصائرنا ، وأن يثبت أقدامنا ، وأن يطهر قلوبنا ، وأن يزكي نفوسنا ، وأن يحسن أقوالنا ، وأن يصلح أعمالنا ، وأن يقوي عزائمنا ، وأن يرفع هممنا ، وأن يحسن ختامنا ، وأن يقينا بفضله كل ما يسؤنا ، وأن يوفقنا لطاعته ومرضاته واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم(/5)
المحبة
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلينا ، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندنا ، واقطع عنا حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك ، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وحده لا شريك له ، ناجاه نبيه داود فقال له : " يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك فقال الله عز وجل ، أحب عبادي إلي ، تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني ، وأحب من أحبني وحببني إلى خلقي ، فقال داود : يا رب إنك تعلم أني أحبك ، وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ، قال يا داود ذكرهم بآلائي ، ونعمائي وبلائي " .
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، وخيرته من خلقه وصفيّه ، دعا ربه في الطائف ، وقد لاقى من التكذيب والإيذاء ما لا يستطيع بشرٌ على الإطلاق أن يتحمله إلا أن يكون نبياً ، دعا ربه فقال : إنْ لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى لكن عافيتك أوسع لي)) .
اللهم صل ، وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته أعلام الهدى ، وأبطال الوغى ، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
عباد الله ، أوصيكم بتقوى الله ، وأحثكم على طاعته ، وأستفتح بالذي هو خير .
من خلال التأمل الدقيق ، والنقل الصحيح ، يتضح أن الإنسان هو المخلوق الأول والمكرم ، بدليل أن الكون كله ، بسماواته وأرضه مسخر له ، تسخير تعريف وتكريم ، فإذا آمن الإنسان ، بأنه خالقاً عظيماً ، ورباً كريماً ، ومسيراً حكيماً ، خلقه في أحسن تقويم ، وكرّمه أحسن تكريم ، وفضله على كثير من العالمين ، أنعم عليه بنعمة الإيجاد وبنعمة الإمداد ، و بنعمة الهدى والرشاد .
إن هذا الإيمان ، وذاك العرفان يحملان الإنسان على محبة خالقه ومربيه ، فالإنسان بعقله يؤمن ، وبقلبه يحب ، وهل الإنسان إلا عقل يدرك ، وقلب يحب .. وقد ورد في الأثر : ((أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً)) .
وورد في الخبر ، أنه لا إيمان لمن لا محبة له ، فالإيمان والحب متلازمان ، تلازم الروح وبالجسد ، فما قيمة الجسد من دون روح كذلك ما قيمة الإيمان من دون حب ، وإذا صحَّ أن العقل للإنسان كالمقود للمركبة ، يقودها على الطريق الصحيح ونحو الهدف الصحيح، فإنه يصحُّ أيضاً أن القلب للإنسان كالمحرك لهذه المركبة ، يحرِّكها على هذه الطريق ونحو ذلك الهدف .. فما قيمة المقود من دون محرك ؟ إنه الجمود والموت ، وما قيمة المحرك من دون مقود ؟ إنه الهلاك والدمار .
المحبة هي قوت القلوب ، وغذاء الأرواح ، وهي الحياة التي من حُرمها فهو في جملة الموات ، وهي النور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات ، وهي الشفاء الذي من عَدِمه حلَّت به الأسقام ، وهي اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام ، لذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس بن مالك :((ثلاث من كُنَّ فيه ، وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما ، وأن يُحبَّ المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر ، بعد إذ أنقذه الله منه ، كما يكره أن يُلقى في النار)) .
[متفق عليه]
فإذا عرف الإنسان ربه أحبه ، وإذا أحبه خطب وده ، فاستقام على أمره ، وعمل الصالحات ، ابتغاء وجهه ، عندئذ يجد حلاوة الإيمان بعد أن ذاق جحيم الكفر ، إن الإنسان وقد عرف هذه المعرفة ، وذاق هذه الحلاوة ، يصبح شغله الشاغل ، التقرب من المحبوب ، يقول الله تعالى فيما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه ، في حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري : ((لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأُعطينه ، ولئن استعاذني لأُعيذنه)) .
كثيرون هم الذين يدّعون محبة الله ورسوله ، ولا تجد في أعمالهم ما يُثبت ذلك ، إنهم خاضوا بحار الهوى دعوى ، وما ابتلوا ، ولو يُعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي ، لذلك طولب المدَّعون بإقامة الدليل على صحة دعواهم ، فقال تعالى :
[سورة آل عمران]
تعصي الإله وأنت تُظهر حبَّه هذا لعمري في المقال بديعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيعُ
***
ولقد ردَّ الله عز وجل على هؤلاء الذين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، فقال :
[سورة المائدة ]
ومن هنا استنبط الإمام الشافعي - رحمه الله - أن الله لا يعذب أحبابه .
محبة الله أصل : ومن فروعها محبة النبي صلى الله عليه وسلم ، فليس أحد بعد الله تعالى أمنَّ علينا في هدايتنا ، وسعادتنا من رسولنا صلى الله عليه وسلم .
[سورة التوبة]
لذلك قُرنت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بمحبة الله تعالى في معظم آيات القرآن، وفي السنة المطهرة ، قال تعالى :
[سورة التوبة](/1)
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين)) .
بل إن إرضاء الله ، هو عين إرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين إرضاء الله ، قال تعالى :
[سورة التوبة]
هكذا بضمير المفرد .. ولم يقل " يرضوهما " بضمير المثنى ، وكذلك طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عين طاعة الله تعالى ، حيث يقول :
[سورة النساء]
هذا خصم عنيد من خصوم النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة : ما رأيت أحداً يحبُّ أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً .
وإليكم نموذجين من هذه المحبة :
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب له ، قليل الصبر عنه ، أتاه ذات ليلة وقد تغير لونه ، ونحل جسمه وعُرف ذلك في وجهه ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم :((يا ثوبان ما غير لونك " ؟ فقال : يا رسول الله ، ما بي وجع ولا ضرٌّ غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك ، واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، ولولا أني أجيء فأنظر إليك ، لظننت أن نفسي تخرج - أي أموت - ثم ذكرت الآخرة ، وأخاف ألا أراك هناك ، لأني عرفت أنك مع النبيين ، فلم يردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً)) ، لكن الله جل في علاه أجابه عن تساؤله في القرآن الكريم فقال تعالى :
[سورة النساء]
نموذج آخر :
امرأة أنصارية من بني دينار ، تسمع إشاعة أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قُتل ، في أُحد ، فيؤلمها النبأ ، وتخرج لتستجلي الحقيقة ، وتمر على أرض المعركة ، وتجدُ في الشهداء ابنها وزوجها وأخاها ، فلا تقف عندهم ، بل تندفع باحثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل عنه كل من لقيت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : أمامك حتى وصلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، واطمأنت على سلامته ، فأخذت بطرف ثوبه ، ثم قالت : كل مصيبة بعدك جلل ( هينة ) ولا أبالي ما سلمت من عطب .
أية امرأة أنتِ ؟ لله درك ..
ولو أن النساء كمن رأينا لفُضِّلت النساء على الرجال .
محبة الله أصل ، ومن فروعها محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين عزروه ، ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، والذين جاهدوا معه حق الجهاد ، وبذلوا من أجل انتشار الحق كل غالٍ ورخيص ، ونفس ونفيس ، والذين رضي الله عنهم جمعياً ، والذين وصفهم المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال : ((علماء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)) .
وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم وفاءً لحق صحبتهم وتقديراً لمكانتهم ألا نخوض فيما بينهم ، فقال : ((إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا)) .
[رواه الطبراني في الكبير ، عن ابن مسعود]
وقال : ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه فهم كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم)) .
فهؤلاء الأصحاب ، بإيمانهم ، وثباتهم ، وبطولاتهم ، وولائهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم استطاعوا في مثل سرعة الضوء أن يضيئوا الضمير الإنساني بحقيقة التوحيد ، ويكنسوا إلى الأبد وثنية القرون ، فأيُّ بذل هذا الذي بذلوا ، وأي هولٍ هذا الذي احتملوا ، وأيُّ فوزٍ هذا الذي أحرزوا .
محبة الله أصل ، ومن فروعها محبة المؤمنين : تلك المحبة التي تؤلف القلوب ، وتوحد الصفوف ، وتبني المجتمعات ، وتصنع المعجزات ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم مجتمع المؤمنين في توادهم ، وتعاطفهم ، وتراحمهم بالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وهم كالبنيان المرصوص ، يشدُّ بعضه بعضاً ، وهم لبعضهم بعضاً ، نصحةٌ متوادُّون ، ولو ابتعدت منازلهم ، بينما المنافقون بعضهم لبعض ، غششةٌ متحاسدون ولو اقتربت منازلهم .
لذلك .. يجب ألا نعجب إذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم حب المؤمنين علامة كافية على صحة الإيمان ، وصدقه ، بل جعل محبة المؤمنين شرطاً وحيداً لوجود الإيمان في الرجل فقال :((والذي نفسي بيده ، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا)) .
[أخرجه مسلم في صحيحه رقم 93 ، وأخرجه الإمام أحمد والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة ](/2)
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أيها الناس ، اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عز وجل عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم ، وقربهم من الله ، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى الني صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ناسٌ من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم ، وقربهم من الله انعتهم لنا ، فسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي فقال : هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابُّوا في الله وتصافوا يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها ، فيجعل وجوههم نوراً ، وثيابهم نوراً ، يفزع الناس يوم القيامة وهم لا يفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) .
وفي الحديث القدسي : ((وجبت محبتي للمتحابين فيَّ وللمتجالسين فيَّ وللمتزاورين فيَّ وللمتباذلين فيَّ)) .
[أخرجه الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الكبير ]
وفي حديث آخر :
((المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء)) .
[أخرجه الترمذي في كتاب الزهد 2390 ، وقال حسن صحيح]
وروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ، وفي رواية : ((وحتى يكره له ما يكره لنفسه)) ، فالمراد بأحدكم في الحديث : كل المسلمين في كل العصور ، وكل الأمصار ، لرواية أخرى تقول : ((لا يؤمن أحدٌ أو عبدٌ )) ، وإن كان بهذه الصيغة خاصاً بالمشافهين ، الذين عاصروا النبي ، والمراد بالأخ في الحديث من له أخوة الإسلام مطلقاً .. كما ورد في بعض الروايات : ((لأخيه المسلم)) ، فالمسمون على اختلاف شعوبهم ، وقبائلهم، وديارهم ، وألسنتهم ، وألوانهم هم أسرة واحدة ، قال تعالى :
[سورة الحجرات]
ويستفاد من كلمة إخوة التي تعني أخوة النسب أن أخوة الإيمان أعلى درجات الأخوة، ويستفاد من كلمة إنما أن الأخوة الحقة قاصرة على المؤمنين ، وكل علاقة أخرى لا تقوم على الإيمان ، علاقة أساسها المنافع تدوم بدوامها ، وتزول بزوالها ، وفي رواية للنسائي: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، من الخير)) ، وهذه الكلمة : ((من الخير)) قيد لا بد منه ، لأن من كان يحب لنفسه شيئاً من المشتهيات المحرمة ، ليس من الإيمان أن يحب لأخيه مثلها ، فالمراد ((بالخير)) في الحديث ما هو خير شرعاً ، والخير الشرعي يتناول الحظوظ الأخروية كلها ، كالعلم النافع ، والعمل الصالح ، والعبادة الخالصة ، والعاقبة الحُسنى .. ولا يتناول من حظوظ الدنيا إلا ما كان مباحاً غير مذموم ، كسعة الرزق من الحلال ، ونجابة الأولاد ، وطول العمر ، والسلامة من المكاره.
رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه رجل فسلم عليه ، ثم جلس فقال له ابن عباس : يا فلان ، أراك مكتئبا حزيناً؟ قال : نعم ، يا ابن عم رسول الله ؛ لفلان عليَّ حق ولاءٍ ، وحرمةِ صاحب هذا القبر ما أقدر عليه .. قال ابن عباس : ألا أكلمه فيك ؟ قال : إن أحببت ، قال : فانتعل ابن عباس ، ثم خرج من المسجد ، فقال له رجل : أنسيت أنك معتكف ؟ قال : لا ولكني سمعت صاحب هذا القبر ، والعهد به قريب ، فدمعت عيناه ، وهو يقول : ((من مشى في حاجة أخيه ، وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين ، ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق ، كل خندق أبعد ما بين الخافقين)) .
[ورد في كنز العمال 24019 ،ورواه الخطيب وقال غريب ورواه الطبراني في الكبير ورواه الحاكم]
وفي الحديث : ((لأن أمشي مع أخٍ لي في حاجة ، خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا)) .
[أورده السيوطي في الجامع الصغير ]
ومن ثمار المحبة بين المؤمنين إذاً ، التراحم ، والتعاون ، والتضامن ، والتكافل ، والمؤاثرة ، فقد أمر الله المؤمنين بالتعاون فيما بينهم ، إلا أنه قيد التعاون بأن يكون تعاوناً على البر والتقوى ، لا تعاوناً على الإثم والعدوان .. قال تعالى :
[سورة المائدة ]
قال علماء التفسير : التعاون على البر هو التعاون على صلاح الدنيا ، والتعاون على التقوى هو التعاون على صلاح الآخرة ، وفي الدعاء النبوي الشريف : ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي)) .
[أخرجه مسلم]
فمن التعاون : التناجي بين المؤمنين في صلاح دنياهم وآخرتهم ، والمشاركة في إبداء الآراء ، وتوضيح الحقائق ، وتشخيص المشكلات ، والبحث عن الحلول ، وتذليل العقبات ، فليس من سمات المؤمن الصادق الفردية والانعزالية والسلبية ، والهروب من حلِّ المشكلات ، قال تعالى:
[سورة المجادلة]
لذلك تُعدُّ الشورى من مظاهر التعاون الفكري ، أمر بها رسوله فقال :(/3)
[سورة آل عمران]
ووصف بها المؤمنين فقال :
[سورة الشورى]
ومن التعاون بين المؤمنين تنفيس الكروب وتيسير الخطوب وستر العيوب لقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة برواية مسلم :((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على مُعسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) .
فتنفيس الكروب هو تفريجها وإزالتها ، والكروب جمع كربة ، وهي الحزن والغم ، الذي يأخذ بالنفس فيضغط عليها ضغطاً مؤلماً ، وهنا يأتي دور المؤمن في مساعدة أخيه في تنفيس كربة ، فإذا كانت كربة أخيه من جهة فقره ، وحاجته ساعده حتى يسدَّ حاجته ، ويرفع عنه ضرورته ، سواء أكان ذلك في ماله ، أم في سعيه الحسن ، وإن كانت كربة أخيه بسبب حاجته إلى قرض حسن ليدفع ضرورة مُلحَّة أقرضه ، وإن كانت كربة أخيه بسبب مصيبة حلَّت به واساه ، وساعده حتى تنفرج عنه الكربة ، وإن كانت بسبب حاجته إلى شفاعة حسنة شفع له ، وإن كانت بسبب حاجته إلى زواج سعى بتزويجه ، وإن كانت بسبب حاجته إلى عمل ، سعى في تهيئة العمل الملائم له ، وإن كانت بسبب حاجته إلى تداوٍ من علة جسمية أو نفسية ، سعى له في العلاج المناسب حتى يُنفِّس عنه كربته .. وقل مثل ذلك في التيسير والستر والمعونة .
محبة الله أصل ، ومن فروعها أن تنصف الناس جميعاً على اختلاف مللهم ونحلهم ، وأن ترحمهم ، وتُعينهم في أمر دينهم ودنياهم ، لأن الخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ، والنبي صلى الله عليه وسلم ينفي عن الرجل انتماءه للإسلام إذا غش كائناً من كان فقال : ((ليس منا من غش)) .
[رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة ]
محبة الله أصل ، ومن فروعها أن ترفق بالمخلوقات جميعاً ، وأن ترحمهم ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ((لعن الله من مثَّل بالحيوان)) .
[رواه البخاري ومسلم ]
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقتل شيء من الدواب صبراً ، ونهى عن التحريش بين البهائم ، وأن يتخذ شيء من الروح غرضاً ، أي هدفاً في الرمي ، روى الإمام البخاري أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال : ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)) .
وروي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((غُفر لامرأة مرَّت بكلب على رأس بئر يلهث يكاد يقتله العطش فنزعت خُفَّها ، فأوثقته بخمارها ، فنزعت له من الماء فغُفر لها بذلك)) .
الخطبة الثانية :
يقول الله تبارك وتعالى :
[سورة الأنفال]
كيف تكون هذه المحبة والألفة ؟ وما شروطها وموجباتها ؟ وما ثمارها ونتائجها ؟(/4)
يتضح ذلك كله من قصة عمير بن وهب الجمحي الذي نجا من الموت في معركة بدر ، وخلَّف ابنه وهباً أسيراً في أيدي المسلمين .. جلس ذات يوم في فناء الكعبة ، مع صفوان بن أمية ، سيد قريش وزعيم الشرك ، يتذاكران بدراً ، فقال عمير لصفوان : ورب الكعبة ، لولا ديون عليَّ ليس عندي ما أقضيها ، وعيال أخشى عليهم الضياع من بعدي لمضيت إلى محمد، وقتلته ، وحسمتُ أمره ، وأرحتكم منه ، فقال صفوان : يا عمير ، اجعل دينك كله علي ، فأنا أقضيه عنك مهما بلغ ، وأما عيالك فسأضمهم إلى عيالي ما امتدت بي وبهم الحياة ، وإن في مالي من الكثرة ما يسعهم جميعاً ، ويكفل لهم العيش الرغيد ، فامض لما أردت ، عندها أمر عمير بسيفه فشُحِذ ، وسُقيَ سماً ، ودعا براحلته فأعدّت ، وقُدِّمت له ، ويمم وجهه شطر المدينة ، وملء برديه الضغينة والشر ، ولما بلغها مضى نحو المسجد ، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلمحه سيدنا عمر رضي الله عنه ، وهو على باب المسجد ، فأقبل عليه ، وأخذ بتلابيبه ، وطوَّق عنقه بحمالة سيفه ، ومضى به نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله هذا عدو الله عمير بن وهب جاء يريد شراً .. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال قال لعمر : أطلقه ، فأطلقه ، ثم قال له : استأخر عنه ، فتأخر عنه، ثم توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمير ، وقال له : ادن مني يا عمير ، فدنا فقال له : ما الذي جاء بك يا عمير ؟ قال : جئت أرجو فكاك هذا الأسير ، الذي في أيديكم فقال له: فما بال هذا السيف الذي في عنقك ؟ قال : قبَّحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم تقل لصفوان في فناء الكعبة عند الحجر : لولا دين عليَّ ، وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً ، فتحمَّل لك صفوان بن أمية دينك وعيالك على أن تقتلني ، والله حائلٌ بينك وبين ذلك ، فذهل عمير .. وقال : أشهد أنك لرسول الله ، لأن خبري مع صفوان لم يعلم به أحد إلا أنا وهو ، ووالله لقد أيقنت أنه ما أتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، ليهديني إلى الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم : ((فقهوا أخاكم في دينه ، وأقرئوه ، وعلموه القرآن ، وأطلقوا أسيره .. ففعلوا)) .
[كنز العمال 13/37455]
وموطن الشاهد في هذه القصة ، أن سيدنا عمر رضي الله عنه قال بعد أن آمن عمير بن وهب بالله ورسوله ، واصطلح مع الله ورسوله : دخل عمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والخنزير أحبُّ إلي منه ، وخرج من عنده وهو أحبُّ إلي من بعض أبنائي ، ولنذكر قوله تعالى :
[سورة آل عمران]
حينما نؤمن بالحقيقة نفسها ، ونسعى لهدف واحد ، ونسلك سبيلاً واحداً ، وحينما نتمثل القيم الإنسانية الرفيعة ، ونتخلق بالأخلاق الأصيلة التي تسمو عن الزمان والمكان يكون اللقاء حتمياً ، والحب صادقاً والتعاون مثمراً ، وتحقق خلافة الإنسان في الأرض وتصبح البشرية في أرقى أطوارها .
الدعاء :
لندع الله مخلصين كما أمرنا ، فالله جل في علاه كما لا يحب العمل المشترك الذي فيه إشراك، لا يحب القلب المشترك ، العمل المشترك لا يقبله ، " أنا أغنى الأغنياء عن الشرك "، العمل المشترك لا يقبله ، والقلب المشترك لا يقبل عليه ، الإخلاص الإخلاص .
اللهم ارزقنا حبك ، وحب من يحبك ، وحب عمل صالح يبلغنا حبك .
اللهم ما رزقتنا فيما نحب فاجعله قوةً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب .
اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلنا وأموالنا والناس أجمعين .
اللهم ارزقنا حب الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين وإذا أردت بعبادك فتنة فتوفنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين .
اللهم انصر إخوتنا في الأراضي المحتلة على أعدائك وأعدائهم اللهم اجعل تدمير أعدائهم في تدبيرهم ، واجعل الدائرة تدور عليهم يا رب العالمين .
اللهم أعل ، كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين .
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفقه لكل خير ، ومن أراد بهم غير ذلك فخذه أخذ عزيز مقتدر . اللهم وفق ولاة المسلمين ، في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى ، اللهم ألف بينهم ، ووحد كلمتهم واجمعهم على الحق والخير والهدى ، يا رب العالمين . ...
...(/5)
المحرومون
فضيلة الشيخ إبراهيم الدويش
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات إعمالنا، من بهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عبيه وعلى آله وأصحابه ومن أهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وموضوع هذه الليلة بعنوان المحرومون
أيها الأحبة:
وأعتذر أيضا للأخوات:
فلا نجزع من كلمةِ محروم، بالرغمِ من قساوتِها فالكثيرُ منا يشعرُ بالحرمان.
وينالُ الإنسانَ من الحرمان بقدرِ بعدهِ عن طاعةِ الله.
وسأوجهُ خطابي إلى المحرومين، وسأناديَ المحرومين كثيرا، فلا نجزع فقد يكونُ المحرومُ أنا.
وقد تكونُ أنت وقد يكونُ فلاناً أو فلانة، وقد نكونُ جميعاً.
فالحرمانُ يتفاوتُ من شخصٍ لأخرَ، ويختلفُ باختلافِ الأحوالِ والأشخاص.
فقد تُحرمُ الراحةَ والسعادة.
وقد تُحرمُ لذةَ السجودِ والركوع.
وقد تُحرمُ قراءة القرآنِ وتدبرِ آياته.
وقد تُحرمُ كثرةَ الذكرِ والاستغفار.
وقد تحرمُ لذةَ الخشوعِ والبكاءِ من خشيةِ الله.
وقد تُحرمُ بر الوالدينِ والأنسُ بهما.
وقد تُحرمُ لذة الأخوةَ في الله.
وقد تُحرمُ السعادةَ الزوجيةَ.
وقد تُحرمُ أكل الحلالِ ولذتهِ.
وقد تُحرمُ التوبةَ والندمَ على ما فات.
وقد تُحرمُ حسنَ الخاتمةَ.
فيا أخي الحبيب، ويا أختي الغالية قد نحرمُ هذه الأمورَ كلَها، وقد نحرمَ الكثيرَ منها، وقد نحرمُ القليل منها، والسعيدُ من جمعها ووفقَ إليها وقليلٌ ما هم.
فإن كنتَ منهم فأذكر نعمةَ اللهِ عليك، وأشكره، واعلم أن من تمامِ شكرَه النصحَ للمسلمين فلا تحُرم نفسكَ اجر التبليغ فالدالُ على الخيرِ كفاعلِه.
إذا فقد يصيبَك من الحرمان ولو القليل، فأحتمل خطابي وأحتمل مناداتي لك بيا أيها المحروم، فإنما قصدتُ بها الشفقةَ والرحمةَ والحب والنصحِ.
وأعوذ بالله أن أكونَ من الشامتين فأنا أولُ المحرومين.
أسأل الله عز وجل أن يحيينا حياة طيبة، وأن يتوب علينا توبة صادقة.
كثيرٌ ممن ظاهرهم الصلاح محرومين، فهم لم يذوقوا حلاوةَ الإيمان، ولا حقيقةِ الهداية والاستقامة.
فليست الاستقامةَ أشكالاً ومظاهرَ، بل هيَ أعمالٌ وسرائرَ، وأنتم أيضاً يا أصحاب المناصب وأهل المال والتجارة ويا كل مهندس وطبيب وكاتب أقول لكم جميعا :
أحسنتم يوم سهرتم وعملتم ونجحتم ولاشك أنكم جميعا من صناع الحياة، ومن أصحاب الأيادي البيضاء، لكن ما هو رصيدكم من السعادة والراحة وانشراح الصدر ؟
ما حقيقة الصلة بينكم وبين الله ؟
ما هو نصيبكم من حلاوةَ الإيمان، ولذةَ السجودِ والمناجاةِ، ولذةَ الدمعةِ من خشيةِ الله عزا وجلَ ؟
إذاً فقد يكونُ لكم نصيبٌ من الحرمان، فأسمعوا يا رعاكُم اللهُ هذه الكلمات.
وإذ كان هذا هو واقع بعض الصالحين والجادين العاملين فكيف بحال الغافلين اللاهين ؟
فمن الناسِ من كسب الدنيا والآخرةِ نسأل اللهَ أن نكونَ منهم.
ومنهم من كسبَ الدنيا وضيعَ الآخرةِ.
ومنهم من ضيعَ الدنيا والآخرةِ. وهؤلاء همُ المحرومينَ حقا.
يحدثني أحدهم:
أنه لم يركع لله ركعة، ولم يشعر بلذة الصيام يوما من الأيام وأنه لا يعرف عن رمضان سوى السهر والمعاكسات والنوم بالنهار.
ويهمس لي آخر :
عن أحواله وأحوال أصحابه وجلساتهم في الليل وما يدور فيها من الفساد والضياع.
وقال آخر :
أنه يجلس الساعات بل الليالي ينتقل من قناة إلى قناة لقضاء الفراغ وقتل الوقت كما يقول، ويقول عن نفسه أن الحق أنه يبحث عن الشهوة وتلبية رغبات النفس الأمارة، فإذا انتهيت شعرت بندم وهم وضيق لا يعلمه إلا الله، ولا أدري إلى متى سأظل على هذه الحال من قتل العمر وتضييع الأيام.
يقول أضعت نفسي ورجولتي وإيماني ووظيفتي وباختصار إنني أعيش بدوامة التعاسة والشقاء وإن كنت في الظاهر بسعادة وهنا… إلى آخر ما قال.
قلت في نفسي صدق الله يوم أن قال: ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ).
ويصارحني آخر ودمعته تسيل على خده فيقول:
إنكم مسؤولون عنا أمام الله، أدركوا الشباب مخدرات، أفلام، معاكسات، سهر وغناء ولواط وزنى، ثم يجهش في البكاء – هذه حاله والله العظيم – ثم يجهش في البكاء ويضع وجهه بين يديه وهو يقول:
فكرت بالانتحار عددا من المرات.
وكتب إلى أحدهم رسالة طويلة قال في مقدمتها:
قضية الشباب قضية كبيرة ومهملة وللأسف، مهملة من الجميع إلا ما شاء الله، فلا أدري من أين ابدأ في مشاكلهم المعاصرة.
هل ابدأ بتضييعهم لأوقاتهم وأموالهم أو لأنفسهم أو لأمتهم، ثم عدد بعض أسرار الشباب إلى أن قال:
هذا فيض من غيض مما يدور في أوساط الشباب من الفساد والإفساد فضلا عن حلق اللحى وسماع الغناء وإسبال الثياب وتبادل الأشرطة والأفلام المدمرة وشرب الدخان ولعب الورق وتبادل أرقام الهواتف وسباب ولعان وغيبة ونميمة وكذب، ناهيك عن ترك الصلاة.(/1)
وإني بمقامي هذا –الكلام لا يزال له- بعد إذ نجاني الله من شبكة أعداء الإسلام التي ينصبونها لأبناء هذه الأمة - وليس الخبر كالمعاينة- أقول هذا واقع الشباب فأذهبوا وشاهدوا العجائب. إلى آخر رسالته.
وحدثتني بعض الأخوات :
فتبين لي العجب من الضياع والحرمان الذي تعيشه بعض بنات المسلمين وللأسف.
تقول لي إحداهن وقد كانت غافلة عابثة بالهاتف:
أنا أعيش محنة كبيرة شديدة لا يعلمها إلا الله، فأنام وأصحو وأنا أبكي، قلبي يكاد يتقطع، أحس أن الدنيا ضيقة، أبكي في كل وقت وأخاف أن يكون ذلك الإحساس بضيق الدنيا قنوطا أو يئسا من رحمة الله وأنا لا أريد ذلك، فأنا أريد أن أحقق صدق توبتي بالصبر والثقة بالله والتوكل عليه والاستعانة به والثقة بأنه سينجيني من تلك المعصية، ويغفر لي ويعوضني خيرا.
وحتى لحظة كتابتي هذه الكلمات أبكي من شدة ما أجد من ألم وتعب وضيق، لأن كل شيء يذكرني بالماضي، ولا أجد الراحة والاطمئنان إلا في الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن، وهذه من الصعوبات التي تواجهني في هذه الفترة، وأسأله تعالى أن يغفر ذنوبي فقد فرطت في جنب الله وتهاونت في المعصية… إلى أن قالت:
كنت أقول في نفسي أمعقول أن يوجد من يتوب ويرجع إلى الله بسبب محاضرة واحدة أو شريط واحد أو موقف بسيط، فالحمد لله، وأساله أن لا يزيغ قلبي بعد إذ هداني.
وقد هداها الله بسبب حضورها لمحاضرة لإحدى الأخوات في كليّتها. .. إلى آخر قصتها من رسالة بعنوان دموع ساخنة من فتاة عائدة.
فأهدي هذا الموضوع (المحرومون) أهديه إلى :
المحرومين من نعمةِ الإيمان، الفاقدينَ حلاوتَه وأنسَه وطعمَه.
أهديه إلى المحرومين من لذةِ الدمعةِ والبكاءِ خشيةً وخوفاً من الله.
أهديه إلى المحرومين من لذةِ السجودِ ومناجاةِ علامِ الغيوب.
أهديهِ إلى المحرومين من لذةِ قراءةِ القرآن وتدبرِ معانيه وتذوق معانيه.
أهديهِ إلى المحرومين من لذةِ الأخوةِ والحبِ في الله.
أهديهِ إلى المحرومين من بركةِ الرزقِ وأكلِ اللقمةِ الحلال.
أهديه إلى المحرومين من بركةِ العمرِ وضياعهِ في الشهوات واللذات.
أهديه إلى المحرومين من انشراحِ الصدرِ وطمأنينته وسعادته.
أهديه إلى المحرومين من بر الوالدين والأنسِ بهما.
وجماعِ ذلك كلِه أقول:
أهدي هذا الموضوع إلى المحرومين من الاستقامةِ والطاعة والالتزام.
إلى أولئك الذينَ أصابتهم الوساوس والشكوك، واستبد بهم الأسى والشقاء، واجتاحهم القلق والظلام، ونزلت بهم الهموم والغموم.
إلى الذين حُرموا زاد الإيمان ونور الإسلام.
إلى البائسينَ ولو عاشوا بالرغدِ والنعيم الذين حُرموا نعمة الإيمان، لقد فقدتم كل شيء وإن وجدتم المال والجاه.
إلى الذين حُرموا لذة الاطمئنان وبرد الراحة، لقد فقدتم كل شيء وإن ملكتم الدنيا بأسرها.
إلى الذين حُرموا السعادة والأنسَ، وأضاعوا الطريقَ.
إلى أولئكَ جميعاً أقول اسألوا التائبين يومَ ذاقوا طعم الإيمان، يوم اعترفوا بالحقيقة.
واللهِ ثم والله ما رأيت تائباً إلا وقالها، ولا نادما إلا وأعلنها صرخاتُ متوجعٍ وزفرات مذنب وآهات نادم اختصروها بكلماتٍ قالوا:
( نشعرُ بالسعادةِ لحظات، وقت الشهوة فقط وعند الوقوع بالمعصيةِ واللذة، وبعدها قلقٌ وحيرةٌ وفزعٌ واضطرابٌ وضياع وظلام شكوكٌ وظنون، وبكاء وشكوى، عقد وأمراض نفسية).
وصدق الله عز وجل يوم أن قال :
( فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى ).
إذا فهو في أمان من الضلال والشقاء، متى ؟ بالهداية، بالاستقامة، باتباع هدي الله.
والشقاء ثمرة الضلال ولو كان صاحبه غارقا في متاع الدنيا بأسرها، فما من متاع حرام إلا وله غصة تعقبه وضيق يتبعه، لذلك قال الله عز وجل بعد هذه الآية مباشرة:
(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ).
قال ابن كثير ( أي في الدنيا فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرجا لضلاله وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلقي وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة) انتهى كلامه رحمه الله.
فإلى المحرومين لماذا أعرضتم عن ذكر الله ؟
لماذا حرمتم أنفسكم سماع المواعظ ومجالس الذكر ؟
تُدعون فلا تأتون، وتُنصحون فلا تسمعون، تغفلون أو تتغافلون، بل ربما تسخرون وتهزئون.
ولكن أسمعوا النتيجة، أسمع للنتيجة المرة، اسمعي للنهاية التي لا بد منها:
قال الحق عز وجل:
( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) هذا في الدنيا.
أما في الآخرة (ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربي لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى ).
فنسيتها، أعرضت عنها، أغفلتها، تناسيتها، إذا فالجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان:
( وكذلك اليوم تنسى ).
( فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ).
( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا، إنا نسيناكم ).
( نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون ).
أيها المحرومون:
لماذا نسيتم لقاء ربكم؟(/2)
لماذا هذا الإعراض العجيب؟
إنكم حرمتم أنفسكم فحُرمتم السعادة والراحة والاستقرار النفسي.
لماذا نسيتم وتناسيتم ما قدمت أيديكم ؟
لماذا غفلتم، ولماذا غفلنا عن المعاصي والذنوب ؟
أسمع لقول لحق عز وجل:
( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ).
ونسي ما قدمت يداه، أين النفس اللّوامة ؟ أين استشعار الذنب ؟ أين فطرة الخير ؟
أين القلب اللين الرقيق؟ أين الدمعة الحارة ؟
أسمعوا وعوا :
( إنا أنذرناكم عذابا قريبا، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، ويقول الكافر يا ليتني كنت تراب ).
يقسم بعض التائبين أنه ما ركع لله ركعة وما سجد لله سجدة، فأي حرمان بعد هذا الحرمان ؟
أي حرمان بعد هذا الحرمان ؟
عفوك اللهم عنا….خيرُ شيء نتمنى
ربي إنا قد جهلنا…… في الذي قد كان منا
وخطينا وخطلنا….…ولهونا وأسأنا
إن يكو ربي خطأنا …ما أسأنا بك ظنا
فأنلنا الختم بالحسنى….وإنعاما ومنا
أيها المحرمون:
لا رحت للقلب ولا استقرار إلا في رحاب الله، إلا في الهداية، إلا في الاستقامة والالتزام بأوامر الله.
يتصور بعض المحرومين والمحرومات أن الراحة والسعادة في المال والمنصب والسفر إلى الخارج.
ذكرت جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 21/4/1415هـ نقلا عن مذكرات زوجة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش قالت :
( أنها حاولت الانتحار أكثر من مرة، وقادة السيارة إلى الهاوية تطلب الموت، وحاولت أن تختنق لتخلص من همومها وغمومها )
ويذكر التاريخ لنا :
( أن علي أبن المأمون العباسي أبن الخليفة كان يسكن قصرا فخما وعنده الدنيا مبذولة ميسرة، فأطل ذات يوم من شرفت القصر فراء عاملا يكدح طيلة النهار، فإذا أضحى النهار توضأ وصلى ركعتين على شاطئ دجلة، فإذا اقترب الغروب ذهب إلى أهله.
فدعاه يوما من الأيام فسأله فأخبره أن له زوجة وأختين وأما يكدح لهن، وأنه لا قوت له ولا دخل إلا ما يتكسبه من السوق، وأنه يصوم كل يوم ويفطر مع الغروب على ما يحصل.
قال ابن الخليفة:
فهل تشكو من شيء ؟ قال العامل لا والحمد لله رب العالمين.
فترك ابن الخليفة القصر، وترك الإمرة وهام على وجهه ووجد ميتا بعد سنوات عديدة وكان يعمل في الخشب جهة خرسان)
فيا سبحان الله، من الإمارة إلى النجارة لأنه وجد السعادة في عمله هذا، ولم يجدها في القصر.
المحرومون من الصلاة :
إن من المحرومين من قال الله عنهم:
( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ).
فأي حرمان بعد إضاعة الصلاة، أقسم لي شاب أنه لم يسجد لله سجدة إلا مجاملة أو حياء.
فأقول أيها المحروم :
إنه الكفر والضلال،( إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر.)1
( إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة )2
مسكين أنت أيها المحروم يوم أن قطعت الصلة بينك وبين الله، إنها مفتاح الكنز الذي يفيض سعادة وطمأنينة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود، إنها زاد الطريق ومدد الروح وجلاء القلوب.
إن ركعتين بوضوء وخشوع وخضوع كفيلتان أن تنهي كل هذا الهم والغم والكدر والإحباط.
إن من أسباب سعادة المؤمنين ما أخبر الله عنه بقوله:
( ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ).
وقوله ( أمّن هو قانت آنا الليل ساجدا وقائما، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ).
من أجمل لحظات الدنيا وأسعدها يوما أن يسجد العبد لمولاه، يدعوه ويناديه، يخافه ويخشاه، قيام وسجود، بكاء وخشوع فيتنور القلب وينشرح الصدر وتشرق الوجوه.
قال عز وجل ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ).
أما المحروم فظلام في القلب، وسواد في الوجه، وقلق في النفس. هذا في الدنيا.
وفي الآخرة يقول الله عنهم ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ).
حُرموا من السجود في الآخرة لأنهم كانوا يدعون إلى السجود في الدنيا فيتشاغلون ويتكبرون ويسخرون.
أي فلاح وأي رجاء وأي عيش لمن انقطعت صلته بالله؟
أو قطع ما بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غناء له عنه طرفة عين؟
فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع من أنواع الآلام وأنواع العذاب.
مسكين أيها المحروم، كيف تريد التوفيق والفلاح ؟ والسعادة والنجاح ؟ وأنت لا تصلي وقد قطعت الصلة ما بينك وبين الله.
اسمع إلى قول الله عز وجل ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ).
اسمع لقول الحق عز وجل (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ).
سجود المحراب، واستغفار الأسحار ودموع لمناجاة سيماء يحتكرها المؤمنون.
ولأن توهم المحروم أن جناته في الدينار والنساء والقصر المنيف، فإن جنة المؤمن في محرابه.
إن من المحرومين من إذا ذكر بالصلاة سخر واستهزأ.
وفي هؤلاء يقول الحق عز وجل ( وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون).
ويقول عز وجل (إن الذين أجرموا كانوا من الذين أمنوا يضحكون وإذا مروا بهمم يتغامزون).(/3)
أي في الدنيا، ولكن السعيد من يضحك في النهاية.
ولذلك قال الله ( فاليوم الذين أمنوا من الكفار يضحكون ).
إن المتهاون في الصلاة حُرم خيرا كثيرا، فقد قال (صلى الله علية وآله وسلم):
(من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له برهان ولا نور ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبي أبن خلف)3
أيها المحروم:
حرمت نفسك أجمل لحظات الدنيا وهي لحظات السجود وتمريغ الجبين للرب المعبود.
حرمت نفسك أعظم اللذات، لذة المناجاة، ولذة التذلل والخضوع.
إنك تملك أغلا شيئا في هذا الوجود، تملك كنزا من كنوز الدنيا:
الصلوات الخمس.
الثلث الأخير من الليل.
ساعات الاستجابة.
أسأل المصلين الصادقين ماذا وجدوا ؟
أسألهم ولا تتردد سيجيبوك بنفوس مطمئنة، بنفوس راضية، بنفوس ذاقت حلاوة الدنيا وأجمل ما فيها.
سيقولون ( أكثر الناس هموما وغموما وكدرا المتهاونون المضيعون للصلاة ).
ولكن أبشر أيها الأخ الحبيب فإن الله عز وجل يقول :
( إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا).
المحرومون من التوبة:
التائب أعتق نفسه من أسر الهوى، وأطلق قلبه من سجن المعصية.
التائب يجد للطاعة حلاوة وللعبادة راحة، وللأيمان طعما، وللإقبال لذة.
التائب يجد في قلبه حرقة، وفي وجهه أسى، وفي دمعه أسرار.
التائب منكسر القلب، غزير الدمعة، رقيق المشاعر.
التائب صادق العبارة فهو بين خوف وأمن، وقلق وسكينة.
اليوم ميلادي الجديد وما مضى…موت بليت به بليل داجِ
أنا قد سريت إلى الهداية عارجا……….يا حسن ذا الإسراء والمعراج
أيها المحروم:
أيها المحروم تب إلى الله، تب إلى الله ذق طعمَ التوبةَ، ذق حلاوةَ الدمعةَ، اعتصرَ القلبَ وتألم لتسيلَ دمعةُ على الخد تطفئُ نيران المعاصي والذنوب.
أخلوا بنفسكَ وأعترفِ بذنبك وأدعُ ربك وقل:
( اللهم أنت ربي لا إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، اعوذ بك من شر ما صنعت، أبو لك بنعمتك علي وأبو بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
أبكي على خطيئتكَ،وجرب لذةَ المناجاة، أعترف بالذل والعبودية لله.
تب إلى الله بصدق، ناجي ربك وقل: ( اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فأغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ).
جرب مثل هذه الكلمات، جربها كما كان (صلى الله علية وآله وسلم) يرددها.
أيها المحروم:
( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد (صلى الله علية وآله وسلم) رسولا )4
أسمع إلى ملكِ الملوك وهو يناديكَ أنت.
أسمع إلى جبارِ الأرضِ والسماواتِ وهو يخاطبك أنتَ، وأنت من أنت؟
أسمع للغفورِ الودود الرحيم الرحمن وهو يقول:
( قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسِهم لا تقنطوا من رحمةِ الله، إن اللهَ يغفرُ الذنوب جميعاً إنه هو الغفورُ الرحيم ).
ويقولُ سبحانه في الحديثِ القدسي:
( يا عبادي إنكم تذنبونَ في الليلِ والنهار، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعا، فاستغفروني أغفر لكم ).5
يقولُ الله في الحديثِ القدسي الآخر:
( يا ابنَ أدم إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرتُ لك على ما كانَ ولا أبالي، يا أبن أدم لو بلغت ذنوبَك عنانَ السماء، ثم استغفرتني غفرتُ لك على ما كان ولا أبالي، يا أبن أدم لو أتيتني بقرابِ الأرضِ خطايا ثم لقيتني لا تشركُ بي شيئاً لقيتكَ بقراب الأرضِ مغفرةً )6
إذا فيا أيها المحروم:
ما هو عذركَ وأنت تسمعُ هذه الندائات ممن من ربِ الأرضِ والسماوات.
إن أسعد لحظات الدنيا يومَ أن تقفَ خاضعاً ذليلاً خائفاً باكيا مستغفرا باكيا، فكلماتُ التائبينَ صادقةُ، ودموعُهم حارةُ، وهممهم قوية.
ذاقواُ حلاوةَ الإيمانِ بعد مرارةِ الحرمان.
ووجدوا برد اليقينِ بعد نارِ الحيرةَ.
وعاشوا حياةِ الأمنِ بعد مسيرةِ القلقِ والاضطراب.
فلماذا تحرمُ نفسكَ هذا الخير وهذه اللذة والسعادة ؟
فإن أذنبتَ فتب، وإن أسأت فأستغفر، وإن أخطأت فأصلح فالرحمةُ واسعةٌ والبابُ مفتوح.
قال أبن القيم في الفوائد :
( ويحك لا تحقر نفسك، فالتائب حبيب، والمنكسر صحيح، إقرارك بالإفلاس عين الغناء، تنكيس رأسك بالندم هو الرفعة، اعترافك بالخطاء نفس الإصابة ) انتهى كلامه رحمه الله.
إذا العبودية لله عزة ورفعة ولغيره ذل ومهانة.
أيها الحبيب، أيتها الغالية:
إنا لنفرح بتوبتك، ونسر لرجوعك إلى الله، وليس لنا من الأمر شيء.
عين تسر إذا رأتك وأختها…..تبكي لطول تباعد وفراقِ
فاحفظ لواحدة دوام سرورها….وعد التي أبكيتها بتلاقي
عدنا بالرجوع إلى الله، عدنا بتوبة صادقة ونحن معك بكل ما تريد، نسر ونفرح نمدك بأموالنا وأيدينا ودعائنا وليس لنا من الأمر شيء، إنما هو لنفسك.
ومن المحرومين من حُرم لذة قراءة القرآن:
وتدبر آياته والبكاء من خشية الله، عن عطاء قال :(/4)
دخلت أنا وعبيد ابن عميرعلى عائشة رضي الله عنها فقال عبيد لها حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم)، فبكت وقالت:
(قام ليلة من الليالي فقال يا عائشة ذريني أتعبد لربي قالت قلت،والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، قالت قام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره، فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يأذن لصلاة الفجر، فلما راءه يبكي قال:
( يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر )
فقال (صلى الله علية وآله وسلم) (أفلا أكون عبدا شكورا ، لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرائها ولم يتفكر فيها)
ثم تلا (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ….خر سورة آل عمران).7
إذا فمن المحرومين من لم يقرأ القرآن، وربما قرأه في رمضان بدون تدبر أو خشوع.
أسال نفسك أيها المحب كم آية تقرأ في اليوم ؟ بل كم مرة تقرأ في الأسبوع؟
كم مرة دمعة عيناك وأنت تقرا القرآن ؟
إن من الناس من لم تدمع عينه مرة واحدة، مرة واحدة عند سماع أو قراءة آيات القرآن، وربما دمعت مرارا ومدرارا عند سماع كلمات الغناء في الحب والغرام والهجر والجرام. والعياذ بالله.
مساكين الذين ظنوا الحياة كأسا ونغمة ووترا.
مساكين الذين جعلوا وقتهم لهوا ولعبا وغرورا.
مساكين الذين حسبوا السعادة أكلا وشربا ولذة.
ليل المحرومين غناء وبكاء، وليل الصالحين بكاء ودعاء.
ليل المحرومين مجون وخنوع، وليل الصالحين ذكر ودموع.
أيها المحروم:
أيها المحروم من لذة البكاء أعلم أنه متى أقحطت العين من البكاء من خشية الله فأعلم أن قحطها من قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي. والعياذ بالله.
فقل أيها المحروم:
قل لنفسك و أسفاه، و حسرتاه كيف ينقضي الزمان وينفذ العمر والقلب محجوب محروم ما شم رائحة القرآن، دخل الدنيا وخرج وما ذاق أطيب ما فيها.
بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزا وكسلا، وموته غبنا وكمدا.
ألم تسمع أيها المحروم ؟
ألم تسمعي أيتها المحرومة لقول النبي (صلى الله علية وآله وسلم) :
( والقرآن حجة لك أو عليك ). فأيهما تختار وأيهما تختارين ؟ لك أم عليك.
قال أحد الصالحين:
أحسست بغم لا يعلمه إلا الله، وبهم مقيم فأخذت المصحف وبقيت أتلو فزال عني – والله – فجأة هذا الغم، وأبدلني الله سرورا وحبورا مكان ذلك الكدر.
يا أيها الأخ الحبيب، يا أيتها المسلمة:
إن هذا لقرآن رحمة وهو هدى ونور وشفاء لما في الصدور كما وصفه الله سبحانه وتعالى، فأسمع أيها المحروم من قراءة القرآن إن قراءة القرآن بتدبر وتمعن من أعظم أسباب السعادة، ومن اعظم أسباب انشراح الصدر في الدنيا والآخرة.
ومن المحرومين من حُرم لذة الأخّوة في الله:
حُرم الرفقة الصالحة التي تذكره الخير وتعينه عليه، إن الجليس الصالح لا تسمع منه إلا كلاما طيبا، أو دعاء صالحا أو دفاعا عن عرضك.
فيا أيها المحروم من لأخّوة في الله إنك بأمس الحاجة إلى دعوة صالحة إلى كلمة طيبة.
إنك بأمس الحاجة إلى من تبث له أشجانك.
إنك بأمس الحاجة إلى صادق أمين وناصح مخلص.
إنك بأمس الحاجة إلى أخ يتصف بالرجولة والشهامة.
أتُراك تجد هذه الصفات بصديق الجلسات والضحكات والرحلات والمنكرات. ؟
أيها المحب أعد النظر في صداقاتك، استعرض أصدقائك واحد بعد الآخر، أسال نفسك ما نوع الرابط بينكما؟ أهي المصالح الدنيوية ؟ أم هي الشهوات الشيطانية ؟ أم هي الأخّوة الإسلامية ؟
كلُ اخّوة لغير الله هباء، وفي النهاية هم وعداء.
لاشك مر بك قول الحق عز وجل: ( الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ).
أيها المحروم من لذة الأخّوة في الله، راجع صداقاتك قبل أن تقول يوم القيامة:
(يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا).
راجع أحبابك وخلانك، فإنك ستحشر معهم يوم القيامة فقد قال حبيبك (صلى الله علية وآله وسلم):
( المرء مع من أحب ).
فمن أي الفريقين أحبابك ؟
قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدها……فأنت قرين لي بكل مكان
فإن كنت في دار الشقاء فإنني………...وأنت جميعا في شقاء وهوان
أيها المحروم:
كم كسبت من صفات ذميمة ؟ وكم خسرت من صفات حميدة ؟ بسبب أصحابك.
تقول لي لماذا ؟ أقول لك لأن الطبع سرّاق، وقل لي من تصاحب أقول لك من أنت.
والنبي (صلى الله علية وآله وسلم) يقول ( الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).
أُبل الرجال إذا أردت إخائهم……وتوسمن أمورهم وتفقد
فإذا وجدت أخ الأمانة والتقى….فبه اليدين قرين عين فأشدد
إن للأخّوة في الله حلاوة عجيبة ولذة غريبة، لا يشعر بها إلا من وجدها.
وفي الصحيح أن النبي (صلى الله علية وآله وسلم) قال:
(ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، وذكر منها وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ).
وفي الأثر المشهور:(/5)
(لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا ومنها مجالسة أخوة ينتقون أطايب الكلام كما ينتقون أطايب التمر ).
فكم من محروم حُرم الأخّوة في الله ؟
ومن الناس من حرُم أكل الحلال:
ومن ثم حٌرم إجابة الدعاء، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قالَ قال رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم):
( أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إن بما تعملون عليم، وقال : يا أيها الذين أمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنا يستجاب لذلك).
كم من الناس حُرموا لذة الأكلة الحلال، وحُرموا بركة المال، وحُرموا صلاح العيال بسبب أكل الحرام من ربا وغشي وخداع وسرقة وحلف كاذب.
مسكين أنت أيها المحروم فربما أنك تركع وتسجد وترفع يديك بالدعاء فأنا يستجاب لك.
أيها الأخوة، أخشى أن نكون من المحرومين ونحن لا نشعر، فنحن نرفع أيدينا بالدعاء، ونلح على الله فيه، وربما سالت الدمعات على الخدين.
أنظر لحال المصلين ودعاء القنوت في رمضان، فربما لا نراء أثرا لدعائنا وبكائنا:
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).
( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ).
لنراقب أموالنا، ولنحرص على أكلنا وشربنا ولبسنا، وربما دُخلنا من إهمالنا في أعمالنا ووظائفنا.
فيا أيها المحروم:
إن لأكل الحلال أثرا عجيبا على القلب وراحته وسعادته.
إن لأكل الحلال أثرا كبيرا على صلاح الأولاد وبرهم بإبائهم.
بل إن لأكل الحلال أثرا كبيرا على سعة الرزق ونماء المال.
فكم من المحرومين بسبب المعاصي والذنوب ؟
ففي المسند من حديث ثوبان قالَ قال رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم):
( إن الرجل ليحُرم الرزق بالذنب يصيبه )8
فكم من المحرومين بسبب المعاصي والذنوب ؟
أنتبه أيها المحب، فليس كثرة المال عند بعض الناس دليلا على بركته، بل قد يكون شقاء على صاحبه، وكم سمعنا عن من ملك المال والقصور يعيش في تعاسة وهموم، وقد قال (صلى الله علية وآله وسلم) :
( إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا قول الله عز وجل: فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)9
وأسمع لأبن القيم رحمه الله وهو يقول عن أثر الذنوب والمعاصي:
( ومن عقوبتها – أي المعاصي والذنوب – أنها تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم وبركة العمل، وبركة الطاعة وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا، فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله، وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق، قال تعالى: ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض. وقال تعالى :وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه. وإن العبد ليحُرم الرزق بالذنب يصيبه) انتهى كلامه رحمه الله.
ومن الناس من حُرم كثرة ذكر الله:
تهليلا وتسبيحا وتحميدا وتكبيرا فلسانه يابسا من ذكر الله، رطب ببذيء برديء الكلام والسباب واللعان - والعياذ بالله – وإذ أردت أن تعرف شدة الحرمان والخسارة للغافل عن كر الله فأسمع لهذه الآيات، وأسمع لهذه الأحاديث والربح العظيم فيها:
عن أي هريرة رضي الله عنه قال ( أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم) فقالوا: ذهب أهل الدثور (أي أهل المال الكثير) بالدرجات العلا والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال ، يحجون ويعتمرون ويتصدقون)
فقال (صلى الله علية وآله وسلم) ( ألا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ قالوا بلى يا رسول الله.)
قال ( تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين).
قال أبو صالح الراوي عن أي هريرة لما سأل عن كيفية ذكرهن قال:
يقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاث وثلاثين.10
وزاد مسلم في روايته ( فرجع فقراء الهاجرين إلى رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم) فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال (صلى الله علية وآله وسلم): ذلك فضل الله يأتيه من يشاء).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم) قال:
( من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر).11
وعن سعد أبن أبي وقاص رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم) فقال:(/6)
( أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلساءه كيف يكسب ألف حسنة ؟ فقال (صلى الله علية وآله وسلم) يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة).12
والأحاديث في مثل هذه الفضائل كثيرة جدا ومستفيضة.
أسألك بالله أليس محروما من ترك مثل هذه الأذكار ؟
فمن منا لا يرغبُ أن تُغفرَ خطاياهُ وإن كانت مثل زبدِ البحر؟
ومن منا لا يرغبُ أن يكسبَ آلف حسنةٍ أو يحط عنه ألفُ خطيئةٍ؟
ولكن بعض الناسِ لم يسمع بهذه الأحاديثِ قط فضلا على أن يحرص على فضلها ؟
أليسَ هذا من الحرمان ؟
إنها كلماتٌ قصيرة في أوقاتٍ يسيرة مقابل فضائل كثيرة وهي سلاحٌ للمؤمنِ تحفظُه من شياطينِ الإنسِ والجان، وهيَ اطمئنان للقلب وانشراحٌ للصدرِ كما قال عز وجل :
( ألا بذكرِ اللهِ تطمئنُ القلوب ).
والله عز وجل يقول ( والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجر عظيما).
ولكن سبق المفردون، وتأخر وخسر المحرومون. المفردون هم الذاكرون الله كثيرا والذاكرات كما أخبر بذلك (صلى الله علية وآله وسلم) عند مسلم في صحيح.
فيا أيها المحرومُ من ذكرِ الله، أحرص على تلك الأذكار، لعلها أن تمحُ عنك السيئات، وإياكَ إياك وبذاءة اللسان، والسبَ وللعان فتزيدَ الطين بلة.
ومن الناس من حُرم السعادة الزوجية:
حُرم السعادةَ الزوجيةَ والعيشةَ الهنيئةَ، فهوَ لا يجدُ السكن النفسي، يعيشَ في قلقٍ واضطرابٍ، وشجارٍ وخصام، كم شكا هؤلاء لنا ؟ كم شكوا حياتِهم مع أزواجِهم وفي بيوتِهم ؟
يعيشُ بدونا مودةٍ ولا رحمةٍ، بدون لذة ولا متعةٍ، وبينَه وبين زوجِه وحشةً فلما كلُ ذلك ؟
قال بعضُ السلف - اسمع يا رعاك الله - قال بعضُ السلف :
( إني لأعصِ الله فأرى ذلكَ في خلقي دابتي وزوجتي).
أيها الزوجان:
ربما تحُرم السعادة الزوجية والراحة النفسيةَ بسبب الذنوبِ والمعاصي منكما أو من أحدكما.
انظرا إلى البيت وما فيه من وسائل فساد تغضب رب العباد.
انظرا إلى حرصكما على الفرائض والطاعات والاهتمام بها والصلاة في أوقاتها.
قفا مع بعضكما وستجدان أن السبب معصية الله لا شك.
قال الله تعالى : (وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير).
إنه ما من مشكلةٍ تقعُ بين زوجين إلا بمعصية أو ذنبٍ، فكم في البيوتِ من المحرومين بسبب معصيةِ ربِ العالمين ؟ وأقف هنا فقد سبق الحديث عن هذا الموضوع بدرسين بعنوان (السحر الحلال).
ومن الناس من حُرم بر الوالدين:
من المحرومين من حُرم برَ الوالدين والأنسُ بهما، والجلوسُ معهما وقضاء حوائجِهما، حُرم المسكينُ من فضلِ عبادةٍ قرنت بتوحيدِ الله عز وجل.
فقد ثنى بهما فقال: ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا ).
ويدل هذا على فضلهما وعظم القيام بهما، وأسمع يا من حُرمت برهما قال (صلى الله علية وآله وسلم):
( الوالدُ أوسطُ أبوابُ الجنةَ، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه)13
ويروى عن عبد اللهِ أبنُ المبارك أنه بكى لما ماتت أمهُ فقيل له فقال:
( إني لأعلمُ أن الموتَ حق، ولكن كان لي بابانِ للجنةِ مفتوحان فأغلقَ أحدُهما).
والنبيُ (صلى الله علية وآله وسلم) يقول :
( رغمَ أنفُ، ثم رغمَ أنفُ، ثم رغمَ أنفُ من أدركَ أبويه عند الكبرِ أحدُهما أوكلاهما فلم يدخل الجنة ).14
وقال (صلى الله علية وآله وسلم) (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه)15
ومن برهما ميتين الدعاء لهما وزيارة صديقهما وإنفاذ وعدهما.
إن قصص العقوق التي نسمعها لينفطر لها الفؤاد أسى، وتذوب لها النفس حسرة.
أيها المحروم برهما إن العقوق من الكبائر، بل لا يدخل الجنة عاق، ويحُرم التوفيق في الدنيا، وربما عُجلت له العقوبة، وربما ابتلي بأولاده فالجزاء من جنس العمل.
أبو هريرةَ كان لا يخرج ولا يدخل حتى يسلم على أمة وكان يحملها وينزلها فقد كانت كبيرة مكفوفة.
وابنُ الحنفيةَ يغسلُ رأسَ أمهُ ويمشُطُها ويقبلُها ويخدمُها.
وكان علي أبنُ الحسين من أبرِ الناسِ بأمه، فكان لا يأكلُ معها فسأل فقال:
( أخاف أن تسبقَ عينُها إلى شيءٍ من الطعامِ وأنا لا أعلم به فأكلُه فأكونُ قد عققتُها).
وطلبت أم مسعرٍ من ابنها ماءً في ليلةً، فجاء به إليها فوجدها نائمةً.
فوقف على رأسِها حتى الصباح.
وسألَ عمرُ أبنُ ذرٍ عن برِ ولده به فقال:
ما مشى معيَ نهاراً قط إلا كان خلفي، ولا ليلاً قط إلا كان أمامي، ولا رقى على سطح ٍ أنا تحَته.
فنستغفرَ اللهَ حالِنا مع آبائِنا، ونعوذ بالله من الحرمان.
إليك أيها السامع هذه العناوين السريعة:
أنقلها لك من رسالة صغيرة بعنوان (أبناء يعذبون أبناءهم قصص واقعيه).
أبن يتهرب من المستشفى حتى لا يتسلم والده.
آخر يتخلص من أمه فيرميها بجوار القمامة.
آخر يأتي بأبيه الذي بلغ الثمانين إلى دار النقاهة ويقول خذوا أبي عندكم وإذا أردتم شيئا اصلوا علي.
وآخر يبخل على أمه بمائة ريال ثمنا لخاتم أعجبها، بل أخذ الخاتم ورماه على طاولة البائع.(/7)
وابنة تطرد والدة من منزلها.
وأخرى غضبت لأنها علمت أن والدتها ستعيش معها.
هذه عناوين لقصص واقعية، وتفاصيلها تدمي القلوب وتقرح الأكباد. فإن لله وإنا إليه راجعون.
نعوذ بالله من حال هؤلاء. محرومون ومعذبون في الدنيا والآخرة.
اللهم اغفر لنا ولوادينا وأجزهم عنا خير الجزاء.
اللهم أعنا على برهما، اللهم ارفع درجتَهم وأسكنَهم الفردوس الأعلى برحمتك يا أرحم الراحمين.
ومن الناس من حُرم حسن الخاتمة:
نسأل الله حسنها، عجيبٌ حالك أيها المحروم، إنك تعلمُ أن الموتَ حقٌ، وأنه نهايةُ الجميعِ، مع ذلك تصرُ على حالِكَ وأنت تسمعُ هذه الكلماتُ مراراً وتكرارا.
أيها الأخُ، أيتها الأخت، ليسَ العيبُ أن نخطأ، ولكن العيبَ الاستمرار على الخطأ.
أيهما تريدُ أن تموتَ على خيرٍ أو على شر؟
أقولُ هذا لأننا نرى ونسمعُ نهايةُ بعضِ المحرومين، نسأل الله حسن الخاتمة.
قال أبنُ القيم في الجواب الكافي :
( ثم أمرُ أخوفُ من ذلك وأدهى وأمر، وهوَ أن يخونَه قلبَه ولسانَه عند الاحتضارِ، والانتقال إلى الله تعالى فربما تعذرُ عليه النطق بالشهادةِ كما شاهد الناس كثيرا من المحتضرين مما أصابهم ذلك.. إلى قوله وسبحان الله، كم شاهد الناس من هذا عبرا، والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم ).
ثم ذكر رحمه الله اليوم صورا لبعضهم منها :
قيل لبعضهم قل لا إله إلا الله فأخذ يهذي بالغناء.
وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فقال كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها.
ونحن اليوم نشاهد ونسمع ونقرأ صورا كثيرة لسوء الخاتمة منها:
أن رجلا ذهب إلى أحد البلاد المعروفة بالفساد، وهناك في شقته شرب الخمر أعزكم الله، قارورة ثم الثانية ثم الثالثة، هكذا حتى شعر بالغثيان، فذهب إلى دورة المياه ليتقيأ.
أتدري أيها المحب ماذا حدث له؟
مات في دورة المياه، ورأسه في المرحاض أعزكم الله.
ومنها أن شابا كان لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، وكان لا يصلي أضاع طريق الهداية، وعندما نزلت به سكرات الموت قيل له قل لا إله إلا الله، يا لها من لحظات حرجة، كربات وشدائد وأهوال.
أتدرون ماذا قال: أخذ يردد أنه كافر بها. نسأل الله حسن الخاتمة.
ومنها أن شابا حصل له حادث على إحدى الطرق السريعة.
فتوقف بعض المارة لإسعافه فوجدوه يحتضر والموسيقى الغربية تنبعث بقوة من مسجل السيارة.
فأطفئوه وقالوا له قل لا إله إلا الله، فأخذ يسب الدين ويقول لا أريد أن أصلي، لا أريد أن أصوم ومات على ذلك والعياذ بالله.
يقول أحد العاملين في مراقبة الطرق السريعة، فجأة سمعنا صوت ارتطام قوي.
فإذا سيارة مرتطمة بسيارة أخرى، حادث لا يكاد يوصف، شخصان في السيارة في حالة خطيرة.
أخرجناهما ووضعناهما ممددين، وأسرعنا لإخراج صاحب السيارة الأخرى فوجدناه قد فارق الحياة.
عدنا للشخصين فإذا هم في حالة الاحتضار، هب زميلي يلقنهما الشهادة، لكنا اللسنتهما ارتفعت بالغناء، أرهبني الموقف، وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت.
أخذ يعيد عليهما الشهادتان وهما مستمران في الغناء، لا فائدة.
ثم بدأ صوت الغناء يخفت شيئا فشيئا، سكت الأول وتبعه الثاني. فقدوا الحياة لا حراك.
يقول لم أرى في حياتي موقفا كهذا، حملناهما في السيارة وقال زميلي إن الإنسان يختم له إما بخير أو بشر بحسب ظاهره وباطنه.
قال فخفت من الموت، وأتعضت من الحادثه، وصليت ذلك اليوم صلاة خاشعة.
قال وبعد مدة حصل حادث عجيب.
شخص يسير بسيارته سيرا عاديا، وتعطلت سيارته في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة.
ترجل عن سيارته لإصلاح العطل في أحد العجلات.
جاءت سيارة مسرعة فارتطمت بسيارته من الخلف، سقط مصابا إصابات بالغة فحملناه معنا في السيارة.
أتصلنا في المستشفى لاستقباله، شاب متدين في مقتبل العمر يبدو ذلك من مظهره.
عندما حملناه سمعناه يهمهم فلم نميز ما يقول، ولكن عندما وضعناه في السيارة وسرنا سمعنا صوتا مميزا.
إنه يقرأ القرآن وبصوت ندي، سبحان الله، لا تقول هذا مصاب.
الدم قد غطى ثيابه وتكسرت عظامه، بل هو على ما يبدو على مشارف الموت.
أستمر يقرأ بصوت جميل، يرتل القرآن، فجأة سكت.
التفت إلى الخلف فإذا به رافعا إصبع السبابة يتشهد ثم انحنى رأسه.
قفزت إلى الخلف، لمست يده، قلبه أنفاسه لاشيء، فارق الحياة.
نظرت إليه طويلا، سقطت دمعة من عيني، أخبرت زميلي أنه قد مات.
أنطلق زميلي في البكاء، أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف.
أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثرا.
وصلنا إلى المستشفى، وأخبرنا كل من قابلنا عن قصته.
الكثير تأثروا، ذرفت دموعهم، أحدهم بعد أن سمع قصته ذهب وقبل جبينه.
الجميع أصروا على الجلوس حتى يصلى عليه.
أتصل أحد الموظفين بمنزل المتوفى، كان المتحدث أخوه الذي قال عنه:
أنه يذهب كل أثنين لزيارة جدته التي في القرية، كان يتفقد الأرامل واليتامى والمساكين.(/8)
كانت تلك القرية تعرفه، فهو يحضر لهم الكتب والأشرطة، وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين، حتى حلوى الأطفال كان لا ينساها.
وكان يرد على من يثنيه عن السفر، ويذكر له طول لطريق، كان يرد عليه بقوله إنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن ومراجعته، وسماع الأشرطة النافعة، وإنني أحتسب إلى الله كل خطوة أخطوها.
يقول ذلك العامل في مراقبة الطريق:
كني أعيش مرحلة متلاطمة الأمواج تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه بكثرة فراغي وقلة معارفي، وكنت بعيدا عن الله، فلما صلينا على الشاب، ودفناه واستقبل أول أيام الآخرة، استقبلت أول أيام الدنيا، تبت إلى الله عسى أن يعفو الله عما سلف، وأن يثبتني على طاعته، وأن يختم لي بخير. انتهت القصة بتصرف من رسالة لطيفة بعنوان الزمن القادم.
قلت صدق ابن القيم لرحمه الله بقوله ( وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبرا، -أي من سوء الخاتمة- والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم).
أقولُ كيف يوفقُ لحسنِ الخاتمةِ من حُرم نفسَه الاستقامةَ والطاعةَ لله، فقلبُه بعيدٌ عن الله غافلٌ عنه، عبدٌ لشهوتِه وهواه، اللهم اجعل خير أعمالِنا خواتيمها، وتب علينا إن أنت التواب الرحيم.
وهذا موقف آخر، قال أبو عبد الله:
لا أعرف كيف أروي قصتي التي عشتها قبل فترة والتي غيرت مجرى حياتي كلها، والحقيقة أنني لم أقرر الكشف عنها إلا من خلال إحساسي بالمسؤولية اتجاه الله عز وجل، ولتحذير بعض الشباب الذي يعصي ربه، وبعض الفتيات الآتي يسعين وراء وهم زائف أسمه الحب، يقول:
كنا ثلاثة من الأصدقاء يجمع بيننا الطيش والعبث، كلا بل أربعة فقد كان الشيطان رابعنا، فكنا نذهب لاصطياد الفتيات الساذجات بالكلام المعسول ونستدرجهن إلى المزارع البعيدة، وهناك يفاجئنا بأننا قد تحولنا إلى ذئاب لا ترحم، لا نرحم توسلاتهن بعد أن ماتت قلوبنا ومات فيها الإحساس.
هكذا كانت أيامنا وليالينا في المزارع وفي المخيمات والسيارات وعلى الشاطئ.
إلى أن جاء اليوم الذي لن أنساه، ذهبنا كالمعتاد للمزرعة، كان كل شيء جاهز الفريسة لكل واحد منا، الشراب الملعون، شيء واحد نسيناه الطعام.
وبعد قليل ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته، كانت الساعة السادسة تقريبا عندما أنطلق.
ومرت الساعات دون أن يعود، وفي العاشرة شعرت بالقلق عليه.
فانطلقت بسيارتي أبحث عنه، وفي الطريق شاهدت بعض اللسنة النار تندلع على جانب الطريق، وعندما وصلت فوجئت بأنها سيارة صديقي، والنار تلتهمها وهي مقلوبة على حد جانبيها.
يقول أسرعت كالمجنون أحاول إخراجه من السيارة المشتعلة، وذهلت عندما وجدت نصف جسده قد تفحم تماما، لكنه كان ما يزال على قيد الحياة.
فنقلته إلى الأرض وبعدد دقيقة فتح عينيه وأخذ يهذي النار النار.
فقررت أن أحمله بسيارتي وأسرع إلى المستشفى.
لكنه قال لي بصوت باكي لا فائدة لن اصل، فخنقتني الدموع وأنا أرى صديقي يموت أمامي.
وفوجئت به يصرخ ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟
نظرت إليه بدهشة وسألته من هو ؟
قال بصوت كأنه قادم من بئر عميق، الله.
أحسست بالرعب يجتاح جسدي ومشاعري وفجأة أطلق صديقي صرخة مدوية ليلفظ أنفاسه الأخيرة.
ومضت الأيام لكنا صورة صديقي الراحل وهو يصرخ والنار تلتهمه: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له ؟
وجدت نفسي أتسأل وأنا ماذا سأقول له ؟
وليتساءل كل محروم ماذا سيقول لله ؟
يقول ففاضت عيناي واعترتني رعشة غريبة، وفي نفس اللحظة سمعت المؤذن لصلاة الفجر ينادي:
الله أكبر، الله أكبر حيا على الصلاة.
أحسست أنه نداء خاص بي يدعوني لأسدل الستار على فترة مظلمة من حياتي، يدعوني إلى طريق النور والهداية، فاغتسلت وتوضأت وطهرت جسدي من الرذيلة التي غرقت فيها لسنوات.
أديت الصلاة ومن يومها لم يفوتني فرض واحد. انتهت من رسالة لطيفة بعنوان (للشباب فقط).
ولعلَ الكثيرين من المحرومين يتساءلونَ أين الطريقَ وما هو العلاج ؟
وأقولُ العلاجُ ما قالهُ النبي (صلى الله علية وآله وسلم) لسفيانُ أبنُ عبد الله حينما قال يا رسولَ الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنُه أحداً غيرَك؟
فقال له الرسولُ (صلى الله علية وآله وسلم) ( قل آمنتُ بالله ثم أستقم ).
فيا أيها المحروم ويا أيتها المحرومة:
لنقل كما قال (صلى الله علية وآله وسلم) آمنا بالله ثم لنستقم على طاعة الله ونؤديَ طلب الله عز وجل منا.
لزوم الصراط المستقيم من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة.
يظن بعض السامعين لهذا الكلام أن الاستقامةَ نفلٌ فمن أرادها كان مستقيماً ومن لم ير فلا بأس عليه.
وهذا مفهومُ خاطئ، فإن كلَ مسلمٍ مطالبُ بالاستقامةِ، قال تعالى:
( فأستقم كما أمرت ومن تاب معك ).
وثمرات الاستقامةِ ثمرا ت عظيمةٌ تدفع صاحبَها إليها إلى الالتزام بشرع الله ومجاهدة النفس.(/9)
يقول الحق عز وجل ( إن الذين قالوا ربُنا اللهُ ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا، وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أوليائكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، نزلا من غفور رحيم ).
ويقول عز وجل ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه، ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ).
كم من المحرومين المعذبين ؟ كم من المعذبات المحرومات ؟
من شبابنا ورجالنا وإخواننا وأخواتنا نسأل الله لهم الهداية.
لقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف حتى استقاموا على الطريقة ففتحت لهم الأرض التي يغدقون فيها الماء، وتتدفق فيها الأرزاق.
ثم حادوا عن الطريقة فسلبت منهم خيراتها استلابا.
والله يقول (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ).
وكلُ ما سبق أيها الحبيبُ من صورِ الحرمان إنما هو بسبب البعدُ عن الاستقامةِ، وينال الإنسان من الحرمان بقدر بعده عن طاعة الله.
أخي الحبيب، أيتها الأخت الغالية، قف مع نفسِك لحظاتٍ بعيداً عن الدنيا بذهبها ومناصبِها وقصورِها اجلس مع نفسكَ بعيداً عن الأصحابِ والأولاد.
أخلو بنفسك وأسألها لماذا أعيشُ ؟ وماذا أريد ؟ وما هيَ النهاية ؟
من أين أتيت ؟ وإلى أين سأذهب ؟
ولكن إياك أن تكون كذلك البائس المحروم، الشاعر النصراني الذي يقول:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمضيت
وسأبقى سائرا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي ؟
لست أدري لست أدري.
إلى أخر تلك الطلاسم والأسئلة التي يثيرها في قصيدته ( حيرة وتردد).
ذهولا يشعر به المحرومون من نعمة الإيمان، أما نحن المسلمون المؤمنون فلا تقلقنا هذه الأسئلة ولله الحمد والمنة، فإننا نجد في ديننا الإجابة المفصلة عليه.
إننا نجد في قرءأننا وفي أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام الكلام الشافي الصادق عنها.
إن قرءأننا علمنا أننا نعيش لغاية وهدف:
( وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون). فهل أنت تعيش لهدف أيها الأخ الحبيب ؟
وعلمنا أن كل شيء في حياتنا إنما هو لله:
( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له) فهل كل شيء في حياتك لله ؟
فلا تعملُ إلا ما يرضي الله، ولا نتكلمُ إلا بما يرضي الله، فلا نرضي إلا الله ولو سخطَ الناسُ كلُهم.
فنحن نردد كل لحظه : لا إله إلا الله.
ونعلم أن من عاش عليها صادقا مخلصا عاش عزيزا سعيدا.
وأن من مات عليها صادقا مخلصا مات شهيدا في جنة عرضها السماوات والأرض.
إذا فاسمع وأعلم أيها المحروم:
إن من يعيش لهدف ومبدأ يتحرك ويعمل ويركع ويسجد ويذهب ويجيء ويحرص على وقته، ولا يجعل دقيقة للفراغ، فإن الفراغ قاتل والعطالة قاتلة، وأكثر الناس هموما وغموما العاطلون الفارغون، إنك يوم تفرغ يدخل عليك الهم والغم والوساوس والهواجس، وتصبح ميدانا لألاعيب الشياطين.
أيها الأخ ويا أيتها الأخت:
أجعلِ الهم هما واحدا هم الآخرةِ، هم لقاء الله عز وجل، هم الوقوفِ بين يديه:
( يومئذٍ تعرضونَ لا تخفى منكم خافية ).
أجعل عملَك خالصاً لوجه الله، احرص على رضاء الله، لا تنتظرَ شكراً من أحد.
أيها الأخ ويا أيتها الأخت:
ماذا قدمتَ لنفسك، ومذا قدمتي لنفسكي ؟ والله يقول:
( وقدموا لأنفسكم واتقوا الله وأعلما أنكم ملاقوه )
إن من ركبَ ظهرَ التفريطَ والتواني نزلَ به في دار العسرةِ والندامةِ.
إذاً فأولُ العلاجٌ التفكير الجاد بطريق الاستقامة والالتزام، فكن صاحبَ هدفٍ، وكن صاحبَ مبدأ لتشعر بقيمة الحياة، وأجعل همكَ دائماً رضاء الله وحده لا رضاء غيره، وطاعةَ الله لا طاعةَ غيره.
ومن العلاج وأسباب الاستقامة:
إرادة الله الهداية للعبد قال تعالى: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ).
وبعض الجهال والجاهلات يقولون: ماذا أفعل إذا لم يرد الله هدايتي؟
وأقول هذه شبهة نفسية ومدخل شيطاني لدى كثير من المحرومين، ولإجابة على هذا نقول:
لا بد من فعل الأسباب فأطلب الهداية، واسعي لفعل أسبابها وجاهد النفس، وسترى إن شاء الله النتائج، وهكذا كل أمر تريده لا بد معه من فعل الأسباب.
أتراك أيها المحروم إذا طلبت النجاح في الامتحان تدرس وتقرأ وتحفظ وتسهر، لو قلنا لك مثلا لا تدر ولا تقرأ ولا تسهر وإن كان الله أراد نجاحك فستنجح، أتوافق على هذا ؟ أتوافقين على هذا ؟
بالطبع لا، إذا لا بد من فعل الأسباب من ترك جلساء السوء، وترك وسائل الفساد والحرص على مجالس الصالحين وكثرة الذكر، والإلحاح بالدعاء بأن يفتح الله على قلبك، وأن يثبتك على طريق الحق.
إن رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم) كان يكثر في سجوده من قول:
(اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، فكيف بي وبك وبمن شابهنا من ضعاف الإيمان.
أدعو الله بصدق وبإلحاح أن يرزقك طريق الإستقامة.(/10)
وها أنت تدعو في اليوم أكثر من سبعة عشر مرة، إن كنت ممن يحافظ على الصلوات المفروضة تقول (اهدنا الصراط المستقيم )، ولكن مع الأسف بدون حضور قلب وبدون تدبر للمعنى.
فأصدق مع الله بطلب الهداية، وجاهد النفس فإن الله عز وجل يقول:
( واللذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
إذا فقبل مرحلةِ الهدايةَ لا بدَ من مرحلةِ المجاهدةِ وحبس النفس عن شهواتها، تذكر حلاوةِ الصلة بينك وبين الله يهن عليك مر المجاهدةِ، اعلم إن شرابَ الهوى حلو ولكنه يورث الشرق.
فاطلب الهداية من الله بصدق، واحرص على فعل أسبابها لعلك أن تشعر بالسعادة والراحة في الدنيا والآخرة.
وأسباب الهداية كثيرة لعلي ألخصها لك بالنقاط التالية، واحرص على فعلها:
- كن صاحب هدف وعش لمبدأ واعلم لماذا خُلقت.
- اعلم أن إرادة الله فوق كل شيء، لكنها في علم الغيب، فما عليك إلا أن تحرص على الخير وفعل الأسباب للوصول إليه، مع التنبه لحيل النفس ومداخل الشيطان.
- الإلحاح الشديد في الدعاء وكثرة ذكر الله.
- الحرص على مصاحبة الصالحين ونبذ أهل الفسق والفجور، فإنهم لا يهدئون حتى تكون مثلهم.
- مجاهدة النفس ومحاسبتها وهل أنت مستعد للموت أم لا.
- أتبع السيئة الحسنة تمحوها، وكل ما وقعت بذنب أو معصية أكثر من فعل الخيرات، تصدق وأطعم المساكين، صلي ركعتين، أحسن إلى الوالدين، أحرص على كل خير، فإن الله عز وجل يقول:
( إن الحسنات يذهبن السيئات ). والرسول (صلى الله علية وآله وسلم) يقول:
( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ).
- تب كل ما وقعتَ في ذنب أو معصية، وإياك، إياك من المللَ من التوبةِ ولو تبت من الذنبِ الواحدِ آلف مرةٍ، وأحذر من ضعف النفس وحيل الشيطان، فربما يحدُثك الشيطان أنك منافقٌ أو مخادعٌ لله بكثرةِ توباتك، والمهم أن تكون صادقا في التوبة والندم والإقلاع، وكلما رجعت للذنبِ بضعفٍ النفس أرجع للتوبة. قال الإمام النووي ( باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت التوبة).
وأنصحك بقراءة كتاب التوبة في صحيح مسلم لترى الأحاديث في عظم رحمة الله وفرحته بتوبة عبده، وهو غني عني وعنك وعن العالمين جميعا.
لكن إياك إياكَ والاغترار بسعة رحمة الله مع الإصرار على المعاصي، واعلم أن الله شديد العقاب كما أنه غفور رحيم.
والخلاصة أكثر من الاستغفار والتوبة، واعلم أن خير البشر حبيبنا وقدوتنا (صلى الله علية وآله وسلم) صح عنه أنه كان يستغفر الله في اليوم سبعين مرة، وفي رواية مائة مرة.
فكيف بي وبك أيها الحبيب على كثرة ذنوبنا وضعف نفوسنا.
فيا أيها الحب، يا أيها الأخوة، أيتها الأخوات:
لنكثر من التوبة مهما تكرر الذنب ففي الحديث المتفق عليه من حديث أبو هريرة أن الله عز وجل قال لذلك الرجل الذي تكرر منه الذنب فكرر التوبةَ فقال الُله له:
( علم عبدي أن له ربُ يغفر الذنبَ ويأخذَ به، غفرتُ لعبدي، غفرتُ لعبدي، غفرتُ لعبدي فليفعل ما شاء). وعن عقبة ابن عامر أن رجلا أتى النبي (صلى الله علية وآله وسلم) فقال :
( يا رسول الله إن أحدنا يذنب قال الرسول (صلى الله علية وآله وسلم) يكتب عليه، قال الرجلُ ثم يستغفر منه ويتوب قال يغفرُ له ويتابُ عليه، قال فيعودُ فيذنب، قال الرسولُ يكتب عليه، قال الرجل ثم يستغفر منه ويتوب، قال يغفرُ له ويتابُ عليه، قال فيعودُ فيذنب قال (صلى الله علية وآله وسلم) يكتبُ عليه ولا يملُ اللهُ حتى تملوا ). 16
فيا أخي الكريم:
إياك وإهمال التوبة مهما كانت معاصيك والمهم أن تكون جادا في التوبة صادقاً فيها.
أغلق أبواب الشيطان، وسد المنافذ، وافعل الأسباب وستجد أثر ذلك على قلبك.
حفظك الله ورعاك من كل سوء وأعانك ووفقك للتوبة النصوح.
أيها الأخ الحبيب، ويا أيتها الأخت الغالية:
لستي بعيدة ، وإنك قريب جدا، إن السعادةَ بالاستقامة وأنت قريب منها، المهم أن يكون عندك العزم والهم الصادق، قال ابن القيم في الفوائد ( أخرج بالعزمِ من هذا الفناءُ الضيق المحشو بالآفاتِ إلى ذلك الفناءَ الرحبِ الذي فيه ما لا عين رأت فهناك لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب ) انتهى كلامه.
فيا أيها المحب، أرجعِ إلى فطرتِك وإلى الخير في نفسك وستجد أنك قريب من الهداية والهدايةُ قريبةُ منك.
فإذا استقام على الهداية ركبنا…..يخضّر فوق هضابنا الإقدام
وترف أغصان السعادة فوقنا…..وتزول من اصقاعنا الأسقام
إن الدنيا بأموالِها ومناصبها وقصورها لا تستاهل قطرة دمع منك، حتى ولا هما أو زفرة من زفراتك.
فالرسول (صلى الله علية وآله وسلم) يقول ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيه إلا ذكر الله وما ولاه وعالما ومتعلما) 17.
والله عز وجل يقول (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب ).
فيا أيها المحب:
إن نفسكَ غاليةً، وربما اليومَ أو غدٍ أو بعد غد قالوا مات فلان والموتٌ حق، ولكن شتانَ بين من مات على صلاحٍ وهدايةٍ وبين من مات على فسق وغواية، فإياك والغفلة وطول الأمل والاغترارَ بالصحة.
فكم من صحيح مات من غير علة……وكم من سقيم عاش حينا من الدهر(/11)
ربما تضحك، وتسعد وتنام مسرورا، وقد لا تصبح:
يا راقد الليل مسرورا بأوله…….إن الحوادث قد يطرقنا أسحارا
فيا أيها الأخ، ويا أيتها الأخت: بادرا إلى الفضائل وسارعا إلى الصفات الحميدة والأفعال الجميلة، وكل ذلك بالأيمان الصادق بالله عز وجل.
.نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا جميعا، وأن يغفر لنا جميعا، وأن يجعلنا من الصادقين الصالحين المصلحين.
اللهم تب علينا توبة صادقة نصوحا.
اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك يا ارحم الراحمين
سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك.
أشهد أن لا إله إلا أنت.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
…………………………………………………………………
تم بحمد الله وفضله (اللهم اجعل هذا العمل خاصا لوجهك الكريم )
………………………………………………………………..
1//الترمذي والنسائي وأحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
2/ صحيح مسلم
3/ أحمد والدارمي والطبراني.
4/مسلم
5/ مسلم
6/ الترمذي
7/ ابن حبان وصححه االألباني.
8/ أحمد النسائي أبن ماجة أبن حبان والحاكم وصححه.
9/ احمد الطبري وابن ابي الدنيا، وقال الإلباني اسناده جيد.
10/نتفق عليه
12/مسلم
13/ الترمذي حسن صحيح
14/مسلم
15/متفق عليه
16/ الحاكم وقال صحيح على شرط البخاري، ووفقه الذهبي، وأخرجه الطبراني.
17/الترمذي(/12)
المختصر في حكم الأعياد المحدثة
الفصل الأول: بيان الحكم الشرعي في الأعياد المحدثة:
المسألة الأولى: حصر الأعياد في المشروع فقط:
تواترت النصوص الشرعية على حصر الأعياد الزمانية في الإسلام في عيدين حوليين هما الفطر والأضحى، لا ثالث لهما سوى العيد الأسبوعي يوم الجمعة، وأن ما سوى ذلك من الأعياد إنما هو محدث، سواء كان أسبوعياً أم حولياً أم قرنياً أم غير ذلك.
والأصل في هذا حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر))([1]).
فحصر النبي صلى الله عليه وسلم أعياد الإسلام في هذين اليومين ونهى عن غيرهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما)) يقتضي ترك الجمع بينهما، لا سيما وقوله: ((خيراً منهما)) يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية. وأيضاً فقوله لهم: ((إن الله قد أبدلكم)) لما سألهم عن اليومين فأجابوه بأنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية دليل على أنه نهاهم عنهما اعتياضاً بيومي الإسلام؛ إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذكر هذا الإبدال مناسباً، إذ أصل شرع اليومين الإسلاميين كانوا يعلمونه ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية"([2]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا))([3]).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فالدلالة من وجوه:
أحدها: قوله: ((إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا)) فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم كما أن الله سبحانه لما قال: {وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا} [البقرة:148] وقال: { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] أوجب ذلك اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم وذلك أن اللام تورث الاختصاص.
الثاني: قوله: ((وهذا عيدنا)) فإنه يقتضي حصر عيدنا في هذا فليس لنا عيد سواه..."([4]).
وثمة أدلةٌ أخرى أيضاً غير هذه تدلّ على النهي عن إحداث عيد آخر سوى العيد الذي شرعه الله تعالى لهذه الأمة.
وحسب المسلم من ذلك الحديث المشهور: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، وفي لفظ: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))([5]).
فهو أصل في رد كل المحدثات في الدين ومنها الأعياد الزمانية والمكانية.
وبيان ذلك: أن الأعياد بأنواعها هي من شعائر الدين حتى الأعياد المدنية فيشملها هذا الحديث، بخلاف العادات الأخرى المخترعة كالصناعات ونحوها فإنها لا تدخل في النهي بل الأصل فيها الإباحة، والله تعالى أعلم.
المسألة الثانية: النهي عن التشبه بالكفار في أعيادهم:
وتواترت الأدلة الشرعية أيضاً على النهي عن مشابهة الكفار في شيء من أمور دينهم، ومنها أعيادهم.
والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر، منها ما هو في النهي عن مطلق التشبه بهم، ومنها ما يختص بأمور معينة، ومنها ما ورد في خصوص الأعياد.
القسم الأول: النهي عن مطلق التشبه بهم:
1- قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18].
أخبر الحق سبحانه أنه جعل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على شريعة شرعها له وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته. وأهواؤهم هي ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك فهم يهوونه، وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه، ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين لهم في بعض أمورهم، ويسَرّون به، ويودّون أن لو بذلوا عظيماً ليحصل ذلك([6]).
2- وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ} [آل عمران:105].
نهى سبحانه عن مشابهة اليهود والنصارى الذين تفرقوا واختلفوا فصاروا أحزاباً وشيعاً، فجنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع، وكلما بعد الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها وهذه مصلحة جليلة([7]).
3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم))([8]).
قال شيخ الإسلام: "وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم"([9]).(/1)
4- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعنَّ سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم))، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!))([10]).
ونحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كفارس والروم؟ فقال: ((ومن الناس إلا أولئك؟!))([11]).
قال ابن بطال: "أعلم صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائماً عند خاصة من الناس"([12]).
وقال شيخ الإسلام: "وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك والذم لمن يفعله، كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات، فعلم أن مشابهتها اليهود والنصارى وفارس والروم مما ذمه الله ورسوله وهو المطلوب"([13]).
القسم الثاني: النهي عن مشابهتهم في أمور مخصوصة:
أما النهي عن مشابهتهم في أمور مخصوصة والأمر بمخالفتهم فقد تواترت الأدلة على معناه ومن ذلك:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم))([14]).
2- عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: ((خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب، وأوفوا اللحى))([15]).
3- عن شداد بن أوس رضي الله عنه مرفوعا: ((خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم))([16]).
القسم الثالث: النهي عن التشبه بهم في أعيادهم:
وفيما يلي خلاصة ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: "إذا تقرر هذا الأصل في مشابهتهم فنقول: موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من طريقين:
الطريق الأول العام: هو ما تقدَّم من أن هذا موافقةٌ لأهل الكتاب فيما ليس في ديننا ولا عادةِ سلفنا، فيكون فيه مفسدةُ موافقتهم، وفي تركه مصلحةُ مخالفتِهم، حتى لو كان موافقتهم في ذلك أمراً اتفاقياً ليس مأخوذاً عنهم لكان المشروع لنا مخالفتُهم لما في مخالفتهم من المصلحة كما تقدمت الإشارة إليه، فمن وافقهم فوَّت على نفسه هذه المصلحةَ وإن لم يكن قد أتى بمفسدة، فكيف إذا جمعهما؟!
ومن جهة أنه من البدع المحدثة، وهذه الطريق لا ريب أنها تدل على كراهة التشبه بهم في ذلك، فإن أقلَّ أحوال التشبّه بهم أن يكون مكروهاً، وكذلك أقلّ أحوال البدع أن تكون مكروهة، ويدلّ كثير منها على تحريم التشبه بهم في العيد، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم))، فإن موجبَ هذا تحريمُ التشبه بهم مطلقاً، وكذلك قوله: ((خالفوا المشركين)) ونحو ذلك، ومثل ما ذكرنا من دلالة الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأعيادهم من سبيلهم إلى غير ذلك من الدلائل.
وأما الطريق الثاني الخاص في نفس أعياد الكفار: فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار.
أما الكتاب: فمما تأوله غير واحد من التابعين وغيرهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً} [الفرقان:72]، فروى أبو بكر الخلال في الجامع بإسناده عن محمد بن سيرين في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قال: (هو الشعانين([17]))، وكذلك ذكر عن مجاهد قال: (هو أعياد المشركين)، وكذلك عن الربيع بن أنس قال: (أعياد المشركين). وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع، فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عمل الزور لا مجرد شهوده؟! ثم مجرَّد هذه الآية فيها الحمد لهؤلاء والثناء عليهم، وذلك وحده يفيد الترغيب في ترك شهود أعيادهم وغيرها من الزور، ويقتضي الندب إلى ترك حضورها، وقد يفيد كراهة حضورها لتسمية الله لها زوراً.
فأما تحريم شهودها من هذه الآية ففيه نظر، ودلالتها على تحريم فعلها أوجه، لأن الله تعالى سماها زوراً، وقد ذم من يقول الزور، وإن لم يضر غيره لقوله في المتظاهرين: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:2].
فسواء كانت الآية دالة على تحريم ذلك أو على كراهته أو استحباب تركه حصل أصل المقصود، إذ من المقصود بيان استحباب ترك موافقتهم أيضاً، فإن بعض الناس قد يظن استحباب فعل ما فيه موافقة لهم لما فيه من التوسيع على العيال أو من إقرار الناس على اكتسابهم ومصالح دنياهم، فإذا علم استحباب ترك ذلك كان أول المقصود.(/2)
وأما السنة: فروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا:كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)) رواه أبو داود بهذا اللفظ([18])، فوجه الدلالة أن العيدين الجاهليين لم يقرَّهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة بل قال: ((إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين))، والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدَل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما.
الحديث الثاني حديث ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)) قالوا: لا، قال: ((فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟)) قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم))([19])، هذا الإسناد على شرط الصحيحين، فوجه الدلالة أن هذا الناذر كان قد نذر أن يذبح نعماً، إما إبلاً وإما غنماً، وإما كانت قضيتين([20])، بمكان سماه فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)) قال: لا… الحديث، وفيه قال: ((لا وفاء لنذر في معصية))، وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم ومحل أوثانهم معصية لله.
يوضح ذلك أن العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد، إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك.
فالعيد يجمع أموراً: منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات، وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقاً، وكل من هذه الأمور قد يسمَّى عيداً، فالزمان كقوله صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة: ((إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيداً))([21])، والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس رضي الله عنهما: شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم([22])، والمكان كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا قبري عيداً))([23]). وقد يكون لفظ العيد اسماً لمجموع اليوم والعمل فيه، وهو الغالب كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعهما ـ يا أبا بكر ـ فإن لكل قوم عيداً، وإن هذا عيدنا)).
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل بها عيد من أعيادهم؟)) يريد اجتماعاً معتاداً من اجتماعاتهم التي كانت عيداً، فلما قال: لا قال له: ((أوف بنذرك))، وهذا يقتضي أن كون البقعة مكاناً لعيدهم مانعٌ من الذبح بها وإن نذر، كما أن كونها موضعَ أوثانهم كذلك، وإلا لما انتظم الكلام ولا حسن الاستفصال.
ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها، أو لمشاركتهم في التعييد فيها، أو لإحياء شعار عيدهم فيها ونحو ذلك، إذ ليس إلا مكان الفعل أو نفس الفعل أو زمانه. وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذوراً فكيف نفس عيدهم؟!
وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان. وأعياد الكتابيين التي تتخذ ديناً وعبادة أعظم تحريماً من عيد يتَّخذ لهواً ولعباً، لأن التعبّد بما يسخطه الله ويكرهه أعظم من اقتضاء الشهوات بما حرَّمه.
ومما ورد في السنة أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً، والنصارى بعد غد)) متفق عليه([24]).
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة عيداً في غير موضع، ونهى عن إفراده بالصوم لما فيه من معنى العيد. ثم إنه في هذا الحديث ذكر أن الجمعة لنا كما أن السبت لليهود والأحد للنصارى، واللام تقتضي الاختصاص، فإذا نحن شاركناهم في عيدهم يوم السبت أو عيد يوم الأحد خالفنا هذا الحديث.
وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي فكذلك في العيد الحولي([25]) إذ لا فرق.
وأما الإجماع والآثار فمن وجوه:
أحدها: ما قدمت التنبيه عليه من أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية يفعلون أعيادهم التي لهم، والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس، ثم لم يكن على عقد السابقين من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك، فلولا قيام المانع في نفوس الأمة كراهة ونهياً عن ذلك وإلا لوقع ذلك كثيراً، إذ الفعل مع وجود مقتضيه وعدم منافيه واقع لا محالة، والمقتضي واقع فعلم وجود المانع، والمانع هنا هو الدين، فعلم أن الدين دين الإسلام هو المانع من الموافقة وهو المطلوب.(/3)
الثاني: أنه قد تقدم في شروط عمر رضي الله عنه التي اتفقت عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها فكيف يسوغ للمسلمين فعلها؟! أوَليس فعل المسلم لها أشدَّ من فعل الكافر لها مظهراً لها؟!
الثالث: روى البيهقي في باب كراهة الدخول على أهل الذمة في كنائسهم والتشبه بهم بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لا تعلَّموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم)([26])، وروى بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (من بنى ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة)([27]).
فهذا عمر رضي الله عنه نهى عن تعلم لسانهم وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم، فكيف بفعل بعض أفعالهم أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم؟! أليست موافقتُهم في العمل أعظمَ من الموافقة في اللغة؟! أوَليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظمَ من مجرد الدخول عليهم في عيدهم؟! وإذا كان السخط ينزل عليهم يومَ عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد تعرض لعقوبة ذلك؟!
وأما عبد الله بن عمرو فصرح أنه من بنى ببلادهم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم، وهذا يقتضي أنه جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور، أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار، وإن كان الأول ظاهرَ لفظه، فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية"([28]).
ثم نقل شيخ الإسلام نصوصاً عن الإمام أحمد رحمه الله في المنع من شهود أعياد النصارى واليهود، ومثله عن القاضي أبي يعلى وأبي الحسن الآمدي والخلال.
ثم قال: "وأما الاعتبار في مسألة العيد فمن وجوه:
أحدها: أن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه: {لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67]، كالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره، ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه، وأما مبدؤها فأقل أحواله أن يكون معصية، وإلى هذا الاختصاص أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن لكل قوم عيداً وإن هذا عيدنا))، وهذا أقبح من مشاركتهم في لبس الزنار([29]) ونحوه من علاماتهم، لأن تلك علامة وضعية ليست من الدين، وإنما الغرض بها مجرد التمييز بين المسلم والكافر، وأما العيد وتوابعه فإنه من الدين الملعون هو وأهله، فالموافقة فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه.
الوجه الثاني: أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله لأنه إما محدث مبتدع وإما منسوخ، وأحسن أحواله ولا حسن فيه أن يكون بمنزلة صلاة المسلم إلى بيت المقدس. هذا إذا كان المفعول مما يتديَّن به، وأما ما يتبع ذلك من التوسع في العادات من الطعام واللباس واللعب والراحة فهو تابع لذلك العيد الديني.
الوجه الثالث: أنه إذا سوّغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله، حتى يصير عادة للناس بل عيداً حتى يضاهى بعيد الله، بل قد يزاد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر"([30]).
فقد تبين أن أعياد المسلمين محصورة فيما شرعه الله تعالى لهم، وأن لكل أمة منسكاً وعيداً مختصاً بهم هو من شعائر ملتهم، وأن الله عز وجل نهى المسلمين عن التشبه بالكافرين في أعيادهم وفي كل ما يختصون به من أمور دينهم وشعائرهم، وأن هذا مما تواترت به النصوص والأدلة الشرعية وأجمع عليه سلف هذه الأمة من زمن الصحابة رضي الله عنهم، إذ لم يؤثر عن واحد منهم أنه احتفل بعيد من الأعياد سوى أعياد المسلمين، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، فهم كانوا أحرص على الخير ممن جاء بعدهم، وكذا التابعون لهم لم يحدثوا احتفالاً بذكرى يوم معين لا إسلامي ولا جاهلي ولا غيره، مع وجود المقتضي لذلك وهو كثرة المناسبات وأيام الفرح والسرور، وانتفاء الموانع لإقامة الأعياد والاحتفالات بذكرى الأيام الإسلامية سوى مانع واحد وهو أن ذلك إحداث في دين الله ومعصية مكروهة كراهة تحريم.(/4)
ومضى على ذلك أتباع التابعين وأئمة المسلمين مستنين بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم مقتدين بآثار سلفهم، هذا وهم يرون سائر الأمم المحيطة بهم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وغيرهم يحتفلون بأيام خاصة، منها ما توارثوه ممن سبقهم، ومنها ما أحدثوه هم من أعياد ومواسم بحسب ما تجدد لهم من أمور وأحداث دينية ودنيوية، فلم يلتفت المسلمون إلى ذلك، ولم يقل أحد منهم: إنَّا أحق بالاحتفال بالأيام والمناسبات الإسلامية التي نصر الله فيها الحق وأهله ودحر الباطل وأهله كيوم بدر مثلاً أو الخندق أو الفتح أو القادسية أو اليرموك أو غيرها، مع أن منها ما امتن الله به على المؤمنين في كتابه كما في سور الأنفال والتوبة والأحزاب والفتح وغيرها. ولم يحتفلوا كذلك بذكرى فتوح البلدان المشهورة كفتح مصر والشام والعراق وما وراء النهر مع قوة الداعي إلى ذلك، ولا اجترأ الخلفاء والملوك والأمراء أن يحتفلوا بأيام المسلمين أو أيامهم الخاصة بهم، وإنما حدث ذلك حين تولى العبيديون الذين سموا أنفسهم بالفاطميين.
بدعة الاحتفال بالمولد النبوي:
لعل أول من يعزى إليه إحداث الأعياد والاحتفالات عامة والموالد خاصة هم العبيديون، قال المقريزي: "كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم، وهي موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات"([31]). وذكر بعض ما يفعل في تلك الاحتفالات والأعياد خاصة الموالد الستة.
وذكر الشيخ محمد بخيث المطيعي ـ مفتي الديار المصرية سابقاً ـ أن أولَ من أحدث تلك الاحتفالات بالموالد الستة ـ أي: مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومولد علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ومولد الخليفة الحاضر ـ هو المعز لدين الله وذلك في سنة 362هـ، وأن هذه الاحتفالات بقيت إلى أن أبطلها الأفضل بن أمير الجيوش بعد ذلك.
وكذا قال الشيخ علي محفوظ([32]) والأستاذ علي فكري([33]) وغيرهم ذكروا أن العبيديين هم أول من أحدث هذه الأعياد والاحتفالات.
من العبيديون؟
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقد كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسراً، فصاروا كأمس الذاهب كأن لم يغنوا فيها.
وكان أول من ملك منهم المهدي، وكان من سلمية حداداً، وكان يهودياً فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله، وادعى أنه شريف علوي فاطمي، وقال عن نفسه: إنه المهدي، وقد راج لهذا الدعي الكذاب ما افتراه في تلك البلاد، ووازره جماعة من الجهلة وصارت له دولة وصولة، ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة إليه، وصار ملكاً مطاعاً يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض.
ثم كان من بعده ابنه القائم محمد، ثم ابنه المنصور إسماعيل، ثم ابنه المعز معد وهو أول من دخل ديار مصر منهم وبنيت له القاهرة المعزية والقصران، ثم ابنه العزيز نزار، ثم ابنه الحاكم منصور، ثم ابنه الطاهر علي، ثم ابنه المستنصر معد، ثم ابنه المستعلي أحمد، ثم ابنه الآمر منصور، ثم ابن عمه الحافظ عبد المجيد، ثم ابنه الظافر إسماعيل، ثم الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبد الله وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشر ملكاً، ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة.
وقد كان الفاطميون من أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات، وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية"([34]).
