أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يوفقنا للإخلاص في القول والعمل، ويرزقنا اتباع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، إنه سميع مجيب.
الهوامش :
1- أخرجه البخاري.
2- البخاري، كتاب الصوم.
3- انظر صحيح الجامع، ح1622.
4- أخرجه البخاري.
5- أخرجه البزار وأحمد بن حنبل، جـ5ص363، وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: جـ1ص429.
6- انظر: فيض القدير جـ4ص211.
7- انظر: سير أعلام النبلاء.
8- انظر: صحيح الجامع، ح2500.
مجلة البيان(/4)
العبادة في رمضان
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون
حديثنا اليوم عن " العبادة في رمضان " ، وقد أظلتنا أيامه ولياليه وقد أقبل علينا بخيراته وبركاته .
وكثير من الناس يتساءلون ما بالنا نختلف في شهر رمضان عما في غير هذا الشهر ، فإذا قلوبنا أسرع خشية لله - سبحانه وتعالى - وأكثر رقة وتأثرا بآيات الله - سبحانه وتعالى - وإذا أعيننا لا تدمع من خشية الله ولا من سماع كلام الله إلى في هذا الشهر العظيم وفي لياليه المباركة ؟
ويسألون : من أين لنا هذه القوة التي تجعلنا نقبل على الطاعات التي لم نتعود عليها ونقبل إليها إقبال المشتاق إليها ، والمحب لها ، والراغب فيها ، والمستأنس بها .. ونصلي ما شاء الله لنا أن نصلي فنصلي صلاة التراويح ونجمع معها في أخر الشهر صلاة التهجد ونكثر من تلاوة القرآن ومن ذكر الله سبحانه وتعالى وتنطلق أيدينا بالإنفاق في سبيل الله وأمور أخرى كثيرة لا يكون الإنسان والعبد المؤمن فيها كما يكون في شهر رمضان ؟
فما هو هذا السر الذي تكون به العبادة على هذا الوجه وذلك قطعاً بالنسبة للإنسان المسلم المؤمن العابد لله سبحانه وتعالى ؟
وهو الذي ينصب حديثنا عنه وهو الذي نلمح مدى استفادته لهذا الشهر العظيم ، وأما الغافلين المعرضين وأما الساهين اللاعبين فلنا معهم حديث نفرق بينهم وبين هؤلاء ، فأي شيء في هذا الشهر العظيم يجعل الإنسان على هذا النحو من القرب من الله - سبحانه وتعالى - والإقبال عليه والإنابة إليه ودوام الصلة به سبحانه وتعالى ؟
لو تأمل الإنسان ؛ فإنه لن يجد أسباباً مادية لهذا الأمر ؛ فإن رمضان أيامه ولياليه مثل سائر أيام العام ولياليه ، وليس بينها وبين غيرها فرق وكذلك الإنسان نفسه هو هو ..لم يتغير هو بعقله وفكره وقلبه وخواطره وقوة بدنه لم يتغير فيه شيء ، بل ربما يكون في شهر رمضان فيه بعض الضعف البدني بسبب الصوم وكثرة العبادة ومع ذلك تكون عنده هذه القوة .
نتحدث عن هذا السبب من وجهين اثنين - وهما مهمان - ينبغي للمسلم أن يتعرف عليهما ، وأن يتفاعل معهما ؛ ليستنبط منهما ما يحيي قلبه ، وما يجعل عبادته لله - سبحانه وتعالى - في هذا الشهر عبادة خالصة كاملة تنفعه وتحي قلبه وتذكّره بما كان عليه من الغفلة ،وكذلك ليستنبط من هذا السر أو من هذا التعليل والتعليل ما يجعله منتفعا به في غير شهر رمضان ، فيكون له من الخير في غير رمضان بعضاً من هذا الخير العظيم الذي يكون له في رمضان .
الأمر الأول : هو فضل الله - سبحانه وتعالى - وحكمته البالغة في خصيصة من خصائصه - جل وعلا - لا يشاركه فيها أحد يظهر ذلك لنا من قول الله سبحانه وتعالى : { وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة } .
هو سبحانه وتعالى له حق الاختيار والاصطفاء والتفضيل ، فيجعل من البشر من هو أفضل من غيره ويجعل من الأمكنة ما هو أفضل من غيره ويجعل من الأزمنة ما هو أفضل من غيره وذلك لحكمة بالغة تبنى على علمه المحيط الشامل سبحانه وتعالى.
وتتضمن أيضا رحمة بالعباد ومنفعة لهم وخيرا يسوقه الله - سبحانه وتعالى - إليهم ونفحات من الإيمان ، ومواسم من الخير يزفها - جل وعلا - بفضله ومنه وجوده وكرمه على عباده حتى يغتنموها ، فيأخذوا من خير الله ويتعرضوا لنفحات الله سبحانه وتعالى.
فالله اختار من البشر رسلاً وأنبياء فضّلهم على سائر البشر بالوحي الذي أنزله عليهم لحمة بالغة ،كما قال الله سبحانه وتعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس } .
وكما قال جل وعلا : { الله يعلم حيث يجعل رسالته } .
فاصطفى من صفوة الخلق ومن خيار البشر أولئك الرسل والأنبياء ، ففضلهم بهذه المنة على سائر الناس وإن كان في ذلك حكمة له - سبحانه وتعالى - بالغة إلا أن فيه أيضاً رحمة وخير للعباد فالرسل والأنبياء جاءوا بما يحي القلوب ، وبما يبين طريق الحق من الباطل ، وما يبين الشر من الخير فكان لهم أثر في الهداية والبيان والتبليغ عن الله سبحانه وتعالى.
وفضّل الله - جل وعلا - بعض الأمكنة على بعض وليس ذلك أحد إلى له - سبحانه وتعالى - فجعل البيت الحرام ، وجعل المسجد النبوي الشريف ، وجعل بيت المقدس أيضاً أماكن لها من المزية ما ليس لغيرها ، مع أنها من الناحية المادية ليس بينها وبين غيرها فرق فأرضها أرض وسماءها سماء وحجارتها مثل سائر الحجارة وكذا جبالها وسهولها ووديانها ولا شيء يميزها عن غيرها إلى أن الله - سبحانه وتعالى -خصها بالتفضيل وجعل لها مزية في الأجر والثواب وأحكاما في الحرمة والتعظيم ليس لغيرها وكان من أثر ذلك فضل ومنة على أهلها كما قال الله - سبحانه وتعالى - في دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام :(/1)
{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } .
فإذا القلوب من أقاصي الأرض شرقها وغربها ، شمالها وجنوبها ، تهفوا إلى تلك الأماكن المقدسة تقطع الفيافي القاحلة والمسافات الشاسعة وتركب الصعب والذلول وتنفق الأموال وتجهد الأبدان وما من شيء إلى أنها قد تنتقل من جنان خضراء إلى أرض صحراوية قاحلة ومن أراض غناء إلى أراض جرداء وما يحدوها إلى ذلك الشوق وتلك المحبة وذلك الفضل الذي جعله الله سبحانه وتعالى للديار المقدسة .
وكما فضل الله جل وعلا من البشر ومن الأمكنة فضل في الأزمنة فجعل هذا الشهر العظيم مفضلاً على سائر شهور العام وخصه بإنزال القرآن الكريم فيه وفضل ليلة القدر من بين لياليه وجعل الأمور والأعمال فيه مضاعفة الأجر كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله صلى الله عليه وسلم : ( عمرة في رمضان كحجة معي ) .
وذلك من تفضيل هذه الأيام المباركة ومن تعظيمها وما يقع الإنسان فيها من خير وتيسير في العبادة والطاعة .
ومن رحمته سبحانه وتعالى ومن مغفرته ومن عتقه جل وعلا من النار كما أخبر عن هذا الصيام وعن هذا الشهر رسولنا صلى الله عليه وسلم كما ورد في وسند الإمام أحمد عنه عليه الصلاة والسلام :
(الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه . قال : فيُشفّعان) .
وهذا من الفضل والأجر والمنة ويخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن : ( رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر ) .
ويخبرنا صلى الله عليه وسلم أن شهر رمضان شهر الرحمة والغفران .
كما أخبر في الصحيح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقد من ذنبه ) .
أفليس هذا موسم خير ؟ أوليست هذه فضيلة ؟ من كان له عقل ومن كان له قلب حي ومن كان له قصد في التوجه إلى الله ، ومن كان له تعلق بأن تكون أخرته عند الله خير من دنياه ؛ فإنه يقبل على هذه العبادة ؛ لأنها موسم محدود وأيام معدودة.
فالذي يفكر كما يفكر أهل التجارة وأهل الدنيا إذا جاء موسمهم وإذا جاءت الأوقات التي يعلمون أن الناس يقبلون فيها على الشراء ويدفعون فيها الأموال ، بل إنهم يجمعون أموالهم ويهيئون أوقاتهم في مواسم معينة ، أو يتكاثرون في أماكن معينة قي أوقات معينة ، فماذا يصنع أهل الدنيا من التجار إنهم يفرغون وقتهم ويبذلون جهدهم ويواصلون ليلهم بنهارهم ويعملون كل الأساليب التي تجذب الناس إليهم ؛ فإن قلت لهم : لماذا لا ترتاحون قليلاً وعندكم أيام متوالية وعندكم شهور متتالية ؛ فإنهم يقولون إن هذا موسم ومن الجهل والحمق أن تفرط في هذا الموسم الذي فيه الأجر والذي فيه الربح الكثير ، ثم بعد ذلك تجتهد في أيام لا يأتيك فيها أحد وليست بموسم وليست بوقت إقبال.
فهذا موسم الخير جعله الله - سبحانه وتعالى - من فيض رحمته وجوده وعلمه بضعف العباد وأنهم لا يقوون على الطاعة الكاملة في كل وقت وفي كل حان فجعل لهم في أيام دهرهم نفحات تهب عليهم نسمات الإيمان وتتنزل عليهم بركات وخير الرحمن سبحانه وتعالى فتتهيج قلوبهم وتنبعث نفوسهم للطاعة والعبادة وهذا هو السر الذي يقبل لأجله الناس على الطاعات لأن الخير في هذا الشهر كثير ولأنه موسم محدود بأيام وليالي معدودة فمن فاته يوشك أن يكون محروماً مطروداً .
وليس ذلك وحسب بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم -ربط فضيلة هذا الشهر وربط لنا أجره بأمر عظيم وهو ما ذكره المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي عن رب العزة والجلال تبارك اسمه حينما قال : ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) .
فالله - سبحانه وتعالى - يطلع على صومك ويرى إخلاصك ومراقبتك له سبحانه وتعالى فيجعل جزاء الصوم منه مباشرة وكل الأعمال جزاءها من الله ولكن هذا التخصيص لمزيد من الفضل ولمزيد من بيان سر هذا الصوم وهذه العبادة ؛ لأن فيها كمال الإخلاص لله - سبحانه وتعالى - فماذا يقول في هذا الحديث ؟
( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) .
أي من أجل الله سبحانه وتعالى ومن أجل طاعة الله - سبحانه وتعالى - ومن أجل مخافة الله - سبحانه وتعالى - لا ترقبه أعين الرقباء ولا ينظر إليه أحد من الناس وإنما قلبه يستشعر رقابة الله - جل وعلا - فيكون الأجر والجزاء كفاءا : ( للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ) .
( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) .. ( في الجنة باب يقال له الريان لا يدخله إلا الصائمون ، فإذا كان يوم القيامة ينادي مناد فيقول أين الصائمون فيقومون فيدخلون منه فإذا دخلوا أغلق فلا يدخل منه أحد غيرهم ) .(/2)
هكذا أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه الفضائل ، وذكر لنا أن الشياطين تسلسل في شهر رمضان ، فكل هذا التخصيص الذي خصه الله سبحانه وتعالى وهذه الفضائل التي بلغها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلمهي السر الذي تجعل النفوس مهيأة للعبادة والطاعة .
السبب الثاني - وهو أيضاً مهم جداً – وهو : أن الإنسان المؤمن من المفروض يكون معلق القلب بالله صحيح القصد والتوجه نحو الله - سبحانه وتعالى - يجعل كل شأن من شئون حياته .. كل لفظة من كلماته ..كل حركة أو سكنة من سكناته عبادة لله سبحانه وتعالى .. {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } .
هذا هو الأمر المطلوب ، وهذا هو الشأن في العبد المؤمن الذي يكمل إيمانه والذي يعظم إخلاصه والذي يصدق توجهه لله - سبحانه وتعالى - ولكن ما الذي يحصل هذا القلب يتشتت في مهاوي وفي شهوات الدنيا وفي مشاغلها .
وهذا التشتت أخبر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ببعض الصوارف التي تصرف القلب عن الله - سبحانه وتعالى - وبين علاجها من شرع الله جل وعلا ونرى هذا العلاج متجسداً في شهر الصوم وفي شهر رمضان المبارك ، ما الذي يصرف القلب عن التعلّق والإخلاص لله سبحانه وتعالى ؟
فضول المنام : أي كثرته الزائدة عن الحد .
وفضول الكلام : أي كثرة الكلام فيما لا يرضي الله - سبحانه وتعالى - من غيبة أو نميمة أو كثرة الكلام باللغو الباطل من غير تلاوة ولا ذكر ولا علم ولا تعلم .
وكذلك فضول مخالطة الأنام : وكثرة الاختلاط بالناس والانشغال بهم والانشغال معهم والتعلق بهم والتفكير فيهم فينشغل القلب عن الله سبحانه وتعالى .
وكذلك كثرة الطعام والشراب : الذي تمتلأ به البطون وإذا امتلأت البطون كما يقولون : إذا امتلأت البطون ضعفت الأذهان .
وبذلك إذا أكل الإنسان كثيراً نام كثيراً وإذا نام كثيراً فاته خير كثير كما قال أسلافنا رحمة الله عليهم .
والله سبحانه وتعالى - كما يذكر شيخ الإسلام - قد شرع من الأمور ما يضاد هذه الشواغل وما يرد المؤمن إلى كمال تعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى .
فماذا شرع لفضول الكلام ؟ شرع لفضول الكلام وكثرته التعظيم للسكوت والتفضيل للسكوت إلا عن الخير كما أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) .
وكذلك شرع له كثرة الذكر كما قال صلى الله عليه وسلم في وصيته العظيمة : ( لا يزال لسانك رطباً بذكر الله ).
وكما قال سبحانه وتعالى : { ورتل القرآن ترتيلاً } .
فإذاً هذا هو علاج كثرة الكلام الصمت إلا عن الخير والكلام والنطق بذكر الله - سبحانه وتعالى - هذا هو الأمر الذي شرعه الله لعلاج هذه الصوارف التي تصرف القلب عن الله .
والأمر الثاني في كثرة المنام : شرع الله - سبحانه وتعالى - صلاة القيام والتهجد والطاعة لله - سبحانه وتعالى - لترد المؤمن عن كثرة نومه وغفلته حتى أن كثيراً من الناس - نسأل الله السلامة - ينامون عن صلاة الفجر ويتحقق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه ) .
ويتحقق قول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح : ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد ... ) .
أي نم ؛فإن الليل طويل لا تذكر الله ولا تسبح الله ولا تقوم لتصلي لله ولا تستيقظ لصلاة الفجر فشرع لأجل معالجة فضول المنام القيام وصلاة القيام .
وشرع لأجل فضول مخالطة الأنام سنة الاعتكاف ، التي هي في هذا الشهر العظيم وفي غيره أيضاً فالمعتكف يخلو عن الناس وينفرد في معتكفه وفي مسجده طائعاً لله - سبحانه وتعالى - لا يشغل وقته إلا بالذكر والتلاوة وبالصلاة والعبادة وبالدعاء والمناجاة ، ولا يتكلم في شأن من شئون الدنيا ، بل لا يخرج إليها ليشهدها ولا ينظر ما فيها وفي بهرجها ولا يختلط بالناس فيها.
حتى إن الفقهاء يقولون : إن المعتكف إذا اشترط الاعتكاف الكامل فإنه لا يخرج إلى دفن الجنائز بل يصلي عليها ولا يخرج معها إلى المقابر وذلك ليتم للعبد العكوف الكامل والإقامة الدائمة على طاعة الله ولذا يقول العلماء في الاعتكاف : " إنه عكوف القلب على الله سبحانه وتعالى " .
فما أعظم هذه السنة ! التي يلمح الإنسان فيها كم يفيض الله عليه من الخير وكم يكون قلبه صافياً خالصاً ونفسه مطمئنة ساكنة وقوته عظيمة كبيرة في طاعة الله ؛ لأنه تفرغ عن هذه المشاغل .
وشرع لفضول الشراب والطعام : الذي أخبر عليه الصلاة والسلام أنه علاج ووجا للشهوة .
كما قال عليه الصلاة والسلام : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) .
قال أهل العلم : " وجاء - أي علاج أو وجاء - بمعنى القطع وجئ يعني قطع فهو قاطع للشهوة مقلل لها " .(/3)
فالصائم حينما يصوم يضيق مجرى الشيطان كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الشيطان يجري من ابن أدم مجرى الدم في العروق فضيقوا مجراه بالصوم .
فهذه إذاً تحققت بهذه العلاجات الربانية حينما تتحقق يكون الإنسان مهيئاً للعبادة أكثر ويكونه إقباله عليها أعظم .
ولو تأملنا لوجدنا هذه الأمور كلها كلها في هذا الشهر . ففيه الصيام امتناع عن الشراب والطعام ، وفيه القيام إحياء لليل بالعبادة والتلاوة والصلاة ، وفيه الاعتكاف اختلاء بالله وبعد عن الناس .
وفيه أيضا كثرة الذكر والتحذير من أن ينشغل اللسان بشيء مما فيه مذمة هو مذموم في كل وقت ، ولكن ذمه في رمضان أكثر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( فإن سابه أحد أو شتمه فليقل إني صائم ).
هذه التربية الإيمانية كلها في شهر رمضان وبالتالي من البديهي أن يكون الإنسان الذي امتنع عن الطعام والشراب والذي لهج لسانه بذكر الله . وامتنع عن الغيبة والنميمة والزور وغير ذلك من لغو الكلام وباطلة .
وامتنع عن كثرة مخالطة الناس فأغلب وقته منشغل بالعبادة والطاعة لله سبحانه وتعالى ، وامتنع عن كثرة النوم فإذا به يحي ليله ونهاره بالعبادة أليس ذلك له أثر في القلب والنفس .
فإذا الإقبال يكون عظيماً ومن هنا أي من هذا الاختيار الذي اختاره الله تفضيلاً لهذا الشهر والفضيلة الذي ساقها فيه.
ثم من الظروف الأخرى التي تهيئ النفس والقلب لأن تكون قريبة من الله سبحانه وتعالى من هنا تعظم العبادة ومن هنا تعظم قوة الروح فإذا هذا الإنسان الذي لو طلب منه قبل شهر رمضان بليلة واحدة أن يصلي ركعتين ربما تقاعس أو تكاسل ولو صلى لإمام فيما قبل رمضان أو فيما بعد رمضان يريد الناس أن يصلوا ورائه لم يصل معه أحد وما ذلك إلا لأن النفوس بهذه الفرائض وبهذه السنن تتهيأ للإقبال على طاعة الله فالسعيد من فطن للأمرين ومن أتى بهم على وجههما فتكمل حينئذ عبادته ويصح إقباله على الله ويرى من خيرات العبادة ولذتها وراحتها ما يجعله مستأنسا بها راجيا في ثواب الله سبحانه وتعالى .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
وإن هذا الذي أشرت إليه هو الذي يحصل عند الإنسان المسلم الذي يعرف أمر الله - جل وعلا - ويعرف رحمة الله وخيره الذي يسوقه إليه عندما يعرف هذه الفضيلة ويمتثل تلك السنن التي أشرنا إليها يحصل له الأمر المهم الذي به يرى ما يرى من الخير والبركة وذلك الأمر هو أن يشعر بأنه أتى بالعبادة على كمالها بتمام خشوعها وبكمال إخلاصها وبعظمة استشعار واستحضار مقامه بين يدي الله سبحانه وتعالى ومن هنا إذا أتى بها على هذا النحو وجد لذتها وذاق حلاوتها.
مشكلتنا في عبادتنا - إلا من رحم الله - أننا لا نأتي بها على وجهها الكامل .. قلوبنا منشغلة ضاربة في أودية الدنيا .. عقولنا تفكّر هنا وهنا فلا نقبل على الله ، وبالتالي لا نجد لذة العبادة ولا نجد روحانيتها ولا نجد راحتها وسكينتها وإذا لم نجد ذلك فإن العبادة تكون علينا شاقة فالذي لا ينفل بهذا ويتأثر به تكون العبادة وكأنها حمل ثقيل ينوء به كاهله .
وبعض الناس اللذين لا يعرفون هذا الخير يرون رمضان كأنه عقوبة إجبارية وكأنه محنة ومشقة فريضة عليهم فينتظرون مغرب كل يوم بفارق الصبر ليبطلوا كل هذه الآثار الكريمة فيملئون بطونهم بالطعام والشراب إلى حد التخمة وإذا جاء النهار قتلوه نوماً وكسلاً وأفنوا بذلك سنة القيام.
وكذلك يجتمعون في مجالس يغتابون فيها أو يتحدثون فيها بشئون الدنيا أو ينصرفون أو كذا ، وكذلك يكثرون بالاختلاط بالدنيا وأسباب الدنيا في بعض أحوالهم أكثر من غيرها ، فإذا بهم يتفننون بالشراء من الأسواق وإذا بهم يفرغون كثيراً من الأوقات للذهاب هنا وهناك وللانتقال بين الأسواق ولا يحلوا لهم أن يشتروا أشياءهم إلا في هذا الشهر ، ولا يحلوا لهم أن يقضوا بعض أمورهم إلا في هذا الشهر ، فحينئذ أمثال هؤلاء لا ينتفعون بالشهر ولا يجدون لذته ولا يجدون أثر العبادة فيكون الأمر عليهم شاقاً ، فإذا صلى الإمام في التراويح فقرأ بضع آيات شعروا بأنه قد أثقل عليهم وطلبوا منه التخفيف وما عرفوا ما كان من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وليس كذلك له - عليه الصلاة والسلام - بل في أصحابه وليس في أصحابه بل فيمن جاء بعدهم تلك الأمثلة التي حينما نسردها يظنها بعض الناس خيالاً وما هي بخيال ، ويظنونها محالاً وما هي بمحال .(/4)
ولكن الذي يجد لذة العبادة ويجد راحتها لا تشق عليه مهما طالت ومهما كانت متعبة مرهقة ؛ لأن قلبه مطمئن بها ولأن نفسه مقبلة عليها ولأن صدره منشرح لها ولأنه يقبل إليها إقبال المحب إلى حبيبه وإقبال العطشان الذي بلغ به الظمأ إقباله على الماء فهل تراه يستصعب المسافة أو يستثقل الجهد إنه يقبل لأنه يروي ظمأه لأنه يبلل عروقه لأنه يقوي نفسه لأنه يجد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) .
أي كمال الطمأنينة والسكينة والراحة والأنس إنما هو في العبادة إذا أتى بها على وجهها ، ويقول عليه الصلاة والسلام : ( أرحنا بها يا بلال ) .
فكانت راحته التي يأنس إليها وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وحقق قول الله سبحانه وتعالى : { يأيها الذين أمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } .
من هنا فقط إذا أتينا أو إذا عرفنا هذه الأسرار وتفاعلنا بها وجدنا اللذة وإذا وجدنا اللذة كان الإقبال وكان قوة الاحتمال وهذا الذي يفسر لنا ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أخبرنا ابن مسعود أنه صلّى خلف النبي - عليه الصلاة والسلام - فافتتح البقرة قال : فقلت يركع عند المائة ، فتجاوزها ، فقلت : يركع عند المائتين ، فتجاوزها ، فقلت : يركع عند أخر السورة ، فتجاوزها حتى قرأ النساء ، قلت : يركع عند أخرها فتجاوزها حتى قرأ آل عمران ، قال ابن مسعود : حتى هممت بأمر سوء . قيل ما هممت يا ابن مسعود : قال هممت أن أقعد وأدعه ؛ لأنه لم يستطع أن يواكب النبي عليه الصلاة والسلام .
فهل للنبي قوة من ناحية المادية أقوى من ابن مسعود ..كان ابن مسعود أشب منه وأصغر سناً ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان أكمل في عبادته وخشيته وتعلق قلبه بالله فوجد لذته في العبادة ، فمهما طالت ومهما شقت ؛ فإنها عندما تلاقي القلب المطمئن والنفس الراضية لا يحصل من ذلك ولم يكن ذلك له عليه الصلاة والسلام كما أشرت بل لأصحابه كما ورد في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه مرة فقال له : ( يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم فلا تفطر وتصلي فلا تنام وتقرأ القرآن في كل ليلة ؟ ) ، هذا الذي بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عبد الله بن عمرو بن العاص - وهو شاب صغير - أيضاً أنه كان يصوم فلا يفطر يعني يصوم الأيام كلها يوما إثر يوم ، وأنه يصلي فلا ينام أي يقوم الليل كله حتى الفجر ، وأنه يقرأ القرآن في كل ليله .
فقال : بلى يا رسول الله هذا أمر كائن .
آخر الحديث النبي - عليه الصلاة والسلام - برحمته ومنهجه وشرعه الذي بلغه عن الله رده عن الاعتدال قال : ( صم يوم وأفطر يوم ، ونم نصف الليل ثم قم ثلثه ثم نم سدسه ) ، ورده إلى أن يختم القرآن في خمس أو في سبع .
لكن الشاهد هو كيف كانت قوة عبد الله حتى كان يطيق هذا ما كانت عنده قوة إلى أنه أقبل إقبالاً خالصاً وأخلص إخلاصاً كاملاً فحينئذ حصلت له لذة العبادة فهانت عليه مشقتها .
وكذلك كان كثير من الصحابة رضوان الله عليهم حتى ذكر في وصفهم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة جاءت الطير فوقعت على رؤسهم .
لأنهم كانوا من طول وقوفهم ومن قلة حركتهم وكثرة سكونهم كأنهم بأمثال الأشجار أو الأعمدة تأتي الطير فتقف عليها لا تراها متحركة ، وهذا من عظمة إقبالهم على الله - سبحانه وتعالى - وشيخ الإسلام الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه ذكر في ترجمته : " أنه بعد أن أسن وبلغ الثمانين عاماً وجلد في فتنة خلق القرآن ، ضعف جسمه بسبب السن وبسبب التعذيب ، فصار يصلي في كل يوم وفي كل ليله مائة وخمسين ركعة ، وقد كان ورده وصلاته من قبل ذلك ثلاثمائة ركعة ".
فهذا في الثمانين وقد عذب وجلد ثم هو يصلي مائة وخمسين ركعة . هل كانت عنده قوة بدنية ؟
كلا ! ولكنها قوة الروح حينما تخلص لله سبحانه وتعالى وتصدق في توجهها.
فإذا اغتنمنا هذا الشهر وانتفعنا به وبالفعل جعلنا الصوم مقللاً للطعام والشراب . وجعلنا القيام مقللاً للنوم والكسل . وجعلنا الاعتكاف مخلصاً للإنسان في وقت من الزمن يخلوا به مع ربه سبحانه وتعالى . وجعلنا الذكر والقرآن مخلصاً من كثرة كلام واللغو سيحصل لنا نوع من صدق التوجه إلى الله وكمال الإخلاص.
نسأل الله - سبحانه وتعالى - من فضله وحينئذ نشعر بلذة العبادة فتخشع قلوبنا وتذرف عيوننا وتسجد جباهنا وتطمئن قلوبنا ، ونبقى نحب هذه العبادة ونقبل عليها ونزداد منها ولا نستطيل فيها وفي أدائها وقتا ولا نستثقل فيها وفي أدائها جهدا بل تكون علينا بردا وسلاما ومحبة وشوقا لله سبحانه وتعالى .
أما حينما يغفل الإنسان عن هذا ويفرط في هذا الجانب ؛ فإنه لا يحظى في هذا الشهر بكثير من الخيرات . نعم يحظى بالخير -إن شاء الله - وبالأجر - إن شاء الله - لكنه يكون قاصراً عن هذه المرتبة التي شرع فيها في هذا الشهر من السنن ما يهيئ الإنسان لهذه المنزلة العظيمة .(/5)
فالذين يضربون في الأسواق والذين ينشغلون بالكلام والقيل والقال والذين يقتلون رمضان كسلاً ونوماً ، والذين يفرطون في هذه الأمور إنما هم كمثل إنسان قدمت إليه أطباق من الذهب والفضة فركلها بقدميه أو انصرف عنها وأشاح عنها بوجه فلا يقال عنه إلا أنه أحمق وإلا أنه مجنون وإلا أنه مفرط في حق نفسه وسيندم في وقت قد لا ينفع فيه الندم.
فالبدار البدار إلى طاعة الله ، والسباق السباق إلى الإقبال على الله ، والحرص الحرص على الإخلاص لله سبحانه وتعالى ، والاهتمام الاهتمام بألا يضيع هذا الموسم وننشغل فيه بما قد نستطيع قضائه في غيره .
فالله الله في أن نغتنم الأوقات وأن نستفرغ الجهد ونفرغ الطاقات في طاعة الله جل وعلا.(/6)
العبادة ومفهومها وأهدافها
(1-4)
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، خلق الخلق ليعبدوه، ويسر لهم سبل الهدف الأكبر من خلقهم، فجعل لهم الليل سكناً والنهار معاشاً والأرض فراشاً، وقال لهم بعد كل تلك النعم:{اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُه{ وأشهد أن محمداً رسول الله، خير من صلّى وسجد، وصام وعبد، ووضح العبادة كما هي، وأفردها لله عن الشريك والنديد- صلى الله عليه وسلم- تسليماً كثيراً، أما بعد:-
فمن نظر في آيات الله الكونية وما خلق الله –تعالى- مما يراه بأم عينيه، وجد أن ذلك الخلق كائن من قوة عظيمة فاعلة، لها القوة المطلقة، والقدرة الكبيرة على التصرف في هذا الكون، وهو الله جل في علاه.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ}
ولما كان الله –تعالى- هو صاحب القدرة المطلقة، التي لا يقف دونها شيء اقتضى العقل الصحيح باتفاق مع النقل الصحيح الصريح أن يكون هو المعبود المطاع؛ لأنه أعلم بخلجات قلوب الكائنات في هذا الكون الفسيح...
وعبادة الله هي الغرض من خلق الجن والإنس في هذا الكوكب الصغير.. فكان لا بد من بيان العبادة، وما مفهومها؟ وكيف أصبح الناس تجاهها بين سابق إلى الخيرات، ومقتصد، وظالم لنفسه.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
وقبل أن نشرع في بيان أنواع العبادات لا بد أن نفهم: ما هي العبادة؟ هل هي ما يظنه كثير من الناس اليوم من صلاة وصيام وزكاة وحج، أم أن لها مدلولات إضافية أخرى.. وهل هي محصورة في ما سبق، أم أنها تشمل كافة مناحي الحياة؟! كل ذلك ما سنعرفه في السطور القادمة..
تعريف العبادة: لغة: الخضوع والذل والانكسار، يقال: طريق معبَّد، أي مذلّل للمارين عليه، ومنه سمي الأسير من الكفار عبد؛ لأنه ذليل، قال ابن منظور:( والعبادة: الطاعة، وقوله تعالى:{وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أي دائنون، وكل من دان لملك فهو عابد له، قال ابن الأنباري: فلان عابد وهو الخاضع لربه المستسلم المنقاد لأمره، وقوله -عز وجل-:{اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} أي أطيعوا أمره، والمتعبد: المنفرد بالعبادة).[1]
قال الزبيدي: ( والعبادة الطاعة، وقال بعض أئمة الاشتقاق: أصل العبودية الذل والخضوع، وقال آخرون: الرضا بما يفعل الرب، والعبادة فعل ما يرضى به الرب).[2]
يقول ابن فارس- وهو من أقدم من ألف في المعاجم العربية، وهو قبل ابن منظور والزبيدي-:
(عبد: العين والباء والدال أصلان صحيحان، كأنهما متضادان، والأول من ذينك الأصليين يدل على لين وذُلّ، والآخر على شدة وغِلط، قال الخليل: وأما عبد يعبد عبادة فلا يقال إلا لمن يعبد الله تعالى، يقال منه: عبد يعبد عبادة، وتعبَّد يتعبَّد تعبداً، فالمتعبِّد: المتفرد بالعبادة، واستعبدتُ فلاناً: اتخذته عبداً.. ثم قال ابن فارس رحمه الله: ومن الباب البعير المعبَّد أي المهنوء – المطلي- بالقطِران، وهذا أيضاً يدل على ما قلناه؛ لأن ذلك يُذله ويخفض منه، قال طرفة بن العبد:
إلى أن تحامَتْني العشيرة كلها وأُفرِدتُ إفراد البعير المعبَّد
والمعبَّد؛ الذلول، يوصف به البعير أيضاً، ومن الباب: الطريق المعبَّد، وهو المسلوك المذَلّل...)[3]، ثم ذكر الأصل الآخر الذي يدل على الصلابة والقوة.
من خلال ما سبق يتبين لنا المعنى اللغوي لكلمة (عبادة) وعبودية، وهي مشتقة من أصولها الثلاثة (عبد) التي تدل على الذل واللين والخضوع، وهذا المعنى هو المستعمل في عامة المفردات.
العبادة شرعاً: لا نطيل في ذكر المعاني الشرعية للعبادة؛ لأن الشيء يعرف من أصله، فإذا عرفنا أصل معنى العبادة أنه الخضوع والذل... فمعناها في الشرع: الخضوع والذل الكامل لله –تعالى- في كافة شؤون الحياة، وبجميع الآلات: القصد، والكلام، والفعل، حباً وخضوعاً ورجاءً وخوفاً من الله تعالى..
ومن هذا المعنى نأخذ أنه لا يجوز أن نخضع خضوع الذلة والمسكنة والعظمة إلا لله عز وجل..
وقد عرف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- العبادة تعريفاً جامعاً مانعاً يدل على فقه الرجل ومعرفته بعامة العلوم الشرعية، يقول:(/1)
العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة وأمثال ذلك من العبادة).[4] وعدد أنواعاً أخرى من العبادة..
وبهذا التعريف يتضح لنا أن الحياة كلها لله، مصداقاً لقوله –تعالى- عن إبراهيم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (79) سورة الأنعام، وقوله في آخر السورة: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (162-163) سورة الأنعام.
ومن عظمة هذا التوجه الشامل لنبينا إبراهيم -عليه السلام- كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يجمع بين هذه الآيات في دعاء الاستفتاح؛ حيث ورد في الحديث: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين). رواه مسلم وأحمد.
وفي رواية: (وأنا أول المسلمين) كما في الآية.
والمقصود أن العبادة شاملة لجميع حياة الإنسان، وذلك يظهر من قوله-تعالى-:{وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فجعل البداية (محياي) والنهاية (مماتي) وما بينهما كله لله رب العالمين.. وسيأتي بيان ذلك واضحاً جلياً – إن شاء الله- في فصل مفهوم العبادة الشامل...
وشيخ الإسلام قد قال: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.. فالأقوال هي عبادات اللسان كالذكر والدعاء.. والأعمال الظاهرة كالصلاة والصيام والحج وغيرها.. والأعمال الباطنة هي أعمال القلب كالحب والخوف والرجاء وغيرها.. فجمع التعريف كل ما تقوم به العبادة من: القلب واللسان والجوارح...
حاجة الناس إلى العبادة:
حاجة الناس إلى العبادة متعلقة بأن العبد مفطور على حب الله وعبادته واللجوء إليه، ولهذا قال-صلى الله عليه وسلم-: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) متفق عليه، فالأصل أن الناس مفطورون على حب الله وعبادته {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (30) سورة الروم.(/2)
وكذا يتضح لنا حاجة الناس إليها من خلال تكوين العبد الخلقي، فهو مكون من جسد وروح، فالجسد يحتاج إلى التغذية المستمرة، وغذاؤه الأكل والشرب ، والروح لا بدَّ له من غذاء، وغذاء الروح هو الغذاء الإلهي التعبدي، ولهذا لما كان الجسد من الطين الدال على السفل والدنو والثقل، كان غذاؤه من الأسفل ومن الطين، ولما كانت الروح من أمر الله ومن روحه كان الغذاء لا بد أن يأتي من علو من عند الله –تعالى-، فإذا اجتمع الأمران وامتزجا في بدن العبد حصلت الصحة والاعتدال والراحة في الإنسان، وإذا اختل الغذاء الروحي الإيماني تكدرت الحياة، وأصبحت جحيماً لا يطاق!! وإذا ارتفع الغذاء الروحي وبلغ ذروته فإن قلة أو ضعف الغذاء الجسدي يعوضه ذلك الغذاء الروحي.. ومن هذا يتضح لنا السبب في كون النبي -صلى الله عليه وسلم- يمسك عن الأكل ويواصل صيامه يومان فأكثر، ولما سأله الصحابة عن ذلك قال: ( وأيكم مثلي! إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)رواه مسلم, ولهذا كان كثير من العارفين بالله يصومون جل أيام عمرهم، ولا يأكلون إلا قليلاً، ومع هذا يجدون من لذة الذكر والقرآن لذة لا تقارنها لذة أصلاً!! فقلة الغذاء الجسدي ناب عنه الغذاء الروحي الإلهي، لكن المشكلة عندما يضعف أو يعدم الغذاء الروحي الإلهي فإن الحياة تتكدر على العبد، بقدر ما نقص من ذلك الغذاء العظيم. فعلى قدر قوة ذلك الغذاء الإلهي في قلب العبد وجسمه توجد السعادة والحياة الطيبة، فلو ضعف ذلك الزاد تكدرت الحياة بقدر الضعف.. فتجد العبد تصيبه الهموم والمشاكل النفسية.. والناس درجات ودركات في ذلك، فمنهم من يصيبه الهم والغم ولكنه يتذكر لذلك؛ فإذا استخدم من الغذاء الروحي حظه ونصيبه رفع عنه ذلك الهم والغم، ولهذا أرشد النبي-صلى الله عليه وسلم- من أصابه الهم والغم والكرب أن يذكر الله، وهو بهذا يستخدم السلاح الإلهي لدفع الهم والغم- فعن عبد الله بن مسعود قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أصاب عبداً هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحاً ) قالوا : يا رسول الله أفلا نتعلمهن ؟ قال : (بلى! ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن ) .رواه أحمد وأبو حاتم وصححه الألباني.
سبحان الله.. إنه يذكِّر العبد بانحرافه عن الهدف العظيم في جزئية من حياته، فكان ذلك هو السبب في الهم والغم، فأراد أن يعيد الأمور إلى نصابها، وأن يعيد الغذاء إلى الجسد بالاعتراف بحقيقة الأمر والشأن، وهو عبودية الإنسان لله، ولجوئه إلى الذي لا يستغني عنه طرفة عين-سبحانه وتعالى-.
ومن الناس من يصيبه الهم والغم فلا يتذكر ولا يتفكر في سببه، فيعالجه باللجوء إلى من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً! فيزداد الأمر سوءً، حيث يذهب العبد إلى أطباء الأمراض النفسية – مع أنه لا حرج في ذلك من حيث العموم – لكنه لو رجع إلى بارئه، ومن لا غنى له طرفة عين عن رحمته من أول الأمر لاستدرك ما فاته من خير اللجوء والأوبة والتوبة..(/3)
ولا غرابة ولا عجب أن نرى كثيراً من أمم الأرض اليوم تصاب بالاكتئاب والقلق الدائم، والجحيم الذي لا يفارق أنفاسهم لحظة من الزمن.. فإنهم قد غلطوا غلطاً كبيراً، حيث انحرفوا عن هذا المبدأ العظيم، وهذا الأصل الكبير في الحياة، وهو حتمية الجمع بين الغذاءين ولا بد.. فإن من أعرض عن غذاء الروح تكدرت عليه حياته مهما ملك من الأموال، ومهما فرح بكثير من الأحوال، فإن الهم والقلق لا يفارق قلبه، ولا قوة إلا بالله.. ولهذا يلجأ كثير من هؤلاء المعرضين عن الله إلى (الإنتحار)، ومحاولة الخروج من هذا الإحباط والقلق الدائم بأي طريقة كانت! حتى لو وصل الحد به إلى قتل نفسه، وكم من حوادث مؤلمة نسمع عنها!!.. وهذا يدلنا على أن هؤلاء فقدوا عنصراً كبيراً وخطيراً في الحياة، وهو الفطرة التي فطروا عليها وهي حاجتهم إلى عبادة الله، وميلهم الفطري إليها، وعلى هذا الأساس فليعلم كل عبد رزقه الله الفقه والفهم في أمور دينه: أن كل ما يصيب الناس من مشاكل وقلق وهموم، سببها نقص في هذا الأصل إما نقص جزئي أو كلي حيث يصبح العبد كالبهيمة، فعليه أن يعالج هموم نفسه بالرجوع إلى الله، وتحقيق ما اختل من العبادة التي هو محتاج إليها كل حين.. ولهذا صدق الله العظيم القائل:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (124) سورة طه, والقائل:{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (125) سورة الأنعام, وهذا كناية عن ضيق النفس وتكدر الحياة..
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حاجة العبد إلى عبادة الله فقال: (واعلم أن فقر العبد إلى أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً ليس له نظير فيقاس به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب وبينهما فروق كثيرة.. فإن حقيقة العبد قلبه وروحه[5] وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره) ثم شرع ابن تيمية يبين سبب ذلك اللجوء والاحتياج إلى عبادة الله وطاعته، وقد ذكر ذلك في عدة وجوه وأسباب فقال:
(أحدها:[6] أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقُوْتُه وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن..) ثم ذكر نفي المشقة والتكليف وإطلاق ذلك على العمل الصالح والإيمان، وأن السلف لم يطلقوا ذلك عليهما، وإنما أطلقه المتكلمون، وقد ذكر في القرآن بالنفي:{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} قال: (أي وإن وقع في الأمر تكليف فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يسمي جميع الشريعة تكليفاً، مع أن غالبها قرة العيون، وسرور القلوب، ولذات الأرواح، وكمال النعيم).[7]
ثم قال: (الأصل الثاني: أن النعيم في الدار الآخرة أيضاً به – أي بالله وبعبادته- مثل النظر إليه..) كما في الدعاء المأثور (أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) رواه النسائي وصححه الألباني[8]. وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار! قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه سبحانه! فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهو الزيادة).
والمقصود بالزيادة ما ذكر في قوله-تعالى-:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، ثم قال ابن تيمية: (فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة، لم يعطهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه).
ثم ذكر أن هذين أصلان ثابتان في الكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان قاطبة.. والمقصود أن العبد محتاج إلى عبادة الله والقرب منه، والاستئناس بجواره-عز وجل- فمن فقد ذلك شقي، وهو الضنك المذكور في قوله:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.
قال: (الوجه الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا منع ولا عطاء، ولا هدى، ولا ضلال، ولا نصر، ولا خذلان، ولا خفض، ولا رفع، ولا عز، ولا ذل، بل ربه هو الذي خلقه، ورزقه، وبصّره، وهداه، وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر لم يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه..)انتهى كلامه.(/4)
وخلاصة القول هنا: أن الله خالق العبد والمتصرف في أموره، فالحاجة تجعل العبد يرجع إلى الله، وينيب إليه في كثير من مشاكل الحياة، حتى أنك لترى كثيراً من الناس إذا أصيبوا بكارثة رفعوا أيديهم إلى الله -عز وجل... حتى أني سمعت قصة عجيبة عن رجل روسي وكان يتدرب على القفز المظلي (من الطائرة) فلما قفز من الطائرة لم تنفتح المظلة وهو يهوي في السماء وهي مغلقة، فدعا بلغته: يا الله! فانفتحت ونزل إلى الأرض بسلام، فهذا مع بعده عن الله، وكفره بآيات الله قبل ذلك في دولة اشتراكية ملحدة، لما ضاقت السبل وانقطعت الأسباب البشرية الضعيفة التي تشبه خيوط العنكبوت في الهوان نادى: يا الله! اتجهت الفطرة إلى الله -سبحانه وتعالى-.. وهكذا فالعبد مجبول على عبادة الله، وحبه، ودعائه، ولكن كما جاء في الحديث القدسي: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً..) رواه مسلم.
ثم قال ابن تيمية -رحمه الله-: (الوجه الرابع: أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس) انتهى كلامه..
يقول حاجة العبد إلى المخلوق قليلة وآنية، وحاجته إلى عبادة الله وطاعته دائمة، كما في الحديث: (أتاني جبريل فقال: يا محمد ! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس ) رواه الطبراني وحسنه الألباني.
ثم ذكر الوجه الخامس من وجوه وأسباب حاجة العبد إلى عبادة الله فقال:
أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته، فإنه يخذل من تلك الجهة، وهذا أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء، فما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل) انتهى كلامه..
ونحن نجد هذا واقعياً.. فرحم الله ابن تيمية على إبراز هذا المعنى، حيث نجد كثيراً من الذين كان لهم العباد نصراء ووزراء أول من يخذلونهم.. فنحن نجد على سبيل المثال ابن العلقمي الذي كان الخليفة العباسي يقربه ويدنيه منه، كان أول من خذله! وأشد من قتله!! وهكذا على مدى التاريخ، كم من هزائم ونكبات كانت بسب أقرب المقربين! وفي العصر الحديث نجد: دولة صدام حسين زالت بسبب الخيانة الكبرى من أقرب أقربائه كما علم ذلك، وانتشر بين الناس... فسبحان الله ما أعظم وما أعزّ من استنصر به ولجأ إليه، وما أسرع خذلان من اعتز وعبد ولجأ إلى غيره!.
ثم ذكر وجوهاً إلى أن قال: (الوجه التاسع: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا على أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تعلق بهم رجاءك ولا خوفك، قال تعالى:{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ }انتهى.
فهذه الوجوه والأسباب وغيرها اقتضت أن يكون العبد محتاجاً إلى الله: أُنساً به، وقرباً منه، ورجوعاً إليه وعبادة له -عز وجل-.
إلى هنا ننهي حديثنا عن هذه الفقرة.. وسيأتي في الدروس القادمة -إن شاء الله- ذكر ما يتعلق بالعبادة من مفاهيم وتاريخ حولها.. والله الموفق...
---------------
[1]- لسان العرب 3/372-374.
[2]- تاج العروس باب (عبد)
[3]- معجم مقاييس اللغة (4/205-206). ط/ دار الجيل.
[4]- العبودية ص38. ط/ المكتب الإسلامي/ الخامسة 1399هـ.
[5]- وهذا كما قال زهير بن أبي سلمى: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم.
[6]- ذكر في الأصل (أحدهما) فهو ذكر وجهين ثم ذكر بقية الوجوه بعدهما، ونحن قلنا: ( أحدها ) للجمع، على ما سيأتي..
[7]- قاعدة جامعة في التوحيد (ص34-36). ط/ دار العاصمة – السعودية.
[8]- صحيح سنن النسائي (1237).
العبادة (2-4)
عبادة العالمين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
غير خاف على ذي لب من المؤمنين أنه لابد في العبادة من معرفة أصلها اللغوي ومعناها الشرعي علماً وعملاً، واضطرار الناس إليها ، وأنه لا غنى لأحد عنها طرفة عين ، وأن من ظن أنه يستغني عن الله وعبادته في الدنيا فقد أفحش الوهم ، وأعرق في الجهل ، ونصيبه في الدنيا الهموم والأكدار والضنك وفي الآخرة عذاب أليم شديد..!
الخلق كلهم عبيد الله:(/5)
فالخلق كلهم عبيد الله مؤمنهم وكافرهم، حتى من عصى الله وكفر به وحجد هذه العبودية ، فإنَّ حاله يشهد بأنه عبد مذلل لله، إليه يرجع، لا مفر له منه إلا إليه –سبحانه- وبهذا الاعتبار (أي أن العبد يراد به المعبَّد المذلل لله ، فالمخلوقون كلهم عباد الله: الأبرار منهم والفجار، والمؤمنون والكفار، وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته، وكلماته التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاؤوا، وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن، كما قال –تعالى-: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (83) سورة آل عمران, فهو سبحانه رب العالمين، وخالقهم ورازقهم، ومحييهم ومميتهم، ومقلب قلوبهم، ومصرف أمورهم، لا رب لهم غيره، ولا مالك لهم سواه، ولا خالق لهم إلا هو، سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه، وسواء علموا ذلك أو جهلوه، لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك، وآمنوا به، بخلاف من كان جاهلاً بذلك، أو جاحداً له، مستكبراً على ربه، لا يُقر ولا يخضع له، مع علمه بأن الله ربه وخالقه، فالمعرفة بالحق إذا كان مع الاستكبار عن قبوله والجحد له كان عذاباً على صاحبه؛ كما قال –تعالى-: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (14) سورة النمل. وقال –تعالى-: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (146) سورة البقرة. وقال –تعالى-: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} (33) سورة الأنعام. فإذا عرف العبد أن الله ربه وخالقه، وأنه مفتقر إليه محتاج إليه، عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله) أ.هـ من كتاب العبودية لشيخ الإسلام ص47.
اتصاف الأنبياء بالعبادة ودعوتهم إليها:-
ووهذه العبودية هي عبودية الطاعة والانقياد وخير من اتصف بها من الناس الأنبياء عليهم السلام ، فكلهم اتصف بها ووصفهم الله بها ودعوا إليها وحققها :
1. آدم عليه السلام: أبو البشر، وهو أول من حقق ذلك، حيث خلق الله آدم عليه السلام وذريته لعبادته، ومن عبادته لجوؤه إلى الله بعدما أزله الشيطان وزوجته، حيث قال الله عنه:{قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (23) سورة الأعراف. فالدعاء والتوبة من أنواع العبادة وأجلها... والأنبياء جميعاً كانت لهم عبادات يتقربون بها إلى الله من صلاة وصيام ، كما قال تعالى في الصوم أنه كان مكتوباً على الذين من قبلنا، فدخل فيهم آدم وبنيه عليهم السلام:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة.
2. نوح عليه السلام:
وقد دعا نوح عليه السلام قومه إلى عبادة الله حيث جاء في كثير من آيات القرآن قوله –تعالى-:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (59) سورة الأعراف, وكذا قوله في سورة نوح:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} ودعا ذريته بأصل العبادة وهي كلمة التوحيد ، فعن سليمان بن يسار رضي الله عنه عن رجل من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال نوح لابنه إني موصيك بوصية وقاصرها لكي لا تنساها أوصيك باثنتين وأنهاك عن اثنتين أما اللتان أوصيك بهما فيستبشر الله بهما وصالح خلقه وهما يكثران الولوج على الله أوصيك بلا إله إلا الله فإن السموات والأرض لو كانتا حلقة قصمتهما ولو كانتا في كفة وزنتهما وأوصيك بسبحان الله وبحمده فإنهما صلاة الخلق وبهما يرزق الخلق وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا وأما اللتان أنهاك عنهما فيحتجب الله منهما وصالح خلقه أنهاك عن الشرك والكبر رواه النسائي واللفظ له والبزار والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو وقال الحاكم صحيح الإسناد 1.(/6)
ولقد ذكر الله تعالى منتّه على أنبياءه بالعبودية وأنها من أجل نعمه على هؤلاء الانبياء -عليهم السلام- بعد أن عدد صفات من اجتباهم من الأنبياء مادحاً لهم فقال بعد ذلك :{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا*} (58) سورة مريم . فهؤلاء المشار إليهم ومن حققوا تلك العبادات ،في أجل نعمة أنعمها الله عليهم ، وقد جمع الله بين ذكر الذرية وخصِ نوح بالعبودية وبالشكر في قوله:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (3) سورة الإسراء.
ومما زادني شرفا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي .......................
3. إبراهيم عليه السلام: لقد وصف الله الخليل إبراهيم بأنه عبد من عباده المؤمنين، فقال:{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (111) سورة الصافات، وقال-تعالى-:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ* إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} (45-46) سورة ص . وإبراهيم هو أبو الأنبياء وقدوتهم في التوحيد والعبادة... وكما جاء في الآية السابقة :{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا*} (58) سورة مريم .
4. إسماعيل عليه السلام، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (54-55) سورة مريم . والصلاة والزكاة أجل العبادات الظاهرة.
ومن أظهر العبادات والقربات اللاتي عملها إسماعيل مع أبيه إبراهيم شرف بناء الكعبة، طاعة لله تعالى في أمره عز وجل.
وموسى-عليه السلام- كان من عباد الله المقربين وأنبيائه المخلصين، حيث قال الله عنه وعن هارون: {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}(120-122) سورة الصافات
وهكذا جميع الرسل من عهد آدم إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا عباداً لله مخلصين. شرع الله لكل منهم عبادة وشرعة تناسب زمانه ومكانه وقومه؛ كما قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48) سورة المائدة
فكانت العبادة هي الزاد العظيم للأنبياء والمرسلين في حياتهم قاطبة وما يواجهون به أعداءهم وأزماتهم، وقد حققوها وقاموا بها أتم قيام، ودعوا قومهم إليها، وأدوا الأمانة فيها فآمن من قومهم من آمن وكفر منهم من كفر.. وهكذا الحال في خاتم الأنبياء -عليهم السلام- محمد بن عبد الله -صلوات الله عليه وسلامه- فإنه كان أعظمهم تحقيقاً للعبادة، وحياته وسيرته في بطون الكتب تبين لنا الغاية العظمى التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم في تحقيق عبادة ربه سبحانه، ويكفينا من ذلك أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم، أو تنتفخ قدماه ويقول : (أفلا أكون عبدا شكورا). صحيح البخاري 1062
اتصاف الملائكة بالعبادة:(/7)
والملائكة خلق من خلق الله الكبير المتعال –سبحانه-. وقد خلقهم الله من نور، كما أنه خلق الجن من نار، والإنس من طين.. ، وهم عباد الله المقربون الذين يسبحون له الليل والنهار لا يسأمون من تلك العبادة؛ لأنهم ركبوا وخلقوا على تلك الغاية، ولم تخلق فيهم شهوة، ولا تعرض لهم شبهة، فعبادتهم متواصلة لا يعصون الله -عز وجل- ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فهم قيام بما وكلوا به من المهام والوظائف ؛ منهم الموكل بنفخ الأرواح ، ومنهم الموكل بقبضها وهو ملك الموت، ومنهم الموكل بكتابة أعمال العباد {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ومنهم الموكل بحفظ الإنسان من بين يديه ومن خلفه{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ} وقد قال علماء التفسير :هم الملائكة ، ومنهم الموكل بإنزال الوحي على الأنبياء وهو جبريل الروح الأمين عليه جميع الملائكة السلام .. وهكذا فكل ملك من الملائكة الكرام الطيبين له وظيفة هي عبادته وقربته التي يتقرب بها إلى الله –تعالى- وقد ذكرهم الله تعالى في القرآن العظيم بأنهم { لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (19-20) سورة الأنبياء . وقال –تعالى-:{إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ*} (206) سورة الأعراف ). وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ* }سورة الأنبياء. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. وقال –سبحانه-: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ*}. وغيرها من الآيات
أما الأحاديث النبوية ، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع قدر أربع أصابع إلا ملك واضع جبهته ساجداً لله ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون )2, وغيره من الأحاديث التي تصف لنا عبادة الملائكة لله عز وجل ، وتحقيقهم لها كما أراد الله تعالى منهم، كل بحسب قربته وطاعته - عليهم سلام الله-.
الجن والعبادة:
الجن خلق من خلق الله –تعالى- وهم أيضاً عالم آخر غير عالمنا لا نراه، ولهم خصوصياتهم وسلوكياتهم ، وهناك شبه كبير بين عالمهم و عالم الإنس، مع أن هيئتهم وصفة خلقتهم تختلف تماماً عن بني آدم، وهم عالم خفي لا نراه كما قال –تعالى-:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (27) سورة الأعراف, فقد منحهم الله القدرة على التشكل بصور وأشكال مختلفة, في صورة حيوانات ، أو حتى في صورة الإنس..
ولولا حفظ الله –تعالى- للإنسان وحراسته بالملائكة كما قال:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ} (11) سورة الرعد، لسعت المشياطين في إكمال تخطفها لنا في كل طريق وفي كل شارع وسهل وجبل، لكن من تمام حكمة الله ورحمته وعدله أن جعل في مخلوقاته موازنة عجيبة ! فإذا كان الجن يروننا ولا نراهم، وذلك أقرب إلى الإيقاع والإضرار بنا؛ فإن الله جعل للعبد حفظا كلاء يحفظه ويكلؤه به من ملائكة وأوراد وأذكار وآيات ونحوها ...(/8)
والجن مأمورون بالعبادة كذلك كما أمر بها الإنس، و مأمورون بتحقيقهاكما حققتها الملائكة -عليهم السلام- قال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات , وقد وردت آيات وأحاديث تبين استجابة رجال من الجن لدعوات الأنبياء، منهم ومحمد صلى الله عليهما وسلم كما قال تعالى : {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ }(الأحقاف : 30) : أي القرآن وكانوا مؤمنين بموسى قال عطاء كانوا يهودا فأسلموا ولذلك قالوا أنزل من بعد موسى وعن ابن عباس أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى فلذلك قالت : " أنزل من بعد موسى "3 وقال في الآية قبلها عن محمد صلى الله عليه وسلم : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} (الأحقاف : 29) وهم في استجابتهم هذه فرق وأشتات حالهم كحال الإنس , منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ،كما قالوا هم عن أنفسهم {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } (لجن : 11) قال القرطبي : " أي قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون وقيل: ومنا دون ذلك أي: ومن دون الصالحين في الصلاح وهو أشبه من حمله على الإيمان والشرك كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا أي فرقا شتى قاله السدي . الضحاك : أديانا مختلفة . قتادة : أهواء متباينة ومنه قول الشاعر
القابض الباسط الهادي بطاعته في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
والمعنى : أي لم يكن كل الجن كفارا بل كانوا مختلفين منهم كفار ومنهم مؤمنون صلحاء ومنهم مؤمنون غير صلحاء . وقال المسيب : كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس . وقال السدي في قوله تعالى: كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ، قال : في الجن مثلكم قدرية ومرجئة وخوارج ورافضة وشيعة وسنية وقال قوم : أي وإنا بعد استماع القرآن مختلفون منا المؤمنون ومنا الكافرون أي ومنا الصالحون ومنا المؤمنون لم يتناهوا في الصلاح والأول أحسن ؛لأنه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } , وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان وأيضا لافائدة في قولهم نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر .
والطرائق : جمع الطريقة وهي مذهب الرجل أي كنا فرقا مختلفة ويقال القوم طرائق أي على مذاهب شتى والقدد نحو من الطرائق وهو توكيد لها " 4
وهم مكلفون بشريعتنا لا يخرجون عنها شأنهم شأننا ، وقد ذكر الله –تعالى- ذلك في قوله: { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( ) وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} سورة الأحقاف31- 32.
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى : يا قومنا أجيبوا داعي الله : فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والإنس حيث دعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم وهي سورة الرحمن ولهذا قال : أجيبوا داعي الله وآمنوا به وقوله تعالى : يغفر لكم من ذنوبكم ......
وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة ولهذا قالوا في هذا المقام وهو مقام تبجح ومبالغة فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه .(/9)
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي قال حدثت عن جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا يدخل مؤمنوا الجن الجنة لأنهم من ذرية إبليس ولا تدخل ذرية إبليس الجنة . والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف وقد استدل بعضهم لهذا بقوله عز وجل لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان وفي هذا الاستدلال نظر وأحسن منه قوله جل وعلا ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة . وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس فقالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم5 وأيضا فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى ، ومما يدل أيضا على ذلك عموم قوله تعالى : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا " وما أشبه ذلك
والإجارة من العذاب الأليم هو يستلزم دخول الجنة لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار فمن أجير من النار دخل الجنة لامحالة ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن أجيروا من النار ولو صح لقلنا به والله أعلم " 6
قال البيضاوي :" والأظهر أنهم في توابع التكليف كبني آدم "7
ولذلك لما استمعوا ووعوا ولّوا إلى قومهم منذرين، يبشرونهم بالرسالة والكتاب الجديد، وبالرسول العظيم صلى الله عليه عليه وسلم، دعاة إلى الله عز وجل فائزين بموعود الله تعالى في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت. فدعوا قومهم إلى عبادة الله، والإيمان به، فرضي الله عنهم وأرضاهم .
ونفق هنا مكتفين بهذا القدر من الحديث ، وإلى لقاء آخر – إن شاء الله- سائلين المولى تعالى أن ينفعنا بما نقول ونسمع ونقرأ ، و صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمين ...
000000000000000
1 - صجيج الترغيب والترهيب
2- صححه الألباني انظر الصحيحة رقم (1722 ).
3 - تفسير القرطبي 16 /217
4 - تفسير القرطبي 19 /15
5 - ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه خرج على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال: (لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله –تعالى-: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قالوا: لا شيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) رواه الترمذي والبزار وابن جرير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وحسنه الألباني صحيح جامع الترمذي 3291.
6 - تفسير ابن كثير 4 /171 - 172 بتصرف
7- البيضاوي 5 / 186
==============
فهم الصحابة لشمول العبادة:
كان الصحابة - رضي الله عنهم - يفهمون شمول العبادة، ومما روي عنهم من الآثار في ذلك ما أخرجه الإمام الطبري من خبر بكر بن عبد الله المزني قال: جاء عمر بن الخطاب إلى باب عبد الرحمن بن عوف فضربه فجاءت المرأة ففتحته إلى أن قال: وعبد الرحمن بن عوف قائم يصلي، فقال له ـ يعني عمر ـ: تجوز أيها الرجل أي خفف صلاتك، فسلم عبد الرحمن حينئذ، ثم أقبل عليه فقال: ما جاء بك هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟ فقال: رفقة نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سراق المدينة، فانطلق نحرسهم الخ.."تاريخ الطبري (4/ 205).
وإننا لنجد في هذا الخبر فهم عمر العميق لمجالات العبادة وتقديم الأهم على المهم، فحين كان بعض المسلمين بحاجة إلى عمر وعبد الرحمن بن عوف كان أمر احتياجهم مقدما على صلاة النفل، فالصلاة عبادة وخدمة المسلمين أيضاً عبادة، وما دامت الصلاة نفلا فإن ما نزل في حاجة المسلمين مقدم على ذلك، لأن الصلاة عبادة يقتصر نفعها على صاحبها، وخدمة المسلمين عبادة يتعدى نفعها للمسلمين.
ولقد كان هذا الأمر واضحاً لدى الصحابة - رضي الله عنهم -ولذلك لم ينكر عبد الرحمن على عمر أن أمره بتخفيف الصلاة وإنهائها من أجل المشاركة في خدمة المسلمين، ولم يرى أن غيرهما من صغار المسلمين أولى بالقيام بهذه المهمة لأنهم كانوا ينظرون إلى هذا الأمر من خلال كونه عبادة وعملاً صالحاً، فهو أمر يتنافسون عليه، ولا يكلونه إلى غيره.
ومن ذلك ما رواه أبو وائل عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -قال: ارض بما قسم الله تكن أغنى الناس، واجتنب المحارم تكن أورع الناس، وأد ما افترض عليك تكن من أعبد الناس.
فالتورع عن المحارم والشبهات يعد عبادة لله - تعالى - إذا كان ذلك من أجل التقرب إليه - جل وعلا -، وفي قول ابن مسعود"وأد ما افترض عليك تكن من أعبد الناس"دلالة على شمول العبادة كل فرائض الدين.
وأخرج الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - تعالى - من خبر الأسود بن يزيد - رحمه الله -عن عائشة - رضي الله عنها -قالت: إنكم تفعلون أفضل العبادة: التواضع.(/10)
كما أخرج عن عون بن عبد الله - رحمه الله - تعالى - قال: كنا نجلس إلى أم الدرداء - رضي الله عنها -، فنذكر الله - عز وجل - عندها، فقالوا: لعلنا قد أمللناك، قالت: تزعمون أنكم قد أمللتموني، فقد طلبت العبادة في كل شيء فما وجدت شيئا أشفى لصدري ولا أحرى أن أصيب به الدين من مجالس الذكر.
وذكر الإمام البغوي عن الشعبي قال: خرج ناس من أهل الكوفة إلى الجبانة ـ أي إلى الصحراءـ يتعبدون واتخذوا مسجداً وبنوا بنيانا، فأتاهم عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فقالوا: مرحباً بك يا أبا عبد الرحمن لقد سرّنا أن تزورنا، قال: ما أتيتكم زائرا، ولست بالذي أترك حتى يهدم مسجد الجبان، إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أرأيتم لو أن الناس صنعوا كما صنعتم من كان يجاهد العدو، ومن كان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ومن كان يقيم الحدود؟ ارجعوا فتعلموا من هو أعلم منكم، وعلموا من أنتم أعلم منهم. قال: واسترجع فما برح حتى قلع أبنيتهم وردهم.
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -:"مادمت تذكر الله فأنت في صلاة وإن كنت في السوق".
وقال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -:"مدارسة العلم تسبيح".
=============
حقيقة العبادة التي خلق من أجلها الثقلان
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطَّلع عليه من المسلمين، سلك الله بي وبهم سبيل عباده المؤمنين، وأعاذني وإياهم من طريق المغضوب عليهم والضالين آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فإن أهم واجب على المكلف وأعظم فريضة عليه، أن يعبد ربه سبحانه رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم القائل في كتابه الكريم:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
وأخبرنا سبحانه في موضع من كتابه أنه خلق الثقلين لعبادته، فقال عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ وهذه العبادة التي خلق الله الثقلين من أجلها هي توحيده بأنواع العبادة من الصلاة والصوم والزكاة والحج والسجود والطواف والذبح والنذر والخوف والرجاء والاستغاثة والاستعانة والاستعاذة، وسائر أنواع الدعاء، ويدخل في ذلك طاعته سبحانه في جميع أوامره وترك نواهيه على ما دل عليه كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسلي، وقد أمر الله سبحانه جميع الثقلين بهذه العبادة التي خلقوا لها، وأرسل الرسل جميعا، وأنزل الكتب لبيان هذه العبادة وتفصيلها والدعوة إليها، والأمر بإخلاصها لله وحده، كما قال تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وقال عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ومعنى قضى ربك في هذه الآية أمر وأوصى، وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
وقال عز وجل: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ الآية، وقال سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ الآية، وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ وقال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ .
موقع الشيخ ابن باز
http://www.binbaz.org.sa/display.asp?f=bz00043
==============
من أسباب ذهاب لذة الطاعة والعبادة
أسامة العتيبي
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد:(/11)
إن المسلم قد يكون عاملاً خيراً ولكنه يحرم لذة العبادة ومناجاة الله ـ عز وجل ـ بسبب الذنب يصيبه.
عقوق الوالدين:
ومن الذنوب التي قد تكون سبباً في ذهاب لذة الطاعة والعبادة : عقوق الوالدين فإنه من كبائر الذنوب.
قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً {23} وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً {24} رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً}
فأمر الله ببر الوالدين بعد عبادته مباشرة، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يدخل الجنة عاق))، والجنة تحت قدم الأم، ورضا الله برضا الوالدين، وسخطه بسخطهما.
فعلى من يغضب والديه أو أحدهما أن يقبل رأسهما ويدهما ويستسمحهما على ما مضى، وأن يطلب منهما العفو والمسامحة، وأن يطلب منهما أن يدعوا له بالتوفيق والسداد؛ فقد يكون الحرمان من لذة الطاعة بسبب إغضاب الوالدين أو أحدهما، فيجب التنبه لهذا فإنه مهم.
وقد جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليجاهد في سبيل الله وليبذل نفسه في سبيل الله ولكنه ترك والديه يبكيان على فراقه وسفره فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما)).
وجاء رجل من أهل اليمن حاجاً ومعه أمه يحججها فجعل يطوف بها وهي على ظهره لعجزها عن المشي فلقي عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فسأله: هل ترى أني أديت أمي حقها؟ فقال له ابن عمر - رضي الله عنه -: ولا بزفرة من زفراتها حين الولادة!! [يعني طلقة من طلقاتها].
فسبحان الله!!
ما أعظم حق الوالدين، وما أحسن البرَّ وما أعلاه من عمل صالح.
فيا خيبة وخسران من أدرك أحد والديه حياً ولم يغفر له!
فقد جاء جبريل وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم- : ((رغم أنف امرئ أدرك أبويه حياً ولم يغفر له، قل: آمين )) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- : ((آمين)).
فأسأل الله أن يوفقنا لعمل الخير، وأن يكسب جميع من بقي والداه على قيد الحياة رضاهما، وأن يسدد خطانا.
الغيبة:
ومن الذنوب التي تذهب لذة العبادة: الغيبة.
والغيبة من كبائر الذنوب ومما جاء فيها التهديد والوعيد في الكتاب والسنة. قال تعالى:{ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم}.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((الغيبة ذكرك أخاه بما يكره)).
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحدى أمهات المؤمنين – رضي الله عنها - لما قالت عن صفية - رضي الله عنها -: حسبك من صفية أنها قصيرة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)).
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)).
فيجب علينا ترك الغيبة، ويجب المداومة على الطاعة فهي من أسباب حصول الخشوع والخضوع للرب المعبود.
والنصيحة على قدر الحاجة ليست من الغيبة في شيء بل هي واجب شرعي، وكذا التحذير من أهل البدع والأهواء والفساد والعناد هو من النصيحة الشرعية.
واعلموا إخواني في الله أن فعل النوافل من السنن الرواتب والوتر وصلاة الضحى والصلاة بين المغرب والعشاء من الأمور التي تحبب إلى الله وتحب الله إلينا.
والنوافل بمثابة السياج للمحافظة على الفرائض، وكذلك النوافل بمثابة ما يدخره الإنسان عند وقوعه في دين بسبب نقص شيء من الواجبات.
وقد يفعل الإنسان الطاعة ولا تكون له فيه نية فسبب مداومته عليها، وسؤال الله التوفيق والبعد عن المعصية فيوفقه الله ويصلح نيته ويوفقه للإخلاص.
قال حبيب بن أبي ثابت - رحمه الله -: طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية ثم جاءت النية بعدُ، وقال سفيان الثوري -رحمه الله -:كنا نطلب العلم للدنيا فَجَرَّنَا إلى الآخرة. وهذا بسبب حرصهم ومداومتهم عليه فأعقبهم الله حلاوة في قلوبهم.
فنصيحتي لنفسي ولكم:
أولاً: أن نرضي والدينا، وتستسمحهما، ونطلب رضاهما، وأن نطلب منهما أن يدعوا لنا – إن كانا على قيد الحياة -.
ثانياً: ترك الغيبة والتوبة من الغيبة السابقة، والندم على ما فعلنا سابقاً، والبعد عن مجالس الغيبة، فإذا اغتاب أحد أمامنا فيجب أن ننكر أو نقوم من المجلس إن أصر أصحابه على مداومة الغيبة.
ثالثاً: الحرص على نوافل الطاعات والعبادات ومجاهدة النفس على فعل الخيرات.
رابعاً: الابتهال إلى الله والتوسل إليه، والاستغاثة به ليتقبلنا عنده من الصالحات التقيات.(/12)
خامساً: الإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن.
سادساً: البعد عن فضول الكلام والطعام، والبعد عن مجالس اللغو، والبعد عن مجالسة أهل الدنيا.
والحرص على مجالسة الصالحين وسماع المحاضرات والمواعظ وقراءة الكتب النافعة. وقراءة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسيرة الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم -.
هذا وأسأل الله لك التوفيق والسداد ، والهدى والرشاد.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
http://www.alaser.net المصدر :
==============
ضوابط العبادة الصحيحة
صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله رب العالمين، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، وأمرنا بالتمسك به إلى الممات: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" [آل عمران:102].
وتلك وصية إبراهيم ويعقوب لبنيه: " وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" [البقرة:132].
خلق الله الجن والإنس لعبادته كما قال –تعالى-: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. وفي ذلك شرفهم وعزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، لأنهم بحاجة إلى ربهم، ولا غنى لهم عنه طرفة عين، وهو غنى عنهم وعن عبادتهم كما قال –تعالى-: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ [الزمر:7] وقال تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ" [ابراهيم:8].
والعبادة هي: التقرب إلى الله – تعالى - بما شرعه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، وهي حق الله على خلقه وفائدتها تعود إليهم، فمن أبى أن يعبد الله فهو مستكبر، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو مشرك، ومن عبد الله وحده بغير ما شرع فهو مبتدع، ومن عبد الله وحده بما شرع فهو المؤمن الموحد.
ولما كان العباد في ضرورة إلى العبادة، ولا يمكنهم أن يعرفوا بأنفسهم حقيقتها التي ترضي الله –سبحانه- وتوافق دينه لم يكلهم إلى أنفسهم، بل أرسل إليهم الرسل، وأنزل الكتب لبيان حقيقة تلك العبادة، كما قال تعالى: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ" [النحل:36]. وقال -تعالى-: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء:25]. فمن حاد عما بينته الرسل ونزلت به الكتب من عبادة الله، وعبَدَ الله بما يملي عليه ذوقه، وما تهواه نفسه وما زينته له شياطين الإنسِ والجن، فلقد ضل عن سبيل الله ولم تكن عبادته في الحقيقة عبادةً لله بل هي عبادة لهواه وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ " [القصص:50]. وهذا الجنس كثير في البشر وفي طليعتهم النصارى ومن ضل من فرق هذه الأمة، فإنهم اختطوا لأنفسهم خطة في العبادة مخالفة لما شرعه الله في كثير من شعاراتهم، وهذا يتضح ببيان حقيقة العبادة التي شرعها الله على لسان رسول الله ليتبين أن كل ما خالفها فهو باطل، وإن زعم من أتى به أنه يقربه إلى الله فهو يبعده عن الله.
إن العبادة التي شرعها الله - سبحانه وتعالى - تنبني على أصول وأسس ثابته تتلخص فيما يلي:
أولاً: أنها توقيفية ـ بمعنى أنه لا مجال للرأي فيها بل لابد أن يكون المشرع لها هو الله -سبحانه وتعالى- أو رسول الله، كما قال –تعالى- لنبيه: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا" [هود:112]، وقال -تعالى-: ثُمّ جَعَلنَاكَ عَلَى شَريعَةٍ مِنَ الأمرِ فاتّبِعها ولا تَتّبعِ أهَواءَ الذينَ لا يَعلمُون" [الجاثية:18]. وقال عن نبيه: إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام:50].
ثانياً: لا بد أن تكون العبادة خالصة لله - تعالى - من شوائب الشرك، كما قال – تعالى -: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً" [الكهف:110].
فإن خالط العبادة شيء من الشرك أبطلها، كما قال – تعالى -: وَلَو أشرَكُوا لَحَبِط عَنهُم مَا كانُوا يَعَملُون [الأنعام:88]، وقال – تعالى -: "وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ" [الزمر:66،65].(/13)
ثالثاً: لا بد أن يكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله كما قال –تعالى-: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" [الأحزاب:20]، وقال – تعالى -: "ومَاءَ اتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُم عَنهُ فانَتّهُوا" [الحشر:7]. وقال النبي : { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}. وقوله: {صلوا كما رأيتموني أصلي}. وقوله: {خذوا عني مناسككم } إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الاقتداء برسول الله دون سواه.
رابعاً: أن العبادة محدودة بمواقيت ومقادير لا يجوز تعديها وتجاوزها كالصلاة مثلاً، قال – تعالى -: "إن الصّلاةَ كانَتَ على المُؤمِنِينَ كِتاباً مَوقُوتاً" [النساء:103]. وكالحج، قال – تعالى -: "الحَجُ أشهُرٌ مَعلومَاتٌ" [البقرة:197]. وكالصوم، قال – تعالى -: "شََهرُ رمَضَانَ الّذي أنزلَ فيهِ القُرءَانُ هُدًى للنّاسِ وبَيناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقان فَمنَ شَهدَ مِنكُمُ الشَهرَ فليَصُمهُ" [البقرة:185]. فلا تصح هذه العبادات في غير مواقيتها.
خامساً: لابد أن تكون العبادة قائمة على محبة الله – تعالى -، والذل له، وخوفه ورجائه، قال – تعالى -: "أولئِكَ الّذِينَ يَدعُونَ يَبتَغُونَ إلى رَبِهِمُ الوَسِيلَةَ أيّهُم أقرَبُ وَيَرجُونَ رَحمَتَهُ ويًخافُونَ عَذابَهُ" [الإسراء:57]. وقال –تعالى- عن أنبيائه: "إنّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ في الخَيَراتِ ويَدَعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وكانُوا لنا خَاشِعِينَ" [الأنبياء:90]. وقال –تعالى-: "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ" [آل عمران:32،31].
فذكر سبحانه علامات محبة الله وثمراتها.
أما علاماتها: فإتباع الرسول وطاعة الله، وطاعة الرسول.
أما ثمراتها: فنيل محبة الله –سبحانه- ومغفرة الذنوب، والرحمة منه - سبحانه وتعالى -.
سادساً: أن العبادة لا تسقط عن المكلف من بلوغه عاقلاً إلى وفاته، قال –تعالى-: "وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ " [آل عمران:102]، وقال: "واعَبدَ ربَكَ حتَى يأتِيك الَيقِين" [الحجر:99].
والعبادة لها أنواع كثيرة فهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة
فالصلاة والزكاة والصيام والحج من أعظم أنواع العبادة وهي أركان الإسلام، وكذلك الصفات الحميدة، والأخلاق الفاضلة هي من أنواع العبادة، كصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد والإحسان إلى الجار واليتيم، والمسكين والمماليك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأعمال القلوب من حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه، فالدين كله داخل في العبادة، وأعظم أنواع العبادة أداء ما فرضه الله وتجنب ما حرمه الله تعالى، قال فيما يرويه عن ربه - عز وجل -: { وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه}.
فأداء الفرائض أفضل الأعمال كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ( أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله وصدق الرغبة فيما عند الله)، وذلك أن الله – تعالى - إنما افترض على عبده الفرائض ليقربهم عنده، ويوجد لهم رضوانه ورحمته، وأعظم فرائض البدن التي تقرب إليه الصلاة كما قال – تعالى -: "وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ" [العلق:19]، وقال النبي: {أقرب ما يكون العبد من ربه هو ساجد}.
وقال: {إذا كان أحدكم يصلي فإنما يناجي ربه}، ولكن هذه الصلاة خف ميزانها اليوم عند كثير من الناس كما قال – تعالى -: "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً" [مريم:60،59].
والعجب أن بعضهم يأتي ببعض النوافل أو كثير منها، وهو مضيع للصلاة فتراه يحج ويعتمر وهو مضيع للصلاة، ومنهم من يكثر من الصدقات والتبرعات وهو لا يؤدي الزكاة المفروضة، ومنهم من يحسن أخلاقه مع الناس وهو عاق لوالديه قاطع لرحمه سيء الخلق مع زوجه، ولاشك أن العدل في الرعية من الفرائض الواجبة سواء كانت رعيته رعية عامة كالحاكم أو رعية خاصة كالرجل مع أهل بيته، قال : { كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته }، وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: { إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا }.(/14)
وأعظم رعاية الأهل والأولاد أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وإلزامهم بأداء الصلاة، ومنعهم من سماع الأغاني والمعازف والمزامير ومشاهدة الأفلام الخليعة والمسلسلات التي تحمل أفكاراً مسمومة أو تشغل عن طاعة الله وذكره، وبعض الآباء الذين هم أشباه الرجال وليسوا برجال يجلبون هذه الآفات إلى بيوتهم، ويتركونها تفتك في أخلاق أولادهم ونسائهم.
إن عباد الله حقاً هم الذين يعمرون بيوتهم بطاعة الله، ويربون أولادهم ونساءهم على عبادة الله والذّينَ يَبِيتُونَ لِرَبّهِم سُجّداً وقَياماً (64) والذّينَ يَََقُولُونَ رَبّنَا اصرِفَ عَنّا عَذَابَ جَهَنّمَ إن عَذابَها كَانَ غَرَاماً (65) إنّها سَاءَت مستَقَراً ومُقَاماَ [الفرقان:64-66]. إن عباد الله هم الذين يدعون الله أن يصلح أزواجهم وذريتهم والذّينَ يَقُولُون رَبّنا هِبَ لنا مِن أزوَاجِنَا وذُرِيَاتنَا قُرّة أعيّن واجَعَلنَا للمُتَقِين إمَامَا [الفرقان:74]. إن العبادة لا تنحصر في حد ضيق، ولكنها تشمل كل ما شرعه الله من الأقوال والأعمال والنيات فهي تشمل أقوال اللسان، وحركات الجوارح، ومقاصد القلوب، بل تشكل كل حياة المسلم حتى أكله وشربه ونومه، إذا نوى بذلك التقوى على طاعة الله بل حتى معاشرته لزوجته إذا نوى بها التعفف عن الحرام. كما قال النبي : { إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة }. قالوا: يارسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: {أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر }.
وفي حديث أبي هريرة عن النبي قال: {كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته صدقة فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعة صدقة والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة} [رواه البخاري ومسلم].
فاتقوا الله عباد الله واعبدوه كما أمركم.
قال – تعالى -: "يا أيها النَاسُ اعبُدُا ربّكُمُ الذي خَلقَكُم والذّينَ مِن قَبلِكُم لعلَكُم تَتّقٌونَ (21) الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرضَ فِراشاً والسَمَاءَ بِنَاءً وأنَزَلَ مِنَ السَمَاءِ مَاءً فأخَرجَ بِهِ مِنَ الثمَراتِ رِزقاً لَلُم فَلا تَجعَلُوا لِلهِ أندَاداً وأنتُم تَعلَمُونَ" [البقرة:22،21].
http://www.kalemat.org المصدر :
==============
ما يجب على الإنسان تجاه الفتن (التقوى وملازمة العبادة)
أهمية الصلاة وفضلها إبان الفتن:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث أهل بيته على الصلاة تحسبا للفتن، ولنا فيه أسوة حسنة،فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - أهله به لمدافعة الفتن.
فعن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فزعا يقول: (سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات – يريد أزواجه – لكي يصلين؟ رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة) أخرجه البخاري.
ففي هذا الحديث بيان لأهمية الصلاة وفضلها زمن الفتنة خاصة، وذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: أن فيه الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة، ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة لتكشف أو يسلم الداعي ومن دعا له.
وذكر - رحمه الله - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار بذلك إلى موجب إيقاظ أزواجه أي: ينبغي لهن ألا يتغافلن عن العبادة ويعتمدن على كونهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
والمراد بصواحب الحجرات أزواجه - صلى الله عليه وسلم -، وإنما خصهن بالإيقاظ؛ لأنهن الحاضرات حينئذ، أو من باب (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول).
والمراد بالإنزال في قوله: (ماذا أنزل الله من الخزائن): إعلام الملائكة بالأمر المقدور، أو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوحي إليه في نومه ذاك بما سيقع بعده من الفتن فعبر عنه بالإنزال.
وفي هذا الحديث: أن الفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال، بأن يتنافس فيفع القتال بسببه، وأن يبخل به فيمنع الحق أو يبطر صاحبه فيسرف، فأراد - صلى الله عليه وسلم - تحذير أزواجه من ذلك كله، وكذا غيرهن ممن بلغه ذلك. أهـ
------------
المصدر: موقف المسلم من الفتن في ضوء الكتاب والسنة
تأليف: أبي أنس حسين الحازمي.
http://www.muslimat.netالمصدر:
==============
القوة في العبادة
د. علي بن عبد الله الصياح
- قَالَ سعيدُ بنُ المُسَيّب ـ رحمةُ اللهِ عليهِ ـ: «مَا لقيتُ النَّاسَ منصرفين مِنْ صلاةٍ منذُ أربعينَ سنة»(1).
- وقَالَ أيضاً: «مَا دَخَلَ عليّ وقتُ صلاةٍ إلاّ وقد أخذتُ أهبتها، ولا دَخَلَ عليّ قضاء فرضٍ إلاّ وأنا إليه مشتاقٌ».
- وقَالَ أيضاً: «مَا فاتتني التكبيرةُ الأولى منذُ خمسينَ سنة، وما نظرتُ في قَفَا رجلٍ في الصلاةِ منذُ خمسينَ سنة».(/15)
- وقَالَ بُرْدُ مولى ابنِ المُسَيّب ـ رحمةُ اللهِ عليهِ ـ: «مَا نُودي للصلاةِ منذُ أربعين سنة إلا وسعيدٌ في المسجد»(2).
- وقَالَ رَبِيعةُ بنُ يزيد ـ رحمةُ اللهِ عليه ـ: «مَا أذّن المؤذنُ لصلاةِ الظهر منذُ أربعين سنة إلا وأنا في المسجدِ، إلاّ أنْ أكونَ مريضاً أو مسافراً»(3).
- وقَالَ وَكِيعُ بنُ الجراح ـ رحمةُ اللهِ عليهِ ـ: «كَانَ الأعمشُ قَريباً مِنْ سبعين سنةً لمْ تفتهُ التكبيرةُ الأولى، واختلفتُ إليهِ قريباً مِنْ ستين فمَا رأيتُهُ يَقضي رَكْعةً»(4).
- وقَالَ محمد بن سماعة القاضي ـ رحمةُ اللهِ عليهِ ـ: «مَكثتُ أربعين سنةً لم تفتني التكبيرةُ الأولى إلا يوماً واحداً ماتتْ فيه أمي، ففاتتني صلاةٌ واحدةٌ في جماعةٍ»(5).
- وقَالَ أسيد بن جعفر ـ رحمةُ اللهِ عليهِ ـ: «بشرُ بنُ منصور ما فاتته التكبيرةُ الأولى قط، ولا رأيته قام في مسجدنا سائلٌ قط فلم يُعط شيئاً إلا أعطاه»(6).
- وقَالَ يحيى بنُ مَعِين ـ رحمةُ اللهِ عليهِ ـ: «أقامَ يحيى بنُ سعيد(7) عشرين سنة يختم القرآن في كلِّ ليلةٍ(8)، ولم يفته الزوالُ في المسجد أربعين سنة، وما رؤي يطلب جماعة قط»(9).
قرأتُ هذه الأقوال ووقفتُ عند «خمسين سنة»، و «أربعين سنة»، و «عشرين سنة»؛ متعجباً من هذه الهمّة والقوة في تربية النفس على الإيمان وأسبابه ـ في ضَوءِ هدي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابتِهِ الكرام.
ثمَّ تأملتُ في حالي وحالِ كثيرٍ من أبناء هذا الزمان في هذه المسائل الإيمانية العظيمة فذهلتُ من النتيجة؛ إذ لا يخلو يوم فضلاً عن أسبوع ـ دع الشهرَ والسّنة ـ من نَظَرٍ في قفا المصلين أو وجوههم.
إنّ هذا التأخر والتفويت نوعٌ من الضعف، ينبغي أن يقابَل بالقوة والحزم والعزم، قَالَ - تعالى - :
{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63].
{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} [البقرة: 93].
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145].
{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12].
وإذا حققنا هذه القوة في أنفسنا تحقق النصر الذي وعدنا الله إياه في كتابه الكريم.
فما أحسنَ أنْ يعاهدَ المسلم نفسه مِنْ الآن على المحافظةِ على الصلاة كما حَافظَ عليها أولئكَ.. فيكون في المسجدِ مع الآذان أو قبله ولا يتأخر!
قَالَ إبراهيمُ النخعيُّ: «إذا رأيتَ الرجلَ يتهاونُ في التكبيرةِ الأولى فاغسلْ يديكَ منه»(10).
وفقنا اللهُ وإيّاك للعلم النافع والعمل الصالح.
----------
(1) الطبقات الكبرى، 5/131.
(2) حلية الأولياء، 2/ 163، حلية الأولياء، 2/ 162، سير أعلام النبلاء، 4/ 221.
(3) المعرفة والتاريخ، 2/ 217، الثقات، 4/ 232.
(4) حلية الأولياء، 5/ 49.
(5) تاريخ بغداد، 5/341.
(6) حلية الأولياء، 6/240.
(7) هو القطّان.
(8) صحَّ النهي عن ختم القرآن في أقل من ثلاث ليال، وفي المسألة خلاف بين أهل العلم، ويظهر أنَّ القطّان ممن اجتهد ورأى أنه يجوز، والله أعلم.
(9) تاريخ بغداد، 14/141.
(10) حلية الأولياء، 4/215.
http://albayan-magazine.com المصدر:
===========
أعظم أنواع العبادة
صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله رب العالمين، أمر بالدعاء ووعد بالإجابة، فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، توعد المجرمين بالعقاب، ووعد المتقين بالإثابة. وبعد:
فإن الدعاء أعظم أنواع العبادة، فعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - عن النبي قال: {الدعاء هو العبادة} ثم قرأ: " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ " [غافر:60] [رواه أبو داود والترمذي. قال حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم]. وقد أمر الله بدعائه في آيات كثيرة، ووعد بالإجابة، أثنى على أنبيائه ورسله فقال: " إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ " [الأنبياء:90]. وأخبر – سبحانه - أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فقال سبحانه لنبيه: " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ " [البقرة:186].
وأمر – سبحانه - بدعائه والتضرع إليه، لا سيما عند الشدائد والكربات. وأخبر أنه لا يجيب المضطر ولا يكشف الضر إلا هو. فقال:" أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ "[النمل:62].(/16)
وذم اللذين يعرضون عن دعائه عند نزول المصائب، وحدوث البأساء والضراء فقال:" وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ " [الأعراف:94]. وقال - تعالى -: " وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " [الأنعام:43،42]. وهذا من رحمته وكرمه سبحانه فهو مع غناه عن خلقه يأمرهم بدعائه، لأنهم هم المحتاجون إليه قال - تعالى -: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ " [فاطر:15]. وقال - تعالى -: "وَاللّهُ الغَنِيُ وَأنتُمُ الفُقَرَآءُ " [محمد:38].
وفي الحديث القدسي: {يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم} [رواه مسلم].
فادعوا الله عباد الله، وأعلموا أن لاستجابة الدعاء شروطاً لابد من توافرها. فقد وعد الله – سبحانه - أن يستجيب لمن دعاه. والله لا يخلف وعده، ولكن تكون موانع القبول من القبول من قبل العبد.
فمن موانع إجابة الدعاء: أن يكون العبد مضيعاً لفرائض الله، مرتكباً لمحارمه ومعاصيه
فهذا قد ابتعد عن الله وقطع الصلة بينه وبين ربه، فهو حري إذا وقع في شدة ودعاه أن لا يستجيب له.
وفي الحديث أن النبي قال: {تعرّف على الله في الرخاء، يعرفك في الشدة} يعني أن العبد إذا اتقى الله، وحفظ حدوده، وراعى حقوقه في حال رخائه فقد تعرّف بذلك إلى الله وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة. فيعرفه ربه في الشدة، بمعنى أنه يفرجها له في الشدة، ويراعي له تعرّفه إليه في الرخاء فينجيه من الشدائد. وفي الحديث: {وما تقرب إليّ عبدي يشيء أحب إليّ مما افترضته عليه. ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} [رواه البخاري].
فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإعانه في حال شدته. كما قال - تعالى - عن نبيه يونس - عليه الصلاة والسلام - لما التقمه الحوت: "فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ " [الصافات:144،143] أي لصار له بطن الحوت قبراً إلى يوم القيامة.
قال بعض السلف: (اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس - عليه الصلاة والسلام - كان يذكر الله، فلما وقع في بطن الحوت قال الله - تعالى -: " فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ " [الصافات:144،143]، وإن فرعون كان طاغياً لذكر الله: " إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ"[يونس:90] فقال الله - تعالى -:" آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ " [يونس:91]).
ومن أعظم موانع الدعاء: أكل الحرام
فقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -: {الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام. فأنى يُستجاب لذلك} [رواه مسلم]. فقد أشار النبي إلى أن التمتع بالحرام أكلاً وشرباً ولبساً وتغذية أعظم مانع من قبول الدعاء وفي الحديث: {أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة}.
وقد ذكر عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه قال: (أصاب بني إسرائيل بلاء فخرجوا مخرجاً، فأوحى الله - عز وجل - إلى نبيهم أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إلى أكفاً قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام. الآن حين اشتد غضبي عليكم لن تزدادوا مني إلا بعداً).
فتنبهوا لأنفسكم أيها الناس، وانظروا في مكاسبكم ومأكلكم ومشربكم وما تغذون به أجسامكم، ليستجيب الله دعاءكم وتضرعكم.
ومن موانع قبول الدعاء: عدم الإخلاص فيه لله(/17)
لأن الله - تعالى - يقول: " فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " [غافر:14] وقال - تعالى -: " فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً " [الجن:18]. فالذين يدعون معه غيره من الأصنام وأصحاب القبور والأضرحة والأولياء والصالحين كما يفعل عباد القبور اليوم من الاستغاثة بالأموات، هؤلاء لا يستجيب الله دعاءهم إذا دعوه لأنهم لم يخلصوا له. وكذلك الذين يتوسلون في دعائهم بالموتى فيقولون: (نسألك بِفلان أو بجاهه) هؤلاء لا يستجاب لهم دعاء عند الله لأن دعاءهم مبتدع غير مشروع، فالله لم يشرع لنا أن ندعو بواسطة أحد ولا بجاهه، وإنما أمرنا أن ندعوه مباشرة من غير واسطة أحد. قال - تعالى -: " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ " [البقرة:186]، وقال - تعالى -: " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " [غافر:60]، وإن استجيب لهؤلاء فهو من الاستدراج والابتلاء. فاحذروا من الأدعية الشركية والأدعية المبتدعة التي تروج اليوم.
ومن موانع قبول الدعاء، أن يدعوا الإنسان وقلبه غافل
فقد روى الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة عن النبي قال: {ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه}.
ومن موانع قبول الدعاء: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - عن النبي قال: {والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم} [رواه الترمذي].
وقال الإمام ابن القيم: (الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب. ولكن قد يتخلف عنه أثره إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جداً. فإن السهم يخرج منه خروجاً ضعيفاً. وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليها). وقال: (الدعاء من أنفع الأدوية. وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه. ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل وهو سلاح المؤمن. كما روى الحاكم في مستدركه من حديث على بن أبي طالب قال: قال رسول الله: {الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض} وروى الحاكم أيضاً من حديث إبن عمر - رضي الله عنهما -عن النبي قال: {الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء} وعن عائشة - رضي الله عنها -قالت: قال رسول الله: {إن الله يحب الملحين في الدعاء}).
فالدعاء هو أعظم أنواع العبادة، لأنه يدل على التواضع لله، والافتقار إلى الله، ولين القلب والرغبة فيما عنده، والخوف منه - تعالى -، والاعتراف بالعجز والحاجة إلى الله. وترك الدعاء يدلك على الكبر وقسوة القلب والإعراض عن الله وهو سبب لدخول النار. قال - تعالى -: " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ " [غافر:60] كما أن دعاء الله سبب لدخول الجنة. قال - تعالى -: " وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ " [الطور:25-28] يخبر سبحانه عن أهل الجنة أنهم يسألون بعضهم بعضاً عن أحوال الدنيا وأعمالهم فيها، وعن السبب الذي أوصلهم إلى ما هم فيه من الكرامة والسرور أنهم كانوا في دار الدنيا خائفين من ربهم ومن عذابه، فتركوا الذنوب، وعملوا الصالحات وأن الله سبحانه منّ عليهم بالهداية والتوفيق. ووقاهم عذاب الحريق. فضلاً منه وإحساناً، لأنهم كانوا في الدنيا يدعونه أن يقيهم عذاب السموم، ويوصلهم إلى دار النعيم.
فادعوا الله أيها المسلمون، وأكثروا من دعائه مخلصين له الدين.
قال - تعالى -: " ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ " [الأعراف:56،55].
http://www.kalemat.org المصدر:
===============
البرنامج العملي للذة العبادة
عندما سئل بلال - رضي الله عنه - عن سبب صبره على الإيمان مع شدة تعذيبه وطرحه في رمضاء مكة الحارة فقال قولته المشهورة: "مزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان فطغت حلاوة الإيمان".
* هذا الموضوع عملي أكثر منه نظري ولا تقطف ثمرته إلا بالعمل والعزم والإرادة.
* شروط نجاح البرنامج:
* الشعور بالحاجة إلى هذا البرنامج.(/18)
* الإخلاص (إذا أردت الإخلاص فاسأل نفسك: لماذا عملت هذا العمل أليس طلباً للجنة وفراراً من النار ـ ومما يعين على الإخلاص القراءة في صفة الجنة والنار ـ ومعرفة الله حق المعرفة بمعرفة أسمائه وصفاته ـ وأن تعلم أن الناس لا ينفعون ولا يضرون وأن النفع والضر بيد الله - جل وعلا -).
* الصبر والمجاهدة. قال - تعالى - (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) وقال - تعالى - (والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).
* الاحتساب. وهو أن تعمل العمل لا ترجو به شيء من عرض الدنيا الزائل بل ترجوا الثواب من الله وحده.
* الدعاء..
* البرنامج العملي للذة العبادة:
هذا البرنامج هو أدنى الكمال وكلما زدت من العمل والعدد كان أفضل.
1) صيام ثلاثة أيام من كل شهر مع المحافظة على الصيام الموسمي (الست من شوال، وعرفة، وعاشوراء)
2) ختم القرآن كل شهر، طريقة قراءة القرآن قبل كل صلاة أربع صفحات (أوجه) فيقرأ كل يوم جزء فيختم القرآن كل شهر.
3) التبكير إلى الصلوات.
ضابط التبكير (إذا سمعت المؤذن يقول حي على الصلاة خرجت إلى المسجد لم يخرجك إلا الصلاة فأنت مبكر)..
ثمرات التبكير إلى الصلوات:
* إدراك تكبيرة الإحرام تكتب براءتان في حديث: (من أدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام أربعين يوماً كتبت له براءتان براءة من النفاق وبراءة من النار) هذا الحديث لا يصح مرفوعاً ويصح موقوفاً بالإجماع وله حكم الرفع لأن الصحابة لا يتكلمون من أنفسهم في مسائل الجنة والنار كما ذكر ذلك للشيخ سليمان العلوان.
* إدراك دعاء الملك واستغفاره لك.
* لا تفوتك صلاة جماعة أبداً.
* سبب لتعلق القلب في المساجد.
* أنه يكتب لك الأجر منذ جلوسك حتى خروجك.
4) المحافظة على السنن الرواتب (2- قبل الفجر 4- قبل الظهر 2- بعد الظهر 2- بعد المغرب 2- بعد العشاء) من حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى لله ثنتي عشرة ركعة من غير الفريضة بنى الله له بيتاً في الجنة)
5) المحافظة على ركعتي الضحى وتسمى صلاة الأوابين (الرجّاعين من الذنوب) وفي حديث كل سلامى (وهي المفاصل) من الناس عليه صدقة......) ويجزئ عنها ركعتي الضحى كما ذكر في آخر الحديث، وقال ابن رجب أن في الإنسان (360) مفصل وذكر ابن دقيق العيد في شرح الأربعين أنها وردت في رواية عند مسلم. والعجيب أن الطب الحديث اكتشف ذلك.
• وتبدأ من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى قبيل الزوال (قبل الظهر بثلث ساعة، وبعد الإشراق بربع ساعة).
6) احرص على أن تكون على طهارة غالب اليوم، ولماذا؟
ج/ لأنه معين على العمل الصالح ومطردة للكسل والشيطان.
7) حافظ على ركعتي الوضوء، ويبين فضلها حديث بلال عندما قال له - صلى الله عليه وسلم -: إني سمعت قرع نعليك في الجنة، فبين له أن سبب ذلك هو أنه لم يتوضأ إلا صلى لله ما كتب له.
س/ هل ركعتي الوضوء تصلى في وقت النهي؟
ج/ إذا كان من المحافظين عليها فإنها تدخل من ذوات الأسباب..
8) المحافظة على أذكار الاستغفار وخاصة (أذكار الصباح والمساء، والنوم، والدخول والخروج من المسجد ومن المنزل ومن الخلاء وغيرها) وأعظم الذكر هو كتاب الله - جل وعلا -..
9) حافظ على ركعتين قبل النوم بنية أنها من صلاة الليل.
10) طلب العلم، كأن تحفظ كتاب الله - عز وجل - وتحضر الدروس وتقرأ من كتاب، وطريقة مجربة، اقرأ في اليوم مالا يقل عن ربع ساعة واجعل بجانبك دفتر فتسجل فيه ما استفدت فيه من القراءة..
11) الشفع والوتر.
12) الصدقة يومياً (أو أسبوعياً) ولو بريال، لأنك لو تصدقت يومياً لدعا لك يومياً ملك، وفي مداومة على عمل صالح وهو مما يورث لذة العبادة.
13) المحاسبة قبل النوم، كيف تكون المحاسبة؟
ج/ تكون المحاسبة في: هل ازددت علماً، وكيف كانت عبادتك، ومحاسبة النفس في الدعوة إلى الله - عز وجل -، محاسبة النفس في الدعوة إلى الله - عز وجل -، والمحاسبة في التفريط في الطاعة وفي عمل المعاصي، واجعله في كتاب لا ينظر فيه غيرك.
14) تجديد التوبة، يقول - صلى الله عليه وسلم -: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة) أو كما قال - عليه الصلاة والسلام -.
15) التفكر... (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار).
16) سلامة القلب من الأمراض (الحقد – الحسد – الخ.....).
17) الدعوة إلى الله..
18) ترك المعصية لأجل الله..
19) بر الوالدين.
20) صلة الرحم.
http://www.twbh.com المصدر:
===============
السلف والعبادة1/3
من هدي السلف في العبادة:
قال الوليد بن مسلم: رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه، يذكر الله حتى تطلع الشمس، ويخبرنا عن السلف: أن ذلك كان هديهم، فإذا طلعت الشمس، قام بعضهم إلى بعض، فأفاضوا في ذكر الله، والتفقه في دينه.
معنى الخشوع:(/19)
سئل الأوزاعي عن الخشوع في الصلاة، قال: غض البصر، وخفض الجناح، ولين القلب، وهو الحزن، الخوف.
من كان بالله أعرف كان منه أخوف
روى حماد بن زيد عن أيوب قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة، فإن قضى الله موتا، دفنت في موضع القبر الرابع مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قال: والله لأن يعذبني الله بغير النار أحب إلي من أن يعلم من قلبي أني أراني لذلك أهلا.
التوازن عند السلف:
قال بلال بن سعد: أدركتهم يشتدون بين الأغراض يضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهبانا.
تأثر السلف بالجنائز:
قال ثابت البناني: كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعا باكيا أو متقنعا متفكرا.
العابد الرباني وهيب بن الورد. قال ابن إدريس: ما رأيت أعبد منه.
وقال ابن المبارك: قيل لوهيب: يجد طعم العبادة من يعصي؟ قال: ولا من يهم بالمعصية.
وصفة في مكابدة الشيطان ومغالبته:
قال الحارث بن قيس العابد الفقيه التابعي: إذا كنت في الصلاة، فقال لك الشيطان: إنك ترائي، فزدها طولا.
لم يكن أهل البيت من الغافلين:
ابن أم عبد الصحابي الجليل رجله في الميزان أثقل من جبل أحد أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَوْمًا بَعْدَ مَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ فَسَلَّمْنَا بِالْبَابِ فَأَذِنَ لَنَا قَالَ فَمَكَثْنَا بِالْبَابِ هُنَيَّةً قَالَ فَخَرَجَتِ الْجَارِيَةُ فَقَالَتْ أَلا تَدْخُلُونَ فَدَخَلْنَا فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ يُسَبِّحُ فَقَالَ مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا وَقَدْ أُذِنَ لَكُمْ فَقُلْنَا لا إِلا أَنَّا ظَنَنَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ نَائِمٌ قَالَ ظَنَنْتُمْ بِآلِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ غَفْلَةً قَالَ ثُمَّ أَقْبَلَ يُسَبِّحُ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ فَقَالَ يَا جَارِيَةُ انْظُرِي هَلْ طَلَعَتْ قَالَ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَطْلُعْ فَأَقْبَلَ يُسَبِّحُ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ قَالَ يَا جَارِيَةُ انْظُرِي هَلْ طَلَعَتْ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هِيَ قَدْ طَلَعَتْ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَقَالَنَا يَوْمَنَا هَذَا فَقَالَ مَهْدِيٌّ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَلَمْ يُهْلِكْنَا بِذُنُوبِنَا قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ كُلَّهُ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ إِنَّا لَقَدْ سَمِعْنَا الْقَرَائِنَ وَإِنِّي لأَحْفَظُ الْقَرَائِنَ الَّتِي كَانَ يَقْرَؤُهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنَ الْمُفَصَّلِ وَسُورَتَيْنِ مِنْ آلِ حم *
كثرة بكائه من خشية الله (ابن عمر)
بإسناد رجاله ثقات عن نافع: كان ابن عمر إذا قرأ: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } بكى حتى يغلبه البكاء
بإسناد رجاله ثقات عن محمد بن زيد: أن ابن عمر كان له مهراس فيه ماء، فيصلي فيه ما قدر له، ثم يصير إلى الفراش يغفي إغفاءة الطائر، ثم يقوم، فيتوضأ ويصلي، يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمسة
وعن نافع: كان ابن عمر لا يصوم في السفر، ولا يكاد يفطر في الحضر.
قال ابن المبارك:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليس له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
سيد التابعين وزاهد العصر أبو مسلم الخولاني:
يؤدب ويروض نفسه بضربها:
قال عثمان بن أبي العاتكة: علق أبو مسلم سوطا في المسجد، فكان يقول: أنا أولى بالسوط من البهائم، فإذا فتر، مشق ساقيه سوطا أو سوطين (أي ضرب بسرعة). وكان يقول: لو رأيت الجنة عيانا أو النار عيانا ما كان عندي مستزاد.
كثرة صومه حتى في الجهاد:
عن عطية بن قيس، قال: دخل ناس من أهل دمشق على أبي مسلم وهو غاز في أرض الروم، وقد احتفر جُورة في فسطاطه، وجعل فيها نطعا وأفرغ فيه الماء وهو يتصلق فيه (وهو التقلب على جنبيه) فقالوا: ما حملك على الصيام وأنت مسافر؟ قال: لو حضر قتال لأفطرت، ولتهيأت له وتقويت؛ إن الخيل لا تجري الغايات وهن بُدًن، أو ما تجري وهن ضُمر، ألا وإن أيامنا باقية جائية لها نعمل.
عامر بن عبد قيس القدوة الولي الزاهد أبو عبد الله التميمي البصري
كان ثقة من عباد التابعين يشغل نفسه باقراء الناس.
قلبه معلق بالصلاة
عن الحسن أن عامرا كان يقول: من أُقرئ؟ فيأتيه ناس، فيقرئهم القرآن ثم يقوم فيصلي إلى الظهر، ثم يصلي إلى العصر، ثم يقرئ الناس إلى المغرب، ثم يصلي مابين العشائين، ثم ينصرف إلى منزله، فيأكل رغيفا، وينام نومة خفيفة، ثم يقوم لصلاته، ثم يتسحر رغيفا ويخرج.
تورمت قدماه من طول الصلاة:
كان عامر لا يزال يصلي من طلوع الشمس إلى العصر، فينصرف وقد انتفخت ساقاه فيقول: يا أمارة بالسوء، إنما خلقت للعبادة.(/20)
خشيته وخشوعه بين يدي الجبار:
عن أبي الحسن المجاشعي قال: قيل لعامر بن عبد قيس: أتحدث نفسك في الصلاة؟ قال: أحدثها بالوقوف بين يدي الله، ومنصرفي.
أنس بطاعة الله فبكى عند فقدها:
قال قتادة: لما احتضر عامر بن عبد قيس بكى، فقيل ما يبكيك؟ قال: ما أبيك جزعا من الموت، ولا حرصا على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل.
العابد التابعي هرم بن حيان العبدي،
قاد بعض الحروب في أيام عمر وعثمان، قال ابن سعد: كان عاملا لعمر، وكان ثقة، له فضل وعبادة.
مناداته للصلاة في الليل:
قال المعلى بن زياد: كان هرم يخرج في بعض الليل وينادي بأعلى صوته: عجبت من الجنة كيف نام طالبها؟ وعجبت من النار كيف نام هاربها؟ ثم يقول: { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا}
أقبل على الله بقلبك يقبل الناس عليك:
قال قتادة: كان هرم بن حيان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله، إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه ودهم.
الإمام القدوة أبو عمرو الأسود بن يزيد النخعي كان من رؤوس العلم والعمل.
يضرب بعبادته المثل:
قال الذهبي: وهو نظير مسروق في الجلالة والعلم والثقة والسن يضرب بعبادهما المثل.
ملازته للعبادة ومداومته عليها:
سئل الشعبي عن الأسود بن يزيد فقال: كان صواماً قواماً حجاجاً.
وقال أبو إسحاق: حج الأسود ثمانين، من بين حجة وعمرة.
وكان يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال.
حياؤه من الله - جل وعلا -:
عن علقمة بن مرثد قال: كان الأسود يجتهد في العبادة، ويصوم حتى يخضر ويصفر، فلما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: مالي لا أجزع، والله لو أتيت بالمغفرة من الله لأهمني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين آخر الذنب الصغير فيعفو عنه، فلا يزال مستحيا منه.
التابعي الجليل، فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها، الإمام، الحافظ، المجود، المجتهد الكبير، أبو شبل علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي عم الأسود.
يختم القرآن في خمس:
روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان علقمة يقرأ القرآن في خمس، والأسود في ست، وعبد الرحمن بن يزيد في سبع.
التابعي الإمام، القدوة، العلم، أبو عائشة مسروق بن الأجدع الوادعي الهمداني.
تورمت قدماه من طول القيام:
روى أنس بن سيرين عن امرأة مسروق قالت: كان مسروق يصلي حتى تورم قدماه، فربما جلست أبكي مما أراه يصنع بنفسه.
قال العجلي: تابعي ثقة، كان أحد أصحاب عبد الله الذين يقرئون القرآن ويفتون. وكان يصلي حتى ترم قدماه.
حج فلم ينم إلا ساجدا:
روى شعبة عن أبي إسحاق، قال: حج مسروق فلم ينم إلا ساجداً على وجهه حتى رجع.
آنس نفسه في الصلاة فما يأسى إلا عليها:
قال سيعد بن جبير، قال لي مسروق: ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب، وما آسى على شيء إلا السجود لله - تعالى -.
العلم الخشية
الأعمش عن مسلم عن مسروق قال: كفى بالمرء علما أن يخشى الله - تعالى -، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعمله.
مرة الطيب، ويقال له أيضا: مرة الخير لعبادته وخيره وعلمه، وهو مرة بن شراحيل الهمداني الكوفي، مخضرم كبير الشأن روى عن أبي بكر وعمر وابن مسعود.
أكل التراب جبهته:
وثقه يحي بن معين. وبلغنا عنه أنه سجد لله حتى أكل التراب جبهته.
وقال عطاء بن السائب: رأيت مصلى مرة الهمداني مثل مبرك البعير.
قال الذهبي: ما كان هذا الولي يكاد يتفرغ لنشر العلم، ولهذا لم تكثر روايته، وهل يراد من العلم إلا ثمرته.
أشبه الناس هديا وصلاة وخشوعا برسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
عمرو بن الأسود العنسي الحمصي، أدرك الجاهلية والإسلام، كان من سادة التابعين دينا وورعا.
حج عمرو بن الأسود، فلما انتهى إلى المدينة، نظر إليه ابن عمر وهو يصلي فسأل عنه، فقيل: شامي يقال له: عمرو بن الأسود، فقال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة ولا هديا ولا خشوعا ولا لبسة برسول الله – صلى الله عليه وسلم - من هذا الرجل.
ثم بعث إليه ابن عمر بقرى وعلف ونفقة، فقبل ذلك ورد النفقة.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: من سره أن ينظر إلى هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فلينظر إلى هدي عمرو بن الأسود.
الأمير الكبير، العالم النبيل، أبو بحر الأحنف بن قيس التميمي، أحد من يضرب بحلمه وسؤدده المثل، وفد على عمر.
صيام مع الكبر إعداد للسفر الطويل:
قيل للأحنف: إنك كبير، ولا صوم يضعفك. قال إني أعده لسفر طويل. وقيل: كانت عامة صلاة الأحنف بالليل.
محاسبته لنفسه بالمصباح
كان الأحنف يضع أصبعه على المصباح، ثم يقول: حس. ويقول: ما حملك يا أحنف على أن صنعت كذا يوم كذا.
ذهبت عينه منذ سنين فلم يشكو لأحد
قال مغيرة: ذهبت عين الأحنف فقال: ذهبت من أربعين سنة ما شكوتها إلى أحد.
الإمام القدوة شيخ الإسلام أبو محمد البناني، مولاهم البصري.
معنى العبادة عنده(/21)
ولد في خلافة معاوية. وحدث عن ابن عمر، وعبد الله بن مغفل المزني، وأبي برزة الأسلمي، وأنس بن مالك وغيرهم.
عن سليمان بن المغيرة قال: سمعت ثابتا البناني يقول: لا يسمى عابدا أبدا عابدا وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان: الصوم والصلاة؛ لأنهما من لحمه ودمه.
قال بكر المزني: من أراد أن ينظر إلى أعبد أهل زمانه فلينظر إلى ثابت البناني، فما أدركنا الذي هو أعبد منه.
قال شعبة: كان ثابت البناني يقرأ القرآن في كل يوم وليلة، ويصوم الدهر.
تنعم بالصلاة بعد المكابدة
قال ثابت: كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة.
بكاؤه وخشوعه
قال حماد بن زيد: رأيت ثابتا يبكي حتى تختلف أضلاعه.
وقال جعفر بن سليمان: بكى ثابت حتى كادت عينه تذهب، فجاؤوا برجل يعالجها، فقال: أعالجها على أن تطيعني. قال: وأي شيء؟ قال: على أن لا تبكي.، فقال: فما خيرهما إذا لم يبكيا، وأبى أن يتعالج.
وقرأ ثابت: { تطلع على الأفئدة } قال تأكله إلى فؤاده وهو حي لقد تبلغ فيهم العذاب ثم بكى وأبكى من حوله.
وقال حماد بن سلمة: قرأ ثابت: { أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا } وهو يصلي صلاة الليل ينتحب ويرددها.
الربيع بن خثيم هو ابن عائذ أبو يزيد الثوري الكوفي،
الإمام القدوة العابد، أحد الأعلام، وكان يعد من عقلاء الرجال، أدرك زمان الرسول – صلى الله عليه وسلم - وأرسل عنه.
اتهامه لنفسه:
عن بشير قال بت عند الربيع ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية ((أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون)) قال فمكث ليلته حتى أصبح ما يجوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد).
الخشوع، وسلامة القلوب وحب الخير للأمة لأن الدعوة همتهم:
عن بكر بن ماعز قال أعطي الربيع فرساً أو اشترى فرساً بثلاثين ألفاً فغزا عليها قال ثم أرسل غلامه يحتش وقام يصلي وربط فرسه فجاء الغلام فقال يا ربيع أين فرسك قال سرقت يا يسار قال وأنت تنظر إليها قال: (نعم يا يسار أني كنت أناجي ربي - عز وجل - فلم يشغلني عن مناجات ربي شيء اللهم انه سرقني ولم أكن لأسرقه اللهم إن كان غنياً فاهده وإن كان فقيراً فاغنه)، (ثلاث مرات).
الإسرار بالعمل الصالح:
عن سفيان قال أخبرتني سرية الربيع بن خيثم قالت:(كان عمل الربيع كله سراً إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه).
الحرص على العمل الصالح:
حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن حبان حدثني أبي قال كان الربيع بعد ما سقط شقه يهادى بين رجلين إلى مسجد قومه وكان أصحاب عبد الله يقولون يا أبا يزيد قد رُخص لك لو صليت في بيتك فيقول: إنه كما تقولون ولكني سمعته ينادي حي على الفلاح فمن سمعه منكم ينادي حي على الفلاح فيلجبه ولوزحفاً ولو حبواً).
زيارة المقابر من سبل تزكية النفس وترقيق القلب:
عن بن فروخ قال: (كان الربيع بن خيثم إذا كان الليل ووجد غفلة الناس خرج إلى المقابر فيجول في المقابر يقول: (يا أهل القبور كنتم وكنا، فإذا أصبح كأنه نشر من أهل القبور).
بكاؤه:
عن نسير بن ذعلوق قال: (كان الربيع بن خيثم يبكي حتى يبل لحيته من دموعه فيقول أدركنا قوماً كنا في جنوبهم لصوصاً)
الخشية و الخوف أقلقا مضجعه:
عن سفيان قال بلغنا عن أم الربيع بن خيثم كانت تنادي ابنها ربيع تقول يا ربيع ألا تنام فيقول يا أمه من جن عليه الليل وهو يخاف السيئات حق له ألا ينام قال فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت يا بني لعلك قتلت. قتيلا قال نعم يا والدة قد قتلت قتيلا، فقالت ومن هذا القتيل يا بني حتى نتحمل إلى أهله فيغتفرك والله لو يعلمون ما تلقى من السهر والبكاء بعد لقد رحموك فقال يا والدة هو نفسي)
مسلم بن يسار الإمام، القدوة الفقيه، الزاهد، كان خامس خمسة من فهاء البصرة.
روى عن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم -.
هكذا المناجاة لله - تعالى - والخشية والخشوع:
عن عبد الله بن مسلم بن يسار: إن أباه كان إذا صلى كأنه ودٌ لا يميل لا هكذا ولا هكذا.
وقال غيلان بن جرير: " كان مسلم بن يسار إذا صلى كأنه ثوب ملقى"
عن ميمون بن حيان قال: (ما رأيت مسلم بن يسار متلفتاً في صلاته قط خفيفة ولا طويلة ولقد انهدمت ناحية من المسجد، فزع أهل السوق لهدته وأنه لفي المسجد في صلاته فما التفت).
حدثنا عبد الله حدثني أبي معتمر قال بلغني أن مسلماً كان يقول لأهله: (إذا كانت لكم حاجة فتكلموا وأنا أصلي).
حدثنا عبد الله حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا علي بن المبارك عن سليمان بن المغيرة عن صاحب عن ابن مسلم بي يسار أن أهل الشام لما دخلوا هزموا أهل البصرة زمن ابن الأشعث فصوت أهل دار مسلم بن يسار فقالت له أم ولده أما سمعت الصوت قال ما سمعته).
عن عبد الحميد بن عبد الله بن مسلم بن يسار عن أبيه قال:(كان مسلم إذا دخل المنزل سكت أهل البيت فلا يسمع لهم كلام وإذا قام يصلي تكلموا وضحكوا).(/22)
عن زيد عن بعض البصرين أن مسلماً كان يصلي في المسجد قال فوقع بعض المسجد ففزع بعض أهل المسجد قال ومسلم في بعض المسجد ما تحرك)
وروي أنه: " وقع حريق في داره وأطفئ، فلما ذكر ذلك له قال: ما شعرت "
http://www.taiba.org المصدر:
==============
السلف والعبادة 2/3
الإمام الحافظ القدوى و شيخ الإسلام، محمد بن المكدر بن عبد الله التيمي القرشي
ولد سنة بضع وثلاثين.
قال الفسوي: هو غاية في الإتقان والحفظ والزهد، حجة.
قال أبو حاتم البستي: كان من سادات القراء لا يتمالك البكاء إذا قرأ حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
مجاهدة النفس وترويضها على الطاعة:
قال ابن المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت.
بكاؤه من خشية الله:
بينا ابن المنكدر ليلة قائم يصلي إذ استبكى و فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله، وسألوه، فاستعجم عليهم، وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء إليه، فقال: ما الذي أبكاك؟ قال: مرت بي أية، قال: وما هي؟ قال: [وبدالهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون] فبكى أبو حازم معه فاشتد بكاؤهما.
وقد جزع ابن المنكدر عند الموت، فقيل له: لم تجزع؟ قال: أخشى آية من كتاب الله: [وبدالهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون] فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب.
تمتعه في قيام الليل:
قال ابن المنكدر: إني لأدخل في الليل فيهولني، فأصبح حين أصبح وما قضيت منه أربي.
عطاء بن أبي رباح هو الإمام شيخ الإسلام، مفتي الحرم، أبو محمد القرشي مولاهم.
ولد في أثناء خلافة عثمان، وحدث عن عائشة وأم سلمة، وأم هانئ، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر وغيرهم من الصحابة.
وكان ثقة، فقيها، عالما، كثير الحديث.
وكان بنو أمية يأمرون في الحج مناديا يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح.
طول الصلاة مع كبر السن:
وعن ابن جريج صحبت عطاء ثماني عشرة سنة، وكان بعد ماكبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مئتي آية من البقرة وهو قائم لا يزول منه شيء ولا يتحرك.
الإمام القدوة ربيعة بن يزيد لم يؤذن للصلاة إلا وهو في المسجد.
"ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضاً أو مسافراً.
الإمام الثقة صفوان بن سليم الزاهد العابد.
يطرد النوم عن نفسه بالبرد وشدة الحر:
كان يصلي على السطح في الليلة الباردة لئلا يجيئه النوم.
وعن مالك بن أنس: كان صفوان بن سليم يصلي في الشتاء في السطح، وفي الصيف في بطن البيت، يتيقظ بالحر والبرد، حتى يصبح، ثم يقول: هذا الجهد من صفوان وأنت أعلم، وإنه لترم رجلاه حتى يعود كالسقط من قيام الليل، ويظهر فيه عروق خضر.
سليمان بن طرخان التيمي الإمام شيخ الإسلام، أبو المعتمر التيمي البصري.
نزل في بني تيم فقيل التيمي.
قال الإمام أحمد: ثقة , وقال ابن معين والنسائي: ثقة، وقال العجلي: ثقة من خيار أهل البصرة. وقال ابن سعد من العباد المجتهدين، كثير الحديث ثقة.
قال سفيان حفاظ البصرة ثلاثة: سليمان التيمي، وعاصم الأحول، وداود بن أبي هند، وعاصم أحفظهم. وعن ابن علية قال: سليما التيمي من حفاظ البصرة.
تقاسم قيام الليل مع أسرته:
قال عبد الملك بن قريب الأصمعي: بلغني أن سليمان التيمي قال لأهله: هلموا حتى تجزئ الليل فإن شئتم كفيتكم أوله وإن شئتم كفيتكم آخره.
نشاط في العبادة لم يعرف الفتور:
روى مثنى بن معاذ عن أبيه قال: ما كنت أشبه عبادة سليمان التيمي إلا بعبادة الشاب أول ما يدخل في تلك الشدة والحِدة.
وقال: كنت إذا رأيت التيمي كأنه غلام حدث، قد أخذ في العبادة. كانوا يرون أنه أخذ عبادته عن أبي عثمان النهدي.
لا يحسن المعصية، دائم العمل:
قال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصليا، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئاً، أو عائداً مريضا، أو مشيعاً لجنازة، أو قاعدا في المسجد. وكنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله.
ذكر جرير بن عبد الحميد أن سليمان التيمي: لم تمر ساعة قط عليه إلا تصدق بشيء، فإن لم يكن شيء، صلى ركعتين.
شدة خوفه من الله:
قال يحي بن سعيد: ما جلست إلى أحد أخوف لله من سليمان التيمي.
نعم من كان بالله أعرف كان منه أخوف أولئك العلماء الربانين. فأين نحن منهم؟ وما نصيبنا من هذا الخوف والخشية؟
الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمد، شيخ الإسلام، وعالم أهل الشام، أبو عمرو الأوزاعي.
جلده في العبادة:
قال الوليد بن مزيد: كان الأوزاعي من العبادة على شيء ما سمعنا بأحد قوي عليه، ما أتى عليه زوال قط إلا وهو قائم يصلي.
وقال الوليد بن مسلم: ما رأيت أكثر اجتهادا في العبادة من الأوزاعي.
وقال ضمرة بن ربيعة: حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومئة، فما رأيته مضطجعا في المحمل في ليل ولا نهار قط، كان يصلي، فإذا غلبه النوم، استند إلى القتب.
كأنه أعمى من الخشوع:(/23)
قال إبراهيم بن سعيد الجوهري: حدثنا بشر بن المنذر قال: رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع.
مصلاه رطب من دموعه:
وكان يحي الليل صلاة وقرآنا وبكاء. وكانت أمه تدخل منزله، وتتفقد موضع مصلاه، فتجده رطبا من دموعه في الليل.
العالم الفقيه شيخ الإسلام ابن أبي ذئب.
بلغ به من العبادة بما لا مزيد عليها:
كان يصلي الليل أجمع، ويجتهد في العبادة، ولو قيل له: إن القيامة تقوم غدا، ما كان فيه مزيد من الاجتهاد.
الإمام الحجة الحافظ هشام الدستوائي.
شدة الخوف والخشية من الجبار:
عن عبيد الله العيشي قال: كان هشام الدستوائي إذا فقد السراج من بيته، يتململ على فراشه، فكانت امرأته تأتيه بالسراج. فقالت له في ذلك، فقال: إني إذا فقدت السراج، ذكرت ظلمة القبر.
فسدت عينه من كثرة البكاء:
وقال شاذ بن فياض: بكى هشام الدستوائي حتى فسدت عينه، فكانت مفتوحة، وهو لا يكاد يبصر بها.
وعن هشام قال: عجبت للعالم كيف يضحك. وكان يقول: ليتنا ننجو لا علينا ولا لنا.
الإمام الحافظ الثبت شيخ العراق مسعر بن كدام بن ظهير بن عبيدة.
طول السجود وقراءة نصف القرآن قبل النوم:
عن خالد بن عمرو قال: رأيت مسعرا كأن جبهته ركبة عنز من السجود.
وقال محمد بن مسعر: كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرآن.
وقال محمد بن مسعر: كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرآن، فإذا فرغ من ورده لف رداءه ثم هجع عليه هجعة خفيفة، ثم يثب كالرجل الذي ضل منه شيء فهو يطلبه، وإنما هو السواك والطهور، ثم يستقبل المحراب، فكذلك إلى الفجر،، وكان يجهد على إخفاء ذلك جدا.
وكان يقول:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة *** وليلك نوم، والردى لك لازم
وتَتعب فيما سوف تكره غبه *** كذلك في الدنيا تعيش البهائم
عبد العزيز بن أبي رواد شيخ الحرم أحد الأئمة العباد.
أعبد الناس:
قال ابن المبارك: كان من أعبد الناس.
وقال شقيق البلخي: ذهب بصر عبد العزيز عشرين سنة ولم يعلم به أهل ولا ولده.
أمير المؤمنين في الحديث الثبت الحجة شعبة بن الحجاج.
طول الصلاة:
قال أبو قطن: ما رأيت شعبة ركع قط إلا ظننت أنه نسي، ولا قعد بين السجدتين إلا ظننت أنه نسي.
جد وجلد لا يعرف الفتور أو الراحة:
وقال أبو بحر البكراوي: ما رأيت أحدا أعبد لله من شعبة، لقد عبد الله حتى جف جلده على عظمه وأسود.
وقال عمر بن هارون: كان شعبة يصوم الدهر كله.
وقال عفان: كان شعبة من العباد.
المحدث الثقة بشر بن الحسن الصفّي:
يقال له: (الصفي) لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة
إبراهيم بن ميمون المروزي:
أحد الدعاة المحدثين الثقات من أصحاب عطاء بن أبي رباح، وكانت مهنته الصياغة وطرق الذهب والفضة. قالوا: (كان فقيها فاضلا. من الامّارين بالمعروف).
لا يشغله عن الصلاة شيء:
وقال ابن معين: كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها).
كثير بن عبيد الحمصي
جمع الهم على الله في الصلاة:
سئل عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط وقد أم أهل حمص ستين سنة كاملة، فقال: (ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفس غير الله).
قاضي قضاة الشام سليمان بن حمزة المقدسي، وهو من ذرية ابن قدامة صاحب كتاب المغني:
لم يصل الفريضة منفرداً:
قال (لم أصل الفريضة قط منفرداً إلا مرتين، وكأني لم أصلهما قط) مع أنه قارب التسعين.
يا رجال الليل جدوا *** رب صوت لا يرد
ما يقوم الليل إلا *** من له عزم وجدٌّ
ويبصرني كيف الدنيا *** بالأمل الكاذب تغمسني
مثل الحرباء تلونها *** بالأثم تحاول تطمسني
فأبعدها وأعاندها *** وأرقبها تتهجسني
فأشد القلب بخالقه *** والذكر الدائم يحرسني
قيام الليل:
يحيون ليلهم بطاعة ربهم *** بتلاوة، وتضرع، وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم *** مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان، وعند جهادهم *** لعدوهم من أشجع الأبطال
بوجوههم أثر السجود لربهم *** وبها أشعة نوره المتلالي
المسارعة إلى الصلاة:
يمشون نحو بيوت الله إذا سمعوا *** الله أكبر في شوق وفي جذل
أرواحهم خشعت لله في أدب *** قلوبهم من جلال الله في وجل
نجواهم: ربنا جئناك طائعة *** نفوسنا، وعصينا خادع الأمل
إذا سجى الليل قاموه وأعينهم *** من خشية الله مثل الجائد الهطل
هم الرجال فلا يلهيهم لعب *** عن الصلاة، ولا أكذوبة الكسل
قال ابن المبارك:
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله *** إذا كنت فارغاً مستريحا
وإذا هممت بالنطق بالباطل *** فاجعل مكانه تسبيحا
http://www.taiba.org المصدر:
===============
السلف والعبادة 3 / 3
تتكدر العبادة ويذهب صفاؤها بالهوى:
قال أحد السلف:"الهوى لا يترك العبودية تصفو، وما لم يشتغل السالك بأضعاف هذا العدو الذي بين جنبيه لا يصح له قدم، ولو أتى بأعمال تسد الخافقين. والرجل كل الرجل من داوى الأمراض من خارج، وشرع في قلع أصولها من الباطن، حتى يصفو وقته، ويطيب ذكره، ويدوم أنسه"
ولذلك كان السلف الصالح يجدون من لذة التعبد مالا يكافؤه لذة الدنيا بأسرها.
ضعف العبادة من العقوبات:(/24)
وقال مالك: (إن لله - تبارك و تعالى - عقوبات في القلوب والأبدان وضنكاً في المعيشية وسخطاً في الرزق ووهناً في العبادة).
أعبد أهل مصر:
أبو تميم الجَيشاني من أئمة التابعين بمصر ولد في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم - وقدم المدينة في خلافة عمر.
قال يزيد بن أبي حبيب: كان من أعبد أهل مصر.
التوازن في شخصية المسلم وإعطاء كل ذي حق حقه
التوازن صمام أمان في جميع الأحوال ومنها:
1ـ وقت المحن والمصائب، والشدائد العامة والخاصة.
2ـ وعندما تلوح الشهوات.
3ـ وحين ترد الشبهات.
4ـ وحين تأخر الثمار.
لتكن هممكم عالية:
عن مالك بن دينار قال: (إن صدور المؤمنين تغلي بأعمال البر وإن صدور الفجار تغلي بأعمال الفجور والله - تعالى - يرى همومكم فانظروا ما همومكم رحمكم الله)
هكذا كان جدهم وتيقظهم:
عن إبراهيم التيمي قال حدثني من صحب الربيع بن خيثم عشرين سنة قال فما سمعت منه كلمة تعاب).
روى منصور بن إبراهيم قال: قال فلان: ما أرى الربيع بن خثيم تكلم بكلام منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعد. وعن بعضهم قال: صحبت الربيع عشرين عاما ما سمعت منه كلمة تعاب"
تلك الهمم العالية والدأب الذي لا يهدأ
قال إبراهيم الحربي عن الإمام أحمد:
قال إبراهيم الحربي: (ولقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً وحراً وبرداً وليلاً ونهاراً فما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس)
الإمام أحمد يهتم بأهل الخير ويتفقدهم ويعقد الصلات معهم:
قالوا كان الإمام أحمد (إذا بلغه عن شخص صلاح، أو زهد، أو قيام بحق أو اتباع للأمر: سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله)
سئل رجل ابن الجوزي: (أيجوز أن أفسح لنفس في مباح الملاهي)؟
فقال: (عند نفسك من الغفلة ما يكفيها)
قال ابن القيم - رحمه الله -: (لا بد من سنة الغفلة، ورقاد الغفلة ولكن كن خفيف النوم)
وانته من رقدة الغفلة فالعمر قليل واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل
قال الإمام الشافعي: (طلب الراحة في الدنيا لا يصلح لأهل المروءات فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان)
سئل أحد الزهاد عن سبيل المسلم ليكون من صفوة الله، قال: (إذا خلع الراحة، وأعطى المجهود في الطاعة)
قيل للإمام أحمد: (متى يجد العبد طعم الراحة)؟ قال (عند أول قدم يضعها في الجنة)
أوقف نفسك على مصالح المسلمين:
قالت فاطمة بنت عبد الملك تصف زوجها عمر بن عبد العزيز: (كان قد فرغ للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه: وصل يومه بليلته)
قال بعض أصحاب عمر القدامى لعمر: (لو تفرغت لنا) فقال: (وأين الفراغ؟ ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله)
استغرق أوقاته في الخير:
قالوا عن محمد بن أحمد الدباهي: (لازم العبادة، والعمل الدائم والجد، واستغرق أوقاته في الخير.. صلب في الدين، وينصح الإخوان، وإذا رآه إنسان: عرف الجد في وجهه)
ولما تعجب غافل من باذل وقال له:(إلى كم تتعب نفسك؟).كان جواب الباذل سريعاً حاسماً:
(راحتها أريد)
ليس للفراغ عليهم سبيل:
قال ابن عقيل: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي، وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة"
وقال:"أنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز، لأجل ما بينهم من تفاوت المضغ، توفرا على مطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه"
المبادرة لا التسويف:
قال يحيى بن معاذ: (لا يزال العبد مقروناً بالتواني، مادام مقيماً على وعد الأماني)
حفت الجنة بالمكاره:
(وأتعب الناس من جلّت مطالبه)
لا تنال الدعوة بالكسل والهمم الدنيئة
قال أحد السلف لرويم الزاهد أوصني فقال:"هو بذل الروح وإلا فلا تشتغل بالترهات"
وقال ابن الجوزي:"أول قدم في الطريق بذل الروح... هذه الجادة فأين السالك؟ ?
وقال لسان الدين ابن الخطيب:"طريق القوم مبنية على الموت"
إن نفسا ترتضي الإسلام دينا *** ثم ترضى بعده أن تستكينا
أو ترى الإسلام في أرض مهينا *** ثم تهوى العيش نفس لن تكونا
في عداد المسلمين العظماء
نصر الدين ليس بالمجان
أعطوا ضريبتهم للدين من دمهم *** والناس تزعم نصر الدين مجانا
عاشوا على الحب أفواها وأفئدة *** باتوا على البؤس والنعماء إخوانا
الله يعرفهم أنصار دعوته *** والناس تعرفهم للخير أعوانا
أنت وقف في سبيل الله
"والنبي – صلى الله عليه وسلم - كانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده، ولهذا كان أرفع العالمين ذكرا، وأعظمهم عند الله قدرا"(/25)
(وطالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة، بل وإلى كل علم وصناعة ورئاسة، بحيث يكون رأساً في ذلك مقتداً به فيه، يحتاج أن كون شجاعاً مقداماً، حاكماً على وهمه، غير مقهور تحت سلطان تخيله، زاهداً في كل ما سوى مطلوبه عاشقاً لما توجه إليه، عارفاً بطريق الوصول إليه، والطرق القواطع عنه، مقدام الهمة، ثابت الجأش، لا يثنيه عن مطلوبه لوم لائم ولا عذل عاذل، كثير السكون، دائم الفكر، غير مائل مع لذة المدح ولا ألم الذم، قائماً بما يحتاج إليه من أسباب معونته، لا تستفزه المعارضات، شعاره الصبر وراحته التعب)
همان يتطاردان:
حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا سيار حثنا جعفر قال سمعت مالكاً يقول: (بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج هم الآخرة من قلبك وبقدر ما تحزن للآخرة كذلك يخرج هم الدنيا من قلبك).
جهل غيرك لا يغلب علمك
قال خالد بن صفوان: (إن أقواماً غرهم ستر الله، وفتنهم حسن الثناء، فلا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك).
قال قتادة بن دعامة السدوسي:
(قد رأينا والله أقواماً يسرعون إلى الفتن وينزعون فيها، وأمسك أقواماً عن ذلك هيبة لله ومخافة منه، فلما انكشفت، إذا الذين امسكوا أطيب نفساً، وأثلج صدوراً، وأخف ظهوراً من الذين أسرعوا إليها وينزعون فيها، وصارت أعمال أولئك حزازات على قلوبهم كلما ذكروها. وأيم الله! لو أن الناس كانوا يعرفون منها إذ أقبلت ما عرفوا منها إذ أدبرت لعقل فيها جيل من الناس كثير).
صاحب القلب المريض ينكشف عند الغبرة
في وقت الرخاء والأمن تختلط الصفوف، ويصعب التمييز، فإذا وقعت الشدائد ونزلت الفتن اتضح الناس على حقيقتهم، كمثل المصدور عند صغاء الجو يختلط مع الأصحاء ولا ينكشف أمره إلا عند الغبرة. قال - تعالى - [ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله ما يشاء].
(تعرض الفتن على القلوب كالحصير، عوداً عوداً، فأي قلبٍ أشربها نكت فيه نكتت سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكت بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، ولآخر أسود مرباداً، كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه).
http://www.taiba.org المصدر:
===============
الآثار السلوكية لتوحيد العبادة
د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
المهمة التي خلق الله البشر من أجلها هي عبادته وحده لا شريك له، قال الله - تعالى - : "وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ" الذاريات: 56 لكن الله - جل وعلا - مستغن عن الخلق كلهم، ولا حاجة له تبارك و تعالى - لعبادتهم كما جاء في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً) [1] ، وقد قال الله - تبارك وتعالى - :" لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ "الحج: 37 لكن نفع العبادة حاصل لنا أولاً وأخيراً، ولهذا قال العلماء: إن مبنى الشريعة على تحصيل مصالح العباد في الدنيا والآخرة.
فعبادة الله - جل وعلا - هي المنهج الذي يحفظ لهذا الكون انتظامه وسيره دونما تخبط في أي ناحية من نواحي الحياة، وعلى أي مستوى من المستويات، وإن اختلال هذه العبادة اختلال لنظام هذا الكون، وبالتالي دخوله في دهاليز الضلال والانحطاط والفساد، على جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، قال الله - تعالى - :" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَاًتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ " الرعد: 41 .
فأداء العبادة كما أمر الله بها هو سبيل سعادة هذه البشرية بأكملها.
فالعبادة هي الزمام الذي يكبح جماح النفس البشرية، أن تلغ في شهواتها، وهي السبيل الذي يحجز البشرية عن التمرد على شرع الله - تعالى - .
فالخلل في أداء العبادة مؤذن بالخلل في الكون. فأعظم مقاصد العبادة حصول التقوى التي هي الحاجز عن وقوع الإنسان في المعاصي، وهي كذلك المحرك الفعال لهذه النفس حتى تنطلق من قيود الأرض،
فترفرف في علياء السماء، وتنطلق في أفعال الخير بشتى صوره.
فإذا كان مردود العبادة من التقوى والخشوع لله - عز وجل - ضعيفاً أو ميتاً، فإن الهدف الذي شرعت من أجله العبادة لم يتحقق وبالتالي: تكون العبادة وكأنها لم تؤدّ.
ولنتأمل هذه النصوص القرآنية والنبوية: "فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أََوْ إثْماً فَأََصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "البقرة: 182".. وَأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ.."
العنكبوت: 45.(/26)
ويقول الرسول: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) 2.
فليس المقصود من العبادة مجرد الحركات الظاهرة التي تمارسها الجوارح دون أن تؤثر في الباطن، وإنما المقصود مع ذلك: عمل القلب، من الإخبات والتذلل والخضوع بين يدي الله - عز وجل - ، وذلك روح العبادة ولبها. إن الذي يؤدي العبادة أي عبادة كانت ولم يقم في قلبه أثناء ذلك مقام العبودية لله - عز وجل - فكأنه ما أدى تلك العبادة وبمعنى آخر فقد أدى صورة العبادة لا حقيقتها.
فشرود القلب في مواطن العبادة هو من أعظم الآفات التي تعرض للإنسان في سيره لله - عز وجل - لأن العبادة بقلب شارد غافل لاه، لا تترك الأثر المطلوب على النفس الإنسانية، فلا يحصل الإنسان بها على الأجر المطلوب.
ولذلك يقول الرسول: (إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها) [3" .
ومع استمرار الغفلة، وشرود القلب في مواطن العبادة تصبح العبادة مجرد حركات ظاهرة، ليس لها أي أثر على قلب صاحبها، ومن ثم: ليس لها أي أثر على تصرفاته، فتصبح العبادة عادة.
وهذا ما يفسر لنا ما نراه من سلوك بعض الناس المخالف لشرع الله في المعاملة وفي الخُلُق مع أنهم من المصلين ومن رواد المساجد، بل ربما من قارئي القرآن ومن صائمي هواجر الأيام، لذلك يلاحظ الفرق الكبير بين من يصلي ثم ينصرف من صلاته كما دخل فيها، وبين من إذا وقف استشعر أنه واقف بين يدي
الله، فاستحضر نية التقرب إلى الله - عز وجل - عند شروعه في الصلاة، وقام وفي قلبه مقام العبودية لله - عز وجل -، وشعر بالانكسار بين يدي العزيز الجبار، ثم إذا قرأ القرآن أو تلاه أو ذكر الأذكار واطأ قلبه لسانه، فإذا قال مثلاً:" اهدنا الصراط المستقيم "، فهو قد سأل الله أن يهديه الصراط المستقيم، وهكذا حتى ينصرف من صلاته، انظر إلى حال هذا الرجل وحال من دخل في صلاته وقلبه في مكان آخر، فالقرآن والأذكار تتردد على لسانه، دون أن تتجاوزه إلى عقله أو فكره.
وانظر إلى من إذا انصرف من صلاته قال: (استغفر الله) ثلاث مرات، وقلبه يطلب العفو والمغفرة من الله على ما حصل من تقصيره في هذه العبادة، وانشغال قلبه بغير الله فيها. ولا يقتصر الأمر على الصلاة، بل إنه عام في جميع العبادات أو أغلبها، انظر إلى الصيام.. تلك العبادة العظيمة التي يقول الله - عز وجل - فيها: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) 4 . أن كثيراً من الناس لا يشعرون بأثر للصيام على نفوسهم، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر) 5" أي: غله وحقده، فالصوم يقطع أسباب التعبد لغير الله، ويورث الحرية من الرق للمشتبهات؛ لأن المراد من الحرية أن يملك الأشياء ولا تملكه 6 ، هل يفعل الصيام بنا هذا؟!، بل إن الله - عز وجل - قال:" يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [لأجل ّ" لعلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183" فإذا لم يحدث الصيام للإنسان تلك التقوى، فإنه لم يحقق الغرض الذي شرعه الله من أجله، ولكن.. ما السبب في عدم إحداثه للتقوى في النفوس؟
الأسباب كثيرة، أعظمها: أن الصيام وهو عبادة من العبادات أصبح عند كثير من الناس مجرد عادة، يدخل الإنسان فيه دون أن يستحضر نية التقرب لله - عز وجل - بهذه العبادة، وفي أثناء الصوم ترى قلبه غافلاً لاهياً عن التذكر والتفكر في هذه العبادة العظيمة.
وفي المقابل: انظر إلى ذلك الرجل الذي قام من أجل السحور، تذكر أنه يأكل هذه الأكلة من أجل أن يتقوى على الصيام الذي يتقرب به إلى الله - عز وجل - ، وفي أثناء صومه وكلما تذكر الطعام أو الشراب أو غيرهما من المحظورات، حدث نفسه وعالج قلبه بأنه إنما يفعل ذلك حبّا وتقرباً إلى الله، حتى يأتي يوم القيامة وقد وضع في ميزان أعماله صيام ذلك اليوم، ثم إذا أفطر فرح بهذا الإفطار وانتظر فرحه الآخر بهذا الصوم حين يلقى ربه - جل وعلا - ، فقلبه أثناء الصوم أو في أغلبه منشغل بالتعبد لله - عز وجل - فهذا هو الصيام الذي رتب الله عليه ذلك الأجر العظيم، وهذا هو الصيام الذي يعالج النفس والقلب من أمراضها وأدرانها.
ولنضرب مثالاً أخيراً، لنتفكر في عبادة الذكر، ذكر الله - عز وجل - ثم لننظر إلى عظيم الجزاء والأجر الذي أعده الله للذاكرين الله كثيراً والذاكرات، ويكفي في التمثيل بهذا الأجر حديث أبي الدرداء عند الحاكم: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم...).
هذه هي قيمة الذكر الصادق والجزاء الكبير من الله - تعالى - للذاكرين، وليس الذكر هو الدعاوى الفارغة التي يؤديها المتصوفة من المكاء والتصدية والرقص ويزعمون أنها ذكر.(/27)
إذن: لابد أن الأمر ليس بهذه السهولة أو البساطة، لابد من أن تُحقّقَ معاني العبودية لله - عز وجل - في عبادة الذكر ربما أكثر منه في تلك العبادات الأخرى، ولا يمكن أن يكون الذكر مجرد حركات سهلة باللسان ليس لها أي أثر على القلب ومن ثم على كيان صاحبها وواقعه.
إن الذي يقول (لا إله إلا الله) يرددها لسانه وقلبه مستحضراً للمعنى المراد من هذه الكلمة وهو الإقرار بالعبودية الخالصة لله وحده، الذي يقولها بهذه الصورة يحدث في قلبه وكيانه انخلاع من عبودية ما سوى الله، ثم تنجذب روحه إلى السماء ، إلى الله - تبارك وتعالى - محبة واتباعاً.