سلطان إربل وإحياء الموالد:
وكان بالموصل رجل من الزهاد هو الشيخ عمر بن محمد الملا، وكانت له زاوية يقصد فيها، وله في كل سنة دعوة في شهر المولد يحضر فيها عنده الملوك والأمراء والعلماء والوزراء ويحتفل بذلك([35]).
قال أبو شامة في معرض كلامه عن الاحتفال بالمولد النبوي: "وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره رحمهم الله تعالى"([36]).(/5)
وصاحب إربل هذا هو المظفر أبو سعيد كوكبري بن زيد الدين علي بن تبكتكين سلطان إربل المتوفى سنة 630هـ، وهو أشهر من بالغ في الاحتفال بالمولد النبوي بعد العبيديين، فكان يعمل لذلك احتفالاً هائلاً كما ذكر ابن كثير في تاريخه وقال: "قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى. قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية، فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم... ـ إلى أن قال: ـ وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار"([37]).
وقال الشيخ علي محفوظ: "وأول من أحدث المولد النبوي بمدينة إربل الملك المظفر أبو سعيد في القرن السابع، وقد استمر العمل بالموالد إلى يومنا هذا، وتوسع الناس فيها، وابتدعوا بكل ما تهواه أنفسهم وتوحيه إليهم شياطين الإنس والجن، ولا نزاع في أنها من البدع، إنما النزاع في حسنها وقبحها"([38]).
فتبين مما سبق أن الاحتفال بالموالد ونحوها هو من ابتداع العبيديين، ثم تابعهم عليها غيرهم من الزهاد والملوك وقلدهم في ذلك العوام، وقد علمت أن هذا كله مخالف لدلالات النصوص الشرعية ولعمل سلف هذه الأمة في القرون المفضلة.
ويدخل في ذلك كل الاحتفالات والأعياد المحدثة سواء كانت متعلقة بمناسبات دينية كذكرى المولد النبوي أو الإسراء والمعراج أو الهجرة أو الغزوات والفتوحات، أم تعلقت بغيرها من المناسبات كالأعياد الوطنية ونحوها، فكلها داخل في النهي، ويعظم خطرها ونكارتها إذا عرف أنها مأخوذة من أعياد الكفار، كأعياد اليوبيل بأنواعه: الفضي والذهبي والماسي([39]).
المسألة الثالثة: من شبه المخالفين:
ومن شبه المخالفين في هذه الأعياد ما يلي:
الشبهة الأولى: إن هذه ليست أعياداً وإنما هي احتفالات أو مناسبات وذكريات فقط، بخلاف الأعياد التي يشرع فيها ذكر معين وصلاة معينة ونحو ذلك.
والجواب: إن هذا الذي ذكرتموه من الاحتفالات أو الذكريات المتكررة في الأعوام أو الشهور أو غير ذلك هو معنى العيد، إذ العيد ـ كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله ـ هو اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائد إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو نحو ذلك.
وقال: "فالعيد يجمع أموراً: منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات"([40]).
فيقال للمحتفلين بالمولد النبوي والإسراء والمعراج ونحو ذلك: ألستم تجتمعون في كل عام لهذا الغرض وتحتفلون به وتعملون لذلك برنامجاً خاصاً وتقيمون لذلك عادة ولائم خاصة بهذه المناسبة؟! ويقال للمحتفلين بالأعياد المدنية أو الوطنية أو اليوبيل: ألستم تفعلون نحو ذلك؟! فهذا هو العيد سواء سميتموه به أو بغيره فالعبرة بالحقائق والمسميات، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها))([41]).
تنبيه: هناك فرق بين هذا الاحتفال الذي يعود ويتكرر وبين أن تحدث نعمة للمرء فيفرح لها ويصنع وليمة يدعو لها الناس فإن هذا ليس عيداً، بل هو من المباحات ما لم يشتمل على شيء من الأمور التي تخرجه إلى المكروه أو المحرم. ولو قدر أن هذا الشخص أعاد الاحتفال بمناسبة تلك النعمة أعواماً أخرى فإن هذا يصيره عيداً ويدخله في حكم المحدثات من الأعياد والاحتفالات.
وليس ذلك مختصاً بالنعم بل حتى الذي يفعله بعض الناس من الاحتفال بذكرى الأحزان، فيجتمعون لذلك بمناسبة مرور عام أو أكثر، كما يفعل هذا بعض المسلمين في فلسطين أو غيرها في تظاهراتهم بمناسبة ذكرى الاحتلال فهو داخل في مسمى العيد([42]) وفيه تشبه بالكفار وإن لم يصحبه فرح وولائم ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد عادة.
الشبهة الثانية: إن هذه الاحتفالات بمناسبة ولادة ذلك المعظم من نبي أو صالح أو ملك أو غيرهم أو بمناسبة إنشاء كلية أو مصنع أو غيره لا يقصد فيها التشبه، بل هي من العادات التي الأصل فيها الحل.
والجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الاحتفالات المذكورة وما شابهها مأخوذة من الكفار إما من الكتابيين أو من غيرهم كما يعلم بالاستقراء، فالاحتفال بالمناسبات الدينية أصله مأخوذ من النصارى واليهود فقد أحدثوا من ذلك الشيء الكثير فمن أعياد النصارى المشهورة: عيد مولد المسيح ورأس السنة الميلادية والمائدة إحياءً لذكرى المائدة المنزلة من السماء([43])، والجامع لهذه الأعياد هو الذكرى بمناسبة دينية.
واليوبيل عيد مأخوذ من اليهود، وهو عيد نزول الوصايا العشر على موسى عليه السلام فوق جبل سيناء([44]).
ومثل ذلك الأعياد المدنية فهي من سنن اليهود والنصارى، ومنها عيد الثورة وعيد العمال وعيد الأم وعيد البنوك وعيد المرأة ويوم الشجرة وأسبوع النظافة ويوم الصحة العالمية ويوم الطفل… الخ([45]).(/6)
وإن قدر أن هناك عيداً أحدثه المسلمون، لم يسبقهم إلى إحداثه الكفار، فإن هذا لا ينفي التشبه بهم لأن إحداث الأعياد إحياءً لذكرى معينة فرحاً بها أو حزناً عليها هو من سنن اليهود والنصارى، يدلك على ذلك ما رواه البخاري ومسلم أن يهودياً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً! قال: فأي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3]([46]).
الوجه الثاني: أن التشبه بهم لا يشترط فيه أن يقصد إلى الفعل من أجل أنهم فعلوه، بل يكفي أن يكون هذا الأمر مما اختصوا به وهو مأخوذ عنهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه، وهو نادر، ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذاً عن ذلك الغير. فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضاً ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبهاً نظر، لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من المخالفة كما أمر بصبغ اللحى وإحفاء الشوارب مع أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود)) دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل، بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا، وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية"([47]).
الوجه الثالث: أنه لو قدر أن هذا الاحتفال ليس فيه تشبه بهم ولا هو ذريعة إليه فإن قصد مخالفتهم مطلوب مرغب فيه والأدلة على ذلك كثيرة.
منها: الأمر بمخالفتهم في صيام عاشوراء بأن يضاف إليه التاسع كما صح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما([48]).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فتدبر هذا، يوم عاشوراء يوم فاضل يكفر سنة ماضية، صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه ورغب فيه، ثم لما قيل له قبيل وفاته: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى!! أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه، وعزم على ذلك"([49]).
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا المشركين)) و((خالفوا اليهود والنصارى)) في مسائل عدة، كتغيير الشيب، ولباس النعال في الصلاة وإعفاء اللحى وحف الشوارب واتخاذ القصة من الشعر وحلق القفا وتعجيل الفطور وغير ذلك من العادات والعبادات، فهذا يدل على أن مخالفتهم مطلوبة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "قد بالغ صلى الله عليه وسلم في أمر أمته بمخالفتهم في كثير من المباحات وصفات الطاعات لئلا يكون ذلك ذريعة إلى موافقتهم في غير ذلك من أمورهم، ولتكون المخالفة في ذلك حاجزاً ومانعاً عن سائر أمورهم، فإنه كلما كثرت المخالفة بينك وبين أصحاب الجحيم كان أبعد عن أعمال أهل الجحيم"([50]).
وقال: "إن نفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه"([51]).
وقال: "فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة، والمشاركة في الهدي الظاهر توجب مناسبة وائتلافاً وإن بعد المكان والزمان، وهذا أمر محسوس. فمشابهتهم في أعيادهم ولو بالقليل هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة"([52]).
وقال: "حتى لو كان موافقتهم في ذلك أمراً اتفاقياً ليس مأخوذاً عنهم لكان المشروع لنا مخالفتهم لما في مخالفتهم من المصلحة كما تقدمت الإشارة إليه، فمن وافقهم فوت علىنفسه هذه المصلحة وإن لم يكن أتى بمفسدة فكيف إذا جمعهما؟!"([53]).
المسألة الرابعة: الأعياد المكانية:
ولا تختص الأعياد بالزمان بل تشمل المكان أيضاً، وقد دل على ذلك الحديث المتقدم في الرجل الذي نذر أن ينحر إبلاً بمكان اسمه: بوانة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل كان فيها عيد من أعيادهم؟)) وهذا صريح في أن العيد يطلق على المكان أيضاً.
وقد كان للجاهلية أعياد مكانية مشهورة يحجون إليها ويعظمونها وينتابونها في أيام معلومة ومنها: اللات لأهل الطائف، والعزى لأهل مكة، ومناة لأهل المدينة، وذو الخلصة لأهل اليمن، فكانوا يشدون إليها الرحال ويقيمون عندها أعيادهم([54]).
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تجعلوا قبري عيداً)) الحديث([55]).
قال شيخ الإسلام: "والعيد إذا جعل اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة عنده أو لغير العبادة كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة جعلها الله عيداً مثابة للناس يجتمعون فيها وينتابونها للدعاء والذكر والنسك. وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها، فلما جاء الإسلام محا الله ذلك كله، وهذا النوع من الأمكنة يدخل فيه قبور الأنبياء والصالحين وسائر القبور"([56]).(/7)
وقول شيخ الإسلام رحمه الله في تعريف العيد المكاني: "هو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة عنده أو لغير العبادة" يشمل كل الأعياد المكانية التي يتخذها الناس، إما بقصد العبادة، كالذين يحجون للقبور ويقصدونها للطواف بها أو الذبح أو النذر لها أو للدعاء والصلاة عندها أو للتبرك بترابها كما يفعله كثير من الجهال في زماننا هذا في حجهم للقبر النبوي أو لمشهد الحسين أو الشافعي أو البدوي أو غيرها من المشاهد، وإما بقصد اللهو واللعب ونحو ذلك كالمهرجانات الوطنية التي تقام في بعض الأماكن وينتابها الناس بقصد البقعة إما لأن بعض الرؤساء والمعظمين ولدوا فيها أو ماتوا فيها أو كانت لهم فيها حادثة ما، فتتخذ عيداً من أجل ذلك مضاهاة للأعياد المكانية المشروعة كالكعبة والمشاعر([57]).
([1]) أخرجه أحمد (12006)، وأبو داود في كتاب الصلاة (1134)، والنسائي في كتاب العيدين (1556)، والضياء في المختارة (1911)، قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (1/432): "إسناده على شرط مسلم"، وصححه الحافظ في الفتح (2/442).
([2]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/434).
([3]) أخرجه البخاري (2/455)، ومسلم (892).
([4]) اقتضاء الصراط المستقيم (446-447).
([5]) أخرجه البخاري (5/301)، ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها، واللفظ الثاني لمسلم.
([6]) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/85).
([7]) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/88).
([8]) أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (1/267)، والبيهقي في الشعب (2/75)، قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده ابن حجر كما في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
([9]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/237).
([10]) رواه البخاري (13/300)، ومسلم (2669).
([11]) رواه البخاري (7319).
([12]) انظر: فتح الباري (13/301).
([13]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/147).
([14]) رواه البخاري (6/496)، ومسلم (2103).
([15]) رواه البخاري (10/351)، ومسلم (259) واللفظ له.
([16]) رواه أبو داود (652)، والحاكم (1/260) وصححه.
([17]) الشعانين: عيد من أعياد النصارى.
([18]) أخرجه أحمد (12006)، وأبو داود في كتاب الصلاة (1134)، والنسائي في كتاب العيدين (1556)، والضياء في المختارة (1911)، قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (1/432): "إسناده على شرط مسلم"، وصححه الحافظ في الفتح (2/442).
([19]) رواه أبو داود (3313).
([20]) ذكر شيخ الإسلام أحاديث أخرى في نفس المعنى فيها اختلاف في بعض الألفاظ عن هذا الحديث.
([21]) رواه ابن ماجه (1098) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأشار البوصيري في الزوائد (1/208) إلى ضعف بعض رواته. وحسن إسناده المنذري في الترغيب (1/498)، وسكت عليه الحافظ في الفتح (2/387)، وله شاهد من حديث أبي هريرة، انظر: صحيح الجامع (2258).
([22]) رواه البخاري (2/453)، ومسلم (884).
([23]) أخرجه أحمد (2/367)، وأبو داود: كتاب المناسك، باب زيارة القبور (2042)، ابن أبي شيبة في المصنف (2/150)، وأبو يعلى في مسنده (1/361)، وصححه الضياء في المختارة (2/49)، وقال الهيثمي في المجمع: "فيه حفص بن إبراهيم الجعفري، ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً، وبقية رجاله ثقات"، وقال الألباني في تحذير المساجد (ص95): "وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم، إلا أن أحدهم ـ وهو علي بن عمر ـ مستور كما قال الحافظ في التقريب"، وانظر: صحيح أبي داود (1796) وأحكام الجنائز (ص213).
([24]) رواه البخاري (2/354)، ومسلم (855).
([25]) وكذا في عيد القرن أو نصفه أو ربعه، كما لا يخفى.
([26]) السنن الكبرى (9/234).
([27]) السنن الكبرى (9/234).
([28]) اقتضاء الصراط المستقيم.
([29]) الزنار: ما يلبسه الذمي يشده على وسطه (لسان العرب4/330). وهو من علاماتهم المميزة لهم عن المسلمين كما هو الحال في "رباط العنق" المعروف في زماننا هذا والذي قلدهم فيه المسلمون مع ظهور شكل الصليب فيه والله المستعان.
([30]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/425-474). وهذا هو الحال في سائر الأعياد المحدثة والاحتفالات المبتدعة، حيث صارت عادة لكثير من المسلمين مع أن أصلها مأخوذ من الكافرين.
([31]) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (1/490).
([32]) الإبداع في مضار الابتداع (ص251).
([33]) المحاضرات الفكرية. المحاضرة العاشرة (ص84).
([34]) البداية والنهاية (12/267) باختصار.
([35]) ذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية (12/263) في حوادث عام 566هـ.
([36]) الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص13).
([37]) البداية والنهاية (13/136-137).
([38]) الإبداع في مضار الابتداع (ص251).(/8)
([39]) كتب فضيلة الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله في تفصيل بدعة اليوبيل كتاباً ماتعاً وسمه بـ "عيد اليوبيل بدعة في الإسلام" ذكر فيه أن اليوبيل هو من أعياد اليهود الخاصة بهم فكان تحريمه من جهتين: التشبه والابتداع، وضمنه بحوثاً لبعض الكتاب في هذا الموضوع وفتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
([40]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/441-442).
([41]) رواه النسائي (8/312) وغيره.
([42]) للنصارى أعياد مشابهة منها "جمعة الصلبوت" التي يزعمون كذبا أن المسيح عليه السلام صلب فيها، ونحو ذلك أيضاً ما يفعله الرافضة يوم عاشوراء حزناً على قتل الحسين رضي الله عنه.
([43]) انظر "عيد اليوبيل" للشيخ بكر أبو زيد (ص13).
([44]) عيد اليوبيل (ص31).
([45]) عيد اليوبيل (ص 18، 19).
([46]) انظر: جامع الأصول (2/113).
([47]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/238).
([48]) رواه مسلم (1133).
([49]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/249).
([50]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/445).
([51]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/488).
([52]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/171) باختصار.
([53]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/425).
([54]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/643) و "عيد اليوبيل بدعة في الإسلام" (ص10).
([55]) رواه أحمد (2/367) وأبو داود (2/534) بإسناد جيد وله شواهد أخرى بلفظ (لا تتخذوا قبري عيداً).
([56]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/660).
([57]) وقد أفاض شيخ الإسلام في شرح ذلك وتفصيله في كتابه الاقتضاء (2/642) وما بعدها، وتبعه على ذلك ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/149-152) فليرجع إليهما من شاء.
الفصل الثاني: كشف شبهات المخالفين في الأعياد المحدثة.
وحيث إن المخالفين قد عارضوا ذلك بشبهات وحجج سوى ما تقدم زعموا أنها تدل على إباحة أو استحباب تلك الأعياد والاحتفالات أو بعضها فقد خصصت القسم الثاني من هذا الكتاب في كشف شبهاتهم والرد على حججهم وأدلتهم.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(/9)
المخدرات اضرار
مضار المخدرات كثيرة ومتعددة ومن الثابت علمياً أن تعاطي المخدرات يضر بسلامة جسم المتعاطي وعقله ...وإن الشخص المتعاطي للمخدرات يكون عبئاً وخطراً على نفسه وعلى أسرته وجماعته وعلى الأخلاق والإنتاج وعلى الأمن ومصالح الدولة وعلى المجتمع ككل.بل لها أخطار بالغة أيضاً في التأثير على كيان الدولة السياسي .. ونذكر هنا الأضرار الجسمية والنفسية والاجتماعية والسياسية.
الأضرار الجسمية *
فقدان الشهية للطعام مما يؤدي إلى النحافة والهزال والضعف العام المصحوب باصفرار الوجه أو اسوداده لدى المتعاطي كما تتسبب في قلة النشاط والحيوية وضعف المقاومة للمرض الذي يؤدي إلى دوار وصداع مزمن مصحوباً باحمرار في العينين ، ويحدث اختلال في التوازن والتأزر العصبي في الأذنين.
2- يحدث تعاطي المخدرات تهيج موضعي للأغشية المخاطية والشعب الهوائية وذلك نتيجة تكوّن مواد كربونية وترسبها بالشعب الهوائية حيث ينتج عنها التهابات رئوية مزمنة قد تصل إلى الإصابة بالتدرن الرئوي.
3- يحدث تعاطي المخدرات اضطراب في الجهاز الهضمي والذي ينتج عنه سوء الهضم وكثرة الغازات والشعور بالانتفاخ والامتلاء والتخمة والتي عادة تنتهي إلى حالات الإسهال الخاصة عند تناول مخدر الأفيون ، والإمساك.
كذلك تسبب التهاب المعدة المزمن وتعجز المعدة عن القيام بوظيفتها وهضم الطعام كما يسبب التهاب في غدة البنكرياس وتوقفها عن عملها في هضم الطعام وتزويد الجسم بهرمون الأنسولين والذي يقوم بتنظيم مستوى السكر في الدم.
4- أتلاف الكبد وتليفه حيث يحلل المخدر (الأفيون مثلاً) خلايا الكبد ويحدث بها تليفاً وزيادة في نسبة السكر ، مما يسبب التهاب وتضخم في الكبد وتوقف عمله بسبب السموم التي تعجز الكبد عن تخليص الجسم منها.
5- التهاب في المخ وتحطيم وتآكل ملايين الخلايا العصبية التي تكوّن المخ مما يؤدي إلى فقدان الذاكرة والهلاوس السمعية والبصرية والفكرية.
6- اضطرابات في القلب ، ومرض القلب الحولي والذبحة الصدرية ، وارتفاع في ضغط الدم ، وانفجار الشرايين ، ويسبب فقر الدم الشديد تكسر كرات الدم الحمراء ، وقلة التغذية ، وتسمم نخاع العظام الذي يضع كرات الدم الحمراء.
7- التأثير على النشاط الجنسي ، حيث تقلل من القدرة الجنسية وتنقص من إفرازات الغدد الجنسية.
8- التورم المنتشر ، واليرقات وسيلان الدم وارتفاع الضغط الدموي في الشريان الكبدي.
9- الإصابة بنوبات صرعية بسبب الاستبعاد للعقار ؛ وذلك بعد ثمانية أيام من الاستبعاد.
10- إحداث عيوباً خلقية في الأطفال حديثي الولادة.
11- مشاكل صحية لدى المدمنان الحوامل مثل فقر الدم ومرض القلب ، والسكري والتهاب الرئتين والكبد والإجهاض العفوي ، ووضع مقلوب للجنين الذي يولد ناقص النمو ، هذا إذا لم يمت في رحم الأم.
12- كما أن المخدرات هي السبب الرئيسي في الإصابة بأشد الأمراض خطورة مثل السرطان.
13- تعاطي جرعة زائدة ومفرطة من المخدرات قد يكون في حد ذاته (انتحاراً).
* الأضرار النفسية
يحدث تعاطي المخدرات اضطراباً في الإدراك الحسي العام وخاصة إذا ما تعلق الأمر بحواس السمع والبصر حيث تخريف عام في المدركات ، هذا بالإضافة إلى الخلل في إدراك الزمن بالاتجاه نحون البطء واختلال إدراك المسافات بالاتجاه نحو الطول واختلال أو إدراك الحجم نحو التضخم.
2- يؤدي تعاطي المخدرات إلى اختلال في التفكير العام وصعوبة وبطء به ، وبالتالي يؤدي إلى فساد الحكم على الأمور والأشياء الذي يحدث معها بعض أو حتى كثير من التصرفات الغريبة إضافة إلى الهذيان والهلوسة.
3- تؤدي المخدرات أثر تعاطيها إلى آثار نفسية مثل القلق والتوتر المستمر والشعور بعدم الاستقرار والشعور بالانقباض والهبوط مع عصبية وحِدّة في المزاج وإهمال النفس والمظهر وعدم القدرة على العمل أو الاستمرار فيه.
4- تحدث المخدرات اختلالاً في الاتزان والذي يحدث بدوره بعض التشنجات والصعوبات في النطق والتعبير عما يدور بذهن المتعاطي بالإضافة إلى صعوبة المشي.
5- يحدث تعاطي المخدرات اضطراب في الوجدان ، حيث ينقلب المتعاطي عن حالة المرح والنشوة والشعور بالرضى والراحة (بعد تعاطي المخدر) ويتبع هذا ضعف في المستوى الذهني وذلك لتضارب الأفكار لديه فهو بعد التعاطي يشعر بالسعادة والنشوة والعيش في جو خيالي وغياب عن الوجود وزيادة النشاط والحيوية ولكن سرعان ما يتغير الشعور بالسعادة والنشوة إلى ندم وواقع مؤلم وفتور وإرهاق مصحوب بخمول واكتئاب.
6- تتسبب المخدرات في حدوث العصبية الزائدة الحساسية الشديدة والتوتر الانفعالي الدائم والذي ينتج عنه بالضرورة ضعف القدرة على التواؤم والتكيف الاجتماعي.
الاضطرابات الانفعالية قسمين
الاضطرابات السارة *(/1)
وتشمل الأنواع التي تعطي المتعاطي صفة إيجابية حيث يحس بحسن الحال والطرب أو التيه أو التفخيم أو النشوة ممثلاً حسن الحال : حيث يحس المتعاطي في هذه الحالة حالة بالثقة التامة ويشعر بأن كل شيء على ما يرام ، والطرب والتيه : حيث يحس بأنه أعظم الناس وأقوى وأذكى ويظهر من الحالات السابقة الذكر (الطرب والتيه ، وحسن الحال ، والتفخيم)، الهوس العقلي والفصام العقلي ، وأخيراً النشوة ويحس المتعاطي في هذه الحالة بجو من السكينة والهدوء والسلام
الاضطرابات السارة *
الاكتئاب : ويشعر الفرد فيه بأفكار (سوداوية) حيث يتردد في اتخاذ القرارات وذلك للشعور بالألم. ويقلل الشخص المصاب بهذا النوع من الاضطرابات من قيمة ذاته ويبالغ في الأمور التافهة ويجعلها ضخمة ومهمة.
القلق : ويشعر الشخص في هذه الحالة بالخوف والتوتر.
جمود أو تبلد الانفعال : وهو تبلد العاطفة – حيث إن الشخص في هذه الحالة لا يستجيب ولا يستشار بأي حدث يمر عليه مهما كان ساراً وغير سار.
عدم التناسب الانفعالي : وهذا اضطراب يحدث فيه عدم توازن في العاطفة فيرى الشخص المصاب هذا الاضطراب يضحك ويبكي من دون سبب مثير لهذا البكاء أو الضحك ، اختلال الآنية : حيث يشعر الشخص المصاب بهذا الاضطراب بأن ذاته متغيرة فيحس بأنه شخص متغير تماماً ، وأنه ليس هو ، وذلك بالرغم من أنه يعرف هو ذاته.
ويحدث هذا الإحساس أحياناً بعد تناول بعض العقاقير ، كعقاقير الهلوسة مثل (أل . أس . دي) والحشيش. وأحب أن أضيف هنا عن المذيبات الطيارة ((تشفيط الغراء أوالبنزين... إلخ)).
يعاني متعاطي المذيبات الطيارة بشعور بالدوار والاسترخاء والهلوسات البصرية والدوران والغثيان والقيء وأحياناً يشعر بالنعاس. وقد يحدث مضاعفات للتعاطي كالوفاة الفجائية نتيجة لتقلص الأذين بالقلب وتوقف نبض القلب أو هبوط التنفس كما يأتي الانتحار كأحد المضاعفات وحوادث السيارات وتلف المخ أو الكبد أو الكليتين نتيجة للاستنشاق المتواصل ويعطب المخ مما قد يؤدي إلى التخريف هذا وقد يؤدي تعاطي المذيبات الطيارة إلى وفاة بعض الأطفال الصغار الذي لا تتحمل أجسامهم المواد الطيارة.
وتأثير هذه المواد يبدأ عندما تصل إلى المخ وتذوب في الألياف العصبية للمخ. مما يؤدي إلى خللاً في مسار التيارات العصبية الكهربائية التي تسري بداخلها ويترتب على ذلك نشوة مميزة للمتعاطي كالشعور بالدوار والاسترخاء.
الأضرار الاجتماعية *
- أضرار المخدرات على الفرد نفسه :
إن تعاطي المخدرات يحطم إرادة الفرد المتعاطي وذلك لأن تعاطي المخدرات (يجعل الفرد يفقد كل القيم الدينية والأخلاقية ويتعطل عن عمله الوظيفي والتعليم مما يقلل إنتاجيته ونشاطه اجتماعياً وثقافياً وبالتالي يحجب عنه ثقة الناس به ويتحول بالتالي بفعل المخدرات إلى شخص كسلان سطحي ، غير موثوق فيه ومهمل ومنحرف في المزاج والتعامل مع الآخرين).
وتشكل المخدرات أضراراً على الفرد منها :
1- المخدرات تؤدي إلى نتائج سيئة للفرد سواء بالنسبة لعمله أو إرادته أو وضعه الاجتماعي وثقة الناس به.
كما أن تعاطيها يجعل من الشخص المتعاطي إنساناً كسول ذو تفكير سطحي يهمل أداء واجباته ومسؤولياته وينفعل بسرعة ولأسباب تافهة. وذو أمزجة منحرفة في تعامله مع الناس ، كما أن المخدرات تدفع الفرد المتعاطي إلى عدم القيام بمهنته ويفتقر إلى الكفاية والحماس والإرادة لتحقيق واجباته مما يدفع المسؤلين عنه بالعمل أو غيرهم إلى رفده من عمله أو تغريمه غرامات مادية تتسبب في اختلال دخله.
2- عندما يلح متعاطي المخدرات على تعاطي مخدر ما، ويسمى بـ((داء التعاطي)) أو بالنسبة للمدمن يسمى بـ((داء الإدمان)) ولا يتوفر للمتعاطي دخل ليحصل به على الجرعة الاعتيادية (وذلك أثر إلحاح المخدرات) فإنه يلجأ إلى الاستدانة وربما إلى أعمال منحرفة وغير مشروعة مثل قبول الرشوة والاختلاس والسرقة والبغاء وغيرها. وهو بهذه الحالة قد يبيع نفسه وأسرته ومجتمعه وطناً وشعباً.
3- يحدث تعاطي المخدرات للمتعاطي أو المدمن مؤثرات شديدة وحساسيات زائدة ، مما يؤدي إلى إساءة علاقاته بكل من يعرفهم. فهي تؤدي إلى سوء العلاقة الزوجية والأسرية ، مما يدفع إلى تزايد احتمالات وقوع الطلاق وانحراف الأطفال وتزيد أعداد الأحداث المشردين وتسوء العلاقة بين المدمن وبين جيرانه ، فيحدث الخلافات والمناشبات والمشاجرات التي قد تدفع به أو بجاره إلى دفع الثمن باهظاً. كذلك تسوء علاقة المتعاطي والمدمن بزملائه ورؤسائه في العمل مما يؤدي إلى احتمال طرده من عمله أو تغريمه غرامة مادية تخفض مستوى دخله.
4- الفرد المتعاطي بدون توازنه واختلال تفكيره لا يمكن من إقامة علاقات طيبة مع الآخرين ولا حتى مع نفسه مما يتسبب في سيطرة (الأسوأ وعدم التكيف وسوء التوافق والتواؤم الاجتماعي على سلوكيات وكل مجريات صيانة الأمر الذي يؤدي به في النهاية إلى الخلاص من واقعة المؤلم بالانتحار).(/2)
فهناك علاقة وطيدة بين تعادي المخدرات والانتحار حيث إن معظم حالات الوفاة التي سجلت كان السبب فيها هو تعاطي جرعات زائدة من المخدر.
5- المخدرات تؤدي إلى نبذ الأخلاق وفعل كل منكر وقبيح وكثير من حوادث الدنى والخيانة الزوجية تقع تحت تأثير هذه المخدرات وبذلك نرى ما للمخدرات من آثار وخيمة على الفرد والمجمتع.
* تأثير المخدرات على الأسرة
الأسرة هي :((الخلية الرئيسية في الأمة إذا صلحت صلح حال المجتمع وإذا فسدت انهار بنيانه فالأسرة أهم عامل يؤثر في التكوين النفساني للفرد لأنه البيئة التي يحل بها وتحضنه فور أن يرى نور الحياة ووجود خلل في نظام الأسرة من شأنه أن يحول دون قيامها بواجبها التعليمي لأبنائها)).
فتعاطي المخدرات يصيب الأسرة والحياة الأسرية بأضرار بالغة من وجوه كثيرة أهمها :
1- ولادة الأم المدمنة على تعاطي المخدرات لأطفال مشوهين.
2- مع زيادة الإنفاق على تعاطي المخدرات يقل دخل الأسرة الفعلي مما يؤثر على نواحي الإنفاق الأخرى ويتدنى المستوى الصحي والغذائي والاجتماعي والتعليم وبالتالي الأخلاقي لدى أفراد تلك الأسرة التي وجه عائلها دخله إلى الإنفاق عل المخدرات هذه المظاهر تؤدي إلى انحراف الأفراد لسببين :
أولهما : أغراض القدوة الممثلة في الأب والأم أو العائل.
السبب الآخر : هو الحاجة التي تدفع الأطفال إلى أدنى الأعمال لتوفير الاحتياجات المتزايدة في غياب العائل.
3- بجانب الآثار الاقتصادية والصحية لتعاطي المخدرات على الأسرة نجد أن جو الأسرة العام يسوده التوتر والشقاق والخلافات بين أفرادها فإلى جانب إنفاق المتعاطي لجزء كبير من الدخل على المخدرات والذي يثير انفعالات وضيق لدى أفراد الأسرة فالمتعاطي يقوم بعادات غير مقبولة لدى الأسرة حيث يتجمع عدد من المتعاطين في بيته ويسهرون إلى آخر الليل مما يولد لدى أفراد الأسرة تشوق لتعاطي المخدرات تقليداً للشخص المتعاطي أو يولد لديهم الخوف والقلق خشية أن يهاجم المنزل بضبط المخدرات والمتعاطين
أضرار المخدرات على الإنتاج *
يعتبر ((الفرد لبنة من لبنات المجتمع وإنتاجية الفرد تؤثر بدورها على إنتاجية المجتمع الذي ينتمي إليه)).
فمتعاطي المخدرات لا يتأثر وحده بانخفاض إنتاجه في العمل ولكن إنتاج المجتمع أيضاً يتأثر في حالة تفشي المخدرات وتعاطيها فالظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تؤدي إلى تعاطي المخدرات ((تؤدي إلى انخفاض إنتاجية قطاع من الشعب العام فتؤدي أيضاً إلى ضروب أخرى من السلوك تؤثر أيضاً على إنتاجية المجتمع)).
ومن الأمثلة على تلك السلوك هي : تشرد الأحداث وإجرامهم والدعارة والرشوة والسرقة والفساد والمرض العقلي والنفسي والإهمال واللامبالاة وأنواع السلوك هذه يأتيها مجموعة من الأشخاص في المجتمع ولكن أضرارها لا تقتصر عليهم فقط بل تمتد وتصيب المجتمع بأسره وجميع أنشطته وهذا يعني أن متعاطي المخدرات لا يتأثر وحده بانخفاض إنتاجه في العمل ولكنه يخفض من إنتاجية المجتمع بصفة عامة وذلك للأسباب التالية :
1- انتشار المخدرات والاتّجار بها وتعاطيها يؤدي إلى زيادة الرقابة من الجهات الأمنية حيث تزداد قوات رجال الأمن ورقباء السجون والمحاكم والعاملين في المصحات والمستشفيات ومطاردة المهربين للمخدرات تجارها والمروجين ومحاكمتهم وحراستهم في السجون ورعاية المدمنين في المستشفيات تحتاج إلى قوى بشرية ومادية كثيرة للقيام بها وذلك يعني أنه لو لم يكن هناك ظاهرة لتعاطي وانتشار أو ترويج المخدرات لأمكن هذه القوات إلى الاتجاه نحو إنتاجية أفضل ونواحي ضحية أو ثقافية بدلاً من بذل جهودهم في القيام بمطاردة المهربين ومروجي المخدرات وتعاطيها ومحاكمتهم ورعاية المدمنين وعلاجهم.
2- يؤدي كذلك تعاطي وانتشار المخدرات إلى خسائر مادية كبيرة بالمجتمع ككل وتؤثر عليه وعلى إنتاجيته وهذه الخسائر المادية تتمثل في المبالغ التي تنفق وتصرف على المخدرات ذاتها.
فمثلاً : إذا كانت المخدرات (تزرع في أراضي المجتمع) التي تستهلك فيه فإن ذلك يعني إضاعة قوى بشرية عاملة وإضاعة الأراضي التي تستخدم في زراعة هذه المخدرات بدلاً من استغلالها في زراعة محاصيل يحتاجها واستخدام الطاقات البشرية في ما ينفع الوطن ويزيد من إنتاجه.
أما إذا كانت المخدرات تهرب إلى المجتمع المستهلك للمواد المخدرة فإن هذا يعني إضاعة وإنفاق أموالاً كبيرة ينفقها أفراد المجتمع المستهلك عن طريق دفع تكاليف السلع المهربة إليه بدلاً من أن تستخدم هذه الأموال في ما يفيد المجتمع كاستيراد مواد وآليات تفيد المجتمع للإنتاج أو التعليم أو الصحة.(/3)
3- أن تعاطي المخدرات يساعد على إيجاد نوع من البطالة ؛ وذلك لأن المال إذا استغل في المشاريع العامة النفع تتطلب توفر أيدي عاملة وهذا يسبب للمجتمع تقدماً ملحوظاً في مختلف المجالات ويرفع معدل الإنتاج ، أما إذا استعمل هذا المال في الطرق الغير مشروعة كتجارة المخدرات فإنه حينئذ لا يكون بحاجة إلى أيدي عاملة ؛ لأن ذلك يتم خفية عن أعين الناس بأيدي عاملة قليلة جداً.
4- إن الاستسلام للمخدرات والانغماس فيها يجعل شاربها يركن إليها وبالتالي فهو يضعف أمام مواجهة واقع الحياة ... الأمر الذي يؤدي إلى تناقص كفاءته الإنتاجية فما يعوقه عن تنمية مهاراته وقدراته وكذلك فإن الاستسلام للمخدرات يؤدي إلى إعاقة تنمية المهارات العقلية والنتيجة هي انحدار الإنتاج لذلك الشخص وبالتالي للمجتمع الذي يعيش فيه كمّاً وكيفاً.
5- كل دولة تحاول أن تحافظ على كيانها الاقتصادي وتدعيمه لكي تواصل التقدم ومن أجل أن تحرز دولة ما هذا التقدم فإنه لا بد من وجود قدر كبير من الجهد العقلي والعضلي معاً ((يبذل بواسطة أبناء تلك الدولة سعياً وراء التقدم واللحاق بالركب الحضاري والتقدم والتطور)) ليتحقق لها ولأبنائها الرخاء والرفاهية فيسعد الجميع ، ولما كان تعاطي المخدرات ينقص من القدرة على بذل الجهد ويستنفذ القدر الأكبر من الطاقة ويضعف القدرة على الإبداع والبحث والابتكار فإن ذلك يسبب انتهاك لكيان الدولة الاقتصادي وذلك لعدم وجود الجهود العضلية والفكرية (العقلية) نتيجة لضياعها عن طريق تعاطي المخدرات.
6- إضافة إلى ذلك فإن المخدرات تكبد الدول نفقات باهظة ومن أهم هذه النفقات هو ما تنفقه الدول في استهلاك المخدرات فالدول المستهلكة للمخدرات (مثل الدول العربية) تجد نفقات استهلاك المخدرات فيها طريقها إلى الخارج بحيث إنها لا تستثمر نفقات المخدرات في الداخل مما يؤدي (غالباً) إلى انخفاض في قيمة العملة المحلية ، لو كانت العملة المفضلة لدى تجار المخدرات ومهربيها هو الدولار.
7- أثر المخدرات على الأمن العام مما لاشك فيه أن الأفراد هم عماد المجتمع فإذا تفشت وظهرت ظاهرة المخدرات بين الأفراد انعكس ذلك على المجتمع فيصبح مجتمعاً مريضاً بأخطر الآفات ، يسوده الكساد والتخلف وتعمّه الفوضى ويصبح فريسة سهلة للأعداء للنيل منه في عقيدته وثرواته فإذا ضعف إنتاج الفرد انعكس ذلك على إنتاج المجتمع وأصبح خطر على الإنتاج والاقتصاد القومي إضافة إلى ذلك هنالك مما هو أخطر وأشد وبالاً على المجتمع نتيجة لانتشار المخدرات التي هي في حد ذاتها جريمة فإن مرتكبها يستمرئ لنفسه مخالفة الأنظمة الأخرى فهي بذلك (المخدرات) الطريق المؤدي إلى السجن. فمتعاطي المخدرات وهو في غير وعيه يأتي بتصرفات سلوكية ضارّة ويرتكب أفظع الحوادث المؤلمة وقد تفقد أسرته عائلها بسبب تعاطيه المخدرات فيتعرض لعقوبة السلطة وتؤدي به أفعاله إلى السجن تاركاً أسرته بلا عائل . وكل ذلك سببه الإهمال وعدم وعي الشخص وإدراكه نتيجة تعاطيه المخدرات.
المخدرات وآثارها النفسية *
يمكن تلخيصها بالآتي:
1- يهتز الكيان السياسي لأي دولة إذا لم يكن في وسعها ومقدورها بسط نفوذها على كل أقاليمها ولقد ثبت أن كثيراً من مناطق زراعة المخدرات في أنحاء متفرقة من العالم لا تخضع لسلطات تلك الدول التي تقع ضمنها ، إما لاعتبارات قبلية ، أو لاعتبارات جغرافية ، وهناك روابط وثيقة بين الإرهاب الدولي والاتّجار غير المشروع في الأسلحة والمفرقعات من جانب الاتّجار غير المشروع في المخدرات من جانب آخر.
2- كما يهتز كيان الدولة السياسي إذا اضطرت الدولة إلى الاستعانة بقوات مسلحة أجنبية للحفاظ على كيانها ، وقد حدث مثل هذا في إحدى دول أمريكا الجنوبية اللاتينية ؛ حيث توجد عصابات لزراعة الكوكا وإنتاج مخدر الكوكايين وتهريبه وهي عصابات جيدة التنظيم ، ولديها أسلحة متقدمة ووسائل نقل حديثة حتى إن هذه العصابة وُجد بحوتها قواعد عسكرية ومهابط طائرات (لم تكن متصورة) وقد سيطرت هذه العصابات على مناطق زراعية لكوكا والقنب ونعت القوات الحكومية من دخولها الأمر الذي دعى الدولة إلى الاستغاثة واستدعاء قوات أجنبية (قوات للجيش الأمريكي).
3- الحركات الانفصالية في العالم تغذيها أموال تجار المخدرات.
4- مهربوا المخدرات والمتاجرون في المخدرات لا يؤمنون بدين أو عقيدة ولا ينتمون إلى وطن وليس لديهم انشغال سوى التفكير في الكسب المادي الغير مشروع من وراء الاتّجار بالمخدرات فهم على استعداد لبيع أنفسهم وأسرهم وأوطانهم وشعوبهم مقابل السماح لهم بالمرور بالمخدرات وتهريبها فيفشون الأسرار ويقدمون المعلومات للأعداء مما يجعل من المتعاطي ومهربي المخدرات فريسة سهلة للعدو ومخابراته.
عندما تضيع القيم ، والسبب إدمان المخدرات(/4)
تبدأ فصول هذه المأساة عندما فوجىء مدير النيابة برجل عجوز يدخل عليه مكتبه باكيا مذعورا يرتعش من الخوف ، وفي حالة إنهيار شديد ، وأخذ مدير النيابة يهدأ من روع الرجل العجوز ، وأحضر له كوبا من الماء حتى تهدأ حالته ، وسأله مدير النيابة لماذا هذا البكاء ؟ ولماذا هذا الخوف ؟ هنا تكلم الرجل العجوز يرجو مدير النيابة أن ينقذه من إبنه مدمن المخدرات ، فقد أفنى الرجل العجوز عمره في تربيته ، وكان المقابل أو الجزاء في النهاية بعد وفاة أمه الضرب والبهدلة والطرد من الشقة بلا رحمة
ويستكمل الأب العجوز مأساته والدموع تنساب من عينيه دون توقف ، والخجل يكسو وجهه ، ويتساءل كيف تحجر قلب إبنه ، وتجرد من آدميته نحو أبيه ، لقد كان أمل الأب في الحياة إبنه ، لم يبخل عليه بشيء كانت كل طلباته أوامر ، كان الأب يعمل ليلا ونهارا في وظيفة مدير عام في إحدى الشركات بالقطاع الخاص ، كانت كل أهدافه توفير إحتياجات الأبن ، ورؤية البسمة على وجهه ، فهو الأبن الوحيد المدلل الذي خرج به من الدنيا ليكون سنده في الحياة ، كان الأب ينفق عليه بلا حساب دون أن يلتفت أو ينتبه إلى تصرفاته ، أو يراقب سلوكه ، وكانت النتيجة تلف أخلاقه ، وفشله في دراسته حتى إنه حصل بصعوبة على دبلوم المدارس التجارية فقط ، وحاول الأب بكل قوته وإمكاناته أن يكمل الإبن تعليمه الجامعي ، ولكنه رفض هذه الفرصة التي أعطاها له الأب ، بل إنه رفض العمل في أي مجاليضيف الأب العجوز إلى هذه المأساة أبعادا جديدة ، حيث لاحظ الأب بمرور الوقت تصرفات إبنه الغريبة ، وخروجه المستمر للسهر خارج المنزل ، وأكتشف الأب من خلال هذه الملاحظة ، وبعد فوات الآوان عودة إبنه يوميا وهو غير واع لتصرفاته ، حيث كان مدمنا لكل أنواع المخدرات ، وعندما واجهه الأب بتصرفاته الغريبة وسهره كل ليلة ، إعترف الإبن وصاح في وجه الأب : أن هذه حياته ، يتصرف فيها كيف يشاء ، وأمام هذا السلوك الشاذ صفعه الأب على وجهه ، ولكن الأبن بدلا من أن يطلب الصفح من أبيه فقد سب الأب وكاد أن يفتك به ، واسودت الدنيا أمام الأب بعد أن تأكد فشله في تربية الأبن ، ومنذ تلك اللحظة بدأ الأبن يبتز الأب ويستولي منه بالقوة على كل أمواله ، وبدأ يضرب أبيه أمام الجيران ، مما أصاب الأب بالرعب والخوف الدائم من تجاوز إبنه ، وسوء أخلاقهولم يكتفي الإبن بذلك بل بدأ يذهب إلى الأب العجوز ، وإستدعى الإبن العاق باتهامات والده له إعترف أمام مدير النيابة بكل هدوء أعصاب بإدمانه للمخدرات .. لكل أنواع المخدرات : الحشيش ، والأفيون ، والهيروين ، والحبوب المخدرة أو المهلوسة ، وصرح الإبن لمدير النيابة بأن المخدرات قد دمرت عقله بسبب إهمال والده له ، وعدم رعايته منذ الصغر ، فالأب هو المسئول عن ضياعه لأن كل همه كان جمع المال ، ولم يعترض إطلاقا في أي وقت من الأوقات على تصرفات الإبن حتى سقط في سكة الندامة ، هنا أمر مدير النيابة حبسه لمدة خمسة وأربعين يوما ومازال الإبن حتى الآن محبوسا على ذمة المحاكمةوبعد ،،، فإن الإنسان يخسر نفسه ، ويضيع مستقبله بسبب تراخي الأسرة في تربية الأبناء ، وإهمالها في مراقبته ... ينسى الإنسان حياة الإستقامة في لحظة طيش وينساق وراء نزواته ... ينزلق في طريق الإنحراف مع رفاق السوء عندما يجد الباب مفتوحا على مصراعيه بلا رقابة لتكون النهاية المؤلمة ، وهي الفضيحة والدمار له ، لكل من حولههذا الإبن العاق المدمن لكل أنواع المخدرات مأساة لكل ما تعنيه المأساة من معاني .. ضيع نفسه بسبب المخدرات ... أدمن كل أنواع المخدرات في غفلة عن والده بعد وفاة أمه ، وهذا الأب الذي تناسى دوره في الرقابة على إبنه فكانت النتيجة فشله في دراسته ليتحول إلى مدمن مع سبق الإصرار ... إعتاد ضرب والده المدير العام وإهانته للإستيلاء على أمواله ، وإبتزازه ، وفي النهاية طرد والده من الشقة التي هي ملك وحق لوالده ، ليحولها إلى وكر لإدمان المخدرات
مجلة المجتمع وآفة المخدرات
مأساة
حدثني أحد رجال مكافحة المخدرات أنهم قبضوا على شابا أصبح رهينة الإدمان حتى أفلس ومن ثم أصبح يسرق مجوهرات أمه وأخته وهو العائل الوحيد لهم ولما سرق جميع ما لديهم من مجوهرات بدأ ببيع أثاث بيتهم حتى لم يبقى شيء يبيعه أتدرون عياذ الله ماذا فعل لم يجد هذا المجرم إلا أن يوقع أخته في الإدمان و المسكينة لا تعلم ثم أخد بعد ذلك يتاجر بعرضها وشرفها من أجل المال والإدمان ولم يقف جنون هذا المدمن عند هذا الحد بل سولت له نفسه المريضة وجشعه المسعور أن يزيد دخله فلم يجد سوى أمه العجوز المسكينة التي اخذ يدس لها المخدرات في طعامها حتى أوقعها وجعلها أيضا بضاعة لموبوء الجنس والشذوذ إنا لله وانا اليه راجعون .
من قصة مأساة (قصص وعبر من الواقع يذكرها الشيخ/ إبراهيم بن صالح الدرويش)
( مدمن تائب ) رسالة إلى أمي العزيزة يرحمها الله
يوسف الصالح(/5)
هذه رسالة من أعماق قلبي ومن كل جوارحي ، بكل أيام الألم والندم والحسرة
إنها رسالة اعتذار أقدمها لك من قلب كان في يوم من الأيام كسيف يقطع حياتك ويجرح إحساسك
من قلب كان لا يعرف الرحمة وكان عاق في أبسط حقوقك .
أمي الغالية ... يرحمها الله
أحسست اليوم بأنني محتاج أن أتقدم لكِ برسالة اعتذار أصدق اعتذاري إلى أحسن أم .. لأنني لم أكن أبدا ذلك الابن الوفي البار في حقك
كنت أقابل مجهودك بجحود وقد تربيت في حنانك وصبرك ... ولم أرد الجميل إليك ....
أسفي يا أمي خانتني العبارة وثقلت الكلمات وضاعت الحروف عندما تذكرتك فالأمر ليس حملاً يطوق عنقي فحسب فأمثالك يا عزيزتي يطوقون أطفالهم بكل المحبة والحنان ..
أسفي لك يا أمي وأنت تحت الثرى بأن تسمعي كلماتي وحرقة قلبي وشوقي إليك ونظرة إلى وجهك وقبلة على يدك ،
أقدم اعتذاري إلى قلبك الحنون لقد عشت حياتك بين انتظار وخوف .. وجلبت لك الليالي السوداء .. وأذقتك قسوة النكران والجحود تلك الصفات التي لا تليق بأي إنسان عاقل أصبحت جميعها ملتصقة بي مثل جلدي بعد أن شملتني غيبوبة الإدمان وعصفت بي عواصف التعاطي حتى ذهب العقل مني وأصبحت مجرد مدمن لا شعور له ، ولا إحساس وهل يكفي اعتذاري لك عن ما بدر مني وهل يكفي انشغالي عنك ... ؟
سؤال وألف سؤال يدور في خاطري عندما أتذكرك لقد أبعدني الإدمان وحرمني منك لمدة عشرين سنة لقد صارعتني بها الكثير والكثير وحاولت مساعدتي وكنت تحاولين التقرب مني وأنا أبعد عنك .
عزيزتي الغالية ...
لو سالت دموعي حتى جرت بها الأرض لما غسلت ما ألحقته بك من مصاعب وأحزان ..
رغم إحساسي الغائب وشعوري المعدوم بسبب تعاطي المخدرات والكحول .. ولا أَنسَ يا أمي عباراتك ودموعك ووصاياك التي لا يمكن أن أنساها ، بل أتذكرها ... واسمعها حرفا حرفا كنت وفي أثناء التعاطي لا أدري ما تقولين ولم استوعب كل هذه المعاني وأنا تحت تأثير المخدرات والكحول ، وقد وصلت سمومها مشاعري وإحساسي وعقلي ..
لقد أفقدني هذا السم البغيض البصر والبصيرة كانت المخدرات لعنة أصابتني ببصري ونزعت الرحمة من قلبي ..
عزيزتي الغالية
صحيح أن عيناي مفتوحتان ولكن كنت لا أدري سوي أصدقاء السوء وصحيح أن قلبي كان ينبض ولكن ليس به رحمة .
وافقدني البصيرة فلم أصغ إلى توجيهاتك ونصائحك التي لم اقدر ثمنها في وقتها ولم اعرف قيمتها إلا بعد أن فقدتك وفقدت كل شيء بعد رحيلك عني .
هذه الكلمة ذاتها كنت تعلنيها للناس بأنني في الغد سوف اكبر وتعتمدين على ساعدي الذي حل محل أكتافي .
أمي ماذا عساي أن أقول لك وأنا الذي أرغمتك على الخروج من المنزل في منتصف الليلة الشديدة البرد إلى الشارع .. وأخرجتك من البيت بعد أن قمت بركلك عدة ركلات وأنا تحت تأثير المخدر واستبدلتك بمدمن ليؤنس وحشتي ويرافق وحدتي في المنزل ..
أقول لك آسف وماذا عسى الأسف أن ينفع وأنا الذي أخذت جميع ما تملكين من الذهب والمال الذي لم يكن أصلا ذا قيمة كبيرة وأنت تتوسلين بأن لا أشتري به مخدرا بل اصرفه فيما يعود علي بالنفع .. سامحيني .. سامحيني .. يا أمي ..
أمي الغالية :
أتذكر عندما فاجأتك بأحد أصدقاء السوء وقمت باطلاعه على أثاث المنزل لأنه يرغب في أخذ كل ما في البيت حتى يزودني بالمخدرات حيث أنني اتفقت معه على ذلك مسبقاً ..
ونظرتِ إلي بكل حسرة وألم وحرقة أغمي عليك لحظتها لم يحس ضميري لذلك الموقف لن أنسى مثل هذه المواقف وتلك التي لم أذكرها لك
أتذكر يا أمي كيف كنت أسيطر على السعادة والحزن وكيف كنت أتحكم على حياتك .
وأتذكر كيف كنت تبحثي عن الحلول السريعة لإنقاذي من هذه المشكلة ولكن عطفك وحنانك كان دائماً يساعدني على أن أتعاطي أكثر وأكثر ...
سامحيني يا أمي على ما بدر مني من أضرار وسلوك مشين لك ولكن لتعلمي يا أمي بأن حياتي قد تغيرت الآن وأصبحت ذلك الرجل الذي كنت تتمنينه طوال عمرك وقد منحت حياتي لخدمة الجميع ومساعدة الناس لعل الله أن يساعدني ..
أمي العزيزة ...
ها أنا الآن ذلك الرجل الذي كنت ترتجينه
لقد أصبحت يا أمي أرتاد المساجد لطلب العلم بدلا من الجلوس على أرصفة الطرقات والبحث عن المخدرات
ودخولي المسجد هو الخطوة الأولى نحو العودة إليك نادما أقبل الأرض التي تمشين عليها وأقدم اعتذاري وأسفي بل أصدق الاعتذار إليك يا أمي
أمي أرقدي حيث أنتي واعلمي بأني سوف أكون ذلك الرجل الذي كنت تتمنينه دائماً إن شاء الله تعالى .
رحمك الله يا أمي وأسكنك فسيح جناته ،،،
ابنك التائب – يوسف الصالح
المصدر مجلة شهد الفتيات العدد الثاني عشر
..................................................................
............................. ...(/6)
المخدرات ونعمة العقل
ابن رحال عبدالقادر ...
ملخص الخطبة ...
1- تكريم بني آدم. 2- نعمة العقل. 3- حفظ العقل من أعظم المقاصد الشرعية. 4- الحكمة من تحريم الخمر والمخدرات. 5- الأدلة على تحريم المخدرات. 6- حكم المتاجرة في المخدرات. 7- حكم شارب المخدرات. 8- أضرار المخدرات. 9- أعداء الإسلام يروّجون المخدرات. 10- أسباب انتشار المخدرات. 11- كيف السبيل للقضاء على المخدرات؟. ...
...
الخطبة الأولى ...
...
وبعد:
معاشر المسلمين: يقول ربكم تعالى: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً .
يقول الإمام ابن كثير: "كرّم فجعله يمشي قائما منتصبا على رجليه ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه، وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً يفقه بذلك كله وينتفع به.."أهـ.
فمن تعاطى بارك الله فيكم هذه المخدرات المسكرات فقد لحق بأمة الحيوانات ولم يكرم نفسه التي كرّمها الله؟ وأعظم نعمة في الإنسان هي نعمة العقل، الذي جعله الشرع مناط التكليف، فلهذا فالمجنون غير مكلف، والعقل نور، به يفكر الإنسان ويخترع وينتج ما لا يقدر عليه الحيوان أبداً، وقد مدح الله أصحاب العقول والألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار .
وذم في المقابل من طمس على عقله فلا يريد الإصلاح ولا الصلاح، حيث قال تعالى: إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون .
وقال كذلك: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور .
واعلموا رحمكم الله أن حفظ العقل من أعظم مقاصد الشرع الخمسة، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسب وقيل العرض ، فالشرع جاء لحظ العقل ونهى ومنع عن الإخلال به، بل رتب العقوبة على ذلك، فقد حرم الخمر وكل مسكر مفتر ويدخل فيه المخدرات، وعاقب من تعاطها بالجلد، وحكمة تحريمها هو ما فيها من المفاسد، ومنها ما ذكرها الله حيث قال: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتبنوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم والعداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون .
فبين الله مفاسد الخمر، فهي رجس أي خبيثة مستقذرة، وأنها من عمل الشيطان، وتوقع العداوة والبغضاء بين الناس وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة وترك الصلاة، من أعظم المفاسد في الدين.
والمخدرات أشد خطراً، والعبرة بالمعنى لا بالمسميات فقد نهى النبي عن كل مسكر ومفتر، والمفتر هو ما يجعل الأعضاء تتخدر وترتخي، وهذه العلة موجودة في المخدرات.
أيها المسلمون: ربما قائل يقول إن المخدرات ليست حراماً، وليست خمراً، ولا يوجد دليل على تحريمها، فإذن ما هو حكم المخدرات؟
فالجواب:
1- قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر قال العلماء: الخمر سميت خمرا لأنها تخمر العقل وتستره وتغطيه، وتفسد إدراكه والعاقل من الناس يرى أن ما تحدثه المخدرات أشد وأشد مما تحدثه الخمر.
حتى قال أهل العلم: "إن من قال بحل الحشيش زنديق مبتدع".
2- وقال تعالى: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث والعاقل من الناس لابد أن يضع المخردات في صف الخبائث لا في صف الطيبات.
3- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)) [رواه مسلم]. وقال : ((إن من الحنطة خمراً، ومن الشعير خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن التمر خمراً، ومن العسل خمراً، وأنا أنهى عن كل مسكر)) [رواه أبو داود].
وعن وابل الحضرمي أن طارق بن سويد سأل النبي عن الخمر يصنعها للدواء فقال: ((إنها ليست بدواء، ولكنها داء)) [رواه مسلم].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها، ومستحلوها الموجبة لسخط الله تعالى وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين، المعرّضة صاحبها لعقوبة الله، تشتمل على ضرر في دين الإنسان وعقله، وخلقه وطبعه وتغيب الأمزجة، حتى جعلت خلقاً كثيراً مجانين، وتورث مهانة آكلها ودناءة نفسه وغير ذلك ما لا تورث الخمر، ففيها من المفاسد، ما ليس في الخمر، فهي بالتحريم أولى، وقد أجمع المسلمون على أن السكر حرام، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً، لا يصلي عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين.." أهـ.
وقال الحافظ ابن حجر: "إن من قال إن الحشيشة لا تسكر وإنما هي مخدّر، مُكابر فإنها تحدث ما يحدثه الخمر من الطرب والنشوة".(/1)
أما حكم زراعتها والمتجارة فيها فهو حرام باتفاق العلماء، وكل ما أدى إلى حرام فهو حرام، وقال تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . وقال : ((إن الله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) [رواه البخاري ومسلم].
وقال كذلك في الصحيح: ((إن الله إذا حرم ميتاًً حرّم ثمنه)) ولهذا فإن أموال تجارة المخدرات محرمة، وهي سحت والعياذ بالله.
وللعلم فقد وصل استهلاك الأمريكيين للمخدرات ما قيمته 150 مليار دولار. أما في العالم فقد وصل ما قيمته 300 مليار دولار، بل قد وصل الحد إلى أن دولا وحكومات تعتمد في اقتصادها على المخدرات، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى، وهذا يدل على فساد كبير في العالم الحديث.
ما حكم شارب المخدرات:
حكمه حكمه شارب الخمر لا فرق، ثمانون جلدة على قول أبي حنيفة ومالك ورواية على أحمد، وأربعون جلدة على قول الشافعي.
أما حكم من يزرعها ويروجها فأمره أشد يرجع إلى اجتهاد الحاكم، وفق مقاصد الشريعة وهو ما يسمى بالتعزير، أما الحبس أو الجلد أو القتل.
ودليل هذا قوله في الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن: ((من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه))، قال الإمام ابن تيمية: والقتل عند أكثر العلماء منسوخ، وقيل: هو حكم ثابت، وقيل: يفعله الحاكم تعزيراً لمن كثر فساده)) أهـ.
ما هي أضرار المخدرات:
فهي تضر بالدين وتنسي ذكر الله وتضيع على صاحبها صلاته كما تذهب الحياء والغيرة والمروءة، وتساعد على اقتراف المحرمات من السرقة والفواحش والظلم والقتل وعقوق الوالدين وغير ذلك من الصغائر الواقعة في الدين كما أن هناك أضرار بدنية واجتماعية، فهي تفسد العقل وتقطع النسل، تولّد الجذام والبرص وتجلب الأمراض وتحرق الدم وتضيق النفس وتفتت الكبد وتضعف البصر وتجلب الهمْ والوسواس وتخبل العقل، وتورث الجنون وقلة الغيرة حتى يصير آكلها ديوثاً، وتفسد المزاج حتى جعلت خلقاً كثيراً مجانين، وإن لم يجن أصيب بنقص في عقله، والمخدرات تفكك الأسرة وتضيع الأموال وفقد صاحبها القدرة على العمل والدراسة، وتكلف الدولة مبالغ مهمة في محاربتها.
أيها المسلمون: إن أعداءنا في كل مكان يخططون ولا يسأمون في ترويج هذه الحشيشة كي يدمّروا هذه الطاقة المتجددة في الشباب، ولكن لابد أن نقول: إن العيب ليس في أعدائنا فالأعداء هم الأعداء، ولكن العيب في أنفسنا، وفي ضعف تديننا، وعدم تعاوننا على الخير، وهو من الأسباب الكبيرة في انتشار المخدرات.
ومن الأسباب كذلك:
1- ظهور الفقر والبطالة في المجتمع وخاصة بين الشباب.
2- انتشار الفساد الأخلاقي والغزو الثقافي والفكرية عن طريق وسائل الإعلام الفاسدة التي تتحكم فيها الأيادي اليهودية.
3- عدم إدراك الشباب أن من أعظم مخططات اليهود في العالم هو نشر المخدرات بكل أنواعها في أوساط المسلمين حتى يبقى المسلمون في آخر الأمم.
4- عدم مراقبة الأولياء لأبنائهم فإن الرفيق السوء يفسد الأولاد.
5- ضعف الحكومات في محاربته عصابات المخدرات وهو راجع إلى الضعف المالي أو الضعف التقني.
أيها المسلمون: إن من أهم الطرق في القضاء على هذه الآفة القاتلة هو تقوى الله تعالى والتوبة إلى الله والإنابة إليه، والرجوع إلى الكتاب والسنة ففيهما كل الخير، قال تعالى: وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون والصلاة وكثرة الذكر ولزوم المساجد في أعظم وسائل التربية قال تعالى: وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم .
ويجب التعاون على محاربة المخدرات بكل وسيلة شرعية والتعاون مع الحكومات في ذلك لأن ضرر المخدرات عام فلابد من التعاون العام.
ولابد من إرشاد المجتمع بكل فئاته عن طريق وسائل الإعلام بأن المخدرات سم قاتل، ونحن نرى تقصيراً كثيراً في هذا الجانب الإعلامي.
ولابد من توفير فرص العمل والدراسة ومحاربة البطالة والفراغ في أوساط الشباب.
ولابد من تعريف الناس أن المخدرات من أعظم الذنوب وصاحبها ملعون، فعن أنس بن مالك قال: ((لعن النبي في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له)) [صحيح رواه أبو داود].
ومن أهم العلاجات هو نشر الفضائل بكل أنواعها بين الناس ومحاربة الرذائل بكل أنواعها فإن الحسنة تلد الحسنة، والسيئة تلد السيئة.
وختاماً فيا أيها الناس اتقوا الله واشكروه على نعمه، نعمة الدين ونعمة العقل، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، واعلموا أن الدنيا الغرارة هي أيام تنقضي، والدار الآخرة هي الحيوان لو كنتم تعلمون.
قال تعالى: كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . ...
موقع المنبر
..................................................................
............................. ...(/2)
المخرج من الفتن
إعداد/ جمال عبد الرحمن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وبعد:
تمتاز بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنها عامة ودائمة، والله عز وجل لو شاء لبعث في كل قرية نذيرًا، ولكل عصر مرشدًا، وإذا كانت القرى لا تستغني عن النُّذُر، والأعصار لا تستغني عن المرشدين فلماذا استعيض عن ذلك كله برجل فذ؟ إن هذا الاكتفاء أشبه بالإعجاز الذي يحصل المعنى الكثير في اللفظ اليسير، ولذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو ذلك الرجل الرشيد الذي رسم للبشرية خط السير، وحذر مِن مواطن الخطر، وشرح بغير إطناب ممل ولا إيجاز مخل ما يطوي مراحل الطريق ويهون المتاعب ويذهبُ بإذن الله وعثاء السفر.
فإذا رأيت بعض الناس يتناسى دروس المعلم، ويتشبث بثيابه وهو حي، أو يتعلق برفاته وهو ميت، فاعلم أنه غِرِّير مغرور، ليس أهلا لأن يخاطب بتعاليم الرسالة فضلاً عن أن يستقيم على نهجها ولو خرج النبي صلى الله عليه وسلم حيًا على مثل هذا النوع من البشر لخطَّأ مقاله، وأنكر فِعَالَه، صلوات الله وسلامه عليه.
أخرج الإمام أحمد بن حنبل عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون فتن وأمور تنكرونها». قالوا: يا رسول اللَّه، فما تأمرنا ؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون اللَّه عز وجل الذي لكم».
[صححه الألباني في صحيح الجامع (0263)]
وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة؛ القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه». قال: فقال رجل: يا رسول اللَّه، أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض ؟ قال: «يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟» قال: فقال رجل: يا رسول اللَّه، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني ؟ قال: «يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار». [صحيح مسلم 4/2212]. وفي رواية له أيضًا: «ومن يُشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأً أو مَعَاذًا فليعذ به».
«يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر»: قيل: المراد كسر السيف حقيقة على ظاهر الحديث ليسد على نفسه باب هذا القتال، وقيل هو مجاز والمراد به ترك القتال، والأول أصح، «يبوء بإثمه وإثمك» معنى يبوء بإثمه يلزمه ويرجع به ويتحمله، أي يبوء الذي أكرهك بإثمه في إكراهك وفي دخوله في الفتنة وبإثمك في قتلك غيره. [أي إن قتلت غيره، أو إثم المشاركة في القتال وأنت مكره].
«خير»: أي أكثر سلامة وأقل شرًا.
«الساعي»: اسم فاعل من السعي، وهو العَدْوُ والإسراع في السير، وهو تشبيه لمن يشارك في الفتن ويجتهد في إثارتها.
«يشرف لها» من الإشراف؛ وهو الانتصاب للشيء والتعرض له والتطلع إليه، «تستشرفه»: تغلبه وتصرعه وتهلكه.
«ملجأ»: موضعًا يلتجئ إليه ويحمي نفسه فيه من الفتن، «معاذًا» بمعنى الملجأ. [شرح النووي على صحيح مسلم]
أولا: فوائد من الحديث
وتدل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم السابقة على:
1 ـ أن الفتن شرور مستطيرة لا ينبغي للمسلم إثارتها أو الخوض فيها أو التعرض لها.
2 - على الناس إذا ظهرت فتنة أن يلتزم كل منهم عمله وموقعه؛ يجتهد فيه بعيدًا عن المشاركة في الفتنة.
3 - نبذ العنف وأدواته، وترك السلاح وكسر حدِّه.
4 - تأدية الحقوق لأصحابها، والصبر على ما للمرء من حقوق عند غيره، ويسأل اللَّه تعالى الذي له، كل ذلك توجيهات سيد الأخيار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للنجاة والخروج من الفتن والأزمات، وعلى المسلمين الموحدين أن ينعموا في ظل توجيهاته عليه الصلاة والسلام، وهذا فيما إذا كانت الفتنة في أرض المسلمين فيما بينهم.
ثانيًا: موقف المسلمين من غير المسلمين
فإذا كانت الفتنة بين بعض المسلمين وغير المسلمين فإن الإسلام أمر بالعدل وعدم الظلم والتعدي، كما أمر بألا يدفع المسلمين بغضُهم وكراهيتهم لغيرهم إلى عدم العدل بينهم، بل عليهم أن يعدلوا فإن ذلك أقرب للتقوى، كما أمرهم أن يتعاونوا على البر والتقوى ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان، وإن مخالف ذلك مهدد من اللَّه تعالى بالعذاب وشدة العقاب.
قال اللَّه تعالى: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [المائدة: 8]، والشنآن هو البغض قاله ابن عباس. [ابن كثير في شرح الآية]
قال القرطبي (6/108): «ودلت الآية أيضًا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل معه. وأن المُثْلةَ بهم غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمونا بذلك فليس لنا أن نقتلهم بِمُثلة قصدًا لإيصال الغم والحزن إليهم».(/1)
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت وقد اشتد ذلك عليهم فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابنا فأنزل اللَّه: ولا يجرمنكم الآية». [تفسير ابن كثير للآية]
والمعنى لا يحملكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل كمُثْلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيًا مما في قلوبكم.
اعدلوا هو أقرب للتقوى أي العدل أقرب للتقوى، صرح لهم بالأمر بالعدل وبين أنه بمكان من التقوى بعد ما نهاهم عن الجور وبين أنه مقتضى الهوى، وإذا كان هذا للعدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين؟ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون فيجازيكم به.
[روح المعاني للألوسي 6/83]
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: ولا يجرمنكم: لا يحملنكم شنآن قوم أي شدة بغضكم لهم على ألا تعدلوا فلا تشهدوا في حقوقهم بالعدل أو فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، اعدلوا أيها المؤمنون في أوليائكم وأعدائكم، واقتصر بعضهم على الأعداء بناءً على ما روي أنه لما فتحت مكة كلف اللَّه تعالى المسلمين بهذه الآية أن لا يكافئوا كفار مكة بما سلف منهم وأن يعدلوا في القول والفعل. [تفسير ابن كثير ]
وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى اللَّه فيك بمثل أن تطيع اللَّه فيه، والعدل به قامت السماوات والأرض.
ومن هذا قول عبد اللَّه بن رواحة لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص (يُقَدِّر) على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: يا أعداء اللَّه؛ تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
[صحيح ابن حبان. «مختصر ابن كثير 1/345]
ثالثًا: سلوك نبينا هداية لنا ولغيرنا
لقد أقام الله تعالى رسولنا صلى الله عليه وسلم إمامًا وقدوة لنا معاشر المسلمين، وفي اقتدائنا به امتثال لأمر الله جل وعلا، لأن في سلوكه هديًا لنا، وعدلاً وإنصافًا لغيرنا من أصحاب الملل الأخرى، ولن يجد هؤلاء فرصة للعدل والقسط في الناس أعظم ولا أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم.
عن جابر بن عبد اللَّه قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب بن خصفة بنخل فرأوا من المسلمين غرة فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: «اللَّه عز وجل». فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «من يمنعك مني ؟» قال: كن كخير آخذ ؟ قال: «أتشهد أن لا إله إلا اللَّه ؟» قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، قال: فذهب إلى أصحابه قال: قد جئتكم من عند خير الناس.
[أخرجه أحمد وابن حبان وأصل الحديث في البخاري ومسلم]
وفي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد بن حنبل أن ابن أبي حدرد الأسلمي كان ليهودي عليه أربعة دراهم فاستعدى عليه، فقال: يا محمد؛ إن لي على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن أبي حدرد: أعطه حقه، قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها، فقال: أعطه حقه، قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها، وقد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تُغْنِمنا شيئًا (غنيمة) فأرجع فأقضيه، قال: أعطه حقه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال ثلاثًا لم يُراجَع. فخرج ابن أبي حدرد إلى السوق وعلى رأسه عصابة وهو متزر ببرد، فنزع العمامة عن رأسه فاتزر بها ونزع البردة فقال: اشترِ مني هذه البردة، فباعها بأربعة دراهم. فمرت عجوز فقالت: مالك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخبرها، فقالت: ها دونك هذا؛ ببرد طرحته عليه». [السلسلة الصحيحة]
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة للمسلمين في التعامل مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى بالعدل والقسط وقد قال له ربه وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين [المائدة: 24]. بل إنه كان يشتري منهم ويستلف، ويبيع لهم: قال ابن حجر في فتح الباري: ولقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعًا له بالمدينة عند يهودي وأخذ منه شعيرًا لأهله، وهذا اليهودي هو أبو الشحم، وبينه الشافعي ثم البيهقي من طريق جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعًا عند أبي الشحم اليهودي رجل من بني ظفر في شعير. انتهى. قال ذلك تعليقًا على حديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير».
[متفق عليه]
رابعًا: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقتدون به في بر أهل الكتاب(/2)
ـ عن مجاهد أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ذُبِحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
[أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني]
ـ وهذا أبوه عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختصم إليه مسلم ويهودي فرأى الحق لليهودي فقضى له. [صحيح الترغيب والترهيب]
ـ وهذا حذيفة رضي الله عنه وهو يتكلم عن رفع الأمانة يخبر أنه في زمن الأمانة لو كان باع ليهودي أو نصراني فسيرد حقه عليه ساعيه وواليه، ولو باع لمسلم فسيرد حقه عليه إسلامه».
[متفق عليه]
ألا إن في الهدي النبوي عدل وقسط وبر بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ألا يكفي ذلك اليهود والنصارى ليؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم؟ خاصة إذا عرفوا أن ابن حنيف وقيس بن سعد كانا قاعديْن بالقادسية فمر عليهما جنازة فقاما فقيل لهما: إنها من أهل الأرض (أي من أهل الذمة من النصارى) فقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام فقيل له: إنها جنازة يهودي؛ فقال: أليست نفسًا». [متفق عليه]
والإسلام لم يدع فرصة بمبادئه السامية لوقوع فتنة بين المسلمين وغيرهم فإذا حدث شيء من ذلك فليؤخذ على يد الظالم أيًا كان انتماؤه، فالله لا يهدي القوم الظالمين، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها.
خامسًا: موقف الإسلام من فتنة القتل
ومما تكون الإشارة إليه جديرة؛ والحديث عنه ضرورة؛ الدماء التي تراق بشكل لا يُطاق، وكما هو معلوم حرمة دماء المستأمنين الذين دخلوا بلاد الإسلام بعهد وأمان، سواء من الراعي أو الرعية؛ فضلاً عن حرمة دماء المسلمين، وإنما يأتيهم القتل بغتة والترويع فجأة، فتزهق أرواح أبرياء، وتراق دماء أطفال ونساء، لا يدري القاتل فيم قتل، ولا المقتول فيم قُتل.
1- حرمة دماء المستأمنين:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه إذا وقع الأمان من الإمام أو من غيره بشروطه وجب على المسلمين جميعًا الوفاء به، فلا يجوز قتلهم ولا أسرهم ولا أخذ شيء من مالهم ولا التعرض لهم ولا أذيتهم بغير وجه شرعي وذلك لعصمتهم، فمن سماحة الإسلام وعظمته أن عمل على توفير الأمن والأمان للسفراء والرسل الذين يسعون بين الطرفين لنقل وجهات النظر وتبادل الآراء لإيقاف الحرب.
عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي عن أبيه نعيم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهما (لرسولين لمسيلمة الكذاب) حين قرأ كتاب مسيلمة: «ما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال مسيلمة، فقال صلى الله عليه وسلم: «أما والله لولا أن الرسل لا تُقتل لضربتُ أعناقكما».
فهذا سيد البشر صلى الله عليه وسلم يكلم رجلين مرتديْن عن الإسلام إلى اتِّباع مسليمة الكذاب، فيراهما مُصِرَّيْن على اتباع مسليمة، لكنه صلى الله عليه وسلم يلتزم شرع اللَّه تعالى في عدم قتل الرسل المرسلة ما بين الطرفين، قال اللَّه تعالى: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا أي لا يدفعكم بغض الكافر إلى عدم تطبيق الحق معه إن كان له، فهل يتعلم الشباب وأبناء الأمة هذه الآداب من إمامهم وقدوتهم صلى الله عليه وسلم ؟
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب تأمين المعاهَدين وأهل الأمان وعدم التعرض لهم بالقتل أو الترويع: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا».
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أمَّنَ رجلاً على دمه فقتله فأنا برئ من القاتل ولو كان المقتول كافرًا».
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أنه ليس أحد أَغْيَرَ من اللَّه سبحانه وتعالى، وليس من الأمة أحد أغير على دينها ومحارم اللَّه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا العنف والانفعال لمن يرى أنه من أجل الدين، في الوقت الذي لم يكن فيه الأمين على الوحي محمد صلى الله عليه وسلم كذلك؟
2- حرمة دماء المسلمين:
إن رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: «لعن المسلم كقتله». فكيف بقتله عمدًا ظلمًا؟ والله تعالى يقول: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما [النساء: 83].
أليس قتل الأبرياء لا يدري القاتل كم يُقتل من الرجال والنساء ولا الأطفال وكم يزهق من أرواح بريئة؛ أليس هذا إفسادًا في الأرض ؟ والله عز وجل يقول: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم [المائدة: 33].
شبهة والرد عليها:
قد يقول قائل: هناك من الجهات المسئولة من يخفي الحقائق، ويُظهر للناس غير الحق، ولماذا سحب اليهود رعاياهم من مكان الحادث قبل الحادث بيوم أو يومين ؟
والجواب: أنه لا يوجد هيئة أو مؤسسة أو صحيفة أو كتاب أصدق وأحكم وأوثق من كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(/3)
وما يُسمع من هنا وهناك، وقيل وقالوا، يدخل فيه الرجم بالغيب، والظن الذي لا يغني من الحق شيئًا.
فإهمال الأحكام الشرعية وتجاهلها كتابًا وسنة أمام تحليلات واستنتاجات أو أمام بعض الحقائق في وسط شبهات وظنون؛ مسلك مخالف لشريعة اللَّه سبحانه لا يفضي إلا إلى المزيد من الفتنة والتمادي في سفك الدماء.
هذا، وعلى ولاة أمر المسلمين بذل كل ما من شأنه أن يحقق تقوى اللَّه ورضاه، من منطلق المسئولية التي تحملوها أمام اللَّه والناس.
وقانا اللَّه تعالى الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجنب بلادنا وبلاد المسلمين ويلاتها، آمين.(/4)
المد والجزر في حياة الإنسان
هناك علاقة وثيقة تناسبية بين الأرض وجسم الإنسان من حيث التوزيع:
ـ فسطح الأرض يتكون من حوالي 80% سوائل أي بحار ومحيطات وأنهار، وحوالي 20% مواد صلبة أي يابسة.
ـ كذلك جسم الإنسان يتكون من حوالي 80% سوائل، وحوالي 20% مواد صلبة، (وهذا ما أثبته العلم).
وهناك أيضاً علاقة وثيقة تناسبية، بين الأرض وجسم الإنسان من حيث التكوين:
فالأرض تتكون من عناصر مختلفة من: كالسيوم، مغنيسيوم، صوديوم، بوتاسيوم، كبريتات، كلورايد، سلفات، حديد، نترات، بيكروبونات، أملاح... الخ.
كذلك جسم الإنسان يتكون من العناصر نفسها.
ـ فلو أخذنا زجاجة مياه صحية وقمنا بتحليلها كيميائياً أو قرأنا محتوياتها لوجدنا أنها تتكون من العناصر نفسها.
وبما أن هذا الماء نابع من الأرض سواء عن طريق الآبار أو الأنهار أو عن طريق تكريره من البحار والمحيطات، وبما أننا نشرب هذا الماء، فإن أجسامنا تتكون من هذه العناصر نفسها الموجودة فيه.
ـ كذلك لو أخذنا مجموعة من الفاكهة والخضروات والأطعمة المختلفة وقمنا بتحليلها، لوجدنا أنها تتكون من العناصر ذاتها لأنها ناتجة من الأرض، وبما أننا نتناولها فإن أجسامنا تتكون من عناصر الأرض ذاتها سواء كانت سائلة أو صلبة. أي أن هناك (علاقة ثنائية وثيقة ومحكمة بين الأرض وجسم الإنسان).
(وهذا ما أثبته العلم أيضاً). كما أثبت القرآن الكريم هذه العلاقة الثنائية والمحكمة بين الأرض وجسم الإنسان.
فالإنسان خُلق من طين، قال تعالى: (وبدأ خلق الإنسان من طين) السجدة: والطين من الأرض، وبالتالي فالإنسان يتكون من عناصر الأرض ذاتها، قال تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) سورة طه.
وهناك علاقة وثيقة ومحكمة أيضاً بين: (القمر والأرض من ناحية) و(القمر وجسم الإنسان من ناحية أخرى):
ـ فالقمر كما أن له قوة جاذبية على الأرض تسبب لها المد والجزر (كما هو معروف أيضاً).
ـ كذلك له قوة جاذبية على جسم الإنسان تسبب له المد والجزر (أيضاً) وهذا ما سوف يتم إثباته علمياً فيما يلي:
(لأن جسم الإنسان كما ذكرنا سابقا له عناصر الأرض ذاتها).
وهذا المد والجزر يصل أقصاه على الأرض وجسم الإنسان في الأيام البيض، وهي: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر قمري، وسميت الأيام البيض لأن القمر يكون فيها بدراً، أي مكتملاً، فيكون الضوء شديداً، وبالتالي تكون هذه الليالي بيضاء ومنيرة من شدة نور القمر.
وهذا ما يلاحظ في هذه الليالي ـ ولا سيما ـ في الصحراء وانسحب الاسم إلى اليوم لأن اليوم يشمل بياض النهار وسواد الليل فسميت الأيام البيض، فيزداد المد والجزر على الأرض وعلى الإنسان، فيظهر على الأرض في صورة وصول المد والجزر أقصاه في البحار، ويظهر على الإنسان عن طريق ازدياد الانفعال والتهيج: عصبية، وتوتر، اضطراب، قلق... الخ مما يؤدي إلى: (ازدياد نسبة الجرائم).
وأكبر دليل على ذلك:
ـ بالنسبة للأرض: لو أننا ذهبنا إلى شاطئ البحر، لرأينا المد والجزر يصل أقصاه في هذه الأيام. (أيام البيض).
ـ بالنسبة للإنسان: لو أننا ذهبنا إلى المخافر أو المحاكم أو قرأنا في الصحف لوجدنا أن أكبر نسبة جرائم وانتحار وسرقات وحوادث سير وطلاق تحدث في هذه الأيام (أيضاً).
وجاء العلم الحديث ليكشف السر:
ونقل الدكتور محمد علي البار عن الدكتور «ليبر» المتخصص بعلم النفس من مدينة ميامي في الولايات المتحدة: «أن هناك ارتباطاً قوياً بين اكتمال دورة القمر وأعمال العنف لدى البشر، وخاصة بينه وبين مدمني الكحول، والميالين إلى العنف، وذوي النزعات الإجرامية، وأولئك الذين يعانون من عدم الاستقرار العقلي والعاطفي.
واتضح له من التحليلات والإحصائيات البيانية التي قام بجمعها، والتي حصل عليها من سجلات الحوادث في المستشفيات، ومراكز الشرطة، وبعد ربط تواريخها بالأيام القمرية أن معدلات الجرائم وحوادث السير المهلكة مرتبطة باكتمال دورة القمر، كما أن الأفراد الذين يعانون من الاضطرابات النفسية، ومرضى ازدواج الشخصية، والمسنين أكثر عرضة للتأثر بدورة القمر.
كما أشارت الدراسات التي حصل عليها إلى أن أكبر نسبة للطلاق والمخاصمات العنيفة تكون في منتصف الشهر عند اكتمال القمر. ويشرح «ليبر» نظريته قائلاً: «إن جسم الإنسان مثل سطح الأرض يتكون من 80% من الماء والباقي مواد صلبة»، ومن ثم فهو يعتقد بأن قوة جاذبية القمر التي تسبب المد والجزر في البحار والمحيطات، تسبب أيضاً هذا المد والجزر في أجسامنا عندما يبلغ القمر: أوج اكتماله في الأيام البيض».
ويقول الدكتور ليبر في كتابه «التأثير القمري» إنه نبه شرطة ميامي، كما طلب وضع اختصاصي التحليل النفسي في مستشفى جاكسون التذكاري في حالة طوارئ تحسباً للأحداث التي ستقع نتيجة الاضطرابات في السلوك الإنساني، والمتأثرة بزيادة جاذبية القمر..(/1)
ويقول الدكتور ليبر:«إن ما حدث كان جحيما انفتح، فقد تضاعفت الجريمة في الأسابيع الثلاثة الأولى من يناير 1973، كما وردت أنباء عن جرائم أخرى غريبة وجرائم ليس لها أي دافع» .. وأصبح من المعروف أن للقمر في دورته تأثيراً على السلوك الإنساني وعلى الحالة المزاجية،
وهناك حالات تسمى (الجنون القمري) حيث يبلغ الاضطراب في السلوك الإنساني أقصى مداه في الأيام التي يكون القمر فيها بدرا (في الأيام البيض). فما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكمه وأعلمه بأسرار النفس وأسرار تكوينها وأخلاطها وهرموناتها، فصلى الله عليه وسلم أفضل وأكمل ما صلى على أحد من العالمين ..
العلاج النبوي
ومن هنا نلتمس (العلاج النبوي) لحل مثل هذه الظاهرة المتمثل في صيام الأيام البيض. فالصيام بما فيه من امتناع عن تناول السوائل، يعمل على خفض نسبة الماء في الجسم خلال هذه الفترة التي يبلغ تأثير القمر فيها على الإنسان أقصاه، فيسيطر على قوى جسده ونزعاته، فيكتسب من وراء ذلك: الصفاء النفسي، والاستقرار، ويتفادى تأثير الجاذبية، ويحصل على الراحة والصحة والطمأنينة يا سبحان الله!.
* ومن هنا كان (الإعجاز النبوي) بالوصية، وأوصانا بصيام الأيام البيض، وذلك لتفادي تلك الحالات المرضية الخطيرة، والجرائم المريعة، والحوادث الفظيعة. فالصيام بالإضافة إلى أنه: عبادة وأجر وطاعة وثواب عظيم للمسلم، فإنه أيضاً وقاية وسعادة وصحة ورحمة بالإنسان.
الله أكبر!! حقاً إنه: صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة من رب العزة الذي قال فيه: (وما أرسلنك إلا رحمة للعالمين) سورة الأنبياء.
* ولعل هذه الحقيقة العلمية تكشف عن: معجزة باهرة من معجزات النبي (الأمي) صلى الله عليه وآله وسلم، الدالة على نبوته عليه الصلاة والسلام، والتي تؤكد أن الإسلام هو: الدين الحق المنزل من عند خالق السماوات والأرض. الذي وضع القوانين العلمية في الطبيعة ..
فمن كان يعلم هذه الحقيقة العلمية قبل قرابة أربعة عشر قرناً أو يزيد؟! حقاً إنه كما قال الله تعالى فيه: (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) سورة النجم.
* ولعل الهدف من هذا (الإعجاز النبوي): تنبيه الإنسان للعودة إلى ربه سبحانه وتعالى مهما أخذه غرور العلم، وعنجهية التقدم. قال تعالى: (سيذكر من يخشى، ويتجنبها الأشقى) سورة الأعلى.
فإنه بالإضافة إلى ذلك يدعو إلى جميع أنواع العلوم والآداب من :كيمياء وفيزياء وفلك وطبيعة وجغرافيا واقتصاد وسياسة ونحو وبلاغة .. الخ، وصدق الله العظيم إذ يقول: ( ... ما فرطنا في الكتاب من شيء ...) سورة الأنعام. وختاما ( .. وكل شيء فصلناه تفصيلا) سورة الإسراء.(/2)
المدرس والفتور
الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحاتُ، وبفضلِهِ وكرمِهِ تُضاعف الحسناتُ، وتُكفَّرُ السيئاتُ، والصلاة والسلام على خير البريات، والشفيع في العرصات، محمد وعلى آله وصحبه مصابيح الظلمات،والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الوقوف بين يدي مالك الأرض والسماوات.
أمَّا بعدُ:
فإن هناك مشاكل كثيرة تُواجه العاملين، فتؤثر على عملهم وإنتاجهم سلباً، ومن هذه المشاكل مشكلة فتور الهمة التي حذَّر منها النبيُّ-صلى الله عليه وسلم-؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(لكل عالم شرة،ولكل شرة فترة؛ فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك)(1).
فكثيراً ما تجد شخصاً شاباً فتاتاً شيخاً تجده نشطاً متحمساً في العبادة والتمسك بالكتاب والسنة، كان يقوم الليل، ويكثر من نوافل الصلاة، وكان يصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، وكان ذا تخشع وتأله لله -تعالى-، ثم فجأة نراه قد نقص منه ذلك النشاط كله ، ثم تدريجياً تجده قد ترك نوافل العبادات، بل ربما تساهل في بعض الواجبات، وهكذا.. والمدرس والمعلم والذي قد خصصنا حديثنا عنه في هذه العجالة للحديث بمثل ذلك، فكثيراً ما تجد مدرساً شاباً متحمساً لتعليم القرآن الكريم، يقدم ويضحي في سبيل ذلك بماله ووقته، ويبذل أقصى ما يستطيع من جهد لإنجاح عمله، ولخدمة الآخرين، يعطيك أنموذجا ً عملياً للشمعة التي تحترق لتضيء الطريق للآخرين، فقد نراه ممن يضع الخطط والبرامج للنشاطات القرآنية، ويقضي جُل- بل كل- وقته مع الطلاب تعليماً وتربية ونشاطاً، وإذا خاطبك رأيته يفيض حيوية وحماساً، وفجأة نرى عزيمته تتراخى، وهمته تتناقص، ويتسلل إليه الإحباط واليأس حتى ينتهي به الأمر إلى الواقع والانسحاب من ساحات خدمة القرآن الكريم(2)- نسأل الله العافية والسلامة-.
وفي المقابل فأننا كثيراً ما نرى ونلاحظ مدرساً يدرس بلا رغبة، متأخراً متكاسلاً، لا يشارك في حوار، ولا في صنع قرار، وإذا سئل من يعرفه عنه قال: لم أعهدْهُ كذلك، وإنما كان شعلة من نشاط وحماس، و و إلخ
ومرجع ذلك كله إلى هذه المشكلة أو هذه الظاهرة، ولا شك أن لهذه الظاهرة أسباب قد يكون بعضها ظاهراً، وقد يكون بعضها الآخر غامضاً. فمن أسباب هذه المشكلة- مشكلة الفتور- ما يلي:
1. عدم تعاون بعض المشرفين تعاوناً إيجابياً مع المدرسين مما يضعف من همتهم، ويوهن من عزائمهم.
2. الخلل في إلتزام المؤسسة بالناحية المادية كعدم التزام المؤسسة – أو الجمعية- بالمواعيد المحددة للرواتب والحوافز والهدايا ونحوها.
3. يأس المدرس من تحسين مستوى الطلاب؛ فهو يبذل كل الجهود- حسب ادعائه- في سبيل رفع مستواهم، ولكنها لم تؤت ثماراً.
4. عدم اريتاح المدرس في الأصل إلى العمل في هذه المنطقة، أو المؤسسة - المعينة-، التي يعمل فيها وذلك لبعدها عن بيته، أو لوجود عادات وتقاليد لم يعْتَدْ عليها.
5. عدم تقدير جهود المدرس وتشجيعها من قبل الآخرين.
6. عدم فهم المدرس لمهمته الحقيقية في عمله، وعدم إدراكه لما أعد الله من الثواب الجزيل لمعلم القرآن الكريم.
7. حدوث مشاكل شخصية خاصة به؛ كتأخير زواج، أو خيبة أمل في أمر من الأمور، أو وفاة عزيز عليه ولا يجد من يفتح قلبه له ليسمع منه.
هذه من أبرز أسباب المشكلة، أما سبل العلاج لهذه الظاهرة فيكمن من خلال فهم هذه الأسباب الآنفة الذكر سبباً سبباً؛ فإن كان السبب في الفتور مثلاً موقف المشرف فعليه أن يعدله، وإن كان السبب من المؤسسة فعليها معالجة هذا الأمر بسرعة قبل أن تخسر أكثر، فإنه مؤشر خطر على وجود خلل إداري، وإن كان الأمر يتعلق بالشخص نفسه، فهو أمام أربعة خيارات:
أ . أما أن يتنحى عن هذا العمل ويبحث عن مكان آخر يرتاح فيه نفسياً.
ب . وإما أن يغير من سيرته وطريقته ويعيد برمجة حياته من جديد، ليعود إلى سالف عهده من الهمة والعزيمة، والحماس الوقاد.
ت . وإما أن يصارح المشرف بمشكلته الخاصة ويتشاور معه في حلها، فما من مشكلة إلا ولها حلٌّ.
ث . وإما أن يستمر كما هو متكاسلاً، فاتراً، يدع الأمور تمشي، ولا يقدم شيئاً سوى ذلك الحضور الجسدي الروتيني. ولا شك أن هذا الخيار مرفوض لدى كل الأطراف المعنية3.
هذا والله نسأل أن يثبتنا على الدين القويم إنه سميع قريب مجيب الدعاء. والله من وراء القصد.
0000000000000
1 - رواه أحمد، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، رقم(6664).
2 - راجع رسالة لطيفة بعنوان: " الفتور في حياة الدعاة" لم يعرف مؤلفها.
3 - انظر :" فن الإشراف على الحلقات والمؤسسات القرآنية" صـ(211- 212).(/1)
المرآة اللبنانية وانعكاسات الأزمة العربية
أحمد فهمي
يقول إبراهيم أمين السيد من علماء الشيعة اللبنانيين المؤسسين لحزب الله: «نحن لا نقول إننا جزء من إيران، نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران». ويقول الشيخ حسن طراد من علماء الشيعة: «إن إيران ولبنان أمة واحدة ووطن واحد». وفي المقابل يقول أحد كبار علماء إيران: «نحن ندعم لبنان سياسياً وعسكرياً كما ندعم إحدى محافظات إيران». [الإسلاميون في مجتمع تعددي/ حزب الله في لبنان نموذجاً. د. مسعود أسد إلهي].
هذه الأقوال المتحمسة تطرح تساؤلاً مهماً حول الأزمة اللبنانية التي أشعلتها عملية «الوعد الصادق» التي نفذها حزب الله اللبناني الشيعي، ونتج عنها مقتل ثمانية جنود إسرائيليين وأسر جنديين، وهذا التساؤل هو: هل هذه الحرب التي أشعلها حزب الله، حرب لبنانية أم إيرانية؟ وهل هي حرب بين حزب الله والاحتلال الصهيوني، أم بين طهران وواشنطن؟
وهناك تساؤلات أخرى أثارتها ردود الأفعال الإقليمية والدولية، ويمكن تلخيصها في أمرين:
ـ لماذا أتى الرد الصهيوني على هذا النحو العنيف والمدمر؟
ـ لماذا أتى الرد العربي عاجزاً ومنتقداً لأداء حزب الله في الوقت نفسه؟
ونقدم في هذا المقال محاولة للإجابة عن التساؤلات الثلاثة.
ü إيران وسياسة تصدير الحروب:
لتحديد الهدف الحقيقي من عملية حزب الله الأخيرة لا بد من توضيح الإطار السياسي والعقدي الذي يحكم العلاقات المتبادلة بين ثلاثة أطراف محورية في المنطقة، وهي: إيران، سورية، حزب الله؛ لأن هذه العلاقات المتبادلة أصبحت العنصر الأكثر تأثيراً على الساحة اللبنانية، وإذا كانت العلاقة بين سورية وإيران محكومة منذ الحرب العراقية الإيرانية بتحالف «العدو المشترك» وهو صدام حسين؛ فإن إطار هذه العلاقات يتوسع حالياً ليتضمن بُعداً عقدياً من ناحية، وسياسياً من ناحية أخرى تجاه خصم مشترك آخر هو الولايات المتحدة، وقد أثمرت العلاقة المتنامية توقيع اتفاقية للدفاع المشترك بين البلدين، إضافة إلى استخدام حزب لله كأداة سياسية وعسكرية لضبط التوازن داخل الساحة اللبنانية والمنطقة على إيقاع طهران أولاً ودمشق ثانياً.
أولاً: حزب الله وصلته بالحرس الثوري:
في عام 1982م اتفقت طهران ودمشق على إرسال وحدات من الحرس الثوري الإيراني للمشاركة في مقاومة الاحتلال الصهيوني للبنان، وعندما وصلت الوحدات الإيرانية إلى دمشق تراجع نظام حافظ الأسد خشية تنامي نفوذ الحركات الشيعية الدينية في لبنان، وجرى الاتفاق على أن يقتصر دور الوحدات على التدريب دون المشاركة الفعلية في القتال، ووصل إلى الجنوب اللبناني في أسابيع قليلة 1500 عسكري إيراني، تم اختيارهم بعناية ليكونوا مدربين عسكريين وكذلك دعاة دينيين يرسخون مبادئ الثورة الخمينية في الجنوب اللبناني، ويؤسسون للسيطرة الشيعية على الجنوب، وكان لهذه الوحدات الدور الأكبر في تأسيس حزب الله بصورة فعلية من النواحي التنظيمية والعسكرية والدعوية، وكانت تلك بواكير ثمار سياسة تصدير الثورة التي تبنتها جمهورية الخميني.
يقول إبراهيم أمين السيد: «لقد نقل الإخوة الحرسيون من الجمهورية الإسلامية إلى لبنان الروح الثورية والاستشهاد وخط الثورة وقيادة الإمام الخميني إلى حد أنه بدا وكأننا مرتبطون جغرافياً ارتباطاً مباشراً بالجمهورية الإسلامية ولا نرى حدوداً تفصلنا عنها». [الإسلاميون في مجتمع تعددي/ حزب الله في لبنان نموذجاً. د. مسعود أسد إلهي].
وكانت غالبية الصفوف الأولى المؤسسة لحزب الله من تلاميذ العالم الشيعي العراقي محمد باقر الصدر مؤسس حزب الدعوة العراقي، وكانوا يحملون فكراً ثورياً شيعياً لم تتحمله المؤسسة الرسمية الشيعية في لبنان وهي المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بزعامة محمد مهدي شمس الدين وقتها، وحسن نصر الله نفسه تلقى العلوم الدينية على يد محمد باقر الصدر في النجف، ثم رحل إلى قم وتتلمذ على مرجعياتها قبل أن يعود إلى لبنان.
ثانياً: حزب الله يدين بالولاء المطلق لخامنئي:(/1)
يقول الحزب في كتيب أصدره لبيان تاريخ نشأته ووجهات نظره: «نحن نلتزم بولاية المرجعية الرشيدة التي يجسدها الولي الفقيه. وهذه المرجعية ليس لها صفة جغرافية أو مصلحية أو قومية أو غير ذلك». ويقول حسن نصر الله: «الفقيه هو (ولي أمر) زمن الغيبة، وحدود مسؤوليته أكبر وأخطر من كل الناس. نحن ملزمون باتباع الولي الفقيه ولا يجوز مخالفته». ويوضح إبراهيم السيد أن هذه التبعية للولي الفقيه ليست قاصرة على الشؤون الدينية فقط، بل تتعداها إلى القرار السياسي: «نحن لا نستمد عملية صنع القرار السياسي لدينا إلا من الفقيه، والفقيه لا تعرفه الجغرافيا؛ فنحن في لبنان لا نعتبر أنفسنا منفصلين عن الثورة في إيران، نحن نعتبر أنفسنا ـ وندعو الله أن نصبح ـ جزءاً من الجيش الذي يرغب الإمام في تشكيله من أجل تحرير القدس الشريف». ويقول حسين الموسوي من قيادات حزب الله: «نحن على المستوى السياسي والديني والعقائدي نتبع عقيدة الإمام الخميني وفكره».
وبعد موت الخميني انتقلت التبعية لخليفته علي خامنئي الذي عيَّن في العام 1995م كلاً من محمد يزبك عضو مجلس شورى حزب الله، وحسن نصر الله الأمين العام للحزب وكيلين له في استلام الحقوق الشرعية من شيعة لبنان وفي مقدمتها الخُمْس بالطبع، كما أن مؤسسات خامنئي هي إحدى أهم مصادر تمويل الحزب الخارجية، وقد صرح خامنئي تعليقاً على المطالبة بنزع سلاح حزب الله كشرط أساس بالقول: «الولايات المتحدة طالبت بنزع سلاح حزب الله، هذا لن يحصل» [صحيفة الحياة]
ثالثاً: حزب الله وسورية من العداء إلى التحالف:
كانت حركة أمل الشيعية في لبنان تحمل وجهات علمانية، أو على الأقل لم تكن تحمل فكراً دينياً متشدداً مثل حزب الله، وكانت حركة أمل حليفاً لدمشق في لبنان، وعندما برز حزب الله للعلن بدأ في سحب البساط من تلك الحركة بتأييد إيراني، ونشأ عن ذلك صراعات وخلافات تطورت إلى حد القتال المباشر نهاية الثمانينيات ولمدة عامين متصلين، ونتج عن التقاتل الشيعي 2500 قتيل و5000 جريح أغلبهم من حركة أمل، إلى أن تم احتواء الموقف من قِبَل دمشق وطهران مطلع التسعينيات، وأصبح حزب الله الأقوى في الساحة الشيعية، وبدأ النظام البعثي في مد جسور التعاون مع الحزب بدعم إيراني لتكوين إطار شيعي ممتد من إيران إلى لبنان، وتأسست العلاقة بين الحزب وسورية على أساس المصالح السياسية المشتركة في لبنان. يقول أبو سعيد الخنساء من عناصر حزب الله: «إن بعض أصدقائنا كانوا ينظرون إلى سورية كعدو ولو لم يتدخل السيد القائد ـ علي خامنئي ـ مباشرة لما صححت هذه النظرة». [الإسلاميون في مجتمع تعددي/ حزب الله في لبنان نموذجاً. د. مسعود أسد إلهي].
ومؤخراً تلاقت المصالح بين الطرفين على وجوب السعي لتغيير قواعد اللعبة في المنطقة، وخاصة أن مستوى الجرأة الصهيونية تجاه دمشق يتزايد باضطراد، والتهديدات لا تتوقف بخصوص الوجود الفلسطيني الفصائلي في دمشق، كما أن الخلافات السياسية اللبنانية تفاقمت وبات من الصعب توجيهها بالصورة التي تخدم مصالح الطرفين، فكان لا بد من البحث عن وسيلة لإعادة ترتيب الأوضاع وفق ترتيبات جديدة.
رابعاً: طهران وسياسة تصدير الحروب:
دخل نظام الملالي منذ عدة أشهر في صراعات سياسية مع الغرب وأمريكا تحديداً، بعد الإعلان عن تخصيب اليورانيوم في المفاعلات الإيرانية، ولأن الطرفين يحرصان على عدم تصعيد النزاع إلى الصدام المباشر، فقد أصبح العراق ميداناً غير مباشر للتنافس بين البلدين، وصدَّرت إيران سياستها التصادمية عبر الأحزاب والميليشيات الشيعية، ولكن مع تصاعد الضغوط الغربية وتوقع تحويل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن واحتمال فرض عقوبات اقتصادية، كان لا بد من البحث عن ساحة أو وسيلة إضافية لتفريق الضغوط الغربية، وكان أحد الخيارات المطروحة استخدام ما يعرف بـ «خيار شمشون» في مواجهة فرض حصار جوي واقتصادي على إيران، حيث تقوم طهران بمنع وصول الإمدادات النفطية من الخليج إلى بقية دول العالم. يقول محمد نابي روداكي عضو في مجلس الأمن القومي ولجنة السياسة الخارجية في البرلمان الإيراني: «في حال اتخاذ قرار بالحظر الجوي أو الاقتصادي فلن يتم تصدير ولو قطرة نفط واحدة من المنطقة. إن جمهورية إيران لديها المقدرة على منع تصدير النفط من ساحل الخليج ومن نفطنا إذا ما أخفقت أوروبا في تناول القضية النووية بحكمة. [دورية مختارات إيرانية، العدد 71].
ولكن كان هناك خيار آخر هو «الحرب الاستباقية عن بُعد» التي تشعل المنطقة وتصرف الأنظار عن الملف النووي الإيراني، وتكسب طهران ورقة تفاوضية جديدة، كما تدعم تأثيرها الإقليمي من خلال قدرتها على إثارة المشكلات والأزمات، ولعل من الشواهد المؤيدة لهذا التحليل الحرص الإيراني على توفر البعد العسكري لدى الأقليات الشيعية التي تدعمها في دول أخرى، وهذه حقيقة ثابتة لا يمكن التشكيك فيها.(/2)
خامساً: الهدف الحقيقي من عملية حزب الله:
أعلن حزب الله عن عمليته التي سماها «الوعد الصادق» وذلك نسبة إلى الوعد الذي قطعه حسن نصر الله على نفسه أن يشارك سمير قنطار المعتقل في السجون الصهيونية في احتفالات التحرير القادمة 25 مايو، وبذلك يكون الهدف الرئيس المعلن من العملية تنفيذ عملية تبادل موسعة للأسرى في سجون الكيان الصهيوني.
ولكن هذا التخريج للأحداث يبدو عسيراً على القبول، وذلك لتوفر مؤشرات وشواهد كثيرة تدعم تحليلاً آخر يقول إن حزب الله نفذ حرباً بالوكالة نيابة عن طهران، وأن الهدف لم يكن تنفيذ عملية تبادل للأسرى، أو حتى تغيير قواعد اللعبة من خلال تفعيل أسلوب الاختطاف باعتباره وسيلة ردع، ولكن كان الهدف الأساس من كل ذلك هو استدراج العدو إلى حرب مكشوفة تكون الخيارات فيها مفتوحة لقصف المدن الصهيونية بالصواريخ ـ الإيرانية والسورية ـ وهو ما يعني ابتكار وسيلة ردع جديدة يفتتحها حزب الله، وهي القصف المتبادل في العمق المدني والعسكري. وكان واضحاً منذ بدء الأزمة أن حزب الله لديه أجندة محددة وخطوات مرتبة، وتصعيد مدروس ومتدرج في تنفيذ عمليات القصف على المدن، بل وفي إدراجها في سياق رد الفعل ـ الردعي ـ على القصف الصهيوني، كما كان هناك تقسيم دقيق للأهداف لا يحرقها جملة واحدة، وبذلك أصبح وارداً ومحتملاً وقريباً أن يتعرض العمق الصهيوني للقصف بصواريخ أقوى تأثيراً في حال تعرض إيران وسورية لهجمات أمريكية أو صهيونية، ولدى البلدين صواريخ تصل إلى عمقها بسهولة، وقد كان واضحاً تطور مستوى الدقة في إصابة صواريخ حزب الله لأهدافها.
وبذلك تكون عملية الوعد الصادق ليس المقصود بها تحرير الأسرى، ولكن تقديم صورة لما يمكن أن يحدث في حال تعرض إيران أو سورية لهجمات أمريكية، وأيضاً تفعيل وسيلة الردع الجديدة. وهناك كما قلنا شواهد تؤيد هذا التحليل نذكر أهمها فيما يلي:
1 ـ عملية «الوهم المتبدد» التي نفذتها حماس قدمت نموذجاً ومثالاً عملياً واضحاً لرد الفعل الصهيوني لا يمكن أن يغيب عن أي متخذ للقرار داخل حزب الله، وبذلك لا يمكن أن يكون الحزب قد فوجئ بمستوى رد الفعل الصهيوني كما يرجح بعض المراقبين.
2 ـ أسرى الحزب في سجون العدو تراجع عددهم كثيراً وأبرزهم ثلاثة فقط هم يحيى سخاف، وسيم نصار، سمير قنطار. ولا يبدو معقولاً أن يُقْدِم الحزب على مغامرة خطيرة كهذه من أجل تحرير قنطار من الأسرى وليس أسيراً واحداً، وخاصة أن الحزب نجح بالفعل في إتمام صفقة تبادل لـ 314 أسيراً لبنانياً وفلسطينياً مع الكيان الصهيوني منذ سنوات مقابل ثلاث جثث متحللة لجنود صهاينة، وكان يمكن بسهولة الاحتفاظ ببضع جثث من عملية الوعد الصادق لمبادلتها لاحقاً، وذلك بلا شك سيكون أخف وطأة.
3 ـ امتلكت الترسانة العسكرية لحزب الله كميات كبيرة ومتطورة من الصواريخ في الفترة الأخيرة، وقدرت مصادر مخابراتية صهيونية عدد الصواريخ بنحو 10 آلاف إلى 15 ألف صاروخ، من بينها فجر 3 وفجر 4 وفجر 5 ويصل مداها إلى أبعد من مدينة حيفا التي تبعد 40 كم فقط عن حدود لبنان، ويمتلك الحزب صاروخاً يصل مداه إلى 150 كم وهو قادر على الوصول إلى العاصمة تل أبيب التي تبعد 120 كم فقط عن حدود لبنان، وترجح التقارير امتلاك الحزب لـ 100 صاروخ فقط من هذا النوع، وقالت تقارير أخرى إن الحزب أطلق صاروخ أرض بحر من نوع سي 208 يتخطى مداه 100 كم وهو من الصواريخ المتطورة جداً في العمليات البحرية. [صحيفة المصري اليوم 17/7/2006م].
4 ـ في حوار مع صحيفة الحياة قال وليد جنبلاط: «الجواب الفارسي لموضوع التخصيب ما حصل في لبنان» وأضاف: «هذه الترسانة المتطورة لا تأتي من العبث، تقول إيران لأمريكا تريدون محاربتي في الخليج أو ضرب المنشآت النووية، نصيبكم في عقر داركم في أرض العدو المحتلة، وساحة المعركة طبعاً لبنان». [الحياة 21/6/1427هـ].
5 ـ توقيت عملية الوعد الصادق في حال افترضنا صحة الهدف المعلن لها، سيكون عجيباً جداً، وخاصة أن هناك عملية سابقة نفذها الفلسطينيون ولم يقبل الكيان الصهيوني حتى الآن بتنفيذ عملية تبادل للأسرى، وعملية نوعية كهذه تحتاج إلى تخطيط طويل المدى وتنتظر فقط قراراً سياسياً، وقد قال حسن نصر الله بصراحة: «نحن الذين نختار الزمان والمكان، ولا يستطيع العدو أن يفرض علينا الوسيلة أو زمن اختيار الوسيلة» إنه إذن اختيار عجيب. [صحيفة الحياة].
ü الرد الصهيوني القوي دليل على الضعف:(/3)
كان إيهود أولمرت رئيس وزراء دولة العدو في زيارة لمنزل الجندي المخطوف في غزة يعد والده بقرب إطلاق سراحه، عندما جاءه السكرتير العسكري للحكومة بخبر اختطاف جنديين آخرين في جنوب لبنان، وكانت الصدمة قوية لدرجة أن اتخاذ قرار الحرب المفتوحة على لبنان جاء سريعاً جداً ودون دراسة كافية لأبعاده، وقد نقلت الصحافة الصهيونية أنه في مجلس الوزراء المصغر الذي اتخذ قرار الحرب على لبنان، كان شيمون بيريز الوزير الوحيد المعترض، وكان سؤاله لرئيس الأركان دان حلوتس عن الخطوات التالية، وقال إنه يفهم الخطوة الأولى والثانية، ولكن لا يفهم الثالثة والرابعة، وجاء رد حلوتس معبراً، فقال: إن الخطوة الثالثة مرتبطة بالخطوة الثانية، وإن الرابعة مرتبطة بالثالثة، وكلها مرتبطة بما سيحدث على أرض الواقع. [صحيفة الفجر 17/7/2006م]. وقد جاء تهديد وزير الدفاع الصهيوني (عامير بيرتس) المفاجئ بأن دولتهم يمكن أن تحتل لبنان عشرين عاماً، ليبرز مدى التخبط حول الخطوات التالية بالفعل، كما أن حزب الله نجح في أن ينافس الجيش الصهيوني في منظومة الفعل ورد الفعل؛ فبعد أن كان الحزب يهدد بأن قصف الضاحية الجنوبية سوف يكون خطاً أحمر، صرحت حكومة العدو بأن ضرب حيفا خط أحمر، ولما ضُربت حيفا أمر الجيش سكان الجنوب اللبناني بالرحيل إلى الشمال، كما هدد الحزب بضرب المنشآت البتروكيماوية في حيفا وغيرها.
والمثير في المشهد السياسي الصهيونيي والذي يكشف عن مستوى المفاجأة أن الحكومة التي يرأسها ويشغل منصب وزير دفاعها مدنيان للمرة الأولى في تاريخ الكيان الصهيوني منذ عام 1948، كانت قد وافقت بإجماع 18 وزيراً وامتناع 8 عن التصويت على تخفيض ميزانية وزارة الدفاع بمبلغ نصف مليار شيكل، ولا شك في أن تعديلاً سيطرأ على الميزانية بعد أن تضاف تكلفة شن حرب مفتوحة ضد لبنان لا يعلم على وجه التحديد متى تنتهي وما تبعاتها.
وقد ذكرت صحيفة هآرتس اليهودية خبراً لو تأكد فسوف يكون مؤشراً على مستوى الضعف السياسي الذي بلغته الحكومة الحالية بقيادة أولمرت والتي تعرضت لخمس طلبات لسحب الثقة منها في الأيام الماضية من أحزاب المعارضة بما فيها الليكود.
قالت هآرتس: إن يوفال ديسكين رئيس جهاز الشاباك الذي التقى (أبو مازن) سراً في الأردن نقل إليه رسالة شبه رسمية مفادها أن تل أبيب لديها استعداد للتفاوض حول صفقة لإطلاق أسرى مقابل الجندي الأسير ولكن مع (أبو مازن) وليس مع حماس. وقال ديفيد وولش مساعد رايس في مؤتمر صحفي عقب محادثاته مع أبو مازن في رام الله: إن قضية الأسرى قضية عاطفية بالنسبة للفلسطينيين ولا بد من معالجتها بين عباس والجانب (الصهيوني) بعيداً عن التدخلات الخارجية. [صحيفة المصري اليوم 16/7/2006م].
ü المرآة اللبنانية والعجز العربي:
أخطر ما في الحرب أنه لو نتج عنها نصر واضح للجيش الصهيوني فسوف يكون ذلك بادرة غير مسبوقة لها انعكاساتها على المنطقة في المرحلة القادمة؛ حيث سيعني ذلك أن حكومة العدو نجحت في تنفيذ سياسة ردع جديدة وفعالة عن طريق استخدام رد فعل هائل يتضمن كل الأعمال الوحشية من قتل وتدمير وتهجير، في مواجهة فعل متوسط أو محدود، ومع استحضار ردود الفعل العربية والدولية الباهتة فإن مستقبل المقاومة سيكون في خطر كبير، وستكون هناك حسابات جديدة ربما تؤدي إلى تقهقر المقاومة، وخاصة أن الانتقال من استهداف المدنيين إلى التركيز على الأهداف العسكرية لم يخفف من الضغوط على المقاومة، بل تأتي الأحداث الأخيرة لتدفع بمسار المقاومة في اتجاه معاكس تماماً، وبذلك تكون الحسابات الإيرانية في المنطقة العربية قد أحدثت ضرراً كبيراً للمقاومة التي تزعم طهران تبنيها ودعمها.
وعلى الجانب العربي أصبحت الدول ذات المشكلات الطائفية والعرقية تعكس بوضوح مستوى الفعل السياسي العربي المتدهور دائماً، والذي انتقل من سياق رد الفعل الذي كان مثار الانتقاد إلى سياق الفعل المُعادي، بحيث إن وزير شؤون الهجرة الصهيوني (زئيف بويم) رحب بالضغوط المتصاعدة التي مورست على حزب الله بشكل شجاع جداً داخل لبنان، وكذلك من جانب الدول العربية المعتدلة [صحيفة المصري اليوم 16/7/2006م].
ويمكن تلخيص دلالات الموقف العربي تجاه الحرب على لبنان في المؤشرات التالية:(/4)
1 ـ تحولت بعض الدول العربية إلى ساحات للصراع وميادين للحروب بالوكالة بين أطراف دولية وإقليمية، وتطور نفوذها داخل الدول العربية إلى التفاوض المشترك بعيداً عن أي طرف عربي حتى لو كانت مصالحه مرتبطة بالدولة محل النزاع، وبعد أن دعت واشنطن طهران إلى مفاوضات مباشرة حول العراق، تسعى إيران حالياً للمشاركة في أي مفاوضات تتعلق بلبنان، وقد كشف الرئيس المصري أن طهران كانت ترغب في المشاركة في جهود الوساطة العربية لدى حزب الله، وقال: «إن الإيرانيين طلبوا حضور اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب وتشكيل لجنة مشتركة تضم حزب الله وحماس، لكن مصر أدركت أن هذا فخ». (الحياة 21/6/2006م).
2 ـ لا تزال الدول العربية عاجزة عن التعامل مع الأمر الواقع، وتصر لاعتبارات الرأي العام ولافتقاد كل قدرة على الفعل على تداول مصطلحات ومسميات لم تعد ذات قيمة في الصراعات الدولية، مثل: دور المجتمع الدولي ـ دور الأمم المتحدة ـ وساطة الولايات المتحدة ـ المصالح العربية المشتركة.
3 ـ الدور المصري منذ استلام شارون للسلطة في عام 2001م طرأ عليه تغير إستراتيجي لم يهتم به كثير من المراقبين، وهو الانتقال من دور اللاعب والمفاوض الرئيس إلى دور الوسيط، والذي تتمثل قيمته في ممارسة الضغوط على الطرف الفلسطيني أو العربي.
4 ـ لم يعد بالإمكان تجاهل حقيقة أن الأقليات العرقية والطائفية بمثابة قنابل تنتظر تفجيرها من قِبَل أعداء العالم العربي، وقد انضمت إيران إلى قائمة الدول التي تسعى إلى اللعب بهذه الورقة لتحريك الأحداث داخل الدول العربية بما يتوافق مع مصالحها.
5 ـ رخص الدماء العربية وتراجع مستوى ردود الفعل حتى لدى الرأي العام المحلي والعالمي مؤشر ينذر بالخطر؛ فهذا يعني أن طابور الطامعين سوف يزداد مع رخص الثمن، وأن المنطقة ستظل معرضة لافتعال حروب جديدة يمكن أن تثور لأتفه الأسباب وأسرعها أيضاً، ولا شك أن دخول إيران على الخط سوف يدفع بدول أخرى للتنافس على الكعكة العربية، وخاصة أن هناك بعض الآراء الغربية التي تدعو للقبول بإيران نووية، فقد صرح بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق في عهد الرئيس جيمي كارتر خلال مشاورات الوكالة الدولية للطاقة مع واشنطن بشأن اتخاذ موقف ضد إيران قائلاً: «إن الغرب مضطر أن يتعايش بجوار إيران النووية» [مختارات إيرانية 71].
6 ـ حكومة حماس أصبحت على مفترق طرق، فرغم أن مركز الحدث انتقل إلى لبنان إلا أن الخطر يكمن في النتيجة التي يمكن أن تسفر عنها الأزمة الحالية، وقد بدأت دول عربية بالفعل في التجهز لهذه المرحلة التي يتوقعون فيها انتصاراً صهيونياً، وستكون حماس أولى الضحايا، ولعل المؤشرات بدأت بالظهور؛ فقد تم إلغاء مؤتمر صحفي لمحمد نزال القيادي في حماس كان مقرراً عقده بالقاهرة التي كان يزورها للالتقاء مع اللواء عمر سليمان مدير المخابرات، وأُخبر نزال أن حياته في خطر؛ لأنه مدرَج على قائمة الاغتيالات الصهيونية، فاضطر للعودة إلى دمشق. [صحيفة الأسبوع المصرية 17/7/2006م].
ويبقى في النهاية تساؤل بسيط في ألفاظه عميق في دلالاته، وهو: ما هي الخطوط الحمراء لدى الدول العربية التي لا يسمح بتجاوزها من قِبَل الولايات المتحدة، أو العدو الصهيوني؟ وهل يمكن القول إن العالم العربي قد تحول بأسره إلى أفق أخضر؟
نسأل الله ـ تعالى ـ أن يلطف بأمتنا المسلمة، وأن يكفيها شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.(/5)
المرأة بين الحجاب والتبرج
252
الأسرة والمجتمع
المرأة
منصور الغامدي
الطائف
20/2/1420
أبو بكر الصديق
ملخص الخطبة
- نعمة الله على عباده باللباس والرياش – التلازم بين سَتر العورة والتقوى – العلاقة بين الدعوة إلى السفور والعُرْي ومخطط اليهود – أهمية الحجاب وشروطه – مظاهر التسيّب في حجاب المرأة اليوم
الخطبة الأولى
ثم أما بعد:
أيها المسلمون، لقد امتن الله على عباده بما جعل لهم من اللباس والرياش، قال الله ـ تعالى ـ: يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ.
فاللباس، لستر العورات وهي السوآت، والرياش والريش ما يتجمل به ظاهرا، فالرياش من الضروريات، والريش: من التكملات والزيادة، ولباس التقوى هو الإيمان وخشية الله. قال عبد الرحمن بن أسلم: يتقي فيواري عورته، فذاك لباس التقوى.
أيها الاخوة الكرام، إن هناك تلازم بين شرع الله اللباس لستر العورات للزينة وبين التقوى، كلاهما لباس، هذا يستر عورات القلب ويزينه، وذاك يستر عورات الجسم ويزينه، وهما متلازمان، فمن الشعور بالتقوى والحياء ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو غيره إلى العري، العري من الحياء والتقوى، والعري من اللباس وكشف السوأة.
إن ستر الجسد للذكر والأنثى ليس مجرد اصطلاح وعادات وعرف بيئي، كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس والنساء وعفتهم لتدمر إنسانيتهم، إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان، ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر.
ومن هنا يستطيع المسلم الواعي أن يربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الرجال والنساء وأخلاقهم، والدعوة السافرة لهم إلى التكشف والانحلال باسم الزينة والحضارة والتطور من جهة، وبين الخطة اليهودية لتدمير إنسانيتهم، وجعلهم يتزينون بزي الحيوانية وهي زينة التكشف والعري.
إن المسلم الحق هو الذي يمتثل قول الله ـ عز وجل ـ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. وقد أمر الله سبحانه إماءه بالحجاب والستر، قال ـ تعالى ـ: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً. قال ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب.
إن هذا الغطاء الذي يستر الوجه والبدن هو علامة المسلمة المحتشمة التي تدين الله بالخضوع والطاعة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ.
وقد ذكر العلماء شروطا للبس المرأة المسلمة العارفة لدينها الحريصة على حيائها الأول:
أن يكون ساترا لجميع البدن، الثاني: أن يكون كثيفا غير رقيق ولا شفاف، لأن الغرض من الحجاب الستر، فإذا لم يكن ساترا لا يسمى حجابا، لأنه لا يمنع الرؤية ولا يحجب النظر.
الثالث: ألا يكون زينة في نفسه أو مبهرجا ذا ألوان جذابة يلفت الأنظار لقوله تعالى: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا، ومعنى (ما ظهر منها) أي بدون قصد ولا تعمد، فإذا كان في ذاته زينة فلا يجوز ارتداؤه، ولا يسمى حجابا، لأن الحجاب هو الذي يمنع ظهور الزينة للأجانب، ومن هنا يعلم أن كثيرا من العباءات التي تباع الآن وفيها من الزينة ما يلفت النظر لا يجوز ارتداؤه.
الرابع: أن يكون واسعا غير ضيق ولا يشف عن البدن، ولا يجسم العورة، ولا يظهر أماكن الفتنة.
الخامس: ألا يكون الثوب معطرا فيه إثارة للرجال لقوله : ((إن المرأة إذا استطعرت فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية))[1].
السادس: أن لا يكون الثوب فيه تشبه بالرجال لحديث أبي هريرة : ((لعن النبي الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل))[2]، وفي الحديث: ((لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء))[3].
السابع: أن لا يشبه ملابس الكافرات، قال : ((من تشبه بقوم فهو منهم))[4]، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: رأى رسول الله علي ثوبين معصفرين، فقال: ((أن هذه من ثياب الكفار، فلا تلبسها))[5].
وقد حذر النبي من فتنة النساء قال عليه الصلاة والسلام: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء))[6] متفق عليه، ولقد عرف أعداء الإسلام أن في فساد المرأة وتحللها إفساداً للمجتمع كله.
يقول أحد كبار الماسونية: كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوهم في حب المادة والشهوات.(/1)
وقال آخر: يجب علينا أن نكسب المرأة، فأي يوم مدت إلينا يدها فُزْنا بالمراد وتبدد جيش المنتصرين للدين.
ومن حينها باتت دور الأزياء وصيحات الموضة تنسج لنساء المسلمين كل ما يخدش لحياء ويفضي إلى التهتك، من الملابس الضيقة والعارية والقصيرة والمفتوحة، وأصبحت مجلات الأزياء وغيرها توجه الفتاة المسلمة بكل خبث إلى نوع ما ترتديه من ملابس في صيف عام كذا، أو في شتاء عام كذا، حتى غدت المسلمة أسيرة لآخر الموديلات وأحدث التقليعات التي فيها تشبه بالكافرات، ومحبتهم والإعجاب بهم، وهذا قادح في كمال عقيدة المسلمة.
لحد الركبتين تشمرينا بربك أي نهر تعبرينا
كأن الثوب ظل في صباح يزيد تقلعاً حينا فحينا
تظنين الرجال بلا شعور لأنك ربما لا تشعرينا
قال : ((صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا))[7]، ولقد تحققت نبوة رسول الله فقد وصفهن وصف المشاهد لهن، فمعنى (كاسيات عاريات): يلبس ثيابا رقيقة تصف لون الجسد أو قصيرة، فهي كاسية في الاسم عارية في الحقيقة. ومعنى (مائلات): أي زائغات عن طاعة الله، وما يلزمهن من الحياء والتستر مائلات في مشيتهن. (مميلات): أي مميلات فيرهن فيعلمنهن التبرج والسفور بوسائل متعددة، مميلات لقلوب الرجال لفعلهن، ومعنى (رؤوسهن كأسنمة البخت): أي يعملن شعورهن بلفها وتكويرها إلى أعلى كأسنمة الإبل المائلة.
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد ابن عثيمين عن اللباس الضيق والمفتوح للمرأة فقال: هذا اللباس لباس أهل النار، كما قال النبي : ((صنفان من أهل النار لم أرهما..))، وذكر الحديث السابق، فهذه المرأة التي تلبس هذا اللباس كاسية عارية، لأن اللباس إذا كان ضيقا فإنه يصف حجم البدن ويبين مقاطعه، وكذلك إذا كان مفتوحا، فإنه يبين ما تحته، لأنه ينفتح، فلا يجوز مثل هذا اللباس، وقال ـ حفظه الله ـ في موضع آخر: أرى إنسياق المسلمين وراء هذه الموضة من أنواع الألبسة التي ترد علينا من هنا وهناك، وكثير منها لا يتلاءم مع الزي الإسلامي الذي يكون فيه الستر الكامل للمرأة، مثل الألبسة القصيرة أو الضيقة جدا أو الخفيفة، ومن ذلك لبس البنطلون فإنه يصف حجم رِجل المرأة، وكذلك بطنها وخاصرتها وغير ذلك، فلابسته تدخل تحت الحديث الصحيح السابق، فنصيحتي لنساء المؤمنين ولرجالهن أن يتقوا الله ـ عز وجل ـ، وأن يحرصوا على الزي الإسلامي الساتر وألا يضيعوا أموالهم في اقتناء مثل هذه الألبسة، أما عن حكم لبس مثل هذه الملابس عند المحارم والنساء فقال: وأما بين المرأة والمحارم فإنه يجب عليها أن تستر عورتها، والضيق لا يجوز لا عند المحارم ولا عند النساء إذا كان الضيق شديدا يبين مفاتن المرأة انتهى كلامه ـ حفظه الله ـ.
بارك الله لي ولكم...
---
[1] حسن، أخرجه أحمد (4/418)، وأبو داود: كتاب الترجل، باب ما جاء في المرأة تتطيب للخروج، حديث (4173)، والترمذي: كتاب الأدب، باب ما جاء عن كراهية خروج المرأة المتعطرة، وقال: حسن صحيح، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2698).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (2/225)، وأبو داود: كتاب اللباس – باب في لباس النساء، حديث (4098)، والطبراني في الأوسط (988)، والحاكم: كتاب اللباس (4/194)، وصححه ولم يتعقبه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4971).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب اللباس – باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت، حديث (5886).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (2/50)، وابن أبي شيبة في المصنف: كتاب اللباس – باب في لبس الشهرة حديث (4031)، وحسّن ابن حجر إسناد أبي داود، فتح الباري (10/271)، وقال شيخ الإسلام في اقضتاء الصراط المستقيم (1/240): وهذا إسناد جيد، وانظر حجاب المرأة المسلمة للألباني (ص104).
[5] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب اللباس – باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، حديث (2077).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب ما يُتقيى من شؤم المرأة، حديث (5096)، ومسلم: كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء ... حديث (2740).
[7] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب النساء الكاسيات العاريات... حديث (2128).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
أيها الاخوة الكرام، لقد شاع في هذا الزمان بين أوساط كثير من النساء محاذير شرعية في لبسهن، جعل المرأة المسلمة تنحرف عن مسارها الصحيح، هاجرة تعاليم ربها، مقبلة على أهوائها وشهواتها، إن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان وزين لها الظهور أمام الرجال بمنظر لافت، وخدعها بأن تمشي فيهم بطريقة معينة، إلى غير ذلك مما يزينه لها الشيطان.(/2)
ومما شاع أيها الاخوة الفضلاء ما رأيتموه جميعا بل كل يوم يأتينا عنه نبأ، ألا وهي العباءة لا تحمل أي شكل من أشكال الإغراء، فتارة ترى عباءة مزينة بالقيطان أو مطرزة في موضع الأكمام أو الصدر أو الظهر، أو عبارة مكتوبة عليها بالذهبي عبارات ملفتة أو العباءة الفرنسية، أو موديل الدانتيل، أو موديل التخريم وغيرها وغيرها.
ومن مشاهد الضياع في ارتداء الحجاب، ما يفعله بعض النساء من وضع العباءة على كتفها ولف الطرحة على رأسها ليبدوا قوامها ويمتشق قدها، ولا شك أيها الإخوة أن هذا الفعل فتنة للمرأة وفتنة للرجل، وقد أفتى الشيخ عبد الله بن جبرين بحرمة هذا الفعل، سئل ـ حفظه الله ـ: إنه انتشر بين نساء المسلمين ظاهرة خطيرة وهي لبس بعض النساء العباءة على الكتفين وتغطية الرأس بالطرحة والتي تكون زينة في نفسها، وهذه العباءة تلتصق بالجسم وتصف الصدر وحجم العظام ويلبسن هذا اللباس موضة أو شهرة، ما حكم هذا اللباس وهل هو حجاب شرعي؟ وهل ينطبق عليهن حديث النبي : ((صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما..))؟
قال ـ حفظه الله ـ: قد أمر الله النساء المؤمنات بالتستر والتحجب الكامل قال ـ تعالى ـ: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ. والجلباب: هو الرداء الذي تلتف به المرأة ويستر رأسها وجميع بدنها، فلبس المرأة للعباءة هو من باب التستر والاحتجاب الذي يقصد منه منع الغير من التطلع ومد النظر قال تعالى: ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ، ولا شك أن بروز رأسها ومنكبيها مما يلفت الأنظار نحوها، فإذا لبست العباءة على الكتفين كان ذلك تشبها بالرجال، وكان منه إبراز رأسها وعنقها وحجم المنكبين، وبيان بعض تفاصيل الجسم كالصدر والظهر ونحوه، مما يكون سبباً للفتنة وامتداد الأعين نحوها وقرب أهل الأذى منها ولو كانت عفيفة، وعلى هذا فلا يجوز للمرأة لبس العباءة فوق المنكبين لما فيه من المحذور ويخاف دخولها في الحديث المذكور السابق ذكره، انتهى كلامه ـ حفظه الله ـ.
ومن مظاهر الحجاب العصري الفاسدة المنتشرة بين كثير من الفساد بداعي التقليد والإثارة أو الجهل، ما يفعله كثير منهن من إظهار العينين وجزء من الوجه وربما اكتحلت إحداهن أو وضعت الأصباغ على وجهها لتبدوا بشكل لافت ومثير.
أيها الاخوة الكرام، إن إطلاق المرأة لبصرها تنظر في الرجال وينظرون إليها، لهو فتنة لها ولقلبها، والنساء ضعيفات سريعات التأثر، فينتج عن ذلك فتنة وفساد كبير ـ أعاذنا الله وإياكم ـ.
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن ما يسمى بالنقاب وطريقة لبسه، ففي بداية الأمر كان لا يظهر إلا العينان فقط، ثم بدأ النقاب بالاتساع شيئا فشيئا فأصبح يظهر مع العينين جزء من الوجه مما يجلب الفتنة، ولا سيما أن كثيرا من النساء يكتحلن عند لبسه. فأجاب فضيلته: في وقتنا هذا لا نفتي بجوازه بل نرى منعه وذلك لأنه ذريعة إلى التوسع فيما لا يجوز، ولهذا لم نفت امرأة من النساء لا قريبة ولا بعيدة بجواز النقاب أو البرقع في أوقاتنا هذه، بل نرى أنه يمنع منعا باتا، وأن على المرأة أن تتقي ربها في هذا الأمر وأن لا تنتقب، لأن ذلك يفتح باب شر لا يمكن إغلاقه، فيما بعد الأسواق والحدائق الأماكن العامة.
ومن مظاهر التناقص في لبس الحجاب، أن ترى المرأة المسلمة بلبس حجابها ولكن فوق ثوب مشقوق الجانبين أو فوق تنورة مفتوحة من الخلف، وربما تلبس عباءتها فوق بنطلون يكون في بعض الأحيان ضيقا، أو تسير بين الرجال ورائحة الطيب تفوح منها، وربما تجد امرأة قد أكملت حجابها ولمت عباءتها ولكنها تتحدث مع صاحب المحل بصوت متكسر يطمع الرجال فيها.
أيها الاخوة المؤمنون، إن هذه المظاهر الشاذة في مجتمعنا المسلم المحافظ لمما يبعث على الأسى والحسرة، ولكن ما هو واجبنا كرجال ملكنا القوامة على النساء، وحملنا مسؤولية التوجيه والتربية لزوجاتنا وبناتنا؟
إن الواجب أن نتقي الله ـ سبحانه ـ أولا وآخرا، وأن ننصح لزوجاتنا وبناتنا، ونعلمهن ما هو حلال ونعينهن عليه، وما هو حرام فنزجرهن عنه، لأن الرجل هو الذي يغار على أهله ويحفظهم من نظرات الساقطين والسافلين، فلنكن أيها الاخوة رسل هداية ومنابر توجيه لأهلينا، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما فيه مرضاته.
ألا صلوا وسلموا..(/3)
المرأة بين جاهليتين
259
الأسرة والمجتمع
المرأة
منصور الغامدي
الطائف
14/1/1420
أبو بكر الصديق
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
- أهمية موضوع المرأة وخطورته – المؤامرة على المرأة المسلمة – وضع المرأة قبل الإسلام ( الهند – الصين – اليهود – النصارى ) – المرأة في ظل الجاهلية الحديثة
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الاخوة الكرام: أجد من الأهمية أن أتحدث عن موضوع يهم كل إنسان فينا، وكل شخص فينا تربطه علاقات حميمة مع موضوعنا، لأنه لا يمكن بحال من الأحوال أن ينفصل عنه كما أنه موضوع تساهل في النظرة إليه بجدية ثلة غير قليلة من الناس، واستغله فئة ماكرة فغدت تعيث فسادا .
إن موضوعنا يا عباد الله هو المرأة، نعم المرأة التي هي الأم والأخت ،البنت، والزوجة، فنحن محاطون بهذا المربع الصالح النافع، مما يجعلها مدار اهتمام المسلم .
أيها الاخوة الفضلاء : إن المرأة المسلمة هي أم المستقبل ومربية الليوث القادمة، والحصن المنيع ضد تيارات الفساد والتدمير، بل إنها نموذج الصبر والتضحية، إنها قبس في البيوت مضيء، وجوهرة تتلألأ .
ولكن لم يكن لأصحاب تيار الرذيلة والانحراف يد من نسف الحياة الطيبة التي تعيشها المرأة المسلمة في ظل دينها وإسلامها فأصبحت وسائل الإعلام بمختلف أنواعها توجه المرأة وغدت المنظمات الدولية والمؤسسات الحقوقية تتسابق في توجيه المسلمة وتعريفها بمسؤولياتها وواجباتهم وتتباكى على حال المرأة المسلمة ، بل زوجة الرئيس الأمريكي أصبحت تقوم بدور التوجيه للمرأة المسلمة من أجل ذلك كان لا بد من الحديث عن المرأة التي شرفها الإسلام وأكرمها .
أيها الاخوة المسلمون : وبضدها تتميز الأشياء، لنقف على نافذة التاريخ، لننظر كيف كانت المرأة تعيش، وأي منزلة ترتقي، وما هو دورها في الحياة، قبل أن تشرق عليها شمس رسالة محمد التي نزل بها الروح الأمين من عند رب العالمين .
فنجد الهنود في شرائعهم أنه : ليس الصبر المقدر، والريح والموت، والجحيم، والسم والأفاعي، والنار أسوأ من المرأة، ولم يكن للمرأة عندهم حق الاستقلال عن أبيها أو زوجها أو ولدها، فإذا مات هؤلاء جميعا وجب أن تنتمي إلى رجل من أقارب زوجها وهي قاصرة، طيلة حياتها، ولم يكن لها حق بعد وفاة زوجها، بل يجب أن تموت يوم موت زوجها، وأن تحرق معه وهي حية على موقد واحد .
أما في الصين : فللرجل حق بيع زوجته كالجارية، وإذا ترملت المرأة الصينية أصبح لأهل الزوج الحق فيها كثروة، وللصيني الحق في أن يدفن زوجته حية .
والمرأة عند الغرب مباح الزواج منها سواء أكانت أما أو أختا أو عمة أو خالة، إن بنتا للأخ، أو بنتا للأخت .
أما اليهود فكانوا يعتبرون المرأة لعنة، لأنها أغوت آدم، وعندما يصيبها الحيض لا يجالسونها ولا يؤاكلونها ولا تلمس وعاء حتى لا يتنجس.
أما حال المرأة عند الأمم النصرانية: فقد قرروا أن الزواج دنس يجب الابتعاد عنه، وأن العزب أكبر عند الله من المتزوج وكان الفرنسيون في عام 586م، يعقدون مؤتمرا يبحثون فيها هل تعد المرأة إنسانا أم غير إنسانا، وهل لها روح أم ليس لها روح، وإذا كانت لها روح هي روح حيوانية أم روح إنسانية وإذا كانت روحا إنسانية، فهل على مستوى روح الرجل أم أدنى منها، ويعد المداولات والمشاورات قرروا أنها إنسان، ولكنها خلقت لخدمة الرجل فحسب .
وتذكر بعض المصادر أنه قد شكل مجلس اجتماعي في بريطانيا خصيصا لتعذيب النساء ،و ذلك سنة خمسمائة، وألف من الميلاد، وكان من ضمن مواده: تعذيب النساء وهن أحياء بالنار.
وكان القانون الإنجليزي حتى عام 1805م يبيح للرجل أن يبيع زوجته وقد حدد ثمن الزوجة لستة بنسات .
هكذا كانت المرأة تعيش الذل والاضطهاد والاحتقار والبخس والتعذيب عند الأمم قبل الإسلام.
وتعالى معي لنرى كيف كان حالها في ظل الجاهلية العربية، ما هو موقعها، وأي قدر لها في النفوس .
لم تكن المرأة تأخذ شيئا من الإرث، كانوا يقولون لا يرثنا إلا من يحمل السيف، ويحمي البيضة، وكانوا إذا مات الرجل وله زوجته وأولاد من غيرها كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، فهو يعتبرها إرثا كبقية أموال أبيه .
ومن العادات القبيحة التي ذمها القرآن عادة وأد البنات قال تعالى: قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ، فكانت بعض القبائل تئد البنات والأولاد خشية الفقر، وبضعهم يئدها خشية العار، أو ما عسى أن يصيبها من ذل أو سباء.(/1)
روي أن رجلا من أصحاب رسول الله كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله فقال له رسول الله : ((مالك تكون محزونا، فقال: يا رسول الله إني أذنبت ذنبا في الجاهلية، فأخاف ألا يغفر الله وإن أسلمت، فقال له: أخبرني عن ذنبك، فقال : إني كنت من الذين يقتلون بناتهم فولدت بنت، فتشفعت لي امرأتي أن أتركها، فتركتها حتى كبرت، وأدركت، وصارت من أجمل النساء، فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها، أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة، إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي، فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بالثياب، والحلي، فأخذت علي المواثيق بأن لا أخونها، فذهبت إلى رأس البئر فنظرت في البئر، ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول: يا أبت ماذا تريد أن تفعل بي فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لا تضيع أمانة أمي، فجعلت مرة أنظر في البئر، ومرة أنظر إليها وأرحمها، حتى غلبني الشيطان، فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة وهي تنادي في البئر، يا أبت قتلتني، فمكثت هناك حتى انقطع صوتها، فرجعت، فبكى رسول الله وأصحابه: وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت . هذا هو حال المرأة في الجاهلية العربية، قبل الإسلام، منزوعة الرحمة من القلوب وعدت المرأة من سقط المتاع، قد ضلوا وما كانوا مهتدين .
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم . .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، صلوات ربي وسلامه على المبعوث رحمة للعالمين، وآله وصحبه أجمعين .
وبعد:
أيها الاخوة الكرام: لا يزال الحديث موصولا عن واقع المرأة في ظل ثقافات وأفكار بعيدة عن الإسلام، واسمحوا لي أن أقفز عبر سنين التاريخ القديم والأوسط لأنقل لكم بعض مشاهد الحياة التي تعيشها المرأة، لقد جاءت الحضارة الغربية ورفعت شعارات براقة شعار تحرير المرأة، ومساواتها بالرجل، وعدم كبتها أو التحكم فيها، في ظل هذه الشعارات المزعومة خرجت المرأة من بيتها نعم، وتحررت من كل شيء لا يوافق هواها، فعاشت شقاء ولا يدانيه شقاء، واصطلت بنار هذه الحرية الشوهاء، المزعومة، لقد كتبت تقارير وإحصاءات، مذهلة عما تعانيه المرأة في الغرب فكان ما يلي:
لقد شاعت الفاحشة شيوعا لم يسبق له مثيل، فقد كان أول طوفان تحرير المرأة، لقد اكتسح الغرب التحرير، فلم يتعد مزاولة الفاحشة أجارنا الله وإياكم، مقصورة على دور البغاء، بل تجاوزت ذلك إلى الفنادق والمقاهي الراقصة والمنتزهات و على قارعة الطريق، ولم يعد من الغريب ولا الشاذ أن يقع الأب مع بناته، والأخ مع أخته، بل لقد أصبح ذلك في الغرب شائعا ومألوفا .
وأصبحت الخيانة الزوجية ظاهرة عامة، ففي أمريكا نسبة واحدة من كل أربع نساء أمريكيات تخون زوجها، فالمرأة تخون زوجها والرجل يخون زوجته مما أدى إلى الطلاق وتفكك الأسر وتبعثرها .
لقد غدت صورة الرجل في نظر المرأة أنه وحش مفترس يستأسد على من هو أضعف منه، إنه طفل، ويمكن أن يعتبر بطاقة للحصول على الرزق، كثير من النساء يبدين خوفهن، وقلقهن من الجانب العنيف في الرجال، وينظر الرجل إلى المرأة على أنها قطة متوحشة، يقول سلفستر ستالون :عندي كل الأسباب الوجيهة التي تجعلني أكره النساء .
أما الاغتصاب فإن معدله في الولايات المتحدة وحدها يزيد عن مثيلاتها في اليابان وإنجلترا وأسبانيا بعشرين ضعفا .
أما التفكير في الانتحار في ظل الرفاهية المزعومة، والحرية، وحقوق المرأة التي ينادون بها في الغرب، فإن أربعا وثلاثين بالمئة من النساء يفكرن في الانتحار، أما الأمراض التي ظهرت بسبب الفاحشة والشذوذ فقد انتشر الزهري، والسيلان وهما مرضان خيطران في قمة الأمراض الخطيرة في الغرب، وجاء دور الإيدز يقول جيمس باترسون مؤلف كتاب (يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة): مئات الآلاف من الأمريكيين يكونون علاقات جنسية في كل ليلة من ليالي الأسبوع مع أشخاص يعتقدون أنهم مصابون بهذا المرض، ثم يقول : إن استقراء سريعا، لإحصائيات هذه الدراسة يشير إلى أن هناك ما نسبته، 2.2 مليون أمريكي على يقين بأنهم مصابون بمرض الإيدز، وسبعة ملايين يعتقدون أنهم في خطر كبير من الإصابة بهذا المرض، ومعظم هؤلاء المصابين بالإيدز أو الذين هم في خطر كبير بالإصابة به هم أشخاص أسوياء وغير شاذين، فكم تكون النسبة بين الشاذين ؟
أخي الكريم: تأمل معي فظاعة الأرقام التي سوف أنقلها إلى سمعك عن العنف بوسائل متعددة ضد المرأة في أكثر البلاد حضارة في أمريكا، ثلثا حوادث الاعتداء بالضرب ضد النساء تصدر من أقاربهن والباقي من غير الأقارب .
28 ثمانية وعشرين من حالات الاعتداء الجسمي على النساء تصدر من الزوج والصديق، و35 من أقارب كالأخ ولأب.(/2)
بلغ عدد حالات الاعتداء على النساء عام 94م أكثر من 572 ألف حالة وعلى الرجال 49ألف حالة، وفي عام 1965م كان ملجأ واحدا في أمريكا للنساء المعتدي عليهن، أما في عام 1995م فقد ارتفع عدد الملاجئ إلى 1500ملجأ .
هكذا أيها الاخوة الكرام تعيش المرأة في ظل الجاهليات وإنه لشيء حتمي بسبب البعد عن الله، وهكذا تعيش المرأة المتحضرة المتحررة التي يسعى المنافقون والعلمانيون وأصحاب الشهوات أن نساؤنا وبناتنا حياة ضنكا كما عاشت، وأن تصطلي بنار البعد عن الإسلام، وأن تغدو معذبة محطمة تفكر في الانتحار كل يوم وتعاني صنوف القسوة كل ذلك باسم الحرية، والمساواة والتقدم والانفتاح والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً .
إنها الحرية العرجاء والتي ينادون بها، ويدعون إليها، يريدون إخراج المرأة من عفافها، من شرفها، من دينها، من مملكتها الأسرية، وجنتها الزوجية، مدعيين أنها في سجن وأن جلبابها هو خيمة سوداء ترتديها وأنها جاهلة ومتخلفة، ولن تعرف العلم حتى تلحق بركاب المرأة الغربية وتحذو حذوها: كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ، والحديث متصل بمشيئة الله عن تكريم الإسلام للمرأة في الخطبة القادمة(/3)
المرأة في الإسلام وغيره من المجتمعات
93
المرأة
صالح بن فوزان الفوزان
الرياض
البساتين
ملخص الخطبة
1- وضع المرأة في الجاهلية 2- مساواة المرأة للرجل في كثير من الواجبات الدينية 3- الإسلام يرد للمرأة حقوقها 4- واقع المرأة في المجتمع الغربي 5- الوصية بحسن تربية النساء
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله بامتثال أو امره، واجتناب ما نهاكم عنه لعلكم ترحمون وتفلحون.
عباد الله: سيكون حديثي معكم عن موضوع شغل بال الإنسانية قديما وحديثا، وقد جاء الإسلام بالفصل فيه ووضع له الحل الكافي والدواء الشافي، ألا وهو موضوع المرأة، لأن أهل الشر اتخذوا من هذا الموضوع منطلقا للتضليل والخداع عند من لا يعرف وضع المراة في الجاهلية ووضعها في الاسلام، ووضعها عند الامم الكفرية المعاصرة.
فقد كانت المرأة في الجاهلية، تعد من سقط المتاع لا يقام لها وزن، حتى بلغ من شدة بغضهم لها إنذاك أن أحدهم حينما تولد له البنت يستاء منها جدا ويكرهها ولا يستطيع مقابلة الرجال من الخجل الذي يشعر به.
ثم يبقى بين امرين اما ان يترك هذه البنت مهانة، ويصبر هو على كراهيتها وتنقص الناس له بسببها. وإما أن يقتلها شر قتله، بأن يدفنها وهي حية ويتركها تحت التراب حتى تموت، وقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم % يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون [النحل:58-59]. وأخبر سبحانه أنه سينصف هذه المظلومة ممن ظلمها وقتلها بغير حق، فقال تعالى: وإذا الموءدة سئلت بأي ذنب قتلت [التكوير:8-9]. وكانوا في الجاهلية إذا لم يقتلوا البنت في صغرها يهينونها في كبرها، فكانوا لا يورثونها من قريبها إذا مات، بل كانوا يعدونها من جملة المتاع الذي يورث عن الميت، كما روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بإمرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها فهم احق بها من أهلها، فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها [النساء:19]. وكان الرجل في الجاهلية يتزوج العدد الكثير من النساء من غير حصر بعدد ويسيء عشرتهن، فلما جاء الإسلام حرم الجمع بين أكثر من أربع نساء واشترط لجواز ذلك تحقق العدل بينهن في الحقوق الزوجية قال تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [النساء:3].
نعم لقد جاء الإسلام والمرأة على هذا الوضع السيء، فأنقذها منه وكرمها، وضمن لها حقوقها، وجعلها مساوية للرجل في كثير من الواجبات الدينية، وترك المحرمات وفي الثواب والعقاب، وعلى ذلك قال: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [النحل:97]. وقال تعالى: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [الأحزاب:35].
وفضل الله الرجل على المراة في مقامات، ولأسباب تقتضي تفضيله عليها، كما في الميراث والشهادة والدية والقوامة والطلاق، لأن عند الرجل من الاستعداد الخلقي ما ليس عند المراة وعليه من المسؤولية في الحياة ما ليس على المراة، كما قال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم [النساء:34]. وقال تعالى: وللرجال عليهن درجة [البقرة:228]. جعل الله للمرأة حقا في الميراث فقال سبحانه: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا [النساء:7]، جعل الله لها التملك والتصدق والاعتاق كما للرجل قال تعالى: والمتصدقين والمتصدقات [الأحزاب:35]. جعل لها الحق في اختيار الزوج فلا تزوج بدون رضاها، صانها الله بالإسلام من التبذل، وكف عنها الأيدي الآثمة، والأعين الخائنة، التي تريد الإعتداء على عفافها، والتمتع بها على غير وجه شرعي، وهكذا عاشت المرأة تحت ظل الإسلام وكرامته. أما وزوجة وقريبة واختا في الدين. تؤدي وظيفتها في الحياة ربة بيت واسرة، وتزاول خارج البيت ما يليق بها منا الاعمال إذا دعت الحاجة إلى ذلك مع الاحتشام والاحتفاظ بكرامتها ومع التزام الحجاب الكامل الضافي على جسمها ووجهها، وتحت رقابة وليها. فلا تخلو مع رجل لا يحل لها الا ومعها محرمها. ولا تسافر الا مع محرمها. هذا وضع المراة في الاسلام الذي هو دين الرحمة والكمال والنزاهة والعدل، واوصى بها نبي الاسلام عليه الصلاة والسلام وصية خاصة حين قال في حجة الوداع: ((واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان))، أي اسيرات. هذا وصف تقريبي لوضع المرأة في الإسلام.(/1)
أما وضعها في المجتمعات الكافرة، والمجتمعات التي تتسمى اليوم بالإسلام، وهي تستورد نظمها وتقاليدها من الكفار، إن وضعها اليوم في هذه المجتمعات أسوأ بكثير من وضعها في الجاهلية الأولى، فقد جعلت فيها المرأة سلعة رخيصة تعرض عارية، أو شبه عارية أمام الرجال في مواطن تجمعهم على شكل خادمات في البيوت وموظفات في المكاتب، وممرضات في المستشفيات، ومضيفات في الطائرات والفنادق، ومدرسات للرجال في دور التعليم، وممثلاث في أفلام التلفزيون والسينما والفديو، وإذا لم يمكن ظهور صورتها في هذه الوسائل جاؤوا بصوتها في الراديو مذيعة أو مطربة، وإلى جانب اظهار صورتها المتحركة في وسائل الاعلام المرئية يظهرون صورتها الفوتوغرافية في الصحف والمجلات، بل وعلى أغلفة السلع التجارية، فيختارون أجمل فتاة يجدونها ويضعون صورتها على هذه الصحف والمجلات السيارة أو على غلفة السلع التجارية؛ ليتخذوا منها دعاية لترويج صحفهم وبضائعهم، وليغروا أهل الفساد الخلقي بفسادهم وليفتنوا الأبرياء، وهكذا أصبحت المرأة سلعة رخيصة تعرض في كل مناسبة، لقد ظلموا المرأة فسلبوها حقها الشرعي فمنعوا قوامة الرجل عليها بالإنفاق والرعاية. وعزلوها من ولايتها على البيت وتربية الأولاد وتكوين الأسرة، وهكذا قطعوا عنها كل الروافد التي تعينها على أداء وظيفتها في الحياة حتى اضطروها للخروج لطلب لقمة العيش ولو على حساب عفافها وانتهاك عرضها عند كل فاجر وماجن وحملوها القيام بعمل الرجل، وخلعوا عنها لبأس الستر، وتركوها عارية مظهرة لمفاتن جسمها، تنفذها سهام الأنظار المسمومة من كل جانب، كانت على شاطئ السلامة وبر الأمان، بعيدة عن متناول الأيدي ومماسة الرجال، فقذفوها في بحار الإختلاط المغرقة عرضة للأيدي الآثمة ومطمعا للنفوس الإمارة بالسوء، حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرّم الله في حقها، فمنعوا تعدد الزوجات، الذي هو عين المصلحة للنساء بحيث يتحمل الرجل القوامة على أكبر قدر ممكن منهن، إذ من المعلوم أن عدد النساء في المجتمعات أكثر من عدد الرجال مع ما يعتبر الرجال ويتعرضون له من الأخطار التي تقلل عددهم، فقصروا الرجل على واحدة وتركوا البقية منهن أيامى معرضات للفساد والافساد، قد يتأكلن بأعراضهن، أو يزاولن الأعمال الشاقة مشردات عن البيوت يبحثون عن العمل الذي يعشن من ورائة ولو في بلاد بعيدة عن أو طانهن.
فيسافرن بلا محارم ويعشن غريبات بين أجانب، ويتهددهن الخطر من كل جانب، وهكذا قطع أعداء الله وأعداء الإنسانية عن هذه المرأة المسكينة كل روافد الحياة السعيدة وجردوها من كل حقوقها الإجتماعية ليكونوا منها وسيلة للفساد،وآلة للدمار. وقد تعجبون حين تعلمون أنهم مع هذه الجرائم التي إرتكبوها في حق المرأة، يدعون أنهم أنصارهم والمدافعون عن حريتها والمنادون بالمطالبة بحقوقها مغررين بها كما غرر إمامهم إبليس بالأبوين عليهما السلام حين قاسمهما: اني لكما لمن الناصحين [الأعراف:21]. ويكون العجب أكثر إذا علمتم إن من بين المسلمين أبواقا تردد مقالات هؤلاء أو بعضهما وتروجها في بعض الصحف والمجلات: كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [البقرة:118]. إنهم يرددون أقوالا قيلت من قبلهم وقد لا يدركون معناها.
أيها المسلمون: تنبهوا لدسائس اعدائكم ولمخططاتهم للقضاء عليكم، ومن أعظم ذلك موضوع المرأة الذي اتخذوه سلاحا ضدكم يشهره في وجوهكم بعض المخدوعين من أبنائكم. فأخرسوا هذه الالسن الملوثة، وحطموا هذه الأقلام المشبوهة، التي تنفث هذه السموم بينكم، واعرفوا من أين جاءت فسدوا طريقها عنكم، فإن عندكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ولن تغلبوا، وهو كتاب الله وسنة رسوله ودين الاسلام، وليس عندهم إلا الكذب والتدجيل والخداع، فاحمدوا الله على نعمه واسالوه الثبات على دينه والسلامة من شر الفتن. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا % وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا % وإن خفتم إلا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم إلا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمنكم ذلك أدنى الا تعولوا % وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا % ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وأرزقوهم فيها وأكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا [النساء:1-5].
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، هدانا للإسلام، وجعلنا به خير أمة اخرجت للناس إن نحن تمسكنا به، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:(/2)
أيها الناس: اتقوا الله تعالى في نسائكم، فانكم مستحفظون عليهن، وأي خلل يقعن فيه فإنتم المسؤولون عنه، إننا نرى ونسمع عن وضع النساء في مجتمعنا شيئا مؤسفا ومؤذنا بخطر كبير، من ذلك التساهل في أمر الحجاب خصوصا من الشابات اللآتي اعتدن الخروج، يخرجن في ملابس ضيقة ويكشفن عن أكفهن واذرعهن وربما عن وجوههن في معارض الاقمشة وعند الصاغة ومحلات تفصيل الملابس. كأن اصحاب هذه المحلات من محارمهن. وهذا منكر لا يجوز السكوت عليه. ومنهن من تضع على وجهها غطاء شفافا لا يستر ما وراءه.
وانتم – يا عباد الله – تعلمون ما اصاب بني اسرائيل من العقوبة بسبب اهمال نسائهم. وأمر اخر فشى في مجتمعنا وهو امر مخيف وهو عزوف النساء عن الزواج بحجة أن بعضهن تريد اكمال دراستها. وبعضهن قد توظفن ولا يردن التخلي عن وظائفهن، والبعض الآخر عزف عن الزواج تأثرا بالدعايات السيئة المرئية والمسموعة التي تنفر من تعدد الزوجات ومن تزويج كبار السن. وتزويج من له والد كبير السن أو والدة. وهكذا يصورون الزواج في هذه الحالات بصورة سيئة ويتخيلون له مشاكل مكذوبة، اضافة إلى أن من الأولياء مَن يمنع موليته من الزواج بكفئها، ومثل هذا قد يبتلى بتزويج من لا يصلح لموليته خلقيا ودينيا فتحدث المشاكل، وقد كثر تشكي النساء من بعض الازواج غير الأكْفاء،فهذه تقول: إن زوجها لا يصلي أو أنه يأمرها بخلع الحجاب، وأخرى تقول: إن زوجها يريد ان يستمتع منها في المحل الذي حرمه الله، وأخرى تقول: أن زوجها يجامعها في نهار رمضان. وكل هذه الجرائم سببها عدم اختيار الكفء الصالح عند التزويج.
فاتقوا الله – أيها المسلمون – في نسائكم واحفظوا فيهن وصية الله ووصية رسوله، قال تعالى: الرجال قوامون على النساء [النساء:34]. وقال النبي- -: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه، قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات)) رواه الترمذي.(/3)
المرأة والتربية
د. علي بن عمر بادحدح
المقدمة
مع العنوان من هي المرأة وما هي التربية ، وأظن أن السؤال الأول قد يكون عجيباً ! وكلنا يعرف من هي المرأة ؟ ولكني - في ومضاتٍ سريعة - أجيب إجابةً تزيد من نظرة احترامنا وتقديرنا وإجلالنا ورعايتنا وحرصنا على المرأة .
ما منكم من أحدٍ - أيها الحضور جميعاً - حتى من لم يبقى في شعره شعرةٌ سوداء إلا وله أمٌ حملته وأنجبته وأرضعته وغذّته ورعته وربّته .. فكلنا نعرف هذه المرأة الأم العظيمة التي يدين كل مخلوقٍ في هذه الدنيا بالفضل لها ، وتضل أمانة برها والوفاء بحقها مرتبطةً بعنقه حتى آخر لحظةٍ من لحظات حياتها أو حياته - أيهما أسبق - ويظل المرء مهما كبر في السن أو شاخ طفلاً في عينه أمه ؛ لأنها عرفته طفلاً في أول حياته ؛ فإن كنت عالمً جليلاً ، أو تاجراً كبيراً ، فاعلم أنك بين يدي أمك مرةً أخرى كأنما أنت ذلك الطفل الرضيع والولد الصغير .
ومن هنا تأتي عظمة كتاب ربنا ، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ونهج ديننا الذي في ومضاتٍ كثيرةٍ وإشاراتٍ عظيمة يبين لنا هذا المقام الجليل .. قال تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } .
وما أوجز وأبلغ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في الصحيح : ( الجنة تحت أقدام الأمهات ) .
ولا أدلّ على عظمة مقامهن ، وعظمة السبيل الموصل إلى الجنة من طريقهن من هذا الحديث العظيم الذي أوجزه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
من هي المرأة ؟
كل من منّ الله عليه بزوجةٍ صالحة ؛ فإن - إن كان صادقاً ومخلصاً - عليه أن يقول لها : " أنتِ مهوى فؤادي ، وسَكَن نفسي ، وقضاء وطري ، ومربية أولادي ، وحافظة عرضي ، ومدبرة شؤوني .. أنت ملكة بيتي ، ومديرة جنتي .. " ، هذه حقيقةٌ جعلت عباد الرحمن - فيما ذكره الله عز وجل – يقولون في دعائهم : { ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما } .
وذلكم ما تدل عليه آياته : { أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة إن في ذلك لآياتٌ لقومٍ يتفكرون } .
وقول الحق سبحانه وتعالى في أوجز وأبلغ عبارةً تمثل ذلك الامتجاز والالتصاق والتعاون والتكامل بين الرجل والمرأة الزوجين .. { هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن } فما أعجب وأبلغ مثل هذا القول الرباني !
وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش. أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده ) .
من هي المرأة ؟
هي تلك البنت التي تدخل السرور على أبيها والتي غالباً ما يكون لطفها وبرها به ، وترددها عليه ، وإن طال بها العهد ، وبعدت بها الشقة ، وكثر لها الأولاد أكثر في غالب الأحوال من الأبناء ؛ حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من عال جاريتين فأحس تربيتهما كن ستراً له من عذاب النار ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
وقد قال عليه الصلاة والسلام - كما في الصحيح - عن الذين يأخذون الأجر مرتين : ( ورجلٌ علم جاريةً فأحسن تعليمها وتأديبها ثم زوجها فيؤتى أجره مرتين وهكذا تمضي بنا النصوص الشرعية ؛ لترينا المرأة من كل زاوية فإذا هي في موضعٍ من القلب والنفس بمكان ، وفي موضعٍ من الحياة والأثر بما كان ، وفي موضعٍ من الامتداد والبقاء والذكر بمكان .. فما أحرانا أن نلتفت إلى هذه المعاني وليس موضوعنا مكانه المرأة ولكنه عنواننا !
ثم ما هي التربية ؟
التربية هذه الكلمة التي يصدق فيها قول الشاعر :
كلٌ يدعي وصلاًً بليلى **** وليلى لا تقرّ لهم بذاك
وزارات للتربية والتعليم ، وشخصيات يقولون : والأمهات في الأصل أنهن مربيات ومعلمات مفرغات لهذه المهمة .. وهذه المهمةٌ الجليلة - إذا أردنا الحق - فهي مهمة الرسل والأنبياء ابتداءً .. ولست مفيضاً في هذا التربية في لغة العرب مشتقة من الفعل الثلاثي : " ربا " ، وتدور معانيه في ثلاثة جوانب .
الجانب الأول : النماء والزيادة
معنى ذلك أنه ثمرها وزودها " من ربّى ماله " ؛ فإنه كثّره وضاعفه ، ثم كذلك معنى الرعاية والحفظ الرعاية والحفظ .. " ربُّ كل شيءٍ " من يرعاه ويحفظه ، والله جل وعلا رب الناس ؛ لأنه راعيهم وحافظهم سبحانه وتعالى ..
والتربية كذلك السيادة والملك ، فربُّ الدار مالكها ، ورب المال صاحبه .. والمعاني الثلاثة تمتزج كلها في مرادنا بهذه التربية ..
التربية كما قال بعض الفلاسفة : " السعي إلى بلوغ الكمال والجمال الحسي والمعنوي في ذات الإنسان " . وهذا معنى بليغٌ وواسع .
والتربية فيما يقوله أهل العلم في تعريفها : " هي بلوغ الشخصية الكاملة المتوازنة في الجوانب النفسية ، والوجدانية ، والأخلاقية ، والفكرية والجسمية - أي من جميع الجوانب - بتوازنٍ وكمالٍ " .. ننشئ ونربي هذا الإنسان ليبلغ ذروة الكمال البشري ، والبشر كلهم فيهم قصورٌ ، ولا معصوم إلا من عصمه الله عز وجل وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم .(/1)
هذه التربية مهمةٌ دقيقة ؛ فإن نظرة العين وإن قسمات الوجه - فضلاً عن الكلمات .. فضلاً عن الأفعال - تكوّن بصماتٍ عميقة في نفوس الأبناء والصغار دون أن تلتفت أنظارنا إلى ذلك ، ودون أن نعرف من أين اقتبسوا هذه الأخلاق ؟ من أين ترددت على ألسنتهم هذه الكلمات ؟ من أين جاءت إلى عقولهم هذه الخطرات ؟
وإذا دققنا وجدنا أننا نحن الذين أرسلناها ، ونحن الذين في نفوسهم أودعناها ؛ لأننا نظن أنهم لا يأخذون عنا ، أو نظن أننا إذا قلنا لهم كلاماً على سبيل التعليم والتلقين يكفي ، وما وراء ذلك لا يؤثر .
ولذلك مهمة التربية دقيقة ؛ لأنها تتعامل مع النفوس والأرواح ، ولا مع الجسوم والأشباح .. أنت تربي نفسً والنفس البشرية هي أعجب شيءٍ في خلق الله عز وجل ؛ حتى إن الله جل وعلا جعل الخلق كله في كفة ، والنفس البشرية في كفة أخرى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } ، آيات الآفاق كلها دلالةٌ على الحق ، ولكن دلالة النفس البشرية العجيبة هي دلالةٌ مماثلةٌ لآيات الآفاق كلها ، وقال جل وعلا : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } .
ثم إذا نظرنا وجدنا هذه النفس بالفعل هي عجيبة العجائب ، وعظيمة العظائم في خلق الله سبحانه وتعالى ، ولك أن تعرف المؤثرات التي تؤثر في النفس بغضٌ وحبٌ ، انقضاضٌ وانجذابٌ ، نفرةٌ وإقبالٌ .. بكلمةٍ واحدة ربما تفسد علاقة سنواتٍ طوال .. بموقفٍ واحدٍ ربما تزيل عداواتٍ وبغضاء استمرت وقتاً طويلاً ؛ لأن هذا هو فن هندسة وتربية النفوس ، ولذلك لو أردنا أن نفيض لرأينا كيف كان المربي الأعظم صلى الله عليه وسلم يمضي مع العجوز من عجائز المدينة تخلو به في سكك المدينة ؛ ليصغي إليها !
الرجل الأعظم ، القائد الأكبر في دولة الإسلام .. ونحن لو أرادت عجوزٌ أن تكلمنا لقلنا لها : انصرفي لحالكِ وشأنكِ ، ليس لدينا وقتٌ لكِ ، ولا نظرٌ إليكِ !!
كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل الحسن والحسين يمتطيانه ويركبان على ظهره ، ويقول : ( نعم الجمل جملكما ، ونعم الراكبان أنتما ) ، ولو شئنا أن نمضي في هذا لطال بنا المقام ..
هذا هو عنواننا ، هذه هي المرأة ، وهذه هي التربية ؛ فلنمضي لنرى الأمر الأبرز المهم ؛ لأن التربية بناء ومتابعة للبناء ، ومحافظة على هذا البناء ليست هي بناء وتنتهي منه وتتركه .. كلا ! فإن كل مبنىً تبنيه وإن لم تكن له صيانة فسوف يفسد وسوف تخسر عليه أكثر مما خسرت في بناءه ، وكل بناءٍ لا تسعى أن تتمه وأن تحمه يوشك أن يكون ضعفه سبباً في انهياره .
ولذلك انتقل بكم إلى النقطة الثانية : الخطورة والأهمية
خطورة دور المرأة في التربية ، وأهمية قيام المرأة بالتربية مسألةٌ أحسب أنها أخطر المسائل على الإطلاق في واقعنا المعاصر ماذا تسمعون اليوم ؟ ماذا تقول الدول العظمى ؟ ماذا تقول المؤسسات العالمية ؟ ماذا تقول المؤتمرات الدولية على ما يدور الحديث ؟ وفيما تعد الخطط ؟ ألا ترون وتسمعون وتعرفون أنها عن المرأة ، وعن دورها ، وعن الأسرة وتماسكها ، وعن المجتمع وخط الدفاع الأول الذي هو بإذن الله عز وجل صمام الأمام !
دعوني أذكر هذه الأهمية في ثلاث نقاط :
أولها : قوة وفعالية تأثير التربية
التربية كما قد يقولون أحياناً في الدعايات بطيء ، ولكنه مؤثر .. التربية كما قد نظن الآن لأول وهلة هي قيام المرأة بتغسيل ابنها ، وإرضاعه وإعطائه الطعام ، وتلبيسه الملابس ، كأنها مهمة تقوم بها أي خادمةٍ من آسيا أو في أفريقيا ، أو في أي مكان ، ويمكن أن نعهد بها إلى أي مؤسسة أو حضارة من الحضارات هنا أو هناك .. لكنني أنقل لكم أقوالاً ليست بعضها ليست بالمسلمين بالكلية ، وبعضها لبعض لمن ليس معنياً بالإسلام ، وإن كان منتسباً إليه ؛ لنرى الخطورة والأهمية في هذا .
هذا كاتبٌ من الكتّاب العرب ليس من الذين يعنون بالإسلام يقول : " إن المشاريع التربوية عنوان التقدم والنهضة والحرية " ، ولذلك – أيضاً - أكّد العديد من المفكرين : " بأن ما لا نستطيع تحقيقه عن طريق الثورة الحمراء يمكن أن يتم عن طريق التربية ، فالحلول التربوية ثورةٌ صامتةٌ تتغلغل في صلب الوجود الاجتماعي ، وتأخذ مجراها في أعماق الوعي ؛ لتتحول إلى قوةٍ تاريخية تمكن المجتمع من غاياته الحضارية السامية للتربية أهمية خاصة ، ففيها بناء الوعي ، ونشر الثقافة ، وتشكيل الإنسان ، وهذا صلب المشروع الحضاري " .(/2)
ومن هنا تأتي أهمية دور المرأة في التربية ماذا نعني بذلك ؟ هل الأمة اليوم تشكو من ضعف ؟ أليست اليوم هي في حبائل التبعية ؟ أليست في جملة أحوالها مرتبطةٌ ومكبلةٌ بالذلة ؟ أين هو مفتاح التغيير ؟ هل هو في تفجيراتٍ طائشة ؟ هل هو في صرخاتٍ على المنبر عالية ؟ كلا ! إنه في ذلك الطريق طريق التربية .. تربية الأم تغرس الإيمان من أول كلمةٍ في أذن ذلك الصغير وترضعه مع خليبها من ثديها ويسمعه من كل كلماتها ويراه في كل حركاتها فينشأ جيلٌ قد تخلّص من التبعية ليكون قائداً ، ومن الذلة ليكون عزيزاً ، ، ومن الضعف ليكون قوياً .. وهنا المعادلة الصعبة .
إن التغيرات في الأمم لا تأتي في يومٍ ولا يومين ، ولا في سنةٍ ولا سنتين .. إنها تأخذ مجراها ؛ فإن كان في بيوتنا أمهاتٌ مربيات فمعنى ذلك أن في بيوتنا مصانع للأسلحة الذرية والنووية في قوتها وأثرها ؛ لأن المرأة صانعة الأبطال ، ومربية الأجيال ، فإذا أردنا أن نتقن معركتنا مع أعدائنا ، ومع واقع أمتنا ؛ فإن أول مفاتيح هذه المعركة في الأم المربية .
لذلك إن أدركنا هذه الأهمية ، واستشعرنا هذه الخطورة توجهنا التوجه الصحيح ، وأحسب أنني لو أردت أن أفيض في هذا لكان من وراءه كلامٌ طويل ، ولكنني أعتقد أن هذا الإيجاز بمثابة ذلك الجرس الذي يقرع ، والنور الأحمر الذي يرسل إضاءته المتقطعة ؛ ليشير إلى أن هنا مكمن خطرٌ ، وموضع أهمية ، وأن هذا الموطن هو منعطف التغيير الحقيقي كما قال مثل هذا الكاتب ، الذي ليس معنياً بشأن الإسلام والتربية الإسلامية ، ولكنه يدرك أن التربية هي مفتاح التغيير الحقيقي ، وإلا لماذا عني الأعداء بمهمة المرأة ، وكثر الحديث عنها خاصةً في هذه الأيام ؟!
النقطة الثانية : المتانة وصيانة الحماية
هل نحن اليوم نتعرض لأمورٍ تناقض ديننا ؟ هل نحن اليوم نستمع إلى رسائل ونشاهد مشاهد تعاكس تماماً ما يريده الله عز وجل منا ، وما دعانا إليه رسولنا صلى الله عليه وسلم ؟ الجواب : نعم ! قد جاس الفساد في خلال الديار ، قد دخلت القنوات والإذاعات والشبكات ، أين هي الحماية ؟ وأين هي الصيانة ؟ اغلق ، امنع ، صادر .. لا يمكن ! ولكن ربّي هذه الأم تستطيع بتوفيق الله - عز وجل - وإخلاصها وأكمامها لهذه المهمة أن تنجز صمامات الأمان ، لقد كان الفساد والإفساد موجوداً في كل زمانٍ ومكان ؛ حتى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن التربية القوية تكسّرت عليها جميع سهام الأعداء ، ولم تفلح !
أضرب لكم مثال : ألم يكن كعب بن مالك رضي الله عنه يوم حصل ما حصل تخلفه في غزوة تبوك ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقاطعة الناس له ، وأصبح وحيداً ، وفي حالة نفسية ، ثم جاءه من يغزوه من خارج ديار الإسلام .. جاءته رسالة من رئيس الدولة العظمى : " قد علمنا أن صاحبك قلاك فالحق بنا نواسك " ، هذا بكل سهولة ينبغي أن ينجذب ، وأن يمضي مع هذا التيار .. قاطعوني هجروني ، لا يكلمني أحد ، وهذه دعوةٌ !
ماذا قال ؟ قال : " فعلمت أنها الفتنة " ، فأخذ الرسالة فسجّرها في التنور ..
إذاً الإغراء كان موجوداً لكن صلابة الإيمان ،وقوة التربية ، وإمكانية الصيانة والوقاية كانت عظيمةً جداً .
المرأة مدرسة ، ووضع المرأة عنوان له ، سيجد صداه الاجتماعي الذي يمكّنه أن يكفل طاقةً روحيةً واجتماعيةً تحصّن المرأة والرجل ضد مختلف الصدمات والاختناقات التاريخية أمرٌ مهمٌ جداً ، ليس هناك إلا التربية صمام أمانٍ لأبنائنا ولبيوتنا ولمجتمعاتنا بكل شيءٍ من غير أن نفيض في هذه التفاصيل .
النقطة الثالثة : التماسك وتكامل البناء
ما هوا المجتمع ؟ هو مجموعة أفراده ، يحصل التماسك والتكامل من خلال اللبنة الأولى وهي الأسرة ، ما دور المرأة بالأسرة ؟ هي الركيزة ، هي المحور الذي له أثره البالغ ، ودوره العظيم في تماسك وبناء الأسرة ؛ لأن المرأة في الحقيقة لا يقتصر دورها على تربية الأبناء ، بل في الحقيقة هي بلونٍ أو آخر ، وبشكلٍ أو آخر هي مربيةٌ وراعيةٌ للزوج ، ألست تأتي تعباً وتجد الراحة عندها ؟! ألست تجد هموماً فتجد التسرية عندها ؟! ألست أحياناً تفضي بهمّك بين يديها ، إنها صورةٌ من صور التأثير الإيجابي الذي إذا اتقنت المرأة دورها أصبح تأثيرها ليس على الأطفال الصغار ، بل على الرجال الكبار ، وهذه حقيقة ، فهي قد مارست دور التربية للأبناء ، ومهما كبر الأبناء يظلون في نظر أمهاتهم أبناء ، وإن شاخوا وتقدموا في السنّ .(/3)
انظروا إلى الدور الإسنادي ، والتكامل العظيم التي قامت به أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها عندما نزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم ، نعرف كيف جاء يرجف فؤاده ، وتضطرب أظفاره لهذه المفاجئة العظيمة وهو يقول : " دثروني ثروني ، زملوني زملوني " ماذا فعلت له أم المؤمنين ؟ امتثلت أمره ، وحققت مراده وهدئت روعه ، وهيئت دثاره ، ثم لما هدأ روعه ، هل سألته فقالت له : الآن أخبرني ما الذي جرى ؟ أعطني التفاصيل ؟ قدّم تقريراً مفصلاً عن ما جرى .. كلا ! ولكنه أخبرها عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه كان يراها تلك الزوجة العظيمة التي يعرف أنها تكون معه ، فماذا قالت له ؟
" كلا والله لا يخزيك الله أبداً ! إنك لتصل الرحم ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، ووالله لا يخزيك الله أبداً " .
انظر إلى هذا الإسناد والدعم والعون والتثبيت ، هل اكتفت بذلك ؟ قالت : " امضِ بنا " فذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ، وقالت له : " اسمع إلى ابن أخيك " فيستمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول : " هذا والله الناموس الذي جاء به موسى عليه السلام ، ليتني أكون فيها جذعاً عندما يخرجك قومك " فيقول : أو مخرجي هم ؟! قال : ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا أخرجه قومه .
ثم تبقى خديجة رضي الله عنها سنداً عظيماً ، ومتكأً قوياً في رسول الله عليه الصلاة والسلام .. وهكذا لو مضينا لوجدنا ذلك إذاً الدور العظيم لهذه المرأة في هذه التربية له أعظم الأهمية وأكبر الخطورة .
وإذا مضينا في ومضاتٍ ثلاثة أخرى ؛ لنقول : انظروا إلى هذه المعاني
أولاً : الفطرة أن المرأة مجبولةٌ على هذا المعنى التربوي
المرأة حتى التي اليوم أخرجوها لتلاكم وتصبح ملاكمة في لحظات حياتها المعتادة ، تفيض عينها بكاءً ، ويرق قلبها حنيناً ، وتتدفق نفسها عطفاً طبيعةً فطريةً في المرأة .. إن الرجل يبحث عن المرأة التي تعمر البيت بوجودها وحركتها وعملها ، ولا يبحث عن المرأة التي تملئ المعامل والمصانع والمكاتب والشوارع ، وتخلف وراءها بيتاً يفترسه الفراغ والفساد بوسائله المباشرة وغير المباشرة .
مسألةٌ مهمة عملت المرأة وأصبحت كما يقولون مساوية للرجل ، فهل صارت رجلاً ؟!
لا أريد أن أفيض لكن امرأةٌ في منصب رئيسة دولة ، وهذا قريب ما زال لم يمضي على هذا حتى عشرة سنوات ، ولا تزال هذه المرأة رئيسةً لهذه الدولة حصلت محاولاتٌ من محاولات العسكريين للإخلال بالأمن أو انقلاب ، واتصل برئيسة الدولة وزير الدفاع يخبرها بذلك ، فتقول هي : لم أستطع أن أخرج للتو وأن أباشر بالمهمة حتى تزينت ولبست أحسن ملابسي !!
هل يمكن أن تخرج المرأة دون أن تراعي هذه الجوانب ، وهل يصلح هذا ؟!
مسألةٌ ثانية : ما هو البديل ؟
هل نستطيع أن نوجد البدائل في بعض الأحيان ؟ نعم لو كانت عندنا سكرتيرة تطبع الكمبيوتر فليوجد رجل يطبع الكمبيوتر أم لا ؟ لكن إذا لم يكن لنا أمٌ في البيت هل سنستطيع أن نستقدم رجلاً ليكون أماً ؟ يحمل ويلد ويرضع ويربي ؟ هل بقي أحدكم يوماً مع طفله الرضيع نصف نهار دون أن يشدّ شعر رأسه ، ودون أن يصيح ويدعو بالثبور وعظائم الأمور ؟ لا يمكن !!
يمكن أن نوجد بدائل لكل الحاجات الأخرى ؛ لكننا لا يمكن أن نوجد بديلاً عن الأم وعن المرأة في دورها ، لست من أقول هذا ولكن الفطرة تقوله .
وهذه زوجة رجلٍ من رواد الفضاء الأمريكيين القدماء ، كانت ربة بيت لم تعمل ، تقول : " أنا مسرورةٌ جداً من بقائي في البيت إلى جانب زوجي وأطفالي ؛ حتى في الأيام العصيبة التي كنا في حاجةٍ إلى المال لم يطلب زوجي مني أن أعمل ، وكانت فلسفته أننا نستطيع أن نتدبر حاجاتنا الضرورية - أي بدلاً من أن نأكل رز ولحم نأكل عيش وملح - ولكننا لا نستطيع أن نربي أبناءنا إذا أفلت الزمام من أيدينا " ، أي إذا أخرجناها وتركنا مهمتها سوف يكون خللٌ يصعب تداركه ، لكن أيام عصيبة تمر يقلّ فيها المال ، يقلّ فيها الطعام ثم تنفرج من بعد ، ولن تكون هناك مشكلة .
هذه ومضة : في الأهمية
كما قلت وقدمت : الهجوم الشرس الكاسح اليوم ليس هو في احتلال الأراضي ، وليس هو في الأسلحة الذرية .. والله إنه في مجال المرأة والأسرة لأعظم وأخطر ، وأنا أقول لكم : خذوا المؤتمرات الدولية التي رعتها وحرصت عليها والتفتت إليها الأمم المتحدة من القاهرة إلى بكين إلى كوبٍ هاجن .. إلى وإلى وإلى .. وانظروا ماذا تدور عليه ؟ وانظروا إلى الدول الكبرى - اليوم - ماذا تقول ؟ وعلى أي شيءٍ تربط مساعداتها ؟(/4)
أيها الإخوة : أكبر دولة عربية تأتيها المساعدات الأجنبية من أكبر دولةٍ في العالم مشروطةٌ ببرنامج هو على رأس الأولويات وهو " تنظيم الأسرة " ، وفي الحقيقة هو تحجيب الأسرة ، أو هو تضييع الأسرة ، ويأتي إليه الخبراء وتربط المساعدات بالنجاح في هذه المهمة بماذا ؟ أريد أن أقول لكم كتاب أمريكي صادرٌ في عام 2001 اسمه باللغة الإنجليزية " ذديف أفذوس " [ موت الغرب ] يقول الكاتب فيه : " نحن أمةٌ مقضيٌ عليها بالفناء الحقيقي بدون أدنى سببٍ من أعدائها ؛ لأن أعداد النعوش في تسعة عشر دولةً أوروبيةٍ وأمريكيةٍ أكثر من عدد المهود - أي عدد الأموات أكثر من عدد المواليد - ثم قدّم إحصائيةً رقميةً بهذه الدول ، وأنها لو تركت وحدها سوف تنتهي .
اليوم عندهم مشكلةٌ كبرى : جيلٌ من الصغار ، وجيلٌ من الكبار .. ليس هناك جيل الشباب !
نسبة الشباب خمسة وستين في المائة من عدد السكان في المملكة والخليج .. هذه ثروة ، هذه قوة ، هذه نتاج ؛ لأن المصانع لايشغلها إلا البشر ؛ لأن التقنيات لا يديرها إلا البشر ؛ لأن العلوم لا يطورها إلا البشر .. إذا أنتجنا الإنسان استطعنا أن نغير الحياة كلها بإذن الله عز وجل ، هذه مسألةٌ مهمة .
أنتقل إلى المحطة الثالثة : لماذا المرأة في التربية ؟
نعم الرجل مسئولٌ مسؤوليةً كبيرةً في التربية ، لكن دعونا نقول :
مزايا المرأة
أولاً : الخصائص النفسية الفطرية التي فطرها الله عز وجل عليها
عطفٌ وحنان صبرٌ واحتمال ، واللهِ إن يوماً واحداً - كما قلت - مع رضيعٍ يمكن أن يشيب له هول رأس الرجل ، وهذه المرأة قد يكون عندها اثنان وثلاثة ، هذا رضيع ، وهذا يحبو ، وهذا يمشي وهي لو زدتها حتى من أبناء الجيران - كما يحصل بين الجارات ، أو تأتي ابنتها وقد ولدت وتعطيها بعض أبناءها لأنها ما زالت تدرس - ليس هناك مشكلة .. الصدر رحب ، والحنان فياض ، والعاطفة متدفقة ، والحب لا يضيق .. هكذا خلقها الله عز وجل ، أليس النبي صلى الله عليه وسلم ضرب المثل بالمرأة في هذا المعنى ؛ لما أراد أن يلفت نظر الصحابة قال : أترون هذه ملقيةً بولدها في النار ؟ قالوا : يا رسول الله هي أرحم به من ذلك !
قطعاً الرجل فيه عاطفة ، لكن فيه شدة ، فيه قسوة ، طبيعته كذلك ؛ لأنه خلقة الله حتى يواجه المخاطر خارج المنزل ، وتلك حتى تغلّف البيت بأجواء المحبة ، وتعطّره بأريج الحنان ، وتوزع فيه زهور ورياحين الهدوء والطمأنينة والسكينة ، فإذا خرجناها إلى الصحراء فقدنا هذه الزهور والرياحين ، والرجل بقسوته وشدة ما يلقاه يجد شدةً هنا ، وتتفجر البيوت بهذه القنابل الانشطارية ، التي نراها اليوم في واقع مجتمعاتنا وللأسف الشديد .
تعرفون قصة سليمان – عليه السلام - لما اختصمت المرأتان في الولد ، فماذا قال ؟
قال : نقسمه نصفين كل واحدة تأخذ نصف ، فلما أراد أن يفعل صاحت إحداهما : اتركته لها ! فهل يعني أنها اعترفت أنها ليست أمه ؟ كلا ! لقد أظهرت أظهر الأدلة على أنها أمة ؛ لأنها خافت عليه ، ولسان حالها : يبقى حياً ولو بعيداً عني ! وتلك لم يكن يعنيها شيء ؛ لأنه ليس ابنها ..
هذا المعنى مهم جداً لأن ندركه .
لن نستطيع أن نربي الأبناء - وخاصةً في مرحلة الصغر - دون أن تكون عندنا هذه الأم المتدفقة بالحنان ، الممتلئة بالصبر ، والقدرة على الاحتمال ، نعم ! ليس عندها قدرة والصبر والاحتمال مثل الرجل في جوانب أخرى من الحياة ، لا تستطيع المرأة أن تجادلك وتدخل معك في مفاوضات الحساب والشراء والبيع ولذلك أسهل شيء أن تبيع للمرأة لكن الرجل يطلّع عيونك وما يشتري شيء .. هذه طبيعة أرادها الله عز وجل في طبيعة الرجل ، وفي طبيعة المرأة ؛ ليكمّل أحدهما الآخر ، وليكون بهما كمال سعادة الحياة ، وهذا لا يكون بغيره .
الأمر الثاني : طبيعة الاستقرار في المرأة
الله عز وجل قد قال : { ألم نخلقكم من ماسٍ مهين فجعلناه في قرارٍ مكين } رحم المرأة أصلاً هذا تستقر فيه وتحتضنه تسعة أشهر ..
المرأة من طبيعتها الاستقرار ، المرأة تمكث في البيت كم ساعة ؟
الرجل وخاصةً الذين يعملون في الأعمال الحرة - وكذا في يوم الإجازة - بعض الناس في ثاني يوم في العيد يجلس في بيته ، ثم يخرج ويذهب إلى فتح الدكان ؛ لا يستطيع أن يبقى لأن من طبيعته الحركة والانتقال وتغير الأحوال ..
أما المرأة فتسطيع أن تجلس في بيتها كل يومها لأنها جبلت هكذا .. الله عز وجل خلقها لتكون مستقر تستقر ويستقر بها .
الرجل أين يستقر؟ عند زوجته .. الأبناء أين يستقرون ؟ عند أمهم .. البيت كله أين يستقر ؟ وكيف يستقر ؟ بوجود المرأة .
طبيعة استقرار مهمة جداً للتربية وللمجتمع وللحياة كلها ؛ ولو رأيتم هذا طبيعة ظاهرة حتى في جنس الحيوانات في الجملة .
الأمر الثالث : القرب والملابسة
من أقرب إلى الأبناء ؟ ومن الأقرب إلى الرجل وهو الزوج ؟(/5)
المرأة بطبيعتها هذه في العاطفة ، وفي الاستقرار تستطيع أن تطّلع من أحوال الأبناء والبنات ما لا يطلع عليه أليس كذلك ؟ أليس الصغار إذا كانت عندهم مشكلة قالوا للأم وقالوا لها لا تخبرين أبي !!
ومن طبيعتها – كذلك - المساعدة .. من الذي يغسل الملابس ؟ الأم من طبيعتها تستطيع أن تعرف من الملابس .
من الذي يهيئ الأبناء للمدرسة ؟ الأم تعرف ما الذي يجري من أبناءها ؛ لأن الأب مشغول يخرج إلى العمل ، وساعات مقامه في البيت قليلة ، فلا يكتشف ولا يقترب ، ولا يعرف ذلك دور المرأة أن توصل له ، وأن تعرفه ، وأن تستعين به بعد الله عز وجل في معالجة الأمور ، لكن إذا كان الرجل بطبيعته مشغولاً وأشغلنا المرأة أين يفضي الأبناء بهموهم ؟ وأين يجدون جواب سؤالهم ؟ وكيف يستطيعون أن يكتسبوا تجارب الحياة ؟ من يكون قريباً منهم حتى يستطيعوا - بالفعل - أن يجدوا الصدر الرحب ، وأن يجدوا العقل المفكر ، وأن يجدوا الموجه المرشد خاصةً في سن الصغر ؟
بل حتى في سن الكبر الآن نجد الابن في المتوسطة أو الثانوية أحياناً يفضي بسرّه إلى أمه ؛ لأنه يراها أقرب إليه وأعطف عليه ، ويخشى من أبيه .. إذاً هذه مزايا كلها تجعلنا نقول : هذه المرأة هي الأصلح للتربية - ليس في سن الصغر بل في جملة المراحل - دورها لا يستغنى عنه .
ولذلك لاحظوا إذا ماتت زوجة الرجل التمس زوجةً فوراً ، وإذا مات زوج المرأة استطاعت أحياناً - إن لم يتيسر لها الزواج - أن ترعى أبناءها !
صحيح أنها بحاجة إلى الزوج ؛ حتى يكمّل الدور ، لكن دور المرأة مع أبنائها ليس مثل الرجل لو بقي وحده مع أبناءه ، وهذا أمرٌ واضح .
سأضرب لكم ذلك بالأمثلة الحقيقية الواقعية :
جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - تزوج بعد أحد بقليل ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لما عليه من أثر التزين : مهين - أي ماذا ؟ - قال : تزوجت يا رسول الله ، قال : بكراً أم ثيباً ؟! قال : بل ثيباً يا رسول الله ، قال : فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك ؟ قال : يا رسول الله إن أبا جابرٌ - يقصد أبوه عبد الله - ترك لي تسعة بنات ، فأردت أن لا آتي بمثلهن ، وأردت امرأةً تقوم عليهن وتصلحهن .
إذاً رأى أنه لا يستطيع أن يقوم بالدور ؛ فاحتاج إلى الزوجة لتربي له أخواته ، وتقوم بشأنه .. فكيف بأبنائهم ؟!
وخذوا مثالاً آخر :
يقول أحد العلماء لابنه يخاطبه : سبحانك تفعل ما تشاء ، كان الأوزاعي - والأوزاعي إمام أهل الشام ، وهو صاحب مذهبٍ من المذاهب الفقهية المعتبرة مثل الإمام أحمد ، ومثل الشافعي ، لكن اشتهرت المذاهب الأربعة ولم يشتهر مذهبه ومذهب غيره من الأئمة كليث بن سعد ، وكجرير الطبري وغيرهم -
يتيماً فقيراً في حجر أمه ، تنتقل به من بلدٍ إلى بلد ، وقد جرى حكمك فيه حتى بلغته ما رأيت - أي حتى أصبح هذا العالم الكبير - يا بني عجز الملوك أن تؤدب نفسها وأبناءها بمثل ما أدب الأوزاعي نفسه ! أي بعد فضل الله عز وجل بمساعدة أمه ..
وكذلكم قصة ربيعة الرأي - شيخ الإمام مالك - الذي ذهب والده إلى الجهاد ، فإذا أمه تنفق عليه المال ، وتربّيه وتعلمه وتنشئه ؛ فإذا به إمامٌ عظيمٌ ، وهو شيخ شيوخ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعجب به والده بذلك وفرح .
بل سفيان الثوري - إمام التابعين في بلاد العراق وفي الكوفة - كانت أمه تقول له : " يا بني امضِ لطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي " ، تغزل وتبيع وتربي وتنتج ، وتخرج العلماء والأبطال .. هذا هو التحدي - الذي قلناه - هذه هي الطبيعة التي للمرأة ، تستطيع المرأة أن تقوم بدور الرجل - وإن نقص - بكفاءةٍ أعلى من قيام الرجل لدوره لولم تكن المرأة موجودة .
أنا أريد أن تستشعروا ذلك حقيقةً ، وأن تذكروا فضل الأمهات - وهذا معروف - لكن أيضاً أن تذكروا فضل الزوجات وأنا أقول للجميع :
اجعل في سجودك دعاءً دائماً لزوجتك ؛ لأن فضلها وأجرها وأثرها عليك وعلى أبنائك أعظم من أن تستطيع توفيته ، فادعو الله أن يجزيها لأنك لا تستطيع أن تجزيها ، وهذا أمر مهم .
نحن ننظر إلى الزوجات فقط من جهة " ماذا أعدت من طعام ؟ " ماذا فعلت في البيت ؟ " " ماذا هيأت للزوج من متعة ؟ " دون أن نلتفت إلى المهمة الحقيقية الكبرى !
أنت تخرج ولا تلتفت ، وتنشغل ولا تعتني من الذي خلفك في بيتك ؟ من الذي حصّن أبناءك ؟ من الذي حفظ - بإذن الله عز وجل – بيتك ؟ أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسئولةٌ عن رعيتها " هذه مسألةٌ مهمة .
اعتقد أننا أجبنا إلى حدٍ ما لماذا للمرأة وقبل ذلك أضننا اعتنقنا بأهمية وخطورة دور المرأة في التربية هل توافقونني حتى أمضي في موضوعي وحديثي أم أنني أخاطب نفسي ولا أدري عنكم شيئاً
سننتقل إلى نقطة مهمة جداً ما هي هذه النقطة المهمة ؟ الآن وقد عرفنا أهمية هذا الدور ، وعرفنا خصيصة المرأة فيه .. ما هي النقطة المهمة التي لا بد أن يتركز حديثنا عنها ؟
كيف السبيل إلى هذه المرأة المربية ؟(/6)
هذه قضيةٌ مهمة .. إذا قلنا هي صمام الأمان ، وإذا قلنا هي أقوى من الأسلحة الذرية ،نحن عندنا أسلحة ذرية في البيوت ، فليأتي من يفتّش لن يجد شيئاً ، ولكن سنفجّرها في كل الدنيا تفجيراتٍ حسنة تعمّ بالخير والهدى والتقى والصلاح والإصلاح وعمران الدنيا بالجيل المؤمن المسلم الذي يتربى في حلس وقعر البيوت على أيدي المربيات الأمهات الفاضلات الزوجات الصالحات القانتات العابدات .
كيف السبيل إليها ؟
سنتحدث في شقين : سبلٌ عامة ، وسبلٌ خاصة بالمرأة
أولاً السبل العامة : تربية البنات
ما معنى تربية البنات ليكنّ أمهات ؟
نحن اليوم يغلب على الناس كأننا نربي البنات ليكن موظفات .. علمها في الجامعة هذا هو الأهم !
لا أقول : لن نعلّم البنات ! لكن لا أجعل من علمها في الجامعة وسيلة للكسب .. أين دورها مع زوجها ؟ أين المهارات في تربية أبنائها ؟ أين حرص الآباء على ذلك في بناتهم ؛ فضلاً عن حرص الأمهات في ذلك في بناتهم ؛ حتى اليوم كنت أتحدث مع أحد الإخوة يخبرني أن زوجته حملت ، وأنه قد اضطر أن يعمل عملية للربط ؛ حتى يبقى الجنين ! فقلت له بالأسلوب الفكاهي : بنات اليوم بضاعة تايون تقليد ، فقال : صحيح !
بمعنى - أنك بالفعل - اليوم تجد البنت تتزوج .. ومع أول تصرخ عشر صرخات .. لماذا ؟ لأنه ليس هناك إعداد .
أول قضية هي : كيف ننشئ البنت لتكون أماً مربية ؟
لا بد أن نقول لها : " إن المهمة العظيمة ، والغاية السامية التي فيها دوركِ الرائد ، وأثركِ الكبير هو أن تكوني أماً " .
ولو أردنا أن نستقصي لوجدنا بعض الشهيرات من المغنيات والثريات من الذين ليسوا من أهل الإسلام ، وبعد دهرٍ طويل تقول : أتمنى لو أنني أنجبت في حياتي مولوداً واحداً ؛ لأكون أمّاً !
المسألة الثانية مهمة جداً وخطيرة جداً وهي : مناهج التعليم
في كثير من البلاد ندرّس البنات هندسة البترول ؛ لتذهب وتكون في الحقل البترولي الذي يكون في الصحراء أو في أعماق البحار أو كذا ولا ندرسها في مناهج التعليم كيف تعرف الطفل ومراحل عمره وتربيته ؟ كيف تدير أسرتها ؟
التخصصات قليلة ؛ حتى لو أردت أن أسردها :
ليس عندنا في جملة التعليم إلا تخصص التربية الإسلامية ، أو تخصص ما يسمى في التربية الخاصة الذي يتعامل مع المعاقين وذوي الحاجات الخاصة .. عندنا ما يسمى بالاقتصاد المنزلي تخصص جيد للنساء لكن يركز على فنون الطبخ ، وفنون الخياطة ، وفنون الديكور ، ولا يظم إليه بالقدر نفسه والعناية والأهمية نفسها فنون التربية ، وفنون التنشئة ، وفنون معرفة سياسة ورعاية وفهم نفسيات الأطفال وغير ذلك ..
ثالثاً : وسائل الإعلام
وما أدراك ما وسائل الإعلام ! لو أنها تعمل في المجال الصحيح والله لكان من ورائها خيرٌ عظيم !
عندنا نساء أمهات مربيات في البيوت ، فجاء الإعلام فقال لهن :" أنتن قعيدات البيوت ! أنتن على هامش الحياة ! أنتن لا قيمة لكنّ ! أنتن سقطٌ في المتاع ! أنتِ مثل الكنبة ! وأنتِ مثل الفرش لا قيمة لكِ .. " ؛ حتى تتمرد على أمومتها ، وتتخلى عن تربيتها .. في الجملة وسائل الإعلام اليوم تفسد أكثر مما تصلح .
ولذلك إذا جاءت وسيلةٌ إعلامية نظيفة ، ومعتنية بالأهداف والغايات السامية ، فأقول : لها دورٌ وعظيم لماذا ؟ لأن المرأة أيضاً في جملة الحال وقتها في بيتها كبير ، فقد ترى من البرامج المفيدة والنافعة ، وتستمع وتشاهد وتتابع ما يعود عليها بالنفع والفائدة ، ولذلك سلوا الأمهات فإنهن أعرف بالبرامج ومواقيتها من الرجال في الجموع .
أسافر أحياناً في بعض الدورات .. كنا مرةً في دول اسكندنافية في أقصى شمال الدنيا ، فوجدت أن البيوت المسلمة هناك في الدول - مثل السويد - ما تصدقون أنهم ينتظرون برامج بعض القنوات التي تقدّم برامج جيدة ، وهي مكتوبة ومعلقة عندهم في بيوتهم ؛ لأنها تعتبر وجبتهم الرئيسة .. ما عندهم دروس ومحاضرات وأشرطة كثيرة ، فيستقبلون هذه القنوات التي تبثّ من بلادٍ مختلفة ، ويحرصون عليها بل في بعض البلاد العربية التي فتك فيها التغريب فتكاً عظيمًا .. أكثر قناة مشاهدة في بلد هي قناة إسلامية وطيبة رغم أن هذه البلاد كل قنواتها ، وكل مناهجها التعليمية ، وكل أنظمتها الرسمية - بل وكل قوانينها - تعارض الإسلام وتخالفه ؛ خاصةً في شئون المرأة .
إذاً الإعلام قضية خطيرة ، ولذلك من ينفق لبناء مسجد ربما لو أنفق لإعداد برنامجٍ تربويٍ للأسرة المسلمة ، ربما كان أجره وخيره أثره ربما في بعض الأحيان أكثر من المسجد ، وهذه مسألةٌ مهمة .
الرابع : المحاضن الدعوية(/7)
نحن نوجه الدعوة لرجال والشباب والمخيمات الشبابية وكذا وقليلٌ منها هو حظ المرأة ونقول : المرأة لا شأن لها بالدعوة .. سبحان الله ! كيف ستأتي المرأة الداعية ؟ وكيف ستكون عندي في بيتي زوجةٌ تعتني بالتربية ، وتهتم بالدعوة ما لم تكن هناك أنشطةٌ دعويةٌ ، وبرامج دعوية للنساء ؛ حتى تكون عندها من الدعوة والمعرفة بهذا ما هي في أمسّ الحاجة إليه لدورها التربوي .
ولذلك أقول للأزواج : بعض الرجال تريد زوجته أن تذهب إلى درس من الدروس فيقول لها : أنا مشغول ! كيف تريد أن يكون لها دور إيجابي ، وأنت لا تعطيها الفرصة وأن تسمع إلى الدرس العلمي ، والمحاضرة ، وإلى التذكرة ، ولا تأتي لها الكتاب ، ولا توفّر المكتبة في البيت ، ولا توفر الأشرطة ! مسألةٌ أيضاً مهمة .
ومثل ذلك أيضاً وهو في آخر نقطة في الوسائل العامة : المؤسسات الاجتماعية
كثير من جمعيات النسائية تعنى بالطبق الخيري ، تعنى بإعداد عروض الأزياء ؛ لكنها العناية بتكثيف برامج الدورة ، وتعنى بالكمبيوتر ، وليس في هذا اعتراض ، لكن نريد عنايةً مثله أو أكثر في الجانب التربوي ، كيف تعتني بزوجها ؟ كيف تربي أبناءها ؟
التربية علم يدرّس اليوم ، وتؤخذ فيه شهادات الدكتوراه ، وهناك جامعات عريقة ، وكليات أصيلة ليس لها تخصص إلا التربية ، ليست التربية قضية - كما قلنا - عارضة ! نأتي بأي خادمة من آسيا وأفريقيا ونقول هي : " المربية " .. يقولون : هذه مربية الأبناء .. مربية الأبناء ولسانها أعجمي لا تعرف لغتهم ! مربية الأبناء لا تعرف تاريخهم ولا حضارتهم !
هذه ليست تربية .. هذا نوع من السفه والتضييع والإجرام في حق الأبناء .
ثم أتوجه إلى نقطةٍ ثانية وهي : الوسائل والأمور
وهي قريبة من التي سبقها ، لكنا نوجهها إلى المرأة مباشرةً نقول : سيدتي المربية أولاً : احملي الهمّ
لا بد أن تدرك المرأة أهمية الدور التربوي ، الذي تقوم به على نحوٍ مما أوجزنا القول فيه ،ووضحناه .. لا بد من ذلك حتى تحمل الهم وتدرك المسالة .
ثانياً : اعرفي القدر أي قدر وقيمة هذا الدور
أيها الإخوة :
إن الأثر الاجتماعي والتربوي - بل والاقتصادي - الذي تقوم به المرأة وهو : تربي أبناءها أكبر وأفضل وأكثر فائدةً من أدوار كثيرٍ من النساء اللائي يعملن هنا أو هناك ، ولا أقول المرأة غير مرغوبٍ فيها ، لكن أقول : العمل الأساسي هنا مهم ؛ حتى من الناحية الاقتصادية .. المرأة إذا بقيت في البيت استطاعت في تدبير المال وحفظه ، وحسن تصريفه أن توفر - وكما يقولون - القصة المشهورة
أن رجلاً كان تاجر ذهب ، وكان دائماً يأتي لزوجته ببعض بضاعته ، ويأخذها في المرة الثانية ، فكانت تحتفظ بجزء من الذهب ، وكان دائماً ما يأتي فرحاً وهو يكسب ، فجاء مرة وقد خسر خسارة كبيرة - وتعرفون هذه التجارات - فجاء مهموما ، فقالت له : لا تخشى شيئاً .. قد كنت آخذ من أرباحك وفتحت له ، فإذا به يجد من الذهب ما يعتبره رأس مال ، يستأنف به ..
المرأة أحياناً تستحي لو قيل لها : " ما هو عملكِ ؟ " إذا لم كان عندها وظيفة ، تستحي من كلمة " ربة بيت " ، كلا ! هذه المهمة هي الأصل والأساس ، المرأة تعمل ولكن بقدرٍ من الوقت ، وإلى سنّ معين ، وتراعي ما تقوم به في هذه المهمة .
نقول أيضاً : تزودي في العلم
لا بد المرأة المسلمة أن تحرص على الشرعي ، تستمع إلى الأشرطة ، تحضر المحاضرات ، تأخذ الدروس .. لو استطاعت أن تدرس في كلية شرعية تستطيع أن تعلم أبناءها التوحيد ، والفقه في بعض المسائل في نعومة أظفارهم في البدايات المهمة .. هذه مسألة مهمة .
وكذلك نقول : تعلمي تربية نفسية الأطفال ، حاجات الأطفال ، كيف يفكر الأطفال ، علاج العناد عند الأطفال ، كيف يمكن أن نجيب على الأسئلة المحرجة للأطفال ... هذه أبواب مهمة جداً ، لا بد أن تحرص عليها .
ثم نقول : تدربي وتدربي ، هناك دورات تدريبية .. تدربي وتدربي هناك دورات تأهيلية للنساء في معاملة الأزواج ، في تربية الأبناء ، في علاج المشكلات .. تأخذ المرأة بهذا قدر استطاعتها ؛ حتى تنتج وتنجز بقدر المستطاع .
انظروا إلى كثيرٍ من البيوت كم عند المرأة من كتب الطبخ ، وكم عندها من كتب التربية .. ابحثوا هذا اليوم إذا رجعتم إلى البيوت ، فتشوا اعملوا لجنة تفتيشية ستجدوا هناك الطبخ الشرقي ، والطبخ الغربي والصيني والإيطالي ، ولن تجد في التربية شيئاً يوازي ذلك !!(/8)
أيضاً اللقاءات العائلية التي تتم بين النساء ماذا يتبادلن ؟ " ما لبست تلك في ذلك الزواج .. وماذا لبست هذه في تلك المناسبة .. " ، لماذا لا يتبادلن : " ماذا فعلت مع ابنكِ .. رأيت ابنكِ له خلق جيد .. رأيته يحفظ القرآن .. ماذا عملتي .. كيف تعملين إذا أزعجكِ ابنكِ .. كيف تتعاملين معه .. " لماذا لا يقولن هذه التجارب ؟ لماذا لا تقرأ المرأة عن تجارب الأمهات العظيمات اللآئي أنجبن القواد العظام العلماء الكبار ..كيف كانت تربية هذا العالم وذلك القائد .. كلهم كانت لهم أمهات .. فلتقرأ المرأة حتى تكتسب هذه الخبرة ..
أقول : هذه مسألةٌ مهمة نحتاج إليها بقدرٍ كبير ، وأحسب أني قد أوجزت ما أردت فما سأزيده بعد ذلك إن لم يكن عندكم سؤال هو مزيدٌ في أمورٍ تحتاج إلى تفصيلٍ أكثر .. نسأل الله عز وجل لنا ولكم السداد
أريد أن أرجع إلى ذكر الهدفين الأساسيين الذين ذكرتهما في البداية :
الهدف الأول : هو استشعار أهمية المرأة المربية أو دور المرأة في التربية
والثاني : معرفة الطريق والوصول إلى المرأة المربية .