هل يتصور أن من يحدث له ذلك يطيع ما سوى الله في صغيرة أو كبيرة، أم يتبع هواه أو شهوته، أم يقع في قلبه خوف أو وجل من تلك الآلهة المزعومة، أو أي حب لها، وهل يتصور أن من تتوق روحه إلى الله، فيملأ حب الله شغاف قلبه ويتغلغل في جوانحه، هل له أن يعصيه، أو يتوانى في طاعته والتقرب إليه والتذلل بين يديه، لا يتُصور ذلك قطعا، فلأجل هذا كانت هذه الكلمة نجاة لصاحبها، إذا لم تصدر منه باللسان فقط بل صَاحَبَها حضور القلب وانقياد النفس، وذلك لا يكون إلا بمعرفة معناها، ومن ثم تأتي شروطها الباقية، ومن هنا أيضا: كان من حقق كلمة التوحيد تحقيقاً كاملاً، يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، لأن من حققها بتلك الصورة، فإنه ولا ريب يطيع ربه - جل وعلا - طاعة لا يمكن معها أن تتجاوز سيئاته حسناته، فمن ثم يدخل الجنة بتلك الصورة المذكورة في الحديث.
وتأمل قول الله - عز وجل - : "إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَنْ أولئك؟ "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلََى جُنُوبِهِمْ فلهذا كان من صفاتهم" وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فتكون النتيجة أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء وهو من أعلى وأجل صور العبادة، وقد ملأ خوف الله قلوبهم فشعروا بحاجتهم إلى مغفرة خالقهم وعفوه، فقالوا: "رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" آل عمران: 190-191".
فالذكر يكون بالقلب قبل أن يكون مجرد نطق باللسان، وذكر القلب هذا يحدث في القلب والنفس والعقل من أسرار العبودية وأحوالها ما يجعل القلب مراقباً لله عز وجل طيلة ذكره لله، وتلك أعلى مراتب العبودية، إنها مرتبة الإحسان، أي: أن تعبد الله كأنك تراه، والمحسن: المراقب لله في كل حين ووقت، في كل خاطرة وسانحة يبحث عن مرضاة الله في كل فعلة وقولة، بل في كل إرادة أو التفاتة تحدث من قلبه.
وبعد: فخلاصة ما تقدم بعبارة سريعة مختصرة: أن حقيقة الإيمان التي أُمرنا بها أن تتواطأ عبادة القلب مع عبادة الجوارح، فتتحقق عبودية القلب مع عبودية الجوارح، فنحسن العبادة باطناً كما نحسنها ظاهراً.
إذا تبينت أهمية ما تقدم، فلسائل أن يسأل ما هي الوسائل التي تقود إلى إحسان العبادة باطناً، أو بعبارة أخرى: كيف نبعث الروح في عبادتنا، ونجنبها الموت؟
الوسائل كثيرة ومتنوعة، ولكن حسبي أن أشير إلى بعضها:
1- حضور القلب قبل أو عند البدء بالعبادة: والفقهاء يتحدثون عن النية قبل الشروع في العمل ويعنون بها النية التي تميز العمل نفسه، كصلاة الظهر عن صلاة العصر، وصوم النافلة عن صوم الفرض.. وما إلى ذلك، ويتحدث أرباب التوحيد وأهل السلوك عن النية التي تميز المعمول له، وهو المقصود بهذه العبادة.
2- تحديث القلب وتذكيره بالتعبد لله - عز وجل - : سواء أكان ذلك خارج العبادة أو حتى في أثنائها إن أمكن، وليس هذا مجال الحديث عن عبودية القلب لله رب العالمين، وكثير من الناس بل ومن بعض طلاب العلم وغيرهم من أهل الخير يغفلون عن هذا كثيراً، وهذا التحديث والتذكير نهر يمد القلب باللين والرقة والخشوع، فإذا شح ماؤه جف القلب ويبس ثم قسا، نعوذ بالله من ذلك.
3- التهيؤ للعبادة والاستعداد لها: والمثال الذي يوضح هذا وأثره: التبكير إلى المساجد لأداء الصلاة، وهذا التهيؤ المادي الجسدي يصاحبه ولا شك تهيؤ نفسي وروحي وقلبي، وفي حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التبكير إلى المساجد خير دليل على ذلك، والأحاديث كثيرة مشهورة.
ومن هنا نفهم كثرة ما ورد عن السلف الصالح في هذا الشأن، فهذا إبراهيم بن يزيد الفقيه عابد الكوفة يقول: (إذا رأيت الرجل يتهاون في على التكبير الأولى فاغسل يدك منه) [7" .
والتهيؤ يكون بحسب كل عبادة وما شرع فيها.
والحج كذلك له تهيؤ؛ فرد الأمانات والمظالم، والتخلص من الحقوق قبل الشروع في السفر كلها صور للاستعداد لهذه العبادة العظيمة، وكذلك تهيئة الزاد والراحلة والرفقة الصالحة.(/28)
والمتأمل في ذلك يجد الفرق شاسعاً بين من يؤدي العبادة دون استعداد بدني يصحبه تهيؤ قلبي ومن يأتي الصلاة مسرعاً حتى يدرك الركعة فيدخل في الصلاة ولم يسكن جسده من ذلك السعي، ولعل في نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن السعي بعد الإقامة إشارة إلى ذلك، وإلى أن يتفاعل الإنسان روحيّاً ونفسيّاً مع هذه العبادة تكون الصلاة أوشكت على النهاية.
4- الابتعاد عما يشوش القلب أثناء العبادة: ففي الصلاة مثلاً: نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - المصلي أن يصلي إلى ما يشغله أثناء الصلاة (فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي) (8).
ولهذا جاء النهي عن أن يصلي الإنسان في حضرة طعام أو وهو يدافع الأخبثين، كل هذا من أجل أن ينخلع القلب من علائق الدنيا وينجذب إلى حقيقة العبادة ويجتمع في قلب العبد وفكره ووجدانه الاتجاه إلى الله - تعالى -، ومثل هذه الأمور يمكن فعلها في عبادات أخرى. ليكون أدعى لانشغاله وتفرغه للعبادة، مما يؤدي لتفرغ قلب الإنسان للتوجه وللعبودية لله - عز وجل - أثناء الصوم.
5- المشاهد أن كثيراً من الناس يؤدي بعض العبادات بصورة تلقائية أقرب إلى الحركة الميكانيكية، فمثلا في الصلاة: ترى كثيراً منهم يدخل في صلاة النافلة فيقرأ دعاء الاستفتاح الذي يجري على لسانه، ومن ثم سورة الفاتحة، ثم تجري على لسانه إحدى السور الصغار التي يحفظها على ظهر القلب، وربما إذا سألته بعد صلاته ماذا قرأ، فإنه لا يذكر.
ولا تفكر الأغلبية العظمى من الناس مثلا في قراءة صيغة أخرى لدعاء الاستفتاح، أو في قراءة آيات أو سور من غير تلك السور التي تجري على ألسنتهم دون أن يتفكروا فيها أو يشعروا بها، مع أن السنة وردت بالتنويع في هذه الأذكار، فهناك عدة صيغ لدعاء الاستفتاح، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ من القرآن كله في تطوعه.
وهكذا في أذكار الصباح والمساء وغيرها من الأذكار والعبادات الدورية التي وردت السنة بهيئات وصيغ متعددة لها.
إن التنويع في صفات العبادة بما يوافق السنة الصحيحة له أثر في طرد ما قد يطرأ على العبادة من صفة العادة والرتابة التي تضعف تأثير العبادة على القلب.
هذا والوسائل كثيرة ومتنوعة، لكن حسب الإنسان أن يضع هذه القضية نصب عينيه هدفاً منشوداً، وأن يحاسب نفسه فيما يتعلق بها، فكلما عمد إلى عبادة من العبادات عليه أن ينأى بعبادته أن تكون ميتة.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يوفقنا للإخلاص في القول والعمل، ويرزقنا اتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، إنه سميع مجيب.
ـــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري.
(2) البخاري، كتاب الصوم.
(3) انظر صحيح الجامع، ح1622.
(4) أخرجه البخاري.
(5) أخرجه البزار وأحمد بن حنبل، ج5ص363، وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: ج1ص429 البيان.
(6) انظر: فيض القدير ج4ص211.
(7) انظر: سير أعلام النبلاء 8 انظر: صحيح الجامع، ح2500.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
=============
متى تقبل العبادة؟
لا تقبل العبادة إلا إذا توفر فيها شرطان:
1- الإخلاص لله.
2- المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :"وجماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال - تعالى -:(( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ))[الكهف: 110].
وذلك تحقيق الشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله؛ ففي الأولى: أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية: أن محمداً هو رسوله المبلغ عنه؛ فعلينا أن نصدق خبره، ونطيع أمره".
فمن أراد عبادة الله فلابد له من توفر الشرطين ولسان حاله يقول:((إياك أريد بما تريد)).
قال الفضيل بن عياض - رحمه الله - في قوله - تعالى -:((لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً))[الملك: 2]، قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وما أصوبه؟
قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
فإذا فُقِد الشرطان أو أحدُهما بطلت العبادة.
وتوضيح ذلك بالمثال الآتي: لو أن شخصاً صلى لغير الله، وعلى صفة غير الصفة التي علمنا إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لردت عبادته، لماذا؟
لأنه فقد الشرطين معاً.
كذلك لو صلى كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يصلي؛ بحيث أتى بصفة الصلاة كاملة، ولكنها صرفها لغير الله لبطلت عبادته، لماذا؟
لأنه فقد الإخلاص، والله - سبحانه - يقول:(( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[النساء: 48] وقال:(( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))[الأنعام: 88].(/29)
كذلك لو صلى لله ولكن على صفة غير الصفة التي علمنا إياها الرسول - عليه الصلاة والسلام - ؛ بحيث ابتدع صفة من عنده بطلت عبادته؛ لأنه فقد المتابعة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول في الحديث المتفق عليه:( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) أي مردود، والجار والمجرور في قوله"عليه"متعلق بمحذوف تقديره (حاكماً أو مهيمناً).
وفي رواية أخرى للحديث:(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
وهذان الشرطان ـ في الحقيقة ـ متلازمان؛ فإن من الإخلاص لله أن تتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - واتباعُه - عليه الصلاة والسلام - مستلزم للإخلاص.
http://www.toislam.net المصدر:
===============
لذة المناجاة وحلاوة العبادة
الخطبة الأولى:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
عن أي شيء يبحث الإنسان في هذه الحياة؟ أليس الناس يبحثون عن السعادة العظمى، والثروة الكبرى؟ أليسوا يجدون في إثر الطمأنينة المستقرة والراحة المستمرة؟ أليسوا يرغبون في أن يدخل السرور إلى قلوبهم وأن تشيع البهجة في نفوسهم وأن تعلو البسمة شفاههم وأن تترقب ألسنتهم بجميل القول، وأن تستقبل آذانهم حسن الكلام؟ أليس كثير من الناس يبحثون عن اللذة والسعادة؟
إن طريقها في هذا الدين العظيم وكثيرون هم الضايعون في بحثهم، وآخرون كثيرون أيضاً هم الواهبون فيما توصلوا إليه من نتائج، يلتمسون بها السعادة، ويقصدون بها حصول اللذة، وأولئك في حيرتهم يعمهون، والآخرون في أوهامهم يتخبطون، وأنت أيها المؤمن الصادق.. أيها المسلم المخلص.. أيها العبد الخاضع لله، صاحب اللسان الذاكر لله - عز وجل - والدمعة الخاشعة لله - سبحانه وتعالى - والجبهة الخاضعة لعظمة الله - جل وعلا - أنت وحدك إن فهمت هذا الإيمان، تفاعلت معه، وإن أتيت بموجباته، فأنت السعيد الفريد في هذه الحياة الدنيا، وأنت الناجي الفائز بإذن الله - عز وجل - في الحياة الأخرى.
اللذة التي يبحث عنها الناس:
أي شيء تطلب؟ وعن أي شيء تبحث؟ والأمر قد يسره الله – سبحانه وتعالى - وبسطه بين يديك، وجعله طريق واحدة، تبدأ من أول لحظة تعي فيها، وتدرك التكليف، وإذا به طريق يمتد من هذه الأرض الصغيرة، إلى السموات العلى إلى رضوان الله - سبحانه وتعالى - إن اللذة والسعادة في الإيمان.. في السعي لنيل رضى الرحمن.. في عبادة الملك المنان - سبحانه وتعالى -.
فلننظر إلى هذه اللذة التي ذاقها المؤمنون.. التي عرفها وعلمها للناس المرسلون، والتي اقتطف ثمارها وتمتع بأذواقها عباد الله الصالحون، والتي حرمها كثيراً من المسلمين في هذه الأوقات، لأنهم لم يأخذوا سبيلها، ولم ينهجوا طريقها، ولم يؤدوا واجباتها.
اللذة الحقيقية:
إن أعظم هذه المنن والنعم أن تكون الحياة كلها لله - سبحانه وتعالى -: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
ما أعظم أن يكون الضعيف مرتبطاً بالله القوي! ما أعظم أن يكون العبد العاجز مرتبطاً بالله - سبحانه وتعالى - الذي لا منتهى لكماله! ما أعظم أن يخضع الفقير المعدم للغني القاهر - سبحانه وتعالى -! إنه حينئذً يتحول إلى صورةً أخرى، وإلى معنىً آخر في هذه الحياة، إنه يرتبط حينئذٍ بالسماء، يرتبط بنور الوحي، يرتبط بنفخة الله - عز وجل - التي نفخها في خلقة آدم أول ما خلق.. عندما جعل خلقه قبضة من طين، ونفخةً من روح، عندما أراد الله - عز وجل - أن يجعل لهذه الروح غذاءها المرتبط بخالقها - سبحانه وتعالى -.(/30)
الإيمان الذي أخبر النبي - صلى الله عليه و سلم - أن فيه اللذة والحلاوة والمتعة والسعادة.. الذي فيه طمأنينة القلب، وسكينة النفس، فها هو - عليه الصلاة و السلام - يعبر تعبيراً صريحاً واضحا، قوي المعنى: (ذاق طعم الإيمان، من رضي بالله ربًاً، وبالإسلام دينا، وبمحمدً - صلى الله عليه و سلم - نبياً ورسولاً) ما أعظم هذا الاستقرار والسكينة والطمأنينة، عندما ترتبط بالله - عز وجل - خضوعاً لإله واحد، وغيرك من الناس يخضع لقوى الأرض، يبتغي لديها خيراً، وآخرون يخضعون لقوى البشر يخشون منها ضراً، وأنت حر طليق لا عبودية لك إلا لله - سبحانه وتعالى -، والناس أيضاً يتخبطون ويتحيرون ويلتمسون طريقاً هنا وهناك، ومنهجا من شرق وغرب، وأنت عندك منهج الإسلام، الصراط المستقيم الذي جمع الله - سبحانه وتعالى - فيه الخير كله، ونفى عنه القصور والضر كله {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}، والناس يبحثون عن قدوات يلتمسونها هنا وهناك، وقدوتك العظمى وأسوتك المثلى رسول الله - صلى الله عليه و سلم - خير الخلق أجمعين، وخاتم الأنبياء والمرسلين {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}. ما أعظم هذه الوحدة التي توحد وجهتك وقصدك لله - سبحانه وتعالى - خضوعاً وذلة، وعلى الإسلام منهج تحاكم وشريعة حياة، ومع الرسول - صلى الله عليه و سلم - قدوة تحتذى، وأسوة تتبع. ما أعظم هذه الطمأنينة التي تنسكب في القلب! {الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، ما أعظمها من نعمة! وما أعظمها من لذة! لو أن الإنسان تفاعل بها انفعال صادقاً.. لو أنه تشربها تشرباً كاملاً، لو أنه عاشها وبقي معها، في مداومة مستمرة، وفي حياة متواصلة، إذاً لتحقق له أيضاً ما بينه النبي - صلى الله عليه و سلم - من المفارقة في اللذة التي إذا جناها العبد حقيقةً، وإذا اقتطفها ثانيةً؛ فإنه لا يرضى عنها بديلاً (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار)، كل هذه المشاعر من المحبة والميل العاطفي، إنما رابطها الإيمان الذي يغذيها وينميها، ويجعلها متعةً ولذة في هذه الحياة، ولذا قال سلف الأمة عندما تذوقوا هذه الحلاوة: " والله إنا لفي لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف ". ذاقوا طعمها.. ذاقوا صلة بالله - سبحانه وتعالى - عظيمة، التي متى تعلق قلبك بها لن يتعلق بشيء سواه، وبدأ حينئذً كل أمرك من طموح، ومن شوق، ومن آمال، ومن غايات في هذه الحياة، يرتبط بهذا الإيمان كما بين النبي - صلى الله عليه و سلم - في هذه المنن الإيمانية، والمنح الربانية، التي يسوقها - سبحانه وتعالى - لك أنت أيها العبد المؤمن المسلم من بين هذه البشرية الحائرة الضالة المتخبطة، البعيدة عن منهج الله، الجاحدة لرب الأرباب، وملك الملوك - سبحانه وتعالى -.
تأمل قول النبي - صلى الله عليه و سلم -: (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل إني أحب فلان فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلان فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض).
فإذا أنت ترى القلوب تهفو إليك، وترى الأيدي تعانقك، وترى الشفاه تبتسم لك، وترى بريق العيون ينظر لك نظرة المحبة، ولم تسدي إليهم معروفا، ولم تقدم إليهم مساعدة، وإنما هي لغة التحاور الإيماني وإنما هي مشاعر القلوب التي ترسل بإذن الله - عز وجل - تلك الروابط، التي تسعد بها البشرية، والتي تطمئن بها أسباب الحياة بين البشر.
حتى تدرك مدى ما ينعكس من أثار الإيمان في طمأنينتك وعلاقتك بهذا الكون وعلاقتك بهذه الحياة تأمل قول النبي - عليه الصلاة و السلام - عندما قال: (من ابتغى رضى الله بسخط الناس، - رضي الله عنه - وأرضى عنه الناس، ومن ابتغى سخط الله برضى الناس، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)، يبقى شقياً محروماً، منكوداً مطرداً، وإن ملك الأموال كلها، وإن كان بين يديه كل شيء من ملذات الحياة، لكن في صدره ضيق، وفوق قلبه أكوام من الهموم، وفوق عينيه غم يتجسد في مراء وجهه، كأن عليه قطع من سواد مظلم، وكأن على وجوههم قتر وذلة. نسأل الله - سبحانه وتعالى - السلامة.
لذة الخلوة مع الله:
والمؤمن الذي خلى بربه كما قال الحسن البصري حينما سئل: ما بال أهل الليل على وجوههم نور؟ قال: لأنهم خلوا بربهم فألبسهم من نوره - سبحانه وتعالى -.(/31)
المؤمن الذي في عز المحنة وشدتها وهولها، يبقى ساكناً، مطمئناً بوعد الله - عز وجل - وبنصر الله - سبحانه وتعالى - كما كان من الرسل والأنبياء (ما ضنك باثنين الله ثالثهما).. {قال كلا إن معي ربي سيهدين}.. {قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم}، ما أعظم هذه الطمأنينة المنسكبة في القلب، والتي تجعل الإنسان مستقراً مطمئناً.
فليتك تحلو والحياة مريرة **** وليتك ترضى والأنام غضابُ
فإذا صح منك الود فالكل هيناً **** وكل الذي فوق التراب ترابُ
هكذا عندما تتعلق بالله - عز وجل - تكون أشواقك وأفراحك، وكل ما يمر بك إنما ينزل هذا المنزل العظيم فما الذي يفرحك في هذه الدنيا؟ إنه الفرح بفضل الله.. بطاعة الله - سبحانه وتعالى - {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}، عندما يفرح الناس بالعلاوات وزيادة الأموال.. عندما يفرحون بالدور والقصور، يفرح المؤمن بسجدةٍ خاشعة، في ليلة ساكنة، في وقت سحر يناجي فيها ربه، ويسكب دمعه، ويتذلل بين يدي خالقه - سبحانه وتعالى -: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون} ما هذا الشوق الذي يستولي على القلب عندما يتغلغل فيه الإيمان؟ فهذا بلال - رضي الله عنه - عندما تحين وفاته، تصيح زوجته وتقول: يا حزناه فيقول: بل وافرحتاه، غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه.
الشوق إلى لقاء الله - سبحانه وتعالى - دعا أنس بن النضر أن يلغي ذلك التفكير المادي المنطقي في يوم أحد، وإذا به يقول: "واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد " ثم ينطلق مشتاقاً راغباً محباً متولعاً عاشقاً للقاء الله - سبحانه وتعالى - راغباً في طاعة الله - سبحانه وتعالى - ويلقي بنفسه يعانق الموت قبل أن يأتيه، وإذا به يمضي شهيداً إلى الله - سبحانه وتعالى -.
وذاك عمير بن الحمام في موقعة وغزوة بدر يأكل تمرات، فحينما يسمع نداء النبي - صلى الله عليه و سلم - يقول: (لا يقاتلهم اليوم رجل مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة) فيرمي بالتمرات قائلاً: ما أطولها من حياة حتى أبلغ هذه الأمنية العظيمة.
نعمة الإيمان وأثره على الحياة:
الإيمان يحول الحياة كلها إلى جنة خضراء، كأنما الإنسان في بستان تجري من حوله الأنهار، وتزينه الأزهار، ويستمتع بضلال الأشجار، ويتناول لقطف تلك الثمار، كأنه ما مسه من ضر، ولا لقي في هذه الحياة من عناء، كما أخبر النبي - صلى الله عليه و سلم -: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، وقال في حديث آخر: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن) ففي كل الأحوال هو يرى نور الله - عز وجل - ويرى حكمة قدر الله - عز وجل - ويسلم لأمر الله - عز وجل - ويبتغي في السراء، وفي الضراء رضوان الله - عز وجل - ويلتمس أجر الله - سبحانه وتعالى - حتى الشوكة يشاكها العبد المؤمن يكفر الله - سبحانه وتعالى - به من خطاياه ما أعظم هذه المنة أيها الأخوة الأحبة!.
إنها نعمة لا تدانيها نعمة، ولا توازيها منة، عندما ينشغل الناس بجمع الأموال والثروات، وينشغل العبد المؤمن بجمع الأعمال الصالحة والحسنات، يلتمس أجراً هنا، ويلتمس حسنةً هناك كما كان أصحاب محمد – - صلى الله عليه و سلم - لا يتنافسون على غنائم الدنيا، ولا على لعاعتها، وإنما كما في حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. جاءت الحسرة في نفوس الصحابة على ذلك الأجر والثواب الذي لا يستطيعونه فقال لهم النبي - عليه الصلاة و السلام - مسلياً وفاتحاً أفاقاً وأبواباً من الخير عظيمة (أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به كل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة) وذكر أبواب من الخير عظيمة ثم ماذا؟ رجع القوم بعد ذلك مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله سمع إخواننا ما قلت ففعلوا مثلما فعلنا. قال: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
كان القوم إنما همهم أن يجمعوا رصيداً يحضون فيه برحمة الله - سبحانه وتعالى - ويتأهلون فيه لنيل رضوان الله - عز وجل - وأن يشملهم بواسع رحمته، وأن يتغمدهم برضوانه ومغفرته - سبحانه وتعالى -.
وقد ورد في صحيح مسلم عن حال الصحابة أنه أحدهم كان لا يجد الصدقة يتصدق بها، فماذا كان يصنع وقد عذره الله - سبحانه وتعالى -؟ قال: فكان أحدنا يحتمل الحمال عنده قوة بدن فيعمل حاملاً لا ليتوسع في الرزق، ولا ليرفع من مستوى المعيشة، ولا ليزيد في الأرصدة، ولا ليؤمن المستقبل كما يقول الناس اليوم ولكن يحمل الحمالة ليجد ما يتصدق به بين يدي الله - سبحانه وتعالى -.(/32)
ما أعظم هذه النفوس وهذه الغايات! سعادة عندما يقدم لله - عز وجل -.. سعادة عندما يفرّج كربة أخيه المسلم، سعادة عندما يتابع النبي - صلى الله عليه و سلم - ثم ما أعظم أن ينشغل الناس بسفساف القول كذباً ودجلاً.. نفاقاً وتذمراً.. وغيبة ونميمة، ولا تزال أنت أيها العبد المؤمن مرطباً لسانك بذكر الله.. مسبحاً لمالك السموات والأرض - سبحانه وتعالى -.. ما تزال تستغفر كما كان المصطفى - صلى الله عليه و سلم - يستغفر في اليوم والليلة سبعين مرة. وفي روايات أخرى مائة مرة.
ما تزال تلهج بذكر الله - عز وجل - متبعاً وصية رسولك - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وكذلك تشنف أذنك، وترطب لسانك بتلاوة القرآن، والناس ساهون لاهون، وفي غيهم يعمهون، وأنت تثلج صدرك، وتطمئن قلبك، وترطب لسانك بتلك الآيات العطرة، في صخب هذه الحياة الداوية.. في هذه الأعصر التي كثر فيها قول الباطل.
مفاتيح سعادة المسلم:
يبقى المسلم متميزاً لأنه لا يفتر ولا ينأ عن ذكر الله - سبحانه وتعالى - ويشعر بمدى التوجيه الإلهي الرباني الذي جاء مؤكداً ومطلقاً، مما يدل على أفاق واسعة من هذا الأمر العظيم {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} أي لا حد له ولا منتهى ولا وقت ولا زمان ولكنه في الليل وفي النهار.. تسبيح في الغدو والآصال.. ذكر ودعاء لله - سبحانه وتعالى - تستفتح فيه يومك وتفتح لك فيه أبواب الرضى، وأبواب الهناء، وأبواب الرزق وأبواب السعادة في الدنيا، وتختم به ليلك ونهارك ويومك، فإذا بك تطمئن في كنف الله، وإذا بك تبيت في حفظ الله، وغيرك قد تسلطت عليه المردة والشياطين، وذاك يمسه جن، وذاك يركبه شيطان وأنت محفوظ بإذن الله - سبحانه وتعالى - ما أعظم هذه السعادة! وما أجل هذه النعم والمنن!.
والناس في ليلهم صاخبون، وبعضهم في المعاصي غائصون، ويحيون السهرات الماجنة، ويعيشون مع الأفلام الداعرة، وأنت أيها العبد المؤمن – في خلوة من صخب الحياة إلى هدوء الليل وقمت تختلس تلك الركيعات بين يدي الله - سبحانه وتعالى - في ذلك الوقت الذي هو أعظم وقتاً، وفيه أعظم منة، كما أخبر النبي - عليه الصلاة و السلام -: (ينزل ربنا إذا بقي الثلث الأخير من الليل فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ وذلك الدهر كله)، فكيف يحضى أولئك الغافلون وأولئك العاصون بهذه المنن؟ إنهم عنها والله لمحرومون، وأنت إن كنت من أهل الليل.. إن كنت من أهل مناجاة الأسحار.. إن كنت من أهل ذرف الدموع في تلك الأوقات الفاضلة، المكثرين من التلاوة والأذكار، المداومين على الدعاء والاستغفار؛ فإنك حضي وحري بأن تنال موعود النبي – - صلى الله عليه وسلم -: (أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا جنة ربكم بسلام) ما بال الناس يستيقظون وعلى وجوههم قتر وفي جباههم تجهّم؟! والمؤمن الوحيد كما أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - هو الذي ينشرح صدره، ويبدأ يومه بهذه العبادة والمناجاة لله - سبحانه وتعالى - كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - عليه الصلاة و السلام - (يضرب الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة يقول: نم عليك ليل طويل، فإذا استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، فإذا قام وتوضأ انحلت الثانية، وإذا صلى انحلت عقده كلها وأصبح نشيط النفس وإلا أصبح خفيف النفس كسلان).
أنت أيها العبد المؤمن بيدك مفاتيح السعادة بين يديك خيرات وثروات عظمى، فيها سكينة النفس، وطمأنينة القلب، ولذة الحياة، وحسن القول، وجميل ما يصنع، وأحسن ما يعمل من الأعمال الصالحة، فما أعظم هذا التميز وهذا التأهيل الذي يمكن للعبد المؤمن أن يكون فيه فريداً بين كل من لم يكون على منهج الله - سبحانه وتعالى - وما بالنا حرمنا هذه النعم؟ لأننا لم نرتبط بها حق الارتباط، ولم نؤدها حق الأداء، لم نشعر بتلك اللذة التي كان النبي - عليه الصلاة و السلام - يقول فيها: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، منتهى السعادة، منتهى السرور، منتهى الانشراح، منتهى الإقبال واللذة في تلك العبادة، فأي أحد لا يحب الإقبال على ما يسره مما يحبه ويميل إليه قلبه!! إنه إذا وجد شيئاً يحبه أقبل عليه وتعلق به، وبذل لأجله كل شيء، ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة فإذا بالطمأنينة، وإذا بالسعادة، وإذا باليقين الراسخ ينبعث في القلب من جديد، ويحيي في النفس حياةً قوية راسخة، ولذلك كان يقول - عليه الصلاة و السلام -: (أرحنا بها يا بلال).
فلنرتح من تعب الحياة، ومن سخطها في ظل العبادة والخشوع والخضوع لله - سبحانه وتعالى - فإن هذا طريق بإذن الله - عز وجل - موصل إلى سعادة الدنيا، وإلى نجاة الآخرة.
الخطبة الثانية:(/33)
اعلموا أيها الأخوة المؤمنون أن العبادة ليست سكوناً، بل حركة وليست ضعفاً بل قوة، إنها أن تخضع الحياة كلها لله - عز وجل - ولذلك تأملوا إلى العبادة العظمى التي تعلقت بها قلوب العباد الصادقين، والزهاد المخلصين، فإذا بهم ينطلقون في مواكب الجهاد رفعاً لراية الله - سبحانه وتعالى - ونشراً لدعوة الإسلام وهم هم الذين كانوا رهبان الليل إذا بهم فرسان النهار، هم أولئك القوم منهم عبدالله بن المبارك - رضي الله عنه - و - رحمه الله - إمامٌ من أئمة التابعين، وعالم من العلماء المحدثين، وأحد الذين لم يدعو الحج لبيت الله الحرام، لكنه كان يحج عاماً، ويغزو عاماً، وقيل: إنه غزا نحو مائتي غزوة ضد أعداء الله - سبحانه وتعالى - وتأملوا تلك اللذة التي يجدها الصالحون في كل أنواع العبادة، ومنها عبادة الجهاد والدعوة في سبيل الله - عز وجل - وهذا خالد بن الوليد رحمة الله عليه ورضي عنه وأرضاه – يقول: " ما ليلة تهدى إلي فيها عروس، أنا لها محب مشتاق، أحب إليّ من ليلة شديد قرها، كثير مطرها، أصبّح فيها العدو فأقاتلهم في سبيل الله - عز وجل - تلك الليلة ما فيها من شدة البرد، وبما فيها من انتظار العدو، وبما فيها من قعقعة السيوف أحب إلى نفسه من عروس تهدى إليه وهو لها محب ومشتاق ومنتظر! إنها لذة عجيبة لا يعرفها إلا من مارسها، وهو الذي يجد لذة في الجهاد ومحبة وميل له فإذا به يشتاق وينبعث إليه.
إذاً أيها الأخوة الأحبة ينبغي لنا أن نراجع أنفسنا، وأن لا تشغلنا هذه الحياة بمطالبها المادية، ولا بلغوها العارض، بل ينبغي أن نعرف أن أساس هذه الحياة، وأساس قطف ثمرتها، وأساس أخذ ما يمكن أن يكون إن شاء الله - عز وجل - من أسباب النجاة إنما هو ربط القلب بالخالق - سبحانه وتعالى -، إنما هو خفض الجباه لله - عز وجل - إنما هو رفع الأكف طلباً من الله - سبحانه وتعالى -، إنما هو اليقين الراسخ أنه لا شيء في هذا الوجود، ولا قوة في هذا الوجود، ولا مضاء ولا مشيئة في هذا الوجود إلا لله - سبحانه وتعالى - فهو القاهر فوق عباده، وهو المعطي والمانع، وهو النافع والضار، وهو الذي يسهل الأمور، ويفرج الكروب - سبحانه وتعالى - وإذا ادلهمت الأمور، وإذا تعاظمت الخطوب، فليس لها من دون الله - سبحانه وتعالى - كاشف.
ماذا أيها العبد المؤمن هل تعاني من ضيق وشغف في العيش؟ فالإيمان والطاعة والعبادة لذة تعوضك عن ذلك، ويعطيك الله - عز وجل - توفيق ييسر لك فيه من أبواب الرزق {ومن يتق الله يرزقه من حيث لا يحتسب}، إن كل شيء مرتبط بهذا المعنى العظيم، معنى صلة العبد بالخالق - عز وجل - معنى صلة العبودية بالربوبية والألوهية، معنى صلة هذا التذلل والخضوع للملك الجبار - سبحانه وتعالى - ولذلك ما فقدنا اللذة، ولا غاب عنا الأنس، ولا ذهبت عنا الحلاوة، إلا عندما فقدنا هذه المعاني، وانشغلنا حتى الأخيار منا الذين يرتادون المساجد وربما شغلتهم أمور أخرى، وخلافات في الأقوال، وكثرة في المحفوظات، وما خلص إلى قلوبهم هذا السر الإيماني، وتلك الوحدة الإيمانية التي تحيل الظلمة نوراً، وتقلب الحزن سروراً.
إن هذا المعنى الإيماني الذي ينبغي أن يكون فلك حياة الإنسان المسلم، ومحور رحاه الذي يدور فيه في هذه الحياة، لا يتكلم إلا من هذا المنطلق، ولا يتقدم إلا من هذا المنطلق، ولا يحزم إلا من هذا المنطلق، كل شيء يربطه بالسعي إلى رضوان الله، والرغبة في نيل رحمة الله، والمبالغة في الخضوع والذلة لله - عز وجل -.
ومما زادني شرفاً وتيهاً **** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي **** وأن صيرت أحمد لي نبياً
هذا هو الشرف، وهذه هي النعمة، وذلك هو التميز فالله الله في عبادتكم، والله الله في إخلاصكم، والله الله في مناجاتكم، والله الله في كتاب ربكم، والله الله في لحظات الأسحار، والله الله في الأذكار والاستغفار، الله الله في تصفية القلوب، وتهذيب النفوس، وأن نبعد كل شيء يؤرث القلب ظلمةً، ويؤرث الصدر ضيقاً، ويؤرث الحياة شقاءً ومرارةً، إذا تنكرنا أمر الله - عز وجل - فإن كل شيء كما قال الله - سبحانه وتعالى - {قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} إنما هو بسبب التخلف، وبسبب القصور في طاعة الله - سبحانه وتعالى - أما المؤمن الموصول بالله - عز وجل - فإن حاله كما قال الله - عز وجل -: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} ما أعظم الصلة بالله - عز وجل -.(/34)
فلنحرص على أن نراجع أنفسنا، وأن نخلص نياتنا، وأن نصحح مقاصدنا، وأن نكثر أعمالنا، وأن نقلل من لغو الدنيا وانشغالنا بها، فقد دخلت في عقولنا وقد تعشعشت في قلوبنا، وقد جرت في دمائنا، وقد صرفتنا عن كثير من مهمات الحياة الأخرى، وليس ذلك يعنى بحال من الأحوال أن تترك الدنيا! بل الدنيا مزرعة الآخرة، ولكن اجعل القلب موصولاً بالله تجعل الدنيا كلها بإذن الله - عز وجل - ممراً ومعبراً سريعاً وهيّناً في الآخرة بعون الله - سبحانه وتعالى -.
http://www.islameiat.com المصدر:
=============
طالب العلم والعبادة
أبو جهاد سلطان العمري
تأملت في حال بعض طلاب العلم فرأيت فيهم الحرص على القراءة وحضور مجالس الذكر والتنافس الشريف في سبيل تحصيل العلم، فحمدت الله على ذلك
ولكن لما نظرت إلى حال السلف رأيت أمرا غريبا
رأيت أقوام جمعوا بين العلم والعبادة
فهم العلماء الحريصين على طلب العلم وهم أيظا العباد الذين بذلوا كثيرا من أوقاتهم في باب العبادة والتقرب إلى الله - تعالى -، وكأن النار لم تخلق إلا لهم فعجبا لهم.
فهذا الإمام أحمد يصلي في اليوم (300) ركعة
وهذا سعيد بن المسيب لم تفته التكبيرة الأولى مايقارب (40) سنة
وهذا ابن المبارك الذي حقق من العبادات الشيء الكثير
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية كان كثيرا ما يجلس بعد الفجر في المسجد يذكر الله حتى تطلع الشمس، فلما سئل عن سبب ذلك قال: هذه غدوتي لو لم أتغدها سقطت قواي
وهذا يعني أن قوة المؤمن في قلبه وتقواه
وأن (العبادات) غذاء للقلوب، وسببا كبيرا في تزكية للنفس كما قال - تعالى - (قد أفلح من زكاها) وقال (قد أفلح من تزكى).
أحبتي طلبة العلم
إننا والله بحاجة إلى أن نكثر من التقرب إلى الله - تعالى - بالعمل الصالح، وهو خير الزاد (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)، ولعل من أعظم فوائد ذلك: التوفيق الدائم في طلب العلم.
إن دوام الإقبال على الله وكثرة التضرع والابتهال بين يدي الله - تعالى - من أعظم وسائل الثبات على طلب العلم.
ولما تأملت حال بعض الذين أصابهم الفتور في طلب العلم وجدت أن أعظم سبب هو التفريط والتكاسل عن عبادة الله - تعالى -.
فيا طالب العلم
عليك بالاجتهاد في دوام العبادة وسترى الخير والتوفيق في مشوارك العلمي بإذن الله - تعالى -.
http://www.deen.ws المصدر:(/35)
العبر والدروس من فتح مكة
الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فقد كان فتح مكة بداية فتح عظيم للمسلمين، وقد كان الناس تبعاً لقريش في جاهليتهم، كما أنهم تبع لقريشٍ في إسلامهم، وكانت مكة عاصمة الشِّرك والوثنية، وكانت القبائل تنتظر ما يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قومه وعشيرته، فإن نصره الله عليهم، دخلوا في دينه، وإن انتصرت قريش، يكونوا بذلك قد كفوهم أمره، فقد روى البخاري عن عمرو بن سلمة، قال: كنَّا بماء ممر الناس وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس، ما للناس؟ ما هذا الرجل؟1، فيقولون: يزعم أنَّ الله أرسله، أوحى إليه أو أوحى الله بكذا ، فكنت أحفظ ذلك فكأنَّما يقر في صدري وكانت العرب تَلَوَّم2 بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه فإنَّه إن ظهر عليهم فهو نبِي صادق، فلمَّا كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قومٍ بإسلامهم..." الحديث3.
وإذا تأملنا أحداث هذا الفتح الأكبر نستطيع أن ندرك تماماً قيمة الجهاد والاستشهاد والمحن التي وقعت من قبله. إن شيئاً من هذا الجهاد والتعب والمحن لم يذهب بدداً، ولم ترق نقطة دم لمسلم هدراً، ولم يتحمَّل المسلمون كلَّ ما لاقوه مما قد علمنا في هجرتهم وغزواتهم وأسفارهم، لأنَّ رياح المصادفة فاجأتهم بها، ولكن كل ذلك كان وفق قانونٍ سماوي، وبحسب سنة الله في خلقه فكل التضحيات المتقدمة كانت تؤدي أقساطاً من ثمن الفتح والنَّصر وتلك هي سنة الله في عباده... لا نصر بدون إسلامٍ صحيحٍ ولا إسلام بدون عبودية لله، ولا عبودية بدون بذل وتضحية وضراعة على بابه وجهاد في سبيله، ولذلك كان الفتح مليئاً بالدروس والعبر والفوائد وهذه لمحات من الفتح وعبره وفوائده:
1- بيان عاقبة نكث العهود وأنه وخيم للغاية، إذ نكثت قريش عهدها فحلت بها الهزيمة، وخسرت كيانها الذي كانت تدافع عنه وتحميه.
2- تجلِّي النبوة المحمدية والوحي الرباني في الإخبار بالمرأة حاملة خطاب حاطب بن أبي بلتعة؛ إذ أخبر عنها وعن المكان الذي انتهت إليه في سيرها وهو (رَوْضة خاخ).
3- فضيلة إقالة عثرة الكرام، وفضل أهل بدر، وقد تجلَّى ذلك واضحاً في العفو عن حاطب بعد عتابه، واعتذاره عن ذلك، بالتوبة منه.
4- مشروعية السفر في رمضان، وجواز الفطر والصيام فيه. فقد سافر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى فتح مكة في رمضان وكان في السفر الصائم والمفطر ولم يعتب على أحد.
5- مشروعية التعمية على العدو حتى يُباغت، قبل أن يكون قد جمع قواه، فتسرع إليه الهزيمة وتقل الضحايا والأموات من الجانبين حقناً للدِّماء البشرية.
6- بيان الكمال المحمدي في قيادة الجيوش, وتحقيق الانتصارات الباهرة.
7- مشروعية إرهاب العدو بإظهار القوة له، وفي القرآن الكريم قال -تعالى-: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} الأنفال60.
8- إنزال الناس منازلهم، وقد تجلَّى هذا في إعطاء الرسول-صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان كلماتٍ يقولهن، فيكون ذلك فخراً له واعتزازاً، وهي: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن" ينادي بها بأعلى صوته.
9- بيان تواضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- لربه شكراً له على آلائه وإنعامه عليه إذ دخل مكة وهو مطأطئ الرأس، حتى إنَّ لحيته لتمس رحلَ ناقته تواضعاً لله وخشوعاً. فلم يدخل -وهو الظافر المنتصر- دخولَ الظلمة الجبارين سفاكي الدماء البطَّاشين بالأبرياء والضعفاء.
10- بيان العفو المحمدي الكبير إذْ عفا عن قُريشٍ العدو الألد، ولم يقتل منهم سوى أربعة رجال وامرأتين.
11- بيان الكمال المحمدي في عدله ووفائه، تجلَّى ذلك في رد مفتاح الكعبة لعثمان بن أبي طلحة، ولم يُعطه مَن طلبه منه وهو "علي بن أبي طالب" -رضي الله عنه- وهو صهره الكريم وابن عمه.
12- وجوب كسر الأصنام، والصور، والتماثيل، وإبعادها من المساجد بيوت الله -تعالى-.
13- تقرير مبدأ الجوار في الإسلام لقوله- صلى الله عليه وسلم- : (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)4.
14- وجوب البيعة على الإسلام، وهي الطاعة لله ورسوله وأولي الأمر في المعروف وما يستطاع.5
والحمد لله رب العالمين
-----------------
1 - أي يسألون عن النبي –صلى الله عليه وسلم-, وعن حال العرب معه.فتح الباري (7/ 617).
2 - بفتح أوله واللام, وتشديد الواو, أي تنتظر , وإحدى التاءين محذوفة.فتح الباري (7/ 617).
3 - رواه البخاري كتاب المغازي, حديث رقم(3963).
4 -أخرجه البخاري كتاب الجزية برقم(2935).
5- انظر: (هذا الحبيب يا محب) للشيخ أبي بكر الجزائري.(/1)
العبودية
أولاً: تعريف وبيان:
أ- مفهوم العبودية في اللغة.
ب- مفهوم العبودية في الشرع.
ج- حقيقة العبودية.
ثانياً: أنواع العبودية:
أ - العبودية العامة.
ب - العبودية الخاصة.
ثالثاً: عبودية الكائنات.
رابعاً: ضرورة الخلق إلى العبودية.
خامساً: فضل العبودية ومكانتها.
سادساً: أركان العبودية:
أ - الذل والخضوع: الخوف والرجاء. ب - المحبة.
سابعاً: شروط العبودية:
أ - الإخلاص. ب - المتابعة.
ثامناً: المنحرفون في باب العبودية:
أ- المشتغلون بالعبودية العامة عن العبودية الخاصة.
ب- الذين يسوُّون الله بكلّ موجود.
ج- المدعون للمحبة من غير خوف ولا رجاء
أولاً: تعريف وبيان:
أ- مفهوم العبودية في اللغة:
العبودية: مصدر عبد يعبد عبادةً ومعبداً ومعبدةً، فهو عبدٌ، أي: ذلّ وخضع.
قال ابن منظور: "أصل العبودية الخضوع والتذلل... وعبد الله تألّه له... والتعبّد التنسك، والعبادة: الطاعة".
وقال الفراء: "معنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع، ومنه طريق معبد إذا كان مذللاً بكثرة الوطء".
وقال ابن الأنباري: "فلان عابد وهو الخاضع لربه المستسلم المنقاد لأمره".
وقال الزبيدي: "أصل العبودية الذل والخضوع، وقال آخرون: العبودية الرضا بما يفعل الرب، والعبادة فعل ما يرضى به الرب".
ب- مفهوم العبودية في الشرع:
قال ابن القيم: "العبودية اسم جامع لمراتب أربع من قول اللسان والقلب، وعمل القلب والجوارح.
فقول القلب هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته على لسان رسله عليهم السلام.
وقول اللسان الإخبار عن قول القلب بما فيه من الاعتقاد والدعوة إليه والذب عنه، وتبيين بطلان البدع المخالفة والقيام بذكره وتبليغ أوامره.
وعمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له وإخلاص الدين له والصبر على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره والمعاداة فيه والخضوع والذل له وغير ذلك من أعمال القلب.
وأعمال الجوارح كالصلاة والحج والجهاد وغيرها".
ج- حقيقة العبودية:
وحقيقة العبودية عبودية القلب.
قال ابن تيمية: "الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلبَ واستعبده فهو عبده، ولهذا يقال:
العبد حرّ ما قنع والحر عبد ما طمع
وقال القائل:
أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حراً"
وقال: "إن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن... وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقا مستعبداً متيّما لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية الذليلة لما استعبد القلب. وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب... فالحرية حرية القلب كما أن الغنى غنى النفس".
لسان العرب (5/2776)، مادة (ع ب د).
انظر: لسان العرب (5/2778)، مادة (ع ب د).
انظر: لسان العرب (5/2778)، مادة (ع ب د).
تاج العروس (2/409).
مدارج السالكين (1/100).
العبودية (ص104).
العبودية (ص116-117).
ثانياً: أنواع العبودية:
العبودية نوعان: عامة وخاصة:
أ- فالعبودية العامة: هي عبودية القهر والتسخير والملك والتسيير، وهذه تعمّ جميع الخلق مكلّفهم وغير مكلفهم، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم.
ب- والعبودية الخاصة: هي عبودية التأله والطاعة والمحبة وهذه خاصة بعباد الله المؤمنين، الذين استجابوا لداعي الله.
قال ابن تيمية رحمه الله: "إن العبد يراد به المعبّد الذي عبّده الله فذلَّله ودبره وصرفه، وبهذا الاعتبار فالمخلوقون كلهم عباد الله، الأبرار منهم والفجار، والمؤمنون والكفار، وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم لا يخرجون عن مشيئته وقدرته، وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاءوا، وما شاءوا إن لم يشأه لم يكن، كما قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]، ومثل هذه العبودية لا تفرّق بين أهل الجنة وأهل النار، ولا يصير بها الرجل مؤمناً... والمعنى الثاني من معنى العبد، وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابداً لله لا يعبد إلا إياه، فيطيع أمره وأمر رسله، ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين ويعادي أعداءه، وهذه العبادة متعلقة بألوهيته، ولهذا كان عنوان التوحيد (لا إله إلا الله) بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبده أو يعبد معه إلهاً آخر. وهذه العبادة هي التي يحبها الله ويرضاها وبها وصف المصطفين من عباده وبها بعث رسله. وأما العبد بمعنى المعبَد سواء أقر بذلك أو أنكره فهذا المعنى يشترك فيه المؤمن والكافر".
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "العبودية نوعان: عامة وخاصة.(/1)
فالعبودية العامة: عبودية أهل السموات والأرض كلهم لله، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، فهذه عبودية القهر والملك، قال تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ إِلاَّ آتِى الرَّحْمَانِ عَبْداً} [مريم:93]. وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر، قال تعالى: {ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68]، وقال تعالى: {فَبَشّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17، 18]، وقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان:63، 64]. فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته هم عبيد ألوهيته".
قال ابن جرير في تفسير قول الله تعالى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116]: "وأولى معاني القنوت في قوله: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة، والدلالة على وحدانية الله عز وجل، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها، وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الدين زعموا أن لله ولداً بقوله: {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالأرْضِ} ملكاً وخلقاً، ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها، وأن الله تعالى بارؤها وصانعها، وإن جحد ذلك بعضهم فألسنتهم مذعنة له بالطاعة بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك، وأن المسيح أحدهم، فأنى يكون لله ولداً وهذه صفته؟!".
وقال الله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83]، قال شيخ الإسلام: "فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرهاً؛ لأن المخلوقات جميعها متعبّدةٌ له التعبد العام، سواءٌ أقر المقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون له مُدبّرون، فهم مسلمون له طوعاً وكرهاً، ليس لأحد من المخلوقات خروجٌ عما شاءه وقدّره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين ومليكهم، يُصرّفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلّهم، وبارئهم ومُصورهم، كل ما سواه فهو مربوب مصنوعٌ مفطورٌ، فقيرٌ محتاجٌ معبَّد مقهورٌ، وهو سبحانه الواحد القهار الخالق البارئ المصوّر".
العبودية (ص38-45).
مدارج السالكين (1/105).
جامع البيان (1/507-508).
العبودية (ص145).
ثالثاً: عبودية الكائنات:
قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل:49].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول الله تعالى ذكره: ولله يخضع ويستسلم لأمره ما في السموات وما في الأرض من دابة تدبّ عليها، والملائكة التي في السموات، وهم لا يستكبرون عن التذلل له بالطاعة".
وقال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها جماداتها وحيواناتها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة".
وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَاواتِ وَمَن فِى الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ} [الحج:18].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تر يا محمد بقلبك، فتعلم أن الله يسجد له من في السموات من الملائكة، ومن في الأرض من الخلق من الجن وغيرهم، والشمس والقمر والنجوم في السماء، والجبال والشجر والدواب في الأرض".
وقال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً، وسجود كل شيء مما يختص به".
وقال الله تعالى: {تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاواتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن أي: من المخلوقات، وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره".
وقال ابن سعدي رحمه الله: "{تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاواتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىْء} من حيوان ناطق، وغير ناطق، ومن أشجار، ونبات، وجامد، وحيٍ وميت {إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} بلسان الحال ولسان المقال، {وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي: تسبيح باقي المخلوقات، التي على غير لغتكم، بل يحيط بها علام الغيوب".(/2)
وعن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: ((أتدري أين تذهب؟!)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئتِ، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38])).
قال ابن تيمية رحمه الله: "فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح بسجود الشمس إذا غربت واستئذانها، وكذلك قال أبو العالية وغيره، قال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا ويقع ساجداً حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه، ومعلوم أن الشمس لا تزال في الفلك كما أخبر الله تعالى بقوله: {وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33]، فهي لا تزال في الفلك، وهي تسجد لله وتستأذنه كل ليلة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فهي تسجد سجوداً يناسبها، وتخضع له وتخشع كما يخضع ويخشع كل ساجد من الملائكة والجن والأنس".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها، ولما يبن، ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سُقُفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو منتظر ولادها، قال: فغزا، فأَدْنى للقرية حين صلاة العصر، أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبِسْها علي شيئاً، فحبست عليه حتى فتح الله عليه)) الحديث.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "إن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله سلم غالباً، وقد اشتهر تسبيح الطعام، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، ولم يكذب رواتها".
جامع البيان (7/594).
تفسير القرآن العظيم (2/593).
جامع البيان (9/122).
تفسير القرآن العظيم (3/220).
تفسير القرآن العظيم (3/45).
تيسير الكريم الرحمن (4/283).
أخرجه البخاري في: بدء الخلق، باب: صفة الشمس والقمر (3199) واللفظ له، ومسلم في: الإيمان (159).
جامع الرسائل، الأولى: (قنوت الأشياء كلها لرب العالمين) (ص37).
أخرجه مسلم في الجهاد، باب: تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة (1747).
أخرجه البخاري في المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام (3579).
فتح الباري (6/592).
رابعاً: ضرورة الخلق إلى العبودية لله تعالى:
بيّن ابن تيمية رحمه الله ضرورة الخلق إلى العبودية من وجوه كثيرة فقال: "ونبين هذا بوجوه نقدم قبلها مقدمة.
وذلك أن العبد بل كل حي بل وكل مخلوق سوى الله هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرة هي من جنس الألم والعذاب، فلا بد له من أمرين:
أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينفع ويلتذ به.
والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع الذي يوقع المكروه. وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية فهنا أربعة أشياء:
أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
والثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي، لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها.
إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب، وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه، فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب، فالأول من معنى الألوهية، والثاني من معنى الربوبية، إذ الإله: هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالاً وإكراماً، والرب: هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها، وكذلك قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30]، وقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل:8، 9]، فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين.(/3)
الوجه الثاني: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به.
وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذلة، بدون ذلك بحال. بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى...
فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه، إلا الله سبحانه، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل الطعام المسموم...
واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة.
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولا بد من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.
ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك.
وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه، ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76].
الوجه الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذي خلقه ورزقه، وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله، وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول، ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول، لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول فهذا الوجه يقتضي التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاءه، ومسألته، دون ما سواه، ويقتضي أيضاً محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه في هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه دخلوا في الوجه الأول، ونظيره في الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولاً، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه.
الوجه الرابع: أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه، إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإن أحب شيئاً حباً تاماً بحيث يخالِلُه فلا بد أن يسأمه، أو يفارقه، وفي الأثر المأثور: أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
واعلم أن كل من أحب شيئاً لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سبباً لعذابه، ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، يمثل لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع يأخذ بلهزمته، يقول: أنا كنزك، أنا مالك.
فكل من أحب شيئاً دون الله ولاَّه الله يوم القيامة ما تولاه، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً، فمن أحب شيئاً لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد، أو فقد، فإن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء، وكل من أحب شيئاً دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته، فصارت المخلوقات وبالا عليه إلا ما كان لله وفي الله، فإنه كمال وجمال للعبد، وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((االدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه)) رواه الترمذي وغيره.
الوجه الخامس: أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته، فإنه يخذل من تلك الجهة، وهو أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء، ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل، وقد قال الله تعالى: {وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:81، 82].(/4)
الوجه السادس: أن الله سبحانه غني، حميد، كريم، واجد، رحيم، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحساناً، والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه، ويجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما، وإن كان ذلك أيضاً من تيسير الله تعالى فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر، فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك. وكذلك من أحب إنساناً لشجاعته أو رياسته، أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحبه، وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو ـ ولو بالدعاء أو الثناء ـ فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وعبيد المالك، وأجراء الصانع، وأعوان الرئيس، كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم، إلا أن يكون قد علم وأدب من جهة أخرى، فيدخل ذلك في الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع عدل، وإحسان من باب المكافأة والرحمة... وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه، وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه، وقسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً.
إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل، فإذا دعوته، فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه.
والرب سبحانه يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة، فتدبر هذا فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه، ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تخفهم فلا ترجهم، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله، وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وكن ممن قال الله فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الأَعْلَى} [الليل:17-20]، وقال فيه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً} [الإنسان:9].
الوجه السابع: أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك وإن كان ذلك ضرراً عليك، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها.
الوجه الثامن: أنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض، فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ولا يقصدون دفعها إلا لغرض لهم في ذلك.
الوجه التاسع: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تعلق بهم رجاءك.
قال الله تعالى: {أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرَّحْمَانِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ * أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ} [الملك:20، 21]، والنصر يتضمن دفع الضرر والرزق يتضمّن حصول المنفعة".
وقال أيضاً: "فالفقر وصف لازم لها دائماً لا تزال مفتقرة إليه، والإمكان والحدوث دليلان على الافتقار، لا أن هذين الوصفين جعلا الشيء مفتقراً، بل فقر الأشياء إلى خالقها لازم لها لا يحتاج إلى علة، كما أن غنى الرب لازم لذاته لا يفتقر في اتصافه بالغنى إلى علة، وكذلك المخلوق لا يفتقر في اتصافه بالفقر إلى علة، بل هو فقير لذاته، لا تكون ذاته إلا فقيرة فقراً لازماً لها، ولا يستغني إلا بالله.
وهذا من معاني (الصمد)، وهو الذي يفتقر إليه كل شيء، ويستغني عن كل شيء، بل الأشياء مفتقرة من جهة ربوبيته، ومن جهة إلهيته، فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا يصلح ولا ينفع ولا يدوم. وهذا تحقيق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فلو لم يخلق شيئاً بمشيئته وقدرته لم يوجد شيء، وكل الأعمال إن لم تكن لأجله ـ فيكون هو المعبود المقصود المحبوب لذاته ـ وإلا كانت أعمالاً فاسدة".
بل لا كمال للعبد إلا في عبوديته لربه جل وعلا، قال ابن تيمية: "كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهّم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه، أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق بل أضلّهم".(/5)
وقال: "القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائبة، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة.
فالقلب لا يصلح ولا يُفلح ولا يلتذّ ولا يُسَرُّ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.
وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فإنه لو أُعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادةٌ لله، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها، إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون هو غاية مراده، ونهاية مقصوده، وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله، لا يحب شيئاً لذاته إلا الله".
ولبيان هذه الحقيقة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أصدق الأسماء حارث وهمام))، قال شيخ الإسلام: "فالحارث: الكاسب الفاعل، والهمّام: فعّالٌ من الهم، والهم أوّل الإرادة، فالإنسان له إرادة دائماً، وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه، فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مرادٌ محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبدا لذلك المراد المحبوب، إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلها من دون الله، كالشمس، والقمر، والكواكب، والأوثان، وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً، أو غير ذلك مما عُبد من دون الله".
مجموع الفتاوى (1/21-31).
مجمع الفتاوى (5/514-515).
العبودية (ص91).
العبودية (ص131-133).
العبودية (ص138).
خامساً: فضل العبودية ومكانتها:
والمراد بالعبودية الممدوحة العبودية الاختيارية التي يوفق الله لها من يشاء من عباده بحكمته ورحمته، فمن فضائلها:
1- أنها الغاية المحبوبة لله تعالى والمرضية له، والتي من أجلها خلق سبحانه الخلق، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
قال القرطبي: "أي: ليذلوا ويخضعوا لي".
وقيل: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم، وقيل: إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها.
وقال السعدي: "هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه والإقبال عليه والإعراض عما سواه، وكلما ازداد العبد معرفة بربه كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله تعالى المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم".
2- أنها أول أمرٍ أمر الله به في كتابه العزيز وأهمه وأعظمه قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21].
قال القرطبي: "قوله تعالى: {اعْبُدُواْ} أمر بالعبادة له، والعبادة هنا عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه، وأصل العبادة الخضوع والتذلل، يقال: طريق معبّدة إذا كانت موطوءة بالأقدام... والعبادة الطاعة، والتعبد التنسّك".
وهو أمر واجب لازم حتى الممات قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
3- أن الله وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم في أشرف الحالات، فقال في حادثة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، وقال في حالة الإيحاء: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10]، وقال في مجال الدعوة: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19]، وقال في ميدان التحدي: {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} [البقرة:23].
قال القرطبي في تفسير آية الإسراء: "قال العلماء: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية، قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعاً للأمة".
وهي المنزلة التي رضيها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)).(/6)
4- أنها وصف رسل الله وأنبيائه، ونعت ملائكته وأوليائه، قال تعالى: {وَلَهُ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19، 20]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]، وقال: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً * فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [النساء:172، 173].
قال القرطبي: "قوله تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ} أي لن يأنف ولن يحتشم {أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ} أي من أن يكون... {وَمَن يَسْتَنْكِفْ} أي يأنف {عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} فلا يفعلها {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ}... {جَمِيعاً} فيجازي كلا بما يستحق، كما بينه في الآية بعد هذا... أي لن يمتنع المسيح ولن يتنزه من العبودية ولن ينقطع عنها ولن يعيبها".
وقال سبحانه: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:6]، وقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان:63].
قال القرطبي: "أضافهم إلى عبوديته تشريفا لهم... فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه بما أمره فهو الذي يستحق اسم العبودية، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]".
وقال في وصف ملائكته: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:26-28].
وقال في وصف عيسى عليه السلام: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لّبَنِى إِسْراءيلَ} [الزخرف:59].
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الأيْدِى وَالأبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مّنَ الأخْيَارِ} [ص:45-48].
وقال عن داود: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17].
وقال عن سليمان: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30].
وقال عن أيوب: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [ص:41].
وقال عن نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3].
5- أنها من محاسن الفضائل وكرائم الخصائل التي أمر الله تعالى بها جميع الأمم، قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء:36].
قال القرطبي: "أجمع العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ، وكذلك هي في جميع الكتب، ولو لم يكن كذلك لعُرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب، وقد مضى معنى العبودية وهي التذلل والافتقار لمن له الحُكم والاختيار، فأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص فيه، فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره".
6- أنها غاية دعوة جميع الرسل، فبها أرسل الله الرسل ومن أجلها أنزل الكتب، قال نوح لقومه: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ اله غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل:36]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
قال ابن تيمية: "وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله".(/7)
7- أنها الحرز المتين والحصن الحصين من تزيين الشيطان وإغوائه، قال تعالى عن إبليس: {رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأزَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الأرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39، 40]، وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82، 83]، وقال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42]، وقال في حق يوسف: {كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].
8- أنها سبيل الحرية والفكاك من رق الدنيا الفانية، وطريقُ الخلاص من هلاك الآخرة الباقية.
قال الحكيم الترمذي: "إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة، ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رق الدنيا، ملوك في دار السلام، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أُبّاق سقّاط لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران".
9- أن بها كمال العبد، وتمام إنسانيته.
قال ابن تيمية: "كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته".
10- أنه لا يحصل الاستغناء التام والحرية التامة المطلقة إلا بالعبودية لله تعالى.
قال شيخ الإسلام: "ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض شيئاً إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فكلّما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله تكمل تبرئته من الكبر والشرك".
11- أن بها اللذة الحقيقية والسعادة الأبدية.
قال شيخ الإسلام: "إن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أطيب".
12- أنها البند العظيم الذي أمر الله أن يدعو إليه أهلُ الإسلام أهلَ الكتاب، فقال تعالى: {قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون} [آل عمران:64].
13- أنها سبيلٌ لوقاية الله وكفايته، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36].
الجامع لأحكام القرآن (17/56).
انظر: تفسير ابن كثير (4/238).
تفسير الكريم الرحمن (7/181).
الجامع لأحكام القرآن (1/225-226).
الجامع لأحكام القرآن (10/205).
أخرجه البخاري (3445) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الجامع لأحكام القرآن (6/26-27).
الجامع لأحكام القرآن (13/67-68).
الجامع لأحكام القرآن (5/180).
العبودية (ص95).
انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/156).
العبودية (ص91).
العبودية (ص140-141).
العبودية (ص119).
سادساً: أركان العبودية:
للعبودية ركنان أساسان لا تقوم إلا بهما وهما: الذل والمحبة. فالذل من غير محبة مردود على صاحبه، والمحبة من غير ذل كذب من مدّعيها ورعونة وإدلال.
قال شيخ الإسلام: "العبادة المأمور بها تتضمّن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له... ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله".
وقال: "لفظ العبودية يتضمن كمال الذل وكمال الحب، فإنهم يقولون: قلب متيم إذا كان متعبداً للمحبوب والمتيم المتعبد، وتيَّم الله عبده".
قال ابن القيم رحمه الله:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القبطان
ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان
وقال شيخ الإسلام مبينا الترابط الوثيق بين المحبة والعبودية: "كلما ازداد القلب حبا لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبا وفضّله عما سواه".
ولا يتحقق الذل لله تعالى إلا بالخوف والرجاء، الخوف منه والرجاء فيه.(/8)
قال ابن تيمية: "وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ورفع ضرورته قويت عبوديته له، وحريته مما سواه... فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق... وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبّراً لهم متصرفاً بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر".
قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57].
قال ابن تيمية: "المحب يخاف من زوال مطلوبه، أو عدم حصول مرغوبه، فلا يكون عبدُ الله ومحبُّه إلا بين خوف ورجاء".
وقال: "ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين ـ أي: الحب والذل ـ، فمتى كان يحب غير الله لذاته، أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه، كان عبدا لما أحبه وعبدا لما رجاه، بحسب حبه له ورجائه إياه، وإذا لم يحب أحداً لذاته إلا الله، وأي شيء أحبه سواه فإنما أحبه له، ولم يرجُ قط شيئاً إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب أو حصل ما حصل منها، كان مشاهداً أن الله هو الذي خلقها وقدّرها وسخرها له، وأن كل ما في السموات والأرض فالله ربه ومليكه وخالقه ومسخّره، وهو مفتقر إليه، كان قد حصل له من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك.
والناس في هذا على درجات متفاوتةٍ، لا يحصي طرقها إلا الله، فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله وأقواهم وأهداهم أتمهم عبودية لله من هذا الوجه".
فلا بد أن تكون العبودية مبنية على الحب والخوف والرجاء، ومتى اختلّ ركن من هذه الأركان اختلت العبودية، فمثل العبد مثل طائر رأسه المحبة وجناحاه الخوف والرجاء، وإنما جُعلت المحبة بمثابة الرأس لأنه المقصود الأسمى الذي يبقى، وأما الخوف والرجاء فلا خوف ولا رجاء بعد دخول العبد الجنة ورضا الله تعالى عليه.
قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحّد.
ويبعث هذين الركنين في النفس ويثيرهما ويقوّيهما أمران اثنان: مشاهدة منة الله تعالى ونعمه، ومطالعة عيوب النفس والعمل، قال ابن القيم رحمه الله: "قال شيخ الإسلام: العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من حديث شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه: ((سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله الا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت))، فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي)) مشاهدةَ المنة ومطالعةَ عيب النفس والعمل. فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار، والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً".
ولهذا السر كان من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره))، فهو يحمد الله تعالى على ما اتصف به من صفات الجلال والجمال والكمال، وعلى ما تفضل به من النعم العظام، ويستعينه لضعفه وعجزه وافتقاره إليه، ويستغفره لتقصيره وذنبه.
العبودية (ص33-35).
العبودية (ص152).
العبودية (ص131).
العبودية (ص114-115).
العبودية (ص180).
العبودية (ص133-134).
الوابل الصيب (ص6).
سابعاً: شروط العبودية:
لا تقبل العبودية من العبد إلا إذا توفّر فيها شرطان اثنان، الأول: الإخلاص، والثاني: أن تكون على شرع الله.
قال الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} [الكهف:110]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ * الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:1، 2].
قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.(/9)
وقال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112]، وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125].
قال شيخ الإسلام مقرراً هذين الشرطين: "ولها ـ أي: العبادة ـ أصلان، أحدهما: أن لا يُعبد إلا الله، والثاني: أن يعبد بما أمر وشرع، لا يعبده بغير ذلك من الأهواء والظنون والبدع... فالعمل الصالح هو الإحسان، وهو فعل الحسنات، والحسنات هي ما أحبه الله ورسوله، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، فما كان من البدع في الدين التي ليست في الكتاب ولا في صحيح السنة فإنها وإن قالها من قالها وعمل بها من عمل ليست مشروعة، فإن الله لا يحبها ولا رسوله، فلا تكون من الحسنات ولا من العمل الصالح.. وأما قوله: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا}، وقوله: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} فهو إخلاص الدين لله وحده".
قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
قال شيخ الإسلام: "كل عملٍ أُريد به غير الله لم يكن لله وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله، بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين: أن يكون لله، وأن يكون موافقاً لمحبة الله ورسوله، وهو الواجب والمستحب... فلا بد من العمل الصالح، وهو الواجب والمستحب، ولا بد أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى".
وتحقيق هاذين الشرطين هو مقتضى الشهادتين، قال شيخ الإسلام: "وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا اله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله، ففي الأولى أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية: أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله المبلّغ عنه، فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره، وقد بيَّن لنا ما نعبد الله به، ونهانا عن محدثات الأمور، وأخبر أنها ضلالة".
والمنحرفون عن شرط المتابعة من قدم القياس والعقل أو الذوق والوجد أو الرؤى والمنامات، أو الحزبيات والسياسات على نصوص الكتاب والسنة.
قال ابن تيمية: "وأصل ضلال من ضل هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله، وتقديم اتباع الهوى على اتباع أمر الله، فإن الذوق والوجد ونحو ذلك هو بحسب ما يحبه العبد، فكل محب له ذوق ووجد بحسب محبته... وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة".
وشرط المتابعة لازم لركن المحبة، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
قال ابن تيمية: "فمن كان محبا لله لزم أن يتبع الرسول، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسّى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله، فيحبه الله".
فإذا لم تتحقق المتابعة لم ينفع الحب، قال ابن تيمية: "قد يسلك المحب – لضعف عقله وفساد تصوره – طريقاً لا يحصِّل بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة، فكيف إذا كانت المحبة فاسدة والطريق غير موصل؟!".
العبودية (ص82-84).
أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
العبودية (ص174).
العبودية (ص121-222).
العبودية (ص75-78).
العبودية (ص126-127).
العبودية (ص131).
ثامناً: المنحرفون في باب العبودية:
أ- المشتغلون بالعبودية العامة عن العبودية الخاصة:(/10)
المشركون وكثير من أهل التصوف وأهل الجبر يشهدون الحقيقة الكونية دون الحقيقة الشرعية، فيعارضون الشرع بالقدر، قال شيخ الإسلام: "وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة، وهي الحقيقة الكونية التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، بل وإبليس معترف بهذه الحقيقة وأهل النار، قال إبليس: {رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص:79]... وأمثال هذا من الخطاب الذي يقرّ فيه بأن الله ربه وخالقه وخالق غيره، وكذلك أهل النار: {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ} [المؤمنون:106]... فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها، ولم يقم بما أُمر به من الحقيقة الدينية، التي هي عبادته المتعلقة بألوهيته وطاعة أمره وأمر رسله، كان من جنس إبليس وأهل النار، وإن ظن مع ذلك أنه من خواصّ أولياء الله وأهل المعرفة والتحقيق الذين سقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان كان من أهل الكفر والإلحاد... وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي التي يحبها ويرضاها، ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، التي من اكتفى بها ولم يتّبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين، والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام دون مقام، أو حال دون حال نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية. وهذا مقام عظيم غلط فيه الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين للتحقيق والتوحيد والعرفان ما لا يحصيهم إلا الله الذي يعلم السر والإعلان".
وقال: "كثير من الرجال غلطوا فيه، فإنهم قد يشهدون ما يقدّر على أحدهم من المعاصي والذنوب، أو ما يقدر على الناس من ذلك، بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جارٍ بمشيئة الله وقضائه وقدره، داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته، فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به ونحو ذلك دينا وطريقاً وعبادة، فيضاهئون المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء} [الأنعام:148]".
ب- الذين يسوون الله بكلّ موجود:
وهم أهل المقالة الكفرية وحدة الوجود، قال شيخ الإسلام: "بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سوّوا الله بكل موجود، وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقا لكل موجود، إذ جعلوه هو وجود المخلوقات.
وهذا من أعظم الكفر والإلحاد برب العالمين، وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد، لا بمعنى أنهم مُعبّدون، ولا بمعنى أنهم عابدون، إذ يشهدون أنفسهم هي الحق كما صرح بذلك طواغيتهم... ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون، وهذا ليس بشهود لحقيقة لا كونية ولا دينية بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا كل وصف مذموم وممدوح نعتاً للخالق والمخلوق، إذ وجود هذا هو وجود هذا عندهم".
ج- المدعون للمحبة من غير خوف ولا رجاء:
قال ابن تيمية رحمه الله: "وُجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة، حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوة التي تنافي العبودية، وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا لله، ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين، أو يطلبون من الله ما لا يصلح بكل وجه إلا لله، ولا يصلح للأنبياء. وهذا بابٌ وقع فيه كثير من الشيوخ، وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بيّنها الرسل، وحررها الأمر والنهي الذي جاؤوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته.
وإذا ضعف العقل، وقلّ العلم بالدين، وفي النفس محبةٌ طائشة جاهلة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويقول: أنا محب، فلا أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل، فهذا عين الضلال، وهو شبيهٌ بقول اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]".
العبودية (ص42-46).
العبودية (ص50-51).
العبودية (ص61-62).
العبودية (ص162-163).(/11)
العدل أساس قيام الدول وسعادة الأمم
56
مكارم الأخلاق
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
العدل ومكانته في الشرائع وأثره في عز الأمم وبقائها – مكانة العدل في الإسلام والأمر به وسعته وشموله – أقسام العدل – العدل في الأقوال – أثر العدل , وعاقبة الظلم – العدل بين الأبناء والزوجات
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوه رحمكم الله، وأحسنوا فهو سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
أيها المسلمون، احترام العدل تقليدٌ تتوارثه الأمم المحترمة، وتقيم له الضمانات، وتبني له السياجات، من أجل أن يرسخ ويستقرَّ.
وإن الحضارات الإنسانية لا تبلغ أوج عزها، ولا ترقى إلى عز مجدها إلا حين يعلو العدل تاجها، ويتلألأ به مفرقها. تبسطه على القريب والغريب، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والحاضر والباد.
العدل تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، والفطر السوية. وتمدح بادعاء القيام به ملوك الأمم وقادتها، وعظماؤها وساستها.
حسن العدل وحبه مستقر في الفطر، فكل نفس تنشرح لمظاهر العدل مادام بمعزلٍ عن هوى يغلبها في قضية خاصة تخصها.
لقد دلت الأدلة الشرعية وسنن الله في الأولين والآخرين أن العدل دعامة بقاء الأمم، ومستقر أساسات الدول، وباسط ظلال الأمن، ورافع أبنية العز والمجد، ولا يكون شيء من ذلك بدونه.
القسط والعدل هو غاية الرسالات السماوية كلها: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].
إن أية أمة تعطلت من هذه الخلة الجليلة فلا تجد فيها إلا آفاتٍ جائحةً، وزوايا قاتلةً، وبلايا مهلكةً، وفقرًا معوزًا، وذلاً معجزًا، ثم لا تلبث بعد ذلك أن تبتلعها بلاليع العدم وتلتهمها أمهات اللَّهم[1].
بالعدل قامت السموات والأرض، وللظلم يهتز عرش الرحمن. العدل مفتاح الحق، وجامع الكلمة، ومؤلف القلوب.
إذا قام في البلاد عمَّر، وإذا ارتفع عن الديار دمَّر. إن الدول لتدوم مع الكفر مادامت عادلة، ولا يقوم مع الظلم حقٌ ولا يدوم به حكم.
أيها الإخوة، العدل في حقيقته تمكين صاحب الحق ليأخذ حقه. في أجواء العدل يكون الناس في الحق سواء لا تمايز بينهم ولا تفاضل، بالعدل يشتد أزر الضعيف ويقوى رجاؤه، وبالعدل يهون أمر القوي وينقطع طمعه. لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:279].
أيها الإخوة في الله، وإن أمة الإسلام هي أمة الحق والعدل، والخير والوسط، نصبها ربها قوامةً على الأمم في الدنيا، شاهدةً عليهم في الآخرة، خير أمةٍ أخرجت للناس، يهدون بالحق وبه يعدلون، يتواصون بالحق والصبر، ويتنافسون في ميادين الخير والبر، ويتسابقون إلى موجبات الرحمة والأجر.
أمةٌ أمرها ربها بإقامة العدل في كتابه أمرًا محكمًا وحتمًا لازمًا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الامَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58].
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:135].
لا أعدل ولا أتم ولا أصدق ولا أوفى من عدل شريعة الله، فهي مبنية على المصالح الخالصة أو الراجحة، بعيدة عن أهواء الأمم وعوائد الضلال، لا تعبأ بالأنانية والهوى، ولا بتقاليد الفساد. إنها لمصالح النوع البشري كله ليس لقبيلة أو بلد أو جنس.
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى:15].
إن الإسلام صدقٌ كله، خيره وحكمه عدلٌ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].(/1)
عدل الإسلام يسع الأصدقاء والأعداء، والأقرباء والغرباء، والأقوياء والضعفاء، والمرؤوسين والرؤساء. عدل الإسلام ينظم كل ميادين الحياة ومرافقها ودروبها وشؤونها. في الدولة والقضاء، والراعي والرعية، والأولاد والأهلين. عدلٌ في حق الله. وعدل في حقوق العباد في الأبدان والأموال، والأقوال والأعمال. عدلٌ في العطاء والمنع، والأكل والشرب. يُحق الحق ويمنع البغي في الأرض وفي البشر. ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))[2].
وفي الحديث الآخر: ((ما من أحد يكون على شيء من أمور هذه الأمة فلم يعدل فيهم إلا كبه الله في النار)) أخرجه الحاكم، وقال صحيح الإسناد من حديث ابن يسار رضي الله عنه[3].
وإن من أولى ما يجب العدل فيه من الحق حق الله سبحانه في توحيده وعبادته، وإخلاص الدين له كما أمر وشرع خضوعًا وتذللاً، ورضًا بحكمه وقدره، وإيمانًا بأسمائه وصفاته. وأظلم الظلم الشرك بالله عز وجل، وأعظم الذنب أن تجعل لله ندًا وهو خلقك.
ثم العدل في حقوق العباد تُؤدى كاملة موفورة، ماليةً أو بدنية، قولية أو عملية. يؤدي كل والٍ ما عليه مما تحت ولايته في ولاية الإمامة الكبرى ثم نواب الإمام في القضاء والأعمال في كل ناحية أو مرفق.
في الحديث الصحيح: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن – وكلتا يديه يمين – الذين يعدلون في حكمهم وفي أهلهم وما ولوا))[4].
وإن ولاة أمور المسلمين حق عليهم أن يقيموا العدل في الناس. وقد جاء في مأثور الحكم والسياسات: لا دولة إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.
حكم كله عدل ورحمة في خفض الجناح ولين الجانب، وقوة الحق، عدلٌ ومساواة تكون فيه المسؤوليات والولايات والأعمال والمهمات تكليفًا قبل أن تكون تشريفًا، وتبعات لا شهوات، ومغارم لا مغانم، وجهادًا لا إخلادًا، وتضحيةً لا تحليةً، وميدانًا لا ديوانًا، وأعمالاً لا أقوالاً، وإيثارًا لا استئثارًا. إنصافٌ للمظلوم، ونصرة للمهضوم، وقهرٌ للغشوم، وردع للظلوم، رفع المظالم عن كواهل المقروحة أكبادهم، ورد الاعتبار لمن أذلهم البغي اللئيم، لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا تعويق واهم، وإن حدًا يقام في الله خير من أن يمطروا أربعين صباحًا.
وفي مثل هذا صح الخبر عنه أنه قال: ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال))[5]. والإمام العادل سابع سبعةٍ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله[6].
أما نزاهة القضاء ونقاء ضمائر القضاة فحسبك به من عدل وقسط، صاحب الحق في جو القضاء العادل يشعر بالثقة والأمان، في أروقة المحاكم وفي دواوين القضاء، مطمئنٌ إلى عدالة القضية ونزاهة الحكم وشرف سرائر الحكام. والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولأن يخطئ الحاكم في العفو خيرٌ من أن يخطئ في العقوبة، هذا تعرفه دنيا الحضارات ودين أهل الإسلام. القاضي العادل يواسي الناس بلحظه ولفظه، وفي وجهه ومجلسه، لا يطمع شريف في حيفه، ولا ييأس ضعيف من عدله، لا يميل مع هوى، ولا يتأثر بود، ولا ينفعل مع بغض. لا تتبدل التعاملات عنده مجاراةً لصهر أو نسب، ولا لقوة أو ضعف، يزن بالقسطاس، وبالعدل يقضي. يدني الضعيف حتى يشتد قلبه وينطلق لسانه، وبتعاهد الغريب حتى يأخذ حقه، وما ضاع حق غريب إلا من ترويعه وعدم الرفق به.
جاء في الخبر عنه : ((إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى الله عنه ولزمه الشيطان))[7]، وفي رواية الحاكم: ((فإذا جار تبرأ الله منه))[8].
أيها الإخوة، عدلٌ في كل ميدان، وقسط يكفل الحق للناس كل الناس ولو كان من غير المسلمين والأعداء المناوئين: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
هذا هو العدل العالمي الذي جاء به محمد منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا عدلٌ يتم فيه ضبط النفس والتحكم في المشاعر. إنه القمة العليا والمرتقى الصعب الذي لا يبلغه إلا من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًا ورسولاً، وبدينه دستورًا وحكمًا. إنه عدل محمد ، مكيالٌ واحدٌ وميزانٌ واحدٌ.(/2)
ولقد انتظر بكم الزمان ـ أيها الأخوة ـ وطالت بكم الحياة حتى رأيتم أممًا آتاها الله بسطة في القوة والسيطرة فما أقامت عدلاً، ولا حفظت حقًا، ويلٌ لهم وما يطففون، إذا اكتالوا لأنفسهم يستوفون، وإذا كالوا لغيرهم أو وزنوهم يخسرون. ولكن هدي محمد يأبى إلا الحق: وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى:15]. إن الأمة لا تصل إلى هذا القدر من السمو ونصب ميزان العدل إلا حينما تكون قائمةً بالقسط لله خالصةً مخلصة، قد تلبست بلباس التقوى: اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
والفئة الباغية إذا فاءت إلى أمر الله ودخلت في الطاعة فإن حقها في العدل محفوظ: فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].
والعدل ـ أيها الأخوة ـ كما يكون في الأعمال والأموال فهو مطلوب في الأقوال والألفاظ: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]. ولعل العدل في الأقوال أدق وأشق. وصاحب اللسان العدل يعلم أن الله يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهلٍ وظلم: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
تأملوا هذا الإنصاف النبوي في القول حينما أعلن النبي حكمه على كلمة قالها شاعر حال كفره حين قال عليه الصلاة والسلام: ((أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل))[9]. ثم هاهو صاحبه عثمان بن مظعون رضي الله عنه يسمع البيت كاملاً؛ يترسم النهج في نفسه في التقويم والعدل فُيحق الحق ويقول القسط، فقال في شطره الأول صدقْتَ، ولما قال الشطر الثاني: (وكل نعيم لا محالة زائل) قال: كذبت، نعيم الجنة ليس بزائل.
أيها الإخوة، لم يكن كذب الشاعر في الشطر الثاني بمانع عثمان رضي الله عنه من أن يقر له بالصدق والحق في شطره الأول.
وهذا علي رضي الله عنه يقاتل من خرج عليه، فلما سئل عنهم: أمشركون هم؟ قال: هم من الشرك فروا. قيل: أفمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال: هم إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم.
ومن لغير هذا العدل من القول غير أبي الحسن رضي الله عنه وعن ذريته الطيبين الطاهرين؟! وهل بعد هذا الإنصاف من إنصاف؟!
والنووي رحمه الله يقول: وينبغي ذكر فضل أهل الفضل ولا يمنع منه شنآن أو عداوة. والعبد إذا رزق العدل وحب القسط علم الحق، ورحم الخلق، واتبع الرسول، واجتنب مسالك الزيغ والبدع، هكذا يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله.
أيها الأخوة، إذا ساد العدل حُفظت الحقوق، ونصر المظلوم وولت الهموم، وأدبرت الغموم.
أما حينما يتجافى الناس عن العدل ويقعون في حمأة الظلم ينبت فيهم الحقد والقطيعة والفرقة وذهاب الريح.
من تجافى عن العدل دخل دائرة الظلم، يأخذ ولا يعطي، ويطلب ولا يبذل، يأخذ الذي يستحق، ويمتنع عما يحق، تغلبه مسالك المنافقين: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:48، 49].
إن الحَيْف وسلب الحقوق وإهدار الكرامات مبعث الشقاء ومثار الفتن. إن قومًا يفشو فيهم الظلم والتظالم، وينحسر عنهم الحق والعدل إما أن ينقرضوا بفساد، وإما أن يتسلط عليهم جبروت الأمم يسومونهم خسفًا، ويستبدون بهم عسفًا، فيذوقون من مرارة العبودية والاستذلال ما هو أشد من مرارة الانقراض والزوال. إن الظلم خراب العمران، وخراب العمران خراب الأمم والدول.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغني، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين استجب اللهم يا رب العالمين.
[1] اللّهم: المنايا والحتوف.
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجمعة – باب الجمعة في القرى والمدن، حديث (893)، ومسلم: كتاب الإمارة – باب فضيلة الإمام العادل ... حديث (1829).(/3)
[3] ضعيف ، أخرجه الحاكم (4/91)وصححه، والطبراني في الأوسط (6629) بنحوه. قال المنذري: رواه الطبراني في الأوسط من رواية عبد العزيز بن الحصين وهو واهٍ... وهو في الصحيحين بغير هذا اللفظ. الترغيب (3/121). وكذا قال الهيثمي في المجمع (5/213)، وضعفه أيضاً الألباني في ضعيف الجامع (5144)، وضعيف الترغيب (1328).
[4] صحيح، أخرجه مسلم، كتاب: الإمارة – باب فضيلة الإمام العادل ... حديث (1827).
[5] صحيح، قطعة من حديث أخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها – باب الصفات التي يُعرف بها في الدنيا أهل الجنة، حديث (2865).
[6] صحيح، قطعة من حديث أخرجه البخاري، كتاب: الأذان – باب : من جلس في المسجد ... حديث (660)، ومسلم: كتاب: الزكاة – باب فضل إخفاء الصدقة، حديث (1031).
[7] حسن، أخرجه الترمذي، كتاب : الأحكام – باب : ما جاء في الإمام العادل، حديث (1330)، وقال : حسن غريب. وابن ماجه، كتاب: الأحكام – باب: التغليظ في الحيف والرشوة، حديث (2312) بنحوه. وصححه ابن حبان (5062) دون قوله: ((فإذا جار...))، وذكره الحافظ في التلخيص الحبير وقوّاه، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1069)، وصحيح الترغيب (2196).
[8] حسن، مستدرك الحاكم (4/93)، وانظر الحديث السابق.
[9] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المناقب – باب : أيام الجاهلية، حديث (3841)، ومسلم : كتاب الشعر - حديث (2256).
الخطبة الثانية
الحمد لله شمل الأنام بواسع رحمته، وصرَّف العالم ببالغ حكمته، لا يشغله شأنٌ عن شأن وهو الحكيم الخبير. أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أصدق الناس في الأقوال، وأسدهم في الأفعال، وأعدلهم في الأحكام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، واستقيموا إليه واستغفروه، وأعدوا من الأعمال الصالحة ما يقرب لديه.
أيها الإخوة، وكما يكون العدل في الأبعدين فهو في الأهلين والأقربين حق وحتم. وأحق الناس بالعدل أبناؤك. فمن ابتغى بر أبنائه وبناته يحبونه في حياته ويترحمون عليه بعد مماته وتصفو قلوبهم فيما بينهم فليتق الله وليقم العدل فيما بينهم، يساوي بينهم في العطية والمعاملة والنظرة والابتسامة. وليتق الله أولئك الذين يحرمون بعض المستحقين من الذرية في عطية أو وصية فذلك حرام وجور وظلم، والوصية به وصية ظلم وجنف، مخالفة للعدل والحق لا يجوز نفاذها، فتلك أفعالٌ شنيعة، وظلمٌ مهلك، تقوم به الخصومات، وتثور به الأحقاد، وتقع به المظالم، وتتقطع به الأرحام.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى به رسول الله فقال: ((إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي. فقال رسول الله : أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا. قال عليه الصلاة والسلام: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم. قال: فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة))[1]. وفي رواية: ((إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم، فلا تُشهدني على جور))[2]؛ ((أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى. قال: فلا إذن))[3]، وفي رواية: ((سووا بين أولادكم في العطية كما تحبون أن يسووا بينكم في البر))[4].
والعدل في المعاملات الزوجية فرضٌ وحقٌ واجبٌ في النفقة والكسوة والمعاملة والعشرة كما يفعل الكرماء من ذوي العقل والدين والمروءة والكمال. تطعمها مما تطعم، وتكسوها مما تكتسي.
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط))[5] وفي رواية ((وشقه مائل))[6].
أيها الإخوة، حينما تتشرب النفوس العدل فيكون سجية لها فإنه يقودها إلى محاسن الأخلاق ومكارم المروءات، عدل في السلوك كله، وسط بين الإفراط والتفريط، جود وسخاء من غير سرف ولا تقتير، وشجاعة وقوة من غير جبن ولا تهور، وحلم وأناة من غير غضب ماحق أو مهانة مردية. وكل تعامل فَقَدَ العدل فهو ضرر وإضرار، وفساد وإفساد وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ [الشعراء:183].
وفي ديننا أيها الإخوة، مرتبة فوق العدل قد أمر الله بها مقترنة بالعدل. مرتبة تأتي لتجمل حدة العدل الصارم ووجهه الجازم الحازم، إنها مرتبة الإحسان حين تدع الباب مفتوحًا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقوقه إيثارًا لود القلب وشفاء غل الصدور، ليداوي جرحًا، ويكسب فضلاً، ويرتفع عند ربه درجاتٍ عُلا.
[1] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الهبة وفضلها .. باب الهبة للولد ، حديث (2586)، ومسلم : كتاب الهبات – باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة، حديث (1623).(/4)
[2] ضعيف، أخرجه (4/270)، وأبو داود: كتاب البيوع – باب في الرجل يفضل بعض ولده في النحل، حديث (3542). وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني ، وهو ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره، كما في التقريب. وانظر ضعيف أبي داود (3026). أما ذكر (الجور) فقد ثبت عند البخاري : كتاب الشهادات – باب: لا يشهد على شهادة جور ... حديث (2650)، ومسلم : كتاب الهبات – باب : كراهة تفضيل بعض الأولاد ... حديث (1623).
[3] صحيح، أخرجه مسلم : كتاب الهبات – باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، حديث (1623).
[4] صحيح، أخرجه ابن حبان: كتاب الهبة – ذكر خبر ثالث يصرح بأن الإيثار بين الأولاد .. حديث (5104)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/86) واللفظ له ، وأبو عوانة في مسنده (5686)، وأخرجه مسلم بلفظ : ((أليس تريد منهم البر مثل ما تريد من ذا؟..))، كتاب : الهبات – باب : كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة .. حديث (1623).
[5] صحيح، أخرجه أحمد (2/347)، والترمذي : كتاب النكاح – باب : ما جاء في التسوية بين الضرائر ، حديث (1141)، وابن ماجه: كتاب النكاح – باب القسمة بين النساء، حديث (1969)، وصححه ابن الجارود في المنتقى (722)، وابن حبان (4207)، والحاكم (2/186) والألباني. صحيح سنن الترمذي (912).
[6] صحيح، أخرجه أبو داود : كتاب النكاح – باب: في القسم بين النساء، حديث (2133)، والدارمي ، كتاب: النكاح – باب : في العدل بين النساء، حديث (2206)، وانظر الحديث السابق.(/5)
العدل بين الأولاد
1827
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
قضايا الأسرة, مكارم الأخلاق
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
ملخص الخطبة
1- الأبناء عطية وهبة من الله. 2- أنبياء الله يسألونه الولد الصالح. 3- مسئولية الوالدين في التربية. 4- العدل بين الأولاد ضرورة اجتماعية وفريضة شرعية. 5- تفضيل بعض الأولاد سبب للحقد والعداوة. 6- البعض يحرمون بناتهم من الميراث وسواه من الحقوق. 7- قصة والدي النعمان بن بشير. 8- جزاء العدل في الآخرة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أحبتي في الله: الأبناء هم عدة المستقبل ورجال الغد، وهم ثمار القلوب وعماد الظهور، وفلذات الأكباد، حبهم مغروس في النفوس، فالمرء يرى فيهم مستقبله المشرق وامتداده الطبيعي بعد الوفاة، وما من أحد من الناس إلا وهو يحب الأبناء، ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الأبناء والأحفاد.
وأنبياء الله المكرمون قد حرصوا على الذرية، وطلبوا من المولى سبحانه وتعالى أن يرزقهم الأبناء الصالحين الذين يكونون القدوة والأسوة لمن بعدهم، فهذا إبراهيم عليه السلام يسأل ربه الذرية الصالحة قائلاً: رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ [الصافات: 100]. وهذا زكريا عليه السلام يناجي ربه، ويسأله الولد ليكون وارثاً للنبوة من بعده قائلاً: فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً [مريم:5-6].
والقرآن الكريم حينما تحدث عن صفات عباد الله الصالحين ذكر أن من دعائهم لربهم أن يهبهم الله الولد الصالح، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
ولما كان للأبناء هذا الدور في الحياة، فقد حرص الإسلام أشد الحرص على بناء الأبناء البناء السليم الذي يُقوم سلوكهم وأخلاقهم، وينشئهم النشأة الصالحة التي تعتمد على التربية والتوجيه وغرس الإيمان في القلوب وإقامة الدعائم الأخلاقية والقيم الاجتماعية في قلوب الأبناء.
وقد أناط مسئولية التربية والتوجيه إلى الوالدين، وخص الأب بعظيم المسئولية في هذا وجعل القوامة بيده ليحسن التصرف والتربية، وإن من مقتضى هذه القوامة أن يحسن تربية الأبناء التربية الإسلامية التي تقربهم إلى الله زلفى، وأن يحرص في ذلك على إقامة العدل بين الأبناء، فإنه إن أقامه بينهم فقد أحسن لهم، وأعانهم على البر، وحقق بينهم المحبة والأخوة.
وإن اندفع مع هواه واتبع عاطفته أو تأثر بأي عامل من عوامل التأثير، فمال إلى تفضيل بعض الأبناء على بعض بتفضيل الذكور على الإناث، أو الصغار على الكبار، أو أولاد الجديدة على القديمة، أو غير ذلك من ألوان التفريق، فقد أوقع نفسه في الظلم، وساق بها إلى الهلكة، وساهم في تصدع بناء الأسرة وتفكك أعضائها وإيجاد العداوة والبغضاء بين الأبناء، فأدى ذلك إلى عقوقه في الحياة وبعد الممات، وأدى ذلك إلى ظهور العدوان وكثرة الخصام والشقاق بين الإخوان.
وفي قصة يوسف مع إخوته عبرة وعظة لأولي الألباب لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَاتٌ لّلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:7-9].
إن مثل هذه التصرفات تجعل الأسرة في صراع دائم وتفكك مستمر، والسبب في ذلك عدم العدل بين الأولاد، واستبدال ذلك بالظلم الذي نهى الشارع عنه، إن بعض الرجال من الآباء الذين شذت طباعهم، وغلظت أكبادهم، وجمدت عواطفهم وغاب عنهم ما أمر الله به من العدل يقومون بحرمان البنات من المال وإيثار الذكور من الرجال بذلك، والحجة لهم في هذا أن الذكور امتداد لهم، فهم أولى بحمل الراية من بعدهم، فهم أولى بالمال من البنات، بل إن البنت إنما تأخذ مالها لتعطيه لزوجها الذي هو في نظر بعض الآباء غريب عن الأسرة، ليس له في المال من نصيب، وهذا الفعل من الظلم الذي نهى الله عنه، فإن الله سبحانه قد أعطى كل ذي حق حقه، فالواجب على الآباء تحقيق أمر الله، وترك الظلم الذي يقع على الأبناء والإنسان لا يدري أين الخير في الذكور أم في الإناث، ومولانا يقول: ءابَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً [النساء:11].
والحق أننا سمعنا من بعض الآباء الذين فعلوا ببناتهم مثل هذا، فخصوا الذكر بالأموال، ونال البنات القليل جداً من المال، ثم كانت عاقبة أمرهم خسراً، نعوذ بالله من الخزي والندامة في الدنيا وفي دار المقامة.(/1)
إخوة الإسلام: إذا كان الواحد منا يحب بعض أولاده أكثر من الآخرين فلا يجوز له أن يظهر هذه المحبة أمام أبنائه، فإن هذا يقتلهم، ويجعل الحقد في قلوبهم، ويزرع البغضاء في نفوسهم، فالأولى أن يجعل حبه هذا في قلبه حتى تسلم أخوة الأبناء من التصدع، بل من الواجب عليه لو قبل أحد أبنائه، وغيره ناظر إليه، أن يقبل الآخر حتى يكونوا في البر سواء، فالواجب علينا – إخوة الإسلام – أن نعدل بين أبنائنا في القسمة، وأن نجعلهم سواء في العطية والهبة، وأن نتركهم من بعدنا إخواناً متحابين، يعاون قويهم ضعيفهم، ويساعد قادرهم عاجزهم، ويشد ذكرهم أزر أنثاهم دون أن يكون هناك شقاق أو خلاف أو عداوة بينهم.
والشارع الحكيم حث على هذه المساواة في المعاملة بين الأبناء، واعتبر الخروج عن ذلك ظلماً وجوراً، لا يجوز لأبناء الإسلام أن يقعوا فيه، أخرج النسائي: (3681) بسنده عن النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه أن أمه ابنة رواحة سألت أباه بعض الموهبة من ماله لابنها فالتوى بها سنة، ثم بدا له فوهبها له، فقالت: لا أرضى حتى تشهد رسول الله ، فقال: يا رسول الله، إن أم هذا ابنة رواحه قاتلتني على هذا الذي وهبت له، فقال رسول الله : ((يا بشير، ألك ولد سوى هذا؟)) قال: نعم، فقال رسول الله : ((أفكلهم وهبت لهم مثل الذي وهبت لابنك هذا))؟ قال: لا، قال رسول الله : ((فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جور)). وفي رواية (3680): ((فلا أشهد على شيء، أليس يسرك أن يكونوا إليك في البر سواء))؟ قال: بلى، قال: ((فلا إذاً)).
لقد عد رسول الله تلك العطية التي لم يتساوى فيها جميع الأولاد ظلماً، وكفى بالظلم بشاعة، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن العدل بين الأولاد مما أمرنا به شرعنا الحنيف، فاسلكوا طريق ربكم تستقم لكم الحياة، ويكونوا لكم في البر سواء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وسلك بي وبكم طريق عباده الصالحين، اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. . . أما بعد:
إخوة الإسلام:
أخرج مسلم: (1827) بسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال رسول الله : ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)).
إنه بيان من الرحمة المهداة يستنهض همم الرجال الصادقين السائرين إلى رضا الله ومرضاته، والراجين الفوز بالجنان، أن يحرصوا على العدل في كل أمر يوكل إليهم، ومن ذلك أمر أهليهم حتى يفوزوا بهذا الذي وعد به النبي من الجلوس على منابر عند الحق سبحانه في حضرته العلية.
فاتقوا الله عباد الله، وبادروا إلى إقامة العدل في أهليكم، وبين أبنائكم وبناتكم، واعلموا أن الظلم ظلمات، وأن العدل هو أساس النجاح والفلاح، فالبدار البدار إلى ذلك(/2)
العدل
أولاً: تعريف وبيان.
ثانياً: فضل العدل وأهله.
ثالثاً: العدل الإلهي.
رابعاً: لا عدل إلا في ظل الدين الحق.
خامساً: مفاهيم خاطئة للعدل.
سادساً: آيات البحث.
سابعاً: أحاديث البحث.
ثامناً: من آثار السلف وأقوال العلماء.
تاسعاً: أشعار.
أولاً: تعريف وبيان:
العدل لغةً: مصدر عدل يعدل عدلاً وهو مأخوذٌ من مادة (ع د ل) التي تدل على معنيين متقابلين: أحدهما يدل على الاستواء، والآخر على اعوجاج، ويرجع لفظ العدل هنا إلى المعنى الأول، وإذا كان العدل مصدراً فمعناه: خِلاف الجور وهو ما قام في النفوس أنه مستقيم، وقد يستعمل هذا المصدر استعمال الصفات، فيقال: رجلٌ عدلٌ، والعدل من الناس المرضِيُّ المستقيم الطريقة، ويستوي في هذا الوصف المفرد والمثنَّى والجمع والمذكّر والمؤُنَّث. يقال: رجل عدلٌ، ورجلان عدلٌ، ورجالٌ عدلٌ، وامرأةٌ عدلٌ، كل ذلك على معنى: ذو عدلٍ، أو ذوو عدلٍ، أو ذوات عدل.
ويرادف العدل في معناه المصدري العدالة والعدولة والمعْدَلة يقال: بسط الوالي عدله وعدالته ومعدلته بمعنى، وفلانٌ من أهل المعدلة أي من أهل العدل، وتعديل الشهود أن تقول إنهم عدولٌ، والعَدلُ والعِدلُ والعدِيل سواءٌ أي النظيرُ والمثيلُ، وقيل: هو المِثلُ وليس بالنظير عينه وفي التنزيل: {أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً} [المائدة:95].
والعدل أيضاً الحُكم بالحق، وفي قول الله تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ} [الطلاق:2]، قال سعيد بن المسيب: ذوي عقلٍ، وقال إبراهيم النخعي: العدلُ الذي لم تظهر منه ريبة.
العدل شرعا:
1. قال ابن حزم: هو أن تُعطي من نفسك الواجب وتأخذه.
2. وقال الجرجاني: العدل الأمر المتوسط بين الإفراط والتفريط.
3. وقيل: بذل الحقوق الواجبة وتسوية المستحقين في حقوقهم.
ومن الألفاظ التي تطلق على العدل:
القسط:
قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
قال ابن القيم: "أخبر بأنه لا إله إلا هو في أول الآية، وذلك داخل تحت شهادته وشهادة ملائكته وأولي العلم، وهذا هو المشهود به، ثم أخبر عن قيامه بالقسط وهو العدل، فأعاد الشهادة بأنه لا إله إلا هو مع قيامه بالقسط".
الصراط المستقيم:
قال الله تعالى عن هود عليه السلام وهو يخاطب قومه الذين هددوه وخوفوه بآلهتهم: {قَالَ إِنِى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود:54-56].
أي: مع كونه سبحانه آخذا بنواصي خلقه وتصريفهم كما يشاء فهو على صراط مستقيم، لا يتصرف فيهم إلا بالعدل والحكمة والإحسان والرحمة، فقوله: ((ماض فيَّ حكمك)) مطابق لقوله: {مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}، وقوله: ((عدل فيَّ قضاؤك)) مطابق لقوله: {إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
انظر: مقاييس اللغة لابن فارس (4/246)، والصحاح (5/1760)، ولسان العرب (5/2838)، ومفردات الراغب (325).
مداواة النفوس (ص82).
التعريفات للجرجاني (ص153).
الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة لعبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص253).
تهذيب السنن (5/182).
الطب النبوي (ص 161).
ثانياً: فضل العدل وأهله:
1. العدل هو الغاية التي من أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25].
قال ابن القيم: "إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهة بأي طريقٍ كان فثمَّ شرع الله ودينه، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وعلاماته في شيء ونفى غيرها من الطرق التي هي مثلها أو أقوى منها، بل بين ما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استُخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، لا يقال: إنها مخالفة له، فلا تقول: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسةً تبعا لمصطلحكم، وإنما هي شرعٌ حق".
2. أنه سبب للبركة في الأرزاق، وُجد في خزائن بعض بني أمية صرةُ حنطة أمثال نوى التمر مكتوبٌ عليها: هذا كان ينبت أيام العدل.
3. أنه موصل إلى محبة الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]، فهو سبحانه عدل ويحب أهل العدل.(/1)
4. أنه سبب لنيل المنزلة الرفيعة عند الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)).
5. أنه قرين التوحيد في كتاب الله تعالى، وذلك لأن التوحيد أعظم العدل، كما أن الشرك أعظم الظلم، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
قال ابن القيم: "فإن الشرك أظلم الظلم كما أن أعدل العدل التوحيد، فالعدل قرين التوحيد، والظلم قرين الشرك، ولهذا يجمع سبحانه بينهما، أما الأول ففي قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ}، وأما الثاني فكقوله: تعالى: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]".
6. أنه سبب لقيام الدول والمجتمعات وسرّ استقرار حالها، قال ابن تيمية: "أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام".
بدائع الفوائد (3/674).
قال ابن القيم في زاد المعاد (4/363): "هذه القصة ذكرها أحمد في مسنده على إثر حديث رواه".
أخرجه مسلم في الإمارة (1827) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
الفوائد (ص 81).
مجموع الفتاوى (28/146).
ثالثاً: العدل الإلهي:
العدل من الصفات التي اتفقت الشرائع جميعها على وصف الله به، بل الناس جميعا من أتباع الكتب السماوية يقرون بالعدل الإلهي، قال ابن القيم: "أنه سبحانه العدل الذي لا يجور ولا يظلم ولا يخاف عبادُه منه ظلما، فهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل، وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه، ولا يخبر نبيٌ بخلافه أصلا".
فمن أسماء الله تعالى الحسنى العدل، فهو سبحانه متصف بالعدل المطلق، فهو عادل في أحكامه الدنيوية والأخروية، وهو عادل في حكمه الشرعي والقدري، قال ابن القيم شارحا لاسم العدل: "ذو العدل على حذف المضاف... وهو من باب إطلاق المصدر على الفاعل لكونه غالبا عليه مكرَّرا منه، كقولهم: رجلٌ صوْمٌ وعدْلٌ وزور وبابُه".
قال ابن القيم: "قوله: ((ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك)) متضمن لأصلين عظيمين عليهما مدار التوحيد، أحدهما: إثبات القدر وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده ماضيه فيه لا انفكاك له عنها ولا حيلة له في دفعها، والثاني: أنه سبحانه عدل في هذه الأحكام غير ظالم لعبده، بل لا يخرج فيها عن موجب العدل والإحسان، فإن الظلم سببه حاجة الظالم أو جهله أو سفهه، فيستحيل صدوره ممن هو بكل شيء عليم، ومن هو غني عن كل شيء وكل شيء فقير إليه، ومن هو أحكم الحاكمين، فلا تخرج ذرة من مقدوراته عن حكمته وحمده كما لم يخرج عن قدرته ومشيئته، فحكمته نافذة حيث نفذت مشيئته وقدرته".
فهو سبحانه إن عاقب فبعدله، وإن أثاب فبمحض فضله وجوده وكرمه، قال ابن القيم: "فلا تناقضُ حكمتُه رحمتَه، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله تعالى أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء، ولا فرق أصلا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة".
والله تعالى لا يعذب الكفار يوم القيامة إلا بعد إقرارهم على أنفسهم، وشهادة الفطرة والوحي عليهم، قال ابن القيم: "إن الله سبحانه لكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال الرسول إليه وإن كان فاعلا لما يستحق به الذم والعقاب، فلله على عبده حجتان قد أعدهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما، إحداهما: ما فطره عليه وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ومليكه وفاطره وحقه عليه لازم، والثانية: إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك وتقريره وتكميله، فيقوم عليه شاهد الفطرة والشِّرعة، ويقر على نفسه بأنه كان كافرا، كما قال تعالى: {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأنعام:120] فلم ينفذ عليهم الحكم إلا بعد إقرارٍ وشاهدين، وهذا غاية العدل".
ومن كمال عدل الله تعالى أنه لا يظلم مثقال ذرة يوم القيامة، فهو سبحانه يحكم بين عباده ويعطي لكل ذي حق حقه بفضله وجوده ورحمته وكرمه، حقا أوجبه سبحانه على نفسه، ويعاقب كمن شاء بعدله، ولا يظلم أحدا من خلقه، فهو يعدل بينهم على تباعد أزمنتهم وأمكنتهم، وتنوع أوضاعهم وحالاتهم، واختلاف شرائعهم ومللهم، وتباين مستوياتهم وأعذارهم، ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه.(/2)
هداية الحيارى (ص 159).
بدائع الفوائد (2).
الطب النبوي (161-162).
بدائع الفوائد (2/347).
أحكام أهل الذمة (2/1013-1014).
رابعاً: لا عدل إلا في ظل الدين الحق:
العدل من مطالب الأفراد والمجتمعات، كلهم ينشدون العدل ويعملون على تحقيقه، ولكن أكثر الناس يظلم من حيث يقصد العدل، ويجور وهو يحسب أنه يقسط، وما سبب ذلك إلا الإعراض عن تحكيم شرع الله تعالى الذي هو العدل كله والإحسان كله والرحمة كلها والمصلحة جميعها، ذلك لأن الله تعالى أعلم بخلقه، وهو أرحم بهم من الأم بولدها، وهو أحكم الحاكمين، فلا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة للعباد، قال ابن القيم: "أفعال الرب تبارك وتعالى صادرة عن أسمائه وصفاته، وأسماء المخلوقين صادرة عن أفعالهم، فالرب تبارك وتعالى فِعالُه عن كماله، والمخلوق كمالُه عن فِعاله فاشتقت له الأسماء بعد أن كمل بالفعل، فالرب لم يزل كاملا فحصلت أفعاله عن كماله؛ لأنه كامل بذاته وصفاته فأفعاله صادرة عن كماله، كمُل ففعل، والمخلوق فعل فكمُل الكمال اللائق به... إن المعلومات سواه إما أن تكون خلقا له تعالى أو أمرا، إما علمٌ بما كوَّنه أو علمٌ بما شرعه، ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه، فالأمر كله مصدره عن أسمائه الحسنى، وهذا كله حسن لا يخرج عن مصالح العباد والرأفة والرحمة بهم والإحسان إليهم بتكميلهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فأمره كله مصلحة وحكمة ولطف وإحسان؛ إذ مصدره أسماؤه الحسنى، وفعله كله لا يخرج عن العدل والحكمة والمصلحة والرحمة؛ إذ مصدره أسماؤه الحسنى، فلا تفاوت في خلقه ولا عبث، ولم يخلق خلقه باطلا ولا سدى ولا عبثا".
إذا تقرر أنه لا عدل إلا في ظل شريعة الله تعالى، فليُعلم أنه إذا قصر أهل الشريعة في بيان ما انطوى عليه دين الله وحكمه من العدل والرحمة والمصلحة في العاجل والآجل فإن ذلك التقصير سيحمل أهل الباطل على أن يبتكروا لأنفسهم من السياسات والقوانين ما يظنونه عدلا وهو الظلم بعينه والجور برمته، قال ابن القيم: "هذا موضع مزلة أقدام، وهو مقام ضنكٍ ومعتركٌ صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرةً لا تقوم بها مصالح العباد، وسدوا على نفوسهم طرقا عديدة من طرق معرفة الحق من الباطل، بل عطلوها مع علمهم قطعا وعلم غيرهم بأنها أدلة حق ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها أمر العالم، فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وأفرطت طائفة أخرى فسوغت منه ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أتت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله".
بدائع الفوائد (1/170-171).
بدائع الفوائد (3/674).
خامساً: مفاهيم خاطئة للعدل:
من أساليب أهل الباطل من الكفار والمبتدعة في الترويج لباطلهم العمد إلى ألفاظ ممدوحة شرعا محبوبة إلى الفطر السليمة والعقول المستقيمة، فيحرفون مدلولها ويطلقونها على معنى من المعاني الباطلة التي يريدون ترويجها على العامة بهذا السبيل الماكر.
من ذلك: استعمال المعتزلة للفظ العدل، وتمجيدهم له حتى صار أصلا من أصولهم الخمسة، وهم يريدون به معنى باطلا في غاية القبح، وهو نفي قضاء الله تعالى وقدره، قال ابن تيمية: "جعلوا من العدل أنه لا يشاء ما يكون، ويكون ما لا يشاء، وأنه لم يخلق أفعال العباد، فنفوا قدرته ومشيئته وخلقه لإثبات العدل، وجعلوا من الرحمة نفي أمور خلقها لم يعرفوا ما فيها من الحكمة".
وقال ابن القيم: "جحدوا بعض ما وصف به نفسه من صفات الكمال وسموه توحيدا، وشبهوه بخلقه فيما يحسن منهم ويقبح من الأفعال وسموا ذلك عدلا، وقالوا: نحن أهل العدل والتوحيد، فعدلهم إنكار قدرته ومشيئته العامة الشاملة التي لا يخرج عنها شيء من الموجودات ذواتها وصفاتها وأفعالها، وتوحيدهم إلحادهم في أسمائه الحسنى وتحريف معانيها عما هي عليه، فكان توحيدهم في الحقيقة تعطيلا، وعدلهم شركا".(/3)
من ذلك: استعمال الجبرية للعدل وإطلاقهم إياه في حق الله تعالى على كل مقدور، قال ابن القيم: "زعمت طائفة أن العدل هو المقدور، والظلم ممتنعٌ لذاته، قالوا: لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير والله له كل شيء فلا يكون تصرفه في خلقه إلا عدلا، وقالت طائفة: بل العدل أنه لا يعاقب على ما قضاه وقدره، فلما حسن منه العقوبة على الذنب علم أنه ليس بقضائه وقدره، فيكون العدل هو جزاؤه على الذنب بالعقوبة والذم، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، وصعُب على هؤلاء الجمع بين العدل وبين القدر، فزعموا أن من أثبت القدر لم يمكنه أن يقول بالعدل، ومن قال بالعدل لم يمكنه أن يقول بالقدر، كما صعُب عليهم الجمع بين التوحيد وإثبات الصفات... فصار توحيدهم تعطيلا وعدلهم تكذيبا بالقدر، وأما أهل السنة فهم مثبتون للأمرين، والظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه، كتعذيب المطيع ومن لا ذنب له، وهذا قد نزه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه، وهو سبحانه وإن أضل من شاء وقضى بالمعصية والغي على من شاء فذلك محض العدل فيه؛ لأنه وضع الإضلال والخذلان في موضعه اللائق به، كيف ومن أسمائه الحسنى العدل الذي كل أفعاله وأحكامه سدادٌ وصواب وحق، وهو سبحانه قد أوضح السبل وأرسل الرسل وأنزل الكتب وأزاح العلل ومكَّن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول، وهذا عدله، ووفق من شاء بمزيد عناية، وأراد من نفسه أن يعينه ويوفقه فهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله، وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوفقه، فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله... فإذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية كان ذلك محض العدل... والمقصود أن قوله: ((ماض في حكمك، عدل في قضاؤك)) رد على الطائفتين القدرية الذين ينكرون عموم أقضية الله في عبده ويخرجون أفعال العباد عن كونها بقضائه وقدره ويردون القضاء إلى الأمر والنهي، وعلى الجبرية الذين يقولون: كل مقدور عدل، فلا يبقى لقوله: ((عدل في قضاؤك)) فائدة، فإن العدل عندهم كل ما يمكن فعله، والظلم هو المحال لذاته، فكأنه قال: ماض ونافذ في قضاؤك، وهذا هو الأول بعينه".
ومن ذلك: إطلاق الكفار والعلمانيين ودعاة حقوق الإنسان العدل على كثير من المبادئ والأفكار المخالفة للدين الحق، بل ربما بعضها يصادم أديانهم المحرفة، كإطلاقهم العدل على التسوية بين المختلفَيْن، ويندرج تحت هذا صورٌ كثيرة، منها التسوية في الحقوق السياسية بين الخاصة والسوقة، وبين العلماء والسفهاء، وبين الخبير بالشأن والعجوز التي لا تعلم شيئا عما هو خارج عن نطاق بيتها، فيجعلون أصوات هؤلاء كلِّهم على حد سواء بزعم العدل، وهذا غاية الظلم، وهو منافٍ للعقل السليم الراجح.
وكثير من هؤلاء الكفار وأتباعهم الذين ضعف الإيمان بالله في قلوبهم يطعنون في بعض أحكام الإسلام بأنها مخالفة للعدل، فيشككون بذلك في الإسلام، كجعل دية المرأة نصف دية الرجل، وميراثها على النصف من ميراث الرجل إلى غير ذلك من الأحكام التي شرعها أحكم الحاكمين وأعدل العادلين.
ولهم سلف في هذا المسلك المرذول فقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ونظم في ذلك شعرا دل على جهله وقلة عقله فقال:
يدٌ بخمس مئين عسجد وُديت ما بالها قطِعت في ربع دينار؟!
تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار
ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلَّبه الفقهاء فهرب منهم، وقد أجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي أن قال: "لما كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت"، ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمس مائة دينار لئلا يجنى عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدْر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب.
دقائق التفسير (2/144).
بدائع الفوائد (2/392).
الفوائد (ص 24-26).
انظر تفسير ابن كثير (2/56-57).
سادساً: آيات البحث:
1. قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152].
قال ابن جرير: "وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم، فقولوا الحق بينهم، واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا، ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم ذا قربة لكم، ولا يحملنكم قرابة قريب وصداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره أن تقولوا غير الحق فيما احتكم إليكم فيه".(/4)
وقال ابن سعدي: "{وَإِذَا قُلْتُمْ} قولاً تحكمون به بين الناس، وتفصلون بينهم الخطاب، وتتكلمون به على المقالات والأحوال {فَاعْدِلُواْ} في قولكم، بمراعاة الصدق فيمن تحبون ومن تكرهون، والإنصاف وعدم كتمان ما يلزم بيانه، فإن الميل على من تكره بالكلام فيه، أو في مقالته من الظلم المحرم. بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع، فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يبين ما فيها من الحق والباطل، ويعتبر قربها من الحق وبعدها منه، وذكر الفقهاء أن القاضي يجب عليه العدل بين الخصمين في لحظه ولفظه".
وقال الشنقيطي: "أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالعدل في القول، ولو كان على ذي قرابة، وصرح في موضع آخر بالأمر بذلك، ولو كان على نفسه أو والديه".
2. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} الآية [النساء:135].
قال ابن جرير: "قوموا بالقسط لله عند شهادتكم، أو حين شهادتكم {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والديكم أو أقربيكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحتها بأن تقولوا فيها الحق، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غني فتجوروا، فإن الله سوّى بين حكم الغني والفقير فيما ألزمكم أيها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما، وأحقّ منكم، لأنه مالكهما، وأولى بهما دونكم، فهو أعلم بما فيه مصلحة كل واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليها {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} يقول: فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها، لغني على فقير، أو لفقير على غني إلى أحد الفريقين فتقولوا غير الحق، ولكم قوموا فيه بالقسط، وأدّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.
فإن قال قائل: وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهد بالقسط، وهل يشهد الشاهد على نفسه؟ قيل: نعم، وذلك أن يكون عليه حق لغيره، فيقرّ له به، فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه، وهذه الآية عندي تأديب من الله جلّ ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقهم ما سرقوا وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهادتهم لهم عنده بالصلاح، فقال لهم: إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه، فقوموا فيها بالعدل، ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم، فلا يحملنكم غني من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحمه منكم على الشهادة له بالزور ولا على ترك الشهادة عليه بالحقّ وكتمانها".
وقال القرطبي: "هو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها. ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما، ثم ثنّى بالأقربين إذ هم مظنة المودّة والتعصب، فكان الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه".
وقال ابن كثير: "يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط، أي: بالعدل، فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه... {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} أي: أشهد الحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه، وإن كان مضرة عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه.
وقوله: {أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} أي: وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تراعهم فيها، بل أشهد بالحق، وإن عاد ضررها عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد، وهو مقدم على كل أحد".
وقال ابن سعدي: "يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ}.
والقوام صيغة مبالغة، أي: كونوا في كل أحوالكم، قائمين بالقسط في حقوق الله، أن لا يستعان بنعمه على معصيته، بل تصرف في طاعته. والقسط في حقوق الآدميين، أن تؤدى جميع الحقوق التي عليك، كما تطلب حقوقك. فتؤدى النفقات الواجبة، والديون، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، من الأخلاق والمكافأة، وغير ذلك. ومن أعظم أنواع القسط، القسط في المقالات والقائلين. فلا يحكم لأحد القولين، أو أحد المتنازعين، لانتسابه أو ميله لأحدهما.(/5)
بل يجعل وجهته، العدل بينهما. ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان، حتى على الأحباب، بل على النفس، ولهذا قال: {شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}.
أي: فلا تراعوا الغني لغناه، ولا الفقير ـ بزعمكم ـ رحمة له. بل اشهدوا بالحق، على من كان. والقيام بالقسط، من أعظم الأمور، وأدلها على دين القائم به، وورعه ومقامه في الإسلام.
فيتعين على من نصح نفسه، وأراد نجاتها أن يهتم له غاية الاهتمام، وأن يجعله نصب عينيه، ومحل إرادته، وأن يزيل عن نفسه، كل مانع وعائق يعوقه، عن إرادة القسط، أو العمل به. وأعظم عائق لذلك، اتباع الهوى، ولهذا، نبه تعالى على إزالة هذا لمانع بقوله: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} أي: فلا تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق، فإنكم إن اتبعتموها عدلتم عن الصواب، ولم توفقوا للعدل، فإن الهوى إما أن يعمي بصيرة صاحبه، حتى يرى الحق باطلاً، والباطل حقاً، وإما أن يعرف الحق ويتركه، لأجل هواه. فمن سلم من هوى نفسه، وفق للحق، وهدي إلى الصراط المستقيم".
3. وقال تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42].
قال ابن سعدي: "حتى ولو كانوا ظلمة أعداء، فلا يمنعك ذلك من العدل في الحكم بينهم، وفي هذا بيان فضيلة العدل والقسط في الحكم بين الناس، وأن الله تعالى يحبه".
4. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
قال ابن جرير: "إن الله يأمر في هذا الكتاب الذي أنزله إليك يا محمد بالعدل، وهو الإنصاف، ومن الإنصاف: الإقرار بمن أنعم علينا بنعمته، والشكر له على إفضاله، وتولي الحمد أهله".
وقال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان".
وقال ابن سعدي: "فالعدل الذي أمر الله به، يشمل العدل في حقه، وفي حق عباده.
فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفورة، بأن يؤدى العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية، والمركبة منهما، في حقه، وحق عباده. ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدى كل وال، ما عليه، تحت ولايته، سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى، وولاية القضاء، ونواب الخليفة، ونواب القاضي.
والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأمرهم بسلوكه. ومن العدل في المعاملات، أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات، بإيفاء جميع ما عليك، فلا تبخس لهم حقاً، ولا تغشهم، ولا تخدعهم وتظلمهم. فالعدل واجب، والإحسان فضيلة مستحبة".
5. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58].
قال ابن جرير: "هو خطاب من الله لولاة أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من ولوا أمره في فيئهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم بالعدل بينهم في القضية، والقسم بينهم بالسوية".
وقال ابن كثير: "أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس".
وقال ابن سعدي: "وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء، والأموال، والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والفاجر والولي، والعدو. والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به، هو ما شرعه الله على لسان رسوله، من الحدود والأحكام، وهذا يستلزم معرفة العدل، ليحكم به".
6. وقال تعالى: {وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى:15].
قال ابن جرير: "وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعاً بالحق الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه".
وقال ابن كثير: "أي: في الحكم كما أمرني الله".
وقال ابن سعدي: "أي: في الحكم فيما اختلفتم فيه، فلا تمنعني عداوتكم وبغضكم يا أهل الكتاب من العدل بينكم ومن العدل في الحكم بين أهل الأقوال المختلفة من أهل الكتاب وغيرهم أن يقبل ما معهم من الحق، ويرد ما معهم من الباطل".
7. وقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8].(/6)
قال ابن جرير: "يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله، شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم، فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم، ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدّي، واعملوا فيه بأمري".
وقال ابن سعدي: "أن تكونوا قاصدين للقسط، الذي هو العدل، لا الإفراط وإلا التفريط، في أقوالكم ولا في أفعالكم، وقوموا بذلك على القريب، والبعيد، والصديق والعدو، فكما تشهدون لوليكم فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم، فاشهدوا له، ولو كان كافراً أو مبتدعاً. فإنه يحب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق، لا لأنه قاله، ولا يرد الحق لأجل قوله فإن هذا ظلم الحق".
8. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ} [الأعراف:33].
ذهب جماعة من المفسرين ومنهم: ابن جرير الطبري، والقرطبي، وابن كثير رحمهم الله إلى أن البغي في الآية هنا هو: الاستطالة على الناس بالظلم وتجاوز الحد.
قال ابن سعدي رحمهم الله: "{وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ} أي: الذنوب التي تؤثم، وتوجب العقوبة في حقوق الله، والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فدخل في هذا الذنوب المتعلقة بحق الله، والمتعلقة بحق العباد".
9. وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:42].
قال ابن سعدي: "أي: إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ} وهذا شامل للظلم والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم".
جامع البيان (8/86).
تيسير الكريم الرحمن (2/86).
أضواء البيان (2/281).
جامع البيان (5/321).
الجامع لأحكام القرآن (5/410).
تفسير القرآن العظيم (2/384).
تيسير الكريم الرحمن (1/423-424).
تيسير الكريم الرحمن (1/486).
جامع البيان (14/162).
تفسير القرآن العظيم (4/514).
تيسير الكريم الرحمن (3/78-79).
جامع البيان (5/145).
تفسير القرآن العظيم (2/300).
تيسير الكريم الرحمن (1/361).
جامع البيان (25/17).
تفسير القرآن العظيم (7/184).
تيسير الكريم الرحمن (4/416).
جامع البيان (6/141).
تيسير الكريم الرحمن (1/464-465) بتصرف يسير.
انظر: جامع البيان (8/166).
انظر: الجامع لأحكام القرآن (7/201).
انظر: تفسير القرآن العظيم (3/404).
تيسير الكريم الرحمن (2/107).
تيسير الكريم الرحمن (4/430).
سابعاً: أحاديث البحث.
1. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكمتم فاعدلوا، وإذا قتلتم فأحسنوا، فان الله عز وجل محسنٌ يحب المحسنين)).
2. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)).
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)) فمنعناه أن هذا الفضل إنما هو لمن عدل فيما تقلده من خلافة أو إمارة أو قضاء أو حسبة أو نظر على يتيم أو صدقة أو وقف وفيما يلزمه من حقوق أهله وعياله ونحو ذلك والله أعلم".
3. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر اشترط عليهم أن له الأرض، وكل صفراء وبيضاء. يعني الذهب والفضة، وقال له أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض، فأعطِناها على أن نعملها ويكون لنا نصف الثمرة ولكم نصفها، فزعم أنه أعطاهم على ذلك. فلما كان حين يُصرم النخل، بعث إليهم ابن رواحة، فحزر النخل، وهو الذي يدعونه أهل المدينة الخرص، فقال: في ذا كذا وكذا. فقالوا: أكثرت علينا يا ابن رواحة. فقال: فأنا أحزر النخل وأُعطيكم نصف الذي قلت. قال: قالوا: هذا الحق، وبه تقوم السماء والأرض. فقالوا: قد رضينا أن نأخذ بالذي قلت.
4. وعن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى يُشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: ((أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟)) قال: لا، قال: ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) قال: فرجع فرد عطيته.(/7)
قال ابن القيم: "وهذا أمر تهديد، لا إباحة، فإن تلك العطية كانت جوراً بنص الحديث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن لأحد أن يشهد على صحة الجور، ومن ذا الذي كان يشهد على تلك العطية، وقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشهد عليها، وأخبر أنها لا تصلح وأنها جور وأنها خلاف العدل.
ومن العجب أن يحمل قوله: ((اعدلوا بين أولادكم)) على غير الواجب، وهو أمر مطلق مؤكد ثلاث مرات، وقد أخبر الأمر به أن خلافه جور، وأنه لا يصلح وأنه ليس بحق وما بعد الحق إلا الباطل، هذا والعدل واجب في كل حال، فلو كان الأمر به مطلقاً لوجب حمله على الوجوب، فكيف وقد اقترن به عشرة أشياء تؤكد وجوبه فتأملها في ألفاظ القصة".
5. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكارهنا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالعدل أين كنا، لا نخاف في الله لومة لائم.
6. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ كفارات، وثلاث درجات، وثلاث منجيات، وثلاث مهلكات. فأما الكفارات: فإسباع الوضوء في السبرات، وانتظار الصلوات بعد الصلوات، ونقل الأقدام إلى الجماعات. وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام. وأما المنجيات: فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية. وأما المهكلات: فشحٌّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)).
7. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادلٌ، وشابٌ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)).
قال ابن حجر: "وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط".
8. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناساً في القسمة: فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أُناساً من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة. قال رجلٌ: والله إن هذه القسمة ما عُدل فيها، وما أُريد بها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأخبرته. فقال: ((فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رَحِم الله موسى، فقد أُوذي بأكثر من هذا فصبر)).
9. وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظلموا...)) الحديث.
قال ابن تيمية: "قوله: ((وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) فإنها تجمعُ الدين كله، فإن ما نهى الله عنه راجعٌ إلى الظلم، وكل ما أمر به راجعٌ إلى العدل، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد:25].
فأخبر أنه أرسل الرسل، وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط، وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدي، والسيف ينصر، وكفى بربك هادياً ونصيراً... لكن المقصود أن كل خير فهو داخلٌ في القسط والعدل، وكل شر فهو داخل في الظلم، ولهذا كان العدل أمراً واجباً في كل شيء وعلى كل أحد، والظلم محرماً في كل شيء ولكل أحد، فلا يحل ظلم أحد أصلاً سواء كان مسلماً أو كافراً، أو كان ظالماً. بل الظلم إنما يباح ويجب فيه العدل عليه أيضاً قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ} [المائدة:8]، أي يحملنكم شنآن أي بغض قوم وهم الكفار على عدم العدل {قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}... فإن هذا خطاب لجميع العباد أن لا يظلم أحد أحداً. وأمر العالم في الشريعة مبنيٌّ على هذا، وهو العدل في الدماء والأموال والأبضاع والأنساب والأعراض".
وقال ابن رجب: "يعني: أنه تعالى حرَّم الظلم على عباده، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرامٌ على كل عبدٍ أن يظلم غيره، مع أن الظلم في نفسه محرَّم مطلقاً، وهو نوعان:(/8)
أحدهما: ظلمُ النفس، وأعظمه الشرك، كما قال تعالى: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فإن المشرك جعل المخلوق في منزلةِ الخالق، فعبده وتألَّهه، فوضع الأشياء في غير موضعها، وأكثر ما ذُكر في القرآن من وعيد الظالمين إنما أُريد به المشركون، كما قال عز وجل: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]، ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر.
والثاني: ظلمُ العبد لغيره، وهو المذكور في هذا الحديث، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))".
10. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا))، ويشير إلى صدره ثلاث مرات ((بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعِرضه)).
قال ابن رجب: "فتضمَّنت هذه النصوص كلها أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بوجهٍ من الوجوه من قولٍ أو فعلٍ بغير حق، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [الأحزاب:58].
وإنما جعل الله المؤمنين إخوةً ليتعاطفوا ويتراحموا، وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)).
عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (5/197) للطبراني في الأوسط وقال: "رجاله ثقات"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (469).
أخرجه مسلم في الإمارة (1827).
شرح صحيح مسلم (12/454).
أخرجه أبو داود في البيوع (3410)، وابن ماجه في الزكاة (1820). وذكره الألباني في صحيح أبي داود (2910).
أخرجه البخاري في الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب: الإرشاد في الهبة (2587) واللفظ له، ومسلم في الهبات (1623).
تحفة المودود (ص160).
أخرجه النسائي في البيعة (4153)، وأصله في البخاري كتاب المغازي (3999).
السبرات: جمع سبرة وهي شدة البرد.
أخرجه البزار (1/59، 60 كشف الأستار)، وعزاه في مجمع الزوائد (1/91) للطبراني في الأوسط، وذكره الألباني في الصحيحة (1802).
أخرجه البخاري في الزكاة (1423) واللفظ له، ومسلم في الزكاة (1031).
فتح الباري (2/145).
أخرجه البخاري في فرض الخمس (3150) واللفظ له، ومسلم في الزكاة (1062).
أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: تحريم الظلم (2577).
إنعام الباري في شرح حديث أبي ذر الغفاري (ص57) وما بعدها.
رواه البخاري (67)، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
جامع العلوم والحكم (2/36).
أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: تحريم ظلم المسلم... (2564).
جامع العلوم والحكم (2/282).
ثامنا: من آثار السلف وأقوال العلماء:
1. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الله إنما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول لتحيى القلوب، فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحييها الله، من علم شيئاً فلينفع به، إن للعدل أماراتٍ وتباشير، فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهين واللين. وأما التباشير فالرحمة. وقد جعل الله لكل أمر باباً، ويسّر لكل بابٍ مفتاحاً، فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد، والاعتبار ذكر الموت والاستعداد بتقديم الأموال. والزهد أخذ الحق من كل أحدٍ قبله حقٌ، والاكتفاء بما يكفيه من الكفاف، فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شيءٌ...).
2. قال ربعيُّ بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد الفرس ـ لما سأله: ما جاء بكم؟ـ: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه حتى نفيء إلى موعود الله). قالوا: وما موعود الله؟ قال: (الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي).
3. قال سعيد بن جبير في جوابٍ لعبد الملك عن العدل: "العدل على أربعة أنحاء: العدل في الحكم لقوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} [المائد:42]، والعدل في القول لقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ} [الأنعام:152]، والعدل في الفدية لقوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:123]، والعدل في الإشراك، قال تعالى: {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]".
4. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الحق حتى اشتري، وبسطوا الجور حتى افْتُديَ).(/9)
5. قال عمر بن عبد العزيز: (إذا دعتك قُدرتك على ظلم الناس، فاذكر قدرة الله تعالى عليك، ونفاد ما تأتي إليهم وبقاء ما يأتون إليك).
6. قال ابن تيمية: "إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ويُروى (الله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة) .
7. قال الغزالي: "إن حظ العبد من العدل أمرٌ ظاهرٌ لا يخفى، فأوَّل شيء يجب عليه من العدل في صفات نفسه أن يجعل الشهوة والغضب أسيرين تحت إشارة العقل والدين، فإنه لو جعل العقل خادماً للشهوة والغضب فقد ظلمه، هذا في الجملة، أما تفصيلات ما يجب عليه في العدل في نفسه فمراعاة حدود الشرع كلها، وإن عدله في كل عُضو أنه يستعمله على الوجه الذي أذن الشرع فيه. وأما عدله في أهله وذويه فأمر ظاهرٌ يدل عليه العقل الذي وافقه الشرع، وإما إن كان من أهل الولاية فإن العدل في الرعية من أوجب واجباته".
8. قال ابن حزم: "أفضل نعم الله تعالى على المرء أن يطبعه على العدل وحبّه وعلى الحقّ وإيثاره".
9. قال ابن الجوزي: "الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة، والمعصية فيه أشد من غيرها لأنه لا يقع غالباً إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار. وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب ولو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتّقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلمات الظلم الظالم، حيث لا يغني عنه ظلمهُ شيئاً".
10. قال ابن القيم: "التوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال".
11. وقال: "الإنسان خُلق في الأصل ظلوماً جهولاً، ولا ينفك عن الجهل والظلم إلا يُعلّمه الله ما ينفعه، ويُلهمه رشده، فمن أراد به خيراً علَّمه ما ينفعه، فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علَّمه فخرج به عن الظلم ومن لم يرد به خيراً أبقاه على أصل الخلقة. فأصل كل خيرٍ هو العلم والعدل، وأصل كل شرٍ هو الجهل والظلم".
12. وقال أيضاً: "والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك به، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وديوانٌ لا يترك الله تعالى منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، فإن الله تعالى يستوفيه كله. وديوانٌ لا يعبأُ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل فإن هذا الديوان أخفّ الدواوين وأسرعها محواً، فإنه يمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفِّرة ونحو ذلك. بخلاف ديوان الشرك، فإنه لا يُمحى إلا بالتوحيد، وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها. ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل حرّم الجنة على أهله، فلا تدخل الجنة نفسٌ مشركة".
13. قال الشيخ محمد بن يحيا الزبيدي: "إن المظلوم إذا شكا إلى الله تعالى اقتضى عدل الله عز وجل الإيقاع بظالمه، فيحب الله سبحانه وتعالى أن يجهر المظلوم بالشكوى، ليكون الإيقاع بالظالم مبسوط العذر عند الخلق، وزاجراً لأمثاله عن أمثال فاعله، وإنما يُمهل الظالم من جهة أن الخلق إذا ملك أحدكم مملوكين فجُني على أحدهم جناية فإن أرشها لسيّده، فالخلقُ ملكٌ لله عز وجل فلا اعتراض عليه".
انظر: البداية والنهاية لابن كثير (7/37).
انظر: البداية والنهاية لابن كثير (7/40).
انظر: التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (ص506).
انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/179).
انظر: سير أعلام النبلاء (5/131).
مجموع الفتاوى (28/62، 63).
بتصرف شديد من المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى له (ص98-101).
مداواة النفوس (ص90).
انظر: فتح الباري (5/121).
التفسير القيم (ص179).
إغاثة اللهفان (2/136، 137) بتصرف.
الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص33).
انظر: الآداب الشرعية (1/246).
تاسعاً: أشعار:
قال أبو العتاهة:
أما والله إن الظلم لؤمٌ وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديّان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا غداً عند الإله من الملوم
وقال آخر:
وما من يد إلا يدُ الله فوقها وما ظالمٌ إلا سيبلى بظالم
قال محمود الورَّاق:
اصبر على الظلم ولا تنتصر فالظلم مردودٌ على الظالم
وَكِل إلى الله ظلوماً فما ربي عن الظالم بالنائم
قال بعض الشعراء:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
قال الشاعر:
يا أيها الظالم في فعله فالظلم مردودٌ على من ظلم
إلى متى أنت وحتَّى متى تسلو المصيبات وتنسى النقم؟
انظر: الآداب الشرعية (1/181).
انظر: بصائر ذوي التمييز (3/543).
بصائر ذوي التمييز (3/544).(/10)
العز بن عبد السلام
- العز بن عبد السلام اسماً ونسباً ولقباً وشهرة ومذهباً:
ولد سنة 578هـ الإمام عبد العزيز بن عبد السلام السُّلمي، المغربي أصلاً، الدمشقي مولداً، المصري داراً ووفاة، أبو محمد، الملقب بعز الدين، وبسلطان العلماء، والمعروف ببائع الملوك.
وهو سلطان العلماء، لقبه بهذا اللقب تلميذه الأول شيخ الإسلام ابن دقيق العيد([1][1])،
صفاته الخُلُقية :
إن صفات العز الخُلُقية كثيرة، وهي في مجملها تدل على تمتعه بأكمل الصفات، وأجمل الخصال، وأنبل المزايا، فمن صفاته:
q الورع :
لما مرض مرض الموت أرسل له الملك الظاهر بيبرس وقال له: عين مناصبك لمن تريد من أولادك، فقال: ما فيهم من يصلح، وهذه المدرسة الصالحية تصلح للقاضي تاج الدين بن بنت الأعز أحد تلاميذه، ففوضت إليه. ومنها عزله لنفسه من القضاء أكثر من مرة خوفاً من حمله الثقيل، وتبعاته العظيمة([2][2]).
q الزهد :
كان العز من الزهاد حقاً وصدقاً، بل كان شديد الزهد، فلم يجمع من الدنيا إلا القليل، وإذا عرضت عليه أعرض عنها، وقصصه في ذلك كثيرة، منها:
بعد أن انتهت محنته مع الملك الأشرف، أراد الملك أن يسترضيه، فقال: "والله لأجعلنه أغنى العلماء" ولكن العز لم يأبه لذلك، ولم ينتهز هذه الفرصة لمصالحه الشخصية، ولم يقبل درهماً من الملك، بل رفض الاجتماع به لأمور شخصية.
ولما مرض الملك الأشرف مرض الموت وطلب الاجتماع به ليدعو له، ويقدم له النصيحة اعتبر العز ذلك قربة لله تعالى، وقال: نعم، إن هذه العبادة لمن أفضل العبادات، لما فيها من النفع المتعدي إن شاء الله تعالى. وذهب ودعا للسلطان لما في صلاحه من صلاح المسلمين والإسلام، وأمره بإزالة المنكرات، وطلب منه الملك العفو والصفح عما جرى في المحنة، قائلاً: يا عز الدين، اجعلني في حل.. فقال الشيخ: أما محاللتك فإني كل ليلة أحالل الخلق، وأبيت وليس لي عند أحد مظلمة، وأرى أن يكون أجري على الله.
وفي نهاية الجلسة أطلق له السلطان ألف دينار مصرية، فردها عليه، وقال: هذه اجتماعة لله لا أكدرها بشيء من الدنيا.
ولما استقال العز من القضاء عند فتواه ببيع الأمراء، ورفض السلطان لذلك، خرج من القاهرة، وكل أمتعته في الحياة، مع أسرته، حمل حمار واحد، ممايدل على قناعته بالقليل، وزهده في المال والمتاع.
ومن ذلك ما ذكرته من عرض الظاهر بيبرس عليه أن يجعل أي أبنائه شاء خلفاً له في مناصبه بعد وفاته وإبائه لذلك، عندها قال له الظاهر: من أين يعيش ولدك؟ قال: من عند الله تعالى. قال: نجعل له راتباً؟ قال: هذا إليكم.
والحقيقة أن ولد العز الشيخ عبد اللطيف كان عالماً فقيهاً، ويصلح للتدريس، ولكن ورع العز وزهده منعه من جعل منصب التدريس وراثة لأولاده.
قال الداودي: "وكان كل أحد يضرب به المثل في الزهد والعلم"([3][3]).
q الكرم والسخاء والبذل :
وهي صفة تؤكد صفة الزهد فيه رحمه الله، فقد كان باسط اليد فيما يملك، يجود بماله على قلته طمعاً في الأجر والثواب.
حكى قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة رحمه الله، أن الشيخ لما كان بدمشق وقع مرة غلاء كبير حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل، فأعطته زوجته مَصاغا ًلها، وقالت: اشتر لنا به بستاناً نَصيف به، فأخذ المصاغ، وباعه، وتصدق بثمنه، فقالت: يا سيدي اشتريت لنا؟ قال: نعم، بستاناً في الجنة، إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمنه، فقالت له: جزاك الله خيراً([4][4]).
ولما جاء أستاذ الدار الغِرز([5][5]) خليل برسالة الملك الأشرف بدمشق للشيخ العز بعزله عن الإفتاء، قال له: يا غرز من سعادتي لزومي لبيتي، وتفرغي لعبادة ربي، والسعيد من لزم بيته، وبكى على خطيئته، واشتغل بطاعة الله تعالى، وهذا تسليك من الحق، وهدية من الله تعالى إلي، أجراها على يد السلطان وهو غضبان، وأنا بها فرحان، والله يا غرز لو كانت عندي خلعة تصلح لك على هذه الرسالة المتضمنة لهذه البشارة لخلعت عليك، ونحن على الفتوح، خذ هذه السجادة صل عليها، فقبِلها وقبّلها، وودعه وانصرف إلى السلطان، وذكر له ما جرى بينه وبينه. فقال لمن حضره: قولوا لي ما أفعل به، هذا رجل يرى العقوبة نعمة، اتركوه، بيننا وبينه الله"([6][6]).
قال ابن السبكي: "وحكي أنه كان مع فقره كثير الصدقات، وأنه ربما قطع من عمامته، وأعطى فقيراً يسأله إذا لم يجد معه غير عِمامته"([7][7]).
q التواضع :
على الرغم من الهيبة التي حظي بها العز والتي كان يخشاه لأجلها السلطان والأمراء، وعلى الرغم من المكانة الاجتماعية والعلمية، فقد كان الشيخ العز متواضع النفس مع نفسه ومع ربه ومع الناس جميعاً.
ومما يذكر له في ذلك أن نائب السلطنة في مصر عندما جاءه حاملاً سيفه ليقتل العز لفتواه ببيع الأمراء المماليك قام لاستقباله، فاعترضه ابنه خشية عليه من القتل، فقال له: "يا ولدي، أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله"([8][8]).(/1)
وكان رحمه الله يترك التكلف في لباسه، فقد قال ابن السبكي بعد أن ذكر كثرة صدقاته وأنه قد يتصدق بعمامته: "وفي هذه الحكاية ما يدل على أنه كان يلبس العمامة، وبلغني أنه كان يلبس قبّع لباد، وأنه كان يحضر المواكب السلطانية به، فكأنه كان يلبس تارة هذا، وتارة هذا، على حسب ما يتفق له من غير تكلف"([9][9]).
وقد سبق أنه خرج من مصر وكل متاعه حمل حمار مما يدل على تواضعه في معيشته، وتركه للتكلف فيها.
q الهيبة :
كان العز رحمه الله مهيباً في شخصيته، وكان يظهر أثر ذلك في دروسه وخطبه، وفي اجتماعه مع الناس، ومعاملته مع طلابه ومعاصريه، بل كانت هذه الهيبة تضفي آثارها الجسيمة على المتجبرين والمتكبرين والمتعالين والمتجرئين على الله والناس.
ومما يستشهد به لهذا الخلق قصته مع الأمراء الأتراك في مصر، وهم جماعة ذكر أن الشيخ لم يثبت عنده أنهم أحرار، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلغهم ذلك، فعظم الخطب عندهم فيه، وأضرم الأمر، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعاً ولا شراء ولا نكاحاً، وتعطلت مصالحهم بذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستشاط غضباً، فاجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال: نعقد لكم مجلساً وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي، فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه، فلم يرجع، فجرت من السلطان كلمة فيها غلظة، حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به، فغضب الشيخ، وحمل حوائجه على حمار، وأركب عائلته على حمار آخر، ومشى خلفهم خارجاً من القاهرة، قاصداً نحو الشام، فلم يصل إلى نحو نصف بريد إلا وقد لحقه غالب المسلمين، لم تكد امرأة ولا صبي ولا رجل لا يؤبه إليه يتخلف، لا سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم، فبلغ السلطان الخبر، وقيل له: متى راح ذهب ملكك، فركب السلطان بنفسه، ولحقه واسترضاه وطيب قلبه، فرجع واتفقوا معهم على أنه ينادى على الأمراء، فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة، فلم يفد فيه، فانزعج النائب وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنه بسيفي هذا، فركب بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، فخرج ولد الشيخ - أظنه عبد اللطيف - فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه، وشرح له الحال، فما اكترث لذلك ولا تغير، وقال: يا ولدي، أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة، فحين وقع بصره على النائب يبست يد النائب، وسقط السيف منها، وأرعدت مفاصله، فبكى، وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي خير، أيش تعمل؟ قال: أنادي عليكم وأبيعكم. قال: ففيم تصرف ثمننا، قال: في مصالح المسلمين. قال: من يقبضه؟ قال: أنا. فتم له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً، وغالى في ثمنهم، وقبضه، وصرفه في وجوه الخير، وهذا ما لم يسمع بمثله عن أحد، رحمه الله تعالى ورضى عنه"([10][10]).