قد أسلفت أني أريد أن نصل إلى هذين الهدفين ، وفي ظني أننا حققنا ذلك الهدف ، فقد وقفنا وقفاتٍ متأنية مع بيان هذه الأهمية والخطورة - ليس على مستوى البيت الواحد ولا المجتمع ؛ بل على مستوى الأمة ، وليس على مستوى البناء بل على مستوى المواجه والتحدي للأعداء - وكذلكم رأينا بعضاً من الوسائل والطرائق والنصائح ، التي تأخذ بها المرأة ويحرص عليها المجتمع ؛ لنخرج الأم المربية ذات الدور الرائد
هنا إضافات كما قلت هي موضوعاتٌ مستقلة لكن رغبةً في إكمال شيءٍ من الفائدة أذكر مثل هذا القول بإيجاز وهو بعض الإضاءات حول التربية ، أو دور المرأة في التربية مباشرةً .
سأذكر قواعد عامة ، ثم مجالات متنوعة للتربية ، ثم في آخر الأمر سنقرع أجراس الإنذار ..
أما القواعد العامة فأوصي المرأة فيها بالنظام والتنظيم :
أولاً : لا بد للمرأة لكي تحسن هذه المهمة أن تكون منظمةً ؛ سواءً كان في وقتها .. سواءً في ترتيب أولوياتها .. سواءً في تنظيم بيتها ؛ حتى تتهيأ الأجواء مادياً ومعنوياً للزوج والأبناء بما يساعدها على حسن أداء دورها وتربيتها .
العنصر الثاني : الاستغلال والاستثمار
لا بد أن تكون ذكيةً فطنةً حاذقة ، لا تجد فرصةً من الوقت إلا استغلتها ، لا تجد حدثاً من الأحداث إلا حوّلته إلى التربية .. هذا الشيخ أحمد ياسين يُستشهد تلفت نظر الأبناء مباشرةً ، تكون مستثمرة للحدث .. هذا رجلٌ قعيد استطاع أن يؤدي دوراً ، وأن يواجه عدواً ، وأن يمضي بإذن الله عز وجل إلى الله شهيداً .. فيتحول كل شيء بالنسبة للأبناء إلى بناء مفاهيم تربوية ، إلى نصائح وإرشادات .. حتى الجانب السلبي إذا جاء الابن بخلق أو بتصرف سيء تقول له : انظر كيف كانت النتيجة لو أنك تستمر على هذا ؟ هكذا ستكون النتيجة .. تنبه ! فيتحول كل شيء إلى الإثمار .. لماذا ؟ لأن عقلها منشغل بأن تغرس نفوس الأبناء ، وتؤدي للزوج مقاماً حميداً مذكوراً مشكوراً في البناء والقوة والتربية .
المسألة الثالثة وهي الركيزة المهمة : التفاهم والتعاون مع الزوج
لأن المرأة أحياناً تستقلّ بنفسها ، وهذا طبعاً ليس عيبها ، وليس مسئوليتها وحدها هي مسؤولية الأزواج كذلك .. الزوج يريد أن يأتي ليكون حاكماً بأمره دون أن يسأل زوجته لماذا يفعل ذلك ؟ قد يكون لها حكمة ! اسألها حتى تراعي ما صنعته ، لكن من مهمة المرأة أيضاً أن تتفاهم مع زوجها وتتعاون معه ، تقول له : أنا أفعل كذا وكذا ، الأبناء لديهم كذا وكذا ، نريد أن نتعاون في كذا وكذا .. لماذا بعضنا - وأنا أقول هذا عن نفسي وعن غيري - عنده علم ، وعنده بعض الخبرة والتجربة يفيض بها على الآخرين ، ويعمل درساً هنا ودرساً هناك ، ومحاضرةٌ هنا ومحاضرةٌ هناك ، لكن أين درسه في بيته ؟ أين محاضرته لأبنائه ؟ أين وعظه لزوجته ؟ أين تذكيره لأسرته ؟ مسائل كثيرة لا بد أن يكون هناك تكامل وتعاون ، والمرأة بحكمتها وعاطفتها تستطيع بإذن الله عز وجل أن تحقق هذا ..
أما بالنسبة للأبناء ومجالات التربية فهي كثيرة :
أجلّها وأهمّها : التربية الإيمانية
أن تغرس في نفس الطفل منذ صغره التعلق بالله ، والارتباط به ، والالتجاء إليه ، والخوف منه ، والحياء منه ؛ لأن من شبّ على شيءٍ شاب عليه
والنفس كالطفل إن تتركه شبّ على **** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
هذه مسألة التربية الإيمانية مسألة مهمة ..استخدام الأسماء الحسنى والتعريف بمعانيها ، وأثرها في حياة الإنسان الصغير ، إذا قال قولاً فلتقل له الأم : إن الله يسمع كل شيء فهو يسمع قولك هذا .. فإذا كان القول حسناً قالت : إن الله يسمع قولك ويرضى عنك ويأجرك ، ويكون لك إن شاء الله خيرٌ في حياتك ، وإن كانت الأخرى نبهته إن الله عز وجل بصيرٌ يرى كل شيءٍ في الوجود ، لا تخفى عليه خافية ، تعلّمه ذلك بما يناسب سنه ، تمثّل له بما يتلاءم معه ..(/9)
التربية العبادية
والباب في هذا واسع .. ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( علموا أبنائكم الصلاة لسبع ) وهو ليس مكلفاً ؛ أي عودوه ، ربوه على ذلك .. هذه الربيع بنت معوذ بن عفراء تقول : إن النبي عليه السلام أرسل في غداة عاشوراء ، قال : من كان صائماً فليتم صومه ، ومن لم يكن صائماً فليمسك ، ثم صام الناس من بعد ، فكنا نصومه ونصوّم أبناءنا وصبياننا .. ونخرج للمسجد فنأخذ معنا العهن - أي كذا أشكال للألعاب - فإذا جاعوا أعطيناهم اللعب ؛ حتى يأتي المغرب .. أي يعودونهم العبادة .
وأنتم ترون البنت الصغيرة إذا كانت الأم محجبة تجد البنت تتحجب وهي صغيرة ، والحجاب يكون لها كنوع من الجمال لماذا ؟ لأنها رأت الأم !
إذًا التربية العبادية والتعويد عليها مهمة جداً ، وهي تنظم حياة الطفل من صغره وتغرس في نفسه هذا التعلق بالروحانيات والعبادات المهمة .
التربية الخلقية والسلوكية
وهي من أصعب الجوانب أيضاً ؛ لأن انعكاس الإيمان وثمرة العبادات هي في الأخلاق والسلوكيات .
الترية النفسية العاطفية
مهمة لا بد أن تعرف مراحل الطفل ، الطفل له حاجات كثيرة منها :
أ- الحاجة إلى الحب والعطف والحنان
أيها الإخوة : إن البحوث العلمية تقول : إن المرأة عندما تظم إليها رضيعها ، هذا ليس عملاً مادياً إنه ينعكس في نفسه وتربيته ، والطفل الذي لا يجد هذه الرضعة من أمه ينعكس عليه في تربيته عندما يكبر ، ب- الطفل له الحاجة إلى الاهتمام
الطفل الصغير يحب أن يلفت النظر إليه أحياناً ، يصرخ ويفعل شيئاً والأم لا تلتفت إليه ، ولا تعره اهتماماً .. لو أنها نظرت إليه فيكفيه بريق عينها ، وابتسامة ثغرها ، والتفات وجهها .. فينسى كل ما يريد ، وينسى آثار القضية لأنه فقط يريد من يهتمّ به .
الطفل بحاجة إلى اللعب وبعض الأمهات ترى أن الحزم " لا تلعب لا تفعل " كلا ! لا بد أن نكون نحن أطفالاً مع الأطفال ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الحسن والحسين .. لماذا يلعب معهم ؟ لأنه يعرف أن الأطفال يحتاجون إلى اللعب .
التربية الفكرية والعقلية
مهمة جداً المرأة لا بد أن تعوّد ابنها على الاستنباط ، تحاول أن تربط له الأشياء ببعضها البعض .. قبل عدة أيام كان خسوف للقمر ألم يسأل أبناءكم : ماذا جرى ؟ تقول له خسوف ، ما هو الخسوف ؟ لا يعرف ؟ لكن تقول له القمر يظلم ، وهذه امن آيات الله ، والناس يفزعون إلى الصلاة .. هنا يفكر في الآخرة ، يفكر في بعض الأمور حتى التحليلية من أين جاء هذا ؟ لماذا نصنع هذا ؟ لأنه كذا وكذا .. لا بد أن نعوّد الأبناء على ذلك .. وهذه كما قلت أبواب واسعة .
أخيراً : أجراس الإنذار
مخاطر في نقاط ثلاث :
1- الإهمالٌ والإغفال لهذه المهمة .
2- سوءٌ وإخلال .. بعض الآباء والأمهات لو أغفلوا جاءوا بدورٍ سيءٍ ، فذاك الأب يدخّن ، وتلك الأم تشيّش وكذا ، فيكون دورهم أسوأ .. ليتهم لم يصنعوا شيئاً مفيداً حتى لا يصنعوا شيئاً سيئاً .
3- الضعف والاتكال لا تأخذوا المرأة بالقوة والاستعداد ، أو تتكئ هي على الأب ، والأب يتكئ على الأم ، وتضيع الذرية والأبناء بين هذا الإهمال وبين ذاك الضعف ، وبينما هو أخطر بينهما وهو السوء والإخلال .
أيها الإخوة الأحبة : المسألة مهمة وخطيرة .. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا زوجاتٍ صالحات ، وأمهاتٍ مربيات ، وبناتٍ عفيفات .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(/10)
المربي بين التلقائية والإعداد
محمد بن عبد الله الدويش
ليسوا قليلاً أولئك الذين تميزوا بحسن الأداء التربوي، وكم رأينا من أب أو أم لا يملك رصيداً ذا بال من المعرفة والخبرات المنظمة ومع ذلك كانت تربيته مضرب المثل.
وفي ميدان التعليم سمعنا كثيراً عن مربين كان عطاؤهم وتأثيرهم التربوي المتميز لا يقاس بإعدادهم التربوي، وربما كانوا أقل ممن حولهم في المعرفة التربوية.
ولعل الجدل الذي كان يدار فيما مضى: هل التدريس فن أو علم؟ ومثله: هل الإدارة فن أو علم؟... لعل جزءاً من أسباب ذلك الجدل يمكن تفسيره من خلال هذه الظواهر.
وربما قادت هذه الظواهر بعض المهتمين بالشأن التربوي ـ عملياً ـ إلى التقليل من أهمية المعرفة التربوية وإعداد المربين استشهاداً بهذه النماذج.
وفي ميدان إدارة الأعمال الاقتصادية أو الخيرية يحقق من يملكون قدراً من السمات الشخصية نجاحاً ملموساً، لكن كلما تقدم الوقت وتعقدت الحياة زاد ارتباط النجاح بالمعرفة والتدريب على حساب السمات الشخصية.
والتربية عمل أكثر تعقيداً؛ إذ هي بناء للإنسان، وتنمية لشخصيته، في عالم مليء بالمؤثرات والتعقيد.
وفي عصر الانفتاح الهائل الذي يعيشه العالم اليوم ـ ونحن جزء منه ـ هل يمكن أن تتم المراهنة على نجاح التربية من خلال السمات الشخصية للمربين فحسب؟
وماذا لو عاد بعض المربين المتميزين ممن عاشوا قبل عقود قليلة؟ ماذا لو عاد هؤلاء ليربوا أولادهم أو تلامذتهم في هذا العصر؟
هل نتوقع أنهم قادرون على النجاح بمجرد ما يملكونه من تميز شخصي؟ هل يمكن أن يحققوا الإنتاج التربوي نفسه بالأساليب والأدوات التربوية التي كانوا يمارسونها في الماضي؟
مع تقدم الوقت وتعقد الحياة تزداد الحاجة للمعرفة والتعليم والتدريب، حتى في إطار المهن والحرف التي كانت تُتَلقى من خلال الممارسة الشخصية؛ فقد غدت بحاجة إلى تدريب منهجي منظم.
إن الارتقاء بخبرات المربين وتأهيلهم مطلب يزداد أهمية مع ازدياد تعقُّد الحياة، ومن ثمَ تعقُّد العملية التربوية.
وهذا يفرض على المهتمين بالشأن التربوي أن يسهموا في تقديم ما يرتقي بالمربين وخبراتهم وأدائهم.
ويفرض الاعتناء ببرامج التأهيل والتطوير للمربين، ويفرض أن يرتقي تناول القضايا التربوية فيتجاوز مجرد التأكيد على أهميتها وخطورة إهمالها، ويتجاوز مجرد الحديث عن تجارب شخصية وآراء فردية.
يمكن أن نقدم للمربين آراء واقتراحات عديدة، وربما يجدون فيها ما يفيدهم ويطور بعض ممارساتهم، لكن هذا لا يغني عن البناء المنهجي العلمي الذي لا يستهدف تحويل الناس إلى مختصين في التربية، لكنه يوظف التخصص في تطوير معارفهم وأدائهم وخبراتهم(/1)
... ...
المسؤولية ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- مسؤولية الإنسان عن عمله فرع عن إدراكه ووعيه. 2- تسقط مسؤولية الإنسان عن فعله في أحوال. 3- ما عدا هذه الأحوال فكل مسؤول عن فعله وقوله. 4- قد تتسع المسؤولية فيكون مسؤولاً عن فعل غيره. 5- أنواع المسؤولية: أ- مسؤولية القدوة والمنصب. ب- مسؤولية الكلمة. ج- مسؤولية العهد. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
وقفوهم إنهم مسئولون مالكم لا تنصرون % بل هم اليوم مستسلمون [الصافات:24-26].
المسئولية في إسلامنا تكليف لا تشريف، ولا يتنافس عليها إلا الغافلون أو المغفلون الذين لا يدركون حال المسؤول في الآخرة من حبس في الموقف، وسؤال عسير، فلا يجد من ينصره من بطانة السوء حيث لا يملك إلا الانقياد والذلة والخضوع لرب الأرض والسماء سبحانه.
فما المسؤولية؟ ولماذا؟ وما أنواعها؟ وخيانة المسؤولية كيف تكون؟
أما المسؤولية: فهي التبعة والتكليف.
واصطلاحا: هو التكليف الذي يعقبه الحساب.
وينبغي أن تعلم:
أن المسؤول مسؤول أمام من هو فوقه إلا رب العزة سبحانه فليس فوق الله أحد قال تعالى: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [الأنبياء:23].
كما أنه لا مسؤلية إلا بتكليف قال تعالى: أيحسب الإنسان أن يترك سدى [القيامة:36]. أي بلا أمر أو نهي.
لا تكليف إلا بإرادة واعية، مدركة، عاقلة فلا تكليف على نائم لفقدان الوعي ولا على صبي لفقدان الإدراك ولا تكليف على مجنون لفقدان العقل للحديث: ((رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل))([1]).
والعبد لا يتحمل مسؤولية فعله في أحوال ثلاثة:
أ - النسيان: للحديث: ((من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك))([2]).
ب- الإكراه: وعندما اشتد العذاب على عمار بن ياسر وقالوا: لا نتركك حتى تسب محمدا ففعل فتركوه فأتى النبي يبكي فسأل النبي فقال: ((كيف تجد قلبك))؟ قال عمار: أجده مطمئنا بالإيمان، فقال له النبي: ((يا عمار إن عادوا فعد)) أي إن عادوا لتعذيبك فعد إلى شتمي وأنزل الله قوله: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [النحل:106]. وللحديث: ((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))([3]).
ج- الاضطرار: لقوله تعالى: فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه [البقرة:173]. قال ابن كثير: غير باغ أي غير مستحل له، ولا عاد أي ولا مجاوز للحد فيه.
وليس للعبد حجة أمام الله تعالى في أن يحتج بعلم الله المطلق على ما يأتيه من فعل كما قال بذلك القدرية والجبرية.
ورد الله تعالى تلك الفرية بقوله سبحانه: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباءنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [الأنعام:148].
وأما لماذا المسؤولية؟ فلا بد من المسؤولية حتى:
لا يلقي أحد على أحد مسؤولية العمل المناط به، قال تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى [الإسراء:15]. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره % ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة:6-7]. ولذلك كان من الواضح في إسلامنا ألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فجعل رب العزة لطاعة الوالدين حدا، قال تعالى: وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمهما [العنكبوت:8].
وجعل لطاعة ولي الأمر حدا للحديث: ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة))([4]).
وأما أنواع المسؤولية :
أولا: مسؤولية القدوة والمنصب: ومن كان في هذا الموضع لابد له من ضابطين:
الالتزام: فلا مخالفة ولا انفصام في الشخصية قال تعالى: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه [هود:88]. وعقوبة المخالفة في إسلامنا عظيمة للحديث: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق بها أقتابه (أمعاؤه) فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما أصابك ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه))([5]).
عدم الأخذ بالتقية: يقول ابن تيميه رحمه الله: (لا تقية لقدوة) لذا كانت مواقف أولي العزم من الرسل واضحة، وأهل السابقة من العلماء الأعلام من سلف الأمة فيها الأخذ بالعزائم لأنهم يعلمون أنهم في موضع لا يقبل فيه التأويل فالقلوب والعيون معلقة بهم، وفعلهم حجة يقتدي به من ورائهم لذا رفض الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أن يقول ما قاله غيره في القرآن مجاراة للتيار الذي غلب الأمة وتبناه السلطان، وكان رحمه الله يقول لمن يطلبون منه ينتظرون ما يقول غيره: (ارفعوا الستارة وانظروا) فإذا خلق قد حملوا القراطيس ينتظرون ما يقول أحمد ليسجل في عقيدة الأمة ودينها.
ثانيا: مسؤولية الكلمة: والكلمة أنواع:(/1)
أ- المكتوبة: وعلى المرء أن يستشعر لقاءه بالله يوم الحساب عند ما يكتب أو يخط بيده ولله در الشاعر إذ يقول:
و ما من كاتب إلا ستبقى كتابته و إن فنيت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه
ورحم الله شهيد الإسلام، صاحب الظلال، وقد طلب منه أن يكتب استرحاما للطاغية فقال: (إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة يأبى أن ينحني فيخط كلمة يسترضي بها طاغية).
ب- المقولة: وهي التي تنطق بها الألسن :
وللحديث: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوى بها سبعين خريفا في جهنم))([6]).
ج- المسموعة: فإذا أسرك أخوك بحديث وخصك به فلا يجوز نشره أبداً فذلك يقدح في المروءة ويطعن في الصحبة بما لا ينفع معه دواء.
ثالثا مسؤولية العهد:
بينك وبين الله: كالبيعة فهي عهد على الطاعة لولي الأمر، ولكنها مع الله تكون، قال تعالى: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله [الفتح:10].
ولابد للبيعة من ضابطين:
الوضوح: حتى تعلم ما أنت مقبل عليه، فتتعامل مع الأحداث تعامل الرجال أما الشك والإحباط والانتكاس لأول حدث أو فتنة فتلك بيعة الصبيان ولحديث عبادة بن الصامت قال: ((دعانا النبي فبايعنا، فقال أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ويسرنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان ))([7]).
الوفاء: فلا عذر في مواطن الصدق، وعندما دعا موسى عليه السلام قومه إلى الجهاد قالوا: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون [المائدة:24]. فأي عذر أقذر من هذا العذر، حيث الانتكاس والفرار والجبن في وقت يراد فيه الثبات والتضحية والفداء، ورحم الله ورضى عن المقداد بن الأسود في وقفته وقولته التي سر لها النبي سرورا عظيما عندما قال: والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
وأما خيانة المسؤولية كيف تكون؟
أن يشق عليهم بما فيه تضييق وشدة وظلم للحديث: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولى من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به))([8]).
أن يحتجب عنهم: بامتناعه عن النظر في مصالحهم: للحديث: ((من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة))([9]).
أن يستعمل على الناس غير الكفء الصالح للحديث: ((من ولي من أمر المسلمين شيئا، فأمر عليهم أحدا محاباة، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم))([10]).
أن يستثيرهم بما يكرهونه رغبة في الانتقام منهم وإيقاع الأذى بهم فذلك دليل خسة وطبع لئيم، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((ألم ترى أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال لو لا حدثان قومك بالكفر))، وفي رواية: ((لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحجر))([11]).
تأمل معي كيف أن رسول الله ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم وإدخال الحجر مراعاة لإيمان الناس وقرب عهدهم بالكفر، فيا ليت من يتولى مسؤولية أي عمل وخاصة العمل الإسلامي أن يكون رحيما بأمة محمد وأن يكون فيهم كما وصف رسول الله نفسه إذا يقول: ((إنما أنا لكم مثل الوالد لولده))([12]).
أما استخدام الأساليب الملتوية، واستثارة الآخرين بما يكرهون، بالمعاملة، الاستفزازية حتى إذا غضبوا وقالوا كلمة دون قصد قامت الدنيا ولم تقعد، نقول ينبغي أن نتنزه عن هذه الأساليب الرخيصة التي لا نجدها إلا في الأراذل من البشر.
([1])رواه أحمد.
([2])رواه البخاري ومسلم.
([3]) ابن ماجة .
([4])رواه مسلم.
([5])البخاري ومسلم.
([6])رواه الترمذي.
([7])رواه البخاري.
([8])رواه مسلم.
([9])رواه أبو داود .
([10])رواه الحاكم وقاله صحيح الإسناد.
([11])رواه مسلم.
([12])رواه أبو داود والنسائي. ... ...
... ...
... ...
... ...(/2)
المساجد أحكام وآداب
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
المساجد بيوت الله - جلا وعلا - فيها يذكر اسمه ، ومنها ينادى إلى طاعته وعبادته ، وفيها تحيا القلوب وترتفع الأرواح ، وتسجد الجباه ، وتترطب بالذكر الألسن ، وتتراص الصفوف ، وتتوحد وتتألف النفوس .
المساجد بيوت الله - عز وجل - لها احكام وآداب ، وقد كثر من عدد غير قليل من إخواننا المصلين شكواهم من عدم معرفة تلك الأحكام ، ولا مراعاة تلك الآداب ، بل تجاوز ذلك إلى ماهو أخطر وأعظم ضرر وشراً ، ومن ثم والمسجد وخطبته تعالج الأوضاع التي يعيشها أهل المسجد ومن يجاوره ،كما تعالج أوضاع الأمة كاملة ؛ فإننا لنا في هذا المقام وقفات كثيرة .. وهي لا تتحدث عن شرق أو غرب ، ولا عن بلاد في هذه الجهة أو تلك ، إنما تتحدث عنا وعن ما يجري وما يكون في مسجدنا وواقعنا ومثله وغيره كثير من المساجد .
كيف الأمر ونحن نتحدث عن بيوت الله - عز وجل - التي أخبر الله وذكر نسبتها إليه :{ وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } .. {إنما يعمر مساجد لله } .. لمثل هذا المقام هل نجعلها مثل بيوتنا على أقل تقدير ؟ هل نحن عندما نأتي إليها أو نكون فيها أو نتعامل في داخلها نراعي حرمتها ونراعي مقامها ؟ ونبينا - كما صح عند البخاري من حديث عثمان - يقول : (من بنا لله مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله بيتاً في الجنة ) .
فهي بيوت الله - جلا وعلا - والشهادة الأخرى التي ينبغي أن نستشعرها ، ونحن نقدم لهذا الحديث هي أن عمار المساجد أهل الله - عز وجل - عباده هم في خلاصة الأمر صفوة من العباد والخلق الذين يجيبون نداءه ، ويخفون إلى طاعته ، ويقبلون إلى مرضاته ، فكيف إذا كانت تخل بالأحكام ولا تراعي الآداب ولا تلتفت إلى الحرمة بل يقع من البعض ما هو أكثر من ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاه ولم يخشى إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المفلحين } ، يقول ابن كثير : " شهد الله بالإيمان لعمار المساجد " .
وذكر ابن كثير من رواية عبد بن حميد في مسنده عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما عمار المساجد هم أهل الله ) ، ورواه الزار كذلك عن أنس وروى عبدالرزاق عن عمر بن ميمون أنه قال : " كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أدركتهم وهم يقولون أن المساجد بيوت الله في الأرض ، وأنه حق على الله أن يكرم من زراه فيها ، وأنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها " .
لكن الضيف يجب أن يراعي أدب المكان ، وأدب المضيف - وهو الرحمن سبحانه وتعالى - فنحن في بيوته ونحن أنما جئنا لعبادته ، ونحن إنما تفرغنا لذكره .. فكيف بنا نخدش ذلك ؟ أو لا نلتفت إلى الأمور الواجبة و المفردات الآداب اللازمة ، والتعظيم المطلوب لها ؛ فإن هذه البيوت بيوت الله - سبحانه وتعالى - لأجل ذلك أمرنا الله ونبهنا وذكرنا أن نراعي مايجب لها { يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } ، ذكر ابن كثير في تفسيره قال : " وفي هذه الآية - مع ماورد في السنة النبوية - يستحب التجمل عند الصلاة ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد .. الطيب لأنه من الزينة والسواك لأنه من تمام ذلك " ، وقال السعدي : " كذلك يحتمل أن المراد بالزينة هنا ما فوق ذلك من اللباس النظيف الحسن ففي هذه الآية الأمر بستر العورة في الصلاة وباستعمال التجمّل فيها ونظافة السترة من الأوساخ والأرجاس " .
نحن إذا ذهبنا إلى زيارة أحد من الأصدقاء - فضلاً عن الفضلاء - تزيّنا لذلك ، ولبسنا من الثياب أحسنها ، ووضعنا من أنواع الطيب أعطرها وجعلنا لأنفسنا من الهيئات أفضلها ، فإذا جاء بعضنا إلى المساجد رأيته وهو يأتي بثياب النوم التي لا يرضى أن يتقبل بها أحد في بيته ، وربما وجدت بعضهم وهو يأتي في ثياب مهنته - أي ثياب عمله - قد أسوّد بعضها ، وفي بعضها من القذر وكراهة الرائحة بما فيها ..
وبعضهم يأتي بالملابس قد كتب عليها من الكلمات ومن الصور ما لا يليق أن يكون في بيت من بيوت الله - عز وجل - وربما وجد بعضاً وفي لباسهم ما يعد مخالفاًَ لستر العورة ، إما من قصر أو ضيق أو تشبه أو نحو ذلك ، وهذا خلاف الأمر الرباني لأخذ الزينة اللازمة .
وكان من هيئة الإمام مالك - إمام دار الهجرة رحمه الله - إنه إذا خرج إلى المسجد اغتسل ولبس أحسن ثيابه ، وتطيّب ، فإذا خرج لم يكن يكلّم أحداً ولا يكلمه أحد حتى يدخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيصلي ثم يشرع فيحدّث بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام .
هكذا كانوا يعرفون حق قدومهم على بيوت الله - عز وجل - من غير مخيلة ولا رياء ولا مبالغة ، لكن من غير استهانة وتفريط وعدم مراعاة حرمة وتقدير قدر وغير ذلك مما تعلمونه من صور كثيرة تناقض ذلك وتعارضه .(/1)
وكذلك نستحضر هنا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المشهور المعروف الذي يتبادله الناس ويتذاكرونه ، وكثيراً ما يخالفونه وهو حديث جابر عند البخاري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته) ، وقال بعض العلماء استنباطاً من هذا الحديث : " أن الآكل لهذه الثمرة قبل الصلاة تسقط عنه الجماعة ، ويجب عليه ألا يصلي مع الناس ، حتى لا يؤذيهم " ، والمقصود هنا كراهة الرائحة وكلما هو من هذا الباب داخل به وملحق به .. المدخنون الذين يؤذون الناس برائحتهم - شاءوا أو أبوا - قد آذوا المصلين وآذوا ملائكة الله المقربين ، وكانوا على هيئة ليست لتي يحبها الله لمن يأتي إلى بيته ليتعبد ويذكر ويسجد ، ومثل ذلك كذلك من يأتون إلى المساجد وهم قد فرغوا من أعمالهم من غير أن يتهيئوا ولو بإزالة العرق عن جباههم فضلاً من أن يغير ملابسهم ؛ ليزيلوا هذه الروائح الكريهة ! وبعضهم يأتي والأقذار على بدنه أو على ثيابه يُنفّرك منظره من أن تكون إلى جواره في الصف ، وتضايقك رائحته فلا تكاد تشعر بما تريد أن تقبل عليه من طاعة الله وعبادته !
بالله عليكم هل مثل هذا إذا أراد أن يذهب لزيارة صديق من أصدقائه سيذهب على تلك الهيئة ؟ أهانت بيوت الله - عز وجل - في النفوس حتى بلغت مثل هذا المبلغ ! هل ذهب الاستشعار والتعظيم لبيوت الله - عز وجل - حتى نخلها ؟ كأنما ندخل مكاناً لا قيمة له ولا حرمة ولا اعتبار !
إنها صور تكررت حتى صارت مألوفة ، وحتى أصبح مثل قول هذا ربما يكون مستنكراً مستهجناً أو فيه من المبالغة ما فيه ، وأنه تشديد في غير موضعه ! فبالله عليكم أن لم نتواصى بذلك في بيوت الله التي نجعلها لطاعة وعبادة الله - عز وجل - فبما نتواصى من بعد ؟
ونحن نعرف من هذا صوراً كثيرة ، ونحسب أننا إذا تذكرنا أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا عرفنا آدابه وهديه الذي تلقاه عنه أصحابه لأدركنا أن المخالفة للسنة والهدي ليست في الصور المحدودة التي تدور في أذهاننا ، بل هي في جمله هذا الهدي ومنه تعظيم المساجد ومراعاة حرمتها ، وأخذ الأدب اللازم واللائق بها .. روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (أيما رجل خرج من بيته يوم الجمعة واغتسل ثم أدهن وتطيب من طيب امرأته فخرج يريد الصلاة ثم دخل وصلى ركعتين ولم يحدث أحد فأنصت حتى يفرع الإمام ثم صلى مع الناس غفر الله له ما بين تلك الجمعة إلى الجمعة الأخرى) ..
انظروا إلى مجموع الوصف كله فهو الذي يستوجب أو يوجب لصاحبه ذلك الأجر وبقدر النقص قد يكون النقص فإنما من لا يراعي ذلك ولا يتهيئ له لا ينال مثل هذا الأجر في هذا الحديث ونحن نعلم أيضاً أن النفوس تتأثر بالاعمال فغذا جئنا لنخرج إلى المسجد استحضرنا هذه المعاني ثم عملنا من العمل تطيباً وتطهراً وإحساناً في اللباس واستحضار للنية ووقاراً في الهيئة وكذا اللسان وغير ذلك فإننا إن جئنا إلى المسجد حضرت قلوبنا وخشعت قلوبنا وتذكرت عقولنا وكنا في حالاً على غير الحال الذي نكون فيها ونحن لا نأتي المساجد على مثل هذه الصورة التي تهيئنا لحسن العبادة والطاعة وقال ابن كثير وغيره في قول الله : { في بيوتاً أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} قال : أن تطهّر من الأدناس والأرجاس اللغوية والأقوال والأفعال ؛ فإن رفع ذكر الله ليس بمجرد تلاوة القرآن وإقامة الصلاة ، بل يدخل فيه مثل هذه الأمور .
ونظافة المساجد أمرها مهم عظيم وأجرها كبير ، كما روى أبو داود وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، أي داخل في الأجور أن تأخذ قشرة أو قشه صغير فتقمُّها من المسجد وتطهّره وتنظّفه معروضة مرّت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ضمن الأعمال التي لها أجر خاص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
ونرى كذلك ذلك الحديث العظيم الذي يدلنا على الفضل ، وعلى التقدير النبوي والمقياس الإسلامي الذي ينبغي أن نراعيه ..
روى البخاري وغيره كذلك من حديث أبي هريرة أن امرأةً - أو رجلاً - وغالب الروايات أنها امرأة كانت تقمّ المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي تأخذ ما يكون في المسجد من الأذى والقذى - فتقمه وتخرجه فماتت ، فتفقدها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعلم بها ، فقال : أفلا كنتم آذنتموني به؟ دلُّوني على قبرها . ثم ذهب وصلّى عليها بعد دفنها .. امرأة مجهولة ليست معروفة ، حتى أن الصحابه عندما ماتت لم يذكروا خبرها للنبي - عليه الصلاة والسلام - التفت إليها النبي وافتقدها ، وسأل عنها ، وعاتب على أنهم لم يذكروا له موتها ، ثم ذهب - عليه الصلاة والسلام - فصلى عليها .(/2)
ونحن ربما نعمل العكس ! نحن الذين نوجد القذى في المسجد - ودورات المساجد شاهدة بذلك - فيها من التخريب ومن التلويث وكأنهم قصدوه عمداً أو أرادوه حتى يجعلوا بيوت الله - عز وجل - بهيئة وصورة لا تليق بها ، ولو أن ذلك كان في بيوتهم لدعوا بالويل والثبور وعظائم الأمور ! ولكانوا أحرص ما يكونون على مثل هذه النظافة - التي لا يأبهون بها ولا يحرصون عليها - في بيوت الله عز وجل .
وأمرٌ آخرٌ أيضاً هو الآداب المرعية في داخل المسجد
فكم تسمع من حديث ليس فيه ذكرٌ ولا طاعة ، بل ربما كان حديث في أودية الدنيا ، أو غيبة ونميمة !
وكم ترتفع الأصوات ! وكم تعلوا الضحكات ! حتى أن بعض الناس ربما يختلف عليه الأمر ويلتبس هل هو في مسجد أو في مكان آخر ؟
استمعوا إلى هذا الحديث - الذي يرويه السايب بن يزيد - عند البخاري في صحيحه قال : كنت في المسجد فحصبني رجل - يعني رماني بحصى صغيرة من ورائي - فالتفت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لي : اذهب فأتني بهذين الرجلين - رجلان كانا يتحدثان بصوت عالي – قال : فأتيته بهما ، فقال: من أين أنتما ؟ فقالا : من الطائف ! فقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما - أي ضرباً - ترفعا أصواتكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفي رواية - في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم !
وقال الإمام مالك - رحمه الله - بكراهة رفع الصوت في المسجد مطلقاً .
وقال ابن عابدين في حاشيته - على مذهب أبي حنيفة - : " يصوغ رفع الصوت إلا أن يشوش على المصلين ولو بذكر أو قراءة " ، وبعض الناس يقرأ القرآن كأنما يري أن يسمع به خلق الله كلهم ، ويشوش على الآخرين ، وبعضهم يتحدث بأحاديث كأنما هو في بيته أو غير ذلك ..
ونرى من هذا صوراً كثيرة مزعجة تشوش حقيقة على العبادة والطاعة ، وقد تنفّر بعض الناس من حضور المساجد وشهودها ، وهذا مهمٌّ ينبغي لفت النظر إليه والانتباه له ، وهو أمر ظاهر وبيّن .
وأما الصورة - المحزنة المؤلمة المتكررة الدائمة - التي ألفها الناس حتى صاروا ينكرون على من ينكرها " السؤال في المساجد والتسول فيها " مع أننا نسمع قول الله جلا وعلا : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } ، قال السعدي في تفسيره : " المقصود الأمران معاً : دعاء العبادة ، ودعاء المسألة " ، كيف تسأل في بيت الله غير الله ؟ وقد كان هشام عبد الملك يطوف - مرة - بالبيت الحرام ، فلقي سالم بن عبد الله - من أئمة التابعين - فسلّم عليه ، وقال : سلني حاجتك ! قال : أني استحي من ربي أن أسأل غيره وأنا في بيته ! فلما خرج قال : نحن الآن قد خرجنا من المسجد فسلني حاجتك ! قال : من أمر الدنيا أم من أمر الآخرة ؟ قال : من أمر الدنيا فأمر الآخرة لا أملكه ! قال : أما الدنيا فما سألتها من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها !
وهذا من الأمر المهم ، ولكننا نلتفت هنا إلى حديث - لو تأملنا في نصه لأدركنا أننا لانتبه ولا نتعلم ولا نعرف هدي النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه الصحيح - هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري في صحيحه يقول فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام : (من سمع رجل ينشد ضالته في المسجد فليقل : لا ردّها الله عليك ؛ فإن المساجد لم تبنى لهذا ) ، هذا لا يسأل الناس مالاً ! وإنما له حاجه -ضلت عليه ناقته أو بعيره - يقوم فيقول للناس : بعيري كذا وكذا هل رآه منكم من أحد ؟ وفي رواية أخرى عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من نشد عن الجمل الأحمر ؟! لا رده الله عليه ) .
هذه مسألة مهمة ينبغي أن نعرف أن السؤال وخاصة على الهيئة التي نراها من التشكي وعرض ما قد يكون صحيح أو غير صحيح من أنواع البلاء والابتلاء الرباني كأنما هو اعتراض على قدر الله ، وكأنما هو شكوى لغير الله ، ثم هو في غير موضعه الصحيح وعلى غير صفته المشروعة بحال من الأحوال ؛ فإن أنكر مُنكِرٌ قالوا : لا تفعل هذا ، تحركت القلوب برحمة غير مدركة للحكمة ، وربما أنكرت على المنكر ذلك ، وهذا من الأمور التي ينبغي التنبه إليها .(/3)
وقد ذكر المفسرون في قوله عز وجل : { وإن المساجد لله } ، وكذلك في قوله : { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين } " إن الدعاء دعاء العبادة ودعاء المسألة فلا يسأل في بيوت الله غير الله جلا وعلا " ، والأمر في هذا يطول والخطب فيه كثير ، ومن ذلك الصغار من الأبناء الذين لا يعلمّهم آبائهم آداب المساجد ، يعيثون فيها فساداً يلعبون فيها ، بل إنهم قد يجعلون فيها من النجاسات والقاذورات ما إذا كان عشر معشار في بيته لقام على ابنه ضرباً أو وعداً ووعيداً حتى يزجره عن ذلك ويمنعه منه وهم يسرحون أبنائهم في المساجد كأنما يسرحونهم في الملاعب أو الملاهي غير عابئين ولا آبهين بذلك ، وكم كانت الشكوى من الطابق الثاني في يوم الجمعة حيث لا يكاد الناس أن يسمعوا الخطبة من كثرة إزعاج أولئك الصغار ؟ وآبائهم من رواد المسجد المداومون على الصلاة ، المعروفون بأشخاصهم وأعيانهم لا يلتفتون إلى ذلك ولا يرون أن فيه تفريطاً وتقصيراً منهم ، ربما يلحقهم الإثم بما يشوشون على المصلين ويفقدونهم من الخشوع أو الانتفاع بالاستماع ، وهذا أمرٌ كثير بيّن .
ولنا من بعد ما هو أشد وأخطر .. فالله الله في بيوت الله وفي مساجد الله أن تعظم وأن يرفع فيها اسمه ، وأن يتهيأ المسلم لها بما ينبغي لها .
نسأل الله - عز وجل - أن يبصرنا بديننا ، وأن يلزمنا كتاب ربنا ، وأن يجعلنا مهتدين بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم وأوصي نفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه ، وإن من تقوى الله تعظيم حرمات بيوت الله ومراعاة حقوقها والتزام الأدب إلزام لها ، وأن الأمر كما قلت - أيها الأحبة - ليس فيه إمكان لحصر لكل المخالفات وإلا فإن هناك كثير وكثيرٌ منها ، ومن ذلك تخطي الرقاب الذي يحصل في الجمعة وغيرها ، وهو منهي عنه ، ومما قد وردت النصوص بأنه قد يبطل على صاحبه ويذهب أجره في صلاة الجمعة .
ومن ذلك كذلك ما يحصل من حجز الأماكن .. لا يأتي الإنسان إلى الصفوف الأولى إلا متأخراً ، والأصل فيها أن يكون إليها مبادراً ، ثم يكون قد جعل له موضعاً لا يأخذه غيره بغير حق ، ولا يكون له بذلك فيما يرى والله أعلم أجراً ؛ لأنه لم يبكر والمقصود بفضل الصف الأول التبكير ، وأن يسابق إليه وأن يستحقه بهذا التبكير الذي يبادر إليه وغير ذلك من صور أخرى كثيرة ، ومنها أمور أصبحنا نشكوا منها وذلك أن بعضاً من الشباب على وجه الخصوص يمكثون في المسجد وفي ملحقه ولا يؤدون الصلاة مع الجماعة وهم يرونها ويمكثون في أوقات أخرى بعلب والهزل وغير ذلك من أمور لا تليق مطلقاً ولا أحد من الناس يلتفت أو ينكر أو ينتبه ، بل إننا قد شكونا من أمور أعظم من ذلك وإننا نرى في دورات المياه إبر المخدرات .. يدخلون إلى بيوت الله ليتعاطونها في دورات المياه أو ملحقات المساجد وأقول هذا عن حقيقة .
من جهة نلفت النظر وهو أننا جميعاً مقصرون ، وأننا مفرطون ؛ لأننا لا نتعاون ولا نتكاتف لنجعل بيوت الله - عز وجل - مئرز إيمان ، وموطن تصحيح وتقويم وتهذيب ، ومحطة يخرج منها الناس باستقامة في سلوكهم وتهذيب في أخلاقهم وحسن في أقوالهم ، لا أن تكون مجرد محطة عابرة ، وربما - في بعض الأحوال - يأتي الناس إلى المساجد ليقوموا بأعمال محرمة ، أو لتكون ملتقى لاتفاقات وأعمال آثمة وذلك كله واقع حاصل غير مبالغ فيه ، بل هو حقائق لجأت إلى مثل حديثنا هذا وغيره أيضاً مما ينبغي التحرز منه .
نسأل الله - عز وجل - أن يعيننا على أن يجعل بيوت الله - عز وجل - مكاناً معظماً محترماً وينبغي لنا أن نتعاون في ذلك وأن نتكاتف فيه أهل المسجد وأهل الحي ومصلو الجمعة جميعاً في هذه المعاني وغيرها .
ينبغي أن يكون التواصي بالحق وأن يكون التواصي بالصبر والنصح للخلق والتذكير والمنع لما يستحق المنع ، وهذا كله من التواصي الذي أمرنا به والذي يستحق به أهل الإيمان الاستثناء من الخسران نسأل الله - عز وجل - أن يردنا إليه ردا جميلاً .
هذا المقال من: إسلاميات
http://islameiat.com/doc
عنوان المقال
http://islameiat.com/doc/article.php?sid=482(/4)
المساجد والمنابر رسالة ومنهج
د.على عمر بادحدح
المحتويات :
• أولاًً : المساجد .
- فضائل المساجد والأعمال المتعلقة بها .
• ثانيا : المنابر .
- فضائل المنابر .
• المسجد والرسالة .
• معالم أساسية في رسالة المسجد .
• المنابر والرسالة .
• مقومات الإمام الناجح .
• تنبيهات ومحاذير .
- اولا : المساجد .
- ثانيا : المنابر .
• توصيات الملتقى .
المساجد والمنابر رسالة ومنهج
المقدمة :
نحن نعلم - أيها الإخوة - إن اجتماعنا هذا إنما هو في أحد المساجد وفي بيت من بيوت الله عز وجل، ونعلم أن كثير من الخير والهدى والصلاح والإرشاد إنما يكون في هذه المساجد التي هي بيوت الله عز وجل في الأرض فحريٌ بنا أن نسلط الضوء على المساجد والمنابر ونرى بعض المعالم في الإنتفاع بها وبعض الشروط اللازمة لها وبعض المبادئ والمناهج التي ينبغي مراعاتها، وسأجعل هذا الحديث توطئة وتقدمة مفصلة لما أختم به .
أولاًً : المساجد
فضائل المساجد والأعمال المتعلقة بها
فضيلة : كونها بيوت الله
أضاف الله - عز وجل - المساجد إليه إضافة تشريف وتكريم ، وفي ذلك إشارة إلى أهميتها وعظمتها ، وأهمية دورها في الصلة بمنهج الله ، وفي التعرف على الله - عز وجل - وفي الحث على السير إلى رضوان الله - سبحانه وتعالى - وسلوك طريقه - جل وعلا - فالله سبحانه وتعالى يقول : { وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا } .
فهي مساجد الله تضاف إليه - سبحانه وتعالى - لأن فيها تقام العبادات التي يخضع بها العباد له سبحانه وتعالى ، وفيها تتلى آياته وفيها يذكر الناس بمنهج الله والطريق الموصلة إليه .
فضيلة : العمران بالحضور والمداومة
كما في قوله عز وجل : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشى الا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } .
فضيلة : البناء والتشييد
وردت أحاديث كثيرة في فضل بناءها، كما في حديث عثمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( من بنى مسجداً يبتغى به وجه الله بنى الله به مثله بيتاً في الجنة ) ، رواه الخمسة الا أبو داود .
فضيلة : السعي إلى المساجد
وكذلك ورد فضل عظيم في السعي إليها كما ورد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يرويه أبو هريرة ، أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزل في الجنة كلما غدا أو راح ) ، متفق عليه .
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه : ( من توضا فاحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلى الصلاة إنه كلما خطا خطوة إحداهما تحط عنه خطيئه والأخرى ترفع له درجه ) كما في حديث مسلم .
وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم وأبي داود : ( الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجراً ) .
ونعلم حديث بني سلمة لما أرادوا أن ينتقلوا إلى جوار مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم : ( بني سلمة دياركم تكتب آثاركم ) .
أي الزموا دياركم وسوف تكتب آثار سيركم إلى هذه المساجد .
فضيلة : كونها أحب المواطن إلى الله
ومن هذا التفضيل والأهمية إن الله جل وعلا جعل مواطنها أحب المواطن كما في الحديث عن أبي هريره - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه قال : ( أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ) ، والحديث في صحيح مسلم .
فضيلة : رجل قلبه معلق بالمساجد
ولعل من أعظم الفضائل ومعالم الأهمية ما ورد في حديث السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ومنهم : ( رجل قلبه معلق بالمساجد ) .
فضيلة : ما دام في مصلاه
ومن أهميتها ومن وجه آخر مما يزيد ويهيئ للقيام بمهمتها ورسالتها ماورد في أجر المكوث فيها فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول : اللهم اغفر له اللهم ارحمه ) .
وهذا يبين لنا أن المراد من المسجد أن يكون الواحة التي يستظل بها الناس من هجير الدنيا وتعبها ونصبها ، وهو الزاد الإيماني الذي يستقي منه أهل الإيمان ؛ ليستطيعوا مواجهة الباطل ، وليستطيعوا مواجهة بهرج الدنيا وتنازع النفس ووساوس الشيطان .
فضيلة : مشيئة الله في أن يرفع ويذكر فيها إسمه
فإن الله - عز وجل - قد بين ذاك أيضا بقوله : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والاصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار } ، ذكر الله - عز وجل - هذه الآية بعد الآية التي ضرب فيها مثل لنوره - عز وجل - ليبين أن النور إنما يستقى من هذه المساجد وأن الزاد يبتغى فيها، فكأن السائل يسأل بعد الآية التي فيها ذكر النور والضياء في القلوب فيقول : أين نجد هذا الزاد وهذا النور ، فيأتي الجواب :
{ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } .(/1)
فضيلة : حتى ولو كان من آحاد الناس
وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التشريف والتكريم لمن يقوم بخدمتها ونظافتها ، ونحن نعلم أن الناس يجدّون في أمر التنظيف ، ولكن إنه أمر لا يليق بالأشراف ولا يليق بكبراء القوم ، أما إذا كان ذلك في بيت من بيوت الله ؛ فإن هذا الشرف سيسعى إليه الأكابر قبل الأصاغر ، ولذلك أراد النبي - عليه الصلاة والسلام - أن يلفت نظر الأمة ، وأن يعلم أصحابة ومن بعدهم إلى هذا المعنى ، كما في حديث أبي هريره في الصحيح : ( أن رجلاً أو إمرأةً كان يقم المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يقمّ المسجد - يعني يزيل الاذى وينظف المسجد - فافتقده النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنه ، فقالوا : مات ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - قائد الأمة ورسولها ومعلمها يقول : أفلا آذنتموني ! دلوني على قبره ، فلما دلوه قام النبي صلى الله عليه وسلم وصلى عليه )
فضيلة : عهدة عند أبو الأنبياء
لعل أعظم من ذلك ما جاء في كتاب الله عز وجل { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } ، فهي مهمة أسندت إلى الرسل والانبياء أن يقوموا بعمارة البيوت وتطهيرها وتنظيفها حساً ومعنىً وكذا .
فضيلة : أول موطئ
من معالم الأهمية ما كان من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم المدينة لا يبدأ بشيء إلا أن يتوجه إلى المسجد ويصلي فيه ركعتين .
فضيلة : أول عمل بعد الهجرة
وحسبنا بيانا لأهمتيه وعظمته وبيانا لدور المسجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله أول عمل قام به عند قدومه إلى المدينة المنورة ؛ ليعلّم الناس أن المسجد مثابة أهل الإيمان ، وليدركوا أنه المجتمع الذي فيه يجتمعون وعنه يصدرون وإليه يرجعون وفيه يتشاورون ؛ ليدركوا أنه ما من مجتمع مسلم الا ويكون المسجد أول ما يعتنى به ويقام .
فضيلة : مشروعية التحية
ولذلك أيضا شرع النبي - عليه الصلاة والسلام - تعظيماً للمسجد تحية المسجد .
فضيلة : الوعيد لمن منع مساجد الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه
ونعلم أيضا أنه قد جاء في كتاب الله - عز وجل - الوعيد الشديد لمن حارب المساجد وحارب عمارتها وحارب أهلها ، كما قال الله عز وجل : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } ، من أظلم من هؤلاء ؟ والجواب ليس هناك أظلم منهم وهذا تقدير الجواب، وهذا سؤال على سبيل التعظيم والتهويل لهذا المعنى، أي ليس هناك أعظم جرماً وظلماً ممن منع مساجد الله أن ترفع وأن تشاد ، وأن تبنى وأن تعمر بذكره سبحانه وتعالى ، وهذا كله إيجاز تظهر لنا من خلاله أهمية المسجد وفضيلته .
ثانيا : المنابر
ثم ننتقل إلى المنبر وهو جزء من المسجد ولكن التفريق المقصود منه، بيان أن للمنبر في المسجد دور بارز مخصوص، من ذلك أو أهم شيء في المنابر الخطبة وأعظم هذه الخطب هي خطبة الجمعة لأنها هي الدائمة المستمرة، وحتى ندرك الفضيلة والأهمية نلحظ كثير من الجوانب في هذا فمن ذلك .
فضائل المنابر
جملة شرط
أن الخطبة جملة شرط للصلاة أي في يوم الجمعة لا تصح الصلاة عند كثير من أهل العلم إلا بوجود الخطبة ، سواء كانت خطبتين أو خطبة واحدة كما ذكر ذلك بعض أهل العلم ، المهم أنها شرط لصحة الصلاة وكفى بذلك أهمية .
إقتداء بأعظم خطيب
وانظر كذلك إلى أمر عظيم وهو أن الخطبة فيها إقتداء بالنبي - عليه الصلاة والسلام - فهو أول وأعظم خطيب فالخطيب الذي يخطب إنما يقوم في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لطيف ما ذكره الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته إنه كان يخطب الجمعة وثم قال في أثناء خطبته : " إن قدميه هاتين فوق أعظم رأس في الدنيا لأني أقف في مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم – " أو كلام نحو ذلك .
قربان التبكير
ثم من هذه الأهمية ما ورد في حديث النبي - عليه الصلاة والسلام - من فضيلة التبكير إلى المسجد لحضور الخطبة والاستعداد لها ، ونعلم في ذلك الحديث بتقريب البدنة وما دون ذلك كما هو معلوم .
من قال : أنصت فقد لغى
ثم انظر إلى الاحتياط والتشريع الحكيم الذي جاء ليجعل للمنبر للقول فيه أهمية عظمى ، وذلك بوجوب الانصات للخطيب، حتى كما نعلم قول النبي عليه الصلاة والسلام : ( من مس الحصى فقد لغى )
وكما قال صلى الله عليه وسلم : ( من قال لصاحبه أنصت والإمام يخطب فقد لغى )
لا بد أن يكون الجميع مستحضرين لقلوبهم منصتين بآذانهم متفكرين بعقولهم شاخصين بأبصارهم حاضرين قلباً وقالباً ؛ ليسمعوا كلام الله ليسمعوا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما أعظم هذا المنبر الذي يأتيه الناس طوعاً لا كرهاً ! يأتونه حُبّاً لا بغضا يأتون وهم يعلمون أنهم في ذلك يؤجرون، ثم يبالغون في الانصات فلا تجد معرضا وليس لاحد أن يقطع الخطبة ثم يخرج من دون عذر ، كل ذلك ليعطينا الإسلام أهمية المنبر وهذه الخطب التي تقال فيه .
التطيب للسماع(/2)
ثم من ذلك أيضا ما ورد في التطهر والتطيب والتنظف للجمعه إنها مسألة فريدة وهو أنه إعداد وتهيئة فريدة من نوعها ، تبكير وقبل ذلك تنظيف وتطهير ثم إصغاء وإنصات، وفوق ذلك عبادة وفضيلة وأجر .
ثوبين إثنين
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته وثوبين لمهنته )
مع قلة ذات يد الناس إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوجههم لذلك تعظيما واهتماما بهذه الجمعة وبالخطبة التي يشهدونها .
الغسل الواجب
ثم نعلم أيضا حديث النبي - عليه الصلاة والسلام - الذي قال فيه : ( غسل الجمعة واجب على كل محتلم ) .
واستشهد العلماء بأنهم جعلوا ذلك كله سنة مؤكده وبعضهم قال فيه بالوجوب .
أساس للصلوات الجامعة
ثم أيضا من أهمية الخطبة أنه الأساس في العبادات التي جاءت في مناسبات، نحن نعلم أن هناك صلاة في العيدين ، ونعلم أن هناك صلاة مسنونة للإستسقاء ، وكذلك عند الخسوف والكسوف وكلها فيها خطب ، لماذا ؟ لأن هذه مواسم التذكير والخطب، والمنابر هي أماكنها .
الدوام المطلق
ومن الأهمية والفائدة والدوام والإستمرار في خطبة الجمعة على وجه الخصوص ، فليس هناك توقف ولا تأجيل ، قد يكون هناك محاضرة أو درس ثم يؤجل ، لكن ليس هناك جمعة تؤجل مطلقاً ومن لطيف ما ذكر ابن عبد البر في كتابه [ بهجة المجالس ] عقد فصل في اللطائف وفي أخبار الحمقى فقال من ذلك : أن أحد الناس كان متوجهاً إلى المسجد يوم الجمعة فلقيه أحد الحمقى ، فقال : إلى أين ؟ قال : إلى المسجد ، قال : وماذا تفعل ؟ قال : أشهد الجمعة ، قال : أو ما علمت الخبر ؟! قال : ماذا ؟ قال : أجلوها إلى البيت قال : لو كنت أذنت لي من قبل فكان هو أحمق مثله .
المهم أن الدوام والإستمرار يجعل أمر الجمعة عظيماً ومنبرها خطيراً ؛ لأنها توجه إلى كل فرد مسلم في كل العالم في شرق الارض وغربها ، أليس الناس يشتكون اليوم من التفرق ومن إختلاف الآراء والتصورات ومن تباين الأفكار والميول ؟ .
إن الجمعة ومنبرها في هذا التشريع الإسلامي عندنا - على سبيل المثال كما يقولون - اليوم مائتي مليون مسلم ، ما الذي يمكن أن تقول لهؤلاء الناس ؟ كيف توجههم ؟ أين تجمعهم ؟ شرع الله - عز وجل - يجعل هؤلاء جميعاً - إلا من كان له عذر - في مكان واحد كلهم في كل أسبوع بأمر الله - عز وجل -يأتون إلى المساجد ليستمعوا إلى الذكر ويتعلموا ويأخذوا التوجيهات والتعليمات ، فهو منبر خطير ، أخشى ما يخشاه أعداء الإسلام هو هذا المنبر وأكثر ما يخططون له هو أن يخرج عن رسالته ، ويخرج عن مقصده ، وأن يفرّغ من محتواه ؛ لأننا لو تصورنا أن هذا المنبر أدى دوره ورسالته ، وقام فيه المؤهل الذي يحيي القلوب وينبه الغافلين ويوجه ويصحح ويقوم .
فلا شك أن هناك تغيراً كبيراً وتاثراً عظيماً يعتري قلوب الناس ويظهر في سلوكهم ويوجه تصوراتهم، وهذا لا شك أنه كالمسار والتيار الذي يمكن توجهه إلى ما ينفع الأمة ، وهذا لا شك أنه أمر عظيم .
المسجد والرسالة
ثم ننتقل إلى الجانب الثاني : الرسالة ومعالمها
أي رسالة المسجد ورسالة المنبر وبعض المعالم ، ما الدور الذي يقام في المسجد ؟ هناك معالم كثيرة لرسالة المسجد .
معالم أساسية في رسالة المسجد
أولاً : الإمامة وإقامة الصلوات
أول دور وأول رسالة للمسجد إقامة الصلوات، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام ، ومن هنا تأتي عظمة المساجد إنها تختص بقيام الركن الثاني الأعظم والأكثر أهمية بعد التوحيد وهو الركن الذي يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات خلافاً لسائر الأركان التي قد تكون في العام أو قد تكون في العمر كما في الحج .
وكذلك الصلوات يحصل بها كثير من الأمور والمنافع من تذكير لكتاب الله - عز وجل - وتعليم للإنتظام والنظام في حياة الأمة ، وإحياء لمشاعر الوحدة بين أبناء الأمة ، وغير ذلك من المنافع هذه المساجد هي مقامها ، ولذلك لا باس أن نذكر بعض المعالم السريعة التي نحتاج إليها لتؤدى هذه الرسالة على الوجه الأتم الأكمل .
من مواصفات الإمام
فلا بد إذاً أن يتحقق الإمام ببعض المواصفات ليؤدي هذه المهمة ، ومن ذلك :
1 ـ أن يكون حافظاً لكتاب الله - عز وجل - أو لكثير منه ؛ لأن الصلاة أساسها القرآن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) .
2 ـ أن يحسن التلاوة وأن يتعلم التجويد ، وأن يقيم الحروف سيما الفاتحة لأن الفقهاء ذكروا أنه إن كان لا يحسن قراءة الفاتحة بحيث يغير الحركات والاعراب تغيراً يغير المعنى أو يلحن فيكون ألثغ لا يقيم بعض الحروف أو يخطئ في نطقها إن صلاة مثل هذا لا تصح إذا كان وراءه متعلم يحسن القراءة .
3 ـ الإلمام بجانب من الفقه فيما يتعلق بالصلاة : أي بأركانها وشروطها وسننها وواجباتها حتى يستطيع هو أن يؤدي الصلاة على الوجه المشروع الصحيح وأن يعلم غيره في هذا الجانب وهذا إيجاز في هذه الناحية .
ثانياً : الدعوة والتعليم(/3)
ولا بد أن ندرك أن المعاهد والمدارس والمجامع والمحاضرات والندوات والمؤتمرات والكتب والأشرطة كلها من رسائل الدعوة والتعليم ، لكن أولها وأعظمها وأكثرها إستمرارا أن الداعية يقبل على أناس يأتون إلى المساجد وهم يبتغون الأجر وهم لا يستطيعون رفضه وهم يقبلون إليه أكثر من أي جانب من الجوانب ، لا بد أن يدرك أن أعظم المؤسسات التي تضطلع لمهمة التعليم هي المسجد وتاريخ الأمة الإسلامية يشهد بذلك ، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول جامعة وأول مسجد تعليمي وأول محضن تدريبي للدعوة، وشهد تاريخ الأمة كذلك أن المساجد هي المحاضن التي يتخرج منها العلماء والدعاة .
فنحن نعلم أن الجامعات العظماء في تاريخ الأمة الإسلامية إنما كانت في المساجد .. نحن نعلم عن الجامع الأزهر وعن جامع الزيتونة وعن غيرها من مواقع الإسلام العظيمة وجواميعه الشهيرة التي كان من ينصب فيها للتدريس هم كبار العلماء والأئمة، وكانوا يعينون بمراسيم من ولي الأمر لما لهذه المنازل من عظمة ولما لها من أهمية ، ولذلك من أهم الأدوار ومن أعظم الرسائل التي يقوم بها المسجد هي مهمة الدعوة والتعليم ، ونحن نعلم أن كثير من البلاد الإسلامية قد ضعفت فيها رسالة المسجد في جوانب شتى وسنذكر هذا الضعف، نجد أن نستعرض هذه الجوانب حتى في الجوانب الرئيسه في إمامة الصلاة التي هي الحد الأدنى الذي قد يوجد في بعض البلاد ، حتى في هذه جعلوا من الأسباب ما يضعفها و ما يجعلها لا تقوم على الصورة المطلوبة المرجوة .
أقول : لا بد للمسجد أن يقوم بمهمة الدعوة والتعليم وذلك بإحياء رسالة المسجد في إقامة الدروس العلمية الشرعية ، وكذلك في جانب الوعظ والتوجيه والتعليم المتعلق بحسن السياسة وأساليب الدعوة والحكمه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهناك أبواب واسعة .
لكني أشير إلى أن الناس يحتاجون إلى أكثر ما يحتاجون في واقع الحياة العملية إبتداء إلى أمرين يقدمان على غيرهما :
1 ـ العقيدة والتوحيد
أهمية هذا الجانب لا تخفى لأنه الأساس، ينبغي أن يكون هناك التذكير والتعليم لتوحيد الله عز وجل والإخلاص له والبعد عن الرياء والحذر من الشرك . ومن الذرائع المفضية إلى ذلك كله والحذر من الإبتداع وكل هذا ينبغي أن يكون جزء من الدروس التي تطرح في المساجد .
2 ـ الفقه في الأعمال والعبادات
لأن الناس يسئلون عن وضوئهم وصلاتهم وعن صيامهم وزكاتهم وعن حجهم وعن معاملاتهم في بيعهم وشرائهم، وهذا مما تمس إليه الحاجة ويعظم السؤال عنه فينبغي أن يكون هو المقدم في العناية ولا شك أن هناك أمورا أخرى هي من الأمور الشرعية التي ينبغي تعليمها والحرص عليها كتعليم القرآن الكريم وذلك بحلق التحفيظ والتجويد، وكذلك دروس التفسير ويضاف إلى ذلك أيضا الحديث النبوي الكريم الذي يدرس ويعلم . ثم بعد ذلك ما يسمى عند أهل العلم العلوم المساعدة أو علوم الآله مثل أصول الفقه أو أصول الحديث أو اللغة العربية .
أقول موجزاً لهذه المعالم في مقترحات يسيرة : هناك كتب من الكتب الموثقة الجيدة المختصرة التي يحسن قرائتها في المساجد أو تدريسها، من ذلك في جانب التوحيد [ الأسئلة والأجوبة الأصولية في العقيدة الواسطية ] ، هو نوع من حسن العرض وتبسيط العبارة لكتاب العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه ، ومن ذلك أيضا [ فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ] للإمام محمد بن عبد الوهاب ، والشارح آل الشيخ ، وأيضاً قد يكون من المناسب من هذه الكتب المناسبة كتاب [ لمعة الإعتقاد ] لابن قدامة المقدسي ، وقد يستفاد كثير من الشرح والتعليق لفضيلة الشيخ محمد العثيمين ، هذه من جانب التوحيد .
وفي جانب الفقه ؛ فإن من المطلوب أن يبدأ الإمام أو المدرس بكتاب في مذهب من المذاهب حتى يكون عند الناس قول واحد لا يشوش عليهم فيه ، ثم بعد ذلك من أراد أن يتوسع في طلب العلم يمكن بعد ذلك أن يطلع على الأقوال الأخرى بأدلتها والفقه المقارن أما عرض المسائل إبتداء ـ سيما لعوام الناس ـ الخاصة بالمذاهب الأربعة وذكر الأدلة والترجيحات ثم لا يكون هناك ترجيح يتضح له فيه المعنى والمغزى هذا يشوش على الناس ، أقول : يمكن أن يأخذ كتاب مثل [ زاد المستقنع ] لاختصاره ووجازته أو أوسع منه كتاب [ منار السبيل ] لابن ظويان ، أو لمن أراد أن يكون هناك بعض التوسع في الأدلة كتاب [ العدة شرح العمدة ] وكل هذه الكتب في فقه المذهب الحنبلي ، ويمكن أيضاً لمن كان في بيئته أو مجتمعه شيوعا لمذهب غير هذا المذهب أن يدرس من هذه المختصرات كتب متوسطة ما يفيد في هذا الجانب .(/4)
ومن الحديث كتب كثيرة الا أن من أشهر الكتب التي تداولها الناس في الأعصار وفي سائر الأمصار كتاب [ رياض الصالحين ] للإمام النووي رحمة الله عليه ، وقريباً منه كتاب [ مشكاة المصابيح ] أصلها للبغوي وتكملته للتبريزي ، هذان كتابان مقسمان على أبواب يجمعان الأحاديث المشهورة في سائر ما يحتاج إليه الناس من أمور العبادات ومن أمور الآداب ومن أمور الزهد والتكذير بالآخرة إلى غير ذلك .
ثم في التفسير كتاب ابن كثير رحمة الله عليه من أشهر كتب التفسير وأوثقها وأوسطها ، ليس طويل ممل و لا قصير مخل ، ويمكن أن يستقى منه الإمام ويلخص ثم يعرض للناس هذه الخلاصة ، و لست بصدد ذكر المزايا ، فقد ذكرت بعض هذا الشيء في بعض الدروس وأشير إليه لتمام الفائدة، منها الدرس الذي في التحضير والإلقاء ، ومنها سلسلة الدروس المتعلقة بالمصادر القرآنية و المصادر الحديثية التي فيها تعريف بالكتب وبعض مزاياها .
ثم يمكن بعد ذلك في اللغة والنحو وفي أصول الحديث كتب كثيرة من المختصرات ويفيد ذكرها في هذا الجانب ومن هنا تقوم حينئذ رسالة المسجد في مجال الدعوة والتعليم، ثم أخص في مجال الدعوة أنه من الممكن أن تكون هناك دروسا متعلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ومواقف في الدعوة وحكمته فيها أو دروسا متعلقة بفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه هو لب الدعوة وطريقها وأنتقل إلى الرسالة الثالثة وهي الرسالة الإجتماعية للمسجد ليس المسجد معهد ومدرسة يدرس الناس ثم ينفضون كل مبتعد عن الآخر، وإنما المسجد محضنا كما يجمع الناس في الصلاة فإنه يجمعهم لأمور حياتهم ويجمعهم لحل مشكلاتهم ويجمعهم لتبادل آرائهم، ومن هنا لا يمكن أن نشير إلى جوانب يسيرة من ذلك .
ثالثا : الدور الإجتماعي للمسجد
1 ـ التزاور والتفقد
أن يكون بين أهل المسجد وأهل الحي تزاور وتفقد يعودون مرضاهم ويشيعون جنائزهم ويتفقدون من حلت به مصيبة ويشاركون من كانت عندهم فرحة ، كل ذلك دوره ورسالته جزء من مهمة إمام المسجد حتى ينشط هذا الجانب .
2 ـ التشاور
ومن ذلك أيضا الشتاور ؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يستشير أصحابة وكان كثيراً من صور التشاور تتم في المسجد، ولا شك أن التشاور خاصة في الأمور المشكلة والمعضلة التي تمر بالناس في مسجدهم أو في حيهم لا شك أنه من أعظم ما يعودون بالنفع على الناس حتى يشعر المسلمون أن المسجد ليس للصلاة فقط وإنما المسجد يحل له مشكلته مع ابنه ويحلّ له مشكلته مع المدرسة ويحل له مشكلته مع جاره ويتشاور الناس لما ينفعهم ويأتمرون جميعا ليكونوا صفا واحدا أمام ما يضرهم ، ويلتقون جميعا ليحثوا بعضهم على ما ينفعهم، فهذه المشاورة لا شك أنها تجعل المسجد كالقلب النابض كالجسم المتحرك المعمور بالحيوية .
3 ـ التكافل
وقد طبّق النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في مسجده كما نعلم من حديث القوم الذين قدموا من مضر وكيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تأثر من حالهم وشدة فقرهم ودعا الصحابة في المسجد لأن يتكافلوا معهم ويتبرعوا لهم ، ثم فرح النبي - عليه الصلاة والسلام - بما رأى من صورة التكافل والتعاون .
وكذلك ينبغي أن يكون دور المسجد ودور أهل المسجد في هذا الجانب، وهذه معالم ثلاثة أو جوانب ثلاثة في رسالة المسجد مع بعض معالمها العملية وهناك جوانب أخرى لا شك أنه ورد في السيرة وفي سنة النبي عليه الصلاة و السلام إشارات لها و بعض الأعمال التي تدل عليها كما في شأن الأمور العسكرية وبعض التدريبات، كما ورد في الحديث البخاري أن عائشة رضي الله عنها كانت تشاهد الحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد ويزفنون في المسجد بحرابهم .
وما في ذلك أيضا من جوانب أخرى جعلت المسجد يصلح لكل شيء بحسب الحاجة وتحقق المصلحة مع الابتعاد عن المفسدة ، فقد مرض سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في المسجد ، وجعل النبي - عليه الصلاة والسلام - له خباء وخيمة فكان يعوده كلما صلى، وروي عن ابن عمر أنه كان ينام في المسجد عندما كان عزبا وقد ذكر الفقهاء سيما الحنابلة أن النوم في المسجد مكروه إلا لذي الحاجة إن كان غريباً أو إن كان لا ماوى له في وقت من الاوقات إن انقطع به السبيل أو نحو ذلك، وقال بعض أهل العلم : إن النوم فيها مطلقاً ؛ فإنه مكروه لأنه لم تجعل لذلك، وهكذا أقول هناك صورة حيه متكاملة في النصوص وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبين أن المسجد رسالته عظيمة .
المنابر والرسالة
الرسالة الاولى : البيان والتعليم(/5)
الدروس التي قد ذكرناها قد تكون مخصوصة بطلبة العلم قد لا يحتاجها أو لا يفهمها عامة الناس أما خطبة الجمعة فيحضرها كل كبير وصغير وكل عالم وجاهل وكل الناس على جميع مستوياتهم فمن هنا ينبغي أن تكون منبراً للبيان والتعليم ، كما ذكر ابن القيم في وصف خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كانت خطبته صلى الله عليه وسلم تقريرا لأصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقاءه وذكر الجنة والنار وما أعد الله لاولياءه وأهل طاعته وما أعد لأعداءه وأهل معصيته ، فيملأ القلوب من خطبته إيمانا وتوحيدا ومعرفة بالله وأيامه التي تحذر من بأسه، وكذلك الأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه ويبين لهم عظمة الله عز وجل وصفاته وأسمائه إلى أن قال ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وجدها كفيلة في بيان الهدى والتوحيد وذكر صفات الرب جل جلاله وأصول الإيمان الكلية والدعوة إلى الله وذكر آلائه سبحانه وتعالى التي تحببه إلى خلقه .
فهي منبر لهذا التعليم الذي يعلم فيه الناس بما يناسب المقام وبالأسلوب الحسن الذي يجمع بين الوضوح واليسر وبين أيضا الايجاز والقصر .
الرسالة الثانية : الوعظ والتذكير
فهناك أمور يعلمها الناس لكنهم يغفلون عنها أو يتساهلون فيها أو يخالفونها، فهنا يأتي القول كأنه معادا لكنه تذكرة والتذكرة تنفع المؤمنين ولكنه يجعل في طياته أيضا التحذير من مغبة المخالفة وفوات الأجر من التقصير في الطاعة مع ما يكون من روح المتحدث من الحثّ على الخير والتحذير من الشر فيحيى بذلك قسوة القلوب ويبعد الغفلة عن العقول ويحصل بذلك خيرا كثيرا .
المعلم الثالث : الإصلاح والفلاح
فإن الإمام ينبغي أن يكون معايش للواقع ويلمس المشكلات ويعرف ما يجد في حياة الناس ؛ فإنه حينئذ يمكن أن يجعل الخطبة إصلاح للأخطاء ومعالجة للأدواء ، وهذا لا شك أنه يجعل رسالة المنبر رسالة ذات تأثير ، وذات اتصال مباشر بواقع الناس .
وهذا يستدعي أمورا أخرى كثيرة ليس هذا المقام مقام التفصيل فيها، ولكني أقف معها وقفه يسيرة وهي :
مقومات الإمام الناجح
ما يتعلق بالمقومات التي ينبغي أن تتوفر في الإمام ؛ ليقوم برسالته في المسجد ، وليقوم برسالته في المنبر أيضا ، ويمكن أن نقسم هذه المعالم إلى أقسام متباينه منها :
1 ـ الصفات الذاتية الخلقية
مثل الإخلاص لله - عز وجل - والبعد عن الرياء ، وهذا مفتاح كل توفيق ، ومفتاح كل نجاح ، ومفتاح كل تأثير ، ولا بد أن ندرك هذا فإنه ليس التأثر بغزارة العلم ولا بفصاحة اللسان ولا بعلو الصوت ولا بظهور الحماسة وإنما بما يستقر في القلب بإخلاص لله ورغبة في نصح الخلق وإرضاء الخالق - سبحانه وتعالى .
2 ـ الصفات الذاتية
* الرفق في المعاملة وذلك أن : (الرفق ما دخل في شيء الا زانه وما نزع منه الا شانه ) .
صور من الرفق في المعاملة
أ ـ ألا يشق على الناس بالإطالة عليهم في صلاته أو خطبته .
ب ـ ألا يشق على الناس بكثرة الدروس وطولها وعدم ملائمتها لاحتياجاتهم .
ج ـ أن يكون مع الناس وفي وسطهم فلا يتكبر عليهم ولا يبتعد عنهم ، ولا يكون إذا طلبوه لا يجدونه ، وإذا احتاجوا إليه افتقدوه ؛ فإن هذا الرفق والتودد هوالذي يجعل له مكانة في القلوب ، ومحبة في النفوس ، فإذا قال سُمِعَ لقوله ، وإذا طلب أُجيب طلبه ، وإذا وجّه قبِل الناس توجيهه ، وهذا لا شك فيه من الأمور المهمة .
* القدوة
ثم كذلك لا بد له مما يتعلق بهذا الجانب أمر مهم عظيم ، وهو أمر القدوة لكي يتحقق الإنتفاع لا بد من أن يكون الإمام قائل بلسانه ولكنه قبل ذلك عامل بجوارحه وأن يوافق قوله فعله كما قال القائل :
لا تنهى عن خلق وتأتي مثله **** عار عليك إذا فعلت عظيم
و نعلم أثر القدوة في حياة الناس ونعلم من سيرة السلف أن بعضا منهم كان يتحاشى أن يخطب في الموضوع أو في الأمر حتى يطبقه بذات نفسه ثم يذكّر الناس به، يتحرج من أن يعظ الناس بأمر لا يبدأ بتطبيقه أو لم يحصل له الفرصة في تطبيقه وهذا لا شك فيه أنه من الأمور المهمة اللازمة في هذا الجانب .
* قوة الشخصية
أن يكون مستجمع لبعض الصفات القيادية فليس الإمام كما قد يقع في بعض الصور والأحوال أو كما قد يتوهم بعض الناس ليس هوالرجل الدرويش الضعيف الذي عنده بلادة في الذهن وبلاهة في التصرف، كلا بل ينبغي أن يكون هو الشديد في ذكاءه القوي في رأيه الحازم في أمره الواثق بربه، الذي يملك الشجاعة من غير تهور وعنده بعد النظر في عواقب الأمور كل ذلك يجعله قادر على القيام بهذه الرسالة .
* التحصيل العلمي
أ ـ أن يحرص على حفظ القرآن ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .
ب ـ أن يحفظ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور المهمة ما يعينه على أن يحسن الوعظ إذا وعظ ، وأن يصيب في التعليم إذا علم وهكذا .
ج ـ لا بد له أن يستنبط من خلال ما يحفظ من القرآن ، وما يعرف من السنة .(/6)
د ـ أن يكون عالماً بالأمرين المهمين الذين ذكرتهما أمر العقيدة وأمر الفقه العقيدة والشريعة اللذان ذكرنا أمرهما .
هـ ـ المعرفه بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشمائله وأخبار سلف الأمة ؛ لأن الناس يحبون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتعلقون به وبسيرته ، والقصص التي كانت بينه وبين أصحابه ، وبينه وبين أعدائه ، ما يجعل هذه القصص تفيد في التعليم والتوجيه بصورة مؤقتة ومؤثرة في نفس الوقت . و ـ أن يعرف الواقع المعاصر وما يتعلق في حياة الأمة من الإختلاف والإفتراق والضعف ، فلا بد أن يعرف الفرق أو أن يلم بإجمال لما جدّ ولما كان في حياة الامة من فرق ومذاهب ضالة ومنحرفة في السابق واللاحق ، حتى إذا سئل عنها أجاب حتى يحذر إلى ما يحتاج إليه التحذير إلى ما يقع فيه بعض الناس .
ز ـ أن يعرف أحوال الأمة الإسلامية وما يجد فيها ويحاك حولها حتى يستطيع أيضا أن يكون على دراية بهذا الأمر وهذا يستدعي أن يكون متصلا بوسائل الإعلام ويعرف ما يتعلق بها .
هذه جملة من الموصفات يحتاج إليها هذا الإمام ليؤدي الرسالة ويقوم لهذه المهمة .
تنبيهات ومحاذير
اولا : المساجد
هناك أمور لا بد من التنبيه لها والحذر منها :
تنقيتها من أمور الشرك والإبتداع
وما قد يقع كما نرى أو كما نسمع ونرى في كثير من البلاد الإسلامية والعربية من إقامة المساجد على القبور أو قيام الإبتداع وصور البدع فيها وغير ذلك وهذا معلوم ، ونعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حذّر من ذلك تحذيراً عظيماً ، وجعله مما نبه عليه وأكد عليه لأخريات أيامه هذا الأمر ، فقد ورد في الحديث عن جندب بن عبد الله أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال قبل موته بخمس :
( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد الا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك ) الحديث عند مسلم .
والحديث فيه لفظ صريح مبين واضح ، وكذلك قال - عليه الصلاة والسلام - كما في الصحيح عند البخاري ومسلم في حديث عائشه : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ، ويلحق بذلك ما يدخل في هذا الباب .
صيانة المساجد عن كل ما يصرفها عن رسالتها
وقد ورد في السنة النبوية من ذلك تحذيرات كثيرة ، ومن ذلك أيضا - على سبيل المثال لا على سبيل الحصر - الزخرفة والنقش والمبالغة في بناء المساجد ، مما يتحقق به إسراف وتضييع للأموال مما قد ينتفع به من جهات أخرى ، وكذلك مما يحصل به من الشغل والصرف عن العبادة والطاعة اللازمة ، ورد في الحديث عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه و سلم - قال : ( ما أُمرت بتشييد المساجد ) والحديث في سنن أبي داوود .
والمقصود بالتشييد أي المبالغة في بناءها ورفعها ونحو ذلك، وعن ابن عباس كما في البخاري أنه قال :
( لتزخرفنها أي المساجد كما زخرفتها اليهود والنصارى ) .
وفي حديث أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام : ( لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد )
أي بهذه المعاني .
ومن ذلك أيضا البيع والشراء وقد ورد النهي عنه ، ومن ذلك أيضا نشدان الضالة وكل هذا النهي ليس المقصود أن نفكر في الصورة فحسب وإنما المقصود أن المساجد لله للعبادة للدعوة للتعليم لهذه الرسالة ينبغي الا تشاب بمثل هذه الأمور، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل : لا ردّ الله عليه ضالته ) ،
بل هاهو - عليه الصلاة والسلام - كما في صحيح مسلم صلى مرة فقام رجل يسأل عن ضالته وقد كان جملاً أحمراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا وجدته - أي ضالتك - ثم قال عليه الصلاة والسلام : إنما بنيت المساجد لما بنيت له ) .
فهذا النص فيه عموم يشير إلى أنه ينبغي أن تقتصر المساجد على ما بينه له من الأمور المشروعة التي فصلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وألا يخرج بها عن هذا الشان .
ومن ذلك الظواهر الكثيرة في واقعنا اليوم مثل ظاهرة التسول المعروفة التي فيها كثير من التشويش وصورة لا تليق بالمساجد ، ومعلوم أن النهي عن السؤال قد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام وجمع ابن تيمية - رحمة الله عليه - في ذلك قولا يعني معتدلا متوسطا بين أقوال أهل العلم ، فقال :
" إن أصل السؤال محرّم في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة ؛ فإن كان به ضرورة وسأل في المسجد ولم يؤذي أحدا بتخطية رقاب الناس ولا بغير تخطية ولم يكذب فيما يورد ويذكر من حاله ، ولم يجهر جهراً يضر الناس مثل أن يسأل والخطيب يخطب أو وهم يسمعون علماً يشغله بهم ونحو ذلك " ، ولو طبقنا هذه المواصفات لعلمنا أن أكثرها لا ينطبق .
التحذير من التنفير
من التحذيرات التي قد تضعف - كما أشرت - القيام بالمهمة والرسالة ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام عندما شكا إليه بعض الصحابة وقال إننا نشكو من فلان مما يطوّل بنا ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( إن منكم منفرين فإذا صلى أحدكم فليخفف بالناس )(/7)
والمقصود به التوسط والاعتدال ، حتى كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي حتى إذا سمع بكاء الصبي تجوز في صلاته .
ومما أثر أن مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يرى أباه إذا صلى بالناس خفف في صلاته ، وإذا صلى في البيت أطال القيام والركوع والسجود وهذا عكس ما نفعله نحن ، إذا صلينا في المساجد طولنا ، وإذا صلينا في بيوتنا فإن صلاتنا تكون أخف من الخفيفة ،كما يقال فقال مصعب لأبيه : يا أبي أراك إذا صليت في المسجد خففت وإذا صليت في البيت طولت ! قال : " يا بني إنا أئمة يقتدى بنا " .
وكذلك ما ينبغي مراعاة الحال في مسألة التعليم والدروس ، كما في حديث علي رضي الله عنه : "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله " .
ثانيا : المنابر
التنبيه الاول : مظنة الفقه
ولا شك أن هناك بعض المبررات فيما قد يقع من طول لا يتوازن مع ما أثر من خطب النبي صلى الله عليه وسلم من أن الناس قل علمهم وتوسع عن طريق الله عز وجل بعدهم مما قد يستدعي تفصيلا أو تفريعا أو نحو ذلك، لكن المبالغة في ذلك غير مطلوبة وقد ورد في صحيح مسلم
( أن عمار بن ياسر خطب في قوم فقال له رجل يا أبا اليقظان لقد أبلغت فاوجزت ولو كنت تنفست أي طولت يعني حديثه كان مشوقا، فقال عمار بن ياسر إن النبي عليه الصلاة والسلام قال إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مظنة من فقهه ـ أي علامة من فقهه - فأطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة وإن من البيان لسحرا .
وعن عمر - رضي الله عنه - إنه قال : " لا تبغضوا الله إلى عباده ، قالوا : وكيف ذلك أصلحك الله ؟ قال : يجلس أحدكم قاصا فيطوّل على الناس حتى يبغض عليهم ما هم فيه ، ويقوم أحدكم إماما فيطول على الناس حتى يبغضهم مما هم فيه " .
التنبيه الثاني : اللحن اللغوي
من الأمور التي ينبغي الحذر منها اللحن والخطأ في اللغة العربية ؛ فإن الخطبة ينبغي أن تكون باللغة العربية ، وأن يحرص ألا يلحن وألا يُخطئ ؛ لأن ذلك يكون فاحشاً غير مقبول .
التنبيه الثالث : عدم التهويل والتقول
فإن بعض الناس من حماسته المفرطة يهول الأمور ويضخمه ، فقد تقع حادثة يسيرة أو خلل محدود أو خطأ مقصور على أحدٍ بعينه ، فإذا بالخطيب ينذر بالويل والثبور وعظائم الأمور وإذا به يصيح وينوح كأنما قد خربت الدنياكلها ، فهذا لا شك أنه من الأمور الغير موافقة للشرع ؛ لأن الشرع هو ميزانه العدل والتوسط والتحري والتثبت ، ولذلك ينبغي للإمام أن يتثبت وألا يتقول على الناس أو على أهل حيّه أو على عموم المسلمين ، و المبالغة في ذلك مذموم ، والكلامة يطيرها عنك كل مطير )
التنبيه الرابع : التركيز على السلبيات دون الإيجابيات
وهذا أحيانا تميل إليه النفوس الميل للنقد والتجريح ، ولذلك ينبغي ألا يكون ذلك وإن كان فينبغي أن يكون على النهج السوي ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا )
فالنقد للأفعال دون فاعليها وللأقوال دون قائليها حتى يتميز ذلك بما ينفع الناس، ولا شك أن المبالغة في ذلك أيضا مذمومة فقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( من قال هلك الناس فهو أهلكََهم ) ، وفي رواية ضبطها : ( فهو أهلكُهم ) .
وهذا لا شك أنه أيضا نوعاً من إدخال اليأس إلى قلوب الناس بأن كل شيء قد فسد ، وأن كل الأحوال قد اضطربت ، وأن كل المنكرات قد ارتكبت ، وأن كل المصائب قد جاءت ، فماذا يبقى للناس من بصيص الأمل ؟ وأين الإيجابيات والخير الذي ساقه الله - عز وجل - هنا وهناك ؟ ينبغي أن يكون هناك في هذا الجانب إعتدال .
التنبيه الخامس : البعد عن الإختلافات والتشويشات
وأحيانا تجد بعض الناس إذا عنده خصومة مع أحد جعل تصفية خصومه على منبر الجمعة يرد على هذا ويسفه هذا ويقدح في هذا أو يأتي بالمسائل ذات الأشكال العلمية الذي اختلف فيها العلماء التي هي من المسائل الدقيقة ، فيفرّع فيها ويخطئ ويصيب ، كما قد يحصل أحيانا من بعض الناس ، فهذا تشويش يضطرب به الناس ولا يحصل به الفائدة ويخرج بالمنبر عن رسالته ودوره .
التنبيه السادس : الإقتصار على أجزاء دون الشمول لسائر الإسلام
فإن حصر المنبر في تعليم فقه العبادات فقط لا شك أنه أمر في أصله جيد ولكن في الوقوف عليه دون سائر المواضيع موضع نقد ، فينبغي أن يذكر بالإيمان وبالعبادة وبالاخلاق وبالآداب وبالأحكام وبسائر ما في هذا الدين .
هذه بعض الملامح والمعالم في الجوانب الثلاثة التي أشرت إليها ، وأخلص إلى ما أشرت إليه من سبب هذا الموضوع ، وهو ما يتعلق بالملتقى الذي عقد للأئمة والخطباء وأحب أن أشير إلى ذلك إشارات من المنافع والفوائد التي تظهر من خلال مثل هذا العمل المبارك .(/8)
أولاً: الذي تبنى هذا الملتقى وزارة الشؤون الإسلامية والاوقاف والدعوة والإرشاد ، وهي جزء من الدولة ، وتأتمر بأمر ولي الأمر ، وهنا ملحظ مهم وهو أن ولاة الأمر ينبغي أن يكونوا معينين للدعاة وناصرين لهم وقائمين هم بأنفسهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومؤيدين للقائمين به ، وهذا الأمر أو الإلتقاء هو نوع من فهم الرسالة التي ينبغي أن تكون ؛ فإن كثيراً من البلاد الإسلامية يحصل فيها ذلك النزاع والشقاق ، وإن هناك من يتولى حرب الدعوة وحرب الدعاة من القائمين على الأمر ، ويجعل ذلك أوكد همّه ، وأول شغله ، ويبذل لذلك طاقاته وإمكاناته ، وهنا يحصل الفصام والخصام والنزاع والشقاق والإقتتال والإفتراق ، ويحصل بذلك كثيرا من البلاء والفتنة التي نرى صوراً منها في كثير من ديار الإسلام والمسلمين الا ما رحم الله .
فنحن ينبغي أن ندرك أن هذا العمل ؛ لعله أن يكون رسالة وأن يكون نموذج ، وأن يزداد منه وأن يستكثر منه ؛ حتى لا يكون هناك ما يرغب فيه الأعداء بأن يجعل الفصل والخصم بين أهل الحكم وأهل العلم أو الدعوة .
نحن في منهج الإسلام الحاكم هو إمام المسلمين هو الأصل الذي يتولى إمامتهم في الصلاة وخطبتهم في الجمعة وهو الذي يتولى قيادتهم في الحروب والجهاد في سبيل الله - عز وجل - فلئن كانت هذه الصورة ليست هي كما هي في كل فروعها فسيبقى أن نحافظ على أصولها وعلى جوهرها ورسالتها .
ثانياً : أن هذا الملتقى جمع أو شارك فيه وفي محاضراته وبحوثه والتوجيه فيه للأئمة والخطباء ثلة كبيرة من كبار العلماء في المملكة ، وهذا أيضا جانب آخر ، وهو الأمر العجيب الذي جدّ في حياة المسلمين اليوم ، وجعلوا هناك علماء وهناك دعاة، ويريد كثيرا من الناس أن يجعل الفئتين فئتين مختلفتين أو متباعدتين ، أوعلى أقل تقدير كل منهما تضرب في وادٍ غير الذي تضرب فيه الفئه الأخرى ، وهذا أيضا مكمن خطر ومزلق وخيم العواقب ، كما وقع في كثير من البلاد عندما يكون هناك العلماء الذين يبيعون دينهم بدنياهم ويطلبون رضاء أهل السلطة والقوة والحكم والسلطان ولو بالباطل فيسميهم الناس علماء السلطة ، ويكون هؤلاء لا قبول لهم عند الناس ، ولا يسمع الناس قولهم ، وبالتالي يكون من يخطب أو يعظ ممن لا يأخذ هذا ، الآخذ هو الذي يعد عند الناس مقبولاً ويصبح هؤلاء يذمّون هؤلاء ، وأولئك يفتون في تجريم هؤلاء ، كما نرى في كثير من البلاد .
فحضور هؤلاء العلماء ومخاطبتهم للأئمة والخطباء وطلبة العلم ممن هو أقل منهم علماً وأصغر منهم سِنّاً ، وأقل منهم تجربة لا شك أنه أيضاً مهمٌ جداً ، وقد حضر في هذا اللقاء وحاضر فيه سماحة الشيخ المفتي عبد العزيز بن باز ، وكذلك فضيلة الشيخ محمد العثيمين ، وإمام وخطيب الحرم الشيخ محمد السبيل ، وأيضا الشيخ صالح السدلان ، والشيخ صالح الأطرم ، والشيخ عبد العزيز آل الشيخ ... كل أولئك من كبار العلماء .
وكان هناك التوجيه وبيان الأحكام ، وهناك أيضا الإجابة على الأسئلة ، هذا أيضاً أمر مهم ، وإيجابية عظيمة ، فبدلا من أن يكون العلماء لا يجتمعون مع هؤلاء من الدعاة وطلبة العلم ، وكذلك هؤلاء من طلبة العلم أو الدعاة يظنون بكبار العلماء ظناً سيئاً ، أو لا يفهمون مراميهم في كلامهم ، أو مقاصدهم فيما يذهبون إليه من الآراء والإجتهادات ، هذا اللقاء يوفر اللغة المشتركة والارضية الواحدة التي تجمع بين العلماء الذين لا يستغنى عن علمهم ، وبين طلبة العلم الذين لا يستغنى عن جهدهم ، وبذلك تأتلف الحلقات واحدة بعد أخرى ، وهذه معالم في الطريق ينبغي أن يزاد منها وأن يستكثر منها .
ثالثاً : الحوار البنّاء فقد كان هناك سؤال وجواب ، واقتراح واعتراض ، وكانت هناك صدور رحبة ، ومناقشة علمية ، وحوار أدبي ، وحوار مؤدب راقي ، وهذا أيضا يبيّن لنا أن الإختلاف لا يفسد للود قضية ، وأنه إن تبانيت الآراء فلا بد من أن يناقش بعضنا بعض والحجة والحكم كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان هناك اختلاف في وجهات النظر في بعض المسائل المتعلقة بالمساجد والإمامة والخطابة ، وكان هناك حوارٌ حولها ، فكان إما إقتناع وإما أن يقول القائل هذه مسألة إجتهادية ، فهذا رأيي وذاك رأيك ، ولنراعي الأصلح للناس والأنفع لهم ، وهذا أيضا أمرٌ مهم ؛ فإنه قد ورد بعض الصور التي جعلت مسألة من مسائل الإختلاف مثار للنزاع والتراشق بالاتهامات وحصول الفرقة في الصفوف والبغضاء في القلوب ، فهذا مما لا ينبغي ، فهنا عندما نفتح هذا الحوار وأن يكون ذلك بين طلبة العلم والقائمين بالتوجيه والدعوة والقائمين بالخطابة والإمامة - لا شك - أن هذه إيجابية عظيمة .(/9)
رابعاً: أن هذا الملتقى حصل فيه تقديم بحوث علمية ، ليست مجرد أقوال أو محاضرات ، وإنما فيها الإستدلال بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبيان الأحكام الفقهية ومسائل دقيقة مما يتعلق بالمسجد والإمامة والخطبة والأحكام الفقهية وحرمة المساجد ومسؤليته الكلمة ، وغير ذلك من بحوث كثيرة جداً كلها طبعت ووزعت للمشاركين من الأئمة والخطباء ، حتى يستفيدوا منها ويسترشدوا بها ؛ لأنها أعدت في غالبها على أقل تقدير إعداد جيد .
خامساً :
إن هذا الملتقى جمع أئمة وخطباء من كل المناطق ومن سائر المدن ، وهذا - لا شك أيضاً - أنه يقرب الآراء ويوحد وجهات النظر ويعضد الدعاة بعضهم بعضا ويشجع الخطباء بعضهم بعضا ويعرف كل أحد أنه على ثغرة ، ثم تجد صورة مهمة مشرقة تشرح الصدر ، ذلك أنك ترى إماماً أو قاضياً أو خطيباً من المناطق الحدودية من أقصى الشمال أو في أقصى الجنوب أو في أقصى الشرق ، فليس الأمر - بحمد الله عز وجل - يعني بإمامة المساجد وخطابتها والدروس مقصورا على المدن الكبيرة ، بل هو حتى في المدن الصغيرة بل في القرى، فقد جاء منها أئمة من القضاة ومن كتاب العدل ومن خريجي الشريعة وهذا لا شك أنه فضل وميزة تتميز بها هذه البلاد بكثرة المجامع والمعاهد والجامعات التي تعلم العلوم الشرعية ، فأصبح هناك - ولله الحمد - الآن تجد الأئمة في غالبهم من طلبة العلم ومن حفظة القرآن وممن تخرّجوا من المعاهد الشرعية أو الكليات الشرعية وهذا قليل ما يوجد في بلاد أخرى .
سادساً : وهو يلحق بهذا وهو أن الحاضرين والمشاركين كانوا من ذوي المقامات العلمية العالية ومن ذوي المقامات الإجتماعية الرفيعة ، فكما وجد من بين الخطباء والأئمة الذين هم حملة شهادات الدكتوراة وبعضهم أساتذة مشاركون وبعضهم من كبار العلماء هذا يدل على أن هذا المقام هذا هو اللائق به ليس كما يظن بعض الناس ، أو كما هو واقع في بعض الأحوال إن الإمام هو أي إنسان يتقدم للإمامة والخطابة فحسب، الناس ينظرون اليوم لأستاذ الجامعة كأنه أعلى الناس مرتبة وأعلى الناس قدراً هو الذي يؤمهم في المسجد ويخطب فيه .
سابعاً : حضي الملتقى بتغطية إعلامية جيدة فعلمت أنه كانت هناك رسالة يومية تلفزيونية عن الملتقى وكذلك كانت الصحف تتابع أخبار الملتقى وتلخص بعض بحوثه وما ألقي فيه من محاضرات وهذا في الحقيقة أيضا أمراً مهماً ؛ حتى يعلم أهمية ودور ورسالة المسجد ، وأنه ليس بالضرورة أن يكون كما هو واقع بمساحات أكبر ، وكما يظن بعض الناس أن هذا الأمر أصبح مالوفاً وهو أن يفرد في المسجد ولخطبته ولقضيته في الصحف ، ويظهر ذلك واضحاً جلياً ، ويستفيد منه الناس ويكون أيضا على أقل تقدير إن لم يكن مكافئاً يكون منافساً لما قد يطرح أيضاً من القضايا الأخرى ، سواء كانت فنية أو رياضية أو غيرها ، فهذا أيضا جانب إيجابي له أهميته التي لا تغفل ، ولذلك في الحقيقة من خلال الخطباء والحاضرون والعلماء الذين شهدوا الملتقى وحاضروا فيه وناقشوا أو حصلت النقاشات معهم كانت الفائدة كبيرة جداً ، وهذا في حد ذاته تقديرا للائمة والخطباء .
وإهتمام ورعاية لرسالة المسجد ودوره في المجتمع المسلم ، وهو أمر - كما قلت - يعد بادرة طيبة تتلوها إن شاء الله تعالى كما ذكر ذلك في الملتقى نفسه بوادر أخرى .
والذي يكمّل هذه الإيجابيات والفوائد سأذكره من التوصيات التي خرج بها هذا الملتقى وهي التوصيات الرسمية التي أعلنت عن هذا الملتقى ، ونشرت في الصحف وهي تبين أن الملتقى إنما عقد لما فيه تطوير لرسالة المسجد ، ولما فيه خير الأئمة والخطباء ، ولما فيه نفع المسلمين ، لا كما يتبادر إلى بعض الأذهان وقد سمعت ذلك أن الملتقى إذا ما دام له صفة رسمية فلا بد أن يكون مقصده التقليد والتحجيم والمنع والكبت وغير ذلك .
أقول : هذه هي التوصيات التي خرجت عن المؤتمر فيها كثير من الإيجابيات والدعوات والإقتراحات التي إن تحققت وسعي في تحقيقها كان وراءها خيراً كبيراً .
توصيات الملتقى
أولاً : العمل على تنظيم دروس علمية في بعض المساجد يدرس فيها بعض العلوم الإسلامية ، ويتولى تلك المهمة إمام المسجد وخطيبه على أن يكون ذلك وفق برنامج محدد ترسمه وتشرف عليه فروع الوزارة في المناطق المختلفة ، وهذا التحديد أيضا قد يكون موضع حساسية عند بعض من يسمع ذلك .
وأقول - أيها الإخوة - لا بد أن ندرك أن رأي الفرد غير رأي الجماعة ورأي طالب العلم غير رأي العلماء والإرشاد الذي يتضمن الفائدة والضبط والحرص على عدم وجود الخلل والإختلاف لا شك أنه نافع ومفيد، فلن يكون التحديد إننا سنقرأ في كتب ليست كتبا شرعية أو إسلامية أو كتب ليس فيها قرآن ولا سنة ولكن كتاب دون كتاب حتى يكون هناك الكتاب الموثوق النافع المفيد من واقع التعيين الذي يعتمد على العلم والمعرفة .(/10)
ثانياً : العمل على إيجاد مكتبات في المساجد الكبيرة تزود بأمهات الكتب العلمية ؛ ليفيد منه إمام المسجد وجماعته على أن تقوم الوزارة وفروعها في المناطق بوضع برامج محددة وخطط واضحة لتلك المكتبات ، يتم تنفيذها تحت إشراف إمام المسجد ومسئوليته .
وهذا أيضا جانب مهم هو متحقق ولكن هنا التوصيه بأن يكون ذلك إن لم يكون موجود أن يكون كذلك موجوداً .
ثالثاً : التعاون بين إمام المسجد ومؤذنه ومن يكون في مسجدهم من أهل الرأي والعلم من جماعة المسجد في حلّ ما قد يحدث من مشكلات تتعلق بالمسجد وجماعته .
أن يكون الإمام والمؤذن وأهل الحي من أهل الراي أن يكونوا مجموعه تبت في مشكلات أو معضلات تقع في الحي أو في المسجد، وهذا كما قلت مما يحقق رسالة المسجد .
و يؤكد المشاركون في الملتقى على أهمية التعاون بين أئمة المساجد ومؤذنيها وبين الوزارة واجهزتها بالإلتزام بكل ما يصدر من تعليمات وتوجيهات تنظم العمل التجاوب في عرض ما يواجههم من مشكلات تعوق عملهم وتحد من أداء رسالتهم وتقوية العلاقه والتشاور والتناصح فيما بينهم في تجويد العمل وأداءه على الوجه المطلوب .
كما يوصون بالتعاون بين أئمة المساجد وخطبائها وبين مراكز الدعوة وهيئه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الأجهزة الحكومية التي تحقق الأهداف المنشودة .
رابعاً : العمل على حسن إختيار الأئمة والخطباء والمؤذنين وأن يكون اختيارهم وفق أسس واضحة ومعالم محددة تراعي إختيار الاصح للقيام بهذه الوظائف الجليلة ويوصي المشاركون يتكوين لجان علمية متخصصة في فروع الوزارة تقوم بمقابلة الراغبين في شغل هذه الوظائف حتى لا تكون هذه الوظائف يستهين بها الناس ويحتقرون من يقوم بها إذا لم يكن مؤهلاً .
خامساً : يوصي المشاركون بأن تقوم الوزارة بالعمل على رفع كفاءة الأئمة والخطباء من خلال ما ينظم لهم من دورات تدريبية وبرامج تأهيلية من شانها تحسين مستواهم .
سادساً : يؤكد المشاركون في الملتقى على أهمية قيام أئمة المساجد وخطبائها ومؤذنيها بواجباتهم المنوطة بهم وعدم التفريط بها وعدم ترك مساجدهم وخاصة في شهر رمضان والحج وغيرها لحاجة جماعاتهم إلى توجيههم لمثل هذه الأيام الفاضلة .
وهذا أيضا تقصير يجب الاعتراف به ويجب التلافي له ؛ لأن هناك أئمة يوكّل غيره مؤذن أو غير مؤذن ولا يراه الناس الا في الجمعة وربما حتى في بعض الجمع لا يرى إن كان إمام راتب معين لا بد أن يسعى إلى التزام عمله .
سابعاً : يوصي المشاركون في الملتقى على استكمال إيجاد مساكن للأئمة والمؤذنين تكون قريبة من المسجد ؛ ليتمكن كل منهما الإلتزام بما أسند إليه من مهمة وأوكل إليه من عمل ، كما يوصون بإستكمال ما يحتاج إليه المسجد من مرافق ضرورية .
ثامناً : دراسة نظام الأئمة والمؤذنين ومن يلحق بهم وتلافي ما فيه من الملحوظات وإيجاد البديل المناسب .
تاسعاً : يوصي المشاركون بعض الخطباء أن يجتهدوا في إعداد خطبة الجمعة إعدادا جيدا من حيث سلامة اللغة ، ووضوح المنهج ، والابتعاد عن ما يثير الخلاف والشقاق بين المسلمين ، والتثبت من كل ما يتناوله الخطيب من قصص وروايات وأخبار ، وأن يكون ذلك كله حسب المنهج الشرعي المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف .
عاشراً : يوصي المشاركون بأن تقوم الوزارة بتكليف من تراه من الأئمة الأكفاء المؤهلين بإلقاء خطب الجمعة في مساجد أخرى غير مساجدهم .
يعني الإمام المؤهل الجيد أن يتنقل في بعض المساجد غير مسجده ؛ حتى يستفاد منه في دائرة أوسع وهذا اقتراح من الإقتراحات التي تبنتها توصيات الملتقى .
حادي عشر : دراسة أفضل الطرق لإفادة من يحضر الجمعة من غير الناطقين باللغة العربية من خطبة الجمعة ؛ لأن هناك مناطق وبعض المساجد يشهدها كثيرا ممن لا يجيدون العربية فجعلت التوصيه أن يكون هناك أساليب أو ترجمات أو طرق معينة تعين المسلمين على أن يستفيدوا إذا كانوا لا يعرفون اللغة العربية .
ثاني عشر : التوصية بأن يكون هناك إصدار لنشرة أسبوعية أو شهرية أو مجلة فصلية تعني بتوعية الإمام والخطيب وتزويده بما يحتاج إليه من معلومات والأحكام الشرعية وفتاوي فقهية تعينه على القيام بمهمته على الوجه الأفضل .