وقال الأستاذ محمود رزق عن بيبرس: "وكان يهاب سلطان العلماء في زمانه، وهو عز الدين بن عبد السلام"([11][11]).
ومما يذكر له في هذا الشأن أنه عندما عزل من مناصبه في دمشق وأمر أن يلزم بيته، استأجر بستاناً متطرفاً عن البساتين، وكان مخوفاً، "واتفقت له فيه أعجوبة، وهو أن جماعة من المفسدين قصدوه في ليلة مقمرة، وهو في جوسق عال([12][12])، ودخلوا البستان، واحتاطوا بالجوسق، فخاف أهله خوفاً شديداً، فعند ذلك نزل إليهم، وفتح باب الجوسق، وقال: أهلاً بضيوفنا، وأجلسهم في مقعد حسن، وكان مهيباً مقبول الصورة، فهابوه، وسخرهم الله له، وأخرجوا لهم من الجوسق ضيافة حسنة، فتناولوها، وطلبوا منه الدعاء، وعصم الله أهله وجماعته منهم بصدق نيته وكرم طويته، وانصرفوا عنه"([13][13]).
موقع الدعوة والدعاة http://www.dawaweb.net/article7.php(/2)
العفاف
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويرضى، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أمَّا بعدُ:
أيها الأحبة: إنَّ التبرج والسُّفور من مظاهر الجاهلية التي حاربها الإسلامُ، وقد نهى اللهُ- تعالى-عن ذلك، ودعى المسلمات إلى العفاف والستر والحجاب، قال-تعالى-:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}(1). وأصل التبرج هنا هو البروز والظهور ، ومنه( البُرج)؛ لظهوره وبروزه وانكشافه للعيون، وتبرج المرأة هو إظهارها زينتها وتصنُّعها بها، وذلك بأن تظهر المرأة محاسن ذاتها وثيابها وحليها بمرأى الرجال.وتبرج الجاهلية-هنا- يدخل في معناه كل العبارات التي ذكرها السَّلَفُ؛حيث يشملُ خروجَ المرأة تمشي بين يدي الرجال، وتكسُّرَها في مشيتها وتبخترها فيها، كما يشمل ترك التستر؛حيث تظهر نحرها أو شعرها أو غير ذلك، مما هي مطالبة بستره عن أعين الرجال الأجانب، وكُلُّ ذلك يُنافي العفافَ الذي نادى به الإسلامُ.وقد ذكرَ اللهُ-تعالى-أنَّ ذلك كُلَّهُ مِنْ خصائصِ أهلِ الجاهليةِ، فقد دلت الآيةُ الكريمةُ على أن التبرج عمل جاهلي، وعليه فإنَّ المرأة المتبرجة فيها خصلة من خصال الجاهلية بقدر تبرجها.وبهذا- أيضاً - يتبين أن السفور والتبرج ومخالطة الرجال وتكسر المرأة في مشيتها أمامهم، وغير ذلك مما يدخل في معنى التبرج، ذلك كله ليس من التمدُّن في شيء، بل هو تخلف ورجوع إلى عادات العهود المظلمة التي جاء الإسلامُ فأبطلها من أصلها.
قالت عائشة–رضي الله عنها-: (يرحم اللهُ نساءَ المهاجراتِ الأول، لما أنزل اللهُ {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ }(2) شققن مُرُوطَهُنَّ، فاختمرنَ بها)(3) .
فيا فتاة الإسلام : كوني مثل تلك المؤمنات الصادقات، فإنهن امتثلن أمر ربهن، وسارعن إلى لباس العفاف والطهر، لباس الحشمة، بمجرد سماعهن للدليل الواضح في دلالته الذي لا يحتمل أيَّ تأويل.كوني مثل أمهاتك وأخواتك المؤمنات فإنهن على الحق، فانهجي نهجهن، والزمي طريقهن، فإنهن-والله-سلكن خيرَ طريقٍ، ونهجن خيرَ نهجٍ.
فعليك أيتها المؤمنة:الاستجابة إلى الالتزام بما افترضه اللهُ من الحجاب والستر والعفة والحياء طاعةً للهِ-تعالى-، وطاعةً لرسولِهِ-صلى الله عليه وسلم-، قالَ اللهُ-عَزَّ شأنُهُ-:{وَما كانَ لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضَى الله ورسولُهُ أمراً أن يُّكون لهم الخيرَةُ من أمرهمْ ومن يَّعصِ الله ورسوله فقدْ ضلَّ ضلالاً مبيناً}(4).
كيف لا؟ومن وراء افتراضه حِكَمٌ وأسرارٌ عظيمةٌ، وفضائل محمودة، وغاياتٌ ومصالحُ كبيرةٌ، منها:
1 – حِفْظُ العِرْضِ: الحجاب حِرَاسةٌ شرعية لحفظ الأعراض، ودفع أسباب الرِّيبةِ والفتنةِ والفسادِ.
2 – طهارة القلوب: الحجاب يدعو إلى طهارة قلوب المؤمنين والمؤمنات، وعمارتها بالتقوى، وتعظيم الحرمات، وصَدَق الله-سبحانه-:{ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ }(5)
3 – مكارم الأخلاق: الحجاب يدعو إلى توفير مكارم الأخلاق من العفة والاحتشام والحياء والغيرة، والحجْب لمساويها من التَلوُّث بالشَّائِنات كالتبذل والتهتك والفساد.
4 – علامة على العفيفات:
الحجاب علامة شرعية على الحرائر العفيفات في عفتهن وشرفهن، وبعدهن عن دنس الريبة والشك:{ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}(6) ، وصلاح الظاهر يدل على صلاح الباطن، وإن العفاف تاج المرأة، وما رفرفت العفة على دارٍ إلا أكسبتها الهناء.
5 – قطع الأطماع والخواطر الشيطانية :
الحجاب وقاية اجتماعية من الأذى، وأمراض قلوب الرجال والنساء، فيقطع الأطماع الفاجرة، ويكف الأعين الخائنة، ويدفع أذى الرجل في عرضه، وأذى المرأة في عرضها ومحارمها، ووقاية من رمي المحصنات بالفواحش.
أيتها المسلمة :
احرصي على الحجاب الشرعي الذي يحقق العفاف بشروطه وضوابطه التالية:
• أن يستر جمع البدن.
• أن لا يكون زينة في نفسه.
• أن يكون سميكاً غير شفاف.
• أن يكون واسعاً غير ضيق.
• أن لا يكون فيه مشابهة للباس الرجال أو الكفار.
• أن لا يكون مُعطَّراً.
• أن لا يكون لباس شهرة.
اللهم ارزق نساء المسلمين الستر والعفاف، يا أرحم الراحمين.
والحمد لله رب العالمين
________________________________________
1 - سورة الأحزاب: 33.
2 - سورة النور:31.
3 -أخرجه البخاري كتاب الصلاة باب في كم تصلي المرأة في الثياب برقم (359).
4 الأحزاب: 36 .
5 - سورة الأحزاب:53.
6 - سورة الأحزاب: 59.(/1)
العفو عن الناس
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله-صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:
يقول الله-تبارك وتعالى-:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} (الأحزاب:70) .
أما بعد:
أيها المسلمون: إن العفو شِعار الصالحين الأنقياء ذوي الحلم والأناة والنّفس الرضيّة؛ لأنَّ التنازل عن الحق نوع إيثار للآجل على العاجل، وبسط لخلق نقي تقيٍّ ينفذ بقوة إلى شغاف قلوب الآخرين، فلا يملكون أمامه إلا إبداء نظرة إجلال وإكبار لمن هذه صفته وهذا ديدنه.
إن العفو عن الآخرين ليس بالأمر الهين؛ إذ له في النفس ثقل لا يتم التغلُّب عليه إلا بمصارعةِ حبِّ الانتصار والانتقام للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياء الذين استعصوا على حظوظ النّفس ورغباتها، وإن كانت حقًّا يجوزُ لهم إمضاؤُه لقوله-تعالى-: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}،الشورى:41،، غيرَ أنَّ التنازل عن الحقّ وملكةَ النفس عن إنفاذِه لهو دليلٌ على تجاوزِ المألوفِ وخَرق العادات. ومِن هنا يأتي التميُّز والبراز عن العُموم، وهذا هو الشَّديد الممدوحُ الذي يملِك نفسه عند الغضب كما في الصحيحَين وغيرهما عن النبي-صلى الله عليه وسلم-. وقد أخرج الإمام أحمَد في مسنده قولَ النبيِّ-صلى الله عليه وسلم-: (من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء)(1).
عباد الله: إن العفو له فضل عظيم، وأجر كبير، فقد جاء عن علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله-تعالى-حدثنا بها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:30).وسأفسرها لك يا علي:" ما أصابكم من مرض، أو عقوبة، أو بلاءٍ في الدنيا فيما كسبت أيديكم، والله-تعالى- أكرم من أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله-تعالى-عنه في الدنيا فالله-تعالى-أحلم من أن يعود بعد عفوه"(2).
أيها المسلمون: لقد أثنى الله-تعالى-على عباده المتقين، ووصفهم بالإنفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس والإحسان إلى الخلق، ووعدهم جنة عرضها السموات والأرض، فقال-سبحانه وتعالى-: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:134) قال "الإمام ابن كثير" في تفسير قوله-تعالى-والعافين عن الناس أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال".(3)
وقد أمر الحق-جلَّ وعلا- نبيه الكريم- صلى الله عليه وسلم- بالعفو والصفح، فقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (لأعراف:199) . وقد فهم النبي- صلى الله عليه وسلم- العفو بأن تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك.
وقد أمر الله المؤمنين، بما أمر به المرسلين ، فقال-جل من قائل-:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:109).
وقد جاء عن أبي بكر-رضي الله عنه-أنه قال: "بلغنا أن الله تعالى يأمر منادياً يوم القيامة فينادي: من كان له عند الله شيء فلقم، فيقوم أهل العفو فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس"(4).(/1)
أيها المسلمون: إن كثيراً من الناس يظنون أن العفو والتجاوز يقتضي الضعف والذلة،وهذا غير صحيح، فالعفو والتجاوز لا يقتضِي الذّلَّة والضعف، بل إنه قمَّة الشجاعة والامتنانِ وغلَبَة الهوى، لا سيَّما إذا كان العفوُ عند المقدِرَة على الانتصار، فقد بوَّب البخاريّ-رحمه الله في صحيحه-بابًا عن الانتصارِ من الظالم، لقوله- تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}،الشورى:39،، وذكَرَ عن إبراهيم النخعيّ قوله: "كانوا يكرَهون أن يُستَذَلّوا، فإذا قدروا عفَوا"(5)، قال الحسن بنُ علي-رضي الله تعالى عنهما-: (لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه)(6)، وقال جعفرُ الصادِق-رحمه الله-: "لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة"(7)، وقال الفضيل بنُ عياض-رحمه الله-: "إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ ولكن أنتصر كما أمرَني الله- عزّ وجلّ- فقل له: إن كنتَ تحسِن أن تنتَصِر، وإلاّ فارجع إلى بابِ العفو؛ فإنّه باب واسع، فإنه من عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام علَى فراشه باللّيل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛ لأنّ الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان".
ثم إنَّ بعض الناس قد بلغ من القسوةِ ما لا يمكن معها أن يعفوَ لأحد أو يتجاوَز عنه، لا ترونَ في حياته إلاّ الانتقام والتشفِّي، ليس إلا. ترونَه وترونَ أمثالَه كمثَل سماءٍ إذا تغيَّم لم يُرجَ صَحوُه، وإذا قَدر لا يُنتَظَر عفوه، يغضِبُه الجرمُ الخفيّ، ولا يرضيه العذرُ الجليّ، حتى إنّه ليرَى الذنبَ وهو أضيقُ من ظلِّ الرمح، ويعمَى عن العذرِ وهو أبيَنُ من وضَح النهار. ترونَه ذا أُذنين يسمَع بإحداهما القولَ فيشتطّ ويضطرب، ويحجبُ عن الأخرَى العذرَ ولو كان له حجّةٌ وبرهان. ومَن هذه حالُه فهو عدوُّ عقلِه، وقد استولى عليه سلطان الهوَى فصرفَه عن الحسنِ بالعفوِ إلى القبيح بالتَّشفِّي، تقول عائشة-رضي الله تعالى عنها-: ما ضرب رسول الله شيئًا قطّ بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهِدَ في سبيل الله، وما نيل منه شيء قطّ فينتَقِم من صاحبه إلاّ أن يُنتَهَك شيء من محارِم الله فينتَقِم لله عز وجل"(8).
عباد الله: إنَّ الانتصارَ للنفس من الظلمِ لحقّ، ولكنَّ العفوَ هو الكمالُ والتّقوى،قال الله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ،الشورى:40،(9).س
أيها المسلمون: تعالوا بنا إلى المصطفى- صلى الله عليه وسلم- أسوتنا الحسنة، وقدوتنا الصالحة، ومثلنا الأعلى، الذي بعثه الله معلماً للبشرية ، ورحمة للإنسانية.
تعالوا بنا لنرى نبينا الأكرم، ومعلمنا الأعظم، وهو يدخل مكة فاتحاً، وهي التي ائتمرت على قتله، و أخرجته، و عذبت أصحابه، ونكَّلت بهم ، وقاطعته، و كذبته، وقاتلته في بدر، وأحد، والخندق، وألَّبت عليه العرب جميعاً.
لقد ألقى أهلها كل سلاح، ومدوا إليه أعناقهم ، ليحكم فيها بما يرى، فأمره نافذ في رقابهم، وحياتهم جميعاً معلقة بين شفتيه وهذه عشرة آلاف سيف تتوهج يوم الفتح ، فوق ربى مكة ، تأتمر بأمره وتنتظر إشارة منه ، إنها تستطيع أن تبيد مكة وأهلها في لمح البصر .
لقد دخلها يوم الفتح الأعظم ، دخول المتأدبين الشاكرين ، معترفاً بعظم الفضل ، ولم يدخلها دخول المتكبرين المتجبرين ، ثملاً بنشوة النصر .
لقد سار النبي- صلى الله عليه وسلم- في موكب النصر يوم فتح مكة حانياً رأسه، حتى تعذر على الناس رؤية وجهه ، وحتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره، مردداً ، بينه وبين نفسه، ابتهالات الشكر المبللة بالدموع .
سأل أعداءه بعد أن استقر به المقام : يا معشر قريش ، ويا أهل مكة فاشرأبت إليه الأعناق ، وزاغت عند سؤاله الأبصار ، سألهم : ما تظنون أني فاعل بكم ..؟
وصاحت الجموع الوجلة بكلمة واحدة ، كأنما كانوا على اتفاق بترديدها ، قالوا : خيراً .. أخ كريم وابن أخ كريم .. فقال : " اذهبوا فانتم الطلقاء "، عفا عنهم، وصفح عن أعمالهم، مع أنه كان قادراً على الانتقام لكنه خلق عظيم، منه-صلى الله عليه وسلم-.(/2)
وعن عائشة - رضي الله عنها- أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد فقال: ( لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) (10).
وعن أنس-رضي الله عنه-قال: كنت أمشي مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذةً شديدة فنظرت إلى صفحة عنقه اليمنى، وقد أثرت بها حاشية البردة من شدة جبذته، فقال: يا محمد! أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه النبي-صلى الله عليه وسلم- فضحك ثم أمر له بعطاء.
وجاء في حديث ابن مسعود-رضي الله عنه- كأني أنظر إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يحكي نبياً من الأنبياء- صلوات الله وسلامه- عليهم ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)(11).
وكذلك كان العفو من هدي الرسل الكرام. فهذا نبي الله يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم، حسده إخوته وألقوه في الجب، ونال منهم ألواناً من الأذى. ثم هو يقول لهم: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين".
وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-أنه غزا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قبل نجد، فلما قفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه فنزل رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وتفرق الناس يستظلون بالشجر فنزل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة وعلق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال:" إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاً"، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله ثلاثا) ولم يعاقبه وجلس)(12).
ومن عفوه-صلى الله عليه وسلم-أنه عفا عن اليهودية التي جاءت بالشاة المسمومة، وذلك في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما ورواية البخاري عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-(أن يهودية أتت النبي-صلى الله عليه وسلم-بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها فقيل لها ألا نقتلها قال لا)13.
وفي رواية مسلم أن امرأة أتت النبي-صلى الله عليه وسلم-بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فسألها عن ذلك فقالت: "أردت لأقتلك قال: (ما كان الله ليسلطك علي) قالوا: ألا نقتلها قال: (لا).14
وورد أن الرسول-صلى الله عليه وسلم- قتل هذه المرأة لكن لم يكن لأجل شخصه ولكن لأنها تسببت في مقتل رجل آخر.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله هادي الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربه. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:
أيها المؤمنون: إن صحابة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قد ضربوا لنا أروع الأمثلة في عفوهم وصفحهم عن الناس، فقد تخلقوا بأخلاق نبيهم في العفو والصفح، فقد روى البخاري عن بن عباس، عن عيينة بن حصن، أنه قال لعمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: يا ابن الخطاب، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر، حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين ، إن الله قال لنبيه. "خذ العفو وأعرض عن الجاهلين"، وإن هذا من الجاهلين، فقال ابن عباس: فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله-عز وجل-.
أيها المسلمون:وهذا أبو بكر الصديق-رضي الله عنه- خير الناس بعد الأنبياء، كان من قرابته مسطح بن أثاثة، وكان أبو بكر ينفق عليه، ويحسن إليه فلما خاض مسطح فيمن خاض في حادثة الإفك، حلف أبو بكر ألا يحسن إليه كما كان يحسن في السابق، فعاتبه ربه- عز وجل- وأنزل: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ...} (النور:22). فقال: بلى، أحب أن يغفر الله لي، وعاد إلى ما كان عليه من الإحسان إليه وكفّر عن يمينه.(/3)
وهذا زين العابدين بن علي-رضي الله عنه-أتت جاريته تصب الماء عليه فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه فقالت: والكاظمين الغيظ فقال: كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس قال: عفوت عنك، قالت: والله يحب المحسنين، قال: أنت حرة لوجه الله.
العفو من شيم الكرام:
قال الإمام الشافعي:
أحب من الإخوان كل مواتي وكل غضيض الطرف عن عثراتي
يوافقني في كل أمر أريده ويحفظني حيا وبعد مماتي
فمن لي بهذا ليت أني أصبته لقاسمته مالي من الحسنات
تصفحت إخواني فكان أقلهم على كثرة الإخوان أهل ثقات
عباد الله: قال أبو حاتم –رضي الله عنه-: الواجب على العاقل توطين النفس على لزوم العفو عن الناس كافة، وترك الخروج لمجازاة الإساءة! إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسنُ من الإحسان، ولا سبب لنماءِ الإساءة وتهييجها أشدُّ من الاستعمال بمثلها.
وهذا عمر بن عبد العزيز-رضي الله-يقول: " أحب الأمور إلى الله ثلاثة: "العفو في القدرة، والقصد في الجدة، والرفق في العبادة، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة".
وراحت النفس في العفو: فقد قال أحد الشعراء:
لما عفوت، ولم أحقد على أحدٍ--- أرحت قلبي من غم العداوات
إني أحي عدوي عند رؤيته --- لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه --- كأنما قد حشى قلبي محبات.
عباد الله: إن العفو والصّفح هما خلقا النبيّ- صلى الله عليه وسلم-، فأين المشمِّرون المقتَدون؟! أين من يغالِبهم حبُّ الانتصار والانتقام؟! أين هم من خلُق سيِّد المرسَلين ؟!. سئِلَت عائشة-رضي الله عنها- عن خلُق رسولِ الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: "لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيِّئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح(15). {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} ،الشورى:36، 37،.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - أحمد، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم(6522).
2 - أحمد(1/85).وقال أحمد شاكر(2/649)، إسناده حسن.
3 - ابن كثير (1/535).
4 -نضرة النعيم(7/2907).
5 -البخاري- كتاب المظالم.
6 - راجع: الآداب الشرعية لابن مفلح.(1/319).
7 - أدب المجالسة ص(116).
8 - رواه مسلم برقم 2328.
9 - خلق العفو والصفح، لشيخ سعود الشريم.
10- رواه مسلم برقم 1795.
11- متفق عليه.
12- البخاري الفتح(2910)، واللفظ له، ومسلم(843).
13 - رواه البخاري برقم 2617
14 - مسلم برقم 2190
15 - رواه أحمد والترمذي وأصله في الصحيحين.(/4)
العقوبات الإلهية للشعوب والأمم
1274
آثار الذنوب والمعاصي
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
25/12/1420
جامع العز بن عبد السلام
ملخص الخطبة
1- قصة سبأ والعبرة منها 2- مصائب حلّت بالمسلمين حين تنكّبوا عن شرع الله 3- أسباب العقوبات الإلهية
الخطبة الأولى
أيها المسلمون: فيقولُ اللهُ تعالى في كتابهِ الكريم: وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون في هاتين الآيتين الكريمتين، يعرضُ القرآنُ الكريم، مثلاً مضروباً، مُسَاقاً للعظةِ والعبرة، لقريةٍ من القرى كانت تنعمُ بأمنٍ واستقرار، وطمأنينةٍ ورغدٍ من العيش، يأتيها رزقُها من كل مكان، لا يعرفُ أهلُها الجوعَ والخوف، ولا الفاقةَ والحرمان، فهم في أوجِ لذاتِهم، وغايةِ سعادتهِم لكنَّ أهلَ القريةِ المغفلين، ظنوا أنَّ ذلك بسببِ حسبهِم ونسبهِم، ومكانتهِم عند الله تعالى، وأنهم يستحقون ذلك لفضلهِم وتميزهِم عند الناس، فتجرأَ المغفلون، تجرءوا على انتهاكِ محارمِ الله، وتجاوزِ حدودهِ سبحانه، مغترينَ بإمهالِ اللهِ لهم، وصبرِه على انحرافهِم وظلمهِم وبغيهِم، فبدلاً من أنْ يشكروا ربهم، ويعترفوا بإحسانِه إليهِم وتفضلِه عليهِم، ويلتزموا حدودَه، ويعرفوا حقوقَه، إذا بهم يتنكرون للمنعِم العظيم، ويتجرءون في سفهٍ وغرور، على العزيزِ الحكيم، الذي يقول: يا عبادي فاتقون ويقول: وإياي فارهبون فماذا كانتْ النتيجة، وما هي النهايةُ والعاقبة، بعد ذلك الإمهالِ، والصبرِ الجميل؟! إنَّ القرآنَ الكريم، يختصرُ العقوبةَ المدمرة، والنهايةَ الموجعة، في كلمتين اثنتين، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .
إذاً فرغدُ العيش، وسعةُ الرزق، يتحولُ في طرفةِ عين، ولمحةِ بصر، جوعاً يَذهبُ بالعقول، وتتصدعُ له القلوبُ والأكباد، وإذا البطونُ الملأ، والأمعاءُ المتخمة، يتضورُ أصحابُها جوعا، ويصطلون حسرةً وحرمانا، وإذا الأمنُ الذي، كانوا يفاخرون به الدنيا، وينسونَ في عجبٍ وغرور، المتفضلَ به سبحانه، والمنعمَ به جل جلاله، إذا به ينقلبُ رعباً وهلعا، لا يأمن المرءُ على نفسِه وعرضِه فضلاً عن مالهِ وملكه، فانتشر المجرمون والقتلة، يسفكونَ دماءَ الناس، وينتهكونَ أعراضَهم، ويحوزونَ أموالهَم، وأصبح باطنُ الأرض، خيراً من ظاهِرها، في تلك القريةِ البائسةِ المشؤومة.
والقرآنُ الكريم، حين يعرضُ بوضوحٍ وجلاء، مآلَ تلكَ القريةِ، الظالمِ أهلُها، ويقررُ أنَّ ما أصابهَم، هو بسببِ ما اقترفتُه أيديهِم، من التمردِ والجحود، ونكران الجميل، حين يعرضُ القرآنُ ذلكَ كلَّه، فهو إنما يخاطبُنا نحن الحاضرين، ويخاطبُ غيَرنا، حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها، يحذرُنا أن نقعَ في ذاتِ الخطأ، الذي وقعوا فيه، فنؤولُ لذاتِ المآلِ الذى آلوا إليه، ولقد ذاقت هذه الأمة، ألوناً من العقوباتِ المدمرةِ، التي يشيبُ من هولهِا الوالدان، ولولا أنَّ الذي سطَّرها في كتبهِم ونَقلَ لنا أخبارَها في مصنفاتِهم، هم أئمةُ الإسلامِ المحققون، كابن كثير والذهبي، وغيرهِما، لظننا ذلك ضرباً من الخيالِ والتهويل.
فإليكم طرفاً، مما حدثَ لهذه الأمة، حينَ كفرتْ بأنعمِ الله، واستجابتْ لداعي الهوى والشيطان، لعلنا نتعظ ونعتبر، ونلجأ إلى ربنا، إذ لا ملجأ من الله إلا إليه.(/1)
ذكر ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ خبرَ الطاعون، الذي أصاب، مدينةَ البصرةَ العراقية، قال: فمات في اليومِ الأول سبعون ألفا، وفي اليوم الثاني، إحدى وسبعون ألفا، وفي الثالث ثلاثةٌ وسبعون ألفا، وأصبح الناسُ في اليوم الرابع موتى إلا قليل من آحاد الناس، قال أبو النُفيد، وكان قد أدركَ هذا الطاعون، قال: كنَّا نطوفُ بالقبائلِ وندفنُ الموتى، فلما كثروا لم نقو على الدفن، فكنَّا ندخلُ الدار، وقد مات أهلُها، فنسدُ بابهَا عليهم، وفي أحداثِ سنةِ تسعٍ وأربعين وأربعمائة، من الهجرة، ذكر ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ خبرَ الغلاءِ والجوعِ الذي أصابَ بغداد، بحيث خلتْ أكثرُ الدور، وسُدَّت على أهلِها الأبواب، لموتِهم وفناءِهم، وأكلَ الناسُ الجِيفَ والميتة ،من قلةِ الطعام، ووجُد مع امرأةٍ فخذُ كلبٍ قد أخضَّر، وشَوَى رجلٌ صبيةً فأكلَها، وسقطَ طائرٌ ميت، فاحتوشته خمسةُ أنفس، فاقتسموه وأكلوه، ووردَ كتابٌ من بخارى، أنَّه ماتَ في يومٍ واحد، ثمانيةَ عشرَ ألفَ إنسان، والناسُ يمرون في هذه البلاد، فلا يرون إلا أسواقاً فارغة، وطرقاتٍ خالية، وأبواباً مغلقة، وجاء الخبرُ من أذربيجان، أنَّه لم يسلمْ من تلك البلاد، إلا العددُ اليسير جدا، ووقع وباءٌ بالأهوازِ وما حولها، حتى أطبق على البلاد، وكان أكثرُ سببِ ذلك الجوع، فكان الناسُ يشوونَ الكلاب، ويَنبشونَ القبور، ويشوونَ الموتى ويأكلونهم، وليس للناسِ شغلٌ في الليل والنهار، إلا غسلُ الأمواتِ ودفنُهم، وكان يدفنُ في القبرِ الواحد، العشرونَ والثلاثون، وذكرَ ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ في أحداثِ سنةِ اثنتين وستين وأربعمائةٍ من الهجرة، ما أصابَ بلادَ مصر، من الغلاءِ الشديد، والجوعِ العظيم، حتى أكلوا الجيفَ والميتةَ والكلاب، فكان الكلبُ يباع بخمسةِ دنانير، وماتت الفيلة، فأكلتْ ميتاتُها، وظُهِرَ على رجلٍ يقتلُ الصبيانَ والنساء، ويدفنُ رؤوسَهم وأطرافَهم، ويبيعُ لحومَهم، فقُتلَ وأُكلَ لحمُه، وكانت الأعراب، يقَدَمون بالطعام، يبيعونَه في ظاهرِ البلد، لا يتجاسرون على الدخول، لئلا يُخطفَ ويُنهبَ منهم، وكان لا يجسُر أحدٌ أن يدفنَ ميتَه نهاراً، وإنما يدفنُه ليلاً خُفيةً، لئلا يُنبشَ قبُره فيؤكل، وفي سنةِ ثلاثٍ وتسعين وخمسمائةٍ من الهجرة، ورد كتابٌ من القاضي الفاضل، إلى ابن الزكي يخبُره فيه، أنه في ليلةِ الجمعة، التاسعِ من جمادى الآخرة، أتى عارضٌ ـ يعني سحاب ـ فيه ظلماتٌ متكاثفة، وبروقٌ خاطفة، ورياحٌ عاصفة، فقويَ الجو بها، واشتدَّ هبوبُها، فرجفتْ لها الجدرانُ واصطفقتْ، وتلاقتْ على بعدِها واعتنقتْ، وثار السماء والأرض عجاجا، حتى قيل: إن هذه على هذه قد انطبقت، ولا يحسب إلا أن جهنم، قد سال منها واد ،وعاد منها عادٍ، وزادَ عصفُ الريح، إلى أن أطفأَ سُرجَ النجوم، ومَزَّقت أديَم السماء، فكنا كما قال الله تعالى: يجعلون أصابعهم في آذنهم من الصواعق ويردونَ أيديهَم على أعينهِم من البوارق، لا عاصمَ لخطفِ الأبصار، ولا ملجأ من الَخطْبِ، إلا معاقلُ الاستغفار، وفرَّ الناس، نساءً ورجالاً وأطفالا، ونفروا من دورِهم، خفافاً وثقالا، لا يستطيعونَ حيلةً ولا يهتدون سبيلا، فاعتصموا بالمساجدِ الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناقٍ خاضعة، وبوجوهٍ عانية، ونفوس عن الأهل والمال سالية، ينظرون من طرفٍ خفي ويتوقعون أيَّ خطبٍ جلي، قد انقطعتْ عن الحياةِ عُلَقُهم، وعميتْ عن النجاةِ طُرُقهم، ووردتْ الأخبار، بأنها قد كُسِرت المراكبُ في البحار، والأشجارُ في القفار، وأتلفتْ خلقاً كثيرا ًمن السُفَّار، (إلى أن قال)، ولا يحسبُ أحدٌ أني أرسلتُ القلمَ محرفاً، والعلم مجوفا، فالأمرُ أعظم، ولكنَّ الله سلم، انتهى كلامه رحمه الله.
أيها المسلمون: إن هذه العقوباتِ المهلكة والكوارثَ المفجعة، ليست ضرباً من الخيال، وليس فيها شيء من التهويلِ والمبالغة، فالله يقول: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد لكن الذي نشأ، منذُ نعومةِ أظفاره، في بحبوحةٍ من العيش، لم يذقْ مرارةَ الجوع، طرفةَ عين، حريٌ به أن يعجبَ مما سمعَ كلَّ العجب، لكنْ سلوا الآباء والأجداد، الذين اصطلوا بنارِ الجوع، ولهيبِ الظمأ، دهراً طويلا، وارتعدتْ فرائصهُم وقلوبُهم من قطاعِ الطريق، وعصاباتِ السطو، في وضحِ النهار، يتضحُ أنَّه ليسَ في الأمرِ غرابةٌ من قريبٍ أو بعيد، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
الخطبة الثانية(/2)
أيها المسلمون: فإن للعقوباتِ أسباباً كثيرة، ورد ذكرُ بعضهِا في الكتاب والسنَّة، وجامعُها المعاصي والذنوب، والتكذيب والإعراض، فمن أسبابِ العقوباتِ المدمرة، والفواجعِ المهلكة، إقصاءُ الشريعة، عن الحكمِ والتشريع، أو تطبيقُها على أضيقِ نطاق، مع المنةِ والأذى، والله يتوعدُ الأمة، إن هي فعلتْ ذلك بالخزيِ والنكالِ في الحياةِ الدنيا، ولعذابُ الآخرةِ أشدُ وأبقى أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون .
ومن أسبابِ العقوبات في الدنيا قبلَ الآخرة، إشاعةُ الفاحشةِ في الذين آمنوا، وفي ذلك يقولُ ربنا جل جلالهإ: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ومن إشاعةِ الفاحشة، الدعوةُ للاختلاط ونزعِ الحجاب، وعرضُ الفساد والفنِ الرخيص، وبثُ السمومِ والأفكارِ المستوردة، مما لا يتسعُ المقام لسرده، وفي الأثر: "وما أعلن قومٌ الفاحشة، إلا عمتهم الأوجاعُ والأسقامُ التي لم تكن في أسلافهم".
ومن أسبابِ العقوبات، منعُ الزكاة، تلك التي لو قامَ أثرياءُ المسلمين بأدائها، لما وجدتَ بين المسلمين فقيرا ولا محتاجا، واسمع إلى عقوبةِ الأمة، حين تبخل بزكاةِ أموالِها، قال عليه الصلاة والسلام: ((وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمْ لم يمطروا))، وقد يستخفُ أقوامٌ، بهذه العقوبة ويستطرفونها لأنهم اعتادوا تدفقَ المياهِ ووفرتَها في بيوتِهم، لكنهم لو قلبوا النظر يمنةً ويسرة، في البلادِ التي أصابَها القحطُ والجفاف، لعلموا أنهم كانوا واهمين، وعن الصراط لناكبين.
ومن أسبابِ العقوبات كذلك: موالاةُ الكفارِ والتقربُ إليهم بالمودةِ والمحبة، وقد وضح القرآنُ الكريم أنه لا يتولى الكفار، ويتقرب إليهم إلا منافق ظاهر النفاق قال تعالى: بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليماً الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً وقد حدثنا التاريخ عن عقوباتٍ حصلتْ لبعض الأمم التي والتِ الكافرين، كما حصل في بلادِ الأندلس عندما وإلى أمراءُ الطوائفِ النصارى، فنفض الصليبيون البساطَ من تحتِ أقدامهِم، وألقوا بهم في مزبلةِ التاريخ، وأصبحتْ هذه البلاد.. حسرةً في نفسِ كلِ مسلم، حين يذكرُ ما فيها من حضارةٍ وآثارٍ للمسلمين، ثم يذكرُ أولئكَ الأوباش، الذين أضاعوا ذلك الفردوس المفقود، بسبب ولائهم لأعداء الله وأعداء الإسلام والمسلمين.
ومن أسبابِ العقوبات كذلك، تركُ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، والذي بتركهِ تستفحلُ الفاحشة، وتعمُ الرذيلة، ويستطيلُ الشر، وتخربُ البلادُ والعباد، واسمع لعقوبةِ الأمة، حين تتخلى عن فريضةِ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، ففي المسندِ وغيرهِ من حديثِ حذيفةَ رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) ألا فضّ الله أفواهاً، وأخرس ألسناً، تريدُ لهذهِ الفريضةِ أن تموت.
ومن أسبابِ العقوباتِ كذلك، انتشارُ الظالمِ في المجتمع، وغيابُ العدلِ فيه، فيأكلُ القويُ الضعيف، وينهبُ الغنيُ الفقير، ويتسلطُ صاحبُ الجاهِ والمكانة على المسالِم المسكين، وحين تسودُ هذه الأخلاقُ الذميمة، والخصالُ المنكرة، ولا تجدُ من يقولُ للظالِم: أنتَ ظالم، فقد آن أوانُ العقوبة، واقتربَ أجلُها لو كانوا يفقهون. فعند الترمذي وأبي داود قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الناسَ إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه)).
ومن أسبابِ العقوبات، فشو الربا وانتشارُه، حيث تعاطاه الكثيرون، وأَلِفه الأكثرون، وقل له الناكرون، واللهُ يقول: يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ويقول سبحانه: يمحق الله الربا ويربى الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم وذهابُ بركةِ المال، ومحقُ عائدهِ ونتاجهِ ملموسٌ مشاهد، يعترفُ به المرابون، ضمناً وتصريحا، والعالمُ الإسلامي اليوم، يعاني الأزماتِ الاقتصاديةَ الخانقة لتورطهِ بتعاطي الربا، وإعراضِه عن الشرعِ المطهر، واستخفافِه بالوعيدِ الإلهي لأكلةِ الربا، ومدمنيه.
ومن أسبابِ العقوباتِ كذلك، ظهور المعازف وشرب الخمور، وقد انتشر الغناء بين الناس حتى عد أمرا معروفا، واستمع يا رعاك الله إلى العقوبة المتعودة لأهله، قال عليه الصلاة والسلام: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف)) فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله! ومتى ذلك؟ قال: ((إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور)).(/3)
أيها المسلمون: أسبابُ العقوباتِ كثيرة، والموضوعُ متشعبٌ وطويل، لكنْ في الإشارةِ ما يُغني عن العبارة، وما لا يُدرك كلُه، لا يتُرك جُله.
هذا وصلوا رحمكم الله. . .(/4)
العقوبات وأثرها في الحدّ من الجرائم
مقدمات:
1- تعريف الحدود لغة واصطلاحاً.
2- تعريف التعزير لغة واصطلاحاً.
3- تعريف القصاص لغة واصطلاحاً.
4- الفرق بين الحد والتعزير والقصاص.
5- هل الحدود زواجر أم جوابر؟
6- الضرورات الخمس التي حفظها الشرع.
الفصل الأول: التدابير الشرعية لحفظ الدين في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ الدين وأهميته.
المبحث الثاني: الردة وخطرها.
المبحث الثالث: عقوبة الردة.
المبحث الرابع: أثر تطبيق حد الردة.
الفصل الثاني: التدابير الشرعية لحفظ النفس في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ النفس وأهميته.
المبحث الثاني: جريمة القتل وخطرها.
المبحث الثالث: عقوبة القتل.
المبحث الرابع: آثار تطبيق عقوبة القصاص.
الفصل الثالث: التدابير الشرعية لحفظ العقل في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ العقل وأهميته.
المبحث الثاني: جريمة شرب الخمر وأضرارها.
المبحث الثالث: عقوبة شرب الخمر.
المبحث الرابع: جريمة تعاطي المخدرات وأضرارها.
المبحث الخامس: عقوبة ترويج المخدرات.
المبحث السادس: آثار تطبيق عقوبة تعاطي الخمر والمخدرات.
الفصل الرابع: التدابير الشرعية للمحافظة على العرض في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ العرض وأهميته.
المبحث الثاني: جريمة الزنا وأخطارها.
المبحث الثالث: عقوبة الزنا.
المبحث الرابع: جريمة اللواط وأخطارها.
المبحث الخامس: عقوبة اللواط.
المبحث السادس: آثار تطبيق عقوبة الزنا واللواط.
المبحث السابع: جريمة القذف وأضرارها.
المبحث الثامن: حد القذف.
المبحث التاسع: آثار تطبيق حد القذف.
الفصل الخامس: التدابير الشرعية لحفظ المال في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ المال وأهميته.
المبحث الثاني: جريمة السرقة وخطرها.
المبحث الثالث: حد السرقة.
المبحث الرابع: آثار تطبيق حد السرقة.
المبحث الخامس: جريمة الحرابة وخطرها.
المبحث السادس: حد الحرابة.
المبحث السابع: آثار تطبيق حد الحرابة.
الفصل السادس: أثر التعزيرات الشرعية في الحد من الجريمة.
الفصل السابع: عواقب إهمال العقوبات الشرعية.
الفصل الثامن: شبهات حول إقامة الحدود.
مقدمات:
1- تعريف الحدود لغة وشرعا:
الحد لغة: قال ابن فارس: "الحاء والدال أصلان: الأول: المنع، والثاني: طرفُ الشيء.
فالحد: الحاجز بين الشيئين، وفلان محدود إذا كان ممنوعاً.
قال: وحد العاصي سمي حداً لأنه يمنعه عن المعاودة".
والحد شرعا: عرفه الكسائي بقوله: "والحد في الشرع عبارة عن عقوبة مقدَّرة واجبة حقاً لله تعالى عز شأنه".
وقال الفتوحي: "هو عقوبة مقدرة شرعاً في معصية يمنع من الوقوع في مثلها".
وقال الشربيني: "هو عقوبة مقدرة وجبت زجراً عن ارتكاب ما يوجبه".
ويلاحظ على هذه التعاريف أنها لا تسلم من الاعتراض، فالتعريف الأول تعريف جامع مانع طبقاً للمذهب الحنفي القائل: إن حد القذف حقٌّ خالص لله أو حقُّه منه غالب، إلا أنه لا يصلح لتعريف الحد عند المذاهب الأخرى التي ترى أن حد القذف حق للآدمي أو حقه فيه غالب، فتلك المذاهب تعتبر هذا التعريف تعريفاً لبعض الحدود لا لجميعها.
وأما التعريفان الآخران فيلاحظ أنهما غير مانعين، فهما ينطبقان على القصاص؛ إذ هو عقوبة مقدرة شرعت للمنع من معاودة الفعل، وشرْطُ صحة التعريف أن يكون جامعاً لأجزاء المعرَّف مانعاً من دخول ما عداها.
التعريف المختار للحد: هو عقوبة مقدَّرة شرعت لصيانة الأنساب والأعراض والعقول والأموال وتأمين السبل.
2- تعريف التعزير لغة وشرعا:
التعزير لغة: قال ابن فارس: "العين والزاء والراء كلمتان: إحداهما التعظيم والنصر، والكلمة الأخرى جِنس من الضرب، فالأولى النصر والتوقير كقوله تعالى: {وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ} [الفتح:9]، والأصل الآخر التعزير وهو الضرب دون الحد، قال:
وليس بتعزير الأمير خزاية عليّ إذا ما كنت غير مريب"
التعزير شرعا: قال ابن الهمام: "التعزير تأديب دون الحد"، وكذا قال البعلي.
وقال الماوردي: "التعزير هو التأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود".
وقال الرملي: "هو التأديب في كل معصية لله أو لآدمي لا حد لها ولا كفارة".
والمتأمل في هذه التعريفات يرى ما يلي:
1- اتفاقها في جنس التعريف، وهو (التأديب) وهو حقيقة لغوية للتعزير، فصارت هذه الحقيقة الشرعية منقولة عن الحقيقة اللغوية.
2- أن هذه الحقيقة في الشرع لا بد لها من زيادة قيد وهو (دون الحد)، لكن في التعريف الأول جُعل هذا القيد على ذات التأديب، وفي التعريف الثاني والثالث جُعل هذا القيد على موضع التعزير ومحله وموجبه.
3- أن في التعريف الأخير زيادة (ولا كفارة) ولم تذكر في التعريفات الأخرى، ولكنها معتبرة عند أصحابها.
3- تعريف القصاص لغة وشرعا:(/1)
القصاص لغة: قال ابن فارس: "القاف والصاد أصل صحيح يدل على تتبع الشيء، من ذلك قولهم: اقتصصت الأثر إذا تتبعته، ومن ذلك اشتقاق القصاص في الجراح، وذلك أنه يفعل به مثل فعله بالأول، فكأنه اقتص أثره".
القصاص شرعا: قال الجرجاني: "القصاص هو أن يُفعل بالفاعل مثل ما فعل".
4- الفرق بين الحدِّ والتعزير والقصاص:
أولاً: الفرق بين الحد والقصاص وبين التعزير:
تختلف عقوبة الحد والقصاص عن العقوبة التعزيرية من عدة أوجه أهمها:
1- أن العقوبة الحدية والقصاص عقوبة مقدَّرة من قبل الشارع لا مجال للاجتهاد فيها، وليس لأي إنسان مهما كانت صفته أن يزيد عليها أو ينقص منها، وأما العقوبة التعزيرية فهي راجعة إلى اجتهاد الحاكم، فهو الذي يختار نوعَها ويحدِّد قدرَها مراعياً في ذلك ظروفَ الجريمة وحالةَ المجرم الاجتماعية والنفسية.
2- العقوبة التعزيرية يجوز إيقاعها على الصبي وعلى المجنون الذي لديه بعض الإدراك لأنه عقوبة تأديبية، وتأديب هؤلاء جائز إذا ثبت اقترافهم لما يستوجب التعزير، أما العقوبة الحدية والقصاص فإنها لا توقع على أي من هؤلاء، لأن التكليف من أهم الشروط التي نصَّ الفقهاء على وجوب توفرها فيمن يقام عليه الحد.
3- أن التعزير يختلف باختلاف الناس، فتعزير ذوي الهيئات أخفُّ من غيرهم، وهذا بخلاف الحدود والقصاص فالناس فيها سواء.
4- أن التعزير إذا كان في حق من حقوق الله تعالى تجب إقامته كقاعدة، لكن يجوز فيه العفو عن العقوبة والشفاعة إن رُئي في ذلك مصلحة أو كان الجاني قد انزجر بدونه، وإذا كان التعزير يجب حقاً للأفراد فإن لصاحب الحق أن يعفو وإن لم ير في ذلك مصلحة. أما جرائم الحدود فليس لأحد مطلقاً إسقاط عقوبتها أو الشفاعة فيها بعد بلوغها، إلا إذا كان الحد قذفاً، فإن للمجني عليه أن يعفو عن القاذف عند غير الحنفية.
5- الحدود تدرأ بالشبهات، فلا يجوز الحكم بثبوتها عند قيام الشبهة، سواء كانت حقاً خالصاً لله كحد الزنا والسرقة والشرب، أو مشتركة بين الخالق والمخلوق كحد القذف، وهذا بخلاف التعزير فإنه يحكم بثبوت موجبه مع قيام الشبهات.
6- أن التعزير يسقط بالتوبة بلا خلاف، والحدود لا تسقط بالتوبة على الصحيح إلا الحرابة فإنه يسقط بالتوبة قبل القدرة عليهم لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} [المائدة:34].
7- التعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، فرُبَّ تعزير في بلد يكون إكراماً في آخر.
ثانياً: الفرق بين الحد وبين القصاص:
يختلف الحد عن القصاص من عدة أوجه أهمها:
1- في القصاص يشرع العفو عنه والشفاعة فيه، سواء كان في النفس أو فيما دونها، وهذا بخلاف الحدود فلا يقبل فيها العفو ولا تصحُّ فيها الشفاعة بعد بلوغها الحاكم إلا في حد القذف عند غير الحنفية.
2- أن القصاص حق من الحقوق التي تنتقل إلى ورثة المستحقّ بعد موته، فلهم أن يطالبوا بالقصاص المستحَقّ لموَرِّثهم ما لم يكن قد عفا عن ذلك قبل وفاته، وهذا بخلاف الحدود فلا مدخل للإرث فيها إلا إذا كان الحد قذفاً وكان المقذوف قد طالب به أثناء حياته.
3- أن استيفاء الحد خاصّ بالإمام أو من ينوب منابه، وليس لأحد من الناس أن يقيم الحد على من استوجبه ما لم يكن الإمام قد فوَّض إليه ذلك، وهذا بخلاف القصاص فإن للمجني عليه أو وليِّه الحق في استيفائه إذا كان يحسن الاستيفاء على الوجه الشرعي.
4- أنه يجوز الاعتياض عن القصاص بالمال، بخلاف الحدود فإنها لا تقبل المعاوضة.
5- أن التحكيم جائز في القصاص، بخلاف الحدود فلا مدخل للتحكيم فيها.
5- هل الحدود زواجر أم جوابر؟
اختلف العلماء في الحدود: هل هي جوابر وكفارات لمن أقيمت عليه أم هي مجرد زواجر عن ارتكاب الحدود وليست كفارات؟
القول الأول: أن الحدود جوابر وكفارات، وهذا قول أكثر أهل العلم.
قال القاضي عياض: "أكثر العلماء ذهبوا إلى أن الحدود كفارة".
وبذلك ترجم البخاري في الصحيح فقال: "باب الحدود كفارة".
دليل هذا القول: استدلوا بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلةَ العقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه)) فبايعناه على ذلك، في رواية: ((ومن أتى منكم حداً فأقيم عليه فهو كفارته)).
قال ابن رجب الحنبلي: "وهذا صريح في أن إقامة الحدود كفارات لأهلها".
القول الثاني: وذهب بعض العلماء إلى أن الحدود ليست جوابر وكفارات بل هي للزجر عن الوقوع فيما أوجب الحد، وهو قول بعض التابعين ورجحه ابن حزم وطائفة من متأخري المفسرين كالبغوي.(/2)
دليل هذا القول: استدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى في آخر آية الحرابة: {ذالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33].
فأخبر سبحانه أن جزاءَ فعلهم عقوبةٌ دنيوية وعقوبة أخروية إلا من تاب فإنها تسقط عنه العقوبة الأخروية.
وتوقَّف بعض العلماء في المسألة فقالوا: لا يقال في الحدود: إنها كفارات، ولا يقال: إنها غير كفارات.
واستدلوا: بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا)).
القول الراجح: والراجح في المسألة هو القول الأول الذي قال به الجمهور، وذلك لما يلي:
1- أن حديث عبادة أصحُّ إسناداً بل هو متفق عليه.
2- أن فيه التصريح في المسألة وقد ترجم عليه البخاري بذلك.
3- أن الآية التي احتجَّ بها أهل القول الثاني مختلف في المراد منها: هل هي في الكفار أو في محاربي الإسلام؟.
4-أنه على فرض التعارض فيجاب بأن ذكر عقوبة الدنيا والآخرة لا يلزم اجتماعهما، فقد دلَّ الدليل على أن عقوبة الدنيا تُسقط عقوبة الآخرة.
5- قال ابن بطال: "إن الوعيد في آية المحاربة عند جميع المؤمنين مرتَّب على قول الله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}، فتأويل آية المحاربين {ذالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إن شاء الله تعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}".
6- أن حديث أبي هريرة لا يعارض حديث عبادة لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلمه ثم علمه فأخبر به جزماً، وبهذا جمع القاضي عياض وتبعه ابن رجب الحنبلي وابن حجر العسقلاني.
استشكال:
أورد بعض العلماء إشكالا على من قال في الجمع بين حديثي أبي هريرة وعبادة بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم أن الحدود كفارة لأهلها وعليه يحمل حديث أبي هريرة، ثم أعلم بذلك فأخبر به وعليه يحمل حديث عبادة، ووجه الاستشكال أن أبا هريرة متأخِّر الإسلام عن عبادة وفي حديث عبادة ذكر أن تلك المبايعة كانت في بيعة العقبة وهي قبل الهجرة، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر؟!.
الجواب على هذا الاستشكال:
أجاب الحافظان ابن رجب الحنبلي وابن حجر العسقلاني بأن حديث عبادة لم يكن ليلةَ العقبة بلا تردّد، ومما يدلُّ على ذلك أن الآية المذكورة في حديث عبادة وهي قوله تعالى: {ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ...} [الممتحنة:12]، كان نزولها في فتح مكة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة بنحو سنتين.
قال الحافظ ابن حجر: "وإنما وقع الإشكال من قوله هناك: أن عبادة بن الصامت وكان أحد النقباء ليلة العقبة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بايعوني على أن لا تشركوا)) فإنه يوهم أن ذلك كان ليلة العقبة، وليس كذلك، بل البيعة التي وقعت في ليلة العقبة كانت على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وهو حديث عبادة أيضاً".
وقال الحافظ أيضاً: "وإنما حصل الالتباس من جهة أن عبادة بن الصامت حضر البيعتين معاً، وكانت بيعة العقبة من أجلّ ما يتمدَّح به، فكان يذكرها إذا حدَّث تنويهاً بسابقيته، فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء عقِب ذلك توهَّم من لم يقف على حقيقة الحال أن البيعةَ الأولى وقعت على ذلك".
وكذلك رجح الحافظ في هذا الجواب بأن نفس البيعة التي كانت على نحو بيعة النساء وقعت لغير عبادة من الصحابة الذين تأخر إسلامهم كعبد الله بن عمرو بن العاص وجرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهم.
6- الضرورات الخمس التي حفظها الشرع:
وضع الله تعالى الشرائع لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً.
قال الشاطبي: "والمعتمد إنما هو أنَّا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا يُنازع فيه، فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل وهو الأصل: {رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، وقال في أصل الخلقة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]، وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى".
ومن تلك المصالح الحفاظ على المقاصد الثلاثة:
قال الشاطبي: "تكاليف الشرع ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية.
والثاني: أن تكون حاجية.
والثالث: أن تكون تحسينية.(/3)
فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين. والحفظ لها يكون بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.
والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقَّع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.
فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك، والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضاً كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك، والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضاً، لكن بواسطة العادات، والجنايات ـ ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم".
مقاييس اللغة (2/3-4).
بدائع الصنائع (7/33).
منتهى الإرادات (5/113).
الإقناع.
انظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/16).
انظر: المصدر السابق.
مقاييس اللغة (4/311).
فتح القدير (5/112).
المطلع على أبواب المقنع (ص374).
الأحكام السلطانية (ص236).
نهاية المحتاج (8/16-17).
مقاييس اللغة (5/11).
التعريفات (225).
بدائع الصنائع (7/33) وفتح الوهاب (2/166)، وانظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/17).
نهاية المحتاج، وترتيب الفروق (2/323-324)، وانظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/18).
نهاية المحتاج (8/19) وترتيب الفروق (2/325) وانظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/18).
ترتيب الفروق (2/326)، وانظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/18).
الأشباه والنظائر للسيوطي (1/273-275)، وانظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/19).
ترتيب الفروق (2/324).
ترتيب الفروق (2/325).
بدائع الصنائع (7/33)، وانظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/19).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/20).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/20).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/20).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/20).
إكمال المعلم (5/550).
صحيح البخاري (مع الفتح)، كتاب الحدود (12/85).
أخرجه البخاري في الإيمان (18)، وفي الحدود باب: الحدود كفارة (6784)، ومسلم في الحدود (1709).
هذه إحدى روايات مسلم.
فتح الباري لابن رجب (1/79).
انظر: المحلى (11/124) وفتح الباري لابن رجب (1/81).
انظر: الإجراءات الجنائية في جرائم الحدود (2/501).
انظر: إكمال المعلم (5/550).
أخرحه الحاكم في المستدرك (1/36) وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، والحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/84).
إكمال المعلم (5/550).
البخاري مع الفتح (12/85).
إكمال المعلم (5/550)، وقد وقع كلامه في المطبوع مصحفا إلى: "هل هي في الكفارة أو محاذير الإسلام".
فتح الباري لابن رجب (1/81).
شرح ابن بطال على البخاري (8/403).
إكمال المعلم (5/550).
فتح الباري (1/80).
فتح الباري (1/84-85، 12/86).
انظر: فتح الباري لابن حجر العسقلاني (1/84).
انظر: فتح البخاري لابن رجب (1/80) وفتح الباري لابن حجر (1/84-85، 12/86).
فتح الباري (12/86).
فتح الباري (1/85).
انظر: فتح الباري (1/84).
الموافقات (2/12).
الموافقات (2/17-20).
الموافقات (2/20).
الفصل الأول: التدابير الشرعية لحفظ الدين في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ الدين وأهميته.
لما كان التديُّن فطرةً في الإنسان فلا بد للإنسان من أن يدين بدين، سواء كان ذلك الدين حقاً أم باطلاً، فإن مخالفة تلكم الفطرة شذوذ وانحراف، ولكن المقصود بالدين هنا الدين الحق المنزل من رب العالمين الخالص من البدع والتحريف وهو دين الإسلام الحنيف الذي لا يقبل الله من أحد سواه، {إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} [عمران:19]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [عمران:85].
وحفظ الدين أهمُّ مقاصد الشريعة الإسلامية، ولا يمكن أن يكون هذا المقصد العظيم معرَّضاً للضياع والتحريف والتبديل؛ لأن في ذلك ضياعاً للمقاصد الأخرى وخراباً للدنيا بأسرها.
المبحث الثاني: الردة وخطرها.
الردة هي أخطر جريمة تهدِّد دين الإنسان وتنقضه.
تعريفها:
قال البعلي: "الردة الإتيان بما يخرج به عن الإسلام إما نطقاً وإما اعتقاداً وإما شكاً".
خطورة الردة وضررها:
تكمن خطورة الردة في محاذير كثيرة منها:(/4)
1- حبوط عمل المرتد: قال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس من السيئات ما يمحو جميع الحسنات إلا الردة".
2- خلود المرتد في النار: وتدل عليه الآية السابقة.
3- لا يغفر الله للمرتد ولا يهديه: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} [النساء:137].
قال ابن كثير: "يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه ثم عاد فيه ثم رجع واستمر على ضلاله وازداد حتى مات فإنه لا توبة له بعد موته ولا يغفر الله له ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً ولا مخرجاً ولا طريقا إلى الهدى".
4- أن الردةَ سلاح خطير إذا استعمله الأعداء فإن له أثرَه في زعزعة المسلمين وتشكيك ضعاف الإيمان بدينهم وإحداث البلبلة بينهم، ومن خبث اليهود أنهم استعملوا هذا السلاح لحرب الإسلام وزلزلة المسلمين وإيقاعهم في الشك والارتياب في دينهم، فقد كان كبار اليهود يقولون لصغارهم: تظاهروا بالإيمان في أول النهار واكفروا آخرَه لكي يقول المسلمون: إنَّ رجوعهم عن الدين بعدما دخلوا فيه دليل على عدم صحته وعدم صلاحيته لأنهم أهل كتاب ولهم سبق إلى دين السماء وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [عمران:72].
المبحث الثالث: عقوبة الردة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدَّل دينَه فاقتلوه)).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
قال ابن قدامة: "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين".
المبحث الرابع: أثر تطبيق حدِّ الردَّة.
لهذا الحد أثره الواضح في المجتمع، وذلك أنه يكون مؤثراً في التمسك بالدين؛ لأن المسلم يشهد أن لا إله إلى الله وأن محمداً رسول الله وهي شهادة إقرار على التسليم بكل أحكام الإسلام، وهو يعلم حين يقر بالشهادة أن من أحكام هذا الدين قتله إن ارتد، فقبل وأذعن مختاراً وحافظ على دينه وازداد تمسكه به.
يقول شيخ الإسلام في الحكمة من قتل المرتد: "فإنه لو لم يُقتَل لكان الداخلُ في الدين يخرج منه، فقتلُه حفظٌ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه".
ويقول عبد القادر عودة: "وتُعاقب الشريعةُ على الردة بالقتل لأنها تقع ضدَّ الدين الإسلامي وعليه يقوم النظام الاجتماعي للجماعة، فالتساهل في هذه الجريمة يؤدي إلى زعزعة هذا النظام ومن ثمَّ عوقب عليها بأشد العقوبات استئصالاً للمجرم من المجتمع وحماية للنظام الاجتماعي من ناحية ومنعاً للجريمة وزجراً عنها من ناحية أخرى، ولا شك أن عقوبة القتل أقدر العقوبات على صرف الناس عن الجريمة، ومهما كانت العوامل الدافعة إلى الجريمة فإن عقوبة القتل تولِّد غالباً في نفس الإنسان من العوامل الصارفة عن الجريمة ما يكبت العوامل الدافعة إليها ويمنع من ارتكاب الجريمة في أغلب الأحوال".
انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص192-193).
المطلع على أبواب المقنع (ص 378).
مجموع الفتاوى (11/700).
تفسير القرآن العظيم (1/579).
تطبيق الحدود الشرعية وأثره على الأمن في المملكة (ص38)، وانظر القصة المذكورة في جامع البيان (3/309-310).
أخرجه البخاري في استتابة المرتدين، باب: حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم (6922).
أخرجه البخاري في الديات (6878)، ومسلم في القسامة والمحاربين (1676).
المغني (12/264).
تطبيق الحدود الشرعية وأثره على الأمن في المملكة (ص 38) بتصرف يسير.
مجموع الفتاوى (20/102).
التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي (1/661، 662).
الفصل الثاني: التدابير الشرعية لحفظ النفس في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ النفس وأهميته.
لقد عُنيت الشريعة الإسلامية بالنفس عنايةً فائقة فشرعت من الأحكام ما يجلب المصالح لها ويدفع المفاسد عنها وذلك مبالغةً في حفظها وصيانتها ودرء الاعتداء عليها؛ لأنه بتعريض الأنفس للضياع والهلاك يُفقد المكلَّف الذي يتعبَّد لله سبحانه وتعالى، وذلك بدوره يؤدي إلى ضياع الدين.(/5)
والنفس التي عُنيت الشريعة بحفظها هي الأنفس المعصومة بالإسلام أو الجزية أو الأمان، وأما غير ذلك كنفس المحارِب فليست الشريعة تعنى بحفظها لكون عدائه للإسلام ومحاربته له أعظم في نظر الشريعة من إزهاق نفسه، وقد تكون النفس معصومة بالإسلام أو الجزية أو الأمان ويجيز الشارع للحاكم إزهاقَها بالقصاص أو الرجم وليس هذا من قبيل عدم العناية بها والمحافظة عليها، بل لكون مصلحة حفظها عورضت بمصلحة أعظم فأخذ بأعظم المصلحتين.
المبحث الثاني: جريمة القتل وخطرها.
القتل جريمة خطيرة لها أضرارها على الأفراد والمجتمعات، وقد ذكر الله تعالى تحريمها في مواطن من القرآن قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ} [الأنعام:151] في موضعين من القرآن، قال القرطبي: "وهذه الآية نهيٌ عن قتل النفس المحرَّمة مؤمنةً كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها".
وحرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
فمن أضرار جريمة القتل ومظاهر خطورتها:
1- أنها من الكبائر المنصوص عليها: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الإشراك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق...)) الحديث.
2- أنها متوعَّد عليها بالعذاب العظيم والغضب واللعنة من الله: قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93].
قال أبو هريرة وجماعة من السلف: (هذا جزاؤه إن جازاه).
3- أن قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعاً: قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً...} [المائدة:32].
قال ابن كثير: "أي: من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض واستحلَّ قتلها بلا سبب ولا جناية فكأنما قتل الناس جميعاً لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس".
4- أنها أولُ ما يقضي فيه بين العباد يوم القيامة: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أول ما يقضى بين الناس في الدماء)).
قال الحافظ: "وفيه عظم أمر القتل؛ لأن الابتداء إنما يقع بالأهم".
المبحث الثالث: عقوبة القتل.
القتل ثلاثة أنواع: عمد وشبه عمد وخطأ.
القتل العمد: وعقوبته القصاص.
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178].
قال شيخ الإسلام مبينا هذا النوع: "هو أن يقصِد من يعلمُه معصوماً بما يقتل غالباً، سواء كان يقتل بحده كالسيف ونحوه، أو بثقله كالسندان وكُوذين القصَّار، أو بغير ذلك كالتحريق والتغريق والإلقاء من مكان شاهق والخنق وإمساك الخصيتين حتى تخرج الروح، وغم الوجه حتى يموت، وسقي السموم ونحو ذلك من الأفعال، فهذا إذا فعله وجب فيه القوَد، وهو أن يمكَّن أولياء المقتول من القاتل فإن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدية، وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله".
القتل شبه العمد: وعقوبته الدية المغلظة.
قال شيخ الإسلام: "النوع الثاني الذي يشبه العمد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان في السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها)) سماه شبه العمد؛ لأنه قصد العدوان عليه بالضرب لكنه لا يقتل غالباً، فقد تعمَّد العدوان ولم يتعمَّد ما يقتل".
القتل الخطأ: وعقوبته الدية والكفارة.
قال تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [النساء:92].
قال شيخ الإسلام: "والثالث الخطأ المحض وما يجري مجراه، مثل أن يرمي صيداً أو هدفاً فيصيب إنساناً بغير علمه ولا قصده، فهذا ليس فيه قوَدٌ، وإنما فيه الدية والكفارة".
المبحث الرابع: آثار تطبيق عقوبة القصاص:
1- إرضاء أولياء المقتول وإذهاب غيظهم وإخماد الفتن:(/6)
قال شيخ الإسلام: "قال العلماء: إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتلَ وأولياءه، وربما لم يرضوا بقتل القاتل بل يقتلون كثيراً من أصحاب القاتل، وقد يستعظمون قتلَ القاتل لكونه عظيماً أشرف من المقتول فيفضي ذلك إلى أن أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل، وربما حالف هؤلاء قوماً واستعانوا بهم وهؤلاء قوماً فيفضي إلى الفتن والعداوات العظيمة، فكتب الله علينا القصاص وهو المساواة والمعادلة في القتلى، وأخبر أن فيه حياةً، فإنه يحقن دمَ غير القاتل من أولاء الرجلين".
2- ردع من يريد القتل وحفظ النفوس:
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ يأُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
قال أبو العالية: "جعل الله القصاص حياةً فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يُقتل".
قال ابن كثير: :وفي الكتب المتقدمة: (القتل أنفى للقتل)، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز".
مقاصد الشريعة الإسلامية (ص 211).
الجامع لأحكام القرآن (7/133).
متفق عليه وقد تقدم تخريجه في الفصل الأول، المبحث الثالث.
أخرجه البخاري في الحدود، باب: رمي المحصنات (6857)، ومسلم في الإيمان (89).
انظر: تفسير القرآن العظيم (1/550).
تفسير القرآن العظيم (2/49).
أخرجه البخاري في الديات، باب: قول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} (6864)، ومسلم في القسامة (1678).
فتح الباري (12/196).
السندان: قال البعلي في المطلع على أبواب المقنع (ص357): "لم أره في شيء من كتب اللغة، فالظاهر أنه مولد، وهو عبارة عن الآلة المعروفة من الحديد الثقيل يعمل عليها الحداد صناعته".
الكوذين: قال البعلي في المطلع (ص357): "لفظ مولد، وهو عن أهل زماننا عبارة عن الخشبة الثقيلة التي يدق بها الدقاق الثياب".
مجموع الفتاوى (28/373، 374).
مجموع الفتاوى (28/378).
مجموع الفتاوى (28/378).
مجموع الفتاوى (28/374، 375).
انظر: تفسير القرآن العظيم (1/225).
تفسير القرآن العظيم (1/225).
الفصل الثالث: التدابير الشرعية لحفظ العقل في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ العقل وأهميته.
إن العقل هو الذي استحقَّ به الإنسان أن يكون خليفةً في الأرض وأن يُسخَّر له ما في السماوات والأرض الكون، وهو أيضاً مناط التكليف، فقد جعله الفقهاء شرطاً لصحة العمل، فلا يصحُّ العمل إلا به؛ لذلك حرَّم الإسلام تناولَ الخمر وكل مخدِّر، وشرع في ذلك الحد أو التعزير تأديباً لمتعاطيها وراحةً لغيره وحمايةً للمجتمع من خطرها ومحافظةً على أمن الأمة.
المبحث الثاني: جريمة شرب الخمر وأضرارها.
تتضح أضرار الخمر في أمور عديدة منها:
1- أنها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة:
قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة:91].
قال القرطبي: "أي: إذا سكرتم لم تذكروا الله ولم تصلوا، وإن صليتم خلّط عليكم".
2- أنها تسبِّب العداوة والبغضاء:
قال القرطبي: "أعلَمَ اللهُ تعالى عبادَه أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره، فحذرنا منه ونهانا عنه".
3- أن فيها إثماً عظيماً بسبب السكر:
قال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة:219].
قال ابن عباس: (يعني ما ينقص من الدين عند من يشربها).
وقال السدي: "فإثم الخمر أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس".
قال ابن جرير: "وإنما كان ذلك لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتل بعضهم بعضاً".
4- أن لها ضرراً عظيماً على البدن والعقل:
يقول علماء الطب: والخمر توهن البدن وتجعله أقلَّ مقاومةً وجلَداً في كثير من الأمراض مطلقاً، وهي تؤثر في جميع أجهزة البدن، وخاصة في الكبد، وهي شديدة الفتك بالمجموعة العصبية، لذلك لا يستغرب أن تكون من أهم الأسباب الموجبة لكثير من الأمراض العصبية ومن أعظم دواعي الجنون والشقاوة والإجرام، لا لمستعملها وحده بل وفي أعقابه من بعده.
5- أن لها مضاراً اقتصادية على البلدان:
يقول علماء الاقتصاد: إن كلَّ درهم نصرفه لمنفعتنا فهو قوة لنا وللوطن، وكل درهم نصرفه لمضرتنا فهو خسارة علينا وعلى وطننا، فكيف بهذه الملايين من الليرات التي تذهب سدًى على شرب المسكرات على اختلاف أنواعها.
المبحث الثالث: عقوبة شرب الخمر.
قال الإمام البخاري في صحيحه: "باب ما جاء في ضرب شارب الخمر"، ثم أخرج بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين.(/7)
وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر فصدراً من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا أو فسقوا جلد ثمانين.
قال ابن قدامة: "يجب الحد على من شرب قليلاً من المسكر أو كثيراً، ولا نعلم بينهم خلافاً في ذلك في عصير العنب غير المطبوخ".
وقال ابن حزم: "واتفقوا أن من شرب نقطة خمر وهو يعلمها خمراً من عصير العنب وقد بلغ ذلك حدَّ الإسكار ولم يتب ولا طال الأمر وظفر به ساعةَ شربها ولم يكن في دار الحرب أن الضرب يجب عليه إذا كان حين شربه لذلك عاقلاً مسلماً بالغاً غيرَ مكرَه ولا سكران، سكِر أو لم يسكر".
وقال ابن حزم أيضاً: "واتفقوا أن الحد أن يكون مقدار ضربه في ذلك أربعين، واختلفوا في إتمام الثمانين، واتفقوا أنه لا يلزمه أكثر من ثمانين".
المبحث الرابع: جريمة تعاطي المخدرات وأضرارها.
تعاطي المخدرات جريمة خطيرة انتشرت في زماننا هذا، أضرارها بالغة الخطورة فمن ذلك:
1- أضرار صحية وهي كثيرة جداً، فمنها:
أ- هبوط عام في الجهاز المركزي.
ب- تصلب الشرايين.
ج- الضعف الجسمي.
د- اضطراب الجهاز التنفسي ومسالكه والتهاب الشعب.
هـ- حرمان الجهاز العظمي من الكميات المطلوبة للجسم.
2- أضرار نفسية وهي كثيرة أيضا ًفمنها:
أ- عند اقتراب موعد التعاطي تنتاب المدمن أعراض تشتد تدريجياً وهي توتُّر وشعور بقلق شديد وانقباض وهبوط عصبي لا يستقر المدمن معه.
ب- يكون في حالة بكاء تشلُّ الجسدَ عن الحركة حين تجيء النوبة إلى أن يتعاطى المخدِّر.
ج- اعتقاد متعاطيه أنه قادر على كل شيء واختراع أفكار وهمية.
د- المدمن يكون دائماً ذليلاً في تهيُّج وتذلُّل حتى في شرائه للمخدِّر، ويتألم إذا لم يتعاطاه.
3- أضرار اجتماعية ومنها:
أ- المخدرات تعمل على تجسيم المشاعر والانفعالات، وأكثر المتعاطين تتأثر تهيُّؤاتهم وتتضخَّم إلى أقصى درجة، فيؤدِّي ذلك إلى عدوانه على الآخرين، فهي باعث للجريمة.
ب- التسبب في حوادث السيارات؛ لأن تناوله يقرِّب البعيد في النظر ويبعِّد القريب أحياناً، فيقع الحادث ولا يشعر السائق.
ج- التفكّك الأسري بسبب ما يحصل من المدمن من العدوان على أهله وأولاده، بل ربما والده ووالدته، وهذا التعدي قد يصل إلى درجة العدوان بالقتل أو على العرض بالهتك، فتفكَّك الأسر بذلك، فيؤدي بدوره إلى تفكّك المجتمع.
المبحث الخامس: عقوبة ترويج المخدرات.
قرَّرت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية بالإجماع قتلَ مهرِّب المخدرات لما يسبِّبه تهريب المخدرات من فساد عظيم لا يقتصر على المهرِّب نفسه، وأضرار جسيمة وأخطار بليغة على الأمة بمجموعها، ويلحق بالمهرِّب الشخصُ الذي يستورِد أو يتلقَّى المخدرات من الخارج فيمون بها المروِّجين.
المبحث السادس: آثار تطبيق عقوبة تعاطي الخمر والمخدرات.
1- صيانة العقول:
قال محمد بن عبد الرحمن البخاري: "وأما حدّ الشرب فهو مشروع لصيانة العقول، فإن العقل أعز الأشياء، به الثواب والعقاب والخطاب، فمن جنى عليه استحق العقوبة، فليس عقله ونفسه بخالص حقِّه، بل لله تعالى فيه حق التخليق، وللعبد حق الانتفاع، فإذا جنى على حق الله تعالى شرع الزاجر، فالله تعالى شرَّفه بالعقل وألحقه بالملائكة، بل فضل بعضهم عليهم، فهو بشرب الخمر ألحق نفسه بالبهائم، فجوزي بالعقوبة زجرًا له عن هذا الصنيع".
2- حفظ أرواح الناس وممتلكاتهم وأعراضهم من عبث أهل الخمور:
عن علي رضي الله عنه قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني مما أفاء الله عليه من الخمس يومئذ، فلما أردت أن أبتني بفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم واعدتُ رجلا صواغا في بني قينقاع أن يرتحل معي فنأتي بإذخر، فأردت أن أبيعه من الصواغين فنستعين به في وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفي من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاي مناخان إلى جنب حجرة رجلٍ من الأنصار حتى جمعت ما جمعت فإذا أنا بشارفي قد أُجبَّت أسنمتهما، وبُقرت خواصرهما، وأُخذ من أكبادهما، فلم أملك عيني حين رأيت المنظر، قلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب، وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار عنده قينة وأصحابه، فقالت في غنائها:
ألا يا حمزُ للشُّرُف النواء(/8)
فوثب حمزة إلى السيف فأجبَّ أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما. قال علي: فانطلقت حتى أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الذي لقيت، فقال: ((ما لك؟)) قلت: يا رسول الله، ما رأيتُ كاليوم، عدا حمزة على ناقتيَّ فأجبَّ أسنمتهما وبقر خواصرهما، وها هو ذا في بيتٍ معه شرب، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بردائه فارتدى ثم انطلق يمشي واتبعتُه أنا وزيد بن حارثة حتى جاء البيتَ الذي فيه حمزة، فاستأذن عليه فأذن له، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمِل محمرَّة عيناه، فنظر حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم صعَّد النظر فنظر إلى ركبتِه ثم صعَّد النظر فنظر إلى وجهه ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟! فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثمِل فنكص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه القهقرى، فخرج وخرجنا معه.
قال الحافظ ابن حجر: "فيه علة تحريم الخمر".
الحكم في السطو والاختطاف والمسكرات، مجلة البحوث الإسلامية، العدد: 12، السنة: 1405هـ.
الجامع لأحكام القرآن (6/292).
الجامع لأحكام القرآن (6/292).
انظر: جامع البيان (2/372).
انظر: جامع البيان (2/372).
جامع البيان (2/373).
انظر: فقه السنة (2/373).
انظر: فقه السنة (2/374).
صحيح البخاري: كتاب الحدود (6773)، وأخرجه مسلم أيضا في الحدود (1706).
أخرجه البخاري في الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال (6779).
المغني (12/497).
مراتب الإجماع (ص133).
مراتب الإجماع (ص133).
الحكم في السطو والاختطاف والمخدرات، مجلة البحوث الإسلامية، العدد: 12.
انظر نص القرار في مجلة البحوث الإسلامية، عدد: 21، سنة: 1408هـ.
محاسن الإسلام (ص60).
أخرجه البخاري في فرض الخمس (3091) واللفظ له، ومسلم في الأشربة (1979).
فتح الباري (6/201).
الفصل الرابع: التدابير الشرعية للمحافظة على العرض في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ العرض وأهميته.
أولت الشريعة الإسلامية الأعراض عنايةً خاصة، فأوجبت صيانتَها والمحافظةَ عليها وحرَّمت الاعتداءَ عليها أو النيل منها بأي وجه من الوجوه، وأمرت بالدفاع عن العرض وإن أدى إلى قتل المعتدي، وجعلت المتساهل في عرض محارمه ديوثاً يستحق غضب الله.
المبحث الثاني: جريمة الزنا وأخطارها.
جريمة الزنا من أخبث الجرائم وأرذلها، وأضرارها عظيمة جداً، وخطرها في الشرع عظيم، فمن ذلك:
1- أنها من الكبائر:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان:68].
قال القرطبي: "ودلت الآية على أنه ليس بعد الكفر أعظم من قتلٍ بغير حق ثم الزنا".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيّ الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك))، قلت: ثم أيّ؟ قال: ((أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك))، قلت: ثم أيّ؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك)).
قال ابن قدامة: "الزنا حرام، وهو من الكبائر العظام".
2- التوعد عليه بالعذاب الشديد:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً % يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان:68-69].
قال ابن جرير: "أي" يلقَ من عقاب الله عقوبة ونكالاً".
3- الإصابة بالأمراض الخطيرة:
قال سيد سابق: "إنه سبب مباشر في انتشار الأمراض الخطيرة التي تفتك بالأبدان وتنتقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء وأبناء الأبناء كالزهري والسيلان والقرحة".
4- أنه يتسبب في جريمة القتل:
قال سيد سابق: "وهو أحد أسباب جريمة القتل إذ إن الغيرة من طبيعة الإنسان، وقلما يرضى الرجل الكريم أو المرأة العفيفة بالانحراف الجنسي".
5- التفكك الأسري:
قال سيد سابق: "والزنا يفسد نظام البيت، ويهزُّ كيان الأسرة، ويقطع العلاقة الزوجية، ويعرِّض الأولاد لسوء التربية، مما يتسبب عنه التشرد والانحراف والجريمة".
6- ضياع الأنساب وخراب الدنيا:
قال ابن القيم: "وأما زنا الرجل فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضاً، وإفساد المرأة المصونة، وتعريضها للتلف والمفاسد، وفي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين".
7- يورث الأمراض النفسية والقلبية:
قال ابن القيم: "ومن خاصيته أيضاً أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمِته، ويجلب الهمَّ والحزن والخوف، ويباعد صاحبَه من الملك، ويقربه من الشيطان".
8- يورث نفرة العباد من الزناة وسقوطهم من أعينهم:(/9)
قال ابن القيم في ذكر مضار الزنا: "ومنها أنه يذهب حرمة فاعله ويسقط من عين ربه ومن أعين عباده، ومنها: قلة الهيبة التي تنزع من صدور أهله وأصحابه وغيرهم، وهو أحقر شيء في نفوسهم وعيونهم، بخلاف العفيف فإنه يرزق المهابة والحلاوة".
المبحث الثالث: عقوبة الزنا.
الزاني إما أن يكون محصنا أو غير محصن.
1- عقوبة الزاني المحصن: وهي الرجم:
قال ابن قدامة: "مسألة في وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلاً كان أو امرأة، وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولا نعلم فيه مخالفاً".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه: (لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حقٌّ على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف).
2- عقوبة الزاني غير المحصن: وهي الجلد والتغريب:
قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].
قال ابن قدامة: "ولا خلاف في وجوب الجلد على الزاني إذا لم يكن محصناً".
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً؛ البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)).
قال ابن قدامة: "ويجب مع الجلد تغريبه عاماً في قول جمهور العلماء".
المبحث الرابع: جريمة اللواط وأخطارها.
أضرار اللواط كثيرة وعظيمة جدا، منها:
1- أنها معصية عظيمة وكبيرة من كبائر الذنوب، وقد ذكرها غير واحد في الكبائر.
2- إنها تفسد القلب، قال ابن القيم: "ولكن نجاسة الزنا واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات من جهة أنها تفسد القلب وتضعف توحيده جداً".
3- أنها تقتل مروءة وشهامة مرتكبيها.
4- أن فيها انتكاساً للفطرة والطباع السليمة.
5- أنها تسبب عزوف الرجال عن الزواج، فاللواط سبب لاكتفاء الرجال بالرجال والرغبة عن الزواج، وبالتالي يقل الزواج وتكثر العنوسة، وذلك مدعاة لشيوع منكر آخر وهو الزنا.
6- أنها سبب لكثير من الحالات النفسية كالخوف الشديد والوحشة والاضطراب والحزن والقلق اللازم، وضعف الشخصية وانعدام الثقة بالنفس.
7- أنها تسبب اختلالاً في توازن عقل المرء وارتباكاً في تفكيره وركوداً في تصوراته وبلاهة واضحة في عقله وضعفاً شديداً في إدراكه.
8- أنها تؤثر على أعضاء التناسل وتضعف مراكز الإنزال الرئيسة في الجسم، وتقضي على الحيوية المنوية، وقد ينتهي الأمر فيها بعد زمن إلى عدم القدرة على إيجاد النسل وإلى الإصابة بالعقم.
9- أنها تسبب كثيراً من الأمراض، ومنها الزهري والتيفوئيد والدوسنتاريا والقرحة الرخوة وثآليل التناسل والتهاب الكبد الفيروسي والسيلان والهربس والإيدز.
المبحث الخامس: عقوبة اللواط:
قال شيخ الإسلام: "وأما اللواط فمن العلماء من يقول: حده كحد الزنا، وقد قيل: دون ذلك، والصحيح الذي اتفق عليه الصحابة أن يقتل الاثنان الأعلى والأسفل، سواء كانا محصنين أو غير محصنين، فإن أهل السنن رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به))، وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما في البكر يوجد على اللوطية قال: (يرجم)، ولم تختلف الصحابة في قتله ولكن تنوعه فيه، فرُوي عن الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريقه، وعن غيره قتله، وعن بعضهم أنه يلقى عليه جدار حتى يموت تحت الهدم، وقيل: يحبسان في أنتن موضع حتى يموتا، وعن بعضهم أنه يرفع على أعلى جدار في القرية ويرمى منه ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط، وهذه رواية عن ابن عباس، والرواية الأخرى قال: يرجم، وعلى هذا أكثر السلف، قالوا: لأن الله رجم قوم لوط، وشرع رجم الزاني تشبيهاً بقوم لوط، فيرجم الاثنان، سواء كانا حرين أو مملوكين، أو كانا أحدهما مملوكاً والآخر حراً إذا كانا بالغين، فإن كان أحدهما غير بالغ عوقب بما دون القتل، ولا يرجم إلا البالغ".
المبحث السادس: آثار تطبيق عقوبة الزنا واللواط.:
في تطبيق عقوبتي الزنا واللواط آثار حميد، فمن ذلك:
1- صيانة أعراض الأسر والعشائر والمحافظة عليها من كل ما يؤدِّي إلى الإساءة إليها أو النيل منها، لأن ارتكاب فرد من عشيرة معينة لجريمة الزنا يؤدي إلى إلحاق العار بجميع أفراد تلك العشيرة.
2- تقوية العلاقة الزوجية والمحافظة على كيان الأسرة وحماية المجتمع من التفكك والانهيار.
3- المحافظة على بقاء النوع الإنساني من الانقراض؛ لأن شيوع الزنا يؤدي إلى ظهور جيل من اللقطاء الذين لا يُعرف آباؤهم، وهؤلاء أكثر تعرضاً للهلاك من سواهم، لعدم وجود من يتولى رعايتهم على الوجه الأكمل.
4- مكافحة كثير من الأمراض التي يسببها الزنا أو اللواط وحماية المجتمع منها ومن أخطارها.(/10)
5- حفظ المجتمع من عذاب الله تعالى وسخطه المترتب على انتشار الفواحش بين الناس.
المبحث السابع: جريمة القذف وأضرارها:
قال الخطيب الشربيني: "المراد بالقذف هنا الرمي بالزنا في معرض التعيير".
والقذف له خطورته وأضراره، فمن ذلك:
1- أنه من الكبائر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)).
قال الخطيب الشربيني: "وهو من الكبائر الموبقات، سواء في ذلك الرجل والمرأة".
قال الحافظ ابن حجر: "وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء".
2- التوعد عليه باللعن والعذاب العظيم:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23].
قال ابن كثير: "هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات".
3- الحكم على القاذف بالفسق ورد شهادته:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4].
قال ابن كثير: "فأوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام: أحدها: أن يجلد ثمانين جلدة، الثاني: أنه ترد شهادته أبداً، الثالث: أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس".
المبحث الثامن: حد القذف.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4].
قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة وهي الحرة البالغة العفيفة، فإذا كان المقذوف رجلاً فكذلك يجلد قاذفه أيضاً، وليس فيه نزاع بين العلماء".
قال شيخ الإسلام: "ومن الحدود التي جاء بها الكتاب والسنة وأجمع عليها المسلمون حد القذف، فإذا قذف الرجل محصناً بالزنا أو اللواط وجب عليه الحد ثمانون جلدة، والمحصن هنا هو الحر العفيف".
المبحث التاسع: آثار تطبيق حد القذف:
1- قال محمد بن عبد الرحمن البخاري: "وأما حد القذف فتأديب لعباده عن عدوان اللسان وسوء الظن بالإخوان وإذلال من شرفه الله تعالى وكرمه، فإن المؤمن عند الله عزيز والله به لطيف، فلا يليق بالأخ من الأخ أن ينسبه إلى ما يشينه، وإن علم بأن عاين زِناه فالأليق بأخوة الإسلام إسبال الستر عليه والتودُّد إليه".
2- محاربة الرذيلة واستئصال كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الانحراف الخلقي.
3- القضاء على كل سبب قد يؤدي إلى إيقاع العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع.
4- تقوية الروابط التي تضم أفراد الأسرة بعضهم إلى بعض، ذلك أن شيوع القذف والترامي به يؤدي إلى تشكك الإنسان في حقيقة منشئة وعما إذا كان ثمرة اتصال مشروع أو غير مشروع.
دليل المعلم إلى توعية الطلاب بأضرار الخمر والمخدرات (ص80).
الجامع لأحكام القرآن (13/76).
أخرجه البخاري في الحدود، باب: إثم الزناة (6811)، ومسلم في الإيمان (86).
المغني (12/307).
جامع البيان (19/40).
فقه السنة (12/307).
فقه السنة (2/402).
المصدر السابق (ص103).
انظر: الحدود والتعزيرات عند ابن القيم (ص101).
المصدر السابق (ص103).
المصدر السابق (ص104).
المغني (12/309).
أخرجه البخاري في الحدود، باب الاعتراف بالزنا (6829)، ومسلم في الحدود.
المغني (12/322).
أخرجه مسلم في الحدود (1690).
المغني (12/322).
انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي (1/305).
إغاثة اللهفان (ص 70).
انظر: الفاحشة لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص 31-33).
انظر: الفاحشة لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص 31-33).
انظر: الفاحشة لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص 31-33).
انظر: المصدر السابق.
انظر: المصدر السابق.
انظر: الفاحشة لمحمد الحمد (ص 42-52).
انظر: الفاحشة لمحمد الحمد (ص 42-52).
أخرجه أبو داود في الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط (4462)، والترمذي في الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي (1457)، وابن ماجة في الحدود، باب من عمل عمل قوم لوط (2561)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3745).
أخرجه أبو داود في الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط (4463)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3746).
مجموع الفتاوى (28/334-335).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/35).
المصدر السابق.
المصدر السابق.
المصدر السابق.
مغني المحتاج (4/192).
تقدم تخريجه.
مغني المحتاج (4/192).
فتح الباري (12/188).
تفسير القرآن العظيم (3/304).
تفسير القرآن العظيم (3/292).
تفسير القرآن العظيم (3/290).
مجموع الفتاوى (28/342).(/11)
محاسن الإسلام (ص 61).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/40-41).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/40-41).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/40-41).
الفصل الخامس: التدابير الشرعية لحفظ المال في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ المال وأهميته:
اهتمَّ الإسلام بالأموال اهتماماً عظيماً وحماها حتى جعل المال شقيقَ الروح ومساويًا لها في الحرمة فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه))، فحمى المال من أن تمتدَّ إليه أيدي العابثين وتطلعات الطامعين، ونهى سبحانه عن كل ما يجرُّ إلى أكل أموال الناس بالباطل، وأي اعتداء على أموال الناس بأي وجه من الوجوه حرام، سواء كان عن طريق الكذب أو التحايل أو المماطلة أو السرقة أو غيرها مما يستحله أصحاب النفوس الضعيفة.
المبحث الثاني: جريمة السرقة وخطرها:
من أضرار جريمة السرقة ومخاطرها:
1- السارق ملعون:
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده)).
قال الخطابي: "فيه ذم السرقة وتهجين أمرها وتحذير سوء مغبتها فيما قل وكثر من المال".
2- السارق مسلوب كمال الإيمان:
عن ابن عباس قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن)).
قال النووي: "أي لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان".
3- إهدار أموال الناس وضياعها.
4- انتشار بذور العداوة والبغضاء في أفراد المجتمع.
المبحث الثالث: حد السرقة:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38].
قال ابن قدامة: "وأجمع المسلمون على وجوب قطع السارق في الجملة".
قال ابن تيمية: "وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع".
المبحث الرابع: آثار تطبيق حد السرقة:
1- شرع الله تعالى عقوبة السرقة صيانة للأموال، لأن المال شيء عزيز على النفوس؛ إذ هو عصب الحياة، والإنسان مجبول بطبيعته على حب المال حباً شديداً، فهو يبذل كل طاقته لجمعه، فكيف تكون حالته إذا وجد أن ثمرة جهوده الطويلة قد ذهبت واستولى عليها شخص بغير وجه حق؟! إنها قد تؤدي في بعض الحالات إلى وفاة المجني عليه أو إصابته بخلل في قواه العقلية.
2- نشر الأمن في المجتمع؛ لأن جريمة السرقة تؤدي إلى إفزاع سكان جميع الحي إذ يترقب كل منهم أنه الهدف القادم للذين ارتكبوا تلك الحادثة، فيعيش الناس في اضطراب وقلق.
3- أن فيه رادعاً ونكالاً وعبرة لغيره، قال محمد رشيد رضا: "فالنكال هنا ما ينكِّل الناس ويمنعهم أن يسرقوا، ولعمرو الحق إن قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسِمه بميسم الذلِّ والعار هو أجدر العقوبات بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم، وكذا على أرواحهم، لأن الأرواح كثيراً ما تتبع الأموال".
المبحث الخامس: جريمة الحرابة وخطرها:
جريمة الحرابة من الجرائم العظيمة المفاسد والمخاطر، فمن مظاهر عِظمها وخطورتها:
1- أن الله تعالى حكم على المحاربين بأنهم يحاربون الله ورسوله:
قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَاداً} [المائدة:33].
2- أنها من الإفساد في الأرض كما تقدم في الآية السابقة.
3- أن الله توعد عليها بالخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة فقال تعالى: {ذالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33].
قال ابن سعدي: "فدل هذا أن قطع الطريق من أعظم الذنوب، موجب لفضيحة الدنيا وعذاب الآخرة".
4- أنها تسبب انقطاع الناس عن السفر في سبيل معاشهم وبالتالي ضعف الاقتصاد.
5- أنها تنشر الفوضى والرعب وبذلك ينعدم الأمن.
المبحث السادس: حد الحرابة:
قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ ذالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا قتلوا وأخذوا المال قُتلوا وصُلبوا، وإذا قتَلوا ولم يأخذوا المالَ قُتلوا ولم يُصلبوا، وإذا أخذوا المالَ ولم يقتُلوا قُطعت أيديهم وأرجلُهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيلَ ولم يأخذوا مالاً نُفوا من الأرض).(/12)
قال شيخ الإسلام: "وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي وأحمد، وهو قريب من قول أبي حنيفة، ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم، فيقتل من رأى قتلَه مصلحةً وإن كان لم يقتُل، مثل أن يكون رئيساً مطاعاً فيهم، ويقطع من رأى قطعَه مصلحةً وإن كان لم يأخذ المال، مثل أن يكون ذا جَلَد وقوة في أخذ المال، كما أن منهم من يرى أنهم إذا أخذوا المال قُتلوا وقطِّعوا وصلبوا، والأول قول الأكثر، فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حداً لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء، ولا يكون أمره إلى ورثة القتول".
المبحث السابع: آثار تطبيق حد الحرابة:
1- الحفاظ على أرواح الناس وأموالهم.
2- تأمين الطرق والسُبُل وبالتالي نشاط الحركة الاقتصادية.
3- الردع لكل من أراد الإفساد في الأرض.
جزء من حديث أخرجه مسلم.
الحكمة من قطع يد السارق، مجلة البحوث الإسلامية، عدد: 25، سنة: 1409هـ.
أخرجه البخاري في الحدود، باب: لعن السارق إذا لم يسم (6783)، ومسلم في الحدود (1687).
أعلام السنن (4/2291).
أخرجه البخاري في الحدود، باب: لا يشرب الخمر (6772)، ومسلم في الإيمان (57).
شرح صحيح مسلم (2/41).
عقوبة السارق (ص 110).
عقوبة السارق (ص 110).
المغني (12/415).
مجموع الفتاوى (28/329).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/55) بتصرف.
المصدر السابق.
تفسير المنار (6/380).
تيسير الكريم الرحمن (2/283).
أخرجه ابن جرير في تفسيره (4/552).
مجموع الفتاوى (28/310).
الفصل السادس: أثر التعزيرات الشرعية في الحد من الجريمة:
1- التعزير يعتبر أمثلَ طريقةٍ لعقوبات الجرائم غير المحددة:
قال شيخ الإسلام: "وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور، وذلك يحصل بالعقوبة على ترك الواجبات وفعل المحرمات، فمنها عقوبات مقدَّرة مثل جلد المفتري ثمانين وقطع السارق، ومنها عقوبات غير مقدرة قد تسمَّى التعزير، وتختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كبر الذنوب وصغرها، وبحسب حال المذنب، وبحسب حال الذنب في قلته وكثرته".
2- التعزير يكون بديلاً عن الحدود في الجرائم المقدَّرة عند امتناع العقوبة الأصلية:
قال عبد القادر عودة: "ويعاقب بالتعزير على كل الجرائم فيما عدا جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية فلها عقوباتها الخاصة، ولا يعاقب عليها بالتعزير باعتبار التعزير عقوبةً أصلية، وإنما باعتباره عقوبةً بديلة تجب عند امتناع العقوبة الأصلية كعدم توفُّر شروط الحد، أو باعتباره عقوبةً إضافية تضاف إلى العقوبة الأصلية كالتغريب في الزنا عند أبي حنيفة، وكإضافة التعزير للقصاص في الجراح عند مالك، وكإضافة أربعين جلدة على حد الخمر عند الشافعي".
3- تقلّص الكثير من الجرائم غير المقدَّرة بإقامة التعزير فيها.
4- تأديب العصاة المجرمين الخارجين عن الأنظمة.
مجموع الفتاوى (28/107)
التشريع الجنائي الإسلامي (1/685).
الفصل السابع: عواقب إهمال العقوبات الشرعية:
إهمال العقوبات الشرعية له عواقب وخيمة، فمن تلك العواقب:
1- اجتراء الناس على محارم الله ومواقعتهم لحمى الله، والله يغار أن تنتهك محارمه.
2- الاجتراء على حدود توقع في المحادّة لله ورسوله، وذلك موجب للوقوع في الذل والهوان: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِى الأَذَلّينَ} [المجادلة:20].
3- من أخذ بغير حكم الله فقد والى صاحبَ ذلك الحكم وعادى الله ورسوله، ومن أخذ بحكم الله فقد والاه، وقد حكم الله تعالى لمن والاه وكان من حزبه بالقوة والنصر والغلبة، وحكم على من كان من حزب الشيطان بالذل والاندحار: {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56].
4- الاجتراء على محارم الله وترك الإنكار على ذلك وعدم إقامة الحدود الشرعية على من وجبت عليه يلحق اللعنةَ بالمجتمع كما لعنت بنو إسرائيل بتركهم التناهي عن الوقوع في المحارم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ Z كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.
5- وقوع الأزمات الطاحنة والكوارث المدمِّرة والتناحر بين الطوائف والجماعات بسبب انقسام الناس إلى فريق العصاة المجترئون على حرمات الله، وفريقٍ من الضعفة الخانعين لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فيتمزَّق المجتمع شرَّ ممزَّق.
6- حدوث سنَّة الله في ذلك المجتمع بنزول المصائب والعذاب التي جعلها الله مسببة عن المعاصي والوقوع في حدود الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30].
7- تضييع الضروريات الخمس التي هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وبضياعها وتلفها خراب المجتمع وضنك الحياة ودمار العالم.(/13)
انظر في هذا المبحث: أثر تطبيق الحدود في المجتمع لغزال خليل عيد، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلام
الفصل الثامن: شبهات حول إقامة الحدود:
أثار أعداء الإسلام كثيراً من الشبهات حول الحدود الشرعية، فمن تلك الشبه:
الشبهة الأولى: قالوا: إن إقامة الحدود فيه ضرب من القسوة التي تتنافى مع الإنسانية الرحيمة التي تساير المدنية الحديثة والحضارة الراقية.
والجواب: إن كل عقوبة لا بد أن يكون فيها مظهر قسوة أياً كانت، حتى ضرب الرجل لولده تهذيباً وتأديباً له فيه نوع من القسوة، لأن العقوبة إن لم تشتمل على القسوة فأي أثر لها في الزجر والردع، كما قال الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقسُ أحياناً على من يرحم
ثم إن الذي دعا إلى تلك القسوة المزعومة هو أمر أشدُّ منها قسوة، ولو تركنا العقوبة القاسية بزعمهم لوقعنا في أمر أقسى من العقوبة.
ومثل القسوة التي تشتمل عليها الحدود كمثل الطبيب الذي يستأصل من جسم أخيه الإنسان جزءاً من أجزائه أو عضواً من أعضائه، أليس في ذلك قسوة؟! وهل يستطيع أن يمارس هذا العمل إلا قلب قوي؟! ولكنها قسوة هي الرحمة بعينها، خاصة إذا قيست بما يترتب على تركها وبقاء العضو المريض ونار الألم تتوهج وتستشري وتتزايد في جسم المريض.
الشبهة الثانية: قالوا: إن إقامة الحدِّ تقتضي إزهاقاً للأرواح وتقطيعاً للأطراف، وبذلك تفقد البشرية كثيراً من الطاقات والقوى، وينتشر فيها المشوَّهون والمقطَّعون الذين كانوا يسهمون في الإنتاج والعمل.
والجواب: إن القتل وتقطيع الأطراف في الحدود إنما يكون في حالات ضيِّقة محصورة وهو إزهاق لنفوس شريرة لا تعمل ولا تنتج، بل إنها تعطِّل العمل والإنتاج وتضيِّع على العاملين المنتجين ثمرات أعمالهم وإنتاجهم. ثم إن إزهاق روح واحدة أو قطع طرف واحد في الحدود يؤدِّي إلى حفظ مئات الأرواح وآلاف الأطراف سليمة طاهرة عاملة منتجة. ثم إننا لا نلاحظ المشوَّهين يكثرون في البلاد التي تقيم الحدود، بل يكونون فيها أقل منهم في غيرها. بل الأمر بالعكس من ذلك تماما؛ فإن الحدود إذا لم تُقم على المجرمين المعتدين كثر المشوَّهون والمعاقون من جراء اعتداءات المجرمين الذين يجدون متنفَّسا وسندا عند من ينظر إليهم نظرة العطف والرحمة والحنان، وبذلك تضيع حقوق المعتدى عليهم، وتُهدر كرامتهم وليس بعد ذلك للمجرمين حدٌّ ينتهون إليه.
الشبهة الثالثة: قالوا: إن في إقامة الحدود سلباً لحق الحياة وهو حقٌّ مقدَّس لا يجوز لأحد أن يسلبه، فكيف يسوغ لحاكم أن يسلب محكوماً حقَّ الحياة؟!
والجواب: إن الشارع الحكيم الذي منح حقَّ الحياة وقدَّسه وجعل الدماء والأموال والأعراض محرَّمة بين الناس هو الذي أكَّد ذلك التقديس والاحترام بإقامة الحدود، والمحدود الذي استحقَّ الرجم أو القتل هو الذي جنى على نفسه لأنه لم يحترم حقَّ غيره وعلى نفسها جنت براقش، ولو أنه احترم حقَّ الحياة في غيره لحفظ له حق الحياة في نفسه، وقد قرَّر الله تعالى في كتبه السابقة وفي القرآن الكريم: { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً...} الآية [المائدة:32].
فالمعتدي على حق الحياة في غيره يعدُّ معتدياً على حقِّ الحياة في نفسه.
الشبهة الرابعة: قالوا: إن إقامة الحدود تقهقرٌ بالإنسانية الراقية وانتكاس بها ورجعة إلى عهود الظلام الدامس والقرون الوسطى.
والجواب: إن العاقل لا يزن القول بالبقعة التي جاء منها ولا بالزمان الذي قيل فيه أو نقل منه، لكن الميزان الذي تقوَّم به الأقوال والقوانين هو ميزان الحق والعدل، والعاقل نصير الحق وناشد للحكمة أنى وجدها وعلى أي لسان وفي أي مكان أو زمان، على أن هذا التشريع أنزله الله من السماء رحمةً شفقة لأهل الأرض كما ينزل غيثه الذي يحيي به الأرض، إن مجيء ذلك التشريع على لسان نبيٍّ أمِّي من صحراء العرب في القرون الوسطى كل ذلك آية وإعجاز ودليل صدق على أنه تشريع من حكيم خبير على لسان نبي بُعث رحمة للعالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/14)
العقوبات وأسبابها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلائق أجمعين، محمد وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فإن الله منزه عن كل عيب ونقص، فهو الموصوف بكمال العدل، ومن تمام عدله أنه لا يظلم الناس شيئاً، والله لم ينزل أي عقوبة بالناس إلا بسبب فعلوه، وجُرمٍ اقترفوه، قال-تعالى-:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}سورة الشورى(30). وقال-تعالى-:{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} سورة النساء (79).وما تحل من عقوبة بالخلق إلا لحكم يعلمها الله،من أن تكون هذه العقوبة سبباً في عودة من كان شارداً بعيداً عن الله، وليزداد الطائع القريب منه قرباً وأجراً وثواباً؛ فمن أسباب هذه العقوبات التي ينزلها الله بالناس ما يلي:
1. استضعاف العباد وظلمهم؛ قال-تعالى-: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} الكهف(59). وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(ما من ذنبٍ أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)1. وقال-صلى الله عليه وسلم-:(إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)2. وهذه العقوبة تنزل بمن أراد الله حالاً، وقد يؤخر الله عقوبة الظلم إلى أجل يعلمه الله؛ فعن أبي موسى-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته) قال: ثم قرأ: {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} سورة هود(102)3.
2. ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التقصير في القيام به، قال الله:{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة الأنفال(25).فإذ فشت المنكرات،وقصر الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ عمَّ اللهُ الجميعَ بالعُقُوبةِ؛ فعن زينب بنت جَحْشٍ أنه دخل النبي-صلى الله عليه وسلم- عليها فَزِعًا يقولُ: (لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه). وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحشٍ: فقلت: يا رسول الله, أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث)(4). فإذا أصبحت المعصية في المجتمع ظاهرة ومألوفة، ولم ينكرها الناس فحينها تعمُّ العقوبةُ الجميعَ، ثم يُبعثون على نيَّاتهم؛ لقولِهِ-عليه الصلاة والسلام-:(والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر,أو ليوشكن اللهُ أن يبعث عليكم عقاباً منه,ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم)5. وعن عبد الله بن عمر, قال: أقبل علينا رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-, فقال: (يا معشر المهاجرين, خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن:لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)6. ولكن ينبغي أن يُعلم أن العقاب الدنيوي الذي ينزل بالجميع لا يعني اشتراك الجميع في العذاب في الآخرة، بل كلٌّ يُحاسب عن عمله؛ فعن أم سلمة مرفوعاً: (إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمَّهم اللهُ -عز وجل- بعذاب من عنده). فقلت: يا رسول الله أما فيهم يومئذٍ أناسٌ صالحون؟ قال: (بلى؟).قالت: فكيف يصنع أولئك؟ قال: (يصيبهم ما أصاب الناس,ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان)7. قال القرطبي -رحمه الله-:فإن قيل: فكيف يعُم بالهلاك مع أن فيهم مؤمناً ليس بظالم, قيل: يجعل هلاك الظالم انتقاماً وجزاءاً, وهلاك المؤمن معوضاً بثواب الآخرة؛ وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر, قال سمعتُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-, يقول: (إذا أراد اللهُ بقومٍ عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم)8.(/1)
4. العتو والكبر والغرور؛ قال-تعالى-: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} سورة النجم(50-52). قال الإمام أبو جعفر الطبري-رحمه الله-:يقول- تعالى- ذكره: وأنه أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، إنهم كانوا هم أشد ظلماً لأنفسهم، وأعظم كفراً بربهم، وأشد طغياناً وتمرداً على الله من الذين أهلكهم من بعد من الأمم، وكان طغيانهم الذي وصفهم الله به، وأنهم كانوا بذلك أكثر طغياناً من غيرهم من الأمم9. وقال:{أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} سورة الروم(9). قال ابن كثير -رحمه الله-: كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم.. وأكثر أموالاً وأولاداً، وما أوتيتم معشار ما أوتوا، ومكنوا في الدنيا تمكيناً لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها أعماراً طوالاً، فعمروها أكثر منكم، واستغلوها أكثر من استغلالكم10.
5. كفران النعم، قال-تعالى-:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} سورة إبراهيم(7). يقول الطبري في بيان معنى الآية:ولئن كفرتم أيها القوم نعمة الله فجحدتموها بترك شكره عليها وخلافه في أمره ونهيه وركوبكم معاصيه إن عذابي لشديد، أعذبكم كما أعذب من كفر بي من خلقي11. وقد قص الله علينا في كتابه مصارع الأمم التي كفرت بنعم الله؛ فقال- تعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} سورة النحل(112). قال المناوي-رحمه الله-: ما زال شيء عن قوم أشد من نعمة لا يستطيعون ردها، وإنما ثبتت النعمة بشكر المنعم عليه للمنعم، وفي الحِكم: من لم يشكر النعمة فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقاله12. وقال الله: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} سورة الأنفال(53). قال الطبري -رحمه الله-: يقول- تعالى ذكره-: إن الله لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضاً واعتداء بعضهم على بعض، فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره13. وأسباب العقوبات كثيرة، ولكن حسبنا التذكير بنعم الله، وما يجب علينا نحوها، والتحذير من أسباب العقوبات، والتنفير منها، والله نسأل الله أن يحفظنا من كل سوء ومكروه.
---
1 - رواه الترمذي وأبو داود وأحمد، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم(4098). وصحيح ابن ماجة رقم(4211).
2 - رواه أبو داود والترمذي وأحمد، وهو في السلسلة الصحيحة برقم(1564).
3 - رواه البخاري.
4 - رواه البخاري ومسلم.
5 - رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن ورواه أحمد، وصححه الألباني
6 - رواه ابن ماجه، وصححه الألباني رقم (3246).
7 - رواه أحمد، وحسنه الألباني في
8 - الجامع لأحكام القرآن (10/120).
9 - جامع البيان في تأويل القرآن للطبري (27/78).
10 - تفسير القرآن العظيم (3/428).
11 -جامع البيان في تأويل القرآن للطبري(13/186).
12 - فيض القدير (3/41).
13- جامع البيان في تأويل القرآن للطبري (13/121).(/2)
العلم تعريفات .. وفوائد ..
4/8/1426هـ 02:05 مساء
· تعريف العلم في اللغة .
· تعريف العلم في الإصطلاح .
· إطلاقات كلمة العلم .
· أقسام العلوم .
· العلوم الشرعية .
· علوم العربية .
· فضل العلم .
· أقوال السلف في فضل العلم .
· مايبدأ به في الطلب . ... الكاتب ... أبو أنس ...
...
... ...
... القراءات ... 9918 ...
... التعليقات ... 4 ...
... المشاركات ... 1111 ...
... التسجيل ... 22/8/1420هـ ...
... ... ...
تعريف العلم في اللغة:
1 ـ قال في المصباح المنير:" العلم: اليقين ، يقال علم يعلم إذا تيقن، وجاء بمعنى المعرفة أيضاً ، كما جاءت بمعناه ، ضُمِّن كل واحد معنى الآخر لاشتراكهما في كون كل واحد مسبوقاً بالجهل"
2 ـ وقال في القاموس:" علمه كسمعه، علماً بالكسر عرفه، وعلم هو في نفسه، ورجل عالم ، وعليم ، جمع علماء ، وعلام ، كجهال.."
تعريف العلم في الاصطلاح:
فد اختلف في العلم هل يُحدُّ أو لا ؟
فقال بعضهم: إنه لا يحد لعسر تصوره ، أو لأنه ضروري يحصل بمجرد التفات النفس إليه من غير نظر واكتساب.
وقيل: إنه يحد وعليه الأكثر ، ومن الحدود التي قيلت فيه مااختاره صاحب الكوكب المنير وهو أنه:" صفة يميز المتصف بها بين الجواهر ، والأجسام ، والأعراض ، والواجب ، والممكن ، والممتنع ، تمييزاً جازماً مطاباً ، لأي لا يحتمل النقيض ".
وقال صالح الكليات:" والعلم هومعرفة الشيء على ماهو به ، وبديهيه مالا يحتاج فيه إلى تقديم مقدمة ، وضروريه بالعكس ، ولو سلك فيه بعقله فإنه لا يسكل كالعلم الحاصل بالحواس الخمس.
وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله:" حد العلم عند العلماء المتكلمين في هذا المعنى هو / مااستيقنته وتبينته ، وكل من استيقن شيئاً وتبينه فقد علمه ، وعلى هذا من لم يستيقن الشيء وقال به تقليداً فلم يعلمه ، والتقليد عند جماعة العلماء غير الاتباع ، لأن الاتباع هو أن تتبع القائل على مابان لك من فضل قوله وصحة مذهبه ،والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه ، ولا وجه القول ، ولا معناه ، وتأبى من سواه ، أو أن يتبين لك خطؤه ، فتتبعه مهابة خلافه ،وأنت قد بان لك فساد قوله ، وهذا محرم القول به في دين الله سبحانه ".
إطلاقات كلمة العلم:
قال في الكوكب المنير:" اعلم أن العلم يطلق لغة وعرفاً على أربعة أمور:
أحدها: إطلاقه حقيقة على مالا يحتمل النقيض.
الأمر الثاني: أنه يطلق ويراد به مجرد الإدراك ، يعني سواء كان ا لإدراك جازماً ، أو مع احتمال راجح ، أو مرجوع ، أو مساوٍ ، على سبيل المجاز المجاز ، فشمل الأربعة قوله تعالى:{ماعلمنا عليه من سوءٍ} (يوسف ـ 51) إذ المراد نفي كل إدراك.
الأمر الثالث: أنه يطلق ويراد به التصديق ، قطعياً كان التصديق أو ظنياً ، أما التصديق الظني فإطلاقه عليه على سبيل المجاز ومن أمثلته ، قوله تعالى:{فإن علمتموهن مؤمنات} (الممتحنة ـ 10).
الأمر الرابع: أنه يطلق ويراد به معنى المعرفة ، ومن أمثلة ذلك قوله تعال:{لا تعلمهم نحن نعلمهم} (التوبة ـ 101)
أقسام العلوم:
قسمت العلوم إلى أقسام كثيرة باعتبارات مختلفة ، ومن هذه الأقسام مايلي:
الأول:
أ ـ علوم نظرية: أي غير متعلقة بكيفية عمل.
ب ـ علوم عملية: متعلق بها كيفية عمل.
الثاني:
أ ـ علوم آلية: وهي التي لا تقصد بنفسها ، كعلم النحو والصرف.
ب ـ علوم غير آلية: وهي المقصودة بنفسها كعلم التفسير والحديث.
الثالث:
أ ـ علوم عربية.
ب ـ علوم غير عربية.
الرابع:
أ ـ علوم شرعية.
ب ـ علوم غير شرعية.
الخامس:
أ ـ علوم عقلية ، وهي التي لا يحتاج فيها إلى النقل.
ب ـ علوم نقلية.
إلى غير ذلك من التقسيمات.
العلوم الشرعية:
1 ـ أصول التفسير.
2 ـ علم التفسير.
3 ـ علم القراءات.
4 ـ علم التجويد.
5 ـ علوم القرآن.
6 ـ علم التوحيد.
7 ـ علم الحديث.
8 ـ علم مصطلح الحديث.
9 ـ علم الفقه.
10 ـ علم أصول الفقه.
11 ـ علم الفرائض
علوم العربية:
علوم العربية اثنا عشر علماً ، وهي:ـ
1 ـ علم اللغة.
2 ـ علم التصريف.
3 ـ علم النحو.
4 ـ علم المعاني.
5 ـ علم البيان.
6 ـ علم البديع.
7 ـ علم العروض.
8 ـ علم القوافي.
9 ـ علم قوانين الكتابة.
10 ـ علم قوانين القراءة.
11 ـ علم إنشاء الرسائل والخطب.
12 ـ علم المحاضرات ومنه التواريخ
قال العلامة السجاعي ـ في حاشيته على القطر:ـ " والعربية منسوبة للعرب ،وهي علم يحترز به من الخلل في كلام العرب ، وهو بهذا المعنى يشمل اثنى عشر علماً ، جمعها بعض أصحابنا في قوله:
شعرٌ عروضُ اشتقاقُ الخطُّ إنشاءُتلك العلوم لها الآداب أسماء صرفٌ بيانٌ معاني النحوُ قافيةٌمحاضراتٌ وثاني عشرها لغة
ثم صار علماً بالغلبة على النحو "
ونظمها بعضهم بقوله:
فطوى شذا المنثور حين تضوععلم المعاني بالبيان بديعوكتابة التاريخ ليس يضيع خذ نظم آداب تضوع نشرهالغة وصرف واشتقاق نحوهاوعروض قافية وإنشا نظمها
كما نظمت في قول بعضهم:(/1)
وبعدها لغة قرض وإنشاءوالاشتقاق لها الآداب أسماء نحو وصرف عروض ثم قافيةخط بيان معان مع محاضرة
قال الجاربردي في حاشيته على الشافية:" وعلوم الأدب علوم يحترز بها عن الخلل في كلام العرب لفظاً أو كتابة ، وهي على ماصرحوا به اثنا عشر ، منها أصول ، وهي العمدة في ذلك الاحتراز ، ومنها فروع.
أما الأصول: فالبحث إما عن المفردات من حيث جواهرها وموادها فعلم اللغة ، أو من حيث صورها وهيئاتها فعلم التصريف ، أو من حيث انتساب بعضها إلى بعض بالأصالة والفرعية فعلم الاشتقاق.
وأما عن المركبات على الإطلاق فإما باعتبار هيئاتها التركيبية وتأديها لمعانيها الأصلية فعلم النحو ، أو باعتبار إفادتها لمعان مغايرة لأصل المعنى فعلم المعاني ، أو باعتبار كيفية تلك الإفادة في مراتب الوضوح فعلم البيان.
وأما عن المركبات الموزونة فأما من حيث وزنها فعلم العروض ، أو من حيث أواخر أبياتها فعلم القافية.
وأما الفروع: فالبحث فيها إما أن يتعلق بنقوش الكتابة فعلم الخط ، أو يختص بالمنظوم فالعلم المسمى بقرض الشعر ، أو بالمنثور فعلم إنشاء النثر من الرسائل والخطب ، أو لا يختص بشيء منها فعلم المحاضرات ، ومنه التواريخ.. ".
فضل العلم:
تكاثرت الأدلة من الكتاب والسنة ، الدالة على فضل العلم ، وأهله ومن ذلك مايلي: ـ
1 ـ قوله تعالى:{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} (آل عمران ـ 18).
حيث قرن سبحانه شهادة أولي العلم بشهادته لنفسه بالوحدانية، وشهادة الملائكة له بذلك.
2 ـ وقوله تعالى:{وقل رب زدني علماً}(طه ـ 114).
3 ـ وقوله تعالى:{إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر ـ 28).
4 ـ وقوله تعالى:{قل هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} (الزمر ـ 9).
5 ـ وقوله تعالى:{يرفع الله الذين أمنوا منكم والذين أتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير}(المجادلة ـ 11).
6 ـ وعن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" خيركم من تعلم القرآن وعلمه " رواه البخاري.
7 ـ وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " متفق عليه.
8 ـ وعن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " مثل مابعثني الله به من الهدى ، والعلم ،كمثل غيث أصاب أرضاً ، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ ، وا لعشب الكثير ، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا منها ، وسقوا ، وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلآً ، فذلك مثل من فقه في دين الله ، ونفعه مابعثني الله به فعلم وعلّم ،ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلت به ". متفق عليه.
9 ، وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ،وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد ، كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ، ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر " رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وغيرهم.
10 ـ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " رواه مسلم
أقوال السلف في فضل العلم:
جاء عن الصحابة ومن بعدهم من السلف أقوال كثيرة في فضل العلم فمن ذلك مايلي:ـ
1 ـ قال علي رضي الله تعالى عنه:" كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لايحسنه ،ويفرح به إذا نسب إليه ، وكفى بالجهل ذمّاً أن يتبرأ منه من هو فيه "
2 ـ وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: " تذاكر العلم بعض ليلة أحب إليّ من إحيائها "
3 ـ وقال الزهري رحمه الله تعالى:" ماعُبد الله بمثل العلم ".
4 ـ وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى:" مامن عمل أفضل من طلب العلم إذا صحّت النية "
5 ـ وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:" طلب العلم أفضل من الصلاة النافلة "
كما أكثر الشعراء من النظم في فضل العلم ، ومن ذلك:ـ
كما أكثر الشعراء من النظم في فضل العلم ، ومن ذلك:ـ
1 ـ قول صالح بن جناح:
فما العلم إلا عند أهل التعلمولن تستطيع العلم إن لم تعلممن الحلة الحسناء عند التكلمبصير بما يأتي ولا متعلم تعلم إذا ماكنت ليس بعالمتعلم فإن العلم زين لأهلهتعلم فإن العلم أزين بالفتىولا خير فيمن راح ليس بعالم
2 ـ وقال بعضهم:(/2)
أبوهم آدم والأم حواء وأعظُم خلقت فيهم وأعضاءيفاخرون به فالطين والماءعلى الهدى لمن استهدى أدلاءوللرجل على الأفعال أسماءوالجاهلون لأهل العلم أعداء الناس في جهة التمثيل أكفاءنفس كنفس وأرواح مشاكلةفإن يك لهم من أصلهم حسبماالفضل إلا لأهل العلم إنهموقدر كل امرئ ماكان يحسنهوضد كل امرئ ماكان يجهله
3 ـ وقال أحمد بن عمر بن عصفور:
وعنه فكاشف كل من عنده فهموعون على الدين الذي أمره حتموذو العلم في الأقوام يرفعه العلموينفذ منه فيهم القول والحكموأفنى سنيه وهو مستعجم فدمتركب في أحضانها اللحم والشحمبدت رحضاء العي في وجهه تسمرمن اشيْبَ لاعلم لديه ولا حكمفأولها خزي وآخرها ذمفصحبتهم زين وخلطتهم غنمنجوم إذا ماغاب نجم بدا نجمولا لاح من غيب الأمور لنا رسم مع العلم فاسلك حيث ماسلك العلمففيه جلاء للقلوب من العمىفإني رأيت الجهل يزري بأهله يعد كبير القوم وهو صغيرهموأي رجاء في امرئ شاب رأسهيروح ويغدو الدهر صاحب بطنةإذا سئل المسكين عن أمر دينهوهل أبصرت عيناك أقبح منظرهو السوءة السوءاء فاحذر شماتهافخالط رواة العلم واصحب خيارهمولا تعدون عيناك عنهم فإنهمفو الله لولا العلم مااتضح الهدى
4 ـ وقال أبو بكر قاسم بن مروان الوراق:
أتت إلينا بذا الأنباء والكتبفكيف من كان ذا علم له حسبفما سوى العلم فهو اللهو واللعب والعلم زين وتشريف لصاحبه والعلم يرفع أقواماً بلاحسبفاطلب بعلمك وجه الله محتسباً
وقال بعض المحدثين:
نعم القرين إذا ماعاقلاً صحباعما قليل فيلقى الذل والحربافلا يحاذر فوتا لا ولا هربالا تعدلن به ذُرّاً ولا ذهبا العلم زين وكنز لانفاد لهقد يجمع المرء مالاً ثم يسلبهوجامع العلم مغبوطٌ به أبداياجامع العلم نعم الذخر تجمعه
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:" أفضل مااكتسبته النفوس وحصلته القلوب ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان ، ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله:{وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث} (الروم ـ 56).
وقوله:{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة ـ 11).
وهؤلاء خلاصة الوجود ولُبّه والمؤهلون للمراتب العالية.
ولكن أكثر الناس غالطون في حقيقة مسمى العلم والإيمان اللذين بهما السعادة والرفعة وفي حقيقتهما ، حتى أن كل طائفة تظن أن مامعها من العلم والإيمان هوهذا الذي تنال به السعادة وليس كذلك بل أكثرهم ليس معهم إيمان ينجي ولا علم يرفع ، بل قد سدوا على نفوسهم طرق العلم والإيمان اللذين جاء بهما الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا إليهما الأمة وكان عليهما هو وأصحابه من بعده وتابعوهم على مناهجهم وآثارهم "
ما يبدأ به في الطلب:
قال الحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:" ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل ، إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم... فإذا رزقه الله تعالى حفظ كتابه فليحذر أن يشتغل عنه بالحديث ، أوغيره من العلوم اشتغالاً يؤدي إلى نسيانه... ثم الذي يتلو القرآن من العلوم ، أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسننه ، فيجب على الناس طلبها إذ كانت أسّ الشريعة ،وقاعدتها ، قال الله تعالى:{وماآتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر ـ 7) , وقال تعالى:{من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء ـ 80) وقال:{وماينطق عن الهوى} (النجم ـ 3) ".
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: " فأول العلم حفظ كتاب الله جل وعز وتفههمه ، وكل مايعين على فهمه فواجب طلبه معه.."
وقال:" القرآن أصل العلم ، فمن حفظه قبل بلوغه ، ثم فرغ إلى مايستعين به على فهمه من لسان العرب كان ذلك له عوناً كبيراً على مراده منه ، ومن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ينظر في ناسخ القرآن ومنسوخه وأحكامه ، ويقف على اختلاف العلماء واتفاقهم في ذلك ، وهو أمر قريب على من قربه الله عز وجل عليه ، ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبها يصل الطالب إلى مراد الله عز وجل في كتابه ، وهي تفتح له أحكام القرآن فتحاً "
وقال:" واعلم ـ رحمك الله ـ أن طلب العلم في زماننا هذا وفي بلدنا ، قد حاد أهله عن طريق سلفهم ،وسلكوا في ذلك مالم يعرفه أئمتهم ، وابتدعوا في ذلك مابان به جهلهم ، وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم ، فطائفة منهم تروي الحديث وتسمعه ، قد رضيت بالدؤوب في جمع مالا تفهم ، وقنعت بالجهل في حمل مالا تعلم ،فجمعوا الغث والسمين ، والصحيح والسقيم ، والحق والكذب ، في كتاب واحد ، وربما في ورقة واحد ، ويدينون بالشيء وضده ، ولا يعرفون مافي ذلك عليهم ، قد شغلوا أنفسهم بالاستكثار ، عن التدبر والاعتبار ، فألسنتهم تروي العلم ، وقلوبهم قد خلت من الفهم ، غاية أحدهم معرفة الكنية الغريبة ، والاسم الغريب والحديث المنكر ، وتجده قد جهل مالا يكاد يسع أحداً جهله من علم صلاته ، وحجّه ، وصيامه ، وزكاته.(/3)
وطائفة هي في الجهل كتلك ، أو أشد ، لم يعنوا بحفظ سنة ، ولا الوقوف على معانيها ، ولا بأصل من القرآن ، ولا اعتنوا بكتاب الله عز وجل فحفظا تنزيله ، ولا عرفوا ماللعلماء في تأويله ، ولا وقفوا على أحكامه ، ولا ت فقهوا في حلاله وحرامه ، قد اطرحوا علم السنن والآثار وزهدوا فيها وأضربوا عنها فلم يعرفوا الإجماع من الاختلاف ، ولا فرقوا بين التنازع والائتلاف ، بل عولوا على حفظ مادون لهم من الرأي والاستحسان الذي كان عند العلماء آخر العلم والبيان ، وكان الأئمة يبكون على م اسلف وسبق لهم ـ من الفتوى ـ فيه ويودن أن حظهم السلامة منه ".
وقال:" فعليك ياأخي بحفظ الأصول والعناية بها ، واعلم أن من عني بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن ، ونظر أقاويل الفقهاء ، فجعله عوناً له على اجتهاده ، ومفتاحاً لطرائق النظر ، وتفسير الجمل المحتمله للمعاني ، ولم يقلد أحداً منهم تقليد السنن ا لتي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر ، ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن ، وتدبرها ،واقتدى بهم في البحث والتفهم ، والنظر ، وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ، ونبهوا عليه ، وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم ،ولم يبرئهم من الذلل ، كما لم يبرؤوا أنفسهم منه ، فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح ، وهو المصيب لحظه ، والمعاين لرشده ،والمتبع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهدي صحابته رضي الله عنهم ، وعمن اتبع بإحسان آثارهم ، ومن أعفى نفسه من النظر ، وأضرب عما ذكرنا ، وعارض السنن برأيه ، ورام أن يردها في إلى مبلغ نظره ، فهو ضال مضل ، ومن جهل ذلك كله أيضاً وتقحم في الفتوى بلا علم ، فهو أشد عمى وأضل سبيلاً.
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
وقد علمت أنني لا أسلم من جاهل معاند لا يعلم "
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:" فينبغي لذي الهمة أن يترقى إلى الفضائل ، فيتشاغل بحفظ القرآن وتفسيره ، وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبمعرفة سيره وسير أصحابه ، والعلماء بعدهم ، ليتخير مرتبة الأعلى فالأعلى ، ولابد من معرفة مايقيم به لسان من النحو ، ومعرفة طرف مستعمل من اللغة ، والفقه أصل العلوم والتذكير حلواؤها وأعمها نفعاً "
وقال النووي رحمه الله تعالى:" وأول مايبتدئ به حفظ القرآن العزيز ، فهو أهم العلوم ، وكان السلف لا يعملون الحديث والفقه إلا لمن يحفظ القرآن ، وإذا حفظه فليحذر من الاشتغال عنه بالحديث والفقه وغيرهما ، اشتغالاً يؤدي إلى نسيان شيء منه ، أو تعريضه للنسيان ، وبعد حفظ القرآن يحفظ من كل فن مختصراً ويبدأ بالأهم ، ومن أهمها الفقه والنحو ، ثم الحديث والأصول ، ثم الباقي على ماتيسر ، ثم يشتغل باستشراح محفوظاته ، ويعتمد من الشيوخ في كل فن أكملهم.."
وقال ابن جَماعة ـ في تعداد آداب الطالب في دروسه:ـ
" النوع الأول: أن يبتدئ أولاً بكتاب الله العزيز فيتقنه حفظاً ، ويجتهد على إتقان تفسيره ، وسائر علومه ، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها.
ثم يحفظ من كل فن مختصراً يجمع فيه بين طرفيه ، من الحديث وعلومه ، والأصولين ، والنحو ، والتصريف.
ولا يشتغل بذلك كله عن دراسة القرآن ، وتعهده ، وملازمة ورده منه ، في كل يوم ، أو أيام ، أو جمعة ، كما تقدم ، وليحذر من نسيانه بعد حفظه ، فقد ورد فيه أحاديث تزجر عنه ، ويشتغل بشرح تلك المحفوظات على المشايخ.
وليحذر من الاعتماد في ذلك على الكتب أبداً ، بل يعتمد في كل فن من هو أحسن تعليماً له ، وأكثر تحقيقاً فيه ، وتحصيلاً منه ، وأخبرهم بالكتاب الذي قرأه , وذلك بعد مراعاة الصفات المقدمة من الدين ، والصلاح ، والشفقة... وغيرها "
وقال ابن مفلح رحمه الله تعالى:" قال الميموني: سألت أبا عبد الله: أيهما أحب إليك: أبدأ ابني بالقرآن ، أو بالحديث ؟ قال: لا ، بالقرآن. قلت: أعلمه كله ؟ قال: إلا أن يعسر ، فتعلمه منه.
ثم قال لي: إذا قرأ أولاً تعود القراءة ثم لزمها. وعلى هذا أتباع الإمام أحمد إلى زمننا هذا "
بعض أسباب حرمان العلم:
قال السفاريني ـ في غذاء الألباب ـ: وحرمان العلم يكون بستة أوجه:
أحدها: ترك السؤال.
الثاني: سوء الإنصات وعدم إلقاء السمع.
الثالث: سوء الفهم.
الرابع: عدم الحفظ.
الخامس: عدم نشره وتعليمه ، فمن خزن علمه ولم ينشره ، ابتلاه الله بنسيانه جزاء وفاقاً.
السادس: عدم العمل به ، فإن العمل به ، يوجب تذكره ، وتدبره ، ومراعاته ، والنظر فيه ، فإذا أهمل العمل به نسيه.
قال بعض السلف: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به.
وقال بعضهم: العلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلا ارتحل ، فما استُدر العلم ، واستُجلب بمثل العمل به.
= = = = = = =
المرجع :
الدليل إلى المتون العلمية
تأليف فضيلة الشيخ :
عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم
القاضي بالمحكمة الكبرى بالرياض
...(/4)
العلم وأهميته في الإسلام
1- تعريف العلم.
2- أقسام العلم:
1/2 من حيث الاستدلال والنظر.
2/2 من حيث تعليم الله تعالى للعبد.
3/2 من حيث المحتوى.
3- حكم طلب العلم.
4- فضل العلم:
1/ 4 استشهاد الله سبحانه وتعالى أهلَ العلم على أجل مشهود.
2/ 4 أن الله تعالى نفى التسوية بين العلم والجهل.
3/4 رفعة درجات أهل العلم.
4/4 أن أهل العلم هم أهل الخشية.
5/4 أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب المزيد من العلم.
6/4 الاستشهاد بأقوال أهل العلم يوم القيامة.
7/4 أن أهل العلم هم المنتفعون بأمثال القرآن.
8/4 أن العلم سلطان على الناس.
9/4 أن العلم شرط في قبول العمل.
10/4 طلب العلم طريق إلى الجنة.
11/4 أن الفقه في الدين سبب من أسباب الحصول على الخير.
12/4 أن العلم من أجلِّ النعم.
13/4 أن العلم كالغيث.
14/4 أن أهل العلم أحد صنفي ولاة الأمر.
15/4 رضا الملائكة بطالب العلم.
16/4 أن العلم يستثنى صاحبه من اللعن.
17/4 إيواء الله سبحانه وتعالى لطالب العلم.
18/4 أن أهل العلم يغبطون.
19/4 دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العلم بالنضارة.
20/4 مباهاة الملائكة بطلبة العلم.
21/4 تقديم أهل العلم في الولايات الدينية.
22/4 أن العلم ميراث النبوة.
23/4 استغفار الحيتان وغيرها لطالب العلم.
24/4 لا تنجح الدعوة إلا بالعلم.
5- آداب طالب العلم:
1/5 إخلاص النية لله تعالى.
2/5 العمل بالعلم ودوام المراقبة والخشية.
3/5 صيانة العلم.
4/5 القيام بشعائر الإسلام وظواهر الأحكام.
5/5 المحافظة على المندوبات الشرعية القولية والفعلية.
6/5 التواضع والسكينة ونبذ الخيلاء والكبر.
7/5 القناعة والزهادة.
8/5 التحلي بمكارم الأخلاق وجميل الخصال والخلال.
9/5 تطهير الباطن والظاهر من الأخلاق الرديئة.
10/5 التفرغ والمحافظة على الأوقات.
11/5 الجد والاجتهاد ودوام الحرص على الازدياد.
12/5 حسن اختيار رفقاء الطلب.
13/5 إجلال الشيخ والتأدّب عنده وتعظيم حرمته.
14/5 احترام العلماء من غير تقديس واتباعهم من غير تقليد.
15/5 رحابة الصدر في مسائل الخلاف.
6- معوقات تحصيل العلم:
1/6 كثرة الأشغال والصوارف.
2/6 الكبرياء وعزّ النفس.
3/6 سيطرة الشهوات والهوى.
4/6 ازدحام العلم وعدم التدرج في طلبه.
5/6 التعصب المقيت.
6/6 الجهل بالطرق الموصلة إلى العلم.
7- الباعث على الطلب.
8- نماذج من العلماء الذين تعلموا في الكبر.
9- ملحقات البحث (قصص ـ أبيات شعرية ـ محامد ـ أدعية ـ مراجع للتوسع).
1- تعريف العلم:
العِلْم مصدر علِم يعلَم، وهو أصل واحد يدلّ على أََثرٍ بالشيء يتميَّز به عن غيره، وهو نقيض الجهل.
قال الجويني: "العلم: معرفة المعلوم على ما هو به في الواقع".
وقال ابن القيم: "هو نقل صورة المعلوم من الخارج وإثباتها في النفس".
وقال الجرجاني: "هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع".
انظر: مقاييس اللغة (4/109)، ولسان العرب (مادة عَلم).
الورقات (8).
الفوائد (91).
التعريفات (191).
2- أقسام العلم:
1/2 ينقسم العلم من حيث الاستدلال والنظر إلى قسمين:
علم ضروري: وهو ما يكون إدراك المعلوم فيه ضروريًا، بحيث يُضطَرّ إليه من غير نظر ولا استدلال، كالعلم بأن النار حارّة.
علم نظري: وهو ما يحتاج إلى نظر واستدلال، كالعلم بوجوب النية.
2/2 وينقسم العلم من حيث تعليم الله تعالى للعبد إلى:
1- العلم اللدُني: وهو علم إلهي لدني يهبه الله سبحانه لمن يمنّ عليه من عباده.
2- العلم المكتسَب: وهو علم يدركه العبد بطلبه.
3/2 كما ينقسم العلم من حيث المحتوى إلى قسمين:
1- علم المقاصد: هو العلم الذي يحتوي على المسائل الصحيحة والحق النافع الذي يقوله الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
2- علم الوسائل: هو ما أعان على علوم المقاصد، من العلوم العربية وعلوم الكون وغيرهما.
شرح الأصول الثلاثة لابن عثيمين (19).
تيسير اللطيف المنان للسعدي، ضمن المجموعة الكاملة: قسم التفسير (8/394).
المرجع السابق (8/ 394).
الأدلة القواطع والبراهين للسعدي، المجموعة الكاملة، قسم الثقافة (2/346).
4- فضل العلم:
1/4 استشهاد الله سبحانه وتعالى أهلَ العلم على أجل مشهود وهو توحيده:
قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
قال ابن كثير: "قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام".
وقال ابن القيم: "استشهد سبحانه بأولي العلم على أجلّ مشهود عليه وهو توحيده، وهذا يدلّ على فضل العلم وأهله".
2/4 أن الله تعالى نفى التسوية بين العلم والجهل:(/1)
قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
قال أبو حيان: "وفي الآية دليل على فضل قيام الليل، وأنه أرجح من قيام النهار، ولما ذكر العمل ذكر العلم فدلّ أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين، فكما لا يستوي هذان، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي".
وقال ابن القيم: "نفى سبحانه التسويةَ بين أهل العلم وبين غيرهم، وهذا يدل على غاية علوّهم وشرفهم".
3/4 رفعة درجات أهل العلم:
قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
قال الطبري: "يرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين لم يؤتَوا العلم بفضل علمهم درجاتٍ إذا عملوا بما أمروا به".
قال ابن حجر: "قيل في تفسيرها: يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم، ورفعة الدرجات تدلّ على الفضل؛ إذ المراد به كثرة الثواب، وبها ترتفع الدرجات، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلوّ المنزلة وحسن الصيت، والحسية في الآخرة بعلوّ المنزلة في الجنة".
4/4 أن أهل العلم هم أهل الخشية:
قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
قال النسفي: "وتقديم اسم الله تعالى وتأخير العلماء يُؤْذن أن معناه أن الذين يخشَون الله من عباده العلماء دون غيرهم".
وقال السعدي: "فكلّ من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء مَنْ يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنّه داعٍ إلى خشية الله، وأهل خشيته هم أهل كرامته".
5/4 أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب المزيد من العلم:
قال الله جل جلاله: {وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً} [طه:114].
قال الكرماني: "طلب زيادة العلم يدلّ على فضله، إذ لولا فضله لما أمر الله تعالى بطلبه".
وقال ابن القيم: "وكفى بهذا شرفًا للعلم أن أمر نبيّه أن يسأله المزيد منه".
6/4 الاستشهاد بأقوال أهل العلم يوم القيامة:
قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَاكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الروم:56].
قال ابن كثير: "أي: فيردّ عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا".
وقال السعدي: "أي: منّ الله عليهم بهما، وصار وصفا لهم، العلم بالحق، والإيمان المستلزم إيثار الحق، وإذا كانوا عالمين بالحق مؤثرين له لزم أن يكون قولهم مطابقًا للواقع، مناسبًا لأحوالهم".
7/4 أن أهل العلم هم المنتفعون بأمثال القرآن:
قال تعالى:{وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
قال البغوي: "أي: ما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله".
وقال ابن كثير: "أي: وما يفهمها ويتدبّرها إلا الراسخون في العلم المتعلمون عنه".
وكان بعض السلف إذا مرّ بمثَل لا يفهمه يبكي ويقول: لست من العالمين.
8/4 أن العلم سلطان على الناس:
قال تعالى:{إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بِهَاذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يونس:68].
وقال عز من قائل: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ (156) فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:156، 157].
قال ابن القيم: "والمقصود أن الله سبحانه سمى علم الحجة سلطانًا لأنها توجب تسلّط صاحبها واقتداره، فله بها سلطان على الجاهلين، بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد، ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد، فإن الحجة تنقاد لها القلوب".
9/4 أن العلم شرط في قبول العمل:
قال الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} [الكهف:110].
قال ابن القيم: "فهذا هو العمل المقبول الذي لا يقبل الله من الأعمال سواه، وهو أن يكون موافقًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرادًا به وجه الله، ولا يتمكّن العامل من الإتيان بعمل يجمع بين هذين الوصفين إلا بالعلم؛ فإنه إن لم يعلم ما جاء به الرسول لم يمكنه قصده، وإن لم يعرف معبوده لم يمكنه إرادته وحده، فلولا العلم لما كان عمله مقبولاً، فالعلم هو الدليل على الإخلاص، وهو الدليل على المتابعة".
10/4 طلب العلم طريق إلى الجنة:
قال الله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءاتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} [القصص:14].
قال الزجاج: "فجعل إتيان العلم والحكمة مجازاة على الإحسان؛ لأنهما يؤديان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين".(/2)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة)).
قال النووي: "وفيه فضل المشي في الطلب العلم، ويلزم من ذلك الاشتغال بالعلم الشرعي".
وقال ابن حجر: "فيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه، لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة".
وقال ابن أبي جمرة: "ظاهر الحديث يدلّ على أنّ من حاول أمرًا ليكون له عونًا على طلب العلم سهّل الله عليه الوصول إلى الجنة".
11/4 أن الفقه في الدين سبب من أسباب الحصول على الخير:
عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)).
قال ابن بطال: "فيه فضل العلماء على سائر الناس، وفيه فضل الفقه في الدين على سائر العلوم، وإنما يثبت فضله لأنه يقود إلى خشية الله والتزام طاعته وتجنّب معاصيه".
وقال أبو محمد الأندلسي: "يترتب على هذا من الفقه أن من منَّ عليه بأحد هذين الوجهين فليستبشر بالخير العظيم والفضل العميم، إذ إن الشارع عليه السلام قد جعل ذلك علامة على من أراده الله للخير ويسّره إليه، وكيف لا تحقّ لهم البشارة وبهم يرسل الله الغيث، ويرحم البلاد والعباد".
12/4 أن العلم من أجلّ النعم:
قال تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15].
قال النسفي: "وفي الآية دليل على شرف العلم، وتقدّم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من عباده".
13/4 أن العلم كالغيث:
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكبير، وكانت منها أجادب مسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به))().
قال القرطبي: "ومقصود هذا الحديث ضرب مثل لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من العلم والدين، ولمن جاءهم بذلك، فشبّه ما جاء به بالمطر العام الذي يأتي الناس في حال إشرافهم على الهلاك فيصيبهم ويغيثهم"().
وقال ابن القيم: "شبه صلى الله عليه وسلم العلم والهدى الذي جاء به بالغيث؛ لما يحصل بكلّ واحد منهما من الحياة والمنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد، فإنها بالعلم والمطر... ثم قال: فقد اشتمل هذا الحديث الشريف العظيم على التنبيه على شرف العلم والتعليم، وعظم موقعه، وشقاء من ليس من أهله"().
14/4 أن أهل العلم أحد صنفي ولاة الأمر:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
قال ابن القيم: "ولما كان كل من الجهاد بالسيف والحجة يسمى سبيلَ الله فسّر الصحابة رضي الله عنهم قوله: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] بالأمراء والعلماء فإنهم المجاهدون في سبيل الله؛ هؤلاء بأيديهم، وهؤلاء بألسنتهم، فطلب العلم وتعليمه من أعظم سبيل الله عز وجل"().
قال ابن عثيمين: "فولاية أهل العلم في بيان شريعة الله، ودعوة الناس إليها، وولاية الأمراء في تنفيذ شريعة الله، وإلزام الناس بها"().
15/4 رضا الملائكة بطالب العلم:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سلك طريقاً يبتغي منه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم))().
قال الخطابي: "قوله: ((إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم)) يتأول على وجوه، أحدها: أن يكون وضعها الأجنحة بمعنى التواضع والخشوع تعظيماً لحقه وتوقيراً لعلمه. وقيل: وضع الجناح معناه الكف عن الطيران للنزول عنده. وقيل: معناه المعونة وتيسير السعي له في طلب العلم، والله أعلم"().
وقال أبو يحيى زكريا الساجي: كنا نمشي في بعض أزقة البصرة إلى باب بعض المحدثين، فأسرعنا المشي، وكان معنا رجل ماجن متّهم في دينه، فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها، كالمستهزئ، فمازال من موضعه حتى جفّت رجلاه وسقط().
16/4 أن العلم يستثنى صاحبُه من اللعن:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم))().(/3)
قال الطيبي: "وكان من الظاهر أن يكتفي بقوله: ((وما والاه)) لاحتوائه على جميع الخيرات والفاضلات ومستحسنات الشرع، لكنه خصّص بعد التعميم دلالةً على فضل العالم والمتعلم، وتفخيماً لشأنهما صريحاً، وإيذاناً بأن جميع الناس سواهما همج"().
وقال ابن القيم: "وما كان طريقاً إليه من العلم والتعلم لحق المستثنى من اللعنة، واللعنة واقعة على ما عداه؛ إذ هو بعيد عن الله وعن محابه وعن دينه"().
17/4 إيواء الله سبحانه وتعالى لطالب العلم:
عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟! أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله إليه...))().
قال المهلب: "فيه من الفقه أن من جلس إلى حلقة فيها علم أو ذكر أنه في كنف الله وفي إيوائه، وهو ممن تضع له الملائكة أجنحتها، وكذلك يجب على العالم أن يؤوي من جلس إليه متعلماً؛ لقوله: ((فآواه الله إليه))"().
وقال ابن حجر: "وفي الحديث فضل ملازمة حلق العلم والذكر، وجلوس العالم والمذكّر في المسجد"().
قال ابن القيم: "فلو لم يكن لطالب العلم إلا أن الله يؤويه إليه ولا يعرض عنه لكفى به فضلاً"().
18/4 أن أهل العلم يغبَطون:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها))().
قال ابن بطال: "ترجم البخاري لهذا الباب: باب الاغتباط في العلم والحكمة؛ لأن من أوتي الحكمة مثل هذه الحال فينبغي أن يغبط وينافس فيها"().
وقال ابن حجر: "دلّ الحديث على أن الغبطة لا تكون إلا بأحد أمرين: العلم أو الجود، ولا يكون الجود محموداً إلا إذا كان بعلم"().
19/4 دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العلم بالنضارة:
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نضّر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه ليس بفقيه))().
قال المنذري: "معناه الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة والحسن، فيكون تقديره: جمّله الله وزيّنه، وقيل غير ذلك"().
وقال ابن القيم: "ولو لم يكن في فضل العلم إلا هذا وحده لكفى به شرفاً؛ فإن النبي دعا لمن سمع كلامه ووعاه وحفظه وبلغه أهله"().
وقال ملا علي قاري: "وقد استجاب الله دعاءه؛ فلذلك تجد أهلَ الحديث أحسنَ الناس وجهاً وأجملهم هيئة، وروي عن سفيان أنه قال: ما مِن أحد يطلب الحديث إلا وفي وجهه نضرة أي بهجة صورية أو معنوية"().
20/4 مباهاة الملائكة بطلبة العلم:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلّ عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنّ به علينا، قال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟)) قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة))().
قال النووي: "معناه: يظهر فضلكم لهم، ويريهم حسن عملكم، ويثني عليكم عندهم"().
21/4 تقديم أهل العلم في الولايات الدينية:
عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم إسلاماً أو سناً))().
قال ابن القيم: "فقدّم في الإمامة تفضيله العلم على تقدّم الإسلام والهجرة... وهذا يدلّ على شرف العلم وفضله، وأن أهله أهل التقدّم إلى المراتب الدينية"().
22/4 أن العلم ميراث النبوة:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بخطّ وافر))().
قال ابن القيم: "هذا من أعظم المناقب لأهل العلم؛ فإن الأنبياء خير خلق الله، فورثتهم خير الخلق بعدهم، ولما كان كلّ موروث ينتقل ميراثه إلى مورثه إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء كانوا أحقَّ الناس بميراثهم"().
23/4 استغفار الحيتان وغيرها لطالب العلم:(/4)
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ طالب العلم ليستغفر له مَن في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء))().
قال الخطابي: "وقيل في قوله: ((وتستغفر له الحيتان في جوف الماء)): إن اللهَ قد قيّض للحيتان وغيرها من أنواع الحيوان بالعلم على ألسنة العلماء أنواعاً من المنافع والمصالح والإرفاق، فهم الذين بيّنوا الحكمَ فيها فيما يحلّ ويحرم منها، وأرشدوا إلى المصلحة في بابها، وأوصوا بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها، فألهمها الله الاستغفار للعلماء مجازاة على حسن صنيعهم بها وشفقتهم عليها"().
24/4 لا تنجح الدّعوة إلا بالعلم:
قال تعالى: {قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
قال ابن القيم: "وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لا بدّ في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حدٍّ يصل إليه السعي، ويكفي هذا في شرف العلم أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء"().
تفسير القرآن العظيم (227).
مفتاح دار السعادة (1/50).
البحر المحيط (7/402).
مفتاح دار السعادة (1/51).
جامع البيان (28/19).
فتح الباري (1/141).