ثالث عشر : كما يوصي المشاركون بأن تقوم الوزارة بتزويد الائمة والخطباء ببعض الكتب العلمية والرسائل المفيدة والنشرات الهادفة لتسهم في زيادة تحصيلهم وحصيلتهم العلمية وثقافتهم العامة .
رابع عشر : أن تقوم الوزارة بطباعة اللوحات والدراسات التي قدمت للمتلقى حتى يستفاد منها . وهي بحوث مطبوعة يراد أن تجمع لتكون بين يدي الأئمة والخطباء .
خامس عشر : يوصي المشاركون بتخصيص مساحة مناسبة من وسائل الإعلام المختلفة لنشاط المسجد وإبراز جهود الدولة بالعناية به وخدمته . وهذا أيضا أمرا مهم .(/11)
سادس عشر : أن يقوم الخطباء بتوعية المسلمين وحثهم على التفاعل مع رسالة المسجد والسعي إلى عمارة المسجد حسيا ومعنويا وإيجاد الاوقاف التابعة له .
سابع عشر : دعم حلقات التحفيظ القرآن الكريم المنتشرة في المساجد بالإمكانات المادية والبشرية المؤهلة وتحسين اوضاع معلمي القرآن ودراسة أفضل الطرق والسبل لذلك الأمر .
ثامن عشر : نظرا لما تركه الملتقى من آثار ايجابيه ونتائج طيبة على المشاركين فيه وعلى غيره من الأئمة والخطباء فإن المشاركين يوصون بتكرار هذه الملتقيات بشكل دوري في المناطق المختلفة واللقاء بأصحاب الفضيلة من كبار العلماء والإفادة من توجيهاتهم والإنتفاع بعلمهم . كما يوصون بعقد لقاءات دوريه بين أئمة مساجد كل منطقة وخطبائها وهذا أيضا باب من أبواب التعاون الذي يستفاد منه كثيرا ليستفيد كل أحد من علم أخيه وتجربته وليكون هناك التلافي للأخطاء والقصور الذي قد يكون موجودا في البعض أو عند بعض الحالات .
تاسع عشر : يتقدم المشاركون في الملتقى الاول بالشكر لولي الأمر ولنائبه وللوزارة التي قامت بهذا الملتقى وقد وجد كما قلت الوعد بأن يكون هناك ملتقى آخر للدعاة وملتقيات أخرى للأئمة والخطباء في المناطق .
هذه التوصيات تؤكد أنها تسعى إلى تقويه رسالة المسجد ودعمها مع تنظيمها وضبطها مع جعلها في الإطار الذي ينفع ويفيد وإبعاده عن الإطار أو عن المشكلات التي قد يحصل بها بعض الإختلاف أو بعض ما لا يكون مناسبا ونافعا للمسلمين . فهذه المعالم أو التوصيات تدل على هذا الجانب الذي أشرت إليه و الحمد لله رب العالمين .
--------------------------------------------------------------------------------
إسلاميات(/12)
المساجد والنساء
من المعلوم أن النساء شقائق الرجال، ولهن من الأحكام ما للرجال، إلا ما خصه الدليل.
ومن هذه الأحكام التي تخص النساء دون الرجال ما يتعلق بالمساجد:
أولاً: حضور المرأة للمسجد لصلاة الجماعة:
يباح للمرأة الخروج لحضور جماعة المسجد، لأداء الصلاة المكتوبة، إذا أذن لها زوجها أو وليها من أب أو أخ أو غير ذلك.
وقلنا بإباحة الخروج لها لحضور صلاة الجماعة؛ لأن الجماعة ليست واجبة على المرأة، قال ابن حزم- رحمه الله- : وأما النساء فلا خلاف في أن شهودهن الجماعة ليس فرضاً، وقد صح في الآثار كون نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرهن لا يخرجن إلى المسجد.
ولكن إذا لم يكن حضورهن الجماعة في المسجد واجباً عليهن فإنه يباح لهن هذا الحضور، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا نساءكم المساجد، إذا استأذنكم".رواه مسلم
ومع هذا فإن بقاء المرأة في بيتها، وصلاتها فيه هو الأفضل لها من الخروج إلى المسجد للصلاة فيه مع جماعة المصلين، بدليل الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في هذا المعنى، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود :" لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن".
وفي حديث أخرجه أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها". والمخدع هو البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير، وكون صلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها؛ لأن أمر المرأة مبني على الستر.
وعن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لأن تصلي المرأة في بيتها خير من أن تصلي في الدار؛ ولأن تصلي في الدار خير لها من أن تصلي في المسجد". أخرجه أحمد في مسنده وابن خزيمة في صحيحه1 .
وقد سئل فضيلة الشيخ ابن جبرين – حفظه الله - هل للنساء صلاة جماعة مثل الرجال أم عليهنّ أن يصلين فرادى؟ وإذا كان عليهن صلاة جماعة فهل يجوز لي أن أصلي مع أهل بيتي لكي يكون لهنّ أجر صلاة الجماعة؟
فأجاب : صلاة الجماعة في المساجد تجب على الرجال، لكن إذا استأذنت المرأة إلى المسجد كره منعها؛ وبيتها خير لها، فأما صلاة النساء في بيتهن جماعة فلا بأس بذلك، لكن تكون أمامتهن في صفهن، ولكن ليس لهن من فضل صلاة الجماعة مثل ما ورد في حق الرجال، ولا يجوز للرجل أن يترك المسجد ويصلي بأهله ونسائه في البيت جماعة، فإن إتيان المسجد واجب على الرجال للصلاة المفروضة2.
ثانياً: المرأة وحدها تكون صفاً:
هذا هو ما عنوّن به الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه، وذكر تحته حديث أنس بن مالك قال:" صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم- ، وأمي – أم سليم- خلفنا".
وقد أشار ابن حجر - رحمه الله - في الفتح 3 أن هذه الترجمة هي لفظ حديث أخرجه ابن عبد البر من حديث عائشة مرفوعاً: "والمرأة وحدها صف".
وقال ابن حجر في الفتح 4 :فيه أن المرأة لا تصف مع الرجال، وأصله ما يخشى من الافتتان بها.
قلت: وهذا إذا كان المنع من صلاة المرأة في صف الرجال الذين يكونون في الغالب من الأقارب في البيت فالمنع – في المسجد أشد وأعظم.
ثالثا: نوم المرأة في المسجد:
وهذا أيضاً عنوان ما ترجم به الإمام البخاري في صحيحه وذكر تحته حديث عائشة وقصة الوليدة – الجارية السوداء - والذي فيه: "فكان لها خباءٌ في المسجد أو حفش".
قال ابن حجر في الفتح 5 : وفي الحديث إباحة المبيت والمقيل في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين رجلاً كان أو امرأة عند أمن الفتنة.
رابعاً: دخول الحائض المسجد:
يحرم على الحائض دخول المسجد، وذلك مظنة توسيخها إياه، وهذا هو رأي ابن حجر- رحمه الله - كما في الفتح 6 وهو شرح حديث عروة أنه سئل أتخدمني الحائض أو تدنو مني المرأة وهي حيض؟ فقال عروة: كل ذلك هين.. أخبرتني عائشة أنها كانت ترجل – تعني رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وهي حائض.
قال ابن حجر- رحمه الله-: وفي الحديث دلالة على طهارة بدن الحائض وعرقها، وأن المباشرة الممنوعة للمعتكف هي الجماع ومقدماته، وأن الحائض لا تدخل المسجد.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية برئاسة الشيخ/ عبد العزيز بن باز رقم الفتاوى (6948) هل يحل للحائض دخول المسجد وما الدليل؟ فكان الجواب كالتالي: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: لا يجوز للحائض دخول المسجد إلا مروراً إذا احتاجت إلى ذلك كالجنب لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً لا عابري سبيل حتى تغتسلوا}. وبالله التوفيق وصلى الله على نبنيا محمد وآله وصحبه وسلم 7.(/1)
بل دخول الحائض المسجد لسماع الذكر والاستماع إلى الخطبة لا يجوز، وهو ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، وإليك نص السؤال الموجه لها برقم (5167) مع نص الجواب، ما حكم الشرع في حق المرأة التي تدخل المسجد وهي حائض للاستماع إلى الخطبة فقط؟
فكان الجواب الأتي:
لا يحل للمرأة أن تدخل المسجد وهي حائض أو نفساء، والأصل في ذلك حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد" ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم فقال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" رواه أبو داود.
وروي عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته: " إن المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب" رواه ابن ماجه.
فهذان الحديثان يدلان على عدم حل اللبث في المسجد للجنب والحائض، أما المرور فلا بأس إذا دعت إليه الحاجة وأمن تنجيسها المسجد لقوله تعالى: { ولا جنباً إلا عابري سبيل} والحائض في معنى الجنب؛ ولأنه أمر عائشة أن تناوله حاجة من المسجد وهي حائض.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم8.
وقد يسأل سائل فيقول: ما حكم دخول الحائض لما يحلق بالمسجد؟
فنقول: سئل الإمام ابن باز - رحمه الله - بسؤال نصه: في أميركا مسجد يتكون من ثلاثة أدوار: الدور الأول مصلى للنساء، والدور الذي تحته المصلى الأصلي، والدور الذي تحته عبارة عن (قبو) فيه المغاسل ومكان للمحلات والصحف الإسلامية، وفصول دراسية نسائية ومكان لصلاة النساء أيضاً
فهل يجوز للنساء الحيض دخول هذا الدور السفلي؟
كما يوجد في هذا المسجد عمود يعترض للمصلين في صفوفهم فيقسم الصف إلى شطرين فهل يقطع الصف أم لا؟
فكانت الإجابة كالتالي:
إذ كان المبنى المذكور قد أعد مسجداً ويسمع أهل الدورين الأعلى والأسفل صوت الإمام صحت صلاة الجميع، ولم يجز للحيض الجلوس في المحل المعد للصلاة في الدور الأسفل؛ لأنه تابع للمسجد، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- : "إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب".
أما مرورها بالمسجد لأخذ بعض الحاجات مع التحفظ من نزول شيء من الدم فلا حرج في ذلك لقوله تعالى: { ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}.
ولما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر عائشة أن تناوله المصلى في المسجد، فقالت: إنها حائض فقال صلى الله عليه وسلم: "إن حيضتك ليست في يدك".
أما إن كان الدور الأسفل لم ينوه الواقف من المسجد، وإنما نواه مخزناً ومحلاً لما ذكر في السؤال من الحاجات فإنه لا يكون له حكم المسجد، ويجوز للحائض والجنب الجلوس فيه، ولا بأس من الحاجات فإنه لا يكون له حكم المسجد، ويجوز للحائض والجنب الجلوس فيه، ولا بأس بالصلاة فيه في المحل الطاهر الذي لا يتبع دورات المياه كسائر المحلات الطاهرة التي ليس فيها مانع شرعي يمنع من الصلاة فيها، ولكن من صلى فيه لا يتابع الإمام الذي فوقه إذا كان لا يراه بعض المأمومين؛ لأنه ليس تابعاً للمسجد في الأرجح من قولي العلماء.
أما العمود الذي يقطع الصف فلا يضر الصلاة. لكن إذا أمكن أن يكون الصف قدامه أو خلفه حتى لا يقطع الصف فهو أولى وأكمل. والله ولي التوفيق9.
القارئ الكريم وبعد عرضي لشيء يسير من أحكام المساجد والنساء فإنني أنقل لك ما قاله خير الدين وائلي في كتابه المسجد في الإسلام – أحكامه- آدابه- بدعه 10: وقد كانت النساء يحضرن المسجد على عهد رسول الله ويصلين الجمعة.
وفي الصحيحين:" إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها".
لكن المرأة المسلمة إذا كان الشارع الحكيم قد سمح لها بالذهاب إلى المسجد لتسمع الموعظة الحسنة، وتتعلم شؤون دينها؛ فقد فرض عليها ألاّ تمس الطيب، فقد روى مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة". وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا شهدت إحداكن المسجد؛ لا تمس طيباً".
وقد خصص النبي - صلى الله عليه وسلم - باباً للنساء، وكان عمر ينهى الرجال أن يدخلوا من باب النساء.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري إذا سلّم من الصلاة، مكث في مكانه يسيراً قبل أن يقوم، لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهّن الرجال، وقد كان النساء يقمن حين يقضي تسليمه.
وقد طلب النساء من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخصص لهنّ دروساً خاصة، ففعل، وكان إذا وعظ الناس في العيدين يأتي النساء، فيعظهنّ، ويذكرهنّ، ويأمرهن بالصدقة؛ كما في الصحيحين.
ثم نقل عن الشيخ القاسمي - رحمه الله- أنه قال:(/2)
وما أحوج النساء الآن إلى واعظ سيما وقد انتشرت فيهنّ البدع والمنكرات، واعتقاد الأضاليل، ومخالفة الأزواج، وما لا يحصى من المحظورات.
وقال: أفليس يجب على الأمراء والوجهاء والمياسير أن يندبوا لذلك من يرونه كفئاً في الفضل والكمال، ويشوقوه لذلك، ويعينوا له مسجداً يرشدهنّ فيه في يوم معلوم، ويحرسوا المسجد بمن يقوم على بابه ليحفظه من دخول رجل إليه.
لعمر الحق إن هذا الاقتراح من أوجب الواجبات، وآكد المرغوبات.
ثم قال: وقد أدى تشديد الفقهاء في منع النساء من المساجد والمجامع عن الدروس إلى أن أصبحن في جهالة وأية جهالة، وكله من شؤم مخالفة الأمر النبوي، وما كان هديه معهن، وانظر ما رواه مسلم في صحيحه عن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : "لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم" فقال بلال: والله لمنعهن. فقال عبد الله: أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وتقول أنت: لنمنعهن؟! وفي رواية سالم عن أبيه قال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول: والله لمنعهن؟!
وعن مجاهد عن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمنعنّ رجل أهله أن يأتوا المساجد". فقال ابنٌ لعبد الله بن عمر: فإنا نمعهن. فقال عبد الله: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول هذا؟! قال: فما كلمة عبد الله حتى مات.
وأما قول عائشة: "لو علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدثن بعده، لمنعهنّ". فتعنى بهن المتعطرات، كما في حديث:" أيما امرأة أصابت بخوراً، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة".
ولذا ترشد المرأة إلى ترك التعطر والتبرج، وإلا فسدُّ الباب لهنّ أبداً فيه فتح لجهالة لا غاية لها، وهنّ مأمورات بالعلم والتعلم؛ لأنه فرض على كل مسلم ومسلمة.
قلت: أي فرض على المسلمات تعلم أحكام الطهارة والصلاة وما يختص بهن من أحكام، أما غير ذلك فلا يكون فرضاً- وأنى يتأتى لهن العلم ودونهنّ سبعون حجاباً عنه؟!.
ثم قال: وما الأغرب إلا أن لا يكون لهنّ حجاب إلا عن العلم والتعلم، وهن مأذونات من أزواجهن – العلمانيين وجهلة الناس- فيما للبيع والتزوار بل وللسفر – ولو وحدهن- فرحماك اللهم!!.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.
________________________________________
1 - المفصل في أحكام المرأة/ للدكتور عبد الكريم زيدان (1/1212) بتصرف.
2 - فتاوى إسلامية 1/363. دار الوطن للنشر.
3 - 2/248 ط: دار الريان للتراث.
4 - 1 /249
5 - 1/637
6 - 1/479
7 - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ( 5/ص398) ط: دار العاصمة.
8 - فتاوى اللجنة الدائمة 6/272- 233 ط: دار العاصمة
9 - فتاوى إسلامية 1/241 ط: دار الوطن للنشر
10 - ص156-159(/3)
المسارعة إلي الجنات
إعداد : وليد أمين الرفاعي
*السعي على الأرملة والمسكين:
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله". وأحسبه قال: "وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر".
كفالة اليتيم:
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وقال بإصبعه السبابة والوسطى".
{البخاري}
الشهادة بعد الوضوء:
روى الإمام الترمذي في سننه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء".
الترديد خلف المؤذن:
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة".
بناء المساجد:
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بني مسجدًا يبتغي به وجه الله بني له مثله في الجنة".
الذهاب إلى المسجد:
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح".
الصلوات الخمس:
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله".
*المحافظة على صلاة الفجر وصلاة العصر:
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى البردين دخل الجنة".
المحافظة على صلاة الجمعة:
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام".
تحري ساعة الإجابة يوم الجمعة:
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه الله إياه".
المحافظة على السنن الراتبة مع الفرائض:
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتًا في الجنة".
صلاة الليل:
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل".
صلاة الضحى:
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يصبح كل سلامة من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى".
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم :
روى الإمام مسلم في صحيحة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا".
المحافظة على صوم النوافل:
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا".
8- صيام ثلاثة أيام من كل شهر:
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله". البخاري.
صيام ست من شوال:
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال كان كصوم الدهر".
تفطير الصائم:
روى الإمام ابن ماجه في سننه من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فطر صائمًا كان له مثل أجرهم، من غير أن ينقص من أجرهم شيئًا".
{صحيح ابن ماجه للألباني: 1417}
روى الإمام الترمذي في سننه من حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار".
{صححه الألباني في الإرواء: 2-138}
العمل في أيام عشر ذي الحجة:(/1)
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام". يعني أيام عشر ذي الحجة. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء".
الجهاد في سبيل الله:
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع صوت أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها".
الإنفاق في سبيل الله:
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله فقد غزا".
الصلاة على الميت واتباع الجنازة:
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان". قيل: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين".
حفظ اللسان والفرج:
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة". {البخاري (11-264)}
إماطة الأذى عن الطريق.
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس".
**** تربية البنات والإنفاق عليهم:******
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته كن له حجابًا من النار يوم القيامة". {مسند الإمام أحمد: 17439، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح}
**** الإحسان إلى الحيوان:******
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقي الكلب ، فشكر الله له ، فغفر الله". {مسلم: 2244}
**** ترك المراء:******
روى الإمام أبو داود في سننه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه".
{أبو داود: 4800، وحسنه الألباني في الصحيحة: 273}
**** زيارة الإخوان في الله:******
روى الطبراني عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الا أخبركم برجالكم في الجنة؟" قالوا: بلى يا رسول الله، فقال: النبي في الجنة، والصديق في الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر، لا يزوره إلا الله في الجنة...". {المعجم الأوسط: 1743، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1941}
**** طاعة المرأة لزوجها:******
روى الإمام ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلت خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت".
{حسنه الألباني في صحيح الترغيب: 1931}
**** ألا تسأل الناس فيما لا يقدر عليه إلا الله:******
روى الإمام أبو داود في سننه من حديث ثوبان مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئًا أتكفل له بالجنة". {صحيح أبي داود للألباني: 1446}(/2)
... ... ...
المستقبل لهذا الدين ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- البشارة بمستقبل الدين رغم مرارة الواقع. 2- تنسم رسول الله النصر في أضيق الظروف وأصعب الأوقات. 3- أسباب تأخر النصر لن تمنع تحققه ولو بعد حين. 4- ما يبذله العدو من مال وجهد إلى تباب. 5- أحاديث البشارة النبوية بانتصار الإسلام. 6- واقع الإنسانية وإفلاس المدنيات المختلفة يبشر بالنصر القادم. 7- الصحوة الإسلامية العارمة تبشر باقتراب النصر. 8- متى يقترب النصر. 9- هل يتحقق النصر في ظل تكالب العدو وعجز الصديق. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
كثيراً ما يرد على أسماع المصلحين والدعاة وطلاب العلم أن المستقبل لهذا الدين، وأن المستقبل للإسلام، وأن النصر قادم إن شاء الله تعالى. فيقول القائل في مرارة وحسرة: أيّة بشرى بمستقبل الإسلام والمذابح الوحشية تلاحق المسلمين في كل مكان، أية بشرى وأيّ أمل وقد بُتر من جسد الأمة القدس الحبيب، أولى القبلتين ومسرى الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، أية بشرى وأي أمل وقد اتفق أعداء الإسلام - على اختلاف مشاربهم وتعدد دياناتهم - على القضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين، أية بشرى وأي أمل وقد مات العام الماضي ثلة من علماء الأمة الربانيين والمصلحين المخلصين واحداً تلو الآخر رحمهم الله تعالى جميعا، وبالرغم من كل هذا بل وأكثر من هذا نقول:
لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجا فلله أوس قادمون وخزرج
وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً صابرةً رغم المكائد تخرج
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، وكان صلوات ربي وسلامه عليه عند تناهي الكرب والشدائد يبشر أصحابه بالنصر والتمكين كما فعل يوم الأحزاب. لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً .
نعم أيها المؤمنون فإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم لا محالة كقدوم الليل والنهار، وإن أمة الإسلام قد تمرض وتعتريها فترات من الركود الطويل، ولكنها بفضل الله جل وعلا لا تموت، وإن الذي يفصل في الأمر في النهاية ليس هو قوة الباطل وإنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ولا شك أنه معنا الحق الذي من أجله خلقت السماوات والأرض، والجنة والنار، ومن أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، معنا كما قال سيد قطب رحمه الله تعالى رصيد الفطرة.
فقال في فصل جميل له بعنوان رصيد الفطرة، قال: يوم جاء الإسلام أول مرة وقف في وجهه واقع ضخم، وقفت في وجهه عقائد وتصورات، ووقفت في وجهه قيم وموازين، ووقفت في وجهه أنظمة وأوضاع، ووقفت في وجهه مصالح وعصبيات، كانت المسافة بين الإسلام يوم جاء وبين واقع الناس مسافة هائلة سحيقة، ولو أنه قيل لكائن من كان في ذلك الزمان أن هذا الدين الجديد هو الذي سينتصر لما لقي هذا القول إلا السخرية والاستهزاء والاستنكار! ولكن هذا الواقع سرعان ما تزحزح عن مكانه ليخليه للوافد الجديد، فكيف وقع هذا الذي يبدو مستحيلاً، كيف استطاع رجل واحد أن يقف وحده في وجه الدنيا كلها، إنه لم يتملق عقائدهم، ولم يداهن مشاعرهم، ولم يهادن آلهتهم، ولم يوزع الوعود بالمناصب والمغانم لمن يتبعونه، فكيف إذن وقع الذي وقع؟ لقد وقع الذي وقع من غلبة هذا المنهج لأنه تعامل من وراء الواقع الظاهري مع رصيد الفطرة. انتهى.
إذن معنا رصيد الفطرة، وقبل ذلك كله معنا الله، ويا لها من معية كريمة جليلة مباركة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إنه وعد الله وكلمته ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون إن هذا الوعد المبارك سنة من سنن الله الكونية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير، وإن هذا النصر سنة ماضية كما تمضي الكواكب والنجوم في أفلاكها بدقة وانتظام.
أيها المسلمون: قد يبطئ النصر لأسباب كثيرة جداً، ولكنه آت بإذن الله تعالى في نهاية المطاف مهما رصد الباطل وأهله من قوى الحديد والنار، ونحن لا نقول ذلك رجماً بالغيب ولا من باب الأحلام الوردية لتسكين الآلام وتضميد الجراح كلا، ولكنه القرآن الكريم يتحدث، والرسول الصادق الأمين يبشر، والتاريخ والواقع يشهد.(/1)
نعم، فمع بشائر القرآن العظيم: قال الله تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وقال تعالى: يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ووعد الله المؤمنين بالنصر فقال: ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ففي هذه الآيات أخبر الله سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين إذا قاموا بنصرة دينه وسعوا لذلك، ولئن تخلفت هذه السنة لحكمة يريدها الله في بعض الأحيان فهذا لا ينقض القاعدة، وهي أن النصر لمن ينصر دين الله. ومن البشائر وعد الله للمؤمنين بالتمكين في الأرض وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وقد وعد الله في هذه الآية وهو الذي لا يخلف الميعاد وعد المؤمنين باستخلافهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم، وأيّ أمل للمسلمين فوق وعد الله عز وجل، وأيّ رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق.
ومن البشائر في كتاب الله الإشارة إلى ضعف كيد الكافرين وضلال سعيهم، إن مما يجلب اليأس لكثير من المسلمين ما يراه من اجتماع الكفار على اختلاف طوائفهم ومشاربهم على الكيد للإسلام وأهله، وما يقومون به من جهود لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم، في حين أن المسلمين غافلون عما يكاد لهم ويراد بدينهم، وحين يرى المرء ثمرات هذا الكيد تتتابع حينئذٍ يظن أن أيّ محاولة لإعادة مجد المسلمين ستواجه بالحرب الشرسة وتقتل في مهدها، فيا من تفكر في هذا الأمر اسمع لهذه الآيات: قال الله تعالى: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون فكم من المليارات أنفقت ولا زالت تنفق بسخاء رهيب للصد عن سبيل الله لتنحية دين الله عز وجل، ولكن بموعود الله عز وجل فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون.
نعم فكم من المليارات أنفقت وبذلت لتنصير المسلمين، وكم من المليارات أنفقت لتدمير كيان الأسرة المسلمة، وكم من المليارات أنفقت لتقويض صرح الأخلاق بإشاعة الرذيلة عن طريق القنوات الفضائية وعن طريق الأفلام الداعرة والمسلسلات الفاجرة والصور الخليعة الماجنة والقصص الهابطة، والآن عن طريق شبكات الإنترنت، يعرض كل هذا وأكثر، ويدخل لا أقول كل بيت، بل كل غرفة بيسر وسهولة ودون رقيب، ولكن ما هي النتيجة، النتيجة بإذن الله عز وجل وموعوده: فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ، وتأمل في قول الله تعالى: إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فأمهل الكافرين أمهلهم رويدا وقوله عز وجل: ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين فهما كاد هؤلاء لدين الله ومهما بذلوا لمحاربته، فالله لهم بالمرصاد، وهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداء المسلمين.
في وثيقة التنصير الكنسي صرخ بابا الفاتيكان بذعر لكل المنصرين على وجه الأرض قائلاً: "هيا تحركوا بسرعة لوقف الزحف الإسلامي الهائل في أنحاء أوربا".
سبحان الله إنه دين الله، تأمل أخي الحبيب جهود بسيطة لكنها مباركة تفعل فعلها في نفوس الكافرين، ترعبهم وتزعجهم، إنه دين الله، ووالله الذي لا إله إلا هو لو بذل الآن للإسلام مثل ما يبذله أعداء الإسلام لأديانهم لم يبق على وجه الأرض إلا الإسلام.
وستظل هذه البشائر القرآنية تبعث الأمل في القلوب الحية المطمئنة الواثقة بنصر الله جل وعلا، وإن تأخر النصر وطال الطريق.
أيها المسلمون: وتأتي البشائر النبوية الكريمة لتؤكد هذه الحقيقة، اسمع يا أخي المحب: روى الإمام أحمد في مسنده عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)).
ومن البشائر النبوية أحاديث الطائفة المنصورة وقد وردت عن عدد من الصحابة، جاء في حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لايضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) وإن المسلم عندما يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يكون من هذه الطائفة وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله وإعلاء كلمته، فتتحول هذه الأمنية وقوداً تشعل في نفسه الحماسة والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله على منهج الطائفة الناجية أهل السنة والجماعة.(/2)
أيها المسلمون: إن البشائر النبوية التي سمعتها لهي بشائر عامة مطلقة، وقد جاءت أحاديث تبشر بانتصار الإسلام في حالات خاصة، فمن ذلك مثلاً قتال اليهود.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود)) وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "بينما نحن جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أم رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مدينة هرقل تفتح أولاً)) يعني: القسطنطينية. قال العلامة الألباني رحمه الله: وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني كما هو معروف، وذلك بعد ثمانمائة سنة من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولا بد، ولتعلمن نبأه بعد حين.
وقد جاءت البشائر النبوية أيضاً بأن للمسلمين صولة وجولة وملاحم عظيمة مع الروم تكون فيها الغلبة للمسلمين والنصر لعباده المؤمنين، روى ذلك مسلم في صحيحه في كتاب الفتن وأشراط الساعة، وعد صادق وقد خاب من افترى.
أيها المسلمون: إن الإسلام قادم والله الذي لا إله إلا هو، لأنه الدين الذي ارتضاه الله للبشرية ديناً. إن الدين عند الله الإسلام ، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً .
وهناك بشائر أخرى تعرف من طبيعة هذا الدين وفطرة الله وسنته في خلقه، ومن ذلك أن الدين الإسلامي هو الذي يتوافق مع الفطرة ويحقق للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة، فالرسالات السماوية قد نسخت وحرف فيها وبدّل، والأنظمة البشرية يكفي في تصور قصورها وفشلها أنها من صنع البشر، فمن طبيعة هذا المنهج الإسلامي نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو منزّل لأدائه، أراده أعداؤه أم لم يريدوه.
ومن البشائر: أن العالم اليوم يشكو من إفلاس الأنظمة البشرية ويتجرع مرارة وويلات هذه النظم التي دمرت الإنسانية وقضت على كل جوانب الخير لديها، ومن أقرب الشواهد على ذلك انهيار الأنظمة الشيوعية واحدةً تلو الأخرى، وحقٌ على الله ما ارتفع شيء إلا وضعه، والدمار قادم بإذن الله لمن على شاكلتهم من الكفر والضلال ومحاربة الإسلام وأهله، وصدق الله العظيم: ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد والعالم اليوم يتطلع إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك، ولا منقذ إلا الإسلام.
سلام على قلب من الطهر أطهر وروح شفيف في رُبى الخلد يَخطُر
وأطياف جنات وأنسام رحمة وحبٌ عفيف رائق الذل أخضر
وساعات إسعاد يظل غمامها على كل ساحات المحبين يمطر
ترفق بقلبي فالأعاصير تزأر وسود الرزايا في الظلام تزمجر
ترفق بقلبي فالجراح كثيرة وذي أسهمٌ شتى عليه تكسّر
ففي أرض شيشان الشهيدة مأتم فهل تسمع الدنيا الضجيج وتُبصر
وفي الشام أنّاتٌ ووطأة غاشم وليل وآهات ودمع وأقبر
وفي دار هارون الرشيد زلازل وآثار مجدٍ أحرقوه ودمروا
حنانيك يا بغداد صبراً فربما يُتاح لهذا الكفر سيل مطهّر
لماذا دموع الحزن لستِ وحيدةً وأنتِ على الأيام عزٌ ومفخر
وكل بلاد المسلمين مقابر وهم صور الأحجار تنهى وتأمر
تماثيلُ لكن ناطقات وإنما بلاء البلاد الناطق المتحجر
جراح بني الإسلام غاب أُساتها وأنّاتهم في كل أرض تضّور
تساقيهم الدنيا كؤوس مذلة على أنهم عُزّل الأكف وحُسّر
وتجتمع الأحلاف تحت مظلة السلام لتربي فارساً لا يُعفّر
ويحشد أرباب الصليب حشودهم ليستنجزوا الوعد الذي لا يؤخر
فيا فارساً أطل زمانه تعال فما كلٌ على الصبر يصبر
وعودك حق لم نزل في انتظارها وكل الرزايا في جوارك تصغر
وجندك منصور وجيشك قادم ونورك في كل الدياجير يُسفر
تخطيت أسوار الولايات كلها لأنك من كل الولايات أكبر
وترهبك الدنيا وما أنت لعنةٌ ولكنك السيف الذي لا يكسّر
وأنت لكل الظالمين نهايةٌ فلا غرو إن صالوا وجالوا وزمجروا
فيا أيها المستكبرون توغلوا وعيثوا فساداً إن أردتم ودمروا
وسوموا عذاب الهون كل شعوبكم وقولوا لهم غير الحقيقة واسخروا
وظُنوا بأن الأمر طوع يمينكم وأنكم الحتم الذي لا يغيّر
فهذي ديار الظالمين تجيبكم وهذا غد الإسلام في الأفق يخطر
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:(/3)
أيها المسلمون، ومن البشائر بأن المستقبل لهذا الدين: هذا الذي يلوح في الأفق ويشرق كالفجر ويتحرك كالنسيم، إنه أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن العشرين بعد كل هذه المؤامرات والضربات المتلاحقة، هذا الحدث الكبير الذي هز كيان العالم كله متمثلاً في هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي نسأل الله أن يبارك فيها، تلك الصحوة الكريمة التي يغذيها كل يوم بل كل ساعة شباب في ريعان الشباب وفتيات في عمر الزهور، ينسابون من كل حدب وصوب، يمشون على الشوك، ويقبضون على الجمر في بعض البلدان تمسكاً بدين الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إنه الأمل إنه هذا الجيل الذي تفتحت عينه على نور الإسلام وانشرحت بصيرته لتقبل الحق ولم يخدع بصره بريق الحضارة الغربية الزائف الخاطف للأبصار، ولم يؤثر فيه سحرها المغير للعقول والأفكار، فحيثما توجهت بفضل الله عز وجل وجدت رجوعاً خاشعاً خاضعاً إلى الله تعالى، ووجدت نفوساً متعطشة إلى دين الله مشتاقة إلى الإسلام بعد أن أضناها لفح الهاجرة القاتل والظلام الدامس وحيثما توجهت سمعت آهات التائبين ودموع الخشوع تزين الوجوه تردد في خشوع وتبتل آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون.
وبعد ذلك كله نقول دون شك أو تردد إن المستقبل لهذا الدين، وإن العزة ستكون لأولياء الله، أوليس الله قد قال: ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ومن أصدق من الله قيلا وهو الذي لا يخلف الميعاد، ولكن السؤال هو متى يكون هذا؟ اليوم أم غداً أم بعد سنوات؟
الجواب: كما قال سيد قطب رحمه الله: في ذلك اليوم سيعود الناس إلى الدين سيعودون إلى الإسلام، وتلك قوة أكبر من إرادة البشر لأنها مبنية على السنّة التي أودعها الله في الفطرة وتركها تعمل في النفوس، وحين يجيء ذلك اليوم فماذا يعني في حساب العقائد عمر جيل من البشر أو أجيال، ليس المهم متى يحدث ذلك، إنما المهم أنه سيحدث بمشيئة الله وعد صادق وخبر يقين، وحين يجيء ذلك اليوم وهو آت إن شاء الله، فماذا تساوي كل التضحيات والآلام التي تحملتها أجيال من المسلمين، إنها تضحيات مضمونة في السماء والأرض. انتهى.
ولكن هل يتنزل النصر كما ينزل المطر، ويمكّن للمسلمين وهم قاعدون خاملون لم يبذلوا أي جهد ولم يسلكوا أي سبيل للنصر، لنقرأ الإجابة في قوله عز وجل: حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين إنها سنة الله في هذا الكون التي لا تتبدل ولا تتغير، لقد شاء الله وقضى أن يقوم هذا الدين على أشلاء وجماجم أوليائه وأحبابه وعلى أن توقد مصابيح الهداية بدم الشهداء الأبرار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة قال الله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين عن خباب رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: ((لقد كان من قبلكم يمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظام أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتِمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) ما أحسن الكلمة وما أروع العبارة، لقد كان لها وقع كبير في قلوب المستضعفين في كل زمان ومكان ((ولكنكم تستعجلون)) استدراك عجيب منه صلى الله عليه وسلم ليخبر الصالحين والمصلحين أن الصبر هو الوسيلة العظمى والزاد النافع لهم في طريقهم الطويل الصعب الشاق الوعر، ذاك الطريق الاستقامة على شرع الله والدعوة إليها المليء بالعقبات، وذكّرهم عليه الصلاة والسلام بمن سبقهم من المستضعفين ليكون لهم زاداً في طريقهم الطويل، ويسليهم حتى يعلموا أن هناك من صبر أكثر منهم وبشرهم ووعدهم حتى لاييأسوا من العاقبة والعاقبة للمتقين.
وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير شاهد على ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم لقي ما لقي من الأذى والبلاء، وهو خليل الله وسيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه، نعم إن من رحمة الله أن جعل طريق النصر محفوفاً بالأشواك والمصائب، وهذا من كمال حكمته وعلمه، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل، وقد أشار الله في كتابه إلى شيء من هذه الحكم، فمنها تمييز الصادقين من غيرهم، واتخاذ الشهداء والأجر والمثوبة من عند الله، والهداية والتوفيق لأنصار دينه، وأن ذلك سبب لهم في دخول الجنة، إلى غير ذلك من الحكم العظيمة.(/4)
أيها المسلمون: وقد يسأل سائل ويقول: كيف يكون المستقبل للإسلام والأعداء قد اجتمعوا عليه وتكالبوا من كل جهة؟ كيف والأعداء يملكون القنابل النووية والأسلحة الفتاكة، والمسلمون عزّلٌ من السلاح؟.
إن هذا السائل لينسى أن الذي ينصر المسلمين هو الله لا بجهدهم ولا قوتهم قال الله تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين فالمسلمون سبب لتحقيق قدر الله وإرادته فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميع عليم وينسى هذا السائل ثانياً أن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض، ومما يسبح له قنابل هؤلاء وأسلحتهم، وينسى ثالثاً أن الله إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون وما أمرنا إلا واحدةٌ كلمح بالبصر والله غالب على أمر ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وينسى رابعاً أن الأعداء وصلوا إلى هذه القوة الهائلة والتمكين بجهدهم البشري، وهو ليس حكراً على أحد، وحركة التاريخ لا تتوقف قال الله تعالى: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وتلك الأيام نداولها بين الناس، فمهما كادوا للإسلام وأهله واجتمعوا لحربه فإن الله ناصر دينه ومعلي كلمته، من كان يظن ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع قلة مؤمنة في مكة يعذبون ويضطهدون ويحاربون بل ويطردون من بيوتهم وبلدهم، بل ونال الأذى والبلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع التراب وسلى الجزور على رأسه وهو ساجد وفي تلك الحالة يعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بكنوز كسرى وقيصر.
فما هي إلا سنوات قليلة إلا وإذ برسول الله صلى الله عليه وسلم يعود إلى مكة فاتحاً منتصراً يحيط به عشرة آلاف رجل، ويدخل الحبيب المسجد فتتهلل الكعبة فرحاً بشروق شمس التوحيد وتتبعثر الأصنام والآلهة المكذوبة في ذل وخزي شديد، ويردد الحبيب قول الله عز وجل: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً .
وبعد فترة يموت النبي صلى الله عليه وسلم، وتبرز فتنة الردة بوجهها الكالح حتى ظنّ بعض من في قلبه مرض أنه لن تقوم للإسلام قائمة، فنهض الصديق رضي الله عنه، ووقف وقفته الخالدة، وانتهت الفتنة، وازداد الإسلام رفعةً وعزةً.
ومن كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد ما استولى الصليبيون على كثير من بلدانهم ودنسوا المسجد الأقصى ما يقارب قرناً من الزمان حتى حرر الله الأرض وطهر المسجد الأقصى على يد البطل الكبير صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين الحاسمة التي سطرها التاريخ.
أيها المسلمون: إن المستقبل بل كل المستقبل للإسلام، فلتكن كلك للإسلام دينك لحمك، دينك عرضك، دينك دمك.
سر في الزمان وحدث أننا نفرٌ شم العرانين يوم الهول نفتقد
عدنا إلى الله في أعماقنا قبس من السموات لا يغتالها الأبد
جئنا نعيد إلى الإسلام عزته وفوق شم الرواسي تنصب العمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/5)
المسلم وبيته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن لاإله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} .{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم –، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين: {ولقد وصينا الذين آوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} وذلك بامتثال أمره، واجتنابه نهيه.
أيها الناس: إن البيوت نعمة من نعم الله - عز وجل- على عباده؛ قال الله – تعالى-: {والله جعل لكم من بيوتكم سكناً}.
فالبيت يعدّ ضرورياً لكل حي، فكل حي لا بد له أن يؤوي إلى بيت، ولذلك فإن البيت للمسلم مكان أكله ونومه ونكاحه وراحته، ومكان خلوته واجتماعه بأهله وأولاده، ومكان ستر المرأة وصيانتها، قال الله – تعالى-: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}.
فإذا ما تأملت أحوال الناس الذين لا بيوت لهم ممن يعيشون في الملاجئ، أو على أرصفة الشوارع، واللاجئين المشردين في المخيمات المؤقتة، عرفت نعمة البيت، وإذا ما سمعت حيراناً مضطرباً يقول: ليس لي مستقر، ولا مكان ثابت، فأنا أنام أحياناً في بيت فلان، وأحياناً في المقهى، أو الحديقة أو على شاطئ البحر، عرفت معنى التثشتت والضياع الناجم عن الحرمان من نعمة البيت.
ولذلك لما انتقم الله من يهود بني النضير سلبهم هذه النعمة وشردهم من ديارهم فقال تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} ثم قال تعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار}.
أيها المسلمون: إذا علمتم أن البيوت نعمة؛ فإنه يجب شكر هذه النعمة، وشكر هذه النعمة يكون بتسخيرها في طاعة الله، والبعد عن معصيته، ولذلك فإنه يجب عليك أيها المسلم الاهتمام بإصلاح بيتك لعدة أمور منها.
أولاً: وقاية النفس والأهل نار جهنم، والسلامة من عذاب الحريق، فال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ...}.
ثانياً: عظم المسئولية الملقاة على راعي البيت أمام الله يوم الحساب، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله -تعالى - سائل كل راعٍ عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه؛ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته". رواه النسائي وابن حبان عن أنس وهو في صحيح الجامع والسلسلة الصحيحة.
ثالثاً: أنه المكان لحفظ النفس، والسلامة من الشرور وكفها عن الناس، وهو الملجأ الشرعي عند الفتنة، قال صلى الله عليه وسلم: "طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته" رواه الطبراني في الأوسط عن ثوبان وهو في صحيح الجامع.
وقال عليه الصلاة والسلام: " سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته" رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي موسى وهو في صحيح الجامع.
رابعاً: أن الناس يقضون أكثر أوقاتهم في الغالب داخل بيوتهم وخصوصاً في الحر الشديد، والبرد الشديد ،والأمطار وأول النهار وآخره، وعند الفراغ من العمل أو الدراسة، ولا بد من صرف هذه الأوقات في الطاعات، وإلا فإنها ستضيع في المحرمات- والعياذ بالله-.
خامساً: وهو من أهمها، أن الاهتمام بالبيت هو الوسيلة الكبيرة لبناء المجتمع المسلم، فإن المجتمع يتكوّن من بيوت هي لبناته، والبيوت أحياء، والأحياء مجتمع، فلو صلحت اللبنة لكان مجتمعنا قوياً بأحكام الله، صامداً في وجه أعداء الله، يشع الخير ولا ينفذ إليه الشر.
فيخرج البيت الصالح إلى المجتمع أركان الإصلاح فيه؛ من الداعية القدوة، والقائد الرباني، وطالب العلم المجتهد، والمجاهد الصادق، والشاب الغيور على دينه وعلى عرضه، والبنت العفيفة الطاهرة، والزوجة المخلصة، والأم المربية، وبقية الصالحين المصلحين.
أيها الناس: إذا كان الموضوع بهذه الأهمية، وبيوتنا قد نزلت بها المنكرات الكثيرة، وأصاب بعضها الضياع والتفريط والحرمان، وذلك بسب الإهمال إصلاح البيوت، فلذلك فإننا سنتناول بعض وسائل إصلاح البيوت، فنقول:
أولاً: يكون إصلاح البيوت بما يلي:
- تكوين البيت ويكون بالأمور التالية:(/1)
* حسن اختيار الزوجة: حيث ينبغي على صاحب البيت انتقاء الزوجة الصالحة بالشروط التالية:
"تنكح المرأة لأربع: لمالها، وحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" متفق عليه.
"الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" رواه مسلم.
"ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان وهو في صحيح الجامع.
"وتزوجوا الودود الولود إني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة" رواه البيهقي في الشعب عن أبي أمامة، وانظر صحيح الجامع.
"عليكم بالأبكار فإنهنَّ أنتق أرحاماً، وأعذب أفواهاً، وأرضى باليسير" رواه أحمد عن أنس، وقال في إرواء الغليل: صحيح.
وفي المقابل لا بد من التبصر في حال الخاطب الذي تقدم للمرأة المسلمة، والموافقة عليه حسب الشروط الآتية:
"وإذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض" رواه ابن ماجه وهو في السلسلة الصحيحة.
فالرجل الصالح مع المرأة الصالحة يبنيان بيتاً صالحاً؛ لأن البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً.
* السعي في إصلاح الزوجة:
إذا كانت الزوجة صالحة فبها ونعمت، وهذا من فضل الله- عز وجل-، وإن لم تكن بذاك الصلاح فإن من واجبات رب البيت السعي في إصلاحها، وذلك بالوسائل التالية:
o الاعتناء بتصحيح عقيدتها، وعبادتها بكافة أنواعها.
o السعي لرفع إيمانها وذلك بحثها على قيام الليل، وتلاوة الكتاب العزيز، وحفظ الأذكار والتذكير بأوقاتها، ومناسبتها، وحثها على الصدقة، وقراءة الكتب الإسلامية النافعة، وسماع الأشرطة الإسلامية المفيدة، العلمية منها والإيمانية، ومتابعة إمدادها بها، واختيار صاحبات لها من أهل الدين تعقد معهن أواصر الأخوة، وتتبادل معهن الأحاديث الطيبة والزيارات كلها الهادفة، ودرء الستر عنها، وسد منافذه إليها بإبعادها عن قرينات السوء وأماكن السوء.
أيها المسلمون: اجعلوا البيت مكاناً لذكر الله وشكره، قال صلى الله عليه وسلم: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت".
فلا بد من جعل البيت مكاناً للذكر بأنواعه المختلفة، سواء ذكر القلب، أوذكر اللسان، أو الصلوات وقراءة القرآن، أو مذاكرة العلم الشرعي، وقراءة كتبه المتنوعة.
وكم من بيوت للمسلمين اليوم ميتة بعدم ذكر الله فيها، بل ما هو حالها، إذا كان الذي يذكر فيها هو ألحان الشيطان من المزامير والغناء، والغيبة والنميمة والبهتان؟!!!
وكيف حالها وهي مليئة بالمعاصي والمنكرات كالاختلاط المحرم والتبرج بين الأقارب من غير المحارم أو الجيران ؟! فأحيو بيوتكم – رحمكم الله- بذكر الله.
ثم اجعلوا بيوتكم قبلة، وذلك باتخاذ البيت مكاناً للعبادة قال الله- تعالى-: {وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين} قال ابن عباس: أمروا أن يتخذوها مساجد.
وقال ابن كثير: وكأنّ هذا – والله أعلم- لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة؛ كما قال الله – تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة}.
ولنتذكر في هذا المقام محراب مريم، وهو مكان عبادتها الذي قال الله فيه: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً}.
وكان الصحابة – رضي الله عنهم- يحرصون على الصلاة في بيوتهم من غير الفريضة، فعن محمود بن الربيع الأنصاري أن عتبان بن مالك – وهو من أصحاب رسول الله- ممن شهد بدراً من الأنصار – أنه أتى رسول الله- فقال: يا رسول الله! قد أنكرت بعدي وأنا أصلي لقومي، إذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، وددت يا رسول الله! لو أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : "سأفعل- إن شاء الله-" قال عتبان: فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول لله - صلى الله عليه وسلم- فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: " أين تحب أن أصلي من بيتك؟" قال : فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبر، فقمنا فصففنا، فصلى ركعتين ثم سلم. رواه البخاري.
أيها الناس: لنربي أنفسنا وأهلينا على الإيمان الذي يتبعه العمل، فعن عائشة قالت: " كان رسول الله يصلي من الليل فإذا أوتر، قال: قومي فأوتري يا عائشة " رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى فأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء" رواه أحمد انظر صحيح الجامع.
ومما يزيد الإيمان ترغيب النساء في الصدقة، وهو أمر عظيم حث عليه صلى الله عليه وسلم بقوله: " يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" رواه البخاري.(/2)
عباد الله: إن علينا جميعاً الاهتمام بالأذكار الشرعية والسنن المتعلقة بالبيوت، فمن ذلك أذكار دخول المنزل والخروج منه، وأذكار الصباح والمساء، وغير ذلك.
وعلينا أن نقوم بتعليم أهالينا الأحكام المتعلقة بالصلاة والصيام، وجميع أركان الإسلام والإيمان، وأحكام الحلال والحرام، وما يساعد في ذلك إتاحة المجال لهم ليتفقهوا في الدين، وإعانتهم على الالتزام بأحكام الشريعة، وعمل مكتبة إسلامية في البيت، وليس بالضرورة أن تكون كبيرة، ولكن العبرة بانتقاء الكتب المهمة، ووضعها في مكان يسهل تناولها، وحثّ أهل البيت على قراءتها.
وحبذا لو يضاف إلى المكتبة جزءً مهماً من الأشرطة الدينية المفيدة، ولتكن هذه الأشرطة شاملة للعقيدة الصحيحة، والفقه المستمد من الكتاب والسنة، والزهد والرقائق، والآداب والأخلاق والسلوك، وغيرها من العلوم المهمة، وأن تكون هذه الأشرطة لأهل العلم المتقنين، ذوي العقائد السليمة، وأصحاب الزهد والورع، والمعتمدين على الأحاديث الصحيحة.
أيها المسلم: ومن الوسائل المهمة لإصلاح بيتك؛ عليك بدعوة الصالحين والأخيار وطلبة العلم لزيارة البيت؛ قال الله – تعالى- عن نوح: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً}.
إن دخول أهل الإيمان بيتك يزيدك نوراً، ويحصل بسبب أحاديثهم وسؤالهم والنقاش معهم من الفائدة أمور كثيرة، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد من ريحاً طيبة، وجلوس الأولاد والإخوان والآباء وسماع النساء من وراء حجاب لما يقال فيه تربية للجميع، وإذا أدخلت خيراً منعت شيئاً من الدخول والتخريب.
وعليك بتعليم الأحكام الشرعية للبيوت، وتعليمها لأهل بيتك، ومن ذلك أن صلاة النافلة في البيت أفضل صلاتها في المسجد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة".
وأن لا يؤم غيره في بيته، ولا يقعد في مكان صاحب البيت إلا بإذنه، قال صلى الله عليه وسلم: " لا يؤم الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه" رواه الترمذي.
وغيرها من أحكام البيوت . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
ومن الوسائل لإصلاح البيوت: إتاحة الفرصة للاجتماعات التي يناقش فيها مشاكل العائلة، فعندها تتاح الفرصة لأفراد العائلة بالجلوس سوياً في وقت مناسب لمناقشة أمور داخلية أو خارجية تتعلق بالعائلة؛ فإن ذلك يعد علامة على تماسك الأسرة وتفاعلها وتعاونها.
ومن الوسائل عدم إظهار الخلافات العائلية أمام الأولاد؛ فإن إظهار ذلك مما يزعزع تماسك البيت، ويضر بسلامة البناء الداخلي لأهل البيت.
وعدم إدخال من لا يرضى دينه وخلقه إلى البيت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : "مثل جلس السوء كمثل صاحب الكير" .
وفي رواية البخاري: " وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريح خبيثة".
إيه ورب الكعبة إنه يحرق بيتك بأنواع الفساد والإفساد، فكم كان دخول المفسدين والفاسقين سبب العدوان بين أهل البيت؟ وكم فرق بين الرجل وزوجته بسبب دخول الفاسدين المفسدين؟، وكم سبب دخولهم العداوة بين الأب وأولاده؟ وما أسباب وضع السحر في البيوت أو حدوث السرقات أحياناً وفساد الخلق كثيراً إلا بإدخال من لا يرضى دينه وخلقه.
وإن المرأة تتحمل في البيت جزءً عظيماً من هذه المسؤولية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا أيها الناس أي يوم أحرم؟ أي يوم أحرم؟ أي يوم أحرم؟" قالوا: يوم الحج الأكبر، ثم قال عليه الصلاة والسلام في ثنانا خطبته الجامعة في ذلك اليوم:" فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون" رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع.
أيها المسلمون: ومن الوسائل في إصلاح البيوت الدقة في الملاحظة لأحوال أهل البيت، فكثيراً من الآباء لا يعرفون أبنائهم من يصاحبون؟ ومع من يجلسون؟ ومع من يسافرون؟ والبنت من هن صديقاتها؟ وما مدى تعلمها؟ وهذا الإهمال قد يكون أكبر الأسباب في انتكاس كثير من الأبناء ووقوعهم في الشر والفساد.
إلا أنه ينبغي عليك أيها الأب مراعاة ما يلي:
* عدم تحسس الأولاد بفقدان الثقة بهم.
* مراعاة النصح أو العقاب بأعمار الأولاد ومداركهم ودرجة الخطأ.
* أن تكون المراقبة خفية.
أيها الأب أيتها الأم: عليكما بالاهتمام بالأطفال في البيت، وذلك في جوانب عدة منها:
- تحفيظهم القرآن والقصص الإسلامية.
- الحذر من خروج الأطفال مع من هب ودب.
- الاهتمام بلعب الأولاد المسلية والهادفة غير المحرمة.
- التفريق بين الذكور والإناث في المضاجع.
- الممازحة والملاطفة.(/3)
وعليكما بالحزم في تنظيم أوقات النوم والواجبات، وحفظ أسرار البيوت، قال صلى الله عليه وسلم: " إن من شرار الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها " رواه مسلم وغيرها من الأدلة.
أيها المسلمون: ومن الوسائل أيضاً إشاعة خلق الرفق في البيت، فعن عائشة- رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إذا أراد الله - عز وجل- بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق" رواه الإمام أحمد وهو في صحيح الجامع.
وفي رواية: " إن الله إذا أراد أهل بيت أدخل عليهم الرفق" رواه ابن أبي الدنيا وغيره وهو في صحيح الجامع أي صار بعضهم يرفق بعض.
ومن الوسائل - أيضاً - معاونة أهل البيت في عمل البيت، فقد كان صلى الله عليه وسلم:" يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم".
وسئلت عائشة - رضي الله عنها- ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع في بيته؟ قالت: "كان يكون في مهنة أهله - يعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة" رواه البخاري.
ومنها: الملاطفة والممازحة لأهل البيت: " فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحك" رواه البخاري.
ومنها: مقاومة الأخلاق الرديئة في البيت، كخلق الكذب والغش، فقد كان صلى الله عليه وسلم كما تقول عائشة- رضي الله عنه-: " كان رسول الله إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة" وهو في صحيح الجامع.
وهذا بخلاف ما يفعله بعض الناس اليوم حيث يرى أحد أبنائه يغش أو يكذب أو.. فلا ينكر عليه، بل ربما شجعه على ذلك، ولربما قال الأب للبنت أو لابن: إذا فلان من الناس دق الباب وسأل علي فقل له غير موجود،فأين هذا وأمثاله من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ؟؟" كان رسول الله إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة" . ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ففسدت البيوت، وضاع الأولاد، ونزعت البركة، بسبب المعصية وعدم إنكار المنكر.
ومنها: تعليق السوط حيث يراه أهل البيت، وذلك تلويحاً بالعقوبة لكل من يرتكب ما يغضب الله، ولكل من يستحق التأديب، قال صلى الله عليه وسلم: "علقوا السوط حيث يراه أهل البيت فإنه أدب لهم" أخرجه الطبراني وهو في السلسلة الصحيحة.
وأخيراً: الحذر الحذر من المنكرات في البيوت، من الاختلاط بين الأقارب من الرجال والنساء، وصور ذوات الأرواح، والتدخين، واقتناء الكلاب، والنظر إلى الشاشات المحرمة، والعبث بالهاتف، وإنني أنصح كل واحد منكم بقرأة كتاب مهم جداً / أخطار تهدد البيوت للشيخ/ محمد المنجد. فقد فصل فيه الأخطار التي تواجه البيوت بما فيه كفاية.
اللهم! أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم احفظ بيوتنا وبيوت المسلمين من كل شر ومكروه، وصلى على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
استفيد في تحضير هذه الخطبة من كتاب/ أربعون نصيحة لإصلاح البيوت لشيخ/محمد المنجد.(/4)
المسلمون في استراليا
عبد السلام محمد زود
سدني
مسجد السنة
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- من المسئول عن ضياع أبنائنا في استراليا والغرب 2– واقع أبنائنا مُر وسببه ذنوبنا ومعاصينا 3- نعمة الله لا تدوم إلا بشكرها أي بطاعة الله 4- صور مما صنعه الآباء من معاصي وكبائر 5- انغماس بعض المسلمين بالربا 6- قصة مُرابي 7- وقوع الناس في الكسب الحرام
الخطبة الأولى
من المسؤول عن فساد وضياع أبناء المسلمين في الغرب؟ من المسؤول عن فساد وضياع أبناء المسلمين في الغرب عامة وهنا في استراليا خاصة؟
سؤال هائل وخطير يطرح نفسه اليوم وبقوة على الساحة المحلية، والجميع يريد جوابا؟ من المسؤول إخواني في الله: أهي الدولة؟ أم إعلامها؟ أم مدارسها؟ أم المشايخ والمربين؟ أم الأهل؟
والجواب باختصار: إن الجميع مسؤول، ولنا مع كل طرف من هذه الأطراف وقفة بمشيئة الله تبارك وتعالى، ووقفة اليوم مع الأهل، فأصغوا إليها لعلنا نستفيد منها.
إخواني في الله: إن أبناءنا أغلى ما نملك في حياتنا بعد ديننا، والحرص على صلاحهم وإصلاحهم مطلب شرعي، لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً [التحريم:6]. وتضييع هذا المطلب يؤدي إلى حسارتهم في الدنيا والسؤال عنهم يوم القيامة لقوله : ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ...)) متفق عليه من حديث ابن عمر [1].
إن واقع أبناء المسلمين في هذه الديار وغيرها من ديار الكفر، لا شك أنه واقع مرير، بل ومصيبة أصابتنا والله بسب ما كسبت أيدينا، قال الله تعالى يخاطب الناس جميعا مسلمهم وكافرهم: وَمَا أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيْرٍ [الشورى:30]. قال ابن كثير رحمه الله: أي مهما أصابكم أيها الناس من المصائب، فإنما هي بسبب سيئات تقدمت لكم وَيَعْفُو عَنْ كَثِيْرٍ أي من السيئات فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها، كما قال في آية أخرى وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهَ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]. أي لو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك جميع أهل الأرض وما يملكونه من دواب وأرزاق وَلَكِنْ يُؤَخِرُهُمْ إِلى أجَلٍ مُسَمَّى [فاطر:45]. أي إلى يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهل الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية.
وبين سبحانه وتعالى في سورة الروم أن ما يصيب العباد من من مصائب إنما هي عقاب منه لهم على بعض ما عملوه من الذنوب والمعاصي، فقال تعالى: ظَهَرَ الفَسَادُ فِيْ البَرِ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيَدِي النَّاسَ ليُذِيْقَهُم بَعْضَ الذِِي عَمِلُوا [الروم:41]. وبين الحكمة من ذلك فقال: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]. أي عن المعاصي، إن كانوا أصحاب معاصي، وعن الكفر إن كانوا أهل كفر إن كانوا أهل كفر، كما قال تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168].
الأسباب التي أدت إلى فساد الأبناء وضياعهم:
ولمعرفة الأسباب التي أدت إلى فساد أبناء المسلمين وضياعهم، لا بد من مراجعة ماضيهم، بدءا من أهلهم، وبيتهم، ومدرستهم، ورفاقهم، بالإضافة إلى مأكلهم ومشربهم وملبسهم، ومن خلال ذلك يمكن أن نقف على الأسباب التي أدت إلى ذلك.
إن الناس إخواني في الله: يوم قدموا إلى هذه البلاد، كان منهم الفقير فأغناه الله، والجائع فأطعمه الله، والعُريان فكساه الله، والخائف فأمنه الله، والمطرود المشرد فآواه الله، أعطاهم الله تعالى ما يريدون، وأمنهم مما يخافون، فالمفروض بهم أن يذكروه، وعلى نعمه يشكروه، وبالعبادة يفردوه، امتثالا لأمره تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
ولكنهم لم يفعلوا ما أُمروا به، وانكبوا على الدنيا يجمعونها من حلها وحرامها، حتى جاء اليوم الذي ألقت فيه بأبنائهم وفلذات أكبادهم إلى الشوارع، ومن ثم إلى السجون، والله أعلم بالمستقبل ربما إلى التصفيات الجسدية كما حصل لبعضهم.
ولقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه امتن على قريش أيما امتنان، فأطعمهم بعد أن كانوا جائعين، وأمنهم بعد أن كانوا خائفين، ثم أمرهم بعبادته ليشكروه على نعمه، فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4]. فمن استجاب لهذا الأمر جمع الله له بين أمن الدنيا والآخرة، ومن عصاه سلبهما منه، كما قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].(/1)
أجل سلبهم الأمن والأمان، والأكل والطعام، لأنهم لم يعبدوه ولم يشكروه، بل عصوه وكفروا به. وما حلت الهزيمة بالصحابة رضوان الله عليهم في غزوة أحد، واستشهد منهم سبعين رجلا يومها، إلا بسبب معصية بعض الرماة لأمر من أوامر رسول الله حين أمرهم أن لا ينزلوا عن الجبل فعصوا الأمر ونزلوا باجتهاد منهم، وبعد أن حلت بهم الهزيمة تساءلوا فيما بينهم: كيف أُصبنا بهذا؟ كما قال تعالى عنهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا؟ فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]. أي بسبب عصيانكم لرسول الله .
إذاً فالمعاصي يا عباد الله، هي سبب المصائب والخوف والجوع، بل وسبب زوال النعم وحلول النقم، والعياذ بالله تعالى. لذلك: يجب أن نعتبر بهذه الأمثال وهذه الآيات، وأن لا نقابل نعم الله علينا بمعصيته، والوقوع فيما حرم علينا، لئلا يحل بنا ما حل بمن قبلنا، قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].
والآن إخواني: ما الذي كسبته أيدينا حتى حلَّ بنا وبابنائنا ما حلَّ؟.
والجواب: أن الواقع الذي عاشه أهلنا منذ قدومهم إلى هذه البلاد، والذي لا زلنا نعيشه نحن اليوم هو الذي يكشف لنا عما كسبته أيدينا. ولنبدأ بتحليل المشكلة من البداية:منذ أن قدم الأوائل إلى هذه البلاد ما الذي فعلوه؟
الجواب: باشروا العمل من صبيحة اليوم الثاني بعد وصولهم، بماذا عملوا؟ بما تهيأ لهم من حلال أو حرام. ماذا كانوا يأكلون ويشربون؟ ما يجدونه في المحلات من حلال أو حرام عالمين أو جاهلين، حتى حدثنا بعضهم: أنهم كانوا يشربون البيرة بدل العصير والعياذ بالله.
بعضهم كان يصلي فلما وصل إلى هنا ترك الصلاة. وبعضهم كان يواظب على صلاة الجمعة في المسجد، فلما وصل إلى هذه البلاد وفتح الله عليه الدنيا، أصبح يصليها ظهرا في العمل.
وبعضهم كان يصلي الصلاة على وقتها يوم أن كان عاطلا عن العمل، فلما أقبلت عليه الدنيا ووفقه الله للعمل، انشغل عنها فأصبح يجمعها ويصليها في نهاية النهار عندما يعود إلى بيته، وطبعا بعد خروج وقتها، وقد جاء في الأثر الضعيف: ( أنها تلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني) رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس بسند ضعيف[2].
وبعضهم كان يزكي يوم أن كان فقيرا، فلما أقبلت عليه الدنيا ترك الزكاة وقال متفلسفا: إن ما تأخذه الدولة من ضريبة (TAX) (التكس) هي الزكاة بعينها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. أما صيامهم: فقد كان القليل منهم يصومون، وبعضهم كان يقرأ في القرآن بل ويحفظ سورا منه، وبعد مرور وقت على بدئه بالعمل انشغل عن القراءة لعدم وجود الوقت الكافي، وربما نسي ما كان يحفظه من كتاب الله لقلة المراجعة.
وبعضهم كان إذا رأى منكرا نهى عنه، فلما وصل إلى هذه الديار، ورأى حياة ومجتمعا غير التي نشأ فيه، ترك ذلك وقال: عجبا للناس في هذه البلاد، كلما أردنا أن ننهى عن منكر قالوا: لا تتعب نفسك، البلد بلد حرية (free country) نفعل فيها ما نشاء.
أما الحج فالحمد لله حافظوا عليه، بل وأكثروا منه، حيث إن غالبهم قد حج، وبعضهم يحج كل عام، والقليل منهم لم يحج بعد، نسأل الله أن ييسره لهم. وأما لباس النساء فكان في بداية أمره محتشما، ثم مع مرور الوقت انحسر شيئا فشيئا عن رأسهن وأيديهن وأرجلهن حتى أصبحن كاسيات عاريات كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة [3] أن رسول الله قال: ((صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا)).
وأما البيوت: فلم يكن أحد منهم يفكر في شراء بيت، لأنهم جاءوا لفترة محددة يعملون خلالها ثم يرجعون، بدليل أنهم تركوا نساءهم وأولادهم في بلادهم، لكن لما استمرت أوضاع بلادنا في التدهور، فكروا في الإقامة رسميا في هذه البلاد، فاستدعوا نساءهم وأولادهم فأحضروهم إلى هذه البلاد.(/2)
وكان أحدهم يستحيل أن يأكل الربا أو يتعامل به ولو تعرض للموت، وربما كان متزوجا وله أولاد ومع ذلك يسكن مع أهله في بيت واحد، فلما وصل نساؤهم وأولادهم إلى هذه البلاد وجدوا أنهم بحاجة إلى بيت يملكونه، فطرقوا أبواب البنوك فوجدوا الربا أمامهم، فاستعاذوا بالله منها وابتعدوا، بل وأنكروا أشد الإنكار على من تعامل بها، لكن بعد مرور سنوات تأثروا بمن قبلهم، وأقنعوهم بأن الربا حلال في هذه الديار، خاصة لشراء البيت الأول، كما أفتانا الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني، أعني مشايخ الضلال في هذه البلاد وخارجها. أخيرا غيَّر المساكين رأيهم في الربا، فوقعوا فيه واشتروا البيت الأول، ثم المطعم الأول، ثم المحل الأول، وهكذا لم يقفوا عند حد، بل تحولوا والعياذ بالله إلى مستهزئين بمن لا زال يقول بحرمة الربا، غافلين أو متغافلين عن الآيات والأحاديث المحرمة للربا، كقوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]. وقول جابر بن عبد الله : ((لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ)) رواه مسلم[4] . بل ومقدمين عليها قول من أفتاهم من مشايخ الضلال في الداخل والخارج.
ولا أقول لإخواني: لا تشتروا بيوتا وسيارات ومطاعم ومحلات وابقوا فقراء هكذا، لا بل اشتروا ولو مدينة سدني كلها لكن بالحلال. وقد قال وسيقول أهل الدنيا: إذاً انتظر حتى تجمع المال الحلال وتشتري به بيتا، وقد وُجد أناس قبلك قالوا مثل قولك، ولا زالوا حتى الآن يعيشون بالأجرة لم يحققوا أي مستقبل لهم ولا لأبنائهم، وأنت منهم، نعم أنا منهم، وسأبقى هكذا فقيرا إلى رحمة الله، غنيا عما في أيدي الخلق من حرام، فاللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، ولا تخزنا يوم العرض عليك.
ثم جرَّ الحرام إلى الحرام، كما هي سنة الله القائل: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]. قالوا هذا البيت الذي تعبنا فيه ووضعنا فيه أموالنا، لا بد أن نؤمنه في شركات التأمين حتى لا نخسره، فأمنوا عليه بالحرام أيضا.
وأقول للذين يؤمنون مستقبلهم ومستقبل أولادهم: لقد أمنتم مستقبلكم فماذا كانت النتيجة؟ هموم وغموم، ومصائب ومشاكل ومتاعب داخل الأسرة، وداخل البيت لا يعلم بها إلا الله، مشاكل بين الزوج وزوجته، ومشاكل بين الأخ وأخيه، ومشاكل بين الأهل وأبنائهم، ومشاكل بين الأولاد ورفاقهم، ومشاكل بين الأولاد ومجتمعهم، كم من زوج طلق زوجته بسبب الذنوب والمعاصي؟ وكم من زوجة طردت زوجها من البيت بعد أن استدعت الشرطة عليه بسبب بعده أو بعدها عن الدين؟ وكم من ولد عق أباه وأمه، بل وضربهما، بل ربما أرسلهما إلى بيت الرعاية عند الدولة؟ وكم من أب يتمنى أنه لم يرزق بأولاد، وكم من أب يعيش عيشة السجين في قصره، والهم والغم والنكد يحيط به من كل جانب، علما بأنه لا ينقص عليه من أمور الدنيا شيئ، كم وكم لا ينتهي. . .
أخي في الله: إن الدنيا الدنيئة ليست مستقبل المسلم، إن مستقبل المسلم الحقيقي جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، الجنة هي مستقبل المسلم، والجنة هي دار إقامة المسلم، وفي الجنة منزل المسلم، ونعيم المسلم، وراحة بال المسلم إن شاء الله تعالى، أما الدنيا فوالله ما رضيها الله جزاءً وثوابا لعبده المؤمن، ولم يرضها دار إقامة وقرار لعبده المؤمن، إنما هي دار عبور ومرور، فأمِّن مستقبلك الأخروي عبد الله، واهتم به خيرٌ لك في الدنيا والآخرة. والله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، لأن تسكن العمر كله بالأجرة خير لك من شراء بيت واحد بالحرام، خير من أن تحل عليك لعنة الله، خير من أن تعرِّض نفسك لعذاب الله في القبر، ويوم القيامة حين يقوم أكلة الربا من قبورهم كالسكارى، يقومون ويقعدون وهم في طريقهم إلى جهنم والعياذ بالله، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275].
والذي يدعو للدهشة والعجب أن حوالي 90 إلى 95 في المائة من أبناء الجالية الإسلامية التي تعيش في هذه البلاد وغيرها من بلاد الغرب، يتعاملون اليوم بالربا بيعا وشراء، بدءا من شراء البيت وانتهاء بما الله به عليم، وهذه ظاهرة خطيرة كانت من الأسباب المباشرة لما آل إليه حال أبنائنا، عرف ذلك من عرف وجهل ذلك من جهل.(/3)
أخي في الله: أيا كنت وأينما كنت لا تأمن عذاب الله في الدنيا قبل الآخرة، ولا تأمن مكر الله فإنه لا يأمن مكرَ الله إلا القوم الخاسرون، ولا تفرح بالحرام فإن الله لا يحب الفرحين، لا تفرح بشراء بيت أو سيارة أو غسالة أو براد أو غير ذلك بالربا، ولا تقل أصبحت أملك بيتا آمناً فيه على نفسي وعيالي، لا والله لن ترى الأمن والأمان النفسي ولا الجسدي في البيت أنت ولا عيالك، أي أمان هذا وقد أعلن الله ورسوله الحرب عليك بعد أن أعلنتها على الله ورسوله، والله ستموت وتترك كل ما اشتريته بالحرام خلف ظهرك، وستسأل عنه وحدك بين يدي ربك، ولن تطول فرحتك به في الدنيا، فضلا عن الخوف والعذاب الذي ينتظرك هناك عند الله تعالى إن لم تتب وترجع إليه، قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين: إذا خافني في الدنيا أمنتُه يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفتُه يوم القيامة))[5].
فبالله عليك هل أنت خائف من ربك؟ لا والله لو كنت خائفا منه ما اشتريت قلما بالربا، فضلا عن شراء بيت لا بل بيوت ومحلات.
قصة رجل تعامل بالربا:
انتبهوا عباد الله، واستيقظوا من هذه الغفلة التي عمت الجميع، إن أحدهم في هذه البلاد اشترى بيتا بالربا منذ خمس وعشرين سنة وسدد ثمنه كاملا، ولم يكتف بذلك بل غره الطمع فاستأجر مطعما بالربا أيضا، وفيه ما فيه من أنواع الطعام حتى لحم الخنزير، ووالله ما هي إلا أشهر معلومات، حتى أعلن إفلاسه وعجزه عن سداد أقساط البنك، فخرج من المطعم صفر اليدين، وللبنك عليه أكثر من 100 ألف دولار، وبيته مرهون للبنك في أي لحظة يبيعه ليستوفي حقه، وها هو يدفع للبنك كل شهر ألفي دولار.
قصة شراء بيت بالربا:
وبعضهم لما وصل إلى هذه الديار أراد أن يجمع مبلغا من المال في وقت قصير ليرجع إلى بلاده ويبني مستقبله هناك، فاتفق مع صهره واشتروا بيتا بالربا، وغرهم ما تعطيه الدولة من مساعدة مجانية قدرها (6) ستة آلاف دولار لمن يشتري البيت الأول، وبعدما انتقلوا إلى البيت بشهر، وإذا بهم يستيقظون ذات صباح على رائحة دخان تخرج من البيت، وإذا بها نار تشتعل فيه، فما عرفوا كيف خرجوا منه سالمين، بعد أن فتحوا النوافذ وبدأوا برمي الأولاد منها وكادوا ينسون واحدا منهم نائما على السرير لولا أن الله قدّر لهم أن يخرجوه، وهكذا خسروا البيت وخسروا معه (38) ألف دولار في شهر واحد، بعدما ظلوا يجمعون بها وقتا طويلا. ومن الآيات العظيمة التي حصلت أن عاد الأهل بعد أيام ليقفوا على أطلال بيت كان بالأمس حلما واليوم أصبح فحما، وإذا بهم يجدون كل شيء قد احترق حتى المصحف وجدوه قد احترق إلا صفحة الربا من آخر سورة النساء، وكان لهذه الحادثة الأكبر في نفوس أصحاب البيت، وغيرهم ممن سمع بقصتهم.
إخواني: هذه بعض القصص، وما عندكم من أخبار عن هذا الموضوع أكثر مما عندنا، وصدق الله العظيم إذ يقول: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة:276]. أي يذهبه، إما أن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعدمه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة كما قال تعالى: قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100]. وقال تعالى: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ [الأنفال:37]. وقال: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم: 39]. وقال النبي : ((الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلّ)) رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود [6].
وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود، فأنت تريد بالربا أن يزيد مالك، والله ينقصه لك ويذهبه عنك.(/4)
وأخرج الإمام أحمد في مسنده قال: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ رَافِعٍ الطَّاطَرِيُّ بَصْرِيٌّ حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى -رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ- عَنْ فَرُّوخَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَنَّ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْه -وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ- خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَرَأَى طَعَامًا مَنْثُورًا فَقَالَ: مَا هَذَا الطَّعَامُ؟ فَقَالُوا: طَعَامٌ جُلِبَ إِلَيْنَا، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ وَفِيمَنْ جَلَبَهُ، قِيلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: فَإِنَّهُ قَدِ احْتُكِرَ، -والاحتكار: إمساك السلعة وعدم بيعها حتى يرتفع سعرها- قَالَ: وَمَنِ احْتَكَرَهُ؟ قَالُوا: فَرُّوخُ مَوْلَى عُثْمَانَ، وَفُلاَنٌ مَوْلَى عُمَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَدَعَاهُمَا فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمَا عَلَى احْتِكَارِ طَعَامِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالاَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ، فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالإْفْلاَسِ أَوْ بِجُذَامٍ)) فَقَالَ فَرُّوخُ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أُعَاهِدُ اللَّهَ وَأُعَاهِدُكَ أَنْ لاَ أَعُودَ فِي طَعَامٍ أَبَدًا، وَأَمَّا مَوْلَى عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّمَا نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ، قَالَ أَبُو يَحْيَى -راوي القصة- فَلَقَدْ رَأَيْتُ مَوْلَى عُمَرَ مَجْذُومًا[7]. والجذام: مرض تتساقط منه أطراف الجسم.
فاللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة. لذلك أتوجه بهذا النداء القرآني، لكل أخ مقيم على الربا والتعامل به: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278].
ومن أصرَّ على التعامل بالربا بعدما جاءته موعظة الله عز وجل في هذه الآية الكريمة، فسينتقم الله منه في الدنيا والآخرة كما قال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.. [البقرة:279]. وكما قال أيضا: وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] البخاري (893) ، مسلم (1829) .
[2] عزاه له الهيثمي في مجمع الزوائد : كتاب الصلاة – باب في المحافظة على الصلاة لوقتها (1677) . وقال: وفيه عباد بن كثير، وقد أجمعوا على ضعفه.
[3] صحيح مسلم (2128).
[4] الصحيح (1598).
[5] حلية الأولياء لأبي نعيم (6/98)، نقلا عن السلسلة الصحيحة للألباني (742)، وصحيح الجامع (4332).
[6] المسند (1/395)، وقال احمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناده صحيح. رقم (3754).
[7] المسند (1/21)، قال أحمد شاكر: إسناده صحيح. رقم (135).
الخطبة الثانية
إخواني في الله: بعد سماع ما تقدم أظن أننا أدركنا شيئا من معنى قوله تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30].
ولعلنا عرفنا أيضا أسباب المصائب والأمراض التي تصاب بها الشعوب والأمم والأفراد.
كم من شاب طلب من زوجته خلع الحجاب ولبس القصير من الثياب!! وكم من أم أمرت ابنتها بذلك أيضا عسى أن يراها الشباب فيطلبون يدها.
وكم من إنسان دخل سلك التجارة وأصبح يبيع ويشتري الحلال والحرام في محله حتى البيرة ولحم الخنزير، بحجة أن التجارة في المحل لا تمشي إلا ببيع ذلك. وكم من مسلم يعمل في هذه المحلات بحجة أنهم لم يجدوا عملا في غيرها.
وكم من أم تذهب إلى المحل فتشتري ما هب ودبَّ من أنواع الطعام والشراب بدون أن تبحث عن الحلال من الحرام، ولو قيل لها هذا حرام يا أختنا، لرأيتها تغضب وتنظر إليك من أعلى إلى أسفل قائلة: كل شيء عندكم حرام حتى هذا؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة المسلمون: أصبح مطعمنا حراما، ومشربنا حراما، وملبسنا حراما، ومسكننا حراما، وغذينا بالحرام، فبالله عليكم كيف يستجيب الله لنا؟ وقد ذكر النبي الرجل أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له [1]، أنى يستجاب لهذا وقد أغلق أبواب استجابة الدعاء كلها، أو كيف نسأل الله الجنة؟ ورسول الله يقول: ((وكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به))[2].
وأخيرا: بعضهم منذ أن وصل إلى هذه الديار وهو لا زال يعمل حتى الآن، وقد جاوز عمره الخمسين أو الستين، ولو سألت عنه: أين هو الآن الآن في هذا اليوم المبارك؟ لقيل لك بكل صراحة: هو في المصنع أو المحل أو السوق، ولو حضر المسجد تراه ينام بسرعة لكثرة الإرهاق والتعب.(/5)
بالله عليكم مثل هذا وغيره ممن سبق ذكرهم من الآباء والأمهات، ماذا قدموا لأنفسهم في آخر حياتهم؟ هل تفرغوا لعبادة ربهم القادمين عليه، والإكثار من ذكره بالأعمال الصالحة، والتوبة إليه من جميع الذنوب والآثام التي ارتكبوها في حق أنفسهم أولا وحق أولادهم ثانيا، والله عز وجل يقول: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:14-15].
مثل هذا يجب أن يقضي ما تبقى من عمره بين أولاده وأولاد أولاده، يعلمهم آية من كتاب الله، وحديثا من أحاديث رسول الله r، عله ينتفع بهم بعد موته، فقد قال : ((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: وذكر منها: ... أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) رواه مسلم عن أبي هريرة [3].
وإلا فبالله عليك من سيدعو لك؟ ومن سيترحم عليك بعد وفاتك يا مسكين؟ من سيحج عنك إن لم تكن قد حججت بعد؟ من سيتصدق عنك؟ محلك التجاري الذي أسسته بالحرام؟ أم بيتك الذي اشتريته بالربا؟ أم مطعمك الذي بعت فيه الحلال والحرام؟.
مثل هذا الصنف من الرجال: ماذا قدموا للإسلام؟ كم مسجدا أو مصلى بنوه لله أو ساهموا في بنائه؟ كم يتيما أو أرملة كفلوا؟ كم داعية إلى الله فّرغوا؟ كم جزءا من كتاب الله وحديثا من أحاديث رسول الله حفظوا ولأبنائهم حفَّظوا؟
إسمع أخا الإسلام: ما قلت لك الذي سمعتَه إلا من باب النصح والتبليغ والتذكير وأداء الأمانة، وإلا فكلنا ذو خطأ، وكلنا أصحاب معاصي بحاجة إلى رحمة الله، ولا خير فينا إن لم نقل ذلك ونذكر به، ولا خير فيكم إن لم تسمعوا وتنتفعوا بما سمعتم، وإلا فليسمع الجميع قول الله تعالى في بيان من هو الخاسر حقيقة يوم القيامة: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].
عبد الله ماذا ستقول غدا لربك وقد قصَّرت في حقه وحق رسوله وحق نفسك وزوجتك. أما أولادك وما قدمته لهم طيلة عمرهم، فله لقاء خاص في الأسبوع القادم بمشيئة الله تبارك وتعالى. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
[1] صحيح مسلم (1015).
[2] حلية الأولياء (1/31) بهذا اللفظ، ورواه أحمد والحكم وغيرهما بنحوه .نقلا عن صحيح الجامع (4519).
[3] صحيح مسلم (1631).(/6)
...
المشاهير ينتحرون ...
...
...
</TD ...
ذكرت مجلة حياة في العدد الثاني هذا التقرير فذكرت :
حياة المشاهير عالم مليء بالمفارقات .. كشريط من الأحداث المثيرة والمتتابعة .. تدور الأحداث في عالم الأضواء .. ودائماً يظهر المشاهير والابتسامات العريضة تعلو وجوههم ، وقد ارتدوا أفخر ما أنتجته بيوت الأزياء الأمريكية والأوروبية ..
وطبعاً ترى عيون المعجبين لا تكف عن مطاردتهم والبحث عنهم .
تلك هي حياة المشاهير في العالم كما تصورها لنا دائماً قنوات التلفزة والصحف الصفراء .. فالمشاهير هم أصحاب السيارات الفارهة والبيوت الكبيرة وأرصدة البنوك .. وهم أصحاب الأضواء والشهرة والمعجبين ، وفرسان اللقاءات التلفزيونية والمقابلات الصحفية .. ثم نعجب بعد ذلك إذا علمنا أن كثيراً من المشاهير مصابون باكتئابات مزمنة ، وقلق وأمراض نفسية عديدة ، أودت بكثير منهم إلى نهايات مأساوية لم يكن الانتحار أكثرها شناعة .
السر يمكن خلف الأكمة .. فالصورة البراقة لحياة المشاهير لا تكشف إلا عن أقنعة لامعة يرتديها أصحابها عند لقاء الجمهور ، أما في الحياة الخاصة فتسقط كل الأقنعة ، حيث الشقاء والعذاب النفسي الذي يجثم في حياة كثير منهم دون فكاك ، والنهايات أكبر دليل على ذلك .
وإذا استعرضنا قائمة المشاهير الذين انتهت حياتهم بالانتحار فقد تتابع عندئذ الأسطر بشكل يصعب معه الإحاطة بكل تلك الأسماء .
ذلك فضلاً عن المشاهير الذين انتهت حياتهم في مصحات نفسية ، أو في دور رعاية المسنين ، أو في وحدة قاتلة بعيداً عن أبسط معاني الرحمة والإنسانية .
1 ـ ( الحياة أصبحت كئيبة)
لا ينسى العالم اسم الروائي الأمريكي الشهير ( أرنست همنجواي )
الذي حاز بروايته الرائعة ( الشيخ والبحر ) جائزة نوبل للآداب ، حيث أصبح بعد ذلك من رواد الأدب العالمي ، وبلغت شهرته الآفاق بكتابته للأدب الإنساني الراقي ، الذي يصبه في قوالب روائية جميلة ، ولكن همنجواي وجد نفسه وحيداً في آخر حياته رغم شهرته الواسعة بين الناس ، وبدأ المرض يفتك به ، فقرر الخلاص من الحياة بطريقته الخاصة ، وذلك عن طريق بندقية قديمة كان يملكها ، حيث وجهها إلى رأسه وأطلق النار ليخر صريعاً ، وليصحوا العالم صباح أحد أيام 1961 م على خبر انتحار الروائي الأمريكي الشهير .
2 ـ ( قال للإنسان : دع القلق وابدأ الحياة .. ثم انتحر )
وكثير منا يعرف الكاتب الأمريكي ( دايل كارينجي ) صاحب أروع الكتب في فن التعامل مع الناس ، وصاحب أكثر الكتب مبيعاً في العالم ، حيث بيعت ملايين النسخ من كتبه ، وترجمت إلى أكثر اللغات العالمية ، فهو صاحب كتاب [ كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس ] وكتاب [ دع القلق وابدأ الحياة ]
وقد وضع قواعد رائعة في كيفية طرد القلق والانطلاق في الحياة العامة بكل سعادة وثقة .
ولكن كل ذلك لم يمنع القلق من أن يسيطر على حياة كارينجي ، فعصفت الكآبة بحياته ، وسادت التعاسة والشقاء أيامه ، فقرر هو أيضاً التخلص من حياته عن طريق الانتحار .
وكان له ذلك .
3 ـ كذلك الفنان الهولندي الشهير ( فان جوخ ) والذي تباع لوحاته اليوم في مزادات لندن وباريس بملايين الدولارات .
وقد بيعت أخيراً لوحته الشهيرة " زهور عباد الشمس " بستين مليون دولار .
وكان قد بدأ حياته قسيساً ، ثم تحول إلى الرسم ، واحترف هذا الفن حتى أصبح من أبرز الأسماء اللامعة عالمياً في مجال الفن التشكيلي ، لكن ذلك لم يحقق له السعادة التي كان يطلبها ويتمناها ، وأراد أن يضع حداً للشقاء النفسي الذي كان يعانيه ، وكان ذلك في يوم 29 يوليو 1980 م ، حيث أمسك مسدسه وأطلق على نفسه الرصاص ليموت بعد ذلك بيومين ، ووضعت زهور عباد الشمس التي كان يرسمها على قبره .
4 ـ وفي العالم العربي هناك العديد من الأسماء الشهيرة التي أنهت حياتها بالانتحار بسبب الخواء النفسي التي كانت تعانيه .. نذكر من أشهرها الكاتب المصري ( إسماعيل أدهم ) ، ذلك الشاب الذي حصل على الدكتوراه في الرياضيات من جامعة موسكو أيام فورة الشيوعية الماركسية .
لذلك فعندما رجع إلى بلاده كان قد امتلئ بالنظريات الماركسية حول الحياة والكون والتاريخ ، وألف فيها عدداً من الكتب كان أشهرها كتابه [ لماذا أنا ملحد ] الذي أثار ضجة كبرى في الساحة الثقافية آنذاك .
وكان إسماعيل أدهم ، يجيد عدداً من اللغات ، وله كثير من الدراسات والكتب والبحوث ، لكنه كره الحياة التي لا تنتهي إلى شيء .. فكانت النهاية .. !!
ففي يوم 23 يوليو 1940 هـ فوجئت الأوساط العلمية والثقافية بخبر انتحار الدكتور إسماعيل أدهم بإلقاء نفسه في البحر على شاطئ الإسكندرية ، حيث وجدت جثته ، ووجدت في ملابسه رسالة تؤكد انتحاره بسبب سأمه من الحياة .(/1)
5 ـ أما الشاعر اللبناني ( خليل حاوي ) فقد اختار نفس النهاية ، فبعد ما سمع وهو في منفاه في استراليا بخبر اجتياح الجيش الإسرائيلي لجنوب لبنان وحصاره لبيروت عام 1982 م أصابه حزن عميق ، وساده القنوط ، فقرر الانتحار لإنهاء حياة العذاب التي كان يعانيها .. وأطلق الرصاص على نفسه .
النساء يفضلن الحبوب المنومة
عدد كبير من النساء الشهيرات لاقين نفس النهاية ، غير أنها كانت دون ضجيج ، حيث ينتهي الأمر بالتهام عدد كبير من الحبوب المنومة والتي تؤثر تباعاً على القلب ، فتكون النهاية المحتومة .
1 ـ ( كريستينان أوناسيس ) كانت من الأسماء اللامعة قبل عقود من الزمن .
فهي ابنة الملياردير اليوناني أوناسيس صاحب الجزر والأساطيل البحرية والطائرات والمليارات ، الذي يعد من أكبر أثرياء العالم .. ولأن كريستينان وريثته الوحيدة فقد ورثت عن أبيها كل ثروته الهائلة ، إلا أن ذلك لم يحقق لها السعادة التي تبحث عنها ، فقد تزوجت عدداً من المرات ، وكان زواجها الأخير من أحد الشيوعين ، حيث سئمت حياة الترف والثروة ، وذهبت لتعيش مع زوجها في منزل متهالك في أحد أحياء موسكو الفقيرة ، إلا أن الفشل لاحقها في هذا الزواج أيضاً ، ففارقت زوجها بعد أن أصيبت باكتئاب مزمن وحزن مرضي متصل ، ولم تستطع الثروة والمال أن تحقق لها أبسط معاني السعادة الإنسانية ، وأقل درجات الرضى والطمأنينة ، فقررت الانتحار .
ووجدت ميتة على أحد السواحل الأرجنتينية ، بعدما ابتلعت عدداً كبيراً من الحبوب المنومة ، وكان عمرها آنذاك سبعة وثلاثين عاماً فقط .
2 ـ ( داليدا قبل أن تنتحر : الحياة لا تحتمل .. سامحوني )
نفس النهاية اختارتها المغنية العربية ( داليدا .. )
خرجت داليدا من أحد الأحياء الشعبية في القاهرة لتسافر إلى فرنسا عام 1956 م ، وحققت هناك شهرة واسعة لم تصل إليها أي مغنية عربية من قبل ، وباعت على مدى عشرين عاماً ما يزيد على 85 مليون شريط لـ 600 أغنية بثمان لغات ، وحصدت الكثير من الجوائز والأوسمة العالمية ، لكنها مع ذلك ضاقت بالحياة ، وسئمت الأضواء ، واستسلمت لليأس ، وأرادت النهاية ، حيث استيقظ العالم في أحد أيام 1987 م على خبر انتحار المغنية داليدا لألتهامها عدداً كبيراً من الأقراص المنومة ، ووجدت بجانبها رسالة تقول فيها " الحياة لا تحتمل .. سامحوني " .
3 ـ ولا ننسى ( مارلين مونرو ) ، نجمة السينما الأمريكية الأكثر شهرة عالمياً ، تلك التي تربعت على عرش السينما العالمية سنين طويلة ، ودخلت البيت الأبيض بارتباطها بعلاقات محرمة مع الرئيس الأمريكي جون كيندي ومع أخيه روبرت .... وحتى اليوم رغم مرور ثلاثين عاماً على وفاتها ، إلا أن الإعلام ما زال يتكلم عنها في كل ذكرى لوفاتها ، وما زالت كثير من صورها تباع حتى اليوم بالملايين ، حتى صارت أشبه بالأسطورة السينمائية التي يمجدها الغرب في كل مناسبة .. لكن مارلين مونرو رغم شهرتها الواسعة عالمياً كانت غير سعيدة ، وصرحت بذلك عدداً من المرات .
وكانت مصابة بقلق حاد وكآبة مستمرة ، بل أصيبت في آخر أيامها بالهستيريا .
ولم تطق ذلك العذاب .. وبعد أيام صعق المجتمع الأمريكي بخبر انتحار مارلين مونرو نجمة السينما الأمريكية وهي أوج شهرتها ، وذلك بالتهامها الكثير من الحبوب المنومة .
4 ـ الكثير من الأسماء يمكن إضافتها إلى هذه القافلة البائسة ، مثل الروائية والإنجليزية الشهيرة ( فرجينيا وولف ) ، حيث أخذت طريقها في البحر ووضعت حجراً ثقيلاً في ملابسها ، وألقت بنفسها في البحر ، ولم تكتشف جثتها إلا بعد ثلاثة أيام ، وكانت قد تركت لزوجها رسالة تقول فيها : " سأفعل ما أراه أفضل " .
5 ـ أيضاً الدكتورة ( درية شفيق ) ، التي حصلت على الدكتوراه من باريس ، وأسست أول حزب نسائي في مصر ، وأصدرت عدداً من المجلات ، وقادت الثورات والمظاهرات المطالبة بتحرير المرأة ، ثم كانت نهايتها بأن ألقت من شقتها في الدور السادس .
6 ـ كذلك الكاتبة ( أروى صالح ) التي كانت تكتب في كثير من الصحف والمجلات الشهيرة ، ضاقت بالحياة وألقت بنفسها هذه المرة من الدور العاشر ، وذلك قبل عدة أعوام .
7 ـ وبينما أنا أكتب هذا الموضوع ، حملت لنا الصحف خبر انتحار الممثلة والمغنية اللبنانية ( داني بسترس ) ، بعدما سئمت الحياة هي أيضاً ، فقامت بإطلاق الرصاص على نفسها .
البحث عن السعادة
كل المشاهير يحلمون بالسعادة من وراء الشهرة ، ولكنهم فوجئوا بالنقيض تماماً ، حيث لم يجنِ الكثير منهم من ورائها إلا القلق والكآبة والحزن والعذاب .. لذا ذهب بعضهم يبحث عن الراحة بالموت ، ونسوا أن وراء الانتحار عذاباً متصلاً دائماً دون نهاية .(/2)
ومع كل هذه القصص المأساوية لا يزال الكثير من الشباب والفتيات يبحث عن السعادة من هذا الطريق ، حيث أثبتت إحدى الدراسات أن سبعين في المائة من الفتيات الهاربات من المنزل في مصر ، أقدمن على ذلك بعدما شاهدن عدداً من المشاهير – عن طريق الفضائيات – يذكرون أنهم أقدموا على الهروب في بداية حياتهم من أهاليهم ، وأن ذلك ساعدهم على التفرغ للفن والمجد والشهرة ، لذلك تدور هذه الدوامة من جديد .
تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
لا تنسونا من صالح دعواتكم .. ...
http://saaid.net/gesah/59.htm ...(/3)
المشتاقون إلى الجنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلا
ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها فلم يتخذوا سواها شغلا
وسهل لهم طرقها فسلكوا السبيل الموصلة إليها ذللا
وكمل لهم البشرى بكونهم خالدين فيها لا يبغون عنها حولا.
الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا
وباعث الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
والحمد لله الذي رضى من عباده باليسير من العمل
وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل
وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة
وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
أما بعد :
فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً ، ولم يتركهم سدى
بل خلقهم لأمر عظيم وخطب جسيم
عرض على السموات والأرض والجبال فأبين وأشفقن منه إشفاقاً ووجلا
وحمله الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً
والعجب كل العجب من غفلة من لحظاته معدودة عليه
وكل نفس من أنفاسه إذا ذهب لم يرجع إليه
وإنما يتبين سفه المفرط يوم الحسرة والندامة
إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً
فالأولون في روضات الجنة يتقلبون وعلى أسرتها يجلسون وعلى بطائنها يتكئون
وأولئك في أودية جهنم يصطلون ، جزاء بما كانوا يعملون
ومن هنا اشتاقت نفوس الصالحين إلى الجنة
حتى قدموا في سبيل الوصول إليها كلَّ ما يملكون
هجروا لذيذ النوم والرقاد ، وبكوا في لأسحار ، وصاموا النهار ، وجاهدوا الكفار ،
فلله كم من صالح وصالحة اشتاقت إليهم الجنة كما اشتاقوا إليها
من حسن أعمالهم ، وطيب أخبارهم ، ولذة مناجاتهم ،
وكان لكل واحد منهم ، ولكل واحدة منهن مع الله جل جلاله أخبار وأسرار ، لا يعرفها غيره أبداً، جعلوها بين أيديهم عُدداً
لا يطلبون جزاءهم إلا منه ، فطريقهم إليه ، ومعولهم عليه ، ومآلهم يكون بين يديه
فلا إله إلا الله .. كم بكت عيون في الدنيا خوفاً من الحرمان من النظر إلى وجه الله الكريم
فهو سبحانه أعظم من سجدت الوجوه لعظمته ، وبكت العيون حياءً من مراقبته ، وتقطعت الأكباد شوقاً إلى لقائه ورؤيته
فالمشتاقون إلى الجنة لهم مع ربهم تعالى أخبار وأسرار
فإليكم شيئاً من أخبارهم ، وطرفاً من أسرارهم ..
أول هذه الأخبار
ما أورده ابنُ الجوزي في صفة الصفوة وابنُ النحاس في مشارع الأشواق عن رجل من الصالحين اسمه أبو قدامة الشامي ..
وكان رجلاً قد حبب إليه الجهاد والغزو في سبيل الله ، فلا يسمع بغزوة في سبيل الله ولا بقتال بين المسلمين والكفار إلا وسارع وقاتل مع المسلمين فيه ، فجلس مرة في الحرم المدني فسأله سائل فقال :
يا أبا قدامة أنت رجل قد حبب إليك الجهاد والغزو في سبيل الله فحدثنا بأعجب ما رأيت من أمر الجهاد والغزو
فقال أبو قدامة : إني محدثكم عن ذلك :
خرجت مرة مع أصحاب لي لقتال الصليبيين على بعض الثغور ( والثغور هي مراكز عسكرية تجعل على حدود البلاد الإسلامية لصد الكفار عنها ) فمررت في طريقي بمدينة الرقة ( مدينةٍ في العراق على نهر الفرات ) واشتريت منها جملاً أحمل عليه سلاحي ، ووعظت الناس في مساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله ، فلما جن علي الليل اكتريت منزلاً أبيت فيه ، فلما ذهب بعض الليل فإذا بالباب يطرق عليّ ، فلنا فتحت الباب فإذا بامرأة متحصنة قد تلفعت بجلبابها ،
فقلت : ما تريدين ؟
قالت : أنت أبو قدامة ؟
قلت : نعم ،
قالت : أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور ؟
قلت : نعم ، فدفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية ،
فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها : إنك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما فيَّ وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي ،
قال أبو قدامة : فعجبت والله من حرصها وبذلها ، وشدة شوقها إلى المغفرة والجنة .
فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرقة ، فلما بلغنا حصن مسلمة بن عبد الملك فإذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول : يا أبا قدامة يا أبا قدامة ، قف عليَّ يرحمك الله ،
قال أبو قدامة : فقلت لأصحابي : تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذا الفارس ، فلما رجعت إليه ، بدأني بالكلام وقال : الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردني خائباً ،
فقلت له ما تريد : قال أريد الخروج معكم للقتال .
فقلت له : أسفر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيراً يلزمك القتال قبلتك ، وإن كنت صغيراً لا يلزمك الجهاد رددتك .
فقال : فكشف اللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام عمره سبع عشرة سنة
فقلت له : يا بني ؟ عندك والد ؟ قال : أبي قد قتله الصليبيون وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي .
قلت : أعندك والدة ؟
قال : نعم ، قلت : ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها فإن الجنة تحت قدمها
فقال : أما تعرف أمي ؟ قلت : لا ،
قال : أمي هي صاحبة الوديعة ، قلت : أي وديعة ؟(/1)
قال : هي صاحبة الشكال ، قلت : أي شكال ؟
قال : سبحان الله ما أسرع ما نسيت !! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال ؟؟
قلت : بلى ، قال : هي أمي ، أمرتني أن أخرج إلى الجهاد ، وأقسمت عليَّ أن لا أرجع ..
وإنها قالت لي : يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدبر ، وهَب نفسك لله واطلب مجاورة الله ، ومساكنة أبيك وأخوالك في الجنة ، فإذا رزقك الله الشهادة فاشفع فيَّ
ثم ضمتني إلى صدرها ، ورفعت رأسها إلى السماء ، وقالت : إلهي وسيدي ومولاي ، هذا ولدي ، وريحانةُ قلبي ، وثمرةُ فؤادي ، سلمته إليك فقربه من أبيه ..
سألتك بالله ألا تحرمني الغزو معك في سبيل الله ، أنا إن شاء الله الشهيد ابن الشهيد ، فإني حافظ لكتاب الله ، عارف بالفروسية والرمي ، فلا تحقرَنِّي لصغر سني ..
قال أبو قدامة : فلما سمعت ذلك منه أخذته معنا ، فوالله ما رأينا أنشط منه ، إن ركبنا فهو أسرعنا ، وإن نزلنا فهو أنشطنا ، وهو في كل أحواله لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى أبداً ...
………..
إذ رأيت قصراً يتلألأ أنواراً لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وإذا شُرفاته من الدرّ والياقوت والجوهر ، وأبوابه من ذهب ، وإذا ستور مرخية على شرفاته ، وإذا جوار يرفعن الستور ، وجوههن كالأقمار ..
…..
تقدم يرحمك الله فإذا في أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير من الزبرجد الأخضر ، قوائمه من الفضة البيضاء ، عليه جارية وجهها كأنه الشمس ، لولا أن الله ثبت علي بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء الجارية ..
فلما رأتني الجارية قالت : مرحباً بولي الله وحبيبه .. أنا لك وأنت لي
فلما اقتربت منها قالت : .. ..
.. .. ..
فجالت الأبطال ، ورميت النبال ، وجردت السيوف ، وتكسرت الجماجم ، وتطايرت الأيدي والأرجل ..
واشتد علينا القتال حتى اشتغل كلٌ بنفسه ، وقال كل خليل كنت آمله ..
.. .. .. .. ..
فالتفت أبو قدامة إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام
وإذا الرماح قد تسابقت إليه ، والخيلُ قد وطئت عليه
فمزقت اللحمان ، وأدمت اللسان
وفرقت الأعضاء ، وكسرت العظام ..
وإذا هو يتيم ملقى في الصحراء
قال أبو قدامة : فأقبلت إليه ، وانطرحت بين يديه ، وصرخت : هاأنا أبو قدامة .. هاأنا أبو قدامة ..
فقال : الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك ، فاسمع وصيتي
قال أبو قدامة : فبكيت والله على محاسنه وجماله ، ورحمةً بأمه ، وأخذت طرف ثوبي أمسح الدم عن وجهه
فقال : تمسح الدم عن وجهي بثوبك !! بل امسح الدم بثوبي لا بثوبك ، فثوبي أحق بالوسخ من ثوبك ..
قال أبو قدامة : فبكيت والله ولم أحر جواباً ..
فقال : يا عم ، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة ، ثم تبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه ، وأن ولدها قد قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر ، وأن الله إن كتبني في الشهداء فإني سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي في الجنة ، ..
ثم قال : يا عم إني أخاف ألا تصدق أمي كلامك فخذ معك بعض ثيابي التي فيها الدم ، فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول ، وأن الموعد الجنة إن شاء الله ..
يا عم : إنك إذا أتيت إلى بيتنا ستجد أختاً لي صغيرة عمرها تسع سنوات .. ما دخلت المنزل إلا استبشرت وفرحت ، ولا خرجت إلا بكت وحزنت ، وقد فجعت بمقتل أبي عام أول وفجعت بمقتلي اليوم ، وإنها قالت لي عندما رأت علي ثياب السفر :
يا أخي لا تبطئ علينا وعجل الرجوع إلينا ، فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات ..
ثم تحامل الغلام على نفسه وقال : يا عمّ صدقت الرؤيا ورب الكعبة ، والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشم ريحها ..ثم انتفض وشهق شهقتين ، ثم مات ..
قال أبو قدامة : فلما دفناه لم يكن عندي هم أعظم من أن أرجعَ إلى الرقة وأبلغَ رسالته لأمه ..
.. .. .. .. .. .. ..
قدمت هذه المرأة الصالحة كل ذلك في سبيل أن تدخل الدار التي اشتد شوقها إليها ،
وقدم ولدُها نفسَه رخيصةً لله ، وتناسى لذاتِه وشبابه ، فليت شعري ماذا قدم للجنة المفرطون أمثالُنا ؟!