تفسير النسفي (3/86).
تفسير السعدي (689).
الكواكب الدراري (2/2).
مفتاح دار السعادة (1/50).
تفسير القرآن العظيم (1029).
تفسير السعدي (145).
معالم التنزيل (6/243).
تفسير القرآن العظيم (1013).
انظر: معالم التنزيل للبغوي (4/243).
مفتاح دار السعادة (1/61).
مفتاح دار السعادة (1/82).
إعراب القرآن (4/136).
رواه مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2699).
المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج (17/34).
فتح الباري (1/160).
بهجة النفوس (1/109).
رواه البخاري في العلم، باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه (71)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب: النهي عن المسألة (1037).
شرح صحيح البخاري (1/154).
بهجة النفوس (1/107).
تفسير النسفي (2/594-595).
رواه البخاري في العلم، باب: فضل من تعلم وعلم (79)، ومسلم في الفضائل، باب: بيان مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم (2282).
المفهم (6/3).
مفتاح دار السعادة (1/62).
مفتاح دار السعادة (1/73).
كتاب العلم (17).
رواه أبو داود العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة (2683)، وابن ماجه: كتاب العلم، باب فضل العلماء (223)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6297).
معالم السنن (4/169).
انظر: مفتاح دار السعادة (1/66).
رواه الترمذي في الزهد (2323)، وابن ماجه في الزهد (4112)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1891).
انظر: فيض القدير للمناوي (3/547).
مفتاح دار السعادة (1/32).
رواه البخاري: العلم، باب من قعد حيث انتهى من المجلس (66) ومسلم: السلام، باب من أتى مجلساً فوجد فرجة فجلس فيها (2176).
انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/148).
فتح الباري (1/157).
مفتاح دار السعادة (1/126).
رواه البخاري في العلم، باب: الاغتباط في العلم والحكمة (73)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: فضل من يقوم بالقرآن (816).
شرح صحيح البخاري (9/158).
فتح الباري (1/166).
أخرجه أحمد (1/436)، وأبو داود في العلم، باب: فضل نشر العلم (3660)، والترمذي في العلم، باب: ما جاء في الحثّ على تبليغ السماع (2656)، وابن ماجه في المقدّمة، باب: من بلغ علما (230)، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3108).
الترغيب والترهيب (1/108).
مفتاح دار السعادة (1/126).
المرقاة (1/288).
رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2701).
شرح صحيح مسلم (17/23).
رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: من أحق بالإمامة؟ (673).
مفتاح دار السعادة (1/76).
رواه الترمذي في العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (2682)، وابن ماجه في كتاب العلم، باب: فضل العلماء (223)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6297).
مفتاح دار السعادة (1/70).
رواه الترمذي في العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة (2682) وابن ماجه في كتاب العلم، باب: فضل العلماء (223)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6297).
معالم السنن (4/169-170).
مفتاح دار السعادة (1/154).
5- آداب طالب العلم:
1/5 إخلاص النية لله تعالى:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلّم علماً مما يبتغَى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) يعني ريحها.(/5)
قال الإمام أحمد: "العلم لا يعدله شيء لمن صحّت نيته"، قالوا: كيف ذلك؟ قال: "ينوي رفع الجهلَ عن نفسه وعن غيره".
وعن عمر بن ذر أنه قال لوالده: يا أبي، ما لك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟! فقال: يا بني، ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة.
وقال ابن جماعة الكناني بعدما بيّن فضل العلم: "واعلم أن جميع ما ذكر من فضل العلم والعلماء إنما هو في حقّ العلماء العاملين الأبرار المتقين، الذين قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم، لا من طلبه بسوء نية وخبث طوية، أو لأغراض دنيوية، من جاه أو مال أو مكاثرة في الأتباع والطلاب".
وقال أبو يوسف: "أَريدوا بعلمكم اللهَ تعالى، فإني لم أجلس مجلساً قطّ أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلُوَهم، ولم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى افتَضَح".
2/5 العمل بالعلم ودوام المراقبة والخشية:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل).
وقال الشافعي: "ليس العلم ما حفِظ، العلم ما نفع".
وقال بعض السلف: "يا حملة العلم، اعملوا فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيَهم، يخالف عملهم علمهم، ويخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلقاً يباهي بعضهم بعضاً، حتى إنّ الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدَعَه، أولئك لا يصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى".
ومن ذلك دوام مراقبة الله تعالى في السر والعلن، وملازمة خشيته سبحانه، قال الإمام أحمد: "أصل العلم الخشية".
وقال الزهري: "إن للعلم غوائل، فمن غوائله أن يترك العمل به حتى يذهب، ومن غوائله النسيان، ومن غوائله الكذب فيه، وهو شر غوائله".
وسئل سفيان الثوري: طلب العلم أحبّ إليك أو العمل؟ فقال: "إنما يراد العلم للعمل، فلا تدع طلب العلم للعمل، ولا تدع العمل لطلب العلم".
3/5 صيانة العلم:
وذلك بأن لا يتّخذه سلما يتوصل به إلى أغراض دنيوية وأطماع أرضية من جاه أو مال أو سمعة أو شهرة أو خِدمة أو تقدم على الأقران.
قال الشافعي: "ودِدت أن الخلقَ تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إليّ حرف منه".
4/5 القيام بشعائر الإسلام وظواهر الأحكام:
ومن ذلك المحافظة على الصلاة في مساجد الجماعات، وإفشاء السلام للخواص والعوام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإظهار السنن، وإخماد البدع، وغير ذلك من الأحكام الظاهرة ليحصل التأسّي به، وليصون عرضه عن الوقيعة والظنون المكروهة.
5/5 المحافظة على المندوبات الشرعية القولية والفعلية:
ومن ذلك تلاوة القرآن الكريم بتفكّر وتدبّر، والإكثار من ذكر الله تعالى بالقلب واللسان، والإلحاح في الدعاء والتضرع بإخلاص وصدق، والاعتناء بنوافل العبادات من الصلاة والصيام والصدقة وحج بيت الله الحرام، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من فضائل الأقوال والأعمال التي يراد العلم لأجلها.
6/5 التواضع والسكينة ونبذ الخيلاء والكبر:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلّموا العلم، وتعلّموا له السكينةَ والوقار، وتواضعوا لمن تعلّمون، وليتواضع لكم من تعلِّمون، ولا تكونوا جبابرة العلماء، ولا يقوم علمكم مع جهلكم).
وكتب الإمام مالك إلى الرشيد: "إذا علمت علماً فليُرَ عليك أثره وسكينته وسمته ووقاره وحلمه".
وقال الإمام الشافعي: "لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلّ النفس وضيق العَيش وخدمة العلماء أفلح".
7/5 القناعة والزهادة:
قال ابن جماعة الكناني: "أقلّ درجات العالم أن يستقذر التعلق بالدنيا؛ لأنه أعلم الناس بخستها وفتنتها وسرعة زوالها وكثرة تعبها ونصبها، فهو أحقّ بعدم الالتفات إليها والاشتغال بهمومها".
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "لقد جئت من بلاد شنقيط ومعي كنز قلّ أن يوجد عند أحد، وهو القناعة، ولو أردت المناصب لعرفت الطريق إليها، ولكني لا أوثر الدنيا على الآخرة، ولا أبذل العلم لنيل المآرب الدنيوية".
8/5 التحلّي بمكارم الأخلاق وجميل الخصال والخلال:
قال ابن سيرين: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم".
وعن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي: "يا بني، ائت الفقهاء والعلماء، وتعلّم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإنّ ذاك أحبّ إليّ لك من كثير من الحديث".
وعن أبي زكريا العنبري قال: "علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كجسم بلا روح".
وأشرف الليث بن سعد على بعض أصحاب الحديث فرأى منهم شيئاً فقال: "ما هذا؟ أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم".
9/5 تطهير الباطن والظاهر من الأخلاق الرديئة:(/6)
فمن ذلك الغلّ والحسد والبغي والغضب لغير الله تعالى والغش والكبر والرياء والعجب والسمعة والشهرة والبخل والشحّ والبطر والطمع والفخر والخيلاء والمداهنة والتزين للناس وحب المدح والثناء والعمى عن عيوب النفس والاشتغال عنها بعيوب الخلق والغيبة والنميمة والبهتان والكذب والفحش في القول واحتقار الناس.
قال ابن جماعة: "فالحذر الحذر من هذه الصفات الخبيثة والأخلاق الرذيلة؛ فإنها باب كل شر، بل هي الشر كله، وقد بلي بعض أصحاب النفوس الخبيثة من فقهاء الزمان بكثير من هذه الصفات إلا من عصم الله تعالى، ولا سيما الحسد والعجب والرياء واحتقار الناس، وأدوية هذه البلية مستوفاة في كتب الرقائق، فمن أراد تطهير نفسه منها فعليه بتلك الكتب".
10/5 التفرغ والمحافظة على الأوقات:
وذلك بأن لا يضيع شيئاً من أوقات عمره في غير ما هو بصدده من العلم والعمل إلا بقدر الضرورة، وقد كان بعضهم لا يترك الاشتغالَ بالعلم لعروض مرض خفيف أو ألم لطيف، بل كان يستشفي بالعلم، ويشتغل به بقدر الإمكان.
قال الشافعي: "لو كلفت شراءَ بصلة لما فهمت مسألة".
وقال بعضهم: "لا يَنال هذا العلم إلا من عطّل دكّانه، وخرّب بستانه، وهجر إخوانَه، ومات أقرب أهله فلم يشهد جنازته".
11/5 الجدّ والاجتهاد ودوام الحرص على الازدياد:
قال الشافعي: "حقّ على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كلّ عارض دون طلبه".
وقال سعيد بن جبير: "لا يزال الرجل عالماً ما تعلّم، فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون".
12/5 حسن اختيار رفقاء الطلب:
قال ابن جماعة الكناني: "الذي ينبغي لطالب العلم أن لا يخالط إلا من يفيده أو يستفيد منه... فإن شرع أو تعرض لصحبة من يضيع عمره معه ولا يفيده ولا يستفيد منه ولا يعينه على ما هو بصدده فليتلطّف في قطع عشرته من أول الأمر قبل تمكّنها، فإن الأمور إذا تمكّنت عسرت إزالتها".
13/5 إجلال الشيخ والتأدّب عنده وتعظيم حرمته:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (من حقّ العالم عليك إذا أتيته أن تسلِّم عليه خاصَّة، وعلى القوم عامّة، وتجلس قُدَّامه، ولا تشِر بيديك، ولا تغمِز بعينَيك، ولا تقُل: قال فلان خلافَ قولك، ولا تأخذ بثوبِه، ولا تُلحَّ عليه في السؤال، فإنّه بمنزلة النخلة المُرطبة التي لا يزال يسقط عليك منها شيء).
وعن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (إن من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال، ولا تُعنِّته في الجواب، وألا تُلحَّ عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشينّ له سرًّا، ولا تغتابنّ عنده أحدًا، ولا تطلبنّ عثرته، وإن زلّ قبلت معذرته، وعليك أن توقّره وتعظّمه لله ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجةٌ سبقت القوم إلى خدمته).
وقال الشافعي: "كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً رفيقاً هيبة له، لئلا يسمع وقعها".
وقال طاوس: "إنّ من السنة أن توقِّر العالم".
14/5 احترام العلماء من غير تقديس، واتباعهم من غير تقليد:
قال الشيخ ابن عثيمين: "إن على طلبة العلم احترام العلماء وتقديرهم، وأن تتسع صدورهم لما يحصل من اختلاف بين العلماء وغيرهم، وأن يقابلوا هذا بالاعتذار عمن سلك سبيلاً خطأ في اعتقادهم، وهذه نقطة مهمة جداً، لأن بعض الناس يتتبع أخطاء الآخرين، ليتخذ منها ما ليس لائقاً في حقهم، ويشوّش على الناس سمعتهم، وهذا من أكبر الأخطاء، وإذا كان اغتياب العامّي من الناس من كبائر الذنوب، فإن اغتياب العالم أكبر وأكبر، لأن اغتياب العالم لا يقتصر ضرره على العالم بل عليه وعلى ما يحمله من العلم الشرعي".
15/5 رحابة الصدر في مسائل الخلاف:
قال ابن عثيمين في معرض بيان آداب طالب العلم: "أن يكون صدره رحباً في مواطن الخلاف الذي مصدره الاجتهاد؛ لأن مسائل الخلاف بين العلماء إما أن تكون مما لا مجال للاجتهاد فيه، ويكون الأمر فيها واضحاً، فهذه لا يعذَر أحد بمخالفتها، وإما أن تكون مما للاجتهاد فيها مجال، فهذه يعذر فيها من خالفها".
أخرجه أحمد (2/338)، وأبو داود في كتاب العلم، باب: طلب العلم لغير الله (3664)، وابن ماجه في المقدمة، باب: الانتفاع بالعلم والعمل به (2852)، وصححه الحاكم (1/160)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (3112).
انظر: كتاب العلم لابن عثيمين (ص27).
انظر: العقد الفريد لابن عبد ربه.
تذكرة السامع والمتكلم (ص13).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص69).
انظر: الجامع لأخلاق الراوي، واقتضاء العلم العمل (35-36).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص15).
انظر: حاشية تذكرة السامع (ص16-17).
انظر: جامع بيان العلم (1/107-108).
انظر: حلية الأولياء (7/12).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص19).
انظر: الزهد لوكيع (275).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص15-16).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص71-72).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص18).(/7)
انظر: حلية طالب العلم (ص12).
انظر: الجامع لأخلاق الراوي (1/79).
انظر: الجامع لأخلاق الراوي (1/80).
انظر: أدب الإملاء والاستملاء (2).
انظر: شرف أصحاب الحديث (122).
تذكرة السامع والمتكلم (ص24).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص27).
انظر: الجامع لأخلاق الراوي للخطيب.
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص27).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص28).
تذكرة السامع والمتكلم (ص83).
انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/580) رقم (992)، والجامع للخطيب (1/199).
انظر: إرشاد الطالب (ص78-79).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص88).
انظر: جامع بيان العلم (1/459).
كتاب العلم (ص41).
كتاب العلم (ص28).
6- معوقات تحصيل العلم:
1/6 كثرة الأشغال والصوارف:
قال ابن جماعة وهو ينصح طلابَ العلم: "ولا يَغْتر بخدع التسويف والتأميل، فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدل لها ولا عوض عنها، ويقطع ما يقدر عليه من العلائق الشاغلة والعوائق المانعة عن تمام الطلب وبذل الاجتهاد وقوة الجدّ في التحصيل فإنها كقواطع الطريق...".
2/6- الكبرياء وعزّ النفس:
يقول الشافعي: "لا يطلب أحدٌ هذا العلم بالملك وعزّ النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلّ النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح".
3/6- سيطرة الشهوات والهوى:
قال ابن القيم: "قد يتحصّل له العلم المطلوب والعلم بطريقه، ولكن في قلبه إرادات وشهوات تحول بينه وبين قصد هذا المطلوب النافع وسلوك طريقه، فكلما أراده اعترضته تلك الشهوات والإرادات، وحالت بينه وبين القصد المطلوب".
4/6- ازدحام العلم وعدم التدرّج في طلبه:
قال الماوردي: "فينبغي لطالب العلم ألا يني في طلبه، وينتهز الفرصة به، فربما شحّ الزمان بما سمع، وضنّ بما منح، ويبتدئ من العلم بأوله، ويأتيه من مدخله، ولا يتشاغل بطلب ما لا يضرّ الجهل به فيمنعه ذلك من إدراك ما لا يسعه جهله، فإن لكلّ علم فضولاً مذهلة وشروراً مشغلة، متى صرف إليها نفسه قطعته عما هو أهم منها".
5/6- التعصّب المقيت:
قال القاسمي وهو يعدّد أدب المعلم: "وأن يقتلع ـ أي: المعلم ـ جذورَ التعصب من قلوب المتعلمين، ويحبّبهم إلى الإنصاف، فإن التعصب سبب تفريق الناس بعضهم عن بعض وجذوة حجب العقول عن الحق...".
6/6- الجهل بالطرق الموصلة إلى العلم:
قال ابن القيم: "ولكن أكثر الناس غلط في تحصيل هذا المطلوب النافع، إما في عدم تصوّره ومعرفته، وإما في عدم معرفته الطريق الموصلة إليه؛ فهذان غلطان سببهما الجهل...".
تذكرة السامع والمتكلم (70).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (71).
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (26).
أدب الدنيا والدين (58).
جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب (25).
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (26).
7- الباعث على الطلب:
قال الماوردي: "واعلم أن لكلّ مطلوب باعثاً، والباعث على المطلوب شيئان: رغبة أو رهبة، فليكن طالب العلم راغباً وراهباً، أما الرغبة ففي ثواب الله تعالى لطالبي مرضاته وحافظي مفترضاته، وأما الرهبة فمن عقاب الله تعالى لتاركي أوامره ومهملي زواجره، فإذا اجتمعت الرغبة والرهبة أدّتا إلى كنه العلم".
أدب الدنيا والدين (54).
8- نماذج من العلماء الذين تعلّموا في الكبر:
ابن حزم: هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي.
قال أبو بكر محمد بن طرخان التركي: قال لي الإمام أبو محمد عبد الله بن محمد: أخبرني أبو محمد بن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة، فدخل المسجد، فجلس ولم يركع فقال له رجل: قم فصلّ تحية المسجد، وكان قد بلغ ستا وعشرين سنة، قال: فقمت وركعت، فلما رجعنا من الصلاة على الجنازة دخلت المسجد، فبادرت بالركوع، فقيل لي: اجلس اجلس ليس ذا وقت صلاة، وكان بعد العصر، قال: فانصرفت وقد حزنت، وقلت للأستاذ الذي رباني: دلّني على دار الفقيه أبي عبد الله بن دحُّون، قال: فقصدته وأعلمته بما جرى، فدلني على موطأ مالك فبدأت به عليه، وتتابعت قراءتي عليه، وعلى غيره نحواً من ثلاثة أعوام، وبدأت بالمناظرة.
الكسائي: هو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن فيروز الأسدي، مولاهم الكوفي، الملقب بالكسائي.
قال الفرّاء: إنما تعلم الكسائي النحو على كبر.
وكان سبب تعلمه أنه جاء يوماً وقد مشى حتى أعيى، فجلس إلى قوم فيهم فضل، وكان يجالسهم كثيراً فقال: قد عَييْت، فقالوا له: تجالسنا وأنت تلحن؟! فقال: كيف لحنت؟ فقالوا: إن كنت أردت من التعب، فقل: "أعييت"، وإن كنتَ أردتَ من انقطاع الحيلة والتحيّر في الأمر فقل: "عييت" مخفّفة، فأنف من هذه الكلمة، وقام من فوره، فسأل عمن يعلم النحو، فأرشدوه إلى معاذ الهراء، فلزمه حتى أنفد ما عنده.
القفّال: هو أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي الخرساني.(/8)
قال الذهبي: "حَذق في صنعة الأقفال حتى عمل قفلاً بآلاته ومفتاحه، زنة أربع حبات، فلما صار ابن ثلاثين سنة آنس من نفسه ذكاء مفرطا، وأحبّ الفقه، فأقبل على قراءته حتى برع فيه، وصار يضرب به المثل، وهو صاحب طريقة الخرسانيين في الفقه".
انظر: السير (18/199).
انظر: السير (9/133).
انظر: نزهة الأولياء (68).
السير (17/406).
9- ملحقات البحث: (قصص – أبيات شعرية – محامد – أدعية – مراجع للتوسع).
قصص:
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: بقيت بالبصرة في سنة أربع عشرة ومائتين ثمانية أشهر، وكان في نفسي أن أقيم سنة، فانقطعت نفقتي، فجعلت أبيع ثياب بدني شيئاً بعد شيء، حتى بقيت بلا نفقة، ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة، وأسمع منهم إلى المساء، فانصرف رفيقي ورجعت إلى بيتٍ خالٍ، فجعلت أشرب الماء من الجوع، ثم أصبحت من الغد، وغدا عليّ رفيقي فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد، فانصرف عني وانصرفت جائعاً، فلما كان من الغد غدا عليّ، فقال: مُرْ بنا إلى المشايخ، قلت: أنا ضعيف لا يمكنني، قال: ما ضعفك؟ قلت: لا أكتمك أمري، قد مضى يومان ما طعمتُ فيهما شيئاً، فقال: قد بقي معي دينار، فأنا أواسيك بنصفه، ونجعل النصف الآخر في الكراء، فخرجنا من البصرة وقبضت منه النصف دينار.
أبيات:
لمحبرة تجالسني نهاري أحبّ إلي من أنس الصديق
ورزمة كاغد في البيت عندي أحبّ إلي من عِدل الرقيق
ولطمة عالم في الخد مني ألذّ لديّ من شرب الرحيق
قال الشافعي:
تعلّم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل
وإن صغير القوم إن كان عالماً كبير إذا ردّت إليه المحافل
وقال أيضاً:
العلم مغرس كل فخر فافتخر واحذر يفوتك فخر ذاك المغرس
واعلم بأن العلم ليس يناله من همّه في مطعم أو ملبس
محامد:
1. الحمد لله الذي له الأسماء الحسنى وكامل الصفات، فاوت بحكمته بين المخلوقات، ورفع أهل العلم أعلى الدرجات، فقال سبحانه {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أبان لنا طرق الخيرات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أكمل الخلق وخير البريات، اللهم صل على محمد القائل: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة))، وعلى آله وأصحابه الذين فضلهم الله بالعلم النافع والأعمال الصالحات، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم المعاد.
2. الحمد لله الذي جعل العلم ضياءً والقرآن نوراً، ورفع الذين أوتوا العلم درجات عليّة، وكان ذلك في الكتاب مسطوراً، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، وكفى بربك هادياً ونصيراً، نحمده تعالى حمداً كثيراً، ونشكره عز وجل وهو القائل: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المرشد الحكيم والمعلم العظيم، بشر به المسيح والكليم، واستجيبت به دعوة إبراهيم: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة:129]. اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة ومنة، بخير كتاب وأفضل سنة، والقائل: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة))، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه القائمين بالحق والدعاة إليه بالألسنة والأسنّة، وعلى التابعين لهم بإحسان في التعلم والتعليم.
3. الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم. أحمده سبحانه وأشكره، رفع منار العلم وأشاد بالعلماء والمتعلمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المربيّن وقدوة العلماء والسالكين، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه الهداة المتقين، ومن سار على هديهم، وسلك سبيلهم إلى يوم الدين.
4. الحمد لله الذي أعلى معالم العلم وأعلامه، وأظهر شعائر الشرع وأحكامه، وبعث رسلاً وأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين إلى سبل الحق هادين، وأخلفهم علماء إلى سَنن سُنَنِهم داعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رفع الذين آمنوا والذين أتوا العلم درجات، وسلك بهم بفضله ورحمته وكرمه طريق الجنات، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، حث ّ على طلب العلم، وبيّن فضائله، وحذّر من أوحال الجهل وأوضح غوائله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الأطهار، وأصحابه البررة الأخيار، والتابعين لهم بإحسان في كل الأمصار، ما تعاقب الليل والنهار.(/9)
5. الحمد لله الذي أظهر دينه المبين، ومنعه بسياج متين، فحاطه من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سخَّر لدينه رجالاً قام بهم وبه قاموا، واعتزَّ بدعوتهم وجهادهم وبه اعتزوا، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، كان يربّي ويعلّم ويدعو، ويصوم ويقوم ويغزو، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أدعية:
1. اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها.
2. لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، نستغفرك لذنوبنا، ونسألك رحمةً، اللهم زدنا علماً، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهاب.
3. اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً، الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار.
4. اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ورزقاً طيباً.
5. اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل.
6. أماتنا الله وإياكم على السنة والجماعة، ورزقنا الله وإياكم اتباع العلم، ووفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.
مراجع للتوسع:
- أخلاق العلماء للآجري.
- أخلاق حملة القرآن للآجري أيضاً.
- شرف أصحاب الحديث.
- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.
- الفقيه والمتفقه.
- اقتضاء العلم العمل أربعتها للخطيب البغدادي.
- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.
- أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني.
- تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة.
- كتاب العلم لابن عثيمين.
- حلية طالب العلم لبكر أبو زيد.
- التعالم لبكر أبو زيد أيضا.
تقدمة الجرح والتعديل (363-364).
انظر: الجامع لأخلاق الراوي والسامع (1/101).
ديوان الشافعي (70-71).
ديوان الشافعي 53).
رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل (2722).
رواه أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها، وصححه الحاكم (1/540)، ووافقه الذهبي.
أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أخرجه الطبراني في الدعاء (669) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
من دعاء الإمام أحمد، انظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/345).(/10)
العلم سبيل النجاة
محمد بن منصور
الجزائر
5/6/1354
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- سعي الأمم إلى النهوض والرقي 2- غاية المسلم إقامة الدين ولا يتم ذلك إلا بالعلم 3- واجب نشر العلم 4- نداء للفقير والغني بأن يتقوا الله تعالى 5- الوصية بالاقتصاد في المعيشة 6- الوصية بالعلم والمسالمة
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي بيده الملك والخلق والتدبير، وهو على كل شيء قدير، خلق الخلق، وتكفّل لهم بالرزق، وأمرهم بالسعي في طلبه، والتمسك بسببه، لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ويريد، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تثمر في القلب اليقين، وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تعاطوا أسباب النجاة فنجوا، وطلبوا العلو في الكمال فعلَوا.
أما بعد:
فإن كل أمة تأخرت، وعن إدراك ما فيه خيرها وصلاحها عجزت، تجدها لا يقر لها قرار، ولا تهدأ لها أفكار، بل هي آناء الليل وأطراف النهار، تتطلب ضالتها المنشودة، وجوهرتها المفقودة، إلى أن تصل إلى غايتها المطلوبة، ومسألتها المرغوبة، فإن وصلت إلى مناها، ونجحت في مسعاها، كان كل من ساعدها في سبيلها صديقا حميما. وإن شط به المزار، ومن تعرض لها [فهو] بعكس ذلك وإن عد في الجوار.
وإن غايتك المطلوبة، ومسألتك المرغوبة، أيها المسلم، هي أن تعرف ما أمرك به دينك وما نهاك عنه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعلم، والعلم لا تجده إلا عند العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ورثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر.
العلم ميراث النبي كذا أتى في النص والعلماء ورّاثه
ما خلّف المختار غير حديثه فينا فذاك متاعه و أثاثه
فخذوا عنهم العلم وكونوا خير آخذ، وعضوا على ما أخذتموه عنهم بالنواجذ، واعلموا أن العلم هو وسيلة لكل خير يطلب، ومغنطيسً لكل ما فيه مرغب، فعلموه أولادكم، وفلذة أكبادكم، فإنكم عنهم يوم القيامة مسؤولون، وعن إهمالهم مناقشون و من نوقش الحساب عذب.
ولا تقل أيها الفقير: " إني فقير"، إذ لا عذر لك في هذا التقصير، فإنا نراك تبذّر فيما لا يعنيك الشيء الكثير، الذي يكفيك في ضرورياتك وتعليم أبنائك، ونراك تؤثر الملاهي في المقاهي، وتركت فلاحة أرضك التي تصون بها ماء وجهك، وتذب بها عن عرضك، وأصبحت تشتغل بما لا يعنيك وعن طاعة ربك معرض، وإذا دعيت لأن تقرض ربك أقل شيء تأخرت ولم تقرض.
ويا أيها الغني، وأنت في الحقيقة مسكين، طالما دُعيت للتصدق فما تصدقت، وطالما دعيت لأن تقرض ربك فما أقرضت، وأكلت أموال الفقراء والمساكين، وكم طردت أجيرا ولم تعطه عرق الجبين، وإذا دُعيت إلى ما فيه صلاحك ونجاحك تصاممت عن قبول الحق، واسترضيت المخلوق وأغضبت رب الخلق، فهلاّ صالحت مولاك بشيء من دنياك، ونظرت في القرآن، ما أعد الله لأهل الإحسان، في دار الرضا والرضوان، وهلاّ قدمت من مالك، ما تجده هنالك، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا .
واعلموا [أيها المسلمون]: أن الاقتصاد أحسن شيء تمسّك به أهل الصلاح والسداد: وإنه خير معين على دفع عبء الدين، وأسهل وسيلة للغنى، لو كان به يعتنى، وقد أرشدنا إلى ذلك من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى بقوله: ((ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد)).
فعليكم بالاقتصاد، تبلغوا غاية المراد، وإياكم والتبذير، فإن ضرره خطير، وصاحبه بالفقر جدير، وقد نهى الله عنه، وجعل صاحبه من إخوان الشياطين، في قوله وهو أصدق القائلين: ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ، ومما يحسن إنشاده في باب الاقتصاد، قول من أجاد وأفاد، إذ يقول:
ولما رأيت الدهر أنحت صروفه علي و أودت بالذخائر و العقد
حذفت فضول العيش حتى رددته إلى القوت خوفا أن أجيء إلى أحد
و قلت لنفسي أبشري و توكلي على قاسم الأرزاق والواحد الصمد
فإلا تكن عندي دراهم جمّة فعندي بحمد الله ما شئت من جلد
ألا إن لكل شيء أسبابا، وطرقا وأبوابا، منها لا من غيرها الوصول، ولا ينبغي عنها العدول، وإن الطريق الذي يوصل إلى كل شيء هو العلم، فاتخذوه سبيلا، واعتنوا بنشره وتعليمه، وتلقينه وتفهيمه، حتى تغوص في القلوب بشاشته، وتستولي على المشاعر حلاوته، فعند ذلك تؤتي شجرة العلم أكلها في كل وقت وحين، وعليكم بالمسالمة، والإعراض عن كل من يريد مشاغبة، فما خاب امرؤ جعل العلم دليلا، والمسالمة ظلا ومقيلا، إلا أن تهان كرامته، وتداس مسالمته، فعند ذلك لا يحسن الصبر، إذ لا صبر على الوقوف على الجمر، بل أهون من ذلك الاضطجاع في القبر.(/1)
العلمانيون وزلزال تسونامي
إعداد : د. الوصيف علي حزة
إن المتابع لهذا الحدث الذي هز القلوب والأسماع وأودى بحياة الكثير على حين غرة ، والذي تناولته وسائل الإسلام بتفسير مادي بحت يثير العجب ، حيث إنه كان من المتوقع أن تكون النظرة إلى الحدث بعين المعتبر المتعظ؛ ذلك أن المؤمن لا يمر على آية من آيات الله تعالى إلا مرور المعتبر ، قال تعالى : قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (137) هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين {آل عمران: 137، 138} ، وقال تعالى : فاعتبروا يا أولي الأبصار {الحشر : 2} .
ذلك أن من شيم أهل الغفلة والجهل والكفر الإعراض عن آيات الله تعالى مطلقًا سواء الآيات القرآنية أو الآيات الكونية ، قال تعالى : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون (1) ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون (2) لاهية قلوبهم {الأنبياء:1- 3}، وذلك لأن انتفاعهم بالآيات معدوم ، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون {يونس: 101}.
ومن طبيعة هؤلاء أن يفسروا الأحداث والتاريخ والوقائع تفسيرًا ماديًا: وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم {الطور:44} ، وليس هناك مجال - عندهم - لمفهوم الإيمان المقترن بالآية الكونية ، فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم {الأحقاف:24، 25} .
ولما كانت نظرتهم إلى الحدث بهذه الصورة المادية البعيدة عن الإيمان كان علاجهم للمشكلة من هذه الزاوية أيضًا؛ إذ لَمَّا حدث الزلزال اتجهوا للبحث عن خبراء اليابان والمراصد وأحزمة الزلازل في العالم - ونحن لا نقلل من شأن العلم الحديث - لأن المؤمن يتخذ الأسباب التي أودعها الله في كونه ، ولكنه - أي المؤمن- لا يكتفي بالأسباب فقط وإنما يتجه إلى خالق الأسباب مبدع الكون الذي إذا أراد أمرًا فإنما يقول له كن فيكون ، فيطلب منه العون والمدد حتى لا يتشبه بولد نوح ، لما قال له أبوه: يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ، كان جوابه باحتياطات مادية أيضًا : قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين {هود:43} .
فهل نسي العلمانيون - أو تناسوا - بأن القشرة الأرضية تأتمر بأمر الله ؟ قال تعالى: ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين {فصلت:11} .
فكل ما في الكون طوع أمره جل وعلا خاضع لعظمته متذلل لجلاله : ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس {الحج: 18}، أمرها فأطاعت وأسجدها فسجدت وأمسكها لتؤدي دورها: إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده {فاطر: 41}.
والعقلاء يعلمون أن الأرض بيد الله وحده يحركها كيف يشاء ، وفي كتاب الله ذِكْرُ الخسف الذي لحق بقارون لما عتا وتكبر بسبب ما أعطاه الله تعالى فكان التذكير بنهاية طاغية وهو قارون الذي نسب الفضل لنفسه ولم ينسبه لصاحبه، فقال: إنما أوتيته على علم عندي ، فكان الجزاء : فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين {القصص:81} .
وانظر إلى قوم لوط لما استباحوا الفاحشة وإتيان الرجال من دون النساء شهوة وترديًا في حمأة الرذيلة فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر : فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود {هود:82} .
إن ما أصاب ثماني دول في زلزال تسونامي أولى بنا أن نفسره على أن هذا جزاء ما اقترفت أيدي الناس من حل للربا والخمر والزنى والحرب على كتاب الله واتخاذ آيات الله هزوًا فكان كما قال ربنا : وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا (8) فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا {الطلاق: 8، 9}.
إن كثيرًا من المنكرات تُرتكب باسم الفنون والآداب والحداثة والعصرية من خلال وسائل الإعلام والسياحة والتي يتمكن فيها العلمانيون فيشوشون على أهل الإيمان إيمانهم، وما نجم عن هذا الزلزال المدمر من هلاك وإبادة لمدن بأسرها فيها الصالح والطالح هو من سنن الله تعالى كما روى البخاري في صحيحه أن السيدة زينب بنت جحش سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : "نعم ، إذا كثر الخبث".
قال ابن حجر : الخبث : هو الزنى وأولاد الزنى .
وقال صلى الله عليه وسلم : "إِن الله يغار من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"، ولعل انتشار سياحة الجنس في هذه البقاع والاستعلان بالفاحشة أدى إلى هذا الدمار الهائل والذي لم يقف عند محل الزلزال وإنما تعداه إلى أماكن بعيدة .
قال تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة {الأنفال :25}.(/1)
وقال آخرون : إن بلادًا كثيرة كأمريكا وأوربا انتشرت فيها الفواحش أضعافا مضاعفة ولا يزالون في نعمة تتلوها نعمة!!
نقول: إن الله جل وعلا يستدرج أهل الباطل ويعطيهم على المعاصي ليس حبًا لهم ولا رضا عنهم ولكن استدراجًا، قال تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون {الأنعام:44}.
وقال تعالى : فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (44) وأملي لهم إن كيدي متين {القلم:44، 45}.
فأما المؤمنون إن قصروا وعصوا فإنما تصيبهم النوازل لتعيدهم إلى سواء السبيل ، قال تعالى : ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون {الروم:41} .
وأخيرًا نقول لمن أراد معرفة الزلزال قبل وقوعه فلقد نبه رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فيما رواه البخاري : "لا تقوم الساعة حتى يقل العلم ويفشو الجهل وتكثر الزلازل ويفيض المال فلا يقبض" .
وقد قل العلم الشرعي وإن زادت العلوم الدنيوية التي لا نقلل من أهميتها ولكن على حساب العلوم الإسلامية ، وفشا الجهل بالتوحيد ومنهج أهل السنة والجماعة وكثرت الزلازل كما رأينا .
وهذه إرهاصات بين يدي الساعة تدل على قرب وقوعها ولكننا لا يمكن أن نحدد عددًا معينًا من السنين كما ذهب بعض الدجاجلة إلى ذلك ، وإنما نقول : علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة {الأعراف:187}.
ومن الجدير بالذكر أن المسلمين لهم نظرتهم الإيمانية إلى الأشياء والأحداث والتاريخ ، إلا أن العلمانيين الذين أشربوا في قلوبهم حب الغرب الصليبي أو الإلحاد الشيوعي زلزلوا حياة الأمة وشككوا العامة في إيمانهم برب الأرض والسماوات بنظم التعليم والإعلام.
فهل من عودة صادقة إلى الله جل وعلا حتى يرفع عنا هذه الغمة كعودة قوم يونس : إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين {يونس:98}.
هل من عودة إلى شريعة الإسلام وأحكامه لتدفع عنا الخزي والعنت ؟ هل من مجيب ، وهل من مدَّكر؟
والحمد لله رب العالمين(/2)
العمل للدين واجب الجميع
الشيخ عبدالوهاب الطريري
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية من عند الله طيبة مباركة
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، الحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، والحمد لله عند كل نعمة.
والحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا معبود بحق سواه.
وأشهد أن نبينا محمد عبد ورسوله، أفضل نبي وأشرفه وأزكاه.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن أتبع سنته واهتدى بهداه.
أما هذه الكلمة فهي بعنوان (العمل للدين مسؤولية الجميع)
إنها القضية التي ينبغي أن لا نمل طرحها ولا نسأم تكرارها حتى تتجذر في القلوب وتتشبع بها النفوس، وتصبح حية في مدارك الناس حاضرة في واقعهم.
إنها قضية العمل للدين وأنها قضية كل مسلم حتى يصبح العمل للدين قضية ساخنة في حياة المسلمين، تواجهك في كل لفتة وفي كل فلته.
إنها قضية استنفار الطاقات المعطلة لتقدم لدينها يوم نفرت كل أمة إلى رسالتها وعقيدتها.
إنها قضية إحياء الإيجابية في نفوس المسلمين بعد أن عشعشت السلبية على مواقع كثير من المسلمين، فحملوا دينهم بضعف والله يأمرنا أن نحمله ونأخذه بقوة.
إنها قضية تحريك الدماء في هذا الجسد الضخم من الملايين المملينة من المسلمين الجغرافيين الذين خبا لهيب الإيمان في حياتهم، فإذا هم كما وصفهم نبيهم (صلى الله عليه وسلم) غثاء كغثاء السيل.
إنها قضية جرد الحسابات لجهود شباب الصحوة الذين أشرقت بهم سماء الأمة بعد أن تكدرت سمائها بالقترة، فإذا بهم يتدفقون دفعات زاخة إلى مجالس الدعاة وحلَق العلم.
ثم نبحث عن جهودهم فإذا جهودهم لا يتناسب مع عددهم.
وعطائهم لا يتناسب مع هذا الجموع وقوة زخمها.
إنها قضية رفع مستوى العامة للإحساس بأن الأمة في أزمة وهي أزمة ضعف الإيمان.
نقف أيها الأحباب مع قضية العمل للدين وأتناولها في محاور خمس:
أولا/ العمل للدين قرين الانتماء إليه.
ثانيا/ العمل للدين وظيفة العمر.
ثالثا/ العمل للدين ليس وقفا على فئة، وليس مسؤولية طائفة، بل هو مسؤولية ملقاة على كاهل كل مسلم.
رابعا/ العمل للدين موزع في أدوار بين المسلمين، وليس مسلم يعجز أن يجد له دورا.
خامسا/ أمثلة من الواقع ونماذج من العمل.
ثم أعود إلى هذه المحاور بشيء من التمثيل والتدليل.
أولا/ العمل للدين قرين الانتماء إليه.
هذه قضية كانت واضحة محسومة في عقيدة الجيل الأول، في عقيدة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم تلقوا هذا الدين غضا طريا من في محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
يوم كان أحدهم يبسط يده إلى اليد المباركة ليبايع محمدا (صلى الله عليه وسلم) على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لا يبيعه على غيرها، ثم يستشعر أن هذه البيعة قد ألبسته لباس الجندية ليعمل لهذا الدين.
وخذ هذا من خلال نماذج أعرضها عرضا سريعا:
قصة الطفيل بن عمر الدوسي رضي الله عنه حين جاء إلى مكة في أوليات الدين.
يوم كانت قريش تضرب حول هذه الدعوة سياجا شائكا من الحرب الإعلامية، والحرب الإعلامية تكتيك يمارس ضد الدعوة إلى دين الله ورسالات الله من القديم وإلى اليوم.
ونحن اليوم نرى نماذج للحرب الإعلامية القذرة الدنسة في الصحافة ضد الدعوة التي تدعو إلى تحكيم شريعة الله، فهي ترجم بالأصولية.
ترجم بالدعوة إلى قلب نظام الحكم في بلاد قلب فيها نظام الحكم فيها مرارا.
ترجم بالانتهازية، ترجم بأوصاف قذرة دنسة وأنواع من التهم المعلبة المستوردة.
هذا النوع من المواجهة كانت تسلكه قريشا قبلا، فليس غريبا على الداعين إلى الله.
كانت قريش تتلقى كل وافد إلى مكة، فتقول له:
( إنا نحذرك غلاما بني عبد المطلب، إنه يقول كلاما يسحر به من يسمعه، فيفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه، أحذر ومن أنذر فقد أعذر).
تلقت هذه الدعاية الطفيل بن عمر فما زال به الجهاز الإعلامي القرشي الكافر حتى عمد القطن فوضعه في أذنيه، ودخل الحرم.
ويشاء الله أن ينفذ كلمات رسوله على رغم أنف قريش وعلى رغم القطن الموضوع في أذني الطفيل. فيسمعُ قراءةَ الرسولِ(صلى الله عليه وسلم) وهو يترسلُ بكلام الله الذي فلق سبع سماواتٍ حتى تعطرت به أنحاءُ مكة، فسمع كلاما لم يسمع مثله قبل.
فأقبل على نفسه يراجعها ويقول عجبا إنني رجل عاقل لبيب فكيف أعير عقلي غيري؟
آلا أتيت إلى هذا الرجل فسمعت منه فإن كان خيرا كنت أحق به، وإلا فإني أعرف كلام العرب شعرها ونثرها وكهانتها وسحرها، فنزع القطن من أذنيه ثم جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال:
إني قد سمعتُ قولَ قومَك فيك، وإني أحبُ أن أسمع منك، فاعرض عليَ ما عندَك، فعرض عليه الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) الإسلام وعلَمهُ القرآن، فأمن مكانه.(/1)
بإمكانِك أيها الأخُ المبارك أن تتسأل كم شُرع من شرائع الإسلام حين إذٍ، إنه التوحيدُ وشرائعُِ قليلةَ.
أسلم الطفيلُ مكانه ثم شعر بهذه المسؤولية للتو، فقال:
يا رسولَ الله إن دوساً كفرت بالله وانتشر فيهم الزنى فأرسلني إليهم.
سبحان الله إن الرجلَ لم يتلقى الإسلام إلا الآن، ولكنَه شعرَ للتو أن هذه البيعةَ على الدخولِ في الدين تستوجبُ العمل له، فإذا به يتحولُ في مكانه داعيةٍ ونذيرٍ إلى قومه.
أرسلني إليهم إنهم قد كفروا بالله وفشا فيهم الزنى.
فأرسلَه الرسول (صلى الله عليه وسلم) إليهم، ودعا الله أن يجعل له آية فلم انصب إليهم خرجت الآية وإذا هي نور في وجهه، فإذا وجهه يضيء كأن في وجهه سراج، فقال يا رب يراها قومي فيقولون مُثلة، اللهم أجعلها في سوطي، فانتقلت إلى سوطه فكان يحرك سوطه وفي طرفه مثل القنديل.
وعرض الطفيل الإسلام على قومه فأسلم بعض قرابته واستعصت عليه عشيرته.
فماذا فعل ؟
هل شعر بأن هذا أمر طبيعي لا يستثير وجدانه ولا يحرك وجدانه؟
كلا، فقد ثارت في نفسه الغيرة على الدين فعاد إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يشكو إليه الحال ويقول له بحرقة:
يا رسول الله إن دوسا قد كفرت بالله فأدعو الله عليهم.
فرفع النبي (صلى الله عليه وسلم) يديه الطاهرتين المباركتين التي ما دعت بإثم ولا قطيعة رحم وقال:
اللهم اهدي دوساً، اللهم اهدي دوساً، اللهم اهدي دوساً.
والشاهدُ آيها المبارك من هذه القصةُ استشعارُ الطفيلِ رضي اللهُ عنه بمجردِ أن دخلَ في الدين مسئولية الدعوة إليه.
فمنذ كم دخلنا في هذا الدين وما مدى استشعارنا لهذا الأمر؟
سؤال ندع الإجابة عليه إلى أعمالنا وهواجس قلوبنا.
أبو ذر رضي الله عنه جندب إبن جناده أعرابي جاء من قبلة غفار ينشد الهدى مظنته، أبو ذر الذي إذا أخرج بطاقته الشخصية ليعرف بنفسه يقول: أبو ذر جندب إبن جناده ربع الإسلام.
كيف يكون أبو ذر ربع الإسلام؟
يعني أنه كان في يوم من الأيام ربع العالم الإسلام.
ليس على ظهر الأرض في علمه مسلم إلا أربعة نفر هو رابعهم.
هذا الذي أسلم رابع أربعة أتى إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذه البداية المبكرة للدعوة فأخذ عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الإسلام، فأمره النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يغادر مكة لأن وجوده بين ظهراني المسلمبن في مكة وهو غفاري ليس بقرشي يشكل عبأ على الدعوة، والدعوة لا زالت في بدايتها، فليلحق بقومه.
فماذا فعل؟ قال والله لا أخرج من مكة حتى أصرخ بها بين أظهرهم.
لقد كانت قريش تبني حاجزا ضخما من الصمت يحيط بدعوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فإذا بأبي ذر الذي لم يحمل من الدين إلا التوحيد يستشعر أنه يتحمل مسؤولية تقديم عمل ما للدين، وليكن هذا العمل تحطيم حاجز الصمت الذي تبنيه قريش سياجا على دعوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فيصرخ بالتوحيد بين ظهراني قريش، وفعلا كان ذلك:
فإذا به يغدو إلى الحرم وقريش في نواديها فيه فيصرخ وهو الرجل الأيد الشديد الجهوري الصوت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ويدوي ندائه في مكة فتثور إليه قريش من أنديتها، تقع عليه، وقع عليه هذا الجمع كله.
فيثور إليهم العباس رضي الله عنه وهو رجل موصول العاطفة بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه:
فخاطب في قريش حسها التجاري، فقريش قوم تجار فقال:
كيف تقعون برجل من غفار وقوافلكم تمر بأرضهم ذاهبة وآيبة ؟
والله لأن مسستموه بسوء ليقطعون عليكم الطريق إلى الشام. هنا توقفوا.
فقام أبو ذر بعد أن راء الهلكة بأم عينيه.
هل قام وهو يقول الحمد الله الذي أنجاني، أين راحلتي إلى أرض قومي؟ كلا.
قال لا أذهب حتى أصرخ بها غدا.
وفعلا يعود من الغد ويصرخ بها، ويثورون إليه كما ثاروا بالأمس.
ويثور العباس فيخلصه - وكان إذ ذات مشركا - وبالأسلوب ذاته " إنه رجل من غفار وقوافلكم تمر بأرضهم ذاهبة وآيبة فدعو الرجل يلحق بقومه.
ويخلّص أبو ذر، فهل قال لقد نجوت هذه المرة يوم خلصني العباس، وسألحق بقومي وقد أديت ما علي، والحمد لله الذي نجاني من القوم الظالمين؟ نعم حمد الله ولكن بالتزام أن يعود ثالثة.
يقول البناءون وجه واحد من البوية لا يكفي.
عاد أبو ذر ثالثا وليس على يقين أن العباس سيخلصه المرة الأخرى.
ولكنه على يقين أنه بعمله ذلك يقدم عملا إيجابيا للدعوة.
ولتنشق أذان قريش بالدعوة التي تحاصرها بالصمت.
وليعرف الناس سماع الشهادة، ونداء التوحيد، والخبر برسالة محمد (صلى الله عليه وسلم).
فإذا به ينادي ثالثا فيثورون إليه ويقعون به فيخلصه العباس.
فيمم شطر قومه غفار، فماذا فعل عندهم؟
لقد بدأ بأسرته وقرابته فدعا أمه ودعا أخاه ثم هب إلى قبيلته يدعوها فاسلم نصفها.
أما النصف الأخر فقالوا:
أليس صاحبك (يعني رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) قد أمرك أن تذهب فإذا سمعت بأنه قد ظهر أن تلحق به؟
النبي الآن ثالث ثالثة ويقول لأبي ذر فإذا علمت أني قد ظهرت فالحق بي، اليقين.(/2)
قالوا أليس وعدك أنه إذا ظهر تلحق به؟ قال نعم.
قالوا نحن إذا ظهر آمنا لحقنا به، أما الآن فننتظر.
فلما ظهر النبي (صلى الله عليه وسلم) آمنت غفار كلها فقالت بنو عمها قبيلة أسلم:
ليس بنا عما رغب به بنو عمنا غنى فأسلموا أيضا.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله.
هذا الإنجاز تحقق على يد رجل اعتقد أنه ربع الإسلام.
ربع العالم الإسلامي في وقته لم يحمل من النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا التوحيد، ولكن حمل مع التوحيد الاستشعار للمسؤولية اتجاه هذه الرسالة، واتجاه هذه العقيدة وأن دخوله لهذا الدين يستوجب العمل له.
ثانيا/ العمل للدين وظيفة العمر.
العمل للدين ليس مؤقت بوقت ولا محددا بزمان ولا مكان وإنما هو وظيفة العمر كلها.
فإذا كان الانتماء للدين يستلزم العمل له، فالعمل للدين وظيفة العمر.
واستشرف هذا المعنى من سير أنبياء الله ورسوله والتابعين لهم بإحسان:
هذا نوح عليه السلام يصف برنامجه في الدعوة إلى الله يقول:
( إني دعوة قومي ليلا ونهارا) ثم يقول:
(ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا).
ماذا بقي من حياة نبي الله نوح؟
الليل والنهار، العلن والإسرار، كل ذلك سخر للدعوة، كل ذلك سخر للرسالة آلف سنة إلا خمسين عاما. الحياة كلها دعوة، ليل ونهار، علن وإسرار.
ثم أرحل مع نبي من أنبياء الله ورسله يوسف عليه السلام:
يوسف الذي القي به في غيابة الجب، ثم في غيابة السجن.
أدخل السجل يرسف في قيوده.
يعاني في السجن لوعة الغربة، وألم البعاد، وقهر الظلم، ومضاضة ظُلم ذوي القربى.
يعاني كل هذه الآلام ويكابدها في ظلمات السجن وثقل القيد، ولكن مع هذا كله، مع هذه المعانات كلها لا ينسى أبدا دعوته وقضيته ورسالته، فإذا به يحول السجن إلى مدرسة للتوحيد، مدرسة للدعوة.
يتبين لنا فيها براعة الداعية وحسن تأتيه فإذا به يستقبل سؤال صاحبيه في السجن حينما يسألانه:
( رأيتني أعصر خمرا ).
( رأيتني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه).
( نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ). فيتأتى أحسن التأتي في بيان دعوته:
أولاً يكرس حسن ظنهما به فيقول:
( لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما).
ثم يستغل تشوقهما للجواب على السؤال الذي طرحاه، فلا يجيب على السؤال مباشرة ولكن يطرح القضية الضخمة التي تعيش في وجدانه وهي رسالة الله وعقيدة التوحيد فيقول:
( يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)؟
ثم يندد بعقيدتهما وعبادتهما فيقول:
(ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان).
أسماء سميتموها ليس لها حقائق، حتى إذا كرس عقيدته وبين أنه بريء هو وأبوه وجده مما هم عليه وأنه أتبع الرسالة الخالصة الموحدة لله.
ثم يجيب بعد ذلك على السؤال:
( أما أحدكما فيسقي ربه خمرا،وأما الأخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان).
قضي بعد ماذا ؟
بعد أن ألقى عليهم محاضرة مملوءة بالأدلة والبراهين والتثبيت في التوحيد.
سبحان الله! نبي في هذه المعاناة، ألم السجن، ألم الغربة، قهر الظلم، لوعة البعاد ومع ذلك تبقى قضية نبوته ورسالته وعقيدته والدعوة التي يحملها حية لا تخبو ولا تلين.
بل إن أنبياء الله ورسله وكذا السائرون على أثرهم لا ينسون دعوتهم في أحرج اللحظات وأشد الساعات وأشد الكربات كربا، وآلمها ألما، وأمضّها وأوحشها.
إنها أشد ساعة تمر بالإنسان منذ ولادته إلى مغادرته إنها ساعة الموت.
وهل ساعة أشد منها؟ وهل ساعة أعظم هولا ؟ وأكرب كربا ؟ وآلم ألما من هذه الساعة؟
ستفضي بك الساعةُ في بعض مرها……..إلى ساعة لا ساعة لك بعدها
هذه الساعة الموحشة المؤلمة الشديدة لا تنسي أنبياء الله ورسله دعوتهم وقضيتهم ورسالتهم لأن الدعوة وظيفة العمر كله، حتى في آخر لحظات العمر.
تبقى الدعوة والرسالة والعمل للدين حية لا تموت وهم يموتون.
هذا نبي الله يعقوب عليه السلام يصف الله لنا مشهد وفاته.
حاله وهو يموت كيف مات من كان عنده؟ ماذا قال؟ ماذا أنفذ وهو يودع الدنيا:
( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) وبنوه حولَه فماذا فعل؟ وماذا قال ؟
( إذ قال لبنيه ) ماذا قال لهم؟
الأموالُ كيف تجمعونها ؟
القصورُ كيف تبنونها ؟
الثروات كيف تكدسونها أم التركة كيف توزعونها ؟
أم الزروع كيف تزرعونها ؟
كلا ليس شيء من ذلك ولكن هم الدين وقضية التوحيد:
( ما تعبدون من بعدي ).
هذا الهم الذي بقي يقضا في قلبه وهو يودع الدنيا، ( ما تعبدون من بعدي ).
وهو الذي رباهم على التوحيد مذ منذ نعومةِ أظفارِهم، وعرف توحيدهم وصدقهم وإخلاصهم.
ولكن الهمُ اضخم في القلب ( ما تعبدون من بعدي ) ؟.
ويجيء الجواب الذي يقر عينه:
( نعبدُ إلهك والاه آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ).
ثم انظر إلى حالِ نبينا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا (صلى الله عليه وسلم) :(/3)
الذي قضى ثلاثاً وعشرين سنةً في جهدٍ وجهاد وصبرٍ ومصابرةٍ.
بعد هذه المسيرةِ الحافلةِ في بلاغ رسالات الله، وبعد أن اعذر إلى الأمة بأنه قد بلغها دينها وأدا إليها الأمانة التي أتمن عليها، تهي للحاق بالرفيق الأعلى والمحل الأسنى.
فإذا به في أخرِ عُمرِه يصاب بالحمى التي تستعر في بدنه خمسة أيام حتى إن حرارة بدنه يحس بها من يضع يده على الأغطية وهو متغطي بها (صلى الله عليه وسلم)، ويقول ابن مسعود :
( يا رسول الله إنك لتوعك كما يوعك رجلان منا، قال نعم ذلك أن لي أجر أثنين).
وحتى كان الماء يحمل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالقرب يصب على بدنه ليطفئ استعار الحمى في بدنه.
بدنُ استعرت فيه الحمى وأنهكَه المرض، وانهزمت فيه العافية.
ولكن هم الدينِ، وهم الدعوة وهم الرسالةِ والعمل لا ينهزم في البدن الذي انهزمت فيه العافية.
ولا يخبو في البدن الذي أنهكه المرض، فإذا به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه يذكرُ هم أمته ورسالتِه في أخرِ يومٍ يعيشُه على الدنيا.
إذا به صلوات الله وسلامه عليه يخرجَ إلى الأمةِ يومَ الاثنين، اليومَ الذي مات في ضحوته.
إن شئت فقل في أخرِ ساعاتِ حياته، يخرج يتفقدُ أمتَهُ!
أين تفقدها في الأسواق؟ كلا
تفقدها وهي تصلي لله في أخرِ فرضٍ تصليه أمةُ محمد (صلى الله عليه وسلم) ونبيُها حيُ على الأرض.
يتحاملُ (صلى الله عليه وسلم) على الجسدِ الواهن الذي انهزمت فيها العافية وأنهكه المرض.
يتحامل عليه لينظر أمته وهي تصلي نظرةَ وداعٍ يتفقد فيها دينها وصلاتها واعظم أركان الدين بعد التوحيد.
خرج (صلى الله عليه وسلم) على المسلمين وهم يصلون خلف ذلك الرجلِ الطيبِ المبارك الخاشع أبي بكرٍ الصديق وهو يقف في موقف الرسولِ (صلى الله عليه وسلم) يقطع القرآن ببكائه.
والصحابةُ يخيمُ عليهم جو من الحزنُ والوجوم لغيابِ رسولِ (صلى الله عليه وسلم) خمسة أيام عن محرابه الذي طالما وقف فيه يقطع آيات القرآن.
فما فجعَهم وهم وقوف إلا وسترُ حجرةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) يرفع و إذا بالواقف محمدُ (صلى الله عليه وسلم) ، الذي غاب عنهم خمسةَ أيام تحت وطئة المرض، إذا به واقفُ يتحاملُ عل جسدِ منهك بالمرض.
ينظر إليهم فماذا رأى، رأى أصحابه وقوفاً كما علمهَم، خشوعاً كما أدبَهم، مطرقين خشوعا لأدب القرآن، وموقف الصلاة، فرأى (صلى الله عليه وسلم)، المنظر الذي ابتهج به قلبُه وقرت عينُه، واطمأنَ إلى أن رسالَته في أيدٍ أمينةٍِ و أن أمتَه واقفةُ على الصراطِ الذي رسَمهُ لها.
فإذا بالوجه الشاحبِ من المرض يطفحُ عليه البشر والسرور، فيتهللُ بإشراقةِ ابتسامةٍ وضيئةٍ ما رأى الصحابةُ منظراً كان أعجبَ إليهم منها، حتى قال أنسُ ابن مالكٍ رضي الله عنه:
(ما رأينا منظراً كان أعجبَ إلينا من وجهِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، حينَ نظر إلينا يضحك كأن وجهَهُ ورقةُ مُصحف).
(صلى الله عليه وسلم) إنه الهمُ للدين والتفاعلُ مع الدين يطفحُ فرحاً وسروراً على وجهٍ أنهكه المرضُ وشاحب بالألم.
وكاد الصحابة أن يفتتنوا بهذا المنظر، فإذا بالصفوف تنشق لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليتقدم إلى محرابه الذي طالما وقف فيه، فإذا به يشير إليهم أن أتموا صلاتكم.
ويرخي ستر حجرته فكانت أخرَُ رأية رأها الصحابةُ لرسولِ الله (صلى الله عليه وسلم).
بل إنه (صلى الله عليه وسلم) إذ كنا نقول أنه حملَ الأمةِ في أخرِ ساعاتِ حياته.
فإننا نقولُ الآن إنه حملُ هم الأمة في أخرِ لحظاتِ حياته.
إذا به (صلى الله عليه وسلم) ينفقُ أخرَ الأنفاسِ وأخرَ اللحظاتِ وأخر الثواني نصحا للأمة ونداء للأمة لا ينسى هم أمته وقضيته ورسالته.
نزل به الموت فاشتد به الكرب حتى قالت عائشة رضي الله عنها:
( ما تمنيت يسر الموت لأحد بعد ما رأيت من حال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) لشدة وقع الموت عليه.
كان يدخل يده في الإناء الذي فيه الموت ثم يمسح وجهه ويقول:
( لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم أعني على هذه السكرات ).
لكنَ هذه السكراتِ لم تلهِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن دعوته ولا عن عقيدته ولا رسالته ولا أمته فإذا به في هذه السكرات ينفذ النداء للأمةِ نداءً يخترقُ حُجبَ التاريخِ وترويه الدنيا في أخر لحظاتِ عمره، ينادينا نداءً شق حُجبَ الزمن حتى أسمعنا:
( الله اللهَ الصلاة الصلاةَ وما ملكت أيمانُكم ) حتى حشرجَ بها صدرُه وغرر بها حلقُه واحتبسَت بها نفسه. إنه هم العمل لدين في أقسى اللحظات وآخر أنفاس الحياة.
هذا شأن أنبياء الله ورسله وهم المخاطبون أصالة بهذا الأمر، فقهه وثقفه منهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وفتش حياة أي صحابي لا تجد يوما منها مهدرا ليس فيها عمل للدين.
وخذ مثالا واحد على ذلك جعفر أبن أبي طالب أبن عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
قضي نحوا من إحدى عشرة سنةً في المنفى في دار البغضاء البعداء في الحبشة.(/4)
لم يأخذ أثنائها إجازة عرضية ولا مرضية ولا اضطرارية ، بقيَ إحدى عشرة سنةً متواصلةً يعاني ألم الغربة ولوعة البعاد كلُ ذلك في ذات الله حتى إذا حانت الفرصةُ عاد في السنةِ السابعةِ للهجرة.
عاد في السنة التي فتح فيها النبي (صلى الله عليه وسلم) خيبر، وما يدريك ما فتح خيبر ؟
فتح حيبر كان بداية غنى للمسلمين، ما عرفوا الشبع إلا عندما فتحت خيبر.
فتحوا خيبر فكانت عزا للإسلام وفتحا للمسلمين، ولكن النبي (صلى الله عليه وسلم) يصف فرحة لقائه بجعفر فيقول:
( لا أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ).
فرح النبي (صلى الله عليه وسلم) بقدوم جعفر فرحا شديدا حتى إن فرحه به يساوي فتح خيبر.
ولكن بما كافأ النبيُ (صلى الله عليه وسلم) هذا القادَمَ المولعَ بالغربة والبعاد، الذي أعطى للدين عشر سنواتً من الغربة لوعة وأسا، بما كافأه؟
هل أصدر مرسوما كريما بتعيينه أميرا على البلدة الفلانية؟
أم أصدر أمره السامي بتعيين المخصصات التالية: أولا قصر، ثانيا مخصصات شهرية منتظمة. ثالثا كل متع البلاط ثمنا للغربة والبعاد.من اللوعةِ والغياب والغربة.
هل اصدر أوامره بأن يمنح جعفر إجازة لبقية العمر فقد قدم ما عليه، وأدا للدين ما يكفي تقديمه وأداءه ؟
كلا، كلا! كافأه مكافأة من نوع آخر. ما هي؟
كافأه بأن أتاح له الفرصةً مرة أخرى ليعمل للدين ويقدم للدين.
هذه المكافأة التي يحسنها (صلى الله عليه وسلم) ويبتهج بها أصحابه.
فإذا به يعين في منصب النائب الأول للقائد الأعلى للقوات المسلحة المتوجهة إلى مؤته.
ويذهب حفيا بهذا المنصب، فرحا بفرصة المشاركة للعمل للدين، فحياته كلها أوقفت لله.
ليس فيها يوم يسمى إجازة من العمل للإسلام.
ويحدث له هناك العجب!
يقتل القائد الأعلى زيد ابن حارثة.
فتتحول المسؤولية إليه، فينزل عن فرسه فيعقرها فكان أول عقر في الإسلام.
ثم يتقدم والراية في يمناه، ينشد نشيد الداخل في الجنة:
يا حبذا الجنة واقترابها……طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنى عذابها……علي إن لاقيتها ضرابها
فتقطع يده اليمنى، فيتلقف الراية باليد اليسرى، فتقطع فيحتضنها بيديه، تنوشه الرماح، تقطعه السيوف، تضربه السهام، وكل ذلك وهو صابر لتبقى الراية مرفوعة.
حتى يتقدم منه جندي رومي فيقده بالسيف نصفين.
ثم يصف لنا عبد الله أبن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري مشهد تلك الجثة المعطرة وذلك الإهاب الممزق فيقول:
( وقفت على جعفر يوم مؤتة وإن في جسده لبضعا تسعين ضربةً ليسَ بها واحدةُ في قفاه)
بضعا وتسعين ضربة كلها يتلقاها مقبلا غير مدبر، لم يعرف العدو له قفا ولا رأى له ظهرا.
إنها حياة عاملة للدين لا تعرف هدنة في المواجهة مع كل عدو للدين.
ثالثا/ العمل للدين ليس وقفا على فئة معينة:
من شبه الشيطان التي يرجف بها على كثير من المسلمين أنه يلقي في روعهم أنهم ليس من الفئة التي تعمل للدين، العمل للدين مسؤولية أصحاب اللحى الطويلة والثياب القصيرة.
العمل للدين مسؤولة الهيئات ورئاسات الإفتاء ومجموعة من الدعاة ذوي العمل الدعوي الجماهيري.
أما أنت فمصدر للتلقي يكفيك أن تصلي الصلوات الخمس، وتصوم رمضان وتحج البيت في العمر مرة.
هكذا يرجف الشيطان على البعض موسوسا:
ثم إنك تذكر يوم كذا وكذا ماذا فعلت ؟
ألا تذكر غدرتك ؟
ألا تذكر خطيئتك ؟
ألا تذكر ذنبك، أمثلك مؤهل لأن يعمل للدين بكل هذه الأقذار بكل هذه الخطايا، بكل هذه الذنوب؟
فما يزال الشيطان يلقي عليه قصيدة في هجائه، حتى يستشعر أنه ليس من الفئة التي تعمل للدين، إذ ليس هو أهلا لذلك.
أيها الأخ المبارك:
إن العمل للدين ليس مصنفا إلى شرائح وفئات.
فكل مسلم بانتمائه للإسلام عامل للدين، مهما كان عليه، ومهما كان فيه من خطئ ومهما اعتراه من تقصير فينبغي أن لا تضيفَ إلى أخطائِك خطاءً أخرَ وهو القعود عن العمل للدين.
وينبغي أن لا تضيف إلى ذنوبك إن كنت استوحشت من ذنوبك ذنبا آخر وهو خذلان العاملين للدين.
فأعمل معهم، فلعلَ عملك لدين أن يطفئ حرارة الذنوب وتكاثر السيئات.
وخذ لذلك مثالين أثنين أعرضهما عرضا سريعا:
أولا كعب ابن مالك:
ذلك الصحابي ارتكب خطاء بأنه لم ينفر مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والله يأمرهم أن ينفروا معه يقول:
( مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله، اثاقلتم إلى الأرض ).
وقفل النبي (صلى الله عليه وسلم) راجعا من المعركة فجعل كعب يزوق في خاطره كلاما، ويجمع في نفسه أعذارا ليعرضها على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند المسائلة التي كان موقنا أنه سيُسائلها.
وإذا به يجد نفسه بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يستقبل هذا السؤال: يا كعب ما خلّفك؟
وإذا بكل هذه الأعذار تتبخر، وإذا بكل هذا الكلام يتلاشى، وإذ به لا يجد إلا الصدق.
فيقول يا رسول الله لم يكن لي من عذر.
فيجئ به حكم الله أن يخلف، فيقاطع لا يكلم فكانت حاله كما وصفها الله:
( ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم).(/5)
كان يتقلب في الأسواق لا تفرج له شفة ببسمة، ولا تنبس له شفة بكلمة، حتى قال تغيرت علي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف، وتغير علي الناس فما هم بالناس الذين أعرف.
وهذا موقف - أيها الأخ الحبيب- لم نجربه، لكن لو جربناه لوجدناه موقفا قاسيا بالغ المرارة أن يتقلب المرء بين الناس فلا يجد من يرد عليه سلاما أو يفضي إليه كلاما.
وحمل كعب مرارته كلها إلى أحب الناس إليه، ابن عمه أبا قتادة رضي الله عنهما.
فتسور عليه الحائط ودخل عليه في بستانه، ولم يكن هناك رصد من المباحث يسترقون السمع أبدا.
ولم تكن هناك أجهزة للاستخبارات تطلع على الموقف.
كان هناك اثنان فقط أبو قتادة وكعب رضي الله عنهما كل منهما يصف الأخر بأنه أحب الناس إليه، أقبل إليه كعب تلقاء وجهه يقول السلام عليك ورحمة الله وبركاته ي أبن عم.
قال كعب: فو الله ما رد علي السلام.
فإذا بالمرارة تتكسر في صدره حتى أصبح مع نفسه في صراع مرير، فإذا به يواجه أبا قتادة ويقول:
يا أبا قتادة أنشدك بالله أتعلم أني أحب الله ورسوله؟
فيجيبه أبو قتادة جوابا مجردا حافا جافا ليس فيه أي كلمة من فضول:
يقول ( الله ورسوله أعلم ). قال كعب: فاستعبرت عيناي وحق له أن يبكي.
هل تصورنا الآن هذا الظرف النفسي الذي يعيش فيه كعب.
وفي وسط هذه المحنة والمرارة يأتي إليه رسالة ملكية ممن ؟ من ملك غسان.
وقد كان شعراء المدينة وفي مقدمتهم حسان رضي الله عنه يذهبون إلى ملك غسان يمدحونه بالقصائد الطوال ليحضوا منه بلفتة أو صلة.
إذا به يرسل رسالة إلى كعب يأتي بها مندوب خاص يسلمها إليه فيقرأها كعب فإذا نص الرسالة كالتالي:
( إنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار مهانة، فالحق بنا نواسك ).
الحق بنا لتعين ضمن الحاشية في البلاط، تتمتع بكل ما في بلاط الملوك من لذة، بكل ما في بلاط الملوك من شهوة، بكل ما في بلاط الملوك من ترف، تتمتع بكل مميزات البلاط، وتكون خدينا للملك.
الحق بنا لتنال المخصصات والجوائز والصلاة، الحق بنا نواسك ونعوضك عن كل هذه المقاطعة التي تعيشها، فماذا قال كعب لحامل الرسالة:
هل قال انتظر إلى الغد حتى أفكر في أمري؟
أم قال انتظر حتى أصلي صلاة الاستخارة ؟
أم قال انتظر حتى أستشير ذوي الرأي من أهلي ؟
أم قال انتظر حتى أنظر ما ينجلي عليه الأمر، فإما أن نبي الله أنهى المقاطعة وبقيت في قومي، وإلا نظرت في أمري؟
لم يجب بأي جواب من هذه الأجوبة، ولكن استرجع وقال:
إنا لله و إنا إليه راجعون لقد طمع بي رجل كافر.
الولاء للإسلام، الولاء للإسلام الذي لا يهن حبله ولا تخبو ناره مهما قست الظروف وكلحت الأيام واشتدت المصائب يبقى الولاء للإسلام أعظم من هذا كله.
أعظم من كل محنة وأقوى من كل إغراء وأشد من كل مواجهة.
لقد طمع بي رجل كافر، فما هو حق الرسالة ؟
تحفظ في الأرشيف ؟ كلا ، تحفظ في التنور وهو مشتعل، يقول كعب:
فسجرت بها التنور ولأتحمل لوعة المقاطعة وأسى الهجران وألم النظر إلى وجوه لا تتكلم، وشفاه لا تتبسم. أتحمل كل ذلك ما دمت موصولا بالله، أحتفظ بشرف الانتماء إلى هذا الدين.
أليس هذا درسا لكل صاحب خطيئة ولكل مقارف ذنب أن انتمائه للإسلام أقوى وأعظم وأشرف وأزكى عند الله من كل سبب في الأرض ونسب فيها ؟؟ بلا.
ثانيا قصة أبي محجن الثقفي:
قصة عجب من العجب، هذا الرجل يوجه رسالة إلى كل رجل من المسلمين، إلى كل الذين يظنون أن مقارفة بعض الصغائر أو الوقوع في بعض الكبائر يعطيهم إجازة من العمل للدين مفتوحة إلى يوم الدين، كلا.
أبو محجن رجل ابتلي بإدمان الخمر، فكان لا يقلع منه ويؤتى به فيجلد ثم يعود ثم يجلد ثم يعود، ولكنه لم يفهم أن إدمانه للخمر يعطيه عذرا ليتخلى عن العمل للدين.
فإذا به يحمل سلاحه ويسير مع الموكب المتيمن صوب القادسية ليقاتل هناك الفرس وليرفع لا إله إلا الله، وليقدم دمه بسخاء للا إله إلا الله.
وهناك يقع بالمطب مرة ثانية، يشرب الخمر وهو مع الجيش.
ويؤتى به إلى سعد رضي الله عنه ثملا.
إن لله وإن إليه راجعون، جندي على مشارف القتال يؤتى به سكران، ما هي عقوبته؟
عقوبته يحرم من المشاركة في المعركة، هو ما جاء من أعماق الجزيرة إلا ليقدم دمه ثمنا للا إله إلا الله، ومع ذلك يسكر، إذا عقوبته جزاءا له وردعا لأمثاله لا يشارك في المعركة.
وكانت هذه عقوبة أليمة، ليست عقوبة تعطيه عذر وسلامة من آلام القتال وأخطار الموت.
وتصطف الجيوش للمواجهة وقد كان موقع القائد، كان مسرح لعمليات في وسط المعركة، لم تكن غرفة العمليات ولا مسرح العمليات في أماكن نائية بعيدة عن كل خطر محتمل.
فقد كان المسلمون يحرص قادتهم على الشهادة أكثر من حرس الجنود، ولم تكن الشهادة من نصيب الجندي أبو شريط وأبو شريطين، بل من نصيب القائد الأعلى أولا.
فإذا بسعد ينتظر أن يشارك في قلب المعركة، ولكنها يبتلى رضي الله عنه بالقروح في جسده فلا يستطيع أن يثبت على الخيل، فتوضع له مقصورة يدير منها العمليات عن بعد.(/6)
ومع ذلك لم يسلم من عتب بعض المسلمين عليه، حتى قال أحدهم يصف انتهاء المعركة:
وعدنا وقد آمت نساء كثيرة……ونسوة سعد ليس فيهن أيّمُ
عدنا ونسوة كثير قد ترملت من أزواجهن، أما نسوة سعد فابشروا فسعد بخير وعافية، مع أن الذي أقعده عن المشاركة المرض، لم يقعده شيء آخر.
وبدء القتال، فقعقعت السيوف، وضربت الرماح، ووقعت السهام وهزمت الخيل، وثار غبار المعركة وعلت أصوات الفرسان، وفتحت أبواب الجنة، وطارت أرواح الشهداء، وأبو محجن يرى ذلك كله فتحركت أشواقه للموت وللشهادة وللقتال فوثب ليشارك فقال له القيد في رجله:
مكانك، محكوم عليك بعدم المشاركة لأنك شربت الخمر، فعاد وقد تكسرت أشواقه في صدره، وعانى في داخل صدره ألما ممضا أن تبدأ المعركة وليس له نصيب فيها، فيعبر عن هذه الآلام بأبيات يقول فيها:
كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنى……وأترك مشدودا إلى وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلّقت…….مصارع دوني قد تصم المناديا
وترى امرأة سعد هذا المشهد، فيقول لها:
يا سلمى فكي قيدي وأعطيني فرس سعد وسلاحه، فإما أنا رجل قتلت فاسترحتم مني، وإلا والله إن أحياني الله لاعودن حتى أضع رجلي في القيد.
وفعلا تفك قيده وتعطيه فرس سعد وسلاح سعد، فإذا بميدان المعركة يشهد فارسا يكر فيها يضرب ضرب المتحرف للقتال الذي جرب ألم الفطام منه. فيعجب سعد ويقول ما أرى:
الضرب ضرب أبي محجن والكرُ كر البلقاء (فرس سعد)، ولكن أبا محجن في القيد والبلقاء في الاسطبل.
وتنتهي المعركة ويأتي قواد المعركة يقدمون التقارير لسعد، فإذا به يسأل من الفارس الذي رايته كأبي محجن ضربا على فرس كالبلقاء؟
ويأتيه الجواب من سلمى ذلك أبو محجن وتلك البلقاء، أما كان في القيد؟ بلا ولكن كان من شنه كذا وكذا.
فيكبر سعد رضي الله عنه هذا الموقف، ويقوم خال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى أبي محجن يفك بيديه الطيبتين القيود من رجل أبي محجن ويقول: قم فو الله لا أجلدك في الخمر أبدا. فقال أبو محجن، سبحان الله لا أجلد في الخمر؟
كنت اشربها يوم كنت أطّهر بالجلد، أما الآن فو الله لا أشربها أبدا.
وكيف يجرئ أن يشربها وقد جرب عقوبتها التي كانت الحرمان من المشاركة في العمل للدين.
فهل نفقه نحن بكل أخطائنا وعيوبنا ونقائصنا أن كل ذلك لا يؤهل لأن ندع العمل للدين، بل ينبغي أن يخز قلوبنا بأن علينا أن لا نضيف ذنبا آخر وتقصيرا آخر وهو ترك العمل للدين.
رابعا/ العمل للدين موزع في أدوار بين المسلمين، وليس مسلم يعجز أن يجد له دورا.
يفاجئك كثير من المسلمين حينما تطرح عليه هذه القضية أن يتساءل أنا ما دوري؟
فلستُ بالعالم فأفتي الناس.
ولا بالخطيب فأخطب بالناس.
ولا بالداعيةِ فأدعُو الناس. ما دوري ؟
والجواب أنه ينبغي أن نزيلَ من أذهانِنا وهماً كبيراً وهو أن العملَ للدين هو العملُ الجماهيري فقط، العمل للدين في الخطبِ والمحاضرات والنوات ومجالس الإفتاء وبرنامج نور على الدرب. كلا.
العملُ لدين أدوارٌ كثيرةُ، ومسارب الدعوة بعددِ أنفاسنا.
أيها الأخ الكريم ألا رأيت إلى ذلك الطائرُ الأعجم الهدهد.
الذي كان يعيشُ في كنفِ سليمانَ عليه السلام، ذلك الرسول وذلك الملك الذي سخر اللهُ له الريحَ، وسخر له الجن، وأتاه ملكاً لم يؤته أحداً من العلمين.
لم يقل الهدهد ما دوري أنا بجانبِ هذا الرسول ؟
ما دوري أنا بجانبِ هذه الإمكانات ؟
ماذا أفعل يكفي أن أبقى طائراً في حاشيةِ الملك، كلا.
لقد جاء هذا الطائرُ إلى نبيِ اللهِ سليمانَ يخاطبه بكل ثقةٍ يقول:
( أحطتُ بما لم تحط به )، ثم يصف إنجازه فيقول:
( وجئتك من سبا بنباءٍ يقين، إني وجدتُ امرأةً تملِكُهم و أتيت من كلِ شيء، ولها عرشُ عظيم )
ما هي المشكلة:
( وجدتُها وقومَها يسجدون لشمسِ من دون الله، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ).
ثم يلقي خطاباً استنكارياً قائلاً :
( ألاْ يسجدوا لله الذي يخرج الخبو في السماوات والأرض ).
فإذا كان هذا الهدهد قد وجد له دورا، افتعجَزُ أنت بما آتاك الله من ملكات وقدرات أن تجدَ لك دوراً في خدمة هذا الدين والعمل له؟
ثم أنظر إلى ذلك الرجل الذي أخبرنا الله خبره، الرجل الذي جاء من أقصى المدينة، وفي المدينة ثلاثة رسل، أرسل الله إلى تلك المدينة ثلاثة رسل، ليس واحدا ولا أثنين بل ثلاثة.
ومع ذلك لم يقل هذا الرجل ما دوري بجوار ثلاثة من رسل الله. فجاء كما أخبر الله:
( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى، قال يا قوم أتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون)، فلم يفهم هذا الرجل أن وجود ثلاثة من رسل الله في ميدان واحد يعذره من الدعوة إلى الله، بل دعا مع دعوة ثلاثة رسل.
فوجود الدعاة في الساحة، ووجود العاملين في الساحة، لا يعذرك في القعود، بل يوجب عليك مسؤولية التعاون معهم ونشر دعوتهم وحمل رسالة الله ورسالة أنبياء الله التي يبلغونها.
خامسا/ أمثلة من الواقع ونماذج من العمل.(/7)
التي يمكن أن يقوم بها كل أحد وأن يقاس غيرها عليها، أذكرها سردا سريعا:
- الاهتمام والتوتر العاطفي:
هل بحثت داخل همومك وعواطفك عن هم الإسلام بينها ؟
كم تساوي مساحته في خارطة عواطفك واهتمامتك ؟
هل نلقاك في يوم من الأيام مشرق الوجه منطلق الأسارير يطفح البشر على محياك، ويفيض السرور على وجهك، فنسألك:
ما الذي سر خاطرك وأبهجك ؟
أنجحت في دراسة ؟ فتقول لا.
فنقول بارك الله عليك تزوجت ؟ فتقول لا.
فنقول لعلك كسبت في صفقة تجارية ؟ فتقول لا.
أبدا ليس شيء من ذلك ولكني فرحت بعز للإسلام سمعت به فهو الذي أفرحني.
هل نلقاك يوما مبتئسا كاسف البال حزينا مهموما، فنسألك:
أخسرت في تجارة ؟ أو رسبت في مادة ؟ أو مات لك قريب؟ فتجيب :
أبدا ليس شيء من ذلك ولكن آلمني وأغضبني وأحزنني أن حرمة من حرمات الله انتهكت.
أفلا يحزنني ذلك ؟ بلا والله يحزن وتنفت له القلوب كمدا إذا كان فيها حياة.
يقول سفيان الثوري رحمه الله:
( إن كنت لأرى المنكر لا أستطيع تغييره فأبول دماً )، تنفت كبده حرقة.
ليس الإنكار في القلب أمرا سلبيا مجردا، ولكن أن تذوب حشاشات النفس كمدا على حرمات الله أن تنتهك.
- هل يوجد هم الدين وقضيته في دعائك ؟
عندما تضع جبينك في الأرض تهاتف الله بدعائك ومسألتك وحاجاتك، لا يسمع أحد من خلق الله بنجواك وشكواك ودعائك إلا الله، لا يسمع بها إلا ربك، فإذا تذكر قضيتك وهمك والرسالة التي تعيش لها فتذكر دينك، فترفع إلى الله في سجودك الدعاء:
بأن يعز الإسلام وينصر المجاهدين.
ويؤيد الدعاة الصادقين ويخذل ويكبت كل من ناوأ الدعوة وكل من حاصر الكلمة وكل من وقف في وجه رسالة أنبياء الله.
هل رفعت إلى الله هذا الدعاء في سجودك؟هل رفعته إلى الله وأنت باسط يديك في أدبار الصلوات ؟
أيها الأخ المبارك، إن الله يقول:
( أمن يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء ).
فهل بعد هذه الضرورة التي تعيشها أمتنا ضرورة؟
وهل بعد هذا السوء الذي تعايشه الأمة سوء ؟
ومن الذي يكشفه غلا الله، ومن الذي يجيب ضرر هذه الأمة فيرفعه إلا الله.
النصارى أمسكوا بمقاليد أمتنا اليوم.
فإذا هم أولياء أمورنا، مصالحنا بأيديهم، قضايانا أوراقها في أيديهم.
اليهود الذين لم تقم لهم دولة
منذ آلاف السنين تجمعوا اليوم وأقاموا لهم دولة في أحضان أمتنا.
الرافضة مجوس هذه الأمة.
الذين عاشوا ألم القهر والخسف سنينا عددا وعقولا طوالا، إذا بهم اليوم يرفعون رايتهم ويستعلنون بدعوتهم ويمدون قضيتهم وعقيدتهم الكاسدة الفاسدة في أماكن من عقر دار الإسلام وعقر التوحيد حتى استعلنوا على صعيد عرفات بلعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
أبعد هذه ضرورة ؟
أبعد هذا السوء سوء؟.
فهل صدعنا السماء بالدعاء ؟ إن هذه الأمة لا تخلوا من عبد صالح لو أقسم على الله لأبره.
ولكن هل ضججنا بالدعاء ؟ هل حظر هم الدين وقضيته في دعاءنا؟؟
- توزيع الأشرطة والكتيبات.
هل عمدت أيها الأخ المبارك إلى راتبك فإن كان راتبك بالمئات أخرجت منه بالريالات، وإن كان راتبك بالألوف أخرجت منه بالعشرات، ولكن يكون موردا منتظما، تذهب إلى مكتبة التسجيلات لتشتري شريطا تنتفع به، فتذكر أنك صاحب دعوة وصاحب قضية فتقول:
هذا الشريط لي، ولكي داعية فأشتري شريطا آخر للدعوة من المصروف الثابت الذي عينته لذلك، كم شريطا سيوزع وكم كتبا سيوزع في مجتمعنا؟
إن اضخم شركة نشر ستعجز عن تضاهي هذا المجهود لو وجد في حياتنا.
- حلق تحفيظ القرآن الكريم.
هل تنادى لها شباب الصحوة ؟ الذين يتساءلون دائما، ما دورنا؟ هل انتدب لها فئام منهم فقالوا بلسان حالهم ومقالهم، سنكفي الأمة هذه الثغرة وعلى بقية الشباب أن يكفونا ثغرات أخرى.
فأقمنا حلق القرآن التي يوجد فيها الشباب الصالح الناصح الذي يعلم فتيان المسلمين القرآن.
القرآن وتعظيم من انزل القرآن.
القرآن وحب من جاء بالقرآن.
القرآن والولاء لأهل القرآن.
القرآن والبراءة من أعداء القرآن.
وإذا بنا نمارس خطة بعيدة المدى، بطيء لكنه فعال، فنجد أنفسنا بعد سنوات ندفع إلى الساحة بمئات الحفظة وعشرات من العلماء والفقهاء.
إننا قد تخلينا مع الأسف معاشر الشباب عن هذا الواجب، وعهدنا به إلى أخوة لنا يقوم حاجز اللغة بينهم وبين هذه الرسالة، أتينا بالعجمان من أنحاء شتى ليعلموا أبناءنا القرآن.
فعلموهم القرآن حروفا ولم يعلموهم القرآن قضايا. وهذه مسؤولية نتحنملها.
- مساعدة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
هل استشعرنا هذا الأمر، وأنه قضيتنا جميعا، وليس مسؤولية الرئاسة أبدا.
إنه مسئوليتنا جميعا بتكليف من الله جل جلاله، فإذا بالأمر بالمعروف يصبح واقعا حيا ملموسا في الحياة لا يحتاج إلى إن ولا إلى استئذان سلاحنا فيه الكلمة الطيبة، والكلمة الناصحة التي هي أحسن، وهي بضاعتنا وهي سلاحنا.
حين إذ سنجد أصحاب المنكرات يستخفون بمنكراتهم ولا يعلنونها، لأن الكلمة الناصحة والدعوة الخالصة تحاصرهم وتضيق على منكرهم.(/8)
- توزيع النصائح الكتابية.
النصائح الكتابية إلى أصحاب المنكرات خصوصا أصحاب المنكرات العلنية:
أصحاب مكتبات الفيديو.
أصحاب البقالات التي تبيع الدخان، والمجلات الخليعة
أصحاب المكتبات التي فيها الكتب المنحرفة، والمجلات المدمرة.
هل تواصلنا معهم بالرسائل الناصحة، وأنتدب الشباب إلى استكتاب العلماء النصائح التي تفيض بالأخوة والمحبة والولاء ثم قاموا بتوزيعها إليهم.
فإذا بصاحب المنكر يتلقى خطابا بإسمه الشخصي يخاطب فيه إيمانه ومحبته لله ولرسوله ويناشده أن يكفي الأمة هذا الدمار الذي بتاجر فيه.
إن هذا لو وجد لكان نوعا من الدعوة يحاصر المنكر ليقضي عليه.
- دعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
كم منا الذين يجيدون اللغات الأجنبية، ويتلمظون بكلماتها وبين كل ثلاث كلمات كلمة أجنبية، ثم يسال بعد ذلك ما دوري أنا فلست متخصصا حتى أخدم الإسلام؟
هل دعوة يوما من الأيام واحدا من غير المسلمين الذين تمتلئ بهم الشركات والمؤسسات والإدارات الحكومية؟
إنها أيها الأخوة فاحشة نقارفها عندما يأتي فئام من غير المسلمين، ويبقوا عندنا سنينا عددا، ثم يعود أحدهم ولم يسمع يوما واحدا شخصا واحد يدعوه إلى الإسلام.
ولذلك ( ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا )، عندما لم ندعوهم دعونا.
فرأينا النشرات التنصيرية والصلبان توزع على أبناء المسلمين في اللغة العربية وفي هجر نائية من قبل القوات المشتركة المشاركة في حرب الخليج.
أما نحن فدورنا في الدعوة مع الأسف لا زال دورا كسيحا، إنك تفاجئ عندما تسمع عن إسلام مجموعة من نصارى شرق أسيا، وتسأل كثيرا منهم هل دعاك أحد للإسلام؟
هل عرض عليك أحد الإسلام؟
فيقول لا ولكن فكرت فاهتديت أو رأيت منظرا فأعجبني.
ولقد عجبت عندما أخبرني أحد الأحباب المهتمين بدعوة غير المسلمين إلى الإسلام عن قصة إسلام شخص من الفلبين، قال له من دعاك إلى الإسلام؟ قال لا أحد.
قال ما رغبك في الإسلام؟
قال مررت بمسجد كانت دورة المياه خارجه، فرأيت شخصا يتوضأ فيغسل رجليه، فقلت هذا دين نظيف الذي يغسل أصحابه حتى أرجلهم. فاهتممت بالإسلام.
هذا المنظر الساذج البسيط كان سببا بهداية شخص، فما بالكم لو نفر فئام منا إلى هؤلاء فكاثروا عليهم النشرات ووزعوا عليهم المطويات، حتى من لم يسلم منهم على الأقل ثارت الشبه في فهمه، أة على الأقل قانت عليه الحجة.
- زيارة الشباب في أماكن تجمعهم.
هناك أماكن يتجمع فيها الشباب مثل الشواطئ والأرصفة والمنتزهات (والاستراحات) يتجمع فيها جموع من الشباب أسنانهم متقاربة، هوايتهم متقاربة من إخواننا الذين نحبهم ونرثي لحالهم ونشفق عليهم إذا رأينا طول غفلتهم.
هذه الفئات من المجتمع تحتاج منا إلى اختراق، أن نخترقهم وأقول عن تجربة أننا وجدنا كثيرا منهم ذوي معادن ثمينة ولكن علاها الصدى، فما أن تحك الصدى عنها حتى يتكشف لك معدن ثمين.
فهل قمنا بواجب اختراقهم وزرناهم في أماكن تجمعهم،ى سلام وطيب كلام وإهداء كتيب أو شريط.
إن هذا العمل سيكون عبارة عن اختراق تجمعات لا زالت تنظر إلى الشباب الصالح على أنه فئة مُغلقة على نفسها.
- الاستفادة من العلاقات الاجتماعية.
فالعلاقات الاجتماعية ( في مجتمعات المسلمين ) متميزة فلكل منا أعمام وأخوال وأرحام وأصهار وأزواج بنات وأزواج أخوات، كل هؤلاء تشبكه بهم علاقات متشابكة.
هل استغللنا هذه العلاقات وهذا الوضع الاجتماعي المتميز فقمنا بمسؤولية النفرة، وكل منا يقول أنا أكفي الأمة الإسلامية أسرتي ومجتمعي، فأنتدب للضالين منهم فأنصحهم، والمنحرفين منهم فأقومهم.
وأنشر الهداية في بيوتاتهم.
- مراعاة أحوال الناس الدنيوية.
في (مجتمعات المسلمين) الذي توجد فيه قصور مترفة، وأموال تضيق بها البنوك، توجد فيه حالات ترفع إلى السماء حاجتها وعوزها.
يوجدون أين ؟ في الحارات الشعبية في المدن الكبيرة، في الشوارع الخلفية في بيوت تعبس جدرانها في وجوههم بالشقوق التي تنذرهم بقرب انهيار المسكن، ومع ذلك لا يخرجون منه رغم إنذار الجدران لهم بضرورة الخروج لأنهم لا يجدون مسكنا غيره.
يوجدون في البراري، أعراب يعيشون مع أبلهم وغنمهم يطعمونها كما يطعمون أبناءهم من جيبوهم.
يوجدون على الساحل الغربي في تهامة. من حدود اليمن إلى شمال المملكة.
حالات من الفقر والعوز لا ندري كيف توجد مثل هذه الصور في مجتمعات مترفة تنفق فيها الملايين في الترف المدمر وليس الترف المباح.
من ينتدب لهم؟ ينتدب لهم أصحاب الإيمان، أصحاب القلوب الرحيمة الذين ينشرون كتاب الله فيقرؤون:
(وتواصوا بالمرحمة ) يقرؤون فيه: (أشداء على الكفار رحماء بينهم).
هل نفرت فئام من الشباب لمداواة هذه الجروح ولأمها؟ فكانوا رسل من أصحاب الموال الطيبة المباركة إلى أصحاب الحاجات يأسونها ويداوونها ويسدون هذه الخلة.(/9)
والله إنا لنخاف أن تحل بنا قارعة أو قريبا من دارنا إذا ارتفعت إلى السماء شكوى هؤلاء الفقراء في الوقت الذي ينغمس فيه أهل الترف في ترفهم وأهل اللهو في لهوهم وأهل اللذة في لذتهم وهم بيننا ويضاعف من محنتهم انهم فقراء في مجتمعات غنية.
- دور المرأة.
المرأة ينبغي أن تكون عونا لزوجها على طاعة الله، ينبغي أن تتحول البيوت إلى قلاع يكون للمرأة فيها دورها المؤثر، ولذلك قصص مشرقة في حياة الصحابة وحياة السلف يوم كان الرجل يخرج من بيته فتصحبه المرأة إلى الباب تودعه ببسمة وكلمة طيبة.
وليس الحال الآن-الله المستعان- يودع بقائمة من الطلبات ويستقبل بمجموعة من كتب الحسابات.
لا تودعه وهي توصيه بتقوى الله وتقول :
يا عبد الله اتقي الله فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على الحرام فلا تطعمنا إلا حلالا.
المرأة التي تكون عونا للزوج على طاعة الله
كما كنت أم سليم لأبي طلحة يوم مرض أبنها أبي عمير وهو فتى لطيف يحبه النبي (صلى الله عليه وسلم) ويداعبه بقوله: يا أبا عمير ما فعل النغير؟
فيبكي أبو عمير ويقول : مات يا رسول الله.
هذا الصبي مرض فانشغل به أبوه يسال عنه إن دخل قال ماذا فعل أبو عمير؟
وإن عاد من عمل قال ما فعل أبو عمير؟
فإذا بأبي عمير يموت وعنده أمة، إذا بهذه الأم المفجوعة تسجي أبنها ثم تعد الطعام لزوجها.
لا لم تعد الطعام فقط بل أعدت نفسها وتهيأت لزوجها.
جاء الزوج وسأل أول سؤال ما فعل أبو عمير؟
قالت هو اسكن ما كان، ولا حركة، فطمأن وقدمت له طعامه فأكل، فلما أكل وشبع أراد شيئا أخر فأصابه.
فلما انتهاء من هذا كله، تأتت له أحسن التأتي وقالت:
يا أبا طلحة ما تقول في أناس استعاروا عارية من جيرانهم، ثم جاءوا يطلبونها فأبوا ؟
قال سبحان الله لا يردون العارية.
قالت نعم لم يرضوا أن يردوا العارية.
قال لا يصير هذا ولا يمكن.
قالت إذا فأحتسب ابنك فهو عارية عندك وإن الله الذي وهبها قد استردها.
أُم تعاني الفجيعة، والثكل ومع ذلك تكابد هذا كله، وتتأتى مع زوجها لتكون عونا له للصبر والاحتساب.
أيها الأخت المسلمة:
هل تفقدتي زوجك في عمله لله ؟
هل كنتيِ عونا له على طاعة الله؟
هل سائلتيه قبل أن تسأليه عن طلبات المنزل وحاجات البيت عن عمله لله وماذا عمل؟
فكنتي عونا له على ذلك.
أيها الأحباب هذه نماذج وغيرها كثير، وكما قلت فهي بعدد أنفاسنا.
ومن العمل للدين أن تجلس تفكر ماذا أعمل للدين ؟
وتذهب وتسأل كيف أعمل للدين ؟
وتستشير ماذا تعمل للدين ؟ فهذا من العمل للدين.
أيها الأحباب:
إذا لم تستنفرنا هذه النماذج المشرقة من سير النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه وهم خير من قدم وأعطى، فخير من قدم وأعطى لمبدئه شباب محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأصحابه وأتباعه.
فينبغي أن يستثيرنا نفرت أهل الباطل إلى باطلهم، وحماس أهل الباطل لباطلهم.
اقرأ قصة لينين ودوره في إنشاء الجمهورية الشيوعية والكيان السوفيتي، عجب من العجب.
تعجب كيف عمل أهل الباطل لباطلهم.
انظر إلى عمل اليهود وتعصبهم وتكاتفهم، كل عملهم يصب في مصب واحد لإقامة دولة إسرائيل.
انظر إلى طلائع حزب البعث العربي الاشتراكي وكيف تربي طلائعها، حتى اللذة المحرمة التي هي جائزة عندهم لا يستطيعون الوصول إليها لأن الإنسان منهم مستغرق الوقت ومستنفذ الجهد للعمل للحزب وهو مبدأ أرضي لا ينتظر عليه جزاء يوم يلقى الله.
ألا يستنفرنا هذا لأن نعمل ونحن نجد اللذة في عملنا وننتظر الجزاء الأوفى يوم نلقى الله.
ألا يستنفرنا عمل أهل الدنيا لدنياهم، عمل أهل الملك لملكهم، أهل المال لمالهم، أهل الجاه لجاههم.
هذا العمل الذي جسده أبو الطيب يوم قال:
أُطاعن خيلا من فوارسها الدهر………..وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر
وأشجع مني كل يومٍ سلامتي……..وما ثبتت إلا وفي نفسها أمرُ
تمرست بالآفات حتى تركتها……….تقول أمات الموت أم ذعر الذعرُ
وأقدمت إقدام الأتي كأن لي…………..سوى مهجتي أو كان لي عندها وترُ
فتى لا يضم القلب همّات قلبه..….ولو ضمه قلب لما ضمه صدر
همات، لماذا ؟ لملك أو جاه أو مأرب دنيوي.
هذا العمل ينبغي أيها الأحباب أن يستثيرنا، ويستثيرنا معه أيضا استشعارنا حاجة الأمة للعمل للدين.
إن الدعاة والعلماء اليوم أصبحوا في وضع من المتأكد إن لم يكن من المتعين عليهم أن ينفروا إلى أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) يبثون فيها ميراثه، ولا يسع أحدا عالما أو داعية أو أي مسلما كائنا من كان أن يتذرع بعذر أو يتحجج بحجة، ليتحلل من العهد الذي أخذه الله على أهل العلم، والمسلمين أن يبينونه للناس ولا يكتمونه.
ولا يملك أحدا ولا يسعه أن يحول بين عالم أو داعية وبين بلاغات رسالات الله.
بل لا يسع داعية أن يقدم قول أحد أو أمره على أمر محمد (صلى الله عليه وسلم). يوم قال:
(بلغوا غني ولو آية ).(/10)
إن العمل للدين ليس وظيفة تصدر برقم وتاريخ ولكنه صدرت بمرسوم رباني كريم برقم 125 من سورة النحل. (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظةِ الحسنةِ وجادلهم بالتي هي أحسن ).
إن العمل للدين ينبغي أن يبقى ظاهرا في حياتنا تراه:
في شاب يوزع شريطا أو كتابا.
تراه في شاب يبلغ كلمة.
تراه في موقف يعلن إنكار منكر.
تراه هنا وهنا وهناك.
إن العمل للدين أمر لا نستخفي به ولا نتستر عليه، بل ينبغي أن تبقى ساحتنا ساحة فوارة بالعمل الضخم للدين تراه في كل فلته وفي كل لفتة.
تراه في برنامج كل شاب.
تراه في برنامج كل مسلم.
أقول قولي هذا وأسأل الله جل جلاله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه هل طاعته حتى لا يكون حد أعزا منهم.
ويذل فيه أهل معصيته حتى لا يكون أحد أذل منهم.
وترفع فيه كلمة الحق حتى لا تكون كلمة أعلى منها، وتقهر فيه كلمة الباطل حتى يخزى بها أهلها وتبقى حبيسة في صدور أصحابه، وحتى تقال كلمة الحق في كل مجمع وفي كل محفل وعى كل منبر وفي كل منتدى لا يخشى قائلها في الله لومة لائم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله وسلم وبارك على النبي وآله وسلم تسليما كثيرا
(نقلاً عن موقع شبكة الدعوة الإسلامية)(/11)
العناية بالأولاد
142
الأبناء
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
ملخص الخطبة
1- تربية الأولاد واجب شرعي 2- طلب الزوجة الصالحة والزوج الصالحة 3- إلحاح الزوجين في الدعاء وسؤال صلاح الولد والذريّة 4- تعليم الرسول لعمر بن أبي سلمة 5- العدل بين الأولاد
الخطبة الأولى
أما بعد، أيها الناس، اتقوا الله في جميع أحوالكم؛ فإن تقوى الله خير ما اتصفتم به في حياتكم، وتزودوا به لمعادكم، واحفظوا وصية الله لكم في أولادكم؛ فإنهم من أعظم أماناتكم: وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:8-11].
عباد الله، يقول الله ـ تعالى ـ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ [سورة النساء:11]. ويقول ـ جل ذكره ـ: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون [التحريم:6].
ويقول ـ سبحانه ـ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
فأوصاكم الله في أولادكم وذويكم خيراً أن تنشئوهم على الطاعة، وأن تجنبوهم المعصية، وأن تأمروهم بالصلاة، وأن تشغلوا أوقاتهم بكل ما تحمد عاقبته، وأن تؤدبوا من خالف الحق واتبع الهوى، يقول : ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع))[1].
عباد الله، إن أول العناية بالأولاد وحفظ الوصية فيهم، أن يسأل كل من الرجل والمرأة ربه أن يرزقه زوجاً يكون له قرة عين، ويطلب من الأزواج مرضيَّ الخلق والدين، يقول الله ـ تعالى ـ في محكم القرآن في معرض الثناء على عباد الرحمن: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
وذكر ـ سبحانه ـ عن موسى عليه السلام، وقد رأى من بنات الرجل الصالح الأدب والعفة والبعد عن مظان الريبة، أنه قال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [سورة القصص:24]. فهذا أصل في الضراعة إلى الله ـ تعالى ـ بطلب الزوج الصالح الذي يعين على الطاعة ويصون عن القبائح، وثبت أنه قال للزوج: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [2]، وقال لأولياء المرأة: ((إذا جاءكم من ترضون دينه…))[3] الحديث.
عباد الله، وثاني تلك الأمور التي هي من أسباب الغبطة والسرور، أن يلح كل من الزوجين على ربهما سؤال الأولاد الصالحين، كما حكى الله عن إبراهيم الخليل أنه قال: رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ [الصافات:100]. وقال: رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصلاةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]. وقال هو وإسماعيل: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ [البقرة:128]. وقال ـ سبحانه ـ عن زكريا: رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء [آل عمران:38]. وقبل ذلك ذكر ـ سبحانه ـ عن الأبوين ـ عليهما السلام ـ أنهما قالا: لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:189].
فدل ذلك على أن هبة الولد الصالح من أجلِّ النعم وأسبغ ألوان الكرم، كيف لا وابن آدم إذا مات: ((انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) [4].
عباد الله، ومِن حفظ وصية الله في الأهل والأولاد، أن تخلص الدعاء لهم بالخير جهدك، وأن لا تدعو عليهم أبداً ولو في حال سخطك؛ فإن دعاء الوالد للولد أو عليه مستجاب كما أخبر ـ سبحانه ـ عن إبراهيم أنه دعا له ولذريته فقال: وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ [إبراهيم:35]. فاستجاب الله له وجعل ذريته أنبياء هداة للأنام، وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)) [5].
أيها الآباء وأيتها الأمهات، اعتنوا بأولادكم وربوهم تربية صالحة تكونوا من الشاكرين، ويكونوا لكم ذخرا في الموازين. ولو كانوا في حال الصغر؛ فإن العلم في الصغر كالنقش على الحجر في الثبات وبقاء الأثر، فقد صح أن الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ كان طفلاَ صغيرا يحبو على الأرض، فأخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال : ((كخ كخ ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة)) [6].(/1)
وقال عمرو بن سلمة ـ رضي الله عنهما ـ: كنت غلاما في حجر رسول الله ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : ((يا غلام، سمِّ الله ـ تعالى ـ، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) [7]، فما زالت تلك طعمتي بعد. وقال : ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع)) [8].
وأمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يفرق بينهم في المضاجع دفعا للمفسدة، وحذرا من الفتنة، وتنبيها للأمة على واجب الصيانة وحفظ الديانة.
أيها المسلمون، ومن حق أولادكم عليكم أن تعدلوا بينهم في العطايا، قال : ((إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم)) [9]، وكان السلف يستحبون أن يعدلوا بين أولادهم في القبلة، وأصل ذلك أن أحد الصحابة خص أحد أولاده بصدقة وأراد أن يشهد النبي عليها فقال له النبي : ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا، قال: ((أفتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟)) قال: نعم، قال: ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) [10]، وفي رواية قال : ((أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور)) [11]، وفي لفظ: ((إلاَّ على الحق)) [12]. فرجع ذلك الرجل في صدقته وعدل بين أولاده في عطيته.
ألا فاتقوا الله معشر العباد، واحفظوا وصية الله لكم في الأولاد، وتذكروا موقفكم يوم المعاد يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [الدخان:41].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والبيان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين والمسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
[1] صحيح ، أخرجه أحمد (2/187) ، وأبو داود (495) ، والحاكم (1/197).
[2] أخرجه البخاري ح (5090) ، ومسلم ح (1466).
[3] حسن ، أخرجه الترمذي ح (1085).
[4] أخرجه مسلم ح (3084).
[5] صحيح مسلم ح (3014).
[6] أخرجه البخاري ح (1396) ، ومسلم ح (1069).
[7] أخرجه البخاري ح (4957) ، ومسلم ح (2022).
[8] تقدم تخريجه قريباً.
[9] أخرجه أحمد (4/269) ، وأبو داود ح (3542). وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني قال الحافظ: ليس بالقوي. التقريب (6520).
[10] أخرجه البخاري ح (2398) ، ومسلم ح (1623) بنحوه,
[11] أخرجه البخاري ح (2456) ، ومسلم ح (1623).
[12] أخرج هذه الرواية عبد الرزاق في مصنفه ح (16496) ولكنها مرسلة.(/2)
... ... ...
العنوسة ... ... ... ... ...
صالح الونيان ... ... ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1 – الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد 2 – الزواج فطرة قبل أن يكون شرعة 3 – الشريعة جاءت موافقة للفطرة ومهذبة لها 4 – فوائد النكاح – اسباب ظهور العنوسة 5 – التحذير من عضل النساء – اسباب عضل البنات ومنعهن من الزواج ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
أيها المسلمون!
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله!
مما لا شك فيه أن دين الإسلام الحنيف جاء بكل ما فيه مصلحة للفرد والمجتمع، وأمر به، وحث عليه، وحذر من كل ما فيه مضرة ومن الأمور التي حث عليها الإسلام ورغب فيها لما فيها من المصالح الزواج؛ فقد ورد الأمر بذلك في العديد من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية:
قال تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع [النساء:3].
وقال تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم [النور:32].
عباد الله!
ومما ينبغي أن يعلم أن الزواج فطرة قبل أن يكون شرعة؛ فهو فطرة أودعها الله الخلق يوم خلقه:
قال تعالى: سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [يس:36].
وقال تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون [الذاريات:49].
والإنسان أشرف من خلق الله، اشتمل على نفس التكوين ذكر وأنثى، وفطر كل شطر بالميل إلى الشطر الآخر، وقد ذكرنا الله تعالى بأصلنا ليزداد إيماننا وشكرنا.
قال تعالى: هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكون من الشاكرين % فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون [الأعراف:189-190].
عباد الله!
وحري بدين الإسلام الذي راعى مصلحة الفرد والمجتمع أن لا يصادم هذه الفطرة، وهذا هو ما حصل؛ فالإسلام هذب هذه الفطرة ولم يصادمها، فشرع التقاء الرجل بالمرأة التقاء شرعياً عن طريق عقد النكاح، وبه يحصل غض البصر وحفظ الفرج والعون على الطاعة والتسابق في الخيرات، وبه تقام الأسرة التي جعلها الإسلام لبنة المجتمع، ومنه النسل المبارك الذي به تباهي أمة محمد ، ويباهي به رسول الله الأمم يوم القيامة:
قال : ((يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة؛ فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج))1.
وعن أنس بن مالك؛ قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي ، فلما أخبروا، كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا؛ فأصلي الليل أبداً. وقال آخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: وأما أنا فأعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله ، فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني))2.
وفي الزواج عدة فوائد: الولد، وكسر الشهوة، وتدبير المنزل، وكثرة العشيرة، ومجاهدة النفس بالقيام بهن، وهو مصدر سعادة الطرفين؛ لأن فيه سكناً، وفي السكن طمأنينة وراحة، وفي السكن سكون للنفس.
عباد الله!
وإذا كان الإسلام قد رغب في الزواج وحث عليه؛ فإنه قد نهى عن الامتناع منه، وحذر الأولياء من ظلم مولياتهم ومنعهن من التزوج أو الحجر عليهن، فقال تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:232]. وذلك لما يترتب على منع المرأة من الزواج من المفاسد والمضار التي تعود عليها وعلى المجتمع المسلم.
عباد الله!
هناك ظاهرة خطيرة، بدت بوادرها في مجتمعنا، وهي ناشئة من تصرف خاطئ لبعض الأولياء، وهذه الظاهرة هي ما يسمى بـ (العنوسة)، وهي أن تبلغ البنت من الكبر عتياً، وتذهب نضارتها، وتذبل زهرة شبابها، وهي لم تتزوج، حتى وجد بعض الفتيات اللاتي أعمارهن من الثلاثين إلى الأربعين ولم يتزوجن ليسمعن من يناديهن: يا أماه! ومن هذه حالها؛ لو لم يأت لها الخطاب؛ لقلنا: على وليها أن يبحث لها عن كفء يحفظ له هذه العورة.
عباد الله!
وهذه الظاهرة ترجع إلى أمرين:
أحدهما: من تصرف البنت نفسها؛ حيث إنها خدعت أولاً، فقالت: لا أريد أن أتزوج حتى أكمل دراستي!! وهذا في نظري غزو فكري عن طريق المجلات الوافدة والقصص والأفلام التي تحذر من الزواج المبكر، حتى إذا تقدمت بالفتاة السن؛ عزف عنها من تريد، وعزفت عمن يريدها، حتى تقدم بها سنها زيادة، فأوشكت أن تبلغ سن الإياس، والسعيد من وعظ بغيره.(/1)
وما تلك الصيحة التي أطلقتها إحدى الطبيبات عبر (مجلة اليمامة)، والتي قالت فيها: خذوا شهادتي وأسمعوني كلمة ماما!! إلا جرس إنذار لمن عقل.
فكم من فتاة ظنت أن الزواج يتعارض مع الدراسة، وهذا وهم رفضت على أساسه الزواج أيام دراستها، وظنت أنها متى طلبت الزواج؛ كان ذلك سهلاً مهما بلغت من العمر، فخانها تقديرها، وتقدم بها عمرها، فأصبحت حبيسة بيت أهلها، وعضت أصابع الندم، ويزداد ندمها وحسرتها حينما ترى من هن في سنها قد أصبحن أمهات لأولاد، ولم يتأخرن في الدراسة.
عباد الله!
الأمر الثاني في تأخر بعض الفتيات عن الزواج حتى يتقدم بهن العمر: يرجع إلى تصرف وليها الخاطئ؛ فأحياناً يسند الولي الأمر في الاختيار إلى النساء، ويكون دوره تنفيذياً، وغالبا ما تكون نظرة بعض النساء قاصرة، فيرد كفء البنت، وهو صاحب الدين؛ بناء على مقاييس تحددها بعض النساء؛ كالجاه، والمال، والقرابة، والوظيفة؛ بغض النظر عن الدين، وقد لا يأتى أحد هؤلاء، فيطلبوا انتظاره، والزمن يمر سريعاً، وقد يأتي من فيه إحدى الصفات التي حددوها، ومن ثم يوافق عليه، فيتزوج، ثم لا تستقيم الأحوال، فترجع إلى بيت أهلها مطلقة.
ثم تتعنت بعض النساء وتطلب مستحيلاً، والضحية هي تلك البنت التي لا زوج لها، ومن كان زمامها بيده من النساء مع زوجها آمنة مستقرة هادئة البال مرتاحة الضمير، ولو قيل لها، وطلب منها الإسراع في تزويج هذه البنت؛ لقالت: العجلة مذمومة، ليس هناك داع للعجلة، والضحية هي تلك الزهرة التي قد تصبح هشيماً، قبل أن يأتي من يقطفها.
فالمرأة ضعيفة، وهي محتاجة إلى قوامة الرجل وبعد نظره؛ قال تعالى: الرجال قوامون على النساء ….. [النساء:34].
1 رواه البخارى .
2 رواه البخارى . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله الذي بدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، وأحسنوا؛ إن الله يحب المحسنين.
عباد الله!
ومن التصرفات الخاطئة لبعض الأولياء، والتي هي سبب في تأخر بعض الفتيات عن الزواج إلى أن يتقدم بهن العمر: تعنت بعض الأولياء الظلمة، ورد الأكفاء، وهذا يرجع في نظري إلى أمرين:
الأول: طمع هذا الولي في مال ابنته أو أخته إن كانت ذات مال؛ كأن تكون موظفة مثلا، فيعلم أنها إذا تزوجت؛ فقد ذلك المال؛ لذلك نسمع أحياناً من يزوج ابنته ويشترط جزء من مرتبها.
فيا سبحان الله! كيف يجرؤ إنسان مؤمن يعلم فطرة المرأة وغريزتها ومع ذلك يمنعها من الزواج ليستفيد من مالها، هي تكدح وهو يأخذ ويتفكه وقد حكم عليها بالسجن المؤبد إلى أن يأذن الله بالفرج؟!
الأمر الثاني: هو طلب وليها مهراً خيالياً، وهذه عقبة كؤد، جعلت كثيراً من الفتيات مخدرات في البيوت، وكثير من الشباب عزفوا عن الزواج بسبب ذلك العنت؛ فخير الأزواج عند ذلك الولي هو من يدفع أكثر، مهما كان التزامه، ومهما كانت أخلاقه، حتى صار الزواج عند بعض الشباب من الأمور المستحيلة أو الشاقة؛ إلا بديون تثقل كاهل الشباب، ولا يجد لها وفاءً.
فينبغي لمن يفعل هذا من الأولياء أن يفكر ملياً: هل البنت أصبحت سلعة كسائر السلع تدخل مزاداً علنياً؟! كلا؛ هي أكرم من ذلك.
ومع ذلك يتعذر البعض بأن ابن فلان بلغ من الكبر عتياً ولم يتزوج أو أنه تزوج أجنبية، ولكن لم يفكر أن فعله هذا هو الذي حدا بابن فلان أن يفعل ذلك الفعل، ولو عقلوا؛ لذهب الواحد منهم يبحث عن كفء لابنته، وليكن لهم قدوة في سلفنا الصالح:
فعمر الفاروق أمير المؤمنين لما أراد أن يزوج ابنته حفصة، عرضها على أبي بكر ليتزوجها، ثم على عثمان؛ لعلمه بصلاحهما.
أما علم أولئك الأولياء أن أعظم النكاح بركة أيسره مئونة؟!
أما علموا أنهم سيسألون عن هذه الأمانة؟!
أنزعت الرحمة من قلوبهم، ولا تنزع الرحمة إلا من شقي؟!
عباد الله!
ولقد حدثني من به أثق أن فتاة بلغت الأربعين أو قاربت ولم تتزوج، وأخواتها يقاربنها في السن، كذلك حدثني أنها رأت طفلاً تحمله أمه، فذرفت الدموع من عينيها، وهي تشتكي إلى الله ما فعل بها أقرب الناس إليها؛ حيث منعها من أداء رسالتها، وحكم عليها بالسجن داخل بيته حتى أيست.
عباد الله!
قال الرسول : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه؛ فأنكحوه، إلا تفعلوا؛ تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))3.
لنتساءل – عباد الله! – ما هذا الفساد والفتنة؟!
إن هذا الفساد يحدث إذا منعت المرأة من كفئها؛ فكيف إذا منعت بتاتا؟!
واليوم كثرت المغريات والمثيرات؛ فصور تثير الغرائز، وأفلام وقصص وأغاني تفجر بركان الجنس، وخلوات وخدم وسائقين ومغريات أخر؛ فرحمة بالفتيات والشباب يا أولياء أمور النساء! خذوا على أيديهم واقتادوهم إلى حيث الصلاح.
عباد الله!(/2)
والله؛ إن المسلم إذا رأى هذه المغريات، ورأى هذه التصرفات الفتاكة بمجتمعنا، يعتصر قلبه، وما تكلمت عن هذا الموضوع إلا نتيجة شكاوى متعددة وطلب مساعدات مالية من كثير من الشباب ممن حافظوا على أنفسهم.
فكل مسلم مطالب بإيجاد حل لهذه المشكلة العصيبة؛ فوالد الفتيات عليه أن يبحث عن الكفاءة ويخفف المهور، وصاحب الأقمشة وبائع الكماليات مطالبون بالمساعدة بالمال أو بالتخفيض من أسعار السلع لحديثي الزواج، وصاحب السكن مطالب بتخفيض الأجرة، حتى يكون مجتمعنا كما قال الرسول : ((كالبنيان يشد بعضه بعضاً))4.
اللهم! هل بلغت؟ اللهم! فاشهد.
اللهم! اهدنا، ويسر الهدى لنا، وأصلح ذرياتنا وبناتنا.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.
اللهم! اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم! أغثنا.
ربنا! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً؛ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر؛ إنك سميع الدعاء.
عباد الله!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
3الحديث: ((اذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه الا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد)) قالوا: يا رسول الله وان كان فيه قال: ((اذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه، فأنكحوه)) ثلاث مرات.
4 اخرجه الترمذى في (النكاح، حديث رقم 1085) من حديث أبى حاتم المزنى رضى الله عنه وهو حديث حسن. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
العواصم من الفتن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد..
فنحن نعيش في زمن كثرت فيه الفتن، وأصبح المسلم يرى الفتن بكرة وعشياً، وعمَّ في هذا الزمان من البلايا والمحن والنوازل والخطوب الجسام الشيء الكثير، وكل ذلك بسبب ما آل إليه حال الإسلام والمسلمين من ضياع وتشتت لبعدهم عن منهج الإسلام، وتسلط الأمم الكافرة ، وتفشي المنكرات في بلاد المسلمين.
ومن هنا كان لزاماً علينا معرفة منهج سلفنا الصالح في مواجهة الفتن وكيف يتعاملون معها عند وقوعها، لأن الفتن إذا لم يُرعَ حالها ، ولم ينظر إلى نتائجها فإن الحال سوف تكون حال سوء في المستقبل إلا أن يشاء الله غير ذلك ، ومن هذا المنطلق سوف أذكر بمشيئة الله تعالى بعض مواقف السلف الصالح ونهجهم وكيفية تعاملهم مع الفتن والمحن عند وقوعها حتى يكون المسلم على بصيرة من أمره ودينه ، والله نسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ذكر بعض الأحاديث والسنن في الفتن:
1- عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بادروا الأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا".
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج، وقالوا: ومالهرج يا رسول الله ؟ قال: القتل "
3- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ رسول الله ليلة فزعاً يقول:سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن وماذا أنزل من الفتن ؟ من يوقظ صواحب الحجرات لكي يصلين فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة ".
4-عن عبد الله في سفر فمنّا من يصلح خباءه ومنا من يتنضل ومنا من هو في جشره إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتنة يرقق بعضها بعضاً وتجيء الفتنه فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله وباليوم الآخر"
5- عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تعرض الفتن كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه ".
مواقف السلف عند الفتن:
ومن رحمة الله عز وجل بنا أن بينَّ لنا السنة العلمية التي عمل به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وأئمة السلف عندما يستجد شيء من الحوادث والفتن وكيف تعاملوا معها حتى نقتفي أثرهم ونسير على نهجهم، ومن سار خلف مهتدٍ ووفق الأدلة الشرعية فلن يندم أبداً.
أولا: الاعتصام بالكتاب والسنة:
فإنه ل انجاة للأمة من الفتن والشدائد التي حلت بها إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة ، لأن من تمسك بهما أنجاه الله ومن دعا إليهما هُدِيَ إلى صراط مستقيم. يقول الله تعالى: ( وِاْعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) الآية.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي" ويقول صلى الله عليه وسلم: " إنها ستكون فتنة، قالوا: وما نصنع يا رسول الله، قال: ترجعون إلى أمركم الأول ".
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: وطريق النجاة من الفتن هو التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما رُوي ذلك عن علي مرفوعاً: تكون فتن: قيل: ما المخرج يا رسول الله؟ قال ك كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم.
وإليك أنموذجاً من سيرة سلفنا الصالح في حرصهم على الاعتصام بالكتاب والسنة عند وقوع الفتن والمحن ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: لما وقع من أمر عثمان ما كان وتكلم الناس في أمره أتيت أبي بن كعب فقلت: أبا المنذر ما المخرج ؟ قال: كتاب الله.
ثانياً: الالتفاف حول العلماء(/1)
أولئك العلماء الربانيون أئمة أهل السنة والجماعة في وقتهم، فالالتفاف حولهم عامل معين على عدم الزيغ والانحراف في وقت الفتن، وكيف لا وهم أنصار شرع الله والذين يبينون للناس الحق من الباطل والهدى من الضلال ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر"، فلا بد من الالتفاف حولهم بحضور حِلَقِهِم العلمية وزيارتهم زيارات دورية حتى لا تنقطع علاقاتنا بهم، وحتى لا يجد أعداء الإِسلام فجوة يستطيعون الدخول عن طريقها للنخر في الإِسلام، وقد حدثت في التاريخ الإِسلامي فتن ثّبت الله فيها المسلمين بعلمائهم ومن ذلك ما قاله علي بن المديني رحمه الله:" أعز الله الدين بالصديق يوم الردة وبأحمد يوم المحنة ".
فيا شباب الإَسلام التفوا حول علمائكم فإنهم القدوة ، والمربّون وهم العون لكم بعد الله في هذا الطريق وفي هذه الفتن، فالزموهم وعيشوا في أكنافهم ، وإياكم والوحدة فتتخطفكم الشياطين فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ، ولا تتركوا مجالاً لأعداء الإِسلام يبثوا سمومهم ومقالاتهم لزعزعة الثقة بين العلماء والمجتمع وبين العلماء وشباب الإسلام ، وقد كان السلف الصالح عند تغير الأحوال يلتفون حول علمائهم وإليك نماذج من ذلك.
1. عن بشير بن عمرو قال: شيَّعنا ابن مسعود حين خرج، فنزل في طريق القادسية فدخل بستاناً فقضى حاجته ثم تؤضأ ومسح على جوربيه ثم خرج وإن لحيته ليقطر منها الماء فقلنا له: اعهد إلينا فإن الناس قد وقعوا في الفتن ولا ندري هل نلقاك أم لا، قال: اتقوا الله وأصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة.
2. عندما دخل أبو موسى الأشعرى المسجد وإذا به يرى أناساً متحلقين في المسجد في كل حلقة واحد يرمون بحصىً معهم كلما رموا بحصاة قالوا: كِّبروا الله مائة، فذهب أبو موسى إلى ابن مسعود: فبماذا أمرتهم ؟ فقال أبو موسى: ما قلت لهم شيئاً انتظار أمرك.
3. ما ذكره ابن القيم عن دور شيخه شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله في التثبيت: " وكنا إذا إشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا ".
ثالثا: لزوم الجماعة
يقول الله تعالى: ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا )
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة "ويقول عليه الصلاة والسلام: " الجماعة رحمة والفرقة عذاب"
فالمخرج عند حدوث الفتن والحوادث لزوم جماعة المسلمين ، والجماعة ليست بالكثرة ولكن من كان على منهج أهل السنة والجماعة فهو الجماعة ، يقول عبد الله بن مسعود: لو أن فقيهاً على رأس جبل لكان هو الجماعة ، ولذلك سطر السلف الصالح عبر التاريخ هذا المبدأ ، وإن من طرق النجاة من الفتن والحوادث لزوم جماعة المسلمين وإليك نماذج من ذلك:
1- قال حذيفة رضي الله عنه:" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير كنت أسأله عن الشر مخافة أن يد ركني، فقلت: يا رسول الله إنَّا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه ؟ قال قوم يهدون بغير هدى تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم "
2- عندما كان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود في الحج مع عثمان، وكان عثمان يتم الصلاة في منى وكان ابن مسعود يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في منى ركعتين. فقيل له: تقول هذا وأنت تصلي مع عثمان أربع ركعات ؟ فقال: يا هذا الخلاف شر"
3- عن عبد الله بن رباح قال: دخلت أنا وأبو قتادة على عثمان وهو محصور فاستأذناه في الحج، فأذن لنا، فقلنا: يا أمير المؤمنين قد حضر من هؤلاء ما قد ترى فما تأمرنا ؟ قال: عليكم بالجماعة "
رابعاً: التسلح بالعلم الشرعي:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج، قالوا:وماالهرج يا رسول الله ؟ قال: القتل ".، وقال عليه الصلاة والسلام: إنَّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ، وقال عليه الصلاة والسلام:" إنه سيصيب أمتي في آخر الزمان بلاء شديد لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله فجاهد عليه بلسانه وقلبه "
فالعلم الشرعي مطلب مهم في مواجهة الفتن حتى يكون المسلم على بصيرة من أمر دينه وإذا فقد المسلم العلم الشرعي تخبط في هذه الفتن ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" إذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن وحدثت البدع والفجور ووقع الشر بينهم ".
خامساً: التأني والرفق والحلم وعدم العجلة:(/2)
فالتأني والرفق والحلم عند الفتن وتغير الأحوال محمود لأنه يُمكِّن المسلم من رؤية الأشياء على حقيقتها وأن يبصر الأمور على ماهي عليه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إنه ماكان الرفق في شيء إلا زانه ولانزع من شيء إلا شانه" ويقول عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس:" إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة ".
فعلينا جميعاً بالرفق في الأفكار والمواقف وفي كل ما يجد من الحوادث وعدم العجلة فإنها ليست من منهج الأمة الإِسلامية وخاصة في زمن الفتن وهذه نماذج من سلفنا الصالح في الحرص على التأني وعدم العجلة زمن الفتن: عن الليث بن سعد عن موسى بن علي عن أبيه أن المستورد القرشي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" تقوم الساعة والروم أكثر الناس، قال عمرو بن العاص: أبصر ما تقول، قال: المستورد ومالي لا أقول ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عمرو: إن كان ما تقول فلأن الروم فيهم أربع خصال: الأولى، أنهم أحلم الناس عند فتنة وعدَّ الخصال الأربع" ، قال أهل العلم:كلام عمرو بن العاص لا يدل على ثنائه على الروم ولكن ليبين للمسلمين أن بقاء الروم لأنهم عند الفتن فيهم من الحلم الذي يجعلهم ينظرون إلى الأمور ويعالجونها.
سادساً: الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام:
فمهما إدلهمت الظلمات ومهما اشتدت الفتن وأحدقت بنا فإن المستقبل لهذا الدين:
يقول الله تعالى: ( حَتَّى إِذَا اْسَتيئسَ الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ) ، ونحن نحتاج لهذا المبدأ كثيراً عند وقوع الفتن حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها وكلما ازداد الليل ظلمة أيقنا بقرب الفجر ، وإليك نماذج من سلفنا الصالح على أهمية هذا الأمر:
لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثبت أصحابه المعذبين أخبرهم بأن المستقبل للإسلام، وزرع في قلوبهم الثقة بنصر الله عز وجل.
جاء في حديث خباب مرفوعاً عند البخاري أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا ؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ".، فَعَرْضُ أحاديث البشارة بأن المستقبل للإسلام مهم في زمن الفتن والحوادث.
سابعاً: النظر في عواقب الأمور:
ففي زمن الفتن ليس كل مقال يبدو لك حسناً تظهره ولا كل فعل يبدو لك حسناً تفعله، لأن القول أو الفعل زمن الفتنة يترتب عليه أمور، يفهم بعضهم أشياء لا تبلغها عقولهم ويبنون عليها اعتقادات أو أعمالاً أو أقوالاً لا تكون عاقبتها حميدة وسلفنا الصالح أحبوا السلامة في الفتن فسكتوا عن أشياء كثيرة طلباً للسلامة في دينهم وإليك نماذج من سيرتهم العطرة:
1. قال أبو هريرة رضي الله عنه: " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين ، أما أحدهما: فبثثته ، وأما الآخر: فلو بثثته لقطع هذا الحلقوم " قال أهل العلم كتم أبو هريرة بعض الأحاديث لأجل أن لا يكون هناك فتنة وخصوصاً بعد أن اجتمع الناس على معاوية بعد فرقة.
2. لما حدَّث أنس بن مالك بحديث قتل الرسول للعرنيين زمن الحجاج أنكر عليه الحسن البصري التابعي الجليل لأن الحجاج عاث في الدماء،وربما أخذ هذا الحديث وتأوله على صنيعه فكان الواجب كتم الحديث عن الحجاج.
3. وعندما حوصرعثمان بن عفان رضي الله عنه في زمن الفتنة وقف بعض الصحابة يريدون الدفاع عنه كعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وأبي هريرة وغيرهم، فقال رضي الله عنه: " أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله" ولو تركهم رضي الله عنه لمنعوه ولدافعوا عنه ولكن نظر إلى عاقبة الأمر وأنه ربما يحصل سفك دماء فاختار أن يكون خيرَ ابنيّ آدم.
ثامنا: الصبر:
نحتاج إلى الصبر كثيراً، وخصوصاً عند الفتن. يقول الله تعالى: ( ولنبلوكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) ويقول صلى الله عليه وسلم:" إن من ورائكم أيام الصبر، الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم أو خمسين منّا ؟ قال: خمسين منكم " ، وكما في حديث سمرة بن جندب قال: " كان يأمرنا إذا فزعنا بالصبر والجماعة والسكينة".
وبالصبر يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم وبين ذوي الجبن والضعف ولذلك وَعَى السلف الصالح أهمية الصبر عند وقوع الفتن والحوادث وإليك نماذج مْن سيرتهم.(/3)
1- لما كان الصحابة رضي الله عنهم يعذبون ويفُتنون في صدر الإسلام بمكة كان يمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ويذكرهم بالصبر ومنهم آل ياسر فإذا مر بهم قال: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة.
2- عن الزبير بن عدي قال: دخلنا على أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: اصبروا، لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعت هذا من نبيكم.
3- قال النعمان بن بشير:" إنه لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتن فأعدوا للبلاء صبراً "
4- عندما واجه إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل الفتنة العمياء بخلق القرآن في أيام المأمون ثم المعتصم ثم الواثق وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد فصبر وتمسك بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم حتى نصره الله وفرَّج عنه الغمة.
تاسعاً:الحذر من الإشاعات:
لا شك أنه في وقت الفتن تنشط الدعاية وتكثر الإِثارة وهنا يأتي دور الإِشاعة.ومن المعلوم أن التثبت مطلب شرعي لقوله تعالى: ( يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبا فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) ويقول عليه الصلاة والسلام: " كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع" ، ولذلك حرص سلفنا الصالح على التثبت والحذر من الإشاعات ، قال عمر رضي الله عنه:" إياكم والفتن فإن وقع اللسان فيها مثل وقع السيف".
ولقد سطَّر التاريخ خطر الإِشاعة إذا دبت في الأمة وإليك أمثلة من ذلك:
1. لما هاجر الصحابة من مكة إلى الحبشة وكانوا في أمان، أُشيع أن كفار قريش في مكة أسلموا فخرج بعض الصحابة من الحبشة وتكبدوا عناء الطريق حتى وصلوا إلى مكة ووجدوا الخبر غير صحيح ولاقوا من صناديد قريش التعذيب وكل ذلك بسبب الإِشاعة.
2. في غزوة أحد لما قتل مصعب بن عمير أشيع أنه الرسول صلى الله عليه وسلم،وقيل قتل رسول الله فانكفأ جيش الإِسلام بسبب الإِشاعة.
3. إشاعة حادثة الإِفك التي اتهمت فيها عائشة البريئة الطاهرة بالفاحشة وما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه من البلاء، وكل ذلك بسبب الإِشاعة.
عاشراً: البعد عن مواطن الفتن:
فالبعد عن الفتن واجتنابها وعدم التعرض لها وعدم الخوض فيها مطلب شرعي في زمن الفتنة ، عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم أو بما معناه أنها ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إليها ، قال النووي رحمه الله تعالى:" معناه: بيان عظيم خطرها والحث على تجنبها والهرب منها ومن التشبث في شيء منها وأن شرها وفتنتها يكون على حسب التعلق بها".
ولقد حرص سلفنا الصالح عن البعد عن مواطن الفتن وإليك نماذج من ذلك:
1. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: " لا تقربوا الفتنة إذا حميت ولا تعرضوا لها إذا عرضت واضربوا أهلها إذا أقبلت ".
2. قال محمد بن الحنفية: اتقوا هذه الفتن فإنها لا يستشرف لها أحد إلا استبقته".
3. عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي موسى أنه لقيه فذكر الفتنة فقال: " إن هذه الفتنة حيصة من حيصات الفتن من أشرف لها أشرفت له ومن ماج لها ماجت له".
الحادي عشر: لزوم الإنصاف والعدل في الأمر كله:
فإن من أقوى أسباب الاختلاف بين العباد وخصوصاً زمن الفتن فقدان العدل والإنصاف،ولو جاهد المسلم نفسه لتحقيق صفة العدل مع نفسه ومع الناس فإن كثيراً من المشاكل التي تحصل بين المسلمين سواء منها الفردية أو الجماعية ستزول وتحل بإذن الله تعالى، يقول الله تعالى: ( وإذا قلتم فاعدلواْ ) ، ويقول تعالى ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ، فلا بد من العدل في الأقوال والأعمال وخصوصاً زمن الفتن، بمعنى أن يأتي الإِنسان بالأمور الحسنة والأمور السيئة ثم يوازن بينهما وبعد ذلك يحكم،لأن في الموازنة عصمة للمسلم من أن ينسب للشرع ما ليس موافقاً لما أمر الله به وبالتالي يكون عدلك وإنصافك في الفتنة منجياً بإذن الله تعالى.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله " فأوصيكم أيها الأخوة بالعدل في الأمور كلها والموازنة بينها ، والحكم للراجح فيها ، والتسوية بينها في الحكم عند التساوي ، وهذه قاعدة كبيرة يجب على العاقل أن يتمشى عليها في سيره إلى الله وفي سيره مع عباد الله ليكون قائماً بالقسط والله يحب المقسطين".
وإليك نموذجاُ من نهج سلفنا الصالح في حرصهم على العدل والإنصاف:(/4)
عن عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء فقالت: ممن أنت ؟ فقلت رجل من أهل مصر. فقالت: كيف صاحبكم لكم في غزاتكم ؟ فقلت: ما نقمنا منه شيء إن كان ليموت للرجل البعير فيعطيه البعير والعبد فيعطيه العبد ويحتاج إلى النفقة فيعطيها النفقة ، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أن أخبرك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا:"اللهم من ولى من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عيه، ومن ولى من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به " ، قال النووي رحمة الله معلقاً على هذا الحديث:" وفيه أنه ينبغي أن يذكر فضل أهل الفضل ولا يمنع منه سبب عداوة ونحوها ".
الثاني عشر: عدم تطبيق ما جاء من الأحاديث في الفتن على الواقع
مراجعة أحاديث الفتن تكثر في مجالس الناس ومنتدياتهم قولهم، قال رسول الله كذا، وهذا وقتها وهذه هي الفتنة التي أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، ولكن السلف الصالح _ رحمهم الله _ علمونا أن أحاديث الفتن لا تطبق على الفتن في وقتها وإنما يظهر صدق النبي صلى الله عليه وسلم بما أخبر به من حدوث الفتن بعد حدوثها وانقضائها ولكن يحلو للناس تطبيق أحاديث الفتن على أوقات وأشخاص معينين وهذا منهج خاطئ وليس من منهج أهل السنة والجماعة ولكن أهل السنة والجماعة يذكرون أحاديث الفتن محذرين منها، ومباعدين المسلمين من القرب منها ولكي يعتقدوا صحة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: فإذاً لسنا متعبدين بتطبيق أحاديث الفتن على الواقع ولكن ندع الواقع هو الذي ينطق، فإذا وقع الأمر قلنا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وأما أن يتكلف الإنسان في تأويل النصوص الشرعية من أجل أن تطابق الواقع فهذا لا يصلح وإن صلح للعلماء فلا يصلح لغيرهم.
الثالث عشر: الحذر من تسلل الأعداء بين الصفوف
ازدهرت في زمننا هذا تجارة المنافقين وراجت بضاعتهم، وكثر أتباعهم، فشيدوا مساجد الضرار هنا وهناك وذرفوا دموع التماسيح على الإسلام وأهله، وتظاهروا بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولبسوا للناس جلد الضأن من اللين،ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب.
يقول الله تعالى:"ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على مافي قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد "
وما نجح المنافقون في تحقيق أهدافهم وخططهم وفتكهم بالإسلام والمسلمين ابتداءً من عبد الله بن أبي ومروراً بالزنادقة الباطنيين وانتهاء بزنادقة عصرنا هذا، إلا بسبب قلة الوعي عند معظم المسلمين. والواجب على كل مسلم قادر أن يهتك أستار المنافقين ويكشف أسرارهم ويفضح أساليبهم وأوكارهم حتى لا تكون فتنة في الأرض وفساد كبير،وأسوتنا في عملنا هذا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونهج سلف هذه الأمة في معرفة المنافقين وكيفية التعامل معهم. وكم قاست الأمة المسلمة عبر التاريخ من نكبات ونكسات بسبب مكر دعاة الشر ممن يريدون فتنة المؤمنين عن دينهم وأخلاقهم وإحداث القلاقل والفوضى.
الرابع عشر: التعوذ بالله من الفتن:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله كثيراً من الفتن كما في حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه ولم قال:" تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن "، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فذكر الحديث وفيه قوله تعالى " يا محمد إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي، وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ".
وما كان النبي يتعوذ من الفتن لأنها إذا أتت لا تصيب الظالم وحده وإنما تصيب الجميع. وإليك نموذجاً من سيرة السلف الصالح في تعوذهم من الفتن:
عن عبد الله بن عامر قال: لما تشعب الناس في الطعن على عثمان قام أبي يصلي من الليل ثم نام، قال: فقيل له: قم فاسأل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها عباده الصالحين. قال: فقام فمرض فمارؤي خارجاً حتى مات.
هذا ونسأل الله تعالى أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن،وأن يعصمنا من شرور المحن، ويميتنا على السنن. كم أسأله سبحانه أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم إنه ولي ذلك والقادر عليه والله أعلم وصلى الله نبينا محمد وعل آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(/5)
العيد عبادة وشكر
عبدالملك القاسم ...
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء و المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهاهي صفحات الأيام تطوى وساعات الزمن تنقضي.. بالأمس القريب استقبلنا حبيبا واليوم نودعه.. وقبل أيام هل هلال رمضان واليوم تصرمت أيامه.. ولئن فاخرت الأمم ـ من حولنا ـ بأيامها وأعيادها واخلعتها أقدارا زائفة، وبركات مزعومة وسعادة واهية فأنما هي تضرب في تيه وتسعى في ضلال.. ويبقى الحق والهدى طريق أمة محمد أن النبي ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وتكون من طعام الآدميين، ويحب تحري المساكين لدفعها إليهم. ومن صور تربية البيت المسلم تعويد أهله على إخراجها بمشاركة الصغار.
رابعاً: الاغتسال والتطيب للرجال ولبس أحسن الثياب: بدون إسراف ولا إسبال ولا حلق لحية فهذا حرام ـ أما المرأة فيشرع لها الخروج إلى مصلى العيد بدون تبرج ولا تطيب. وأربأ بالمسلمة أن تذهب لطاعة الله وهي متلبسة بمعصية التبرج والسفور والتطيب أمام الرجال.
خامساً: أكل تمرات: وترا ثلاث أو خمس قبل الذهاب إلى المصلى لفعل الرسول .
ثامناً: لا بأس بالتهنئة بالعيد: كقول ( تقبل الله منا ومنك ).
وننبهك أخي الحبيب إلى بعض المخالفات ـ مع الأسف ـ التي تقع في يوم العيد وليلته لتحذيرها.. والعجب أن يختم بعض المسلمين هذه الطاعة بالمعاصي.. ويستبدل البعض الآخر الاستغفار في نهاية كل عبادة باللهو والعبث.. ومن المخالفات:
1- التكبير الجماعي بصوت واحد أو الترديد خلف شخص يقول الله أكبر، أو إحداث صيغ تكبير غير مشروعة.
2- اعتقاد مشروعية إحياء ليلة العيد ويتناقلون أحاديثا لا تصح.
3- تخصيص يوم العيد لزيارة المقابر والسلام على الأموات.
4- اختلاط النساء بالرجال في بعض المصليات والشوارع والمنتزهات.
5- بعض الناس يجتمعون في العيد على الغناء واللهو والعبث وهذا لا يجوز.
6- البعض يظهر عليه الفرح بالعيد لأن شهر رمضان انتهى وتخلص من العبادة فيه وكأنها حمل ثقيل على ظهره.. وهذا خطر عظيم.
7- الإغراق في المباحات من لبس وأكل وشرب حتى تجاوز الأمر إلى الإسراف في ذلك.. قال تعالى: [الأعراف:31].
أخي الحبيب لا تنسى أيها الأخ الحبيب أن رب رمضان هو رب الشهور.. وأستمر على الطاعة واسأل الله عز وجل الثبات على هذا الدين حتى تلقاه، وأعلم أن نهاية وقت الطاعة والعبادة ليس مدفع العيد كما يتوهم البعض بل هو كما قال الله عز وجل: [الحجر:99]. واليقين هو الموت.. قال بعض السلف: ليس لعمل المسلم غاية دون الموت.
وقال الحسن: أبى قوم المداومة، والله ما المؤمن بالذي يعمل شهر أو شهرين أو عام أو عامين، لا والله ما جعل لعمل المؤمن أجل دون الموت.
وقرأ عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس على المنبر: [فصلت:30]. فقال: استقاموا والله بطاعة الله ثم لم يروغوا روغان الثعلب.
وإن ودعت ـ أيها المسلم ـ شهر الطاعة والعبادة وموسم الخير والعتق من النار فإن الله عز وجل جعل لنا من الطاعات والعبادات ما تهنأ به نفس المؤمن وتقر به عين المسلم من أنواع النوافل والقربات طوال العام ومن ذلك:
1- صيام ست من شوال: عن أبي أيوب الأنصاري قال: { من صام رمضان ثم أتبعه ست من شوال كان كصيام الدهر } [رواه مسلم]. وإن كان عليك قضاء فأقضه ثم صمها.
2- صيام أيام البيض وصيام يوم عرفه لغير الحاج وكذلك صيام أيام الاثنين والخميس.
3- قيام الليل والمحافظة على الوتر.. وتأس بالأخيار [الذاريات:17].
4- المداومة على الرواتب التابعة للفرائض اثنتا عشرة ركعة: أربع قبل الظهر وركعتان بعده وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر.
5- قراءة القرآن والحرص على ذلك يوميا ولو جزءا واحدا على الأقل.
6- احرص على أعمال البر وأستقم على الطاعة.. قال الله تعالى: [هود:112].
7- تذلل وتضرع وأدع ربك أن يحييك على الإسلام وأن يميتك عليه وأسأله الثبات على كلمة التوحيد فمن دعاء نبي هذه الأمة مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ : { سددوا وقاربوا، وأعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل } [رواه البخاري].
اللهم ثبتنا على الإيمان والعمل الصالح وأحينا حياة طيبة وألحقنا بالصالحين.. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وأغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
موقع كلمات
...(/1)
العيد وأحكامه
ملخص أحكام العيد وآدابه ...
صفة صلاة العيد ...
التكبير في العيدين ...
خطبة العيد ...
أحكام متعلقة بصلاة العيد ...
العيد وآدابه وسننه
خطبة العيد:
خطبة العيد:
• ... حكم خطبة العيد.
• ... خطبة العيدين خطبتين أم خطبة واحدة.
• ... الاعتماد في الخطبة على عصا وغيره.
• ... افتتاح الخطبة بالتكبير.
• ... موضوع خطبة العيد.
• ... تكبير المأمومين مع الإمام في الخطبة.
• ... التكبير في أعطاف الخطبة.
• ... الخطبة جالسًا.
• ... الانصات للخطبة.
• ... إعادة الخطبة لمن لم يسمعها.
• ... ماذا يصنع الإمام إذا أحدث بعد الصلاة.
خطبة العيد
حكم خطبة العيدين:
عامّة الفقهاء على أنّ خطبة العيد سنة، ومستندهم في ذلك حديث عبد الله بن السائب عن النبي صلى الله علهي وسلم: ((إنّا نخطب، فمن أحبّ أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحبّ أن يذهب فليذهب))([1]).
ووجهه من الحديث: أنّ الخطبة لو وجب الاستماع إليها لوجب حضورها، فهي سنة .
قال الشوكاني: "وفيه أن تخيير السامع لا يدل على عدم وجوب الخطبة، بل على وجوب سماعها، إلاّ أن يقال إنّه يدل من باب الإشارة، لأنّه إذا لم يجب سماعها لا يجب فعلها، وذلك لأنّ الخطبة خطاب، ولا خطاب إلاّ لمخاطب، فإذا لم يجب السماع على المخاطب لم يجب الخطاب، وقد اتفق الموجبون لصلاة وغيرهم على عدم وجوب خطبته، ولا أعرف قائلاً بوجوبها"([2]).
واختلف أهل العلم في وصله وإرساله، ورجح عدد من أهل الحديث أنّ الصواب أنّه مرسل ([3]).
هذا قول عامة الفقهاء، ولا يعرف قائل بخلاف ذلك؛ إلاّ ما حكاه ابن مفلح عن القاضي أبي يعلى وابن عقيل أنهما ذهاب إلى أنها شرط .
ولاشك أنّ القول بسنية خطبة العيد لا يعني سقوط الإثم عن الإمام والمصلين إذا تُرِكت، بل يجب الإتيان بها، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم لها، وعدم تركه إيّاها، والله أعلم .