رحم الله فتى هذب الدين شبابه
ومضى يزجي إلى العلياء في عزم ركابه
مخبتاً لله صير الزاد كتابه
وارداً من منهل الهادي ومن نبع الصحابة
إن طلبت الجود منه فهو دوماً كالسحابة
أو نشدت العزم فيه فهو ضرغام بغابة
جاذبته النفس للشر فلم يبد استجابة
متقٍ لله تعلو من يلاقيه المهابة
رقّ منه القلب لكن زاد في الدين صلابة
بلسم للأرض يمحو عن محياها الكآبة
ثابت الخطو فلم تُطف الأعاصير شهابه
جرّبته صولة الدهر فألفت ذا نجابة
إن يقم يوماً خطيباً يُسمعُ الصمَّ خطابَه
أو يسر في الدرب يوماً أبصر الأعمى جنابه
مسلم يكفيه فخراً أن للدين انتسابه
المشتاقون إلى الجنة ، ارتفع قدرها عندهم ، حتى لم يرضوا لها ثمناً إلا أرواحَهم التي بين جنوبهم ..
ولماذا لا يبذلون للجنة ذلك وأكثر
وهي الدار التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأقل أهلها نعيماً ، وأدناهم ملكاً فكان له في ذلك نبأ عجيب ..(/2)
ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" آخر من يدخل الجنة : رجل فهو يمشي على الصراط مرة ، ويكبو مرة ، وتسفعه النار مرة ، فإذا جاوزها التفت إليها ، فقال : تبارك الذي نجاني منك ، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين .
فترتفع له شجرة فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة أستظل بظلها وأشرب من مائها
فيقول الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها ؟
فيقول : لا يا رب ، ويعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره ، لأنه يرى مالا صبر له عليه ، فيدنيه منها فيستظل بظلها ، ويشرب من مائها .
ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى ، فيقول: يا رب أدنني من هذه لأشرب من مائها ، وأستظل بظلها لا أسألك غيرها
فيقول : يا ابن آدم ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها ؟
فيقول : لعلي إن أدنيتك منها أن تسألني غيرها ، فيعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى مالا صبر له عليه فيدنيه منها ، فيستظل بظلها ، ويشرب من مائها
ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين
فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة لأستظلَّ بظلها وأشربَ من مائها لا أسألك غيرها
فيقول : يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها ؟
قال : بلى يا رب ، هذه لا أسألك غيرها وربه يعذره لأنه يرى مالا صبر له عليه فيدنيه منها ، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة
فيقول: يا رب أدخلنيها
فيقال له : ادخل الجنة فيقول : رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم
فيقول الله : يا ابن آدم ما يرضيك مني ؟!
أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا ؟
فيقول : رضيت رب
فيقول : لك ذلك ومثله ، ومثله ، ومثله ، ومثله
فيقول في الخامسة : رضيت رب
فيقول الله تعالى : لك ذلك وعشرة أمثاله ، ولك ما اشتهت نفسك ولذّت عينك
ثم يقول الله تعالى له : تمن ، فيتمنى ، ويذكره الله : سل كذا وكذا ، فإذا انقطعت به الأماني
ثم يدخل بيته ويدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فيقولان : الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك
فيقول: ما أعطى أحد مثل ما أعطيت .
قال ( يعني موسى عليه السلام ) : رب فأعلاهم منزلة ؟
قال : أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر ) فـ
سبحان من غرست يداه جنة الفردوس عند تكامل البنيان
ويداه أيضا أتقنت لبنائها فتبارك الرحمن أعظم بان
لما قضى رب العباد العرش قا * ل تكلمي فتكلمت ببيان
قد أفلح العبد الذي هو مؤمن * ماذا ادخرت له من الاحسان
فيها الذي والله لا عين رأت * كلا ولا سمعت به الأذنان
كلا ولا قلب به خطر المثا * ل له تعالى الله ذو السلطان
هي جنة طابت وطاب نعيمها * فنعيمها باق وليس بفان
دار السلام وجنة المأوى ومنزل عسكر الايمان والقرآن
أمشاطهم ذهب ورشحهم فمسك خالص ياذلة الحرمان *
هذا وسنهم ثلاث مع ثلا * ثين التي هي قوة الشبان
وبناؤها اللبنات من ذهب وأخـ ـرى فضة نوعان مختلفان *
وقصورها من لؤلؤ وزبرجد أو فضة أو خالص العقيان *
وكذاك من در وياقوت به * نظم البناء بغاية الاتقان
والطين مسك خالص أو زعفرا * ن جابذا أثران مقبولان
حصباؤها در وياقوت كذا ك لآليء نثرت كنثر جمان
وترابها من زعفران أو من المسك الذي ما استل من غزلان
أنهارها في غير أخدود جرت * سبحان ممسكها عن الفيضان
من تحتهم تجري كما شاؤوا مفجرة وما للنهر من نقصان
عسل مصفى ثم خمر ثم أنهار من الالبان
سبحان ذي الجبروت والملكوت وال * إجلال والاكرام والسبحان
والله أكبر عالم الاسرار والاعلان واللحظات بالاجفان *
والحمد لله السميع لسائر الأصوات من سر ومن اعلان *
وهو الموحد والمسبح والممجد والحميد ومنزل القرآن *
والأمر من قبل ومن بعد له * سبحانك اللهم ذا السلطان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشتاقون إلى الجنة لهم مع ربهم أخبار وأسرار بل كانوا إذا حصلوا الجنة لم يلتفتوا إلى غيرها أبداً
حارثة بن سراقة غلام من الأنصار .. له حادثة عجب ذكرها أصحاب السير وأصلها في صحيح البخاري
دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إلى بدر ..
فلما أقبلت جموع المسلمين كانت النساء ..
وكان من بين هؤلاء الحاضرين عجوز ثكلى ، كبدها حرى تنتظر مقدم ولدها ..
فلما دخل المسلمون المدينة بدأ الأطفال يتسابقون إلى آبائهم ، والنساء تسرع إلى أزواجها ، والعجائز يسرعن إلى أولادهن ، .. وأقبلت الجموع تتتابع ..
جاء الأول .. ثم الثاني .. والثالث والعاشر والمائة ..ولم يحضر حارثة بن سراقة ..
وأم حارثة تنظر وتنتظر تحت حرّ الشمس ، تترقب إقبال فلذة كبدها ، وثمرةِ فؤادها ،
كانت تعد في غيابه الأيام بل الساعات ، وتتلمس عنه الأخبار ، تصبح وتمسي وذكره على لسانها ..(/3)
تسائل عنه كل غاد ورائح وتوميء إلى أصحابه وتسلم
فلله كم من عبرة مهراقة وأخرى على آثارها لا تقدم
وقد شرقت عين العجوز بدمعها فتنظر من بين الجموع وتكتم
وكانت إذا ما شدها الشوق والجوى وكاد <ن® <ب@يل تفصم
تذكر نفساً بالتلاقي وقربه وتوهمها لكنها لا توهم
وكم يصبر المشتاق عمن يحبه وفي قلبه نار الأسى تتضرم
ترقبت العجوز وترقبت فلم تر ولدها ..
فتحركت الأم الثكلى تجر خطاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودموعها .. ..
فنظر الرحيم الشفيق إليها فإذا هي عجوز قد هدها الهرم والكبر ، وأضناها التعب وقلّ الصبر ، وقد طال شوقها إلى ولدها ، تتمنى لو أنه بين يديها تضمه ضمة ، وتشمه شمة ولو كلفها ذلك حياتها ..
اضطربت القدمان ، وانعقد اللسان ، وجرت بالدموع العينان ..
كبر سنها ، واحدودب ظهرها ، ورق عظمها ، ويبس جلدها ، واحتبس صوتها في حلقها ..
وقد رفعت بصرها تنتظر ما يجيبها الذي لا ينطق عن الهوى ..
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلها وانكسارها ، وفجيعتَها بولدها ، التفت إليها وقال :
ويحك يا أم حارثة أهبلت ؟! أوجنةٌ واحدة ؟! إنها جنان ، وإن حارثة قد أصاب الفردوس لأعلى ..
فلما سمعت العجوز الحرى هذا الجواب : جف دمعها ، وعاد صوابها ، وقالت : في الجنة ؟ قال : نعم .
فقالت : الله أكبر .. ثم رجعت الأم الجريحة إلى بيتها ..
رجعت تنتظر أن ينزل بها هادم اللذات ..ليجمعها مع ولدها في الجنة ..
لم تطلب غنيمة ولا مالاً ، ولم تلتمس شهرة ولا حالاً ، وإنما رضيت بالجنة ..
ما دام أنه في الجنة يأكل من ثمارها الطاهرة ، تحت أشجارها الوافرة ، مع قوم وجوههم ناضرة ، وعيونهم إلى ربهم ناظرة ، فهي راضية ، ولماذا لا يكون جزاؤهم كذلك ..
وهم طالما يبست بالصيام حناجرهم ، وغرقت بالدموع محاجرهم ..
طالما غضوا أبصارهم عن الحرام ، واشتغلوا بخدمة العزيز العلام ..
فهم في جنة ربهم يتنعمون ] على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزِفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزاء بما كانوا يعملون * لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما [
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأينما سرت في ركب الصالحين لتجدن طلب الجنة يملأ قلوبهم ويشغل نفوسهم .. قد تعلقت بها أرواحهم حتى لم تقم لغيرها وزنا .. فهان عليهم كل شيء في سبيل الوصول إليها ..
أبو الدحداح ثابت بن الدحداح .. كان له نبأ عجب ..
روى البخاري ومسلم عن أنس y : أن غلاماً يتيماً من الأنصار كان له بستان ملاصق لبستان رجل منذ سنين ، فأراد الغلام أن يبني جداراً يفصل بستانه عن بستان صاحبه ..
نعم خرجت أم الدحداح وخرج أبو الدحداح وتركوا البستان والأشجار ، وفارقوا الظلال والثمار
نقلوا عيشَ دنياهم من الحدائق إلى المضائق ،
تركوا الشهوات ، واشتغلوا بالقربات ، عطشوا في دنياهم وجاعوا ، وذلوا لربهم وأطاعوا ، فارقوا في طلب رضاه كلَّ شيء وباعوا
فعل ذلك أبو الدحداح حتى يكون هو وزوجته مع أولادهما في ظلال على الأرائك يتكئون ] "إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون * هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون * لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون * سلام قولا من رب رحيم [
ولا يزالون في مزيد فهو سبحانه البر الرؤوف الرحيم
] "إن المتقين في جنات ونعيم * فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم * كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون * متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين * "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين * وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون * يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم * ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون * وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين * فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم [
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشتاقون إلى الجنة : لم يكتفوا بقيام الليل وصيام النهار ، والعفة عن النظر إلى المحرمات ، والاشتغال بالطاعات ، بل نظروا إلى أعز ما يملكون ، إلى أنفسهم التي بها قوام حياتهم ، ثم قدموها في سبيل رضا العزيز الحكيم ..
في معركة بدر .. اشتدّ البلاء على المسلمين ..
إذ قد خرج المسلمون لا لأجل القتال وإنما خرجوا لأخذ قافلة لقريش كانت قادمة من الشام ، ففوجئوا بأن القافلة قد فاتتهم وأن قريشاً قد جاءت بجيش من مكة كثيرِ العدد والعدة لحربهم ..
فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ضعف أصحابه وقلة عددهم وضعف عتادهم ..
فاستغاث بربه ، وأنزل به ضره ومسكنته ، ثم خرج إلى أصحابه فإذا هم قد لبسوا للحرب لأمتها ، واصطفوا للموت كأنما هم في صلاة ،(/4)
تركوا في المدينة أولادهم ، وهجروا بيوتهم وأموالهم ، شعثاً رؤوسهم ، غبراً أقدامهم ، ضعيفة عدتهم وعتادهم .
فلنا رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، صاح بهم وقال :
قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة ..
فقام عمير بن الحمام ..
نعم رحل عمير من دار الأشرار ونزل في جوار الملك الجبار ، انتفع بما قدم من صيام النهار ، ورفعه بكاء الأسحار ، وسكن في جنات تجري من تحته الأنهار ..برحمة العزيز الحكيم ..
الذي أجزل لهم الثواب ، وسماهم الأحباب ، وأمنهم من العذاب ، الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ،
لهم فيها ما تشتهي أنفسهم ، ولا يزالون في مزيد
] في سدر مخضود * وطلح منضود * وظل ممدود * وماء مسكوب * وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة * وفرش مرفوعة * إنا أنشأناهن إنشاء * فجعلناهن أبكارا * عربا أترابا * لأصحاب اليمين [
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشتاقون إلى الجنة لهم مع ربهم تعالى أخبار وأسرار
كلما زاد ربهم في بلائهم وامتحانهم ، ازدادوا صبراً واحتساباً
فهو سبحانه أكبر المنعمين ، ولا يقبل أن يعامله عباده بالمجان بل يعظم لهم الأجور
وما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها ..
استمع إلى هذا الخبر العجيب
روى البخاري عن عطاء بن أبي رباح
الأمة السوداء :
جاءت إليه صلى الله عليه وسلم تلتمس منه أن يغير مجرى حياتها فقد تعذبت فيها أشد العذاب ..لا أحد يتزوجها .. ولا يجلس معها .. الناس يخافون منها .. والأطفال يضحكون منها .. تصرع بين الناس في أسواقهم .. وفي بيوتهم .. وفي مجالسهم .. حتى استوحشوا من مخالطتها .. ملت من هذه الحياة فجاءت إلى الرحيم الشفيق .. ثم صرخت من حرّ ما تجد :
إني أصرع .. فادع الله تعالى أن يشفيني ..
فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من كلامه ..
نظرت المرأة وتأملت في حالها ومرضها .. ورددت كلامه صلى الله عليه وسلم في عقلها ..
فإذا هو يخيرها بين المتعة في دنيا فانية يمرض ساكنها ، ويجوع طاعمها ، ويبأس مسرورها ، وبين دار ليس فيها ما يشينها ، ولا يزول عزها وتمكينها ،
دار قد أشرقت حِلاها ، وعزت علاها ،
دار جلَّ من بناها ، وطاب للأبرار سكناها ، وتبلغ النفوس فيها مناها
فقالت الأمة المريضة يا رسول الله : بل أصبر .. أصبر يا رسول الله ..
وصبرت حتى ماتت .. وليتعب جسدها ..ولتحزن نفسها ..ما دام أن الجنة جزاؤها ..
الله أكبر .. زال نصبهم ، وارتفع تعبهم ، وحصل مقصودهم ، ورضي معبودهم ..ما أتم نعيمهم ، وأعز تكريمهم ، يتقون في الدنيا .. ليفوزوا يوم القيامة ..
] إن للمتقين مفازا * حدائق وأعنابا * وكواعب أترابا * وكأسا دهاقا * لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا * جزاء من ربك عطاء حسابا"[
في الجنة :
أعد الله لهم القصور والأرائك ، وأخدمهم الغلمان والملائك ، وأباحهم الجنان والممالك ، وسلم عليهم الرب العظيم المالك ] سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار [
قال الله ] والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم
صبروا ------ على الأمراض والأسقام ، وعلى الأدواء والأورام ،
صبروا ------ على الفقر واللأواء ، والضيق والبلاء ..
صبروا ------ على حفظ الفروج ، وغض الأبصار ، ومناجاة ربهم في الأسحار ..
] صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار * جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" [
أولئك الصابرون الذين اشتاقوا إلى الجنات ، واستبشروا فتحملوا مرضهم ، وكتموا أنينهم ، وسكبوا في المحراب دموعهم ، فما مضى إلا قليل حتى فرحوا بجنات النعيم
وإذا رأى أهل العافية يوم القيامة ما يؤتيه الله تعالى من الأجور لأهل البلاء ودوا لو أن جلودهم قرضت بالمقاريض ..
[ "جناتِ عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بل استمع إلى هذا الامتحان الصعب الذي أثبت فيه المحبون أنهم إلى ربهم مشتاقون ، وفي رضاه راغبون ، ولسان حالهم :
فليتك تحلوا والحياة مريرة . .
الأنصار في العقبة :
عن جابر . قال : مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم ، عكاظ و مجنة ، و في المواسم يقول : من يؤويني ؟ من ينصرني ؟ حتى أبلغ رسالة ربي و له الجنة فلا يجد أحداً يؤويه و لا ينصره ، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر ـ كذا قال فيه ـ فيأتيه قومه و ذوو رحمه فيقولون احذر غلام قريش لا يفتنك ، و يمضي بين رحالهم و هم يشيرون إليه بالأصابع ..(/5)
فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة ..
فقلنا : يا رسول الله علام نبايعك ؟
قال : تبايعونني على السمع و الطاعة في النشاط و الكسل ، و النفقة في العسر و اليسر ، و على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و أن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم ، و على أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم و أزواجكم و أبناءكم
فقال العباس بن عبادة الأنصاري : يا معشر الخزرج ، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟
قالوا : نعم !
قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال ، و قتل الأشراف ، فخذوه ، فهو و الله خير الدنيا و الآخرة .
وقام أسعد بن زرارة فقال : رويداً يا أهل يثرب ، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وأن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة و قتل خياركم و تعضكم السيوف . فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله ، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه . فبيبنوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله .
قالوا : يا رسول الله إن بيننا و بين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها ، وإنا نأخذك على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ؟
قال : الجنة
قالوا : ابسط يدك ،
فبسط يده فبايعوه "
فعلوا كل ذلك طمعاً في مغفرة الله تعالى ، وخوفاً من شر يوم الحسرة والندامة
[ فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا * متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا * ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا * ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا * قوارير من فضة قدروها تقديرا * ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا * عينا فيها تسمى سلسبيلا * ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا * وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا * عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا * إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ] .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي معركة أحد : كان للمحبين امتحان آخر ..
روى مسلم في صحيحه : عن أنس بن مالك أن المشركين لما رهقوا النبي وهو في سبعة من الأنصار ورجل من قريش ، قال : من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة ؟ فجاء رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل . فلما رهقوه أيضاً قال : من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة ، حتى قتل السبعة ، فقال رسول الله : ما أنصفنا أصحابنا ..
فهؤلاء السبعة ملوك على الأسرة في الجنة ، ومن صدق الله صدقه الله
وهم الملوك على الأسرة فوق ها * تيك الرؤوس مرصع التيجان
ولباسهم من سندس خضور ومن * إستبرق نوعان معروفان
هذا وتصريف المآكل كل منهم * عرق يفيص لهم من الابدان
كروائح المسك الذي ما فيه خلـ * ط غيره من سائر الألوان
فتعود هاتيك البطون ضوامرا * تبغي الطعام على مدى الازمان
لا غائط فيها ولا بول ولا * مخط ولا بصق من الانسان
ويرونه سبحانه من فوقهم * رؤيا العيان كما يرى القمران
أو ما سمعت منادي الايمان يخبر عن منادي جنة الحيوان
يا أهلها لكم لدى الرحمن وعد وهو منجزه لكم بضمان
قالوا أما بيضت أوجهنا كذا * أعمالنا ثقلت ففي الميزان
وكذاك قد أدخلتنا الجنات حين أجرتنا من مدخل النيران
فيقول عندي موعد قد أن أن * أعطيكموه برحمتي وحناني
فيرونه من بعد كشف حجابه * جهرا روى ذا مسلم ببيان
والله لولا رؤية الرحمن في الجنات ما طابت لذي العرفان
والله ما في هذه الدنيا ألذ من اشتياق العبد الرحمن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشتاقون إلى الجنة ، قد يذنبون ويخطئون ، فكل بني آدم خطاء ، لكنهم يسرعون إلى التوبة والاستغفار ، ويغلبهم الخوف من العزيز الجبار ..
أولئك الصالحون قد يذنبون لكنهم إذا لاحت لهم ذنوبهم تجافت عن المضاجع جنوبهم ، وإذا ذكر الله وجلت قلوبهم ..
صفوا أقدامهم في المحراب ، وأناخوا مطاياهم على الباب ، في طلب مغفرة الرحيم التواب ..
فهم في محاريبهم أسعد من أهل اللهو في لهوهم ..
فلو أبصرت عيناك موقفهم بها وقد بسطوا تلك الأكف ليرحموا
فلا ترى إلا خاشعاً متذللاً وآخر يبكي ذنبه يترنم
تراهم على المحراب تجري دموعهم بكياً وهم فيها أسرّ وأنعم
ينادونه يا رب يا رب إننا عبيدك لا نبغي سواك وتعلم
وهانحن نرجو منك ما أنت أهله فأنت الذي تعطي الجزيل وتنعم
فما منكم بد ولا عنكم غنى وما لنا من صبر فنسلو عنكم
ومن شاء فليغضب سواكم فلا إذا إذا كنتم عن عبدكم قد رضيتم
فلله ذاك المشهد الأكرم الذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم
ويدنوا به الجبار جل جلاله يباهي بهم أملاكه فهو أكرم
يقول عبادي قد أتوني محبة وإني بهم برٌ أجود وأكرم
فأشهدكم أني غفرت ذنوبهم وأعطيتهم ما أملوه وأَنعَم(/6)
حاسبوا أنفسهم أشد المحاسبة ، وصاحوا بها بألسن المعاتبة ، وبارزوا إبليس بالمحاربة ، علموا أن عدوهم الأكبر هو إبليس ، تكبر أن يسجد لأبيهم آدم ، ثم كاد له فأخرجه من الجنة ، ثم أقسم ليحتنكن ذريته إلا قليلاً ،
لم يفرح إبليس منهم بمعصية ، فعجباً لهم من أقوام :
جن عليهم الليل فسهروا ، وطالعوا صحف الذنوب فانكسروا ، وطرقوا باب المحبوب واعتذروا ،
واستمع إلى قصة من أعجب القصص أوردها أبو نعيم في حلية الأولياء وأشار إليها ابن حجر في الإصابة وابن حبان في الثقات
وهي عن شاب من الصحابة
غلامٌ لم يتجاوز عمره ست عشرة سنة
ثعلبةُ بن عبد الرحمن ..
فما زالوا يترقبونه حتى نزل ..فإذا هو كأنه فرخ منتوف بالٍ من شدة البكاء ..
نزل منكسَ الرأس .. كسيرَ الفؤاد .. دامعَ العينين .. يجر خطاه على الأرض حزناً وذلاً ..
أيها الأخوة الكرام
هذه هي الجنة .. وهؤلاء هم المشتاقون إليها
الذين راغموا الشيطان .. وتقربوا إلى الرحمن ..
المشتاقون إلى الجنة الذين أخلصوا لله تعالى توحيدهم فلم يدعوا غير الله ، ولم يتوجهوا إلى قبر في طلب حاجة ولم يحلفوا بغير الله تعالى ، ولم يتدنسوا بسحر ولا شعوذة ..بل حرصوا على أن تصفو عقائدهم من شوائب الشرك حتى يلقوا ربهم وهو راض عنهم ..
كيف يكون مشتاقاً إلى الجنة ..ويرجو دخولها من يتمسح بالقبور لطلب البركات ؟ أو يذبح عند هذه القبور تقرباً إلى أهلها ؟ أو يعتقد أن من الأولياء والصالحين من يملك له ضراً أو نفعاً فيتبرك به ويعظمه طلباً لهذا النفع أو دفعاً لذلك الضر ؟
المشتاقون إلى الجنة الذين حفظوا نساءهم ، وأحسنوا تربية أولادهم فعلموهم الصلاة وحفظوهم القرآن ، وأخلصوا في عبادة ربهم ..
المشتاقون إلى الجنة الذين عزموا على الرجوع إليها إذ هي منازلهم الأولى قبل أن يكيد لهم إبليس مكائده ..
فإن تكن اشتقت إلى الجنة فهي قريبة ..
فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وحي على السوق الذي فيه يلتقي المحـ ـبون ذاك السوق للقوم يعلم
وحي على روضاتها وخيامها وحي على عيش بها ليس يسأم
وحي على يوم المزيد الذي به زيارة رب العرش فاليوم موسم
فلله برد العيش بين خيامها وروضاتها والثغر في الروض يبسم
ولله واديها الذي هو موعد المز يد لوفد الحب لو كنت منهم
بذيالك الوادي يهيم صبابةً محب يرى أن الصبابة مغنم
ولله أفراح المحبين عندما يخاطبهم من فوقهم ويسلم
ولله أبصارٌ ترى الله جهرة فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم
فيا ساهياً في غفلة الجهل والهوى صريع الأماني عن قريب سيندم
أفق قد دنى الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم
وهيئ جواباً عندما تسمع الندا من الله يوم العرض ماذا أجبتموا ؟
به رسلي لما أتوكم فمن يكن أجاب سواهم سوف يخزى ويندم
وخذ من تقى الرحمن أعظم جنة ليوم به تبدوا عياناً جهنم
وينصب ذاك الجسر من فوق متنها فهاوٍ ومخدوشٌ وناج مسلّم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك على فيه المهيمن يختم
فيا ليت شعري كيف حالك عندما تطاير كتب العالمين وتقسم
أتأخذ باليمنى كتابك أم تكن بالأخرى وراء الظهر منك تسلم
وتقرأ فيه كل ما قد عملته فيشرق منك الوجه أو هو يظلم
فبادر إذا ما دام في العمر فسحة وعدلك مقبول وصرفك قيم
فهن المنايا أي واد نزلنه عليها القدوم أو عليك ستقدم
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار ، وأسكنا معهم في دار القرار ، ولا تجعلنا من المخالفين الفجار ، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ، يا من لم يزل ينعم ويجود ، برحمتك …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتبه :
محمد بن عبد الرحمن العريفي
15/11/1420هـ(/7)
المشتاقون لدخول الجنة
حسام الخوالدة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد:
فقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فاقرءوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } السجدة:17. رواه البخاري ومسلم وغيرهم.(/1)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده وجعلها مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص. فإن سألت: عن أرضها وتربتها، فهي المسك والزعفران. وإن سألت: عن سقفها، فهو عرش الرحمن. وإن سألت: عن ملاطها، فهو المسك الأذفر. وإن سألت: عن حصبائها، فهو اللؤلؤ والجوهر. وإن سألت: عن بنائها، فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، لا من الحطب والخشب. وإن سألت: عن أشجارها، فما فيها شجرة إلا وساقها من ذهب. وإن سألت: عن ثمرها، فأمثال القلال، ألين من الزبد وأحلى من العسل. وإن سألت: عن ورقها، فأحسن ما يكون من رقائق الحلل. وإن سألت: عن أنهارها، فأنهارها من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى. وإن سألت: عن طعامهم، ففاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون. وإن سألت: عن شرابهم، فالتسنيم والزنجبيل والكافور. وإن سألت: عن آنيتهم، فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير. وإن سألت: عن سعت أبوابها، فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام، وليأتينّ عليه يوم وهو كظيظ من الزحام. وإن سألت: عن تصفيق الرياح لأشجارها، فإنها تستفز بالطرب من يسمعها. وإن سألت: عن ظلها ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مئة عام لا يقطعها. وإن سألت: عن خيامها وقبابها، فالخيمة من درة مجوفة طولها ستون ميلاً من تلك الخيام. وإن سألت: عن علاليها وجواسقها فهي غرف من فوقها غرف مبنية، تجري من تحتها الأنهار. وإن سألت: عن ارتفاعها، فانظر إلى الكوكب الطالع، أو الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار. وإن سألت: عن لباس أهلها، فهو الحرير والذهب. وإن سألت: عن فرشها، فبطائنها من استبرق مفروشة في أعلى الرتب. وإن سألت: عن أرائكها، فهي الأسرة عليها البشخانات، وهي الحجال مزررة بأزرار الذهب، فما لها من فروج ولا خلال. وإن سألت: عن أسنانهم، فأبناء ثلاثة وثلاثين، على صورة آدم عليه السلام، أبي البشر. وإن سألت: عن وجوه أهلها وحسنهم، فعلى صورة القمر. وإن سألت: عن سماعهم، فغناء أزواجهم من الحور العين، وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنبيين، وأعلى منهما سماع خطاب رب العالمين. وإن سألت: عن مطاياهم التي يتزاورون عليها، فنجائب أنشأها الله مما شاء، تسير بهم حيث شاؤوا من الجنان. وإن سألت: عن حليهم وشارتهم، فأساور الذهب واللؤلؤ على الرؤوس ملابس التيجان. وإن سألت: عن غلمانهم، فولدان مخلدون، كأنهم لؤلؤ مكنون. وإن سألت: وإن سألت عن عرائسهم وأزواجهم، فهن الكواعب الأتراب، اللائي جرى في أعضائهن ماء الشباب، فللورد والتفاح ما لبسته الخدود، وللرمان ما تضمنته النهود، وللؤلؤ المنظوم ما حوته الثغور، وللدقة واللطافة ما دارت عليه الخصور. تجري الشمس في محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا تبسمت، وإذا قابلت حبها فقل ما شئت في تقابل النيرين، وإذا حادثته فما ظنك في محادثة الحبيبين، وإن ضمها إليه فما ظنك بتعانق الغصنين، يرى وجهه في صحن خدها، كما يرى في المرآة التي جلاها صيقلها (الصيقل: جلاء السيوف، والمقصود هنا تشبيه وجه الحوراء بالمرآة التي جلاها ولمعها منظفها حتى بدت أنظف وأجلى ما يكون)، ويرى مخ ساقها من وراء اللحم، ولا يستره جلدها ولا عظمها ولا حللها. لو أطلت على الدنيا لملأت ما بين الأرض والسماء ريحاً، ولاستنطقت أفواه الخلائق تهليلا وتكبيراً و تسبيحاً، ولتزخرف لها ما بين الخافقين، ولأغمضت عن غيرها كل عين، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن كل من رآها على وجه الأرض بالله الحي القيوم، ونصيفها (الخمار) على رأسها خير من الدنيا وما فيها. ووصاله أشهى إليها من جميع أمانيها، لا تزداد على تطاول الأحقاب إلا حسناً وجمالاً، ولا يزداد على طول المدى إلا محبةً ووصالاً، مبرأة من الحبل (الحمل) والولادة والحيض والنفاس، مطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس. لا يفنى شبابها ولا تبلى ثيابها، ولا يخلق ثوب جمالها، ولا يمل طيب وصالها، قد قصرت طرفها على زوجها، فلا تطمح لأحد سواه، وقصرت طرفه عليها فهي غاية أمنيته وهواه، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته فهو معها في غاية الأماني والأمان. هذا ولم يطمثها قبله أنس ولا جان، كلما نظر إليها ملأت قلبه سروراً، وكلما حدثته ملأت أذنه لؤلؤاً منظوماً ومنثوراً، وإذا برزت ملأت القصر والغرفة نوراً. وإن سألت: عن السن، فأتراب في أعدل سن الشباب. وإن سألت: عن الحسن، فهل رأيت الشمس والقمر. وإن سألت: عن الحدق (سواد العيون) فأحسن سواد، في أصفى بياض، في أحسن حور (أي: شدة بياض العين مع قوة سوادها). وإن سألت: عن القدود، فهل رأيت أحسن الأغصان. وإن سألت: عن النهود، فهن الكواعب، نهودهن كألطف الرمان. وإن(/2)
سألت: عن اللون، فكأنه الياقوت والمرجان. وإن سألت: عن حسن الخلق، فهن الخيرات الحسان، اللاتي جمع لهن بين الحسن والإحسان، فأعطين جمال الباطن والظاهر، فهن أفراح النفوس وقرة النواظر. وإن سألت: عن حسن العشرة، ولذة ما هنالك: فهن العروب المتحببات إلى الأزواج، بلطافة التبعل، التي تمتزج بالزوج أي امتزاج. فما ظنك بإمرأة إذا ضحكت بوجه زوجها أضاءة الجنة من ضحكها، وإذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت هذه الشمس متنقل في بروج فلكها، وإذا حاضرت زوجها فياحسن تلك المحاضرة، وإن خاصرته فيا لذة تلك المعانقة والمخاصرة:
وحديثها السحر الحلال لو أنه *** لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملي وإن هي أوجزت *** ود المحدث أنها لم توجز
إن غنت فيا لذت الأبصار والأسماع، وإن آنست وأنفعت فياحبذا تلك المؤانسة والإمتاع، وإن قبلت فلا شيء أشها إليه من ذلك التقبيل، وإن نولت فلا ألذ وى ألذ ولا أطيب من ذلك التنويل. هذا، وإن سألت: عن يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزه عن التمثيل والتشبيه، كما ترى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر، كما تواتر النقل فيه عن الصادق المصدوق، وذلك موجود في الصحاح، والسنن المسانيد، ومن رواية جرير، وصهيب، وأنس، وأبي هريرة، وأبي موسى، وأبي سعيد، فاستمع يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنة إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيى على زيارته، فيقولون سمعاً وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعداّ، وجمعوا هناك، فلم يغادر الداعي منهم أحداً، أمر الرب سبحانه وتعالى بكرسيه فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم - وحاشاهم أن يكون بينهم دنيء - على كثبان المسك، ما يرون أصحاب الكراسي فوقهم العطايا، حتى إذا استقرت بهم مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي: يا أهل الجنة سلام عليكم. فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام. فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة فيكون أول ما يسمعون من تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني، فهذا يوم المزيد. فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا، فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد، فسلوني فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه. فيكشف الرب جل جلاله الحجب، ويتجلى لهم فيغشاهم من نوره ما لو لا أن الله سبحانه وتعالى قضى ألا يحترقوا لاحترقوا. ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه تعالى محاضرة، حتى إنه يقول: يا فلان، أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه. فيا لذت الأسماع بتلك المحاضرة. ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة. ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ( ) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( ) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } القيامة:22-25.
فحيى على جنات عدن فإنها ** * منزلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ** * نعود إلى أوطاننا ونسلم
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى: (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح): ص:355-360.(/3)
المشتغلون بالذكر
21
الدعاء والذكر
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
ميزان الرفعة والتكريم الحقيقي بين الأمم – مفهوم الذكر ومعناه الشامل – منزلة الذاكرين وفضلهم , وسر مباهاة الله ملائكته بأهل عرفة – كيف يقضي المسلم يومه – سر اقتران تضييع الصلوات باتباع الشهوات – عاقبة الغفلة عن الله وعن ذكره
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وعظموا أمره، واجتنبوا زواجره.
أيها المسلمون، يقول الله عز وجل: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:200-202].
لكل أمة من الأمم ما تفاخر به في مفاهيم ضيقة، وأهداف محددة، وهمم قاصرة فلا رسالة كبرى ولا غايات عليا، لم يكن لهم رسالة في الأرض ولا ذكر في السماء.
وأمة العرب كانت من هذا القبيل، يجتمعون بعد حجهم في أسواقهم ومنتدياتهم؛ ليفاخروا بآبائهم، ويتعاظموا بأنسابهم.
جاء الإسلام فرفع الهمم، وأنار الفكر، وأنشأهم إنشاءً جديداً. سلك بأتباعه مسلك عز لا يطاول، وقادهم إلى مجد لا يضاهى، جاءهم الكتاب، وتنزل عليهم الوحي؛ فكان لهم الذكر والخلود: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف:44]. في هذا الذكر، وهذا الكتاب أعطاهم الميزان: يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]. فميزان الرفعة والتكريم، ومقياس المفاخرة والذكر، التقوى والصلة بالله، والتلبس بذكره وشكره، والعمل الصالح.
إذا كان الأمر كذلك، فمن أحق بالذكر والشكر من أهل الإسلام، الذين أتم الله عليهم نعمته وأكمل لهم دينه، وجعله مهيمناً على الدين كله؟! فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
وحقنا ـ نحن أهل الإسلام ـ أن نقف مع مفهوم الذكر، لنتبين معناه؛ لعلنا أن نقوم بحقه فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ [البقرة:200].
الذكر هنا ـ أيها الأحبة ـ ذو دائرة واسعة، لا تُحدُّ مجالاتها، في ميادين عريضة من القول والعمل، والفكر والاعتقاد. الذكر ليس ساعة مناجاة محدودة في الصباح أو المساء، في المسجد أو في المحراب، لينطلق العبد بعدها في أرجاء الأرض يعبث كما يشاء ويفعل ما يريد. الذاكر الحي والمتدين الحق يرقب ربه في كل حال، وحيثما كان، وينضبط مسلكه ونشاطه بأوامر ربه ونواهيه، يشعر بضعفه البشري، فيستعين بربه في كل ما يعتريه أو يهمه.
وفي هذا يقول سعيد بن جبير ـ رحمه الله ـ: كل عامل لله بطاعة فهو ذاكر لله تعالى.
ويقول عطاء: مجالس الذكر: الصلاة والصيام والحج، ومجالس الحلال والحرام: البيع والشراء، والنكاح والطلاق.
المسلم الذاكر يصحو وينام، ويقوم ويقعد، ويغدو ويروح، وفي أعماقه إحساس بأن دقات قلبه، وتقلبات بصره وحركات جوارحه كلها في قبضة الله وتحت قدرته، في أعماقه إحساس وإيمان بأن إدبار الليل وإقبال النهار، وتنفس الصبح وغسق الليل، وحركات الأكوان، وجريان الأفلاك .. كل ذلك بقدرة الله وأقداره الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:191].
لا يهنأ بالعيش، ولا يتذوق السعادة إلا امرؤ أحب الله، وأحب في الله، وأحب لله، واطمأن بذكره، وهش لمصالح خلقه، وتألم لآلامهم، وأعان على تحقيق آمالهم، لسانه الذاكر يقول: ((اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر))[1].
أيها الإخوة المسلمون، ملائكة الرحمن يسبحون الله لا يفترون، ولكن البشر يأكلون وينامون، ويعملون ويفترون، غير أنهم يضاهئون الملائكة. حين يقومون إلى عباداتهم ومعاشهم.. حين يزرعون ويحصدون ويكافحون ويكدحون، باسم الله ومن الله وإلى الله. أوقات البشر التي يصرفونها تعادل أوقات الملائكة في التسبيح والتحميد والتمجيد، إذا هم آمنوا بربهم، وساروا على نهجه، ولحظوا قدرته، وتفكروا في آلائه، واعترفوا بفضله في الإطعام، والكساء، والصحة، والإيواء، والأمن، والأمان.
الذاكرون المخبتون يعيشون لربهم مصلين، حامدين، مجاهدين، عاملين.(/1)
قطعوا إغراءات العاجلة، وجواذب الإخلاد إلى الأرض، وساروا في الطريق إلى مراضي الله، يبتغون وجهه، ويذكرون اسم الله في جميع أحيانهم وشؤونهم قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
ويرقى الحال بهم إلى أن يباهي بهم ربهم ملائكته، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث معاوية رضي الله عنه قال: إن رسول الله خرج على حلقة من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟)) قالوا: ما أجلسنا إلا ذاك. قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنَّه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عزَّ وجلَّ يباهي بكم الملائكة))[2].
وقد علمتم ـ أيها الإخوة ـ بمباهاة الله ملائكته بالحجاج في موقف عرفة، وما ذلك إلا لما يعيشه أهل الموقف من ذكر، ودعاء، وتعبد، وحسن توجه لله رب العالمين.
المسلم الذاكر صاحب قلب سليم مستسلم لله، وهو في جانب آخر صاحب كدح شريف، قدماه مغبرتان، ويداه كالَّتان في ميدان العمل من غير جزع أو هوان، ومن غير ذلة ولا استكبار مبتهل إلى ربه: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات))[3]، وفي رواية للبخاري: ((وضَلَع الدين وقهر الرجال)) واللفظ لمسلم من حديث أنس[4].
أيها الإخوة، وهذه إلمامة تطبيقية لمسيرة يوم مع المسلم الذاكر لربه، المستمسك بالصحيح المأثور عن نبيه محمد .
اليوم الإسلامي يبدأ مع بزوغ الفجر أو قبيل ذلك، ليمتد النهار سبحاً طويلاً، متقلباً في الغدو والآصال، والعشي والإبكار، يستيقظ المسلم مع طلائع الصبح المتنفس مستفتحاً بهذا الذكر ((الحمد لله الذي عافاني في جسدي، وردَّ علي روحي، وأذن لي بذكره))[5]، من حديث أبي هريرة. ((أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين))[6].
وفي أثناء ذلك ـ أيها الإخوة ـ يخترق حجاب الصمت، ويشقه صوت جهير جميل واضح الكلمات، ظاهر المعاني والمقاصد إنه صوت المؤذن ينادي بالتوحيد والفلاح في كلمات كلها ذكر ينادي بها بصوته الندي، ويرددها المسلمون من بعده.
اليوم الإسلامي يبدأ بخطوات السكينة والوقار إلى المسجد مع غبش الصبح؛ ليقف المسلم متبتلاً خاشعاً بين يدي ربه خلال اليوم خمس مرات وَأَقِمِ الصلاةَ لِذِكْرِى [طه:14]. وَأَقِمِ الصلاةَ إِنَّ الصلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].
هذا المسلم الخاشع يقول عند خروجه إلى الصلاة: ((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وعظِّم لي نوراً)) واللفظ لمسلم[7].
وإذا ازدلفت قدماه إلى المسجد لهج بذكر آخر، فقد قال رسول الله : ((إذا دخل أحدكم المسجد؛ فليسلم على النبي ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك))[8]، وعن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي أنه كان إذا دخل المسجد قال: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)). قال: أَقَطّ؟ُ[9] قلت: نعم. قال: ((فإذا قال ذلك، قال الشيطان: حُفظ مني سائر اليوم))[10].
أخي المسلم، إذا تأملت كل ذلك أدركت السر في الاقتران بين تضييع الصلوات واتباع الشهوات.
أيها المسلمون، هذا اليوم الإسلامي يتخلله في سبحه الطويل أذكار للطعام والشراب، والسفر والإياب، والنوم والاستيقاظ، والمتاعب والمصاعب، والصحة والسقم، أذكار للدنيا وهمومها، والديون ومغارمها، في طلب المعاش، ومقاربة الأهل، وصلاح الذرية أذكار وتسبيحات ودعوات وابتهالات، مقرونة بتعاطي الأسباب، والكدح المشروع في هذه الدنيا؛ ليقوم المسلم بمهمة الاستخلاف على وجهها، إيمان وعمل، وعقيدة ومنهج، وانطلاق خاشع رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ امَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ [الرعد:28،29].(/2)
[1] إسناده ضعيف، أخرجه أبو داود: كتاب الأدب – باب ما يقول إذا أصبح، حديث (5073)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة – باب ثواب من قال حين يصبح وحين يمسي... حديث (9835)، وابن حبان: كتاب الرقائق -– باب الأذكار - ذكر الشيء الذي إذا قال المرء عند الصباح... حديث (861). وفي إسناده: عبد الله بن عنبسة لم يوثقه سوى ابن حبان (الثقات 5/53)، وقال فيه الذهبي: لا يكاد يُعرف. ميزان الاعتدال (2/469).
[2] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء ... جاب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن ... حديث (2701).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب ما يتعوذ من الجبن، حديث (2823)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء... باب التعوذ من العجز... حديث (2706).
[4] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب من غزا بصبي للخدمة، حديث (2893)، ولفظه: ((... وغلبة الرجال)).
[5] حسن، أخرجه الترمذي: كتاب الدعوات – باب حدثنا ابن أبي عمر... حديث (3401)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة – باب ما يقول إذا انتبه من منامه، حديث (10702)، وفي عمل اليوم والليلة (1/496). وحسنه أيضاً السيوطي في الجامع الصغير (437) والألباني في صحيح سنن الترمذي (2707) والكلم الطيب (34).
[6] صحيح، أخرجه أحمد (3/406)، والدارمي: كتاب الاستئذان- باب ما يقول إذا أصبح، حديث (2688)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة – باب ذكر ما كان النبي يقول إذا أصبح، حديث (9829). قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح (10/116). وصححه الألباني في تعليقه على العقيدة الطحاوية (ص97)، حاشية (32).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، حديث (763).
[8] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب ما يقول إذا دخل المسجد، حديث (713) دون ذكر التسليم على النبي ، وأخرجه تاماً أبو داود: كتاب الصلاة – باب فيما يقول الرجل عند دخوله المسجد، حديث (465)، وابن ماجه: كتاب المساجد والجماعات – باب الدعاء عند دخول المسجد، حديث (772).
[9] أقطّ: الهمزة للاستفهام... أي انتهى الحديث الذي بلغك عني (قلت: نعم) هذا الذي بلغني عنك . انظر بذل المجهود في حل أبي داود (3/308).
[10] حسن، أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة – باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد، حديث (466)، ورمز له السيوطي بالحسن، الجامع الصغير (6669)، ووافقه المناوي فيض القدير (5/129)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (441).
الخطبة الثانية
الحمد لله حق حمده، والشكر له حق شكره. أحمد وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره. وأسأله العون على حسن عبادته وذكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله قام بحق ربه في سره وجهره، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى آخر دهره.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله، الذين جهلوا ربهم، ونسوا الذكر، وما كانوا إلا قوماً بوراً، يتصرفون بغير هدى، ويتقلبون في هذه الأرض بدوافع الهوى، يمكرون مكراً كُبَّاراً، ولا يرجون لله وقاراً ماذا جنَوا؟ وماذا كسبوا؟ انظروا إلى من أجهدوا أنفسهم من أذكياء الشرق ودهاة الغرب، استخرجوا من كنوز الأرض ما استخرجوا ظاهراً وباطناً، وعلموا من علوم الفضاء ما علموا، ولكن صرفت نتائج كل ذلك في أسلحة الدمار الشامل، أُورثوا خوفاً ورعباً في المستقبل ومن المستقبل. وأمم الأرض تلهث من ورائهم؛ تبتغي الضروري من لقمة العيش المضنية ذلكم هو شؤم الغفلة عن الله، ذلكم هو عاقبة نسيان الذكر مهما كان لصاحبه من الذكاء والعلم والدهاء، ومهما اكتسبوا وتدثروا بقشور من مظاهر الحضارة، وتقنيات المادة. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى [طه:124].
كيف يكون الحال ـ أيها الإخوة ـ لو أن هذا الجهد المضني، والكد الكادح المبذول في تحصيل الأقوات وتأمين المعاش ماذا لو صاحبَه أدب مع الله، وحسن قصد في ابتغاء مراضيه، واقترن بحب الخير للناس؟ لو كان كذلك؛ لكسب صاحبه سعادة الدنيا، وفلاح الآخرة، وفي الحديث: ((من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة))[1].(/3)
فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ وقوموا بحق الله وذكره، وأمِّنوا على هذا الدعاء: اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً، اللهم بارك لنا فيما قدِّر لنا حتى لا نحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت، ونسألك اللهم القصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين.
[1] صحيح، أخرجه الترمذي: كتاب صفة القيامة ... باب حدثنا هناد .. حديث (2465)، وابن ماجه: كتاب الزهد – باب الهم بالدنيا، حديث (4105)، والدارمي: المقدمة – باب في فضل العلم والعالم، حديث (331) بمعناه. قال البوصيري في الزوائد : هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. (4/212). وقال المنذري: رواه ابن ماجه ورواته ثقات. الترغيب (4/56). وصححه الألباني. السلسلة الصحيحة (949، 950).(/4)
المصيبة العظمى.. بموت الرسول صلى الله عليه وسلم
شريف رمضان السكندري
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً.
أما بعد....
أحبائي الكرام/
في هذا المقال نتحدث عن أشد مصيبة ابتليت بها هذه الأمة... لنأخذ منها الفوائد والدروس والعبر،
ونسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
(المصيبة العظمى)
فو الله إني لمتحير كيف أدخل إلى هذا الموضوع، ومن أنا أمام هذا الموضوع المدهش المحير المبكي؟! إنه موضوع وفاته عليه الصلاة والسلام، إنه موضوع انتقاله إلى الرفيق الأعلى عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكن لا جدوى إلا بحديث يذكرنا بذاك الحدث الجلل، وكل حدث بعد وفاته هين سهل بسيط يسير.
وقد اخترت هذا الموضوع تحديدًا لشدته على المسلم الحق، ومن ثم يهون كل شيء وتسهل كل مصيبة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
ورحم الله امرأة قالوا لها بأن زوجها وابنها وأخوها قد قتلوا فلم تأبه لذلك وبادرت قائلة: ماذا صنع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا: هو بخير. فقالت: لا حتى أراه. فلما رأته قالت: كل المصائب بعدك جلل يا رسول الله. (جلل: تعني هينة أو يسيرة)
ولكن الموت نهاية كل حي، فقد انفرد سبحانه وتعالى بالبقاء وكتب على جميع المخلوقات الفناء فقال الله عز وجل:(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن:26] وقال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). [آل عمران:185]
ولم يستثن أحدًا حتى أكرم الخلق –صلى الله عليه وسلم- فقد قال الله عز وجل: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر:30] ويقول جل ذكره: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
فليبن أهل البغي والعدوان بروجاً من التحسين إن شاءوا، فو الله ليموتن ولو كانوا في بروج مشيدة، والموت وما أدراك ما الموت؟!
إنه مصيبة كما سماه ربنا تبارك وتعالى: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة:106].
ولكن ليست كل المصائب كفقده صلى الله عليه وسلم.
(طلائع التوديع)
ولما تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلى الله عليه وسلم، وتتضح بعباراته وأفعاله .
إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوماً، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب، وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع : ( إني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً ) ، وقال وهو عند جمرة العقبة : ( خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا ) ، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع وأنه نعيت إليه نفسه .
وفي أوائل صفر سنة 11 هـ خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلي على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال : ( إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها ) .
وخرج ليلة ـ في منتصفها ـ إلى البَقِيع، فاستغفر لهم، وقال : ( السلام عليكم يا أهل المقابر، لِيَهْنَ لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، والآخرة شر من الأولي ) ، وبشرهم قائلاً : ( إنا بكم للاحقون ) .
(مرض النبي صلى الله عليه و سلم)
ويوم الخميس، وما أدراك ما يوم الخميس؟!
يوم زار المرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر هذا اليوم شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: بأبي هو وأمي زاره المرض يوم الخميس. نعم، بأبي هو وأمي، وليت ما أصابه أصابنا، فإن مصابه رزية على كل مسلم، ولكن رفعاً لدرجاته وتعظيماً له عند مولاه.
ذكر ابن كثير بسند جيد قال: كان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يقلب الحصى في المسجد الحرام ويقول: [يوم الخميس، وما يوم الخميس -وهو يبكي- يوم زار المرض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم].
فديناك من حب وإن زادنا كرباً فإنك كنت الشمس في الشرق أو غربًا(/1)
وكان الصحابة يفدونه صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد وعاد وهو معصوب الرأس، فتقول عائشة - وقد فجعت رضي الله عنها وأرضاها-: {وارأساه!{ فقال صلى الله وسلم: (بل أنا وا رأساه) وصدق صلى الله عليه وسلم، فإن صداع الموت قد وصل إلى رأسه الشريف.
انظروا عباد الله هذا حال نبينا عليه الصلاة والسلام عند مرض موته، وهو أكرم خلق الله على الله، فما بالنا نحن، وفينا ما فينا، الله المستعان.
ثم لما أحس صلى الله عليه وسلم بدنو الأجل كما عند البخاري في الجنائز من حديث عقبة بن عامر قال: {خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما وصل الشهداء في أحد، فسلَّم عليهم سلام المودع، ثم قال: (يا أيها الناس: والله ما أخاف عليكم الفقر، ولكن أخاف أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)}
وصدق عليه الصلاة والسلام، فو الله ما قطعت أعناقنا إلا الدنيا، وما أفسد ديننا إلا الدنيا، وما ذهب بأخلاقنا وآدابنا إلا الدنيا...
و عند أحمد في المسند بسند حسن عن أبي مويهبة قال: قال لي صلى الله عليه وسلم في الليل الدامس: (يا أبا مويهبة! أسرج لي دابتي)، فأسرجت له دابته عليه الصلاة والسلام، فركبها فذهبت معه حتى أتى الشهداء في أحد، فسلَّم عليهم سلام المودع، وقال: (أنا شهيد عليكم أنكم عند الله شهداء)، ثم قال: (يا أبا مويهبة! خيرت بين البقاء وأعطى مفاتيح خزائن الدنيا وبين لقاء الرفيق الأعلى)، قال: أبو مويهبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله! خذ مفاتيح الدنيا، وأطل عمرك في الدنيا ما استطعت، ثم اختر الرفيق الأعلى، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)}.
انظروا إليه عليه الصلاة والسلام وهو في مرض موته يعلم أمته الدروس الوجيزة المفيدة، وخلاصة تلك الحياة العامرة في الدعوة لدين الله تبارك وتعالى والتي يصل بها العبد إلى أعلى المراتب الإيمانية ومن هذه الدروس:-
1-عدم الركون إلى الدنيا والتنافس عليها لأنها أهلكت من قبلنا.
2-أن من يحب الله جل وعز يكون دائما في اشتياق إلى لقائه، و(من أحب لقاء الله أحب الله لقائه).
3-المؤمن لا يفتر أبدًا عن حمل هم الدعوة حتى ولو كان على في مرض الموت.
(على فراش الموت)
ووقع صلى الله عليه وسلم على فراش الموت، وعصب رأسه، وأخذت الحمى تنفضه عليه الصلاة والسلام، فكما جاء عند الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا حزن ولا مرض، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه).
ويقول عليه الصلاة والسلام كما في كتاب الطب والمرض للبخاري: (إن المؤمن كالخامة من الزرع، لا تزال الريح تفيئها يمنة ويسرة، وأما المنافق كالأرزة، لا تزال قائمة منتصبة حتى يكون انجعافها مرة واحدة).
المؤمن يحم، المؤمن يصاب ويمرض ويجوع، لكن المنافق يسمن ويترك حتى تأتيه قاصمة الظهر مرة واحدة.
ولا ذنوب له صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكن رفعت درجاته عليه الصلاة والسلام، جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:{دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك -أي: في مرض موته- فمسسته بيدي- بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- فقلت:يا رسول الله! إنك توعك وعكاً شديداً. قال: نعم. إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذلك بأن لك الأجر مرتين يا رسول الله. قال: نعم. ثم قال: ما من مؤمن يصيبه هم أو غم أو حزن أو مرض إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها}.
فيا من ابتلاك الله بالمرض لا تيأس ولا تحزن واصبر واحتسب فإن هذا خير لك إذا صبرت واحتسبت ورضيت بقضاء الله تبارك وتعالي.
فقد قال عليه الصلاة والسلام (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له). رواه مسلم.
فلا تحزن عبد الله إذا أصابك مرض وانظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يتألم كما يتألم الرجلان وهو من هو، ورغم ذلك يبشرنا أيضًا وهو على فراش الموت فيقول:(ما من مؤمن يصيبه هم أو غم أو حزن أو مرض إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها)
الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر.
ما أجملها من بشرى..
(قبل الوفاة بخمسة أيام)
ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع وغمي، فقال : ( هريقوا علي سبع قِرَب من آبار شتي، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم ) ، فأقعدوه في مِخَضَبٍ، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول : ( حسبكم، حسبكم ) .(/2)
وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة حتى جلس على المنبر، وكان آخر مجلس جلسه، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال : ( أيها الناس، إلي ) ، فثابوا إليه، فقال ـ فيما قال : ( لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ـ وفي رواية : ( قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ـ وقال : ( لا تتخذوا قبري وثناً يعبد ) .
خرج بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام على الناس، يقول ابن عباس كما جاء من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة في الصحيحين: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، وهو عاصب على رأسه بعصابة دسمة، -وقيل: سوداء- وهو بين علي والعباس، على كتفيهما رضوان الله عليهما، وأقدامه من المرض تخط في الأرض، فأجلساه على المنبر، فلما رأى الناس قال: (يا أيها الناس: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. زاد البيهقي كما قال ابن كثير: يا أيها الناس: إني ملاقٍ ربي، وسوف أخبره بما أجبتموني به، يا أيها الناس: من سببته أو شتمته أو أخذت من ماله فليقتص مني الآن قبل ألا يكون درهماً ولا ديناراً، قال أنس: فنظرت إلى الناس وكل واضع رأسه بين رجليه من البكاء، ثم قال عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس: اللهم من سببته أو شتمته أو أخذت من ماله أو ضربته فاجعلها رحمة عندك} وعند أبي داود: {إني أخذت عند ربي عهداً أيما مسلم شتمته أو سببته أو ضربته، أن يجعلها كفارة له ورحمة} فاستبشر الناس بهذا، وأخذوا يقولون: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! وعاد إلى فراشه.
وعرض نفسه للقصاص قائلاً : ( من كنت جلدت له ظَهْرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عِرْضاً فهذا عرضي فليستقد منه ) .
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولي في الشحناء وغيرها . فقال رجل : إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال : ( أعطه يا فضل ) ، ثم أوصي بالأنصار قائلاً :
( أوصيكم بالأنصار، فإنهم كِرْشِي وعَيْبَتِي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من مُحْسِنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم ) ، وفي رواية أنه قال : ( إن الناس يكثرون، وتَقِلُّ الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم ) .
ثم قال : ( إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده ) . قال أبو سعيد الخدري : فبكي أبو بكر . قال : فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال الناس : انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول : فديناك بآبائنا وأمهاتنا . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من أمنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لا اتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر ) .
وانظر إلى حرصه عليه الصلاة والسلام من خلال تلك الوصايا الغالية التي أسداها لأصحابه الكرام وللأمة من بعدهم وأيضا سماحته، وإرساء دعائم العقيدة الإسلامية الصحيحة وهو يودع أمته عليه الصلاة والسلام.
(قبل الوفاة بأربعة أيام)
ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال ـ وقد اشتد به الوجع : ( هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ) ـ وفي البيت رجال فيهم عمر ـ فقال عمر : قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قوموا عني ) .
وأوصى ذلك اليوم بثلاث : أوصي بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصي بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيه الراوي . ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي : ( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) .
والنبي صلى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم ـ يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام ـ وقد صلي بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفاً .(/3)
وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد . قالت عائشة : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أصَلَّى الناس ؟ ) قلنا : لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك . قال : ( ضعوا لي ماء في المِخْضَب ) ، ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه . ثم أفاق، فقال : ( أصلى الناس ؟ ) ـ ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع في المرة الأولي من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء ـ فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلي أبو بكر تلك الأيام 17 صلاة في حياته صلى الله عليه وسلم، وهي صلاة العشاء من يوم الخميس، وصلاة الفجر من يوم الاثنين، وخمس عشرة صلاة فيما بينها .
وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات؛ ليصرف الإمامة عن أبي بكر حتى لا يتشاءم به الناس، فأبي وقال : ( إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس).
وفيه هذا أيضًا حرصه عليه الصلاة والسلام من خلال تلك الوصايا الغالية التي أسداها لأصحابه الكرام وللأمة من بعدهم وأيضا سماحته، وإرساء دعائم العقيدة الإسلامية الصحيحة وهو يودع أمته عليه الصلاة والسلام.
(ثلاثة أيام قبل الوفاة)
قبل ثلاثة أيام
قال جابر : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث وهو يقول : ( ألا لا يموت أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله ) .
ما أجملها من وصية وهي مصداق الحديث القدسي وفيه يقول الله تعالى (أنا عند ظن عبدي بي).
قبل يوم أو يومين
ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بألا يتأخر، قال : ( أجلساني إلى جنبه ) ، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع الناس التكبير .
قبل يوم
وقبل يوم من الوفاة ـ يوم الأحد ـ أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بستة أو سبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل أرسلت عائشة بمصباحها امرأة من النساء وقالت : أقطري لنا في مصباحنا من عُكَّتِك السمن، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير .
وفي هذا جواز المعاملة مع أهل الكتاب.
(آخر يوم من الحياة)
روي أنس بن مالك : أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين ـ وأبو بكر يصلي بهم ـ لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك - يا لقلبي ويا لشعري ما لهذا التبسم، وما لهذا التعجب! إنه -إن شاء الله- تبسم لأنه رأى الصفوف منتظمة، ورأى الدعوة حية، ورأى الرسالة منتصرة، ورأى لا إله إلا الله مرتفعة، ورأى أبا بكر يصلي بالناس، ورأى دعوة التوحيد قد ضربت بجرانها في الجزيرة، فحق له أن يتبسم-، فنكص أبو بكر على عقبيه؛ ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة . فقال أنس : وهَمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فَرَحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخي الستر .
ثم لم يأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى .
ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فسَارَّها بشيء فبكت، ثم دعاها، فسارها بشيء فضحكت، قالت عائشة : فسألنا عن ذلك ـ أي فيما بعد ـ فقالت : سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت .
وبشر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين .
ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه .
فقالت : وا كرب أباه . فقال لها : ( ليس على أبيك كرب بعد اليوم ) .
ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصي بهما خيراً، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن .
وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول : ( يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهَرِي من ذلك السم ) .
وقد طرح خَمِيصَة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك ـ وكان هذا آخر ما تكلم وأوصي به الناس : ( لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ـ يحذر ما صنعوا ـ لا يبقين دينان بأرض العرب ) .
وأوصى الناس فقال : ( الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم ) ، كرر ذلك مراراً .
فما أروعها من وصايا وما أبعد المسلمين عنها في أيامنا هذه.
(الاحتضار)(/4)
وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول : إن من نعم الله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سَحْرِي ونَحْرِي، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته .- ويا لسعادة الزوجة بزوجها! ويا لسعادة الحبيبة بحبيبها! ويا لفرحتها بمؤنسها وبرجلها في آخر عمره وهو يلصق رأسه بحجرها رضي الله عنها وأرضاها!- و دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ـ وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت : آخذه لك ؟ فأشار برأسه أن نعم . فتناولته فاشتد عليه، وقلت : ألينه لك ؟ فأشار برأسه أن نعم . فلينته، فأمره ـ وفي رواية أنه استن به كأحسن ما كان مستنا ـ -، ليلقى الله طيباً، فإن حياته طيبة، ووفاته طيبة (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي). [الفجر:27-30]. - وبين يديه رَكْوَة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح به وجهه، يقول : ( لا إله إلا الله، إن للموت سكرات . . . ) الحديث .
وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو أصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول : ( مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى . اللهم، الرفيق الأعلى ) .
كرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى . إنا لله وإنا إليه راجعون .
وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحى من يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ، وقد تم له صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام .
يوم توفاه الله إليه ليكرمه جزاء ما قدم للأمة، يوم قبضه الله، قال أنس: (ظننا أن القيامة قامت يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي مصيبة أكبر من مصيبة وفاته على الأمة؟! أي حدث وقع في تاريخ الإنسان يوم توفي خير إنسان وأفضل إنسان عليه الصلاة والسلام؟! ولكن نقول الآن وبعد الآن ويوم نلقى الرحمن: إنا لله وإنا إليه راجعون! (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). [البقرة:156-157].
(الفراق الأليم)
وتسرب النبأ الفادح، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها .
وبقي جثمانه الشريف في غرفة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ولكن ما هو حال الصحابة؟
فداً لك من يقصر عن فداك فلا ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
وقف الصحابة في موقف لا يعلمه إلا الله، وفي دهشة لا يعلمها إلا الحي القيوم، كلهم يكذب الخبر، ولا يصدق إلا من أتاه اليقين..
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وقفوا حول مسجده صلى الله عليه وسلم، وأغلق بابه الشريف على جثمانه، وبقيت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تبكي مع النساء، أما السكك فقد امتلأت بالبكاء والعويل والنحيب، وأما عمر رضي الله عنه وأرضاه فوقف عند المنبر يسل سيف الإخلاص والصدق الذي نصر به دين الله، ويقول: يا أيها الناس: من كان يظن أن رسول الله قد مات، ضربت عنقه بهذا السيف.
قال أنس : ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولما مات قالت فاطمة : يا أبتاه، أجاب ربا دعاه . يا أبتاه، مَنْ جنة الفردوس مأواه . يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه .
أورد صاحب مجمع الزوائد عن عثمان رضي الله عنه وأرضاه، أن عمر مر به فسلم عليه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليه السلام، فذهب عمر إلى أبي بكر فاشتكى عثمان وقال: سلمت عليه فلم يرد علي السلام، فاستدعاه أبو بكر، وقال: يا عثمان! سلَّم عليك أخوك عمر فلم ترد عليه السلام، فقال: يا خليفة رسول الله! والله ما علمت أنه سلَّم علي قال: لعلك داخلك ذهول أو دهش من وفاته صلى الله عليه وسلم قال: إي والله، فجلسوا يبكون].
وفي الصحيحين من حديث أنس قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنه وأرضاه: يا عمر! اذهب بنا إلى أم أيمن -هذا بعد وفاة رسول الله، وهي مولاة كانت مرضعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عجوز مسنة كان يزورها صلى الله عليه وسلم في حياته- قال: اذهب بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان صلى الله عليه وسلم يزورها.. يا للتواضع! يا للتمسك بالسنة! يا للحرص على الأثر! فذهبا رضوان الله عليهما، فلما وصلا إلى أم أيمن بكت، فقالا: ما يبكيك يا أم أيمن ؟(/5)
قالت: أبكي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: والله إني أعلم ذلك، ولكن أبكي على أن الوحي انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان رضوان الله عليهما.
(الثبات العظيم)
أما أبو بكر فكان غائباً في ضاحية من ضواحي المدينة في مزرعته، ما يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوفى في ذلك اليوم، بأبي هو وأمي! فسمع الخبر فأتى على فرسه، وقد ثبته الله يوم أن يثبت أهل طاعته، وقد سدده الله يوم أن يسدد أهل التوحيد.
فأتى بسكينة ووقار، كان رجل المواقف، ورجل الساعة، وكان اختياره صلى الله عليه وسلم موفقاً في إمامة أبي بكر، فأتى وإذا الناس لا يزدادون من البكاء إلا بكاء، ولا من العويل إلا عويلاً، ولا من النحيب إلا نحيباً، فقال: ماذا حدث؟ قالوا: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات رسول الله، أتدرون ماذا قال؟
قال: الله المستعان! الله المستعان نلقى بها الله، والله المستعان نعيش بها لله، والله المستعان نتقبل بها أقدار الله، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون!.
إنها كلمة الصابرين حين يصابون بصدمات في الحياة، إنها كلمة الأخيار حينما تحل بهم الكوارث من أقدار الله وقضاء الله.
ثم دخل وشق الصفوف في سكينة على فرس له، وبيده عصا، ويشق الصفوف بسكينة ووقار، حتى وصل إلى البيت ففتح الباب، ثم أتى إليه صلى الله عليه وسلم، فكشف الغطاء عن وجهه، ثم قبله وبكى ودمعت عيناه الشريفتان على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: [بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما أطيبك حياً وما أطيبك ميتاً، أما الموتة التي كتبت عليك فقد ذقتها، ولكن والله لا تموت بعدها أبداً، والله لا تموت بعدها أبداً، والله لا تموت بعدها أبدا ً].
ثم خرج رضي الله عنه وأرضاه إلى الناس وعصاه بيده، فأسكتهم، وقال لعمر: يا بن الخطاب! اسكت، فلما سكت الناس، وهم ينظرون إلى القائد الجديد الملهم، إلى هذا الإمام الموفق، إلى هذا الخليفة الراشد، وهو يتخطى الصفوف حتى صعد المنبر، فيستفتح خطابه بحمد الله والثناء على الله، فالمنة لله والحمد لله، والأمر لله من قبل ومن بعد، ثم يقول: [يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ). [آل عمران:144] ]] فكأن الناس سمعوها لأول مرة، وكأنها ما مرت على أذهانهم، ثم عاد رضي الله عنه وأرضاه.
فلله دره ما أثبته، فليكن قدوة لكل من أصابته مصيبة أيا كانت.
(التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض)
ويوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، قال علي رضي الله عنه: اختلفنا في كيفية تغسيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقي علينا النعاس، ونحن بالماء حوله صلى الله عليه وسلم، حتى نمنا وإن لحية أحدنا إلى صدره، فسمعنا هاتفاً يقول: {اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق ثيابه} وهذا سند صحيح، فغسلوه من فوق ثيابه، طيباً مباركاً مهدياً، عليه السلام يوم ولد، وعليه السلام يوم بعث، وعليه السلام يوم مات، وعليه السلام يوم يبعث حياً.
وكان القائمون بالغسل : العباس وعليّا، والفضل وقُثَم ابني العباس، وشُقْرَان مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسامة بن زيد، وأوس بن خَوْلي، فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلى يغسله، وأوس أسنده إلى صدره .
وقد غسل ثلاث غسلات بماء وسِدْر، وغسل من بئر يقال لها : الغَرْس لسعد بن خَيْثَمَة بقُبَاء وكان يشرب منها .
ثم كفنوه في ثلاثة أثواب يمانية بيض سَحُولِيَّة من كُرْسُف، ليس فيها قميص ولا عمامة . أدرجوه فيها إدراجًا .
واختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر : إني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض ) ، فرفع أبو طلحة فراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحداً .
ودخل الناس الحجرة أرسالاً، عشرة فعشرة، يصلون على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أفذاذاً، لا يؤمهم أحد، وصلي عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم الصبيان، ثم النساء، أو النساء ثم الصبيان .
ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملاً، ومعظم ليلة الأربعاء، قالت عائشة : ما علمنا بدفن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المسَاحِي من جوف الليل ـ وفي رواية : من آخر الليل ـ ليلة الأربعاء .
نعم.. دفن و وضع في قبره عليه الصلاة والسلام، ورد عليه التراب، ودفن كما يدفن الإنسان بعدما صلى عليه الناس زرافات ووحداناً.(/6)
ذكر الشوكاني في نيل الأوطار: أن من صلى عليه صلى الله عليه وسلم يبلغون سبعة وثلاثين ألفاً من الرجال والنساء، من المهاجرين والأنصار، ما كان لهم إمام يصلي بهم، بل صلى كل إنسان منهم على حدة، وكان في الصف الأول أبو بكر وعمر، حفظ من دعائهما رضي الله عنهما أنهما قالا: [صلى الله وسلم عليك يا رسول الله، نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حتى أتاك اليقين].
(التركة)
وهكذا كانت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مات وما خلَّف درهماً ولا ديناراً، ولا عقاراً ولا قصوراً ولا مناصب، وإنما ذهب كما أتى، ذهب سليم اليد، أبيض الوجه، طاهر السريرة، ولكن خلَّف ديناً خالداً وخلَّف رسالة، مات الداعية ولكن ما ماتت الدعوة، مات الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن ما ماتت الرسالة، مات البشير النذير، ولكن ما ماتت البشارة والنذارة، ترك لنا تراثاً أيما تراث، قرآناً حكيماً (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:42] وسنة طاهرة للمعصوم فيها صلاح العبد في الدنيا والآخرة.
وعادوا إلى تركته ولا تركة له.. فيا من جمع الأموال ولم يقدم ما ينفعه عند الواحد القهار! هذا خيرة خلق الله، وهذا صفوة عباد الله، ذهب والله ما تلوث منها بشيء، يمر عليه الشهر بعد الشهر ولا يوقد في بيته نار، ويمر عليه ثلاثة أيام وهو في جوعه صلى الله عليه وسلم، فالله المستعان..
كفاك عن كل قصر شاهق عمد بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم على شهي من الأكلات والأدم
صففت مائدة للروح مطعمها عذب من الوحي أو عذب من الكلم
ذهب عليه الصلاة والسلام وبقي بيته من طين، وبقيت بعض الدراهم ليست له، أنفقت في الصدقات وفي سبيل الله، وأتى أبو بكر فقال لقرابته ولبناته صلى الله عليه وسلم لما طلبوه الميراث، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنا لا نورث، ما تركناه صدقة"
وعند أحمد في المسند: "إنا لا نورث ما تركنا صدقة" فما ترك صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولكن ترك هذا الدين، اجتماعنا بهذه الوجوه الطيبة النيرة حسنة من حسنات، وهذه المساجد والمنابر حسنة من حسنات رسالته، وهذه الدعوة الخالدة والرسالة القائمة فضل من فضل الله ثم من فضله صلى الله عليه وسلم.
نعم. مضى إلى الله صلى الله عليه وسلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وحسبنا الله على كل ما يصيبنا!
فإنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يا أيها الناس: من أصيب بمصيبة فليتعز بي، فإني عزاء لكل مسلم} إي والله.
وهذا إخواني الأعزاء هو غاية هذا الجزء المبارك من هذه السلسلة
(أيها المبتلى... لست وحدك على الدرب)
وإذا أتتك من الأمور بلية فاذكر مصابك بالنبي محمد
إذا مات ابنك فاعلم أن ابنك لا يكون أحب في قلبك إن كنت مؤمناً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن مات أبوك أو أمك أو قريبك أو صفيك، فاعلم أنهم لا يعادلون ذرة في ميزان الحب مع حبه صلى الله عليه وسلم، تذكر أنه مات، وأنه صلى الله عليه وسلم عند ربه، يستشهده الله علينا هل بلغنا ما علينا؟ ويستشهده الله علينا هل سمعنا وأطعنا أم لا؟ (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء:41].
(دروس وعبر من قصة وفاة سيد البشر)
وهكذا عباد الله كانت قصة وفاة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقلنا بأننا ذكرناها في هذه السلسلة لغاية خاصة وهي كما ذكرنا من قبل.
إنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يا أيها الناس: من أصيب بمصيبة فليتعز بي، فإني عزاء لكل مسلم}.
ولكن قصة وفاته عليه الصلاة والسلام اشتملت على فوائد غزيرة جليلة نذكر منها:-
1- أن الموت نهاية كل حي، ولو كان أحد أولى بالبقاء لكان رسول الله عليه الصلاة والسلام.
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لأمته حيهم وميتهم حتى وهو في نهاية حياته.
3- أنه عليه الصلاة والسلام كان يخشى على أمته أن يركنوا إلى الدنيا لذلك حذرهم من ذلك.
4- أن من يحب الله جل وعز يكون دائما في اشتياق إلى لقائه، و (من أحب لقاء الله أحب الله لقائه)
5- المؤمن لا يفتر أبدًا عن حمل هم الدعوة حتى ولو كان على في مرض الموت.
6- مرض المؤمن خير له، وتكفير لخطاياه، ومضاعفة لأجره.
7- أن مرض النبي عليه الصلاة والسلام لرفع درجته عليه الصلاة والسلام.
8- شديد حب الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام. وحرصهم على الاستفادة والاستزادة من تعاليمه ووصاياه عليه الصلاة والسلام.
9- أنه عليه الصلاة والسلام لا يتوانى ولا يتكاسل عن أداء واجبه الدعوي، فإذا سمحت له الفرصة ليقوم قام ولا يركن إلى الفراش.(/7)
10- حرص النبي عليه الصلاة والسلام على ترسيخ العقيدة، وتنبيه على مخالفة اليهود والنصارى، وعدم اتخاذ القبور مساجد وتشديده على ذلك.
11- حرصه صلى الله عليه وسلم على رد الأمانات إلى أهلها، وأداء حقوق العباد قبل ألا يكون درهم ولا دينار.
12- وصيته عليه الصلاة والسلام بالأنصار خيرا، لما لهم من فضل في الإسلام.
13- فقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وشدة حبه للنبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك حب النبي صلى الله عليه وسلم له وبيانه لفضله.
14- وصيته عليه الصلاة والسلام بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، و إجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم.
15- وصيته عليه الصلاة والسلام بألا يموتن مسلم إلا وهو يحسن الظن برب العالمين.
16- جواز المعاملة مع أهل الكتاب والاقتراض منهم مقابل رهان.
17- فرح النبي عليه الصلاة والسلام لرؤيته لدعوته حية قائمة على أصولها.
18- حبه عليه الصلاة والسلام لابنته وإسراره لها بأنه سيموت في مرضه هذا، وتبشيرها بأنه أول من سيلحق به من أهله، وبيان فضلها من أنها سيدة نساء العالمين.
19- حب النبي صلى الله عليه وسلم لأمنا عائشة رضي الله عنها، وحبها له، وكذلك فرحها بأن الله توفاه في بيتها وفي يومها وبين سحرها ونحرها وأنه جمع بين ريقه وريقها.
20- حرصه عليه الصلاة والسلام على أن يستاك ليلقى الله طيباً، فإن حياته طيبة، ووفاته طيبة.
21- بيانه عليه الصلاة والسلام لأمته من أن للموت سكرات.
22- اختياره عليه الصلاة والسلام للرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
23- حب الصحابة رضوان الله عليهم ومعاناتهم الشديدة من فراقه عليه الصلاة والسلام.
24- ثبات الصديق في أحلك الظروف، وإيضاحه للحقائق التي غابت في خضم تلك المشاعر العظيمة.
25- أن النبي عليه الصلاة والسلام تم تغسيله من فوق ثيابه إكرام له عليه الصلاة والسلام.
26- أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدفنون مكان موتهم.
27- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك درهمًا ولا دينارًا، وما تركه فهو صدقة.
28- أن من أصيب بمصيبة أيا كانت وأيا كان حجمها فليتعزى بالنبي عليه الصلاة والسلام، فإنه عزاء لكل مسلم.
هذا ما وفقنا الله لاستخراجه من فوائد وعبر من قصة وفاة سيد البشر صلى الله عليه وسلم
وما كان من توفيق فمن الله وحده وما كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
والله أسأل أن ينفع بهذه السلسلة إنه على ما يشاء قادر.
ولا تنسونا من دعوة صالحة بظهر الغيب ليقول لك الملك إن شاء الله ولك بمثله(/8)
المطر
عبد الرحمن عبدالعزيز السديس
...
مكة المكرمة
21/8/1421
جامع الفرقان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نسبة النعم إلى الله المنعِم. 2- عبر من نزول المطر. 3- نزول المطر والخوف أو الطمع بما عند الله
الخطبة الأولى
عباد الله: إننا في هذه الأيام نتقلب في نعم الله وافرة، وخيرات عامرة، سماؤنا تمطر، وشجرنا يثمر، وأرضنا تخضر، فما لنا لا نشكر، وبحسن صنع ربنا بنا لا نعتبر.
إن في قصة المطر لعبراً. وآياتٍ ذكرها ربنا في كتابه فلنعتبر بها ولنتعظ ولنشكر ربنا، ولنعي قوله ولنمتثل أمره، ولنحذر زجره ولنصدق خبره، فما دلّنا إلا على خير، ولا أمرنا إلا بخير، ولا نهانا إلا على ضير، ولننسب الفضل له، فما مطرنا إلا بفضل الله ورحمته ولا نقول ما قال الأبعد حين سمع قول الله تعالى: قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين.
قال تأتي به الفؤوس والمعاول، بل نقول: لا يأتي به إلا الله، فهو القائل: وأسقيناكم ماءً فراتاً والقائل: فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأباً متاعاً لكم ولأنعامكم
فوالله لولا الله ما سقينا ولا تنعّمنا بما أوتينا أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجاً فولا تشكرون.
للهم لك الشكر على آلائك التي لا تعد ولا تحصى، اللهم لو شئت لجعلت ماءنا أجاجاً، ولكن رحمتك أدركتنا فجعلته عذباً زلالاً، فلك الشكر لا نحصي ثناءً عليك، فما بنا من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ إن الله عزيز غفور.
اللهم فارزقنا الخشية منك. اللهم اجعلنا من العلماء أهل الخشية منك. فمنك ماؤنا، ومنك طعامنا، فلك الشكر ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجُرُُُز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون.
إن في قصة المطر لعبراً وآيات ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات (تبشر بالخير بعدها) وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً فترى الودق (المطر) يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن إن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير.
نعم إن إحياء الله الأرض بعد موتها لدليل واضح على قدرته سبحانه على إحياء الموتى، فبينما الأرض جرداء قاحلة إذا بها تهتز خضراء رابية، فما يعرض عن هذا إلا أعمى البصيرة ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير، ونزلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج. أي كذلك خروجكم من قبوركم بعد موتكم. فالذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على بعثكم بعد موتكم ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب.
ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينزل من السماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهوراً لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسيّ كثيراً ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً، وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلّت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون.
نفعني الله وإياكم. .
الخطبة الثانية
عباد الله: كم نسعد ونفرح حين يكرمنا الله بالمطر، ولكن هل وقفنا معه وقفات تأمّل نعظ بها أنفسنا وأبناءنا ونساءنا وأهلينا وطلابنا وكل من له حق علينا؟
إن المؤمن المستبصر يتخذ من كل حركة وسكنة في الكون آية تدله على عظمة الله وقوته وفضله وكرمه.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد(/1)
فيا عجباً: هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً نعم نخاف البرق ولكننا نطمع فيما يعدنا من المطر والفضل العميم. وينشئ السحاب الثقال إنها كلمة نقرؤها فهل تدبرناها.
هذه السحب التي نراها كل يوماً كم طناً من الماء فيها. إن المتر المكعب يزن طناً، فكم فيها من الأطنان؟ من يحملها؟ ومن ينشئها؟
إننا لا نستطيع أن نتصور وزنها، غير إنها ثقال كما قال ربنا المتعال.
ويسبح الرعد بحمده نعم إن الرعد ليسبح بحمده، فهل تدبرنا هذا ولفتنا إليه أنظار أبنائنا؟
والملائكة من خيفته نعم إن الملائكة لتسبح خوفاً من الله يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال إنه شديد القوة سبحانه، ولولا شدة قوته لما استطاع ذلك كله، إنها قوة لا حدود لها فما يعجزه شيء سبحانه أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال.
نعم، إن الباطل مثل الزبد الذي يعلو السيل ويربو عليه، والزبد الذي يعلو المعادن حين تصهر لاستخرج الذهب والمعادن منها، فهو في اضمحلال وضلال. يذهب جفاءً.
أما الحق وهو الذي ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال. وهكذا يتخذ القرآن الأحداث الكونية دليلاً أيضاً على حقائق شرعية، ويضرب بها الأمثال ليعقل من يعقل فينجو ويسعد، ويهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيّ عن بينة.
اللهم بصرنا بديننا. .(/2)
المعاصي والذنوب
1222
الكبائر والمعاصي
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
ملخص الخطبة
1 – تقرير أن كل بني آدم خطاء 2 – الفرق بين معصية المؤمن ومعصية الفاجر 3 – اضرار الذنوب والمعاصي 4 – حال الكفار والعصاة 5 – كيف تحفظ نفسك من الذنوب والمعاصي
الخطبة الأولى
عباد الله: إن الكثير من الناس اليوم يَشْكون من ضيق في المَعيشة وقلق في النفس والسبب في ذلك بلا شك كثرة المعاصي والذنوب، فمَن مِنّا لا يُذنب؟ ومن منّا لا يعصي الله عزّ وجل؟ بل قال عليه الصلاة والسلام: ((لو لم تُذنِبوا لذهب الله بكم ولأتى بقوم يُذنبون فيستغفرون فيَغفِر الله لهم)) بل قال عليه الصلاة والسلام: ((كلّ بني آدم خطّاء، وخير الخطّاءين التّوابون)). بل حتى التّقي الورِع يقع في الذنوب والمعاصي، والله جلّ وعلا لما وصَف المؤمنين المُتّقين ذكَر أنّ مِن صفاتهم أنّهم يَقَعون في الفواحش أو ظُلم النّفس، واسمع يا عبد الله ويا أَمَة الله إلى المُتّقين إذا وقعوا في الذنوب والمعاصي ماذا يفعلون قال الله جلّ وعلا في صفتهم: والذين إذا فعَلوا فاحشة أو ظلَموا أنفسهم ذَكَروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفِر الذنوب إلا الله ولم يُصرّوا على ما فعلوا وهم يعلَمون . بل إن الفَرق بين المؤمن الذي يُذنب والفاجر الذي يَعصي قد بيّنه ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: " إن المؤمن يرى ذنبه كأَصل جبَلٍ يوشك أن يقع عليه، والمنافق الفاجر يرى ذنبه كذُباب وقَع على أنفه فقال بِيَده هكذا " أرأيتم إلى هذا الفَرق بينهما كلاهما يعصي الله عزّ وجل لكن المؤمن إذا عصى خاف ونَدِم ووجل قلبه واستغفر وعَمِل الصالحات لِيُكفِّر عن السيئات، أما الفاجر المنافق فيرتكب الذنوب والمعاصي ويفرح بذلك، ويتباهى ويُجاهِر بها، إذاً لا بد من الذنب، ولكن أخي المسلم، أُختي المسلمة لا بد أن تَحْفَظا نَفسيكما من الوقوع في هذه المعاصي، وقد تسألان كيف السبيل إلى حِفظ النفس من المعاصي؟ وقبل الجواب على ذلك اعلما أن للذنوب أضراراً ولتلك المعاصي سوءاً في الوجه وظُلْمَةً في القلب. واسمَعا إلى ربنا عزّ وجل كيف يَصِف أولئك الذين ابتعدوا عن شرعه وانتهكوا حُرُماته، ووقعوا في الذنوب وأسرَفوا فيها، انظروا كيف يصِف الله حياتهم ومعيشتهم في هذه الدنيا قال الله جلّ وعلا: ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً . تجِده في الصباح يستيقِظ على الأغاني ولا يَعرِف ذكر الله للسانه إذا ركِب سيّارة لا يَسمع إلا الأغاني، كُلّما رأى الفتيات تَلفّت يَمْنة ويَسرة، لا يَغُضّ بصره، وكذلك الفتاة لا تخرج من بيتها إلا مُتعطِّرة مُتبرِّجة كاشفةً عن شعرها وذراعيها لتقولَ للناس انظروا إليّ، وإذا رَجَعت إلى بيتها لا تَذكُر ذكراً ولا صلاة، بل تجلِس إلى التِّلْفاز إلى مُنتصَف الليل، إذا سألت هذا الرجل وتلك المرأة لِمَ تفعلان ذلك؟ قالا لك: إنّه المَلل، إنه ضيق في الصدر ولا أحسُّ بلذة في الحياة. أتعلَم لماذا كلّ ذلك؟ إنه الإعراض عن ذكر الله كما قال سبحانه: ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً ونحشُرُه يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتكَ آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى .
اسمع إلى هذا الرجُل الكافر ديل كار بينجي) الذي بحث عن السعادة في الدنيا وأراد أن يبحث عن أسبابها فألّف كتاباً سمّاه: [دعِ القلق وابدأ الحياة] ألّف هذا الكتاب لِيُبيّن أسباب السعادة في الدنيا فلما انتهى تأليفه إذا به يربِط حبلاً في غرفته ويَشنُق نفسه ومن أعرض عن ذِكري فإنّ له معيشة نعم يعيش كما يعيش الناس بل كما تعيش البهائم يأكل ويشرب ويلبس ويسكن ويركب. ولكن قلبه حزين وصدره ضيِّق وضاقت به الدنيا بما رحُبَت فإنّ له معيشة ضنكاً عبدَ الله سل أصحاب المعاصي والذنوب، هل أنتم في سعادة؟ انظر وتأمّل في حالهم، عندهم كلّ شيء إلا ذكر الله والصلاة وشرع الله، فإنّهم يَشْكون من ضيق في الصدر يبحثون عن رُقية ٍ تُخفِّفُ عنهم آلامهم، واجلسي أختي المسلِمة مع أَمَة الله الصالحة تلك المُحجّبة المُحتَشِمة التي إن قامت فإنها تقوم لصلاة الفجر وتنام على ذكر الله وتستيقِظ على ذكر الله تَغُضُّ بصرها وتحفَظ محارم ربّها، تلك وأمثالها قال فيهم ربُّ العزة سبحانه: الذين آمنوا وتطمئِنّ قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطْمَئِنّ القلوب .
عبد الله، أمَة الله إذا كانت هذه أضرار المعاصي وأضرار الذنوب في الدنيا فما بالك بأضرارها والخسارة الناتِجة عنها يوم القيامة وفي القبر وفي الحشر.
إذاً يا عبد الله كيف تحفظ نفسك من الذنوب والمعاصي؟ كيف تبتعد عنها؟ كيف تُحصِّن نفسك.(/1)
كيف تحصن نفسك اذا أقبلت الذنوب والمعاصي؟ وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أنه سوف: ((يأتي على الناس زمان، القابض على دينه كالقابض على الجمر)) يصبح الواحد ما يتحمل أن يتمسك بدينه ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((بادروا بالأعمال الصالحة فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً))، في الصباح تراه مصلياً ساجداً ذاكراً يعرف حق ربه ثم اذا أقبل الليل وغربت الشمس فاذا به يجحد أوامر الله ويستهزئ بشرع الله ((ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً)) فمالذي حدث؟ قال بعدها عليه الصلاة والسلام: ((يبيع دينه بعرض من الدنيا)) كم وكم من الناس كانوا صالحين فإذا بشهوة أوبمعصية ينقلبون بسببها على أعقابهم.
واسمع يا عبد الله إلى هذا الرجل الذي كان صالحاً طوال حياته بل كان مؤذناً يؤذن للناس ويدعوهم الى الصلاة كان يقوم على منارة المسجد فيقول: حي على الصلاة. حي على الفلاح وفي يوم وهو يؤذن نظر بالقرب من المسجد فاذا فتاة فجعل ينظر إليها ويطيل النظر ولم يغض بصره، فاذا بقلبه يتعلق بها فنزل بعد الأذان وقصد بيت تلك الفتاة فلما طرق الباب فرحت تلك الفتاة وهي نصرانية فقالت له: مؤتمن ويخون؟ أي أنت أمين للناس تؤذن لهم ثم تخون الأمانة، فقال لها: إني أريدك، فقالت: اذاً تريدني زوجة؟ قال: نعم، قالت: لكن بشرط واحد قال: ماهو؟ قالت: أن تتنصر – أي تترك دينك وتكفر فاذا به يقبل شرطها، ويقول: أتنصر، فسبحان مقلب القلوب لا اله الا الله أرأيتم كيف تدخل الذنوب الى القلوب، فتقبلها وتبدلها، ثم أدخلته البيت وقالت له: إشرب من هذا الكأس، فاذا به يشرب الخمر ويأكل الخنزير ثم قالت له: أصعد على سطح البيت فإذا جاء والدي أخبرته الخبر، فلما صعد السطح وهو سكران سقط من أعلى المنزل، فاذا به يفارق الحياة على نصرانيته وردته، يقول المولى جل شأنه: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ويقول : ((إن قلوب أبناء آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)) فاللهم يامقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.
الخطبة الثانية
إن أول أمر تحفظ به نفسك من الذنوب والمعاصي هو: المحاسبة والمراقبة أن تراقب الله جل وعلا دائماً وفي كل مكان، واعلم أن هناك من يراك ومن يطلع عليك، إنه الواحد الأحد إنه الذي يحسب عليك كل نفس وكل خاطرة وكل نظرة وكل كلمة عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول ومن يجهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار أي الذي يخفي نفسه في الظلام ويغلق الباب على نفسه من الذي يراه ألم يعلم بأن الله يرى وصدق الإمام أحمد رحمه الله تعالى حيث أنشد يقول:
إذا ماخلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
بلى يا عبد الله اذا أتيت الله يوم القيامة فإنه يعرض عليك كتاباً لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصائها يوم تجد كل نفس ماعملت من خير محضراً وماعملت من سوء تود لو أنها بينها وبينه أمداً بعيداً إسمعي يا أمة الله إلى تلك المرأة التي غاب عنها زوجها في الجهاد وظلت أشهراً على هذه الحال تصارعها الفتنة فمر عمر بن الخطاب ببيتها فسمعها تردد هذه الآبيات:
تطاول هذا الليل وأسود جانبه وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله رباً أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه(/2)
واسمع يا عبد الله أمرأ آخر به تحفظ نفسك من المعاصي، إنه الخوف من الله جل وعلا، فلاتظن أنها معصية ثم تذهب، أو أنها نظرة ثم تضيع، أو أنه الفيلم الأخير ثم أتوب بعده، إن الله عزوجل يحذر الناس نفسه ويقول: وخافون إن كنتم مؤمنين ألا تخاف ياعبد الله من الله وأنت تتجرأ على معصيته، ويا أمة الله أماتخافين وأنت ترتكيبن معصية أن يأخذك الله ويقبض روحك إسمعي الى السابقين الى الصالحين كيف كانوا يخافون ربهم فهذا إبراهيم عليه السلام قيل أنه كان يسمع له من بعيد وهو في الصلاة أزيز صدره من شدة الخوف، وهذا داود عليه السلام كان الناس يزورونه يظنون أنه مريض وماكان به شيء إلا شدة الخوف من الله، كانوا أعدل الناس وأخشاهم لله وهم يكونوا عصاة، ومع ذلك كانوا أشد الناس خوفاً من الله، بل الصالحون يصلون ويصومون ويتصدقون ومع ذلك يخافون ألا يتقبل منهم، وفيهم قال جل شأنه: الذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة فإن كان هؤلاء الصالحون المصلون المكثرون للخيرات يخافون على أعمالهم أن لاتقبل فكيف بالمقصرين؟ بل كيف بالذين لايصلون ولايعرفون الله حرمة كيف بالتي هجرت القرآن ولا تذكر الله؟ إسمعي يا أمة الله الى نبينا وهو أعبد الناس وأصلحهم كيف كان يخاف تقول عنه عائشة رضي الله عنها: ((كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه فتقول: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا غيماً فرحوا رجاء أن يكون فيه مطر، وأنت اذا رأيته عرفت الكراهية في وجهك، قال يا عائشة: ومن يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رآه قوم فقالوا: هذا عارض ممطرنا بل هو ما إستعجلتم به ريح فيها عذاب آليم )) أما نحن للأسف الواحد يرتكب المعاصي وينتهك الحرمات وهو يضحك ويلعب ولا يبالي، يقلب رأسه في الفراش وهو مطمئن لا يصلي الصبح إلا إذا طلعت عليه الشمس ولا يبالي، ما بال قلوبنا قد قست، الواحد يرتكب الذنوب ولا يبالي. اسمع الى أبي بكر الصديق وهو أصلح هذه الأمة بعد رسول الله يقول عن نفسه من شدة الخوف من الله: (يا ليتني كنت شجرة تعضد)، أما تخاف ياعبدالله وأنت يا أمة الله. إسمعوا إلى أولئك الأربعة نفر الذين سافروا الى بلاد من أجل الزنا والمعاصي، فإذا بهم يدخلون الى مرقص من المراقص ويتمتعون بشرب الخمر في تلك الليلة، والرب جل وعلا قد نزل الى السماء الدنيا في ذلك الوقت فيقول: ((هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟)) وينظر الى عباده أين ذهبوا؟ ذهبوا الى المرقص وماذا عملوا؟ شربوا الخمر ورقصوا، وبينما هم مشتغلون بتلك المعاصي في ذلك المرقص إذا بواحد منهم يسقط مغشياً عليه حضرته الوفاة فقال له أحدهم: قل لا اله الا الله فقال له وهو يحتضر: زدني كأساً من الخمر. فما يزال يرددها حتى خرجت روحه، نسأل الله العافية وحسن الخاتمة، أما تخافين يا أمة الله أن تكوني على معصية في ليلة هي آخر ليلة من حياتك، أما يخاف أحدنا وهو راكب على سيارة يعصي الله ثم يختم الله له بسوء الخاتمة في حادث قال : ((إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى مايكون بينها وبينه الا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أحدكم يموت على ما عاش عليه، ويبعث على مامات عليه، فالبدار البدار، البدار الى التوبة والعمل الصالح والثبات على ذلك حتى الممات.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يثبتنا على دينه وأن يصرف قلوبنا الى طاعته وأن يختم لنا بالصالحات أعمالنا إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.(/3)
المعاملات المنتشرة
30 / 10 / 1426هـ
للشيخ / محمد صالح المنجد
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد.
فقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: { المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباغيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا }، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم " رواه البخاري. وقال عليه الصلاة والسلام: " اثنتان يكرههما ابن آدم الموت والموت خير من الفتنة، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب "، وقال: " إن بين أيديكم عقبة كئوداً لا ينجوا منها إلا كل مخف "، ويشرح ذلك حديث أبي الدرداء رضي الله عنه لما قالت له زوجته أمه أم الدرداء: مالك لا تطلب ما يطلب فلان وفلان؟، قال: إن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن من ورائكم عقبة كئوداً لا يجوزوها المثقلون"، فإن أحب أن أتخفف لتلك العقبة.
يجتمعون يوم القيامة كما قال عليه الصلاة والسلام: " فيقال: أين فقراء هذه الأمة؟ فيقال لهم: ماذا عملتم؟، فيقولون: ربنا أبتلينا فصبرنا ووليت الأموال والسلطان غيرنا، فيقول الله جل وعلا: صدقتم. قال: فيدخلون الجنة قبل الناس، ويبقى شدة الحساب على ذوي الأموال والسلطان، قالوا: فأين المؤمنون؟، قال: يوضع لهم كراسي من نور ويظلل عليهم الغمام يكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار والله سبحانه وتعالى يبتلي بالغنى والفقر فينظر كيف تعملون؟ " ولذلك ينبغي على المسلم أن لا ينسى في ما آتاه الله أن يخرج حق الله، وحق عباده، وأن يبتغي فيه الدار الآخرة، ولا ينسى نصيبه من الدنيا.
وأجعل المال إلى الله زاداً وأجعل الدنيا طريقاً وجسراً
إنما التاجر حقاً ويقيناً تاجر يربح حمداً وأجراً
عباد الله، وهذا الإقبال على الأموال اليوم من كل جانب بالطلب، والسعي، والاستثمار، والحركة، فيه خير وشر، فإذا كان لله يعمل فيه بطاعة الله ويؤدي فيه حق الله وينفق فيه على من أوجب الله عليه الإنفاق عليه ويتصدق منه فإنه خير، وإن كان يأخذه هلعة يأخذه مما حرم الله وينفقه فيما يسخطه الله لا يعرف لله فيه حق ويجحد حقوق العباد ويبخل عمن أوجب الله عليه الإنفاق عليه فهذا المال وبال عليه، ومن الناس من خلط في المال عمل صالحة وآخر سيئة، فينبغي على العبد أن يعرف حق الله، { وأحل الله البيع وحرم الربا }، والله سبحانه وتعالى نهانا فقال: { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم }، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الكسب أطيب؟، فقال: " عمل الرجل بيده وكل بيع مغرور". فينبغي على العباد أن يراعوا حق الله سبحانه وتعالى في البيع والشراء والمعاملة المالية وهكذا ينتهوا عما نهى الله عنه من الربا والغرر والجهالة والقمار والميسر وهذه الأشياء الثلاثة وهي: الربا، والميسر، والجهالة، من أعظم ما يقع للناس في المعاملات من المحرمات، والشريعة قد نهت عنها نهياً عظيماً.(/1)
ومن هذه الصور ما يقع اليوم في بطاقات الإثمان، عندما يسدد بعض الناس عبرها من حساب خالٍ صفرٍ إنما يسدد في الحقيقة البنك بالنيابة عنه، يقرضه المال فيسدد به عنه، ليأخذه من راتبه الذي ينزل في حسابه في نهاية الشهر من الجهة التي يعمل فيها، فإذا تأخر عن السداد فإنه يخصم عليه مبلغاً إضافياً يسميه شرطاً جزائياً نظير التأخر عن التسديد، وهذا ربا وحرام ولا شك، وقد حرم الله الربا من السبع الكبائر العظيمة، وكذلك يأخذ بعضهم نسبة مئوية عليه حين يشتري عبر هذه البطاقة، وقد يأخذ مبلغاً مقطوعاً فيسميه أتعاباً إدارية، فإذا كان مقطوعاً يساوي فعلاً هذه الأتعاب فلا بأس بذلك، وإذا كان يزيد عليها وهو يسدد من حساب البنك لا من حسابه فهذه الزيادة ربا، فإذا كان لك مال في حسابك تسدد منه عبر البطاقة فنحن نفهم أن يكون هنالك أتعاب للبنك بالقيام بهذا العمل يسمى أتعاب إدارية أو مصاريف إدارية، وأما إذا كنت تسدد في الحقيقة من مال المصرف الذي أصدر لك البطاقة فهذا قرض، فكل ما زاد عن المصاريف الإدارية في الحقيقة يكون رباً، لأن هذا المصرف قد استفاد من القرض فوق الأتعاب الإدارية، وكذلك فإن هؤلاء الذين يأخذون نسبة مئوية على المبلغ الذي اشتريت به، لا يمكن أن يصدق أنها أتعاب ومصاريف إدارية، لأن هذه النسبة تعظم كلما عظم المبلغ، وتقل كلما قل المبلغ مع أن العملية باستخدام الآلات وتقييدها واحدة لا فرق بين أن يكون المبلغ كبيراً أو صغيراً، ولذلك كان من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي أن هذا المأخوذ بالنسبة لا يجوز وما زاد عن المصاريف الإدارية في حال أنك تسدد من مال المصرف لا من مالك وحسابك فارغ فما زاد عن هذه المصاريف فهو ربا أيضا،، وقد أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء ببطاقات التخفيض التي يتبعها بعض الأطراف نظراً لما فيها من الجهالة والغرر وأكل المال بالباطل، وكثيراً ما تكون سبباً للنزاعات والمخاصمات، وفيها إضرار بالتجار الذين لم يشتركوا في برنامج التخفيض، وفيها تداول للمال بين طائفة معينة، وهم المشاركون في برنامج هذا التخفيض، فيدفع صاحب بطاقة التخفيض مبلغاً معيناً ثم لا يدري هل يستفيدوا منه أم لا؟، وهل يستفيد منه قليلاً أو كثيراً ؟، ولذلك فإنه في هذه المعاملة شبهات وعليها ملاحظات شرعية ينبغي الحذر منها.
عباد الله، إن استخدام التقنيات المعاصرة في تسهيل الأمور على الناس مطلب شرعي، لأن الشريعة تحب التسهيل والتيسير، { وما جعل عليكم في الدين من حرج }، ولذلك فإن إجراء المعاملات من بعد عبر هذه الوسائل أمر طيب وفيه تسهيل على الناس، ولا شك في ذلك وهذه التجارة الإلكترونية هي نوع من هذا العمل الذي فيه التسهيل على الناس، ولكن ينبغي أن نعلم كيف نبيع؟ وكيف نشتري؟ وكيف نحذر من الجهالة؟ وكيف نحذر من الغرر؟ والغرر إذا كان يسيراً لا يؤثر، أما إذا كان كثيراً فإنه محرم مؤثر، وكذلك إذا كان مستقلاً فإنه لا يجوز، وقد يجوز إذا كان تبعاً لغيره، ومثال ذلك: أن تشتري جهازاً فيعطونك مع الجهاز عقد ضمان، مرفقاً مع بيع وشراء الجهاز، وهذا في الحقيقة لقاء مبلغ معين إذا تعطل الجهاز قاموا بإصلاحه بموجب عقد الضمان الذي تدفع أنت مقابلاً له، فإذا كان عقد الضمان ضمن عقد البيع فهو مغتفر فيكون جائزة، وأما إذا كان عقد الضمان مستقلاً كأن يقول لك: إذا اشتريت هذا الحاسوب فالضمان عليه سنة، فإذا أردت أن تجدد الضمان بعد سنة بعقد مستقل فتدفع مائتين مثلاً، فهذا الضمان بعقد مستقل هو في الحقيقة نوع من التأمين المحرم، فإن الصفقة انتهت وأنت قد اشتريت الجهاز وانصرفت به واستعملته سنة ثم بعد ذلك تريد أن تشتري منهم عقد ضمان جديد مستقل تدفع عليه مقابلاً، فإذا طرأ الخلل استفدت مما دفعت، وإذا لم يطرأ خلل ذهب ما دفعته هباءاً منثوراً عليك، ولذلك كان هذا في الحقيقة نوع من التأمين المحرم وهو من بيوع الغرر التي نهت عنها الشريعة، فهذا الفرق بين أن يكون تبعاً لعقد البيع أصلاً فهو مغتفر فيه ويسير فيه وبين أن يكون بعقد مستقل فيكون فيه هذا الغرر.