خطبة العيد خطبتان أم خطبة واحدة ؟
ذهب عامة الفقهاء ولا يُعرَف لهم مخالف إلى أنّ خطبة العيد خطبتان، يفصل بينهما بجلوس .
واستندوا في ذلك على أحاديث ضعيفة، منها:
ما رواه جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فخطب قائمًا ثم قعد قعدة ثم قام ([4]).
وما رواه عامر بن سعد عن أبيه سعد: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلّى العيد بغير أذان ولا إقامة، وكان يخطب خطبتين قائمًا، فيفصل بينهما بجلسة ([5]).
قال النووي: "وما روي عن ابن مسعود أنّه قال: (السنة أن يخطب في العيدين بخطبتين يفصل بينهما بجلوس) = ضعيف غير متصل، ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء، والمعتمد فيه القياس على الجمعة" ([6]).
قال الشيخ ابن عثيمين معلِّقًا على قول الحجَّاوي: "فإذا سلّم خطب خطبتين"، قال: "هذا ما مشى عليه الفقهاء – رحمهم الله – أنّ خطبة العيد اثنتان؛ لأنّه ورد هذا في حديث أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه نظر: (أنه كان يخطب خطبتين)، ومن نظر في السنة المتفق عليها في الصحيحين وغيرهما تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلاّ خطبة واحدة، لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى توجه إلى النساء ووعظهنّ، فإن جعلنا هذا أصلاً في مشروعية الخطبتين فمحتمل، مع أنّه لا يصحّ؛ لأنه إنّما نزل إلى النساء وخطبهنّ لعدم وصول الخطبة إليهن، وهذا احتمال" ([7]).
وكأنّ الشيخ – رحمه الله – يميل بهذا القول إلى أنّ العيد يخطب له خطبة واحدة، وهو قول له قوة ووجاهة، فهو موافق لظاهر الروايات الصحيحة في خطبة العيد أنّها خطبة واحدة، ولكن عامة فقهاء الأمة على أنّها خطبتان يقعد بينهما، ولا يسعنا أن نخرج عن أقوالهم – رحمة الله عليهم - .
كما لا يسعنا أن ننكر عن مَن أخذ بظاهر الروايات الصحيحة، وخطب خطبة واحدة، والله تعالى أعلم .
فصل:
استحبّ بعض أهل العلم تسليم الخطيب على المأمومين .
قال الشافعي: "فإذا ظهر على المنبر يُسلِّم ويرد الناس السلام عليه" ([8]).
وقال أبو إسحاق الشيرازي: "ويسلّم على الناس إذا أقبل عليهم" ([9]).
وقال النووي: "وإذا صعد المنبر أقبل على الناس وسلّم عليهم، وردوا عليه" ([10]).
وقال ابن مفلح: "إذا استقبلهم سلّم وأومأ بيده" ([11]).
ولا يظهر أنّ في ذلك بأس؛ إلاّ أنّ الأفضل أن يشرع في الخطبة مباشرة، لا سيما وأنّه فرغ لتوه من الصلاة بهم، فلا وجه لسلامه عليهم، ولم يكن النبيُّ إذا فرغ من الصلوات الخمس المكتوبات، وأقبل على النّاس بوجهه أن يسلم عليهم، والله أعلم.
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/78، 79)، المبسوط (2/38)، المدونة (1/170)، الرسالة (ص: 144)، الكافي (1/264)، عقد الجواهر (1/ 243)، الأم (1/211)، الحاوي (2/492)، فتح العزيز (5/51)، نهاية المحتاج (2/391)، حلية (2/306)، شرح الزركشي (2/226)، المقنع (5/351)، الشرح الكبير (5/351)، الإنصاف (5/351)، المستوعب (3/63)، المغني (3/276)، الشرح الممتع (5/191)، المحلى (5/72).
الاعتماد في الخطبة على عصا وغيره :(/1)
استحب عدد من أهل العلم اعتماد الخطيب على قوس أو عصا وقت الخطبة .
قال الشافعي: "وأحبّ لكل من خطب أيّ خطبة كانت أن يعتمد على شيء، وإن ترك الاعتماد، أحببت أن يسكّن يديه وجميع بدنه، ولا يعبث بيديه" ([12]).
فعن البراء أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نُووِل يوم العيد قوسًا فخطب عليه ([13]).
قال الشوكاني: "الحديث فيه مشروعية الاعتماد على سيف أو عصا حال الخطبة، قيل: والحكمة في ذلك الاشتغال عن العبث، وقيل: إنه أربط للجأش" ([14]).
وعن الحكم بن حزن الكلفي: "شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام متوكئًا على عصا، أو قوس، فحمد لله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات" ([15]).
والله أعلم .
افتتاح الخطبة بالتكبير :
استحبّ عامة الفقهاء افتتاح الخطبة بتكبيرات زوائد؛ تسع تكبيرات في الأولى، وسبع تكبيرات في الثانية .
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: (السنة في التكبير يوم الأضحى والفطر على المنبر قبل الخطبة؛ أن يبتدئ الإمام قبل أن يخطب وهو قائم على المنبر بتسع تكبيرات تترى لا يفصل بينها بكلام، ثم يخطب، ثم يجلس جلسة، ثم يقوم في الخطبة الثانية فيفتتحها بسبع تكبيرات تترى لا يفصل بينها بكلام ثم يخطب)([16]).
2- وما يروى عن إسماعيل بن أمية أنه سمع أنّ التكبير في الأولى من الخطبتين تسع، وفي الآخرة سبع([17]).
3- وما يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه فعله ([18]).
والذي يُجزم به في هذا الباب أنّه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من صحابته أنّه كبّر قبل خطبة العيد .
قال ابن المنذر: "ليس في عدد التكبير على المنبر سنة يجب أن تستعمل، فما كبّر الإمام فهو يجزي، ولو ترك التكبير وخطب لم يكن عليه في ذلك شيء" ([19]).
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية إلى أنّ السنة في افتتاح خطبة العيدين = الافتتاح بالحمد لله؛ لأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنّه افتتح بغيرها .
قال ابن تيمية: "لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه افتتح خطبة بغير الحمد، لا خطبة عيد ولا استسقاء ولا غير ذلك" ([20]).
وإليه ذهب الشوكاني ([21]).
وما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الذي يترجح الأخذ به، ومن بدأ بالتكبير لا ينكر عليه، لأنّه اجتهاد جمعٍ من أهل العلم، ولو جمع بين الحمد والتكبير لكان حسنًا، قال في الشرح الممتع:”وقال بعض العلماء: إنّه يبتدئ بالحمد كسائر الخطب، وكما هي العادة في خطب النبي صلى الله عليه وسلم أنّه يحمد الله ويثني عليه، وعلى هذا فيقول: الحمد لله كثيرًا، والله أكبر كبيرًا، فيجمع بين التكبير والحمد”([22]).
والله تعالى أعلم .
* مراجع المسألة :
حاشية ابن عابدين (2/175)، الأم (1/211)، المجموع (5/22)، فتح العزيز (5/51، 55)، نهاية المحتاج (2/392)، روضة (2/73)، شرح الزركشي (2/288)، المقنع (5/351)، الشرح الكبير (5/351)، الإنصاف (5/351).
موضوع خطبة العيد :
استحبّ كثير من الفقهاء أن يتحدث الخطيب في عيد الفطر عن أحكام زكاة الفطر، وفي عيد الأضحى عن أحكام الأضحية .
قال محمد بن سليمان الحنفي: "يعلم الناس أحكام الفطرة، لأنّها شرعت لأجلها" ([23]).
قال الرافعيّ: "ويستحب أن يعلمهم في عيد الفطر أحكام صدقة الفطر، وفي عيد الأضحى أحكام الأضحية" ([24]).
قال العمرانِي: "ويستحب أن يعلمهم في خطبة الفطر صدقة الفطر، ووقت وجوبها، وأنّ السنة أن يخرجها قبل الصلاة، ولا يجوز تأخيرها عن يوم الفطر، ويبيّن قدرها وجنسها" ([25]).
قال الشافعي الصغير: "ويعلمهم استحبابًا في كل عيد أحكامه" ([26]).
قال الزركشي: "يذكر في كل خطبة ما يليق بها، ففي عيد الفطر يرغبهم في الصدقة، ويبين لهم حكمها، وما اشتملت عليه من الثواب، وقدر المخرج، وجنسه، وعلى من تجب، ونحو ذلك، وفي الأضحى يرغبهم في الأضحية، ويبيّن لهم حكمها، والمجزئ فيها، ووقت ذبحها، ونحو ذلك" ([27]).
والذي يظهر أنّ ذلك مستحب في عيد الأضحى؛ لكون المسلمين في حاجة لمعرفة أحكامها، لأنّ وقت ذبح الأضحية بعد الصلاة .
ولا يستحبّ ذلك في عيد الفطر؛ لأنّ وقت إخراج الزكاة قد فات، فلا ينتفعون بإخراجها إلا قبل الصلاة، أما بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ([28]).
ولهذا ذهب ابن عابدين في حاشيته أنّه يعلمهم في الجمعة التي قبل صلاة العيد ([29]).
وقال ابن عثيمين: "ولهذا ينبغي أن يبين هذا في خطبة آخر جمعة من رمضان، فهذا هو الوقت المناسب، أما في صلاة العيد فهو غير مناسب" ([30]).(/2)
وهذا هو الأقرب إلى الهدي النبوي، كما ذكره أهل السِيَر، قال ابن جرير الطبري: "وفي هذه السنة – الثانية – أمر النّاس بزكاة الفطر، وقد قيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب النّاس قبل الفطر بيومٍ أو يومين، وأمرهم بذلك" ([31]).
* مراجع المسألة :
حاشية ابن عابدين (2/175)، مجمع الأنهر (1/174)، فتح العزيز (5/53)، نهاية المحتاج (2/392)، البيان (2/645)، روضة (2/73)، شرح الزركشي (2/229)، الشرح الممتع (5/196).
تكبير المأمومين مع الإمام في الخطبة :
استحب بعض أهل العلم إذا كبّر الإمام في خطبته أن يكبر المأموم وينصت فيما سوى ذلك .
قال ابن أبي زيد القيرواني: "ويكبرون بتكبير الإمام في خطبته، وينصتون له فيما سوى ذلك" ([32]).
قال ابن قدامة: "فإذا كبّر في أثناء الخطبة كبّر الناس بتكبيره" ([33]).
ووجهه عندهم: أنّ التكبير في هذا اليوم مشروع للكافة، فإذا كبّر الإمام كان ذلك منه استدعاء له من الناس .
وقال المغيرة بن عياش المالكيّ: "إنّ المأموم لا يكبِّر، لأنّ شروع الإمام في التكبير يقطع الكلام جملةً، التكبير وغيره" ([34]).
والذي يترجح الأخذ به هو قول المغيرة؛ لأنَّ التكبير مع الإمام يفضي إلى التكبير الجماعي الذي لم يعرف عن السلف، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
الرسالة (ص: 144)، المعونة (1/326)، عقد الجواهر (1/242)، حاشية الروض (2/511)، المغني (3/277).
التكبير في أعطاف الخطبة :
استحبَّ بعض أهل العلم للخطيب أن يكبر بين أعطاف خطبته، قال القاضي عبد الوهاب البغدادي:
"ويكبر في أضعاف خطبته في العيدين جميعًا، لأنّ ذلك مروي عن السلف" ([35]).
قال ابن شاس: "ثم يخطب خطبتين كخطبتي الجمعة، إلا أنه يكبر في تضاعيفها" ([36]).
قال ابن قدامة: "ويستحب أن يكثر التكبير في أضعاف خطبته" ([37]).
وروي في هذا حديث عن سعد القرظ مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبّر بين أضعاف الخطبة، ويكثر التكبير في خطبة العيدين ([38]).
* مراجع المسألة :
المعونة (1/325)، الذخيرة (2/422)، الجواهر (1/243)، نيل الأوطار (3/305)، المغني (3/277).
الخطبة جالسًا :
استحبّ بعض أهل العلم أن يخطب الخطيب قائمًا، لما روي عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم العيد، فيصلي بالناس ركعتين، ثم يسلم فيقف على رجليه فيستقبل الناس وهم جلوس فيقول: ((تصدقوا تصدقوا)) ([39]).
وإن خطب قاعدًا فلا بأس؛ لأنها غير واجبة، فأشبهت صلاة النافلة .
بل قال النووي: "بل يجوز قاعدًا ومضجعًا مع القدرة على القيام، والأفضل قائمًا" ([40]).
ولم يثبت على النبي صلى الله عليه وسلم أنّه خطب على راحلته يوم العيد في المصلى ([41]).
إلاّ أنه ورد من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ([42]).
فمن خطب قائمًا؛ فبالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ، ومن خطب قاعدًا؛ فلا بأس عليه لفعل علي رضي الله عنه .
ولكن ليس له أن يخطب مضجعًا؛ لأنّه لا يليق بحال الخطيب، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
الأم (1/209)، المجموع (5/22)، فتح العزيز (5/6)، نهاية المحتاج (2/391)، البيان (2/644)، الشرح الكبير (5/358)، الإنصاف (5/358)، نيل الأوطار (3/306).
الإنصات للخطبة :
اختلف العلماء في مسألة الاستماع للخطبة هل يجب استماع الخطبة لمن حضرها، أم يستحب ؟ على قولين :
القول الأول :
يجب استماع خطبة العيد على من حضرها، كوجوب استماع خطبة الجمعة .
وهو قولٌ لمالك كما في رواية ابن القاسم .
ورواية لأحمد بن حنبل .
قال ابن القاسم: فقلت لمالك: فمن شهد العيدين من النساء والعبيد ممن لا يجب عليهم الخروج، فلما صلوا مع الإمام أرادوا الانصراف قبل الخطبة، يتعجلون لحاجات ساداتهم ولمصلحة بيوتهم ؟ قال: لا أرى أن ينصرفوا إلاّ بانصراف الإمام ([43]).
سئل الإمام أحمد عن حضور الخطبة يوم العيد ؟ قال: ينتظر حتى يفرغ الإمام من الخطبة، قيل له: إنّ عطاء يقول: لا عليه أن ينتظر، قال: لا أذهب إلى ما قاله عطاء، أرأيتَ لو ذهب الناس كلهم على من كان يخطب الإمام ([44]).
القول الثاني :
يستحب استماع خطبة العيد ولا يجب، فمن أحبّ جلس، وإلا انصرف .
وهو مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة ([45]).
قال الشافعي: "وأحبّ لمن حضر خطبة عيد أو استسقاء أو حج أو كسوف أن ينصت ويستمع، وأحبّ أن لا ينصرف أحد حتى يستمع الخطبة، فإن تكلم أو ترك الاستماع أو انصرف، كرهت ذلك له، ولا إعادة عليه ولا كفارة، وليس هذا كخطبة يوم الجمعة؛ لأن صلاة يوم الجمعة فرض" ([46]).
قال ابن عليش: "وندب سماعهما أي الإنصات حال الخطبتين وإن لم يسمع لبعد أو صم" ([47]).
قال ابن قدامة: "والخطبتان سنة، لا يجب حضورها ولا استماعها" ([48]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
وعلل أصحاب هذا القول بأنّ الخطيب على من كان سيخطب لو رخّص للناس ترك الاستماع إليه .(/3)
وردّوا حديث عبد الله بن السائب، وطعنوا في صحته.
أدلة القول الثاني :
استدلوا بحديث عبد الله بن السائب قال: شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال: ((إنا نخطب فمن أحبّ أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب))([49]).
وعلل ابن قدامة عدم وجوب استماع كونها جعلت بعد الصلاة، قال : "وإنما أخّرت الخطبة عن الصلاة والله أعلم لأنها لم تكن واجبة، جعلت في وقت يتمكن من أراد تركها من تركها، بخلاف خطبة الجمعة" ([50]).
الترجيح :
والمتأمل في هذه الأقوال لا يجد مستندًا لها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لذا فالأخذ بتعليل الإمام أحمد هو الذي ينبغي، ولا يرخّص في الانصراف إلا من حاجة، لأنه لو رُخِّص في ترك الاستماع من غير حاجة، جاز أن يذهب الناس كلهم، ويبقى الخطيب وحيدًا.
ومن حضر الخطبة حرم عليه التشويش على الناس في استماعها، والله أعلم .
فصل:
قال الحصفكيُّ: "ويستحب أن يستفتح الأولى بتسع تكبيرات تترى، أي متتابعات، والثانية بسبع، وهو السنة، وأن يكبر قبل نزوله من المنبر أربع عشرة" ([51]).
ولا أعلم له مستندًا في ذلك، والله تعالى أعلم .
* مراجع المسألة :
الكتاب (1/336)، المبسوط (2/38)، المدونة (1/168)، الرسالة (ص: 144)، حاشية ابن عليش (1/280)، الأم
(1/213)، فتح العزيز (5/54)، نهاية المحتاج (2/392)، البيان (2/647)، روضة (2/74)، الشرح الكبير (5/357)، الإنصاف (5/357)، المبدع (2/188)، المستوعب (3/63)، تصحيح الفروع (2/142)، حاشية الروض (2/513، 5/192)، الشرح الممتع (5/510)، نيل الأوطار (3/306).
هل يعيد الخطيب الخطبة لبعض الحاضرين إذا لم يسمعوها لبُعْدهم ؟
استحبَّ بعض أهل العلم إذا رأى الخطيب أنه لم يُسمِع بعض الحاضرين أن يعيد عليهم الخطبة.
واستدلوا لذلك بحديث جابر بن عبد الله قال: سمعته يقول: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قام فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس بعد، فلما فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم نزل فأتى النساء وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء صدقة.
قلت لعطاء: أترى حقًا على الإمام الآن أن يأتي النساء فيذكرهن حين يفرغ ؟ قال: إنّ ذلك لحق عليهم، وما لهم أن لا يفعلوا ([52]).
قال الشافعي: "وإن رأى أنّ النساء وجماعة من الرجال لم يسمعوا خطبته، لم أر بأسًا أن يأتيهم فيخطب خطبة خفيفة يسمعونها، وليس بواجب عليه، لأنّه لم يرد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة، وقد خطب خطبًا كثيرةً، وفي ذلك دلالة على أنّه فعل وترك، والترك أكثر" ([53]).
قال النووي: "إذا فرغ الإمام من الصلاة والخطبة ثم علم أنّ قومًا فاتهم سماع الخطبة استحب أن يعيد لهم الخطبة سواء كانوا رجالاً أم نساءً، وممن صرّح به من أصحابنا البنديجي والمتولي، واحتجوا له بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد، فرأى أنه لم يسمع النساء فأتاهنّ فذكرهنّ ووعظهنّ وأمرهن بالصدقة([54])" ([55]).
وهذا الاستحباب لا يظهر في هذه الأزمان؛ إلاّ إذا عُدِمت أو تعطلت مكبرات الصوت في المصليات؛ فيستحب للخطيب أن يعيدها لمن لم يسمعها إذا آنس منهم رغبة في ذلك منه، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
الأم (1/212)، المجموع (5/24)، البيان (2/646).
ماذا يصنع الإمام إذا أحدث بعد الصلاة ؟
قيل للإمام مالك: أرأيت الإمام إذا أحدث يوم العيد قبل الخطبة بعدما صلى يستخلف أم يخطب بهم على غير وضوء ؟ قال: أرى أن لا يستخلف، وأن يتم بهم الخطبة ([56]).
وذلك لأنّ الطهارة ليست شرط للخطبة، والله أعلم .
([1]) أبو داود (1155)وقال: "هذا مرسل، عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم"، والنسائي (3/185)وقال كما في تحفة الأشراف (4/347): "هذا خطأ، والصواب مرسل"، وابن ماجه (1290)، والحاكم (1/295)وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (629).
([2]) نيل الأوطار (3/363)ط: دار الحديث .
([3]) كيحيى بن معين، انظر: السنن الكبرى للبيهقي (3/301)، وكأبي زرعة، انظر: علل ابن أبي حاتم (1/180).
([4]) ابن ماجه (1289)، والبيهقي في الكبرى (3/198)، فيه إسماعيل بن مسلم الخولاني ضعيف، وأبو الزبير مدلس، وقد عنعن، قال الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه (265):"منكر سندًا ومتنًا، والمحفوظ أن ذلك في خطبة الجمعة".
([5]) أخرجه البزار، انظر: كشف الأستار (1/315)، وفيه عبد الله بن شبيب، قال الحافظ في اللسان (3/299): "ضعيف جدًا".
([6]) نقلاً عن ابن الهمام في شرح فتح القدير (2/79)، ولم أجده في المجموع .
([7]) الشرح الممتع (5/191 – 192).
([8]) مختصر المزنِي، انظر: الحاوي (2/492)، وبنحوه في الأم (1/397).
([9]) انظر: المجموع (5/21).
([10]) المجموع (5/21).
([11]) الفروع (2/141).
([12]) الأم (1/211).
([13]) أبو داود (1145)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1014).
([14]) نيل الأوطار (3/330 – 331).(/4)
([15]) أبو داود (1096)، وابن خزيمة (1452)، وحسَّنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (971).
([16]) أخرجه الشافعي الأم (1/211)، وعبد الرزاق (3/290)، وابن أبي شيبة (2/190)، وفيه إبراهيم بن محمد متروك، وإسماعيل لم يثبت له أن لقي أحدًا من الصحابة، فهو يعد من كبار أتباع التابعين، فلا يُقبل منه التفرد بهذه السنة، والله أعلم.
([17]) الأم (1/211)، وفيه إبراهيم بن عبد الله متروك .
([18]) الأم (1/211)، وفي سنده راوٍ يهم .
([19]) الأوسط (4/287).
([20]) مجموع الفتاوى (22/373).
([21]) السيل الجرار (1/319).
([22]) الشرح الممتع (5/195).
([23]) مجمع الأنهر (1/174).
([24]) فتح العزيز (5/53).
([25]) البيان (2/645).
([26]) نهاية المحتاج (2/392).
([27]) شرح الزركشي (2/229).
([28]) أبو داود (1609)، ابن ماجه (1827)، المستدرك (1/409)، البيهقي في الكبرى (4/162).
([29]) حاشية ابن عابدين (2/175).
([30]) الشرح الممتع (5/196).
([31]) تاريخ الطبري (2/418).
([32]) الرسالة الفقهية (ص 144).
([33]) المغني (3/277).
([34]) عقد الجواهر (1/242).
([35]) المعونة (1/325).
([36]) الذخيرة (2/442).
([37]) الجواهر (1/342).
([38]) أخرجه ابن ماجه (1287)، والحاكم مطولاً في المستدرك (3/607)، ولم يحكم عليه بشيء.والحديث من رواية عبد الرحمن بن عمّار بن سعد القرني وهو ضعيف، وقد ضعّف الحديث الألباني في الإرواء (647).
([39]) رواه ابن ماجه (1288)، وصححه الألباني في الإرواء (63).
([40]) المجموع (5/22).
([41]) نعم جاء في حديث أبي بكرة عند البخاري (67)أنّه خطب على راحلته يوم النحر، وكان ذلك في حجة الوداع، فهو ليس في موطن النزاع .
([42]) أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد حسن من ثلاث طرق (2/7، 8، 9).
([43]) المدونة (1/168).
([44]) مسائل الإمام أحمد رواية إسحاق النيسابوري (481).
([45]) الأصل (1/336)، مواهب الجليل (1/280)، روضة الطالبين (2/74)، الشرح الكبير (5/257).
([46]) الأم (1/398).
([47]) مواهب الجليل (1/280).
([48]) المغني (3/279).
([49]) حديث ضعيف لإرساله، تقدم تخريجه .
([50]) المغني (3/279).
([51]) انظر: حاشية ابن عابدين (2/175).
([52]) البخاري (961).
([53]) الأم (1/212).
([54]) البخاري (1449)، مسلم (884)، أبو داود (1143)، ابن ماجه (1273).
([55]) المجموع (5/24).
([56]) المدونة (1/170).
1- النهي عن صومهما:
فيحرم صوم يومي العيدين لحديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر، ويوم النحر([1]).
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: "وقد أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال؛ سواء صامهما عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك، ولو نذر صومهما متعمداً لعينهما، قال الشافعي والجمهور: لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاؤهما([2]).
وقيل: إن الحكمة في النهي عن صوم العيدين أن فيه إعراضاً عن ضيافة الله تعالى لعباده([3]).
2- صلاة العيد وما يتعلق بها من أحكام وآداب:
حكمها:
سنة مؤكدة عند الجمهور، واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر الرجال والنساء أن يخرجوا لها حتى الحيّض منهن؛ لقول أم عطية رضي الله عنها: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيّض، وذوات الخدور؛ فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين) ([4]).
وذهب بعض أهل إلى: القول بوجوبها، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد واختاره ابن تيمية وابن القيم؛ بل ذهب ابن تيمية إلى كونها آكد من الجمعة، لحديث أم عطية السابق، وفيه الأمر بإخراج العواتق وذوات الخدور والحيض، ولم يأمر بذلك في الجمعة، وهو محمول على الوجوب إلا لقرينة ولا قرينة هنا.
وأجاب ابن حجر على ذلك بقوله: وفيه نظر؛ لأن من جملة من أمر بذلك من ليس بمكلف؛ فظهر أن القصد منه إظهار شعار الإسلام بالمبالغة في الاجتماع، ولتعم الجميع البركة([5]).
كما استدل القائلون بالوجوب بكونها مسقطة للجمعة الواجبة إذا اجتمعتا في يوم واحد، وما ليس بواجب لاسقط واجباً.
المكان الذي تصلى فيه([6]):
أ- في مكة المكرمة:
الأفضل الصلاة في المسجد الحرام؛ فإن الأئمة لم يزالوا يصلون العيد بمكة بالمسجد الحرام، قال النووي في المجموع: "... فإن كان بمكة فالمسجد الحرام أفضل بلا خلاف([7]). أي من الخروج إلى المصلى.
ب- في غير مكة:
السنة أن يصلى العيد في المصلى خارج البلد إلا لعذر من مطر أو غيره، هكذا جرى عمل المسلمين في سائر الأمصار والعصور وأما حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره: (أن الناس أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم العيد في المسجد)([8])، ففي إٍسناده مجهول.
وحكى عن الشافعي: إن كان مسجد البلد واسعاً، فالصلاة فيه أولى لشرف البقعة.(/5)
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى في المصلى مع شرف مسجده عليه الصلاة والسلام.
وجعل العلة الضيق والسعة مجرد تخمين لا ينتهض للاعتذار عن التأسي به صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المصلى.
ج- ويستحب للإمام أن يخلف من يصلى بضعفة الناس - الذين يعجزون من الخروج إلى المصلى - في المسجد، كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
حكم خروج الصبيان والنساء:
يشرع خروج النساء في العيدين من غير فرق بين البكر والثيب والشابة والعجوز والحائض وغيرها، ما لم تكن معتدة، أو كان في خروجها فتنة، أو كان لها عذر؛ لحديث أم عطية (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيض، وذوات الخدور؛ فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: ((لتلبسها أختها من جلبابها))([9]) وقوله: ((لتلبسها أختها من جلبابها))؟ قال النووي: "الصحيح أن معناه لتلبسها جلباباً لا تحتاج إليه".
والقول بكراهة الخروج على الإطلاق رد للأحاديث الصحيحة بالآراء الفاسدة وتخصيص الشابة يأباه صريح الحديث المتفق عليه وغيره، كما قال الشوكاني في النيل([10]).
وإنما يستحب لهن الخروج إذا التزمن بآدابه؛ فيخرجن غير متطيبات، ولا يلبسن ثوب شهرة ولا زينة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وليخرجن تفلات)) ([11])، أي غير متطيبات، ولا يخالطن الرجال بل يكن ناحية منهم. قال ابن حجر: "وفيه امتناع خروج المرأة بغير جلباب"([12]).
فإذا كانت المرأة حائضاً اعتزلت المصلى، قال النووي: "والجمهور أن هذا المنع هو منع تنزيه لا تحريم، وسببه الصيانة والاحتراز من مقارنة النساء للرجال من غير حاجة ولا صلاة"([13]).
وقال ابن المنير: الحكمة في اعتزالهن أن في وقوفهن وهن لا يصلين مع المصليات إظهار استهانة بالحال. فاستحب لهن اجتناب ذلك([14]). ولا بأس عليهن – أي الحيّض – إذا ذكرن الله تعالى، وكبرن، لقول أم عطية عند مسلم: (فليكن خلف الناس يكبرنّ مع الناس) وإنما يحرم عليها قراءة القرآن، قاله النووي([15]).
وأما خروج الصبيان إلى المصلى؛ فقد بوب البخاري رحمه الله له في الصحيح بقوله: (باب خروج الصبيان إلى المصلى)؛ قال ابن حجر: أي في الأعياد، وإن لم يصلوا. وأخرج البخاري عن ابن عباس لما سُئل: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولولا مكاني من الصفر ما شهدته.
قال ابن بطال: خروج الصبيان للمصلى إنما هو إذا كان الصبي ممن يضبط نفسه عن اللعب، ويعقل الصلاة – ويتحفظ مما يفسدها – ألا ترى ضبط ابن عباس للقصة؟ اهـ.
قال ابن حجر: وفيه نظر؛ لأن مشروعية إخراج الصبيان إلى المصلى إنما هو للتبرك، وإظهار شعار الإسلام بكثرة من يحضر منهم، ولذلك شرع للحيض ... فهو شامل لمن تقع منهم الصلاة أولا – وعلى هذا إنما يُحتاج أن يكون مع الصبيان من يضبطهم عما ذكر من اللعب ونحو سواء صلوا أم لا. وأما ضبط ابن عباس القصة فلعله لفرط ذكائه والله أعلم([16]).
وقت الخروج إلى الصلاة:
يستحب التبكير إلى العيد بعد صلاة الصبح إلا الإمام؛ فإنه يتأخر إلى وقت الصلاة لفعله صلى الله عليه وسلم ذلك، فإذا جاء إلى المصلى وقعد في مكان مستتر عن الناس فلا بأس، قاله صاحب المغنى.
وقال مالك: مضت السنة أن يخرج الإمام من منزله قدر ما يبلغ مصلاه، وقد حلّت الصلاة، فأما غيره فيستحب له التبكير، والدنو من الإمام.
الاغتسال للعيدين ووقته والتزين لهما:
يستحب أن يغتسل للعيد، وكان ابن عمر يغتسل يوم الفطر، ولم يثبت فيه حديث مرفوع ينتهض للاحتجاج به، وأحسن ما يستدل به على استحباب الغسل لهما ما رواه البيهقي بسند صحيح عن علي رضي الله عنه لما سئل عن الغسل قال: يوم الجمعة، ويوم عرفة، يوم النحر، ويوم الفطر([17]).
ولأنه يوم يجتمع الناس فيه للصلاة فاستحب الغسل فيه كيوم الجمعة. وإن اقتصر على الوضوء أجزأه.
كما يسن التنظف بحلق الشعر وتقليم الظفر – إلا في الأضحى لمن أراد أن يضحي فالسنة الإمساك حتى يذبح أضحيته([18]) –، والتسوك لأنه يوم عيد واجتماع فأشبه الجمعة.
وأما التطيب للرجال فلما سبق من وجود معنى الجمعة فيه. وأما المرفوع فلم يثبت منه شيء ينتهض للاحتجاج به([19]). وصح عن ابن عمر أنه كان يتطيب يوم الفطر([20]).
وقال مالك: سمعت أهل العلم يستحبون الطيب والزينة في كل عيد.
كما يستحب أن يلبس أحسن ما يجد من الثياب لما ثبت عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يلبس يوم العيد بردة حمراء؛ ولقول عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، ابتع هذه تتجمل بهما في يوم العيدين والوفد([21]). فدل على أن التجمل عندهم في هذه المواضع كان مشهوراً([22]).(/6)
وأما المعتكف فقد قال صاحب المغني: "إنه يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه ليبقى عليه أثر العبادة والنسك". وقد رد الشيخ ابن عثيمين لهذا القول، وقال: "إنه خلاف السنة، وأن السنة في العيد أن يتجمل سواء كان معتكفاً أم غير معتكف"([23]).
وقت الاغتسال:
قولان: الأول: بعد طلوع الفجر لأنه غسل الصلاة في اليوم فلم يجز قبل الفجر كغسل الجمعة: فإن اغتسل قبل الفجر لم يصب سنة، وهذا ظاهر كلام الخرقي كما ذكر صاحب المغني، ورواية في مذهب الشافعي.
الثاني: جواز الغسل قبل الفجر وبعده، وهو الصحيح من مذهب الشافعية، والمنصوص عليه عند أحمد؛ لأن زمن العيد أضيق من وقت الجمعة، فلو وُقِف على الفجر ربما فات،؛ولأن المقصود منه التنظف، وذلك يحصل بالغسل في الليل لقربه من الصلاة، والأفضل أن يكون بعد الفجر ليخرج من الخلاف، وليكون أبلغ في النظافة لقربه من الصلاة، ولهذا اختيار صاحبه المغني([24]).
الأكل قبل الخروج للصلاة في الفطر دون الأضحى:
يسن أكل تمرات وتراً قبل الخروج إلى الصلاة في عيد الفطر لما رواه البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وتراً.
فإن لم يجد تمراً أفطر ولو على ماء، قاله ابن حجر في الفتح([25]).
أما في عيد الأضحى فالسنة ألا يأكل حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته إن كان له أضحية، وذلك لما رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد من حديث بريدة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع) ([26]). زاد أحمد: (فيأكل من أضحيته).
أيهما أفضل المشي أم الركوب؟
والسنة أن يأتي العيد ماشياً وعليه السكينة والوقار لما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث علي رضي الله عنه: (إن من السنة أن تأتي العيد ماشياً)، والحديث مع ضعفه فإن له شواهد كثيرة يدل مجموعها على أن له أصلاً؛ منها حديث ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى العيد ماشياً، ويرجع ماشياً([27]).
فإن كان له عذر، أو كان مكانه بعيداً فركب فلا بأس.
قال أحمد رحمه الله: نحن نمشي ومكاننا قريب، وإن بَعُد ذلك عليه فلا بأس إن يركب، ذكره صاحب المغني.
وقال البخاري: باب المشي والركوب إلى العيد ... ولم يذكر من الأحاديث ما يدل على مشي ولا ركوب. قال ابن حجر في توجيه ترجمة الباب: يحتمل أن يكون البخاري استنبط من قوله في حديث جابر: (وهو يتوكأ على بلال) ([28])، مشروعية الركوب لمن احتاج إليه، وكأنه يقول: الأولى المشي حتى يحتاج إلى الركوب ... والجامع بين الركوب والتوكؤ الارتفاق بكل منهما. اهـ.
وقال النووي في المجموع: ولا بأس أن يركب في الرجوع لما ذكره المصنف.... ([29]) قال: وصورته إذا لم يتضرر الناس بركوبه، فإن تضرروا به لزحمة وغيرها كره لما فيه من الإضرار. اهـ.
التكبير في الطريق إلى المصلى:
ومن السنة التكبير في الطريق إلى المصلى ورفع الصوت بالتكبير للرجال، لما أخرجه البيهقي بسند حسن عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين مع الفضل ابن عباس وعبد الله والعباس وعلي وجعفر والحسن والحسين، وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن ابن أم أيمن رضي الله عنهم رافعاً صوته بالتهليل والتكبير)([30]).
وأخرج الدارقطني والفريابي أن ابن عمر كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يأتي الإمام([31]).
ويتأكد التكبير في الفطر عنه في الأضحى لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185]. ولما أخرجه الفرياني بسند صحيح عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: (كانوا في الفطر أشد منهم في الأضحى). قال وكيع: يعني في التكبير([32]).
هل يكبر حتى يأتي المصلى أو حتى يخرج الإمام؟
روايتان عن أحمد ذكرهما صاحب المغني، وسبق أن ابن عمر كان يكبر حتى يأتي الإمام.
صيغة التكبير:
ثبت عن ابن مسعود عن ابن أبي شيبة أنه كان يقول: (الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)، بتشفيع التكبير، وفي رواية أخرى له أيضاً بتثليث التكبير وهي صحيحه([33]).
وقال ابن حجر في الفتح: أصح ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال: (كبروا الله، الله أكبر، الله، الله أكبر كبيراً) ([34]).
حكم التكبير الجماعي:
سُئل الشيخان ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله عن حكم التكبير الجماعي – أي اجتماع الناس على التكبير في نفس واحد بنغمة واحدة – فأجابا: أن ذلك الاجتماع غير مشروع، وأنه خلاف السنة والثابتة من فعل السلف رضوان الله عليهم. اهـ.(/7)
وقد استدل البعض بما أخرجه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم أن ابن عمر رضي الله عنه كان يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل السوق حتى ترتج منى تكبيراً، وكذا قوله: ... وكنَّ النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد([35])، على مشروعية التكبير على الصورة المذكورة، وهو لا يدل صراحة على ذلك لاحتمال أن يكون المراد ابتداء الذكر لا المداومة على ذلك، فالمسألة اجتهادية وهي محل نظر بين أهل العلم، والله أعلم بالصواب.
لكن ينبغي أن لا يتخذ ذلك سبيلاً للتنازع والتشاحن وذم أحد الفريقين الآخر فهذا لا يجوز بالاتفاق.
التطوع قبل صلاة العيد وبعدها:
لم يثبت لصلاة العيدين سنة قبلها ولا بعدها، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه يصلون إذا انتهوا إلى المصلى شيئاً قبل الصلاة ولا بعدها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم العيد فصلى ركعتين، لم يصل قبلهما ولا بعدهما([36]).
قال ابن العربي: التنفل في المصلى لو فُعل لنقل، ومن أجازه رأى أنه وقت مطلق للصلاة، ومن تركه رأى النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ومن اقتدى فقد اهتدى([37]).
قال ابن حجر: وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص إلا إن كان ذلك في وقت الكراهة الذي في جميع الأيام والله أعلم([38]).
وفرق بعضهم بين المأموم والإمام، فكرهه للإمام وأباحه للمأموم.
وذهب آخرون إلى التفريق بين قبل الصلاة وبعدها على قولين ذكرهما ابن المنذر عن أحمد:
الأول: جواز الصلاة بعدها، وهو قول الأوزاعي والنووي والحنفية وبه يقول الكوفيون.
الثاني: جواز الصلاة قبلها لا بعدها، وهو قول الحسن البصري وجماعة، وهو مذهب البصريين.
ولعله للجمع بين هذه الأقوال أن يقال:
إن السنة ترك الصلاة قبلها وبعدها في المصلى، فإذا صلى بعدها في البيت، سواء كان إماماً أو مأموماً جاز. والله أعلم. ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه وأحمد والحاكم بإسناد حسن.
عن أبي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين) ([39]).
وذهب بعض أهل العلم – كالشيخ ابن عثيمين – إلى أن مصلى العيد مسجد، فإذا دخله الإنسان فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، واستدل بمنع الرسول صلى الله عليه وسلم الحيض أن يمكثن فيه، وأمرهن باعتزاله([40]).
وقد سبق ذكر كلام أهل العلم عن حكمة أمر الحيض باعتزال المصلى.
أما إن صلى الناس العيد في المسجد فالأصل صلاة ركعتي تحية المسجد.
وقت صلاة العيد:
يبدأ وقتها إذا ارتفعت الشمس قيد رمح (حوالي ثلاثة أمتار)، ويمتد إلى الزوال، ولم يصح في تحديدها حديث مرفوع ينتهض للاحتجاج به، وأما حديث الأسود بن قيس عن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم يوم الفطر والشمس على قيد رمحين، والأضحى على قيد رمح، ففي إسناده المعلى بن هلال، اتفقوا على تكذيبه.
وقال أصحاب الشافعي: أول وقتها إذا طلعت الشمس لحديث يزيد بن خُمير قال: خرج عبد الله بن بسر، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنْ كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح([41]).
وليس في ذلك دليل لما ذهبوا إليه؛ لأن معناه إذا مضى وقت الكراهة، ويكون إنكاره إبطاء الإمام عن وقتها المجمع عليه. ويرده أيضاً عموم نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند بلوغ الشمس حتى ترتفع وعليه جرى عمل المسلمين في جميع العصور والأمصار.
ويُسن تقدم الأضحى ليتسع وقت الأضحية، وتأخير الفطر ليتسع وقت إخراج الصدقة.
حكم الأذان والإقامة لها وقول الصلاة جامعة:
قال ابن القيم في الزاد: "كان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة من غير أذان ولا إقامة ولا قول الصلاة جامعة، والسنة أن لا يُفعل شيء من ذلك".
وأخرج مسلم عن عطاء قال: "أخبرني جابر أن لا أذان لصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام، ولا بعدها يخرج، ولا إقامة، ولا نداء، ولا شيء، لا نداء يومئذ ولا إقامة".
قال الشيخ ابن باز حفظه الله في تعليقه على حديث جابر: "هذا... ومن هنا يعلم أن النداء للعيد بدعة بأي لفظ كان، والله أعلم"([42]).
صفة صلاة العيد:
عدد ركعاتها:
لا خلاف بين أهل العلم أن صلاة العيد مع الإمام ركعتان وإنما اختلفوا فيمن لم يدركها معه كما سيأتي بمشيئة الله، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (صلاة العيد والأضحى ركعتان ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى) ([43]).
ما يقرأ فيها:
لا خلاف بين أهل العلم في مشروعية قراءة الفاتحة وسورة في كل ركعة من صلاة العيد.(/8)
ويستحب أن يقرأ في الأولى بسبح، وفي الثانية بالغاشية لحديث النعمان بن بشير عند مسلم وغيره قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين، وفي الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]. و{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]. وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما).
أو يقرأ بـ {ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ} [ق:1].و{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]. لحديث أبي واقد الليثي عند مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفطر والأضحى بـ {ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ} [ق:1].و{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1].
ومهما قرأ به أجزأه، ولكن الأولى اتباع السنة.
الجهر فيها:
يسن الجهر فيهما، قال ابن المنذر: أكثر أهل العلم يرون الجهر بالقراءة، وفي إخبار من أخبر بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أنه كان يجهر.
التكبير فيها:
يستحب للإمام أن يكبر في الصلاة سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية، ثبت هذا عن جماعة من الصحابة والتابعين، كعمر وعثمان وعلي وأبي هريرة وابن عباس وأبي سعيد وغيرهم ، وروى ذلك عن فقهاء المدينة السبعة، وعمر بن عبد العزيز والزهري ومالك.
وأما المرفوع فمختلف فيه، ومن ذلك ما روته عائشة أنه صلى الله عليه وسلم: (كان يكبر في الفطر والأضحى: في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرتي الركوع) ([44]).
وأخرجه الدارقطني عنها بلفظ (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في العيدين اثنى عشر تكبيرة سوى تكبيرتي الاستفتاح) ([45]) وهذا مذهب الشافعي والأوزاعي وإسحاق.
وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح على شرط الشيخين، عن ابن عباس أنه كان يكبر في العيد في الأولى سبع تكبيرات بتكبيرة الاستفتاح وفي الآخرة ستاً بتكبيرة الركعة كلهن قبل القراءة([46]).
وأما التكبير أربعاً فقد ثبت من فعل بعض الصحابة، والمرفوع منه فيه ضعف يسير([47]).وهذا مذهب الأحناف.
وصح عن ابن عباس أنه قال: (من شاء كبر سبعاً، ومن شاء كبر تسعاً، وبإحدى عشرة وثلاث عشرة) ([48]).
قال الشيخ الألباني: ويجمع بينها أنه كان يرى التوسعة في الأمر وأنه يجيز كل ما صح عنه... والله أعلم. اهـ.
وكون بعض الصحابة كبر سبعاً وخمساً وبعضهم كبر أربعاً دون إنكار أحد من الصحابة شيئاً من ذلك، يدل على ثبوت التكبيرتين والله أعلم، إذ التكبير فيها عبادة، والأصل فيها التوقيف([49]).
رفع اليدين مع كل تكبيرة:
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
الأول: أنه يستحب رفع اليدين مع كل تكبيرة مثل رفعها مع تكبيرة الإحرام، وهو قول عطاء والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد ورواية عن مالك، ودليلهم عموم حديث وائل بن حجر أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير([50]).
قال أحمد: أما أنا فأرى أن هذا الحديث يدخل فيه هذا كله.
وروى عن عمر أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة في الجنازة، والعيد([51]).
الثاني: أنه لا يستحب رفعهما في غير تكبيرة الإحرام وهو قول الثوري ورواية عن مالك واختاره الشيخ الألباني.
ويمكن توجيه القولين على ما ذكره مالك ونقله عنه ابن المنذر قال: (ليس في ذلك سنة لازمة، فمن شاء رفع يديه فيها كلها وفي الأولى أحب إلي)([52]).
ما يقول بين التكبير:
يحمد الله ويثني عليه يُصلى على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين، ودليل ذلك ما رواه الأثرم واحتج به أحمد، عن عقبة بن عامر قال: سألت ابن مسعود عما يقول بعد تكبيرات العيد، قال: (يحمد الله ويثني عليه، ويُصلى على النبي صلى الله عليه وسلم)([53]).
فإن قال غيره نحو أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أو ما شاء من الذكر، فجائز، قاله صاحب المغني، وهو قول الشافعي، ويؤيده ما أخرجه البيهقي بسند جيد عن ابن مسعود قال في صلاة العيد: (بين كل تكبيرتين حمد الله عز وجل، وثناء على الله) ([54]).
وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي: يكبر متوالياً، لا ذكر بينه، لأنه لو كان هناك ذكر بينها لنقل إلينا كما نقلت (أي التكبيرات).
وأثر ابن مسعود صحيح يشهد للقولين الأوليين، والله أعلم.
إذا شك في عدد التكبيرات، ماذا يصنع؟
إذا شك في عدد التكبيرات، بنى على اليقين وهو الأقل.
فإذا ترك التكبير عمداً أو سهواً؟
لم تبطل صلاته لأنه سنة، قال ابن قدامة: ولا أعلم فيه خلافاً.
فإن نسى التكبير، وشرع في القراءة لم يعد إليه، وهو أحد قولي الشافعي واختاره ابن عثيمين، وقيل يعود إلى التكبير لأنه ذكره في محله وهو القيام وهذا قول مالك والقول الثاني للشافعي.
وإن ذكر التكبير بعد القراءة فأتى به لم يُعد القراءة وجهاً واحداً.
وإن لم يذكره حتى ركع سقط وجهاً واحداً لفوات محله.
المسبوق إذا أدرك الإمام بعد تكبيره:(/9)
قال ابن قدامة: قال ابن عقيل: يكبر؛ لأنه أدرك محله، ويحتمل أن لا يكبر، لأنه مأمور بالإنصات إلى قراءة الإمام، ويحتمل أنه إن كان يسمع قراءة الإمام أنصت وإن كان بعيداً كبر. اهـ.
قلت: والإنصات أولى؛ لأنه مأمور به حال قراءة الإمام، بخلاف التكبير فهو سنة بالاتفاق، كما أنه – أي التكبير – سنة فات محلها، والله أعلم.
متى يقول دعاء الاستفتاح؟
يدعو بدعاء الاستفتاح عقيب التكبيرة الأولى، ثم يكبر تكبيرات العيد، ثم يتعوذ، ثم يقرأ، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد واختاره ابن قدامة.
والرواية الأخرى عن أحمد أن الاستفتاح بعد التكبيرات، لأن الاستفتاح تليه الاستعاذة وهي قبل القراءة.
قال ابن قدامة: ولنا أن الاستفتاح شرع ليستفتح به الصلاة، فكان في أولها كسائر الصلوات، والاستعاذة شرعت للقراءة، فهي تابعة لها، فتكون عند الابتداء بها... ثم قال: وأياما فعل كان جائزاً([55]).
خطبة العيدين والسنة فيها:
حكمها:
الخطبة بعد صلاة العيد سنة، والاستماع إليها كذلك لحديث عبد الله بن السائب قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال: (إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب)([56])، ولكن الاستماع لها أفضل.
قال الشافعي: لو ترك الاستماع كرهته([57]).
وقتها:
لا خلاف بين المسلمين أن السنة في خطبة العيد أن تكون بعد الصلاة، وأن ما أحدثه بنو أمية من جعلها قبل الصلاة بدعة محدثة مخالفة لسنته صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر عليهم فعلهم، ودليل ذلك ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، كانوا يُصلون العيدين قبل الخطبة.
فلو خطب قبل الصلاة فهو مسيء، وفي الاعتداء بالخطبة قولان: أصحهما أنه لا يعتد بها لقوله عليه الصلاة والسلام: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، وقياساً على السنة الراتبة بعد الفريضة إذ قدمها عليها، قاله النووي في المجموع([58]).
صفتها:
يستحب افتتاح الخطبة بحمد الله تعالى، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم غير هذا.
قال ابن القيم: كان صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه كلها بالحمد، ولم يحفظ عنه في حديث واحد صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يكبر بين أضعاف الخطبة، ويكثر التكبير في خطبة العيد)([59]). وإن كان في فطر حث على صدقة الفطر، وبين بعض أحكامها، وإن كان في أضحى حث على سنة الأضحية وبين السن المجزئة فيها.
تكرار الخطبة:
واختلف في تكرار الخطبة، فأكثر أهل العلم أن الإمام يخطب للعيد خطبتين، يجلس بينهما قياساً على خطبتي الجمعة، ولحديث جابر قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فخطب قائماً، ثم قعد قعدة، ثم قام) ([60]).
والقول الآخر: أنه يخطب للعيد خطبة واحدة لا يجلس أثناءها، وقياس خطبة العيد على خطبة الجمعة قياس مع الفارق؛ لأن الأولى سنة، والثانية واجبة، كما أن خطبة الجمعة تكون قبل الصلاة وتلك بعدها، وأما السنة، فلم يثبت من طريق صحيح يحتج به أن للعيد خطبتين يفصل بينهما الإمام بجلوس، ونقل صاحب فقه السنة عن النووي قوله: لم يثبت في تكرير الخطبة شيء([61]).
حكم اتخاذ المنبر لها:
قال البخاري: باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، وذكر حديث أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم ... قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان – وهو أمير المدينة – في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجذبت بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله([62]).
وفي رواية: (فقام رجال فقال: يا مروان، خالفت السنة، أخرجت المنبر في يوم عيد، ولم يكن يخرج فيه، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد أدى ما عليه)([63]).
قال ابن حجر: يحتمل أن تكون القصة تعددت، وقال: وفيه أن الخطبة على الأرض عن قيام في المصلى أولى من القيام على المنبر، والفرق بينه وبين المسجد أن المصلى يكون بمكان فيه فضاء فيتمكن من رؤيته كل من حضر، بخلاف المسجد فإنه يكون في مكان محصور فقد لا يراه بعضهم([64]).
حكم الكلام أثناء الخطبة:
يكره الكلام والإمام يخطب يوم العيد ... نقله في المجموع من الشافعي، وابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن وعطاء وغيرهما، ولا شك أن من الأدب ألا يتكلم لأنه إذا تكلم أشغل نفسه وغيره.
مخالفة الطريق:
ذهب أكثر أهل العلم إلى استحباب الذهاب إلى صلاة العيد في طريق، والرجوع في طريق آخر سواء كان إماماً أو مأموماً لحديث جابر عند البخاري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى العيد يرجع في غير الطريق الذي ذهب فيه.(/10)
ويجوز الرجوع في الطريق الذي ذهب فيه كما ثبت هذا من فعل بعض الصحابة رضوان الله عليهم، عند أبي داود وغيره.
اجتماع العيد والجمعة:
إذا اجتمع العيد والجمعة في يوماً واحد سقطت الجمعة عند أكثر أهل العلم([65]) عمن صلى العيد لحديث زيد بن أرقم قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: (من شاء أن يُصلى فليصل)([66]).
أما الإمام ففي سقوطها عنه روايتان:
الأول: لا تسقط لقوله عليه الصلاة والسلام: (قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون)([67])؛ ولأن الإمام لو تركها لامتنع فعل الجمعة في حق من تجب عليه، ومن يريدها ممن سقطت عنه، بخلاف غيره من الناس.
والثانية: تسقط لعموم قوله (فمن شاء)، ولما أخرجه النسائي وأبو داود عن وهب بن كيسان قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير، فأخَّر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى، ولم يُصلي للناس يوم الجمعة، فذكرت ذلك لابن عباس، فقال: أصاب السنة ([68])، وفي رواية أبي داود: (فجمعهما جميعاً فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر)([69]).
قال الشوكاني: ويدل على أن الترخيص عام لكل واحد ترك ابن الزبير للجمعة وهو الإمام إذا ذاك، وقول ابن عباس أصاب السنة، رجاله رجال الصحيح، وعدم الإنكار عليه من أحد من الصحابة، وأيضاً لو كانت الجمعة واجبة على البعض لكانت فرض كفاية، وهو خلاف معنى الرخصة. اهـ([70]).
قلت: وهذا الذي ذكره الإمام الشوكاني رحمه الله فيه نظر، إذ يحتمل أن يكون ابن الزبير رضي الله عنه قد قدَّم الجمعة إلى قبل الزوال على القول بذلك، ويؤيده قول ابن عباس: أصاب السنة، إذ السنة في حق الإمام صلاة الجمعة وإن صلى العيد كما هو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإنا مجمعون))، والله أعلم.
وهل يُصلى الظهر إذا ترك الجمعة؟
في وجوبها، فقيل تجب صلاة الظهر على من تخلف عن الجمعة لحضوره العيد، وقيل لا تجب لحديث ابن الزبير عن أبي داود، وقد تقدم، قال الشوكاني: قوله: (لم يزد عليهما حتى صلى العصر): ظاهره أنه لم يصل الظهر، وفيه أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يُصلى الظهر وإليه ذهبه عطاء([71]).
قال الخطابي: وهذا لا يجوز أن يحمل إلا على قول من يذهب إلى تقديم الجمعة قبل الزوال، فعلى هذا يكون ابن الزبير قد صلى الجمعة فسقط العيد؛ والظهر، ولأن الجمعة إذا سقطت مع تأكدها، فالعيد أولى أن يسقط بها، أما إذا قدم العيد فإنه يحتاج إلى أن يُصلى الظهر في وقتها إذا لم يصل الجمعة([72]).
قال الشوكاني في التعقيب على هذا التوجيه: ولا يخفى ما في هذا الوجه من التعسف([73]).
وقال صاحب فقه السنة: والظاهر عدم الوجوب([74]). أي عدم وجوب الظهر لمن شهد العيد وتخلف عن الجمعة.
حكم من فاتته صلاة العيد:
أ - الجماعة إذا فاتتها صلاة العيد بسبب عذر: فإنها تخرج من الغد فتصلى العيد، لما رواه أحمد والنسائي وابن ماجه بسند صحيح من حديث أبي عمير بن أنس قال: حدثني عمومتي من الأنصار من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا: أغمى علينا هلال شوال وأصبحنا صياماً فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد([75]).
قال الشافعي: إن علم بعد الغروب صلاها من الغد، وإن علم بعد الزوال لم يُصلِّ.
قال الخطابي: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، وحديث أبي عمير صحيح، فالمصير إليه واجب([76]).
ب - الواجب إذا فاتته مع الإمام:
1- من فاتته لعذر: من كان يوم العيد مريضاً أو محبوساً، أو خرج ليصلي ففاتته الصلاة مع الإمام، وعادته يُصلى العيد، فهؤلاء يصلون جماعة وفرادى.
قال ابن تيمية رحمه الله: وهؤلاء بمنزلة الذين استخلف علي من يُصلى بهم([77]).
2- من تركها لغير عذر: ظاهر كلام ابن تيمية أنه لا يشرع له قضاؤها، فقال: والذي خرج ليصل ففاتته مع الإمام يصلى يوم العيد، بخلاف من تعمد الترك([78]).
وأكثر العلماء يقولون بمشروعية القضاء مطلقاً سواء كان الترك اضطرارًا أم اختياراً. قال البخاري: باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين.
قال ابن حجر: في هذه الترجمة حكمان: مشروعية استدراك صلاة العيد كأصلها إذا فاتته مع الجماعة سواء كانت بالاضطرار أو بالاختيار، وكونها تقضى ركعتين كأصلها([79]).
والمشهور عن مالك أنه لا قضاء عليه أصلاً؛ لأنها صلاة من شرطها الجماعة والإمام كالجمعة، وقال أبو حنيفة يتخير بين القضاء والترك.
متى يقضيها:(/11)
إذا فاتت حتى تزول الشمس، وأحب قضاءها، قضاها متى أحب، وقيل لا يقضيها إلا من الغد قياساً على الجماعة إذا فاتتها الصلاة، وهو قياس مع الفارق، قال ابن قدامة: "لأن ما يفعله تطوع فمتى أحب أتى به ... بخلاف الحالة الأولى (أي الجماعة إذا فاتها العيد) التي يعتبر لها شروط العيد، ومكانه وصفة صلاته، فاعتبر لها الوقت"([80]).
أين يقضيها؟
قيل لأبي عبد الله: أين يُصلي؟ (أي من فاتته الصلاة) قال: إن شاء مضى إلى المصلى، وإن شاء حيث شاء([81]).
صفة القضاء:
يقضيها ركعتين كصلاة الإمام يكبر فيها نحو تكبيرة ويجهر كجهره لما روى عن أنس، أنه (كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام بالبصرة جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فيصلى بهم ركعتين، يكبر فيهما)([82])؛ ولأنه قضاء صلاة فكان على صفتها كسائر الصلوات، وهي مخير، إن شاء صلاها وحده، وإن شاء في جماعة([83])، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن مالك ورواية عن أحمد.
والمشهور في مذهب أحمد أن من فاتته صلاة العيد صلى أربع ركعات، كصلاة التطوع، وهي المختارة عند محققي أصحابه، واختاره ابن قدامة في المغني لقول ابن مسعود رضي الله عنه: (من فاته العيد مع الإمام فليصل أربعاً)([84]). قال الإمام أحمد: يقوى ذلك حديث علي، أنه أمر رجلاً يُصلى بضعفة الناس أربعاً ولا يخطب، ولأنه قضاء صلاة العيد فكان أربعاً كصلاة الجمعة([85]).
قال الزين ابن المنير: لكن الفرق ظاهر (أي بين العيد والجمعة) لأن من فاتته الجمعة يعود لفرضه من الظهر بخلاف العيد([86]).
وقال أبو حنيفة، وهي رواية عن أحمد: يخير بين أن يصلي ركعتين أو أربعاً.
وفرق بعضهم بين القضاء في المصلى وغيرها، وفي الجماعة وغيرها.
وذهب ابن رشد إلى أن أقرب الأقوال: هما قول الشافعي وقول مالك([87]).
قال وأما سائر الأقاويل في ذلك فضعيف لا معنى له([88]).
التكبير في العيدين:
يستحب للناس إظهار التكبير في ليلتي العيدين في مساجدهم، ومنازلهم، وطرقهم، مسافرين كانوا أو مقيمين لظاهر قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185]. وإظهاره يكون برفع الصوت به، لما في ذلك من إظهار شعائر الإسلام وتذكير الغير، كما ثبت عن ابن عمر أنه كان يكبر في قبته بمنى، يسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً([89]).
وقت التكبير:
اختلف العلماء في ابتداء وانتهاء وقت التكبير في العيدين:
أ - وقته في عيد الفطر :
قال مالك: يكبر يوم الفطر دون ليلته، وانتهاؤه عنده إلى أن يخرج الإمام.
وعن أحمد والشافعي: ابتداؤه من رؤية الهلال لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} الآية، وإكمال العدة يكون بغروب الشمس من ليلة العيد، وفي انتهائه عند أحمد روايتان، إحداهما: إذا خرج الإمام، وهو قول الشافعي أيضاً.
ب - وقته في الأضحى:
اختلفوا فيه كذلك على أقوال، ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، وأصحها كمال قال الحافظ في الفتح، قول علي وابن مسعود([90]) أنه من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيام منى وهو الثالث عشر من ذي الحجة. وهذا قول أحمد وأبي حنيفة، والراجح من مذهب الشافعي([91]).
وهذا في التكبير المطلق، ويكون على كل حال في الأسواق وغيرها، وفي كل زمان.
أما المقيد الذي يكون عقيب الصلوات فيشرع في عيد الأضحى بلا خلاف، وهل يشرع في عيد الفطر؟ قولان أصحهما أنه لا يشرع لعدم ورود الخبرية، وهو ظاهر كلام أحمد وجمهور الشافعية.
وإذا نسي الإمام التكبير كبر المأموم، وهذا قول الثوري، ذكره ابن قدامة في المغني([92]).
والمسبوق ببعض الصلاة يكبر إذا فرغ من قضاء ما فاته، نص عليه أحمد، وهو قول أكثر أهل العلم.
حكم التكبير لمن صلى منفرداً في هذه الأوقات:
الجمهور أن المنفرد يكبر بعد الصلاة لأنه ذكر مستحب للمسبوق، فاستحب للمنفرد، وهو قول مالك والشافعية ورواية عن أحمد.
والمشهور من مذهب أحمد أن المنفرد لا يكبر لقول ابن مسعود: إنما التكبير على من صلى في جماعة([93]). وكذا نقل عن ابن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده، وهو قول أبي حنيفة.
حكم التكبير خلف النوافل:
الجمهور أنه لا يكبر خلف النوافل.
والراجح عن أصحاب الشافعي جوازه، ورجحه ابن حجر في الفتح.
هل يكبر عقيب صلاة العيد؟
ظاهر كلام أحمد أنه يكبر، لأنها صلاة مفروضة في جماعة فأشبهت الفجر، واختاره صاحب المغني([94]). وقيل لا يسن لأن الأثر إنما جاء في المكتوبات.
حكم تكبير النساء:
روايتان عن أحمد، الأولى: يكبرن، وكان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد([95]).
وينبغي لهن أن يخفضن أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال.
والرواية الثانية عند أحمد: لا يكبر؛ لأن التكبير ذكر يشرع فيه رفع الصوت فلم يشرع في حقهن كالأذان.(/12)
وسبق من حديث أم عطية مشروعيته في حق الحيّض، فهو في حق غيرهن آكد. والله أعلم.
قال الحافظ في الفتح في تعليقه على الآثار التي ساقها البخاري في التكبير أيام العيدين: "وقد اشتملت هذه الآثار على وجود التكبير في تلك الأيام عقب الصلوات وغير ذلك من الأحوال وفيه اختلاف بين العلماء في مواضع، فمنهم من قصر التكبير على أعقاب الصلوات، ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل، ومنهم من خصه بالرجال دون النساء، وبالجماعة دون المنفرد وبالمؤداة دون المقضية، وبالمقيم دون المسافر، وبساكن المدن دون القرية، وظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع والآثار التي ذكرها تساعده"([96]).
صيغة التكبير: حكم التكبير الجماعي:
سبق بحث هاتين المسألتين (ص20، 21، 22).
الاعتماد في الخطبة على ترس أو نحوه:
عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم نُوول يوم العيد قوساً فخطب عليه([97]).
قال الشوكاني: (الحديث فيه مشروعية الاعتماد على سيف أو عصى حال الخطبة، قيل: والحكمة في ذلك الاشتغال عن العبث، وقيل: إنه أربط للجأش).
([1]) متفق عليه، أخرجه البخاري في: كتاب الصوم، باب: صوم يوم الفطر، وفي كتاب الأضاحي: باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي (الفتح 3/280، 10/26)، وأخرجه مسلم في: كتاب الصيام، باب: النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى (2/799).
([2]) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (8/15).
([3]) انظر: نيل الأوطار (4/262).
([4]) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه في أكثر من موضع، في الحيض باب: شهود الحائض العيدين (الفتح 1/504)، وفي العيدين باب خروج النساء والحيض إلى المصلى (2/537)، وفي غيرهما، وأخرجه مسلم في العيدين باب: ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة مفارقات للرجال (صحيح مسلم 2/605)، والعواتق: جمع عاتق، وهي الأنثى أول بلوغها ولم تتزوج بعد، والخدور: البيوت، وقيل ستر يكون في ناحية.
([5]) فتح الباري (2/545).
([6]) انظر أيضاً في بحث لهذه المسألة المغني (3/260) والمجموع (5/524).
([7]) انظر المجموع شرح المهذب (5/524).
([8]) وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود ح (248).
([9]) سبق تخريجه (ص7). والجلباب هو ثوب أقصر وأعرض من الخمار تغطى به المرأة رأسها، وقيل هو ثوب واسع دون الرداء تغطى به صدرها وظهرها، وقيل: هو كالملائه والملحفة، وقيل: هو الإزار الذي يجلل جميع البدن وليس الحقو فقط، وقيل: الخمار. (انظر لسان العرب لابن منظرو 1/650)، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (1/283).
([10]) نيل الأوطار (3/288).
([11]) أخرجه أبو داود وغيره، وهو في صحيح سنن أبي داود للألباني ح (529).
([12]) فتح الباري (1/505).
([13]) صحيح مسلم بشرح النووي (3/179).
([14]) فتح الباري (1/505).
([15]) صحيح مسلم بشرح النووي (6/179).
([16]) فتح الباري (2/540).
([17]) إرواء الغليل (1/176).
([18]) لحديث أم سلمة عند مسلم وغيره مرفوعاً. (إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)، وفي رواية: (فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحى)، ولا بأس بغسل الرأس ودلكه ولو سقط منه شيء من الشعر.
([19]) أثر الحسن بن علي رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتطيب بأجود ما نجده في العيد) رواه الطبراني في الكبير، والحاكم في مستدركه، وفي إسناده إسحاق بن بزرج مجهول كما ذكر الحافظ في التلخيص.
([20]) أحكام العيدين للفريابي (ص83).
([21]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب العيدين باب: في العيد والتجمل فيه، وفي الجهاد باب: التجمل للوفود، وفي غيرهما ( فتح الباري 2/509، 6/198)، وأخرجه مسلم في كتاب اللباب، باب: تحريم استعمال إناء الذهب .. الخ، (صحيح مسلم 3/1639).
([22]) المغنى (3/257).
([23]) أسئلة وأجوبة في صلاة العيدين، لابن عثيمين (ص10).
([24]) انظر في المسألة (المغني 3/258)، وفتح العزيز شرح الوجيز للرافعي بحاشية المجموع (5/21).
([25]) فتح الباري (2/519).
([26]) إسناده صحيح (المشكاة ح1440).
([27]) صحيح سنن ابن ماجه ح(1071).
([28]) حديث جابر هو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس بعد، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال) (الفتح (2/523).
([29]) المصنف هو الشيرازي وقوله المشار إليه هو (ولا بأس أن يركب في العود لأنه غير قاصد إلى قربه). المجموع (5/10).
([30]) الإرواء (3/123).
([31]) الإرواء ح(650).
([32]) الإرواء (3/122).
([33]) تمام المنة (ص356).
([34]) فتح الباري (2/536).
([35]) فتح الباري (2/534).
([36]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب العيدين باب الخطبة بعد العيد، وباب الصلاة قبل العيد وبعدها وفي غيرهما (الفتح (2/526، 552)، وأخرجه مسلم في كتاب العيدين باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلي (صحيح مسلم 2/606).
([37]) فتح الباري (2/552).(/13)
([38]) المصدر السابق (2/552).
([39]) الإرواء (3/100).
([40]) أسئلة وأجوبة في صلاة العيدين (ص12).
([41]) رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم. (الفتح 2/568)، وقوله: حين التسبيح: أي وقت صلاة السبحة وهي النافلة.
([42]) انظر تعليق الشيخ على فتح الباري (2/525).
([43]) أخرجه أحمد بإسناد صحيح (الإرواء ص638).
([44]) رواه أبو داود والفريابي وغيرهما، وفي إسناده ابن لهيعة مختلف فيه، ورواية العبادلة عنه مقبولة على الصحيح، وهذا من رواية عبد الله بن وهب عنه، وهو مخرج في الإرواء (3/17)، وقال الشيخ الألباني حفظه الله بعد أن ساق عدة طرق للحديث: وبالجملة فالحديث بهذه الطرق صحيح، ويؤيده عمل الصحابة به (الإرواء 3/110).
([45]) سنن الدراقطني (2/46).
([46]) الإرواء (3/111).
([47]) انظر أحكام العيدين للفرياني (ص164).
([48]) الإرواء (3/112).
([49]) انظر: سواطع القمرين في تخريج أحاديث أحكام العيدين (ص165).
([50]) الإرواء (641) (3/113).
([51]) قال الألباني: إسناده ضعيف، الإرواء ح (640) (3/112).
([52]) سواطع القمرين (ص183).
([53]) صحيح، الإرواء ح(632).
([54]) الإرواء (3/115).
([55]) المغني (3/273-274).
([56]) رواه النسائي وأبو داود وابن ماجه، وهو صحيح (الإرواء ح 629).
([57]) المجموع (5/23، 24).
([58]) المرجع السابق (5/24، 25).
([59]) قال الألباني في تمام المنة: ومع أنه لا يدل على مشروعية افتتاح خطبة العيد بالتكبير، فإن إسناده ضعيف .. فلا يجوز الاحتجاج به على سنية التكبير في أثناء الخطبة (تمام المنة ص351).
([60]) قال الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه: منكراً سنداً ومتناً، والمحفوظ أن ذلك في خطبة الجمعة، ضعيف سنن ابن ماجه (ص94).
([61]) فقه السنة (1/271).
([62]) فتح الباري ( 2/522).
([63]) نيل الأوطار (3/304).
([64]) فتح الباري (2/520، 522).
([65]) مذهب الشافعي سقوطها عن أهل القرى، ولا تسقط عن أهل البلد، وقال أبو حنيفة لا تسقط عن أهل البلد ولأهل القرى. (المجموع 4/492).
([66]) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وصححه الألباني بشواهده. (تمام المنة ص344).
([67]) رواه أبو داود، وهو في صحيح سنن أبي داود للألباني ح(948).
([68]) صحيح سنن النسائي ح(1501).
([69]) صحيح سنن أبي داود (947).
([70]) نيل الأوطار (3/283).
([71]) نيل الأوطار (3/283).
([72]) المغني (3/243).
([73]) نيل الأوطار (3/283).
([74]) فقه السنة (1/267).
([75]) صحيح سنن ابن ماجه ح(1465).
([76]) المغني (3/286).
([77]) مجموع الفتاوى (24/182).
([78]) المرجع السابق (24/186).
([79]) فتح الباري (2/550).
([80]) المغني (3/286، 287).
([81]) المغني (3/285).
([82]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه باب الرجل تفوته الصلاة في العيد كما يصلي، ورواه البيهقي تعليقاً كما في الإرواء وإسنادهما ضعيف. (الإرواء 3/120، 121).
([83]) المغني (3/284).
([84]) قال الحافظ في الفتح: أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح (الفتح 2/550)، وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة والطبراني في الكبير وقال الهيثمي: (ورجاله ثقات). وتعقبه الألباني بقوله: ولكنه منقطع لأن الشعبي لم يسمع من ابن مسعود كما قال الدارقطني والحاكم. (الإرواء 3/121).
([85]) المغني (3/284).
([86]) الفتح (2/550).
([87]) أي في المشهور عنه، وهو أنه لا قضاء عليه أصلاً.
([88]) بداية المجتهد (1/220).
([89]) رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم (الفتح 2/534).
([90]) أثر علي رواه ابن أبي شيبة من طريقين أحدهما جيد، ومن هذا الوجه رواه البيهقي، وروى مثله عن ابن عباس بإسناد صحيح، وأثر ابن مسعود رواه الحاكم. (انظر الإرواء 3/125).
([91]) انظر في هذه المسألة: (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة (ص61)، وفتح الباري (2/536)، وفقه السنة (1/274).
([92]) المغني (3/293).
([93]) رواه ابن المنذر، وقال الألباني: لم أقف على إسناده. (الإرواء 3/124).
([94]) المغني (3/293).
([95]) رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم (2/534).
([96]) الفتح (2/535).
([97]) أبو داود (1145)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1014).
حكم صلاة العيدين :
اتفق الفقهاء على مشروعية صلاة العيدين، واختلفوا في حكمها على أقوال:
القول الأول:
تجب صلاة العيدين على من تجب عليه الجمعة .
وهو رواية عن أبي حنيفة، وقول محمد بن الحسن، والشافعي، ورجحه من الحنفية ابن الهُمام([1]).
القول الثاني :
أنّها سنة مؤكدة .
وهو قول مالك، والشافعي وكثير من أصحابهما([2]).
القول الثالث:
إنّها فرض كفاية .
وهو قول بعض الشافعية، وهو مذهب الإمام أحمد، وعليه أكثر أصحابه.
قال المرداوي: "هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب"([3]).
القول الرابع:
إنّها فرض عين على الرجال والنساء .
وهو رواية عن أحمد، ومذهب بعض المالكية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيّم، والشيخ السعدي، وابن عثيمين([4]).
أدلة الأقوال :(/14)
أدلة أصحاب القول الأول:
1- قوله تعالى: { وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ }.
2- قوله تعالى: { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ }.
قال الضحاك وقتادة وعطاء وعكرمة { فَصَلّ لِرَبّكَ } صلاة العيد يوم الأضحى، { وَانْحَرْ } نسكك ([5]).
قال الحسن: "نحر البدن، والصلاة يوم النحر"([6]).
قال الجصاص :"هذا التأويل يتضمن معنيين، أحدهما: إيحاب الضحى، والثاني وجوب الأضحية"([7]).
قال القرافي: "جمهور المفسرين على أنها صلاة العيد، وظاهره الوجوب" ([8]).
3- مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها من غير تركٍ لها([9]).
أمّا دليلهم { وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ }؛ فلا يستقيم لهم؛ لأن المراد بالتكبير التكبير ليلة العيد ويومه، لا صلاة العيد، قال ابن عباس: (حقّ على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم)([10]).
فإيجاب صلاة العيد منه غير ظاهر فيه([11]).
أدلة أصحاب القول الثاني:
1- أنّه ليس من سنتها الأذان.
2- قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله هل عليّ غير الصلوات الخمس: ((لا إلا أن تطوع))([12]).
أدلة أصحاب القول الثالث:
1- أنّها من شعائر الإسلام الظاهرة .
2- ظاهر قوله تعالى: { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } [الكوثر: 3].
3- أنّه لو أجمع أهل بلد على تركها قوتلوا عليها .
أدلة أصحاب القول الرابع:
حديث أم عطية: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحُيّض وذوات الخدود، فأمّا الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ قال: ((لتلبسها أختها من جلبابها)) ([13]).
إضافة إلى أدلة القائلين بالوجوب .
الترجيح :
والراجح القول الرابع، الذي هو رواية في مذهب أحمد، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم ([14]).
أمّا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا إلا أن تطوع))؛ فيجاب بأنّ الأعراب لا تجب عليهم إقامة جمعة ولا عيد.
والفرق بين هذا القول وبين قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي القائلين بوجوبها على مَن وجبت عليه الجمعة؛ هو عدم إيجابهم إيّاها على المرأة، لأنّ المرأة لا يجب عليها حضور الجمعة، أمّا العيد فلم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء، قالت أم عطية: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: ((لتلبسها أختها من جلبابها))([15]).
وأمّا قول من قال بأنّها سنة مؤكدة، فهو قول ضعيف، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده داوموا على فعلها من غير تركٍ، ولم يعرف قط دار إسلام يترك فيها صلاة العيد، وهو من أعظم شعائر الإسلام.
وأمّا قول من قال بأنّها فرض كفاية، فمردود بأن فرض الكفاية يكون فيما تحصل مصلحته بفعل البعض، كدفن الميّت، وقهر العدو، وليس يوم العيد مصلحة معينة يقوم بها البعض، بل صلاة يوم العيد شرع لها الاجتماع أعظم من الجمعة، وتقدير العدد فيها تحكم، فليس لأحد أن يتخلف عن الصلاة إلا لعجزه عنها، وإن جاز له التخلف عن الجمعة لسفر أو أنوثة، والله أعلم([16]).
* مراجع المسألة:
فتح القدير (2 /70)، الأصل (1/335)، الدر المختار (2/167)، مجمع الأنهر (1/ 172)، المبسوط (2/37)، الرسالة الفقهية (ص: 144)، المعونة (1/320)، عقد الجواهر (1/ 241)، الذخيرة (2/417)، الأم
(1/213)، الحاوي (2/483)، المجموع (5/2، 3)، نهاية المحتاج (2/385)، البيان (2/624)، روضة الطالبين (2/70)، شرح الزركشي (2/213)، المقنع (5/316)، الشرح الكبير (5/316)، الإنصاف (5/316)، المستوعب (3/50)، اختيارات ابن تيمية (1/254)، اختيارات ابن قدامة (1/432)، المغني (3/
253)، الشرح الممتع (5/151)، تحفة المحتاج (3/239)، الإعلام لابن الملقن (4/194).
حضور العبد والصبي صلاة العيد:
ذهب محمد بن الحسن إلى أنّه لا يجب على العبد حضور العيدين . وهو قول مالك، والشافعيُّ ([17]).
وعلى القول بوجوب صلاة العيد على الأعيان، لا يبعد القول بوجوبها على العبد، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ([18]).
وليس ثَمَّ دليل على إسقاط حضور العيد على العبد، والله أعلم .
ويستحب إخراج الصبيان بغير خلاف في المسألة .
لحديث ابن عباس قيل له: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، ولولا مكاني من الصغر ما شهدته، حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت، فصلّى ثم خطب، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهنّ وذكّرهن وأمرهنّ بالصدقة، فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال، ثم انطلق هو وبلال إلى بيته([19]).
قال ابن حجر: "فهو شامل لمن تقع منهم الصلاة، أو لا"([20]).
قال النوويُّ: "اتفق نصّ الشافعيِّ والأصحاب على استحباب حضور الصبيان المميِّزين صلاة العيد" ([21]).
قال الماورديُّ: "وأمّا الصبيان فيُستحبّ إخراجهم ذُكرانًا وإناثًا" ([22]).(/15)
لأنّ في إخراجهم إظهارًا لشعائر الإسلام، واكتمالَ الفرح المطلوب في هذا اليوم، وليس لأجل الصلاة، فالحُيَّض أمرن بالخروج، وهن لا يصلين، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
الأصل (1/343)، الحجة (1/306)، المبسوط (2/41)، بدائع الصنائع (1/275)، المدونة (1/368)، عقد الجواهر (1/241)، الذخيرة (2/417)، الأم (1/206)، الحاوي (2/ 483)، المجموع (5/ 8)، فتح العزيز (5/ 24)، البيان (2/630)، التمام (1/246)، مسائل أحمد لصالح (ص: 402)، الشرح الكبير (5/ 328)، المستوعب (3/ 54)، الإنصاف (5/328)، المغني (3/263)، الإعلام (4/251).
قضاء الصلاة لمن فاتته :
هل تقضى صلاة العيد أم لا ؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال ستة:
القول الأول:
أن من فاتته صلاة العيد لا يقضيها؛ لأنها لا تعرف إلا على صفة الاجتماع، ويصلى بدلها إن شاء صلاة الضحى ركعتين أو أربعًا .
وهو قول الحنفية ([23])، وقول عن مالك ([24])، وبعض الشافعية، والحنابلة ([25]).
القول الثاني :
أنّ من فاتته صلاة العيدين يقضيها على صفتها كما صلاّها الإمام .
وهو قول النخعي، والشافعي ([26])، ومالك ([27])، وأبي ثور ([28])، والبخاري ([29])، وهو مذهب أحمد، وعليه أكثر أصحابه ([30]).
وحكاه ابن رجب عن أبي حنيفة ([31])، والنووي عن الحنفية ([32])، وقد تقدم النقل عنهم بخلاف هذا .
القول الثالث :
أنّ من فاتته صلاة العيدين يصلى أربع ركعات قضاء، وهو مخيرٌ بين أن يصليهنّ بسلامٍ، أو سلامين .
وهو قول الشعبي([33])، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض أصحابه([34]).
القول الرابع :
أنّ من فاتته صلاة العيدين يصلي ركعتين مطلقًا بلا تكبير .
وهو قول عطاء ([35])، وأبي عياض ([36])، وابن الحنفية ([37])، وعكرمة ([38])، والأوزاعي ([39]).
وقولٌ لمالك، ورواية عن أحمد ([40]).
القول الخامس :
أنّ من فاتته صلاة العيدين إن كانوا جماعة صلوا ركعتين كصلاة الإمام، وإن كان منفردًا صلّى أربعًا .
وهو قول إسحاق بن راهويه ([41])، وهو رواية عن الإمام أحمد ([42]).
القول السادس :
أن من فاتته صلاة العيد يخيّر بين صلاة ركعتين أو أربعًا كذلك .
وهو قول الثوري ([43])، ورواية عن الإمام أحمد ([44]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
1- أنّ صلاة العيد شُرِعت على صورة معينة من الاجتماع، فلا تقضى مثل الجمعة إذا فاتت لم تقضى، وصلوا ظهرًا بدلاً عنها، ولا بدل للعيد .
2- وبأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخِّص للنساء في التخلف عن حضورها، مع أنّه قال في الجمعة والجماعة: ((وبيوتهن خيرٌ لهنّ))([45]).
ولم يذكر أنّ التي تفوتها صلاة العيد تقضيها في بيتها، لا على وجه الوجوب، ولا الاستحباب.
أدلة القول الثاني :
1- بأنّها قضاء صلاة فكانت على صفتها .
2- وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلاّ ذلك)) ([46]).
3- وبما روي عن أنس أنّه كان إذا فاته صلاة العيد جمع أهله، وأمر مولاه؛ فصلّى بِهم صلاة الإمام ([47]).
أدلة القول الثالث :
1- استدل أصحاب هذا القول بأثر ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من فاته صلاة العيد فليصل
أربعًا)([48]).
2- وبما روي عن علي رضي الله عنه أنّه استخلف من يصلي بضعفة المسلمين أربعًا ([49]).
3- وبأنها صلاة بخطبة فأشبهت الجمعة، لأنّ الخطبتين في مقام الركعتين .
أمّا أثر عبد الله بن مسعود فمنقطع ضعيف.
وأمّا ما روي عن علي؛ فلا يصح.
وأمّا قياس ذلك على صلاة الجمعة؛ فقياس ضعيف، لأنّ العيد لا بدل له .
أدلة القول الرابع :
استدلوا بالآثار الواردة عن عطاء وأبي عياض وابن الحنفية وعكرمة والأوزاعي .
وهذه الآثار لا حجة فيها؛ لأنها مخالَفة من غيرهم، ممن يرون أنّ قضاءها يكون بأربع أو بالتخيير .
أدلة القول الخامس :
حجة أصحاب هذا أنّهم إذا كانوا جماعة صلوا ركعتين كركعتي الإمام، ما روي عن أنس بن مالك أنّه كان يجمع مع أهله ويأمر مولاه أن يصلي بهم صلاة الإمام([50]).
وأمّا إذا كان منفردًا صلى أربعًا لقول ابن مسعود السابق .
وقد مضى الكلام على الأثرين .
ولم أجد لأهل القول السادس دليلاً منصوصًا عليه من قبلهم، وقولهم يشبه قول الحنفية؛ إلا أنّ الحنفية نصّوا على أنّ الركعتين أو الأربع صلاة الضحى، وليست قضاء .
الترجيح:
والذي يترجح - والله أعلم - مذهب الحنفية القائلين بأنّ صلاة العيد لا تقضى، لأنّها شُرِعت على هيئة الاجتماع العام، ولا تشرع بغيرها، وهي كالجمعة لا تقضى على صفتها، وإنما يصلون الظهر، لأنّها بدل عنها، والعيد لا بدل له يصلى في وقته، فإن شاؤوا صلوا الضحى، وهذا اختيار شيخ الإسلام ([51])، ورجحه ابن عثيمين([52])، والله أعلم .
* مراجع المسألة :(/16)
شرح فتح القدير (2/46)، الكتاب (1/338، 339، 342)، حاشية ابن عابدين (2/176)، مجمع الأنهر (1/173)، المبسوط (2/39)، بدائع الصنائع (1/279)، المدونة (1/155)، الكافي (1/265)، بداية المجتهد (1/511)، عقد الجواهر (1/244)، الأم (1/399)، المجموع (5/29)، الحاوي (2/497)، البيان (2/651)، شرح الزركشي (2/234)، المقنع (5/364)، الشرح الكبير (5/364)، الإنصاف (5/364)، المستوعب (3/61)، الشرح الممتع (5/207).
([1]) المبسوط (2/37)، مجمع الأنهر (1/172)، الأصل (1/335)، الأم (1/399) ط دار الكتب العلمية، الحاوي (2/104)، شرح فتح القدير (2/40) ط التراث.
([2]) نسبه إلى مالك النوويُّ في المجموع (5/35)، وابن قدامة صاحب الشرح الكبير (5/316)، الرسالة الفقهية (ص: 144)، المعونة (1/320)، التلقين (1/135)، عقد الجواهر (1/241)، الذخيرة (3/417)، الحاوي (3/105)ط دار الفكر، فتح العزيز (5/2)، المجموع (5/2-3)، نهاية المحتاج (2/385)، تحفة المحتاج (3/39)، حلية (2/300)، شرح الزركشي (2/ 213)، الإنصاف (5/317)، المبسوط (2/37).
([3]) الحاوي (3/104)ط: دار الفكر، المجموع (5/3)، البيان (2/625)، حلية (2/300)، شرح الزركشي (2/ 213)، المغني (3/253)، الشرح الكبير (5/316)، الإنصاف (5/316)، المستوعب (3/50).
([4]) شرح الزركشي (2/ 213)، الإنصاف (5/317)، حاشية الدسوقي (1/396)، مجموع الفتاوى (24/183)، زاد المعاد
(2/11)، المختارات الجليّة (ص 72)، الشرح الممتع (5/151).
([5]) أخرجه الطبري عنهم في تفسيره (12/722-723).
([6]) أخرجه الطبري عنه في تفسيره (12/723).
([7]) أحكام الجصاص (5/376).
([8]) الذخيرة (2/417).
([9]) شرح فتح القدير (2/40).
([10]) تفسير الطبري (1/157)ط دار الفكر .
([11]) شرح العناية (2/40).
([12]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب الزكاة من الإسلام (46). ومسلم في الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام (11).
([13]) أخرجه البخاري في الصلاة، باب وجوب الصلاة في الثياب (351). ومسلم في صلاة العيدين، باب إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى (890).
([14]) انظر: كتاب الصلاة له (ص 11).
([15]) تقدم تخريجه.
([16]) ملخص كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (24/182 – 184).
([17]) الأصل (1/344)، المدوّنة (1/168)، الحاوي (2/483).
([18]) مجموع الفتاوى (24/184).
([19]) البخاري (977).
([20]) فتح الباري (2/466).
([21]) المجموع (5/9).
([22]) الحاويّ (3/121).
([23]) الأصل (1/338)، شرح فتح القدير (2/46)، حاشية ابن عابدين (2/176)، مجمع الأنهر (1/173)، المبسوط (2/159)، بدائع الصنائع (1/279)، البحر الرائق (2/2812).
([24]) بداية المجتهد (1/511).
([25]) المجموع (5/29)، المغني (3/284)، المبدع (2/190)، الفروع (2/145).
([26]) الأم (1/399).
([27]) المدونة (1/155)، الكافي لابن عبد البر (1/265)، الشرح الكبير للدردير (5/364).
([28]) المجموع (5/29).
([29]) انظر: صحيح البخاري كتاب العيدين، باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين .
([30]) المقعنع والشرح الكبير والإنصاف (5/364).
([31]) فتح الباري لابن رجب (9/79-80).
([32]) المجموع (5/29).
([33]) ابن أبي شيبة (5800).
([34]) المغني (3/284-285)، شرح الزركشي (2/334)، الروايتين (1/159)، الإنصاف (5/365).
([35]) ابن أبي شيبة (5801).
([36]) ابن أبي شيبة (5803).
([37]) ابن أبي شيبة (5805).
([38]) عبد الرزاق (8/57).
([39]) أخرجه الفريابي في أحكام العيدين (148).
([40]) فتح الباري (2/474 – 475).
([41]) فتح الباري (2/475)، المجموع (5/29)، البيان (2/651).
([42]) فتح الباري لابن رجب (9/78)، الإنصاف (5/365).
([43]) البيان (2/651).
([44]) المقنع والشرح الكبير والإنصاف (5/364-365)، المستوعب (3/62).
([45]) أبو داود (567)، وصححه ابن خزيمة (1684).
([46]) تقدم تخريجه.
([47]) أخرجه ابن أبي شيبة (5803)، وضعّفه الألباني في الإرواء (648).
([48]) عبد الرزاق (5713)، وابن أبي شيبة (8/579)، والفريابي (149)، وابن المنذر (2186)، من طريق الشعبي عن ابن مسعود، وهو لم يسمع من ابن مسعود رضي الله عنه، وقد تفرد ابن المنذر بجبر هذا الانقطاع بذكر (مسروق)بينهما، والأكثر على خلافه، وقد ضعّف الحديث لهذه العلّة الألباني في الإرواء (3/121).
([49]) السنن الكبرى البيهقي (3/310)، ابن أبي شيبة (2/5)، الثقات (4/96)، المحلى (5/86).
([50]) أخرجه ابن حزم في المحلى (5/86)، وسلّم بضعفها، وأشار إلى أنّها أحسن حالاً من غيرها .
([51]) مجموع الفتاوى (24/182)، ابن مفلح (2/137).
([52]) الشرح الممتع (5/208).
ما يشترط وما لا يشترط في صلاة العيد:
شروط الجمعة في صلاة العيد:
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول:
يشترط لإقامة صلاة العيدين ما يشترط لإقامة صلاة الجمعة.(/17)
وهو قول الجمهور؛ الحنفية والمالكية، والحنابلة([1])، على اختلاف بينهم في تفاصيل هذه الشروط.
قال السرخسي: "يشترط لصلاة العيد ما يشترط لصلاة الجمعة، إلا الخطبة، فإنّها من شرائط الجمعة، وليست من شرائط العيد"([2]).
وقال الكاساني: "وأما شرائط وجوبها وجوازها فكل ما هو شرط وجوب الجمعة وجوازها فهو شرط وجوب صلاة العيدين وجوازها؛ من الإمام والمصر والجماعة والوقت إلاّ الخطبة، فإنها سنة بعد الصلاة، ولو تركها جازت صلاة العيد"([3]).
وقال ابن الحطاب: "وأما من لا تجب عليه الجمعة من أهل القرى الصغار، والمسافرين والنساء والعبيد ومن عقل الصلاة من الصبيان؛ فليست في حقّهم سنة، ولكنه يستحب لهم إقامتها"([4]).
وقال ابن قدامة: "ويشترط الاستيطان في وجوبها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها في سفره ولا خلفاؤه، وكذلك العدد المشترط للجمعة؛ لأنها صلاة عيد، فأشبهت الجمعة"([5]).
القول الثاني:
لا يشترط لإقامة صلاة العيدين ما يشترط لإقامة صلاة الجمعة.
وهو قول الشافعية([6]).
قال النوويُّ: "المذهب المنصوص في الكتب الجديدة كلِّها: أنّ صلاة العيد تشرع للمنفرد في بيته أو غيره، وللمسافر والعبد والمرأة، وقيل: فيه قولان. الجديد: هذا. والقديم: أنّه يشترط فيها شروط الجمعة من اعتبار الجماعة والعدد بصفات الكمال، وغيرها"([7]).
ولتحرير النِزاع في هذه المسألة يجب مناقشة الشروط التالية:
1- إذن الإمام .
2- الاستيطان .
3- العدد المشترط لإقامتها .
* مراجع المسألة:
حاشية ابن عابدين (2/166)، مجمع الأنهر (1/172)، المبسوط (2/37)، بدائع الصنائع (1/ 275)، روضة الطالبين (2/270)، المقنع (5/333)، المغني (3/287)، الشرح الكبير (5/333)، الإنصاف (5/333)، الشرح الممتع (5/168).
هل يشترط لإقامتها إذن الإمام ؟
اختلف الفقهاء في المسألة على قولين:
القول الأول:
لا بد من إذن الإمام في إقامة صلاة العيد.
وهو قول الحنفية([8])؛ لأنّهم يشترطون فيها ما يشترطونه في الجمعة، واشترطوا في الجمعة إذن الإمام، وهو اختيار ابن رشد من المالكية([9]).
القول الثاني :
لا يشترط إذن الإمام.
وهو قول الشافعية، والحنابلة، واختيار ابن شاس من المالكية ([10]).
قال المرداويُّ: "فأمّا إذن الإمام فالصحيح من المذهب والروايتين، أنّه لا يشترط، وعليه أكثر الأصحاب كالجمعة" ([11]).
والراجح هو أنّ إذن الإمام لا يشترط في إقامة صلاة العيدين، فليس له أن يمنعهم من إقامتها، وليس لهم أن يمتنعوا من إقامتها لمنعه، ولكن يشترط إذن الإمام في تعددها في البلد الواحد لما في ذلك من خشية تفريق الجماعة، ونشر الفوضى بينهم.
قال ابن عثيمين: "فلو أنّ أهل بلدٍ ثبت عندهم الهلال أفطروا، فلا يلزمهم أن يستأذنوا الإمام في إقامة صلاة العيد؛ حتى لو قال الإمام لا تقيموها، فإنّه يجب عليهم أن يقيموها، وأن يعصوه؛ لأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد سبق لنا في الجمعة أنّه ينبغي أن يُشترط إذن الإمام لتعدد الجمعة، فكذا العيد أيضًا نقول فيه ما نقول في الجمعة، أي: أنّه لو احتاج الناس إلى إقامة مسجدٍ آخر للعيد؛ فإنّه لا بد من إذن الإمام أو نائب الإمام؛ حتى لا يحصل فوضى بين الناس، ويصير كل واحد منهم يقيم مصلى عيد" ([12]).
وقد نقل عبد الرحمن بن قاسم الحنبلي صاحب حاشية الروض عن ابن حجر قوله في عدم اشتراط إذن الإمام: "وهو قول أكثر أهل العلم، وحكي اتفاقًا"([13]).
* مراجع المسألة:
حاشية ابن عابدين (2/166)، بدائع الصنائع (1/275)، المبسوط (2/37)، مجمع الأنهر (1/172)، عقد الجواهر (1/221)، المقدمات (1/221)، إعانة الطالبين (2/58)، حاشية الشرواني (3/48)، المقنع (5/333)، المستوعب (3/51)، الشرح الكبير (5/333)، الإنصاف (5/333)، الشرح الممتع (5/170).
الاستيطان هل هو شرط من شروط العيد؟
اختلف الفقهاء في الاستيطان، هل هو شرط في صحة إقامة صلاة العيدين، أم لا ؟ على قولين:
القول الأول:
الاستيطان شرط في إقامة صلاة العيدين وأنّه ليس للمسافرين أن يصلوا صلاة العيدين.
وهو قول الحنفية([14])، والمالكية([15])، والصحيح من مذهب أحمد، وعليه أكثر أصحابه ([16])، وهو مرويٌّ عن الزهري ([17]).
القول الثاني:
الاستيطان ليس شرطًا من شروط صلاة العيدين، وعليه فيجوز للمسافرين أن يقيموا صلاة العيدين.
وهو قول الحسن البصري ([18])، ومذهب الشافعيّة ([19])، ورواية عن أحمد، اختارها بعض أصحابه ([20]).
الأدلة :
أدلة أصحاب القول الأول:
1- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها في سفره، ولا خلفاؤه من بعده .
2- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها يوم النحر؛ لأنه مسافر .
3- قول علي بن أبي طالب: (لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع) ([21]).
مناقشة الأدلة:
أمَّا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يفعلها في أسفاره ولا خلفاؤه، فقد كانوا مشغولين بالجهاد والقتال في أسفارهم، وهي ليست بواجبة عليهم .(/18)
وأمّا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل العيد في حجته فنوقش بأنه كان منشغلاً بأداء مناسك الحج عن صلاتها، فلا ينهض دليلهم .
وأما قول علي فنوقش بأنّ ذلك اجتهاد منه في مقابل اجتهاد آخر، فقد صحّ عن عمر أنه قال: (جمّعوا حيث شئتم)([22]).
أدلة أصحاب القول الثاني:
1- أنّها صلاة نافلة فأشبهت صلاة الاستسقاء والخسوف .
2- عموم أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
مناقشة الأدلة:
أمّا قولهم إنّها صلاة نافلة؛ فعلى فرض التسليم يُقال لهم: ولكنها شرعت على هيئة معيّنة فلا تتجاوز إلاّ بدليل.
وأمّا قولهم بالعموم؛ فنقول إنّ عموم قوله صلى الله عليه وسلم يخصصه فعله، وقد حصل التخصيص بتركه لإقامتها في السفر.
الترجيح :
والراجح قول الجمهور، وهو أنّه ليس للمسافرين أن يقيموا صلاة العيدين؛ لأنّها صلاة شرعت على هيئة معيّنة، ولم يصلها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا مرة واحدة في أسفاره ولا أحدٌ من أصحابه من بعده، ودعوى أنّهم كانوا مشغولين بالجهاد غير مستقيمة؛ لا سيّما في فتح مكة، فقد كانت في رمضان، وبقي النبيُّ صلى الله عليه سلم فيها إلى شوال، ومع ذلك لم يصلها.
وهو ترجيح ابن عثيمين، قال: "والدليل على ذلك أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُقم صلاة العيد إلاّ في المدينة، وسافر إلى مكة عام غزوة الفتح، وبقي فيها إلى أوّل شوال، وأتاه العيد، ولم يُنقل أنّه صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة العيد، وفي حجة الوداع صادفه العيد وهو في منى، ولم يُقم صلاة العيد؛ لأنّه مسافر، كما أنّه لم يُقم صلاة الجمعة في عرفة؛ لأنّه مسافر.
إذًا المسافرون لا يُشرع في حقِّهم صلاة العيد، وهذا واضح؛ لأنّ هذا هو هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم"([23]).
العدد المشترط لصحة صلاة العيدين :
اختلف أهل العلم في العدد الذي تصح به صلاة العيدين بناء على اختلافهم في العدد الذي تصحّ به عندهم صلاة الجمعة على أقوال سبعة:
القول الأول :
أن صلاة العيد تنعقد بأربعة، إمام وثلاثة مؤتمين، لأنّه عدد يزيد على أقل الجمع .
وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن ([24])، والليث بن سعد، وزفر ([25]).
القول الثاني:
أنّ صلاة العيد لا تنعقد بأقلّ من أربعين رجلاً.
وهو قول الشافعي ([26])، ورواية عن أحمد ([27]).
القول الثالث :
أنّ صلاة العيد تنعقد بثلاثة .
وهو قول الحسن البصري، والأوزاعي، وأبي ثور، ورواية عن الإمام أحمد، ومذهب أبي يوسف القاضي([28]).
القول الرابع :
أنّ الجماعة تنعقد باثني عشر رجلاً .
وهو قول ربيعة الرأي([29]).
القول الخامس :
أنّها لا تصلى بأقلّ من ثلاثين رجلاً.
وهو قول ابن حبيب من المالكية([30]).
القول السادس :
أنّها لا تصلى بأقل من خمسين رجلاً .
وهو رواية عن الإمام أحمد ([31])، وروي عن عمر بن عبد العزيز ([32]).
القول السابع :
أنّها تنعقد باثنين .
وهو قول إبراهيم النخعي، والحسن بن حي، وأبي سليمان ([33]).
أدلة الأقوال :
أدلة القول الأول :
ما رواه الزهري عن أم عبد الله الدوسية، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجمعة واجبة على كل قرية، وإن لم يكن فيها إلاّ أربعة)) ([34]).
ونوقش بأنّه حديث ضعيف ([35])؛ فيه انقطاع، ففيه الحكم بن عبد الله بن سعد ضعيف متهم، قال يحيى بن معين: "الحكم بن عبد الله بن سعد ليس بثقة، ولا مأمون" ([36]).
والزهري لم يسمع من أم عبد الله، قال يحيى بن معين: "لم يسمع – أي الزهري – من أم عبد الله الدوسية شيئًا" ([37]).
أدلة القول الثاني :
1- عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي بعدما ذهب بصره، وكان لا يسمع الأذان بالجمعة إلا قال: رحمة الله على أسعد بن زرارة .
قال: قلت: يا أبت إنه لتعجبني صلاتك على أبي أمامة كلما سمعت الأذان .
فقال: أي بني كان أول من جمع الجمعة بالمدينة في حرّة بني بياضة في نقيع يقال له الخضمان. قلت: وكم أنتم يومئذ ؟
قال: أربعون رجلاً ([38]).
2- عن جابر بن عبد الله قال: (مضت السنة أنّ في كل أربعين فما فوقها جمعة)([39]).
3- قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: "كل قرية فيها أربعون رجلاً فعليهم جمعة"([40]).
مناقشة الأدلة:
أمّا حديث كعب بن مالك فليس فيه ما يدل على أنّ الجمعة لا تنعقد بأقلّ من أربعين .
وأمّا أثر جابر ففيه عبد العزيز بن عبد الرحمن القرشي ضعيف جدًا، وقد ضعّف الأثر جمع من أهل
العلم ([41]).
وأمّا قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ففيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو متروك الحديث([42]).
أدلة القول الثالث :
قول الله تعالى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }
وجه الدلالة من الآية أنّ الخطاب موجه بصيغة الجمع، وأقل الجمع ثلاثة .
أدلة القول الرابع :
ما رواه الزهري: "أنّ مصعب بن عمير حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جمّع بهم وهم اثنا عشر رجلاً" ([43]).(/19)
ونوقش بأنّ الأثر مرسل، وليس فيه أنّ صلاة العيد لا تصلى لأقل من اثني عشر رجلاً .
أدلة القول الخامس :
ما رواه ابن وهب عن القاسم بن محمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا اجتمع ثلاثون بيتًا فليؤمروا عليهم رجلاً منهم يصلي بهم الجمعة))([44]).
قال ابن حبيب: "والبيت مسكن الرجل الواحد"([45]).
ونوقش بأنّ الحديث مرسل لا يصح الاستدلال به.
أدلة القول السادس :
1- ما رواه أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تجب الجمعة على خمسين رجلاً ولا تجب على ما دون ذلك))([46]).
ونوقش بأنّ الحديث لا يصحّ؛ لضعف إسناده.
2- ما رواه الزهري عن أبي سلمة قال: قلت لأبي هريرة: على كم تجب الجمعة من رجل ؟ قال: (لمّا بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين رجلاً جمَّع بِهم رسول الله)([47]).
ونوقش بأنّ الحديث لا يصحّ؛ لضعف إسناده.
أدلة القول السابع:
حديث مالك بن الحويرث قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي، فلما أردنا الإقفال من عنده قال لنا: ((إذا حضرت الصلاة فأذنا، ثم أقيما، وليؤمكما أكبركما))([48]).
وجه الدلالة: أنّ النبيَّ أقل الجماعة اثنين، فيدخلون في عموم قوله تعالى { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } .
الترجيح :
والراجح أنّ صلاة العيد تنعقد باثنين فصاعدًا، ورجحه ابن حزم الظاهري([49])، واختاره ابن عابدين([50]). والله أعلم.
* مراجع المسألة:
حاشية ابن عابدين (2/172)، الذخيرة (2/417)، المجموع (5/19)، المغني (3/204)، المحلى (5/46).
هل تصح الصلاة من المنفرد ؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
القول الأول:
أنّ المنفرد له أن يصلي صلاة العيد، ولكن ليس له أن يخطب .
وهو قول المالكية ([51])، والشافعية ([52])، والحنابلة ([53])، ورجحه ابن حزم ([54]).
القول الثاني :
ليس للمنفرد أن يصلي صلاة العيدين .
وهو قول الحنفية ([55])، ورواية عند الشافعي ([56])، وأحمد ([57]).
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول :
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك))([58]).
وجه الدلالة من الحديث: أن صلاة العيدين صلاة من الصلوات، فإذا فاتت أحدًا شُرِع له أن يقضيها، وإذا قضاها صلاّها منفردًا .
2- قالوا: إنّها صلاة نفلٍ فجاز أداؤها جماعة وفرادى كالكسوف .
مناقشة الأدلة:
أمّا حديث أنس؛ فالمراد به صلاة الفريضة؛ بدليل قوله: ((لا كفارة لها إلا ذلك))، فلا تسقط بحال من الأحوال .
وأمّا كونها نفل؛ فعلى فرض التسليم يُردّ التعليل به؛ لأنّها صلاة شُرعت على هيئة معيَّنة؛ من الخطبة والاجتماع العظيم؛ فهي ليست كسائر النوافل.
أدلة القول الثاني :
قالوا: إنها صلاة شُرِعت على وجه الاجتماع، فلا تصلى إلا على هذا الوجه، مثلها مثل الجمعة لمن فاتته، فإنه لا يصليها جمعة .
الترجيح :
والراجح في المسألة أنّ المنفرد لا يصلي؛ لأنها صلاة شُرِعت على وجه الاجتماع، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج العواتق وذوات الخدود، ولم يأمر من تخلف عنها بالصلاة في بيته، مثل صلاة الجمعة لا تشرع إلا جماعة، ومن تخلّف عنها لا يصليها جمعة، بل يصليها ظهرًا، وليس للعيد صلاة بدلها، فلا صلاة عيدٍ له، والله أعلم.
واختار هذا القول ابن عيثمين ([59])، وقال في معرض ردّه على من استدل بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها))، وبقوله: ((ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) على مشروعية صلاة العيد للمنفرد: "ولكن في هذا الاستدلال نظر؛ لأنّ المراد بالحديثين الفريضة، أمّا هذه فصلاة مشروعة على وجه الاجتماع، فإذا فاتت؛ فإنّها لا تصلى إلاّ بدليلٍ يدل على قضائها إذا فاتت" ([60]).
* مراجع المسألة:
المجموع (5/19، 25)، نهاية المحتاج (2/386)، الشرح الكبير (5/334)، الإنصاف (5/ 336)، شرح فتح القدير (2/46)، حاشية ابن عابدين (2/2172)، بدائع الصنائع (1/275).
هل النساء يصلين في بيوتهن ؟
أجاز مالك والشافعي([61]) للنساء أن يصلين في بيوتهن صلاة العيد، مثل صلاة الإمام فرادى .
قال ابن القاسم: "قلت لمالك: فالنساء في العيدين إذا لم يشهدن العيدين؟ قال: إن صلين فليصلين مثل صلاة الإمام يكبرن كما يكبر الإمام، ولا تجمع بهن الصلاة أحد، وليس عليهن ذلك، إلا أن يشأن ذلك فإن صلين صلين أفذاذًا على سنة صلاة الإمام يكبرن سبعًا وخمسًا، وإن أردن أن يتركن فليس عليهن بواجب".
قال ابن القاسم: "وكان يستحب فعل ذلك لهنّ" ([62]).
ولكن على ضوء المسألة التي قُرِرَت سابقًا، فإنه لا يُشرع للنساء أن يصلين في بيوتهنّ؛ لأنّها صلاة شُرعت على وجه الاجتماع، فكما لا يصح أن يصلين الجمعة في بيوتِهن فكذلك العيد .(/20)
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج الحيض والعواتق وذوات الخدور، وأكّد ذلك بأن أمر التي لا تجد جلبابًا أن تُلبسها أختها من جلبابها، ولم يقل أنّ التي تفوتها الصلاة لها أن تصليها في بيتها، والله أعلم.
وهو اختيار ابن عثيمين ([63]).
* مراجع المسألة:
المدونة (1/155)، الشرح الممتع (5/207).
لو شهد الهلال شخص واحد، هل يصلي العيد ؟
قال الشافعي: "لو شهد واحد فلم يعدل، لم يسعه إلاّ الفطر. ويخفي فطره؛ لئلا يسيء أحد الظن به. ويصلي العيد لنفسه، ثم يشهد بعدُ - إن شاء - العيد مع الجماعة، فيكون نافلة خيرًا له".
هذه المسألة كالمسائل السابقة مبنيّة على ما ترجح من كون المنفرد لا يصلي صلاة العيدين، لذا فالذي يظهر - والعلم عند الله - أنّه لا يصليها؛ لأنّ هذه الصلاة لم تشرع إلا جماعة، فليس له أن يصليها بمفرده كما أنه ليس له أن يصلي الجمعة بمفرده ([64]).
* مراجع المسألة :
الأم (1/204)، سبل السلام (3/217).
هل لمن أحدث في المصلى ولا ماء أن يتيمم ؟
أجازت الحنفية لمن أحدث في المصلى ولا ماء أن يتمم ويصلي مع الناس، إذا خشي لو رجع إلى المصر فوت الجماعة ([65]).
قال الجوزجاني: "قلت – لمحمد بن الحسن -: أرأيت رجلاً أحدث في الجبانة يوم العيد، وهو مع الإمام، فخاف إن رجع إلى الكوفة أن تفوته الصلاة ولا يجد الماء كيف يصنع ؟ قال: يتيمم ويصلي مع الناس" ([66]).
أما إذا أحدث في المصر، فليس له أن يصلي إلا متوضئًا .
قال الشافعي: "وليس لأحد أن يتيمم في المصر لعيد ولا جنازة، وإن خاف فوتهما" ([67]).
إلاّ أن الأحناف القائلين بأن صلاة العيد لا تقضى؛ لأنّها لا تشرع إلا على صفة معينة = يرون التيمم عند خوف فوت الصلاة مع الجماعة أينما كان، والله أعلم .
([1]) حاشية ابن عابدين (2/166)، مجمع الأنهر (1/172)، الذخيرة (2/417)، كشاف القناع (1/455)، المقنع والشرح الكبير (5/333).
([2]) المبسوط (3/37).
([3]) بدائع الصنائع (1/275).
([4]) مواهب الجليل (1/190).
([5]) المغني (3/287).
([6]) نهاية المحتاج (2/386).
([7]) روضة الطالبين (2/70).
([8]) حاشية ابن عابدين (2/166)، بدائع الصنائع (1/275)، المبسوط (2/37)، مجمع الأنهر (1/172).
([9]) المقدمات (1/221).
([10]) الشرح الكبير (5/333)، المستوعب (3/51)، المبدع (2/182)، حاشية الروض المربع (2/502)، المغني (3/287)، إعانة الطالبين (2/58)، حواشي الشرواني (3/48)، عقد الجواهر (1/221).
([11]) الإنصاف (5/335).
([12]) الشرح الممتع (5/170).
([13]) انظر: حاشية الروض المربع (2/502)، ولم أقف عليه في الفتح .
([14]) حاشية ابن عابدين (2/167)، بدائع الصنائع (1/275).
([15]) الكافي (1/263)، الذخيرة (2/418)، مواهب الجليل (2/190).
([16]) انظر: المغني (3/287)، والإنصاف (5/333).
([17]) بداية المجتهد (1/509).
([18]) بداية المجتهد (1/509)، المغني (3/287).
([19]) فتح العزيز (5/9)، الأم (1/399 – 400)، الحاوي (3/106)، حاشية تحفة المحتاج (3/40).
([20]) انظر: الإنصاف (5/333-334).
([21]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/167)، وابن أبي شيبة (1/439)، والطحاوي في مشكل الآثار (2/54).
والأثر ضعَّفه الإمام أحمد، قال إسحاق بن منصور الرازي في مسائله عن الإمام أحمد (ص: 219): "ذكرت له قول
علي: (لا جمعة ولا تشريق إلا بمصر جامع ؟)قال: الأعمش لم يسمعه من سعد" فعلله بالانقطاع . وقال ابن حجر (التلخيص 2/54): "حديث علي (لا جمعة ولا تشريق إلاّ في مصر جامع) ضعَّفه أحمد". وقال النووي (المجموع 4/488): " ضعيف جدًا". ولكن للأثر طرق تدفع عنه الانقطاع المعلل به، وقد قال الحافظ ابن حجر في طريق عبد الرزاق وابن أبي شيبة في الدراية (1/ 214): "إسناده صحيح". وصححه ابن حزم في المحلى (5/53)، والألباني في السلسلة الضعيفة (2/317).
([22]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه(1/440)، وابن حزم في المحلى(5/50)، وصححه الألباني في السلسلة الضعيفة (2/318).
([23]) الشرح الممتع (5/170).
([24]) الأصل (1/327)، والمبسوط (2/24)، وبدائع الصنائع (1/368).
([25]) انظر: المحلى (5/46).
([26]) الأم (1/328)، وانظر: فتح العزيز (2/348-349) ط دار الكتب العلمية، وروضة الطالبين (2/70)، نهاية المحتاج (2/386).
([27]) المغني (3/204)، الإنصاف (5/333-334).
([28]) المحلى (5/46)، المغني (3/204)، المبسوط (2/24)، وبدائع الصنائع (1/268).
([29]) المغني (3/205).
([30]) الكافي لابن عبد البر (1/249)، عقد الجواهر (1/222).
([31]) المغني (3/204).
([32]) تفسير القرطبي (18/113)
([33]) المحلى (5/46).
([34]) أخرجه الدارقطني في سننه (2/7) في الجمعة، باب الجمعة على أهل القرية.
([35]) انظر: التلخيص الحبير (2/57).
([36]) الكامل في الضعفاء (2/204).
([37]) تحفة التحصيل (1/288).(/21)
([38]) أخرجه أبو داود (1069)، وابن ماجه (1082)، وصححه ابن خزيمة (1724)، وابن حبان (7013)، والحاكم في المستدرك (1/281)وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم"، ولم يعلق عليه الذهبيُّ. وقد حسّن الألباني إسناده في صحيح سنن أبي داود (944).
([39]) سنن البيهقي الكبرى (3/177)، الدارقطني (2/3).
([40]) الأم (1/32).
([41]) انظر: المجروحين لابن حبان (2/138)، ونصب الراية (2/918) للزيلعي، والدراية لابن حجر (1/216)، والتلخيص الحبير (2/55)، والإرواء (3/69).
([42]) انظر: تهذيب الكمال (2/184)، التقريب (ص: 115).
([43]) المراسيل لأبي داود (ص160)، وإسناده إلى الزهري كما قال المحقق: "حسن".
([44]) المدونة الكبرى (1/153)، والمحلى من طريق مجهول (5/47)بلفظ: ((ثلاثون رجلاً)).
([45]) عقد الجواهر (1/222).
([46]) أخرجه الدارقطني (2/4)، والطبراني في الكبير (8/244)، بلفظ: ((على الخمسين جمعة)).
والحديث فيه جعفر بن الزبير: متروك، قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه جعفر بن الزبير صاحب القاسم، وهو ضعيف جدًا"، وقال الذهبي في المهذب (3/155): "ويروي في الخمسين حديثٌ واه". وضعّف الحديث ابن حزم في المحلى
(5/467)، قال: "هذا خبر لا يصح".
([47]) رواه أبو بكر النجاد بإسناده إلى الزهري، انظر: تفسير القرطبي (18/113)، وفيه روح بن غطيف، قال البخاري في التاريخ الكبير (3/308): "منكر الحديث".
([48]) صحيح مسلم (674).
([49]) المحلى (5/46).
([50]) حاشية ابن عابدين (2/172).
([51]) الذخيرة (2/417).
([52]) البيان (2/649)، المجموع (5/19، 25)، نهاية المحتاج (2/386).
([53]) المغني (3/287)، الشرح الكبير، والإنصاف (5/334).
([54]) المحلى (5/86).
([55]) الأصل (1/338)، حاشية ابن عابدين (2/166)، شرح فتح القدير (2/46)، بدائع الصنائع (1/279).
([56]) البيان (2/648)، فتح العزيز (5/9)، روضة الطالبين (2/70).
([57]) المغني (3/287)، الشرح الكبير، والإنصاف (5/336).
([58]) أخرجه مسلم (684)، والبخاري (597)من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
([59]) الشرح الممتع (5/170).
([60]) الشرح الممتع (5/207).
([61]) الأوسط (4/293 – 294).
([62]) المدونة (1/155).
([63]) الشرح الممتع (5/207).
([64]) انظر: مسألة هل تصح الصلاة من المنفرد ؟
([65]) المبسوط (2/40).
([66]) الأصل (1/339).
([67]) الأم (205).
مصلى العيد والأحكام المتعلقة به
هل العيد يصلى في أكثر من موضع ؟
اتفق أهل العلم في أنّ الأفضل في صلاة العيدين الاجتماع بمكان واحد، ولم يختلفوا في جواز تعدد إقامتها إذا كان ثمّ حاجة، وإن اختلفوا في جواز تعدد إقامة الجمعة ([1]).
قال الرمليُّ: "ويستحب الاجتماع لها في مكان واحد، ويُكره تعدده من غير حاجة، وللإمام المنع منه، وله الأمر به" ([2]).
الصلاة في المصلى :
اتفق الفقهاء على مشروعية صلاة العيدين في المصلى وفي المساجد، ولكن اختلفوا أيّهما أفضل ؟ على قولين :
القول الأول :
أنّ المصلى هو الأفضل، سواء وسعهم المسجد أو لم يسعهم .
وهو قول الحنفية، والمالكية، واختيار الرافعي من الشافعية ([3]).
قال مالك: "الأفضل أن يصلي العيد في المصلى بكل حال" ([4]).
القول الثاني:
أنّ المسجد هو الأفضل إن كان يسعهم، وإلاّ خرج بهم .
وهو قول الشافعية ([5]).
قال الشافعي: "فإنّ عُمِّر بلدٌ فكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أرَ أنّهم يخرجون منه، وإن خرجوا فلا بأس"([6]).
الأدلة :
أدلة القول الأول:
استدلوا بالأحاديث المتكاثرة في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يوم العيد، من ذلك ما جاء عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو إلى المصلى، والعنَزة بين يديه تحمل، وتنصب بالمصلى بين يديه، فيصلي إليهما ([7]).
وعن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى
المصلى ([8]).
أدلة القول الثاني :
1- أنّ أهل مكة كانوا يصلون في المسجد الحرام، والمسجد إذا وسع الناس كان أفضل؛ لأنه أشرف وأنظف .
وهذا التعليل فيه نظر؛ لأنّ الظاهر من صلاة أهل مكة في الحرم كثرة الجبال فيها، وأنّ الصحراء ليست قريبة بالنسبة لهم .
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلي في المصلى مع مسجده، وصلاة النافلة في البيت أفضل مع شرف المسجد.
2- حضور المسجد أسهل من حضور المصلى .
وقد رُدّ ونوقش هذا التعليل بأنّ المصلى أسهل للحضور، لكون العيد يقصده أهل القرى والبوادي، ويأتون من كل مكان، فكان المصلى أيسر لهم .
3- إنّما حمل النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة في المصلى ضيق المسجد .
وهذا الاستدلال لا يصح، لأنّ أول صلاة عيدٍ صلاّها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية للهجرة([9])، وكان المسلمون يومئذ قلّة، فالذين كانوا يحضرون معه الجمعة هم الذين كانوا يحضرون معه العيد، فلم يكن المسجد يضيق بهم .
الترجيح :(/22)
والراجح – والله أعلم - أنّ الصلاة بالمصلى هي السنة والأفضل، وأنّ الخروج في العيدين إليها تشريع من النبي صلى الله عليه وسلم، وليست اتفاقًا من أجل ضيق المسجد.
قال ابن المنذر: "السنة أن يخرج النّاس إلى المصلى في العيد" ([10]).
وقال ابن حزم: "وسنة صلاة العيدين أن يبرز أهل كل قرية أو مدينة لفضاء واسعٍ" ([11]).
وقال شيخ الإسلام: "ولم يكن يُصلّي صلاة العيد إلاّ في مكان واحدٍ مع الإمام، يخرج بهم إلى الصحراء، فيصلي هناك، فيصلي المسلمون كلهم صلاة العيد" ([12]).
* مراجع المسألة :
حاشية ابن عابدين (2/169)، مجمع الأنهر (1/173)، الفتاوى الهندية (1/150)، المبسوط (1/39 – 40)، المدونة (1/171)، المعونة (1/324)، الكافي (1/263)، عقد الجواهر (1/242)، شرح ابن عليش (1/279)، الأم (1/207)، الحاوي (2/486، 497)، المجموع (5/4)، فتح العزيز (5/37)، نهاية المحتاج (2/395)، البيان (2/626)، روضة (2/74)، شرح الزركشي (2/217)، المقنع (5/336)، المستوعب (3/54)، الشرح الكبير (5/336)، الفروع (2/139)، الإنصاف (5/
36)، المغني (3/261)، الإعلام لابن الملقن (4/253).
مصلى العيد هل يأخذ أحكام المسجد :
هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها على قولين :
القول الأول :
مصلى العيد يأخذ أحكام المسجد .
وهو قول الحنابلة .
قال في الإنصاف: "ومصلى العيد مسجد على الصحيح من المذهب"([13]).
وهو اختيار ابن عثيمين ([14]).
القول الثاني :
مصلى العيد لا يأخذ حكم المسجد .
وهو قول الحنفية ([15])، ومذهب البخاري ([16]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
استدلوا بحديث أم عطية: ((أن يُخرج العواتق وذوات الخدود والحيض، وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين، ويعتزل الحيض المصلى))([17]).
وجه الدلالة: أنّ الحائض ممنوعة من دخول المسجد، ولا وجه لمنعها من حضور المصلى إلاّ كون المصلى مسجدًا .
أدلة القول الثاني :
أنّ المسجد هو الذي تقام فيه الصلوات الخمس، ومصلى العيد لا تقام فيه الصلوات الخمس، بل لا تقام به فريضة واحدة من فرائضه .
الترجيح :
والراجح هو أنّ مصلى العيد لا يأخذ حكم المسجد، وكون الحائض تمنع منه إنّما هو وقت الصلاة؛ لأنها لا تصلي، لكراهة جلوس من لا يصلي مع المصلين في محل واحد، فعن يزيد بن الأسود قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته قال: فصليت معه صلاة الفجر في مسجد الخيف، يعني مسجد منى، فلمّا قضى صلاته إذا هو برجلين في آخر القوم، ولم يصليا معه، فقال: ((عليّ بهما)). فأتي بهما ترعد فرائصهما، فقال: ((ما منعكما أن تصليا معنا)) ؟ قالا: يا رسول الله ! كنا قد صلينا في رحالنا. قال: ((فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنّها لكم نافلة)) ([18]).
وقد ورد في صحيح مسلم صراحة المراد بالاعتزال، وأنّه اعتزال الصلاة، وذلك في إحدى روايات حديث أم عطية قالت: (فيعتزلن الصلاة)([19]).
ولو كان الاعتزال مقصودًا به اعتزال كل ما يطلق عليه أنّه مصلى، بَعُدْن عن شهود الخير ودعوة المسلمين، ولم يكن في وسعهن سماع الخطبة.
قال ابن رجب: "والأظهر أنّ أمر الحيّض باعتزال المصلّى، إنّما هو حال الصلاة ليتسع على النساء الطاهرات مكان صلاتهن، ثم يختلطن بهن في سماع الخطبة" ([20]).
* مراجع المسألة :
الفروع (1/170)، الشرح الكبير (2/116)، البحر الرائق (2/39)، الشرح الممتع (5/24)، إحكام الأحكام (ص: 349)، الإعلام لابن الملقن (4/253).
خروج النساء إلى العيدين :
اتفق أهل العلم على أنّ خروج النساء إلى العيدين زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشروعًا واختلفوا بعد ذلك في حكم خروجهنّ على أقوال :
القول الأول :
كراهية خروج النساء الشواب إلى العيدين، وترخيص ذلك للعجوز الكبيرة .
وهو قول محمد بن الحسن، والشافعي، ورواية عن أحمد ([21]). ومذهب الحنفية، والشافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة ([22]).
واختاره المجد ابن تيمية ([23]).
القول الثاني :
للنساء أن يخرجن إلى العيدين، وليس عليهنّ ذلك، من غير كراهة ولا استحباب .
وهو قول مالك، ورواية عن أحمد ([24]).
القول الثالث :
يستحب خروج النساء، المخدرات وغير المخدرات، الشابة والعجوز، إذا خرجن من غير شهوة اللباس والطيب .
وهو رواية عن أحمد، واختارها من الحنابلة ابن حامد ([25]).
القول الرابع :
كراهة خروج النساء عامة شابة أو عجوز .
وهو رواية عن أحمد ([26])، واختارها القاضي أبو يعلى ([27]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
قالوا: خشية الفتنة بالنساء الشواب، وأمن ذلك في العجائز .
أدلة القول الثاني :
لم يقولوا بالكراهة، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهنّ بالخروج، ولم يقولوا بالاستحباب لخشية الفتنة بخروجهن .
أدلة القول الثالث :
أخذو بظاهر حديث أم عطية في الصحيحين ([28]) في الأمر بخروجهنّ، وعدم التفريق في ذلك بين الشابة والعجوز .
أدلة القول الرابع :
عللوا قولهم بفساد الزمان بعد عصر الصحابة رضوان الله عليهم .(/23)
الترجيح :
والقول الأقرب إلى الصواب هو القول باستحباب خروج النساء مطلقًا مخدرة كانت أو غير مخدرة، شابة كانت أو عجوزًا .
للأمر الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجهن، بل القول بوجوب إخراجهنّ هو الأقوى كما مضى توضيحه في بيان حكم صلاة العيدين، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
الأصل (1/343)، الحجة (1/306)، المبسوط (2/41)، بدائع الصنائع (1/275)، المدونة (1/368)، عقد الجواهر (1/241)، الذخيرة (2/417)، الأم (1/206)، الحاوي (2/ 483)، المجموع (5/ 8)، فتح العزيز (5/ 24)، البيان (2/630)، التمام (1/246)، مسائل أحمد لصالح (ص: 402)، الشرح الكبير (5/ 328)، المستوعب (3/ 54)، الإنصاف (5/328)، المغني (3/263)، الإعلام (4/251).
المشي إلى المصلى :
يُستحبّ الخروج إلى المصلى ماشيًا باتفاق الفقهاء من غير خلاف في المسألة، لما روي عن علي قال: (من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيًا، وأن لا يُركب إلاّ من عذر)([29]).
قال الترمذيُّ: "والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم، يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشيًا، وأن لا يركب إلاَّ من عذر ".
وعن جعفر بن برقان أنّ عمر بن عبد العزيز كتب من استطاع منكم أن يمشي إلى العيدين فليفعل ([30]).
وقال سعيد بن المسيب: "من سنة الفطر المشي، والأكل قبل الغدو، والاغتسال" ([31]).
وقال أبو المعالي: "إن كان البلد ثغرًا استحب الركوب وإظهار السلاح"([32]).
وقال ابن قدامة صاحب الشرح الكبير: "وإن كان بعيدًا فلا بأس أن يركب"([33]).
* مراجع المسألة :
مجمع الأنهر (1/173)، المدوَّنة (1/171)، المعونة (1/322)، الكافي (1/263)، عقد الجواهر (1/
242)، الذخيرة (2/419)، الأم (1/207)، الحاوي (2/486)، المجموع (5/10)، فتح العزيز(5/37،40)، نهاية المحتاج (2/396)، الشرح الكبير (5/326)، المبدع (2/180)، الإنصاف (5/326).
الذهاب من طريق والعودة من طريق آخر :
يستحب الذهاب إلى مصلى العيد من طريق، والرجوع من طريق آخر باتفاق أكثر الفقهاء، لما روي عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق ([34]).
وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في
غيره ([35]).
قال الترمذيُّ: "وقد استحبَّ بعض أهل العلم للإمام إذا خرج في طريق أن يرجع في غيره، اتباعًا لهذا الحديث، وهو قول الشافعي" ([36]).
قال ابن رجب: "وقد استحبّه كثير من أهل العلم للإمام وغيره، وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد – وألحق الجمعة بالعيد في ذلك - ولو رجع من الطريق الذي خرج منه لم يكره" ([37]).
قال ابن حجر: "والذي في الأم أنه يستحب للإمام والمأموم، وبه قال أكثر الشافعية، وقال الرافعي: لم يتعرض في الوجيز إلاّ للإمام، وبالتعميم قال أكثر أهل العلم" ([38]).
قال الحصفكي: "ولا بأس بعوده راكبًا، وندب كونه من طريق آخر" ([39]).
قال ابن عابدين: "قوله: (من طريق آخر) لِما رواه البخاريُّ أنّه كان إذا كان يوم عيدٍ خالف الطريق؛ ولأنّ فيه تكثير الشهود، لأنّ أمكنة القرية تشهد لصاحبها" ([40]).
وقال ابن أبِي زيد القيروانِي: "ويستحب في العيدين أن يمضي من طريق، ويرجع من أخرى" ([41]).
وقال النوويُّ: "والسنة أن يمضي إليها في طريق، ويرجع في أخرى" ([42]).
وقال المرداويّ: "هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم" ([43]).
وقد تلمّس بعض العلماء حِكَمًا لهذه المغايرة، منها :
1- قيل: ليشهد له الطريقان .
2- وقيل: ليشهد له سكان الطريقين من الجنّ والإنس .
3- وقيل: ليتصدق على أهل الطريق .
4- وقيل: ليتصدق على أهل الطريقين .
5- وقيل: ليساوي بينهما في التبرك به، وفي المسرة بمشاهدته، والانتفاع بمسألته .
6- وقيل: ليغيظ المنافقين أو اليهود، ويرهبهم .
7- وقيل: لأن الطريق الذي يغدو منه كان أطول .
8- وقيل: لأن طريقه إلى المصلى كانت على اليمين، فلو رجع لرجع إلى جهة الشمال .
9- وقيل: لإظهار شعار الإسلام فيهما .
10- وقيل: ليتفاءل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضا، إلى غير ذلك من الحكم التي تلمسها أهل العلم ([44]).
* مراجع المسألة :
مجمع الأنهر (1/173)، المدونة (1/171)، الرسالة (ص: 144)، المعونة (1/322)، الكافي (1/263)، بداية المجتهد (1/515)، عقد الجواهر (1/243)، شرح الزركشي (2/232)، المقنع (5/330)، المستوعب
(5/540)، الشرح الكبير (5/ 330)، المغني (5/262، 283)، الإنصاف (5/330)الأم (1/207)، الحاوي (2/495)، فتح العزيز (5/56)، نهاية المحتاج (2/395)، البيان (2/633)، حلية العلماء (2/311)، نيل الأوطار (3/290).
إخراج المنبر في العيدين :
لأهل العلم في هذه المسألة قولان:
القول الأوّل:
كراهية إخراج المنبر للعيدين.
وهو قول محمد بن الحسن، والحنفية، واختلفوا في جواز بنائه في المصلى، أو كراهية ذلك ([45]).
القول الثانِي:
يجوز إخراج المنبر في العيدين.
وهو قول الشافعيّ، واستحبّه النووي ([46]).(/24)
الأدلة:
أدلة القول الأوّل:
أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على قدميه، فعن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأوَّل شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف .
قال أبو سعيد: فلم يزل الناس كذلك، حتى خرجتُ مع مروان – وهو أمير المدينة – في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه فجبذنِي، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم - والله -.
فقال: يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم - والله - خير مما لا أعلم. فقال: إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة ([47]).
وقال: أخرج مروان المنبر في يوم عيد، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام رجل فقال: يا مروان، خالفت السنة، أخرجت المنبر في يوم عيد، ولم يكن يخرج فيه، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة. فقال أبو سعيد: من هذا ؟ قالوا: فلان بن فلان. فقال: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من رأى منكم منكرًا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))([48]).
قال الشوكانِيُّ: "وهذا الحديث يدل على أنّه لم يكن في المصلى في زمانه صلى الله عليه وسلم منبر" ([49]).
ويؤخذ منه أيضًا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على قدميه، قال ابن رجب: "وذِكْرُ استقباله الناسِ = يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرق منبرًا، وأنّه كان على الأرض" ([50]).
أدلة القول الثانِي:
قاسوه على الجمعة، فخطبة الجمعة تكون على المنبر.
الترجيح:
والراجح عدم استحباب إخراج المنبر، ولا بناؤه فيه؛ لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يخطب على قدميه، وقد كان بالإمكان أن يأمرهم بإخراجه، أو يبني واحدًا آخر فيه.
وهذا التقرير قد يُشكِل عليه قول جابر رضي الله عنه: قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلّى، فبدأ بالصلاة ثم خطب، فلما فرغ نزل فأتى النساء ... الحديث ([51]).
فقوله : ((فلمّا فرغ نزل)) يشعرُ أنّه كان على منبر.
وقد حلّ هذا الإشكال ابن حجر بقوله: "فيه إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على مكان مرتفع، لما يقتضيه قوله: (نزل) وقد تقدم في باب الخروج إلى المصلى أنّه صلى الله عليه وسلم كان يخطب في المصلى على الأرض، فلعل الراوي ضمّن النزول معنى الانتقال"([52]).
فهذا هو الذي يخلص إليه البحث أنّ السنة عدم إخراج المنبر في العيدين، ولا تظهر الحاجة للمنبر في هذه الأزمان لتوفر مكبرات الصوت، والله تعالى أعلم .
* مراجع المسألة :
الكتاب (1/345)، حاشية ابن عابدين (2/169)، المبسوط (2/ 43)، بدائع الصنائع (1/ 280)، الأم (1/394، 397)، المجموع (5/22، 23).
الأذان أو النداء لصلاة العيدين :
اتفق العلماء على أنه لا يشرع لصلاة العيدين أذان ولا إقامة، لحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى بغير أذان ولا إقامة ([53]).
فعن مالكٍ أنّه سمع غير واحدٍ من علمائهم، يقول: لم يكن في عيد الفطر، ولا الأضحى = نداء ولا إقامة، منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم.
وقال مالك: "وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا" ([54]).
وقال محمد بن الحسن: "ليس فيهما أذانٌ ولا إقامة" ([55]).
واختلف أهل العلم في هل يشرع لها نداء على صيغة معيّنة؛ كقول المؤذن: الصلاة جامعة ؟ على قولين :
القول الأول:
أنّه لا يُشرع فيها النداء بقوله: الصلاة جامعة، ولا بأي صيغة أخرى .
وهو قول المالكية ([56]).
قال خليل: "ولا يُنادى الصلاة جامعة" ([57]).
القول الثاني :
أنه يستحب النداء لصلاة العيدين بقول: الصلاة جامعة .
وهو مذهب الشافعية، والحنابلة ([58]).
قال الشافعيّ: "وأحبّ أن يأمر الإمام المؤذن أن يقول في الأعياد، وما جمع النّاس له من الصلاة: الصلاة جامعة" ([59]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
استدلوا بما روي عن جابر أنّه قال: "لا أذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعدما يخرج، ولا إقامة ولا نداء، ولا شيء، لا نداء يومئذ ولا إقامة" ([60]).
أدلة القول الثاني :
استدلوا بما روي عن الزهري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر في العيدين المؤذن أن يقول: الصلاة جامعة.
وهذا حديث مرسل لا يقاوم حديث جابر .
واستدلوا بالقياس على صلاة الكسوف، والقياس لا يثبت أمام النصّ .
الترجيح :
والراجح أنّه لا يشرع للعيدين أذان ولا إقامة ولا نداء بالصلاة جامعة، ولا شيء؛ لحديث جابر .
وهو اختيار ابن قدامة من الحنابلة ([61]).
قال: وقال بعض أصحابنا، يُنادى لها: الصلاة جامعة، وهو قول الشافعيّ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" ([62]).
فصل:(/25)
قيل: إنّ أوّل من أذّن لصلاة ابن الزبير رضي الله عنهما؛ بل رُوي عنه أنّه أذَّن، وأقام .
فعن عطاء بن يسارٍ أنّ ابن الزبير سأل ابن عبّاس، وكان الذي بينهما حسنًا يومئذٍ، فقال: لا تؤذن ولا تُقم. فلمّا ساء الذي بينهما أذّن، وأقام ([63]).
وقيل: إنّ أوَّل من أذَّن في العيدين ابن زياد ([64]). وارتضاه ابن الملقن ([65]).
والصحيح أنّ أوّل من أذّن للأذان في العيدين، لما روي عن سعيد بن المسيب قال: "أوّل من أحدث الأذان في العيدين معاوية" ([66]).
وجرى عليه ابن زياد ومروان بن الحكم لأنهما ولاة تحت إمرته .
قال ابن عبد البر: "كان هذا بالحجاز معلومًا مجتمعًا عليه قبل أن يحدث معاوية الأذان في العيدين، وكان أمراؤه وعمّاله يفعلون ذلك، حيث كانوا".
قال الماوردي: "ثم جرى عليه بنو أمية أيام ملكهم، إلى أن ولي بنو العباس، وردوا الأمر إلى حاله، وهو اليوم سيرة الأندلس وبلاد المغرب من أعمال بني أمية" ([67]).
والله تعالى أعلم.
* مراجع المسألة :
الكتاب (1/336)، مجمع الأنهر (1/173).
الأم (1/208)، الحاوي (2/489)، المجموع (5/13)، فتح العزيز (5/45)، البيان (2/634)، الرسالة الفقهية (ص: 144)، المعونة (1/ 323)، الكافي (1/ 264)، بداية المجتهد (1/505)، شرح الزركشي (2/219)، الشرح الكبير (5/338)، المستوعب (3/55)، الإنصاف (5/338)، المغني (3/267)، المقنع (5/338)، نيل الأوطار (3/293)، الإعلام لابن الملقن (ح/226).
التنفل قبل الصلاة وبعدها :
اتفق عامة الفقهاء على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يتنفل قبل الصلاة، ولا بعدها في المصلى .
واختلفوا هل يكره للمأموم أن يتنفل قبل الصلاة أو بعدها، أم لا ؟ على أقوال ثلاثة:
القول الأول:
له أن يتنفل بعدها لا قبلها، وهو قول الحنفية ([68]).
قال أبو حنيفة: "لا صلاة قبل العيدين، فأمّا بعدهما فإن شئت صليتَ أربعًا، وإن شئتَ لم تصلِ" ([69]).
القول الثاني:
يكره له التنفّل قبل الصلاة وبعدها، وهو قول المالكية، والحنابلة ([70]).
القول الثالث:
له أن يتنفل قبل الصلاة وبعدها، ويكره للإمام، وهو قول الشافعيّ ([71])، واختار هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ([72]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
حديث أبي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئًا، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين)([73]).
أدلة القول الثاني:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد فصلى ركعتين، لم يصل قبلهما ولا بعدهما ([74]).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه خرج يوم عيد فلم يصل قبلها ولا بعدها، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ([75]).
أدلة القول الثالث:
أنّ أحاديث الباب التي وردت في كراهية التنفل قبل صلاة العيد وبعدها محمولة على الإمام، وأن المأموم خلاف الإمام، فله أن يصلي إذا ارتفعت الشمس أينما شاء .
الترجيح :
والراجح هو القول بكراهة التنفل قبل الصلاة وبعدها في المصلى، وذلك لأنّه المنقول من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ولأنه لو اشتغل بالنافلة قبل الصلاة اشتغل عن عبادة الوقت، وهو التكبير، ويكون بذلك انتقل من الفاضل إلى المفضول، فيكره له ذلك، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/73)، الكتاب (1/341، 441)، حاشية ابن عابدين (2/169 – 170)، الحجة (1/300)، مجمع الأنهر (1/173)، المبسوط (3/40)، بدائع الصنائع (1/280)، المدونة (1/170)، المعونة (1/326)، الكافي (1/263)، بداية المجتهد (1/511)، عقد الجواهر (1/242)، الأم (1/207 – 208)، المجموع (5/13)، فتح العزيز (5/44)، نهاية المحتاج (2/396)، البيان (2/632)، مختصر الخلافيات (2/365)، حلية العلماء (2/302)، شرح الزركشي (2/230)، المقنع (5/358)، الشرح الكبير (5/358)، الإنصاف (5/ 358)، المستوعب (3 /62)، النكت (1/163)، المغني (3/208)، الشرح الممتع (5/202)، نيل الأوطار (3/300).
([1]) المجموع (4/591)، المغني (3/212)، مجموع فتاوى شيخ الإسلام (24/208).
([2]) نهاية المحتاج (5/386).
([3]) حاشية ابن عابدين (2/169)، عقد الجواهر (1/150)، فتح العزيز (5/37).
([4]) البيان (2/627).
([5]) الحاوي (2/486)، المجموع (5/4).
([6]) الأم (3/223)ط: حسّون .
([7]) البخاري (973).
([8]) البخاري (956).
([9]) راجع: أول صلاة عيد صلاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
([10]) الأوسط (4/257).
([11]) المحلى (5/81).
([12]) مجموع الفتاوى (17/480).
([13]) الإنصاف (2/116).
([14]) الشرح الممتع (5/204).
([15]) حاشية البحر الرائق (2/39)، حاشية ابن عابدين (1/657).
([16]) فتح الباري (12/130).
([17]) البخاري (324)، مسلم (890).
([18]) أخرجه أبو داود (575)، والترمذي (219)، والنسائي (2/112)، وصححه ابن خزيمة (1638)، وابن حبان (164)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (538).
([19]) مسلم (2/606، 890).(/26)
([20]) فتح الباري لابن رجب (2/142).
([21]) الأصل (1/343)، الأم (1/206)، الفروع (2/137).
([22]) المبسوط (2/41)، الحاوي (2/283)، الإنصاف (5/338)، المستوعب (3/54).
([23]) الإنصاف (5/338).
([24]) المدوّنة (1/368)، عقد الجواهر (1/241)، الذخيرة (2/417)، الفروع (2/137)، الإنصاف (5/338).
([25]) الفروع (/137)، التمام (1/246)، الإنصاف (5/328).
([26]) الفروع (2/137)، مسائل الإمام أحمد لصالح (رقم: 402)، الإنصاف (5/338).
([27]) التمام لابن أبي يعلى (1/246).
([28]) البخاري (324)، مسلم (890).
([29]) أخرجه الترمذي (536)، وقال: "هذا حديث حسن"، وحسّنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (437).
([30]) انظر: المدوّنة (1/171).
([31]) انظر: المدوّنة (1/171).
([32]) الإنصاف (5/325).
([33]) الشرح الكبير (5/326).
([34]) البخاري (986).
([35]) الترمذي (547)، ابن ماجه (1301)، قال أبو عيسى: "حسن غريب "، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (446).
([36]) سنن الترمذي (2/425 – 426).
([37]) فتح الباري لابن رجب (9/72).
([38]) فتح الباري لابن حجر (2/472 – 473).
([39]) الدر المختار، انظر: حاشية ابن عابدين (2/169).
([40]) حاشية ابن عابدين (2/169).
([41]) الرسالة (ص 144).
([42]) المجموع (5/15).
([43]) الإنصاف (5/330).
([44]) انظرها في الإنصاف (5/331 – 332).
([45]) الأصل (1/345)، المبسوط (2/169)، بدائع الصنائع (1/280).
([46]) الأم (1/394)، المجموع (5/22).
([47]) البخاري (956).
([48]) أبو داود (1140)، ابن ماجه (1275)، وصححه ابن حبان (307)، والألباني في صحيح سنن أبي داود(1009).
([49]) نيل الأوطار (3/373).
([50]) فتح الباري لابن رجب (9/45).
([51]) البخاري (978).
([52]) فتح الباري لابن حجر (2/467).
([53]) أخرجه أحمد (1/227)، وأبو داود (1147)، وابن ماجه (1274)، وصححه الألباني في سنن أبي داود (1016).
([54]) موطأ مالك (1/177) في العيدين، باب العمل في غسل العيدين، والنداء بينهما.
([55]) الأصل (1/336).
([56]) كفاية الطالب لأبي الحسن المالكي (1/491).
([57]) مختصر خليل (ص 48).
([58]) الحاوي (2/489)، الشرح الكبير (338).
([59]) الشرح الكبير (5/338)، المستوعب (3/553).
([60]) مسلم (886).
([61]) المغني (3/268).
([62]) المغني (3/368).
([63]) أخرجه ابن أبي شيبة (5665)، وصححه ابن حجر في الفتح (2/453)، والشوكاني في النيل (3/351).
([64]) انظر: المغني (3/267).
([65]) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام له (4/223).
([66]) مصنف ابن أبي شيبة برقم (5665).
([67]) الحاوي الكبير (3/113)ط: محمود عطرجي .
([68]) الأصل (1/341).
([69]) الحجة لمحمد بن الحسن (1/300).
([70]) الكافي لابن عبد البر (1/263)، عقد الجواهر (1/242)، المغني (3/208).
([71]) الأم (1/391).
([72]) الشرح الممتع (5/202).
([73]) ابن ماجه (1293)، وصححه الألباني (1069).
([74]) أخرجه أحمد (1/354)، وأبو داود (1159)، والنسائي في الكبرى (1792)، وصححه الألباني (1027).
([75]) مسند أحمد برقم (5212)، مصنف ابن أبي شيبة (5735)، والترمذي (538)وقال: حسن صحيح .
اجتماع العيد والجمعة :
اتفق أهل العلم على استحباب حضور العيد والجمعة، واختلفوا فيمن حضر العيد هل يُرخّص له في ترك الجمعة أو لا ؟على أربعة أقوال :
القول الأول :
الرخصة لأهل البر والبوادي في ترك الجمعة ويصلونها ظهرًا .
وهو قول الشافعي، ورواية عن مالك ([1]).
قال الشافعي: "وإذا كان يوم الفطر يوم الجمعة صلّى الإمام حين تحلّ الصلاة، ثم أذن لمن حضره من غير أهل المصر في أن ينصرفوا إن شاؤوا إلى أهليهم ولا يعودون إلى الجمعة" ([2]).
وقال: "ولا يجوز هذا لأحد من أهل المصر أن يدعوا أن يجمعوا إلا من عذر يجوز لهم به ترك الجمعة، وإن كان يوم عيد" ([3]).
القول الثاني :
أنّ الجمعة واجبة على كل من صلى العيد .
وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن مالك، واختيار ابن حزم، وابن المنذر، وابن عبد البر ([4]).
قال أبو حنيفة: "عيدان اجتمعا في يوم واحد، فالأول سنة، والآخر فريضة، ولا يترك واحد منهما" ([5]).
وروى ابن القاسم عن مالك أنّ ذلك – ترك الجمعة – غير جائز، وأن الجمعة تلزمهم على كل حال"([6]).
القول الثالث :
أنّ من شهد العيد سقطت عنه فرضية الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها، ومن لم يشهد العيد .
وهو مذهب الحنابلة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ([7]).
قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن عيدين اجتمعا في يوم يترك أحدهما ؟ قال: لا بأس به، أرجو أن يجزئه ([8]).
القول الرابع :
أنّ الجمعة والظهر يجزئ عنهما صلاة العيد .
وهو قول عطاء رحمه الله تعالى .