ومن الأمثلة أيضاً أن تشتري شاةً وفي بطنها حمل فيكون شرائك للشاة هو الأصلي وهذا الحمل تابع فهذا جائز، نعم،، قد يوجد في بطنها ذكر، وقد يوجد أنثى، وقد يوجد واحد، وقد يوجد اثنان، ولكنه تابع للأصل وهو شراء الأم فهو مغتفر، أما لو بيع الحمل منفصلاً فيقول لك أبيعك فقط ما في بطن هذه الناقة، أبيعك فقط ما في بطن هذه الشاة، بمائتين فأنت تنتظر حتى تلد الشاة لتأخذ ما اشتريته لأن هذا الشراء قد وقع على ما في بطنها فقط مستقلاً، فلا تدري هل هو واحد أو اثنين؟، هل هو ذكر أو أنثى؟، هل يخرج حياً أو ميتاً؟، فيكون هذا من باب الجهالة والغرر المحرم.(/2)
عباد الله، ومثل ذلك بيوع المنابذة، وبيع الحصاة، فيرمي الحصاة فأي شيء وقعت عليه الحصاة فهو بكذا فهذا لا يجوز، وكذلك بيع المعجوز عن تسليمه وبعض الناس يبيع الدين فيكون مطالباً لأشخاص بدين، وقد تعب في مطالبتهم فيأتي إليه شخص فيقول: أنا أشتري منك هذا الدين، فيكون الدين مثلاً مائة ألف، فيقول: أشتريه منك بسبعين ألف خذ السبعين وأنا أطالب فقد يحصل السبعين وقد يحصل أكثر وقد يحصل أقل فهذا حرام لا يجوز، وهو ربا لقد أشترى نقداً بنقدٍ وليس هنالك استلام وتسليم في مجلس العقد كما هو شرط شراء النقد بالنقد، وثانياً أن فيه غرراً واضحاً، فإنه لا يدري كم يحصل؟، هل يحصل أقل أو أكثر؟، وهذا بخلاف ما لو تعاقد معه أن يحصل له دينه بنسبة، فكلما حصل له مبلغاً أخذ عليه نسبة فهذا لا بأس به، وهو شيء معلوم ولا زال المال لصاحبه، والمأخوذ عليه جعل، أو يكون أجرة فلا بأس بذلك.
عباد الله، وإن الشريعة قد حاربت الغرر بأنواعه، ومن ذلك ربط العقود ببعضها وأسوؤها ما كان فيه القرض، كأن يقول: أقرضك على أن تبيعني، أو أقرضك على أن تأجرني، ونحو ذلك فهذا قرض جرى منفعة لهو مصلحة في هذا المشترى، أو هذا المستأجر، وهذا لا يجوز وهو محرم بلا شك.
وبعض الناس يبيع بيعتين في بيعه أيضاً من هذا الباب، ومثل هذا: أن يأخذ سيارة من الوكالة ولا يدرى هل هو استئجار أو بيع؟، فيدفع أقساط، لا يدرى هل هي أجرة أو هي أقساط بيع؟، ولذلك كان لا بد من فصل العقدين عن بعضهما لأن الشريعة تريد أن تكون الأمور واضحة، فهل السيارة هي ملك للوكالة وهذا مستأجر السيارة أمانة عنده وما يدفعه هو أجره؟، أو أن السيارة قد انتقلت ملكيتها إلى هذا المشتري الذي يقسط الثمن لهم فقد صارت ملكاً للمشتري وليس للوكالة إلا الثمن الذي يقسط؟، فلا بد أن تكون المسألة واضحة من البداية، هل هو هذا أو هذا؟، فإذا قال لهم: أنا أستأجر منكم هذه السيارة بقسط شهري، أو بأجرة شهرية كذا وكذا، فإذا أردت أن أشتريها منكم وقعت معكم عقداً مستقلاً عقد بيع وشراء مستقل، بما نتفق عليه ونتراضى في ذلك الوقت وهذا مباح وحلال ولا إشكال فيه.
عباد الله، ويلجأ بعض الباعة إلى عملية ربوية واضحة جداً، وهي أنه إذا تأخر المشتري عن التسديد والمبلغ ثابت معين وهو سعر الشراء القيمة التي أشترى بها، فإنه يجعل عليه جزاءاً للتأخير وهذا حرام ولا شك، وهذا هو الربا لأن هذا الثمن الذي أشترى به ثابت ودين عليه، فإذا فشل في التسديد في الوقت المحدد، قال له: إذا أردت أن نمهلك وأن نؤجلك زيادة فستدفع زيادة ونسبة إضافية على هذا المبلغ الذي لم تسدده في وقته، وهذا هو الربا في الحقيقة، وقد قال الله: { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة }، فالواجب إذا أعسر أن ينظر وليس أن يجعل عليه مبلغاً إضافياً، ومن الأمور التي تعملها بعض المصارف مع بعض الناس الذين يتعاملون معها في شراء المعادن، أو شراء القطن، أو شراء السلع بالآجل، أنه إذا فشل في التسديد في الوقت المعين، يلجئون إلى مسألة قلب الدين، وما هي هذه المسالة؟، أن يقول له أنت اشتريت منا المعادن بسعر كذا، وعليك أن تقسطها بكذا وكذا، ثم الآن عجزت عن التسديد، فسنعمل معك عقد آخر تورق أيضاً بشراء معادن جديدة، لاحظ معي أيها المسلم كيف يلعب بأحكام الشريعة؟، سنعمل معك عقد تورق جديد على معادن جديدة تشتريها منا بالتقسيط، ونبيعها لك، ونعطيك الثمن، ونخصم منه الديون التي لنا عليك من التورق الذي قبله، وهذا حرام وحيلة عجيبة، كيف يقع فيها هؤلاء؟، وكيف يرضى بها هذا؟.
عباد الله، لقد جاءت الشريعة بأن المسلم لا يجوز أن يبيع شيئاً أشتراه قبل قبضه، اشتريته تريد أن تبيعه لا بد أن تقبضه أولاً، " نهى عن بيع ما لم يقبض " حديث صحيح.(/3)
فأحفظ هذا النص فإنه ينجيك في مسائل كثيرة مما وقع فيه الناس، " نهى عن بيع ما لم يقبض"، لا تبع حتى تستلم، فإذا قبضته فإن لك أن تبيعه ولكنك لا تراه في كثير من الأحيان، فإذا سألت عنه قالوا: هو في الخارج، قالوا هو في المكان لكن نحتاج إلى فترة حتى نأتي به، ونحو ذلك فكيف باعوه أصلاً إذن، وبعضهم ربما أبقاه في مستودعات التاجر الذي أتفق معه المصرف فهو يباع ويشترى في نفس المكان، والمستودعات لذلك التاجر وهذا أيضاً مرفوض شرعاً ولا يجوز، فإن الإنسان إذا اشترى شيئاً من تاجر وأراد أن يبيعه فلا بد أن يحوزه، ويقبضه أولاً، ويقبل الأمر إذا قالوا إننا قد استأجرنا هذه المستودعات لحسابنا، فنحن نضع فيها الحديد والمواد التي نشتريها من التجار في هذا المستودع، وأنت تشتريها منا فهو مستودعنا، وهذه صالتنا وفيها السيارات فهذا جائز، المكان مكانهم استأجروه، أو بنوه، أو اشتروه، المكان مكانهم، فإذا اشتريته أنت فشرائك صحيح، ولكن إذا أردت أن تبيعه فلا بد أن تقبضه، وأن تخرجه من ذلك المكان وأن تحوزه، أما أن يباع في ذلك المكان تبيعه أنت في ذلك المكان فلا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم " حديث صحيح.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مطعمنا حلال، ومشربنا حلال، ومكسبنا حلال، اللهم إنا نسألك التقوى، اللهم جنبنا الحرام وجنبنا ما يغضبك يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم وأوسع لإخوانكم يوسع الله لكم.
الحمد لله رب العالمين، أشهد ألا إله إلا هو وحده لا شريك له، رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله، إن مسألة القبض هذه تميز لنا كثيراً من البيوع الصحيحة من البيوع الفاسدة أو الباطلة، بل حتى الوهمية، وقبض كل شيء بحسبه، فقبض الطعام بأخذه كيله واستلامه، وكذلك قبض الأرض بتخليتها، وهكذا قبض العقار بتخليته من مالكه الأول، وبعض الناس يشترون عبر البورصة معادن ويبيعونها على الشاشة وهذه المعادن لا بد أن تكون موجودة حقيقة، ولذلك فلابد من الحذر من عمليات وهمية تجري على الشبكات، وتعرف هذه القضية بأن تحسب كم حجم هذه المعادن؟، كمية المعادن التي تباع على الشاشة، وكم الأموال التي هي حجم هذه المبادلات؟، فأحياناً تجد أن هذه المعادن كلها لو جمعت التي لو تباع وتشترى عبر الشاشة والبورصة هي ألف طن مثلاً، ولكنك تجد أن الصفقات على هذه الألف طن هي في الحقيقة قيمة مائة ألف طن، إذن الأموال التي يشترى بها ويباع على الكمية الواحدة هي في الحقيقة ثمن مائة ضعف من الكمية الحقيقية الموجودة، معنى ذلك أن هناك كميات وهمية غير موجودة يباع فيها ويشترى عبر الشاشات وهي لم تخلق أصلاً، أو لم تستخرج أصلاً، وهذا بيع وهمي وبسبب إنهيار مثل هذه البورصة تحدث مضاعفات اقتصادية خطيرة جداً.
فنعيد تلخيص هذه المسالة؛ أن يكون الموجود في العالم من هذا المعدن ألف طن مثلاً، والأموال التي تدور هي قيمة مائة ألف طن، فأين البقية من هذه الأطنان؟، ومن الذي يشتريه هؤلاء؟، وما الذي يبيعونه؟، فتجد أن هناك بيعاً وهمياً يدور عبر هذه الشاشات، ولذلك كان تحديد الكمية ومعرفتها ووجودها مما يلغي مثل هذا البيع الوهمي الكبير.
عباد الله، وقد حرمت الشريعة الغش بأنواعه، وهذا الغش مما حدث فيه وقوع عظيم في هذه الأيام، فأنت تراه ابتداءاً من صناديق الفاكهة التي يجعل فيها الفاسد أسفل والجيد أعلى، والصغير أسفل والكبير أعلى، لألى يراه المشتري فينخدع بظاهر ما في الصندوق وهو لا يدري عن باطنه، وقليل جداً من المزارعين والتجار الذين ينبهون عمالهم عند صف هذه الفواكه أو الخضروات في الصناديق أن لا يقعوا في هذا، بل إنهم يوصونهم بالعكس، وكذلك تجد الغش في أنواع الزيوت، وأنواع العطور، والبخور، كيف تخلط بغيرها؟، وكيف يجعل الرصاص داخلاً في بعضها؟، بحيث أنك لا تراه، وكيف تكون بعض المواد تحترق مع هذا البخور؟، بل فلا ترى هذا المغشوش والمخلوط أصلاً، وكذلك فإن بعض الزجاجات تظهر لك ما في داخلها شيئاً كثيراً، ولكن في الحقيقة هو أقل من ذلك، فإن شكلها يخدع.
وبعض التجار يخيط الثياب خياطة ضعيفة، ثم يبيعها من غير أن يبين ذلك، وربما لصقوا عليه وهذا موجود في مشاغل الخياطة التي تخيط هذه الكميات من الثياب والفساتين ونحوها، ينزعون عنها الإشارة التي تبين البلد الذي صنعت فيه ويخيطون بدلاً من ذلك علامات تبين بلداً آخر، ونحو ذلك، وهذا أيضاً يحدث عند أصحاب الحلي الذين يغشون المعادن النفيسة.(/4)
وكذلك يحدث في مزادات السيارات، فيوضع زيت ثقيل في محرك السيارة يوهم المشتري أنها بحالة جيدة، وبعضهم يتلاعب في عداد السيارة قبل أن يبيعها، وبعضهم يريد أن يبرئ ذمتهم بزعمه، فيقول: خذها كومة من حديد. ولا يبين السلعة ولا يبين عيوبها، وهو يعلم عيوب السلعة، وبعضهم يقول: سكر في ماء أو ملح في ماء، وهو يقصد أنك تشتريها كما هي ولا يبين عيوبها، وهكذا،، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن كتما وكذبا محقت بركة بيعيهما "، وأنواع الفساد في مزادات السيارات كثيرة، حتى لتجد من يكره الداخل في سوق الحراج على البيع فهذا من جهة، وهذا من جهة، ليخرجوه بعد ذلك مسكيناً قد باعها بأقل من سعرها في الحقيقة، وهذا بيع الإكراه لا يجوز، وقد قال الله: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم }، وأول شرط في البيع هو التراضي.
عباد الله، وما يقع في مزادات من الاتفاق بعض هؤلاء على عدم الزيادة عن السعر بأن يوقفه على سعر معين فهذا لا يجوز، فليترك الناس يبيعون ويشترون بما يرزق الله سبحانه وتعالى وبضعهم يزيد في سعر السلعة إذا كانت لهؤلاء الشريطية السيارة، يدخلون في المزاد فيزيدون مع الناس باتفاق بينهم وهذا حرام لا يجوز، وهو النجش الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم بأن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شرائها، وفي المقابل أفتى العلماء بأنه لا يجوز للتجار الداخلين في المناقصة أن يتفقوا على سعر معين يضعونه، يضعون أقل منه، ولا يزيدون عليه، لأن الذي طرح المناقصة قصده فعلاً أن ينزل المشتركون بالسعر دون أتفاق بينهم، فإذا اتفق الداخلون في المناقصة فيما بينهم على تثبيت سعر معين فإن ذلك الاتفاق يعد مخالفاً لما أراده هذا الذي طرح المناقصة في الحقيقة، فيكون احتيالاً عليه وخداعة.
عباد الله، إن القصود معتبرة في العقود، وهذه النية التي في الصدر الله سبحانه وتعالى مطلع عليها، ولا بد أن يصدق المسلم في بيعه وشرائه، وأن يكون متبعاً لأحكام الشريعة والذين يدخلون في البيوع يجب أن يتعلموا أحكامها، وقد كان عمر رضي الله عنه لا يأذن بدخول السوق إلا لمن كان يعرف أحكام البيع والشراء حتى لا يقع الناس في الحرام.
عباد الله، وإن مما نهت عنه الشريعة بيع الكالئ بالكالئ، وبيع الدين بالدين، فهذا لا يجوز، وكذلك إذا اتفق معه على شراء شيء غير موجود، والثمن غير مسلم فلا السلعة موجودة والثمن مسلم، فهذا بيع الكالئ بالكالئ أيضاً وهو غير جائز، ولا يعتبر العقد صحيحاً، ولا ملزمة، فإما أن يكون الثمن مدفوعاً كاملاً على طريق بيع السلم والسلعة، يؤتى بها فيما بعد أو أن السلعة موجودة، والثمن مسلم، أو مقصد، أو سيسلم آجلة، فهذا جائز في غير الذهب والفضة والأوراق النقدية، وإن مما يقع أيضاً عند بعض الناس في تعاملاتهم، أنهم يشترون النقد بالنقد غير مقبوض، فيقول: خذ هذه الريالات بدولارات ستسلم في آخر السنة، فهذا بيع لا يجوز لأن النقد بالنقد يجب أن يكون الاستلام والتسليم في العقد، أن يكون في مجلس العقد، وكذلك الذهب بالذهب يجب أن يكون متماثلة، فإذا أراد أن يبع الذهب قديماً بذهب جديد فإنه يبيع القديم بنقد يستلم النقد، ثم يشتري ذهباً جديداً بما يشاء بنفس السعر، أو أقل، أو أكثر، أما إذا أراد المبادلة فيجب أن يكون الوزن مثلاً بمثل، وأن يكون الاستلام والتسليم يداً بيد في مجلس العقد، فلا يجوز أن يباع الذهب بالأقساط، ولا أن يباع بالآجل، وبعض الناس يشتري الذهب على الراتب، وسيسلم الثمن إذا جاء الراتب، ويأخذ الذهب والثمن فيما بعد وهذا بيع لا يجوز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلاً بمثل يداً بيد "، فلا بد من تحقيق مراد الشارع وهذه الأوراق النقدية تقوم مقام الذهب والفضة فلا بد إذن، أن يكون الاستلام والتسليم في مجلس العقد، فتسلم الثمن وتأخذ الذهب يداً بيد.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا فيما آتانا، وأن يقنعنا بما رزقنا، وأن يجعلنا ممن يبتغي الحلال ويحرص عليه، اللهم إنا نسألك البركة والتقوى، وأن تجنبنا الحرام والعسرى يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، وأغفر لنا يا عزيز يا غفور.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(/5)
المعجبون إلى أين
أمر الله - عز وجل - نبيه بالإنذار والدعوة، وتعظيم ربه - عز وجل - وفعل الخير، واجتناب الشر، وهجر الأوثان، ثم قال له بعد ذلك:{وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} المدثر: 6، قال الحسن البصري: "لا تمنن بعملك على ربك تستكثره"، فإنه مهما كُثرَ العمل ففضل الله أعظم، وحقه أكبر.
وقد نهى الله عن تزكية النفس، بمعنى اعتقاد خيريتها، والتمدّح بها فقال:{فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} النجم: 32، كما نهى عن المن بالصدقة فقال:{لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى}البقرة: 264، والمن يحصل نتيجة استعظام الصدقة، واستعظام العمل هو العُجب. والإعجاب بالنفس شر، وأي شر، قال ابن المبارك: "لا أعلم في المصلين شيئاً شراً من العجب"1. ولعل المرء يدافع الرياء ويحس به، بيد أنه لا يشعر بما في داخله من العجب المحبط، ومن أجل ذلك كان مهلكاً بوصف النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال:(ثلاث مهلكات) ثم ذكرهن: (شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)2.
وإذا كانت الذنوب مهلكة، فإنها قد تكون رحمة بصاحبها حين تخلصه من العجب الذي هو الهلاك حقاً. قال: (لو لم تكونوا تذنبون، خشيت عليكم أكثر من ذلك: العجب)3.
وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: "الهلاك في شيئين: العجب والقنوط. وإنما جُمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالطلب والتشمير، والقانط لا يطلب، والمعجب يظن أنه قد ظفر بمراده فلا يسعى"4. ومما ورد في جزاء المعجبين قوله صلى الله عليه وسلم:(بينما رجل يتبختر، يمشي في برديه، قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) وفي رواية: (قد أعجبته جمته وبرداه)5، فكيف بمن أُعجِبَ بعلمه أو عمله؟!
مظاهر العجب:
الله - عز وجل - أعلم بالإنسان من نفسه، والإنسان أعلم الناس بنفسه فهو أقدرهم على اكتشاف مظاهر العجب في نفسه، كما أن بعضها لا يخفى على الناس، ومنها:
1- المنّ على الله، ومطالبته بما آتى الأولياء، وانتظار الكرامة وإجابة الدعوة6.
2- الإكثار من الثناء على النفس ومدحها، لحاجة ولغير حاجة، تصريحاً أو تلميحاً، وقد يكون على هيئة ذم للنفس أو للآخرين، يراد به مدح النفس.
3- الحرص على تصيّد العيوب وإشاعتها، وذم الآخرين -أشخاصاً أو هيئات- والفرح بذمهم وعيبهم.
4- النفور من النصيحة، وكراهيتها، وبعض الناصحين.
5- الاعتداد بالرأي، وازدراء رأي الغير.
6- صعوبة المطاوعة، والحرص على التخلص من التبعات والمسئوليات، وتحقيق القناعات الشخصية.
7- الترفع عن الحضور والمشاركة في بعض الأنشطة العلمية والدعوية، وخصوصاً العامة.
ومن آثاره على الدعاة:
1- أنه طريق إلى الغرور والكبر، وآثار الكبر المهلكة لا تخفى.
2- الحرمان من التوفيق والهداية؛ لأن الهداية إنما ينالها من أصلح قلبه وجاهد نفسه، قال الله - تعالى - : {وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} العنكبوت: 69، ومن صور هذا الحرمان: نسيان الذنوب واستصغارها، والعمى عن التقصير في الطاعات، والاستبداد بالرأي، والتعصب للباطل، وجحود الحق، وهذه الآثار في الجملة منها ما يقع سبباً للعجب، ثم يزداد ويستمر، ليبقى أثراً ثابتاً له.
3- بطلان العمل، قال - عز وجل -: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى}.
4- العجز والكسل عن العمل؛ لأن المعجب يظن أنه بلغ المنتهى.
5- الانهيار في أوقات المحن والشدائد؛ لأن المعجب يهمل نفسه من التزكية، فتخونه حينما يكون أحوج إليها، ويفقد عون الله ومعيته؛ لأنه ما عرف الله حال الرخاء.
وتأمل ما أصاب الصحابة - رضوان الله عليهم - مع إيمانهم وصلاحهم، حين أعجب نفر منهم بكثرة العدد: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} التوبة: 25 واليهود - عليهم لعائن الله-: {ظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} الحشر: 2.
6- نفور الناس وكراهيتهم؛ لأن الله يبغض المعجب.
7- العقوبة العاجلة أو الآجلة، كما خسف الله بالمتبختر المعجب الأرض.
ومن آثاره على الدعوة: توقفها أو ضعفها وبطؤها بسبب قلة الأنصار؛ نظراً لنفور الناس، وكراهيتهم للمعجبين، وسهولة اختراق صفوف الدعاة وضربها؛ نظراً لانهيار الدعاة المعجبين حال الشدائد.
اللهم أصلح نفوسنا وآتها تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. والحمد لله رب العالمين.
000000000
1 - سير أعلام النبلاء، ج1، ص 407.
2 - أخرجه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح/3045.
3 - أخرجه ابن عدي 1/146، وغيره، وحسنه الألباني في الصحيحين، ح/658.
4 - مختصر منهاج القاصدين، ص 234.(/1)
5 - رواه مسلم، ح/2088، معنى (بتجلجل): يغوص، ومعنى (جمته): ما سقط على المنكبين من شعر الرأس.
6 - انظر الآداب الشرعية لابن مفلح، ج1، ص 158.(/2)
المغبونون
الحمد لله على نعمائه والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على عبده ورسوله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أخي الكريم: إنه لا يخلو أحدٌ من البشر إلا وهو مغبون، فذاك مغبون في بيعه، وذاك في وقته، وآخر في ذكره وعبادته لله،وآخر...،وآخر..ولكن الموفق من استيقظ من رقاده, وانتبه لما هو واقع فيه من الغبن، وإن أعظم شيءٍ يغبن فيهما الإنسان هما الصحة والفراغ.
فقد جاء في صحيح البخاري، عن ابن عباس-رضي الله عنه-قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)1.
قال بن بطال "معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغاً حتى يكون مكْفّيِاً صحيح البدن, فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه, ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه, فمن فرط في ذلك فهو المغبون".2
عبد الله: تأمل في قوله-صلى الله عليه وسلم- حين قال:(كثير من الناس) فإنه يشير إلى أن الذي يوفق للعمل الصالح, و استغلال أوقات الصحة والفراغ إنما هم قليل، أما أكثر الناس فهم في غبن أي في خسارة وفي ضياع.
قال ابن الجوزي-رحمه الله تعالى_: "قد يكون الإنسان صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش, وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً, فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون, وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة, فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط, ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون, فالفراغ يعقبه الشغل, والصحة يعقبها السقم, ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل:
يسر الفتى طول السلامة والبقا *** فكيف ترى طول السلامة يَفعَلُ
يُرَدُّ الفتى بعد اعتدال وصحة *** ينوء إذا رام القيام ويحمل3
أخي الكريم:قال المفسرون: "المغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة, ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان, وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام".
وقال الحسن وقتادة: "بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف: رجل علم علماً فعلمه وضيعه هو ولم يعمل به فشقي به, وعمل به من تعلمه منه فنجا به, ورجل اكتسب مالاً من وجوه يسأل عنها وشح عليه, وفرط في طاعة ربه بسببه, ولم يعمل فيه خيراً وتركه لوارثه , فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه, ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد, وعمل السيد بمعصية ربه فشقي".4
قال معاذ الرازي: "المغبون من عطل أيامه بالبطالات وسلط جوارحه على الهلكات ومات قبل إفاقته من الجنايات"5.
أخي الكريم: "إنه من استرسل مع نفسه الأمارة بالسوء الخالدة إلى الراحة فترك المحافظة على الحدود والمواظبة على الطاعة فقد غبن".6
عبد الله : إنه "لا يعرف قدر هاتين النعمتين كثير من الناس, حيث لا يكسبون فيهما من الأعمال إلا كفاية ما يحتاجون إليه في معادهم, فيندمون على تضييع أعمارهم عند زوالها ولا ينفعهم الندم, قال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}"7 (9سورة التغابن).
أخي الكريم: إنه من صاحب الصالحين, وجالسهم, واكتسب ودهم, فإنه الرابح، وإن الذي خسر ود أصحابه الصالحين وفاته حبهم له فذلك هو المغبون حق اليقين، ولله در من قال في معنى هذا الأدب: "ما ذاقت النفس على شهوة ألذ من حب صديق أمين، ومن فاته ود أخ صالح فذلك المغبون حق اليقين"8.
عبد الله: إنه لا ينبغي لعاقل أن يضيع ساعات لليله ونهاره في ما لا ينفع عند الله –عزوجل-وإنه من ضيع هذه الساعات التي هي عمره فهو والله المغبون.
فعن عمارة بن عمر بن العلاء قال: سمعت عمر بن ذر يقول:"اعملوا لأنفسكم- رحمكم الله- في هذا الليل وسواده, فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار, والمحروم من حرم خيرهما, وإنما جعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربهم, ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم, فأحيوا لله أنفسكم بذكره, فإنما تحيى القلوب بذكر الله, كم من قائم في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في حفرته, وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله-عز وجل-للعابدين غداً, فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله.9
وعن ثابت بن الضحاك قال عند قوله تعالى:{وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(9 سورة المنافقون). يقول ومن يلهه ماله وأولاده عن ذكر الله فأولئك هم الخاسرون يقول: "هم المغبونون حظوظهم من كرامة الله ورحمته"10.
واعلم عبد الله أنه لن يضيع إنسان وقته إلا مغبون بل إنه محروم، وإن إضاعة الوقت هي أشد من الموت فقد قال ابن القيم -رحمه الله-عند كلامه على إضاعة الوقت وأنه أشد من الموت قال: "إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة, والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها".(/1)
أخي المسلم: كم من العمر يمضي في غير طاعة الله؟! وكم من الساعات تنقضي في اللهو والعبث؟! فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ).
عبد الله :كم من الأيام قد مضت في اللعب واللهو؟! ونحن نفرح بأنها تمضي ولم نتذكر أنها تقربنا إلى آجالنا، ولله در القائل حين قال:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا ً *** فإنما الربح والخسران في العمل
وانظر إلى هذا الشاعر اللبيب الفطن الذكي حينما دعاه الملك ليصف قصره,فعلم أنه في لهو ولعب، وأن عمره قد مضى في ضياع, ولم يستغل عمره كما أراد الله-جل جلاله-.فقال:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
يسعى عليك بما اشتهيـ يت لدى الرواح مع البكور
فإذا النفوس تقعقعت في ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلاّ في غرورِ
أسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لطاعته والعمل في مرضاته, وأن يوفقنا لاستغلال أوقاتنا, وأعمارنا, وصحتنا, وفراغنا, إنه جواد كريم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله
والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - صحيح البخاري كتاب الرقاق رقم(6049).
2 - فتح الباري(11/230) في شرح الحديث السابق.
3 - المصدرالسابق.
4 - تفسير القرطبي (18/137).
5 - كتاب الزهد الكبير (2/295). البيهقي
6 - فتح الباري (11/231)
7 - تحفة الأحوذي (6/485.
8 - فيض القدير (2/291).
9 - حلية الأولياء (5/109).
10 - تفسير الطبري (18/117).(/2)
المفاصلة
بقلم: الشيخ جواد عبد المحسن
من كتاب له بعنوان «حديث رمضان »، حيث سنقدم مواضيع على حلقات خلال شهر رمضان الكريم
? قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ?
روى الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد عن ابن عمر قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة الفجر في سفر فقرأ ? قل يا أيها الكافرون? و?قل هو الله أحد? ثم قال ? قرأت بكم ثلث القرآن و ربعه?، و روى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أتحب يا جبير إذا خرجت في سفر أن تكون أمثل أصحابك هيئه و أكثرهم زادا» قلت: نعم، قال: « فاقرأ هذه السور الخمس من أول قل يا أيها الكافرون إلى قل أعوذ برب الناس وافتتح قراءتك ببسم الله الرحمن الرحيم».
وقال ابن عباس: ليس في القرآن أشد غيظا لابليس منها لأنها توحيد وبراءة من الشرك .
وقال الأصمعي : كان يقال لـ ? قل يا أيها الكافرون? و?قل هو الله أحد? المقشقشتان... أي أنهما تبرآن من النفاق.
روي في سبب نزول هذه السورة ?سورة الكافرون? أن الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و الأسود بن عبد المطلب و أمية بن خلف قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعال حتى نعبد إلهك مدة وتعبد آلهتنا مدة، فيحصل مصلح بيننا وبينك ...فان كان أمرك رشيدا أخذنا منه حظا، وان كان امرنا رشيدا أخذت منه حظا، فنزلت السورة ونزل أيضا ?قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُون?[َ(64) الزمر].
وفيها مباحث
1. انه تعالى وصفهم بالكفر مرة وبالجهل مرة، ويقول في ذلك الفخر الرازي رحمه الله :
الجهل كالشجرة، والكفر كالثمرة، فكأن الجهل أصل للضلالات فالكفر و الشرك وان تنوعت أوصافه فهو ثمرة للجهل .
2. قوله تعالى ?لكم دينكم ولي دين?، قال ابن عباس لكم كفركم بالله ولي التوحيد والإخلاص.
3. ليس في هذه السورة رضى بدين المشركين ولا أهل الكتاب، ومن زعم أنه رضي بدين المشركين واحتج بقوله تعالى ? لكم دينكم ولي دين ? فقد افترى على سيد الخلق عليه السلام ونظير هذه الآية:
?وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ?[(41) يونس]، فلا يوجد رضى يفهم من منطوقها، وانما حد بين الكفر والإيمان حد فاصل ... كفر أو إيمان.
4. من فهمنا للآية يتبين أن هناك كفر لا إيمان فيه وإيمان خالص لاكفر فيه، ولا يوجد بينهما جسر ولا رابط ولا مجال للتقارب بين الأديان –على حد زعمهم- فالعقيدة هي القاسم المشترك بين الناس إن توحدت عندهم توحدوا، وان اختلفت اختلفوا، ولا يوجد غيرها.
5. يمر المجتمع الإسلامي بفترة يكون الصفاء فيه غالبا, أو تكون الأغشية هي الغالبة، ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجد المنافقون وكان يعرفهم، وكان الصحابة يعرفونهم لصفاء المجتمع وشفافيته التي تظهر النفاق. ولقد استمر الحال إلى أن وصل المجتمع الإسلامي إلى ما وصل إليه من الأغشية والأتربة، حتى لايكاد يُرى إلا الخبيث. وحصل كثير من اللبس والخلط بين الحق والباطل، وكثير من الناس يمارس الباطل على أنه حق وصدق الله العظيم?الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا?.
6. المفاصلة واجبة بين الكفر والإيمان، فالذي يدعو إلى التقارب والتوافق إما أن يكون جاهلا لا يعلم ما يقول، وأن جهله هذا سوف يؤتي ثماره؛ ولن تكون ثمرة الجهل إلا الكفر. أو أنه خبيث, فمن رضي بالكفر كفر، ومن رضي بمنكر يراه وان لم يباشره كان في الإثم بمنزلة المباشر, روى أبو داود عن العرس بن عميره الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ? إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقال مرة فأنكرها?.(/1)
المفصل في مناسك الحج
أولاً: تعريفه.
ثانياً: تاريخ الحج.
ثالثا: متى فرض الحج؟
رابعا: في أي سنة حجّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم؟
خامسا: وقفات لمن أراد الحج أو العمرة.
سادسا: فضل الحج ومكانته في الإسلام.
سابعا: شروط الحج.
ثامنا: مواقيت الحج والعمرة.
تاسعاً: الإحرام.
عاشراً: التلبية.
حادي عشر: الأنساك الثلاثة.
ثاني عشر: صفة العمرة والحجّ.
ثالث عشر: أركان الحجّ.
رابع عشر: واجبات الحجّ.
خامس عشر: أركان العمرة.
سادس عشر: واجبات العمرة.
سابع عشر: محظورات الإحرام.
ثامن عشر: الهدي والأضاحي.
تاسع عشر: أخطاء يقع فيها بعض الحجاج والمعتمرين والزائرين.
عشرون: أحكام الزيارة وآدابها.
أولاً: تعريفه:
قال ابن منظور: "الحج: القصد، حج إلينا فلان أي قدم، ورجل محجوج أي مقصود، وقد حج بنو فلان فلاناً إذا أطالوا الاختلاف إليه".
قال ابن السكيت: "ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكة للنسك والحجّ إلى البيتِ خاصة."
وقال ابن تيمية: "ثم غلب في الاستعمال الشرعي والعرفي على حج بيت الله سبحانه وتعالى وإتيانه فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد؛ لأنه هو المشروع الموجود كثيراً".
وقال ابن قدامة: "الحج اسم لأفعال مخصوصة".
وقال ابن حجر معرفاً الحج في الشرع: "القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة".
ثانياً: تاريخ الحج:
· بناء البيت:
قال تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منّا إنّك أنت السميع العليم}. قال ابن كثير: "القواعد جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول تعالى: واذكر - يا محمد - لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت، ورفعهما القواعد منه، وهما يقولان: {ربنا تقبل منّا إنّك أنت السميع العليم} فهما في عمل صالح، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما".
ثم أعادت قريش بناء الكعبة وشارك النبيُّ صلى الله عليه وسلم في بنائها وعمره وقتها خمس وثلاثون سنة على ما يذكره ابن إسحاق. وقد نقصت مؤنتهم عن إكمال الركنين الشاميين بقدر ستة أذرع من جهة الحطيم.
· نداء إبراهيم:
قال تعالى: {وأذِّن في النّاس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كلّ فجّ عميق}.
قال ابن كثير: "أي: نادِ في الناس داعيًا لهم إلى الحجّ إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه فذُكِر أنّه قال: يا ربّ، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا يصلهم؟ فقيل: ناد وعلينا البلاغ. فقام على مقامه، وقيل: على الحجر. وقيل: على الصفا. وقيل: على أبي قبيس. وقال: أيّها النّاس، إنّ ربّكم قد اتخذ بيتًا فحجُّوه، فيقال: إنّ الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيءٍ سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنّه يحجّ إلى يوم القيامة".
فإبراهيم عليه السلام هو أول من حجّ البيتَ.
· شعائر الحجّ من إرث إبراهيم عليه السلام:
عن ابن مربع الأنصاري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قفوا على مشاعركم، فإنّكم على إرثٍ من إرث أبيكم إبراهيم)) رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني.
· السعي بن الصفا والمروة:
قال ابن عبّاس ـ في قصة وضع إبراهيم عليه السلام لزوجته هاجر وابنه إسماعيل عند البيت ـ: (وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها فجعلت تنظر إليه يتلوى – أو قال يتلبط – فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات). قال ابن عباس: (فذلك سعيُّ النّاس بينهما) رواه البخاري.
· رمي الجِمار:
عن ابن عبّاس رضي الله عنهما – في قوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} قال: (خرج عليه كبش من الجنّة. قد رعى قبل ذلك أربعين خريفًا، فأرسل إبراهيم ابنه واتبع الكبش، فأخرجه إلى الجمرة الأولى، فرماه بسبع حصيات فأفلته عندها، فجاء الجمرة الوسطى فأخرجه عندها، فرماه بسبع حصيات ثم أفلته فأدركه عند الجمرة الكبرى، فرماه بسبع حصيات فأخرجه عندها، ثم أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه، فوالذي نفس ابن عباس بيده لقد كان أول الإسلام، وإنّ رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة قد حشّ). أي يبس.
· حجّ الأنبياء:
وقد جاء في الأخبار بحجّ عدد من الأنبياء مثل موسى عليه السلام ويونس بن متّى عليه السلام.(/1)
عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بوادي الأزرق، فقال: ((أيّ وادٍ هذا؟)). فقالوا: هذا وادي الأزرق. قال: ((كأنِّي أنظر إلى موسى عليه السلام هابطًا من الثنيَّة وله جؤارٌ إلى الله بالتلبية)). ثم أتى ثنيَّة هرشى. فقال: ((أيُّ ثنية هذا؟)). قالوا: ثنيَّة هرشى. قال: ((كأنّي أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف. خطام ناقته خُلبة، وهو يُلبيِّ)) رواه مسلم.
قال النوويُّ: "أخبر عمّا أوحي إليه صلى الله عليه وسلم من أمرهم وما كان منهم وإن لم يرهم رؤيا عين".
وجاء أنّ عيسى عليه السلام سوف يحجّ آخر الزمان.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده ليُهلنّ ابن مريم بفجِّ الرّوحاء حاجًّا أو معتمرًا، أو ليثنينهما)) رواه مسلم.
· حجّ العرب في الجاهلية:
- الطواف بالبيت عراة:
عن أبي هريرة أنّ أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه بعثه في الحجّة التي أمَّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجّة الوداع يوم النحر في رهطٍ يؤذِّن في النّاس: أن لا يحجَّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. رواه البخاري.
قال عروة: كان الناس يطوفون بالجاهلية عراة إلاّ الحمس. والحمس قريش وما ولدت. وكانت الحمس يحتسبون على الناس، يعطي الرجلُ الرجلَ الثياب يطوف فيها، وتعطي المرأةُ المرأةَ الثياب تطوف فيها. فمن لم تعطه الحمس طاف بالبيتِ عريانًا. رواه البخاري
- وقوف قريش يوم عرفة بالمزدلفة دون عرفة:
قال عروة: كان يفيض جماعة النّاس من عرفاتٍ، وتفيض الحمس من جمعٍ. قال: فأخبرنِي أبي عن عائشة رضي الله عنها أنّ هذه الآية نزلت في الحمس {ثم أفيضوا من حيث أفاض النّاس}. قال: كان يفيضون من جمعٍ، فدفعوا إلى عرفات. متفق عليه
وقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا وكان يقف حيث وقف إبراهيم عليه السلام في الجاهلية وفي حجّة الوداع.
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: أضللتُ بعيرًا فذهبتُ أطلبه يوم عرفة فرأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم واقفًا بعرفة، فقلتُ: هذا والله من الحمس، فما شأنه ههنا؟. رواه البخاري.
وعن جابر رضي الله عنه قال: (فلمّا أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريشٌ أنّه سيقتصر عليه، ويكون منزله ثَمَّ، فأجاز ولم يعرض له؛ حتى أتى عرفاتٍ فنَزل) رواه مسلم.
- دفع أهل الجاهلية من عرفات قبل غروب الشمس:
كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفات إذا كانت الشمس على الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال، فخالف النبيُّ صلى الله عليه وسلم فدفع بعد غروب الشمس.
- إفاضة أهل الجاهلية من مزدلفة بعد شروق الشمس:
عن ابن عمر قال: (إنّ المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، وأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس) رواه البخاري.
ثالثا: متى فرض الحج؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اختلف الناس في ذلك اختلافًا مشهورًا، فقيل: سنة خمس، وقيل: سنة ست، وقيل: سنة سبع، وقيل سنة تسع، وقيل: سنة عشر، [و] الأشبه أنه إنما فرض متأخر، يدل على ذلك وجوه:
أحدها: أن آية وجوب الحج التي أجمع المسلمون على دلالتها على وجوبه، قوله: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} نزلت متأخرة سنة تسع أو عشر.
وأما قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} فإنه نزل عام الحديبية وهو أمر بالإتمام لا يتضمن الأمر بالابتداء.
الثاني: أن أكثر الأحاديث الصحيحة في دعائم الإسلام ليس فيها ذكر الحج.
الثالث: أن الناس قد اختلفوا في وجوبه، والأصل عدم وجوبه في الزمان الذي اختلفوا فيه حتى يجتمعوا عليه، وليس هناك نقل صحيح أنه واجب سنة خمس، أو سنة ست".
وقال محمد الأمين الشنقيطي: "والصحيح أن الحج إنما فرض عام تسع".
وقال ابن عثيمين: "وأما فرض الحج فالصواب: أنه في السنة التاسعة ... فإن قيل: لماذا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في التاسعة، وأنتم تقولون على الفور؟
الجواب: لم يحج صلى الله عليه وسلم لأسباب:
1. كثرة الوفود عليه في تلك السنة، ولهذا تسمى عام الوفود، ولا شك أن استقبال المسلمين الذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أمر مهم، بل قد نقول إنه واجب على الرسول صلى الله عليه وسلم ليبلغ الناس.
2. أنه في السنة التاسعة من المتوقع أن يحج المشركون، كما وقع فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخر من أجل أن يتمحض حجه للمسلمين فقط، وكان الناس في الأول يطوفون عراة بالبيت"
رابعا: في أي سنة حجّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم؟(/2)
حجّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة، فعن جابر رضي الله عنه قال: (إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحجّ، ثم آذن في الناس في العاشرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجٌ. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمسون أن يأتمّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله) رواه مسلم.
خامسا: وقفات لمن أراد الحج أو العمرة:
إذا عزم المسلم على السفر إلى الحج أو العمرة استحب له ما يلي:
1. المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب:
قال تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}.
قال ابن القيم: "هذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه, وأتى بأداة (لعل) المشعرة بالترجي إيذاناً بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم".
2. رد المظالم إلى أهلها والتحلل منها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم, إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته, وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) رواه البخاري.
قال ابن حجر: "قوله: ((من عرضه أو شيء)) أي من الأشياء وهو من عطف العام على الخاص فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوها، وقوله: ((قبل أن لا يكون دينار ولا درهم)) أي يوم القيامة، ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزرة أخرى} لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه ولم يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته, فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله تعالى في عباده".
3. تحرّي النفقة الحلال لحجه وعمرته:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر: أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب, ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام , فأنى يستجاب لذلك)) رواه مسلم.
قال ابن رجب: "المراد أنه تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان طيباً حلالاً، وقد قيل إن المراد في هذا الحديث أعم من ذلك وهو أنه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً طاهراً من المفسدات كلها كالرياء والعجب ولا من الأموال إلا ما كان طيباً حلالاً، وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يُقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل ويمنع قبوله".
4. أن يقصد بحجه وعمرته وجه الله والدار الآخرة ويحذر من أن يقصد بحجه الدنيا أو الرياء والسمعة:
قال الله تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً}.
قال السعدي: "يخبر تعالى أن من كان يريد الدنيا العاجلة المنقضية الزائلة فعمل لها وسعى ونسي المبتدأ والمنتهى أن الله يُعجل له من حطامها ومتاعها ما يشاؤه ويريده مما كتب الله له في اللوح المحفوظ, ثم يجعل له في الآخرة جهنم".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك, مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) رواه مسلم.
قال النووي: "ومعناه أنا غني عن المشاركة وغيرها, فمن عمل شيئاً لي ولغيري لم أقبله, بل أتركه لذلك الغير, والمراد أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه ويأثم به".
5. تعلم أحكام الحج والعمرة وما يتعلق بهما من شروط الحج وواجباته وأركانه وسننه حتى تعبد الله على بصيرة وعلم:
قال عبد العزيز بن باز: "وينبغي له أن يتعلم ما يشرع له في حجه وعمرته ويتفقه في ذلك ويسأل عما أشكل عليه ليكون على بصيرة".
6. اختيار الرفقة الصالحة: فإنهم خير معين لك في هذا السفر المبارك:
قال تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.
قال السعدي: "ففيهما الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء, فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) رواه الترمذي، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع.
قال المباركفوري: "قوله: ((على دين خليله)) أي على عادة صاحبه وطريقته وسيرته وقوله: ((من يخالل)) من المخاللة وهي المصادقة والإخاء فمن رضي دينه وخلقه خاله ومن لا تجنبه فان الطباع سراقة والصحبة مؤثرة في إصلاح الحال وإفساد(/3)
سادسا: فضل الحج ومكانته في الإسلام:
1. قال الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}.
قال ابن جرير: "يعني بذلك جل ثناؤه: وفرض واجب لله على من استطاع من أهل التكليف السبيل إلى حج بيته الحرام الحج إليه".
2. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)) متفق عليه.
3. عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أبسط يمينك فلأبايعك فبسط يمينه، قال فقبضت يدي قال: ((مالك يا عمرو)) قال: قلت: أردت أن اشترط، قال: ((تشترط بماذا)) قلت: أن يغفر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)) رواه مسلم.
قال النووي: "ففيه عظم موقع الإسلام والهجرة والحج وأن كل واحد منهما يهدم ما كان قبله من المعاصي".
4. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) متفق عليه، واللفظ لمسلم.
قال ابن حجر: "قوله: ((رجع كيوم ولدته أمه)) أي بغير ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات".
5. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((جهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) رواه البخاري.
6. عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: ((لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور)) رواه البخاري.
7. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور، ليس له جزاء إلا الجنة)) أخرجه البخاري.
8. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)) أخرجه الترمذي، وصححه الألباني.
9. عن ماعز رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة بَرّةٌ، تفضل سائر الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها)) أخرجه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب.
10. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر، وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)) أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني.
11. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد منى، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف فسلما ثم قالا: يا رسول الله جئنا نسألك، فقال: ((إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فقلتُ، وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلتُ))، فقالا: أخبرنا يا رسول الله، فقال الثقفي للأنصاري: سل، فقال أخبرني يا رسول الله، فقال: ((جئتني تسألني عن مخرجك من بيتك تؤُمُ البيت الحرام ومالك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف ومالك فيهما وعن طوافك بين الصفا والمروة ومالك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة ومالك فيه، وعن رميك الجمار ومالك فيه، ونحرك ومالك فيه مع الإفاضة)) فقال: والذي بعثك بالحق لَعَن هذا جئت أسألك، قال: ((فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام، لا تضع ناقتك خُفّا ولا ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة، ومحا عنك خطيئة، وأما ركعتاك بعد الطواف كعتق رقبة من بني إسماعيل، وأما طوافك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة يقول: عبادي جاؤوني شعثاً من كل فج عميق يرجون رحمتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل أو كقطر المطر، أو كزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له، وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمدخور لك عند ربك، وأما حلاقك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة، وتمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك، فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك فيقول: اعمل فيما تستقبل، فقد غفر لك ما مضى)) رواه البزار، وحسّنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب
سابعا: شروط الحج:
1. الإسلام:
قال تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فنهاهم أن يقربوه ومنعهم منه، فاستحال أن يؤمروا بحجه".(/4)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس: ((أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان)) متفق عليه.
2. العقل:
3. البلوغ:
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه ـ أو قال: المجنون ـ حتى يعقل، وعن الصغير حتى يشب)) أخرجه أحمد، وصححه الألباني في الإرواء.
قال ابن قدامة: "فأما الصبي والمجنون فليسا بمكلفين".
وقال الشنقيطي: "أما العقل والبلوغ، فكونهما شرطين في وجوب الحج فواضح ؛ لأن غير العاقل لا يصح تكليفه بحال، ولأن الصبي مرفوع عنه القلم حتى يحتلم".
4. الحرية:
قال ابن قدامة: "وأما العبد فلا يجب عليه؛ لأنه عبادة تطول مدتها، وتتعلق بقطع مسافة، وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة، ويضيع حقوق سيده المتعلقة به، فلم يجب عليه كالجهاد".
وقد استدل أهل العلم على عدم وجوب الحج على العبد بأمرين:
الأول: الأثر:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ((أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام)) رواه ابن خزيمة.
قال الشنقيطي: "ووجه الدلالة منه على أن الحرية شرط في وجوب الحج وأنه لو حج وهو مملوك ثم أعتق بعد ذلك لزمته حجة الإسلام كما هو ظاهر".
الثاني: الإجماع:
قال النووي: "أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج".
5. الاستطاعة:
قال الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمناط الوجوب وجود المال، فمن وجد المال وجب عليه الحج بنفسه أو بنائبه، ومن لم يجد المال فلم يجب عليه الحج".
وقال ابن عثيمين: "الاستطاعة بالمال والبدن بأن يكون عنده مال يتمكن به من الحج ذهاباً وإياباً ونفقة، ويكون هذا المال فاضلاً عن قضاء الديون والنفقات الواجبة عليه، وفاضلاً عن الحوائج التي يحتاجها من المطعم والمشرب والملبس والمنكح والمسكن ومتعلقاته وما يحتاج إليه من مركوب وكتب علم وغيرها".
6. وجود المحرم للمرأة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم)) فقال رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج، فقال: ((اخرج معها)) متفق عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهذه نصوص من النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم سفر المرأة بغير محرم، ولم يخصص سفراً من سفر، مع أن سفر الحج من أشهرها وأكثرها، فلا يجوز أن يغفله ويهمله ويستثنيه بالنية من غير لفظ, بل قد فهم الصحابة منه دخول سفر الحج في ذلك، لما سأله ذلك الرجل عن سفر الحج، وأقرهم على ذلك، وأمره أن يسافر مع امرأته، ويترك الجهاد الذي قد تعين عليه بالاستنفار فيه، ولولا وجوب ذلك لم يجز أن يخرج سفر الحج من هذا الكلام، وهو أغلب أسفار النساء".
وقال ابن عثيمين: "ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة محرم، فلا يجب أداء الحج على من لا محرم لها لامتناع السفر عليها شرعاً، إذ لا يجوز للمرأة أن تسافر للحج ولا غيره بدون محرم، سواء أكان السفر طويلاً أو قصيراً، وسواء أكان معها نساء أم لا، وسواء كانت شابة جميلة أم عجوز شهداء، وسواء في طائرة أم غيرها... والحكمة في منع المرأة من السفر بدون محرم صون المرأة عن الشر والفساد، وحمايتها من أهل الفجور والفسق، فإن المرأة قاصرة في عقلها وتفكيرها والدفاع عن نفسها، وهي مطمع الرجال، فربما تخدع أو تقهر، فكان من الحكمة أن تمنع من السفر بدون محرم يحافظ عليها ويصونها، ولذلك يشترط أن يكون المحرم بالغاً عاقلاً... والمحرم زوج المرأة، وكل ذكر تحرم عليه تحريماً مؤبداً بقرابة أو رضاع أو مصاهرة".
ثامنا: مواقيت الحج والعمرة:
المواقيت جمع ميقات: وهو ما حدده ووقته الشارع للعبادة من زمان ومكان.
للحج والعمرة ميقاتان: زماني ومكاني.
أولاً: الميقات الزماني:
أ) للحج: وهو شوال وذو القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، قال الله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وهن شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، جعلهن الله سبحانه للحج، وسائر الشهور للعمرة فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج، والعمرة يحرم بها في كل شهر" رواه الطبري.
ب) للعمرة: وميقاتها الزماني جميع شهور السنة:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "والعمرة يحرم بها في كل شهر" رواه الطبري.
وقال الطبري: "فأما العمرة فإن السنة كلها وقت لها، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في بعض شهور الحج، ثم لم يصح عنه بخلاف ذلك خبر".(/5)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما العمرة فيحرم بها متى شاء لا تختص بوقت، لأن أفعالها لا تختص بوقت، فأولى أن لا يختص إحرامها بوقت".
ثانياً: الميقات المكاني للحج والعمرة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الحجفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهله من أهله) متفق عليه.
وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن المهل؟ فقال: سمعت (أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم) فقال: ((مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلملم)) أخرجه مسلم.
تعريف موجز بالمواقيت:
ذو الحليفة: ميقات أهل المدينة، ويسمى الآن آبار علي، وهو أبعد المواقيت عن مكة، وتبلغ المسافة بينه وبين مكة (420كلم).
الجحفة: ميقات أهل الشام، كانت قرية عامرة ثم جحفتها السيول فصارت الآن خراباً فصار الإحرام من قرية رابغ الواقعة عنها غربا بمحاذاتها وتبعد عن مكة (186كلم)، ويحرم منها من هم في شمال المملكة ويحرم منها بلدان إفريقيا الشمالية والغربية وأهل لبنان وسوريا ومن في جهتهم.
قرن المنازل: ميقات أهل نجد، ويسمى الآن السيل الكبير ويبعد عن مكة (78 كلم)، ويحرم منه أهل المشرق كله من أهل الخليج والعراق وإيران وغيرهم، ومثله وادي محرم الواقع في الهدى في الجهة الغربية من الطائف وهذا هو أعلى قرن المنازل وهو ميقات نصاً لا محاذاة.
يلملم: ميقات أهل اليمن، ويقال لها السعدية، ويبعد عن مكة (120 كلم).
ذات عرق: ميقات أهل العراق، وهي مهجورة الآن لعدم وجود الطرق إليها، وتبعد عن مكة (100 كلم).
مسائل تتعلق بالمواقيت:
1. أن المواقيت الخمسة السابقة مواقيت أيضاً لمن مرّ عليها من غير أهلها، وهو يريد النسك حجاً كان أو عمرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)).
2. من كان مسكنه أقرب إلى مكة من الميقات كأهل جدة وعسفان فميقاته من موضع سكناه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن كان دونهن فمهله من أهله)).
3. يهل أهل مكة بالحج من بيوتهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((حتى أهل مكة يهلون من مكة)).
وأما العمرة فإنهم يهلون لها من الحل (خارج مكة) فيخرجون إلى خارج حدود الحرم فيحرمون ثم يعودون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة في عمرتها من مكة إلى التنعيم، وهو أدنى الحل" متفق عليه.
4. من سلك إلى الحرم طريقاً لا ميقات فيها، فميقاته المحل المحاذي لأقرب المواقيت إليه.
5. لا يجوز لمن من مرّ بهذه المواقيت وهو يريد الحج أو العمرة أن يتجاوزها إلا محرما.
قال ابن عثيمين: "وعلى هذا فإذا كان في الطائرة وهو يريد الحج أو العمرة وجب عليه الإحرام إذا حاذى الميقات من فوقه، فيتأهب ويلبس ثياب الإحرام قبل محاذاة الميقات، فإذا حاذاه عقد نية الإحرام فوراً، ولا يجوز له تأخيره إلى الهبوط في جدة، لأن ذلك من تعدّي حدود الله".
6. فإن جاوز مريد الحج أو العمرة الميقات دون أن يحرم منه فما الحكم؟
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي: "أظهر أقوال أهل العلم عندي أنه إن جاوز الميقات ثم رجع إلى الميقات وهو لم يحرم أنه لا شيء عليه؛ لأنه لم يبتدئ إحرامه إلا من الميقات، وأنه إن جاوز الميقات غير محرم وأحرم في حال مجاوزته الميقات ثم رجع إلى الميقات محرماً أن عليه دماً لإحرامه بعد الميقات".
7. من أراد دخول مكة لغير الحج أو العمرة كالزيارة والتجارة ونحوها لم يجب عليه الإحرام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لمن أراد الحج أو العمرة))، والإحرام في حقه أفضل.
8. من مرّ بالمواقيت وهو لا يريد حجاً ولا عمرة، ثم بدا له بعد ذلك أن يعتمر أو يحج فإنه يحرم من المكان الذي عزم فيه على ذلك، لقول ابن عباس: "فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ" رواه البخاري.
تاسعاً: الإحرام:
1- تعريفه:
قال ابن منظور: "الإحرام: مصدر أحرم الرجل يحرم إحراماً، إذا أهل بالحج أو العمرة، وباشر أسبابهما، وشروطهما من خلع المخيط، وأن يتجنب الأشياء التي منعه الشرع منها كالطيب والنكاح والصيد وغير ذلك، والأصل فيه المنع، فكأن المحرم ممتنع من هذه الأشياء".
وقال الشربيني: "الإحرام الدخول في حج أو عمرة، أو فيهما أو فيما يصلح لهما، ولأحدهما، وهو المطلق، ويطلق أيضاً على نية الدخول فيما ذكر".
وقال ابن عثيمين: "فأما الإحرام فهو نية الدخول في النسك والتلبس به".
2- النية شرط في الإحرام:(/6)
قال ابن عثيمين: "نية الدخول في النسك شرط, فلا بد أن ينوي الدخول في النسك، فلو لبّى بدون نية الدخول فإنه لا يحرم بمجرد التلبية، ولو لبس ثياب الإحرام بدون نية الدخول فإنه لا يكون محرماً، ولا بمجرد التلبية، ودليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) متفق عليه".
3- مستحبات الإحرام:
أ/ الغسل:
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل) أخرجه الترمذي، وحسّنه الألباني.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (نفست أسماء بمحمد بن أبي بكر بالشجرة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يأمرها أن تغتسل، وتهل) رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "يستحب الاغتسال قبل الإحرام للرجل والمرأة سواء كانت طاهراً أو حائضاً".
وقال الإمام الشافعي: "وما تركت الاغتسال قط، ولقد كنت أغتسل له مريضاً في السفر، وإني أخاف ضرر الماء، وما صحبت أحداً أقتدي به فرأيته تركه، ولا رأيت منهم أحداً عدا به، أن رآه اختياراً".
ب/ التنظف:
قال ابن قدامة: "ويستحب التنظف بإزالة الشعث، وقطع الرائحة، ونتف الإبط، وقص الشارب، وقلم الأظفار، وحلق العانة؛ لأنه أمر يسن له الاغتسال والطيب، فَسُنّ له هذا كالجمعة، ولأن الإحرام يمنع قطع الشعر وقَلْم الأظفار فاستحب فعله قبله، لئلا يحتاج إليه في إحرامه، فلا يتمكن منه".
قال ابن باز: "ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شرع للمسلمين تعاهد هذه الأشياء كل وقت، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وقلم الأظفار، ونتف الآباط)) متفق عليه، وأما اللحية فيحرم حلقها أو أخذ شيء منها في جميع الأوقات، بل يجب إعفاؤها وتوفيرها لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا المشركين، وفّروا اللحى وأحفوا الشوارب)) متفق عليه".
ج/ التطيب:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد، حتى أجد وَبِيض الطيب في رأسه ولحيته).
قال ابن قدامة: "يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة، ولا فرق بين ما يبقى عَيْنه كالمسك والغالية، أو أثرة كالعود والبخور وماء الورد".
وقال ابن عثيمين: "أما تطييب الثوب فإنه يكره ـ أي ثوب الإحرام ـ لا يطيب، لا بالبخور، ولا بالدهن، وإذا طيبه: قال بعض العلماء: إنه يجوز أن يلبسه إذا طيبه قبل أن يعقد الإحرام لكن يكره، وقال بعض العلماء: لا يجوز لبسه إذا طيبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تلبسوا ثوباً مسّه الزعفران ولا الورس)) فنهى أن نلبس الثوب المطيب، وهذا هو الصحيح، وإذا تطيب في بدنه ثم سال الطيب من الموضع الذي وضعه فيه فهل يؤثر؟
الجواب: لا يؤثر؛ لأن انتقال الطيب هنا بنفسه، وليس هو الذي نقله ولأن ظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم لا يبالون إذا سال الطيب لأنهم وضعوه في حال يجوز لهم وضعه".
د/ لبس إزار ورداء أبيضين نظيفين ونعلين بعد التجرد من المخيط:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين)) أخرجه ابن خزيمة وصححه الألباني.
قال ابن قدامة: "ويستحب أن يكونا نظيفين، إما جديدين، وإما غسيلين؛ لأنا أحببناه له التنظف في بدنه، فكذلك في ثيابه، كشاهد الجمعة، والأولى أن يكونا أبيضين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير ثيابكم البياض، فالبسوها وكفنوا فيها موتاكم)) أخرجه أحمد، وصحح ابن حبّان".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويستحب أن يحرم في ثوبين نظيفين، فإن كانا أبيضين فهما أفضل، ويجوز أن يحرم في جميع أجناس الثياب المباحة من القطن والكتان والصوف... ويجوز أن يحرم في الأبيض وغيره من الألوان الجائزة، وإن كان ملوناً".
وقال ابن باز: "وأما المرأة فيجوز لها أن تحرم فيما شاءت من أسود أو أخضر أو غيرهما مع الحذر من التشبه بالرجال في لباسهم، وأما تخصيص بعض العامة إحرام المرأة في الأخضر أو الأسود دون غيرهما، فلا أصل له".
هـ/ الإحرام عقيب الصلاة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات).
قال الماوردي: "يستحب أن يحرم عقيب صلاة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "يستحب أن يحرم عقيب صلاة، إما فرض وإما تطوع إن كان وقت تطوع في أحد القولين، وفي الآخر إن كان يصلي فرضاً أحرم عقيبه وإلا فليس بالإحرام صلاة تخصه، وهذا أرجح".
وقال الألباني: "وليس للإحرام صلاة تخصه، لكن إن أدركته الصلاة قبل إحرامه فصلى ثم أحرم عقب صلاته كان له أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أحرم بعد صلاة الظهر".
و/ التلفظ بالنسك والإهلال به:
1. صفته:(/7)
قال ابن باز: "ثم بعد الفراغ من الغسل والتنظيف ولبس ثياب الإحرام ينوي بقلبه الدخول في النسك الذي يريده من حج أو عمرة... ويشرع له التلفظ بما نوى، فإن كانت نيته العمرة قال: لبيك عمرة، أو اللهم لبيك عمرة، وإن كانت نيته الحج قال: لبيك حجاً، أو اللهم لبيك حجاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك".
وهل يستحب أن يقول: ((اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي))؟.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الصواب المقطوع به أنه لا يستحب شيء من ذلك، ولا كان يتكلم صلى الله عليه وسلم قبل التلبية بشيء من ألفاظ النية لا هو ولا أصحابه، بل لما أمر ضباعة بنت الزبير قالت: فكيف أقول؟ قال: قولي: ((اللهم محلي حيث حبستني))، لكن المقصود أنه أمرها بالاشتراط في التلبية ولم بأمرها أن تقول قبل التلبية شيئاً، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ((لبيك عمرة وحجاً)) فهذا هو الذي شرع النبي صلى الله عليه وسلم التكلم به في ابتداء الحج والعمرة".
تنبيه:
قال ابن باز: "ولا يشرع له التلفظ بما نوى إلا في الإحرام خاصة؛ لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الصلاة والطواف وغيرهما فينبغي له أن لا يتلفظ في شيء منها بالنية، فلا يقول: نويت أن أصلي كذا وكذا، ولا نويت أن أطوف كذا، بل التلفظ بذلك من البدع المحدثة، والجهر بذلك أقبح وأشد إثماً، ولو كان التلفظ بالنية مشروعاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم وأوضحه للأمة بفعله أو قوله، ولسبق إليه السلف الصالح، فلما لم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم علم أنه بدعة".
2. الاشتراط عند الحاجة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج، وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني)) رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإن اشترط على ربه خوفاً من العارض فقال: وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني كان حسناً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابنة عمه ضباعة أن تشترط لما كانت شاكية، ولم يكن يأمر بذلك كل من حج".
فإن قيل ما فائدة الاشتراط؟
قال ابن عثيمين: "فائدته أنه إذا وجد المانع حل من إحرامه مجّاناً، أي بلا هدي؛ لأن من أحصر عن إتمام النسك فإنه يلزمه هدي، لقوله تعالى: {فإن أحصرتم في استيسر من الهدي}.
3. وقته:
عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: (يا أبا العباس، عجباً لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب! فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة فمن هنالك اختلفوا، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً، فلما صلّى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالاً فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل، فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين علا على شرف البيداء، وايم الله، لقد أوجب في مصلاّه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء) أخرجه أحمد وصححه الحاكم.
قال الترمذي: "وهو الذي يستحبه أهل العلم: أن يحرم الرجل دبر الصلاة".
وقال ابن تيمية في الحديث السابق: "وهذه رواية مفسرة فيها زيادة علم وإطلاع على ما خفي في غيرها فيجب التقيد بها واتباعها، وليس هذا مخالفاً لما تقدم عنه أنه أهل حين استوت به على البيداء؛ لأن تلك الرواية بعض هذه".
ثم قال: "فإن إحرامه جالساً مستقبل القبلة أقرب إلى اجتماع همه وحضور قلبه، وهو بعد الصلاة أقرب إلى الخشوع منه عند الركوب فإحرامه حال الخشوع أولى".
وقال ابن عثيمين: "فإذا فرغ من الصلاة أحرم"
عاشراً: التلبية:
أ/ صفتها:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)) رواه البخاري.
وعن جابر رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فأهل صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته)) رواه مسلم.
ب/ معناها:
قال الماوردي: "أما التلبية، فقد اختلف أهل العلم فيما هي مأخوذة منه على خمسة أقاويل:(/8)
أحدها: أنها مأخوذة من قولهم: ألبّ ولبّ فلان بالمكان إذا أقام فيه. فيكون معنى لبيك: أنا مقيم عند طاعتك.
الثاني: أنها مأخوذة من الإجابة، ومعناها: إجابتي لك.
الثالث: أنها مأخوذة من اللب واللباب، وهو خالص الشيء، فيكون معناها الإخلاص، أي أخلصت لك الطاعة.
الرابع: أنها مأخوذة من لُبّ العقل، ويكون معناها: لُبّي منصرف إليك، وقلبي مقبل عليك.
الخامس: أنها مأخوذة من المحبة، ويكون معناها: محبتي لك".
وقال الشنقيطي: "هي من لبّى بمعنى: أجاب، فلفظة لبيك مثناة على قول سيبويه والجمهور، وهو الأظهر، وتثنيتهما للتكثير، أي إجابة لك بعد إجابة، ولزوماً لطاعتك".
ج/ فضلها:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (ما من مسلم يلبي إلا لبّى من عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
قال الألباني: "فإن قيل ما فائدة المسلم في تلبية الأحجار والشجر وغيرهما مع تلبيته؟ قلت: اتباعها إياه في هذا الذكر دليل على فضيلته وشرفه ومكانته عند الله تعالى، إذ ليس اتباعُها إياه في هذا الذكر إلا لذلك، على أنه يجوز أن يكتب له أجر هذه الأشياء؛ لأنها صدرت عنها تبعاً، فصار المؤمن بالذكر كأنه دال على الخير، والله أعلم".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أهلّ مهلّ قط إلا بُشّر، ولا كبر مكبر قط إلا بشر))، قيل: يا رسول الله: بالجنة؟ قال: ((نعم)) رواه الطبراني، وحسّنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب.
د/ رفع الصوت بها:
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((جاءني جبريل فقال: يا محمد، مُرّ أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحج)) رواه ابن ماجه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
وعن أبي بكر الصديق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((العَجُّ والثَجُّ)) رواه ابن ماجه، وصححه ابن خزيمة.
قال الترمذي: "العَجُّ: هو رفع الصوت بالتلبية، والثَجُّ: هو نحر البدن".
قال الشنقيطي: "النساء لا ينبغي لهن رفع الصوت بالتلبية، كما عليه جماهير أهل العلم، وعلل أهل العلم خفض المرأة صوتها بالتلبية، بخوف الافتتان بصوتها".
هـ/ الإكثار منها:
قال الماوردي: "يستحب للمحرم أن يلبي في جميع أحواله، قائماً، وقاعداً، وراكباً، ونازلاً، وجنباً، ومتطهراً، وعند اصطدام الرفاق، وعند الإشراف، والهبوط، وبالأسحار، وخلف الصلوات، وفي استقبال الليل والنهار؛ لأنه فعل السلف، وقد روت عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله في كل أحيانه)".
وقال ابن عثيمين: "وينبغي للمحرم أن يكثر من التلبية؛ لأنها الشعار القولي للنسك خصوصاً عند تغيّر الأحوال والأزمان".
و/ ابتداؤها وقطعها:
قال ابن عثيمين: "ويستمر في التلبية في العمرة من الإحرام إلى أن يشرع في الطواف، وفي الحج من الإحرام إلى أن يرمي جمرة العقبة يوم العيد".
حادي عشر: الأنساك الثلاثة:
الحجّ ثلاثة أنساك: إمّا تمتع أو قران أو إفراد.
1- الإفراد:
أمّا الإفراد؛ فهو أن يحرم بالحجّ وحده في أشهر الحجّ. وصفة التلفظ بِهذا النسك مع النية القلبية أن يقول عند الإحرام: لبيك حجًّا.
أعمال المفرد:
إذا وصل مكة عليه أن يطوف طواف القدوم، ثم يسعى إن شاء سعي الحجّ بعد طواف الإفاضة، وإن شاء أخره بعد طواف الزيارة اليوم العاشر، ويبقى على إحرامه إلى أن يحل بعد رمي جمرة العقبة، ولا يلزمه هدي.
2- التمتع:
فأمّا التمتع؛ فهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحجّ، ثم يتحلل منها، ثم يحرم بالحجّ في اليوم الثامن من نفس العام دون أن يرجع إلى بلده. وصفة التلفظ بهذا النسك أن يقول عند الإحرام: لبيك عمرة. ثم يقول في الثامن: لبيك حجًّا.
أعمال المتمتع:
إذا وصل مكه طاف وسعى للعمرة، ثم تحلل بحلق أو تقصير. فإذا كان اليوم الثامن يوم التروية أحرم بالحجّ وحده، وأتى بجميع أفعاله.
ويلزمه الهدي؛ لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي}.
شروطها ثمانية:
1- أن يجمع بين الحجّ والعمرة.
2- أن يكون هذا الجمع في سفر واحد.
3- في عام واحد.
4- في أشهر الحج.
5- أن يقدم العمرة على الحجّ.
6- ألا يمزجها، فيكون الحجّ بعد التحلل من العمرة.
7- أن تكون العمرة والحجّ عن شخص واحد.
8- أن يكون من غير أهل مكة.
وقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على من لم يسق الهدي من أصحابه أن يتحللوا بعمرة، عن عائشة أنّها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجّة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه هدي، فليُهلل بالحجّ مع العمرة، ثم لا يحلُّ حتى يحلَّ منهما جميعًا)) رواه مالك.
3- القِران:(/9)
وأمّا القران؛ فهو أن يحرم بالحجّ والعمرة معًا، فيبقى على إحرامه إلى أن يفرغ من أعمال العمرة والحجّ. وصفة التلفظ بِهذا النسك مع النبية القلبية أن يقول عند الإحرام: لبيك عمرة وحجًّا.
أعمال القِران:
وتندرج أفعال العمرة في أفعال الحجّ، فعمل القارن عمل المفرد، سواء بسواء، فعن ابن عمر رضي الله عنه أنّه قرن الحجّ إلى العمرة، وطاف لهما طوافًا واحدًا، ثم قال: (هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.
ويلزمه الهدي؛ لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة فما استيسر من الهدي}، قال ابن القيم: "قرن ـ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بين الحج والعمرة، وكانوا يسمّون ذلك تمتعًا".
وهو النسك الذي حجّ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فعن عمر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: ((أتاني الليلة آتٍ من ربِّي عزّ وجلّ، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجَّة)) رواه البخاري.
الفرق بين عمل القارن وعمل المتمتع:
الفرق بين عمل القارن وعمل المتمتع أنّ القارن عليه طواف واحد وسعي واحد، وأمّا المتمتع فعليه طواف وسعي لعمرته، وطواف وسعي لحجته.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال: ((من كان معه هديٌ؛ فيهل بالحجّ والعمرة، ثم لا يحل حتى يحلّ منهما جميعًا)). قالت: فطاف الذين أهلُّوا بالعمرة، ثم حَلُّوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى. وأمّا الذين جمعوا بين الحجّ والعمرة؛ فإنّما طافوا طوافًا واحدًا. متفق عليه.
القران أفضل الأنساك لمن ساق الهدي ثم التمتع ثم الإفراد:
استحبّ جمعٌ من أهل العلم لمن كان قارنًا ولم يسق الهدي، أو مفردًا أن يتحلل بعمرة، ويتمتع من عامه ذلك؛ لحديث أبي شهابٍ، قال: قدمتُ مكة بعمرةٍ فدخلنا قبل يوم التروية بثلاثة أيّام، فقال لي أناسٌ من أهل مكة: يصير الآن حجّك مكيًّا. فدخلتُ على عطاء أستفتيه، فقال: حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنّه حجّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ساق البُدن معه، وقد أهلُّوا بالحجّ مفردًا. فقال لهم: ((أحلّوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، وقصِّروا ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهِلُّوا بالحجّ واجعلوا التي قدمتم بِها متعة)). فقالوا: نجعلها متعة وقد سمَّينا الحجّ؟ فقال: ((افعلوا ما أمرتكم، فلولا أنِّي سقت الهدي؛ لفعلتُ مثل الذي أمرتكم. ولكن لا يحلّ مني حرامٌ حتى يبلغ الهدي محله)) رواه البخاري.
بل أوجب ذلك بعض أهل العلم، قال ابن القيّم: "وقد ذهب جماعة من السلف والخلف إلى إيجاب القران على من ساق الهدي، والتمتع بالعمرة المفردة على من لم يسق الهدي، منهم: عبد الله بن عباس وجماعة، فعندهم لا يجوز العدول عمّا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر به أصحابه، فإنّه قرن وساق الهدي، وأمر كل من لا هدي معه بالفسخ إلى عمرة مفردة، فالواجب: أن نفعل كما فعل، أو كما أمر".
وأفضل الأنساك أن يسوق الهدي ويقرن؛ لأنّ القران هو المنسك الذي اختاره الله تبارك وتعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيّم: "ولم يكن الله ليختار له إلاّ أفضل الأمور، ولا سيما وقد جاءه الوحي به من ربّه تعالى، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم".
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة))؛ فهذا كان لأجل تطييب قلوب الصحابة الذين أمرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأن يتحللوا من حجّهم بعمرة.
وإلاّ فإنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما كان له أن يستقبل من أمره ما استدبره؛ لأنّه أحرم بوحي من الله، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليخالف أمر الله له.
ثاني عشر: صفة العمرة والحجّ:
صفة العمرة:
العمرة: إحرام وطواف وسعي وحلق أو تقصير. والإحرام: نية الدخول في النسك والتلبس به.
أعمال المعتمر:
1- على مريدِ العمرة إذا وصل إلى ميقاته: أن يغتسل كما يغتسل للجنابة، رجلاً كان أو امرأةً.
2- يتطيَّب بأطيب ما يجد في رأسه ولحيته بدهن عودٍ أو غيره.
3- يلبس ثياب الإحرام.
4- يدخل في النسك بعد فراغه من الصلاة بأن يعقد النية بقلبه، ويقول: لبيك عمرة. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. هذه تلبية النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وربّما زاد: لبيك إله الحقّ.
5- فإذا وصل إلى المسجد الحرام قدّم رجله اليمنى لدخوله، وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم.(/10)
6- ثم يتقدم إلى البيت متوجهًا نحو الحجر الأسود ليبتدئ الطواف. فيستلم الحجر بيمناه ويقبله إن تيسر له، تعظيمًا لله عزّ وجل، واقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا اعتقادًا أنّ الحجر ينفع أو يضرّ، فإنّما ذلك لله عزّ وجلّ.
عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه كان يقبل الحجر ويقول: (إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرُّ ولاتنفع، ولولا أنّي رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبلتك) رواه الجماعة.
فإن لم يتيسر له التقبيل استلمه بيده وقبّلها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه استلم الحجر بيده ثم قبّل يده، وقال: ما تركته منذ رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يفعله.
فإن لم يتيسر له استلامه بيده اكتفى بالإشارة إليه، فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طاف بالبيتِ على بعيرٍ، كلّما أتى على الركن أشار إليه. وفيه رواية: أشار إليه وكبّر. رواه البخاري
7- والسنة أنّه إذا أراد الشروع في الطواف أن يضطبع، وهو جعل وسط الرداء تحت العاتق الأيمن، وطرفيه على العاتق الأيسر. فإذا انتهى من الطواف ترك الاضطباع.
وذلك اقتداء بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وإظهارًا للقوة والنشاط.
ولا يشرع الاضطباع إلا في طواف القدوم فقط، والعجب من جهل كثير من الحجاج؛ فإنّهم يضطبعون من حين يحرمون ويستمرون عليه إلى أن يحلُّوا.
8- ثم يجعل البيت عن يساره، ويطوف بِه سبعًا، يبتدئ الشوط بالحجر الأسود وينتهي به، ولا يصح الطواف من داخل الحجر. وإذا وصل إلى الركن اليماني استلمه دون تقبيل ودون أن يزاحم عليه. وإذا مرّ بالحجر الأسود فعل به ما سبق وكبَّر.
9- والسنة في هذا الطواف أن يرمل الرجل الأشواط الثلاثة الأولى، ويمشي الأربعة الباقية؛ لفعل النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في طوافهم في عمرة القضاء.
وليس الرمل هز الكتفين كما يفعله بعض الناس، ولكنه: المشي بقوة ونشاط، بحيث يسرع، لكن لا يمد خطوه.
ولكن يكون الرمل في جميع الشوط، بل من الركن الأسود إلى الركن اليماني.
10- فإذا أتمّ سبعة أشواط، تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، ثم صلَّى ركعتين خلفه قريبًا منه إن تيسر، وإلاّ فبعيدًا، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة {قل يا أيها الكافرون}، وفي الثانية بعد الفاتحة: {قل هو الله أحد}.
11- ثم يرجع إلى الحجر الأسود إن تيسر وإلا فلا يستلمه.
12- ثم يخرج إلى المسعى ليسعى، فإذا دنا من الصفا قرأ: {إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرًا فإن الله شاكر عليم}، ولا يقرؤها في غير هذا الموضع.
13- ثم يرقى على الصفا حتى يرى الكعبة، فيستقبلها ويرفع يديه فيحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو، وكان من دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلاّ الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
يُكرر ذلك ثلاث مرات، ويدعو بينها.
14- ثم ينْزل من الصفا إلى المروة ماشيًا حتى يصل إلى العمود الأخضر؛ فإذا وصله، أسرع إسراعًا شديدًا بقدر ما يستطيع إن تيسر له بلا أذية، حتى يصل العمود الأخضر الثاني.
15- ثم يمشي على عادته حتى يصل المروة، فيرقى عليها ويستقبل القبلة، ويرفع يديه ويقول ما قاله على الصفا.
16- ثم ينْزل من المروة إلى الصفا يمشي في موضع مشيه، ويسرع في موضع إسراعه، فيرقى على الصفا، ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويقول مثل ما سبق في أوّل مرة، ويقول في بقية سعيه ما أحبّ من ذكر وقراءة ودعاء.
17- والصعود على الصفا والمروة، والسعي الشديد بين العلمين، كلّها سنة وليست بواجب.
18- فإذا أتمّ سعيه سبعة أشواط، من الصفا إلى المروة شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط آخر = حلق رأسه إن كان رجلاً أو قصَّره.
والحلق أفضل إلاّ أن يكون متمتعًا والحجّ قريبٌ لا يمكن أن ينبت شعره قبله، فالتقصير أفضل، ليبقى الشعر فيحلقه في الحجّ؛ لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه حين قدموا صبيحة رابعة في ذي الحجّة أن يتحللوا بالتقصير.
وأمّا المرأة فتقصر رأسها بكل حال، ولا تحلق، فتقصر من كل قرنٍ أنملة.
ويجب أن يكون الحلق شاملاً لجميع الرأس؛ لقوله تعالى: {محلِّقين رؤسكم}، ولأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لتأخذوا عنّي مناسككم)).
وكذلك التقصير يعمُّ به جميع الرأس.
وبِهذه الأعمال تمت عمرته، وحلّ منها حِلاً كاملاً، يبيح له جميع محظورات الإحرام.
صفة الحجّ:
1- إذا كان ضحى يوم التروية ـ وهو اليوم الثامن من ذي الحجّة ـ أحرم من يريد الحجَّ بالحجِّ من مكانه الذي هو نازلٌ فيه.
عن جابر رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحللنا أن نُحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح) رواه مسلم. وانّما أهلّوا من الأبطح لأنّه مكان نزولهم.(/11)
2- ويفعل عند إحرامه بالحجّ كما فعل عند إحرامه بالعمرة، فيغتسل ويتطيَّب ويُصلِّي سنة الوضوء، ويُهلُّ بالحجّ بعدها، وصفة الإهلال والتلبية بالحجّ كصفتهما في العمرة، إلاّ أنّه في الحجّ يقول: لبيك حجًّا.
ويشترط أنّ محلي حيث حبستني إن كان خائفًا من عائقٍ يمنعه من إتمام نسكه، وإلا فلا يشترط.
3- ثم يخرج إلى منى فيصلي بِها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، يقصر الرباعية ركعتين دون جمعٍ؛ لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فعن جابر رضي الله عنه قال: (فلمّا كان يوم التروية توجّهوا إلى منى، فأهلوا بالحجّ، وركب النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فصلَّى بِها الظهر والعصر والمغرب و العشاء والفجر) رواه مسلم.
4- فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع سار من منى إلى عرفة، فنَزل بنمرة إلى الزوال إن تيسر له، وإلاّ فلا حرج عليه؛ لأنّ النُزول بنمرة سنة لا واجب.
5- فإذا زالت الشمس صلّى الظهر والعصر ركعتين ركعتين، يجمع بينهما جمع تقديم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن جابر رضي الله عنه قال: وأمر ـ يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتَى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنَزل، فنَزل بِها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فُرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذَّن ثم أقام فصلّى الظهر ثم أقام فصلّى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا) رواه مسلم.
6- ثم يرتفع بعد ذلك عن بطن الوادي، ويدخل إلى عرفة، ويقف للدعاء حتى تغرب الشمس، فعن جابر رضي الله عنه قال: (ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ـ المسمى اليوم جبل الرحمة ـ وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس) رواه مسلم.
وعلى الحاج في وقوفه بعرفة أن يتخير من أدعية النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة. وخير ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير)) رواه مالك، وهو حسن.
ويمتد وقت الوقوف بعرفة لمن فاته الوقوف بِها نَهارًا إلى طلوع فجر يوم العيد. فإذا طلع الفجر؛ فقد فات الحجّ كل من لم يقف بِها قبله.
7- فإذا غربت الشمس دفع من عرفة إلى مزدلفة، فيصلي بِها المغرب والعشاء، المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين. فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: دفع رسول ا لله صلى الله عليه وسلم من عرفة فنَزل الشعب، فبال ثم توضأ، ولم يسبغ الوضوء. فقلت: يا رسول الله الصلاة! قال: الصلاة أمامك فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلّى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منْزله، ثم أقيمت العشاء فصلاّها. متفق عليه.
8- والسنة بعد أداء الصلاة أن لا ينشغل إلاّ بالتجهيز للمبيت، ولا يحيي الليل بصلاة ولا بغيرها، ففي حديث جابر رضي الله عنهما أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلَّى بِها المغرب والعشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، ولم يُسبِّح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر) رواه مسلم.
ويجوز للضعفة من رجال ونساء أن يدفعوا من مزدلفة بليلٍ في آخره، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يقدِّم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليلٍ، فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يدفعون، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمّا من ليس ضعيفًا أو تابعًا لضعيف؛ فإنّه يبقى بمزدلفة حتى يصلي الفجر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
9- فإذا صلّى الفجر أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فوحَّد الله وكبَّره وهلّله ودعا بما أحبّ حتى يسفر جدًا.
وإن لم يتيسير له إتيان المشعر الحرام وقف ودعا في مكانه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وقفتُ هاهنا وجمعٌ كلُّها موقف)).
10- فإذا أسفر النور وقبل أن تشرق الشمس دفعوا إلى منى بسكينة ووقار.
11- فإذا وصل منى شرع في رمي جمرة العقبة، بسبع حصيات مثل حصى الخذف، فعن جابر رضي الله عنه قال: (رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة بمثل حصى الخذف) رواه مسلم.
يرمي بِهنّ تِباعًا، يكبر مع كل حصاة، ويرميها من بطن الوادي إن تيسر له، فيجعل الكعبة عن يساره ومنى عن يمينه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه انتهى إلى الجمرة الكبرى، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى بسبعٍ، وقال: (هكذا رمى الذي أُنزلت عليه سورة البقرة) متفق عليه.(/12)
ولا يجوز للحاج أن يرمي بحصاة كبيرة، ولا بالخفاف والنعال ونحوها. ولا ينبغي له أن يخاشن ويجهل عند الجمرة؛ لأنّ رمي جمرة العقبة من شعائر الله، فينبغي أن يرميها بخشوع وخضوع وتعظيم، قال تعالى: {ومن يعظِّم شعائر الله فإنّها من تقوى القلوب}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)).
12- ثم بعد ذلك يذبح إن كان معه هدي، أو يشتريه فيذبحه.
13- ثم بعد الذبح يحلق رأسه إن كان رجلاً، أو يقصره، والحلق أفضل؛ لأنّ الله قدّمه في قوله: {محلِّقين رؤسكم ومقصرين}، ولأنّه فِعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعن أنس رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة، فرماها ثم أتى منْزله بمنى، ونحر، ثم قال للحلاق: ((خذ))، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس. رواه مسلم.
ولأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين بالرحمة والمغفرة ثلاثًا، وللمقصرين مرة واحدة.
ويجب أن يكون الحلق والتقصير شاملاً لجميع الرأس. ويترك التشبه بقصات الشعر الوافدة من الغرب الكافر.
وأمّا المرأة فتقصر من أطراف شعرها بقدر أنملة فقط.
14- فإذا انتهى من هذه الأعمال فقد حلّ له جميع محظورات الإحرام ما عدا النساء. والسنة أن يتطيّب لهذا الحل؛ لقول عائشة رضي الله عنها: (كنتُ أطيِّب النبيَّ صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحلّه قبل أن يطوف بالبيت) متفق عليه.
15- ثم يطوف طواف الإفاضة ـ وهو يسمّى أيضًا طواف الحجّ وطواف الزيارة ـ ولا يشرع في هذا الطواف لا اضطباع ولا رمل.
16- ثم يسعى إن كان متمتعًا. وإن كان قارنًا أو مفردًا ولم يكن قد سعى بعد طواف القدوم؛ فإنّ عليه أن يسعى.
17- ثم يرجع بعد ذلك إلى منى فيبيت بِها ليلتي اليوم الحادي العشر والثاني عشر، ويرمي الجمرات الثلاث إذا زالت الشمس في اليومين.
فيرمي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى، ويكبِّر مع كل حصاة، ثم يتقدم قليلاً ويدعو دعاءً طويلاً أو بحسب ما يتيسر له.
ثم يرمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى، ويكبِّر مع كل حصاة ثم يأخذ ذات الشمال فيقف مستقبل القبلة رافعًا يديه ويدعو دعاءً طويلاً، أو بحسب ما يتيسر له.
ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات يكبِّر مع كل حصاة ثم ينصرف ولا يدعو بعدها.
وينبغي على المسلم أن يحرص على السنة فيدعو في مواطن دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويترك الدعاء في المواطن التي ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم عندها. وللأسف نرى اجتهادًا في البدعة، وتهاونًا في السنة من كثير من المسلمين.
18- ثم إن شاء بعد رمي يوم الثاني عشر أن يتعجل وينْزل من منى، وإن شاء تأخر فبات بِها ليلة الثالث عشر ورمى الجمار بعد الزوال.
والتأخر أفضل ولا يجب إلا إذا غربت شمس يوم الثانِي عشر وهو بِها فيلزمه حينها المبيت ليلة الثالث عشر.
ولكن لو غربت عليه الشمس بمنى في اليوم الثاني عشر بغير اختياره مثل أن يكون قد ارتحل وركب، ولكن تأخر بسبب زحام السيارات ونحوه؛ فإنّه لا يلزمه التأخر، لأنّ تأخره إلى الغروب بغير اختياره.
ولكن بعض الحجاج يتأخرون تأخرًا فاحشًا، فلا يرمون إلا قبل المغرب بوقت قصير جدًا، ثم يرتحلون قبل الغروب بدقائق، وتغرب عليهم الشمس وهم في الطريق، فهذا التأخر لا ينبغي لهم أن يترخصوا في ترك المبيت به، والله أعلم.
19- فإذا أراد الحاج بعد ذلك أن يرتحل إلى بلده؛ فإنّ عليه أن يطوف طواف الوداع ليكون آخر عهده بالبيت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)).
إلاّ أنّ الحائض والنفساء ـ إذا طافتا طواف الإفاضة ـ تعذران بتركهما طواف الوداع تخفيفًا عليهما وعلى رفقتهما، فعن عائشة رضي الله عنها أنّ صفيَّة بنتَ حيي زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم حاضت فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أحابستنا هي؟)). قالوا: إنّها قد أفاضت. قال: ((فلا إذًا)) رواه البخاري.
قال ابن عبّاس: (أُمِر النّاس أن يكون آخر عهدهم بالبيتِ إلاّ أنّه قد خُفِّف عن الحائض) رواه البخاري.
ولا بأس على الحاجّ لو تأخر قليلاً بعد طواف الوداع لانتظار رفقة أو تحميل رحلٍ أو شراء حاجة في أثناء الطريق.
لكن عليه أن يعيد لو طاف بأول النهار وأجَّل السفر بعده إلى آخر النهار.
ثالث عشر: أركان الحجّ:
1- الإحرام:
والمراد به: نية النسك، وليس لبس ثوب الإحرام؛ لأنّ الإنسان قد ينوي النسك فيكون محرمًا، ولو كان عليه قميصه وإزاره.
ولا يكون المحرم محرمًا إلاّ بنية الإحرام، وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((إنّما الأعمال بالنيَّات، وإنّما لكل امرئ ما نوى)) متفق عليه.
2- الوقوف بعرفة.
ومن فاته الوقوف بعرفة؛ فقد فاته الحجّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحجّ عرفة)).
3- طواف الزيارة - الإفاضة - :(/13)
وهو الطواف الذي يحصل به التحلل الأكبر، قال تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيتِ العتيق}.
والشاهد من الآية قوله {وليطوفوا} فالفعل المضارع إذا اقترن بلام الأمر أفاد الأمر والطلب.
4- السعي:
ودليله قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي)).
وقالت عائشة رضي الله عنها: (والله ما أتمّ الله حجّ رجلٍ ولا عمرته لم يطف بِهما) رواه مسلم
رابع عشر: واجبات الحجّ:
1- الإحرام من الميقات:
فيجب على كل من أراد الإحرام بالحجّ أن يحرم من الميقات، ومن كان دون الميقات فمن حيث أنشأ النية، وتقدم تفصيل الكلام عن المواقيت.
والدليل على وجوب الإحرام من الميقات قول ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرضها ـ أي المواقيت ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجدٍ قرنًا، ولأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة).
2- الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس:
لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة إلى غروب الشمس؛ وخالف بذلك أهل الجاهلية الذين كانوا يدفعون قبل غروب الشمس إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال.
ولو لم يكن الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس واجبًا لبادر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه كان أرفق بالنّاس، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا) رواه البخاري.
3- المبيت بمزدلفة:
ودليل ذلك حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه أنّه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الفجر في مزدلفة، فأخبره أنّه ما ترك جبلاً إلاّ وقف عنده، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نَهارًا فقد تمّ حجّه وقضى تفثه)) رواه أحمد وأبو دواد والترمذي وقال: "حسن صحيح".
4- المبيت بمنى أكثر الليل:
دليل ذلك أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رخَّص لعمّه العبّاس أن يبيت في مكة ليالي التشريق من أجل السقاية. متفق عليه
ورخَّص لرعاء الإبل في البيتوتة خارج منى يرمون يوم النحر، ثم الغد، ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر. رواه أبو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح".
والرخصة تقابلها عزيمة.
5- الرمي:
والمراد به: رمي الجمار في يوم العيد جمرة العقبة، وفي أيام التشريق الثلاثة ثلاث جمرات.
والدليل: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الرمي: ((إنّما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)). وهو عملٌ يترتب عليه الحل فكان واجبًا.
6- الحلق:
الحلق أو التقصير عمل يترتب عليه الحل فكان واجبًا، وقد فعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم امتثالاً لقوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين}. وقد قال أهل العلم: وإذا عبّر بجزء من العبادة عن العبادة كان دليلاً على وجوبه فيها.
7- طواف الوداع:
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (أُمِر النّاس أن يكون آخر عهدهم بالبيتِ إلاّ أنّه خُفِّف عن الحائض) رواه البخاري
خامس عشر: أركان العمرة:
1- الإحرام.
2- الطواف.
3- السعي.
سادس عشر: واجبات العمرة:
1- الإحرام من الميقات.
2- الحلق أو التقصير.
سابع عشر: محظورات الإحرام:
المحظور هو الممنوع المحرَّم، ومنه: قوله تعالى: {وما كان عطاء ربِّك محظورًا} أي: ممنوعًا.
ومحظورات الإحرام: ما يحرم على المحرم فعله بسبب الإحرام.
وهي نوعان؛ نوعٌ يوجب فساد الحجّ، ونوعٌ لا يوجب فساده.
النوع الأول: الذي يوجب فساد الحجّ: الجماع.
قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أنّ الحجّ لا يفسد بإتيان شيءٍ حال الإحرام، إلاّ الجماع".
والجماع يفسد الحجّ بشرطين اثنين:
1- أن يكون الجماع في الفرج.
فهذا متفق عليه عند جمهور أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة.
2- أن يكون الجماع قبل التحلل الأول، سواء الوقوف أو بعده.
قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ من وطئ قبل أن يطوف ويسعى أنّه مفسدٌ" أي لحجّه.
غير أنّ الناسي والجاهل والمكره عند شيخ الإسلام لا يفسد حجّه؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في الإرواء. واختاره ابن مفلح.
حكم الحجّ إذا فسد:
عن يزيد بن نُعيم الأسلميّ: أنّ رجلاً من جُذام جامع امرأته، وهما محرمان، فسألا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((اقضيا نسكًا، واهديا هديًا)).
قال الحافظ: "رجاله ثقات مع إرساله".
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما في رجلٍ وقع على امرأته وهو محرم، قال: ((اقضيا نسككما، وارجعا إلى بلدكما، فإذا كان عام قابل، فاخرجا حاجّين، فإذا أحرمتما فتفرقا، ولا تلتقيا حتى تقضيا نسككما، وأهديا هديًا)) رواه البيهقي بإسناد صحيح.(/14)
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه: أنّ رجلاً أتى عبد الله بن عمرو ـ وأنا معه ـ يسأله عن محرم وقع بامرأته، وأشار إلى عبد الله بن عمر، فقال: اذهب إلى ذلك فسله. قال شعيب: فلم يعزم الرجل، فذهبت معه، فسأل ابن عمر. فقال: بطل حجّك. فقال الرجل: فما أصنع؟ قال: اخرج مع الناس، واصنع ما يصنعون، فإذا أدركت قابل فحج وأهدِ. فرجع إلى عبد الله بن عمرو - وأنا معه - فأخبره، فقال: اذهب إلى ابن عباس فسله. قال شعيب: فذهبت معه إلى ابن عباس، فسأله، فقال مثل ما قال ابن عمر، فرجع إلى عبد الله بن عمرو - وأنا معه - فأخبره بما قال ابن عباس، ثم قال: ما تقول أنت؟ فقال: قولي مثل ما قالا. رواه البيهقي، وقال: "هذا إسناد صحيح".
الآثار المترتبة على فساد الحجّ:
1- أنّ الرجل والمرأة يستويان في فساد الحجّ.
2- أنّه يجب المضي في فاسده.
3- أنّ عليه بدنة.
4- أنّه يجب قضاؤه.
5- أن عليهما أن يتفرقا في القضاء حتى يتما حجّهما.
أمّا إذا حصل الجماع بعد التحلل الأول، وقبل طواف الإفاضة؛ فالحجّ صحيح، ولا يلزمه شيءٌ غير التوبة والإنابة.
النوع الثاني: الذي لا يوجب فساد الحجّ ثمانية:
1- إزالة الشعر من أي جزء من أجزاء البدن بلا عذر:
قال تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله}، ويلحق بالحلق أي طريقة تؤدي إلى إزالة شعر الرأس من موضعه.
وعليه أجمع العلماء، قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ المحرم ممنوع من حلق رأسه، وجذه، وإتلافه بجذٍ، أو نورة، أو غير ذلك".
أمّا مع وجود العذر؛ فيجوز حلق شعر الرأس، وعليه الفدية، قال تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}، وقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عجرة هذه الفدية، فقال: ((صيام ثلاثة أيّام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاعٍ أو ذبح شاة)) متفق عليه. وهي المعروفة عند أهل العلم بفدية الأذى.
قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ له - أي المحرم - حلق رأسه من علّة".
أمّا ازالة سائر شعر البدن؛ فلا حرج عليه إن احتاج إليه. وإن لم يحتج إليه؛ فالأولى أن لا يأخذ شيئًا من شعر بدنه احتياطًا، ولا بأس عليه إن فعل.
2- تقليم الأطفار:
وهذا المحظور ليس عليه نصّ من كتاب أو سنة، والفقهاء قاسوه على حلق شعر الرأس بجامع الترفه، وعليه نقل ابن المنذر إجماع أهل العلم، قال: "وأجمعوا على أنّ المحرم ممنوع من أخذ أظفاره".
وقال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على أنّ المحرم ممنوعٌ من أخذ أظفاره" .
ولكن إن انكسر شيٌ من ظفره دون قصد؛ فله أن يزيله، قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ له أن يزيل عن نفسه ما كان منكسرًا منه - أي من ظفره -".
3- تعمد تغطية الرأس للرجل:
قال ابن المنذر"وأجمعوا على أنّ المحرم ممنوع من تخمير ـ أي تغطية ـ رأسه"؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته دابته وهو محرم: ((لا تخمروا رأسه)) أي لا تغطوه، ولنهيه صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس العمائم والبرانس. متفقٌ عليه.
وأمّا استظلال المحرم بما ليس بملاصقٍ لرأسه كسقف السيارة أو الطائرة أو السفينة أو الشمسية أو نحو ذلك؛ فلا بأس به لما ثبت أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ظلل عليه بثوبٍ حين رمى جمرة العقبة. رواه مسلم.
وكذلك إذا غطَّى رأسه بما لا يقصد به التغطية والستر كحمل الأمتعة ونحوه؛ فلا بأس به، لأنّه لم يقصد به الستر والتغطية، والأمتعة لا يستر بمثلها غالبًا.
واختلف أهل العلم في تغطية الوجه للرجل؛ والراجح في المسألة جواز تغطية الوجه وعدم اعتبارها من محظورات الإحرام؛ لشذوذ اللفظة الزائدة الواردة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته دابته وهو محرم: ((ولا تخمروا رأسه ووجهه ..)) رواه مسلم.
فإنّ الرواية المتفق عليها في الصحيحين لم ترد فيها تلك اللفظة: ((ولا تخمروا رأسه)) فقط.
أمّا المرأة فمأمورة بعدم تغطيتها لوجهها، ويحرم عليها لبس النِقاب؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((ولا تنتقب المرأة)).
ولها أن تغطي وجهها إذا مرَّت بحضرة رجال أجانب، ولا شيء عليها.
4- لبس الذكر للمخيط عمدًا:
المراد من النهي عن لبس المخيط: هو النهي عن لبس الثوب المفصَّل على البدن أو على عضو من أعضائه، لا ما كان فيه خيط، فيدخل فيه كل ما فُصِّل على البدن كما جاء في فتوى النبيِّ صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن ما يلبس المحرم؟ فقال: ((لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل، ولا ثوبًا مسَّه ورسٌ أو زعفرانٌ، ولا الخفين، إلاّ أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين)) متفق عليه.
قال القاضي عياض: "أجمع المسلمون على أن ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم".
ويحرم على المرأة لبس القفازين؛ لما رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين)).
5- تعمّد الطيب:(/15)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته دابته وهو محرم: ((لا تحنطوه)) متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((لا تمسوه بطيب)).
قال ابن المنذر: "وأجمع أهل العلم على أنّ المحرم ممنوع من استعمال الطيب في جميع بدنه".
فيمنع المحرم بعد تلبسه بالنسك أن يتطيَّب في أي جزءٍ من بدنه.
أمّا قبل تلبسه بالإحرام فيجوز له أن يتطيب، قالت عائشة رضي الله عنها: (كنتُ أنظر إلى وبيص ـ لمعان ـ المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرمٌ) متفق عليه.
6- قتل صيد البر المأكول وذبحه، واصطياده:
يحرم على المحرم قتل صيدِ البر المأكول وذبحه؛ لقوله تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرم}.
ويحرم عليه اصطياده لقوله تعالى: {وحُرِّم عليكم صيد البرِّ ما دمتم حرمًا}.
قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ المحرم إذا قتل صيدًا، عامدًا لقتله، ذاكرًا لإحرامه، أنّ عليه الجزاء".
ويحرم عليه أن يأكل من الصيد الذي صِيد لأجله؛ فعن الصعب بن جثامة أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نزل به ضيفًا في طريقه إلى مكة في حجّة الوداع، فصاد الصعب حمارًا وحشيًا، وجاء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فردّه عليه، وقال: ((إنّا لم نرده عليك إلاّ أنَّا حُرُمٌ)) رواه البخاري.
أمّا إذا لم يصد لأجله؛ فلا بأس على المحرم أن يأكل منه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم للصحابة الذين سألوه عن الأكل من الصيدِ الذي صاده أبو قتادة، وهم محرمون، فقال: ((أمنكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟)). قالوا: لا. قال: ((فكلوا ما بقي من لحمها)) متفق عليه.
7- عقد النكاح:
لا يتزوج المحرم، ولا يزوِّج غيره بولاية ولا بوكالة؛ لما ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب)) رواه مسلم.
ولأنّ الإحرام يمنع من الوطء ودواعيه، فمُنِع عقد النكاح؛ لأنّه من دواعي الوطء.
أمّا ما جاء من حديث ابن عباس أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرمٌ؛ فالراجح أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، كما روت ذلك ميمونة نفسها، وهي أعلم بنفسها من ابن عبّاس. متفق عليه
وكذلك أخبر أبو رافع الذي كان سفيرًا بينها وبين النبيِّ صلى الله عليه وسلم. أخرجه أحمد والترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن حبّان.
8- المباشرة من الرجل للمرأة فيما دون الفرج:
إذا وقعت المباشرة قبل التحلل الأول؛ فإنّه لا يفسد الحجّ ولا الإحرام، ولكنه قد ارتكب محظورًا محرمًا، واستحق إثمًا، إلاّ أن يستغفر الله.
وكذلك لو باشرها بعد التحلل الأول؛ فإنّ الإثم عليه بارتكابه هذا الأمر؛ لأنّه لم يتحلل التحلل الكامل بعدُ.
فدية محظورات الإحرام:
فاعل هذه المحظورات له ثلاث حالاتٍ:
1- أن يفعل المحظور بلا عذرٍ ولا حاجة فهذا آثمٌ، وعليه الفدية.
2- أن يفعل المحظور لحاجة إلى ذلك مثل أن يحتاج إلى لبس القميص لدفع برد يخاف منه الضرر، فيجوز أن يفعل ذلك وعليه فديته، كما جرى لكعب بن عجرة رضي الله عنه، حين حُمِل إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر من رأسه على وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى – أو قال: ما كنتُ أرى الجهد بلغ بك ما أرى, تجد شاة؟)) فقلتُ: لا. فقال: ((فصم ثلاثة أيّام أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكينٍ نصف صاع)) متفق عليه.
3- أن يفعل المحظور وهو معذور بجهل أو نسيانٍ أو إكراه؛ فلا إثم عليه ولا فديه، لقوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمَّدت قلوبكم}.
ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في الإرواء.