قال عطاء: "اجتمع يوم فطر ويوم جمعة على عهد ابن الزبير، فقال: (عيدان اجتمعا في يوم واحد)، فجمعهما جميعًا فصلاهما ركعتين بكرة، لم يزد عليها حتى صلى العصر" ([9]).
الأدلة :(/27)
أدلة القول الأول :
استدل أصحاب القول بأدلة منها :
1- بما روي عن أبي عبيد مولى ابن أزهر، قال: شهدت العيد مع عثمان بن عفان، وكان ذلك يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب فقال: (أيها الناس، إنّ هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحبّ أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحبّ أن يرجع فقد أذنت له)([10]).
2- ما روي عن عمر بن عبد العزيز قال: اجتمع عيدان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
((من أحب أن يجلس من أهل العالية فليجلس في غير حرج))([11]).
أدلة القول الثاني :
استدلوا بأدلة منها :
1- قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله }، ولم يخص عيدًا من غيره، فوجب أن يحمل على العموم .
2- قالوا: ليس للإمام أن يأذن في ترك الفريضة، وفعل عثمان اجتهاد منه، وإنّما ذلك بحسب العذر، فمتى أسقطها العذر سقطت .
أدلة القول الثالث:
استدلوا بأدلة منها :
1- حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه عن الجمعة، وإنّا مجمعون))([12]).
2- ما روي عن إياس بن أبي رملة الشامي قال: شهدت معاوية مع أبي سليمان وهو يسأل زيد بن
أرقم، قال: أشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم ؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع ؟ قال: صلى للعيد ثم رخص في الجمعة، فقال: من شاء أن يصلي فليصل ([13]).
3- حديث ابن عمر قال: اجتمع عيدان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى بالناس، ثم قال: ((من شاء أن يأتي الجمعة فليأتها، ومن شاء أن يتخلف فليتخلف))([14]).
أدلة القول الرابع :
مضى أنّ معتمد عطاء هو فعل ابن الزبير، فعن ابن جريج قال: قال عطاء: إن اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر في يوم واحد فليجمعهما، فليصل ركعتين فقط، حيث يصلي صلاة الفطر ثم هي هي حتى العصر، ثم أخبرني عند ذلك قال: اجتمع يوم فطر ويوم جمعة في يوم واحد زمن الزبير، فقال الزبير: عيدان اجتمعا في يوم واحد، فليجمعهما جميعًا يجعلهما واحدًا، وصلى يوم الجمعة ركعتين بكرة صلاة الفطر، ثم لم يزد عليها حتى صلى العصر.
قال: فأما الفقهاء فلم يقولوا في ذلك، وأما من لم يفقه فأنكر ذلك عليه. قال: ولقد أنكر ذلك عليه، وصليت الظهر يومئذ.
قال: حتى بلغنا بعدُ أن العيدين كانا إذا اجتمعتا كذلك صليا واحدة، وذكر ذلك عن محمد بن علي بن الحسن، أخبر أنهما كانا يجمعان إذا اجتمعا. قال: إنه وحده في كتاب لعلي زعم ([15]).
الترجيح :
أول الأقوال استبعادًا القول الثالث الذي اختاره ابن تيمية؛ لأنّ الأحاديث التي في الباب لا تسلم من مطعن .
أمَّا القول بالرخصة لأهل البوادي استنادًا على أثر عثمان فلا مفهوم له، لأنّ أهل البوادي لا تجب عليهم الجمعة إلا إن قلنا إن حضورهم إلى المصر يلزمهم الجمعة فاحتاجوا إلى الرخصة، ولأنّ حبسهم في البلد يتنافى مع مقاصد العيد من إشاعة البهجة والسرور .
وفي إلزام هؤلاء ومن في حكمهم ممن يشق عليهم حضور الجمعة في العيد الذي يطلب فيه الانشراح والانبساط وإشاعة المرح والفرح تضييق عليهم، وفي الترخيص لهم رفع للحرج عنهم .
وعليه؛ فإنّ القول الراجح هو قول الشافعي ومن وافقه من أهل العلم، أنّ الرخصة في ترك حضور الجمعة لمن حضر العيد من أهل البوادي والقرى ومن يشق عليهم الحضور .
أمّا قول عطاء؛ فقول مهجور، مخالف لقواعد وأصول الشريعة.
قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على وجوب صلاة الجمعة، ودلت الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن فرائض الصلوات خمس، وصلاة العيدين ليست من الخمس" ([16]).
وقال ابن عبد البر: "ليس في حديث ابن الزبير بيان أنه صلى مع صلاة العيد ركعتين للجمعة، وأي الأمرين كان، فإنّ ذلك أمر متروك مهجور، وإن كان لم يصل مع صلاة العيد غيرها حتى العصر، فإن الأصول كلها تشهد بفساد هذا القول" ([17]).
والله أعلم.
* مراجع المسألة :
حاشية ابن عابدين (2/166)، الجامع الصغير (ص: 113)، الأم (1/213)، الحاوي (2/502)، فتح العزيز (5/67)، روضة (2/79)، عقد الجواهر (1/244)، الانتصار (2/590)، الكافي (1/510)، المستوعب (3/69)، المحلى (5/89)، مجموع الفتاوى (24/213)، نيل الأوطار (3/282)، التمهيد (10/277).
([1]) عقد الجواهر (1/244).
([2]) الأم (1/399).
([3]) المصدر نفسه.
([4]) حاشية ابن عابدين (2/166)، عقد الجواهر (1/244)، المحلى (5/89)، الأوسط (4/291)، التمهيد (10/277).
([5]) الجامع الصغير (ص: 113).
([6]) المدونة (1/.
([7]) الكافي لابن قدامة (1/510)، مجموع الفتاوى (24/213).
([8]) سؤالات عبد الله لأبيه (رقم 482).
([9]) أخرجه عن عطاء أبو داود (1072).
([10]) البخاري (5572)، مالك (1/144)، عبد الرزاق (5636)، وأحمد (1/325)، وابن أبي شيبة (5836).
([11]) الأم (1/398)، المسند (1/324)، والحديث مرسل، وفيه إبراهيم بن محمود متروك.(/28)
([12]) أبو داود (1073)، وابن ماجه (1311)، والحاكم (1/288)، وابن الجارود في المنتقى (302)، والبيهقي (3/318)، والحديث تفرد به بقية عن شعبة، وتفرده عن شعبة بمثل هذا الحديث يعد منكرًا .
قال الإمام أحمد: "من أين جاء بقية بهذا ؟!"، كأنّه يعجب منه، ثم قال: "قد كتبت عن يزيد بن عبد ربّه، عن بقيّة عن شعبة حديثين ليس هذا فيهما، وإنّما رواه الناس عن عبد العزيز عن أبي صالح مرسلاً" [ انظر: تاريخ بغداد 3/129 ] .
وقال الدارقطني: "هذا حديث غريب من حديث مغيرة، ولم يروه عنه غير شعبة، وهو أيضاً غريب عن شعبة لم يروه عنه غير بقيّة". وقال: "ورواه جماعة عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، لم يذكروا أبا هريرة" [ انظر: تاريخ بغداد 3/129 ].
([13]) النسائي (3/194)، وابن ماجه (1310)، الدارمي (1/378)، الحاكم (1/288)، أحمد (4/372)، صحيح ابن خزيمة (2/259)، قال المحقق: "إسناده ضعيف"، الحديث تفرد إياس بن أبي رملة عن معاوية، وهو مجهول كما في التقريب، فتفرده بهذا الحديث يعد منكرًا، ولذلك علّق ابن خزيمة الحكم على الحديث عليه، فقال: "باب الرخصة لبعض الرعية في التخلف عن الجمعة إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد، وإن صحّ الخبر، فإني لا أعرف إياس بن أبي رملة بعدالة ولا جرح".
([14]) ابن ماجه (1312)، وابن عدي (6/2448)، وفيه: جبارة ومندل ضعيفان .
([15]) عبد الرزاق (5725).
([16]) الأوسط (4/291).
([17]) التمهيد (10/270).
صلاة العيد قبل الخطبة :
اتفق أهل العلم في أنّ السنة في صلاة العيدين أنّ الصلاة قبل الخطبة، فعن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الأضحى والفطر، ثم يخطب بعد الصلاة ([1]).
وعنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة ([2]).
وعن عطاء: أنّ ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع له: (إنّه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر، وإنما الخطبة بعد الصلاة)([3]).
وقد قُدِّمت الخطبة على الصلاة في صلاة العيدين زمن بني أمية .
وسبب ذلك فيما يحكى أنّهم أحدثوا في الخطبة لعن من لا يجوز لعنه، فكان الناس إذا كملت الصلاة انصرفوا وتركوهم، فقدّموا الخطبتين؛ ولذلك لمَّا أنكر أبو سعيد على مروان بن الحكم والي معاوية على المدينة تقديمه الخطبة على الصلاة، قال له مروان: "إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل
الصلاة" ([4]).
ولهذا ذهب جمع من أهل العلم إلى أنّ أول من قدّم الخطبة على الصلاة: مروان بن الحكم ([5]).
وقيل: إن أوّل من فعل ذلك عثمان رضي الله عنه ([6]).
وقيل: معاوية ([7]).
وقيل: زياد بالبصرة في خلافة معاوية ([8]).
وقيل: فعله ابن الزبير في آخر أيامه ([9]).
ثم وقع الإجماع على خلاف ذلك والرجوع إلى فعله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه.
والله أعلم ([10]).
* مراجع المسألة :
الكتاب (1/335، 336)، حاشية ابن عابدين (2/167)، بدائع الصنائع (1/276)، المبسوط (2/37)، المدونة (1/168)، المعونة (1/325)، الكافي (1/264)، بداية المجتهد (1/506)، الذخيرة (2/422)، الأم (1/208)، المجموع (5/19، 24)، فتح العزيز (5/54)، الفروع (2/141)، حاشية الروض (2/504)، الإقناع (1/308)، شرح الزركشي (2/ 217)، المقنع (5/339)، المغني (3/261)، الشرح الكبير (5/339)، الإنصاف (5/339)، نيل الأوطار (3/304)، الإعلام لابن الملقن (4/198).
([1]) البخاري (957).
([2]) البخاري (963).
([3]) البخاري (961).
([4]) البخاري (956).
([5]) فتح الباري (2/451 – 452).
([6]) عبد الرزاق (3/283 – 284)، ابن أبي شيبة (2/171)، الاستذكار (7/19).
([7]) عبد الرزاق (3/283)، الاستذكار (7/20).
([8]) ذكره في إكمال المعلم (3/290).
([9]) ذكره في إكمال المعلم (3/290).
([10]) انظر: فتح الباري لابن حجر (2/451 – 452).
صفة الصلاة :
صلاة العيد ركعتان يكبر الإمام في الأولى بعد تكبيرة الإحرام سبع تكبيرات، ويكبر في الثانية قبل القراءة خمس تكبيرات، يجهر فيهما بالقراءة، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بسورة ق، وفي الثانية بسورة القمر، أو يقرأ في الأولى بسورة الأعلى، وفي الثانية بسورة الغاشية .
وفي بعض تفاصيل هذه الصفة خلاف بين أهل العلم، إليك تفصيلها في المسائل التالية:
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/73)، الكتاب (1/336)، مجمع الأنهر (1/173)، بدائع الصنائع (1/274)، المعونة (1/324)، الكافي (1/264)، المجموع (5/15)، فتح العزيز (5/7، 46)، نهاية المحتاج (2/387)، البيان (2/636)، روضة (2/
271)، المقنع (5/347)، الإنصاف (5/347)، الشرح الكبير (5/347)، الكافي (1/518)، المحلى (5/81).
عدد التكبيرات الزوائد في صلاة العيدين :
اتفق أهل العلم على أنّ في صلاة العيدين تكبيرات زوائد، ثم اختلفوا بعد ذلك في عددها على أقوال ثلاثة:
القول الأول:(/29)
إنّ عدد التكبيرات ثلاثٌ بعد تكبيرة الإحرام، وثلاث في الركعة الثانية بعد القراءة قبل تكبيرة الركوع .
وهو قول الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد ([1]).
القول الثاني :
إنّ عدد التكبيرات سبع في الأولى مع تكبيرة الإحرام، وستًا في الثانية مع تكبيرة القيام .
وهو قول مالك، ومذهب والحنابلة، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ([2]).
القول الثالث :
إنّ عدد التكبيرات سبع في الأولى بعد تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمسًا بعد تكبيرة القيام .
وهو قول الشافعية، واختارها ابن عبد البر، وابن حزم ([3]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
استدلوا بما روي عن ابن مسعود أنّه قال: (يكبِّر أربعًا ثم يقرأ، ثم يكبِّر فيركع، ثم يقوم في الثانية فيقرأ، ثم يكبِّر أربعًا بعد القراءة) ([4]).
وروي مثله عن ابن عباس ([5]).
أدلة القول الثاني :
ما رواه مالك عن ابن عمر عن أبي هريرة أنّه قال: شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة، فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة خمسًا قبل القراءة ([6]).
قال مالك: "وهو الأمر عندنا".
وعليه جرى عمل أهل المدينة ([7]).
وبما روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى، في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية: خمسًا، سوى تكبيرتي الركوع ([8]).
أدلة القول الثالث :
استدلوا بنفس أدلة القول الثاني .
ووجهه عندهم:أنّ الراوي إنّما حكى التكبيرات التي لم تُعْهَد،وليست في غيره، فلم يحك تكبيرة الإحرام، ولا تكبيرة الرفع من السجود .
الترجيح :
والذي يظهر – والله أعلم – أنّ الكلّ جائزٌ، وأنّ الأمر فيه واسعٌ، قال الإمام أحمد: "اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التكبير، والكلّ جائز" ([9])، وإليه ذهب ابن عثيمين رحمه الله ([10])، والله أعلم.
فصل:
وإذا شك في عدد التكبيرات بنى على الأقل؛ لأنّه المتيقن .
قال ابن قدامة: "وإذا شكّ في عدد التكبيرات؛ بنى على اليقين" ([11]).
وقال ابن مفلح: "إذا شكّ في عدد التكبير؛ بنى على الأقل" ([12]).
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/74)، الكتاب (1/336)، حاشية ابن عابدين (2/172)، الحجة (1/303)، المبسوط (2/38)، اللباب (1/308)، الحجة (1/298)، المدونة (1/169)، الكافي (1/364)، بداية المجتهد (1/507)، الكافي (1/519)، مسائل عبد الله (2/426)، المقنع (5/341)، الشرح الكبير (5/341)، الإنصاف (5/341)، المغني (3/273)، المقنع (5/355)، المغني (3/271)، الشرح الممتع (5/178)مسائل صالح (ص: 685)، الأم (1/209)، الحاوي (2/489)، المجموع (5/19)، مختصر الخلافيات (2/367)، حلية (2/302)، المحلى (5/83)، نيل الأوطار (3/297).
رفع اليدين في التكبيرات الزوائد :
اختلف أهل العلم في رفع اليدين في تكبيرات العيدين على قولين :
القول الأول :
أنّ التكبيرات الزوائد يرفع فيها اليدين .
وهو قول الحنفية، ومذهب الشافعية والحنابلة ([13]).
وقولٌ لمالك، اختارها ابن حبيب من المالكية ([14]).
قال الجوزجانِي: "قلتُ – لمحمد بن الحسن -: فهل يرفع يديه في كلِّ تكبيرة من هذه التسع التكبيرات ؟ قال: نعم ([15]).
قال الشافعيّ: "يرفع المكبِّر في العيدين يديه عند كلّ تكبيرة كان قائمًا؛ تكبيرة الافتتاح والسبع بعدها، والخمس في الثانية" ([16]).
القول الثاني :
أنّه لا يرفع فيها اليدين .
وهو قول المالكية ([17]).
قال مالك: "ولا يرفع يديه في شيءٍ من تكبيرات صلاة العيدين؛ إلاّ في الأولى" ([18]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
1- ما رواه أبو حميد الساعدي: (أنّ النبي كان إذا كبّر قائمًا رفع يديه)([19]).
2- وحديث مالك بن الحويرث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبَّر رفع يديه؛ حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع من الركوع رفع يديه؛ حتى يحاذي بهما منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: ((سمع الله لمن حمده))؛ فعل مثل ذلك([20]).
وجه الدلالة أنّ هذه التكبيرات وقعت حال القيام؛ فأشبهت تكبيرة الإحرام، والركوع، والرفع منه.
3- وما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة والعيدين([21]).
والحديث الأول والثاني ليسا في محل النِزاع، وهو قياس محض، وجاءت السنة الصحيحة بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كبّر ورفع يديه وهو جالس ([22]).
وأثر عمر فاصل في النِزاع، ولكنّه ضعيف لا تقوم به الحجة .
أدلة القول الثاني :
أنّه ليس في ذلك سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال مالك: "ليس في ذلك سنة لازمة، فمن شاء رفع يديه فيها كلها، وفي الأولى أحب إليَّ" ([23]).
الترجيح :
والراجح مذهب مالك أنّ الأولى عدم الرفع لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن رفع فلا حرج عليه إن شاء الله، والله أعلم .
* مراجع المسألة :(/30)
شرح فتح القدير (2/77)، الكتاب (1/338)، حاشية ابن عابدين (2/175)، الحجة (1/299)، مجمع الأنهر (1/174)، المبسوط (2/39)، بدائع الصنائع (1/277)، المدونة (1/169)بداية المجتهد (1/509)، عقد الجواهر (1/241)، الأم (1/210)، الحاوي (2/491)، فتح العزيز (5/51)، نهاية المحتاج (2/389)، البيان (2/638)روضة (2/72)، حلية (2/302)شرح الزركشي (2/223)، المقنع (5/345)، شرح منتهى الإرادات (1/307)، الشرح الكبير (5/345)، الإنصاف (5/345)، المحلى (5/83).
إرسال اليدين في التكبيرات :
لأهل العلم في المسألة قولان:
القول الأول:
لا يقبض المصلي يديه في التكبيرات؛ بل يرسلهما، ولا يقبضهما إلاّ بعد تمام التكبيرات.
وإليه ذهبت الحنفية؛ لأنّه ليس بين التكبيرات ذكر مسنون ([24]).
قال الحصفكي: "وليس بين تكبيراته ذكرٌ مسنون، ولذا يرسل يديه".
قال ابن عابدين: "(قوله: ولذا يرسل يديه) أي في أثناء التكبيرات، ويضعهما بعد الثالثة، كما في شرح المنيّة؛ لأنّ الوضع سنة قيام طويل، فيه ذكر مسنون" ([25]).
القول الثانِي:
يقبض اليمنى على اليسرى.
وإليه ذهبت الشافعية بناءً على أنه يشرع عندهم بين كل تكبيرتين ذكر.
قال الماورديُّ: "ويضع اليمنى على اليسرى بين كل تكبيرتين" ([26]).
والذي يظهر أنّ الأمر في ذلك واسع؛ والله أعلم.
* مراجع المسألة :
حاشية ابن عابدين (2/175)، مجمع الأنهر (1/174)، الحاوي (3/116)طبعة التجارية .
ما يقال بين التكبيرات الزوائد :
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
القول الأول :
ليس بين التكبيرات ذكر مسنون، وعليه أن يقف بين كل تكبيرتين ساكنًا .
وهو قول الحنفية، والمالكية ([27]).
قال الحصفكيّ: "ويسكت بين كلّ تكبيرتين مقدار ثلاث تسبيحات" ([28]).
قال ابن عبد البر: "وليس بين التكبير ذكرٌ ولا دعاء، ولا قول إلاّ السكوت دون حدٍّ، وذلك بقدر ما ينقطع تكبير مَن خلفه" ([29]).
القول الثاني :
يستحب أن يقف بين كل تكبيرتين قدر آية وسطًا، يهلل الله تعالى ويكبره ويمجده، أو يقول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)، أو (الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلاً وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا).
وهو قول الشافعية، والحنابلة ([30]).
قال الشافعيّ: "وإذا افتتح الصلاة ثم بدأ بالتكبيرة الأولى من السبعة بعد افتتاح الصلاة، فكبَّرها، ثم وقف بين الأولى والثانية قدر آية لا طويلة ولا قصيرة، فيهلل الله عزّ وجلّ، ويكبِّره ويحمده" ([31]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
عدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم .
أدلة القول الثاني :
قالوا: لأنّها تكبيرات حال القيام فوجب أن يتخللها ذكر كتكبيرات الجنازة .
الترجيح :
والراجح عدم مشروعية الذكر بين التكبيرات؛ لعدم ثبوت شيءٍ من ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من صحابته، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
حاشية ابن عابدين (2/175)، الحاوي (2/491)، فتح العزيز (5/48)، نهاية المحتاج (3/388)، البيان (2/638)، مختصر الخلافيات (2/372)، روضة (2/ 71)، حلية (2/305)، الكافي (1/364)، عقد الجواهر (1/243)، شرح الزركشي (2/224)، المعونة (2/329)، المغني (3/273)، الشرح الممتع (5/184).
متى يكبر الإمام التكبيرات الزوائد؟ قبل دعاء الاستفتاح أم بعده ؟
اختلف العلماء في هذه التكبيرات، هل هي قبل دعاء الاستفتاح أم بعده ؟ على قولين :
القول الأول :
أنه بعد دعاء الاستفتاح .
وهو قول الحنفية، والشافعية، وهي الرواية المشهورة عن أحمد، اختارها أبو يعلى، والزركشي ([32]).
قال الحصفكي: "ويصلي الإمام بهم ركعتين مثنيًا قبل الزوائد" ([33]).
وقال السرخسي: "ثم لا خلاف أنّه يأتي بثناء الافتتاح عقيب تكبيرة الافتتاح قبل الزوائد، إلاّ في قول ابن أبي ليلى، فإنّه يقول يأتي بالثناء قبل التكبيرات الزوائد" ([34]).
وقال النوويُّ: "مذهبنا أنّ التكبيرات الزوائد تكون بين دعاء الاستفتاح والتعوذ" ([35]).
القول الثاني :
أنّها قبل دعاء الاستفتاح.
وهو رواية عن أحمد، واختارها الخلال، وأبو بكر غلامه ([36]).
القول الثالث :
أنّه مخير بين ذلك .
وهذه رواية عن الإمام أحمد حكاها المرداوي في الإنصاف ([37]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
وجهه عندهم: أن دعاء الاستفتاح شُرِع للصلاة، فتكون في أول الصلاة .
أدلة القول الثاني :
وجهه عندهم: أن الاستفتاح تليه الاستعاذة، وهي قبل القراءة.
الترجيح :
والراجح أنّ الأمر واسعٌ، ولله الحمد، والله أعلم .
فصل:
عامة الفقهاء على أنّ الاستعاذة بعد التكبيرات؛ لأنّها شرعت لافتتاح القراءة لا الصلاة؛ إلاّ ما يروى عن أبي يوسف القاضي أنّه قال به قبل التكبيرات، قال: "لئلا يفصل بين الاستفتاح والاستعاذة" ([38])، والله أعلم .
* مراجع المسألة :(/31)
حاشية ابن عابدين (2/172 – 173)، مجمع الأنهر (1/174)، المبسوط (2/42)، بدائع الصنائع (1/277)، المجموع (5/ 20)، التمام (1/243)، شرح الزركشي (2/223)، المقنع (5/341)، المستوعب (3/57)، الشرح الكبير (5/341)، الإنصاف (5/341)، الشرح الممتع (5/176)، المغني (3/273).
التكبيرات الزوائد في الركعة الثانية قبل القراءة أم بعدها ؟
اختلف أهل العلم في مسألة التكبيرات الزوائد، هل هي في الركعة الثانية، قبل القراءة أم بعدها ؟ على قولين :
القول الأول:
أنّها تكون بعد القراءة قبل تكبيرة الركوع .
وهو مذهب الحنفية، ورواية عن أحمد، اختارها أبو بكر غلام الخلال ([39]).
قال ابن عابدين: "ويوالي ندبًا بين القراءتين أي بأن يكبر في الركعة الثانية بعد القراءة" ([40]).
القول الثاني :
أنّها تكون قبل القراءة بعد الرفع من السجود .
وهو قول الجمهور؛ من المالكية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة ([41]).
قال ابن شاس: "ويزيد في الثانية بعد تكبيرة القيام خمس تكبيرات" ([42]).
القول الثالث :
يخيّر، وهو رواية عن الإمام أحمد ([43]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
استدلوا بأنّ هذا هو صفة صلاة ابن مسعود ([44]).
وبما أُثِر عن ابن عباس أنّه والى بين القراءتين ([45]).
أدلة القول الثاني :
استدلوا بما رُوَِيَ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كليهما)). ([46])
وعنه قال: كبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد سبعًا في الأولى، ثم قرأ، ثم كبّر فركع، ثم سجد، ثم قام فكبّر خمسًا، ثم قرأ، ثم كبّر فركع، ثم سجد ([47]).
الترجيح:
والراجح مذهب الجمهور؛ أنّ التكبيرات تكون في الركعة الثانية قبل القراءة، للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل فعل ابن مسعود وابن عباس كان عن اجتهاد منهما، كما قال البيهقي بعد أن أورد أثر ابن مسعود: "وهذا رأيٌّ من جهة عبد الله بن مسعود، والحديث المسند مع ما عليه عمل المسلمين أولى أن
يتبع" ([48])، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
حاشية ابن عابدين (2/173)، الحجة (1/303)، المبسوط (2/39)، عقد الجواهر (1/243)، حلية (2/304)، المجموع (2/20)، المقنع (5/ 349)، المستوعب (3/58)، الشرح الكبير (5/349)، المغني (3/270)، الإنصاف (5/349).
إذا نسي الإمام التكبيرات في الأولى حتى قرأ :
لأهل العلم في هذه المسألة قولان:
القول الأول :
أنّه إذا نسي التكبيرات حتى قرأ قبل أن يركع؛ رجع وكبّر ثم أعاد القراءة، ثم ركع، ويسجد للسهو قبل السلام .
وهو مذهب الحنفية ، والمالكية، والقديم من قول الشافعيّ، ووجهٌ عند الحنابلة ([49]).
قال الكاسانِي: "فإمّا إن تذكرها قبل الفراغ عنها – أي تذكر التكبيرات قبل الفراغ من القراءة – بأن قرأ الفاتحة، دون السورة ترك القراءة، ويأتي بالتكبيرات؛ لأنّه اشتغل بالقراءة قبل أوانها، فيتركها، ويأتي بما هو الأهم؛ ليكون المحلّ محلاً له، ثم يعيد القراءة" ([50]).
قال ابن عبد البر: : فإن نسي وقرأ، ثم ذكر قبل أن يركع؛ رع فكبَّر التكبير على وجهه، ثم قرأ وتمادى في صلاته، وسجد بع السلام لسهوه" ([51]).
القول الثاني :
أنّه إذا نسيها حتى قرأ؛ فإنّه لا يرجع، ويسجد للسهو في آخرها ندبًا.
وهو قول الشافعي الجديد، ومذهب الشافعية، والحنابلة ([52]).
قال النوويُّ: "ولو تذكرهنّ – أي التكبيرات – قبل الركوع، إمّا في القراءة، وإمّا بعدها، فقولان: الصحيح الجديد أنّه لا يأتي بهنّ لفوات محلهنّ، وهو قبل القراءة.
والقديم يأتي بهنّ، سواء ذكرهنّ في القراءة، أو بعدها ما لم يركع، وعنده أنّ محلهنّ القيام، وهو باقٍ" ([53]).
قال ابن قدامة: "فإن نسي التكبير في القراءة لم يَعد إليه" ([54]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
وجهه عندهم: أنّ محل التكبير محله القيام فلم يفوت محله .
أدلة القول الثاني :
وجهه عندهم: أنّ التكبير محله قبل القراءة، فإذا شرع في القراءة، فات المحل، وهو ذكر مسنون مثل دعاء الاستفتاح، فإذا فات محله لم يرجع إليه .
الترجيح :
والراجح - والله أعلم - أنّ التكبيرات محلها قبل القراءة، وليس القيام، ولذلك إذا فات محله فات، ولم يرجع إليه، ويشرع السجود للسهو، ولا يجب .
فصل:
إذا أدرك المأموم بعض التكبيرات، أو أدرك قراءة الإمام أو ركوعه = فإنّه يتابع الإمام فيما أدركه، ويقضي إن عليه قضاء ما فاته على صفته.
قال النوويُّ: "ولو أدرك الإمام أثناء القراءة، وقد كبَّر بعض الصلوات؛ فعلى الجديد، لا يكبِّر ما فاته. وعلى القديم يُكبِّر.
ولو أدركه راكعًا ركع معه، ولا يكبِّر بالاتِّفاق، ولو أدركه في الركعة الثانية، كبَّر معه خمسًا على الجديد، فإذا قام إلى الثانية كبَّر أيضًا خمسًا" ([55]).
وقال ابن قدامة: "ومن كبَّر قبل سلام الإمام، صلَّى ما فاته على صفته" ([56]).(/32)
وقال قدامة صاحب الشرح الكبير: "وإن أدرك معه ركعة – وقلنا: ما يقضيه المسبوق أوّل صلاته – كبَّر في الذي يقضيه سبعًا. وإن قلنا : آخر صلاته؛ كبَّر خمسًا" ([57]).
* مراجع المسألة :
المدونة (1/170)، الكافي (1/264)، عقد الجواهر (1/244)، الذخيرة (2/423)، المجموع (5/18)، فتح العزيز (5/61)، نهاية المحتاج (2/390)، البيان (2/639)، روضة (2/273)، التمام (1/245)، الشرح الكبير (5/356)، المستوعب (3/260)، الإنصاف (5/356)، المبدع (2/185).
القراءة في صلاة العيدين :
استحبّ أهل العلم أن يقرأ فيهما بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بلازم عندهم، فأيّ شيء قرأ أجزأه .
فاستحبوا أن يقرأ بسورة ق، وسورة القمر .
فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنّ عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ بـ { ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ }
و{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ } ([58]).
أو بالأعلى والغاشية .
فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة: بـ {سبّح اسم ربّك الأعلى}، و{هل أتاك حديث الغاشية}. قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضًا في الصلاتين ([59]).
قال ابن المنذر: "الإمام بالخيار إن شاء قرأ في صلاة العيدين بـ {ق}، و{اقتربت الساعة}، وإن شاء قرأ بـ {سبّح اسم ربّك الأعلى}، و{هل أتاك حديث الغاشية}، والاختلاف في هذا من جهة المباح، وإن قرأ بفاتحة الكتاب وسورة سوى ما ذكرناه أجزأه" ([60])، والله تعالى أعلم.
فصل:
إذا قرأ الإمام آية سجدة في الصلاة أو الخطبة وسجد، هل يسجد مَن معه ؟
قال أبو سليمان الجوزجاني: "قلت – لمحمد بن الحسن -: أرأيت إمامًا قرأ السجدة يوم العيد ؟ قال: عليه أن يسجد ويسجد معه أصحابه.
قلت: وكذلك لو قرأها وهو يخطب ؟ قال: نعم، يسجدها ويسجد من سمعها، وأمّا إذا قرأها في الصلاة فسجدها سجدها معه مَن سمعها، ومَن لم يسمعها، جميع من معه في الصلاة" ([61]).
* مراجع المسألة :
الكتاب (1/340)، حاشية ابن عابدين (2/173)، المدونة (1/168)، المعونة (1/324)، بداية المجتهد (1/507)، الرسالة (ص: 144)، الأم (1/210)، الحاوي (2/491)، فتح العزيز (5/50)، نهاية المحتاج (2/ 390)، روضة (2/72)، حلية (2/306)، التمام (1/243)، شرح الزركشي (2/219)، المغني (3/268).
سجود السهو في العيدين :
صلاة العيدين كسائر الصلوات إن وقع فيها سهو فإنّه يسجد للسهو فيها .
قال الجوزجاني: قلت – لمحمد بن الحسن -: أرأيت السهو في العيدين والجمعة والصلاة المكتوبة والتطوع أهو سهو ؟ قال: نعم ([62]).
والتكبيرات الزوائد سنة يشرع للإمام إذا نسيها أن يسجد السهو لها، ولا يجب .
قال ابن عبد البر: "فإن نسي التكبير وقرأ ثم ذكر قبل أن يركع رجع فكبّر التكبير على وجهه، ثم قرأ وتمادى في صلاته، وسجد بعد السلام السهو، وإن لم يذكر ولم يسبح به حتى ركع وتمادى في صلاته وسجد قبل السلام السهو" ([63]).
وقال ابن شاس: "لو نسي التكبير في ركعة فلا يتداركها إذا تذكرها بعد الركوع أو فيه، وليسجد قبل السلام، وقيل: يتداركها ما لم يرفع رأسه منه، وإن تذكر قبل الركوع كبّر ثم أعاد القراءة، وسجد بعد السلام، وقيل: لا يعيدها" ([64]).
قال ابن مفلح: "إن نسي التكبيرات ساهيًا لا يلزمه سجود؛ لأنَها هيئة" ([65])، والله أعلم.
* مراجع المسألة :
الأصل(1/345)، الكافي (1/264)، عقد الجواهر (1/244)، المستوعب (3/60)، الفروع (2/140).
القنوت في العيدين :
لا يقنت في صلاة العيدين إلا إن كانت هناك نازلة.
قال الشافعي: "ولا قنوت في صلاة العيدين ولا استسقاء، وإن قنت عند نازلة لم أكره، وإن قنت عند غير نازلة كرهت له" ([66]).
والله أعلم.
([1]) الأصل (1/336)، حاشية ابن عابدين (2/172)، الإنصاف (2/341).
([2]) المدوّنة (1/169)، الكافي لابن عبد البر (1/264)، المغني (3/271)، مجموع الفتاوى (20/365)، زاد المعاد (1/443).
([3]) الأم (1/395)، الحاوي (3/144)، الكافي (1/264)، المحلى (5/83).
([4]) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في العيدين، باب التكبير في الصلاة في العيد (5687). وصححه ابن حزم في المحلى (5/83)، وقال الحافظ في الدراية (1/220):”رواه عبد الرزاق عن ابن مسعود بإسناد صحيح ".
([5]) أخرجه عبد الرزاق في العيدين، باب التكبير في الصلاة في العيد (5689).
([6]) أخرجه مالك في الموطأ (1/180).
([7]) انظر: الاستذكار (8/53).
([8]) أبو داود (1150)، والدارقطني (2/46)، والمستدرك (1/298)، ولم يتعقبه بشيء، وضعَّفه الذهبي لأنّه من طريق ابن لهيعة، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1019).
([9]) الفروع لابن مفلح (2/139).
([10]) الشرح الممتع (5/179).
([11]) المغني (3/276).
([12]) المبدع (2/185).(/33)
([13]) حاشية ابن عابدين (1/174)، فتح العزيز (5/51)، المغني (3/272).
([14]) انظر: عقد الجواهر (1/421).
([15]) الأصل (1/338).
([16]) الأم (1/396).
([17]) عقد الجواهر (1/421).
([18]) المدوّنة (1/169).
([19]) أخرجه أبو داود (730)، الترمذي (304)، النسائي (3/2)، ابن ماجه (862)، وصححه ابن خزيمة (677)، ابن حبان
(1865).
([20]) مسلم (391).
([21]) رواه البيهقي في الكبرى (3/293)، قال: "وهذا منقطع"، وفيه ابن لهيعة ضعيف .
([22]) .
([23]) الأوسط (4/282).
([24]) ويأتي تفصيل المسألة .
([25]) حاشية ابن عابدين (2/175).
([26]) الحاوي (3/116).
([27]) حاشية ابن عابدين (2/175)، عقد الجواهر (1/241).
([28]) الدر المختار، انظر: حاشية ابن عابدين (2/175).
([29]) الكافي (1/264).
([30]) الحاوي (3/116)، روضة الطالبين (2/71)، المغني (3/274)، شرح الزركشي (2/224).
([31]) الأم (1/395).
([32]) انظر: مجمع الأنهر (1/174)، بدائع الصنائع (1/277)، الأم (1/395)، التمام لابن أبي يعلى (1/243)، شرح الزركشي (2/223).
([33]) الدر المختار، انظر: حاشية ابن عابدين (2/172).
([34]) المبسوط (2/42).
([35]) المجموع (5/20).
([36]) انظر: التمام لابن أبي يعلى (1/243).
([37]) انظر: الإنصاف (5/341).
([38]) حلية العلماء (2/304)، المغني (3/273).
([39]) المبسوط (2/39)، الإنصاف (5/350).
([40]) حاشية ابن عابدين (2/173).
([41]) عقد الجواهر (1/243)، المجموع (2/20)، المغني (3/270).
([42]) عقد الجواهر (1/243).
([43]) الإنصاف (5/350).
([44]) رويت عنه من طرق عدة عند ابن أبي شيبة (5696، 5697)، والطبراني في الكبير (9/302، 303)، وعبد الرزاق
(5686)، (5687)، تؤكد هذه الطرق كلها أنّ ابن مسعود رضي الله عنه والى بين القراءتين، والله أعلم .
([45]) ابن أبي شيبة (5707)، عبد الرزاق (5789)، الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/347)، وهذه المرويات تثبت أنّ ابن عباس كذلك والى بين القراءتين .
([46]) أبو داود (1151)، البيهقي (3/285)، الدارقطني (2/48)، وحسّن إسناده الألباني في صحيح سنن أبي داود (1020).
([47]) أخرجه أبو داود (1152)، وابن ماجه (1278)، والفريابي في أحكام العيدين رقم (135)، وهو صحيح بشواهده، صححه النووي في المجموع (5/21)، وقال ابن حجر في الفتوحات الربانية (4/241): "حسن صحيح"، وقال الألباني: "حسن صحيح" في صحيح سنن أبي داود (1021)، أبو داود (1152)، وابن ماجه (1278).
([48]) سنن البيهقي الكبرى (3/285).
([49]) بدائع الصنائع (1/278)، عقد الجواهر (1/244)، فتح العزيز (5/61)، البيان (2/639)، الشرح الكبير (5/356).
([50]) بدائع الصنائع (1/278).
([51]) الكافي لابن عبد البر (1/264).
([52]) فتح العزيز (5/61)، البيان (2/639)، الشرح الكبير (5/356).
([53]) المجموع (5/18).
([54]) المغني (3/275).
([55]) روضة الطالبين (2/73).
([56]) المقنع (5/362).
([57]) الشرح الكبير (5/362).
([58]) مسلم في العيدين، باب ما يقرأ به في صلاة العيدين (1477).
([59]) مسلم في الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة (1452).
([60]) الأوسط لابن المنذر (4/284).
([61]) الأصل (1/343).
([62]) الأصل (1/345).
([63]) الكافي (1/264).
([64]) عقد الجواهر (1/244).
([65]) الفروع (2/140).
([66]) الأم (2/211).
العيد وآدابه وسننه
تعريف العيد :
قال الخليل: "والعيد كلُّ يوم مجمع، من عاد يعود إليه ([1]). ويقال: بل سُمّي لأنّهم اعتادوه، والياء في العيد أصلها الواو قُلبت لكسرة العين ... وإذا جمعوه قالوا: أعياد، وإذا صغّروه قالوا: عُيَيْد، وتركوه على التغيير، والعيد يذكّّر ويؤنث"([2]).
وقيل: لم يجمعوه على أعواد للفرق بينه وبين أعواد الخشب ([3]).
وقال ابن الأعرابي: "سمّي عيدًا لأنّه يعود كلّ سنة بفرح متجدد"([4]).
وقال الأزهريّ:"وقد عيَّدوا، أي: شهدوا العيد"([5]).
وهذا المعنى في العيد هو الوارد في السنة النبوية الصحيحة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر، وعندي جاريتان من الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث، قالت: وليستا بمغنيتين. فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر، إنّ لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا))([6]).
وقالت عائشة رضي الله عنها: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمرُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعهم، أمنًا بني أرفدة))([7]).
قال ابن حجر: "فيه تعليل الأمر بتركهما، ... أي يوم سرورٍ شرعي، فلا ينكر فيه مثل هذا، كما لا ينكر في الأعراس"([8]).(/34)
قال ابن عابدين: "سمّي العيد بهذا الاسم لأنّ لله تعالى فيه عوائد الإحسان، أي: أنواع الإحسان العائدة على عباده في كل عام، منها: الفطر بعد المنع عن الطعام، وصدقة الفطر، وإتمام الحج بطواف الزيارة، ولحوم الأضاحي وغير ذلك، ولأنّ العادة فيه الفرح والسرور والنشاط والحبور غالبًا بسبب ذلك"([9]).
مراجع المسألة :
المجموع (5/22)نهاية المحتاج (2/385)، حاشية ابن عابدين (2/2165)، مجمع الأنهر (1/2172)، العين (2/219)، تهذيب اللغة (3/131)، مقاييس اللغة (4/183)، الصحاح (2/515)، تاج العروس (8/438)، لسان العرب (9/461).
([1]) كأن في المطبوعة سقطًا، ففي مقاييس ابن فارس (4/183): "واشتقاقه قد ذكره الخليل مِن عاد يعود، كأنهم عادوا
إليه". وانظر: تهذيب اللغة (3/131).
([2]) العين (2/219)، ونقله الأزهريّ عن الليث في التهذيب (3/131).
([3]) انظر: الصحاح للجوهري (2/515).
([4]) نقله الأزهري في التهذيب (3/132).
([5]) الصحاح (2/515).
([6]) أخرجه البخاري في العيدين، باب سنة العيدين لأهل الإسلام (952). ومسلم في العيدين، باب الرخصة في اللعب، الذي لا معصية فيه أيّام العيد (892)
([7]) أخرجه البخاري في العيدين، باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين (988).
([8]) فتح الباري (2/442).
([9]) حاشية ابن عابدين (2/165).
أول عيد صلاه النبي صلى الله عليه وسلم :
قال ابن جرير في ذكر أحداث السنة الثانية من الهجرة: "وفيها صلّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاة العيد، وخرج بالنّاس إلى المصلى، فكان أوّل صلاة صلاّها" ([1]).
قال الرملي: "وأول عيد صلاه النبي صلى الله عليه وسلم عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة، ولم يتركها" ([2]).
وهو موافق لما روي أن الصوم شرع في السنة الثانية من الهجرة ([3]).
وجاءت السنة بما يشير إلى أن ذلك كان في أول الهجرة، فعن أنس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذان اليومان)) ؟ قالوا: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر)). ([4])
قال الصنعانيُّ: "الحديث يدل على أنّه قال صلى الله عليه وسلم ذلك عقيب قدومه المدينة، كما تقضيه الفاء، والذي في كتب السير أنّ عيدٍ شُرع في الإسلام عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة" ([5]).
ولا منافاة بين الأمرين، فقصة الحديث وقعت في شهر محرم من السنة الثانية من الهجرة؛ لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة في شهر ربيع الأول ([6])، والله تعالى أعلم.
* مراجع المسألة:
نهاية المحتاج (2/385)، معونة أولي النهى (2/322)، كشاف القناع (5/50)سبل السلام (5/70).
([1]) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (5/54) ط التركي.
([2]) نهاية المحتاج (2/385).
([3]) نصب الراية (2/436)، التلخيص الحبير (4/88).
([4]) أبو داود (1134)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1004).
([5]) سبل السلام (2/144).
([6]) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (4/443).
التهنئة بالعيد :
التهنئة في العيد بقول: تقبل الله منا ومنك أجازه جمع من أهل العلم، لوروده عن السلف.
قال ابن حجر: "وروينا في المحامليات بإسناد حسن عن جبير بن نفير قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك". ويروى عن واثلة بن الأسقع موقوفاً ([1])ومرفوعًا ([2])" ([3]).
وسئل مالك عن قول الناس يوم العيد تقبل الله منا ومنك ؟ فقال:" ما زال ذلك الأمر عندنا ما نرى به بأسًا" ([4]).
وقال مالك: "لا أعرفه، ولا أنكره" ([5]).
قال ابن حبيب: "معناه: لا يعرفه سنة، ولا ينكره على ما يقوله، لأنه قول حسن لأنه دعاء" ([6]).
وقال: "ورأيت أصحابه لا يبتدئون به، ويعيدونه على قائله، ولا بأس بابتدائه" ([7]).
قال أحمد بن حنبل: "لا أبتدئ به أحدًا، وإن قاله أحد رددت عليه"([8]).
وروي عنه: "الكل حسن" ([9]).
وروي عنه أنه قال: "هو فعل الصحابة وقول العلماء" ([10]).
وروي عنه أنه كره الابتداء به، لما روي عن عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الناس: تقبل الله منا ومنكم، فقال: ((ذلك فعل أهل الكتابين))([11]).
وهو حديث ضعيف .
وعليه فالتهنئة بالعيد جائزة بقول: تقبل الله منا ومنك .
ولا وجه لكراهته، وهو إلى الاستحباب أقرب لتحسين الحافظ ابن حجر مجيئه عن الصحابة، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
نهاية المحتاج (2/401)، مختصر الخلافيات (4/385)، حاشية ابن عابدين (2/169)، الذخيرة (2/426)، التمام (1/250)، الشرح الكبير (5/381)، الإنصاف (5/381)، المعونة (2/ 340)، المغني (3/294)، فتح الباري (2/446)، مجموع الفتاوى (24/253).(/35)
([1]) الطبراني في الكبير (22/52)، قال الهيثمي في المجمع (2/206)في حبيب بن عمر الأنصاري أحمد رواته: "وحبيب قال الذهبي: مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الثقات ولم أعرفه".
([2]) البيهقي في الكبرى (3/319)، وقال ابن عدي في الكامل (6/271): "وهذا منكر [ لا ] أعلم يرويه عن بقيّة، غير محمد بن إبراهيم هذا"، وقال البيهقي: "قد رأيته بإسناد آخر عن بقية موقوفًا غير مرفوع، ولا أراه يصحّ". وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية: "هذا حديث لا يصح، ولا يرويه عن بقية غير محمد بن إبراهيم وهو منكر الحديث، وبقية يروي عن المجهولين ويدلسهم".
([3]) فتح الباري (2/446).
([4]) انظر: الثقات (9/90).
([5]) انظر: الذخيرة (2/426).
([6]) انظر: التاج والإكليل (2/199).
([7]) انظر: الفواكه الدواني (1/275).
([8]) انظر: الشرح الكبير (5/382).
([9]) انظر: الإنصاف (5/381).
([10]) المصدر نفسه.
([11]) أخرجه البيهقي في الكبرى (3/319 – 320)وقال: "عبد الخالق بن زيد منكر الحديث، قاله البخاري".
الاغتسال في العيدين :
يستحب الاغتسال في العيدين، لأنّ فيه اجتماعًا أعظم من الاجتماع الذي في الجمعة، وبه قال عامة الفقهاء.
وقد روي في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصحّ منها شيء، منها:
ما أخرجه ابن ماجه والبيهقي من حديث ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل يوم الفطر، ويوم الأضحى ([1]).
وما أخرجه ابن ماجه من حديث الفاكه بن سعد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر، ويوم النحر، ويوم عرفة ([2]).
وما أخرجه الطبراني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام من رمضان، وغدا بغسل إلى المصلى، وختمه بصدقة رجع مغفورًا له)) ([3]).
وما أخرجه البزار في مسنده أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اغتسل للعيدين ([4]).
قال البزار: "لا أحفظ في الاغتسال في العيدين حديثًا صحيحًا" ([5]).
قال ابن عبد البر: "فأمّا الاغتسال لهما؛ فليس فيه شيءٌ ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من جهة النقل"([6]).
وثبت أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يغتسل في هذين اليومين ([7]).
وعن زاذان قال: إنّ علي بن أبي طالب سأله رجلٌ عن الغسل، قال: أغتسلُ كل يومٍ إن شئتُ ؟ قال: لا، بل الغسل الذي هو الغسل: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الأضحى، ويوم الفطر ([8]).
وعن سعيد بن المسيّب قال: الغسل يوم العيدين سنة، كغسل الجنابة ([9]).
وكان علقمة يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو ([10]).
وكان الحسن يغتسل يوم الفطر، ويوم الأضحى ([11]).
قال ابن المنذر: "وممن كان يرى الاغتسال يوم الفطر عطاء، وعلقمة، وعروة بن الزبير، وإبراهيم التيمي، وإبراهيم النخغي، وقتادة، وأبو الزناد، ومالك، والشافعيّ، وإسحاق".
وقد نقل اتِّفاق الفقهاء على استحباب الاغتسال للعيدين غيرُ واحدٍ من أهل العلم.
قال ابن عبد البر: "واتفق الفقهاء على أنّه حسنٌ لمن فعله" ([12]).
وقال ابن رشد: "أجمع العلماء على استحسان الغسل لصلاة العيدين" ([13]).
وقال النوويُّ: "قال الشافعيّ وأصحابه: يستحب الغسل في العيدين، وهذا لا خلاف فيه، والمعتمد فيه أثر ابن عمر، والقياس على الجمعة" ([14]).
وقال ابن قدامة: "يستحب أن يتطهر بالغسل للعيدين، وكان ابن عمر يغتسل يوم الفطر، وروي ذلك عن عليّ - رضي الله عنه -، وبه قال علقمة، وعروة، وعطاء، والنخغيّ، والشعبيّ، وقتادة، وأبو الزناد، ومالك، والشافعيّ، وابن المنذر" ([15]).
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/71)، حاشية ابن عابدين (2/168)، المدونة (1/167)، الرسالة (ص: 144)، المعونة (1/320)، الكافي (1/263)، بداية المجتهد (1/505)، عقد الجواهر (1/241)، الذخيرة (2/420)، الأم (1/205)، الحاوي (1/483)، المجموع (5/6)، فتح العزيز (5/20)، نهاية المحتاج (2/392)، البيان (2/629)، روضة الطالبين (2/75)، حلية العلماء (2/303)، المغني (3/256).
وقت الاغتسال للعيدين :
اتفق أهل العلم على مشروعية الاغتسال لصلاة العيد، ولكن اختلفوا في وقته متى يكون ؟
القول الأول :
الاغتسال للعيد يكون بعد الفجر، فإن فعله قبله أجزأه .
وهو قول الجمهور؛ الحنفية ([16])، والمالكية ([17])، والشافعية ([18])، ورواية عن الإمام أحمد ([19]).
القول الثاني :
الاغتسال يكون بعد الفجر، ولا يجزئ قبله .
وهو قول أحمد، ورواية عن الشافعي ([20]).
الأدلة :
أدلة القول الأول:
قالوا: لأن وقت صلاة العيد غدوة، فيقرب من وقت الاغتسال.
ولأنّ أهل السواد يحتاجون إلى التبكير حتى يصلوا إلى المصلى في الوقت المناسب، فلو وقف على الفجر ربما فاتت صلاة العيد مع الإمام .
أدلة القول الثاني :
قالوا: لأنّه غسل الصلاة في اليوم، فلم يجز قبل الفجر كغسل الجمعة .
الترجيح :
والراجح مذهب الجمهور؛ لأنّ المقصود بالغسل التنظيف، وذلك يحصل بالغسل في الليل لقربه من الصلاة، والله أعلم .(/36)
قال أبو الوليد الباجيّ: "فإن قدَّمه قبل الفجر؛ فواسعٌ، لقرب ذلك، ولأنّ الغسل لا تذهب آثاره قبل الغدو، ولا تتغير نظافته" ([21]).
* مراجع المسألة :
المجموع (5/6)، فتح العزيز (5/22)، نهاية المحتاج (2/393)، البيان (2/629)، روضة (2/75)، حلية (2/303)، المغني (3/258).
([1]) أخرجه ابن ماجه في العيدين، باب ما جاء في الاغتسال في العيدين (1315)، والبيهقيّ (3/378)، وضعّفه ابن حجر في التلخيص (1/81)، والدراية (23)، قال الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه (ص 96): "ضعيف جدًا"، وانظر: إرواء الغليل (1/175).
([2]) أخرجه ابن ماجه في العيدين، باب ما جاء في الاغتسال في العيدين (1316). وفيه: يوسف بن خالد السمتي، قال ابن معين: كذَّاب، زنديق، لا يُكتب عنه"[انظر: تهذيب الكمال 32/423]. لذا قال الألبانيّ عن الحديث في الإرواء (1/176): "موضوع".
([3]) أخرجه في الأوسط (6/57) من طريق نصر بن حماد عن أيوب بن خوط عن قتادة عن سعيد بن المسيب به. قال الهيثمي في المجمع (2/918): "وفيه نصر بن حماد، وهو متروك".
([4]) انظر: كشف الأستار (1/311) من طريق محمد بن معمر ثنا عبد العزيز ثنا مندل عن محمد بن عبيد الله عن أبيه عن جده به. قال الهيثميّ في المجمع (2/198): "رواه البزار، ومندل فيه كلامٌ، ومحمد هذا، ومن فوقه لا أعرفهم". وقال ابن حجر في مختصر زوائد البزار (1/299): "مندل ضعيفٌ".
([5]) انظر: التلخيص الحبير (2/81).
([6]) التمهيد (10/266).
([7]) أخرجه مالك في الموطأ بسند صحيح (1/146).
([8]) أخرجه مسدد في مسنده (المطالب العالية 1/285)، وابن المنذر في الأوسط (2112) والبيهقيُّ في الكبرى (3/278) من طريق شعبة عن عمرو بن مرّة به، ورجاله ثقات غير زذان صدوق، فالإسناد حسن إن شاء الله.
([9]) أخرجه عبد الرزاق في العيدين، باب الاغتسال في يوم العيد (5750).
([10]) أخرجه عبد الرزاق في العيدين، باب الاغتسال في يوم العيد (5747).
([11]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف (2/86) كتاب العيدين، باب في الغسل يوم العيدين بسند صحيح.
([12]) الاستذكار (7/11).
([13]) بداية المجتهد (1/216) تصوير دار الكتب العلمية.
([14]) المجموع (5/7).
([15]) المغني (3/256).
([16]) شرح فتح القدير (2/40).
([17]) المعونة (1/320)، الذخيرة (2/420).
([18]) المجموع (5/6)، فتح العزيز (5/21)، حلية العلماء (2/32).
([19]) المغني (3/258).
([20]) المغني (3/258)، فتح العزيز (5/21)، حلية العلماء (2/302).
([21]) المنتقى لأبي الوليد الباجي (1/316).
التزين في العيدين في اللباس والتطيب، ونحو ذلك:
يستحب التزين في العيدين في اللباس والطيب عند عامة الفقهاء .
فعن عبد الله بن عمر قال: أخذ عمر جبةً من استبرق تباع في السوق، فأخذها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ! ابتع هذه، تجمل بها للعيد والوفود. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّما هذه لباس من لا خلاق له))([1]).
قال ابن رجب: "وقد دلّ الحديث على التجمل للعيد، وأنه كان معتادًا بينهم" ([2]).
وعن نافع أنّ ابن عمر أنّه كان يلبس في العيدين أحسن ثيابه ([3]).
قال ابن قدامة: "وهذا يدل على أنّ التجمل عندهم في هذه المواضع – يعني: الجمعة، والعيد، واستقبال الوفود – كان مشهورًا" ([4]).
ولذلك لم يختلف أهل العلم على استحباب التزين والتطيب في العيد.
قال مالك: "سمعتُ أهل العلم يستحبّون الطيب والزينة في كلّ عيد، والإمام بذلك أحقّ؛ لأنّه المنظور إليه من بينهم" ([5]).
فصل:
استثنى بعض أهل العلم المعتكف من الزينة، ليبقى عليه أثر العبادة ([6]).
ونقله ابن قدامة عن مالك ([7]).
والصواب أنّ المعتكف وغيره سواء، كما هو قول القاضي أبي يعلى ([8])، واختاره الشيخ السعدي ([9]).
قال الشيخ ابن عثيمين: "ولكن هذا القول ضعيفٌ أثرًا، ونظرًا. أمّا الأثر؛ فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكف، ومع ذلك يلبس أحسن الثياب. وأمّا النظر؛ فلأنّ توسخ ثياب المعتكف ليس من أثر اعتكافه، ولكن من طول بقائها عليه، ولهذا لو لبس ثوبًا نظيفًا ليلة العيد، أو آخر يومٍ من رمضان ما أثَّر، ولا يصحّ قياسه على دم الشهيد؛ لأنّ الشهيد يأتي يوم القيامة، وجرحه يثعب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريحُ المسك"([10]).
فصل:
ويحرم على الرجال التزين بكل محرم من اللباس؛ كالحرير والديباج والإسبال وثوب الشهرة والذهب والفضة والتشبه بالكفار والنساء وغير ذلك من الألبسة المحرّمة سواء كانت ثيابًا أو عمائم أو السراويلات أو الساعات أو غير ذلك ([11]).
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/72)، مجمع الأنهر (1/172)، الأم (1/206)، الحاوي (2/487)، المجموع (5/8)، فتح العزيز (5/23)، نهاية المحتاج (2/393)، البيان (2/630)، الرسالة (ص: 144)، المعونة (1/321)، عقد الجواهر (1/241)، المقنع (5/323)، الشرح الكبير (5/323)، الإنصاف (5/323)، المغني (3/257)، نيل الأوطار (3/283).(/37)
فصل:
استحبّ بعض أهل العلم الأكل والتزين والاغتسال وغيره للعيد، لأنّه يوم فرح وسرور، وإن لم يشهد المصلى .
قال الحصفكي: "وندب يوم الفطر أكله حلوًا وترًا، ولو قرويًا".
قال ابن عابدين: "قوله: (ولو قرويًا) ... ولعله يشير إلى أنّ ذلك ليس من سنن الصلاة، بل من سنن اليوم، لأنّ في الأكل مبادرة إلى قبول ضيافة الحق سبحانه، وإلى امتثال أمره بالصيام".
وقال العمرانِي بعد ذكره استحباب التزين قبل الخروج إلى المصلى: "ويستحب ذلك لمن يريد حضور الصلاة، ولمن لا يريد حضورها؛ لأنّ المقصود إظهار الزينة والجمال، فاستحبّ ذلك لمن حضر الصلاة، ولمن لم يحضر".
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/79)، حاشية ابن عابدين (2/76)، مجمع الأنهر (1/174)، المدونة (1/171)، الكافي (1/263)، بداية المجتهد (1/514)، عقد الجواهر (1/241)، الأم (1/ 216)، الحاوي (2/488)، المجموع (5/5)، فتح العزيز (5/45)، البيان (2/628)، شرح الزركشي (2/216)، المقنع (5/322)، المستوعب (3/52)، الفروع (2/138)، المغني (3/258).
([1]) البخاري (948).
([2]) فتح الباري لابن رجب (8/ 413).
([3]) البيهقي في الكبرى (3/381).
([4]) المغني (5/257).
([5]) انظر: المغني (5/258).
([6]) انظر: الإنصاف (5/329)، وقال: "وقدّمه في الفروع والفائق".
([7]) المغني (3/258).
([8]) التمام لابن أبي يعلى (1/248).
([9]) الاختيارات الجليّة للشيخ عبد الرحمن السعدي (ص 72).
([10]) الشرح الممتع (5/167-168).
([11]) انظر في تفاصيل أحكام هذه الألبسة انظر: المغني (2/298-311)، المجموع (4/320-344)، وأحكام اللباس المتعلقة بالصلاة والحجّ لسعد الخثلان.
الأكل قبل الخروج إلى الفطر :
لم يختلف الفقهاء في استحباب الأكل قبل الخروج إلى الفطر، وأن تكون على تمرات، كما هو هديُ النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته من بعده ([1]).
قال ابن القاسم: "وكان مالك يستحب للرجل أن يطعم قبل أن يغدو يوم الفطر" ([2]).
قال ابن قدامة: "لا نعلمُ فيه اختلافًا" ([3]).
فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل
تمرات ([4]). وفي لفظٍ: ويأكلهنّ وترًا ([5]).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن استطعتم أن لا يغدو أحدكم يوم الفطر حتى يطعم فليفعل) ([6]).
وقال: (كان الناس يأكلون يوم الفطر قبل أن يخرجوا) ([7]).
قال السائب بن يزيد" مضت السنة أن يأكل قبل أن يغدو يوم الفطر" ([8]).
وقد ذكر الفقهاء لذلك حكمًا، منها :
1- أنّ الأكل قبل الفطر فيه مبادرة إلى الفطر في يوم العيد، لتظهر مخالفته لرمضان، حيث كان تحريم الأكل في نهاره، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع .
2- وأنّه لما كانت صدقة الفطر تخرج قبل الصلاة استحبّ الأكل قبل الصلاة ليشارك المساكين .
ويكون فطره على تمرات ليكمُل له الاقتداء، وإلاّ فبحسب التيسير، ويكون وترًا كما ثبت ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/71)، حاشية ابن عابدين (2/168)، مجمع الأنهر (1/172)، المدونة (1/171)، الكافي (1/263)، بداية المجتهد (1/514)، عقد الجواهر (1/241)، الأم (1/ 206)، الحاوي (2/488)، المجموع (5/5)، فتح العزيز (5/20)، نهاية المحتاج (2/396)، البيان (2/628)، المعونة (1/321)، شرح الزركشي (2/216)، المقنع (5/322)، المستوعب (3/52)، الفروع (2/138)، المغني (3/258)، المحلى (2/89)، نيل الأوطار (3/288).
([1]) انظر: الأوسط لابن المنذر (4/254).
([2]) المدوّنة (1/171).
([3]) المغني (3/258).
([4]) أخرجه البخاري (953).
([5]) علّقه البخاري عن مرجى بن رجاء بصيغة الجزم في العيدين، باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج ( 953). قال الحافظ ابن حجر في هدي الساري (ص 33): "رواية مرجى بن رجاء عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس في أكل التمر وترًا = وصلها الإسماعيلي وأبو نعيم، وأصله في مسند أحمد"، وبيّن الحافظ وصل هذه اللفظة في تغليق التعليق (2/374)، وأخرجه ابن خزيمة في كتاب العيدين، باب استحباب الفطر يوم الفطر على وترٍ من التمر (1429). وابن حبّان بنحوه (الإحسان 7/
53) في كتاب الصلاة، باب العيدين، ذكر ما يُستحب للمرء أن يكون أكله التمر يوم العيد وترًا (2814). والحاكم في المستدرك (1/294) في العيدين، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، قال الذهبيّ: "على شرط مسلم". وحسّن إسناده الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للإحسان (7/53).
([6]) عبد الرزاق (5734)، وابن المنذر (2111).
([7]) عبد الرزاق (5741).
([8]) أخرجه ابن أبي شيبة (2/161)، الاستذكار (7/39).
إحياء ليلة العيدين :
يروى في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى لم يمت قلبه يوم تموت القلوب))([1]).
وقوله: ((من قام ليلتي العيدين محتسبًا لله لم يمت قلبه يوم تموت القلوب))([2]).(/38)
وقوله: ((من أحيا ليلتي العيد وليلة النصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب))([3]).
وكلها ضعيفة لا تقوم بها حجة .
وقد استحبّ عدد من أهل العلم إحياء ليلة العيدين استنادًا على هذه الأحاديث.
قال الشافعي: "وأنا أستحب كل ما حكيت في هذه الليالي من غير أن يكون فرضاً" ([4]).
وقيام الليل في الجملة صحيح ثابت فيشرع ليلة العيد، ولكن إحياء الليل كله لا يستحب بل يكره، لأنه يؤثر على بقية الواجبات .
ولأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحيا ليله إلا في العشر الأواخر من رمضان .
والله تعالى أعلم.
* مراجع المسألة :
حاشية الزرقاني (2/74)، المبدع (2/26)، حاشية الدسوقي (1/398)، مواهب الجليل (2/193)، الأم (1/204)، فتح العزيز (5/19)، المجموع (5/42)، نهاية المحتاج (2/397)، روضة (2/75).
([1]) الطبراني في الأوسط (1/57)، من حديث عبادة بن الصامت، وأحال الهيثمي إلى الكبير أيضًا [ المجمع 2/198 ] وقال: "فيه عمر بن هارون البلخي، والغالب على الضعف، وأثنى عليه ابن مهدي وغيره، ولكن ضعفه جماعة كثيرة، والله أعلم" .
([2]) الشافعي في الأم (1/204)، والبيهقي في الكبرى (3/319)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وفيه إبراهيم محمد متروك . وأخرجه ابن ماجه (1782)، من حديث أبي أمامة، وفيه عنعنة بقية بن الوليد .
([3]) أخرجه ابن عدي في الكامل (5/372)من حديث كردوس، وقال: "وهذا حديث منكر مرسل"، لأنّ راويه عن ابن كردوس، مروان بن سالم متروك متهم بالكذب [ الإصابة 5/580].
([4]) الأم (1/204).
التكبير في العيدين
حكم التكبير ليلة العيدين :
استحبّ عامّة أهل العلم التكبير ليلة العيدين ([1]).
وأوجبه داود الظاهري([2]).
وقال ابن حزمٍ: "والتكبير ليلة عيد الفطر فرضٌ، وهو في ليلة عيد الأضحى حسنٌ، قال تعالى: { وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، فبإكمال عدة صوم رمضان وجب التكبير، ويجزئ من ذلك تكبيرة"([3]).
فصل:
واستثنى بعض أهل العلم المحرم في ليلة المزدلفة، قالوا ذكره فيها التلبية، لا التكبير .
قال الرافعيُّ: "ويستثنى من ذلك الحاجّ ليلة الأضحى، وإنّما ذِكْرُه التلبية" ([4]).
غيره أنّ هناك أحاديث ثابتة دلت على جواز الجمع بين التكبير والتلبية، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: خرجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة، إلاّ أن يخلطها بتهليل أو تكبير ([5]).
وعن ابن عمر قال: غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات، منّا الملبي، ومنا المكبر([6]).
ففي هذان الحديثان دليل على أنّهم كانوا يجمعون التكبير مع التلبية إلى أن يقطعوا التلبية برمي الجمرة، فيفردون التكبير سائر أيام التشريق، فلا وجه لاستثناء المحرم، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
شرح الزركشي (2/214)، المقنع والشرح الكبير والإنصاف (5/366)، المغني (3/255)، المجموع (5/41)، المعونة للمالكية (1/322)، الحاوي (2/484)، فتح العزيز (5/11، 14)، نهاية المحتاج (2/39)روضة (2/75)، ابن عابدين (2/177، 179)، حلية العلماء (2/311)، الجواهر (1/242)الذخيرة (2/418)، المحلى (5/89).
([1]) حاشية ابن عابدين (2/176)، والمعونة (1/322)، والمجموع (5/41)، والمغني (3/255).
([2]) انظر: حلية العلماء (2/311)، والمجموع (5/41).
([3]) المحلى (5/89).
([4]) فتح العزيز (5/18).
([5]) أخرجه أحمد (1/418)، وصححه ابن خزيمة في الحجّ، باب التكبير والتلبية والتهليل في الغدو من منى إلى عرفة (2806).
([6]) مسلم (272).(/39)
العين حق
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية عن حقيقة العين أو الحسد ومشروعية الرقية منه، وإليك نص السؤال والفتوى:
ما حقيقة العين- النضل- قال تعالى: ومن شر حاسد إذا حسد، وهل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم صحيح والذي ما معناه قوله: "ثلث ما في القبور من العين"؟ وإذا شك الإنسان في حسد أحدهم فماذا يجب على المسلم فعله وقوله؟ وهل في أخذ غسالة الناضل للمنضول ما يشفي؟ وهل يشربه أو يغتسل به؟
الجواب: العين مأخوذة من عان يعين إذا أصابه بعينه، وأصلها من إعجاب العائن بالشيء ثم تتبعه كيفية نفسه الخبيثة ثم تستعين على تنفيذ سهمها بنظرها إلى المعين، وقد أمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من الحاسد فقال تعالى: ومن شر حاسد إذا حسد، فكل عائن حاسد وليس كل حاسد عائنًا، فلما كان الحاسد أعم من العائن كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه تارة وتخطئه تارة، فإن صادفته مكشوفًا لا وقاية عليه أثّرت فيه وإن صادفته حذرًا شاكي السلاح لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه وربما ردت السهام على صاحبها. {من زاد المعاد بتصرف}
وقد ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإصابة بالعين، فمن ذلك ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمرني أن استرقي من العين". {البخاري: 7-23، ومسلم: 14-184}
وأخرج مسلم وأحمد والترمذي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا". {مسلم: 14-171، والترمذي: 4-397}
وأخرج أحمد والترمذي وصححه عن أسماء بنت عميس أنها قالت: يا رسول الله، إن بني جعفر تصيبهم العين، أفنسترقي لهم؟ قال: "نعم فلو كان شيء سابق القدر لسبقته العين".
{الترمذي 4-395، وابن ماجه 2-1160}
وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغسل منه المعين".
{أبو داود: 4-210}
وأخرج أحمد ومالك والنسائي وابن حبان وصححه عن سهل بن حنيف: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وسار معه نحو مكة حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف وكان رجلاً أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة أحد بني عدي بن كعب وهو يغتسل فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط سهل، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، هل لك في سهل والله ما يرفع رأسه، قال: "هل تتهمون فيه من أحد؟" قالوا: نظر إليه عامر بن ربيعة، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عامرًا فتغيظ عليه، وقال: "علام يقتل أحدكم أخاه، هلا إذا رأيت ما يعجبك بَرَّكْتَ؟". ثم قال له: "اغتسل له" فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم صب ذلك الماء عليه يصبه رجل على رأسه وظهره من خلفه ثم يكفأ القدح وراءه، ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ما به بأس.
فالجمهور من العلماء على إثبات الإصابة بالعين للأحاديث المذكورة وغيرها ولما هو مشاهد وواقع، وأما الحديث الذي ذكرته "ثلث ما في القبور من العين". فلا نعلم صحته، ولكن ذكر صاحب نيل الأوطار أن البزار أخرج بسند حسن عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنفس". {السنة لابن أبي عاصم: 1-136}. يعني بالعين. ويجب على المسلم أن يحصن نفسه من الشياطين من مردة الجن والإنس بقوة الإيمان بالله واعتماده وتوكله عليه ولجئه وضراعته إليه، والتعوذات النبوية وكثرة قراءة المعوذتين وسورة الإخلاص وفاتحة الكتاب وآية الكرسي، ومن التعوذات "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق"، و"أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون". وقوله تعالى: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، ونحو ذلك من الأدعية الشرعية وهذا هو معنى كلام ابن القيم المذكور في أول الجواب.
وإذا علم أن إنسانًا أصابه بعينه أوشك في إصابته بعين أحد فإنه يؤمر العائن أن يغتسل لأخيه فيحضر له إناء به ماء فيدخل كفه فيه فيتمضمض ثم يمجه في القدح ويغسل وجهه في القدح ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى في القدح ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبته اليسرى ثم يغسل إزاره ثم يصب على رأس الذي تصيبه العين من خلفه صبة واحدة فيبرأ بإذن الله. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(/1)
الغاية من الخلق
إن الله خلق المخلوقات، وأوجد الموجودات لغاية يريدها، وحكمة يعلمها، ولم يخلقهم سدى، ولم يتركهم هملاً.
ولذلك فقد أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبين طريق السعادة ليسلك السالكون فيها، وطريق الغواية ليحذر منها ومن الاقتراب منها.
ولقد خلق الله الجن والإنس لغاية عظيمة سامية بها حياتهم وسعادتهم إنهم قاموا بها، قال الله – تعالى-:{ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}.
فالغاية من خلق الخلق هي عبادته وحده لا شريك له، ولكن للأسف الشديد هناك كثير من الناس ما لم يعرفوا الغاية التي لأجلها خلقوا، وبالتالي هم يعيشون عيشة أشبه بعيشة البهائم، قال الله عنهم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}. وقال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } .
وهؤلاء الكفار والمشركين. مع أن الجن والإنس وكل المخلوقات تعبد الله وتوحده وتسحبه وتسجد له، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء}.
وقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}.
ولكن هناك :{وكثير من الناس حق عليه العذب} وبالتالي كفر وتعتى وظلم، فأهان نفسه وأوبقها {ومن يهن الله فما له من مكرم}.
ومما لا محيد عنه أن لم يعبد الله فإنه سيعبد غير ه، من هوى أو نفس أو شيطان أو جاه أو منصب، أو صورة، أو دينار أو درهم، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – :" تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش " رواه البخاري.
وقال ابن القيم:
هربوا من الرق الذي خلقوا له قبلوا برق النفس والشيطان
وهناك فئة من الناس عرفوا الغاية التي لأجلها خلقوا، ولكنهم قصروا وأساءوا، وأضلوا الطريق فعبدوا الله على جهل، وابتدعوا في دين الله مالم يأذن به الله، أو أخذ جزءً من العبادة وتركوا الجزء الآخر، ولم يفهموا معنى العبادة الشاملة التي عبر عنها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
فالعبادة تشمل كل عمل ديني، وكل عمل دنيوي مباح وذلك إذا قصد بفعله وجه الله والتعبد والاحتساب بذلك لله وحده لا شريك له.
فإن من أكل ليتقوى على طاعة الله فهو مأجور، ومن تزوج ليعف نفسه ويحصن فرجه ويقيم أسرة مسلمة صالحة فإنه مأجور - بإذن الله-.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب - رحمهم الله- : ومعنى الآية:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أن الله - تعالى - أخبر أنه ما خلق الإنس والجن إلا لعبادته، فهذه هي الحكمة – الغاية- في خلقهم، ولم يرد منهم ما تريده السادة من عبيدها من الإعانة لهم بالرزق والإطعام، بل هو الرزاق ذو القوة المتين، الذي يُطعم ولا يطعم؛ كما قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ}.
وقد قال تعالى: (({مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }.
ثم قال – رخمه الله-: وعبادته هي طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وذلك هو حقيقة دين الإسلام؛ لأن معنى الإسلام هو الاستسلام لله المتضمن غاية الانقياد، في غاية الذل والخضوع. قال علي بن أبي طالب: في الآية السابقة: [إلا لآمرهم أن يعبدوني، وأدعوهم إلى عبادتي.
وقال مجاهد: إلا لآمرهم وأنهاهم. واختاره الزجاج وشيخ الإسلام، قال: ويدل على هذا قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى}. قال الشافعي: لا يؤمر ولا ينهى.
وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي لولا عبادتكم إياه.
ولقد أحسن الإمام العالم الرباني/ حافظ بن أحمد حكمي - رحمه الله - حين قال في نظمه الموسوم بسلم الأصول إلى علم الأصول في توحيد الله واتباع الرسول:(/1)
اعلم بأن الله جل وعلا لم يترك الخلق سدى وهملاً
بل خلق الخلق ليعبدوه وبالآلهية يفردوه
أخرج فيما قد مضى من ظهر آدم ذريته كالذر
وأخذ العهد عليهم أنه لا لا رب معبود بحق غيره.
أسأل الله التوفيق والهداية، وأعوذ به من الخذلان والغواية.
اللهم! وفقنا لحسن عبادتك، وأعنا على ذكرك وشكرك . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار(/2)
الغربة والغرباء
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء » (صحيح الجامع الصغير ، رقم 1576).
وعن سهل بن سعد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباَ كما بدأ، فطوبى للغرباء »، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يَصلُحون إذا فسد الناس » (سلسلة الأحاديث الصحيحة ، رقم 1273).
وروي بزيادة بلفظ: "قيل ومن الغرباء؟ قال: «النُّزاع من القبائل » (توقف الألباني في تصحيحه وتضعيفه انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم1273).
كما روى عبد الله بن المبارك في كتابه "الزهد" عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « طوبى للغرباء » ، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم » (سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم1619).
في الحديث الأول بيان مبدأ الإسلام، وأنه بدأ غريباً بين الأديان، وكان أهله غرباء بين الناس، وكان المستجيب له غريباً بين أهله وعشيرته، يؤذى بسبب ذلك ويفتن في دينه، ويعادى على ذلك، وكان المسلمون صابرين راضين بقضاء الله مطيعين لأوامر رسوله حتى قوي الإسلام واشتد عوده في المدينة، فزالت غربته عندما انتشر في أرض العرب، وكان أهله هم الظاهرين على من ناوأهم. وسيعود الإسلام غريباً كما بدأ -كما هو حال زماننا هذا لقلة المتمسكين به-.
وهذه الغربة تزداد شيئاً فشيئاً؛ بسبب دخول فتنة الشبهات والشهوات على الناس.
أما فتنة الشبهات فقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (انظر رواياته في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 204،205).
وأما فتنة الشهوات فقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك حيث قال: «والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم » (رواه البخاري في صحيحه).
أما فتنة الشبهات فينجى منها الطائفة المنصورة المذكورة في الحديث «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك » (رواه البخاري في صحيحه) وهم الغرباء في آخر الزمان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وقد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة. ففي كثير من الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ما يصير به غريباً بينهم لا يعرفه منهم إلا الواحد بعد الواحد. ومع هذا فطوبى لمن تمسك بالشريعة كما أمر الله ورسوله"ا ه.
قال ابن القيم:
"فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلّتهم في الناس جداً سُمُّوا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات. فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة -الذين يميزونها من الأهواء والبدع- منهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين".
وقال أيضاً:
"ومن صفات هؤلاء الغرباء -الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم - التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة. بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده. وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً وأكثر الناس، بل كلهم لائم لهم. فلغربتهم بين هذا الخلق: يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم".
وقال أيضاً:
"فإذا أراد المؤمن الذي رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهاً في سنة رسوله، وفهماً في كتابه وأراه ما الناس فيه: من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله وأصحابه.
فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه وازدرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلونه مع متبوعه وإمامه صلى الله عليه وسلم، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه: فهناك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل.
فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم" مدراج السالكين (3 / 194-201).
ونجد في كتب السلف مدح السنة وأهلها، ووصفهم بالغرباء.
قال الأوزاعي: "أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة، ترفقوا - يرحمكم الله- فإنكم من أقل الناس".(/1)
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: "إني أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريباً كما بدأ، إن ترغب إلى عالم وجدته مفتوناً بحب الدنيا، يحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً، غرره إبليس قد صعد به إلى أعلى درجة العبادة، وهو جاهل بأدناها، فكيف له بأعلاها، وسائر ذلك من الرعاع، همج عوج، وذئاب مختلسة، وسباع ضارية، وثعالب ضوار".
وقال الآجري في وصفه الغريب: " فلو تشاهده في الخلوات يبكي بحرقة ويئن بزفرة، ودموعه تسيل بعبرة، فلو رأيته وأنت لا تعرفه لظننت أنه ثكلى قد أصيب بمحبوبه وليس كما ظننت، إنما هو خائف على دينه أن يصاب به، لا يبالي بذهاب دنياه إذا أسلم له دينه، قد جعل رأس ماله دينه يخاف عليه الخسران" ا ه.
وكما بين الحديث أن الغرباء قلة في الأزمان، من يطيعهم قليل ومخالفوهم كثير، وهم صنفان:
أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس.
والثاني: من يصلح نفسه ويصلح ما أفسد الناس من السنة وهو أعلى الصنفين وأفضلهما.
والغربة أنواع:
أولها غربة أهل الحق، أهل الله وأهل الإسلام بين المسلمين وهي الغربة الممدوحة، وأصحابها هم الطائفة المنصورة.
والغربة الثانية: هي غربة الباطل بين أهل الحق وهي غربة مذمومة.
والثالثة مشتركة لا تحمد ولا تذم وهي الغربة عن الوطن.
صفة الغريب الذي لو أقسم على الله لأبره:
والغريب قد يكون غير مشتهر عند الناس، ولا يأبه به كما ورد في صفة الغريب بعض الأحاديث، منها: حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « طوبى لعبد مغبرة قدماه في سبيل الله عز وجل، شاعث رأسه، إن كانت الساقة كان فيهم، وإن كان في الحرس كان منهم، وإن شفع لم يشفع، وإن استأذن لم يؤذن له، طوبى له، ثم طوبى له » (رواه البخاري تعليقاً، والطبراني بإسناد صحيح) .
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « رُبَّ أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله عز وجل لأبره » (رواه الترمذي وحسنه).
وعن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله يحب العبد النقي الغني الخفي » (رواه مسلم في صحيحه).
وروى البيهقي في الأسماء والصفات أن عمر بن الخطاب دخل المسجد فوجد معاذ بن جبل جالساً إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال له عمر: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ هلك أخوك -لرجل من أصحابه-؟ قال: لا. ولكن حديثاً حدثنيه حبي صلى الله عليه وسلم وأنا في هذا المسجد. فقال: ما هو يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أخبرني أن الله عز وجل يحب الأخفياء، الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة (قال محقق كتاب الغرباء: إسناده صحيح، وروي بطرق كثيرة فيها ضعف).
ونختم حديثنا عن الغرباء بقول الآجري -رحمه الله-: " من أحب أن يبلغ مراتب الغرباء فليصبر على جفاء أبويه وزوجته وإخوانه وقرابته. فإن قال قائل: فلم يجفوني وأنا لهم حبيب وغمهم لفقدي إياهم إياي شديد؟ قيل: لأنك خالفتهم على ما هم عليه من حبهم الدنيا وشدة حرصهم عليها، ولتمكن الشهوات من قلوبهم ما يبالون ما نقص من دينك ودينهم إذا سلمت لهم بك دنياهم، فإن تابعتهم على ذلك كنت الحبيب القريب، وإن خالفتهم وسلكت طريق أهل الآخرة باستعمالك الحق جفا عليهم أمرك، فالأبوان متبرمان بفعالك، والزوجة بك متضجرة فهي تحب فراقك، والإخوان والقرابة قد زهدوا في لقائك.
فأنت بينهم مكروب محزون، فحينئذ نظرت إلى نفسك بعين الغربة فأنست بمن شاكلك من الغرباء، واستوحشت من الإخوان والأقرباء، فسلكت الطريق إلى الله الكريم وحدك، فإن صبرت على خشونة الطريق أياماً يسيرة واحتملت الذل والمداراة مدة قصيرة، وزهدت في هذه الدار الحقيرة أعقبك الصبر أن ورد بك إلى دار العافية، أرضها طيبة ورياضها خضرة، وأشجارها مثمرة، وأنهارها عذبة..".(/2)
الغريب
محمد بن صالح الشمراني
احتوى كفي بين راحتيه، وشدّها بتحنان ولطف..
ـ إني أحتاجك يا محمد!
أرجو ألا تتخلى عني، وتُظهر لي سوءَة الجحود والنكران، وتقذف بكل توسلاتي في غَيابةِ نسيانك.
عاينتُ دمعةً تكشَّفتْ بحياءٍ وتمنُّع، كانت تخشى الشماتة والملامة، وتأنف الأسْر والحبس!
ـ أرجوك يا محمد!
أشاح عني بناظريه، ونصبهما في زاوية الحجرة العتيقة.
أراد أن يُغافلني.. ليُميطَ هذه الدمعةَ الجائرة، ويسحقها في غورٍ ُلِّجيّ.
لم يزل يُعنِّفني بقبضته، ويُرسل أشواقه الحرّى، ويبثُّ طرفاً من مخبوءِ ذاته.
ـ إني أعيشُ يا محمد غربة مُوجعةً، قاسية، تتقاذفني فيها سهام النكوص، وذكريات الماضي البائس، أُحسّ بأن قوةً شيطانيةً تتغلغلُ في كياني، وتجذبني من ناصيتي بجفاءٍ وقسوة، لتسوقني ذليلاً إلى درب الغواية القديم.
كل من حولي يؤزني نحو الخطيئة أزاً، ويُراود نفسي بجرأةٍ وقحة.
أرى كلَّ المغريات، وذكريات الأمس، وطيش الصبا.. تتلقفني في طريقي، وتعترضُ مسيري.
وإني يا محمد! ما زلتُ أُصارعُ وأُصارع، أُجاهدُ نفسي وأُغالبها، أُحاولُ إشغالها بالطاعات والمباحات، ولكني يا صديقي.. أخشى وأخاف.
وربِّي.. إني أخاف من ذلك اليوم المشؤوم؛ حين تتناقلون فيه خبري، وتقولون إني قد غيَّرتُ وبدَّلت، وصرتُ (شيئاً) آخر!
أُقسم لك يا صديقي إنني أُحب الصالحين، ولا أرى نفسي إلا في حماهم، ولا تطمئن روحي إلا بالقرب منهم، وكم نافحتُ وخاصمتُ كلَّ من يلمزهم ويمسهم بسوء.
صدِّقني.. بأني لا أفكر في العصيانِ ابتداءً، ولا أسعى للخطيئة سعياً حثيثاً!
وإني على عهدي معك، وميثاقي الذي عقدته بين يديك؛ لم أَحِد عنه طرفة عين، ولكني يا صديقي حين أخلو بنفسي، وأُنادمها وحدي، دونَ رقيبٍ ولا حسيب.. يطرقُ الشيطانُ الرجيمُ بابَنا، حاملاً في كنانته كلَّ الذكريات والملذّات التي هجرناها، وخلَّفناها في الدار الخربة.
يَلجُ علينا بكلِّ ما أوتيه من مكرٍ وتزييف.. فيصيرُ ثالثنا.
فما ظنك يا محمد! باثنين مُتلازمين على فراش الفتنة.. والشيطانُ ثالثهما؟!
ولعمرُ الله ـ ياصديقي ـ لقد وقفتُ طويلاً في ظلام الليل، وفي يدي قرآني، سجدتُ، وأذللتُ نفسي لبارئها، مرّرتُ جبيني، ودثَّرته بأديم الأرض.
بكيتُ والله! سححتُ الدمع مدراراً، استجديتُ ربي الثبات على دينه، لزمت الخضوعَ لياليَ وأياماً طِوالاً.
وإني دون ذلك.. لأرقبُ خيالَ الشهوةِ، وأُبصرها ترفع عقيرتها من وراءِ تلك الأكمة القريبة!
في كلِّ أصيلٍ ـ يا صديقي ـ أذكرُ حديثك عن غُربة آخرِ الزمان، وتناثر الفتن بين يدي الناس أجمعين.
والذي نفسي بيده! إني لأحس بحرِّ الجمرةِ الموعودة في قبضتي.
لا أستطيعُ لها فِكاكاً، ولا منها هرباً ولا تخفِّياً.
وكيف أُطيق ذلك؛ وأنَّى اتجهتُ رأيتُ داعي الأرضية يتلقفني.. في دربي، وغرفتي، وجامعتي، وفي الدكان القريب مني؟
حتى حينما أكون بين أهلي وقرابتي؛ فإني أكاد أُنكر نفسي، وأُطاوع شهوتي، ورفقاء دربي.
محمد!
أتُبصرُ تلك الشجرة العملاقة؟!
أرأيتَ أصلها الثابت، المتجذِّر في عمق الأرض، وفرعها الذي يُعانق السماء؟!
أتبصرها يا محمد؟!
كنتُ ـ ولعمرُ الله ـ مثلها، طينتي من الأرض، وروحي متصلة بالسماء، كنتُ مخلوقاً آخر، لو رآني الليلةَ لأنكرني، وأظهر البراءة مني!
كانت يُمنايَ تحملُ المصحف، وقلبي يحويه ويحفظه، كانت الروضة تألفُ هامتي، وتنظر قدومي، كان محرابي يبكي معي في السحر، ويُنصتُ لي إذا رتّلتُ، ويضطربُ فرَقاً إذا هجرت.
كنتُ يا صديقي مؤذناً؛ أرفع نشيد العزة في الحي، وأُنادي المسلمين لموعد الرب، كنتُ أغشى دور العلم، ومحاضن التربية.
يا صديقي محمد! والذي نفسي بيده.. إني لا أستطيبُ النوم، ولا أتلذذ بالفراش؛ كلما ذكرتُ اسوداد حاضري أمام حُسن الماضي وبهائه!
محمد! إني لا أطلب منك شيئاً.
لا مالاً، ولا جاهاً، ولا سلطاناً.
أريدك أن تُلحّ على الله بالدعاء، وترجوه أن يثبتني على الحق حتى الممات، وإن سبق في علمه أنني لن أقوى أمام الفتنة، وبأني سأتهاوى صريعاً بين يديها؛ فأرجوك أن تلح على الله أن يقبضني إليه، ويُمسك روحي عن عناء هذا كله.
وإني لأعلمُ أن سُؤلي عليك عسير، ولكني وازنتُ الأمرين، وقايستُ الضدين، فطاشتْ كِفّةُ لُقياه في عمر الزهور طائعاً.. على أن آتيه مُكبلاً ذليلاً بين الزبانية الغلاظ الشداد(/1)
الغزو الفكري
بقلم الشيخ ممدوح فخري
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
لقد كان سقوط الخلافة الإسلامية وزوال الدولة العثمانية من أكبر الكوارث التي تعرض لها المسلمون في العصر الحديث وذلك أن هذه الدولة كانت تمثل المظهر الأخير من مظاهر قوة المسلمين وسيادتهم، وقد تضافر لذلك السقوط أسباب عديدة وعوامل شتى منها ما هو خارجي ومنها ما هو داخلي ومنها ما هو ذاتي، ولسنا بصدد تعداد هذه العوامل أو مناقشتها ولكنا نركز على عاملين مهمين منها كان لهما الدور الأكبر في انهيار الخلافة والنصيب الأوفر من تركتها وهما الكيد اليهودي من الداخل والغزو الصليبي من الخارج. أجل لقد التقى الدس اليهودي مع المكر الصليبي على تحطيم القوة السياسية والعسكرية للمسلمين والتي كانت متمثلة في الدولة العثمانية. ونحن نستدرك قبل كل شيء ونقول:
إن الخلافة العثمانية لم تكن خلافة راشدة بل لها عيوبها الكثير ولكن مع ذلك فإن إصلاح الخلافة خير من إسقاطها. وعلى أية حال فقد زالت الخلافة واختفى هذا المنصب من حياة المسلمين للمرة الأولى، وزال بذلك رأس هذه الأمة عن جسدها وبقيت بعده جثة هامدة لا تبدي حراكا وهان بالتالي على الكلاب أن تنهشها وعلى الأفاعي أن تنفث سمومها فيها. ولقد كان دور اليهود في هذا الصراع دور دابة الأرض التي أكلت منسأة سليمان وذلك باندساسهم في مراكز الدولة الحساسة بواسطة منظماتهم السرية وخلاياهم الماسونية ففتوا في عضدها ونخروا في عودها إلى أن أقوت، فلما جوبهت بعد ذلك بالغزو الصليبي لم تلبث أن انهارت وخرت. وفرح المجرمون يومئذ بنصرهم وفازوا بأمنية من أعز أمانيهم ألا وهو قطع الخيط الذي كان ينتظم المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم كما ينتظم الخيط حبات العقد وألسنتهم كما ينتظم الخيط حبات العقد ألا وهو خيط الخلافة المنسوج من روح الإيمان والأخوة الإسلامية. وبانقطاع ذلك الخيط تناثرت فرائد العقد وانتهبتها اللصوص وبترت أوصال الأمة الواحدة فأصبحت أمما، وقسمت أجزاء الوطن الواحد فأصبح أوطانا وتقاسيم القتلة تركة المقتول. وكان هذا كما قلنا من أكبر الكوارث التي ألمت بالمسلمين وذلك لما ترتب عليه من آثار بعيدة المدى كما سنرى شيئا منه في هذه الكلمة. وأما التخطيط والإحكام اللذين عمل على أساسهما أعداء الإسلام بعد هدم الخلافة فقد أعظم خطرا مما قبله وذلك ما أن دالت دولة الإسلام وزالت شوكته حتى سارع الأعداء إلى الأخذ بالأسباب البعيدة التي تحول دون عودة الإسلام إلى الحياة من جديد، هذا الدين العملاق الذي كان ظهوره خطر على الكافرين على اختلاف أنواعهم والذي أجلاهم عن الجزيرة العربية كلها واستخلص من أيديهم أجزاء شاسعة من آسيا وإفريقيا واقتحم عليهم ديارهم في أوروبا وراحت خيوله تنطلق برسالة التوحيد من المحيط إلى المحيط في فترة لا تزيد على ربع قرن.
أجل لقد سارع أعداء هذا الدين إلى الأخذ بجميع الأسباب التي تبقيه صريعا وتضمن لهم السيطرة الدائمة على المسلمين وعلى بلادهم، ووضعوا لذلك مخططا رهيبا وسهروا على تنفيذه بدقة وإحكام إلى أن أتى جميع الثمار المرجوة منه. وسنحاول في هذه العجالة أن نلم بأبرز خطوط تلك المؤامرة الرهيبة التي استهدفت وجود المسلمين باعتبارهم أمة وأرضا وحضارة .
أولا: فكرة فصل الدين عن الدولة:(/1)
و هذا يعني باختصار إقصاء الدين عن الحياة والحيلولة بينه وبين أداء مهمته التي جاء لأجلها وسجنه في المعابد والأديرة والكهوف مع منعه من التدخل في شؤون الحكم والسياسة والاقتصاد والتعليم وسائر مرافق الحياة الحية وتفويض كل ذلك إلى مردة من الطواغيت الذين يتألهون على العباد ويستكبرون في الأرض ويسعون فيها فسادا ويستذلون الرقاب ويقيمون للناس شريعة الهوى والشيطان بدلا من شريعة الرحمن وهداية القرآن وينصبون من أنفسهم سدنة للدين الجديد الذي أتوا به. وقد كانت هذه الفكرة من أخطر ما جلبه الغزو الفكري إلى بلاد المسلمين فقد جاء الغزاة إلى الشرق المسلم وهم حديثو عهد بالتحرير من الطغيان البابوي الذي رزحوا تحت نيره زمنا طويلا وعانوا منه ما عانوا باسم الدين، واستطاعوا بعد صراع مرير إقصاء البابا ودينه من حياتهم ثم انطلقوا في الأرض وهم يحملون فكرة فصل الدين عن الدولة بمعنى أن الدولة سلوكها كله وفي جميع شؤونها الخاصة والعامة لا تسترشد بمبادئ الدين ومعتقداته ورجال الحكم والسياسة أحرار في تصرفاتهم بغير وازع أو رقيب من الدين والدين بحد ذاته لا يعدو أن يكون علاقة خاصة بين العبد وربه. وجاءوا إلى الشرق مزودين بهذه الفكرة ليجدوا في الشرق دينا عظيما يلبي جميع حاجات الإنسان في حياته الخاصة والعامة وينظم علاقته بربه وعلاقته بأخيه الإنسان. فكان هذا الدين بشموله وواقعيته وتكامل نظرته إلى الوجود أعظم عدو جابهوه لذلك ولتستقر أقدامهم في أرض الإسلام لا بد من الحيلولة بين الإسلام والحياة وذلك بتشويه فكرة أبنائه عنه ومسخ مفهوم الدين في نفوس المسلمين وجعله رهبانية سجين الصوامع. وقد أشار إلى هذا المعنى رئيس وزراء بريطانيا (غلاديستون) في مجلس العموم البريطاني حيث قال وهو يشير إلى القرآن الكريم: "لا قرار لكم في مصر ما دام هذا الكتاب في أيدي المصريين". وفعلا نجحت مخططاتهم واستطاعوا أن يزيحوا الإسلام تلك العقبة العظيمة عن طريقهم وذلك بإيجاد أجيال من المسلمين يؤمنون كما أراد لهم أسيادهم بضرورة فصل الدين عن الدولة، ويطلقون بين الحين والآخر تلك الكلمة الخبيثة: "الدين لله والوطن للجميع"، والواقع أن الدين لله والوطن لله والكون كله لله فلا يجوز أن يكون فيه ما لا يرضي الله وهكذا أصبح أبناء المسلمين عونا على دينهم مع أعدائهم وحملوا عن الأعداء عبئا كبيرا في محاربة الدين حتى يتفرغ الأعداء للإفساد في مجالات أخر.
فكرة القوميات والعصبيات الجاهلية:
لقد أدرك أعداء الإسلام بأن قوة المسلمين تكمن في هذا الدين وفي اجتماعهم حول مبادئ هذا الدين وتمسكهم برابطة الأخوة الإسلامية التي تنتظمهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولذلك كان لابد من فصم عُرى هذه الأخوة التي تشد المسلم إلى أخيه وتكون منهم قوة رهيبة يحسب لها الأعداء ألف حساب على ما جاء في الحديث الشريف "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". وكانت فكرة القوميات هي البديل الجديد للأخوة الإسلامية، فانطلق أعداء الإسلام مع أُجَرَائِهم لإحياء العصبيات النتنة من قبورها وجمع رفاتها وبعث الحياة فيها من جديد بعد أن أماتها الإسلام من قرون. واستطاعوا أن يذكِّروا الناس بماضيهم الذي كانوا عليه قبل الإسلام وعملوا على بعث الحضارات الجاهلية البائدة وإحياء مظاهرها وتعظيم تلك المظاهر وعرضها عرضا مغريا يوحي بأصالتها وعراقتها، ونفخوا في الناس روح التقديس لتلك الرسوم البالية فانتسب الناس لآبائهم بدلا من الانتساب لدينهم ونسوا مفهوم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ونسوا قوله تعالى في الحديث القدسي المأثور: "جعلت نسبا وجعلتم نسبا فقلت إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقلتم فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم". ونسوا قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا أبيض على أحمر إلا بالتقوى".
وهكذا وبهذه القوميات النتنة تفتت وحدة المسلمين وعادت الأمة الواحدة أمما شتى لا تربطها بأخواتها رابطة سوى الانتماء الاسمي إلى الإسلام، وفَقَدَ المسلمون بذلك أعظم سلاح في أيديهم بعد إيمانهم بالله، وهان على عدوِّهم بعد ذلك أن يفترس كل جماعة على حدة دون أن تنتصر لها الجماعة الأخرى .
فكرة الوطنية:(/2)
لا شك أن وحدة الوطن من عوامل وحدة الأمة وتماسكها ومن عناصر قوتها لذلك خطط الأعداء لتجزئة الوطن الإسلامي الواحد ولجعله أوطانا تفصل بينها الحدود والسدود المنيعة التي تحول دون التقاء الإخوة على غاية واحدة وتحت لواء واحد. وكان لهم ذلك، ووجدت دويلات وممالك وإمارات زائفة أراد لها الأعداء أن تكون فكانت. ولكن الأمر لم ينته عند التجزئة بل لا بد من التبرير والإبقاء على هذه التجزئة وذلك بربط الناس وشدهم إلى الأرض بعد أن قطعوا صلتهم بالسماء فكان لذلك هذا التغني بالأوطان وكان هذا التمجيد للأوطان وكان هذا التفاني في سبيل الأوطان، وغدا حب الوطن وسيلة لمرضاة الشيطان فالمسلم يحب وطنه ولا شك ويعتبر الدفاع عنه جزء من الدفاع عن دينه وكيانه وسيادته على أساس أن الوطن هو الأرض التي تقام عليها شعائر دينه ولا بد للدين من أرض ليستقر عليها وتطبق أحكامه ومبادئه فيها لهذا المعنى كان المسلم الذي يموت دون أرضه شهيدا وكان الدفاع عن الوطن حتما لازما. فالوطن لا يحب لذاته وإنما لأنه قد يكون وسيلة لمرضاة الله وذلك بإقامة الدين فوق أرضه، وأما إذا كان الدين غريبا في الوطن ما فالتعلق بذلك الوطن لمجرد كونه وطنا مظهر من مظاهر الوثنية والعصبية فالوطن بغير دين وثن. ولا يفهم من هذا بأن المسلم يتنازل عن وطنه بيسر وسهولة، بل يفهم منه أن المسلم لا يتمسك بوطنه إلا ليعبد الله على أرضه، وأنه يجاهد ليكون الدين كله لله في كل أرض الله في وطنه وغير وطنه.
فكرة العلمانية:
جاء الغزاة إلى الشرق المسلم ولما ينفضوا أيديهم بعد من ركام الكنيسة التي دمروها في أوروبا لتوهم وتحرروا بذلك من سلطان رجال الدين وأباطيلهم وأضاليلهم وخرافاتهم التي كانت تفرض عليهم باسم الدين والدين منها بريء فلما أثبتت التجارب والتقدم الفكري الهائل مناقضة آراء الكنيسة وأهوائها لحقائق العلم، وانجلى ذلك الصراع المرير بين الدين والعلم بهزيمة مروعة لدين الكنيسة صنف رواد النهضة العلمية أن الكنيسة في عداد الخرافات والخزعبلات والأوهام والأساطير التي لا تمت إلا الحقائق العلمية بصلة أخرجوها بذلك من مجال اليقينيات إلى مجال الشك والظنيات والتخيلات, وأفقدوها بذلك قداستها وجدارتها ومكانتها وهذا كله حق لا ريب فيه بالنسبة لجل آراء الكنيسة وأهواء رجالها، ولكنه بالنسبة للإسلام وهو وحده الدين الحق المحفوظ بحفظ الله باطل كله. وهذه مبادئ الإسلام جملة تثبت أمام التحدي العلمي الهائل مدى أربعة عشر قرنا ثبوتا رائعا مذهلا، بل لا يزيد التحدي والتقدم العلميان إلا رسوخا في قلوب المؤمنين به ولا تكون الكشوف العلمية إلا من جملة البراهين على عظمة هذا الدين. ولكن الغزاة وهم في غمرة انتصارهم على دين الكنيسة لم يكن لديهم استعداد للتمييز بين دين ودين, بل التهموا جملة الأديان وحاربوها جميعا، وكان على الإسلام الذي بارك العلم وأكبر العلماء وتعهد أكبر حركة علمية في التاريخ القديم ووضع أسس الحركة العلمية الحديثة, كان على الإسلام هذا أن يتحمل خرق رجال الدين لا من أبنائه أو في بلاده بل في أوروبا. ويتهم بما اتهمت به الكنيسة من محاربة العلم ومصادمة العقل. وكما أن النهضة العلمية والفكرية نشأت في أوروبا في ظلال الإلحاد فكذلك امتدت جذورها وفروعها إلى سائر البلاد وهي تحمل سمة الإلحاد والتنكر القاطع لكل ما لا يقع تحت التجربة ويخضع للحواس، ولا مجال هنا لمناقشة الملاحدة في تنكرهم لحقائق الدين الكبرى، ولكنها الإشارة إلى أن الإلحاد هو السمة البارزة لحضارة اليوم وهو مظهر من أكبر مظاهر الغزو الفكري لبلادنا.
شعارات المدنية والحضارة والتقدم :
وكذلك من مظاهر الغزو الفكري لبلادنا وشبابنا التغني بالشعارات الجوفاء التي لا مدلول لها، وإطلاق الاصطلاحات الضبابية الفارغة والكلمات القاتمة الموهمة وجعل ذلك كله مبررا للتخلص من كل قديم مهما كان ذلك القديم خيرا نافعا. فكل قديم مناف للمدنية والتقدم وكل جديد هو الحضارة, وبناء على هذا المقياس فقد ترك الدين وهجرت الأخلاق ونبذت الفضائل، وتخلى الناس عن الأعراف والتقاليد الأصلية لأمتنا واستغني عن كل ذلك لأنه قديم وكل قديم ينافي المدنية والرقى، ولله در الرافعي حيث كتب على غلاف كتابه: (( تحت راية القرآن )) وهو كتاب يبحث في المعركة بين القديم والحديث: إلى الذين يريدون تجديد اللغة والدين والتاريخ والشمس والقمر. يريد الرافعي أن يقول: لا يمكن التخلص من كل قديم. وليس كل قديم ضارا بدليل أن الشمس والقمر قديمان ولا يمكن الاستغناء عنهما وغيرهما كثير جدا. فإيجاد هذا النوع من التعرض بين القديم والمدنية والرقى ودون تمييز بين الضار والنافع أصبح مفهوما مركوزا في نفوس الخاضعين للغزو الجديد كمظهر من مظاهر هذا الغزو. مع أن جميع الفضائل قديمة.
الحركة النسائية وفكرة تحرير المرأة :(/3)
لم يكن يخفى على الغزاة ومريديهم أمر المرأة ودورها في الهدم والتدمير لذلك أولوها اهتمامهم الزائد وعنايتهم البالغة وبحّت حناجرهم وهم ينادون بتحريرها واسودت صحفهم وهم يطالبون بحقوقها وكأن الديانات ما جاءت إلا لترشد الناس إلى ظلم المرأة وهضم حقوقها، وجاءوا هم ليرفعوا عنها هذا الحيف الذي عانت منه أجيالا طوالا. وإذا أردت أن تكون موضوعيا ومحددا في مناقشة أحدهم ترى أن خلاصة شغبهم وصراخهم وعويلهم حول هذا الأمر لا يتجاوز تجريد المرأة من دينها وخلقها ثم من حجابها وثيابها. فالظلم كله هو أن تبقى المرأة متمسكة بدينها وخلقها وعفتها وطهارتها، مسبغة عليها حجاب الصون والعفة، والعدل كله أن تتحرر من كل ذلك. وكنتيجة طبيعية لانهزام المسلمين انهزموا أيضا في هذا الميدان وحقق الغزاة انتصارا مذهلا مروعا، وجردت المرأة من حليها في الظاهر والباطن فأبدت عورتها للناس وتبرجت تبرجا أشد من تبرج الجاهلية الأولى وانطلقت في الشوارع كاسية عارية مائلة مميلة تغري الناس بزينتها وتحرضهم على الرذيلة وتدمر كل شيء بإذن أسيادها وأساتذتها من الغزاة وعملائهم. فتحطمت الأسر وهدمت البيوت وشاعت الفاحشة في الذين آمنوا وقوضت أركان المجتمع الإسلامي وسرى الانحلال والانهيار في كل جوانبه، وكان للأعداء ما أرادوا.
تلك أبرز مظاهر الغزو الفكري في نظرنا وأما أهم وسائل هذا الغزو فهي ما يلي:
برامج التعليم: بعد أن استقر الغزاة في بلادنا رأوا أنهم لا قرار لهم في أرضنا ما لم يتبعوا غزوهم هذا بانقلاب فكري وغزو ثقافي فإن سيوف الغزو الثقافي أمضى بكثير من سيوف الغزو العسكري ولتحقيق هذه الغاية أحدثوا انقلابا جذريا في برامج التعليم ومناهج دور العلم ووضعوا مخططا جديدا يكفل لهم إيجاد أجيال من المسلمين تدين بدينهم وتقول بقولهم وتفعل بفعلهم ولا تَمُتُّ إلى الإسلام إلا بصلة الانتماء الاسمي في الوقت الذي تتنكر فيه للإسلام في العقيدة والسلوك. وكانت المدارس التي طبقت هذه المناهج نوعين: مدارس المبشرين التي تدار بواسطة الغزاة مباشرة ومدارس تدار بواسطة أذناب الغزاة تحت ألقاب إسلامية خادعة. وآتت هذه المدارس أكلها وأنبتت نابتة من المسلمين على أعين الغزاة وتحت سمعهم وبصرهم, فكانت كما أريد لها أن تكون متنكرة لكل تراثها الفكري والروحي والحضاري مكبرة ومجلة للغازي وحضارته وتراثه ورسالته. وبعبارة أخرى كانت هذه الأجيال الجديدة هي الهجين الذي أدخل على الأمة الإسلامية وليس منها. أجيال هي غربية عن هذه الأمة وعن عقيدتها وعن حضارتها وعن فكرتها وعن نظرتها للحياة والكون والإنسان. وزيادة في إحكام الخطة وحرصا على استمرار الحرب ضد الإسلام، فقد عهد المستعمرون الغزاة إلى هذا الجيل الذي رُبِّي في محاضنهم وغذي بلبانهم وأشرب قلبه حبهم وتقديسهم عهدوا إليه بإدارة البلاد ووضعوا مقدرات المسلمين وبلادهم تحت تصرف هؤلاء فكان منهم القادة والسادة ومنهم الوزير والأمير وتسرب الغزاة إلى دماء هؤلاء وعقولهم وأفكارهم وأصبحوا يحاربون المسلمين بهم ومن خلفهم، وتكفل هؤلاء المستعمرون الجدد من أبناء البلاد بتنفيذ مخطط أسيادهم وآبائهم الروحيين والسهر على تعاليمهم وأفكارهم في بلاد المسلمين وأصبحوا وسيلة لكل شر يريد الأعداء إلحاقه بالمسلمين وبعد خروج الغزاة الظاهرين المكشوفين من أكثر بلاد المسلمين أصبح هؤلاء الغزاة المقنعون والمستترون من أبناء المسلمين هم العدو الأكبر لهذه الأمة لأنهم يقومون بدور العدو بمحاربة الإسلام وزيادة ويتفننون في ذلك بما لا يستطيع العدو الظاهر أن يفعله فجميع مظاهر الغزو الفكري تتمثل فيهم وجميع وسائله في أيديهم، بل حماة ذلك الغزو وحملته وطلائعه في بلاد المسلمين وعلى أيديهم يتوالى خروج المسلمين عن دينهم وارتداد أبنائهم، وتنشأ الأجيال الجديدة التي لا تعرف الإسلام إلا تاريخا مشوها. وينفذ مخطط الأعداء بحذافيره والذين درسوا في مدارس المبشرين والمستعمرين ونشأوا على مناهجهم، يضعون للمسلمين برامج ومناهج على غرار مدارس المبشرين والمستعمرين والحلقة متصلة هكذا. وانسلاخ المسلمين عن دينهم وخروجهم عن عقيدتهم وتنكرهم لحضارتهم مستمر هكذا أيضا.(/4)
وسائل الإعلام: ومما يلي برامج التعليم في كونها وسيلة من أكبر وسائل الغزو الفكري أجهزة الإعلام على اختلاف أنواعها من صحافة وإذاعة وتلفزة ودور عرض (السينما). فإن الأيدي الخبيثة الأثيمة من أعداء الإسلام قد وضعت هذه الأجهزة في أيدي ربائبها وغلمانهما وصنايعها ممن لا يقلون حربا للإسلام عن أسيادهم، وهكذا أصبحت أجهزة الإعلام في معظم بلاد المسلمين كمخدر دائم يستعمل لصد الناس عن دينهم ولا دور لها إلا تحطيم المثل والقيم والأخلاق والتحريض المستمر ليلا نهارا على الفاحشة، وعلى مخالفة الآداب، وعلى ازدراء الفضائل والخروج على كل عرف صالح تعارفه الناس. والصنم الذي تعبده أجهزة الإعلام في معظم بلاد المسلمين وتدندن حوله وتسبحه وتقدسه، هو صنم الجنس فقلما تنشر كلمة أو تعرض صورة أو تذاع أغنية إلا وهي عن الجنس وللجنس وحول الجنس، والإلحاح المستمر حول هذا الموضوع في كل وقت ومناسبة وبكل وسيلة قد سد على الناس الطرق وألجأهم إلى الانغماس فيه إلجاء فإذا تناولت مجلة فصورها وأحاديثها تنطق بالفحشاء وتتحدث عن الحب وإذا فتحت المذياع فالأغاني الماجنة المائعة تصك آذانك بالعهر المذاب وتصلي للحب، وإذا نظرت إلى الرائي (التلفزيون) فهناك الحياة الحب والحب الحياة وكل شيء عن الحب شاخص أمامك وماثل بين يديك هذه هي الحقيقة والواقع بالنسبة لمعظم بلاد المسلمين التي وقعت فريسة في أيدي المرتدين من أبنائها والذين يستوردون المبادئ والعقائد والشرائع والتعليمات من الأعداء ثم ينفذونها بدقة وأمانة.
تنظيم القوى الكافرة والغازية والاهتمام بمراكز القوة : حتى يستمر تيار الغزو الفكري في اجتياحه لابد من الأخذ بالأسباب التي تبقي عليه وتضمن له النمو والازدهار وذلك باحتلال مراكز القوة كالجيش والحرص على أن لا تتسرب إليه روح مؤمنة والسهر الدائم على أن يكون حارسا أمينا للأفكار الدخيلة المناقضة للإسلام أو لثمار الغزو الفكري ثم تنظيم جنود الغزو عملائه في المنظمات حزبية تعمل على أسس مدروسة ومنسقة وتغزو جميع مرافق الدولة المهمة وتضمن بذلك الإشراف المباشر على سير الغزو وتطمئن على سلامة الخطة وحسن سير العمل وتنفذ تعاليمها بطريقة منظمة دقيقة يعرف فيها كل دوره في المعركة ومسؤوليته في العمل فلا تضيع التابعات ولا تفقد المسؤوليات.
هذه باختصار أهم مظاهر الغزو الفكري ووسائله، وقد عملت هذه الوسائل مجتمعة على إيجاد جيل الردة الذي قدِّر لنا أن نشاهده. أجل لقد تضافرت جهود هذه الوسائل على اقتلاع الإسلام من قلب أبنائه وعلى قتل روح الجد والرجولة والعمل في جموع شباب هذا الجيل، الذي يشكو من تمزق في ضميره واضطراب في تفكيره وصراع في نفسه وقلق قاتل في حياته كلها. شباب هذا الجيل تربة خصبة ألقيت فيها بذرة خبيثة فكان هذا النبات النكد وكان هذا الفصام وهذا الإزدواج في الشخصية بين الآثار الإسلامية في النفس وفي البيئة وبين بريق الغزو الجديد وزخارفه ومغرياته ومعطياته للنفس والهوى والشباب.
إن روح الحضارة الجديدة الخبيثة قد تلوثت فطرة الشباب المسلم وطمست معلمها النظيفة وانتزعت من قلبه مثله العليا وتعشقه للتسامي وأشواقه للخلود لتعطيه الإخلاد إلى الأرض والنزوع إلى سفاسف الأمور والركون إلى الشهوات والملذات والإنكباب على مراتع الرذيلة ومباذل الأخلاق، إن هذا الأفيون الذي جاء به الغزاة والمغلف بغلاف المدنية والحضارة جرد شبابنا من كل مقوماته وبنى له معبدا ضخما هائلا في تنميقه وتزيينه أمهر المهرة من الخبراء والفنيين ألا وهو معبد الجنس ووضع في داخله صنم يعبد وهو الحب، وراح يدعو إلى الدخول في الدين الجديد بكل ما أوتي من قوة وبكل ما يملك من وسائل جبارة حتى جعل الجنس كل شيء في حياة شباب هذا الجيل، هذا الشباب الذي يعاني ظمأ روحيا وسغبا نفسيا واختلالا كبيرا في السلوك بين متطلبات روحه وجسده. وبإفساد هذا الجيل على هذه الشاكلة ووضع المخطط لإفساد الأجيال المقبلة نال العدو منا كل ما يريد. وأكبر دليل على ذلك أن هذا الشباب المنخور المهزوز المتهالك على الملذات والأسير للشهوات حينما وضعه موجهوه وأسياده في مراكز القيادة والتوجيه عبث بمقدرات البلاد والعباد وأهلك الحرث والنسل، وأهدر الكرامات وانتهك الأعراض وصادر الحريات، وكان وجوده وصمة على الإنسانية، والحيف الذي تعرضت له البلاد على أيدي هؤلاء كان أعظم مما تعرضت له أيدي الصليبين والتتار.
تلك هي أهم مظاهر الغزو الفكري ووسائله، فعلى الذين لا يزالون على إيمانهم بالإسلام وولائهم له وانتمائهم الحقيقي إليه أن ينتزعوا هذه الوسائل من أيدي الغزاة الجدد ويجردوهم بذلك من سلاحهم الذي به يدمرون ويقضوا بالتالي على مظاهر هذا الغزو قبل أن تجتاحهم فلوله.
موكب(/5)
لما قدم عمر بن الخطاب الشام قدم على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف، فتلقاهما معاوية في موكب عظيم فجاوز عمر حتى أخبر به فرجع إليه فلما قرب منه نزل إليه فأعرض عنه عمر، فجعل يمشي إلى جنبه راجلا، فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر: "لقد اتبعت الرجل"، فأقبل عليه فقال: "يا معاوية أنت صاحب الموكب آنفا مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك"، قال: "نعم يا أمير المؤمنين". قال: "ولم ذاك؟"، قال: "لأننا في بلد لا نتمنع فيه من جواسيس العدو ولابد لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان فإن أمرتني بذلك أقمت عليه وإن نهيتني عنه انتهيت". فقال: "لئن كان الذي تقول حقا إنه رأي أريب وإن كان باطلا فإنه خدعة أديب وما آمرك به ولا أنهاك عنه". فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه". فقال: "لحسن موارده جشمناه". العقد الفريد/ ح1(/6)
الغضب محموده ومذمومه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (70) (71) سورة الأحزاب، أما بعد:
فإنّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن الإنسان معرض للأذى والابتلاء والإساءة والنيل منه ومن عرضه من قبل الآخرين، كما أنه عرضة للأخطار والمهلكات، والاختبار من رب العالمين, إلا أن الله قد منحه قوة يدفع بها هذه الابتلاءات، خاصة الأخيرة منها، وينجوا بها منها
فقد منحه الصبر والرضا بالقدر؛ ليخفف عن نفسه ثقل الابتلاء، ومشقة الأقدار على النفوس، فيعترف لله بما أصاب منه ويعترف أنه ملك له يتصرف فيه كيف يشاء، ولسان حاله
أما والذى لا خلد إلا لوجهه ومن ليس في العز المنيع له كفو
لئن كان بدء الصبر مرا مذاقه لقد يجنى من غبه الثمر الحلو
ومنحه الصبر كذلك والحلم والعفو وكظم الغيظ، ليكف عن نفسه أذى السفهاء ويَربى بنفسه عن منازلة الحمى؛
سَكَتُّ عن السفيه فظنَّ أنى *** عَيِيتُ عن الجواب وما عييتُ
إذا نطق السفيه فلا تُجبْه*** فخيرٌ من إجابته السكوتُ
فإن أجبتَه فرّجْتَ عنه*** وإن تركتَه كَمَداً يموت
ومنحه الغضب الأنفة الحمية، ليدفع عن نفسه الظلم والضيم، ويجنبها الجور والحيف
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ...
ومن يهن يسهل الهوان عليه وما لجرح بميت إلام
ونريد في هذه الخطبة - عباد الله - أن نقف، مع هذه الخصلة – الغضب - هذه القوة التي أصل مادتها من النار، هذه الشعلة التي "اقتبست من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة. فهي مستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد.. يستخرجه الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد كاستخراج الحجر النار من الحديد، ولذلك نرى المغضب يحمر وجه وتنتفخ أوداجه ويغلي دمه . ولأنها من النار فقد تسلط الشيطان بها على كثير من الناس، وعشش في عقولهم فباض فيها وفرخ وسيطر بها على قلوبهم وإراداتهم؛ حتى صاروا في غضبهم حمقى متهورين وسفهاء طائشين. ينزع بهم عرق الشيطان اللعين.
فمن استفزته منهم نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين .
فشأن الطين السكون والوقار وشأن النار الحركة والتلظي والاستعار
ومن أجل ذلك - عباد الله - صارت هذه الخصلة عند الناس مكروهة، واصطلحوا على قبحها وذمها، وعدوها من مساوئ الأخلاق، وقبيح الخلال، ولكن هل كل غضب مذموم؟ وهل كل حلم ممدوح مطلقاً؟
الجواب كلا
فالأذى إذا ما نزل بنا فلا يدفع إلا بالغضب، والشر إذا نالنا لا يدفع إلا بالغضب، وحماية الدين والأعراض والشرف والكرامة لا تدفع إلا بالغضب للحق، فمن فقد قوة الغضب بالكلية، أو ضعفت فيه الحمية فهو ناقص محلول العزم، مفقود الحزم، معدوم الرجولة(1).
بل لقد امتدح الله- تعالى- الغضب إذا كان من أجل حماية الدين والأعراض والشرف والكرامة، ورداً للباطل، فقد امتدح الله غضب المؤمنين على الكفار فقال تعالى:(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُم (سورة الفتح(29)
وقال تعالى:(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ )سورة المائدة (54). وقال تعالى : (وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِين )سورة التوبة(123).
ومعلوم أن الغلظة على هؤلاء الكفار والمنافقين إنما تنبعث من الغضب عليهم بسبب كفرهم ونفاقهم المؤدين إلى الصد عن سبيل الله.(/1)
وقد أمرنا الله - جل وعلا- بالغضب إذا انتهكت محارم الله، فقال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ )سورة النور(2).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى، أو سمع ما يكرهه الله غضب لذلك غضباً يرى أثره على وجهه وقال فيه قوله، دخل صلى الله عليه وسلم مرة بيت عائشة - رضي الله عنها - فرأى ستراً فيه تصاوير فتلون وجهه وهتكه وقال : " إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور"(2).
ولما شُكي إليه الإمام الذي يطيل بالناس في صلاة الفجر حتى يتأخر بعضهم عن الصلاة معه غضب واشتد غضبه، فقام ووعظ الناس ، وأمر بالتخفيف، فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني لأتأخر عن الصلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، قال فما رأيت الني صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: "يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة"(3).
ولما رأى النخامة في قبلة المسجد تغيظ، وتغير وجهه، ثم قام بحك النخامة بيده الشريفة، وقال : " إن أحدكم إذا كان في الصلاة، فإن الله حيال وجهه، فلا يتنخمنّ حيال وجهه في الصلاة"(4). وقد جاء في صفته صلى الله عليه وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما مالم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما أنتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله...(5).
عباد الله: إن فقد قوة الغضب عندما تنتهك محارم لله جبن ضعف، يصير المرء به ذليلاً، حقيراً، لا يأنف من العار ولا يهمه، فلا يغضب لشرف ولا يغار لحرمه
وليس هو من الحلم في شيء، وإنما هو خور وذلة ودياثة، قال صلى الله عليه وسلم:" لن يدخل الجنة ديوث" قالوا: وما الديوث يا رسول الله؟ قال:" الذي لا يغار على أهله"(6).
وقال سعد رضي الله عنه يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهدا؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" نعم" فقال: كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم" اسمعوا إلى مايقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني"(7).
وإذا لم يغضب الإنسان لعرضه ضاعت الأنساب، واختلطت الأولاد، بل كل أمة تموت الغيرة فيهم لا بد وأن تضيع العفة، والصيانة من نسائهم، وهذا هو الضعف والخور، والعجز والجبن، الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم وكيف لا يذم رجل لا يغضب لدينه إذا رأى المنكرات، وقد أمر بمحاربتها، وكيف يصلح المرء عيوب نفسه إذا لم يغضب عليها، ويشتد في ردها عن هواها(8).
أيها المؤمنون:
إن الغضب المحمود أن يكون لله ولدين الله فإذا اعتدي على الإسلام بالطعن والتشهير أو التشكيك فيه،كما يفعل المستشرقون والمستغربون والملحدون، ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، الملبسون على الأغرار، والجهال فيجب أن نغضب انتصاراً لدين الله ودفاعاً عن شرعيته.
وما أكثر هؤلاء في أيامنا هذه، ممن يعتز بهم كثير من الناس
فإذا أصاخ بسمعة ملؤوه من كذب وتلبيس ومن بهتان
فيرى ويسمع فشرهم فشا يا محنة العينين والآذان
فتحوا جراب الجهل مع كذب فخذ واحمل بلا كيل ولا ميزان
وأتوا إلى قلب المطاع ففتشوا عما هناك ليدخلوا بأمان
فإذا بدا غرض لهم دخلوا به منه إليه كحيلة الشيطان
فإذا رأوه هش نحو حديثهم ظفروا وقالوا ويح آل فلان
فإذا هم غرسوا العداوة واظبوا سقي الغراس كفعل ذي البستان
حتى إذا ما أثمرت ودنا لهم وقت الجذاذ وصار ذا إمكان
ركبوا على جرد لهم وحمية واستنجدوا بعساكر الشيطان
فهنالك ابتليت جنود الله من جند اللعين بسائر الألوان
ضربا وحبسا ثم تكفيرا وتبعيدا وشتما ظاهر البهتان
ومن الغضب المحمود الغضب على من تعدى علي بلاد إسلامية، أو اعتدى على مسلم، أو مدح غير الدين الإسلامي، أو ذكر الله أو كتابه أو ملائكته أو رسله بسوء، أو سب صحابياً أو إماما مشهوراً بالتقوى والورع والاستقامة، أو طعن في أهل العلم، أو كذب على الله أو على رسله؛ أو أحل شيئاً من المحرمات أو حرم شيئاً مما أحله الله، أو استهان بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله وسلم أو كتب أهل العلم المحققين مثل الإمام أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة والموفق والمجد وابن أبي عمر وشيخ الإٍسلام وابن القيم وابن كثير وابن رجب وابن مفلح ونحوهم من العلماء المشهورين بالاستقامة والبعد عن البدع.(/2)
ومن الغضب الممدوح الغضب على من مدح الكفرة والمنافقين وأئمة الضلال والحيارى؛ كابن عربي وابن رشد والفارابي وابن سيناء وابن كلاب والعفيف التلمساني، وابن سبعين، وابن الفارض، وابن الرواندي، والكوثري، والبوصيري، والمعري، ونحو هؤلاء من الملاحدة والزنادقة والمبتدعة والفسقة والظلمة وأعوانهم.
ومن الغضب المحمود الغضب على من ابتدع في الدين بدعاً أو نشرها أو دعا إليها، أو مدح محليها، أو مدح الكفار، أو مدح الملاهي والمنكرات التي حطمت الأخلاق وقضت عليها وأتلفت الأموال، وقتلت الأوقات، وأورثت الخلق أفانين العداوات، وأحدثت التفرق في البيوت والقلوب...
إن الملاهي ألقت بيننا إحناً وأورثتنا أفانين العداوات
وهل أصيب شباب اليوم وانحرفوا إلا بتقليد أصحاب الضلالات
من كان أهوج لا دين ولا أدب ولا حياء ومعدوم المرؤات
يقلد الكفر في تطويل أظفره أقبح به من سفيه عاث (9)
وعلى هذا النوع من الغضب المحمود يحمل قول الإمام الشافعي - رحمه الله - : من استغضب فلم يغضب فهو حمار(10).
أيها الناس: أما الغضب المذموم شرعاً وعقلاً فهو الغضب الطائش الذي فيه حب الانتقام والإعجاب بالنفس، أو من أجل القبيلة والحزب وما أشبه ذلك.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم : أوصني . قال :" لا تغضب" . فردد مراراً. قال : "لا تغضب"(11).
وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: يا رسول الله أوصني: قال:" لا تغضب". قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله وسلم ما قال، فإذا الغضب تجمع الشر كله(12).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"(13).
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا خطب قال في خطبته: أفلح من عصم من الهوى والغضب والطمع(14).
وقال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه، وما علمك بحلمه إذا لم يغضب، وما علمك بأمانته إذا لم يطمع(15).
وقال ابن القيم -رحمه الله-: دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكاً في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضب أورثت العدوان على خلقه(16).
أيها المسلمون: فالغضب المذموم هو الذي يعمي صاحبه عن الحق، ويفقده بصره البصيرة، والفكر فتأخذه بالغرة بالإثم، ويعرض عن النصح إذا نصح، وربما زاد هيجاناً، وإذا روجع في قول ازداد سخطاً ومجاجاً. وقد يحدث منه ضرر على من حوله، وتجده متغيراً لونه، مرتعشة أعضاؤه، زائغاً بصره، وكالأعمى يسب الجماد والحيوان، ويبطش بكل ما يصادفه، حتى أنه يتلف الأثاث والرياش، وربما لا يشفي غله، وقد يحدث منه طلاق ولعن وسب وشتم، فهذا غضب مذموم قبيح مرذول ينتصر فيه إبليس على هذا الذي لا يملك نفسه عند الغضب كما قيل:
وما غضب الإنسان إلا حماقة إذا كان فيما ليس لله يغضب
ومثل هذا الغضب يهدم الجسم، ويتلف الصحة ويحرم صاحبه الراحة والهناء، ويجعل نظرته إلى الحياة مظلمة سوداء، فالتفريط في الغضب ضعف، والإفراط تهور وجنون(17).
أسأل الله أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا إلى العلم والعمل، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، والمبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحابته الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: كما أسلفنا أن الغضب طبيعة في الإنسان، ولكن من الناس من يغضب لله ومن أجل الله فيكون غضبه ممدوحاً، ومنهم من يغضب لنفسه وشيطانه وشهوته فيكون غضبه ممقوتاً مذموماً، ولكن قد يقال: هل لذلك الغضب المذموم من علاج ودواء؟ ..(/3)
فنقول : نعم ، يقول ابن رجب -رحمه الله -: عند شرحه لحديث : " لا تغضب" يحتمل أمرين: أحدهما : أن يكون مراده الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق من الكرم والسخاء والحلم والحياء والتواضع والاحتمال وكف الأذى، والصفح والعفو، وكظم الغيظ، والطلاقة والبشر، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة، فإن النفس إذا تخلقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه. والثاني: أن يكون المراد: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به، فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان كالأمر الناهي له، ولهذا المعنى قال الله تعالى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ ) سورة الأعراف(154) فإذا لم يتمثل الإنسان ما يأمره به غضبه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شر الغضب، وربما سكن غضبه، وذهب عاجلاً، فكأنه حينئذ لم يغضب، وإلى هذا المعنى وقت الإشارة في القرآن بقوله تعالى:(وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) سورة الشورى (37). وبقوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )سورة آل عمران) 134).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من غضب يتعاطى أسباب تدفع عنه الغضب وتسيكنه، ويمدح من ملك نفسه عند الغضب(18).
ويمكن وصف العلاج على سبيل الاختصار بالآتي:
1. ذكر الله تعالى؛ فإن ذلك مما يدعوه إلى الخوف منه، وبالتالي طاعة الله، قال الله تعالى:(وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا )سورة الكهف42 قال عكرمة: يعني إذا غضبت.
2. أن يتفكر في الأخبار الواردة في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم والاحتمال فيرغب في ثواب ذلك، فتمنعه شدة الحرص على ثواب هذه الفضائل عن التشفي والانتقام، وينطفئ عنه غيظه؛ قال الله – تعالى-: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)سورة الشورى(37). وقال تعالى : ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )سورة آل عمران 133-134).
وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من كتم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين، يزوجه منها ما شاء"(19).
3- أن يتذكر أن الله أقوى وأقدر منه إن مضى في ظلم الناس، وهو أن يقول: قدرة الله علي أعظم من قدرتي على هذا الإنسان ، فلو أمضيت فيه غضبي، لم آمن أن يمضي الله - عزوجل- غضبه علي يوم القيامة فأنا أحوج ما أكون إلى العفو؛ قال الله- تعالى-:( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ )(20)سورة الشورى (40).
وقال عبد الله بن مسلم بن محارب لهارون الرشيد: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي أنت بين يديه أذل مني بين يديك، وبالذي هو أقدر على عقابك منك على عقابي لما عفوت عني، فعف عنه لما ذكره قدرة الله – تعالى- (21).
3. أن يعلم أن غضبه إنما كان من شيء جرى على وفق مراد الله – تعالى- لا على وفق مراده هو فكيف يكون مراد نفسه أولى من مراد الله – تعالى-.
4. أن يتحول عن الحال التي كان عليها، فإن كان قائماً جلس وإن كان جالساً اضطجع، وعليه أن يتوضأ أو يستنشق؛ فعن أبي ذر – رضي الله عنه- قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا:" إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع"(22).
5. أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فعن سليمان بن صرد قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني لست بمجنون (23).
6. أن يتحلى بأخلاق من عرف بالحلم وكظم الغيظ والصفح والعفو عن الناس كالأنبياء، وعلى رأسهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان لا ينتقم لنفسه صلى الله وسلم ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء (24)، ولم يضرب بيده خادماً ولا آمره إلا أن يجاهد في سبيل الله(25).(/4)
وخدمه أنس عشر سنين، فما قال له : " أف" قط، ولا قال له لشيء فعله: لم فعلت كذا (26)، ولا لشيء لم يفعله "إلا فعلت كذا" ... وسئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن(27)، تعني أنه تأدب بآدابه، وتخلق بأخلاقه، فما مدحه القرآن، كان فيه رضاه، وما ذمه القرآن، كان فيه سخطه، وجاء في رواية عنها قالت : كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه(28).
وليكن حاله كما حكي عن الأحنف بن قيس أنه قال : ما عاداني أحد قط، إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال : إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان نظيري تفضلت عليه...
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منه إلي الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثة شريف و مشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف قدره وأتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دوني فأحلم دائباً أصون به عرضي وإن لام لائم
وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا تفضلت إن الفضل بالفخر حاكم(29).
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمد وأله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
________________________________________
1 - انظر موارد الضمان لعبد العزيز السلمان (4/378).
2 - رواه البخاري ومسلم.
3 - رواه مسلم.
4 - رواه البخاري ومسلم.
5 - رواه البخاري ومسلم.
6 - رواه أحمد.
7 - رواه مسلم.
8 - انظر موارد الضمان (4/379).
9 - موارد الظمآن لعبد العزيز السلمان ( 4/380 – 382).
10 - انظر إحياء علوم الدين : 3/247.وشعب الايمان 6/527
11 - رواه البخاري .
12 - أحمد.
13 - رواه البخاري ومسلم.
14 - انظر جامع العلوم والحكم1/368.
15 - إحياء علوم الدين 3/246.
16 - الفوائد 59.
17 - موارد الضمان 4/380.
18 - جامع العلوم والحكم(1/363- 364)..
19 - رواه أحمد. وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير .
20 - انظر أدب الدنيا والدين للما وردي ( 252). ط: دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان.
21 - المصدر السابق (251).
22 - رواه أحمد وأبو داود وذكره الألباني في صحيح أبي داود برقم(4000) والمشكاة برقم(5114).
23 - رواه البخاري ومسلم.
24 - رواه البخاري ومسلم.
25 - رواه مسلم.
26 - رواه البخاري ومسلم .
27 - رواه مسلم وأحد.
28 - انظر جامع العلوم والحكم 1/369-370
29 - انظر آداب الدنيا للما وردي 247 ط: دار الكتب العلمية: بيروت لبنان.(/5)
الغيبة
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله العظيم في قدره، العليم بحال عبده في سره وجهره، أحمده على القدر خيره وشره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا إله غيره،. وأشهد أن محمداً عبده رسوله أفضل من قام بطاعة ربه وأمره. اللهم صلى وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (70) (71) سورة الأحزاب.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد علّمنا القرآن الأخلاق، وربانا عليها، وإن الناس لو تمسكوا بها لما رأيت فساداً ولا خصاماً ولا شجاراً بينهم. وإن من الأخلاق الذميمة التي حذر منها أشد التحذير هو خلق الغيبة. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات .
قال ابن كثير: وقوله تعالى: ((ولا يغتب بعضكم بعضاً)) فيه نهي عن الغيبة، وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: (ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).[1]
أيها الإخوة: لقد شبه الله تعالى من يغتاب أخاه كأنه أكل لحمه وهو ميت. هل يستطيع أحدنا أن يأكل من جيفة ميت؟!
قال ابن كثير: وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المختار عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهئ لهما طعاماً فقالا: إن هذا لنؤوم فأيقظاه. فقالا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له إن أبابكر وعمر يقرئانك السلام ويستأدمانك، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنهما قد ائتدما) فجاءا فقالا يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما) فقالا رضي الله عنهما: استغفر لنا يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: ((مراه فليستغفر لكما).[2]
عباد الله: كلمة بسيطة لا يعيرها أحد أي اهتمام (نؤوم) أي كثير النوم. ولكنها غيبة وأكل لحم مسلم. وفي حديث ماعز الصحابي الجليل الذي زنا وهو محصن وأراد أن يطهره النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه فأمر برجمه فرجم – فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب؟ ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر بجيفة حمار فقال: أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار. قالا: غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلاً منه. والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها)[3]. وفي مسند أحمد عن جابر رضي الله عنه: قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفه منتنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس). وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب الله إليه لحمه في الآخرة فيقال له كله ميتاً كما أكلته حياً قال: فيأكله ويكلح ويصيح)[4]. عباد الله: أرأيتم بشاعة الغيبة، بشاعة ذكر الناس بما يكرهون.(/1)
إن الغيبة هي: ذكر العيب بظهر الغيب. وقال الكفوي: أن يتكلم خلف إنسان مستور بكلام هو فيه. وقال التهانوى: الغيبة أن تذكر أخاك بما يكره لو بلغه سواء ذكرت نقصاناً في بدنه أو في لبسه، أو خُلُقه، أو في فعله، أو في قوله، أو في دينه، أو في دنياه، أو في ولده، أو في ثوبه، أو داره، أو دابته.
أيها الإخوة: قد يظن ضان أن الغيبة تكون بالقول فقط. والصحيح أنها لا تقتصر على القول فقط؛ بل تجري في الفعل كالحركة والإشارة والكناية لما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا تعني أنها قصيرة فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بما البحر لمزجته. وقالت: وحكيت له إنساناً فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا)[5].
لا إله إلا الله!! كلمة بسيطة (قصيرة) من دنسها لو مزجت بما البحر العظيم لمزجته، أتدرون ما البحر؟إن السفن والطائرات والمجاري وغيرها تفرغ مخلفاتها في البحار ولا تستطيع أن تغير البحر لعظمه وسعته وانظروا هذه الكلمة التي هي في نظر الكثير بسيطة لو مزجت بما البحر لمزجته.
أيها المسلمون: لو نظرنا إلى مجالسنا اليوم فإن كثيراً منها مجالس سوء تكسوها المنكرات وعلى رأسها الغيبة، لا يكاد يجتمع رجال أو نساء إلا وتكلموا في الناس وتكلموا في أعراضهم وفلان كذا، وطبعه كذا، وهم لا يدركون أنهم يرتكبون كبيرة من الكبائر وعظيمة من العظائم، التي تغضب الله تعالى.
أيها المسلمون: إن الشيطان يمر على المجالس فيرى فيها الغيبة ويزينها للناس، ويحبب الحديث لهم حتى يزدادوا إثماً. إن المغتاب للناس لهو رجل مغفل أحمق. لأنه يهدي الرجل الذي اغتابه يهديه حسناته. وإن الذي اغتيب لفي نعمة فإنه تصله حسنات بلا جهد وعناء.
قال الغزالي وهو يذكر أسباب وبواعث الغيبة وفيما يلي خلاصتها:
أول باعث على الغيبة: شفاء المغتاب غيظه بذكر مساوئ من يغتابه. وثاني باعث: مجاملة الأقران والرفاق ومشاركتهم فيما يخوضون فيه من الغيبة. ومن البواعث: ظن المغتاب في غيره ظناً سيئاً فذلك مدعاة لغيبته. ومن البواعث على الغيبة: أن يبرئ المغتاب نفسه من شيء وينسبه إلى غيره أو يذكر غيره بأنه مشارك له. ومن البواعث: رفع النفس وتزكيتها بتنقيص الغير، ومن البواعث أيضاً: حسد من يثنى عليه من قبل الناس أو يذكرونه بخير. ومن البواعث: الاستهزاء والسخرية وتحقير الآخرين. ومن البواعث أيضاً: قلة إيمان المغتاب وقلة ورعه وغفلته. ومن البواعث وقد ذكرناه سابقاً الشيطان فإنه وراء كل معصية يرتكبها الإنسان.
أيها المسلمون: إن الغيبة مرض خطير وداء فتاك، ومعول هدام، وسلوك يفرق بين الأحباب، وبهتان يغطي محاسن الآخرين، وبذرة تنبت شروراً بين المجتمع المسلم، وتقلب موازين العدالة والإنصاف إلى الكذب والجور وعلاج هذا المرض لا يكون إلا بالعلم والعمل، فإذا عرف المغتاب أنه تعرض لسخط الله يوم القيامة بإحباط عمله، وإعطاء حسناته من يغتابه في الدنيا، وقد يسلطه الله عليه, إذا علم هذا وعمل بمقتضاه من خير فقد وفق للعلاج.
أي شعور يصيب المغتاب عندما يرى حسناته التي عملها في الدنيا من صلاة وصوم وزكاة وصدقة وتلاوة للقرآن وحج وجهاد ودعوة.. إلخ. توزع هذه الأجور العظيمة والحسنات الكثيرة لأناس كان قد اغتابهم في الدنيا؟ أي شعور يصاب به ذلك المغتاب وأي موقف ذلك الموقف إنها حسرة إنها ندامة إنه قهر ما بعده قهر.
وأشبَّه ذلك برجل تعب زمناً طويلاً حتى جمع ثروة هائلة جداً، ثم بعد ذلك لم يتمتع بها وإنما أعطيت لغيره ماذا سيصنع؟ إن الكثير اليوم يصابون بأزمة قلبية أو جلطة أو ينتحر عندما يحدث له ذلك كمداً أو غيظاً وقهراً فكيف بذلك يوم القيامة.
ألا فلنتق الله في ألسنتا وأقوالنا وأعمالنا، وليسلم الناس منا نسلم منهم.
بار الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ولي المتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
عباد الله: خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم النحر فقال: يا أيها الناس أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام. قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام؟ قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام. قال: فإن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، فأعادها مراراً ثم رفع رأسه، فقال: اللهم هل بغلت؟ اللهم هل بلغت؟ والحديث في الصحيحين.(/2)
لقد حرم الرسول صلى الله عليه وسلم أعراض الناس فلا يجوز لأحد العبث بها أو المساس بها، ومن العبث والمساس بها غيبتها وبهتانها. بل بين النبي صلى الله عليه وسلم عاقبة الذي يتتبع عورات المسلمين فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولاتتبعوا عوراتهم فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)) أخرجه أبو داود.
فالواجب علينا أن إذا وجدنا في أحد المسلمين عيباً سترناه، ونقصاً كملناه, لا أن نجعل منه حديث مجالسنا، ومنتدى مسامرنا.
أتعلمون أيها المسلمون: أن الذي يغتاب الناس يفضحه الله في جوف داره، وليس ذلك فقط بل يناله العذاب في القبر قبل الآخرة فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فيعذب في البول وأما الآخر فيعذب في الغيبة)[6]. وقد بين حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ما هو العذاب فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)[7].
قال عمر رضي الله عنه: عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء، وقال الحسن البصري رحمه الله: ذكر الغير ثلاثة: الغيبة، والبهتان والإفك، وكل في كتاب الله عز وجل. فالغيبة ما تقول فيه, والبهتان أن تقول ما ليس فيه، والإفك أن تقول ما بلغك, وقال أيضاً: والله للغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد والأكلة السرطان. وقال: يا ابن آدم إنك لن تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب فتصلحه من نفسك، فإذا فعلت ذلك كان شغلك فيك خاصة، وأحب العباد إلى الله من كان هكذا. وروي عن الحسن أن رجلاً قال له: إن فلاناً قد اغتابك فبعث إليه رطباً على طبق، وقال: قد بلغني أنك أهديت إليَّ من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أكافئك على التمام.[8] والغيبة ليست مذمومة على الإطلاق فلقد أجاز أهل العلم الغيبة في بعض الأحيان وذلك في ستة أسباب: أولاً: المتظلم فيجوز للمتظلم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي فيقول ظلمني فلان بكذا. ثانياً: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول فلان يعمل كذا، ويكون مقصوده إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك كان حراماً. وثالثاً: الاستفتاء فيقول للمفتي: ظلمني أبي وأخي أو زوجي... إلخ. فهذا جائز للحاجة والأحوط أن يقول: ما تقول في رجل كان من أمره كذا... إلخ.
رابعاً: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع بل واجب للحاجة. ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان وهذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأما معاوية فصعلوك لا مال له... الحديث)رواه مسلم. أو المشاورة في مشاركة إنسان أو إيداعه أو معاملته أو غير ذلك أو مجاورته ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة، ومنها إذا رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم فعليه نصيحته وتحذيره منه.
خامساً: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر وما أشبه ذلك فيجوز ذكره بما يجاهر به.
سادساً: التعريف به، فإذا كان معروف بلقب كالأعمش، والأعرج والأصم والأحول جاز تعريضهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة النقص ولو أمكن تعريفه بغير ذلك لكان أولى.[9]
هذه هي المواطن التي تجوز فيها الغيبة وأما ما سواها فلا تجوز أبداً.
أخيراً: اعلموا عباد الله أن الغيبة سرطان المجتمع وسبب تفككه وتمزقه فاجتنبوها تفوزوا برضوان الله ثم برضوان المسلمين.
وصلوا وسلموا على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
[1]- ابن كثير (4/225).
[2]- ابن كثير (4/225).
[3] -رواه أبو داود وضعفه الألباني.
[4]- ابن كثير (4/227).
[5]- أبو داود واللفظ له والترمذي.
[6] -رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
[7] -رواه أبو داود وصححه الألباني.
[8]- رواه أحمد في المسند وابن ماجه واللفظ له، وقال الحافظ في الفتح أخرجه أحمد والطبراني بإسناد صحيح.
[9]- رياض الصالحين (450-451) والزاجر لابن الهيثمي (383-384).(/3)
الغلو معالمه ومخاطره ( 1 )
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
فمن حديثنا السالف في جمعتنا الماضية جاءني من الاخوة المصلين من هو مستحسن وموافق ، ومن هو طالب ومستزيد ، ومن مازال عنده بعض حيرة وتساؤل ، ولأننا كما تعودنا دائما نؤكد ونذكر أنفسنا بقصد وجه الله - سبحانه وتعالى - والإخلاص له ، وإرادة الخير والهدى والمصلحة لأمة الإسلام والمسلمين ..
نشرع في بيانٍ قد يطول لكنه مهم ومفيد ، ولأننا وكما أكدنا كثيرا في السابق لا نريد أن تكون أقوالنا وأحاديثنا ردود أفعال مؤقتة ، أو عواطف متأججة لا يخالطها أصالة المنهج العلمي ، واتزان التفكير المنهجي ؛ ومن ثم فإن بعض الذين رأوا أهمية لمثل تلك الموضوعات التي تعالج أحوالنا ، وما قد يقع من خلل في مجتمعاتنا . فمنهم من أراد الحديث عن التكفير وبيان خطورته ، وآخر أراد أن يكون هناك مزيد من البيان لمثل هذه المسائل .
ولعلنا نشرع في حديثنا عن الغلو معالمه ومخاطره ، ونبدأ فيه ببيان معناه ، ثم نؤكد أصالة المنهج في سمة الإسلام وخصائصه .
الغلو في لغة العرب: " مجاوزة الحد " ، وكل من غلا فقد تجاوز الحد ، والمعنى الاصطلاحي كما عبّر عنه كثير من العلماء : " المبالغة في الشيء والتشدد فيه بتجاوز الحد " ، أي في الأمور الدينية المشروعة ، وألفاظ أخرى تدور في هذا الفلك منها التطرف ، وهو في لغة: العرب أيضاً حد الشيء ، وفي بيان المعنى اللغوي قال كثير من أهل العلم في اللغة أن التطرف هو : " طلب نهاية الحد أي طرفه الأقصى والأبعد ، وهو قريب من معنى الغلو في هذا ، ثم التنطع وأصله من النطع ، وهو : " ملاسة الملمس وهو نطع الفم الذي هو غار الحنك الأعلى لا يظهر إلا إذا رفع الإنسان صوته وتشدق في كلامه وتعمق " فصار - كما قال أهل اللغة - قرينا لكل تنطع وتعمق ، والتشدد أمره معروف وهو : " أخذ الأمور بالشدة وترك الرفق " والعنف كذلك مثله .
فهذه المعاني تدور كلها على هذه الشدة التي تبلغ حدا يتجاوز الحد ، وكلها متقارب المعنى ، فالغلو وأهله تجمعهم هذه الصفات في جملتها تشدد في الأخذ بالدين وتعمق في أفعاله وأعماله ، وعنف وتشدد في معاملة الآخرين ..
ولكننا قبل أن نمضي في هذا المعنى ، ونفرع في صوره وأشكاله ، أو نذكر معالمه وملامحه نقول سؤالا مهما: تجاوز الحد أي حد هذا الذي يتحدث أهل العلم عن تجاوزه ؟
إنه الحد الشرعي الذي يعتبر الخروج عنه مذموماً سواء كان تجاوزا له وزيادة عليه بالغلو ، أو كان قصورا عنه وتركا له بالجفاء ، ومن هنا نعرف ما قاله أهل العلم أن الدين ضاع بين الجافي عنه والغالي فيه الجافي عنه مفرط في الأخذ به مقصر في التحكم بأحكامه متهاون في التزامه وتطبيقه ، والغالي فيه : زائد عن المشروع فيه متشدد في فهم أصوله الصحيحة ، وقاسٍ وعنيف ، وغير رفيق في معاملة الآخرين بما هو متجاوز للحد المشروع ، فلا هذا مقبول ولا ذاك مقبول ولعله من المهم كثيراً:
أولا: أن نقف على هذا الحد أن نعرف أصل الدين حتى نعرف بعد ذك من يزيد عليه ويغلو فيه أو من يقصر عنه ويجفوه ؛ فإنه لا تتبين الأطراف إلا إذا عرف الأصل ، ولا تعف الغايات في الطرفين إلا إذا عرف الوسط ، ولعلنا معنيون بذلك أكثر لأن فهم الأصل في الدين وحقيقته وسماحته وخصائصه هو الذي يعلنا ندرك تماماً مفهوم الغلو في الدين وفق ما جاء في مصطلح الشرع في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
واعلم أن الحديث قد يطول بنا في هذا ، والناس مازالوا متعلقين بالحديث المباشر عن الغلو أو التكفير . ومرة أخرى أعيد الكرة .. نريد منهجاً سديداً ونريد فكراً رشيداً ، ونريد علماً مؤصلاً لا نريد هيشات فارغة ، ولا حماساً متعجلاً ، ولا معالجة آنية قاصرة .
وفهم الدين في أساسه هو أعظم الأمور ، وليس لنا من حديث في هذا المقام اليوم إلا بيان الأصل والحد المشروع في سماته وخصائصه العامة ليتضح من بعد ما نرجو الله أن يوفق إليه من إكمال الحديث في الغلو ومعالمه ومخاطره .
سمات وخصائص الإسلام التي تتعلق بهذا المعننى في الخروج عنها إلى الغلو أو الجفاء .
السمة الثانية: الوسطية
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا } [ البقرة: من الآية143] .
إنه الوصف الرباني الإلهي لأمة الإسلام والوصف إذا ذكر فله سمات مهمة :
أولها : أنه ظاهر بيّن
إذا أردت أن تصف إنساناً فيمكن أن تصفه صفة خفية لا يعرفها إلا المقربون منه ، ربما نصفه بعرج في رجله أو شيء في عينه يراه الناس ، لكني إن وصفته بشامة أو خالة في داخل جسمه من عسى أن يدركها ؛ فإن قلنا أمة الإسلام أمة الوسط فمعنى أن هذه الصفة ظاهرة بينّة .
وأمر ثان في الصفة: وهو أنها ملازمة دائمة
لا نقول عن إنسان إنه كريم ؛ لأنه أنفق مرة واحدة بل لا نعطيه الصفة إلا إذا كانت ملازمة له ودائمة في سائر أحواله :(/1)
لعمر أبي كما عرف المعلى **** كريما وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت **** وأصحر نبتها رعي الهشيم
فإذا الوسطية سمة في الإسلام في كل الأحوال .. في السراء والضراء .. في السلم والحرب .. في معاملة الأحباء ومعاملة البغضاء لا يتغير ذلك كما هي الصفة اللازمة الدائمة ، وكما كان سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاؤه أن يرزقه الله - سبحانه وتعالى - العدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر إنه الأمر الدائم ، والسمة اللازمة ، ونحن نعرف أن هذه الوسطية تجمع بين أمرين اثنين لابد من وجودهما في كل معنا من هذه المعاني :
أولا: الخيرية.
وثانيا: البينية الوسطية معنوية وحسية.
فلا يمكن أن يكون الشيء وسطاً إلا إذا كان هو الأفضل والأعدل والأحسن والأكمل ، ومن دلائل هذه الخيرية والعدالة والأفضلية أنه وسط بين ما لا يكون كذلك بين مذموم من الطرفين ، وهذه سمة الإسلام ، وسمة أهله ، وسمة تشريعاته ، وسمة عقائده .. سمة الوسطية أمرها يطول إذا أردنا أن نتحدث عنها ، أو أن نفيض القول في دلائلها ، وحسبنا أن نبرز ذلك في الأمور الظاهرة البينة .
مما كتبه عمر بن عبد العزيز في بعض رسائله لبيان حقيقة الإسلام وصفة مواقف السلف - رضوان الله عليهم - قوله - رحمه الله - في هذا المعنى : " لقد قصر دونهم - أي دون سلف الأمة - أقوام فجفوا ، وطمح عنهم آخرون فغلوا وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم " .
تلك هي الوسطية خير وفضل ينأى ويبتعد عن تساهل وتفريط ، وعدم تعظيم للدين وأخذ به ، ويجتنب كذلك تشدداً ليس من دين الله ، وتجاوزا للحد ليس في شرع الله ، فتكون حينئذ خيرية ووسطية بينية .
ومما قاله ابن القيم في بيان هذا المعنى: " ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجلين ، والهدى بين الضلالتين ، والوسط بين طرفين ذميمين فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع ، هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد " .
واستمع إلى نماذج يسيرة يضيق المقام عن استقصائها:
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } [ القصص: من الآية77 ].
ليس ذماً للدنيا ، وليس غراقاً فيها وتعلقاً بها ، وجعلها مقصد الإنسان الأول والأخير ، والله - سبحانه وتعالى – يقول :
{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ الأعراف: من الآية32 ].
وفي موطن آخر التحذير من التعلق بالدنيا وجعلها أوكد الهم وأعظم الشغل:
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ } [ الحديد: من الآية20].
كما بين الله - سبحانه وتعالى - في هذا المثل وجاء في آخر هذه الآية ما يبين لنا ذلك التوازن والتوسط الذي ينبغي أن نأخذ به في مثل هذا المثال .
السمة الثانية: اليسر في دين الله سبحانه وتعالى
وقد جاءت الآيات بينة واضحة في إرادته وقصده ، ووصف الإسلام وتشريعاته به كما قال الحق جل وعلا :
{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة: من الآية185].
وكما قال الحق - سبحانه وتعالى - في أصل هذا الدين ونعمة الله على البشرية ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم:
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [ الأعراف: من الآية157].
إنها شريعة محمد ترفع الأغلال ، وتضع الإصر والأحمال والأثقال بما جاء به من هذه الشريعة الميسرة ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن هذا الدين يسر، فأوغل فيه برفق) ، القائل هو أعظم الناس إلتزاماً بهذا الدين ، وأكثرهم أخذاً بشرائعه وعباداته ، ثم يقرر هذه الحقيقة : ( إن هذا الدين يسر فأوغل فيه برفق) .
وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يبين ذلك فغي صفة بعثته ورسالته وهو يقول: (إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا) [ رواه مسلم من حديث عائشة ].(/2)
وعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير الدين أجاب بقوله ، قال: ( الحنيفية السمحة ) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام أحمد والطبراني بسند رجاله ثقات: ( إن خير دينكم أيسره .. إن خير دينكم أيسره ) ، واليسر المقصود هنا الذي نقل لنا التزامه وتطبيقه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته ، ليس اليسر هو الترخص والتفريط الناشئ عن عجز الناس ، وخور هممهم ، وضعف عزائمهم ، وقلة تعلقهم بأمر الله وثوابه سبحانه وتعالى ؛ فإن ذلك عجز وليس يسراً ، وهذا أمر مهم في كل ما نذكره أن المقياس والمرجع في فهمه وتحديده هو الكتاب والسنة ، والتطبيق العملي في سيرة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
وها هو النبي في أمثلة وجيزة - نوردها هنا بحسب المقام - يدلنا على أهمية هذا اليسر والالتزام به فهو يقول : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ) ، وكما قال في غير ذلك مثل هذا المعنى ، ولما جاءه الرجل يشكو إطالة إمامهم في الصلاة حتى شق عليهم ، قال صلى الله عليه وسلم : ( أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة ) رواه مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه.
ثم نرى ذلك في صوره المختلفة وتعاملاته المتنوعة ، فعندما بعث معاذا وأبا موسى الأشعري كانت وصيته الأولى لهما: ( يسرا ولا تعسرا، بشرا ولا تنفرا، تطاوعا ولا تختلفا ) وما أعظمها من وصية لكل من يريد أن يصلح الأمة ، أو أن يدعو أبناءها أو أن يحكم بينها ؛ فإنه لابد من تقديم اليسر على العسر ، ولابد من تقديم التبشير على التنفير أو التحذير، ولابد كذلك من المطاوعة لا الاختلاف والمنازعة ، وهذا أمر بيّن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرشد فيه أيضاً إلى آحاد الأفراد في أعمارهم ، فلما رأى حبلاً متدلياً من سارية من سواري المسجد سأل عنه فقالوا : " حبلٌ لزينب تصلي فإذا تعبت تعلقت به " ، قال: ( ليصل أحدكم نشاطه فإذا تعب فليرقد ) وهذا رد إلى اليسر ، وذاك الرجل الذي نذر أن يقف في الشمس ، وأن لا يتكلم وأن يحج ماشياً ولا يستظل ، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس حوله قال : ( ما هذا؟ ) قالوا: رجل نذر كذا وكذا قال: (مروه فليستظل وليركب ؛ فإن الله غني عن تعذيب هذا نفسه ) صورة من صور حماسة النفس أراد بها مثل هذا أن يجعلها وسيلة للتقرب إلى الله ، فنهى النبي عن ذلك ، ورد إلى الأصل والحد المشروع الذي سمته اليسر وهذا أمر بيّن .
وحتى في علاج الأخطاء كان كذلك - عليه الصلاة والسلام - كما روى ابن مسعود فيما صح عند البخاري: أن رجلاً أصاب قبلة من امرأة فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت:
{ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } (هود: من الآية114).
فقال الرجل: أ هذا لي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ( بل لمن عمل بها من أمتي ) ، ولا يفقهن أحد ذلك أنه ترخيص في ارتكاب الإثم ، أو دعوة إليه ، أو تهوين له في نفوس الناس ، ولكنه إدراك لطبيعة الإنسان وما قد يقع فيه أثناء غفلته أو شهوته وأصل إيمانه داعٍ له للندم والاعتراف فتفتح له ما فتح الله - سبحانه وتعالى - من أبواب المغفرة والرحمة ، وإن كان أمر مما يؤاخذ عليه الشرع بحد أو نحو ذلك أخذه ، ولكنه مع ذلك أصل إيمانه في قلبه يدل على صدقه وإخلاصه في توبته إلى الله سبحانه وتعالى .
ولما جاء رجل من الناس قد شرب الخمر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإقامة الحد عليه قد ارتكب كبيرة وأقيم الحد عليه فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله كما في الرواية ثم قال رجل: أخزاه الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا هذا لا تعينوا عليه الشيطان ) .
السمة الثالثة: السماحة
وهي نوع وأمر يدل على ذلك اليسر ، لكنه يظهر في أصول الأمر والتشريعات كما قال الله سبحانه وتعالى في شأن الأمر الأعظم في حياة الأمة ودورها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله :
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل: من الآية125].
سماحة في عرض هذا الدين وفي الدعوة إليه ، وفي البيان له حتى تقتنع به العقول ، وتقبل عليه القلوب ، وتتعلق به النفوس ، وتلتزمه الجوارح ، وتتحرك به لإعلانه ونشره ، والدعوة إليه ، والله - سبحانه وتعالى - يبيّن ذلك في قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون أطغى وأكثر من ذكر الله - عز وجل - من أولئك الذين خرجوا عن أمر الله - سبحانه وتعالى - جاء الأمر إلى موسى وهارون عليهما السلام :
{ فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً } [ طه: من الآية44] .(/3)
قولاً ليناً ليس ذلك اللين عن ضعف أو خوف أو جبن أو خور ، وليس ذلك الدين مداهنة أو مجاملة أو منافقة إنما هو القول الجميل والدعاء إلى الله تعالى بآياته ، والتنبيه على حججه ، كما ذكر ابن كثير في التفسير أنه : " أسلوب عرض فيه سماحة ، وفيه لين في الأداء ليس في المضمون " ، ليس اللين أن نغير أحكام الله ولا أن نبدل دين الله ولا أن نقول إن الجهاد قد ألغي أو عطل ولا أن نقول بأن تعليم شرع الله - عز وجل -انحراف يؤدي إلى خطر ؛ فإن ذلك ليس لين بل هو تحريف وانحراف كما أن ذلك في جانب فهذا في جانب آخر ، وهذه السماحة عظيمة في كل شرائع الإسلام حتى الشرائع التي ظاهرها عند بعض من يجهل أو عند بعض من يهوى أنها تتناقض مع السماحة ، وهي شريعة وفريضة الجهاد القائمة الماضية إلى قيام الساعة إنها ليست من القسوة في شيء .. إنها ليست دموية ولا إرهابية .. إنها سماحة للبشرية ورحمة للإنسانية .. شريعة الجهاد رحمة بالبشر ليخرجوا من الظلمات إلى النور ، ومن الظلم إلى العدل ، ومن الطبقية والعنصرية إلى المساواة والأخوة الإنسانية والرابطة الإيمانية ، والله - سبحانه وتعالى - يذكر لنا ذلك وتبينه شرائع الإسلام :
{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [ البقرة: من الآية256 ].
إما أن يسلموا فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإما أن يذعنوا لحكم الإسلام ويبقوا على ما هم عليه ويخضعوا لسلطان الإسلام ويدفعوا الجزية إليه في مقابل ما يلقونه من الخدمة والنصرة ، وإما أن يأبوا فمن يأبى النور ، ومن يأبى الحق ومن يتسلط على رقاب الناس يأتي الإسلام ليحرر التحرير الحقيقي لا المزيف الكاذب ، ولينصر النصر الحقيقي لا الكاذب والأجوف ، وذلك أمره بيّن ، والله - سبحانه وتعالى - قد بين ذلك وبينته وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - في القتال : (لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً ) وصية أبي بكر الشهيرة إلى الفاروق خالد بن الوليد - رضي الله عنه - حتى الشجر والنخل نهى عن عقره وحرقه ، إلا إن لم يكن له داع وسبب فليس في هذا الجهاد إزهاق لنفوس بلا سبب ولا مصلحة راجحة ، ولا موجب لذلك من أولئك الكفرة الفجرة المعادين لأهل الحق والإسلام بل والمعادين للبشرية والإنسانية ، ونرى ذلك كذلك في أمور أخرى كثيرة :
{ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } [ الممتحنة: من الآية8 ].
وإذا كان ثمة عهد فالآيات:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } [ المائدة: من الآية1].
{ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ } [ التوبة: من الآية4].
ذلك كله لابد أن نفقهه في إطار جامع واسع ، وتلك هي سماحة الإسلام في سمة واضحة من سماته وصفة جلية من صفاته .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه فاتقوا الله في السر والعلن ، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن .
واعلموا أن من سمات أصل هذا الدين كذلك : الإستقامة
والإستقامة هي ملازمة النهج الصحيح الذي ثبت بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولقد أمر المصطفى - عليه الصلاة والسلام - بذلك أمراً ، وضّح في دلالته أن المقصود به الوسطية والسماحة واليسر ، بعيداً عن تلك الأطراف الذميمة من الإفراط والتفريط ، أو الغلو والتشديد كما في قوله جل وعلا:
{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا } [ هود: من الآية1121].
أي لا تزيدوا عن الحد ولا تتجاوزوه حتى في معاملة الأعداء ؛ فإن ذلك من سمة أهل الإسلام العدل والإنصاف والإستقامة كما قال جل وعلا :
{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } [الشورى: من الآية15].(/4)
فليس ثمة طغيان ، وليس ثمة تفريط وترك واتباع للأهواء وموافقة للأعداء كما قال عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير دينكم الصلاة ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) [رواه ابن ماجة بسند صحيح ] ، فهذا القول استقيموا ولن تحصوا أي لن تستطيعوا البلوغ إلى الكمال فاستقيموا كما جاء في الحديث الآخر تفسيره ( سددوا وقاربوا ) أي اجتهدوا ليس المقصود باليسر ولا بالسماحة والأخذ بالأدنى ، بل قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المثل في الأخذ بالأعلى من الأمر المشروع والعبادة العظيمة مع ما كان له من خصائص لم يشاركه فيها غيره من الصحابة ، ونبههم على ذلك أنه ليس كمثلهم ، وأمرهم أن لا يفعلوا مثل فعله ما هو من خصائصه - عليه الصلاة والسلام - كما في قصة النفر الثلاثة الذين رأوا أن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم قليلة قالوا: قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فبين سوء فهمهم ، وقال : ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ) عندما قال أحدهم : أما أنا فأصلي ولا أنام ، وقال الثاني: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج، وقال الثالث : أما أن فأصوم ولا أفطر ، فقال عليه الصلاة والسلام: ( أما أنا فأصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ثم بيّن - عليه الصلاة والسلام - تلك الاستقامة في سائر أحواله وأعماله صلى الله عليه وسلم .
ولعلنا في وقفتنا الأخيرة نشير إلى أصل المعنى الذي يقع في أهل الغلو خروجاً عن هذه السمات من وسطية ويسر وسماحة واستقامة هي من صميم هذا الدين ، وهي الحد المشروع الذي يعد الغلو خروجا عنه ، روى الشيخان في صحيحيهما صفة جامعة من جوامع كلم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في وصف أهل الغلو عندما جاءت القسمة المشهورة وجاء الاعتراض من ذلك الرجل على روايات مختلفة عندما قال للرسول عليه الصلاة والسلام: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، وفي رواية: لم تعدل قال عليه الصلاة والسلام: (من يعدل إن لم أعدل ؟!) ثم وصف ذلك الرجل قال: ( يخرج من ظئر هذا أقوام يقرؤون القرآن لا يتجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ) ومن هنا قال أهل العلم: " إن السمة الجامعة لكثير من فروع الغلو ترجع إلى هذين الأمرين: الجهل بالقرآن والشرع كما قال في هذا الحديث ( يقرؤون القرآن لا يتجاوز حناجرهم) " ، قال الشاطبي في معناه: " يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مقاصده " ، وقال النووي رحمه الله: " ليس يصل إلى قلوبهم - أي القرآن - لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب " ، وهذا لا يحصل منهم والجهل هو الباب الأعظم والأكبر للوصول أو للدخول إلى هذه المزالق الخطيرة ، ويترتب عليه ما يترتب عليه ، وقد قال ابن عمر - رضي الله عنهما - في مثل هذا المعنى قال: " انطقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المسلمين، لم يفقهوا أسباب النزول " لم يفقهوا مقاصد اللأفاظ ودلالاتها ومعانيها لم يفهما بقية النصوص الشرعية التي تكمل بها الصورة ، وينتقل حينئذ الأمر إلى السمة الثانية: وهي التكفير للمسلمين وبالتالي استحلال دمائهم ، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ) وذلك ما سنشرع في الحديث عنه الغلو معالمه ومخاطره ( 2 )
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
حديثنا موصول في موضوع الغلو معالمه ومخاطره ، ووقفتنا اليوم مع الفهم الصحيح لحقيقة الغلو وبيان بعض صوره وقد أسلفنا القول من قبل أنه لابد لنا أولا من فهم وفقه حقيقة الإسلام في وسطيته واستقامته ويسره وسماحته ؛ لأن هذا هو الحد المشروع الذي إنما يعرف الغلو بتجاوزه وتعديه والزيادة عليه أو النقص منه .
ولذلك أول أسس الفهم الصحيح هو : الفهم للحق الذي جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إفراط ولا تفريط .
والأمر الثاني : أن المرجعية عند حصول الاختلاف أو النزاع إنما هي لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء: من الآية59 ].
فلابد من معرفة هذه القضية إنه عند اختلاف الآراء أو تباين الأفكار أو تعدد الاجتهادات ، فالفصل لا يرجع إلى الأشخاص ولا يرجع إلى المذاهب ولا يرجع إلى التقليد أو التعصب وإنما إلى الاستنارة بضوء وأنوار الكتاب والسنة على ما تقتضيه الأصول العلمية المرعية والاجتهادات العلمية المقبولة.(/5)
والأمر الثالث الذي ننبه عليه هو : أن هذا الرجوع فيه ثبات للمرجعية والمعيارية ، وسلامتها من تنازع الأهواء وضغوط الواقع ، فلو أنه لم يكن لنا رجوع إلى الثابت المعصوم من نصوص الكتاب والسنة لانفرط عقدنا واختلف رأينا وتشتت شملنا ، وذلك أن ما في كتاب الله حق لا باطل معه ويقين لا شك فيه ، وأمر صالح لكل زمان ولكل مكان ، ثم هو من جهة أخرى سالم من التغير والتبدل رغم كل تغيرات الظروف والأحوال .
وبذلك نفقه هذا الأصل المهم في حقيقة فهم الغلو .. إنه ليس فهما ينشأ من واقع الناس ، فإذا بدل الناس وغيّروا في دين الله ، وفرطوا فيه صار الغلو عندهم مفهومه مفهوماً آخر ، فربما رأوا أن التمسك بالفرائض والمحافظة عليها والاجتهاد في الطاعات والزيادة في المشروع منها غلو غير مقبول عند أولئك الضعفة والكسلة المفرطون في الواجبات ، المتخاذلون عن إلتزام الفرائض .
ولو جعلنا ذلك مرجعه إلى الناس لربما جنحت أهواؤهم ممالأة لأعداء الله - عز وجل -ومصانعة لهم أو خوفا منهم ، أو توهم أن عندهم شيئاً من صواب أن ذلك كذلك يؤدي بنا إلى الانحراف ، فلنعلم هذه الحقيقة المهمة ، ثم لنفهم الإطار العام ، والمنهج الذي جاء في كتاب الله ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الغلو فيه حتى لا نجنح إلى مثل هذه الأمور التي أشرنا إليها .
أولاً: الدعوة إلى الالتزام والنهي عن التجاوز
هي مفتاح ما جاء في كتاب الله ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للوقاية من الوقوع في الغلو ، ولفهم حقيقته على وجهها الصحيح .. نحن نقرأ في كل يوم وفي كل ركعة من كل صلاة فريضة وسنة :
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6،7].
إنها الدعوة إلى النهج المستقيم المتزن المتوسط المعتدل ، الذي هو جوهر ما جاء في كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والتحذير من الخروج عنه تجاوزاً أو تقصيراً إفراطاً أو تفريطاً ، والنهي هنا جاء محذراً من فئتين بوصفين ذكرتهما الآية الكريمة : { غير المغضوب عليهم } ، وهم الذين عرفوا الحق وجحدوه ، و{الضالين} وهم الذين ضلوا في معرفة الحق فلم يصيبوه ، والفئة الأولى بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها ظاهرة في اليهود ، والثانية ظاهرة في النصارى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " لما أمرنا الله أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم كان ذلك مما يبين أن العبد يخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين ، وكان السلف يرون أن من انحرف من العلماء عن الصراط المستقيم ففيه شبه باليهود ، ومن انحرف من العباد ففيه شبه بالنصارى ؛ لأن العالم إذا انحرف ينحرف مع معرفته وعلمه وفقهه فهو عرف الحق وجحده إما اتباعاً للهوى أو طلبا للدنياً أو خوفاً على النفس فيما لا يكون فيه الموقف كذلك من الناحية الشرعية ، والعباد الذين يضلون فلا يعرفون الحق فيبتدعون ويزيدون وينقصون من دين الله عز وجل .
الوجه الثاني: التحذير من الغلو
مقترنا بالنهي عنه في الأمم السابقة ، كما ورد ذلك في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى:
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } [ النساء: من الآية171] .
وقوله جل وعلا:
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [ المائدة:77 ] .
وبيّن الله - عز وجل - صوراً من آثار ذلك الانحراف من الناحية العملية ، وأنكر ذلك وحذر منه كما في قوله:
{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } [ الحديد: من الآية27].
والنبي - صلى الله عليه وسلم - حذر من ذلك عندما ربطه كذلك بمن سبق من الأمم السابقة في حديثه: ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم ) أي عندما قالوا المسيح ابن الله ، أو قالوا المسيح هو الله ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
وما جاءت هذه الآيات ، ولا تلك الأحاديث للإخبار عن أمر قد مضى في الأمم السابقة إلا ليكون وجها من أوجه العظة والعبرة ، وأن سبب انحرافهم ومن بعد ذلك هلاكهم إنما هو خروجهم عن مقتضى دينهم وغلوهم فيه ، وانحرافهم عن جادة الصواب الذي جاءهم عن الله ، وبلغتهم إياه رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم .
والوجه الثالث: النهي عن الغلو في صوره العامة كلها صغيرها وكبيرها ؛ لأن معالجة الأمور الصغيرة إنما هي معالجة من باب أولى للصور الكبيرة ؛ ولأن النهي عن المقدمات منع للوصول إلى النتائج ؛ ولأن منهج الإسلام منهج متكامل فيه وقاية وحماية كما فيه علاج من بعد وقوع الضرر أو الأذى .(/6)
وذلك واضح كذلك فيما ورد من الحديث الصحيح عن ابن عباس في حجة الوداع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يلتقط له الحصى التي يرمي بها في منى ، قال: فالتقطت له حصيات كالخذف أي صغيرة في حجمها كما هو معروف ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين ) ، رغم أن المسألة كما نرى في ظاهرها يسيرة في أمر الحصى أن تكون على هذا النحو ، ولكنه عليه الصلاة والسلام حذّر من الغلو ولو في هذا بأن يأخذ الناس كبار الحجار ، رؤية منهم أنها أبلغ في تحقيق المراد بأمر الله ، فنهى عن ذلك ، ثم جعل النهي عن الغلو عاماً رغم أن الحدث خاص ، ورغم أن المسألة ربما تعد مقارنة بغيرها يسيرة فقال: ( إياكم والغلو في الدين ) كما بيّن أهل العلم في شرح الحديث قالوا: وإن كان الأمر خاصا فإن النهي عام عن كل ما فيه غلو وتجاوز للحد المشروع أي في صغير الأمور وكبيرها .
ومن صور التحذير والتنفير من الغلو بيان الشارع الحكيم لسوء عاقبته وخطورة مغبته ، وأنه لا يؤدي حتى إلى مقصود صاحبه ؛ فإن المتشدد في العبادة أو الطاعة فوق الحد المشروع إنما يريد التقرب إلى الله ، وإنما يريد الاستزادة من الخير ومضاعفة وكثرة الثواب والأجر ، لكن النتيجة التي أخبر بها الشارع تؤدي إلى غير ذلك ، فجاء التحذير من هذا الغلو ببيان عاقبته السيئة الوخيمة ، كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يكرر ويدلل ويبين فيقول : ( هلك المتنطعون .. هلك المتنطعون .. هلك المتنطعون ) والهلاك هنا معناه عام يشمل الهلاك في حقيقة الأمر المادي والمعنوي ، فقد يهلك فينقطع عن تلك الطاعات والعبادات ويعجز عنها ، وقد يهلك بانحرافه في اعتقاده ومخالفته لأمر الله وهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد بيّن صفة ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال: ( إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ) ، إن المنبت في صفة السفر لا يريد أن يرتاح يقول: أنا أمضي وأمشي إلى غايتي بقوة وعزيمة من غير راحة ولا هدوء ولا توقف .. يريد أن يبلغ الغاية في أقصر وقت وبأعلى قوة وهمة ، فإذا به ينقطع في وسط طريقه لا يستطيع الاستمرار ، ثم يفقد الوسيلة التي بها يسير إلى الغاية إذ تنقطع دابته أو تهلك فيكون حينئذ هلاكه مقطوعاً به في الصورة المادية والمثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم .
ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم ؛ فإن قوما قد تشددوا فشدد الله عليهم فتلك بقياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) وهذا أمر واضح ومهم وبيّن وله كثير من الأدلة التي تبينه .
وبعد أن ذكرنا هذه المعالم الرئيسة للفهم الصحيح لحقيقة الغلو ، لعلنا نكمل هذا الفهم بالصور والأمثلة التي تدل عليه ؛ لأن بالمثال يتضح المقال ومن أول هذه الصور وأجلاها:
التشديد على النفس بما هو زائد عن الحد المشروع
ورد في حديث قبيصة بن هلب عن أبيه - رضي الله عنه - أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن من الطعام طعاما أتحرج منه ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا يختلجن في نفسك شيئا ضارعت فيه النصرانية ) [ رواه أبو داود ] قال الشارح: " لا يدخل في قلبك ضيق ولا حرج ؛ لأنك على الحنيفية السمحة ، فإذا شككت وشددت على نفسك بمثل هذا شابهت فيه الرهبانية " ، والمقصود هنا أن بعضا من الأمور التي تدخل في دائرة الحلال العام ربما نجد من يشدد على نفسه في تحريمها ، أو في البحث عن أصولها بحثاً ليس هناك ما يدعو إليه من ناحية الشرع ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ) ، وبين الحق - سبحانه وتعالى - لكم فيما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى الذي دلت عليه الآية في قوله:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } [ المائدة: من الآية101] .
وهذا ضرب من الضروب يبعث عليه أحياناً شعور في الرغبة في التورع والاستزادة من الزهد ، غير أننا ينبغي أن لا ننسى الأمر المهم ، وهو أننا متعبدون في دين الله على شرع الله ، وهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا على نوازع النفس ولا العواطف ولا ردود الأفعال .
ومن هنا ينبغي أن نفقه ذلك كما ذكر ابن تيمية في قوله: " التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات ، أو تارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه من الطيبات " ، وهذه قضية أخرى وصورة نفردها وحدها في شأن التحريم والتحليل .(/7)
وفي حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعندها امرأة فقال: ( من هذه؟ ) فذكرت من صلاتها أي وعبادتها الزائدة عن الحد المشروع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مه عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وكان أحب الدين عليه مادام عليه صاحبه ) ، وهذا ظاهر في هذا التوجيه والإرشاد ، وكان من حديث عائشة ما يبين ذلك وأثره في الصحابة ، وتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم قالت: كان إذا أمرهم أمر أمرهم من الأعمال ما يطيقون ، فقالوا: " إنا ليسنا كهيئتك يا رسول الله إن الله قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر " ..كان يأمرهم من الأعمال بأوامر مما يطيقونها وبعبادات مما تيسر عليهم فعلها ، فيرون أن ذلك دون طاقتهم وهمتهم وعزيمتهم ، فيرغبون في الأكثر ، فيقولون: " إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله إن الله قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر" ، قالت: فيغضب حتى يرى الغضب في جهه - صلى الله عليه وسلم - ثم يقول: ( إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا ) أي قمة ما كان يأمر به هو التقوى ، وأن إرشاده لأمته هو الأفضل والأكمل والأمثل الذي لا مزيد عليه ، فمن أراد زيادة فإنما يخرج عن نهج الاعتدال الذي هو سمة الدين ، ومن أراد تشديداً فوق المشروع ؛ فإنما كأنما يرى في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قصوراً ونقصاً وهو يريد أن يكون أفضل أو أكثر .
وقد أثر عن مالك - إمام دار الهجرة - أن رجلاً جاء فسأله وهو في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ميقات أهل المدينة فأخبره - وهو معروف في ظاهر المدينة - ، فقال الرجل لأحرمن من مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. قال سأحرم من المسجد ومن داخل المدينة وليس من الميقات ، فقال الإمام مالك: " هذه والله الفتنة " فسمع الرجل فرجع قال: وأي فتنة يا أبا عبد الله ؟ إنما هي أميال أتزيدها أبتغي بها أجر الله أحرم من هذا المكان فتزيد المسافة التي أسيرها وأنا محرم ، فيعظم أجري عند الله ، فقال له: " الفتنة أن تعمل عملا تظن أنك فيه خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، فليس هناك خير ولا كمال ولا فضل أتم وأكمل مما أثر عنه عليه الصلاة والسلام .
وكذلك يأتي في مثل هذه الصورة تزاحم الحقوق ؛ فإن من الناس من يندفع إلى طاعة وعبادة ويفرط في حقوق وواجبات أخرى هي من الشرع بمثابة تلك العبادات من حيث وجوبها ، بل ربما تعلق وجوبها بحقوق للعباد لا يكون التساهل أو التسامح فيها مثل ما قد يكون في حق الله - عز وجل - والمثل المضروب في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح من حديث أبي جحيفة عند البخاري وغيره في قصة مؤاخاة سلمان الفارسي مع أبي الدرداء - رضي الله عنه - جاء سلمان إلى أبي الدرداء في بيته فوجد امرأته مبتذلة قال: ما بالك يا أم الدرداء ؟ قالت: أخوك أبو الدرداء لس له فينا ولا في الدنيا نصيب قد تفرغ لطاعة الله وعبادته فقصر في حقوق أهله ، فجاء أبو الدرداء فقدم الطعام إلى سلمان فقال له سلمان: كل قال: إني صائم قال: عزمت عليك إلا أكلت - وكان متطوعاً - فأفطر ، ثم لما جاء الليل أراد أن يقوم ليصلي فقال له: نم ، ثم أراد أن يقوم فقال له: نم ، ثم أراد أن يقوم فقال له: نم ، حتى إذا كان آخر الليل قال: قم فصل الآن فصليا ثم لما أصبح الصبح قال سلمان: إن لربك عليك حقاً وإن لنفسك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً ، فأخبر أبو الدرداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: ( صدق سلمان ).
وكم نرى من اندفاع في باب من الأبواب يقابله قطعاً وبلا أدنى شك تفريطٌ في أبواب أخرى ، ينبغي أن نفقه ذلك وننتبه له ، قال ابن حجر في تعليقه على الحديث: فيه جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل ، وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة ، أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور ، وفي حديث الرجل الذي نذر أن يمشي يحج ماشياً وأن لا يستظل ، ونهاه النبي - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك قال ابن حجر فيه: " أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلا مما لم يرد بمشروعيته كتاب ولا سنة كالمشي حافياً ، والجلوس في الشمس ليس من طاعة الله - تعالى - فلا ينعقد به النذر " ، وصور من مثل هذا نراها في واقعنا ، وخاصة عند بعض الشباب إذا تعلق قلبه بالطاعة ، وأراد أن يعوض ما فاته من عمره ، أو ربما أن يكفر عما سلف من ذنبه ربما شدد على نفسه بما لا يستطيع الاستمرار فيه في كثير من الأحوال بما يفرط فيه بحقوق أخرى .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد إلى مولاه .(/8)
وإن التشدد والتشديد على النفس فيما ليس بمشروع ، يفوّت كثيراً من الحقوق ، ويحصل به اختلال عن التوازن ، ولعلنا نضيف إلى ذلك أموراً تبين هذا في أصل سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بيّنه العلماء في ضوء هذه السنة الشريفة ، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن ( أفضل الصيام صيام داوود - عليه السلام - كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) وفي رواية عند البخاري في نصها ( يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى ) ، أي لا يفر إذا لاقى العدو ، قال الطبري في شرح الحديث: " إنما كان صوم داوود من أفضل الصيام من أجل أنه مع صومه لا يضعف من القيام بالأعمال التي هي أفضل من الصوم ، وذلك لثبوته للحرب أمام أعداء الله عند التقاء الزحوف وتركه الفرار هنالك والهرب وكان من أضعفه صوم النفل عن أداء شيء من فرائض الله عز وجل فغير جائز أن يصوم صومه ذلك بل هو محظور عليه " .
إذا كان يصوم تطوعاً ، ويضيع بسبب ذلك الصوم أو ضعفه بسببه فرضاً ، أو واجباً بل قد قال: " إذا ضيع بذلك الصوم المستحب والنفل ما هو أفضل منه من نفل الأعمال فإن صومه ذلك مكروه غير محبوب وإن كنا لا نؤثمه " ، كما قال رحمه الله .
وهذا يدلنا على أمر مهم وهو النسبية ؛ فإن ما يطقه إنسان لا يطيقه غيره ، وإن ما يطيقه إنسان في بعض أنواع العبادات قد لا يطيقها في غيره ، قد يطيق الصوم لكنه لا يطيق طول القيام ، وقد يطيق طول القيام ولا يطيق أمر الصيام ، فينبغي للإنسان أن ينظر ما لا تتأذى به نفسه من المشروع فيأخذ به ، وأما ما يفضي إلى سآمته وانقطاعه أو تفريطه في حقوق أخرى فينبغي له أن يوازن بأن لا يمتنع عن ذلك أن لا يقدم على ذلك مع علمه أو يقينه بأنه يفرط في غيره .
وهذا أيضاً مما نفقهه وفقهه العلماء من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عائشة رضي الله عنها كانت تخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول لا يفطر ، ويفطر حتى نقول لا يصوم ، قال الشاطبي في تعليقه على هذا الحديث: " فانظر إلى ما كان من مراعاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الأحوال والظروف والأوقات ، فربما في وقت ينشط لهذا وربما في غيره ينشط لغيره ، ولكن المهم المهم هو ألا يتجاوز الحد المشروع بالتشديد على النفس بما يؤدي إلى انقطاعها أو سآمتها ومللها ، وبما يؤدي إلى ترك المداومة على الأعمال " ، وتلك الصورة صورة ظاهرة ، وثمة صور أخرى يأتي ذكرها لنستوفي ذلك ونصل إلى المهم من هذا الموضوع .
هذا المقال من: إسلاميات
http://islameiat.com/doc
عنوان المقال
http://islameiat.com/doc/article.php?sid=330(/9)
الغلو مقابل التساهل، المفاهيم والآثار
في هذه الدراسة يوضح الشيخ صالح الفوزان معنى الغلو وصوره ويوضح في مقابل ذلك التساهل الذي يؤدي الى التفريط فيما ينبغي الحرص عليه ويؤكد ان من يوكل اليهم الامر في تحديد مفاهيم الغلو والتساهل هم العلماء المختصون ..
فبدأ حديثه عن الغلو، قائلاً:
"الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى اله واصحابه ومن اهتدى بهديه وتمسك بسنته وسار على نهجه اما بعد: فان الله امر بالاستقامة والاعتدال ونهى عن الغلو والانحلال فقال سبحانه لنبيه والمؤمنين معه: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولاتطغوا إنه بما تعملون بصير} فالامر بالاستقامة من غير طغيان, والطغيان هو الغلو الذي يخرج عن الاستقامة, كما انه نهى عن التساهل والاخلال في امور الدين بالنقصان منه فقال سبحانه: {فاستقيموا اليه واستغفروه} اي اطلبوا منه المغفرة لما يقع منكم من تقصير ومن إخلال بالاستقامة بالنقص من اتباع اوامره واجتناب نواهيه لان الانسان محل الخطأ والتقصير فهو بحاجة الى الاستغفار من ذلك, وهذه الامة وسط بين تساهل اليهود وغلو النصارى في العبادة قال تعالى: {وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} والتساهل قد يكون بترك الواجبات وفعل المحرمات واتباع الشهوات, والغلو هو الزيادة في التدين عن الحد المشروع مأخوذ من: (غلا القدر اذا ارتفع ماؤه وفار بسبب شدة الحرارة) ويقال: غلا السعر اذا ارتفع عن الحد المعروف, والغلو قد يكون في الاشخاص بأن يرفعوا فوق منزلتهم ويجعل لهم شيء من حق الله في العبادة كما غلت النصارى في المسيح عليه السلام فقالوا: هو ابن الله او هو الله او ثالث ثلاثة فعبدوه مع الله, ولهذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم:(لاتطروني كما اطرت النصارى ابن مريم انما انا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) وكما غلا قوم نوح في الصالحين فعبدوهم من دون الله: (وقالوا لاتذرن آلهتكم ولاتذرن ودا ولاسواعا ولايغوث ويعوق ونسرا) وهذه اسماء رجال صالحين كانوا فيهم ولهذا نهى نبينا صلى الله عليه وسلم امته من الغلو في الصالحين والبناء على قبورهم واتخاذ قبورهم مساجد لان هذا يؤول الى عبادتهم من دون الله كما نشاهده اليوم من بناء لأضرحة على القبور وعبادة الاموات من دون الله والاستغاثة بهم في الشدائد, وقد يكون الغلو في عبادة الله والتقرب اليه ولهذا قال تعالى: {يا اهل الكتاب لاتغلوا في دينكم غير الحق ولاتتبعوا اهواء قوم قد ضلوا من قبل أو أضلوا كثيرا او ضلوا عن سواء السبيل} ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ان ثلاثة نفر قال احدهم انا اصلي ولا انام, وقال الثاني: انا اصوم ولا افطر, وقال الثالث: انا لا اتزوج النساء غضب النبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ من فعلهم واستنكر ذلك وقال: (اما انا فأصلي وانام, واصوم وافطر, واتزوج النساء, ومن رغب عن سنتي فليس مني) وقد يكون الغلو في الحكم على اصحاب الذنوب الكبائر التي هي دون الشرك فيحكم على اصحابها بالكفر والخروج من الملة كما فعلت الخوارج من هذه الامة فكفروا اصحاب الكبائر التي هي دون الكفر والشرك وكما قال رجل ممن كان قبلنا لرجل يراه يرتكب بعض الذنوب فقال: والله لايغفر الله لفلان. فقال الله تعالى: (من ذا الذي يتألى علي ان لا اغفر لفلان اني قد غفرت له واحبطت عملك) وقد يكون الغلو في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كما حصل من الخوارج والمعتزلة حين غلوا في الانكار على ولاة المسلمين فخرجوا عن طاعتهم وحملوا السلاح لقتالهم وشقوا عصا الطاعة وفرقوا الجماعة مما ترك آثارا سيئة على الامة.
وقد يكون الغلو في التقليد الفقهي والحزبي وذلك بالتعصب لآراء الائمة حتى تجعل كأنها وحي منزل لايجوز العدول عنها الى الرأي الصحيح الراجح بالدليل كما هو حاصل لمن متعصبة الفقهاء, ومن قادة الحزبيين اليوم الذين يتعصبون لجماعاتهم وحزبياتهم ويحذرون ممن سواهم وان كان من سواهم على الحق, وقد يكون الغلو في الولاء والبراء فيظن اهل الغلو ان البراءة من الكفار تعني تحريم التعامل معهم فيما اباح الله مما فيه منفعة بدون مضرة ولا تنازل عن شيء من الدين وانها تعني الاعتداء على المعاهدين منهم والمستأمنين بتفجير مساكنهم وسفك دمائهم وقتل عوائلهم واتلاف اموالهم متناسين قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة) وقوله تعالى: {وان احد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه} وقوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ان لاتعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى}"
إلى أن قال الشيخ موضحاً آثار الغلو:
"ان الغلو داء خطير, وشر مستطير له آثار قبيحة منها:(/1)
1- انه يجر الى الشرك بالله وذلك كالغلو في الاشخاص فانه يفضي الى عبادتهم من دون الله كما حصل لقوم نوح لما غلوا في الصالحين, وكما حصل للنصارى لما غلوا في المسيح, وكما حصل لعباد القبور من هذه الامة لما غلوا في الاولياء والصالحين فأصبحت قبورهم اوثانا تعبد من دون الله في كثير من البلاد حتى آل الامر الى أن من انكر ذلك يعد من الغلاة الذين يكفرون المسلمين.
2- انه يحمل على تكفير المسلمين وسفك دمائهم كما حصل للخوارج من هذه الامة حتى قتلوا خيارها كعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب وكثير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- انه يحمل على الخروج على ولي امر المسلمين وشق عصا الطاعة وتفريق كلمة المسلمين كما حصل ويحصل من الخوارج على مدار التاريخ, وقد امر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل من يفعل ذلك في قوله: (من جاءكم وامركم جميع على واحد منكم يريد تفريق جماعتكم فاقتلوه كائنا من كان).
4- انه يزهد في السنة والوسطية والاعتدال وباعتبار ذلك تساهلا في الدين والعبادة كما في قصة الثلاثة الذين تقالوا عمل النبي صلى الله عليه وسلم.
5- انه يحمل على القنوط من رحمة الله كما حصل من الذي قال: (والله لايغفر الله لفلان).
6- انه يسبب الانقطاع عن العمل الصالح, وقد يحمل على الزيغ والانسلاخ من الدين فان النفس تضعف مع شدة العمل وقد تعجز او تمل من العمل فتتركه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم عن المتشدد في الدين: (كالمنبت لاظهرا ابقى ولا ارضا قطع) وقد رأينا من هذا نماذج في وقتنا الحاضر."
ثم تحدث الشيخ عن مقابل الغلو، وهو التساهل قائلاً:
"هذا ويقابل الغلو في خطورته وشره التساهل في ميوعته وضرره فالتساهل في امور الدين لايقل خطورة عن الغلو بل هو شر منه ولهذا قال تعالى: {والله يريد ان يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات ان تميلوا ميلا عظيما} وقال تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا الا من تاب وعمل صالحا} فالمتساهلون يصفون المتمسكين بالدين والوسطية بأنهم متشددون وغلاة ومتطرفون ويرون الاباحية والتحلل من الدين والاخلاق تقدما ورقيا وحضارة ويقولون ان التمسك بالدين فيه كبت للحريات وعائق عن الانطلاق مع الحضارة العالمية, وربما يقول بعضهم الدين يسر يريد بذلك التحلل من شرائعه ونقول: نعم الدين يسر في تشريعاته ورخصه الشرعية فهو يشرع لكل حالة ما يناسبها من حالة المرض والسفر والخوف والضرورة لا انه يسر في التحلل من احكامه فهذا ليس يسرا وانما هو حرج وإثم والنبي صلى الله عليه وسلم (ما خير بين امرين الا اختار ايسرهما مالم يكن إثما) فالتيسير الذي يوقع في الاثم خروج عن سمات الدين وهديه, وشرور الانحلال من الدين اشد من شرور الغلو فيه وهؤلاء الجهال والمغرضون ليسوا هم الذين يبينون معنى الغلو وانما الذين يبينون حدود الغلو والتطرف هم العلماء الاتقياء الراسخون في العلم على ضوء الكتاب والسنة لا الصحفيون واصحاب الشهوات والجهال او المتعالمون او اهل الضلال والله جل وعلا يقول: {فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لاتعلمون} ويقول جل وعلا: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون انما يتذكر اولوا الالباب} فمتى خرجنا عن بيان اهل العلم الى بيان اهل الاهواء واهل الضلال امعنا في الضلال والخطأ واننا اليوم نسمع ونقرأ في وسائل الاعلام المختلفة اقوال من يتكلمون في امور الدين وامور الغلو والتساهل وهم لايحسنون القول في ذلك اما عن قصد سيئ واما عن سوء فهم يقولون حسب اهوائهم {ولو اتبع الحق اهواءهم لفسدت السماوات والارض ومن فيهن} فيصفون التمسك بالدين بأنه تشدد ويصفون المتمسكين بالدين وبالعقيدة الصحيحة بأنهم متطرفون وغلاة - وهكذا فالغالي يرى ان المعتدل متساهل والمتساهل يرى المعتدل غاليا ومتشددا - والحمد لله ان الله لم يجعل هؤلاء ولا هؤلاء هم الذين يحكمون في هذا الباب وتقبل اقوالهم وانما وكله الله الى العلماء الراسخين المعتدلين في حكمهم على ضوء الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح لان الحكم بالغلو او بالتساهل حكم شرعي تترتب عليه آثاره فلا يتولاه كل من هب ودب على حسب هواه لان ذلك قول على الله وعلى رسوله بغير علم او بهوى - والعلماء - ولله الحمد قد بينوا هذا ووضعوا ضوابطه قديما وحديثا في كتب العقائد وفي كتب الفقه والواجب ان يقرر ويدرس هذا الحكم الشرعي بضوابطه للطلاب في المدارس وحلق العلم".
نسأل الله ان يصلح شأن الاسلام والمسلمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد واله وصحبه اجمعين.(/2)
... ... ...
الغناء ... ... ... ... ...
محمد عبدالكريم ... ... ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- الأغاني مصيدة من مصايد الشيطان. 2- اهتمام شبابنا بأخبار المغنين ومتابعتهم لأغانيهم وفسقهم. 3- نصوص تحريم الغناء. 4- تغير الأسماء لا يغير الأحكام. 5- إباحة الدف للنساء في الأعراس والأعياد. 6- أقوال العلماء في الغناء والمغنيين. 7- الغناء رقية الزنا. 8- منكرات الأفراح. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
يقول سبحانه وتعالى عن إبليس اللعين في سورة الأعراف: قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم من خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين , وقال أيضًا: رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين , فمن مكائد عدو الله ومصايده التي كاد بها الذين وصفوا بقلة العقل والدين وصاد بها قلوب الجاهلين المبطلين الإستئناس إلى سماع الأغاني والموسيقى التي تصد القلوب عن القرآن وتجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان حتى وصل الحال بهذه الأمة في هذه الأزمان إلى ترويج بضاعة من ليس لهم خلاق عند الله سبحانه وتعالى إلا بتبجيل أصحاب الغناء والموسيقى, إلى رفعة شأنهم..,إلى إظهار صورهم وأغانهم في كل مكان.., حتى أصبح الشباب والشابات يملأون أوقاتهم بهذه الأغاني الفاجرة, ولازلت تجد في أجواء بيوت كثيرة وفي أرجاء منازل عدة أصوات هؤلاء المغنيين والمغنيات, فترى الشاب على علم بهؤلاء وأسمائهم وصورهم, على علم بأوقات أغنياتهم التي تُبث في إذاعاتنا.. ومن وراء ذلك الصحف والمجلات الفاجرة التي تُشيد بهؤلاء المطربين فتذكر أسمائهم ومنجزاتهم في الأغنيات والموسيقى حتى يتربى الشباب على هؤلاء, ولو سألت بعض شبابنا عن بعض فرائض دينه أو عن الثلة الأولى من صحابة رسول الله الذين نشر الإسلام على أيديهم لقال لك: "هاه, هاه. لا أدري", بل لو سألت أحدهم عن مواقيت الصلاة لقال لك: لا أدري, وكيف يدري؟! ومن أين له أن يدري وهو يعكف على هذه الأغاني آناء الليل والنهار؟. من أين له أن يدري ووسائل الإعلام تعلمه أغنية فلان وفلانة. أنَّى له أن يدري عن هؤلاء الأبطال وسيرهم.. أنَّى له أن يدرى عن سيرة رسول الله وعن شمائله وعن طريقة منامه واستيقاظه عن طريقة أكله, حُق له أن يدري عن المغنية فلانة كيفية أكلها, حق له أن يدري عن شراب المغني فلان, حُق له أن يدري عن سيارة المغني فلان والمغنية فلانة.. حُق له أن يبعد عن صفات الرعيل الأول.
أيها المسلمون من كان في قلبه شك من تحريم هذه الآفة فليُزِل الشك باليقين يستمع إلى كلام رب العالمين وأحاديث سيد المرسلين في تحريمها وبيان أضرارها من النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة, والمؤمن يحتاج فقط إلى آية واحدة من كتاب رب العالمين أو إلى حديث واحد من صحيح سنة المصطفى ليستمسك بأمر الله وليترك هذه الآفة, قال سبحانه وتعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إلا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينًا .
والنصوص من القرآن الكريم على تحريم الغناء والموسيقى عديدة استمع أيها الأخ الحبيب إلى كلام ربك عز وجل في سورة لقمان في تحريم الغناء يقول سبحانه وتعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرًا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرًا فبشره بعذاب أليم أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث في الآية الغناء؛ لأنه يلهو عن ذكر الله لأنه من أكبر الملاهي عن ذكر الله.
وورد النص في ذلك عن الصحابة الكرام, فهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: "هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلاً ونهارًا, وسُأل أبو الصهباء عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه عن الآية: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله فحلف, أقسم بالله تعالى قال: والله الذي لا إله غيره الغناء قالها ثلاث مرات.
صدقت ياابن مسعوذ وإن لم تقسم بربك.. والله الذي لا إله غيره الغناء...
وإن أردت أن تعرف بأن الغناء من شهادة الزور وإن عباد الرحمن لا يشهدون الزور اذهب إلى قول المفسرين في آخر سورة الفرقان لتجد قوله تعالى: والذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللغو مرّوا كرامًا لتجد قول محمد بن الحنفية يقول: الزور هو الغناء؛ لأنه يميل بك عن ذكر الله, والذين لا يشهدون الزور. قال المفسرون: "لم يقل الله تعالى والذين لا يشهدون بالزور" وإنما قال: "الزور" حتى يكون المراد: أي لا يحضرون الزور أي الغناء.(/1)
وإذا أردت أن تعرف بأن الغناء والموسيقى من قرآن الشيطان وأن المزامير صوته اذهب إلى سورة الإسراء لتجد قول الله تعالى للشيطان وحزبه: واستفزز من استطعت منهم بصوتك قال عكرمة عن ابن عباس في قوله: واستفزز من استطعت منهم بصوتك قال كل داع إلى معصية ولذلك قال مجاهد رحمه الله تعالى: صوت الشيطان المزامير, وإذا أردت يا عبد الله أن تعرف بأن الغناء يصد عن القرآن فاستمع إلى قوله تعالى في سورة النجم: أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون قال ابن عباس: السمود في لغة حِميّر يعني الغناء, يقال: اسمُدي لنا يا جاره أي غني لنا؛ ولذلك قال أبو عبيدة: المسمود هو الذي يُغني له.
وإذا كانت الآيات قد دلّت على ذلك فأحاديث رسول الله صريحة في الدلالة على تحريم الغناء, استمع إلى المصطفى فيما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث هشام بن عمار عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن المصطفى قال: ((ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحِرَّ والحرير والخمر والمعازف يسمونها بغير اسمها.. وليَنزلن أقوام إلى جنب علم فيروح عليهم سارحتهم فيأتيهم لحاجة فيقول ارجع إلينا غدًا فيبهتهم الله ويضع العلم ـ أي ويضع الجبل ـ ويمسخ الآخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)) قال العلامة ابن القيم: ولم يصب شيئًا من قدح في صحة الحديث كابن حزم نصرةً لمذهبه في إباحة الملاهي, ومن كان له عناية بإسناد حديث رسولنا فليرجع إلى كلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري في المجلد العاشر في الصفحة الحادية والأربعين منه, إلى أقوال العلماء في صحة هذا الحديث الوارد عن نبينا في حرمة الغناء.
وقوله : ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون)) أي محرمة هذه الأشياء التي تؤتى, يستحلون والاستحلال لا يكون إلا بعد تحريم.. يستحلون الحِر: يعني الفجور والزنا عياذًا بالله والخمر والمعازف يسمونها بغير اسمها فيسمون الخمر مشروبات روحية ويسمون الزنا علاقة شخصية ويسمون الغناء والمعازف فنًا يسمونها بغير اسمها؛ ظنًا أن الأشياء إذا سُمِّيت بغير اسمها تغيرت أحكامها وبطل ظنهم؛ فالله سبحانه وتعالى أنزل الحلال وأنزل الحرام فهو حلال إلى يوم القيامة وهو حرام إلى يوم القيامة مهما تبدلت الأسماء والألقاب.
وتوعد الذين يعكفون على المعازف ـ الذين يعكفون على الموسيقى ـ بالمسخ والقذف, ففي حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال : ((يكون في أمتي خسفٌ وقذفٌ ومسخ)) قيل: يا رسول الله, متى؟ قال: ((إذا ظهرت القينات والمعازف واستحلت الخمر)) وفي رواية: ((إذا ظهرت القيان وشُربت الخمور)), أي إذا ظهر ذلك حدث في أمتي خسف (أن يُخسف بهم وأن يمسخوا قردةً وخنازير وأن تنزل حجارةً من السماء فتصيبهم بسوء أعمالهم).
وذلك صريح في روايات أخرى من ذلك قوله : ((ليكونن من أمتي أقوام يشربون الخمر ويعزف على رءوسهم بالقيان يمسخهم الله تعالى قردة وخنازير)) قال بعض أهل العلم: إن الإنسان إذا امتلىء قلبه بالفسق والخداع والغش فإنه يشابه بعض الحيوانات.. فأنت ترى في وجوه بعض الناس مشابهة لبعض الحيوانات التي تتصف بالصفات الذميمة, فما تزال تلك الصفات تستشري في نفسه حتى ترى ذلك على وجهه, فما يزال يتقوى حتى يقلب الله عز وجل صورته الظاهرية لتوافق صورته الباطنية.
قال ابن القيم: "فمن كان ختالاً خدّاعًا رأيت مسحة القرد على وجهه, ومن كان رافضيًا رأيت مسحة الخنزير على وجهه, ومن كان نهاشًا رأيت الصورة الكلبية على وجهه فصورة وجهه صورة كلب؛ ولهذا قال في الذي يرفع رأسه قبل الإمام: (( أما يخشى أن يحول الله صورته صورة حمارًا أو وجهه وجه حمار)) وذلك لبلادته وعدم فطنته, فهو يرفع رأسه قبل الإمام في الركوع وفي السجود مع أنه سيسلم مع الإمام فيفسد على نفسه صلاته؛ ولهذا قال في الحديث: ((يمسخهم الله تعالى قردة وخنازير)) وأخرج الإمام أحمد في مسنده وكذلك أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسولنا أنه قال: ((إن الله حَرّم على أمتي الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام)) والكوبة كما قال سفيان هو الطبل. والغبيراء نوع من الشراب المسكر يتخذ من الذرة الحبشية, قال : ((إن الله قد حرم)), وما دام قد حَرَّم فمن يستطيع أن يُحل ما حرم الله.
وجاء رجل إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: أرأيت الغناء أحلال هو أم حرام؟ رجل يسأل عن غناء الأعراب الذي ليس فيه معازف وليس فيه تشبيب بالنساء فيسأله أهو حلال أم حرام. قال ابن عباس: لا أقول حرامًا إلا ما في كتاب الله. قال: أحلال هو؟ قال: ولا أقول ذلك. ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما, أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة فأين يكون الغناء؟ قال الرجل: يكون مع الباطل. قال ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك.(/2)
فالإنسان الذي على الفطرة السوية يعلم بأن الغناء باطل, وأن الباطل يدحضه الله عز وجل بالحق, وأن الباطل ليس من الحق في شيء, ولذلك سماه أبي بكر الصديق رضي الله عنه مزمار الشيطان.. إذًا الشيطان يُزمّر فإذا زمَّر جمع أهل الهوى.
قالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله وعندي جاريتان تغنيان في يوم بعاث فأدار وجهه, فدخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني فقال: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله , فأقبل رسول الله بوجهه فقال: ((دعها)) فلما سكن غمزتهما فخرجتا, وفي رواية قال : ((يا أبا بكر إن لك قوم عيدًا وهذا عيدنا)).
فسمى أبو بكر رضي الله تعالى عنه الغناء بمزمار الشيطان... وبعض الذين يتبعون الهوى يستدلون بهذا الحديث على حِليّة الغناء والموسيقى, وليس الأمر كما ذهبوا إليه فإن ذلك مما رخّص فيه النبي , فالرسول عليه الصلاة والسلام أباح الغناء بالدف للنساء في أوقات الزواج وكذلك في الأعياد وحث على ذلك , بل ذلك من السنة وذلك في صحيح البخاري "أن عائشة رضي الله عنها لما رجعت من نكاح قال لها : ((أما كان معكم لهو؟)) فقالت: لا يا رسول الله, فقال: ((هَلاّ ضربتم بالدف وقلتم
أتيناكم أتيناكم فحيانا وحيّاكم
ولولا الحنطة الحمراء لما سمنت عذاريكم))
إلى آخر كلامه , فهذا يدل على أن الدف الذي يسمى بالطار مباح للنساء في وقت الأعياد والنكاح ـ كما قال العلماء ـ توسعة للعيال في وقت الأعياد. وليس فيه إباحة الغناء بالجمع بين الأدلة كما تقدم معنا. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه... الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا قيمًا لينذر بأسًا شديدًا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا , والصلاة والسلام على رسولنا الذي أبان الرسالة وأوضحها أوضح بيان فصلى الله عليه وعلى الصحابة أجمعين.
ومن كلام الأئمة الأعلام الذين يرشدون الناس إلى الهدى ويبعدوهم عن الردى, من كلام الذين يبينون لنا الحلال ويبعدوننا عن الحرام ما قاله الإمام مالك ـ رحمه الله ـ في الغناء إذ حرمه تحريمًا شديدًا, وقال: "إن الرجل إذا اشترى جارية فرآها مغنية كان له أن يردّها بالعيب". فقد جعل الغناء في الجارية عيبًا, وسأله رجل عما يباح عند أهل المدينة من الغناء فقال: "ما يفعله عندنا إلا الفساق".
وسُئل عبد الله ابن الإمام ـ الإمام بن حنبل ـ عن الغناء فقال: "الغناء ينبت النفاق في القلب ولا يعجبني", والشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ قال مثل هذا وأغلظ في القول هو وأصحابه من القدامى وكذلك العارفون بمذهبه كما أوضح ذلك الأئمة الأعلام, وأبو حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ كذلك من أشدّ الأئمة كذلك في تحريم الغناء, ويرى أن فاعله من الفساق ويرى الذين يمكثون عليه ممن ترد شهادتهم.
فهل بعد هذه الأقوال من قول في إباحة هذه الآفة.. هل بعد هذه الأقوال من رجل يقول لنا الغناء قسمان قسم فيه فجور وخنا وهو حرام وقسم يباح إذا لم يكن فيه ذلك.
هل نستمع إلى هذا الكلام بعد كلام ربنا وبعد كلام رسولنا فنتحدث في مجالسنا عن الأغنية الفلانية وعن المغني الفلاني.. نتحدث عن هؤلاء الذين ينبغي لنا أن نذمهم.
لو نظرنا في سيرة سلفنا الصالح لوجدناهم يبغضون الغناء حتى الفجار منهم حتى الشعراء منهم الذين سلطهم الله على الخلق كانوا يكرهون الغناء ويعدونه من الفجور.
فهذا الحُطيئة سليط اللسان تهاب العرب لسانه وتكره هجاءه قال أبو عبيدة معمر بن المثنى وجاور الحطيئة قومًا من بني كلب فمشى ذو الدين منهم بعضهم إلى بعض وقال: يا قومنا لقد أتاكم داهية.. هذا رجل شاعر, والشاعر إذا ظن حقق ولا يستأني فيتثبت, وإذا أعطى فلا يعفو فجاءوا إليه وهو في فناء خبائه فقالوا يا أبا مُليكة إنه قد عظم حقك علينا بتخطيك القذى إلينا فمُرنا بما تحبه فنأتيه ومرنا بما تكرهه فننزجر عنه, فماذا قال هذا الشاعر الهجّاء؟ قال: لا تأتوني كثيرًا فتُمِلوني, ولا تسمعوني أغاني شبيباتكم فإن الغناء رقية الزنا.
فإذا كان ذلك الشاعر المفتون اللسان الذي تهابه العرب يخاف عاقبة الغناء ويخشى من أن تسير هذه الرقية إلى قلوب حرمته فما الظن بغيره, ولا ريب أن الرجل الذي يجنب أهله سماع الغناء كما يجنبهم أسباب الريب لاشك أنه رجل فطن, الذي يخشى على شرفه والذي يقيم وزنًا لكرامته يمنع أهله ـ يمنع أمه وزوجه من الاستماع إلى مغنٍ فاجر, ويمنع أخته وبنته من الاستماع إلى مقطوعة من موسيقار لا يرقب في الله إلاً ولا ذمة, يفسد قلب هذه البُنية الطاهرة الصغيرة العفيفة, لا ريب أن الغيور يكره أن يستمع أهله وأزواجه وبناته إلى المغنيين والمغنيات إلى هؤلاء الفجار الذين يفسدون علينا ولا يصلحون.(/3)
ولقد قال كثير من الأقوام: إذا استعصت المرأة على الرجل اجتهد أن يُسمعها صوت الغناء فإن سمعت المرأة صوت الغناء لانت وهانت عليها الفاحشة.
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا, وكم من حُر صار به عبدًا للصبيان أو الصبايا, وكم من غيور احتمل إثمًا بين البرايا هو من القبيح. وكم من إنسان معافًا لما سمع الغناء أصبح وقد حلّت به البلايا. وهذا الذي يأخذ على الغناء المال والله الذي لا إله إلا هو إنما هو الوبال, أي نعم إنه هو الوبال ماذا سيقول لربه عندما يوقفه بين يديه فيقول: عبدي من أين اكتسبت هذا المال؟ يستأجر المغنية أو يستأجر لمغني في ليلة بآلاف الريالات, ماذا سيقول لربه حين يسأله: عبدي أنعمت عليك بالمال فأين أنفقت المال في يوم كذا وكذا؟ ماذا سيجيب ربه! أيقول له أنفقت على المغنية الفلانية اثنى عشر ألفًا وضعت هذا المبلغ في جيبها! وضعت هذا المبلغ في جيب المغني الفلاني! والمسلمون في ذلك الوقت يذبحون وهم في أشدّ الحاجة لهذا المال! ماذا سيقول له؟!!
فوالله الذي لا إله إلا هو إنها لغصة في الخلق وإنها مزيلة للنعمة جالبة للنقمة وذلك من عطية واحدة من العطايا. فكم خبأت لأهل ذلك المغني, أو لأهل ذلك الذي يشتري المغنيات, كم خبأت لأهله من الآلام المنتظرة؟ وكم خبأت من الهُموم المتوقعة ومن الغموم المستقبلة..
فسل ذا خبرة يُنبئك عنهم لتعلم كم خبايا في الزوايا
اسألوا الناس لتعلموا كم خبايا في الزوايا, فهم يطلبون المساعدة.. يطلبون المال لجائحة أتت عليهم ويصبح المرء حرًا عفيف الفرج, فيُمسي ـ عياذًا بالله ـ محبًا للصبيان والصبايا, واقعًا في الفحش والخنا.
وصدق ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ حين قال: "برئنا من معشر بهم مرض من الغنا ـ أي بهم مرض بسبب الغناء والمعازف ـ وتكرار ذا النصح منا لهم لنُعذر إلى ربنا فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تنتنا تنتنا" ماتوا على المعازف والموسيقى, وبعد أن ماتوا ما اتعظ الآخرون بغيرهم بل حملوا صورهم وأبانوا للناس أنهم فعلوا ما لم يفعله العظماء وأنهم كانوا ذخرًا للأمة ليقتدي بهم الشباب وبئس ما فعلوا وبئس ما سطروا, وليُسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
الغيبة وأثرها في محق الحسنات وتعاظم السيئات
إعداد/ محمد أحمد سيد أحمد
أسباب الغيبة وبواعثها:
ذكر بعض العلماء للغيبة أسبابًا وبواعث، وفيما يلي خلاصتها:
1- شفاء المغتاب غيظه بذكر مساوئ من يغتابه.
2- مجاملة الأقران والرفاق ومشاركتهم فيما يخوضون فيه من الغيبة.
3- ظن المغتاب في غيره ظنًا سيئًا مدعاة إلى الغيبة.
4- أن يبرئ المغتاب نفسه من سيئ وينسبه إلى غيره أو يذكر غيره بأنه مشارك له.
5- رفع النفس وتزكيتها بتنقيص الغير.
6- حسد من يثني عليه الناس ويذكرونه بخير.
7- الاستهزاء والسخرية وتحقير الآخرين.
حكم الغيبة:
عد الحافظ ابن حجر الغيبة من الكبائر وقال: الذي دلت عليه الدلائل الكثيرة الصحيحة الظاهرة أنها كبيرة، لكنها تختلف عظمًا وشدة بحسب اختلاف مفسدتها، وقد جعلها من أوتي جوامع الكلم تعدل غصب المال، وقتل النفس بقوله صلى الله عليه وسلم : «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه». والغَصْبُ والقتل كبيرتان إجماعًا، فكذا الإيذاء في العرض.
من الأحاديث الواردة في ذم الغيبة والنهي عنها:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذِكْرُكَ أخاك بما يكره». قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته». [رواه مسلم]
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح منتنة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين». [رواه أحمد وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (10- 484) سنده صحيح]
3- عن أبي برزة الأسلمي- رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تَتَّبِعوا عوراتهم فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته». [رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني]
4- عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فيعذب في البول وأما الآخر فيعذب بالغيبة». [أخرجه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني]
5- عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم». [رواه أبو داود وصححه الألباني]
6- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: «أيها الناس أي يوم هذا؟» قالوا: يوم حرام. قال: «فأي بلد هذا؟» قالوا: بلد حرام. قال: «فأي شهر هذا؟» قالوا: شهر حرام. قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا». فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه، فقال: «اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟» [رواه البخاري ومسلم ]
7- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا- تعني قصيرة- فقال: «لقد قلتِ كلمةً لو مزج بها البحر لمزجته». قالت: وحكيت له إنسانًا، فقال: «ما أحب أني حكيتُ إنسانًا وأن لي كذا وكذا». [رواه أبو داود وصححه الألباني]
8- عن المستورد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل بِرَجُلٍ مسلم أكلة فإن الله يُطعمه مثلها من جهنم، ومن كُسي ثوبًا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل مسلم مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة». [رواه أحمد في المسند وأبو داود واللفظ له وصححه الألباني]
9- عن أبي الدرداء- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة». [رواه الترمذي واللفظ له وقال: هذا حديث حسن وصححه الألباني]
01- عن أسماء بنت يزيد- رضي الله عنها- قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقًا على الله أن يُعتقه من النار». [رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني]
هل تحل الغيبة في بعض الأحيان؟
قال النووي رحمه الله: اعلم أن الغيبة تباح لغرض شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهو ستة أسباب:
الأول: المتظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما مما له ولاية، أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان بكذا.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يستطع إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى تغيير المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حرامًا.(/1)
الثالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجي، أو فلان بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي، ودفع الظلم؟ ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة؛ ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص، أو زوج، كان من أمره كذا؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك فالتعيين جائز.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، وذلك من وجوه:
منها: جرح المجروحين من الرواة والشهود.
ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان، أو مشاركته، أو معاملته، أو غير ذلك، أو مجاورته، بل يجب على المشاوَرِ أن لا يخفي حاله، بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.
ومنها: إذا رأى طالب علم يتردد على مبتدع، أو فاسقٍ يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر الطالب بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يُغلط فيه، وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد، ويلبس الشيطان عليه ذلك، ويخيل إليه أنه نصيحة؛ فليفطن لذلك.
ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها، إما بأن لا يكون صالحًا لها، وإما بأن يكون فاسقًا، أو مغفلاً، ونحو ذلك فيجب ذكر ذلك لمن عليه ولاية عامة ليزيله، ويولي من يصلح، أو يعلم ذلك منه، ليعامله بمقتضى حاله، ولا يغتر به، وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به.
الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر، وأخذ المكس، وجباية الأموال ظلمًا، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه.
السادس: التعريف فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب؛ كالأعمش والأعرج والأصم والأعمى والأحول، وغيرها جاز تعريفهم بذلك؛ ويحرم إطلاقه على جهة النقص ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.
من أقوال العلماء في ذم الغيبة
1- قال عمر رضي الله عنه: عليكم بذكر الله تعالى، فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء.
2- عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه مر على بغل ميت، فقال لبعض أصحابه: لأن يأكل الرجل من هذا حتى يملأ بطنه خير من أن يأكل لحم رجل مسلم. [رواه ابن حبان وغيره موقوفًا]
3- قال الحسن رحمه الله: ذكر الغير ثلاثة: الغيبة، البهتان، الإفك، وكل في كتاب الله عز وجل، فالغيبة أن تقول ما فيه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه، والإفك أن تقول ما بلغك.
4- رُوي عن الحسن رحمه الله: أن رجلاً قال له: إن فلانًا قد اغتابك، فبعث إليه رطبًا على طبق وقال: بلغني أنك أهديت إليَّ من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام.
5- عن ابن سيرين وذُكِر له الغيبة فقال: ألم تر إلى جيفة خضراء منتنة. [الزهد لوكيع بن الجراح]
6- عن الشعبي رحمه الله أن العباس بن عبد المطلب قال لابنه عبد الله: يا بني، أرى أمير المؤمنين يدنيك، فاحفظ مني خصالاً ثلاثة: لا تغتب من له سر، ولا يسمعن منك كذبًا، ولا تغتابن عنده أحدًا. [مكارم الأخلاق للخرائطي]
9- عن مجاهد رحمه الله في قوله تعالى: ويل لكل همزة لمزة قال: الهُمَزَةُ الذي يأكل لحوم الناس، واللمزة: الطعان. [الزهد لوكيع بن الجراح]
10- عن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه قال: قال بعضهم في تفسير العُزلة: هو أن تكون مع القوم فإن خاضوا في ذكر الله فخض معهم وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت. [الصمت لابن أبي الدنيا]
علاج الغيبة:
إن الغيبة مرض خطير، وداء فتاك، ومعولٌ هدام، وسلوك يفرق بين الأحباب، وبهتان يغطي على محاسن الآخرين، وبذرة تنبت شرورًا بين المجتمع المسلم، وتقلب موازين العدال والإنصاف إلى الكذب والجور، وعلاج الغيبة يكون بما يأتي:
1- تقوى الله عز وجل والخوف منه سبحانه.
2- اتهام النفس وفطمها عن الشهوات وكفها عن المهلكات وعن تتبع العورات.
3- على المغتاب أن يعلم أنه متعرض لسخط الله يوم القيامة بإحباط عمله ما لم يتب إلى الله عز وجل.
4- أن سيئات المغتاب تتعاظم وأن حسناته تتضاءل فيتعرض لغضب الجبار وعذاب النار وبئس المصير.
5- إذا علم المغتاب بذلك فليبادر بالتوبة إلى الله توبة نصوحًا من قبل أن يأتي يوم توفى فيه كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
إنا لله وإنا إليه راجعون
ودعت أنصار السنة المحمدية رجلا من رجالها وهو الشيخ/ عبد الرحمن زكي سلام، وذلك يوم الجمعة 31 ذو الحجة، عن عمر يناهز الخمسة والخمسين عامًا بعد رحلة من الدعوة بدأت على يد إمام الجماعة ومؤسسها الشيخ/ محمد حامد الفقي ـ رحمه الله ـ
نسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته، وأن يسكنه فسيح جناته.
كما ودعت الجماعة من أبنائها الأخ/ عبد الله محمود زيادة رئيس فرع الجماعة بقويسنا، وذلك يوم الأحد 1 ذو الحجة والذي أسس فرع الجماعة بمدينة قويسنا، نسأل الله تعالى أن يجزل له العطاء ويعظم له المثوبة، ويخلفنا عنه خيرًا..(/2)
الغيبة والمغتابون
50
آفات اللسان
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
شمول الدين واهتمامه بالسلوك والأخلاق – الغيبة , معناها , وموقف الإسلام منها – صفات المغتاب وسَمْتُه – التحذير من غيبة ولاة الأمور والعلماء والدعاة – تعاظم الغيبة إذا صدرت ممن ينتسب إلى العلم , ونماذج لذلك – الغيبة بالقلب وخطورتها – الواجب على من سمع الغيبة
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله كفاه، ومن اتقى الناس لن يغنوا عنه من الله شيئًا. أوصيكم ونفسي بتقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، الواعظون بها كثير، والعاملون بها قليل، جعلنا الله وإياكم من المتقين.
أيها المسلمون، دين الله كاملٌ شاملٌ؛ تضمَّن حقائق العقيدة والشريعة، والتوحيد والعبادة، والمعاملة والعادة، يخاطب العقل والقلب، والحس والنفس، في مبادئ التشريع والأخلاق، والتربية والسلوك. دينٌ من عند ربنا، يرسم الأحكام والنظام لمسلم كريم طاهر الظاهر والباطن، سليم القلب، نقي المشاعر، عف اللسان وعف السريرة. متأدب مع ربه ونفسه، ومتأدب مع الناس أجمعين.
بل إنه لمتأدب مع هواجس الضمير وخلجات النفس: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ [الحجرات:12].
دين حق تتلاقى فيه أحكام الشرائع مع نزاهة المشاعر، وتتوازن فيه الأوامر مع الزواجر.
دين ينشئ مجتمعًا متدينًا، محفوظ الحرمات، مصون الغيبة والحضور، لا يؤخذ فيه أحدٌ بالظنة، ولا تتبع فيه العورات.
أيها الإخوة: وهذه صورة من الصور التي وقف منها ديننا موقفًا حازمًا حاسمًا. صورة يمثل فشوُّها في المجتمع مظهراً من مظاهر الخلل، وقلة الورع، وضعف الديانة. صورة تشوش على حفظ الحرمات وسلامة القلوب وصيانة الأعراض وتحري الحق. إنها كبيرة من كبائر الذنوب، وموبقة من موبقات الآثام، وحالقة من حالقات الدين يشترك في ذلك فاعلها والراضي بسماعها.
إنها الغِيبة يا عباد الله. إنها ذكر العيب بظهر الغيب، ذكرك أخاك بما يكره، سواء أكان فيه ما تقول أم لم يكن، هكذا بينها رسولنا محمدٌ .
يقول ربكم عز وجل في محكم تنزيله: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات:12].
أيها المسلمون، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم. الغيبة ـ أيها الإخوة ـ ذات أسماء ثلاثة، كلها في كتاب الله عز وجل الغيبة والإفك والبهتان. فإذا كان في أخيك ما تقول فهي الغيبة، وإذا قلت فيه ما بلغك عنه فهو الإفك، وإذا قلت فيه ما ليس فيه فهو البهتان. هكذا بين أهل العلم رحمهم الله.
الغيبة تشمل كل ما يفهم منه مقصود الذم سواء أكان بكلام، أم بغمزٍ، أم إشارة، أم كتابة؛ وإن القلم لأحد اللسانين.
والغيبة تكون في انتقاص الرجل في دينه وخَلْقه وخُلُقه، وفي حسبه ونسبه، ومن عاب صنعةً فإنما عاب صانعها.
وهذا هو نبيكم محمد ينادي هؤلاء المبتلين بهذا الداء المهلك: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته))[1].
والحسن رحمه الله يقول: (والله للغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد).
عجبًا لمن ينتسب لأهل الحق والإيمان كيف يركب مركب الغيبة، وقد علم أن المبتلى بها ذو قلبٍ متقلبٍ وفؤادٍ مظلمٍ، انطوى على بغض الخلق، وكراهية الخير، لا يعنيه نفع نفسه بقدر ما يعنيه ضرر غيره. راحته وهناؤه أن يرى النعمة عن أخيه زائلة، والمحنة فيه واقعة، يسره أن يرى الخير عن أخيه ممنوعًا والمصائب به نازلة.
هذا المبتلى غيظه وغمه أن يصيبك خيرٌ أو يحالفك توفيق، أو يتيسر لك رزقٌ، أو يجري على يديك نفع.
قلب مؤتفك مريض يحسد في السراء ويشمت في الضراء، على الهم مقيم، وللحقد ملازم، تسوءه المسرة، وتسره المساءة، غل وحقد وضغينة، أسماء مترادفة في عداوة متمكنة، يمتلئ بها صدر صاحبها، ويتربص بها الفرص لينفث سمومه ويرمي سهامه.
هل من شأن المؤمن أن ينطوي على كل هذه الضغينة لأخيه؟! وكأنه يأنس بخذلانه ووصول النقمة إليه، ولا تخطر له أخوة الإيمان ببال!! أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات:12].
ذو الغيبة ذلق اللسان، صفيق الوجه، لا يحجزه عن الاغتياب إيمانٌ، ولا تحفظه للمكارم مروءة. إذا وجد متنفسًا أشبع طبيعته النزقة الجهول. ينطلق على وجهه في المجالس لا ينتهي له حديث، ولا يتوقف له كلام. يسكب من لفظه ما تشمئز منه آذان أهل الإيمان، وأفئدة أهل التقى.(/1)
قد أوتي بسطةً في اللسان تغريه بالتطاول على الحاكم والعالم، والوجيه وذي المنزلة، بل على السفيه والجاهل، وعلى كل طبقة وفي كل نادٍ. الكلام عنده شهوة عارمة، إذا سلَّطه على شؤون الناس أساء الصورة، وإذا تكلم عن حقائق الدين والعلم شوَّه الحق وأضاع الهيبة.
إن لثرثرته ضجيجًا يذهب معه الرشد، يتصدر المجالس، ويتناثر منه الكلام حتى يجزم العاقل بأنه لا يتحدث عن وعيٍ يقظٍ، ولا فكرٍ عميقٍ، وكأن عنده انفصالاً رهيبًا بين لسانه وبين عقله وإيمانه. ألد خصم يلوك لسانه كما تلوك البقرة، يخوض في الدين وفي السياسة، والعلم والأدب، ولعل السبب في الانهيار العلمي والتحزب المذهبي، والانقسام الطائفي في حقائق الدين وشؤون الحياة هو هذا المسلك المذموم في توظيف اللسان جدلاً ومراءً، وغيبة وبهتانًا، وإفكًا مبينًا.
إنه في مقاعد المجالس يقطع وقته في تسقط الأخبار، وتتبع العيوب، وتلمس الزلات، ليس له لذة ولا مسلاة إلا في أحوال الناس. همزة لمزة، مشاء بنميم، ويل له ثم ويل له، يتكلم بالكلمة يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب.
أيها المسلمون، وأقبح ما يقع فيه هذا وأمثاله غيبة ولاة الأمور وأهل العلم والفضل ورجال الحسبة والصلاح والذين يأمرون بالقسط من الناس، يقعون في أعراض ذوي الوجاهة والمنزلة ورجال الخاصة والعامة، يحطون من أقدارهم ويجترئون على مقامهم، وينزعون من مهابتهم، ويرفعون الثقة بهم، يطعنون في أعمالهم وجهودهم، ويشككون في قدراتهم وكفاءاتهم، لا يذكر عظيم إلا انتقصوه، ولا يظهر كريم إلا شتموه، ولا يبرز صالح إلا اتهموه، ولا يتميز مسؤول إلا مقتوه، يمشون بالكذب والتدليس، والمغالطة والتشويش. يتهمون الثقات، ويقعون في الصالحين. يبعثون الفتن، ويزرعون الإحن، ويبلبلون على العامة، يقطعون الصلات، ويفرقون الجماعات، غربان بيْنٍ، ونُذُر شؤم، حمَّالو الحطب، ومشعلو اللهب، يوزعون الاتهامات، ويتتبعون المعايب؛ هذا طويل وهذا قصير، وهذا جاهل، وهذا فاسق، وهذا عميل، وهذا مشبوه، العين غمازة، واللسان همازة، والكلمات لمازة، مجالسهم شر، وصحبتهم ضر، وفعلهم عدوان، وحديثهم بذاء.
الله أكبر ـ يا عباد الله ـ هل من شأن المؤمن أن يحمل كل هذا الضغن لأخيه؟!
يا هذا ـ كل بشرٍ يحب ويكره، ويرضى ويغضب، ويوالي ويعادي، ولكن العاقل لا يوالي أحدًا بالجملة، ولا يعادي أحدًا بالكلية، ولكنه يحب منه شيئًا ويكره شيئًا، يرضى منه خلقًا ويسخط آخر، يحبذ فعلاً وينقم آخر، والعاقل من يحب حبيبه هونًا ما فعسى أن يكون بغيضه يومًا ما، ويبغض بغيضه هونًا ما فعسى أن يكون حبيبه يومًا ما.
العقل والإيمان يملي عليك فيمن تحب ألا تقلب عيوبه محاسن وكأنك لا ترى فيه إلا شرًا محضًا: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
أيها الإخوة، ويشتد القبح والجرم ويتعاظم الذنب والذم ـ حينما تصدر الغِيبة ممن ينتسبون إلى العلم والصلاح، ويتزينون بسيما أهل الزهد والورع، فيجمعون في غيبتهم بين تزكية أنفسهم وذم غيرهم.
وانظر رعاك الله إلى دقة ما سجله الغزالي في "إحيائه" وابن قدامة المقدسي في "مختصر منهاجه" وابن حجر الهيثمي في "زواجره" وهم يتكلمون عن هذا الصنف من الناس؛ قالوا رحمهم الله: يُذكر عند هؤلاء المتزهدين إنسانٌ فيقولون: الحمد لله الذي ما ابتلانا بقلة الحياء والدخول في كذا وكذا، وليس قصده بدعائه إلا أن ينبه إلى عيب غيره. قالوا: وقد يزيد في خبثه فيقدم المدح لمن يغتابه حتى يظهر تنصله من الغيبة فيقول: كان مجتهدًا في العبادة والعلم والنزاهة والأمانة، ولكنه فتر وابتلي بما ابتلينا به كلنا. فيذكر نفسه ومقصوده ذم الغير والتمدح بالانتساب للصالحين في ذم نفوسهم فيجمع بين ثلاث فواحش: الغيبة والرياء وتزكية النفس، بل أربع لأنه يظن بجهله أنه مع ذلك من الصالحين المتعففين عن الغيبة فقد لعب به الشيطان وسخر منه فأحبط عمله وضيع تعبه وأرداه.
ومن ذلك أن يقول: ساءني ما وقع لصديقنا من كذا وكذا فنسأل الله أن يثبته. وهو كاذب في ذلك، وما درى الجاهل أن الله مطلع على خُبث ضميره، وأنه قد تعرض بذلك لمقت الله أعظم مما يتعرض الجهال إذا جاهروا. انتهى كلامهم رحمهم الله.
الله أكبر ـ أيها الأخوة ـ يقول بعض السلف: أدركنا السلف الصالح وهم لا يرون العبادة في الصوم والصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس.
يا هذا ـ رحمنا الله وإياك وعافاك وعفا عنك ـ ظُنَّ الخير بإخوانك وأقربائك، ولا تسمع أخبار من قل عند الله نصيبه. اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، وأعفه مما تحب أن يعفيك منه. اعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالإجرام.
قيل لبعض الصالحين: لقد وقع فيك فلان حتى أشفقنا عليك ورحمناك، قال: عليه فأشفقوا وإياه فارحموا.(/2)
وقال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني، فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، فطوبى لمن أمسك الفضل من قوله، ثم طوبى لمن ملك لسانه، ثم طوبى لمن حجزه عن الناس ما يعلم من نفسه، وطوبى لمن استمسك بتوجيهات كتاب ربه فتوجه إلى مولاه بقلب ضارع ولسان صادق وحب لإخوانه خالص: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/421)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب في الغيبة، حديث (4880)، والترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في تعظيم المؤمن، حديث (2032)، والطبراني في الأوسط (3778)، قال الهيثمي: رجاله ثقات بجميع الزوائد (8/93، 94)، وقال المنذري: إسناده حسن. الترغيب (3/169). وصححه الألباني. صحيح أبي داود (4082)، صحيح الترغيب (2339-2341).
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، أحاط بكل شيء علمًا، وهو على كل شيء شهيد، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو أقرب إلى عبده من حبل الوريد. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله نشر أعلام التوحيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان من صالح العبيد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها المسلمون، من أخطر ما ذكر أهل العلم من أنواع الغيبة تلك التي تحصل بالقلب. قالوا: وذلك هو سوء الظن بالمسلمين. والظن هو ما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب، أما الخواطر وحديث النفس العابر فمعفوٌ عنه.
إنه ليس لك أن تظن بأخيك شرًا، ومتى خطر لك خاطر سوءٍ على مسلم فينبغي أن تزيد في مراعاته والدعاء له بالخير، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك. وإذا تحققت هفوة من مسلم فانصحه ولا تفضحه. وسوء الظن يدعو إلى التجسس والتحسس. والقلب إذا ترك له العنان لا يقنع بالظن، بل يطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس وذلك منهي عنه لأنه يوصل إلى هتك ستر المسلم.
أيها الإخوة، والمستمع شريك للمغتاب ولا ينجو من الإثم إلا أن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه، وإن قدر على القيام فليقم أو ليقطع الكلام بكلام آخر.
ناهيك ـ عياذًا بالله ـ من يستمع ويصغي على سبيل التعجب ليزيد من نشاط المغتاب، ولقد قال علماؤنا رحمهم الله: إن التصديق بالغيبة غيبة، والساكت شريك المغتاب.
يا ترى أين هو المؤمن القوي ذو الشكيمة الذي يأبى أن يُغتاب أحدٌ في مجلسه، ويأبى أن تسمع أذناه عيب أخيه المسلم؟! يقول ابن المبارك رحمه الله: فِرَّ من المغتاب فرارك من الأسد.
أين هو المؤمن القوي الذي يقيم المغتاب من مجلسه أو يقوم عنهم ليدعهم في مجلسهم؟! كان ميمون بن سياه لا يغتاب أحدًا عنده، ينهاه فإن انتهى وإلا قام من المجلس.
يا عبد الله إن لكل الناس عورات ومعايب، وزلات ومثالب فلا تظن أنك علمت ما لم يعلم غيرك، أو أنك أدركت ما عجز عنه غيرك. هلا شغلك عيبك عن عيوب الناس؟ وهلا سلكت مسلك النصيحة وعدلت عن الفضيحة؟ وهل علمت أن من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق؟
احفظ حق أخيك وصن عرضه، ففي الحديث: ((من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقًا على الله أن يعتقه من النار))[1]، وفي خبر آخر: ((من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال))[2].
((ومن كانت عنده لأخيه مظلمة من عرضٍ أو مالٍ فليتحلله منها من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم؛ تؤخذ من حسناته، فإن لم يكن أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته ثم طرح في النار))[3].
فاتقوا الله رحمكم الله وسارعوا إلى التوبة واستحلال إخوانكم، وجانبوا الغل والحقد والضغينة والشحناء.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (6/461)، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/184)، والطبراني في المعجم الكبير (24/176). قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، وإسناده أحمد حسن. المجمع (8/95). وكذا حسّن إسناده المنذري في الترغيب (3/333) وانظر غاية المرام للألباني (431).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (2/70)، وأبو داود: كتاب الأقضية – باب فيمن يعين على حقوقه .. حديث (3597)، والطبراني في الأوسط (6491)، وصححه الحاكم (2/27)، وقال المنذري: رواه أبو داود واللفظ له والطبراني بإسناد جيد. المجمع (3/137). وصححه الألباني. السلسلة الصحيحة (437).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الرقاق – باب القصاص يوم القيامة، حديث (6534) بنحوه من حديث أ بي هريرة دون قوله: ((ثم طرح في النار)) فقد وردت في الحديث الآخر عند مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تحريم الظلم، حديث (2581) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون من المفلس؟)) ... الحديث، وفيه: ((فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار)).(/3)
الغيرة
الحمد لله الموصوف بكل كمال، والمنزه عن كل نقص، وأشهد أن لا إله إلا الله له ما وصف به نفسه العلية من غير كيف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه وسيد أصفيائه وأوليائه وإمام أنبيائه، وبعد:
أخرج البخاري في صحيحه كتاب النكاح باب الغيرة عن سعد بن عُبادة لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني". وأخرج عن ابن مسعود قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "ما من أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش وما أحد أحب إليه المدح من الله". وعنده عن عائشة رضي الله عنها قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "يا أمة محمد، ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني، يا أمة محمد لو تعلمون، ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا"(1). ففي الرواية الأولى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رتبتين من مراتب الغيرة أدناهما رتبة سعد بن عبادة ولنتدبر قوله حيث قال: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غيرَ مصْفِح بكسر الفاء على أنها صفة للضارب وحالاً منه وبفتح الفاء على أنها صفة للسيف، أي يضربه بحد السيف وليس بعرض السيف، أي يضربه ضربًا يقتله، حتى نقل ابن حجر في الفتح عند شرحه للحديث قال: تمسك بهذا التقرير- أي من الرسول لسعد رضي الله عنه- من أجاز فعل ما قال سعد وقال: إن وقع ذلك ذهب دمُ المقتول هدرًا نقلاً عن ابن المواز من المالكية(2).
هذه غيرة سيد الأوس رضي الله عنه والتي كانت علامة وشارة مميزة له حتى قال أصحابه من الأنصار فيما ذكره ابن حجر اعتذارًا يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور والله ما تزوج امرأة قط إلا عذراء ولا طلق امرأة فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته.
هذه غيرة سعد رضي الله عنه، وهي الأدنى والأقل من غيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم فوق كل ذلك غيرة من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، حيث أثبت الحديث وغيره من أحاديث الباب هذه الصفة لله تعالى، والواجب إثباتها على الحقيقة اللائقة به سبحانه كسائر صفاته من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، كما قال تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولثبوت هذه الصفة لله تعالى تجلت كما وردت رواية ابن مسعود السابقة: "ما من أحد أغير من الله تعالى من أجل ذلك حرم الفواحش". فقد تجلت في تحريم الفواحش وكما في رواية أبي هريرة عند البخاري قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرَّم الله"، وأما الغيرة في حق الآدمي فهي مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين. قاله عياض رحمه الله(3).
وليس معنى هذا أن القلب لا يتغير إلا عند رؤية الفاحشة فقط إنما نقلت السنة الشريفة ما هو أقل من ذلك بكثير منها ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: كنت أنقل النوى من أرض الزبير على رأسي فجئت يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار فدعاني ثم قال: إخْ إخْ ليحملني خلفه فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أني قد أستحييت فمضى فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد عليّ من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إليّ أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني(4).
فهذه هي الحرة العفيفة بنت صديق الأمة تحترم غيرة زوجها فلا تركب خلف النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت لا تحل له صلى الله عليه وسلم ، في هذه الحالة لوجود السيدة عائشة رضي الله عنها تحته صلى الله عليه وسلم ، والحديث يثبت وجود الغيرة عند الزبير رضي الله عنه لأمرين أولهما: الركوب خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن الأشد من ذلك والأكبر هو ابتذال أهله فيما يشق من الخدمة وأنفة نفسه من ذلك لا سيما إذا كانت ذات حسب فقال: حملك النوى أشد من ركوبك معه صلى الله عليه وسلم ، أين هذا السمو والغيرة من الرجال والنساء اليوم، تركت المرأة مع سائق أو مالك السيارة دون محرم ودون جمع من الناس، دون غيرة من رجالها أو زوجها، وكذلك تكون مبتذلة في الأسواق والطرقات دون غيرة من زوجها أو أولادها، فكان حمل أسماء رضي الله عنها النوى، والخدمة الشاقة لفرس الزبير رضي الله عنه أمر عسير على نفسه ولكن السبب في هذا الصبر من جانب الزبير على ذلك هو شغله بالجهاد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وغيره من الأمور التي يكلف بها.(/1)
ولعظم حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم كانوا يغارون على زوجاته وهن أمهاتهم وكان أعظمهم قدرًا في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي وافقه ربه في ذلك لما قاله البخاري عن أنس قال عمر بن الخطاب يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب وهي كما يقول ابن كثير قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما(5). ولم تقف غيرة عمر رضي الله عنه على أمهات المؤمنين عند حد الاستتار وعدم إبداء أي شيء من أبدانهن بل تجاوزت إلى ما هو أبعد من ذلك لما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة- بعدما ضرب الحجاب- لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب فقال يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين قالت فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرقُ فدخلت فقالت : يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا قالت فأوحى الله إليه ، ثم رفع عنه وإن العَرقَ في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أُذن لكن أن تخرجن لحاجتكن(6).
ويقول ابن حجر في شرحه للحديث: والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرةُ من إطلاع الأجانب على الحريم النبوي حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام: "احجب نساءك" ، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلاً ولو كن مستترات فبالغ في ذلك فمنع منه وأُذن لهن في الخروج لحاجتهن دفعًا للمشقة ورفعًا للحرج(7).
ولقد قَدَّرَ النبي النبي صلى الله عليه وسلم غيرة عمر رضي الله عنه قَدْرها حتى في المنام، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جلوس فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأةُ تتوضأ إلى جانب قصر فقلت لمن هذا؟ قال هذا لعمر فذكرتُ غيرتهُ فوليت مدبرًا" فبكى عمر وهو في المجلس ثم قال: أو عليك يا رسول الله أغار"(8).
فإذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يولي مدبرًا حتى لا يرى امرأة عمر بجوار قصرها، فأين هذا الخلق العظيم من أخلاق الذين في قلوبهم مرض فيقتحمون البيوت على المؤمنات الغافلات من خلال الهواتف والمكالمات والمرسلات، أو قهرًا لأهلها في الظلمات، تالله ما لهؤلاء غيرة وإن قلوبهم لفي موات، ثم أين هذا التوقير النبوي للغيرة المحمودة من كثير من الرجال اليوم الذين خرموا الغيرة فإذا هم يعرضون نساءهم وبناتهم وأخواتهم في الشوارع والطرقات متبرجات مزينات، رخيصات، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
الغيرة منها المحمودة ومنها المرفوضة
لما رواه الإمام أحمد في المسند والنسائي بسند حسن قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في
الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير الريبة"(9).
فعلى الزوجين- وخاصة إن كانا متدينين حقًا- أن يدع كل منهما للآخر مجالاً لمراقبة الله تعالى ومحاسبة ضميره، فلا يعكر كل منهما سعادة الأسرة بالغيرة في غير ريبة، وخاصة إذا التزما حدود الشرع وتجنبا مواطن الشبهات، فعلى الزوجة أن تكون مدافعة عن زوجها لا موظف مخابرات تسأله دائمًا أين كنت، وماذا فعلت، إلى آخر هذه المضايقات، وعلى الزوج إذا التزمت زوجته ستر بدنها وعدم الخلوة بالأجانب ولم تخضع في قولها مع الأجانب فلا يقحم نفسه في ريبة تجلب الشقاء للأسرة بغيرة مذمومة، فالأفرنج كان فرسانهم في القرون الوسطى ليضمنوا عفة نسائهم، كانوا يربطون الأحزمة الحديدية ذات الأقفال حول وسط المرأة ويحتفظون بالمفاتيح معهم! لكن في المجتمع المسلم هناك مراقبة الله سبحانه فلتكن الغيرة في موضعها الصحيح من غير إفراط ولا تفريط.
ما يحدث لو ماتت الغيرة
أولاً: بدلاً أن يغار المرء على أهله مثل رسوله وسلفه الصالح ينشر أسرارهم فيصير من شرار الناس عند الله منزلة لما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن من أشرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها"(11). ومعنى يفضي إليها بالمباشرة والمجامعة، وقد تفعل المرأة كذلك.(/2)
ثانيًا: يستعير لأهله التيوس المستعارة بدلاً من حفظهم وصيانتهم لما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن عقبة ابن عامر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له". وذكر الذهبي عن ابن عمر أن رجلاً سأله فقال: ما تقول في امرأة تزوجتها أحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم فقال له ابن عمر لا إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها وإن كنا نعد هذا سفاحًا على عهد رسول اللَّه #(13)، فموت الغيرة مجلبة للعنة من الله وأوسع أبواب السفاح.
ثالثًا: قد تموت الغيرة حتى يُقر المرء الخبث في أهله فيكون ديوثًا ويستوجب أعظم العقوبات وهو الحرمان من نظر الله تعالى إليه، لما رواه النسائي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلةُ والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى"(14). ويقول الحافظ الذهبي في وصف الديوث: هو من كان يظن بأهله الفاحشة ويتغافل لمحبته فيها أو لغير ذلك ولا خير فيمن لا غيرة له(15).
رابعًا: وإذا قل الغيورون وكثر الديوثون صارت أخلاقهم كأخلاق الحمير، وهذا بين يدي الساعة كما في حديث البزار والحاكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا في الطريق تسافد الحمير". قلت: إن ذلك لكائن؟ قال: نعم ليكونَنَّ. ويقول الألباني مصححًا له: وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعًا وهو: "والذي نفسي بيده، لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق فيكون خيارهم يومئذ من يقول لو واريتها وراء هذا الحائط"(16). فغيرة خير الناس في ذلك الوقت ليست إنكار الفاحشة ولا منعها ولا تغييرها وإنما أن يأخذها بعيدًا عن الطريق العام ويتوارى وراء حائط. نسأل الله ألا يدركنا هذا الزمان ولا ندركه، وأن يستر عوراتنا، وأن يؤمن روعاتنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد(/3)
الجوال
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
إن من علامات ومعجزات نبي الرحمة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - وقوع ما أخبر به من الأمور الغيبية التي ستكون في المستقبل، فقد جاء عند أحمد في المسند من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن، ويكثر الكذب، وتتقارب الأسواق، ويتقارب الزمن"[1].
وفي رواية: "ويكثر الهرج، قيل: وما الهرج؟ قال: القتل"[2].
وقد فسر بعض العلماء "تقارب الزمن" بما وصل إليه الناس اليوم من سرعة التواصل، والتخاطب، والتحاور فيما بينهم.
ومن هذه الوسائل الطائرات، والسيارات، والاتصالات الحديثة من هاتف وانترنت وما إلى ذلك.
وهنا ننبه على وسيلة واحدة من وسائل الاتصال الحديث ألا وهي ما يعرف بـ (الجوال) – النقال- الهاتف المحمول- وما شئت من الأسماء.
وهذه نعمة من الله – عز وجل- على عباده أن يسر لهم كل ذلك، قال الله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} وقال تعالى: { وما بكم من نعمة فمن الله} وقال تعالى: {ألم ترو أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة... }.
فما هو الواجب علينا تجاه هذه النعم؟
إن الواجب باختصار شكر الله عليها، قال الله –تعالى-:{ لئن شكرتم لأزيدنكم}. وقال تعالى: {وإن تشكروا يرضه لكم}.
وشكر هذه النعمة يكون باستخدامها فيما يرضي الله – جل وعلا-، ويكون ذلك باستخدام الجوال فيما ينفع من التواصل بين الأقارب، والتنسيق بين الدعاة في إقامة المحاضرات والندوات، وما إلى ذلك.
وأما استخدامه فيما يغضب الله - عز وجل – من المراسلات والمعاكسات، والتنسيق بين عصابات الإجرام والنهب والسرقة، أو الأذية للمسلمين في مساجدهم، وفي حال صلاتهم بتلك الأصوات والرنات الغنائية المحرمة، فهذا من كفران النعمة، فضلاً على أن فيها أذية للمسلمين والتشويش عليهم في صلواتهم، وسلب لخشوعهم، وإهانة لبيوت الله، وعدم المبالاة بتعظيمها وتكريمها وتشريفها، قال الله- تعالى-: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}. وقال تعالى: { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً}. وقال تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه...} ورفع المساجد يكون بتطهيرها، والعناية بنظافتها، وتقديسها، وعدم أذية روادها، والقادمين إليها، وعدم ارتكاب أي عمل ينافي الأدب معها.
وهناك أمر أخطر من كل ما سبق في قضية الجوال – ألا وهي- عدم إغلاقه وقت الصلاة وسماع خطبة الجمعة، مما يضطر صاحب الجوال إلى إغلاقه، وذلك في وقت سماعه للخطبة، وبفعله ذلك يكون قد تسبب في إهداره لأجر الجمعة، قال صلى الله عليه وسلم: "من مس الحصى فقد لغا"[3].
بل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من دعائم الدين القويم، حث الشارع على عدم الأمر بالمعروف في وقت سماع الخطبة، فقد جاء في الحديث:" إذا قلت لصاحبك - يوم الجمعة- والإمام يخطب أنصت فقد لغوت"[4].
وقد فسر العلماء اللغو في الجمعة أنه لا ثواب له، ولكن جمعته صحيحة وعليه الإثم.
والذي يغلق تلفونه في وقت سماع الخطبة يكون قد ارتكب فعلاً أكبر من الذي مس الحصا.
والأدهى والأمر أن بعض جهال المسلمين، وٍالذين يأتون للجمعة عادة، أو ما أشبه ذلك، ربما يرن جواله، فيقوم بالكلام والتحادث مع من اتصل به والإمام يخطب، وهذا شاهدناه بأعيننا يفعله البعض وخاصة إذا كان في صرح المسجد، الذي يعد جزء من المسجد - ولا حول ولا قوة إلا بالله-.
فيجب على كل مسلم رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، أن يمتثل أوامر الله وأن يجتنب نواهيه، وأن يعظم حرماته وشعائره، وأن يحافظ على المساجد من العبث فيها، وأذية المسلمين الخاشعين الراكعين الساجدين فيها، وأن يقطع كل وسائل الاتصالات بينه وبين الناس، وأن يتصل مع الله – جل وعلا- وذلك بمحافظته على الصلوات الخمس في المساجد مع الجماعة، مع العناية الشديدة بخشوعها، ولا يتأتى ذلك إلا بترك كل ما يشغل عن الله.
وأخيراً: الله الله في احترام المساجد وتعظيمها، وعدم أذية المسلمين العمار لها.
والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
________________________________________
[1] - رواه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم(2772).
[2] - رواه البخاري.
[3] - رواه مسلم.
[4] - رواه البخاري ومسلم.(/1)
الجوال
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
إن من علامات ومعجزات نبي الرحمة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - وقوع ما أخبر به من الأمور الغيبية التي ستكون في المستقبل، فقد جاء عند أحمد في المسند من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن، ويكثر الكذب، وتتقارب الأسواق، ويتقارب الزمن"[1].
وفي رواية: "ويكثر الهرج، قيل: وما الهرج؟ قال: القتل"[2].
وقد فسر بعض العلماء "تقارب الزمن" بما وصل إليه الناس اليوم من سرعة التواصل، والتخاطب، والتحاور فيما بينهم.
ومن هذه الوسائل الطائرات، والسيارات، والاتصالات الحديثة من هاتف وانترنت وما إلى ذلك.
وهنا ننبه على وسيلة واحدة من وسائل الاتصال الحديث ألا وهي ما يعرف بـ (الجوال) – النقال- الهاتف المحمول- وما شئت من الأسماء.
وهذه نعمة من الله – عز وجل- على عباده أن يسر لهم كل ذلك، قال الله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} وقال تعالى: { وما بكم من نعمة فمن الله} وقال تعالى: {ألم ترو أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة... }.
فما هو الواجب علينا تجاه هذه النعم؟
إن الواجب باختصار شكر الله عليها، قال الله –تعالى-:{ لئن شكرتم لأزيدنكم}. وقال تعالى: {وإن تشكروا يرضه لكم}.
وشكر هذه النعمة يكون باستخدامها فيما يرضي الله – جل وعلا-، ويكون ذلك باستخدام الجوال فيما ينفع من التواصل بين الأقارب، والتنسيق بين الدعاة في إقامة المحاضرات والندوات، وما إلى ذلك.
وأما استخدامه فيما يغضب الله - عز وجل – من المراسلات والمعاكسات، والتنسيق بين عصابات الإجرام والنهب والسرقة، أو الأذية للمسلمين في مساجدهم، وفي حال صلاتهم بتلك الأصوات والرنات الغنائية المحرمة، فهذا من كفران النعمة، فضلاً على أن فيها أذية للمسلمين والتشويش عليهم في صلواتهم، وسلب لخشوعهم، وإهانة لبيوت الله، وعدم المبالاة بتعظيمها وتكريمها وتشريفها، قال الله- تعالى-: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}. وقال تعالى: { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً}. وقال تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه...} ورفع المساجد يكون بتطهيرها، والعناية بنظافتها، وتقديسها، وعدم أذية روادها، والقادمين إليها، وعدم ارتكاب أي عمل ينافي الأدب معها.
وهناك أمر أخطر من كل ما سبق في قضية الجوال – ألا وهي- عدم إغلاقه وقت الصلاة وسماع خطبة الجمعة، مما يضطر صاحب الجوال إلى إغلاقه، وذلك في وقت سماعه للخطبة، وبفعله ذلك يكون قد تسبب في إهداره لأجر الجمعة، قال صلى الله عليه وسلم: "من مس الحصى فقد لغا"[3].
بل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من دعائم الدين القويم، حث الشارع على عدم الأمر بالمعروف في وقت سماع الخطبة، فقد جاء في الحديث:" إذا قلت لصاحبك - يوم الجمعة- والإمام يخطب أنصت فقد لغوت"[4].
وقد فسر العلماء اللغو في الجمعة أنه لا ثواب له، ولكن جمعته صحيحة وعليه الإثم.
والذي يغلق تلفونه في وقت سماع الخطبة يكون قد ارتكب فعلاً أكبر من الذي مس الحصا.
والأدهى والأمر أن بعض جهال المسلمين، وٍالذين يأتون للجمعة عادة، أو ما أشبه ذلك، ربما يرن جواله، فيقوم بالكلام والتحادث مع من اتصل به والإمام يخطب، وهذا شاهدناه بأعيننا يفعله البعض وخاصة إذا كان في صرح المسجد، الذي يعد جزء من المسجد - ولا حول ولا قوة إلا بالله-.
فيجب على كل مسلم رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، أن يمتثل أوامر الله وأن يجتنب نواهيه، وأن يعظم حرماته وشعائره، وأن يحافظ على المساجد من العبث فيها، وأذية المسلمين الخاشعين الراكعين الساجدين فيها، وأن يقطع كل وسائل الاتصالات بينه وبين الناس، وأن يتصل مع الله – جل وعلا- وذلك بمحافظته على الصلوات الخمس في المساجد مع الجماعة، مع العناية الشديدة بخشوعها، ولا يتأتى ذلك إلا بترك كل ما يشغل عن الله.
وأخيراً: الله الله في احترام المساجد وتعظيمها، وعدم أذية المسلمين العمار لها.
والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
00000000000
[1] - رواه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم(2772).
[2] - رواه البخاري.
[3] - رواه مسلم.
[4] - رواه البخاري ومسلم.(/1)
الدعاء سلاح المؤمن ... ...
محمد عبد الله الهبدان ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- قصة المتضرع إلى الله 2- سرعة إجابة الله لمن دعاه 3- أسباب رد الدعاء 4- الابتلاء بالمصائب والمحن 5- الابتلاء بالخيرات والعطايا ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
عباد الله: يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار يُكنى أبا مِعْلَق، وكان تاجرا يتجر بمال له ولغيره، يضرب به في الآفاق وكان ناسكا ورعا.
فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح فقال له: ضع ما معك فإني قاتلك .قال ما تريد إلى دمي شأنك بالمال.
قال: أما المال فلي ولست أريد إلا دمك. قال: أما إذا أبيت فذرني أُصلي أربع ركعات، قال: صل ما بدا لك، قال: فتوضأ ثم صلى أربع ركعات.
فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال: يا ودود ياذا العرش المجيد أسألك بعزك الذي لايرام، وملكك الذي لايضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني ثلاث مرات.
فإذا هو بفارس أقبل بيده حربة واضعها بين أُذني فرسه فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله.
ثم أقبل إليه فقال: قم. قال: من أنت بأبي وأمي فقد أغاثني الله بك اليوم؟
قال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت بدعائك الأول، فسمعتُ لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعتُ لأهل السماء ضجةً. ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي دعاء مكروب فسألت الله تعالى أن يُوليني قتله(1).
هكذا عندما تنزل المحن و تشتد الخطوب وتتوالى الكروب وتعظم الرزايا وتتابع الشدائد، لن يكون أمام المسلم إلا أن يلجأ إلى الله تعالى ويلوذ بجانبه، ويضرع إليه راجيا تحقيق وعده، الذي وعد به عباده المؤمنين إذ يقول الله تعالى: وقال ربكم ادعوني استجب لكم [فاطر:60]. ويقول: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [البقرة:186]. فإني قريب ..أجيب دعوة الداع إذا دعان ..أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع تكاليف الحياة في ظل هذا الود، وظل هذا القرب، وظل هذا الإيناس؟ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان أضاف العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه .. ولم يقل: فقل لهم: إني قريب ..إنما تولى بنفسه جل جلاله الجواب على عباده بمجرد السؤال فقط!، قريب .. ولم يقل أسمع الدعاء ..إنما عجل بإجابة الدعاء: أجيب دعوة الداع إذا دعان .. إنها آية عجيبة .. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤُنس، والرضى الُمطمئن، والثقة واليقين .. ويعيش منها في جناب رضيّ وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين ،قال عليه الصلاة والسلام: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له))(1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسأل الله يغضب عليه))(2).
أيها الأخوة في الله: في ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة الحية .. يلفت الله تعالى نظر عباده المؤمنين إلى قضية كبرى وهي أن قضية إجابة الدعاء معلقة بالإستجابة التامة له، والإيمان به فقال: فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون الاستجابة الكاملة التي تعني السير على المنهج الأوحد الذي اختاره الله لعباده وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [الأنعام:153]. الاستجابة لله تعالى التي تعني الانقياد التام لأمره ونهيه والتسليم لقضائه والخضوع لجنابه، وبدون ذلك ربما تتعذر الإجابة.
والمتأمل في أوضاع الأمة يلحظ أنها في كثير من مواطنها وأوضاعها اختارت غير ما اختار الله، ودانت بمناهج على غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلطت عليها السبل، واصطبغت بغير صبغة الله، تغيرت أحوالهم، وفرطوا في دينهم، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، أكلوا الربا، وفشا فيهم الفحش والزنا ،تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،و اتبعوا خطوات الشيطان، وتمادوا في معصية الرحمن، وهذه كلها أسباب في عدم إجابة الدعاء، لأن الذنوب والمعاصي قد تكون حائلة من إجابة الدعاء(*)خاصة أكل الحرام، ذكر عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه: "أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجا فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم: أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إليّ أكفاً قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن حين اشتد غضبي عليكم، لن تزدادوا مني إلا بعدا"(3).(/1)
وقال عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس إن الله طيب لايقبل إلا طيبا))، الحديث وفيه: ((ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك))(1).
ولنا أن نتعجب كما تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الرجل الذي اجتهد في الدعاء، وأخذ بأسباب الإجابة من إطالة السفر، وتواضع المظهر والتضرع في الدعاء! فتشنا تلمسنا نظرنا فوجدنا أن الرجل غارق في لجة الحرام! إذاً كيف يستجاب لمثل هذا! وهو قد جعل طعامه وشرابه وملبسه من حرام!!
عباد الله: إن إجابة الدعاء معلقة بصدق اللجأ والتضرع إليه ،وعدم استعجال الإجابة، وصدق التوبة التي تجعلنا نعود إلى المنهج الذي ارتضاه الله لنا وسار عليه نبينا وسلكه أسلفنا، و أن نقطع الصلة بماضي الآثام، ونستصلح أنفسنا في مستقبل الأيام مع الحذر من الكسب الحرام أو الدعاء بالإثم وقطيعة الأرحام.
عباد الله: إن من المصيبة كل المصيبة والرزية كل الرزية أن يحال بين المرء وبين الدعاء عندما تنزل به الملمات وتشتد به الكروبات، فلا يضرع إلى الله ولا يلجأ إليه بأن يكشف الله ضره ويفرج همه، ولقد بين الله تعالى في القرآن نموذجاً من الواقع التاريخي، نموذج يعرض ويفسر كيف يتعرض الناس لبأس الله، وكيف تكون عاقبة تعرضهم له، وكيف يمنحهم الله الفرصة بعد الفرصة، ويسوق إليهم التنبيه بعد التنبيه، فإذا نسوا ما ذكروا به، ولم توجههم الشدة إلى التوجه إلى الله والتضرع له ودعائه، ولم توجههم النعمة إلى الشكر والحذر من الفتنة، كانت فطرتهم قد فسدت الفساد الذي لايرجى معه صلاح، وكانت حياتهم قد فسدت الفساد الذي لاتصلح معه للبقاء، فحقت عليهم كلمة الله، ونزل بساحتهم الدمار الذي لاتنجو منه ديار .. فقال تعالى: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبسلون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [الأنعام:42-45].
في هذه الأيات عرض لنموذج متكرر في أمم شتى .. أمم جاءتهم رسلهم، فكذبوا، فأخذهم الله بالبأساء والضراء، في أموالهم وفي أنفسهم ،في أحوالهم وأوضاعهم .. البأساء والضراء التي لا تبلغ أن تكون "عذاب الله" الذي هو التدمير والاستئصال.
لقد أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم، وينقبوا في ضمائرهم وفي واقعهم، لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرعون إلى الله، ويتذللون له، ويدعون الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة، بقلوب موقنة، فيرفع الله عنهم البلاء، ويفتح لهم أبواب السماء .. ولكنهم لم يفعلوا ما كان حريا أن يفعلوا، لم يلجأوا إلى الله، ولم يرجعوا عن عنادهم وعصيانهم، ولم تَرُدَ إليهم الشدة وعيهم، ولم تفتح بصيرتهم، ولم تلين قلوبهم، وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم ما هم فيه من الضلال والعناد: ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون .
والقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله، قلب تحجر فلم تعد فيه نداوة تعصرها الشدة! ومات فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس! وتعطلت أجهزة الاستقبال الفطرية فيه، فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة، التي تنبه القلوب الحية للتلقي والاستجابة، والشدة ابتلاء من الله للعبد، فمن كان حياً أيقظته، وفتحت مغاليق قلبه، وردته إلى ربه، وكانت رحمة له من الرحمة التي كتبها الله على نفسه .. ومن كان ميتا حُسبت عليه، ولم تفده شيئا، وإنما أسقطت عذره وحجته، وكانت عليه شقوة، وكانت موطئة للعذاب!
وإذا كانت الشدة لم تفد في تلك الأمم فالله تعالى يملى لهم ويستدرجهم بالرخاء: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون .
إن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة ،وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)) ثم تلا: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون تأمل يارعاك الله قوله: فتحنا عليهم أبواب كل شيء تلك الأرزاق والخيرات والمتاع متدفقة عليهم كالسيول، بلا حواجز ولا قيود! وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولاكد ولا حتى محاولة!(/2)
حتى إذا فرحوا بما أوتوا وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة، واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها بلا شكر ولا ذكر، وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه، وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة، وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع، بعد فساد القلوب والأخلاق، وجر هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها .. عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فكان أخذهم على غرة وهم في سهوة وسكرة فإذا هم حائرون منقطعو الرجاء في النجاة، عاجزون عن التفكير في أي اتجاه فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين .
بارك الله. . .
(1) سلاح اليقظان لطرد الشيطان لعبدالعزيز السلمان ص138
(1) رواه مسلم ورقمه (1261) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) رواه الترمذي ورقمه (3295) وابن ماجه ورقمه (3817)من طريق أبي المليح المدني .. والحديث رجاله ثقات وأبو المليح وثقه ابن معين وابن حبان والذهبي .
(*) أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي ص24 .
(3) نقلا من الجواب الكافي ص25
(1) رواه مسلم ورقمه (1015) . ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
عباد الله: من أحب أن يوفق للجوء إلى الله تعالى عند الشدة والبلاء فليلزم الدعاء والتضرع إليه حال الرخاء والشكر على النعماء، وليسأل ربه اللطف في القضاء والعافية من البلاء قال عليه الصلاة والسلام: ((من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء))(1).
أيها المسلمون: لقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم إذا أهمه أمر رفع رأسه إلى السماء فدعا يتلمس الفرج والنجدة من رب السماء، وكم له صلى الله عليه وسلم من الدعوات عند الكروب ونوازل الخطوب فعندما آذته ثقيف جلس صلى الله عليه وسلم إلى ظل شجرة ورفع رأسه إلى السماء ضارعا يقول: ((اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي)) الحديث.
وعندما نازلته قريش في بدر رفع رأسه ويديه إلى السماء وأخذ يدعو الله ويضرع إليه حتى أتم الله له النصر وبعث إليه ملائكة تقاتل مع جيشه.
فاتقوا الله عباد الله وتضرعوا إليه، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، ولا تقعدنكم عن الدعاء الغفلة أو الركون إلى ضلال الضالين وشبه المنحرفين، فإن للدعاء أثره الواضح الفعال في تحقيق الرغائب وبلوغ الآمال، وحسبك أنه هو العبادة التي تفتح بها أبواب الرحمة إذا توجه به العبد إلى ربه راغبا راهبا نال رضاه وبلغ به فوق ما تمناه ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لايحب المعتدين ولاتفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين [الأعراف:55-56].
هذا وصلوا على . .
(1) رواه الترمذي من حديث سلمان ورقمه (3304) وقال عنه الترمذي هذا حديث غريب .وفيه عبيد بن واقد وسعيد بن عطيه وكلاهما ضعيف .محمد. ... ...
... ...
... ...
المصدر:موقع المنبر(/3)
الرؤى والأحلام
" سلمان بن يحي المالكي "
معنا في هذه الليلة موضوعٌ مهم يتناوله الإعلام والناس في مجالسهم وفي أطروحاتهم، وهو موضوعٌ مسيس الحاجة إليه، في بيان أحاكمه وأحواله، إنه موضوع الرؤى والمنامات في أحوالها ومناطاتها، فإن موضوع تعبير الرؤى والأحلام أيها الأحبة، موضوع راج سوقه في هذا الوقت، وعظُم الاهتمام به، في طبقاتٍ عدة من الناس، فاحتاج هذا الموضوع إلى إيضاح وتفصيل لأحكامه تبصرة وذكرى، وتنبيها على الأخطاء المتعلقة به، ومن تلك الأحكام ما يلي:
أولا: قد صح في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم " الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءا من النبوة " ووجه ذلك والله أعلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثةِ بستة أشهر كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وكانت مُدة نبوته في مكة والمدينة ثلاثا وعشرين سنة، فصح أن ستة أشهر بالنسبة لثلاثة وعشرين سنة جزء من ستة وأربعين جزءاً وقيل غيرُ ذلك من الأقوال في هذه المسألة والله تعالى أعلم .
ثانيا: قسم العلماء رحمهم الله تعالى ما يراه الناس في مناماتهم إلى ثلاثةِ أنواع وأقسام:
أولا: الرؤى الصالحة وهي من عندِ الله تعالى بُشرى وفرح وتطمين وتثبيت لهذا المؤمن .
الثانية: حُلُم مؤذ من الشيطان، وهو تحزين وتخويف وأذى، وربما سماه بعض العوام بالكابوس .
الثالث: أضغاث أحلام، وحديثُ نفس لا أثر له وربما رجع حديثُ النفس إلى أحد النوعين السابقين، إما أن يكون رؤيا صالحة أو حلما مؤذٍ من الشيطان .
إذا فالحاصل أن المعتبر هو في القسمين الأولين . إما أن تكون الرؤيا من الله فرح وتطمين، أو من الشيطان حزن وتخمين .
ثالثا: من أحكام الرؤى:
أن للرؤى الصالحة أحكام واعتبارات، يجب مراعتُها والتنبه لها، فهي أولا: بشرى وتطمين من الله جل وعلا لهذا الرائي، ولهذا الرؤيا الصالحة لا تعدوا أن تكون من جنسِ المبشرات، وثانيا: ينبغي حمد الله تعالى على هذه الرؤيا والثناء عليه بها، لأنها نعمة تفضَل الله بها على عبده يبشره ويطمنه ويسكن قلبه بها، وثالثا: أن لا يحدث بها الإنسان إلا من يحب، ويتمنى له الخير، ولا يعرضها إلا على لبيب عالم ناصح، يضن فيه الخير وهو من أهل الصدق والأمانة، وليحذر في هذا الباب، أهلَ الهوى وأهل التعالُم والدعاية والتعبير وهم لا يعرفون .
رابعا من أحكام الرؤى:
أن الحلُم الذي هو تحزين وإفزاع من الشيطان له أحكام صحت بذلك السنة والنبوية، يجب مُراعاتها والعمل بها، فيجب على الرائي لهذه الرؤيا أن يراعي الأحكام التالية:
أولا: أنك إذا رأيت حُلُما مفزعا فانتبهت من نومك، يجب عليك أن تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأن الشيطان هو سبب هذا التحزين، فتتعوذ بالله من الشيطان ومن شره ثلاثا في جهتك اليسرى .
ثانيا: تتعوذ بالله من شر ما رأيت، ثلاث مرات، فإن إذا فعلت ذلك لا تضرك بإذن الله تعالى .
ثالثا: تنفث عن يسارك ثلاث مرات تحزينا لهذا الشيطان الذي أفسد عليك وحزن عليك حلمك في نومك .
رابعا: تتحول من الجنب الذي أنت عليه إلى جنب آخر، فإن كنت نائما على جانبك الأيمن فرأيت هذا الحلُم ثم تعوذت بالله من الشيطان ومن شر ما رأيت ثلاثا وتفلت، فانتقل إلى الجانب الأيسر، وإن كنت على جانبك الأيسر فانتقل إلى الأيسر، وإن كنت على ظهرك مستلقيا فانتقل إلى جانبك الأيسر .
الخامس: أنه إذا تكررت عليك هذا الحلُم والرؤيا المزعجة، فقم وتوضأ وصل لله ركعتين، واعلم أنها لا تضرك إن شاء لله . السادس: أنه يجب عليك ألا تتحدث بهذا الحلم أو تنشغل به، أو تشغل به نفسك وخاطرك بالتفكير فيه، فإنه لا يضرك والحالة هذه، كما يجب أن تتنبه ألا تسأل عن تعبير هذا الحلم وتفسيره لأنه لا يعدوا أن يكون من عدوك الشيطان حزينا لك وتخويفا وإفزاعاً، وإهمالك له وعدم انشغالك به، دحرا لهذا الخبيث، وراحة لبالك، وطمأنة لنفسك، وتوكلا واعتماداً على ربك جل وعلا .
المسألة الخامسة مما يتعلق بتعبير الرؤى وأحكامها:
أنه يجب العلم أنه لا يترتب على هذه الرؤى أيا كانت سواء رؤى من الله تعالى في بابا البشرى والتطمين أو حلما من الشيطان، أنه لا يترتب على هذه المنامات أيةُ أحكام شرعية دينية أو اعتقادات لأن العلم و القول والاعتقاد مبني على الوحي الشريف من كلام الله تعالى القرآن وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الصحيحة فقط، ولا ينبني من الرؤى من الأحكام والاعتقادات والأحوال شيء، وإنما الذي يبني على هذه المنامات الأحكام والاعتقادات هم الصوفية وأهل البدعة والخرافة والشعوذة وبعض الطوائف والفرق وأهل الهوى على الرؤى المنامية يعولون أحكاما شرعية واعتقادات دينية وتأملات وتصورات ورجما بالغيب وكل ذلك ليس بصحيح، بل هو دائر أن يكون من الهوى أو من الشيطان، ولهذا هؤلاء يعتبرون المنامة مصدرا من مصادرِ الديانة بالإلهام وهذا أمر خطير جدا على العقيدة قبل أن يكون خطيراً على السلوك والعمل .(/1)
المسألة السادسة: أنه يجب على المسلم العاقل ولا سيما أخواتُنا من النساء ومن ضِعاف الإيمان: يجب عليهم الحذر من مُدعي التعبير من المتعالمين والجهال وأهل الكذب والشعوذة والخرافة والكهانة الذين يدّعون علم الغيب، ويروجون على الناس بدعوى تعبير المنامات، وأن لا يعرضَ المسلم ما يشُدُ الحاجةَ إلى تعبيره من منامه، إلا على أهل العلم والصدق والخبرة والدِيانة فقط، ويحذر مِن سواهم أشد الحذر، سلامة لعرضه وبراءة وصِيانة لعقيدته ودينه .
المسألة السابعة:
أنه لا يسوغُ للمؤمن أن يسأل عن كل رؤى ومنام رآه، بل يكون عاقلا فطنا، كما لا يليق به أن يضيع أوقاته للجلوس لتعبير الرؤى، أو نشر الهواتف والعنوانين، والمراسلات عبر وسائل الإعلام من إنترنِت وقنوات وهواتف وبريد وغيرها، وإبراز وسائل الإعلام للقضايا الشخصية والمنامات الخاصة، فإن هذا من عدم الستر، ومن الترويج الفاسد لهذه البضاعة الكاسدة، ومن تضليل الناس وتشويه عقولهم وقلوبهم، مع ينساق لهذا العبث: حب الشهرة والظهور وعطف الناس إليهم مما هو فتنة للناس ولهم . والمنار والمدار في هذا كله إنما هو تقوى الله عز وجل وعلى مخافته ومراقبته وخشيته، واخشى أن ينصرف الناس عبر تطاول الزمن على الوحيين في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الوهام والظنون والأهواء من خلال التعلق بالرؤى والمنامات وما يجره ذلك من الخرافات فينزلق في مهاوي التصوف وشطحات الصوفية لا سيما إذا كان المعبر من العوام وأوساط المتعلمين، ولا أظن دعوى ادعاء المهدي المنتظر عنا ببعيدة وما جرته على البلاد والعباد وحرم الله تعالى من الفتنة الهوجاء، وإنما كان ذلك بسبب هذه الرؤى المنامية، وما انبنى عليها من الأحكام والاعتقادات الدينية والعقدية، والله المستعان وهو المسئول أن يلهمنا رشدنا، ويوفقنا في الفقه في دينه، ويرزقنا الثبات عليه وأن يتولانا برحمته، وأن يختم لنا برضوانه، وأن يعيذنا من أسباب الفتنة في النفس والعرض والدين، هو سبحانه ولي التوفيق والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(/2)
... ... ...
الرزق ... ... ...
عبدالحميد الداغستاني ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- الله خير الرازقين. 2- الرزق مكتوب فلا تستبطئوه. 3- الله ضامن لكل مخلوق رزقه فإن شاءه العبد بالحلال بلغه وإلا فبالحرام. 4- الأسباب لا تهب الرزق. 5-الاقتصاد في طلب الرزق. 6- تفاوت الأرزاق حكمة لا يعلمها إلا الله. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد :
فإن الله سمى نفسه الرزاق: أي كثير الرزق فقال: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات:58]. بل هو سبحانه وتعالى خير الرازقين: وإن الله لهو خير الرازقين [الحج:58].
كيف لا يكون خير الرازقين وهو الذي يرسل الملك بعد مضي أربعة أشهر وبضعة أيام إلى رحم المرأة فينفخ في الجنين الروح ويؤمر بكتب أربع: يكتب: رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد.
فالرزق مقدر معلوم، والإنسان في بطن أمه لم يكتمل بناء أو تشكيلاً، فلا يزيد رزقه عند خروجه على ما كتب ولا ينقص. روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: (( إن روح القدس (4) نفث (5)في روعي (1) أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها، ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته ))(2).
نعم لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فلماذا إذا يسرق السارق ، ويرتشي المرتشي ، ويختلس المختلس ، ويرابي المرابي ويتقاضى الفائدة طالما أن رزقه آتيه لا محالة ، إنه لو استقرت هذه الحقيقة في ذهنه لما عصى الله وتجرأ على محارمه فالمولى جل وعلا ضمن حتى للبهيمة العاجزة الضعيفة قوتها: وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم [العنكبوت:60].
فكم من الطير والبهائم ما يدب على الأرض تأكل لوقتها ولا تدخر لغد فالله يرزقها أينما توجهت ، وعندما يقول لنا سبحانه: الله يرزقها وإياكم فإنه يسوي بين الحريص والمتوكل في رزقه ، وبين الراغب والقانع ، وبين القوي والضعيف فلا يغتر جلد قوي أنه مرزوق بقوته ، ولا يتصور العاجز أنه ممنوع من رزقه بعجزه، وعندما يخاطبنا الله في محكم آياته فيقول: وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [هود:6]. فإنه يضمن للخليقة جمعاء رزقها فضلا منه لا وجوبا عليه، ووعداً منه حقاً، فهو لم يخلق الخلق ليضيعهم .
ولربما يخيل للبعض أنه بعلمه وقوته وفطنته يتحصل على الرزق، وليس الأمر كذلك، فالله أضاف الرزق إلى نفسه إذ يقول: كلوا واشربوا من رزق الله [البقرة:60].
فإذا تحصل الإنسان على رزقه بوسيلة أو بسبب ما فليعلم أن الله هو واهبه هذه الوسيلة، وهذا السبب وهما كذلك من رزق الله.
نعم قد يغفل الإنسان في وقت ما فيصرف بصره تلقاء الأسباب الأرضية في الحصول على الرزق. هنا تأتي الإجابة سريعا لترد الأمور إلى نصابها ولتوقظ هذه الغفلة: وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون [الذاريات:22-23].
فعندئذ يتعلق القلب بالله أولاً وآخرا لا بالسبب الأرضي الحقير، ومن يهتم بالرزق اهتماماً يجاوز الحد المشروع فإننا نقدم له حديث رسول الله الذي يرويه الطبراني وفيه يقول: (( إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله ))(2).
فالاهتمام الزائد بشأن الرزق فيه شغل للقلوب عن علام الغيوب وعن القيام بحق المعبود. وقد قال بعضهم لآخر: (اجتهادك فيما ضمن لك وتقصيرك فيما طلب منك دليل على انطماس بصيرتك).
ويقول لرجل: من أين تأكل؟ فقال: الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين والذي شدق الأشداق هو خالق الأرزاق .
ذكر الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بإسناده : أن الأشعريين أبا موسى وأبا عامر وأبا مالك في نفر منهم لما هاجروا وقدموا على رسول الله … وقد أرملوا (3) من الزاد، فأرسلوا رجلاً منهم إلى رسول الله يسأله، فلما انتهى إلى باب رسول الله سمعه يقرأ هذه الآية: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [هود:6]. فقال الرجل: ما الأشعريون بأهون الدواب على الله.
فرجع ولم يدخل على رسول الله ، فقال لأصحابه: أبشروا أتاكم الغوث ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله فوعده، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة لبن لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله ليقضي به حاجته فقالوا للرجلين: اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله فإنا قد قضينا منه حاجتنا.
ثم إنهم أتوا رسول الله فقالوا: يا رسول الله ما رأينا طعاماً أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به قال : ما أرسلت إليكم طعاماً، فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم، فسأله رسول الله فأخبره ما صنع وما قال له ، فقال : )) ذلك شيء رزقكموه الله ((.
(4) روح القدس هو جبريل عليه السلام .(/1)
(5) نفث : أوحى وألقى ، من النفث بالفور ، وهو أقل من التفل لأن التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق ، النهاية في غريب الحديث والأثر 5 / 88 .
(1) روعي : نفسي وخلدي ، المرجع السابق 2 / 277 .
(2) أخرجه البغوى في شرح السنة 14 / 304 . وقال: رجاله ثقات لكنه مرسل، وله شواهد كثيرة يتقوى بها الحديث ويصح روى بنحوه الحاكم 2 / 4 على شرط مسلم ، وصححه ابن حبان << 1084 >> .
(2) وأخرجه ابن أبي عاصم عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، السنة 1 / 116 .
(3) أرملوا : إذا نفذ زادهم ، وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل ، النهاية في غريب الحديث والأثر 2 / 265 . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله رب العالمين الذي ضمن الرزق للمؤمن والكافر ، الحمد لله الذي يعطي الدنيا من يحب ومن يكره، ولا يعطي الدين إلا من يحب، بسط رزقنا وجمع فرقتنا ولم شملنا، فله الحمد حمدا كثيرا طيباً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أثنى على عباده الشاكرين ووصفهم بأنهم الأقلون فقال: وقليل من عبادي الشكور [سبأ:13].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وإمام المتقين ، فصلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فإن العبد إذا أيقن أن الرزق بيد الله وأنه آتية لا محالة تفرغ لأداء المهمة التي خلقه الله من أجلها، وهي العبادة بمفهومها الشامل (2) … وعند ذلك يمكنه أن يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم ، فلا يخشى فصلاً من عمل ، أو طرداً من وظيفة ، أو حرمانا من تجارة فرزقه فيه لا محالة .
وهو عندما يبذل سبباً للحصول على الرزق يبذله وهو عزيز النفس رافع الرأس، فليس لأحد منة عليه، بل المنة والفضل لله جميعاً.
وهناك حقيقة أخرى يجب أن تعلمها وهي أن الله عندما قسم الأرزاق جعل بينها تفاوتا: إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيراً بصيراً [الإسراء:30].
ولو أعطى الله الخلق فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير [الشورى:27].
إنه سبحانه وتعالى يرزق عباده بالقدر الذي فيه صلاحهم، فيغني من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر. جاء في الحديث القدسي: (( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لافسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه ))(1).
عباد الله إن للرزق جوالباً منها صلة الرحم ، فمن أحب أن ينسأ له في عمره ويوسع له في رزقه فليصل رحمه .
ومنها الاستغفار والتوبة وطاعة الله ، قال رسول الله : (( من لازم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ، ومن كل هم فرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب ))(2)رواه أبو داود.
ومنها كذلك صدق اليقين والتوكل على الله مع بذل الأسباب قال : (( لو أنكم كنتم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً (3) وتروح بطاناً ))(4) رواه الترمذي.
(2) فهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات .
(2) سنن أبي داود : كتاب الصلاة ، باب في الاستغفار 2/ 85 .
(3) أي تذهب في الصباح جياعا ، وترجع مساء وهي ممتلئة الجوف ، النهاية في غريب الحديث والأثر 2/8.
(4) سنن الترمذي : كتاب الزهد ، باب في التوكل على الله 4/ 573 . ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/2)
الفتور
المظاهر – الأسباب - العلاج
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
أولاً: مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)([1]).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)([2]).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)([3]).
أما بعد، أيها الأخوة المؤمنون: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
بادئ ذي بدء أشكر الله -جل وعلا- الذي يسر وسهل وأعان لهذا اللقاء، وأسأله التوفيق والتمام، ثم أشكر مكتبة "دعوتي" في شرق الرياض في منطقة "النسيم" وما حولها الذين نظموا هذا اللقاء، وأخص بالشكر القائمين على هذا المسجد؛ فهم لهم السبق -جزاهم الله خيرا- باستضافة هذه الحلقة التعليمية التربوية، فلهم مني جزيل الشكر والدعاء، ولكم - أيها الأحبة -؛ حيث جئتم لسماع هذه الكلمات، التي أسأل الله -جل وعلا- أن تكون خالصة موفقة نافعة بإذن الله.
وإن كان لي من عتب فهو على أخي الشيخ محمد في تقديمه -حفظه الله- فلست أهلا لهذه المقدمة التي قالها.
ولا أقول هذا -أيها الأخوة- والله تواضعا، ولكنها الحقيقة، ولكنني ألتمس منه وادعوه أن يرفق بإخوانه، فإن النفس البشرية ضعيفة، ونسأل الله الثبات.
ثانياً: لمن هذا الموضوع؟
أيها الأحبة: هذا اللقاء هو لقاء مع موضوع عشت معه سنوات طويلة، ولا أكتمكم إذا قلت: إن بداية اهتمامي بالموضوع تربو على أربع سنوات؛ لأنني كنت مقتنعا بأهمية هذا الموضوع وخطورته، ولكنني لم أكن، ولكنني لم أجد أن الوقت قد حان لإلقائه لسببين:
السبب الأول: أنه لم يكتمل بالصورة التي أريدها ولا أدعي -أيضا- كماله في هذا اليوم.
والسبب الثاني: أنني وجدت الحاجة ماسة -أكثر من أي وقت مضى- للوقوف مع موضوع الفتور؛ حيث بدأت ألمس وأرى وأشاهد هذه المظاهر في واقع المسلمين، وفي شباب الصحوة على وجه الخصوص، فقلت: لا بد من تدارك الأمر قبل استفحاله، لنعالج هذه القضية التي قد لا يحس بها كثير من الناس.
إن من أخطر مظاهر الفتور: أن الكثير لا يدركون خطورته إلا بعد فوات الأوان؛ فلذلك رأيت أن الوقت قد حان للوقوف معه، ونظرا لطول الموضوع ولأهميته لم أرض أن ألقيه في محاضرة تكون مختصرة، وإنما رغبت أن يكون في دروس متصلة، أقف وقفات متأنية لنلامس، ونعالج هذه المشكلة معالجة، لعلها تساعد وتعين في التخلص من هذا الداء، وهذا البلاء.
وهنا يأتي سؤال -أيها الأحبة-: لمن هذا الموضوع؟ موضوع الفتور لمن؟
قد يتصور البعض أن موضوع الفتور يصلح لمن أصيب بداء الفتور، وأذكر أن أحد الأحبة علم اهتمامي بالموضوع، فقال: إنني أريد أن أدعو مجموعة من الأخوة الذين أحس أن الفتور قد دب في أوصالهم، لتتحدث معهم، قلت له: لا، اجمع لي أنشط الأخوة فهم أحوج إلى هذا الموضوع من الذي دب الفتور فيهم؛ لأن الذي قد دب الفتور فيه، أو بعبارة أصح: "قد تأصل فيه" أمره وشأنه أقل خطرا -في رأيي- من الذي لم ينتبه إلى خطورة الفتور، فيقع فيه.
أن أقف مع أولئك الشباب، وأولئك من طلاب العلم والعلماء، والدعاة الذين في قوة نشاطهم وعزيمتهم، هم أحوج إلى هذا الموضوع ممن دب الفتور في أوصاله، أو تمكن فيه؛ فلذلك أقول:
إن هذا الموضوع هو: لطلاب العلم، وللدعاة وللمربين وللشباب الذي يفتقدون حماسا،
أخيرا هو للفاترين: فليسوا عندي عندما وجهت هذا الموضوع لهم بالدرجة الأولى إنما وجهته لغيرهم وأخص المربين بصفة أخص.
نقطة أخرى: إن درس اليوم -أيها الأخوة- عن تعريف الفتور ومظاهره، أعتبره مقدمة لما يأتي بعده، وأخص درس الغد.
فإن أسباب الفتور التي سأتحدث فيها غدا -إن شاء الله- هي لب الموضوع وأساسه؛ ولذلك آمل ألا يتعجل متعجل، أو أن يدب الفتور فيه وهو يستمع إلى هذه المقدمة، فأقول له: رويدك، وآمل أن تواصل المشوار حتى ننتهي، ولك الحكم بعد ذلك؛ لأن أسباب الفتور هي التي جلست معها قرابة أربع سنوات، أعالجها وأبحث فيها، وأتلمس أسبابها من أطرافها.(/1)
ولهذا فأقول: إنه من الاعتراف بالحق، لا أدعي أنني أتيت بهذا الموضوع من جهدي الخاص لا، بل لقد التقيت خلال هذه السنوات بعدد كبير من المشايخ والعلماء، وطلاب العلم، والدعاة وبعض الشباب، وقرأت أغلب ما كتب في موضوع الفتور، فما ألقيه عليكم هو جهد شارك فيه غيري، فجزاهم الله عني وعنكم خير الجزاء.
ومع ذلك هو جهد بشر يعتريه النقص، ويعتريه التقصير، ويأبى الله الكمال إلا لكتابه -جل وعلا-.
النقطة الأخيرة: أقول: هذا الموضوع هو موضع علمي تربوي يلامس الواقع ويعالجه؛ ولذلك آمل أن تجدوا ما جئتم تبغونه من خلال هذه الساعات التي نقضيها هذا اليوم، وبعد اليوم بإذن الله.
ثالثاً: تعريف الفتور
فأقول مستعينا بالله -جل وعلا- ومتوكلا عليه ومصليا ومسلما على رسوله صلى الله عليه وسلم
ما هو الفتور؟
قبل أن أعرفه من الناحية اللغوية، أريد أن أنبه أن تركيزي في هذه الدروس يتعلق بالفتور في طلب العلم، والدعوة إلى الله، وسيدخل في ذلك تبعا وضمنا بقية أنواع الفتور، كالفتور في العبادة ونحوها، ولكن التركيز ينصبُّ على هذين الأمرين، كما ستلاحظون بإذن الله عند الحديث في مظاهر الفتور وأسبابه وعلاجه.
ما هو الفتور؟
عرف علماء اللغة الفتور بعدة تعريفات متقاربة، يكمل بعضها بعضا، ويوضح بعضها بعضا.
قال في مختار الصحاح: الفترة: الانكسار والضعف، وطرف فاتر: إذا لم يكن حديدا، أي قويا، وقال ابن الأثير: والمفتر الذي إذا شرب أي الذي إذا شرب أحمى الجسد، وصار فيه فتور، وهو ضعف وانكسار؛ ولذلك يسمى الخمر من المفترات، وبعض الحبوب، وبعض المسكرات التي يستخدمها بعض الناس تسمى من المفترات؛ لأنها تحدث في الجسم ضعفا وخورا وفتورا.
يقال: أفتر الرجل فهو مفتر: إذا ضعفت جفونه، وانكسر طرفه وقال الراغب: الفتور، تعريف جميل للراغب -رحمه الله- الراغب الأصبهاني في مفردات القرآن قال: الفتور: سكن بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)([4]) أي سكون حال عن مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلموقوله: لا يفترون، أي لا يسكنون عن نشاطهم في العبادة.
وقال ابن منظور: وفتر الشيء، والحر، وفلان يفتر فتورا وفتارا: سكن بعد حدة، ولان بعد شدة.
ونخلص من هذا: إلى أن الفتور: هو الكسل والتراخي، والتباطؤ بعد الجد، والنشاط والحيوية.
نخلص بعد هذا من هذه التعريفات إلى أن الفتور: هو الكسل والتراخي والتباطؤ بعد الجد والنشاط والحيوية.
قال ابن حجر -رحمه الله، ورحم من سبقه-: الملال استثقال الشيء، ونفور الناس عنه بعد محبته، وهو داء يصيب بعض العباد والدعاة وطلاب العلم، فيضعف المرء ويتراخى ويكسل، وقد ينقطع بعد جد وهمة ونشاط.
رابعاً: أقسام المصابين بداء الفتور
المصابون بداء الفتور ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قسم يؤدي بهم الفتور إلى الانقطاع كلية، وهم كثير، قسم يؤدي بهم الفتور إلى الانقطاع يكون من العباد، فيترك العبادة يكون من طلاب العلم الجادين، فيترك طلب العلم، يكون من الدعاة المعروفين، فينقطع نشاطه.