وتنقسم محظورات الإحرام بالنسبة إلى الفدية إلى أربعة أقسام:
1- ما لا فدية فيه، وهو عقد النكاح.
2- ما فديته بدنة، وهو الجماع في الحجّ قبل التحلل الأول.
3- ما فديته جزاؤه أو ما يقوم مقامه، وهو قتل الصيد.
4- ما فديته صيامٌ أو صدقة أو نسك، وهو فدية الأذى في حلق شعر الرأس، وألحق به العلماء بقية المحظورات سوى عقد النكاح والجماع والصيد.
تنبيهات:
1- لا فرق بين أظفار اليدين والرجلين.
2- لا يجوز للمحرم شم الطيب عمدًا، ولا خلط قهوته بالزعفران الذي يؤثر في طعم القهوة أو رائحتها، ولا خلط الشاي بماء الورد ونحوه ممّا يظهر فيه طعمه أو ريحه.
3- يستعمل الصابون الممسَّك ـ الذي رائحته رائحة مسك ـ إذا ظهرت فيه رائحة الطيب.
4- يدخل في الرفث مقدمات الجماع، فلا يحل للمحرم أن يُقبِّل زوجته لشهوة أو يمسَّها لشهوة، أو يغمزها لشهوة، أو يداعبها لشهوة، ولا النظر إليها بشهوة.
5- ولا يحل لها أن تمكنه من ذلك، وهي محرمة.
6- يجوز للمحرم إذا لم يجدِ إزارًا ولا ثمنه أن يلبس السراويل، ولا شيء عليه. ويجوز له إذا لم يجد نعلين ولا ثمنهما أن يلبس الخفين، ولا شيء عليه.(/16)
عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول: (من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفَّين) متفق عليه.
7- لا بأس بلف القميص على البدن دون لبس.
8- لا بأس أن يجعل العباءة بحيث لا يلبسها كالعادة.
9- لا بأس أن يلبس رداء أو إزارًا مرقعًا.
10- لا بأس أن يعقد على إزاره خيطًا أو نحوه.
11- لا بأس أن يلبس الخاتم وساعة اليد ونظارة العين وسماعة الأذن، ويعلّق القربة ووعاء النفقة في عنقه.
12- ولا بأس أن يعقد إزاره عند الحاجة مثل أن يخاف سقوطه.
13- لا بأس للمرأة بتغطية الرأس.
14- ولا بأس عليها أن تلبس الجوربين.
15- يجوز للرجل والمرأة تغيير ثياب الإحرام إلى غيرها ممّا لا يمتنع عليهما لبسه حال الإحرام
ثامن عشر: الهدي والأضاحي:
1- الهدي:
كل ما يُهدى إلى الحرم من نَعم أو غيرها.
فقد يُهدي الإنسان نعمًا إبلاً أو بقرًا أو غنمًا، وقد يُهدي غيرها كالطعام، وقد يُهدي اللباس، فالهدي أعمّ من الأضحية. لأنّ الأضحية لا تكون إلاّ من بَهيمة الأنعام، وأمّا الهدي؛ فيكون من بِهيمة الأنعام ومن غيرها، فهو كل ما يُهدى إلى الحرم.
وتتعيَّن بالقول أو بالتقليد والإشعار.
والتقليد: هو أن يضع قلادة على عنق البهيمة نعالاً أو قطع القِرب أو الثياب الخلِقة، فإذا علَّق هذه الأشياء فهم من رآها أنّها لفقراء الحرم.
قالت عائشة: (لقد كنتُ أفتلُ قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه شيءٌ ممّا حلّ للرجال من أهله حتى يرجع النّاس) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، قال: ((اركبها)). قال: إنّها بدنة. قال: ((اركبها)). قال: فلقد رأيته راكبها يساير النبيَّ صلى الله عليه وسلم والنعل في عنقها. رواه البخاري.
أمّا الإشعار؛ فهو أن يشق سنام البعير حتى يخرج الدم ويسيل على الشعر، فإنّ من رآه يعرف أنّ هذا معدٌ للنحر.
قالت عائشة رضي الله عنها: (فتلتُ قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلَّدها أو قلَّدتُها، ثم بعث بها إلى البيتِ وأقام بالمدينة، فما حرُم عليه شيءٌ كان له حلٌّ) رواه البخاري.
حكم الهدي إذا تعيَّنت:
وإذا تعيَّنت لم يجز بيعها؛ حتى لو هزلت، ولا هبتها، إلاّ أن يستبدلها بخيرٍ منها.
ولا يجوز له أن يجزّ صوفها لينتفع به إلاّ أن يكون جزّه أنفع للبهيمة، كأن يكون عليها صوف كثير يؤذيها، وفي جزّه راحة لها، أو نبت فيها جرح وفي جز الشعر والصوف من أجل إبراز الجرح للهواء لينشف ويبرد راحة لها. ويتصدق به، ولا ينفتع به.
الهدي الواجب:
الهدي الواجب هو المتعلق بالأنساك، ويجب على المتمتع والقارن.
قال تعالى: {فمن تمتع بالحجّ إلى العمرة فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن يكن أهله حاضري المسجد الحرام}.
قال ابن كثير: "أي إذا تمكنتم من أداء المناسك، فمن كان منكم متمتعًا بالعمرة إلى الحجّ، وهو يشمل من أحرم بِهما، أو أحرم بالعمرة أولاً، فلما فرغ منها أحرم بالحجّ، وهو التمتع الخاص، وهو المعروف في كلام الفقهاء، والتمتع العام يشمل القسمين ... فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقلّه شاة".
وعن أبي جمرة قال: سألتُ ابن عبّاس رضي الله عنهما عن المتعةِ فأمرني بِها. وسألته عن الهدي فقال: فيها جزور أو بقرة أو شاة أو شِرك في دم. قال: وكان ناسًا كرهوها. فنمتُ فرأيتُ في المنام كأنّ إنسانًا يُنادي: حجٌّ مبرور، ومتعة متقبلة. فأتيتُ ابن عبّاس رضي الله عنهما، فحدثته فقال: الله أكبر، سُنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.
2- الأضحية:
جمع الأضحية: أضاحي. والأصل في هذه التسمية: الذبح وقت الأضحى، ثم أطلق ذلك على ما ذبح في أي وقت كان من أيام التشريق.
وهي: ما يذبح من بِهيمة الأنعام في أيام النحر تقربًا إلى الله تعالى.
حكمها:
الأضحية سنة مؤكدة، وهو مذهب جمهور أهل العلم؛ وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة، وإليه ذهب أبو محمد بن حزم، رحم الله الجميع.
لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمسن من شعره وبشره شيئاً)) رواه مسلم.
قالوا: علق الذبح على الإرادة، والواجب لا يعلق على الإرادة.
وعن جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل من منبره، وأتى بكبش فذبحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.
قالوا: فمن لم يضح منا، فقد كفاه تضحية النبي صلى الله عليه وسلم، وناهيك بها أضحية.(/17)
وعن أبي سريجة ـ أو أبي سريج ـ الغفاري قال: أدركت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان، كراهية أن يقتدى بهما. أخرجه البيهقي، وصححه الألباني
وإذا كان هذا قول وفعل كبار الصحابة؛ فلا شك أنّه القول المعتمد.
وبالبراءة الأصلية، وأنه لا دليل صحيح صريح يعتمد عليه الموجبون.
وعليه ينبغي حمل أدلة الموجبين لها على المقيم الموسر على تأكيد هذه السنية، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له سعة ولم يضحِّ فلا يقربن مصلانا)) أخرجه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني.
وحديث مخنف بن سليم رضي الله عنه قال: كنا وقوفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، فقال: ((يا أيها الناس، إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة ..)) الحديث، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وحسَّنه الألباني.
وحديث جندب بن سفيان رضي الله عنه أنه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر صلى ثم خطب فقال: ((من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح فليذبح بسم الله)) رواه البخاري.
فضل الأضحية:
قد وردت أحاديث في فضلها لكن لا يصح منها شيء.
من ذلك: ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا)) أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وضعَّفه الألباني.
وعن عمران بن حصين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا فاطمة، قومي إلى أضحيتك فاشهديها؛ فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه...)) الحديث. أخرجه الحاكم، وتعقبه الذهبي، وضعَّفه الألباني.
وعن ابن عباس رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما عمل ابن آدم في هذا اليوم أفضل من دم يهراق إلا أن تكون رحمًا توصل)) أخرجه الطبراني في الكبير، وضعَّفه الألباني.
الأدلة على مشروعية الأضحية:
قال ابن قدامة رحمه الله: "الأصل في مشروعية الأضحية الكتاب والسنة والإجماع".
أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الصلاة: المكتوبة، والنحر: النسك والذبح يوم الأضحى).
أما السنة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين. متفق عليه
أما الإجماع: فقد قال ابن قدامة رحمه الله: "وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية".
الحكمة من مشروعية الأضحية:
1- الاقتداء بأبينا إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يابُنَىَّ إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:102-107].
2- التوسعة على الناس يوم العيد، فحين يذبح المسلم أضحيته يوسع على نفسه وأهل بيته، وحين يهدي منها إلى أصدقائه وجيرانه وأقاربه فإنه يوسع عليهم، وحين يتصدق منها على الفقراء والمحتاجين فإنه يغنيهم عن السؤال في هذا اليوم الذي هو يوم فرح وسرور.
شروط الأضحية:
1- أن تكون من بهيمة الأنعام، وهي: الإبل والبقر والغنم.
قال تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ} [الحج:28].
قال القرطبي رحمه الله: "والأنعام هنا: الإبل والبقر والغنم".
ونقل ابن رشد الإجماع على ذلك.
2- أن تكون قد بلغت السن المعتبر شرعًا.
لحديث البراء رضي الله عنه، وفيه: فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح، فقال: عندي جذعة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اذبحها، ولن تجزئ عن أحد بعدك)) متفق عليه.
وهذا يدل على أنه لا بد من بلوغ السن المعتبر شرعًا.
ولحديث جابرٍ مرفوعًا: ((لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن)) رواه مسلم.
فلا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا ما كان مسنة، سواء كان ذكراً أم أنثى.
والمسن من الإبل: ما أتم خمس سنين ودخل في السادسة.
والمسن من البقر: ما أتم سنتين ودخل في الثالثة.
والمسن من المعز: ما بلغ سنة ودخل في الثانية.
ويجزئ الجذع من الضأن وهو: ما بلغ ستة أشهر، ودخل في السابع.
3- أن تكون سالمة من العيوب المانعة من الإجزاء المنصوص عليها في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: ماذا يُتَّقى من الضحايا؟ فأشار بيده، وقال: ((أربعٌ: العرجاء البيّن ظلعها، والعوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعجفاء التي لا تنقي)) أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الألباني.(/18)
قال الخطابي رحمه الله: "قوله: ((لا تنقي)) أي: لا نِقْي لها، وهو المخ، وفيه دليل على أن العيب الخفيف في الضحايا معفو عنه، ألا تراه يقول: ((بيّن عورها)) و((بيّن مرضها)) و((بيّن ظلعها))، فالقليل منه غير بيّن فكان معفوًا عنه".
وقال شمس الحق العظيم آبادي رحمه الله: "((بيّن)) أي: ظاهر ((عورها)) ـ بالعين والواو المفتوحتين وضم الراء ـ أي: كما هي في عين، وبالأولى في عينين، ((والمريضة)) هي التي لا تعتلف، ((بيّن ظلعها)) ـ بسكون اللام ويفتح - أي: عرجها، وهو أن يمنعها من المشي".
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "((العجفاء)) وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، فالمخ مع الهزال يزول، ويبقى داخل العظم أحمر، فهذه لا تجزئ؛ لأنها ضعيفة البنية كريهة المنظر".
4- أن تكون ملكًا للمضحي، أو مأذونًا له فيها، فلا تصح التضحية بالمغصوب والمسروق، والمشترك بين اثنين إلا بإذن الشريك.
5- ألا يتعلّق بِها حق الغير، فلا تصح التضحية بالمرهون، ولا بالموروث قبل قسمته.
6- أن تقع الأضحية في الوقت المحدد شرعًا، فإن ذبحت قبله أو بعده لم تجزئ.
وقت الذبح:
اتفق الفقهاء رحمهم الله على أن أفضل وقت التضحية هو يوم العيد قبل زوال الشمس؛ لأنه هو السنة، لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء)) متفق عليه.
كما أنهم اتفقوا على أن الذبح قبل الصلاة أو في ليلة العيد لا يجوز عملاً بِهذا الحديث، وحديث جندب بن سفيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي ـ أو نصلي ـ فليذبح مكانها أخرى)) متفق عليه.
آداب لمن أراد التضحية:
1- عدم الأخذ من الشعر والبشرة إذا دخلت العشر لمن أراد أن يضحي.
عن أمّ سلمة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يلمس من شعره وبشره شيئًا)) متفق عليه.
قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما يجتنب الرجل إذا أراد أن يضحي؟ قال: "لا يأخذ من شعره، ولا من بشره".
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن من أراد التضحية، ودخل يوم العشر فلا يأخذ من شعره وبشره شيئًا".
2- أن ينتقي الأفضل في الأضحية صفةً، وهي ما توافرت فيها صفات التمام والكمال من بهيمة الأنعام، ومنها: السِّمن، كثرة اللحم، كمال الخلقة، جمال المنظر، غلاء الثمن.
عن يحيى بن سعيد قال: سمعت أبا أمامة بن سعد قال: (كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون) رواه البخاري.
مسائل متعلقة بالأضحية:
1- التضحية أفضل من التصدق بثمنها:
التضحية أفضل من الصدقة بثمنها؛ لأنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل المسلمين من بعده.
قال ابن القيم رحمه الله: "الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه، ولو زاد، كالهدايا والضحايا، فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، فإنه عبادة مقرونة بالصلاة، كما قال تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]".
2- تفاضل الأضحية بين الإبل والبقر والغنم:
جمهور أهل العلم على أنّ أفضل الأضحية: الإبل ثم البقر ثم الغنم؛ لحديث أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها)) رواه البخاري.
قالوا: والإبل أغلى ثمنًا من البقر، والبقر أغلى ثمنًا من الغنم.
وذهب المالكية إلى أنّ التضحية بالغنم أفضل؛ لحديث أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين، وأنا أضحي بكبشين. متفقٌ عليه
قالوا: وما كان صلى الله عليه وسلم يختار لخاصته ولا يفعل إلا الأفضل.
وأجاب عن ذلك ابن حزم رحمه الله بأنه محمول على التخفيف لرفع المشقة.
واعلم أنّ كلام الجمهور محمول على من ضحى عن نفسه وأهل بيته ببعير أو بقرة، لا سبع بعير أو سبع بقرة، وإلا فالغنم في هذه الحالة أفضل.
3- حكم الاشتراك في الأضحية:
جمهور أهل العلم على جواز الاشتراك في الأضحية.
قال الإمام أحمد: "ما علمتُ أحدًا إلاّ ويرخص في ذلك؛ إلا ابن عمر".
واستدلوا على جواز التشريك بأدلة منها:
حديث جابر رضي الله عنه، وفيه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.
وعن عطاء بن يسار، قال: سألتُ أبا أيوب الأنصاري: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون، ويطعمون، حتى تباهى الناس، فصارت كما ترى. أخرجه مالك والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني(/19)
4- الشاة تجزئ عن الرجل وأهل بيته:
وتجزئ الشاة الواحدة في الأضحية عن الرجل وأهل بيته، وإن كثروا.
عن عطاء بن يسار، قال: سألتُ أبا أيوب الأنصاري: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون، ويطعمون، حتى تباهى الناس، فصارت كما ترى. أخرجه مالك والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني
قال ابن القيم رحمه الله: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن الشاة تجزئ عن الرجل، وعن أهل بيته ولو كثر عددهم".
5- طروء العيب على الأضحية بعد التعيين:
جمهور أهل العلم على أنّه: إذا أصاب الأضحية عيبًا بعد أن أوجبها؛ فإنّها تجزئ إذا لم يكن ذلك العيب بفعله أو تفريط منه.
لحديث ابن عباس، قال موسى بن سلمة الهذلي: انطلقت أنا وسنان بن سلمة معتمرين، قال: وانطلق سنان معه ببدنة يسوقها، فُأزحِفت عليه بالطريق فَعَيِيَ بشأنها، إن هي أُبدِعَت كيف يأتي بها، فقال: لئن قدمت البلد لأستحفينّ عن ذلك، قال فأضحيت فلما نزلنا البطحاء قال: انطلق إلى ابن عباس نتحدث إليه، قال: فذكر له شأن بدنته فقال: على الخبير سقطت، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بست عشرة بدنة مع رجل وأمَّره فيها، قال: فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله، كيف أصنع بما أُبْدِع عليَّ منها؟ قال: ((انحرها، ثم اصبغ نعليها في دمها، ثم اجعله على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك)) رواه مسلم.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما إذا اشترى أضحية، فتعيبت قبل الذبح، ذبحها في أحد قولي العلماء، وإن تعيبت عند الذبح أجزأ في الموضعين".
6- الاستدانة من أجل الأضحية:
سئل ابن تيمية رحمه الله عمن لا يقدر على الأضحية، هل يستدين؟
فقال: "الحمد لله رب العالمين، إن كان له وفاء فاستدان ما يضحي به فحسن، ولا يجب عليه أن يفعل ذلك، والله أعلم".
7- الأكل من الأضحية:
يستحب للمضحي أن يأكل من أضحيته؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكل من لحمها، وشرب من مرقها.
قالوا: وتكلّف هذا الأمر: أن يأخذ من مائة بدنة مائة قطعة، تُطبخ في قدر، ويأكل منها، يدل على أنّ الأمر في الآية الكريمة للوجوب.
8- الأضحية عن الميت:
قال ابن تيمية رحمه الله: "وتجوز الأضحية عن الميت، كما يجوز الحج عنه، والصدقة عنه، ويضحى عنه في البيت، ولا يذبح عند القبر أضحية ولا غيرها".
9- ذبيحة المرأة والصبي:
عن كعب بن مالك رضي الله عنه، أن امرأة ذبحت شاة بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فأمر بأكلها. رواه البخاري
قال ابن المنذر رحمه الله: "أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي".
آداب متعلقة بذبح الأضحية:
1- حدّ السكين، وإراحة الذبيحة: عن شداد بن أوس، قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)) مسلم.
2- يستحب إمرار السكين بقوةٍ وتحاملٍ ذهابًا وعودًا، ليكون أوجى وأسهل.
3- استقبال الذابح القبلة بأضحيته، لفعل ابن عمر رضي الله عنهما، ولأنها أولى الجهات بالاستقبال.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما الأضحية فإنه يستقبل بها القبلة، فيضجعها على الأيسر، ويقول: بسم الله، والله أكبر، اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك".
4- أن ينحر البعير قائمًا على ثلاث قوائم، معقول الركبة، وإلا فباركاً. لقول ابن عمر رضي الله عنهما: ابعثها قيامًا مقيدة سنةَ محمد صلى الله عليه وسلم.. الحديث، رواه البخاري.
5- ويستحب أن يذبحها بيده ويضع رجله على صفاحها، ويقول: بسم الله الله أكبر، اللهم هذا عني وعن آل بيتي، أو عن آل فلان، لقول أنس رضي الله عنه: ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، فرأيته واضعًا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر، فذبحهما بيده. رواه البخاري
بعض البدع والمخالفات الشرعية في الأضحية:
1- لطخ الجباه بدم الأضحية:
قالت اللجنة الدائمة للإفتاء: لا نعلم للطخ الجباه بدم الأضحية أصلاً لا من الكتاب ولا من السنة، ولا نعلم أن أحدًا من الصحابة فعله، فهو بدعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، وفي رواية: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق على صحته.
2- الوضوء لذبح الضحية:
قالت اللجنة الدائمة للإفتاء: لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ بعد صلاة عيد الأضحى من أجل أن يذبح أضحيته، ولم يعرف ذلك أيضًا عن السلف الصالح، ولكنه إذا ارتكب ذلك بأن توضأ لذبح أضحيته فذبيحته مجزئة له ما دام مسلمًا لا يعرف عنه ما يوجب تكفيره، ويجوز الأكل منها له ولغيره.
3- مسح ظهر الأضحية ليلة العيد، وتسمية من يضحي بِها عنهم:(/20)
قال ابن عثيمين: "وأما ما يفعله بعض العامة عندنا يسميها في ليلة العيد ـ أي: الأضحية ـ ويمسح ظهرها من ناصيتها إلى ذنبها، وربما يكرر ذلك: هذا عني، هذا عن أهل بيتي، هذا عن أمي، وما أشبه ذلك فهذا من البدع، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم".
4- الطواف حول الأضحية:
ما يفعله من يطوف حولها ـ أي الأضحية ـ، أو يتخطاها هو وأهل بيته قبل ذبحها، ومن يهلل ويكبر بصوت جماعي مع أهل بيته حال الطواف حولها، ونحو ذلك من المحدثات التي سببها انتشار الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام".
تاسع عشر: أخطاء يقع فيها بعض الحجاج والمعتمرين والزائرين:
أ/ أخطاء قبل الذهاب إلى الحج:
1. ترك الوصية بما للإنسان أو عليه من حقوق أو ديون.
2. عدم تحري النفقة الحلال للحج.
3. الذهاب مع الرفقة السيئة.
4. عدم إخلاص النية في حجه.
5. اصطحاب شيء من المحرمات كالدخان وآلات اللهو إلى الحج.
6. عدم تعلم أحكام الحج والعمرة مما يوقع الحاج في كثير من المحظورات.
ب/ أخطاء الإحرام:
1. تطييب ثياب الإحرام.
2. وضع (أزرار) أو (مشابك) في الإحرام بحيث يصبح الإحرام كالثوب المخيط.
3. ما تضعه بعض النساء على رأسها لترفع الحجاب عن وجهها وتعتقد أن المحرمة لا يصح أن يلامس حجابها وجهها، وهذا لا أصل له.
4. مجاوزة الميقات بدون إحرام وخصوصاً ما يفعله الكثير حيث لا يحرم ـ إذا أتى بالطائرة ـ إلا في جدة بعد وصوله.
5. التلبية الجماعية، سواء أكان يلبي أحدهم ويردد معه الباقون أو بأن يلبوا جميعاً بصوت واحد.
6. استعمال الطيب في المأكول والمشروب كالزعفران ونحوه، وكذلك الصابون المعطر.
7. تعمد تغطية الوجه والرأس بملاصق وخصوصاً عند النوم.
8. اعتقاد البعض أنه لا يجوز حك الرأس أو الجسم.
9. كشف المرأة وجهها عند غير محارمها بدعوى أنها محرمة.
10. التقاط لقطة الحرم لغير التعريف.
11. ظن البعض أنه لا يجوز أن يتغطى بغير ملاصق كسقف السيارة أو المظلة (الشمسية).
12. الاستمرار في الاضطباع، مع أن السنة أن يكون في الطواف الأول فقط.
13. تجاوز الحائض لميقاتها دون إحرام ظناً منها أنه لا يصح إحرام الحائض.
ج/ أخطاء الطواف:
1. ابتداء الطواف قبل الحجر الأسود على سبيل الاحتياط.
2. الطواف داخل الحجر عند الزحام، بحيث يدخل من باب الحجر إلى الباب المقابل.
3. الرمل في جميع الأشواط السبعة.
4. المزاحمة الشديدة للوصول إلى الحجر الأسود لتقبيله.
5. اعتقاد بعضهم أن الحجر الأسود نافع بذاته.
6. استلام جميع أركان الكعبة.
7. الوقوف عند محاذاة الحجر الأسود والمزاحمة لأجل ذلك وإعاقة السير.
8. تقبيل اليد عند الإشارة إلى الحجر.
9. تخصيص كل شوط بدعاء معين لا يدعو فيه بغيره.
10. الدعاء الجماعي بصوت قائد يقودهم ويلقنهم الدعاء بصوت مرتفع، مما يشوش على الطائفين.
11. المزاحمة الشديدة من أجل الصلاة خلف المقام.
12. طواف أو سعي المرأة بالزينة والعطر.
13. الوقوف بعد الطواف للدعاء ورفع الصوت بذلك جماعة.
14. المرور بين يدي المصلين وخاصة مرور النساء لغير حاجة ملحة.
د/ أخطاء في السعي:
1. قراءة قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} كلما أقبلوا على الصفا والمروة, والسنة أن يقرأها إذا أقبل على الصفا في أول شوط فقط.
2. تكلف الصعود إلى أعلى جبل الصفا والمروة والمشقة في ذلك، وإنما يكفي صعود بعضه.
3. الإشارة باليد جهة القبلة مع التكبير عند صعود الصفا والمروة، والسنة في ذلك رفع الدين والدعاء والذكر المأثور.
4. ترك كثير من الناس للذكر الوارد عند رقي الصفا والمروة.
5. هرولة المرأة بين العلمين.
6. إسراع الرجل في جميع الشوط، والسنة أن يكون بين العلمين.
7. صلاة ركعتين بعد السعي كالطواف، وهذا لا أصل له.
هـ/ أخطاء في يوم عرفة:
1. خروج بعض الحجاج إلى الميقات كي يحرموا بالحج وهذا خلاف السنة، فالسنة أن يحرموا من مكانهم.
2. تكلف صعود الجبل المسمى (جبل الرحمة) مع التعرض للخطر مع أنه غير مسنون.
3. الاشتغال بالأحاديث الدنيوية والأكل والشرب عن الذكر والدعاء في وقت الوقوف, وهو بعد صلاتي الظهر والعصر.
4. النزول خارج حدود عرفة حتى الغروب، وهذا خطأ عظيم يفوت به الحج.
5. استقبال الجبل المسمى (جبل الرحمة) في الدعاء واستدبار الكعبة, وتكلف صعوده.
6. الخروج من عرفة قبل غروب الشمس.
7. السرعة الشديدة وقت الدفع إلى مزدلفة وعدم السكينة.
و/ أخطاء في مزدلفة:
1. الانشغال بجمع الحصى عند الوصول إلى مزدلفة عن الصلاة، مع أن السنة البدء بالصلاة.
2. التهاون في تحري القبلة في صلاة المغرب والعشاء.
3. الخروج من مزدلفة إلى منى قبل الفجر لغير الضعفة.
4. التأخر في الدفع من مزدلفة إلى طلوع الشمس من غير عذر.
5. ظن بعضهم أنه لا تجمع الجمار إلا من مزدلفة.
6. إهمال الكثير للذكر والدعاء بعد صلاة الفجر يوم العيد في مزدلفة.
ز/ أخطاء في رمي الجمرات:(/21)
1. اعتقاد كثير من الحجاج أنهم برميهم الجمار يرمون الشيطان، ولهذا يطلقون اسم الشياطين على الجمار. فيقولون رمينا الشيطان الصغير والكبير، وتراهم يرمون الحصا بشدة وعنف وصراخ وشتم لهذه الشياطين على زعمهم، مع أن الحكمة من رمي الجمرات إقامة ذكر الله تعالى.
2. رمي الجمار بحصا كبيرة، وبالحذاء (النعل) وبالأخشاب.
3. تقدمهم إلى الجمرات بعنف وشدة، لا يخشعون لله تعالى ولا يرحمون عباد الله تعالى، فيحصل بهذا الأذية والضرر للمسلمين.
4. غسل حصا الجمار.
5. ظن البعض أن الرمي لا يكون إلا في أول الوقت.
6. الرمي من غير تحري بوقوع الحصى في المرمى.
7. رمي حصا الجمار دفعة واحدة.
8. مزاحمة النساء للرجال في الرمي.
9. الرمي قبل بدء وقت الرمي.
10. الإخلال بترتيب الجمرات الثلاث في الرمي.
11. ترك كثير من الحجاج الوقوف للدعاء بعد رمي الجمرة الأولى والثانية في أيام التشريق.
12. تهاون البعض برمي الجمار بأنفسهم فتراهم يوكلون من يرمي عنهم مع قدرتهم على ذلك.
ح/ أخطاء في بقية أيام الحج وطواف الوداع:
1. ترك المبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر، والثالث عشر للمتأخر.
2. تأخر من يريد التعجل حتى غروب الشمس لليوم الثاني عشر.
3. نزول البعض من منى إلى مكة لطواف الوداع, ثم يرجع إلى منى فيرمي ثم يسافر، وهذا لم يكن آخر عهده بالبيت الطواف.
4. مكثهم بمكة بعد طواف الوداع لغير عارض أو حاجة.
5. خروج البعض على قفاه (يعني على ورائه مستقبل القبلة) بعد طواف الوداع بزعم تعظيم الكعبة.
ط/ أخطاء عند زيارة المسجد النبوي:
1. شد الرحال لأجل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما يكون السفر لأجل زيارة المسجد, وزيارة القبر تبعاً لذلك.
2. ظن البعض أن حجه لا يتم ولا يكمل إلا بزيارة المدينة.
3. التمسح بجدران القبر والتبرك به.
4. الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وطلب الحوائج منه.
5. استقبال القبر عند الدعاء.
6. زيارة ما يسمى بالمساجد السبعة والصلاة فيها
عشرون: أحكام الزيارة وآدابها:
1. زيارة المسجد النبوي:
تسن زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحج أو بعده للأحاديث الواردة في فضله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة في غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام)) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى)) رواه مسلم.
فإذا دخل المسجد سن له أن يصلي ركعتين تحية المسجد، وينبغي أن يتحرى الصلاة في الروضة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)) رواه البخاري.
وهذا في غير صلاة الجماعة، أما في صلاة الجماعة فليحافظ على الصف الأول الذي يلي الإمام فإنه أفضل.
2. زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه رضي الله عنهما:
ثم بعد صلاته يذهب للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
أ- فيقف أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم مستقبلاً للقبر فيقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وإن زاد شيئاً مناسباً فلا بأس، مثل أن يقول: السلام عليك يا خليل الله، وأمينه على وحيه، وإن اقتصر على الأول فحسن.
ب- ثم يخطو خطوة عن يمينه ليكون أمام أبي بكر رضي الله عنه فيقول: السلام عليك يا أبا بكر، وإن زاد شيئاً مناسباً فلا بأس.
ج- ثم يخطو خطوة عن يمينه ليكون أمام عمر رضي الله عنه، فيقول: السلام عليك يا عمر، وإن زاد شيئاً مناسباً فلا بأس.
د- وليكن سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه بأدب وخفض صوت.
هـ- ولا ينبغي إطالة الوقوف والدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
3. زيارة البقيع وشهداء أحد:
وينبغي له زيارة البقيع فيسلم على من فيها من الصحابة والتابعين وغيرهم.
وإذا دخل المقبرة فليقل ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين, وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية.
وإن أحب أن يخرج إلى أحد ويزور الشهداء فيسلم عليهم ويدعو لهم فحسن.
4. الصلاة في مسجد قباء:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً، فيصلي فيه ركعتين) متفق عليه.
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة، كان له كأجر عمرة)) رواه أحمد، وصححه الألباني.(/22)
المقاطعة »
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
كثيرة هي الموضوعات التي يناسب تناولها في مثل هذه الأوقات التي ما تزال أصداء الانتصار للنبي المختار صلى الله عليه وسلم تتردد ليس في أرجاء العالم الإسلامي فحسب بل في أصقاع العالم كله، وثمة أمور كثيرة يمكن أن تكون مداخل لمزيد ومزيد مما نحتاج إليه من التعلق بديننا والإتباع لنبينا صلى الله عليه وسلم، والتوحد فيما بيننا، والسعي لنهضة أمتنا وغير ذلك.
حتى إن المرء ربما كان يتمنى أن لو كان في مثل هذه الأسابيع أكثر من جمعة ليكون هناك اتصال وتوضيح لمثل هذه الموضوعات، ومع التزاحم جعلت حديث اليوم عن المقاطعة .
ذلك الحدث الأبرز الذي تجددت انطلاقة شرارته مع تلك الإساءة البذيئة القبيحة التي انطلقت من بعض دول أوربا وعمت بعضها الآخر في صور إعلامية معروفة .
وحديثي عن المقاطعة أجده مهمّاً أيها الأخوة الكرام ؛ لأن هذا العمل والأسلوب يختلط فهمه عند بعض الناس، وإن كانت الغالبية العظمى تراه نافعا ومفيدا، وتراه صحيحاً ومشروعاً، وتراه نافعاً ومؤثراً ، وتأخذ به عملاً وواقعاً، إلا أن قلة قد نقسمها إلى قسمين:
قسم لديه ضعف وجهل، فهو يخشى من الآثار وهو ينظر من زوايا ومنطلقات خاطئة.
وأما القسم الثاني: وهو قسم المرجفين والمنافقين، المتحدثين بلسان الأعداء والمعتدين، ولذا وجدت أن هذه الوقفة مهمة، وأبدأها بالتأصيل .. فنحن أمة لا تنطلق إلا من الوجه المشروع ، ولا تعمل إلا ما له أصل أو دلالة في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو أردت أن أتحدث في هذا الموضوع وحده لطال المقام في ذكر الأصول الشرعية والمبادئ الإسلامية التي تتصل بالمقاطعة.
وأولها: الولاء والبراء
الذي أرجف المرجفون به كثيرا وحذروا منه كثيرا، لماذا؟ لماذا كل تلك الحملات الماضية عن الولاء والبراء؟ لأنه يغتال - في المسلم فرداً وفي المسلمين أمة - قدرتهم وقوتهم على مواجهة أعداءهم ، ومعرفة حقائقهم ، وبيان ما ينبغي من الواقف إزاءهم، ولذلك حذرونا منه وأردفوا على مناهجنا لأجله، قالوا: لأنه يدعوا إلى العنصرية، ويدعوا إلى الإرهاب وغير ذلك مما قالوه، ولست بقاضٍ في هذا المقام أن أستوفي الحديث عن هذا الأمر، ولكني أقف مع آية واحدة لعل الوقوف معها يشير إلى ذات الحدث الذي نتحدث عنه، يقول الحق جل وعلا:
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } .
أليست الآيات متناولة لهذا الذي نراه ونحن نتحدث عنه ؟ أليس هذا استهزاء بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وانتقاص لدين الإسلام وامتهان لأمة المسلمين ..
{يا أيها الذين آمنوا } نداء من ربكم تتلونه في آيات قرآنكم .. قال عنه ابن مسعود: " إذا سمعت {يا أيها الذين آمنوا..} أرعها سمعك، فإنها إما أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه " .
{لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا } أليس هذا استهزاء وتلاعب وتنقص وسخرية بالدين وبسيد هذا الدين ونبيه عليه الصلاة والسلام.
ثم يقول جل وعلا: {من الذين أوتوا الكتاب والمشركين أولياء}
ثم يقول: {واتقوا الله إن كنتم مؤمنين}
وهذا التذييل في آخر الآية عظيم ودلالته كبيرة، قال السعدي رحمه الله في تفسيره -عند تعليقه على هذا الموضع من الآية- قال: "فإذا علمتم أيها المؤمنون حال الكافرين وشدة معاداتهم لكم ولدينكم، فإذا علمتم ولم يعادهم بعد هذا –أي المسلم- دل على أن الإسلام عنده رخيص، وأنه لا يبالي بمن قدح فيه أو قدح بالكفر والضلال، وأنه ليس عنده من المروءة الإنسانية شيء، فكيف يدعي لنفسه دينا قيما وأنه الدين الحق وما سواه باطل، ويرضى بموالاة من اتخذه هزوا ولعبا وسخرية وبأهله من أهل الجهل والحمق " .
وقال ابن كثير رحمه الله: "أي اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء " .
{إن كننتم مؤمنين} أي بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوا ولعبا، فإن كنا نؤمن بالله ونؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بهذا الدين العظيم وأحكامه وتشريعاته فإنه لا بد من وقفة ولاء وبراء حقيقية مع من يتعرض له بالعداء أو يمسه بالتنقص والاستهزاء والحق جل وعلا يقول : {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } .
القائل رب الأرباب العالم بكل الأحوال ، المطلع العالم بغيب السماوات والأرض.
{ولا يزالون} بصيغة المضارع الدال على الاستمرار، ونحن رأيناه اليوم في حدث، نحمد الله أن جعله سببا في يقظة الأمة لكن قبله كانت أحداث وأحداث وتلته كذلك أحداث وأحداث وربما ستتلوه كما هو ظاهر أحداث وأحداث، إذا فالمسألة ظاهرة بينة.(/1)
وأمر آخر في التأصيل وهو أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وتلك قاعدة فقهية معتبرة عند أهل العلم، أليست تلك مفسدة في الاستهزاء والتنقص بالدين والمصلحة أن نأكل طعاما، نستطيع أن نستغني عنه، والمصلحة أن تكون هناك أرباح من وسخ الدنيا وأموالها وذهبها وفضتها وغير ذلك .
إن درء مفسدة الاستهزاء بالدين والانتقاص منه أعظم وأجل من جلب مصلحة هنا أو هناك حتى وإن كانت بعض المصالح الدبلوماسية أو المظهرية وغيرها.
وأمر ثالث كذلك، النظر إلى المآلات وهي مسألة مهمة أيضا، قال ابن الهمام الحنفي في بعض المسائل تشبه مسألتنا هذه، قال: " لا ينبغي أن يباع السلاح من أهل الحرب ولا يجهز إليهم" وقال الشارح:
"وكذلك الحديد لأنه أصل السلاح " .
ومن هنا منع أهل الفقه أن يباع العنب لمن يعلم أنه يتاجر بصناعة الخمر، لا تقل وتضحك على نفسك إنني أبيعه عنبا ما دمت تعلم ما سيؤول إليه الأمر، واليوم تشتري وتدفع مالا وأنت تعلم أن المال على سبيل المثال عند الصهاينة الغاصبين المعتدين سيصبح رصاصا في رؤوس إخواننا المسلمين وسيصبح نارا تشتعل في المسجد الأقصى وغير ذلك، فهل هذا من الدين أو من الفقه في شيء.
ورابعة وهو : واجب النصرة
{إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}
أليس من نصر الله نصر دينه ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم:
(الدين النصيحة قلنا لمن، قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ) ؟
وعندما شرح العلماء أنواع ذلك النصح كان من ضمنها الذب والانتصار عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن كتابه، وعن المسلمين أفرادا وأمة وجماعات.
ويقول الحق جل وعلا: {وإن استنصروكم فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق}
ألسنا نرى أن إخواننا الذين احتلت أراضيهم واغتصبت نساءهم، ودمرت بيوتهم أليسوا يستنصروننا، فإن عجزنا أن نكون معهم بصدورنا ونحورنا وأن نكون معهم على ثغورنا لأن ثغورهم ثغور إسلامنا وعقيدتنا، فهل يصلح بعد ذلك ألا ننصرهم بمنع القوة عمن يصب النار والقتل والدمار على رؤوسهم إنه نوع من النصر اللازم وإلا كنا قد انبتتنا عن حبنا وعن إخوتنا وعن ولاءنا وعن نصرتنا لإخواننا المسلمين.
لو أنك رأيت أخاً من إخوانك المسلمين هنا وثمة من يعتدي عليه أمام عينيك بظلم ؛ فإنك تنبري للدفاع عنه، لكنك إن لم تستطع اتخذت أي أسلوب يحول بين هذا الاعتداء وتكرره أو وقوعه، وهذا من هذا والأمر فيه ظاهر وبين، وفي حق نبينا صلى الله عليه وسلم، قال الحق جل وعلا : { إلا تنصروه فقد نصره الله } .
فهل مثل هذه المقاطعة على قلتها ومحدوديتها نظن بها أن ننصر بها رسولنا صلى الله عليه وسلم، وننتصر لعرضه وشخصه ومقامه وقدره وعظمته عليه الصلاة والسلام، أفنشتري مالا أو نشتري بضاعة ممن يقوم بهذا الفعل، ولست برائد الآن الدخول في الشبهات فيقال: ليس هؤلاء الذين فعلوا وليس هذا الذي فعل، وأعجب من هذا فإنني أقول إن الحروب العسكرية لا تقوم بها أمة كاملة يقوم بها الجنود، فهل نقول إذا ما ذنب الذين وراءهم، لن أقاتل إلا من جاء برصاصه ليقتلني، طيب من أعده ومن دربه ومن موله ومن أعطاه ومن شجعه ومن ضل بإعلامه يناصره، إنها صورة ساذجة وقضية كما سأقول ينقضها الواقع.
ومن التأصيل الشرعي أيضا قوله جل وعلا : {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} .
أليس التعاون على مقاطعة من أساء للإسلام وأهله ولرسوله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، ومن اعتدى على المسلمين بأي عدوان، أليس هذا من التعاون على البر، وترك التعاون على الإثم، أفنريد أن نكون كأنما نحن مكملين أو زائدين في سواد الأعداء، ألا يكفي الإسلام وأهله كل هذا العدوان والإجرام الذي يملأ أقطار الأرض كلها في وسائل الإعلام التي نعرفها، ثم بعد ذلك يمكن أن نكون نحن مع هذا، أو على أقل تقدير قد أخرسنا ألسنتنا وأعمينا عيوننا وصممنا آذاننا وقبضنا أيدينا فكأننا لا حياة لنا، وكما قال السعدي فيما ذكرت: "فإن من فعل ذلك فإنه خال من المروءة الإنسانية"
كيف لا ينتصر المرء لدينه ولنبيه صلى الله عليه وسلم، ولأمته ولإخوانه المسلمين، ثم نجد بعد ذلك أيضا أمرا مهما، وهو الجهاد الكلمة والمصطلح الذي كان شن الحرب عليه والإرهاب منه أعظم حتى من الولاء والبراء، والله عز وجل كم من الآيات التي قرن فيها بين الجهاد بالأموال والأنفس وكان تقديم الجهاد بالمال على الأنفس في كل تلك الآيات، لماذا؟ للدلالة على أن الجهاد المالي سواء كان بذلا أو منعا هو من أسباب بذل الجهد في نصر الإسلام والدفاع عنه ورد عدوان أعداءه، ومن هنا أيضا نجد النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يقول : (جاهدوا المشركين بألسنتكم وأموالكم)
جهاد، فلماذا نستخدم كل الأسلحة وسيأتي ذكر استخدامها .(/2)
وأخيرا في هذا التأصيل الموجز، الاقتداء بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثمامة بن أثال سيد قومه بني حنيفة في وسط الجزيرة، زعيم كبير من زعماء العرب، قبض عليه بعض الصحابة رضوان الله عليهم واقتادوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بربطه في سارية من سواري المسجد، فهو يرى المسلمين ويرى صلاتهم ويرى أحوالهم، يأتي إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما عندك يا ثمامة ؟! ) هات ما عندك ..
يقول : ( يا محمد - صلى الله عليه وسلم- إن تقتل تقتل ذا دم –إن قتلتني فوراءي من ينتصر لي ويأخذ بثأري- وإن تفدي تفدي ذا مال) إن أردت المال فأنا صاحب مال، ويتكرر المشهد مرة واثنتين وثلاثا وثمامة على موقفه فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحل رباطه وإطلاق سراحه.
هذه هي قيم الإسلام وسماحته لا إكراه في الدين، وأراد أن يرى الإسلام أراد أن يحاوره كان هذا موقفه، فماذا صنع ثمامة؟
خرج من المسجد وخرج إلى بعض أطراف المدينة عند نخل ثم اغتسل ورجع إلى المسجد وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أسلم من الذي دعاه من الذي أكرهه، لا أحد، هكذا هو الإسلام كما نرى إلى يوم الناس هذا، ثم قال: "يا رسول الله إن أصحابك أخذوني وأنا قاصد العمرة فما تأمرني ؟ " قال : ( أدي عمرتك ) .
فذهب إلى مكة يعتمر على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كفار قريش: "أصبأت يا ثمامة"، قال: "لا ولكني أسلمت لله واتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال كلمته الشهيرة "لا والله لا يأتيكم حبة حنطة من اليمامة حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم"
سيد بني حنيفة في اليمامة المورد الأساسي للحنطة وللطعام لأهل مكة قال: والله لا يأتيكم حبة حنطة حتى يأذن رسول الله، واشتد الأمر على قريش فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله وترجوه أن يأمر ثمامة بفك وقطع المقاطعة، وفعل رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ما الذي جاء بقريش صاغرة بين يدي رسول الله .. ما الذي أذلها في هذا الموقف ؟ إنها المقاطعة الاقتصادية.
وقبل أن أفيض في جوانب أخرى أقف الوقفة الثانية ، وهي : وقفة المقاطعة من قبل غير المسلمين
كيف صنعت قريش وما الذي اتخذته لكي تضغط على كل من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم، كلنا يعلم أنها قاطعت النبي صلى الله عليه وسلم بل وبني هاشم حتى من غير المسلمين، لماذا؟ أسلوب من أساليب الضغط وفض الناس عنه وجعله في حال لا يستطيع أن يواصل مسيرته وأن ينشر دعته كما يظنون ويزعمون.
كيف كانت تلك المقاطعة ؟ إنها مقاطعة ظلم وجور حتى قال سعد بن أبي وقاص :
"ذهبت لقضاء حاجتي، فسمعت عند تبولي صوت قعقعة شن - أي قطعة من جلد- قال فأخذتها فإذا هي قطعة جلد فأخذتها ونظفتها ودققتها ثم سففتها فكانت قوتي ثلاثة أيام" من شدة المقاطعة، لم تكن مقاطعة اقتصادية بل مقاطعة شاملة، لا تشتروا منهم، لا تبيعوهم، لا تزوجوهم، لا تتزوجوا منهم، كل شيء كان داخلا في دائرة هذه المقاطعة .
وأنتقل بكم ألفاً وأربعمائة من السنوات وأكثر، لأذكر بالمقاطعة التي كانت قبل احتلال العراق، كان حصادها اليومي خمسة آلاف طفل يموتون في كل يوم، كان حصادها الاقتصادي والصحي والاجتماعي فضيعا بحيث كان يسجل كجريمة إنسانية من الدرجة الأولى، عندما كان هناك خلاف بين الفرنسيين والأمريكيين في هذه الحرب قبل بدءها قاطع أولئك الأمريكيون البضائع الفرنسية فيما بينهم حلال عليهم وحرام علينا، ونحن نعلم أن هذه الدول كلها قاطبة في الأخبار والنشرات والممارسات تستخدم هذه المقاطعة على نطاق واسع وتظم إلى الاقتصادية السياسية والعسكرية وغيرها مما تعلمونه.
ألم يكن إخواننا في البوسنة والهرسك قبل بضع سنوات أو عشر سنوات فأكثر محرومون من قطعة السلاح بموجب المقاطعة وأعداءهم يصبون النار فوق رؤوسهم حتى كان الحصاد نحو مائتين وخمسين ألفا من المسلمين في أقل من عامين، أليست هذه كلها أساليب استخدام هذا السلاح القوي.
واليوم نحن معاشر المسلمين أكثر من ألف مليون ومائتي مليون مسلم لو كانت لهم كلمة واحدة ومقاطعة قاطعة لنوع واحد من البضائع لركعت تلك الشركات واهتزت تلك الاقتصاديات، وتراجعت تلك السياسات ووقفت تلك الدول، كما رأينا في حادثة الدنمرك، ذهب السفراء وقفوا على الباب ورجعوا خائبين، طرقت أبواب القضاء سدت في الوجوه، صاح الصائحون كأن لا أحد يتكلم، ويوم بدأت المقاطعة رأينا الوفود يمينا ويسارا، ورأينا التصريحات ورأينا المراجعات ورأينا كذا وكذا، ما الذي يدل عليه ذلك، يدل على أن الأثر هو الذي يمكن أن يكون له صدى في زمن هو زمان القوة وعصر يسمونه عصر الأقوياء.
ثم أنتقل إلى جوانب أخرى أيها الأخوة، ليست المقاطعة لأجل أعداءنا بل هي لنا كذلك، فهي تربية، تربية عظيمة لها فروع كثيرة منها:(/3)
تربية على تقديم الدين والإيمان والاعتقاد والإسلام على كل حاجات الدنيا، ويوم نقدم دنيانا على ديننا فذلك مسمار يدق في نعشنا، يوم نكون أهل دنيا نؤثرها على الآخرة ونؤثرها على القرآن والسنة والتاريخ والتشريع، كل ذلك والعياذ بالله، هناك فرق عظيم لكننا اليوم نربي أنفسنا على أن نترك كل ما قد يكون فيه ضرر أو إساءة أو عدوان على ديننا شيئا فشيئا وبتدرج وبقدر استطاعة وفي دوائر متتابعة، تربية أخرى تربية مهمة جداً، على أن لا نكون أهل ترف وأهل استهلاك، نأخذ كل الأصناف ونشتري ما نحتاج وما لا نحتاج، اليوم نشعر عندما نترك تلك البضاعة ما نقص منا شيء، بل وفرنا شيئا من أموالنا، إذا كان كثير من صرفنا وكثير من استهلاكنا ضرب من الترف وضرب من الاستهلاك الذي ينبغي أن ننتبه له وأن نعالجه في واقعنا .
وتربية أخرى مهمة، تذكير بحضور ديننا في قلوبنا وتذكير بحقيقة أعداءنا، أحسن شيء عند الأعداء أن ننام ملء جفوننا وأن نأكل ملء بطوننا وأن نضحك ملء أشدقنا، وأن نشتري بأموالنا ما ينتجونه لنا، لنبقى في ذيل القائمة إلى قيام الساعة، ماذا يصنعون؟ إعلامهم الذي يبثون فيه الأفلام وهذه المسلسلات وغير ذلك، لماذا؟ جزء منه حتى لا نلتفت إلى شيء مهم، ولا نسمع عن قضية جوهرية أو محورية يريدون منا أن نكون أعزكم الله كالبهائم تأكل وتشرب وترتع وتسرح وتمرح، لا يهمها شيء مطلقا .
ولذلك من كان يعرف عن الدنمرك ربما كثيرون لا يسمعون عنها، وإلى اليوم ربما كثير من الناس لا يعرفون أين موقعها من الخريطة، لكنك لو سألت اليوم طفلا صغير دون مرحلة المدرسة، قل له الدنمرك سيقول لك هؤلاء الذين أساؤوا لرسول صلى الله عليه وسلم ..
نحن لا نريد إذكاء العداء والخصومات .. لكننا لا نريد أن نكون قوماً بلا روح ولا حياة ولا عزة ولا كرامة ! لا نريد أن نكون كالذي يضرب على قفاه من كل أحد، لا نريد أن نكون الجدار الواطئ الذي يطأه كل أحد، لا نريد أن نكون الأمة التي تشتم وتلعن بكل لسان ولا ينتفض لها أحد ولا تقوم لها قائمة !
إنها حينئذ ستكون جثة هامدة حري بها أن تقبر في باطن الأرض لا أن تكون على ظاهرها، ولكن الخير بحمد الله باق في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه كما قال صلى الله عليه وسلم : (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) .
لكنها نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم وكرامته عليه الصلاة والسلام ومعجزته تتبدى حتى بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ( ما من بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل ) .
اليوم وكما كانت أحداث سابقة لا أحسب أن أحدا تحت رقعة الشمس في هذه الأرض إلا وسمع اسم محمد صلى الله عليه وسلم، بغض النظر عن سماعه له ذما أو مدحا يبدأ ويسمع ويبحث ويقرأ ويطالع، ولست ممن يروجون الأخبار والشائعات كما ذكر بعض الناس أن هناك من أسلم أقول جزما هناك من أسلم ، وهناك من يراجع موقفه من عداءه الإسلام أو فقه به أو معرفته له والخيرات والبركات في هذا كثيرة، لكنني أقول إن من قضايا التربية المهمة في هذه المقاطعة أنها تذكرنا بأهمية أن نكون أمة مرفوعة الرأس {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}
أمة الإسلام أمة عز لا تقبل الذل مطلقاً .
ثم أمر رابع وهو مهم وهو في غاية الأهمية: المقاطعة تشجيع وتقوية، كيف؟ عندما تترك تلك البضاعة عما ستبحث، أقول لكم لا تبحثوا عن بضاعة أخرى من بلد مشابه ومماثل، ابحث عن بضاعتك الوطنية، ألسنا ندعوا دائما إلى الموطنة والوطنية ودعم المنتجات الوطنية، هذه فرصتنا، هذه بعض الآثار العظيمة النافعة المفيدة لمقاطعتنا، اشتروا بضائعنا فإن لم يكن فليكن جانب آخر وهو بضائع أمتنا الإسلامية وهي ليست دولة ولا خمسا ولا عشرا، إنها بالإحصاء في منظمة المؤتمر الإسلامي سبع وخمسون دولة منها دول صناعية كبيرة إلى حد ما بالمقارنة بغيرها، منها دول تعداد سكانها يبلغ مائتين وثلاثين مليونا، منها دول عندها صناعات تشمل معظم الأشياء، إذاً فيكن ذلك تقوية لنا بدل من أن نجد بعض دولنا الغنية الاقتصادية، بل هذه الدراسة تقول: "إن مجمل الاستثمارات الخارجية للدول العربية خمسة وثمانون بالمائة منها خارج العالم العربي والإسلامي والذي بين العرب والمسلمين منها خمسة عشرة بالمائة فقط" .(/4)
لم لا نعكس الآية شيئا فشيئا، إن المقاطعة سبيلنا لذلك، وهي التي تدلنا عليه وتوجهنا له وفيها تشجيع على الاستقلالية، اليوم نشتري وغدا سنشتري وبعد غد سنشتري، وبعد عشر سنوات سنشتري وبعد عشرين سنة سنستورد إلى متى، ألا ينبغي أن نكون مستقلين في كثير مما نحتاج إليه من الأمور الأساسية، فليكن هذا تذكير لنا، كيف يذكرنا هذا، إذا قلت هذه من هنا ولا أشتريها وهذه من تلك البلد ولا أشتريها، إذاً ستجد نفسك خاليا، ماذا ستصنع ترجع إليها لا، عد، وأعني بذلك ليس فرد بل مجموع الأمة، وعودا إلى أنفسكم راجعوا أنفسكم، أين تضعون أموالكم، في القنوات الفضائية التي تنشر العهر والعري والفساد، أليس جديراً بكم أن تحولوها إلى الإنتاج والصناعة، فتنفعوا أمتكم وتقوا جانبها وتعطوها استقلاليتها، بدلا من أن نأتي بهذه الأموال ونأتي ببضاعة القوم ونبثها بين أبناءنا فنفسد عقولهم ونحرف سلوكهم ونسمع الأفاعيل القبيحة الرذيلة التي نعرفها في تلك الفضائيات أعني في معظمها أو في كثير منها، وهكذا نجد هذا أمرا بينّاً واضحاً.
وأخيراً وليس بآخر ؛ فإن مثل هذه الأمور هي من الأمور المهمة في الواقع المعاصر اليوم، وأريد أن أقف مع آخر نقطة وهي التأثير ؛ لأن بعض الناس وقد رأيت من كتب في هذا في صحفنا، يقول: "هل تظنون أنكم تستطيعون أن تؤثروا على اقتصاد أولئك أو هؤلاء" وأقول: هؤلاء لا يفهمون كثيراً وأحسب أنهم بحاجة إلى مراجعة عقولهم، إن عصر اليوم عصر المادة، لو أن شركة تربح مائة مليون في العام، فإذا ربحت في العام الذي بعده تسعة وتسعين مليونا وتسعمائة ألف وتسعة وتسعين دولاراً، أي نقص دولاراً واحداً فسوف تعيد حساباتها وتفصل بعض موظفيها وتعيد خططها ..
لن نوقف كل ما يبيعونه ؛ لأنهم يبيعون في عالم واسع، لكننا سنجعلهم يقفون وقفة مهمة وقد رأيناها في هذا النموذج الذي رأيناه .
وأذكر نموذجا غير إسلامي، لئلا يقال إننا نحن المسلمين مهووسون بالأعداء .. غاندي زعيم الهند المعروف الشهير، ماذا صنع عندما أراد أن يخرج بريطانيا التي كانت محتلة لبلاده؟ دعا إلى العصيان المدني، عدم التجاوب مع العدو وإلى المقاطعة الاقتصادية بكل صورها، حتى كانت دعوته أن نقاطع بضائعهم وعاداتهم وتقاليدهم، فكان يحرص على أن يلبس اللباس الهندي الأصيل ولا يلبس لباس الفرنجة أو البريطانيين، وضل كذلك حتى خرجت بريطانيا من أثر هذه المقاطعة المباشرة الطويلة العظيمة الواسعة في أعدادها عام سبعة وأربعين وتسعمائة وألف، وخلد هذا الرجل كزعيم قومي عظيم في بلاده وبين قومه، وهذا تأثير واضح وبين.
وأخيرا آخذكم إلى جهة مقابلة أختم بها حديثي، الاستهزاء بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، قالوا لنا إنه حرية تعبير، وبحمد الله أنه كشف بلسانهم قبل أن يكون بلساننا أو بموقفنا، عميد الأدب الألماني حائز على جائزة نوبل للآداب، صرح تصريحات خلاصتها: أن هذه الصحيفة لم تكن على جهل بحقيقة الاستهزاء بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم بل كانت تعرف كما يقول: كان المحررون في هذه الصحيفة يعلمون أن الإسلام يحرم الرسم أو الانتقاص لله عز وجل وللرسول صلى الله عليه وسلم، وقد استعانوا بخبير دنمركي في الشئون الإسلامية وحذرهم من ذلك، ثم فعلوا فعلتهم، فليس صحيحا أنهم كانوا يجهلون، وجاءت صحيفة بريطانية وأخرجت المخبوء وأنه في عام ألفين وثلاثة عرض على تلك الصحيفة رسوما استهزائية لسيدنا عيسى عليه السلام، نحن لا نقول استهزاء بأي أحد من الرسل بل نحن نعظم عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام أكثر من تعظيمهم .. لأنهم لا يعرفون الدين ولا يعرفون حق الأنبياء لكنها رفضت النشر وبررته بأنه سيثير غضب كثير من الناس .
وفي مؤتمر دافوس الشهير خرجت مقالة في مجلة منتدى مرت مرورا وفيها طلب مقاطعة الكيان الصهيوني حتى ينفذ قرارات الأمم المتحدة، فقام رئيس المنتدى معتذرا، وسحبت المجلة وأعيد طبعها بدون هذا الخبر وأصبح الأمر حديثا مع الاعتذار، ولست أدري أين ذهب حرية التعبير في هذا والأمر ظاهر بين ..
وأقول قاطعوا ولنا في هذا الحديث مزيد نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا من أهل النصرة والانتصار للنبي المختار صلى الله عليه وسلم .
أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :(/5)
في شأن المقاطعة أحاديث كثيرة لكنني أقول ركزوا ولا تشتتوا على من كان مباشرا في الإساءة واعرفوا الأصل وهو أن من أساء إلى ديننا أو اعتدى على ديارنا أو ظلم إخواننا أو ألحق الضرر بأبناء ملتنا، فينبغي أن يكون لنا منه موقف، فليست القضية محصورة في هذه الدائرة لكنها قد تكون دائرة أولية حتى تؤتي ثمارها، ولنا كما قلت أحاديث تتعلق بجملة ما نحن في صدده في مثل هذه المواجهة الحضارية الفكرية العقدية كما نرى شواهدها، أختم بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أعلق عليه بشيء، في سنن الترمذي من حديث أبي عبيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(كان أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل فيهم يرى أخاه على الذنب فينهاه عنه وإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض وأنزل الله فيهم {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم} وبين الحق عز وجل علة ذلك {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه})
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مادمت أنكرت المنكر كيف يسوغ أن تكون أكيله و قعيده وشريبه)
وإن كنت أنكرت هذه الإساءة فكيف تكون مموله وداعمه وناصره بالمال .
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه ردا جميلا خذ اللهم بنواصينا إلى طريق الحق والسداد وألهمنا الرشد والصواب..(/6)
المكتبات في المساجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
إن بيوت الله التي يجتمعُ فيها المسلمون ليأدوا ما افترضه الله عليهم لها رسالة كبيرة جداً، فهي ليست لمجرد الصلاة فحسب؛ بل رسالة المسجد أعم وأوسع من ذلك، فهي مدرسة للمسلم، يصلي فيها، ويتعلم فيها ما ينفعه في دنياه وآخرته، ولما كان كثير من المسلمين لا تتوفر لديهم مصادر العلم، ولاسيما الفقراء منهم، الذين لا يجدون سعة لشراء الكتب التي تعلمهم ما ينفعهم، وتعينهم على معرفة دينهم، وتوسع آفاق معرفتهم، ولاحتياج طلاب العلم الشرعي في أغلب الأوقات لبعض الكتب فقد يطرأ سؤال وهو يقرأ آية من كتاب الله، أو تشكل عليه مسألة وهو في المسجد، فيريد لها حلّاً قبل أن يمضي الوقت وربما ينساها، فكان ضرورياً أن يكون في كل مسجد مكتبة، وتحتوي هذه المكتبة على الكتب النافعة؛ التي يستطيع أن يستفيد منها المصلون في فهم مبادئ دينهم، وأصول عقائدهم وتشريعهم، وما يُفيدهم في الدنيا والآخرة.
وتحتوي هذه المكتبة على الكتب التي فيها تفسير القرآن، وكتب الحديث الصحيحة، وشروحها، وكتب السيرة النبوية، وكتب العقائد التي تُعنى بالعقيدة الصحيحة، عقيدة أهل السنة والجماعة، وكذا كتب الفقه الصحيح، وكتب التاريخ الإسلامي المجيد، وكتب الأخلاق والسلوك، وغيرها من الكتب النافعة.
وقد توجد بعض المكتبات في المساجد, ولكنها تضر أكثر مما تنفع؛ لأنها تحوي الكتب التي فيها الشرك بالله والتأصيل له، وكذا العقائد الفاسدة التي تخالف المعتقد الصحيح، أو الكتب التي تبث الأخلاق الفاسدة والمبادئ الهدامة، أو الكتب التي فيها وحدة الوجود، والعقائد الزائغة، كالحلول والاتحاد، والغلو الصوفي، وكتب الكلام المملوءة بالفلسفة اليونانية، والمناقضة لعقائد أهل السنة والجماعة، وكتب الدروشة والأحزاب والفرق الصوفية والشيعية وغيرها، وكتب الأحاديث الموضوعة، فهذه المكاتب ضررها أكثر من نفعها، وعدمها أفضل من وجودها، ولا كثر الله من أمثالها، فإنها مكتبات ضلالة وشر(1). فليتق الله القائمون على بيوت الله، وينصحوا لله ورسوله ويبينوا هذا الأمر، وأن يأخذوا من الكتب ما ينفع المسلم لا ما يضره.
ولابد أن يكون في هذه المكاتب قسمٌ خاصٌّ بكتب الأطفال، تحتوي على القصص الديني، والسيرة النبوية المبسطة، وكتب التفسير الواضحة السهلة التي يستطيع الأطفال قراءتها وفهمها، وقصص الأبطال من المسلمين، والفتوحات الإسلامية، وما شابه ذلك من الكتب التي يُحبها الأطفالُ، وليس فيها أيُّ ضررٍ.
وكذا يكون في هذه المكتبة قسم خاص بالأشرطة الإسلامية النافعة التي فيها شروح لبعض الكتب للعلماء المشهود لهم بالعلم، أو فيها بعض الدروس المهمة، أو المحاضرات النافعة، التي تعود بالنفع على المسلم، وحتى يتمكن من كان -مثلاً- قد فقد عينيه أو الذي لا يستطيع القراءة أن يستفيد من هذه المكتبة.
ويكون في هذه المكتبة إمكانية الإعارة -بشرط عدم التضرر- حتى تكون الفائدة أكثر وأكثر.
وإمام المسجد يكون هو المشرف على هذه المكتبة، أو يخول من يكون له الكفاءة في ذلك, حتى يدلَّ القارئ على ما ينفعه، ويُعينه على ما يحتاجُهُ، ويعتني بالكتب ويحافظ عليها، ويسهل إعارتها للطلبة حسب الإمكان.
وينبغي أن تكون هذه الكتب مصنفة كل فن على حدة، وتكون نسخها من النوع الجيد حتى يصل القارئ إلى ما يحتاجه بسهولة ويسر.
وهذه المكتبات يفضل أن يكون لها مكان خاص بها، ويكون مهيأً، من ناحية الإضاءة الكافية والتهوية، وغيرها؛ حتى يأخذ القارئ فيها راحته، ولا يكون متضايقاً من جو هذه المكتبة.
والحمد لله رب العالين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________________________________
1 - راجع: (المسجد في الإسلام) لخير الدين وانلي, ص 42.
»(/1)
الممكن والمعهود والمستحيل
أ. د. جعفر شيخ إدريس
الممكن أوسع دائرة من المعهود، وأوسع دائرة مما يمكن تفسيره في حدود معارفنا العلمية الحالية. لكن كثيراً من الناس تضيق أعطانهم عن هذا فيسارعون إلى إنكار ما لم يعهدوا، ويسارعون إلى إنكار ما لا تفسير له في حدود ما عندنا من علم، بل إن بعضهم يظن أن غير المعهود، أو غير ما يمكن تفسيره في حدود العلم المعهود مستحيل عقلاً. ويزداد الأمر عجباً حين ترى أن ضيقي الأفق هؤلاء كثيراً ما يدَّعون العقلانية، أو يدَّعون العلمية.
المعهود هو ما عرفناه وعهدناه واقعاً، كطلوع الشمس من جهة الشرق، وكمقدرة الناس على الكلام بألسنتهم، وكإرواء الماء للظمآن. الممكن هو ما يمكن وقوعه وإن لم يقع. فوصول الناس إلى القمر كان ممكناً قبل أن يقع، وكذلك السفر بالطائرات، والحديث بالهواتف. المستحيل ما لا يمكن أن يحدث بأي حال من الأحوال، كوجود الشيء الواحد نفسه في مكانين مختلفين، وكاجتماع الإيمان والإلحاد في قلب واحد، وكالكلام والصمت.
من الأمثلة التي ذُكرت في القرآن الكريم لهذه المستحيلات قوله ـ تعالى ـ ردًا على الذين زعموا أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً: {وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنجِيلُ إلاَّ مِنْ بَعْدِهِ}
[آل عمران: 65].
وقوله: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101].
أي أنه من المستحيل أن يكون ولد له أب وليس له أم. وأما قوله ـ تعالى ـ: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4].
فليس المقصود به ولداً يلده ـ سبحانه ـ فهذا يتناقض مع الآية السابقة، وإنما المقصود به ولد متبنى بدليل قوله ـ تعالى ـ {مِمَّا يَخْلُقُ}.
إن كون الشيء ممكناً لا يعني كونه لا بد أن يقع؛ لأن الممكن إنما يقع إذا تحققت شروط وقوعه، وإذا لم تتحقق فقد لا يقع أبداً وإن ظل وقوعه ممكناً.
المعهود نوعان: معهود طبيعي، ومعهود ثقافي. المعهود الطبيعي هو الذي يقع بحسب ما وضع الله ـ تعالى ـ في الكون من قوانين. وأما المعهود الثقافي فأعني به ما يعتاده الناس باختيارهم سواء كان حسناً أو سيئاً. وإذا كانت أعطان بعض الناس تضيق فتنكر ما لم تعهد في الطبيعة، فإن بعض الأعطان تكون أضيق من ذلك فتنكر كل ما لم تعهده في ثقافتها وعاداتها وتقاليدها وتعده منكراً.
الناس بالنسبة للمكن غير المعهود نوعان: نوع يستغرب وقوعه لكنه لا يعتقد استحالته، ونوع يعتقد أن وقوعه غير ممكن، أي يعتقد استحالته.
إنه لأمر طبيعي أن يستغرب الإنسان ما لم يُعهد وأن يتعجب منه إذا ذكر له.
لذلك كان من الطبيعي أن يستغرب نبي الله زكريا ـ عليه السلام ـ أن يكون له ولد من امرأة عاقر ورجل قد بلغ من الكبر عتياً مع أن الذي أخبره بذلك هو الله الذي أرسله.
{يَا زَكَرِيَّا إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 7 - 9].
وكان من الطبيعي أن تستغرب مريم ابنة عمران قول المَلَكِ لها: {قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم: 19]، وكان من الطبيعي أن تسأله مستغربة: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20]، وكان من الطبيعي أن يقول قوم مريم لها: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]، مثل هذا الاستغراب أمر لا بد منه، وإلا استوى كون الشيء معهوداً معروفاً وكونه ليس بمعهود ولا معروف، وكان من لوازم ذلك أن يصدِّق الإنسان كل ما يقال له من غرائب. ولذلك فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يذم زكريا ولا ذم مريم على استغرابهما، وإنما بيَّن لهما أن ما استغرباه أمر ممكن وأنه داخل في قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه سيقع فعلاً.
التصديق بمثل غير المعهودات هذه التي يخبر بها الله ـ تعالى ـ أناساً لم يشهدوها هو من علامات حسن العلم به سبحانه، وقوة الإيمان به.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها، التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أُخلَق لهذا، ولكني إنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله! ـ تعجباً وفزعاً ـ: أبقرة تكلم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فإني أومن به وأبو بكر وعمر».(/1)
وقال أبو هريرة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بينما راع في غنمه، عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة، فطلبه حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب فقال له: من لها يوم السبع، يوم ليس لها راع غيري؟»(1) فقال الناس: سبحان الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر».
وفي رواية لهذا الحديث: «وما هما ثَمَّ». يعني لم يكونا موجودين حين ذكرهما الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
الخلط بين الممكن والمعهود والمستحيل هو أساس الحجج التي اعتمد عليها كل الذين أنكروا بعض حقائق الدين التي بلَّغتهم إياها الأنبياء.
كان هو أساس حجج العرب الجاهليين ومن سبقهم ممن كفر برسل الله، ومن جاء بعدهم من الزنادقة المنافقين والملحدين إلى يومنا هذا. انظر إلى الحجج التي اعتمدوا عليها في إنكارهم للبعث: {أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً} [النازعات: 11].
{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 49 - 51].
فهؤلاء قوم ظنوا أنه من المستحيل على عظام أرمت وتفتت أن تدب فيها الحياة من جديد. لكن القرآن الكريم أعطاهم أدلة على أن هذا أمر ممكن، بل هو أمر لازم. كان القرآن الكريم يخاطب أناساً يؤمنون بأن الله ـ تعالى ـ خالق كل شيء، فبين لهم أنه إذا كان ـ سبحانه ـ قد خلقهم أول مرة؛ فلماذا يستغربون أن يعيد خلقهم مرة ثانية، مع أن الإعادة أهون من البداية؟ وبيَّن لهم أن في ما يشاهدون من إحيائه الأرض بعد موتها ما يدلهم على إمكانية البعث ويقربه إليهم، ثم بين لهم أن هذا البعث أمر تستلزمه صفات الله تعالى. كيف يرسل الله ـ تعالى ـ رسلاً فيؤمن بعض الناس بهم ويصلحون وقد يضحون في سبيل ذلك ببعض المكاسب الدنيوية، بينما يكفر آخرون ويعيثون في الأرض فساداً، ثم يساوي بين مصير الفريقين؟
{إنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 34 - 36].
من أمثلة إنكار الناس لما يخالف ما عهدوه من أمور ثقافية قول العرب الجاهليين: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
ومن أمثلته: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}.[الزخرف: 23 - 24]
لا تظنن أن هذا أمر خاص بالعرب الجاهليين، بل هو ضعف بشري عام، وهو الآن من أكبر سمات الحضارة الغربية السائدة في العالم اليوم. فالغربيون في جملتهم يعتقدون أن ما ألفوه من قيم وتقاليد في الأكل والشراب واللباس والتعامل والحكم والاقتصاد وغير ذلك هو الأمر الطبيعي الذي ينبغي أن يكون عليه الناس، بل هو المعيار الذي يقاس به مدى صلاحية ما عند الآخرين.
لقد كان من فوائد الكشوف والمخترعات العلمية الحديثة أنها وسَّعت من تصور الناس لدائرة الممكن لإتيانها كشفاً أو اختراعاً بأشياء ما كان الناس سيصدقون بها لولا قيام الأدلة الحسية أو العقلية على وجودها. من كان سيصدق في شيء كالهاتف الجوال، أو الأقراص التي تحوي من الكلام ما يساوي آلاف الصفحات. وأظن أن كثيراً من الناس كانوا سيعدُّون وجود ما يسمى بالثقوب السوداء أمراً مستحيلاً؛ إذ كيف يوجد شيء حسي مادته أكثر من المادة التي في عدد من الجبال وهو مع ذلك لا يمكن أن يشاهَد بشيء من الحواس الخمس؟
ولكن مع قيام الأدلة العقلية التي جاء بها الشرع، ومع وجود هذه الغرائب التي جاء بها العلم الطبيعي، فإن بعض الناس ما زالوا ينكرون أشياء مثل عذاب القبر، ووجود يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى عليه السلام. بل إنهم ما يزالون يجدون حرجاً في الإيمان بكل ما ليس بمعهود في الحضارة الغربية السائدة، فيُحرَجون من قضية الردة ويحاولون أن يجدوا منها مخرجاً بتحريف النصوص الدالة عليها، ويُحرَجون من كل شيء في تاريخهم السياسي لم يكن سائراً على قواعد الدمقراطية، ويودون أن يساووا بين الناس مسلمهم وكافرهم ما داموا أبناء وطن واحد، وهكذا.
نسألك اللهم عقلاً نيِّراً، وعلماً نافعاً، وفقهاً واسعاً(/2)
الممنوعات في المساجد
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه..
أما بعد:
فإن للمساجد حرمتها ومكانتها؛ فهي بيوت الله تحترم وتقدس وتنزه من الأمور التي لا تليق بها فذلك من عبادة الله تعالى، ومن الأحكام والمسائل التي ينبغي على الدعاة والمرشدين من القائمين على المساجد إرشاد الناس إليها مما يتعلق بالمسجد وآدابه بيان الممنوعات التي لا تصلح لها المساجد, وإرشاد الأمة لذلك ليتجنبوها ويتعاون الجميع بالعمل على إزالتها بالوسائل المناسبة, ومن تلك الممنوعات:
1- يمنع وينزه المسجد عن النجاسات والقاذورات, وفي الحديث عن أنس بن مالك –رضي الله عنه-: (بينما نحن في المسجد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مه مه!!, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزرموه، دعوه). فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاه، فقال: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله -عز وجل- والصلاة وقراءة القرآن). فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه (أي صبه) عليه)1.
2- يستهين بعض الناس بالبصاق, فلا يبالون بأن يبصقوا على الأرض أو على الجدران في أي مكان حتى في المسجد. وإذا كان البصاق على الأرض في الطرقات أذىً وإضراراً للغير، ومجافاة لآداب السلوك -وبخاصة بعد انتشار المناديل الورقية وغيرها- فإن فعله في المسجد أكثر إيذاء، حتى عده الشارع خطيئة، فقد روى الشيخان عن قتادة عن أنس –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها)2، وروى مسلم عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عرضت عليَّ أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالهم الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة
تكون في المسجد لا تدفن)3.
3- تنزيه المسجد عن الروائح الكريهة: سواء أكانت من آثار أطعمة أو من غيرها، وقد ترجم البخاري لذلك بقوله: "باب ما جاء في الثوم النيئ والبصل والكراث"4 .
وروى مسلم من حديث طويل عن عمر –رضي الله عنه- أنه خطب الناس يوم الجمعة، وفيه:
"ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد، فأمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلها فليمتهما طبخاً"5. قال العلماء: "ويلحق بالثوم والبصل والكراث كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها"6. قال القاضي عياض: "ويلحق به من أكل فجلاً وكان يتجشأ"7.
4- من فقد شيئاً فليطلبه خارج المسجد: ولا يرفع صوته في المسجد ليعرف بما ضاع منه ، ويطلب ردها ممن وجدها، فقد جاء النهي عن هذا -فيما رواه مسلم- عن أبى هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا)8.
5- يمنع رفع الصوت في المسجد: استنبط العلماء من النهي عن نشدان الضالة في المسجد، وعن البيع والشراء فيه كراهة رفع الصوت في المسجد؛ لأن رفع الصوت ملازم لما سبق9.
6- يمنع اتخاذ المسجد على قبر: فقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، ولم يشغله مرضه الذي توفي فيه عن أن يحذر الأمة من ذلك، حتى ولو كان القبر قبر نبي، خوفا من المبالغة في عظيمة والافتتان به، وربما أدَّى ذلك إلى الشرك، كما آل الأمر بكثير من الأمم السابقة.
فعن عائشة –رضي الله عنها- قالت : قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي مات فيه:
(لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)10.
7- يمنع شد الرحال لغير المساجد الثلاثة:
ولم يرخص النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا إلى المساجد الثلاثة التي قال عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام, والمسجد الأقصى, ومسجدي هذا)11 -أي المسجد النبوي-.(/1)
لقد نقل الإمام القرطبي –رحمه الله- عن بعض العلماء تلخيصا جيدًا ، مما ينبغي أن يراعي في الآداب والممنوعات في المسجد فقال: "وقد جمع بعض العلماء في ذلك خمس عشرة خصلة ، فقال : "من حرمة المسجد أن يسلم وقت الدخول إن كان القوم جلوساً، وإن لم يكن في المسجد أحد قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يركع ركعتين قبل أن يجلس، وألا يشتري أو يبيع، ولا يسل فيه سهماً ولا سيفاً، ولا يطلب فيه ضالة، ولا يرفع فيه صوتاً بغير ذكر الله -تعالى- ولا يتكلم فيه بأحاديث الدنيا، ولا يتخطى رقاب الناس، ولا ينازع في المكان، ولا يضيق على أحد في الصف، ولا يمر بين يدي مصلٍّ، ولا ييصق ولا يتنخم ولا يتمخط فيه، ولا يفرقع أصابعه، ولا يعبث بشيء من جسده، وأن ينزه عن النجاسات والصبيان والمجانين، وإقامة الحدود، وأن يكثر ذكر الله –تعالى- ولا يغفل عنه, فإذا فعل هذه الخصال فقد أدَّى حق المسجد، وكان حرزاً له وحصناً من الشيطان الرجيم"12.
8- ويمنع الزخارف والنقوش التي لا فائدة منها، بل فيها إضاعة المال والإسراف والتبذير ، وإشغال المصلين عن العبادة. إن المتأمل في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وسلف الأمة أن مساجدهم كانت متواضعة وبسيطة في مبانيها، ولكنها كبيرة في معانيها، حيث خرجت أجيالاً مؤمنة بالله فتحوا القلوب بطاعة الله, وفتحوا البلاد بأخلاقهم، وسماتهم الحسنة، وإيمانهم العميق وسيرتهم السوية الرضية, حتى انتشر الإسلام في بقاع الدنيا طولها وعرضها، وهذا هو ما يرجوه كل مؤمن بالله مخلص لدينه وعقيدته13.
والله أعلم, وصلى الله على محمد وآله وصحبه, والحمد لله أولاً وآخراً.
_______________________
1 رواه البخاري -5566- (ج 18 / ص 448) و مسلم -429- (ج 2 / ص 133) واللفظ له.
2 رواه البخاري – 398- (ج 2 / ص 179)و مسلم – 857-(ج 3 / ص 167).
3 رواه مسلم -859- (ج 3 / ص 169).
4 انظر: صحيح البخاري - (ج 3 / ص 359).
5 انظر: صحيح مسلم -879- (ج 3 / ص 193).
6 انظر: شرح النووي على مسلم - (ج 2 / ص 324).
7 المرجع السابق.
8 رواه مسلم -880- (ج 3 / ص 195).
9 شرح النووي على مسلم - (ج 2 / ص 333), تحفة الأحوذي - (ج 3 / ص 442).
10 رواه البخاري -1244-(ج 5 / ص 99)ومسلم -823- (ج 3 / ص 123)
11 رواه البخاري -1115- (ج 4 / ص 376) ومسلم -2475- (ج 7 / ص 159).
12 انظر: تفسير القرطبي - (ج 12 / ص 278).
13 المشروع والممنوع في المسجد.(/2)
المنابر والمنائر
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على نبينا محمد،وعلى آله وصحبه والتابعين،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ :
فإن بيوت الله في الأرض، هي المساجد، وهي الدور التي تعمر بالعبادة، وعندما تكون مهيأة للمصلين، يجد فيها المصلي الهدوء والسكينة والطمأنينة والراحة، فيؤدي العبادة بكل خشوع وخضوع وتذلل لله تبارك وتعالى، وعليه فلا بد من أن تبنى بيوت الله وفق الضوابط الشرعية، وتُجنب كل محذور أو إثم.
المنبر
"المنبر مرقاة الخاطب سمي منبرا لارتفاعه وعلوه وانتبر الأمير ارتفع فوق المنبر.."1
وهو المكان المرتفع الذي يصعد عليه الخاطب ليراه الناس وهو يحدثهم، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار, أو رجل: يا رسول الله ألا نجعل لك منبراً، قال: (إن شئتم، فجعلوا له منبراً) فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر(2). وكان منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث درجات(3)، يصعد عليها ليراه الناس، وهو يخطب أو يحدثهم عن أمر مهم.
أما في عصرنا فقد استطال المنبر وامتدَّ حتى شغل حيزاً كبيراً من المسجد، فقطع الصفوف، وتفرق المصلون عنه ذات اليمين وذات الشمال، وحال دون رؤية المسلم أخاه المسلم، ودون تحاذي الصفوف وتراصها بالمناكب والأقدام، كما ضيق المكان على المصلين، وأبعدهم عن جدار القبلة(4).
إضافة إلى زخرفتها بالنقوش وكتابة الآيات والأحاديث عليها والتي قد تكون لا أصل لها، أو الإسراف فيها ودفع المبالغ الهائلة في شرائها، وإعدادها، وهذا أمر غير مشروع، بل مخالف لما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وكذا المبالغة في رفعها حتى كأن الخطيب يريد أن يلوح لك تلويحاً لا أن يحدثك حديثاً تسمعه، فهذا مما لاشك في عدم شرعيته ومخالفته لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فينبغي أن يكون المنبر خالياً من هذه الأمور لأن الغرض منه ارتفاع الخطيب ليتمكن الناس من رؤيته، فإذا تحقق هذا الغرض فليس هناك أي حاجة إلى هذه الزيادات التي أحدثت.
المنارة
المنارُ في اللُّغة علم الطَّريق ، قال في الصِّحاح: والْمَنَارَةُ : التي يُؤَذَّنُ عليها ، والمنارَة أَيضًا يُوضَعُ فَوْقَهَا السِّرَاجُ ، وَهِيَ مَفْعَلَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ ، وَالْجَمْعُ الْمَنَاوِرُ بِالْوَاوِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ النُّورِ ، وَمَنْ قَالَ : مَنَائِرُ ، وَهَمَزَ فَقَدْ شَبَّهَ الْأَصْلَ بِالزَّائِدِ انْتَهَى . وَهُوَ شَاذٌّ وَيُقَال لَهَا أَيْضًا : الْمِئْذَنَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ ، ثُمَّ هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ ، قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ وَيَجُوزُ إبْدَالُ الْهَمْزَةِ يَاءً وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ كُرَاعٍ أَنَّهُ يُقَالُ : مَأْذَنَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ... وهي تسمى بعض البلاد الصومة.
وقد أصبحت المنارة اليوم تُنفق عليه الآلاف المؤلفة من النقود في سبيل بنائها، وزخرفتها، والتباهي بها، قال في مواهب الجليل عند كلامه على صفة المنارة على عهد السلف: " وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ الْبُيُوتِ خِلَافًا لِمَا أَحْدَثُوهُ مِنْ تَعْلِيَةِ الْمَنَارِ"
ولم يزل عمل المسلمين مستمرًا من مدد متفاوتة على بناء المنارات للمساجد وغالبها تكون أَطول من البيوت المجاورة لها. إلا أن المبالغة في التعلية والتباهي بذلك من المحدث الذي لم يكن على عهد السلف، ثم قال: "وَذَلِكَ يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ : ( أَحَدُهَا ) : مُخَالَفَةُ السَّلَفِ ( الثَّانِي ) : أَنْ يَكْشِفَ حَرِيمَ الْمُسْلِمِينَ ( الثَّالِثُ ) : أَنَّ صَوْتَهُ يَبْعُدُ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَنِدَاؤُهُ إنَّمَا هُوَ لَهُمْ وَقَدْ بَنَى بَعْضُ مُلُوكِ الْعَرَبِ مَنَارًا زَادَ فِي عُلُوِّهِ فَبَقِيَ الْمُؤَذِّنُ إذَا أَذَّنَ لَا يَسْمَعُ أَحَدٌ مِنْ تَحْتِهِ صَوْتَهُ ، وَهَذَا إذَا تَقَدَّمَ وُجُودُ الْمَنَارِ عَلَى بِنَاءِ الدُّورِ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الدُّورُ مَبْنِيَّةً ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ النَّاسِ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ الْمَنَارَ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ عَلَيْهِمْ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَنَارِ وَالدُّورِ سِكَكٌ وَبُعْدٌ بِحَيْثُ إنَّهُ إذَا طَلَعَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الْمَنَارِ ، وَيَرَى النَّاسَ فِي أَسْطِحَةِ بُيُوتِهِمْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْهُمْ فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا كَانَ الْمَنَارُ أَعْلَى مِنْ الْبُيُوتِ قَلِيلًا أَسْمَعَ النَّاسَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُرْتَفِعًا كَثِيرًا انْتَهَى.(/1)
وإذا كان هذا الكلام على ما كان عليه الحال أنذاك، فإنه اليوم ومع مكبرات الصوت، لو اقتصر في بنائها على قدر الحاجة وبتكلفة يسيرة، وكان الأمر يقتضي بناءها أصلاً، فهذا أمر لا بأس به. لاسيما إذا كان المسجد تحيط به مبان عالية، ولا يمكن سماع الأذان إلا عن طريقها فتبنى بقدر الحاجة، ولا يُبالغ في ارتفاعها، ولا تزخرفتها، لأن ذلك من الإسراف الذي نحن منهيون عنه. وأما إذا سمع الأذان بدونها فالأولى تركها.
قال العلامة محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله-: (فالذي نجزم به أن المنارة المعروفة اليوم ليست من السنة في شيء، غير أن المعنى المقصود منها -وهو التبليغ- أمر مشروع بلا ريب، فإذا كان التبليغ لا يحصل إلا بها، فهي حينئذٍ مشروعة؛ لما تقرر في علم الأصول: أن ما لا يقوم الواجب إلا به؛ فهو واجب، ولكن ترفع بقدر الحاجة.
غير أن من رأيي أن وجود الآلات المكبرة للصوت اليوم يُغني عن اتخاذ المئذنة كأداة للتبليغ، ولاسيما أنها تكلف أموالاً طائلة، فبناؤها والحالة هذه -مع كونه بدعة، ووجود ما يُغني عنه- غير مشروع؛ لما فيه من إسراف وتضييع للمال، ومما يدل دلالة قاطعة على أنها صارت اليوم عديمة الفائدة؛ أن المؤذنين لا يصعدون إليها البتة، مستغنين عنها بمكبرات الصوت)(5).
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - لسان العرب: 5/189
2 - رواه البخاري.
3 - صحيح مسلم.
4 - راجع: المسجد في الإسلام لخير الدين وانلي (صـ 21).
5 - الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة (صـ 18).(/2)
المناسك وصفة الحج
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، وراحم الضعفاء والمساكين، من فرض الحج على عباده المسلمين، وجعله مطية لمغفرة الذنوب والقرب من دار اليقين، والصلاة والسلام على أكرم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أولاً: أنواع الحج:
من وصل إلى الميقات في أشهر الحج وهي: شوال وذي القعدة والعشر الأول من ذي الحجة فإنه مخير بين ثلاثة أنساك:
1. التمتع: وتكون فيه العمرة منفصلة: وهو أن يحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج، فإذا وصل إلى مكة طاف وسعى سعي العمرة ثم حلق أو قصر، ويفرغ منها، فإذا كان اليوم الثامن ( التروية) من ذي الحجة أحرم بالحج وحده، وأتى بجميع أفعاله، وإن أخر إحرامه إلى اليوم التاسع فلا حرج عليه لكنه خلاف السنة، وصفة التلفظ في هذا النسك عند الإحرام أن يقول: (لبيك عمرة) مع النية لهذا النسك، ثم يقول في اليوم الثامن ذي الحجة (لبيك حجاً).
2. الحج وحده: وهو ما يسمى بالإفراد، وهو أن يحرم بالحج وحده في أشهر الحج، فإذا وصل مكة طاف طواف القدوم، ثم سعى سعي الحج - وإن شاء أخر سعي الحج فيسعى بعد طواف الإفاضة - ولا يحلق ولا يقصر ولا يحل من إحرامه، بل يبقى على إحرامه حتى يحل منه بعد رمي جمرة العقبة يوم العيد، وصفه التلفظ في هذا النسك عند الإحرام أن يقول: لبيك حجاً، مع النية لهذا النسك.
3. الجمع بين العمرة والحج: وهو ما سمي ( بالقارن) وهو أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً فيقرن بينهما، أو يحرم بالعمرة أولاً، ثم يدخل الحج عليها قبل أن يشرع في طواف العمرة، وعمل القارن مثل عمل المفرد سواء بسواء، إلا أن القارن عليه هدي (كالمتمتع)، والمفرد لا هدي عليه.وصفة التلفظ في هذا النسك هي أن يقول عند الإحرام: ( لبيك عمرة وحجاً) مع النية لهذا النسك.
وأفضل الأنواع الثلاثة هو (التمتع) فهو الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وحثهم عليه ( إلا إذا كان قد ساق معه الهدي فإن القران في حقه أفضل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر كل من ليس معه هدي أن يقلب إحرامه إلى عمرة، ثم يقصر ويحل) وقال: (افعلوا ما أمرتكم فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله)، ففعلوا (1) وأمر من ساق الهدي وقد لبى بالعمرة أن يحرم بالحج مع العمرة.
قال الناظم:
وأفضل الإنساك فالتمتع لا مفرداً أو قارناً فاستمعوا
وعنه فالقران إذ يساق هدياً وذا قال به إسحاق
والذي يلزمه الهدي من أصحاب الأنساك الثلاثة هو المتمتع والقارن، أما المفرد فلا هدي عليه، وكذلك حاضروا المسجد الحرام الذين هم أهل الحرم ومن كانوا قريبين منه بحيث لا يكون بينهم وبين الحرم مسافة قصر؛ لأن من كان على مسافة دون مسافة القصر فهو كالحاضر، ولذا تسمى صلاته إن سافر من الحرم إلى تلك المسافات صلاة حاضر فلا يقصرها صلاة مسافر حتى يشرع له قصرها.
أما من كانوا بعيدين عن الحرم بمسافة تقصر فيها الصلاة كأهل جدة فإنهم يلزمهم الهدي.
أركان الحج وواجباته وسننه:
لا بد أن نعلم الفرق بين ركن الحج، وواجب الحج، ومسنون الحج:
فركن الحج فإنه الذي لا يقوم الحج إلا به، ولو لم يأت به الحاج فقد بطل حجه.
والواجب: إذا لم يأت به الحاج فإن حجه صحيح وعليه دم.
والمسنون: إذا لم يأت به فحجه صحيح، وليس عليه شيء.
وأركان الحج هي: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي.
وواجبات الحج هي: إحرام من الميقات، ووقوف بعرفة نهاراً للغروب، ومبيت بمزدلفة لبعد نصف الليل، ومبيت بمنى، ورمي الجمرات مرتباً، والحلق أو التقصير، وطواف الوداع.
وسنن الحج: الغسل، والتطيب للإحرام، التلبية عقب الإحرام وبعد كل صلاة، وطواف القدوم عند الجمهور، وركعتا الطواف، والمبيت بمنى ليلة يوم عرفه، وأداء خمس صلوات بمنى يوم التروية وهي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر إتباعاً للسنة، والتحصيب وهو النزول بوادي المحصب بعد النفر من منى إلى مكة(2).
كيفية العمرة والحج:
أولاً العمرة: قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - وهو يذكر كيفية العمرة: "أولاً: إذا أراد أن يحرم بالعمرة اغتسل كما يغتسل للجنابة، وتطيب بأطيب ما يجد في رأسه ولحيته، ولبس إزاراً ورداءً أبيضين، والمرأة تلبس ما شاءت من الثياب بشرط ألا تتبرج بزينة.
ثانياً: ثم يصلي الفريضة إن كان وقت فريضة ليحرم بعدها، فإن لم يكن وقت فريضة صلى ركعتين بنية سنة الوضوء؛ لا بنية سنة الإحرام؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جعل للإحرام سنة.
ثالثاً: ثم إذا فرغ من الصلاة نوى الدخول في العمرة فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) (لبيك اللهم عمرة) يرفع الرجل صوته بذلك، وتخفيه المرأة، ويسن الإكثار من التلبية حتى يبدأ الطواف، فإذا بدأ بالطواف قطعها.(/1)
رابعاً: فإذا وصل إلى مكة بدأ بالطواف من حين قدومه، فيقصد الحجر الأسود فيستلمه - أي يمسه بيده اليمنى - ويقبله إن تيسر بدون مزاحمه، وإلا أشار إليه، ثم ينحرف ويجعل البيت عن يساره، فإذا مر بالركن اليماني وهو آخر ركن يمر به قبل الحجر استلمه بيده اليمنى إن تيسر بدون تقبيل، ويطوف سبعة أشواط يرمل الرَّجل في الثلاثة الأشواط الأولى، ويضطبع في جميع الطواف فقط.
والرمل: هو الإسراع في المشي مع مقاربه الخطا، والاضطباع: أن يجعل وسط الرداء تحت إبطه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، ويذكر الله ويسبحه في طوافه، ويدعو بما أحب في خشوع وحضور قلب، وكلما أتى الحجر الأسود كبَّر، ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: (( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))(201) سورة البقرة، وأما التقيد بدعاء معين لكل شوط فليس له أصل من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل هو بدعة محدثة.
خامساً: فإذا انتهى من الطواف صلى ركعتين وزار مقام إبراهيم ولو بَعُدَ عنه، يقرأ في الركعة الأولى:(قل يا أيها الكافرون ))، وفي الثانية:((قل هو الله أحد))، ويسن تخفيف هاتين الركعتين كما جاءت به السنة من أجل أن يدع المكان لمن هو أحق به منه.
سادساً: أن يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط يبدأ بالصفا ويختم بالمروة، والسنة إذا أقبل على الصفا أن يقرأ قوله تعالى: (( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ))(158) سورة البقرة، ليستحضر أنه إنما يسعى من أجل تعظيم شعائر الله - عز وجل -، ويصعد على الصفا، ويقف مستقبل القبلة رافعاً يديه، ويكبر الله ويحمد ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو بعد ذلك ثم يعيد الذكر، ثم يدعو ثم يعيد الذكر مرة ثالثة، ثم ينزل متجهاً إلى المروة، والسنَّة للرجل أن يسعى بين العلمين الأخضرين سعياً شديداً إن تيسر له، وإن لم يتأذ أو يؤذ أحداً، ثم بعد العلم الثاني يمشي مشياً عادياً، وإذا وصل إلى المروة صعد عليها واستقبل القبلة، ورفع يديه وقال مثل ما قال على الصفا فهذا شوط.
سابعاً: فإذا أتم السعي قصر من شعر رأسه يعمه بالتقصير، وتقصر المرأة منه قدر أنملة، وبذلك تمت العمرة، وحل من إحرامه، فيستمتع بكل ما أحل الله له قبل الإحرام من اللباس والطيب، والنكاح وغير ذلك"(3)؛ إلا أن يكون قارناً فإنه يبقى على إحرامه حتى يتم له التحلل الأول من أعمال الحج والعمرة جميعاً.
وأما المفرد فهو مخير بين أن يقدم سعي الحج مع طواف القدوم، وبين أن يؤخره فيؤديه بعد طواف الإفاضة، لكن لو قدم سعي الحج مع طواف القدوم فإنه إذا انتهى من السعي لا يحلق ولا يقصر بل يبقى على إحرامه إلى أن يرمي جمرة العقبة، فيحل له كل شيء حَرُمَ عليه إلا النساء، فإذا طاف طواف الإفاضة حلَّ له النساء.
يوم التروية اليوم الثامن من ذي الحجة:
أعمال هذا اليوم:
1 - يستحب له أن يغتسل ويتطيب قبل إحرامه.
2 - يسن للمحل - المتمتع - الإحرام بالحج قبل الزوال.
3 - ينوي الإحرام بالحج ويقول: (لبيك حجاً)، وإن كان خائفاً من عائق يمنعه من إكمال حجه اشترط فقال: (وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني) وإن لم يكن خائفاً لم يشترط.
4 - الخروج إلى منى يوم التروية، والمبيت بها ليلة التاسع، وعدم الخروج منها إلا بعد طلوع الشمس وصلاة خمس صلوات بها.
5 - الإكثار من التلبية وصفتها أن يقول: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) إلى أن يرمى جمرة العقبة يوم النحر.
6 - قصر الصلاة الرباعية اثنتين كالظهر والعصر والعشاء.
7 - المحافظة على صلاة الجماعة مع الإمام وألا تفوتك تكبيرة الإحرام.
8 - الحرص على صلاة الوتر سواء آخر الليل وهو أفضل، أو قبل النوم، أو بعد صلاة العشاء.
تنبيهات على بعض المخالفات:
1 - الاضطباع عند لبس الإحرام وهذا غير مشروع إلا حال طواف القدوم أو طواف العمرة.
2 - ومن المخالفات ما يظنه كثير من الحجاج من أن الإحرام هو لبس الإزار والرداء بعد خلع الملابس، والصواب أن هذا استعداد للإحرام لأن الإحرام هو نية الدخول في النسك.
3 - اعتقاد بعض النساء أن للإحرام لوناً خاصاً كالأخضر مثلاً وهذا خطأ، فالمرأة تحرم بثيابها العادية إلا ثياب الزينة، أما الثياب الضيقة والشفافة فلا يجوز لبسها لا في الإحرام ولا في غيره.
4 - صلاة الفرض بالإزار دون الرداء فيصلي الكثيرون وقد كشفوا ظهورهم وعواتقهم وهذا خطأ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:(لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)(4).(/2)
5 - قص شعر اللحية عند الإحرام مع أن القص والحلق ممنوعان بكل حال والعارضان من اللحية.
6 - ومن المخالفات ما يعتقده بعض الحجاج من أن لباس الإحرام الذي لبسه عند الميقات لا يجوز تغييره ولو اتسخ، وهذا جهل منهم، بل يجوز أن يغير ملابس الإحرام بمثلها أو يغسلها.
7 - التلبية الجماعية لأنها لا دليل عليها.
8 - الجمع بين الصلوات ليس من السنة، ولكن السنة القصر فتصلي الظهر، والعصر، والعشاء؛ ركعتين فقط في مواقيتها.
9 - ومن المخالفات صلاة السنن والرواتب ما عدا سنة الفجر لمحافظة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها في السفر، وإن صلى تطوعاً مطلقاً جاز ذلك لعدم المشقة.
10 - عدم الحرص على صلاة ذوات الأسباب من النوافل كالضحى وسنة الوضوء وسنة الإشراق.
11 - عدم الإكثار من قراءة القرآن في هذه المواطن وهي مواطن عبادة.
12 - ترك المبيت بمنى هذا اليوم حيث إن بعض الحجاج ينطلقون إلى عرفات.
يوم عرفة التاسع من ذي الحجة:
أعمال هذا اليوم:
1 - السير إلى عرفة بعد طلوع الشمس.
2 - النزول بنمرة إلى الزوال إن تيسر ذلك، وإلا فلا حرج لأن النزول بها سنة.
3 - صلاة الظهر والعصر جمعاً وقصراً - جمع تقديم - كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليطول وقت الوقوف والدعاء.
4 - يستحب للحاج في هذا الموقف أن يجتهد في ذكر الله - تعالى- ودعائه، والتضرع إليه، ويرفع يديه حال الدعاء، وإن لبى أو قرأ شيئاً من القرآن فحسن، ويكثر من التهليل فإنه خير الدعاء يوم عرفة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل ما قلت أنا والنبيون عشية عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير)(5).
5 - الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس.
6 - الإحسان إلى الحجاج بسقي الماء وتوزيع الطعام.
تنبيهات على بعض المخالفات:
1 - الوقوف خارج حدود عرفة مع أنها محددة بأعلام واضحة، والوقوف بها ركن لا يتم الحج إلا به (وبطن عرفة ليس من عرفة).
2 - انصراف بعض الحجاج من عرفة قبل غروب الشمس وهذا لا يجوز؛ لأنه خلاف السنة، حيث وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى غربت الشمس وغاب قرصها.
3 - التكلف بالذهاب للجبل وصعوده والتمسح به، واعتقاد أن له مزية وفضيلة توجب ذلك وهذا لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
4 - استقبال بعض الحجاج الجبل (جبل الرحمة) ولو كانت القبلة خلف ظهورهم أو عن أيمانهم أو شمائلهم؛ وهذا خلاف السنة؛ لأن السنة استقبال القبلة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
5 - الانشغال يوم عرفة بالضحك والمزاح والكلام الباطل، وترك الذكر والدعاء في ذلك الموقف العظيم.
6 - بعض الحجاج - هداهم الله - يحملون معهم آلات التصوير، وفي كل مشعر يأخذ له صوراً يسميها صوراً تذكارية، وهذا لا يليق بالحاج.
7 - اصطحاب آلات اللهو والانشغال بها في هذا اليوم العظيم.
8 - كثير من الحجاج في آخر العصر ينشغل بالرحيل؛ مع العلم أنه أفضل وقت للدعاء، وهو وقت مباهاة الله بعباده.
ليلة مزدلفة:
أعمال هذه الليلة:
1 - السير من عرفة إلى مزدلفة بعد مغيب الشمس بسكينة وخشوع.
2 - صلاة المغرب والعشاء جمعاً وقصراً بآذان واحد وإقامتين قبل حط الرحل.
3 - المسارعة إلى النوم بعد الصلاة وعدم الانشغال بشيء.
4 - المبيت بمزدلفة وهو واجب ويجوز للضعفاء من الرجال والنساء أن يدفعوا في آخر الليل بعد غياب القمر، وأما من ليس ضعيفاً ولا تابعاً لضعيف فإنه يبقى بمزدلفة حتى يصلى الفجر إقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
5 - صلاة الفجر مبكراً، ثم يقصد المشعر الحرام فيوحد الله ويكبره، ويدعو بما أحب حتى يسفر جداً، وإن لم يتيسر له الذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف)(6).
6 - الانشغال بالدعاء إلى الإسفار جداً مع رفع اليدين.
تنبيهات على بعض المخالفات:
1ـ تسرع كثير من الحجاج إلى صلاة المغرب والعشاء دون تحري جهة القبلة، وكذلك في صلاة الفجر، والواجب في هذا التحري لجهة القبلة أو سؤال من يظن فيه معرفة جهة القبلة.
2 - الاشتغال في مزدلفة بلقط الحصى قبل الصلاة مع أن الحصى يصح أخذه من منى أو غيرها.
3 - عدم التحري في المبيت داخل مزدلفة.
4 - تأخير صلاة المغرب والعشاء إلى ما بعد نصف الليل وهذا لا يجوز، وإن كان يخشى أن لا يصل مزدلفة إلا بعد نصف الليل فإنه يصلي ولو قبل الوصول إلى مزدلفة.
5 - انصراف الكثير من مزدلفة قبل نصف الليل وتركهم المبيت بها مع أنه من واجبات الحج.
6 - ترخص الأقوياء في الخروج إلى منى قبل الصبح مع أن الرخصة إنما هي للضعفاء أما غيرهم فقبيل طلوع الشمس.
7 - إحياء الليل سواء بدرس أو حديث أو غيرها.
8 - عدم الوقوف للدعاء من بعد صلاة الفجر، وعدم رفع اليدين.
9 - تأخير صلاة الفجر إلى قرب طلوع الشمس أو صلاتها بعد طلوع الشمس.
10 - النوم بعد صلاة الفجر.(/3)