النوع الثاني: قسم يستمر في حالة الضعف والتراخي دون انقطاع، وهم الأكثر، أكثر من يصاب بالفتور يبقى معه بعض الأثر من جده ونشاطه، ولكن ينخفض نشاطه وعلمه وجده كثيرا إلى أكثر من نسبة سبعين أو ثمانين بالمائة، إذا أردنا أن نستخدم نسبة الأرقام.
هؤلاء هم الأكثر بحيث تجد أن الشخص من الدعاة، أو من طلاب العلم، فبدل أن كان عنده مثل خمسة دروس في الأسبوع إذا هو يقتصر على درس واحد، بدل أن كان يعمل في اليوم قرابة عشر ساعات إذا هو يعمل ساعة أو أقل، وهلم جرا، بدل إن كان ينفق في سبيل الله كثيرا إذا هو لا ينفق إلا القليل، هذا هو النوع الثاني.
النوع الثالث: قسم يعود إلى حالته الأولى، أو بعبارة أصح إلى قرب حالته الأولى؛ لأنه قليل أو نادر أن يعود إلى حالته الأولى، قسم يعود إلى قرب حالته الأولى وهم قليل جدا؛ لأن أثر الفتور قد يبقى، ويؤثر في الإنسان.
أدلة الفتور من الكتاب والسنة: وأريد أن أشير قبل أن أتجاوز أقسام الناس في الفتور إلى أن هناك قسم بعض الناس يؤدي به الفتور -والعياذ بالله- إلى الانحراف، ولكن لم أتحدث عن هذا النوع؛ لأن غالبا النوع الذي يؤدي به الفتور إلى ترك العمل هم منهم قسم كبير يؤدي بهم الأمر إلى الانحراف -والعياذ بالله- فقد رأينا أناسا كانوا في غاية النشاط، والعبادة والصلاح، ورأيناهم بعد حين، وقد انحرفوا عن الجادة -والعياذ بالله-.
لا زلت أتذكر شابا، دخلت في مسجد من المساجد في يوم من الأيام قبل صلاة المغرب، فإذا هو في المسجد عليه آثار الانكسار والذل والخشوع بين يدي الله وآثار العبادة عليه بادية، فوالله لقد أثر علي مشهده ومنظره، ثم مضت السنوات فرأيته، وليتني لم أره رأيته شابا قد وقع فيما يغضب الله -جل وعلا- وانحرف، نسأل الله الثبات والعافية.(/2)
أنا لا أتحدث هنا عن الانحراف، ولكنني أنبه إلى أن الفتور من أعظم أبواب الانحراف.
إن الفتور مرحلة وسطية بين العبادة والدعوة والعلم والانحراف، قل أن تجد إنسان عابدا وداعية ومعلما أو متعلما وينحرف مباشرة، أقول: موجود، ولكنه قليل جدا.
إن ما يحدث أن يفتر أولا، أن يضعف أولا، ويعيش سنوات في ضعف، ثم الإنسان لا يستقر على حالة واحدة، إن لم يتداركه الله برحمته، ويعود يستمر في الانحدار حتى يقع في الانحراف -والعياذ بالله-.
خامساً: أدلة الفتور من القرآن
أدلة الفتور من الكتاب والسنة:
ورد لفظ الفتور، ومعناه في عدة آيات وأحاديث من الكتاب والسنة، وسأذكر بعض هذه النصوص، لإلقاء مزيد من الضوء حول معنى الفتور، وسيكون ذكري لها باختصار، دون تعليق طويل، وإن كنت سأفصل فيها -بإذن الله- عند ذكر الأسباب
قال الله -تعالى- مثنيا على الملائكة: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ)([5]).
أي لا يضعفون ولا يسأمون، وجاء في آية مشابهة:
(يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ)([6]) والسأم هو الفتور، وقال سبحانه -مما يدل على معنى الفتور-: (وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ)([7]) كتابة الديون يفتر الإنسان عنها؛ ولذلك نبه الله -جل وعلا- قال: (وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ)([8]).
لو سألت الأخوة، قد تجد كل واحد من الموجودين، أو بعبارة أصح أن أغلب الموجودين إما له دَين أو عليه دَين، ولكن كم منهم يكتب هذا الدَّين؟ قليل جدا، قليل من يسجل ما له، وما عليه؛ ولذلك تلاحظون في الإعلانات بعد أن يتوفى بعض الناس يعلن أهله وورثته: من له عليه أو من له على فلان دين فليأت، ما معنى هذا؟ أنه لم يسجل ولم يقيد؛ فلذلك نبه الله إلى هذه النقطة الخفية، التي أقول: إن أغلبنا قد وقع فيها (وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ)([9]).
السأم هو الفتور، قد يتحمس الآن الواحد، ويخرج ويكتب مرة ويكتب مرتين، ويكتب ثلاثا ثم بعدين -إن شاء الله- غدا بعد غدٍ ثم ينسى ويسأم، ثم تقع المشكلات بعد ذلك، ويقع الخلاف ويقع الخصام.
أيضا يقول -جل وعلا-: (لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ)([10]) صحيح نعم، وهو قول الباري -جل وعلا- الإنسان لا يفتر من دعاء الخير لنفسه، دائما يدعو الله -جل وعلا- فيما يخصه من الخير، أما غير ذلك من العبادات، فالسأم والفتور موجود.
وقال -جل وعلا- عن أهل النار: (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)([11]) النار مستعرة شديدة لا يمكن أن تقل أو تضعف لحظة واحدة (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ)([12]) لا تنقطع ولا تضعف ولا تخبو لحظة واحدة (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)([13]) وقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ)([14]) وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)([15]) أي انقطاع، ومما يدل في معنى قوله تعالى يصف المؤمنين: (وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)([16]).
سادساً: أدلة الفتور من السنة
أما الأحاديث: فهي كثيرة جدا، وأذكر بعض هذه الأحاديث، وهي نص في الموضوع، أو في معناه عن أنس رضي الله عنه قال: " دخل النبي صلى الله عليه وسلمفإذا حبل ممدود بين ساريتين " ([17]) دخل المسجد، فإذا حبل ممدود بين ساريتين " فقال: ما هذا الحبل؟ " يقول صلى الله عليه وسلم" قالوا: هذا حبل لزينب " ([18]) زينب: هي زوجة الرسول صلى الله عليه وسلممن أمهات المؤمنين " هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به " ([19]) تقوم تصلي، فإذا فترت فترت، وكسلت تعلقت بالحبل حتى تنشط.
وأذكر أنني كنت في زيارة للجنوب لجيزان، فزرت بيت الشيخ الإمام العلامة: حافظ حكمي -رحمه الله- وقابلت أخاه هناك في بيته، فذكر لي أن الشيخ حافظ كان يجلس يكتب في الليل المناهج والكتب ويؤلف، فإذا أحس بتعب قد علق حبلا في خشبة وتعلق به حتى يذهب النوم ويعود على الكتابة، من جده؛ ولذلك تعرفون أن العلامة حافظ حكمي توفي وعمره خمسة وثلاثون سنة، وخلف هذا الأثر العظيم من العلم والكتابة والتلاميذ، مع أن سنه خمس وثلاثون سنة عندما توفي -رحمه الله-.
كان يعمل الليل والنهار، وقد، وهو لا ينطبق عليه هذا الحديث لاختلاف الموضعين، واختلاف الحال والمحل وحاجة الناس فالرسول صلى الله عليه وسلملما قال: لماذا هذا الحبل؟ قالوا: لزينب فإذا فترت تعلقت به، أنشط لها ولإذهاب الفتور، قال صلى الله عليه وسلم" لا، حلوه، ليُصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد " ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر وتعب وكسل فلينم، وهذه من رحمة الله -جل وعلا-.(/3)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلماستمعوا يا شباب، استمعوا يا أصحاب الجد، انظروا كيف يخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلموكيف يدلنا على العلاج، يقول صلى الله عليه وسلم" إن لكل شيء شرة، ولكل شرة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فأرجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه " ([20]).
وقد ورد الحديث بألفاظ أخرى " لكل عمل نشاط " فترة شرة ونشاط وقوة " ولكل شرة فترة " ([21]) كل عمل -هذا كلام المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
وأذكر أن أحد الأخوة يقول: كان في غاية نشاطه، هذا الكلام منذ ثلاث سنوات، كان قويا ونشيطا، وكنت وكنا وقوفا، فجاء أحد الأخوة وسلم عليه، وقال: يا فلان -فلان من كبار العلماء، لا أريد أن أذكر اسمه- أحد كبار العلماء يبلغك السلام، ويقول لك: إنني أدعو لك بالتوفيق، ولكنني أذكرك بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم" إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة " ([22]).
يقول هذا الأخ: لما انصرف المُبلغ، يقول: صحيح بلغ الحديث، لكن هل يمكن أن أفتر؟ يقول -عن نفسه-: كان في غاية النشاط، ما مر على هذا الكلام إلا سنتان، فإذا هو قد فتر قليلا، وخف نشاطه.
إذا " لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة " ([23]) وفي الحديث الآخر عن ابن عباس رضي الله عنه في نفس نص الحديث، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: " لكل عالم شرة، ولكل شرة فترة، فمن فتر إلى سنتي فقد نجا، وإلا فقد هلك " ([24]).
وقال صلى الله عليه وسلمعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " كانت مولاة للنبي صلى الله عليه وسلمتصوم النهار، وتقوم الليل، فقيل له: إنها تصوم النهار، وتقوم الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمإن لكل عمل شرة، والشرة إلى فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك، فقد ضل " وفي رواية: " فقد هلك " .
وعن عبد الله بن عمرو قال: " ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلمقوم يجتهدون في العبادة اجتهادا شديدا فقال: تلك ضراوة الإسلام وشرته، ولكل عمل شرة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد فنعماه، ومن كانت فترته إلى المعاصي، فأولئك هم الهالكون " ([25]).
" وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلمدخل عليها وعندها امرأة فقال: من هذه؟ قالت: هذة فلانة تذكر من صلاتها فقال: مه " ([26]) عائشة -رضي الله عنها- أثنت عليها ثناء كثيرا، أنها تصلي، وتقوم الليل، فقال الرسول صلى الله عليه وسلممه أي اسكتي، كفى عن هذا المدح " مه: عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا " ([27]).
وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه.
وأختم بهذا الحديث: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فتركه " ([28]).
إذا -أيها الأخوة-: هذه أحاديث ونخلص من هذه الأحاديث إلى:
أن كل إنسان يصاب بالفترة لكن -وبالفتور- هناك من يصاب بالفتور قليلا، ثم يعود كما كان أو أحسن، وهناك من يصاب بالفتور، وهو الهلاك، وهو الذي نقصده في هذا الحديث.
ليس حديثي عن الذي يصاب بالفتور قليلا ثم ينشط، هذا ليس هو مجال حديثي، ولا يخلو منه أحد، ولا يسلم منه أحد، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلملكنني أتحدث عن النوع الآخر من الفتور؛ أولئك الذين يفترون عن العمل، ويضعفون ثم يهلكون -والعياذ بالله-.
سابعاً: آثار عن السلف في الفتور
انظروا بعض الآثار عن السلف:
قال ابن مسعود: لما بكى في مرض موته رضي الله عنه إنما قيل له: ما يبكيك؟ قال: إنما أبكي؛ لأنه أصابني في حال فترة، ولم يصبني في حال اجتهاد، لما أصابه مرض الموت بكى قال: لأنه أصابني المرض، وكنت في حال فترة، ضعف، ويا ليت المرض أصابني وأنا في حال اجتهاد، وفرق بين من يصاب بمرض وهو في حال نشاط واجتهاد، وبين من يصاب بمرض وهو في حال فتور؛ لأن المريض والمسافر يكتب له ما كان يعمل في حال صحته، فبكى رضي الله عنه.
وعنه رضي الله عنه قال: " لا تغالبوا هذا الليل فإنكم لن تطيقوه، فإذا نعس أحدكم فلينصرف إلى فراشه، فإنه أسلم له " .
وقال الإمام النووي شارحا لحديث عائشة -رضي الله عنها-:
فيه الحث، الذي هو حديث عائشة، عندما قال لها الرسول صلى الله عليه وسلممه، فيه الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق، والأمر بالإقبال عليه بنشاط، وأنه إذا فتر فليقعد حتى يذهب الفتور.
قال ابن القيم، خذوا هذه الكلمات من الإمام ابن القيم -رحمه الله-:
تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، السالكين العباد طلاب العلم تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم رجي له أن يعود خيرا مما كان.(/4)
ابن القيم وضع لنا حدا قال: إذا أصيب أحدكم بفتور، لا بد أن يصاب بالفتور، المهم ألا توصله حدا وضعه ابن القيم -رحمه الله-، وهو من معنى الأحاديث السابقة لا توقعك في محرم، ولا تجعلك تتخلى عن فرض.
ولذلك ورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن النفس لها إقبال وإدبار، لاحظوا كلام جميل من الإمام علي رضي الله عنه النفس لها إقبال وإدبار، فإذا أقبلت فخذها بالعزيمة والعبادة، وإذا أدبرت فأقصرها على الفرائض والواجبات، أو كما قال رضي الله عنه لاحظتم هذه القاعدة وهي مهمة ستأتي -إن شاء الله- في أسباب الفتور لكنني أؤكدها هنا.
بعض الناس تكون نفسه منصرفة، فيه ثقل، فيجبر نفسه على ماذا؟ على النوافل ما الذي يحدث؟ يبدأ يحس بثقل شديد في النوافل، حتى بعد فترة طويلة، لا، إذا قصرت نفسه وثقلت، فاتركها لكن لا تتخلى عن الفرائض والواجبات، وإذا أقبلت نفسك، انشرحت فخذها بالعزيمة.
أحيانا تجد من نفسك رغبة في الصلاة، العبادة، فإذا وجدت هذه الرغبة، خذ النفس فيها، وأحيانا تحس بثقل، فأقصرها على الأقل، ولو تقصرها على الوتر ثلاث ركعات، أو ركعة واحدة.
أحيانا تجد عندك النفس مقبلة لقراءة كتاب الله -جل وعلا- فخذها، ولو تقرأ في اليوم عشرة أجزاء، وأحيانا تجد ثقلا فأقصرها على وردك اليومي، وحتى لو تركت الورد، وإن كان هذا يحدث خللا كما ذكر ابن تيمية، فإنك تعود أقوى -بإذن الله- إلى ذلك.
النفقة: أحيانا تجد في نفسك إقبالا على النفقة في سبيل الله، فخذها دون إفراط، وأحيانا تجد ثقلا فأقصرها على ما تستطيع وترغب ولا تكرهها؛ لأن هذا تكون آثاره خطيرة بعد ذلك.
ثامناً: مظاهر الفتور
التكاسل عن العبادات والطاعات
بعد ذلك أنتقل إلى النقطة التي -المسألة التي أيضا- رأيت في الإعلان عنها، وهي مظاهر الفتور:
بعد هذه المقدمات بتعريف الفتور، وأدلة الفتور من الكتاب والسنة، وتعريف العلماء وكلام العلماء والسلف في الفتور، نقف الآن حسبما يناسب المقام مع مظاهر الفتور، وإن كنت -أيها الأخوة- وأنا أنبه الآن إلى مظاهر الفتور أقول لكم: إن هذه المظاهر اجتهدت في تلمسها من الواقع، وفي بعض ما ذكره طلاب العلم، ولكن قد يكون الذي يصاب بالفتور أدرى الناس بالفتور الذي يصاب به، لماذا؟
طالب العلم الداعية يدرك الفتور من أول ما يقع فيه، بينما الذي يراقب الحالة، كالمربي والمعلم والشيخ، قد يجلس فترة طويلة حتى يكتشف الفتور، فأقول: يا أخي الكريم من هذا الكلام أنت أدرى الناس بمظاهر الفتور، ومع ذلك سأجتهد أن أبين هذه المظاهر لسببين:
للإنسان نفسه إن كنت وقعت في هذا الداء الذي سأشير إلى بعضه فانتبه لنفسك.
وثانيا: هي للدعاة وللمربين، انتبه يا أخي الكريم، أيها الداعية، يا طالب العلم، أيها المربي، انتبه لمن حولك من طلابك وتلاميذك.
أيها الأب: انتبه لأولادك، إن وجدت شيئا من هذا الداء فإنه قد بدأ المرض يدب في أوصاله، فتداركه قبل فوات الأوان.
أبرز مظهر من مظاهر الفتور كلنا نعرف: التكاسل عن العبادات والطاعات، مع ضعف وثقل أثناء أدائها، ومن أعظم الصلاة، قال -سبحانه وتعالى- واصفا المنافقين (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً)([29]).
وقال -جل وعلا-: (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)([30]) هذا مظهر يا أخي إذا كنت تجد وأنت تقوم إلى الصلاة الفريضة ثقلا، فأنقذ نفسك، تدارك نفسك؛ لأن هذه صفة من صفات المنافقين -والعياذ بالله-.
لأن الصلاة -أيها الأخوة- والفرائض والواجبات لا مجال للفتور فيها، انتبهوا قد نتجاوز عن فتورك في بعض النوافل، قد يتجاوز عن فتورك في بعض الطاعات، قد يتجاوز عن فتورك في بعض العبادات والأعمال، لكن في الفرائض فلا، إن وجدت أنه إذَا أذّنَ قلت: باقي ثلث ساعة، ثم قلت: سألحق تكبيرة الإحرام، وإذا ذهبت فإذاك تقول: متى يأتي الإمام، وإذا تأخر دقيقة فنجد الدقة المتناهية عندك، تدرك كم تأخر الإمام دقيقة أو دقيقتين، وأنت تضيع الساعات، الساعة والساعتين.
وإذا أطال الإمام الصلاة، متوسط الصلاة سبع دقائق مثلا، نَقُل: صلاة العصر أو الظهر فتجد البعض اليوم يقول: الإمام طول، أصبحت تسع دقائق، لكنه لو يسمح له، ويقال: أنت لك غدا موعد مع وزير من الوزراء، أو مسئول من كبار المسئولين، لك ربع ساعة، قال: ما تكفي، فإذا دخل وجلس نصف ساعة قال: والله كأنها دقيقة، نصف الساعة كأنها دقيقة.
سبحان الله!، مع الله -جل وعلا- الصلاة صلة بين العبد وربه تحصي الفرق الدقيق أن الإمام زاد نصف دقيقة أو دقيقة أو دقيقتين، وما شاء الله تجد الحفظ الدقيق للأحاديث التي فيها الأمر بتخفيف الصلاة، حافظ هذه الأحاديث يمكن بأسانيدها، لكن اسألوا عن الأحاديث التي فيها إطالة الصلاة لا يعرف منها شيئا، ففيه ثقل في العبادة.(/5)
أقول: أنقذ نفسك، التثاقل عن الصلاة صفة من صفات المنافقين، ومظهر من أبرز مظاهر الفتور، ويدخل في هذا تبعا الضعف عن قيام الليل، وصلاة الوتر، وأداء السنن الرواتب، وبخاصة إذا فاتته، فقلّ أن يقضيها، ومن ذلك الغفلة عن قراءة القرآن وعن الذكر.
ومثل ذلك الشيطان هو الشيطان على كل حال، لا شك هو خبير، إذا جئت تنام أردت أن توتر قال: لا الوتر آخر الليل أفضل لك، إي والله صحيح أفضل، ثم إذا نمت وأردت أن تقوم قبل الفجر، قال: نام بَكِّرْ، إذا أذن الفجر قال: ما ينجيك، ويكرر هذا الأمر مرارا، ولا نتوب ولا نتعود.
والعلاج، قد تسألني: ما العلاج؟ يا أخي أقول لك: العلاج كما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلمأبا هريرة " أوصاني خليلي بثلاث " ([31]) صلى الله عليه وسلممنها: " وأن أوتر قبل أن أنام " ([32]) نعم، وإذا هيأ الله لك أن تقوم آخر الليل، ما فيه مانع تقوم سواء أوترت، وهناك العلماء ذكروا كيف يوتر الإنسان، ولو أوتر آخر الليل، أما يتخذ الشيطان هذه الوسيلة قبل أن تنام يقول: لا آخر الليل أفضل لك، هو عارف أنك ما أنت قايم، وإلا حقيقة لو يعرف أنك ستقوم قال: لا، أفضّلُ لو توتر أول الليل، أخشى ما تقوم، خبير في هذه الأمور.
ولذلك مما ذكر ابن الجوزي أن زكريا -عليه السلام- لم يقم في ليلة من الليالي لقيام الليل، فجاءه الشيطان وقال له: أتعلم لماذا لم تقم الليل؟ قال: لا، قال: لأنك أكثرت طعاما كثيرا، أكلت طعاما كثيرا فأكثرت، قال: والله لا أكلت طعاما بعدها قبل أن أنام، قال الشيطان: وأنا -والله- لا أنصح أحدا بعدك بعد اليوم.
الله، مشكلة هذه، ما دام ثقل الطعام سيسبب أنه ما يقوم، وهذا فعلا سبب صحيح، قال: ما راح آكل طعاما أبدا، وفعلا جرب نفسك لا تأكل يوما من الأيام، أو كل المغرب، كما كان آباؤنا يفعلون، ما شاء الله، ما في أخف من قيام الليل، وما في أسهل من قيام لصلاة الفجر.
لكن الواحد إذا جاء، وأكل مما لذ وطاب كيف يقوم؟ فأقول: هذا مظهر من مظاهر الفتور.
الشعور بقسوة القلب وخشونته
من مظاهر الفتور: الشعور بقسوة القلب وخشونته، فلم يعد يتأثر بالقرآن والمواعظ، ورانت عليه الذنوب والمعاصي، قال سبحانه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)([33]) ويكاد يصدق عليه وصف الله لقلوب اليهود (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً )([34]).
ويصل من قسوة قلبه ألا يتأثر بموت، ولا ميت، ويرى الأموات، ويمشي في المقابر وكأن شيئا لم يكن، وكفى بالموت واعظا، وأعظم من ذلك عدم تأثره بآيات الله -جل وعلا- وهي تتلى عليه، ويسمع آيات الوعد والوعيد فلا خشوع ولا إخبات، والله -جل وعلا- يقول: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)([35]) ويقول -جل وعلا-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً)([36]).
وصلت الحال الآن من مظاهر الفتور في المقابر بعض الناس يأتون تبع جنازة، ويبيعون ويشرون في المقبرة، طبعا حريصون على عدم تضييع الوقت -جزاهم الله خيرا- نعم يبيعون ويشترون وهم تابعون جنازة، يخرجون من المقبرة، ويتحدثون في الدنيا ويأتون إلى الجنازة، ويتحدثون في الدنيا، وكأن شيئا لم يكن، حتى رأيتهم في مقبرة العود يدفنون الجنازة، والدخان بأيديهم، هذا ما هو فتور، هذا تعدى حدود الفتور -والعياذ بالله-.
لكن ألا تلمسون من أنفسنا أننا نتبع بعض الجنائز، وقل منا من يتأثر، والله أبدا ما سمعت الجيد الذي يتأثر أثناء الخبر، وبعد ربع ساعة يرجع إلى بيته وكأن شيئا لم يكن، ويذهب إلى أهله ولا يحس أهله بشيء، لا يحس أهله بشيء، أرأيتم هذا المرض؟
إلف الوقوع في المعاصي والذنوب
من مظاهر الفتور:
ويصل الفتور إلى درجة أبعد، إذا ألف الوقوع في المعاصي والذنوب وقد يصر على بعضها ولا يحس بخطورة ما يفعل، ويقول: هذه صغيرة، وتلك أخرى وهلم جرا، وقد يصل به الأمر إلى المجاهرة.
والمصطفى صلى الله عليه وسلميقول: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين " ([37]) وأشير هنا إلى أن هناك فرقا بين الفتور والانحراف، ولكنني قد بينت هذا قبل قليل.
عدم استشعار المسئولية الملقاة على عاتقه
ومن أبرز مظاهر الفتور: عدم استشعار المسئولية الملقاة على عاتقه، والتساهل والتهاون بالأمانة التي حمله الله إياها، فلا تجد لديه الإحساس بعظم هذه الأمانة، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)([38]).(/6)
أرأيتم -أيها الأخوة- هذا المظهر هو مما نشكو منه الآن، وهذا من أخطر الأدواء: عدم إحساس كثير من الناس بالمسئولية التي ألقيت على عاتقهم، يسمع أخبار المسلمين فلا يتأثر، يسمع أحوال أمته فلا يتحرك قلبه، قد يرى مظاهر تحدث في الشوارع من بعض السفهاء ولا يقشعر قلبه.
أنا أسألكم أعطيكم مقياسا عمليا قريبا خلال اليومين الماضيين، أو الثلاثة الأيام الماضية رأيتم بعض تصرفات بعض السفهاء، وسمعتم، وأنا رأيت بعيني بعض هذه التصرفات، وغيري رأى تصرفات يندى لها الجبين، والله والصحف نشرت صورا لمثل هذه التصرفات، من منا تحرك قلبه؟ وعندما تحرك قلبه ماذا فعل؟
هل حافظ على أبنائه لا يقعوا في هذا البلاء؟ هل زار العلماء والمشايخ ونبههم إلى خطورة ما يجري؟ ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)([39]).
سفه والله يندى له الجبين، فهل هذا أثر في حياتنا أو أننا نتسلى في هذه الأخبار؟ أو أننا ربما نتحمس ونقول: والله تصرفات من شباب لا يقدرون المسئولية، شباب لم يربهم أهلهم، شباب فعلوا، بعدين ماذا فعلنا بعد ذلك ما هي النتيجة؟ هل كان هذا الأمر موجودا قبل سنوات؟ لا فهذا مقياس أنا أعطيك إياه ليدل على: هل أنت عندك فتور أو ما عندك فتور؟ عدم استشعار المسئولية.
نسمع عن مصائب إخواننا في الصومال وفي البوسنة والهرسك، فهل هذا يؤثر فينا؟ وصلت إخوانكم في البوسنة والهرسك إلى أنهم لا يجدون ما يأكلون، البيضة بلغت اثني عشر ريالا، ومن يجد اثني عشر ريالا وأنتم تجتمعون طبق البيض بسبعة ريالات، والريالات موجودة في جيوبكم أيضا، هم لا يجدون شيئا، انتهاك الحرمات في البوسنة، اغتصاب النساء هل أثر فينا أو ما أثر؟.
هذا مقياس، إذن استشعار المسئولية هذا من المقاييس المهمة، ومن أسوأ المظاهر انفصام عرى الأخوة بين المتحابين، وضعف العلاقة بينهم، بل قد يصل الأمر إلى الوحشة بينهم، ومن ثم التهرب والصدود والبعد والجفا، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلماستمعوا إلى هذا الأثر، هذا الحديث أنه قال: " ما تواد اثنان في الله عز وجل أو في الإسلام، فيفرق بينهما أول ذنب " ([40]) وفي رواية " ففرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما " ([41]).
استوحاش الأصحاب الصالحين
من علامات الفتور: أن الإنسان يكون له أصحاب، إذا وجدهم فرح بهم، إذا كلموه بالهاتف لمس أهله السرور على وجهه، وبعد فترة وبعد زمن فإذا هو يتوحش ويستوحش منهم، إذا قيل له: إن فلانا على الهاتف قال: اصرفوه، إذا قيل له: إن فلانا عند الباب قال: اعتذروا منه، إن لاقاه في الشارع أو في مناسبة من المناسبات فإذا بينهما وحشة، ومجاملة وثقل ويتمنى متى ينصرف عنه، هذه من علامات الفتور.
فبعد الحب وبعد اللقاء وبعد الأخوة في الله -جل وعلا- فإذا هو يتحول إلى جفاء، وإلى نفور، وإلى وحشة، بسبب ذنب أحدثه أحدهما أو كلاهما.
فيميل الإنسان إلى العزلة، أو يستعين بإخوانه السابقين، آخرين يسجون وقته ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وهذه هي المشكلة، يبدأ الشاب يتهرب عن زملائه، كان مع زملائه في المدرسة، كان مع إخوانه في الكلية، كان مع أصحابه في المسجد كان، فإذا بدأ هو يتهرب شيئا فشيئا، والنتيجة أحد أمرين: إما عزلة وانقطاع وهذا قليل، الأكثر الإنسان مدني بطبعه يبحث عن رفقة آخرين فيقع في يد رفقة سيئة يؤدون به -والعياذ بالله- إلى الانحراف.
فتجد هذا الشاب الذي كان محبا نشيطا، فإذا هو قد فتر وضعف ثم انحرف -والعياذ بالله-.
الاهتمام بالدنيا والانشغال بها عن العبادة وطلب العلم
من مظاهر الفتور: الاهتمام بالدنيا، والانشغال بها عن العبادة، وطلب العلم والدعوة إلى الله، والدنيا حلوة خضرة، فقلّ أن ينجو منها أحد.
عرفنا أناسا بطلب العلم، عرفناهم بالدعوة إلى الله، عرفناهم بالنشاط، عرفناهم في مكتبات المساجد، عرفناهم في جمعيات المدارس، الآن ما هي أخبارهم؟ اللهاث وراء الدنيا، نحن لا نقول: إن طلب الدنيا حرام، لا، لكن بدلا إن كان يكتفي من الدنيا بالكفاف فإذا هو يلهث وراء هذه الدنيا، وإذا هو قد ترك العمل الذي هو فيه، وإذا هو حتى قد ترك العلم، وما بقي معه من العلم إلا قليلا، أو لم يبق معه شيء، وإذا هو يكتفي بالحوقلة والاستعاذة، هذا مظهر من مظاهر الفتور.
كثرة الكلام دون عمل يفيد الأمة وينفع الأجيال(/7)
من مظاهر الفتور: كثرة الكلام دون عمل يفيد الأمة، وينفع الأجيال، فتوجد هذا النوع يتحدثون عما عملوا سالفا وكنا وكنا، وكنت وكنت، ويتسلون بهذا القول عن العمل الجاد المستمر، والله -جل وعلا- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)([42]) وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم" ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل " ([43]).
هذا النوع الآن كثير، شباب طيبون، ما شاء الله فيهم خير، والله لكن تجد جلساتهم أحاديث وكنا وكنا وكنا، ونفعل، وأذكر منا ممن درسنا بعض مشايخنا جاءوا من دولة عربية أو من بعض الدول العربية، وكانوا دائما يقول لنا: ونحن في الكلية عندما كنا دعاة، عندما كنا دعاة، عندما كنا مع الدعاة، سبحان الله، والآن فعلا هم لم يعودوا دعاة، ويتسلون ويحدثوننا عما فعلوا طيب لماذا لا تحدثوننا عما تفعلون الآن وعما ستفعلون غدا؟.
ما عندهم شيء كنا كذا، كنا نفعل كذا، كنت عندما كنت طالبا أفعل كذا، كنت خطيبا في مسجد، ووالله حتى أصبحت نكتة على أمثال هؤلاء، كنت وكنت، هذا بلاء موجود الآن، هناك نوعية الآن من الناس فئة من الشباب يتسلون بالماضي، لكن لا تجد عندهم عملا في الحاضر، ولا عملا في المستقبل، هذا مظهر من مظاهر الفتور.
الغلو والاهتمام بالنفس
من مظاهر الفتور: الغلو والاهتمام بالنفس، مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا، فبعد أن كان لا يلقي لهذه الأشياء بالا إلا في حدود ما شرع الله، فإذا هو قد أصبح يبالغ فيها، يبالغ في ثيابه، يبالغ في مسكنه، بدل ما كان لا يبالي إلا في حدود الشرع (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)([44]) فإذا السيارة ما شاء الله من أحسن السيارات، وتنظيفها يوميا، والثوب كل يوم يغيره، أو كل يومين، والله أذكر أنني لقيت داعية، أو واحدا من هؤلاء، مع أن فيه خيرا كثيرا، لكن لم يعد هو الذي كنا نعرفه قبل سنوات.
إذا سافر لمدة عشرين يوما يأخذ أكثر من عشرين أو خمسة عشر ثوبا، عنايته بثيابه عجيبة جدا، نحن ما نقول: إن الإنسان لا يلبس الجميل، لا والله لا، لكن في حدود الكفاف " البذاذة من الإيمان " ([45]) في حدود الكفاف.
النظافة مطلوبة نعم، لكن ادخل إلى بيته، تجد البيت الذي كأنه من القصور، فالعناية، الاهتمام الزائد، المبالغة، الغلو فبعد أن كان هذا الشخص لا يلقي لهذه الأمور بالا، وينشغل في العبادة وفي العلم وفي الدعوة إلى الله.
أحد السلف قيل له ابن عقيل الحنبلي لماذا تسف الكعك، وتلتهمه وتلحقه بالماء، ولا تغط الخبز بالمرق؟ قال: وجدت بيْن لَهْمِ الكعك أي سف الكعك، وإلحاقه بالماء، وغط الخبز بالمرق قراءة خمسين آية، طيب وين ابن عقيل عن وجباتنا، كم عندنا من نوع؟ وكم عندنا من الطعام؟ وكم نجلس على المائدة؟.
شيء عجيب يا إخوان، فبعد أن كان هذا الشاب يأكل ما يأتي، ولا يفكر الآن يقيم الدنيا مع أهله ومع زوجته، الله يعين زوجته عليه، الطعام فيه كذا، ولماذا الطعام ما فيه كذا؟ لماذا ما وضعت إلا نوعين أو ثلاثة؟ سبحان الله الملابس لو يأتي يوم يجد الثوب ما كوي لو يجد الثوب، تأخرت زوجته أو أخته أو أمه بكي الثوب أقام الدنيا ولم يقعدها، لكن الأمر بسيط، والمسألة سهلة حفظك الله.
فالعناية، حتى وصلت والله ببعض الشباب، وهم طيبون فيهم خير، فيهم صلاح يعتنون بملابسهم والله أكثر من بعض النساء، نعم وتجده أمام المرآة يهتم في مظهره، لا يا أخي الكريم، لا تبالغ هذه المبالغة (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)([46]).
فمن مظاهر الفتور: العناية الزائدة في المأكل، والملبس والمركب والمسكن، هذا نوع من أنواع يصاب به الإنسان.
انتفاء الغيرة، وضعف الإيمان، وعدم الغضب إذا انتهكت محارم الله
أيضا: انتفاء الغيرة، وضعف الجذوة -الإيمان- وعدم الغضب إذا انتهكت محارم الله، فيرى المنكرات ولا تحرك فيه ساكنا، ويسمع عن الموبقات وكأن شيئا لم يكن، وقد يكتفي بالحوقلة والاسترجاع إن كان فيه بقية
ما لجرح بميت إيلام ... ... من يهن يسهل الهوان عليه
أكمل -إن شاء الله- ما باقي إلا القليل بعد الأذان مباشرة -إن شاء الله-.
بسم الله الرحمن الرحيم.
وقبل أن أبدأ أذكر الإخوان بسنة نسيها الكثير، وهي الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلمبعد انتهاء الأذان.
السُّنَّة أن نتابع المؤذن، وأن نقول مثلما يقول إلا في الحوقلة، إلا في الحيعلة فإن الإنسان يحوقل، فإذا انتهى أكثر الناس مباشرة يقول:(/8)
اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، وأنا أقول: هذا من تأثير ما يسمعون أحيانا في الإذاعات أو غيرها، ولا بأس هذا الدعاء وارد، لكن السنة أن نصلي على الرسول صلى الله عليه وسلمثم نقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة الدعاء المأثور، فمحافظة على السنة وإحياء لها بارك الله فيكم.
ضياع الوقت وعدم الإفادة منه
أقول: أختم هذه المظاهر بهذه المظاهر السريعة من مظاهر الفتور:
ضياع الوقت وعدم الإفادة منه، وتسجيته بما لا يعود عليه بالنفع، وتقديم غير المهم على الأهم، والشعور بالفراغ الروحي، والوقت وعدم البركة في الأوقات، وتمضي عليه الأيام لا ينجذ فيها شيئا يذكر.
الآن كثير من الناس، وهو مصاب بداء الفتور يقول: والله تغير الزمان، أنا ما أستفيد من وقتي، لا يا أخي الكريم ما تغير الزمان العيب فيا:
وما لزماننا عيب سوانا ... ... نعيب زماننا والعيب فينا
ولو نطق الزمان بنا هجانا ... ... ونشكو ذا الزمان بغير حق
فمن مظاهر الفتور: ضياعة الوقت، وهذه شكوى عامة، دليل أن هناك بلاء؛ ولذلك نجد أن الجادين ما عندهم وقت.
أعطيكم مثالا واحدا:
سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز -حفظه الله- وثبته على الحق وبارك في عمره، يقول أحد من يعرفه معرفه جيدة: إنني منذ عدة سنوات والله ما رأيته أضاع خمس دقائق، خمس دقائق التي هي ثلاثة مائة ثانية، مع أنه يعمل يوميا قرابة ثمانية عشر ساعة في الدعوة، والعلم والعبادة، وعمره فوق الثمانين، بارك الله في عمره، هل يمكن أن نقول عن سماحة الشيخ: عبد العزيز أنه فتر؟ أبدا لكن أولئك الذين يضيعون أوقاتهم أمرهم عجيب.
المظهر الثاني من مظاهر الفتور: الأخيرة لأني أعطيتها أرقاما جديدة مظهر انتبهوا له يا شباب أنا نعم أركز، اسمحوا لي أخص الشباب لأسباب هم يعرفونها، لكثرة ما يقعون في هذا الأمر، ولأن من شبَّ على شيء شاب عليه.
على ما كان عوده أبوه ... ... وينشأ ناشئ الفتيان منا
عدم الاستعداد للالتزام بشيء والتهرب من كل عمل جدي
من مظاهر الفتور: عدم الاستعداد للالتزام بشيء، والتهرب من كل عمل جدي خوفا من أن يعود إلى حياته الأولى، هكذا يسول له شيطانه زخرف القول غرورا، يتهرب ما يلتزم بشيء، مستعد يذهب مع زملائه في رحلة، مستعد يحضر بعض الدروس، لكن دون التزام أبدا، ما يريد أن يلتزم بشيء لا بدرس ثابت، ولا بعمل معين، هذا مظهر من مظاهر الفتور، حتى ولو رأيناه في صفوف، ولو رأيناه في حلق العلم، ولو رأيناه في مقاعد الدراسة.
هذا مظهر، فإذا رأيت الذي يتهرب دون أن يلتزم فقد بدأ فيه الداء، الفوضوية في العمل، فلا هدف محدد، ولا عمل متقن، أعماله ارتجالية، أعماله ارتجالا يبدأ في هذا العمل ثم يتركه، ويشرع في هذا العمل، الأمر ولا يتمه، ويسير في هذا الطريق ثم يتحول عنه، وهكذا دواليك، نعم مظهر من مظاهر الفتور:
عدم الاستقرار على عمل معين.
خداع النفس من مظاهر الفتور بالانشغال، وهو فارق وبالعمل وهو عاطل ينشغل في جزئيات لا قيمة لها، ولا أثر يذكر ليس لها أصل في الكتاب أو السنة، إنما هي أعمال يقنع نفسه بجدواها ومشاريع وهمية لا تسمن ولا تغني من جوع.
النقد لكل عمل إيجابي
اسمعوا إلى هذا المظهر: النقد لكل عمل إيجابي، دائما ينقد، أيش رأيك والله في العمل الفلانى؟ هذا فيه كذا وكذا، ما رأيك في الدروس عند الشيخ فلان؟ والله بس عليها الملاحظات الفلانية، ما رأيك في المحاضرات؟ فيها كذا وكذا، طيب لماذا لا تشارك في مكتب الدعوة؟ قال: والله لاحظت عليهم الملاحظات الفلانية.
ما شاء الله جاهز للنقد، النقد لكل عمل إيجابي تنصلا من المشاركة، والعمل وتضخيم الأخطاء والسلبيات، تبريرا لعجزه وفتوره.
تراه يبحث عن المعاذير، ويصطنع الأسباب للتخلص والفرار: (وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)([47]).
التسويف والتأجيل وكثرة الأماني
وأخيرا من مظاهر الفتور:
وقلّ منا من يسلم إلا من سلمه الله: التسويف والتأجيل وكثرة الأماني، وأحلام اليقظة، يبني مشاريع من سراب، ويقيم أعمالا من خيال، عمل اليوم يؤخره أياما، وما يمكن أن يُؤدَّى في أسبوع يمكث فيه أشهرا، وفي كل يوم يزداد إفلاسا وفتورا.
هذه مظاهر أو هذه بعض مظاهر الفتور.
اختصرتها بما يناسب المقام، وغدا -بإذن الله- سنقف مع صلب الموضوع -كما قلت- وإن كانت هذه المقدمة أصل في الموضوع مع أسباب الفتور؛ لأننا إذا عرفنا الأسباب سنعرف العلاج بإذن الله.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
________________________________________
[1] - سورة آل عمران آية : 102 .
[2] - سورة النساء آية : 1 .
[3] - سورة الأحزاب آية : 70-71 .
[4] - سورة المائدة آية : 19 .
[5] - سورة الأنبياء آية : 20 .
[6] - سورة فصلت آية : 38 .
[7] - سورة البقرة آية : 282 .(/9)
[8] - سورة البقرة آية : 282 .
[9] - سورة البقرة آية : 282 .
[10] - سورة فصلت آية : 49 .
[11] - سورة الزخرف آية : 75 .
[12] - سورة الزخرف آية : 75 .
[13] - سورة الزخرف آية : 75 .
[14] - سورة آل عمران آية : 64 .
[15] - سورة المائدة آية : 19 .
[16] - سورة آل عمران آية : 146 .
[17] - البخاري : الجمعة (1150) ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (784) والنسائي : قيام الليل وتطوع النهار (1643) وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1371) وأحمد (3/101) .
[18] - البخاري : الجمعة (1150) .
[19] - البخاري : الجمعة (1150) .
[20] - الترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2453) .
[21] - أحمد (2/210) .
[22] - أحمد (2/210) .
[23] - أحمد (2/210) .
[24] - أحمد (2/188) .
[25] - أحمد (2/165) .
[26] - البخاري : الإيمان (43) والنسائي : قيام الليل وتطوع النهار (1642) وابن ماجه : الزهد (4238) وأحمد (6/51) .
[27] - البخاري : الإيمان (43) ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (785) والنسائي : قيام الليل وتطوع النهار (1642) والإيمان وشرائعه (5035) وابن ماجه : الزهد (4238) .
[28] - البخاري : الجمعة (1152) ومسلم : الصيام (1159) .
[29] - سورة النساء آية : 142 .
[30] - سورة التوبة آية : 54 .
[31] - البخاري : الجمعة (1178) والنسائي : قيام الليل وتطوع النهار (1677) وأبو داود : الصلاة (1432) وأحمد (2/258 ,2/489 ,2/499) والدارمي : الصلاة (1454) .
[32] - البخاري : الصوم (1981) .
[33] - سورة المطففين آية : 14 .
[34] - سورة البقرة آية : 74 .
[35] - سورة ق آية : 45 .
[36] - سورة الأنفال آية : 2 .
[37] - البخاري : الأدب (6069) ومسلم : الزهد والرقائق (2990) .
[38] - سورة الأحزاب آية : 72 .
[39] - سورة الإسراء آية : 16 .
[40] - أحمد (5/71) .
[41] - أحمد (2/67) .
[42] - سورة الصف آية : 2-3 .
[43] - الترمذي : تفسير القرآن (3253) وابن ماجه : المقدمة (48) .
[44] - سورة الأعراف آية : 31 .
[45] - أبو داود : الترجل (4161) وابن ماجه : الزهد (4118) وأحمد (5/270) .
[46] - سورة الأعراف آية : 31 .
[47] - سورة التوبة آية : 81 .(/10)
الفتاة. ألم وأمل
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم
أما بعد :
هذا يوم السبت الموافق للخامس والعشرين من الشهر السابع للعام التاسع عشر بعد الأربعمائة والألف وفي هذا المكان المبارك بمدينة الرس، ألتقي بأخواتي الكريمات في موضوع بعنوان :
والفتاة..(ألم وأمل)
مقدمة :
ما إن تفوهت بكلمات " الشباب ألم وأمل " إلا ووجدت نفسي غارقاً بسيل منهمر من العتاب ،لماذا الحديث خاص بالشباب ؟! ولماذا هذا التهميش للمرأة ،والغفلة عن مشاكلها وقضاياها ؟!
وهاهو أخيتي "الفتاة ألم وأمل " بين يديك ، علماً أني يعلم الله قد طويت النية من تلك اللحظات التي أهديتُ فيها الشباب تلك الكلمات ، أن أوجه مثلها للفتيات . أما سبب التأخير فهو ذلك السيل الهادر، والبحر الكاسر من أكوام الورق والأخبار ، والصور والمواقف، والمشاكل والعقبات عن حال بعض بنات اليوم حتى أنني وقعت في حيرة وتردد ، وإقدام وإحجام عن الحديث للفتاة فهل أكون صريحاً فأتهم ،أم تكفي الإشارة والتلميح فأخشى أن يأتي العلاج بارداً باهتاً لا لون له ولا طعم . فآثرت التوسط بين التصريح والتلميح .. وهنا يعذرني الكثير من الاخوة والأخوات لترك ما ذكروه من بعض الصور والمواقف من باب حدثوا الناس بما يعقلون ،ولعل مثل هذه المظاهر شواذ ؛ فالكثير من أخواتنا وإن بعدت عن الله فإن فيها خيراً كثيراً،وفيها حباً لله ولرسوله لكنها الغفلة . ورسالتي هذه ليس لها حدود ، لا بجنس ولا سن ، بل هي تنبيهاً لكل أخت أسرفت على نفسها بالمعاصي والذنوب،وتذكير لكل بنت أصابها شيء من الغفلة والتقصير .وأعرف بدءً أن الأبوين يشاركان الفتاة في بعض مشاكلها ، لكن ليس لهما نصيب من حديثي الليلة ،ولعله حديث خاص في مستقبل قريب إن شاء اللهُ تعالى .
وقد اعتمدت بعد الله على استبانة قام بها بعض الباحثات ،وكان عدد العينة في الاستبانة (759) فتاة ،واستفدت أيضاً من عدد من الاستبيانات قامت به بعض المجلات :كالدعوة ،وتحت العشرين ،ومن المشاركات من كثير من الاخوة والأخوات ،فشكر الله الجميع ،وجزاهم عني وعن المسلمين خير الجزاء .وأسأله التوفيق والسداد ،والعون والقبول والصواب .
أيتها الأخت:
أُقلب طرفي أتأملُ،فيتألم القلب ويأمل،ويحزن ويفرح،ويسعد ويشقى .من أجلك أنت،فأنا كغيري من الناصحين أحمل همك في الليل والنهار،وفي اليقظة والمنام ..أيْ والله
فما طَوَّفَتْ بالقلبِ مني سحابةٌ من الحزنِ إلا كنتِ منها على وعدي
ولا رقصتْ في القلبِ أطيافُ فرحةٍ فغنّتْ إلا كنتِ طالعةَ السّعدِ
أثرتِ ابتسامتي وأحييتِ لوعتي فمن أنتِ يا اُنسي ومن أنتِ يا وَجْدِي
إنها أنت أيها الأمل : فالقلب يشقى ويحزن ويتألم عندما أراك أُلعوبة تتأرجح ،وسلعة رخيصة ، وفتاة لعوبا لا هم لها سوى اللذات والشهوات . ويسعد القلب ويفرح ، ويعقد الآمال وأنت تصارعين طوفان الفساد ،وتصرخين في وجه الرذيلة :أنا مسلمة مستقيمة ، وبنت أصيلة ،أعرف أن للمكر ألف صورة وحيلة .
أختاه ..أيتها الغالية ..يا نسمة العبير ،أنت بسمتنا المنشودة ،وأنت شمسنا التي تبدد الظلام،فا سمعي هذه الكلمات ..إنها ليست مجرد كلمات ..بل هي وربي آهات قلب المؤمن الغيور..فيا أيتها الأمل :تعالي قبل فوات الأوان فاسمعي هذا النداء ،فربما عرفت الداء ،والدواء ..
تعاليْ هذه الأيامُ لا تَرْجِعْ
ولا تُصغي لنا الدنيا ولا تَسمعْ
ولا تُجدي شِكاةُ الدهرِ أو تنفعْ
********
تعالي نحن بعثرنا السُّويعَات
وضحَّينا بأيامٍ عَزيزات
فيا أُختاه يكفينا حَماقات
********
أجلْ يا أختْ ما قد ضاع يكفينا
فَعُودي هاهو العمرُ يُنادينا
فلا نُخْرِبْه يا أُختُ بأيدينا
أخيتي :اسمعي هذه الكلمات ،بعيدا عن إله الهوى والشهوات ، فربما رق القلب فانقلب بعواطفه وأشجانه،وربما صحا الضمير فيحس بآلامه وآماله،وربما تنبه العقل ليتحرر بأفكاره وآرائه،إنها إشراقة لتشرقي في سمائنا يا شروق !!.وهي الحنان من نبع لا يجف يا حنان !!.إنها الأمل الذي نرجوه يا أمل !! فهل أنت أمل فنعقد عليك الآمال ؟ أم أنت ألم فتزيدين الآلام آلاما .
** كتبت فتاة رسالة ـ بعد سماعها للشباب ألم وأمل ـ وكانت رسالتها ستاً وعشرون صفحة ،وعنونت لها ( الفتاة ألم بلا أمل ) وقد كتبتها بدم قلبها ،ووقعتها باسم :أمل ،وهي أمل إن شاء الله رغم كل ما كتبته ،فقلب يشتعل حرقة وندماً سيصل في النهاية مهما طال الطريق ، ومما قالت فيها :" المثيرات تحاصرني من كل مكان … قنوات فضائية .. أفلام هابطة ..أغانٍ وأشرطة تحوي كلام ساقط ،إلى من ألجأ في مثل هذه الظروف ،ارحموني نهايتي تقترب ..أوجدوا حلا لمعاناتي .. اسمعوا صرخاتي .. من قلبي .. من أعماقي ..أسرعوا في إيجاد الحل فها أنا اقفل حقائبي وألملم شتات نفسي للرحيل .. لقد عزمت على الرحيل .." الخ كلامها الذي سأعود إلى بعضه في هذا الدرس وغيره .(/1)
** وتتحسر أخرى فتقول: "أبحث عما يريح نفسي من الهم الذي أثقلها ..لم أجد في الأفلام أو الأغاني أو القصص ما ينسيني ما أنا فيه ..لا أدري ،ما الذي أفعله ؟وما نهاية هذا الطريق الذي أسير فيه .." [المعاكسات ..من التسلية إلى الزنا ص 72] .
** وثالثة تبث همومها وأحزانها كما ذكرت ، وتقول:" أعيش في موج من الكدر يحرم عيني المنام ،فأنا دائماً أُفكر في حالي ،وكيف أبحث عن السعادة ، فأنا كما يقولون :غريبة ،والغربة هنا ليست غربة المكان ، ولكنها غربة الروح ،وغربة المشاعر الحزينة ، التي تشتكي بين ضلوعي لما أفعله تجاه ربي ونفسي والناس ، فلقد طال صبري كثيراً على حالي ،فمتى وقت رجوعي .؟!." [من الاستبانة ]
**ورابعة تصرخ فتقول : "أُقسم بالله أن أياماً مرت عليَ حاولت فيها الانتحار ،ولكن كل محاولة تفشل ، لا أعلم لماذا ؟هل الله يريد أن يُطيل بعذابي ، أم أن أجلي لم يحن بعد ؟ ولكن ما أعرفه أنني أموت كل يوم وليلة .." [الاستبانة 107 الشرقية ]
وهكذا تتوالى الآهات والحسرات من الكثير الكثير من الفتيات الغافلات .
أيها الاخوة والأخوات : ارحموا الفتيات
أيها المجتمع:رويداً رويداً بالفتاة
أيها الآباء والأمهات:حناناً وعطفاً للفتاة
أيها الإعلاميون : رفقاً بالقوارير
أيها الشباب:اتقوا الله في الأزهار والورود
لم يبقَ من ظلِّ الحياةِ سوى رَمقْ وحُطامُ قلبٍ عاشَ مشبوبَ القلقْ
قد أشرقَ المصباحُ يوماً..واحترقْ جفتْ به آمالُهُ حتىَّ اختنق
هذه حال الفتاة ،فالمشاكل والأخطار تفترسها : ( فراغ وسهر ، انحراف وفساد ، عشق وغرام تبرج وسفور ، عجب وغرور ، عقوق للوالدين ، ترك للصلاة ، تبذير للأموال ، تقليد للغرب ، ضياع للشخصية ، سفر لبلاد الكفر والإباحية ، جلساء السوء ، الكذب والغيبة وبذاءة اللسان ، التدخين والمخدرات ، العادة السرية ، التشبه بالرجال ، أفلام وقنوات ، فُحْش وروايات ، غناء ومجلات ، معاكسات ومقابلات، جنس وشهوة وإثارة للغرائز..)وغيرها من مشاكل الفتاة .
إنه الألم الذي تعيشه الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية ، وشان بين الألم والأمل
معاشر الأخوات:
لماذا بعض الفتيات حياتها من وحل إلى وحل ، ومن مستنقع إلى مستنقع ؟ مرة مع القنوات الفضائية ،ومرة مع المجلات الهابطة ،ومرة في المعاكسات ، وربما الزنا ، فهي غارقة في أوحال الفساد والشهوات !
تقول صاحبة الرسالة : ( لم أجد بابا إلا طرقته ، ولا معصية وخطيئةً إلا جربتها ، والنهايةُ أسوأُ من البداية ، ألم وضياع ، وحرقة واكتئاب ) .
أيتها الأخوات:
قلب تفرق بين هذه المشاكل ، فإذا مل هذه انتقل إلى تلك ، قلب في الشهوات منغمس ، وعقل في اللذات منتكس ، همته مع السفليات،ودينُه مستهلك بالمعاصي والمخالفات،كيف حاله ؟كيف سيكون ؟
فيا أختاه :
شدّي وَثاق الطّهر لا تتغرّبي عن عالمِ الدينِ الحنيفِ الأَرْحبِ
شُدُّي وَثاق الطُّهْرِ سِيري حُرّةً لا تُخْدَعِي بِحَدِيثِ كُلِّ مُخرّبِ
لكِ من رحالِ المجدِ أَخْصَبُ بُقْعَةٍ وَلِغَيرِكِ الأرضُ التّي لمْ تُخْصَبِ
لكِ من عُيونِ الحَقِّ أصْفَى مَشْرَبٍ ولِعِاشِقَاتِ الوهْمِ أَسْوأُ مَشْرَبِ
هُزّي إليك بجذعِ نخْلَتِنَا التّي تُعْطِي عَطَاءَ الخَيْرِ ، دُونَ تَهيّبِ
وقِفِي عَلى نَهْرِ المروءةِ إنّه يُرْوي العِطَاشَ بمائه المستعذبِ
وإذا رأيتِ الهَابِطاتِ فَحَوْقِلِي وَقِفِي عِلى قِمَمِ الهُدَى،وتحَجّبي
إنّ الحجَابَ هو التحرّرُ من هَوى "ولاّدة " ذاتِ الهَوى المتَذبذبِ
وهو الطريقُ إلى صَفاءِ سريرةٍ وعلوّ منزلةٍ ورفعةِ مَنْصِبِ
ولعلك تتساءلين ماذا نريد .. ؟:
فأقول : إن لك تأثيرا كبيرا في المجتمع ، وقد يكون التأثير سلباً أو إيجاباً ، فإن كنت ذا عقل ناضج كان لك تأثيرك البناء الفعال ، وإن كنت ذا عقل خفيف طائش ،أو عقل فاسد منحرف كنت بؤرة فساد وإفساد للمجتمع وهدمه .أخيتي أرجو أن لا تُزعجك صراحتي : فوالله إننا نستطيع كغيرنا أن نتلاعب بالعواطف ،وأن ندغدغ المشاعر بكلمات الحب والغرام ، وأن نجعلك تعشين في عالم الأحلام ،نعم لا تُعجزنا كلمات الغزل ،ولا همسات العشاق ، بل نتحدى كل من يعزف على أوتار المحبين .. ولكن ماذا بعد ؟! شتان بين من يريدك لشهوته ،وبين من يريدك لأمته ، نعم نريدك أن تكوني أكبر من هذا ، أن تنفعين ، أن تساهمين في بناء المجتمع ونهضته ، لا كما يريدك الآخرين للغزل والحب والشهوة ، والغناء والرقص والطرب . ألهذا خلقتِ فقط ؟ وهل الحياة حب وعشق فقط؟لماذا ننام على الشهوة ، ونصحوا عليها ؟إن من النساء من لا تنام ولا تقوم إلا على غناء العاشق الولهان ؟!أوقات لمشاهدة لقطات الحب والتقبيل ؟!وأوقات لقراءة روايات العشق والغرام؟!وأوقات لتصفح مجلات الفن والغناء؟!وأوقات للهمسات والمعاكسات؟!لماذا عواطف فقط ؟ أين العقل ؟ وأين الإيمان ؟ وأين المروءة ؟ بل أين البناء والتربية والفكر ،والمبادئ والأهداف في حياة المرأة ؟!
أيتها الأخت :(/2)
هل تعلمين وتفهمين أن هناك من يريد إبعاد المرأة عن دينها ،وصدها عن كتاب ربها ؟ وإن كنت لا تعلمين ،فيكفي ما تشاهدين من ذاك الركام الذي يزكم الأنوف من المجلات والأفلام والقنوات ، والأقلام والروايات ،والتي لا هم لها إلا عبادة جسد المرأة ، من فن وطرب ، وشهوة وجنس ، ومساحيق وموضات فلماذا الاهتمام بالصورة لا بالحقيقة ،وبالجسد لا بالروح ؟ كم أتمنى _ أخيتي _ أن تفرقين بين من يحترم عقلك لا جسدك ،ويهتم بملء الفراغ الروحي والفكري لديك لا من يهتم بالشهوة والجسد والطرب .فهل عرفت ماذا نريد ؟وأنت تقرأين القرآن قفي وتأملي قول الحق عز وجل ) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (
فهل عرفت إذاً :إنه ابتلاء وامتحان ،فاسألي نفسك :هل نجحت أم رسبت في الامتحان ؟!
إنني ممن يطالب وبقوة بحقوق المرأة ،وبالعدل بينها وبين الرجل،نعم بحقوق المرأة التي جاء بها الإسلام ليكرمها ،وبخسها بعض الرجال بجهله وظلمه وتسلطه . أقول بالعدل لا بالمساواة ،أتدرون ما تعني المساواة ؟:أن نجعل المرأة رجلاً،والرجل امرأة،وهذا انتكاس بالفطرة،وجهل بحقيقة الخِلقة لكل منهما،فإن الله تبارك وتعالى خلقهما وجعل لكل منهما وظيفة،وأعمالا،لكل منهما دور في الأسرة والمجتمع يجب أن يقوم به في الحياة ، "..وقد سبقتِ المرأةُ المسلمةُ غيرها في الإسهامِ الحضاري بمئات السنين ،لكنها لم تخرج عن وظيفتها ولا عن طبيعتها ،لم تطلب أن تتشبه بالرجال أو تتساوى بهم في الطبيعة والوظيفة لأن ذلك غير ممكن ،غير مستطاع.." بل محال إلا إذا انتكست الفطرة ، وانقلبت الموازين وتداخلت الأدوار، وفي هذا اضطراب للمجتمع وتفكك وشقاء .وإياك إياك أن تنسي الوظيفة الأولى والأصلية التي جعل الله لك :أن تكوني ملكة بيت ، ومربية أجيال ورجال . فالزمي بيتك لتسعدي، ولِنَهَبَ لك قلباً تحبينه ويحبك ، فيريحك من النفقة ، ويشبع غريزتك ، ويصونك عن الذئاب المسعورة .وإذا كان لديك فضل من وقت ،ونشاط وهمة ، فالمجتمع وبنات جنسك بأمس الحاجة إليك ،وإلى مَوَاهِبَكِ ، وبشرط الستر والعفاف ،لكن تذكري دائماً ،وكرري دائماً:بيتي أولاً .أما جعل الوظيفة أولاً ، وإهمال البيت والأولاد،والتبرج والسفور ،والاختلاط ، وباسم الحرية المزعومة ،فهذا والله خلل في المفاهيم ..انتكاس في الفطرة ، وتجربة البلاد المجاورة تُصدقُ ما يكذبه سفهاء الأحلام . فما أعظم الخطب !!وما أشد المصيبة !! إذا اختل المنطق ، وانتكست المفاهيم ، وأصبحت العبودية للشهوات واللذات حرية ندعوا لها .[ بعض الكلمات مقتبسة من رسالة :المرأة وذئاب تخنق ولا تأكل ص 28 بتصرف].
هذا ما نريد باختصار . وإذا أردت أن تعرفي ماذا يريدون هم ،فاقرئي كتاباً نفيساً جداً بعنوان :ماذا يريدون من المرأة ؟ لعبد السلام بسيوني . ( وهو أحد كتب مجلة الأسرة ، وهي مجلة جميلة ، إضافة إلى مجلة الشقائق ، فهما شمعتان في طريق المرأة ) ( وكتابا آخر بعنوان : يا فتاة الإسلام اقرأي حتى لا تخدعي لفضية الشيخ صالح البليهي _ رحمه الله _ ) ، اقرأي أمثال هذه الكتب ، وأمثال هذه المجلات ؛ لتتضح لك الحقيقة .
· صناعة الفكر ،وتوجيه الع أيتها الغالية :اسألي نفسك بصراحة :من يصنع أفكارك ويبنيها ؟ أهو العلم والثقافة ،والتربية الصالحة وتوجيه الأبوين ؟! أم هو الإعلام ومجلات وروايات ومسلسلات الحب والغرام ؟!
أجاب 32% _ من فتيات الاستبانة _ بأن توجيه الأبوين والأسرة هو الذي يصنع العقل والفكر.وأجاب 30% بأنه العلم والتعليم .وأما التربية الذاتية فـ 26% .وقال 12% بأن الذي يصنع الفكر هو الإعلام.
وعن سؤال آخر أجاب 50% أن للإعلام والمجلات ومسلسلات الحب والغرام أثرا في حياتهن وعلى أفكارهن وعقولهن .وقال 46% أنه ليس لذلك أثر في حياتنا ولا على الفكر والعقل . وربما استغرب البعض وهو يسمع هذه النسب الخاصة بالإعلام ، فإن المشهور أن للإعلام اليوم أثر كبير في حياة الناس،ولعل السر هنا أن الكثير من الناس ،لا يشعرون أن ما يشاهدونه ويقرءونه عبر وسائل الإعلام له أثر ،وأثر كبير في حياتهم ،أو أن البعض يشعر لكنه يتصنع الشخصية المستقلة التي لا تتأثر،خوفاً من الاتهام بالتَّبَعِيةِ والتقليد .والعجيب لو سألت هؤلاء هل للإعلام أثر على الآخرين ؟ ، لأجاب وبسرعة :بنعم ,وهذا ما حصل : فقد أجاب 60% بلا عندما سئلن : هل للقنوات تأثير عليك ؟!وعندما سئلن :هل للقنوات تأثير على الآخرين ؟ أجاب :93% بنعم ، منهم 55% ذكرن أن الآثار سلبية .و38% ذكرن أن الآثار سلبية وإيجابية .وهكذا فنحن نجيد فن اتهام الآخرين ،أما اتهامُ النفسِ والشجاعةُ في مواجهتِها ومصارحتها فآخر ما يفكر به الحيارى وضعاف النفوس.(/3)
أما البحوث والدراسات فقد أثبتت أن الذين يتعرضون لفترات طويلة لوسائل الإعلام يُتصور لديهم عالم خاص من صنعهم ،وهو في الواقع عالم مزيف ،مليء بالحقائق والأرقام الوهمية .وأما الاعترافات بأن للإعلام أثر في الحياة وعلى الفكر والعقل فاسمعي بعضاً منها :ومن مجلة تحت العشرين في عددها (27) تقول فتاة :" أحلم أن أُصبح فنانة مشهورة تملأ صوري الصحفَ والمجلات،ويشير المجتمع إليَّ في كل مكان ،ولهذا فإنني أُتابع بحرص شديد كلَّ أخبار فنانتي المفضلة والتي أعتبرها مثلي الأعلى ،وأُراقب بدقة حركاتها وأسلوبها سواء في التمثيل أو في الحياة ،ومن يدري قد أُصبح يوماً في مثل شهرتها ! " .
وتقول فتاة أخرى :" أنها تحب هذا الفنان كثيراً، فصوره تملأ كل مكان في غرفتي ،وأرفض أن ينتقده أي إنسان ،ولو كانت صديقتي المقربة ".
وتقول ثالثة :" أنا أعشق عالم الموضة والأزياء ،وتبهرني كثيراً عارضات الأزياء برشاقتهن وطريقتهن في الحركة والمشي ، وأحاول قدر الإمكان تقليدهن في حركاتهن حتى أنني أتبع رجيماً قاسياً لأصل لنفس القوام الذي يتمتعن به " .ولا أدري أقرأتْ هذه وأمثالها توبة "فابيان " أشهر عارضة أزياء فرنسية ؟،وهل هي سمعتْ قولها : " إن بيوت الأزياء جعلت مني مجرد صنماً متحرك ،مهمته العبث بالقلوب والعقول..فقد تعلمت كيف أكون باردةً قاسيةً مغرورةً فارغةً من الداخل ،لا أكون سوى إطار يرتدي الملابس ،فكنت جماداً يتحرك ويبتسم ولكنه لا يشعر ..كنا نحيى في عالم الرذيلة بكل أبعادها ،والويل لمن تعترض عليها وتحاول الاكتفاء بعملها فقط "الخ حديثها .[المسلمون عدد 238،عن العائدون إلى الله 3/39-40] فهل نستيقظ
هل نستفيد من تجارب الآخرين الذين سبقونا في مثل هذا الطريق ؟
وحول سؤال عن الآثار السلبية للقنوات الفضائية ذكر 38% الانحراف والانحلال الخلقي.وذكر 25% التقليد.و 21% ضياع الوقت.وذكر 15% البعد عن الدين الإسلامي.و13% ذكرن عدم احترام المجتمع وزرع الأفكار السيئة.وذكر 6% أنها تُلهي عن الصلاة.و 4% أنها تُثير الغرائز الجنسية ..وغير ذلك من الآثار السلبية التي ذُكرت على لسان الفتيات من عينة الاستبانة .وكل ما نراه الآن من الآثار التخريبية للحرب الفضائية _ أو الفضائحية _ إنما هي مقدمات فقط ،ستتضح آثارها المدمرة على المجتمعات الإسلامية والعربية في الأجيال القادمة ،بل أقول : في الجيل القريب،نسأل الله أن يحفظ المسلمين من كل سوء ،وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم .
.إذاً فصياغة الإعلام للأفكار والمفاهيم لا ينكره عاقل "حتى كاد العيب أن يختفي من قاموس القيم والتقاليد العربية والآداب الإسلامية النقية "[مقتبس من كتيب مسؤولية الإعلام ..ص 17]واسألي نفسك بكل صراحة :لماذا سلمت أفكارك وعواطفك للتجار الفن ودعاة الرذيلة،يتلاعبون بها لمصالحهم وشهواتهم كيف شاءوا؟!لم لا نَزِنِي ما نقرأين وتشاهدين وتسمعين بميزان شرعنا وعقيدتنا فما وافقه قبلناه،وما أنكره رفضناه . أتقبلين _ يا أختاه _ أن يجعلوك أداة لهو لهم ،وتتركي لهم الصدارة في العلم والتربية والثقافة والأدب والفكر !! إن صلاح المرأة من أهم العناصر لبناء المجتمع ، فأين هؤلاء _ اسألي نفسك أنت وفكري _عن توجيه المرأة لصلاح دينها ودنياها ؟ أين هم عن المرأة فوق الأربعين ، وهمومها ومشاكلها ؟ لم نقرأ أو نسمع من يحمل همها ، ويُشاطرها أحزانها،ويطالب بحقوقها . وكذلك الفتاة الصغيرة ذات السبع ،والتسع، والثنتي عشر ،لماذا لا يهتم أولئك بهؤلاء ؟! أين هم عنها معاقة،ومطلقة،ومسجونة ؟أم أنهم يحملون هَم فتاة الخامسة عشر،والعشرين،والثلاثين،وربما أيضاً بشرط أن تكون جميلة، وبيضاء،وطويلة وأنيقة ؟! نعم .. هذه هي المرأة التي يطالبون بحقوقها وتحريرها؟!حتى هذه أين هم من فكرها،وأدبها،وخلقها، وثقافتها ؟!حتى المحتشمة ،والتائبة لم يتركوها؟!_ سبحان الله _ أليسوا يطالبون بحريتها كما يزعمون !!هاهي تريد أن تتوب،أن تحتشم فلم يرحموها ؟!ولم يتركوها !!أليست هذه حرية ؟! أم أنها الحرية التي يرسمونها هم ؟!ولهؤلاء قال المنفلوطي:" إنكم لا ترثون لها بل ترثون لأنفسكم ،ولا تبكون عليها بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جوها تبرجاً وسفوراً ،ويتدفق خلاعة واستهتاراً ،وتودون بجدع الأنف لو ظفرتم هنا بذلك العيش الذي خلفتموه هناك..."الخ كلام المنفلوطي في[العبرات ص 744]هذا خطاب المنفلوطي لهم ،وخطابي ليس لهم بل لك أنت أيتها الفتاة فتنبهي وأفيقي.وفكري .
· الحياء بين العربية والغربية :
أخيتي :أتذكرين يوم كنت بنت تلك القرية الصغيرة ؟ أتذكرين يوم كنت تلعبين وتمرحين مع أبناء الحي ببراءة الصغار وطهارة القلب ؟ أتذكرين يوم كنت تستحين أشد الحياء من استعمال الأصباغ والعطور والزينة ،قبل أن يأخذ الزوج بيدك ؟(/4)
ما أجمل نعمة الحياء ووازع الدين والخلق ، وما أحسن عادات وتقاليد البيئة العربية الأصيلة ، فلماذا تتنكرين لها ؟ ولماذا التعالي عليها بحجة اتباع الموضات والصيحات ؟ لماذا نترك الآداب الإسلامية الأصيلة بعفتها وطهارتها ؟ ونتجه إلى التقليعات الغربية الدخيلة بنتنها ونجاستها )أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ( ؟.يا ابنة الإسلام ،يا ابنة العرب ، أيتها العفيفة الطاهرة لماذا هذا التميع ؟أين قوة الشخصية ؟لماذا هذه الهزيمة النفسية ؟أين العزة بالآداب الإسلامية ، أين الفخر بالتقاليد العربية ؟ اصرخي بأعلى صوتك ، قوليها وبكل فخر واعتزاز : نعم أنا مسلمة عربية ، مستمسكة بديني وآدابي وأخلاقي .
قولي للمرأة الغربية :إن كنت تفخرين بالمخترعات والتقنيات والحضارة العلمية ، فإني أفخر بالآداب والأخلاق والحضارة الإسلامية ،والعادات العربية .
قولي لها :إن هان عليك دينك ،أو كنت بلا دين ،فأنا أعز شيء علي ديني وعقيدتي .
قولي لها :إن كنت جارية كالمجاري لكل الرجال هناك ، فأنا ملكة لمملكتي الصغيرة ، عفيفة حصينة بزوج يرعى لي حقي وحق أولادي كله .
قولي لها :إن ما أنت فيه من عبودية للشهوة والإباحية ،حررني منها حبيبي وقدوتي e وجعلها عبودية لله بيضاء نقية .
قولي لها :أنا في بلادي وفي شبابي ملكة للقلوب أنْعُمُ بزوجِي وينْعُمُ بي ، وإذا كبرت وذبلت ؛ فسيدة للمنزل ، لا يصدر أحد في البيت إلا عن أمري ، يتسابق الجميع لإسعادي وكسب ودي. أما أنت ففي شبابك أسيرة للشهوة والمعامل والمصانع ،خادمة في المطاعم والفنادق ،حمالة في الأسواق والطرقات ، سائقة للعربات والعجلات ، وفي الشيخوخة فمكدودة منبوذة مهجورة . هكذا المرأة الغربية تبدو حرة وهي مقيدة _ نعم والله ، لا أقول حُدِّثْتُ ، بل رأيتُها بِأُمِّ عَيْنَيَّ ـ تُرى معززة وهي مهانة .حتى قالت إحداهن : " أن ثمن عنقود العنب في باريس يفوق ثمن امرأة " !!
ذكر أحد الأدباء أنه كان يتكلم عن المرأة المسلمة ، في إحدى محاضراته في أمريكا ،وذكر فيها استقلال المرأة المسلمة في شئون المال ،وأنه لا ولاية عليها في مالها ..وإن تزوجَتْ كُلِفَ زَوْجُهَا بنفقتها،ولو كانت تملك الملايين،ولو كان زوجها عاملاً لا يملك شيئاً ،إلى غير ذلك مما نعرفه نحن المسلمين ويجهلونه هم عنا .قال:فقامت سيدة أمريكية من الأديبات المشهورات وقالت : " إذا كانت المرأة عندكم على ما تقول فخذوني أعيش عندكم ستة أشهر ثم اقتلوني " .
هكذا هن يتحسرن ويرغبن أن يعشن كما تعيشين ، ففكري أختاه .
الفتيات والقنوات والتقليد :(/5)
هل تشاهدين القنوات الفضائية ؟ هذا سؤال من الأسئلة المطروحة في الاستبانة ، وقد أجاب 63% بنعم ، ويحرص على مشاهدة الأفلام والمسلسلات والأغاني وأخبار الفن 59% ، و 12% على كل شيء ،أما نسبة اللاتي يحرصن على البرامج الثقافية 6% ،وعلى البرامج الدينية 4% ،وأما الأخبار والبرامج العلمية والوثائقية فـ 9% .ولعل هذه الأرقام تكشف لك أختي الفاضلة عن المصدر الأساسي لثقافة المرأة اليوم ،الأفلام والأغاني وأخبار الفن .وأنا أسأل : أفكار ومفاهيم زادها كل ليلة "أغانٍ ساقطة ،وأفلام آثمة ،وسهرات فاضحة ، وقصص داعرة ،وملابس خالعة ،وعبارات مثيرة،وحركات فاجرة "[من الغيرة على الأعراض ابن حميد ص 4]كيف ستعيش زوجة ؟وكيف تكون أماً؟ وهل تصلح مربية ومعلمة ؟ولنا أن نتخيل أمهات ومعلمات، وزوجات تربية قنوات فضائية . إنها رحلة الخداع إلى دنيا الضياع ؟!وأما المسلسلات المكسيكية المدبلجة والتي أقصر مسلسل فيها يزيد على خمسين حلقة ، فحدث ولا حرج عن دورها في ضياع الحياء ،وتمزيق الأسرة ،فهي تقوم كل ليلة بغسيل المخ للكثير من بنات عقيدتنا ،تقول مجلة تحت العشرين في عددها الرابع " قمنا بإجراء استبيان لـ (90) فتاة تحت سن العشرين، حول هذه المسلسلات ،وقد أظهرت نتائج هذا الاستبيان أن 70% من الفتيات يحرصن على مشاهدتها يومياً،ولما سألنا الفتيات عما يُعجبهن في هذه المسلسلات وجدنا أن القصة والحوار والأحداث إلى جانب الأزياء التي ترتديها الممثلات هي أهم ما تُعجب به الفتيات..وتراوحت نسبة الإعجاب بهذه الأشياء مابين 75%إلى80%" اهـ. وأقول:هذه المسلسلات تطبيع تدريجي تستمرئه العقول والأفكار، على مدار الليالي والأيام .نعم فهي مسلسلات مليئة بالخيانة،والتعري،والخموروالاغتصاب،والعنف .والعلاقات الجنسية فيها مباحة للجميع ،حتى بين المحارم كالأخ وأخته ،وزوجات الأصدقاء،وهي تؤكد أنه لا يمكن للمرأة أن تعيش بدون عشيق وصديق ،وتُعرض على الشاشات العربية على أنها عواطف ومشاعر ، وحب وإعجاب،وعلاقات، ورغبات .حتى تثور براكين العواطف لدى الفتاة ،وتتفجر الغرائز ، وتتصادم مع القيم العربية ،والآداب الإسلامية ، فيجن جنون الفتاة ، وتعيش في صراع وقلق،وأوهام اليقظة وأحلامها،وربما تلعب بالنار لتحرق كل شيء بعد ذلك ؟!إنه تدمير للقيم العربية ، والأخلاق الإسلامية ؟!
أختاه :وأنت تتحدثين مع الزميلات عن أحداث هذا المسلسلات،والأفلام هل نسيت أنها تتحدث عن واقع مجتمعاتهم الكافرة ،وأنك مسلمة ذات أخلاق وآداب .هل سألت يوماً :لماذا تُعرض هذه المسلسلات ؟ ولمصلحة من ؟ فكري بعقلك .
أختاه لماذا النظر لنساء قذرات دنسات سيئات الأخلاق،خبيثات .لماذا لم نعد نفرق بين مسلمة وكافرة ؟وبين صالحة وفاسقة ؟ _ سبحان الله _ الألبومات لكثير من الأخوات مليئة بالصور لكثير من الكافرين والكافرات ! لماذا بعض الأخوات لم تعد تُفرق بين الفضيلة والرذيلة ؟! حتى تعلقت قلوب الكثير من الفتيات بما يعرض ويشاهد على الشاشات من مناظر الجمال والخضرة ، ومشاهد الزينة والفتنة المزيفة بالمساحيق والمكاييج ، حتى اقتنع الكثير من الأخوات أن أولئك يعيشون في جنة الدنيا ، وأنه في غاية السعادة ، والأنس والانبساط ، ونسينا أن اسم هذا تمثيل لبضع لحظات وقت الوقوف خلف الشاشات ، وأنها أجساد تشترى ، وصور تنتقى ببضع ريالات أعوزهم لهذا الفقر والحاجة ، أو فساد الدين والمعتقد
اسمعي ، اسمعي إن كنتِ تعقلين : كتبت إحدى الكاتبات في الأيام . العدد / 3300 ، تقول تحت عنوان ( جواري الفيديو كليب )
فقالت :
( قرأت تحقيقاً مصورا حول سوق لفتيات الفيديو كليب ،كان تحقيقا مخزيا بمعنى الكلمة ! كان عبارة عن سوق للرقيق سوق نخاسة يمارسه البعض تحت اسم الفن والإعلام!..إلى أن قالت: فذكروا:أن هناك أسعار متنوعة للفتيات ، و هناك قوائم مصنفة للفتيات،وكاتلوجات جاهزة للعرض.. فالسمراء لها سعر ، والشقراء لها سعر، والطول الفارع له سعر، والسن له سعر ، ونسبة الجمال لها سعر، والجنسيات لها سعر، وإجادة الرقص لها سعر، وهناك فتيات (رخيصات ) التكلفة للتصوير السريع وللميزانية التي على (قد حالها)..الخ المقال".أرأيتِ _ أخيتي _ إنه سوق لبيع الجواري ، إنه امتهان واحتقار لكرامة المرأة ، والأمثلة كثيرة ،والوقت يضيق ، ولا أحب أن أوذي مشاعرك بكثرة الغثاء ، فتنبهي أيتها الغافلة ،وأفيقي أيتها العاقلة فشتان بين الواقع والخيال ، وبين الوهم والحقيقة ، هل سألت نفسك بصدق : هل تلك النسوة اللاتي يعرضن أنفسهن بالليل والنهار على صفحات المجلات والشاشات،وهن يُظهرن الأفخاذ والنحور، ويبتسمن وكأنهن أسعد الخلق ، هل هن في حياتهن بسعادة حقيقية ؟ ولا يعرفن المشاكل والهموم والأحزان ؟ هيهات هيهات لو فطنت للحقيقة : هي لو علمتِ ضحيّةُ لعصابةٍ ذهبتْ لجني المال أسوأ مذهبِ
هي صورةٌ لمجلّة ، هي لعبةٌ لعبت بها كفّ القصيّ المذنبِ(/6)
هي لوحة قد علِّقت في حائطٍ هي سلعةٌ بيعتْ لكلّ مخرّبِ
هي شهوةٌ وقتيّة لمسافرٍ هي آلةٌ مصنوعةٌ لمهرّبِ
هي رغبةٌ في ليلةٍ مأفونة تُرمَى وراءَ البابِ بعد تحبُّبِ
هي دُميَةٌ لمسابقات جمالهم جُلبت،ولو عصت الهوى لم تجلبِ
ياربّة البيت الكريم ـ لواؤها بالطّهر مرفوع عظيم الموكبِ
البيت مملكة الفتاة وحصنُها تحميه من لصِّ العفاف الأجنبي
لاتركني لقرار مؤتمر الهوى فسجيّة الداعي سجيّة ثعلبِ
لا تخدعنّك لفظة معسولةٌ مُزجت معانيها بسمِّ العقربِ
فما بالك أخيتي ؟ ما بالك تخدعين بمعسول الكلام ؟ وتلهثن خلف وسائل الإعلام بدون عقل ولا تفكير ؟ وأسمعك ترددين :( هذه هي الحياة ! أتمنى أن أسافر لكذا !!.. كذا الدنيا ولا بلاش !! من يُخرجني مما أنا فيه ، طفش وضيق ؟!)).وغيرها من العبارات التي نسمعها من بعض الغافلات ؟!
إليك أختاه _ هذه الدراسة فقد قامت مجلة " ماري كير " الفرنسية باستفتاء للفتيات الفرنسيات من جميع الأعمار والمستويات الاجتماعية والثقافية ،شمل (5 ,2) مليون من الفتيات عن رأيهن في ( الزواج من العرب ولزوم البيت ) فكانت الإجابة المذهلة ، أجابت 90% منهن بنعم _ للزواج من العرب ولزوم البيت _ .. والأسباب كما قالتها النتيجة هي الآتي:
1- ملّت المساواة مع الرجل .
2- ملّت حالة التوتر الدائم ليل نهار .
3- ملّت الاستيقاظ عند الفجر للجري وراء القطار .
4- ملّت الحياة الزوجية التي لا يرى الزوج زوجته فيها إلا عند النوم .
5- ملّت الحياة العائلية التي لا ترى الأم فيها أطفالها إلا حول مائدة الطعام .
ولقد كان عنوان الاستفتاء "وداعاً عصر الحرية وأهلاً بعصر الحريم ".[رسالة إلى حواء ص 19] .
يا ابنة الإسلام :هذه هي الفتاة التي تحلمين أن تكوني مثلها ، هي تحلم أيضاً وتتمنى أن تكون مثلك .فأيكما على حق ؟!
أخيتي أيتها الغالية : كوني عاقلة فطنة ،واعلمي أن ما أنت فيه من أمن وإيمان ، ومال وخيرات حسان ، وقرب من الوالدين والأهل والإخوان ، وبيت وزوج وولد في المستقبل أو الآن ، وستر وعفاف، ودين وأخلاق ، وراحة واستقرار في هذه البلاد المباركة لهي أمنية للكثرين ،هذا أولاً . وثانياً:هل نسيت أنك في الدنيا ، وأنها مليئة بالهموم والآلام ، وأنها حقيرة لا تُساوي عند الله جناح بعوضة ، هل نسيت أن هناك شيء اسمه الزهد والورع وترك الشبهات، فضلاً عن ترك المحرمات،وأن هناك آخرة وموتا وقبرًا ، وحسن أو سوء خاتمة ، وجنة ونار ، وجزاء وحساب .
أخيتي :تمني ما شئتِ ، واعملي ما شئتِ ولكن اعلمي أن الله يراكِ ، وأن اللحظات معدودة ، والأنفاس محسوبة ، والذي يذهب لا يرجع ، ومطايا الليل والنهار بنا تسرع ، فماذا قدمت لحياتك ؟ ..اسألي نفسك : ماذا قدمتِ لحياتك ؟..
وأنتِ أخيتي : وكيف تقضين يومك ؟أجاب على هذا السؤال 36% ، أمام الدش والتلفاز والفيديو .و 30% في قراءة الكتب النافعة . و 21% متابعة كل جديد .و 20% في قراءة الصحف والمجلات.وغيرها مما ذكر هناك ، فأقول : اعلمي _ أخيتي _ أن النظر رائدُ الشهوة ورسولُها :
فلماذا أطلقت لبصرك العنان ينظر لكل شيء ؟ أو ما علمت أن أخطر شيء على القلب إطلاق العنان للنظر ؟ فالنظرة تجرح القلب جرحاً ، وأكثر ما تَدخل المعاصي على العبد من هذا الباب ، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس ، ألم تقرأي في القرآن قول ربك : ) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ.. ( وكم اسْتُحِلَ من الفروج ،والسبب إطلاق العنان للنظر ) إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا. (وانظر الداء والدواء لابن القيم ص 235 .
فاتقي الله .. اتقي الله في سمعك وبصرك .. فهما نعمتان عظيمتان .. فربما ابتليتِ بفقدهما أو أحدهما !
الفراغ العاطفي : [معاكسات وإعجاب ]
أجاب 37% أن السبب الرئيس في انتشار مثل هذه الظواهر _ المعاكسات والعشق والتعلق _ هو:الفراغ العاطفي.وذكر30% أنه الجهل وعدم الخوف من الله.وقال 19% أن السبب هي:وسائل الإعلام.وقال5%:انشغال الأهل عن المراقبة . وقال4%:التقليد والشعور بالنقص .
والفراغ أقسام أربعة : فراغ عاطفي،وزمني،وفكري ،وروحي أو إيماني.وسأتحدث بمشيئة الله عنها،وعن ظاهرة المعاكسات والتعلق والإعجاب بالتفصيل في درس قادم بعنوان [عاطفة أم عاصفة ].
المعاكسات :
فالمعاكسات من نتائج الفراغ العاطفي ،والفراغ الإيماني _ كما أسلفت _ فهل هذه الظاهرة موجودة وبكثرة ؟ أجاب 78% : بنعم ،و21% : بلا أدري ، وأجاب (بلا) أقل من 1% .
أيتها الفتاة :
هل صحيح ما يدعيه بعض الشباب ،أن الهاتف يقول:هيت لك في كل لحظة ؟! وأنك أنت التي تبدأين ؟!ولو لم تبدئي هل صحيح أنك مهما غضبت في المكالمة الأولى أو الثانية فإن بشاراً يقول لا تيأس ؟!أخيتي لا تأمني على نفسك الفتنة مهما بلغتِ ،فإن كانت النظرات سهم من سهام إبليس، فإن الكلمات من سهام شياطين الإنس .(/7)
قالت وهي تذرف دموع الندم :كانت البداية مكالمة هاتفية عفوية ، تطورت إلى قصة حب وهمية ،أوهمني أنه يحبني وسيتقدم لخطبتي ،طلب رؤيتي ،رفضت ، هددني بالهجر،بقطع العلاقة !!ضعفت ، أرسلت له صورتي مع رسالة وردية معطرة ! توالت الرسائل ،طلب مني أن أخرج معه ، رفضت بشدة ، هددني بالصور ، بالرسائل المعطرة ، بصوتي في الهاتف ،وقد كان يسجله ، خرجت معه على أن أعود في أسرع وقت ممكن ..لقد عدت ولكن ، وأنا أحمل العار..قلت له الزواج ..الفضيحة..قال لي بكل احتقار وسخرية :إني لا أتزوج فاجرة ..[ الهاربات إلى الأسواق للقاسم ص 17 ]
إيهٍ أيتها الفتاة إن من يمشي وراء قلبه يُضله ، فإذا لم يكن في قلبك خوف من الله ، فأين عقلك فأنت تريدين أن تكوني زوجة ، وأما ،وسيدةً لبيت فهل الطيش والعبث الذي تفعلينه الآن يؤهلك لهذا ؟أجزم بأن الإجابة:لا ، لأنه لا يمكن أن يرضى بك أحد وأنت على هذه الحال ، حتى هذا الذي يدعي محبتك فهو أول من يحتقرك ويسخر بك ، خاصة عندما يعلن البحث عن شريكة الحياة ، فهو يعلم أنك لا تصلحين زوجة ، ولا أماً وقد قالها أحدهم لما عرضتُ عليه الجمع بينه وبين محبوبة الهاتف في الحلال.. أتدرين ماذا قال ؟!!اسمعي يا أخيتي ، قالها بالحرف الواحد ، وبهذا اللفظ:" أعوذ بالله ، والله لو تقولي بلاش " ، وآخر قال لها لما عرضتْ عليه الزواج :"أُريدها عذراء العواطف ،وأنت لست كذلك ،وكيف أثق بك وقد أخذت رقمك من الشارع "[تحت العشرين 13/15] إلى هذا الحد فقط يريدوها بنتاً لهواه،ومحطة مؤقتة لشهوته ؟!! فأين العقل ؟وهكذا هم الذئاب يريدونها سافرة متبرجة خراجة ولاجة وقت نزواتهم وشهواتهم ،وذات دين وخلق بل ومحافظة وقت جِدهم وحياتهم ؟! لسان حاله يقول : إنها تكلمني وتضحك معي وربما تخرج معي وليس بيني وبينها أي رابط ،فما الذي يضمن لي أن لا تكلم غيري غداً ؟وأن لا تخرج مع غيري ؟لا فأنا ألهو معها اليوم ،وغداً أظفر بذات الدين ،ولن أخسر شيئاً !!كما قال أحدهم :"ليس عندي أي استعداد للزواج من فتاة كنت أعاكسها لأنني على يقين تام بأنها كما استجابت لي فقد سبق لها أن استجابت لغيري،وستستجيب لآخر ، فضلا عن أني أحتقر كل فتاة تسمح لنفسها بالمعاكسة ، وأنا أكلمها في الهاتف لأحقق غرضي ، ولكني في داخلي أنظر لها بكل احتقار ".ذُكِرَ ذلك في تحقيق لمجلة الدعوة في العدد (1622) .
وقال شاب آخر وبكل وقاحة:" أنا شاب عمري خمسة وعشرون سنة،بكل صراحة وأنت تقرأ ورقتي ولا تعرف اسمي،إن في المعاكسة بديلاً عن الزواج، أي بإمكاني أن أتزوج عشر فتيات من غير تكاليف ".اهـ كلامه القبيح ."
وهذا شاب يستهزىء فيقول :أنه مرتبط بعلاقات مع نصف درزن فتيات " [تحت العشرين 13/1] أسمعت جيداً للذل التي وصلتِ إليه أيتها المعاكسة ، أترضين أن تكوني بعد هذا كله أداة لهو وعبث،أو من بنات الهوى لأمثال هؤلاء؟! اسأليه فقط : هل يرضى هذا لأخته ؟ قال أحدهم :"عندما أتخيل أن شقيقتي هي التي تقوم بذلك أشعر بأنني سأجن " .والغريب أن بعض المعاكِسَات تعرف أنه يخدعها ، ويكذب عليها ولكنها تواصل العبث بالنار بحجة التسلية وإضاعة الوقت ، أو أنه سعار الشهوة المحموم.
تقول صاحبة الرسالة : " في خمسة أشهر فقط ، عقدت صداقة ، وأقمت علاقة ، مع قرابة ستة عشر شابا "
ولها ولكل معاكسة أقول :هَبي أن الخوف من الله غاب ، أو حتى الحياء والخوف من الناس غاب ؟ وهبي أن الخوف من الفضيحة وعلى الشرف والمستقبل غاب أيضاً،كل هذه التضحيات من أجل ماذا؟ من أجل عبث وطيش ؟ من أجل صديقة سوء ، من أجل شهوة مؤقتة أنت التي أوقعتِ نفسك فيها بالاستسلام لجميع وسائل الإباحية والشهوة من قنوات ومجلات ، وأفلام وصور وروايات؟المهم الشهوة وتلبية رغبات النفس ، المهم إعجاب الآخرين بي، إنه شعور بالنقص،وعبادة للهوى والشهوة ،حتى رضيتِ أن تكوني من بنات الهوى والمعاكسات ، بل ربما وصل الأمر أن تكوني جارية كالمجاري كل يقضي فيها وطره وشهوته ؟!أيتها الغافلة :لماذا هذا التهور واللامبالاة ، أهو الجهل وعدم العلم ، أم هو عدم الخوف من الله وموت الضمير، أم هي المراهقة وخفة العقل وطيش الشباب ، أم هو الشعور بالنقص وضعف الشخصية ؟ ألا تشعرين بالأسى وتأنيب الضمير، ألا تشعرين بالألم والحزن ، اختفيت عن أعين الأبوين ، فهل اختفيت عن عين الجبار الذي يغار، ألا تخافين من الله أن ينتقم من جرأتك عليه ؟!!!
عجباً لك أيتها المعاكسة المشاكسة :كيف تجرأت على خيانة أبوين فاضلين سهرا وتعبا من أجلك ،ووثقا فيك ؟! كيف تجرأت على خيانة زوج قرع الباب وأخذك بحق الله ،كيف تُغامرين بالعرض والشرف والذي هو ملك للأسرة كلها وليس لك وحدك ؟!إنها أنانية وخيانة أن تُفكري بنفسك فقط .
يا مَحْضِن الآلام:رضعت صدر أم حنون ،أم لم تعرف إلا الستر والعفاف والحياء .فهل ترضين أن تُرضعي طفلك الخيانة والتبرج والسفور .(/8)
يا مَحْضِن الآلام: رضعت صدر أم لا يفتر لسانها من ذكر الله ، ولا جسدها من ركوع وسجود ،فهل ترضين أن تُرضعي طفلك كلمات الغناء والمجون ؟!فمن أكثر الأسباب المشجعة على المعاكسات وإثارة العواطف ،والتلاعب بالمشاعر ،الغناء والطرب،ألم تسمعي أنه بريد الزنا وداع من دواعيه ؟! لاسيما إذا صاحبه كلمات الحب والغرام.وقد أجاب 67% بأنهن يسمعن الغناء،واعترف بعضهن :بأنه يثير العاطفة والغريزة والميل إلى الجنس الآخر ، والتفكير بالعشق والهيام .وأنه يشجع على المعاكسات.وقالت 41% أنهن يعلمن حرمة الغناء ، ويبتعدن عنه ،وأما 57% فيعلمن حرمته ويسمعنه ،وماذا عساي أن أقول ،ولكن اسمعي: ) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ(22)وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(23)يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 24) (
فهل تستجيبين لله ؟ وهل تسمعين ، وتطيعين ربك ؟ أم تطيعين هواك ورغباتك ؟
.وأخيراً في المعاكسات أقول :أيتها الفتاة ليس حل المشاكل والهموم الاجتماعية هو الهروب إلى المعاكسات كما تقول كثير من الفتيات ، والشكوى إلى الذئاب الحانية ،فالذئب يأكل كل شاة صادها في خفية .والحل للمشاكل هو مواجهتا بشجاعة ،والاستعانة بالله ،ثم بمن تثقين فيها من الناصحات .
موضات وصرعات ..ووقفات :
سؤال في الاستبانة يقول : هل تتبعين الموضة في اللباس والشكل ؟ فأجاب ( 56%) بنادراً.و
(32%) بنعم ،وبنحو (12%) بلا .وكيف تعرف الفتاة الجديد في عالم الموضة ؟ أجاب (32%) عن طريق وسائل الإعلام ، و(27%) عن طريق المناسبات ، و27%عن طريق الزميلات، وذُكر أسباب أخرى بنسب ضئيلة جداً:كالسفر للخارج ،وما يستجد في السوق ، والابتكار والتصميم الذاتي ،وغيرها .وأنا أقول:الأناقة والشياكة صفة جميلة في الفتاة لاكنها لا تعني التعالى على الآداب الإسلامية والقيم العربية الأصيلة ،ولا تعني الغرور والعجب بالنفس ، واحتقار الآخرين ، ولا تعني التقليد لكل جديد وتعطيل العقل وضياع الشخصية .لكن بحدود وضوابط ديننا وعقيدتنا .وأقول هذا وأؤكد عليه وخاصة حين أرى في الاستبانة ما يقرب من 48% من فتيات الاستبانة تراعي العادات والتقاليد فقط أو ما يتناسب مع حياتها وقدراتها فقط بدون أي مراعاة لضوابط الشريعة ،بينما أجابت (52%) أنها تراعي ضوابط الشرع عند اتباعها للموضة ، وتنبهي أخيتي لقضية ربما تغفل عنها الكثير من نسائنا اليوم وهي :أن اللباس له آداب وأحكام في الإسلام ، فانظري مثلاً لكتاب اللباس في صحيح البخاري ،أو صحيح مسلم،وغيرهما من كتب السنة ،ارجعي إليها قبل أن تنظري لبرامج الموضة في القنوات أو في مجلات الأزياء والبردة لتعلمي كيف جاء الإسلام بأعظم الآداب والأحكام في اللباس، ليرفع من قيمتك ،ويحفظ حيائك وعفتك ،إذاً .. فأنت تنطلقين عن دين وعقيدة يأمرك بالستر والعفاف،ولا يمنعك من التجمل والاعتناء بالمظهر ،أما الذين ينطلقون عن عبادة الدينار والدرهم ،والشهوات والجنس،ويسخرون بالمرأة فيتعاملون مع شعرها وجسدها وجفونها،بالأقمشة والألوان والأصباغ وكأنها دمية تتقاذفها الأيدي،حتى شكى القبح من قيح شكلها ،ثم يدفعونها للجمهور لتعرض جنونهم وهوسهم أمام الأعين والشاشات ، فالمرأة بالنسبة لهم مصدر ثراء وربح ،وأسألك بالله وبكل صدق وإخلاص أليس هذا احتقار وإهانة للمرأة ؟! لا تتعجلي الإجابة فكري فأنت بنفسك الحكم ، وأنا على يقين أن نداء الفطرة والعقل سينتصر في النهاية ، ثم اسألي نفسك : هل لك شخصية مستقلة ؟وهل لك عقل وهوية ؟ لا تتعجبي من سؤالي فكم تمارس بعض الأخوات قتل شخصيتها ، وتأجير عقلها ، وبيع هويتها بتفاهات لا قيمة لها فماذا تقولين إذاً عن العشرات اللاتي يتهافتن وبجنون على ذلك الموديل،أو طريقة ذلك اللباس ،لمجرد أن مطربة أو فنانة أو مذيعة لبست ذلك اللباس أو تلك الحركة ؟؟
.يقول الكثير من تجار الملابس:لا تتخيل حين تظهر إحدى المذيعات بأي فستان !تجد الفتيات يتهافتن على المحل يسألن عن نفس الفستان ، وإذا كان لدينا نفس الموديل نبيع كل الكمية في يوم واحد.. [مجلة المنار الكويتية 9%98]،بل إن من المضحك المبكي أن نسمع من بعض تجار الملابس ،أن بعض النساء يسألن وبإلحاح عن إحدى الملابس الداخلية لفنانة ما ، لأنها ظهرت فيها بإحدى القنوات لتبرز مفاتنها ،ولكثرة الطلب ارتفع سعر تلك القطعة إلى ثلاثة أضعاف قيمتها الأصلية . "
فنّانةٌ " نسيَ المكابرُ أنها كبهيمةٍ جَرَّ البُغاةُ خطامَها
مشوارُها الفني رحلةُ غِرَّةٍ قد حكّمتْ في عقلها أوهامَها
ما الفنُّ إلا خطَّةٌ مشؤومة نارٌ يرى المستبصرون ضِرامَها
أخيتي :(/9)
إن الحديث عن عالم الموضات والملابس والإكسسوارات غريب وعجيب ،والأغرب والأعجب خفة العقل والطيش ،وتبذير الأموال وقلة الحياء لدى بعض النساء ومن مختلف الأعمار والطبقات !! ويعلم الله يأبى علي الحياء أن أذكر المواقف والأحداث التي سطرتها أو حكتها بنات جنسك ، أو أن أصف تلك الملابس العارية التي رأيتها بأم عيني ،والخلاصة : من النقاب والبنطال والعباءة الفرنسية ـ إلى اللثام وكشف الوجه وإظهار الساقين والركبتين والكاب والعباءة المطرزة والشفافة ـ إلى موضة اللف والغجري والثياب القصيرة والشفافة كالشيفون ،والدانيل ، والجوبير،والفتحات السفلية والعلوية والوسطى لإظهار البطن
والظهر،أو الصدر ، أو بدون أكمام ، حتى أصبحت حفلات الأعراس ، وصالات الولائم والمناسبات ، والملاهي، والتجمعات العائلية أماكن لعرض الأجساد العارية من قبل بعضهن ـ وإن كن قلة ـ ممن باعت الحياء ،والدين ، والمبادئ،والعادات،والتقاليد .لكنه _ مرة أخرى _ الشعور بالنقص والتقليد ،وضياع الشخصية ،وتعطيل العقل مسكينة تلك الأخت تظنها تخطف نظرات الإعجاب والإطراء من الحاضرات،وما علمت أنها نظرات الاحتقار والازدراء ،والشفقة على قلة العقل والإيمان .إنه لباس الشهرة الذي قال عنه الحبيب e :"من لبس ثوب شهرة ألبسه الله إياه يوم القيامة ثم أُلهب في النار .." كما في السنن لأبي داود (ح4029) ،وهو صحيح .
** ولم يقف العبث والجنون عند الملابس والإكسسوارات ،بل تعداه إلى الصفات الخَلْقية فقد قيل لي _ ولعله ليس صحيحاً _ :عن تلك التي تحلق الحاجبين ،وتضع مكانه خطا بالقلم الأسود !! وتأخذ من رموشها لتضع الرموش الصناعية !!وتضر عينيها من أجل العدسات الملونة !! وتقص أظفارها لتضع أظفاراً صناعية ؟!وتقص شعر رأسها لتصله بعد ذلك بشعر مستعار ؟!أوتقشر جلد وجهها ليكون أبيضاً ناصعاً!! .أسمع هذا القول مبهوتاً ، فإن كان حقاً ما يقولون كله أو بعضه فرحمة الله عليك ؟!
أخيتي أهذا صحيح ؟! أيعقل هذا ؟!! ما رأيك هل أتركه بدون تعليق ؟! أم أعلق ،فماذا سأقول أظافر صناعية ، وشعر مستعار ، ورموش صناعية ، وعدسات لاصقة ملونة ، وعمليات لتضخيم الشفاه ، ورسم الحواجب ،وتكبير أو تصغير للصدر ،ووشم وعمل حبة الخال ، وعمليات تجميل لا نهاية لها ، أهو تجميل أم تزييف ؟!،أهو فن وذوق ؟! أم كذب وحمق ؟! أهو انتكاس في الفطرة ؟! أو تبديل لخلق الله ؟! أهو خفة في العقل ؟! أم تقليد أعمى ؟! لقد حكاها القرآن على لسان إبليس : ) ولآمرنهم فليُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله ( ..ولعنهن الله فقال على لسان رسول الله r :" لعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ ،وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ،وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ،الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ ". كما البخاري ومسلم ." ويلعن الحبيب r القاشرة والمقشورة ..والواصلة والموصولة " كما في المسند لأحمد . والقاشرة :التي تقشر وجهها أو وجه غيرها ليصفوا لونها .[النهاية 4/64].
واسمعيها أخيتي وبدون مجاملة :إن من ينظر إليك بهذا الشكل الغريب عن طبيعتك ، يسخر بك ويزدريك ؟!لقد أصبحت أضحوكة للحاضرات دون أن تشعرين .إنها الحيرة والازدواجية ، والتردد وضياع الهوية لدى الكثير من بنات المسلمين
من أين هذا الزَّي ، ما عرفتْ أرض الحجاز ولا رأتْ نَجْدُ
هذا التبُّذُّل يا محدثتي سَهْمٌ من الإلحادِ مرتدُّ
ضدّان يا أختاه ، ما اجتمعا دين الهدى والفِسْقُ والصَّدُّ
والله ما أزرى بأمتنا إلا ازدواجٌ ماله حَدُّ
*******
أما الحجاب العبادة العظيمة ، ونهر الحسنات الجاري ما تمسكت به الجواري!! عزنا وفخرنا نحن المسلمين رجالاً ونساء !!
أما الحجاب الذي نزل به الأمر من السماء ، فشرق به الأعداء ، وغص به السفهاء !! السلاح الذي هز الأرض ، وأرعب الغرب !!
أما الحجاب الذي جعل المرأة درة مصونة ، وجوهرة مكنونة ، حتى جن جنون أهل النظرات الجائعة للظفر بنظرة ولو لبنان تلك اللؤلؤة الثمينة !!
الحجاب القضية الكبرى،والمسألة العظمى التي جهلها بعض النساء فظنت أن الأمر لباس يُلبس ، لها الحرية في اختيار شكله ، أو لها الحرية في نزعه،وغفلت أو تغافلت عن : ) يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ( (الأحزاب 59).
ونسيت أو تناست: : )وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ . (. (النور 31) ثم عدد المحارم لها .
هل سمعتِ لعائشة رضي الله عنها وهي تقول:"رحم الله نساء المهاجرين الأول لما نزل : ) وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ( شققن أُزرهن فاختمرن بها " كما في صحيح البخاري (ح4758) .(/10)
وهل جهلت أو تجاهلت قول عائشة :" كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r مُحْرِمَاتٌ فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ " كما في أحمد وأبي داود وابن ماجه .وقول فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ " كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ وَنَحْنُ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ " كما في الموطأ لمالك .
هل قرأت أو تعاميت عن قول ابن عباس وعبيدة السلماني رضي الله عنهما :"أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يُغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة ".اهـ كلامهما من تفسير الطبري (12%49) . ؟؟
إنها الدلائل البينات ،والبراهين الواضحات ،للمسلمات العاقلات اللاتي رضين بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد r رسولا . أما اللاتي في قلوبهن مرض فقد أغلقت قلبها وسمعها عن نداء الكتاب والسنة " لقد تركت فيكم أمرين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي :كتاب الله وسنتي " كما قال الحبيب r وهو على فراش الموت .
أيها الغيد :إنه الحجاب الأمر السماوي ، نزل من السماء وليس من فرنسا ، عز وفخر لكل مسلم ومسلمة ، إنه الإسلام الذي لا يتغير بتغير الحدود ، ولا يهتز بركوب طائرة اتجهت للغرب أو للشرق، مسكينة تلك التي في الطائرة ركبت ،وحجابها نزعت ، وعن شعر رأسها حَسَرَت ، إنها الحضارة والتطور زعمت ، وهي ليست بالطائرة فقط بل أصبحنا نراها ـ وللأسف ـ في الأسواق والمناسبات وإن كانت نشاز .
أختاه من قال لك أنك لن تبلغي قمة المجد ، ولن ترقي سلم الحضارة ، ولن تحققي السعادة ، حتى تخوني الحجاب ،وتكسرين الباب ، وتصرخين هاأنا يا شباب .
أختاه من كان يعبد الله فإن الله معه في كل مكان يراه ويطلع عليه ، ومن كان يعبد البلاد والعادات فهو التردد والحيرة وعدم الثبات .
أختاه _ وبكل صراحة _ :هل نريد شرع الله ؟! أم نريد اتباع أهوائنا ؟ فقط تأملي :فتاة تضع على رأسها منديل ، فتهتز أكبر دولة في أوروبا ؟! ألا تهزك هذه الحادثة ؟ فقط تأملي : فتاة صغيرة تمشي في وسط شوارع لندن بحجابها بكل ثقة وفخر ، ألا يدعوك هذا لتصحيح المفاهيم ، وإعادة النظر في حياتك؟
يا شعري ، ليلانا خرجتْ كاشفةَ الَّلبَّةِ والنَّحرِ
قصّتْ بالوهم ضفائرها وانطلقتْ كالهائم تجري
بسمتُها الصّفراءُ بيانٌ عن قُبْح البسماتِ الصُّفْرِ
ليلانا ما عادتْ ترضى أن تُلْحَقَ بذوات الخَدْرِ
ليلانا باعتْ طرحتَها في سوق الوهم بلا سعر
غايتُها أن تُصبح وجهاً مصبوغاً يصلح للنشر
تركتْ شاطئها وانطلقتْ لعبور البحر بلا جسر
ألقت في البحر قلائدها وانتظرتْ عالمَها السحري
أيتها المرأة ماذا يعني لك الحجاب ؟ أُسر وأفرح كثيراً عندما أجاب 94% من فتيات الاستبانة أنه :عقيدة ودين .و85% يرفضن تماماً دخول الموضة في شكل الحجاب.و18% ينتقدن دخول الموضة في شكل الحجاب.ويراه حرية شخصية نحو 20% . و5% يرين أن الحجاب لا علاقة له بالدين ، وإنما هو من العادات والتقاليد . وقال 2% أنهن يشعرن بالضيق معه .
وكما أننا نفرح ونسر بتمسك الكثير من أخواتنا بالحجاب ،وعدم المساومة عليه بحال من الأحوال فإننا نحزن ونخاف ونحن نرى الحال الذي وصل إليه تخريق الحجاب باسم الموضة والموديل ، متى تفهمين أيتها العفيفة أنها معركة الحجاب ؟!!! هدفهم نزعه وإحراقه ،كما قال الصليبي غلادستون :"لن يستقيم حال الشرق ما لم يُرفع الحجاب من وجه المرأة ويُغطى به القرآن ".ألا تثير فيك هذه الكلمات مشاعر التحدي والمسؤولية ؟ ألا تحرك فيك العزة والفخر بالعقيدة الإسلامية ؟ ..وهاهي البداية تمييع الحجاب كلبس الحرير والرقيق والشفاف والمزركش والملون ، ثم النقاب واللثام ، عندها وعندها فقط يرفعون راية الانتصار ، فهل تكوني أنت الجندي الجبان، وبوابة الهزيمة .أبداً .. فثقتي فيك أكبر:
يا أخت فاطمة وبنت خديجة ووريثة الخلق الكريم الطيب
إن العفاف هو السماء فحلقي وبطيب أخلاق الكرام تطيبي
فكوني شجاعة ، وذا همة وعزيمة ، وقوليها بصراحة :حجابي عبادة _ أتقرب بها إلى ربي _ له شروط وهذه العبادة لها شروط :أن يكون ساتراً، واسعاً ، متيناً ، ليس فيه زينة ولا طيب ،ولا يشبه لباس الرجال أو الكفار ، أو لباس شهرة ، وإنما لباس ستر وعفاف .
هذه شروط الحجاب الشرعي ، والأدلة عليها متظافرة في الكتاب والسنة ، ليس هذا مقامها وهي في مظانها معلومة .والكلام عن الحجاب ولباس المرأة ، وعالم الموضات يطول ، وحسبي ما ذكرت هنا للعاقلات.
السعادة والإيمان :(/11)
يتوهم الكثير من الناس أن السعادة في المال والشهرة والجمال ، ثالوث السعادة كما يقال فاندفع الكثير من الفتيات تجري وراء بريقه ، وتسعى وراء تحقيقه ، وربما غرّها حصول الكثير من الشهيرات الجميلات الغنيات على هذا الثالوث ، لكن هل وجدن السعادة الحقيقية ؟!!.أخيتي أيتها الفتاة ،اسمعي الإجابة منهن نطقنها بألسنتهن ،وكتبنها بأيديهن ،فهذه إحداهن كتبت رسالتها .. من هي ؟؟ مارلين مونرو .. امرأة وصلت لحد الشهرة العالمية ، اسمعيها في النهاية تقول : " احذري المجد.احذري كل من يخدعك بالأضواء ، إني أتعس امرأة على هذه الأرض ، لم أستطع أن أكون أماً.إني امرأة أفضل البيت والحياة العائلية ، على كل شيء،إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة ، بل إن هذه الحياة لهي رمز سعادة المرأة .."اهـ[ مارلين مونرو رسالة إلى حواء ص 70]
أيتها الأخت :كوني فتاة عاقلة واستفيدي من تجارب الآخرين ، اسمعي لأقوال بعض الفنانات التائبات فهذه تقول:" لأول مرة أذوق طعم النوم قريرة العين ،مطمئنة البال ، مرتاحة الضمير ".وتلك تقول:" لم أكن أحيا قبل أن يهديني الله..لقد عرفت الحياة الحقيقية بعد الهداية ". وثالثة تقول:" ما أحلى حلاوة الإيمان..وعلى من تذوقتها أن تدل الناس عليها ..أشعر الآن بالأمان الحقيقي في ظل الإيمان ".هؤلاء الممثلات وصلن للشهرة والمال ، وما تحلم به الكثير من الفتيات ، فهل وجدن السعادة والرضا والطمأنينة ؟؟.أبداً إلا بالإيمان حياة الروح ، وروح الحياة .
أيتها الأمل :إن السعادة أمامك وأنت تبحثين عنها،وطريقها سهل واضح لصاحبة الهمة والعزيمة ، إنها في القرآن .. ألم تقرأي القرآن في القرآن ؟! : ) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (
فالسعادة ليست بالمال والشهرة ،والسفر والطرب،إن الحياة الطيبة في الإيمان والعمل الصالح ، هكذا أخبر الرحمن في القرآن.
أيتها الأمل:
إن من أعظم أسباب السعادة المحافظة على الصلاة ؛ لأنها صلة بين العبد وربه ،وحال الفتاة مع الصلاة حال يرثى لها ليس بتركها ، فقد أجاب 91% أنهن من المحافظات على الصلاة والحمد الله. ولكن بإهمالها وتأخيرها عن وقتها ، ونقرها كنقر الغراب ، وعدم الطمأنينة فيها ، وهذه كلها من أسباب ردها وعدم قبولها ، فقد تقدمين على الله وليس لك منها ركعة .ومتى نشعر بقيمة الصلاة وأهميتها لحياتنا فأنتِ تعلمين أنك ضعيفة وعرضة للأمراض والعاهات ،وتحتاجين ولا شك لخالقك أن يحفظك ويشفيك ،وأن يوفقك ،وأنت تبحثين عن السعادة والراحة النفسية ، وتشترينها بمال الدنيا كلها .
ولو ألقيت نظرة على العيادات النفسية ،وعلى أماكن قراء الرقى الشرعية ،لوجدتِ عجباً من حالات الاكتئاب والضيق ،والهموم والغموم ، النبي e يقول: "الصلاة نور" فهي نور للقلوب،والله تعالى يقول : ) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ( (124) فهل بعد هذا كله نقطع الصلة بصلاتنا ، أو نتهاون فيها وهي مصدر سعادتنا في الدنيا والآخرة ؟؟ .فاسألي نفسك أخيتي كم هي الصلوات التي خشع فيها قلبك لله !! كم دمعت فيها عينيك خوفاً من الله ؟!وكم هي اللحظات التي اقشعر فيها جلدك من خشية الله ؟!إنها الصلاة مفتاح السعادة من حافظ عليها فهو علىخير مهما وقع منه . آهِ من قسوة قلوبنا ، ويا لله ما أشد غفلتنا !! .. وإلا فكم قد سمعنا عن تلك التي اشتعل عليها قبرها نارا ، والتي انقلب بياضها سوادا ، والتي جَحَضَت عيناها ،ونَتِن ريحُها ، وثقلت جثتها . وهذه صور كلها لسوء الخاتمة ، لمن تهاونت بالصلاة ، وأخرتها عن وقتها .. فكيف حال من تركها ؟!! نسأل الله العفو والمغفرة .
مفاتيح للشر.. ؟!
أعتذر إليك أيتها العفيفة فما قادني لهذا العنوان ، إلا ما نسمعه عن بعض الصديقات مع الزميلة ، فهي تدلها كل صباح على كل شر فمرة :خذي هذا الرقم وجربي ؟ لا تكوني معقدة ومتخلفة ، هي مجرد تسلية .ومرة :انظري لصورة هذا الشاب كم هو جميل ، هل تحبين أن تُكلميه ، ثم بعد : هل تحبين أن تقابليه ومرة: خذي هذه الهدية شريط غناء أو فلم ، أو مجلة ساقطة.(/12)
ومرة :دعوة على مأدبة الدش الفاضح ، أو التسكع في الأسواق ، أو استراحة راقصة ، أو مناسبة آثمة. وهكذا امتهنت الدِلالة على الفساد بوسائله علمتْ أو لم تعلم . هي مفتاح للشر كل يوم وكل صباح .وربما في محاضن التعليم _ وللأسف _ عجباً لك يا ابنة الإسلام :كيف تستخدمين "صلة العلم التي هي أشرف الصلات وأكرمها "،في المدارس والكليات لتبادل الأرقام والأفلام ، وجميع وسائل الحرام ؟كيف تجرأت على "القلم الذي هو أفضل أداة للخير، وأعظم وسيلة للفضيلة ، وواسطة للأدب والكمال "،فخططت به الأرقام،ورسائل الحب والغرام ، ونشر الحرام .[ ما بين الأقواس اقتباس من مؤلفات المنفلوطي ص 607] ألم تسمعي للحبيب e يقول : " ويل لمن كان مفتاحاً للشر، مغلاقاً للخير" .
فيا ويلك من الله ،فهل تستطعين أن تتحملي وزرك لوحدك ، يوم أن حملت أوزار الأخريات.أنا على يقين أنك لم تقف وتفكري بقول الله تعالى : ) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ( (النحل25) اسألي نفسك الآن :كم فتاة كنت السبب في دلالتها على الضلال .فبادري بالتوبة ،واستغفري وكفري بالدلالة على الخير ووسائله ،والتحذير من الشر وأبوابه ، قبل فوات الأوان .فيكفيك ذنبك وضعفك .
أيتها الفتاة الطيبة : فتشي في صداقاتك ، واحذري رفيقات السوء ، فإنهن لا يقر لهن قرار ، ولا يهدأ لهن بال حتى تكوني مثلهن ،وأداة طيعة في أيديهن إما لكراهتهن امتيازك عنهن بالخير ، وإما حسداً لك ،فإن الله تعالى أخبر عن المنافقين فقال: ) وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ( وقال عثمان t :"ودت الزانية لو زنى النساء كلهن " .فإياك وقطاع الطريق إلى الآخرة ، اللاتي يصدن عن ذكر الله ،كما قال الله: ) وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ( .
اعلمي أخيتي :أن رفقة السوء بداية كل شر ،والنقطة الأولى للانحراف والضياع ، فكم من الفتيات هلكن بسببهن ، وكانت النهاية فضائح وسجون ، وهل ينفع حينها الندم ؟ بل هل ينفع الندم يوم القيامة عندما تقولين: ) يَاوَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ( (الفرقان 28) لماذا وهي صاحبة الشلل والجلسات ؟لماذا وهي صاحبة المرح والمزاح ؟ فتأتي الإجابة : ) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ( (الفرقان 29) لأنها ما أعانتني يوماً على ذكر الله ، بل كلما انتبهت أو تذكرت أو نصحني ناصح ، سخرتْ مني واستهزأتْ .نسأل الله أن يحفظ بنات المسلمين أجمعين .
يا نفس ويحك قد أتاك هداك ** أجيبي داعي الحق إذ ناداك .
.
وأخيراً التوبة التوبة :
أيها الأخوات : أبشركن أن 85% من فتيات الاستبانة قلن : نعم ، نفكر في طريق الاستقامة ، وذكر 11% أنهن مترددات ، ولم يقل :لا سوى 4% .وقال 82% : بأن الشخصية المستقيمة ممتازة وأتمنى أن أكون مثلها ، فأقول : لمَ لا تتحول الأمنية إلى حقيقة ؟وما الفرق بينك وبين تلك المستقيمة ؟ وإلى متى وأنتن تحرمن أنفسكن السعادة والراحة ؟ ما الذي يمنعكن من الاستقامة ؟ أجاب60% : هوى في النفس .و11% البيت والأسرة .و10% الصديقات . وغيرها من الأسباب ، وأقول كل هذه الأسباب هي كبيت العنكبوت ، أمام الهمة والعزيمة الصادقة .أخيتي : استعيني بالله ، ثم بصحبة الصالحات ، واصدقي مع الله ، وألحي عليه بالدعاء،ومن يحول بينك وبين التوبة بعد ذلك ، واعلمي أن أعظم دلالات صدق التوبة الندم الذي يجعل القلب منكسراً أمام الله ، وَجِلاً من عذاب الله ، هل سمعت يا أختاه ،قصة الغامدية العجيبة ،أخرجها مسلم في صحيحه فاسمعي لهذه المرأة المؤمنة لقد زنت ، نعم أخطأت وغفلت عن رقابة الله للحظات ، لكن حرارة الإيمان ، وخوفها من الرحمن ،أشعلت قلبها ، وأقظت مضجعها،فلم يهدأ بالها،ولم يقر قرارها :
عصيت ربي وهو يراني
كيف ألقاه وقد نهاني
) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (
حَرُ المعصية تَتَأجَج ناراً في قلبها
وأقلقها كِبْرُ الكبيرة في عينها
وقبح الفاحشة يستعر في صدرها
حتى لم تقنع بالتوبة بينها وبين ربها
فقالت :أصبت حداً فطهرني !! عجباً لها
ولشأنها
هي محصنة وتعلم أن الرجم بالحجارة
حتى الموت هو حدها
فينصرف عنها الحبيب e يمنة ويسرة ويردها
وفي الغد تأتي لتقدم له الدليل على فعلها
لِمَ تَرُدُّنِي؟ لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى من الزنا.فقال لها :
:" اذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي "
فيا عجباً لأمرها
تمضي الشهور والشهور ولم تخمد النار في قلبها
فأتت بالصبي في خرقة تتعجل أمرها
ها قد ولدتُهُ فطهرني،عجباً لها
قال:" اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ " واهاً لها(/13)
سنة ،سنتان ولم يَطْفَأْ حرَّها
فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْ بِالصَّبِيِّ وفِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ دليلاً لها
وقالت : قَدْ فَطَمْتُهُ وَأَكَلُ الطَّعَامِ برهانها
فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا
فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا
وَأَمَرَ النَّاسَ برجمها
فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا
فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا
فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ e سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ:
"مَهْلًا يَا خَالِدُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَمَّ قَسْمُهَا عَلَى سَبْعِيْن مِنْ أَهْلِ الْمَدِيْنَةِ لَوَسِعَتْهُم "
ثُمَّ أَمَرَ بِهَا
فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ.
أفلا نعجب من حالها ؟
حولين كاملين وحرارة المعصية تلسع فؤادها
وتُحرق قلبها
وتُعذب ضميرها
فهنيئاً لها
إنه الخوف من ربها
من لم يبتْ والحبُّ حشو فؤاده لم يدر كيف تُفتت الأكبادُ
إنها قصة عجيبة تعلمنا " أن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " ، لكنها التوبة الصادقة ،من القلب الصادق .وأنتِ أخيتي مسلمة عربية لها عادات وتقاليد ، ومن مجتمعات محافظة ، فمهما حاولت التمرد على كل هذا ، نعم .. مهما ابتعدتِ ، حتى لو تركتِ الصلاة ، حتى لو أفطرتِ في نهار رمضان حتى لو خلعتِ عنك جلباب الحياء والعفة ، حتى ولو استرجلتِ فإنك أبداً لا يمكن ان تقتلي بذرة الخير في نفسك ؛ فهي تنازعك ، وسيبقى نداء الفطرة يناديك من أعماق النفس ، وستبقى بذرة الانوثة برقتها وطيبتها ، فكم .. كم من فتاة طيبة القلب فيها حب لله ولرسوله نشأت في أسرة صالحة ، وبين أبوين صالحين ، ولكن بريق الدنيا ، وزيف الفن والغناء والطرب ، والتحظر والموضات أخذها بعيدا عن ربها وعن دينها . إن في الدنيا فتناً كثيرة ، تعصف بقلوب فتياتنا ، تلك القلوب البريئة البيضاء ، فكم في قلوب بياتنا من الخير ، وها هي تمد يدها ، وتصرخ بفيها ، فمن يأخذ بيدها ؟ إلى من تلجأ ؟
وأين تذهب ؟
أخيتي : ليس لك إلا هو ، ليس لك إلا الله ، إنه الله الرحيم اللطيف ، إنه السد المنيع ، حصن الإيمان والأخلاق ، فقوليها ولا تترددي : ( اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفري مغفرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) قوليها .. قوليها من قلب تراكمت عليه الهموم والغموم ( اللهم إني ظلمت نفسي كثيرا ، فإن لم تغفر لي وترحمني لأكوننّ من الخاسرين ) .
قوليها بصدق لتنفضي عنه ظُلَمَ المعاصي والغفلة ، فقد اخبر الحبيب e بقوله : " إِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نكتةٌ سَوْداءُ فيِ قَلْبِهِ ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ ، صُقِلَ قَلْبُه ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ ،حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ ذَلِكَ الْرَّيْنُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ : ) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ(
فهل تغسلين عن قلبن هذا الران ؛ لتذوقي بصدقٍ صَفَاء الإيمان ، والحب الحقيقي للرحمن ، ام انك تترددين وتضعفين ؟ من اجل نزوة وشهوة .!!
لاَ لاَ أَخَاْلُكِ تَفْعَلِينَ وَبَينَ جَنبْـ ـيكِ اعْتِرَافُ مُقَصِّرٍ مُتَنَدِّمِ
فَلأَنْتِ أَسْماْ مِنْ سَفَاسِفِ نَزْوَةٍ وَلَكِ الْمَكَنَةُ بَيْنَ تِلْكَ الأَنْجُمِ
وَلأَنْتِ أَكِبَرُ مِنْ غَوَايةِ حَاسِدٍ يَرْمِيْكِ فِي نَزَقٍ فَيُدْمِيْكِ الَّرَّميْ
فَتَفَطَّنْي لِلْمَكْرِ كِيْ لاْ تَقْرَعِي فِيْ النَّاسِ كَالْكُسَعِيِّ سِنَّ تَنَدُمِ
وَتَسَنَّمِي عَرْشَ الْعَفَافِ فَإِنَّهُ . عِزٌّ بِهِ تَحْلُوْ الْحَياةُ وَتَسْلَمِ
أختاه :
قولي لنفسك حدثيها ، وحاسبيها واصدقيها ..
يا نفس ويحك قد أتاك هداك ** أجيبي داعي الحق إذ ناداك .
كَمْ قَدْ دُعِيْتِ إِلَى الرَّشَادِ ، فَتُعْرِضِيْ ** وَأَجِبْتِ دَاعِي الْغِيِّ حِيْنَ دَعَاكِ
قُوْلِيْ لها :
يا نفسُ إلى متى ؟ .. أما آن لك أن ترعوي ؟! أما آن لك أن تزجري ؟! أما تخافين من الموت ، فهو يأتي بغتة ؟ .. أما تخشين من المرض ، فالنفسُ تذهب فلتة ؟
أختاه أخبريني : لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك ، أكان يسُرُّكِ حالُك وما أنت عليه ؟!
أختاه ، كيف بك لو نزل بجسمك عاهة فغيرت جمالك وبهجتك ؟!
أختاه ، إن للموت سكرات ، وللقبر ظلمات ، وللنار زفرات فاسألي نفسك ماذا أعددت لها ؟
أختاه ، إنها الحقيقة لامفر منها ، فإن الله يقول:"ولا تنس نصيبك من الدنيا " فلماذا أصبح نصيبك أنت كله للدنيا ؟!لماذا نسيت الآخرة ؟ لماذا نسيت الجنة وما فيها من نعيم ، وخضرة وأنهار،وقصور وجمال وخمر وغناء ، وفيها ما لا يخطر على القلب .(/14)
أخيتي الغالية : الهوى يقسي القلب ، فكرري المحاولات ، اكثري من الاستغفار والتوبة ، حاولي جاهدي ، واصبري ولا تيأسي ، ولا تستعجلي النتائج ، فإن لهذه المحاولات المتكررة آثارا ستجدينها ولو بعد حين ..
أخيتي الغالية : ) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ("(الحديد 61)
قولي:بلى والله لقد آن ،قولي كفاني ذنوبا وعصيان ،قوليها قبل فوات الأوان ، فرغي قلبك من الشهوات ) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا(27)يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا ( (28) النساء ، انتصري على نفسك الضعيفة ، لا تستجيبي لدعاة الرذيلة ، استعذي بالله من الشيطان الرجيم ، ارجعي إلى ربك ، توبي إليه ، انهضي فتوضأ وصل ركعتين ،ابك على ذنوبك وتقصيرك في حق ربك ، اسمعي للبشارة من الغفور الرحيم ) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( (الفرقان70) ما أعظمها من بشارة فكل الذنوب تُبدل حسنات ، فما الذي تنتظرين ، هيا أبدلي الانحراف بالاستقامة والأغاني بالذكر والتسبيح ، وسارعي لحلق القرآن ، انكسري بين يدي الله ، أظهري له الذل والخضوع انثري له الدموع ،رددي وقولي:
يا الهي …
جاء بي حر ذنوبي
جاء بي خوف مصيري
ساقني يا رب تأنيب ضميري
ألهبت قلبي سياط الخوف من يوم رهيب
كادتا عيناي أن تبيض من فرط نحيبي
آهٍ .. يا مولاي ما أعظم حوبي
يا الهي ..
أنا سافرت مع الشيطان في كل الدروب
غير درب الحق ما سافرت فيه
كان إبليس معي في درب تيهي
يجتبيني .. وأنا يا لغبائي اجتبيه
كان للشيطان من حولي جند خدعوني
غرروا بي …
وإذا فكرت في التوبة قالوا لاتتوبي
ربنا رب القلوب
آه يا مولاي ما أعظم حوبي ….
غرني يا رب مالي .. وجمالي .. وفراغي وشبابي
زين الفجار لي حرق حجابي
يا لحمقي …!!
كيف قصرت ومزقت ثيابي !!
أين عقلي !!
حينما فتحت للموضة شباكي وبابي
أنا ما فكرت في اخذ كتابي … بيميني .. أو شمالي
أنا ما فكرت في كي جباه وجنوب
آه يامولاي ما أعظم حوبي ….
يا الهي ..
أنا ما فكرت في يوم الحساب
حينما قدمني إبليس شاة للذئاب
يا لجهلي .. كيف أقدمت على قتل حيائي !!
وأنا أمقت قتل الأبرياء
يا إلهي ..
أنت من يعلم دائي … ودوائي
..
يا إلهي ..
اهد من سهٌل لي مشوار غيي
فلقد حيرني أمر وليي ..
أغبي ساذج أم متغابي
لم يكن يسأل عن سر غيابي
عن مجيئي وذهابي
لم يكن يعنيه ما نوع حجابي
كان معنيا بتوفير طعامي وشرابي
يا إلهي ..
جئت كي أعلن ذلي واعترافي
أنا ألغيت زوايا انحرافي
وتشبثت بطهري وعفافي
أنا لن أمشي بعد اليوم في درب الرذيلة
جرب الفجار كي يردونني كل وسيلة
دبروا لي ألف حيلة
فليعدوا لقتالي ما استطاعوا
فأمانيهم بقتلي مستحيلة
يا إلهي ..
يا مجيب الدعوات .. يا مقيل العثرات
أعف عني
وأنا عاهدت عهد المؤمنات .. أن تراني
بين تسبيح وصوم وصلاة
خاتمة :
وأخيراً أيتها الفتاة ،وبعد هذا كله ،كوني شجاعة واتخذي القرار ، ولا تترددي ،كوني ممن وصفهن الله فقال ) فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ.. ( [النساء 34] فاحفظ الله يحفظك .
وفي النهاية : أعتذر إليك أيتها الفتاة فربما قسوت عليك ، ولكنها الغيرة والشفقة . ووالله لو كنت املك الهداية والسعادة لبذلتها لك ، لكنها الكلمة الطيبة ، والنصح الصادق ، ففي القلب شفقة ، وفي صدري حرقة ، فمن يناديك مناداتي ، ومن يناجيك مناجاتي ، فهل تسمعين وتستجيبين ؟ وإلا اللهم فاشهد وأنت خير الشاهدين .
وبعد الألم يحدونا الأمل ، فها نحن نرى كوكبة من فتياتنا في عمر الورود ، يبذرن بين الزميلات بذرة الخير، ويزرعن فيهن الصلاح
فَجْرٌ تَدَفَقَ مَنْ سَيَحْبِسَ نُوْرَهُ **** أَرِنيْ يَدَاً سَدَّتْ عَلَيْنَا المَشْرِقَا(/15)
ولي معهن حديث خاص قادم بمشيئة الله ، بعنوان :[وأنت أيتها الأمل ] .أما ما تقدم فهي كلمات لجميع الفتيات ، وخاصة أولئك اللاتي ظلمن أنفسهن ،وأسرفن عليها بالمعاصي والذنوب، فإن أصبت فيها فذلك من فضل الله ومنته عليَ فله الحمد وله الشكر ، وإن أخطأت فيها أو شيء منها فمن نفسي والشيطان وأعلن الرجوع عنها تائباً ومستغفراً ربي غافر الذنب وقابل التوب ، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم .اللهم رد نسائنا إليك رداً جميلا ، اللهم خذ بأيديهن إلى الحق ،اللهم اغفر لهن ذنوبهن ،واستر عيوبهن ،وطهر قلوبهن اللهم احفظ الإسلام والمسلمين ،وعليك بأعداء الدين ،وانصر عبادك الصالحين ،ووفق ولاة أمور المسلمين لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين ، اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحبه وترضاه وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة ،اللهم احفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين بالأمن والإيمان ، واجمع كلمتهم على التوحيد والقرآن ، سبحانك اللهم وبحمدك،أشهد أن لا إله إلا أنت،أستغفرك وأتوب إليك . وصلي اللهم على نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن سار على هديهم إلى يوم الدين .
محاضرة للشيخ إبراهيم بن عبدالله الدويش(/16)
الفتن في الأموال والأزواج والأولاد والأسماع
111
الفتن
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
ملخص الخطبة
1- خلق الله الموت والحياة ليبلونا أيّنا أفضل عملاً 2- فتنة المال 3- أناس يأخذون المال من غير حِلّه 4- فتنة الأولاد تسبب الخصومة والبخل والجبن 5 - فتنة النساء
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعظموا أمره ولا تعصوه، وعاملوه معاملة من يخافه ويرجوه، واحذروا أسباب سخطه وغضبه؛ فإنها توجب حلول العقوبات والمثلات، وزوال النعم ومحق البركات، كما أصاب من قبلكم من الأمم الخاليات، ومن حولكم من ظهرت فيه المعاصي وكثر فيه الخبث من المجتمعات، واعلموا أنكم بالخير والشر تختبرون، وبالمحاب والشهوات تفتنون، ليتبين المحسن من المسيء، والمصلح من المفسد، والشاكر من الكافر: تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:1،2].
فما عملتم من خير وشر فإنكم ملاقوه، وسيجازيكم الله به يوم تلاقوه، وذلك يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، ولا يرحمه إلا خالقه وباريه، فلا تغرنكم الدنيا بما فيها من اللذات، فإن شهواتها تبعات، وراحاتها حسرات، فالله الله فيما يخلصكم وينجيكم بعد الممات كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحياةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
أيها المسلمون: إننا اليوم في معترك فتن عظيمة، كقطع الليل المظلم، يرقق بعضها بعضًا، وينسي بعضها بعضًا، فالمال فتنة هلك به كثير من الناس في هذه العصور، والأولاد فتنة وكم استعصى أمرهم على معظم أولياء الأمور، ومخالطة الأشرار من المنافقين والكفار فتنة وكم امتلأت منهم الديار وعظمت بسببهم الأخطار، والنساء فتنة وكم جلبن من المصائب على العالمين، وكم يكيد بهن الأعداء لإفساد مجتمع المسلمين، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأله الهدى والسداد والصلاح في الحال والمآل.
أيها المسلمون: فأما المال فإنه فتنة لهذه الأمة، وكم هلكت به قبلها من أمة، يقول : ((لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال)) [1]، وقال : ((أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) [2].
فالمال فتنة من جهة جلبه وتنميته، وفتنة في المكاثرة فيه والمباهاة به، وفتنة من جهة إنفاقه وأداء الحقوق الواجبة منه، فقد قل من الناس الحذر من أسباب كسبه المحرمة، والمتورع عن صور جلبه المشتبهة، بل أكثر الناس أصبح المال أكبر همه، وملء قلبه وشغل فكره وسمع أذنه وبصر عينه، يخاطر في تحصيله أيما مخاطرة، ويسعى في تنميته مكاثرة ومفاخرة، ولا يبالي بعواقب ذلك في الدنيا والآخرة، يكسبه من وجوه محرمة، وحيل ملتوية آثمة، وطرائق خبيثة باطلة، فهو النهم الذي لا يشبع، والمفتون الذي لا يقلع، وصدق النبي إذ يقول: ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما اكتسب المال من حرام أم من حلال)) [3].
ولهذا تجد هذا الصنف يأخذ المال بالربا، ويستحلون الرشا ويأخذونه ثمنًا لبضائع محرمة، قيمًا للمصورات وأنواع المخدرات، وأفلام المجون والغناء، وبخس المقاس والكيل والعد والوزن علنًا، وناهيك بما فيه من إعانة على المنكر، وفتح أبواب الفساد والشر، وفي الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: ((إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)) [4].
فالحلال عند هذا الصنف ما حل في يده بأي سبب، والحرام ما عجز عن تحصيله مع الجد في الطلب، ولكن إن ربك لبالمرصاد، فهذا ماله وبالٌ عليه، وشؤمٌ يعود عليه، فإن أكل منه لم يؤجر عليه، وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن أمسكه لم يبارك له فيه، وإن دعا وهو في جوفه لم يستجب له، وإن تركه لورثته كان زاده إلى النار، لغيره غنمه، وعليه إثم تحصيله وغرمه، وكم تسلط عليه في حياته من أسباب الهلاك والإتلاف، حتى ينفق رياء وبين التبذير والإسراف.
أما الذي يكسب ماله من طرق الحلال، ويتقي في طلبه ذا الكرم والجلال، ويفقه فيما يعود عليه بالنفع في الحال والمآل، يتوصل به إلى فعل الخيرات، ونفع ذوي القربات، وإعانة أهل الحاجات؛ فذاك يبارك له في ماله، ويكون من أسباب صلاح قلبه وأعماله وأحواله، إن أنفق منه أُجر عليه، وإن تمتع به بورك له فيه، وإن تصدق به قبل منه وضوعف له، وإن دعا ربه استجاب له، وإن ترك لوارثه كان خيرًا له، فنعم المال الصالح للرجل الصالح: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4]. فقد ذهب أهل الأموال الصالحون بالدرجات العلى والنعيم المقيم.(/1)
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأجملوا في الطلب، واكسبوا المال من وجوه حله، وأنفقوه في محله، واعلموا أن رزق الله لا يجلبه حرص حريص، ولا يدفعه كراهية كاره، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، وإن الرزق ليطلب الرجل كما يطلبه أجله.
أيها المسلمون: أما فتنة الأولاد فإنها والله أخطر من فتنة الأموال على كثير من العباد؛ فإنهم مبخلة مجبنة، وصدق الله العظيم إذ يقول: إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]. وذلك فن بهم بعض الناس في هذا الزمان، حتى خشي عليه من التفريط في الإيمان، يوفرهم حتى عن المشي إلى الصلاة، ويسليهم حتى بالمحرم من الشهوات والأصوات، ويغضب لهم حتى يعادي الناصح، ويقرهم على ما هم عليه من القبائح، ويرضيهم حتى بتوفير أسباب هلاكهم، ويحميهم حتى عما يصلح قلوبهم وأعمالهم، وكم من أخوين صالحين متهاجرين بسبب الأولاد، وكم من جارين متعاديين بسببهم؛ كل واحد منهما للآخر بالمرصاد، وحبك الشيء يعمي ويصم، ولكن الويل الويل من هول يوم المعاد.
فاتقوا الله معاشر المسلمين في أولادكم، ولا تلهوا بهم عن هول يوم معادكم، قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، وقال سبحانه: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. ووقايتهم من النار إنما تكون بأمرهم بالصلاة، وتربيتهم على أنواع الطاعات، وتأديبهم إذا لم يجد فيهم النصح والإرشاد على ما قد يرتكبونه من المخالفات، والأخذ على أيديهم، وأطرهم على الحق أطرًا؛ لصيانتهم من اقتحام المحرمات.
أيها المسلمون: ومن الفتنة المخيفة في هذا الزمان ما عليه بعض النساء من أنواع الطغيان من التبرج والسفور، وما يرتكبنه من عظائم الأمور، من مخالطة الرجال، والخلوة بغير المحارم في كثير من الأحوال، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تخفى، وشؤم عواقبها في كل لحظة يخشى، وقد حذركم من فتنة النساء إذ يقول: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)) [5]. ويقول: ((فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) [6]. وكم بين المسلمين اليوم من النساء اللآتي تنطبق عليهن أوصاف أحد أصناف النار، كما جاء وصفهن عن النبي المصطفى المختار، بقوله: ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) [7].
فصونوا نساءكم من أسباب الردى، وقوموهن على البر والتقوى، واحذروا أن يغلبنكم على أموركم فـ((لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة)) [8]، و((إنما هلكت الرجال حين أطاعت النساء)) [9] في الحديث: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن)) [10]. ومن عرف أنهن فتنة حذر أن يهلكنه، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ به غيره، فاتقوهن واحذروهن وأطعموهن واكسوهن وعاشروهن بالمعروف، وأحسنوا إليهن واستوصوا بهن خيرًا؛ فإن: ((خياركم خياركم لنسائهم))[11]، ولكن لا تسلموا لهن القياد، ولا تجعلوهن هدفًا لأنظار ومطامع مرضى القلوب الساعين في الإفساد؛ فأنتم لهن راعون، وعليهن قوامون، وعنهن مسئولون؛ فإنهن عوان عندكم، فحققوا القوامة، وأحسنوا الولاية: الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/140)، والترمذي (2336) وقال: صحيح غريب، والحاكم (4/318) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
[2] أخرجه البخاري ح (6425)، ومسلم ح (2961).
[3] أخرجه البخاري ح (2059).
[4] أخرجه البخاري ح (3118).
[5] أخرجه البخاري ح (5096)، ومسلم ح (2740).
[6] أخرجه مسلم ح (2742).
[7] أخرجه مسلم ح (2128).
[8] أخرجه البخاري ح (4425).
[9] أخرجه أحمد (5/45)، وفي إسناده: بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، قال عنه الذهبي: قال ابن معين: ليس بشيء... قال ابن عدي: هو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم. وذكره العقيلي في الضعفاء. اهـ. ويكفي عنه الحديث الذي قبله في الصحيح.(/2)
[10] أخرجه البخاري ح (1462)، ومسلم ح (79).
[11] صحيح، أخرجه أحمد (2/250، 472)، والترمذي ح (1162).(/3)
... ...
الفريضة الغائبة الجهاد ... ... ...
سليمان حمدالعودة ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- تعظيم الجهاد والتحذير من التهاون فيه. 2- فضل الجهاد وضرورة إحياء هذه الفريضة. 3- أحوالنا ومجتمعاتنا عندما نترك الجهاد. 4- الإخلاص شرط قبول الجهاد. 5- فتح سمرقند ونموذج من عز الإسلام وعدله. 6- الجهاد ماض إلى قيام الساعة. 7- الجهد بالمال وتحديث النفس بالجهاد. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
والجهاد في سبيله أعظم تجارة، تحصل بها النجاة من عذاب الله، وهي سبيل لمغفرة الذنوب ودخول الجنة ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الصف:10، 11]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله رغب في الجهاد وجعله ذروة سنام الإسلام، وجاءت شريعته معلية لمنازل المجاهدين في سبيل الله تعالى، فقال: ((وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض)) قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله)) رواه مسلم في صحيحه.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَئَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35]، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، الحديث عن الجهاد في سبيل الله حديث عن معالي الأمور وإن كرهته النفوس، كما قال ربنا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
إنه حديث عن تحرير الفرد والأمة من عبودية الشهوات، واستنقاذ النفوس من الوهم والجبن والخور، وهو طريق إلى نشر الدين وإرهاب العدو، ومد رواق الإسلام بأنحاء المعمورة، وتخليص الأمة من ذل التبعية، وبه يتميز أهل الإسلام والكفر، وينكشف المنافقون وأهل الريب ومن في قلوبهم مرض.
وما فتئ القرآن العظيم ينزل معظمًا للجهاد، وتحذر آياته من التباطؤ عن الخروج لسبب من الأسباب أو عائق من العوائق الأرضية، ويقول جل ذكره: قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].
ونظرًا لتأخر النفوس أحيانًا عن الجهاد لسبب من أسباب الدنيا، فقد جاء العوض في روحة أو غدوة في سبيل الله كبيرًا وغير متكافئ مع متاع الدنيا، يقول : ((لغدوة في سبيل الله أو روحة، خير من الدنيا وما فيها)) رواه البخاري، فإذا كان هذا في الغدوة والروحة فما الظن بما هو أعظم من ذلك من درجات الجهاد؟!
أجل، لقد أعلنها محمد عليه الصلاة والسلام على الملأ، وأقسم وهو الصادق الأمين، أقسم برغبته في الجهاد وفضل الشهادة في سبيل الله يوم أن قال: ((والذي نفسي بيده، لو أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغدو في سبيل الله. والذي نفسي بيده، لوددت أن أُقتل في سبيل الله ثم أُحيا، ثم أُقتل ثم أُحيا ثم أُقتل ثم أُحيا ثم أُقتل)) رواه البخاري في صحيحه.
وفي صحيح البخاري أيضًا، ومسلم واللفظ له عن أنس عن النبي قال: ((ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء غير الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)).
عباد الله، لا بد من إحياء شعيرة الجهاد في النفوس، ولا بد من العلم أن الجهاد أفضل ما تطوع به الإنسان، وتطوعه بالجهاد في سبيل الله أفضل من تطوع الحج والعمرة وعمارة المساجد ولو كان المسجد الحرام، كما قال تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [التوبة:19، 20]، الآيات.(/1)
ومن هنا، تسابق المؤمنون إلى ميادين الجهاد ورغبوا في الشهادة، ولا غرابة أن يلقي أحدهم تمرات كانت معه ويقول: (لئن أنا بقيت حتى آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة) ولا غرابة كذلك أن يتسابق إلى المرابطة في الثغور وهم يسمعون المصطفى يقول: ((رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان)) رواه مسلم في صحيحه.
ولهذا قال أبو هريرة : (لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا كان الرباط في الثغور أفضل من المجاورة بمكة والمدينة، والعمل بالرمح والقوس في الثغور أفضل من صلاة التطوع".
أيها المسلمون، حقًا إن في الجهاد في سبيل الله رفعاً لذل الأمة المسلمة، وما فتئ المسلمون منذ غابت عنهم هذه الفريضة الإسلامية يتمرغون في أوحال الذل والتبعية ويسومهم العدو سوء العذاب، وتلك ـ وربي ـ واحدة من أعلام نبوة محمد وهو القائل: ((إذا تبايعتم بالعينة ـ وهي صورة من الربا ـ وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح.
ومن هنا يَفْرَقُ[1] أعداء الملة من الجهاد ويتخوفون كثيرًا من المجاهدين الصادقين، ويعمدون إلى تشويه صورة الجهاد ورمي المجاهدين بأبشع الألفاظ، وتكاد صيحات المجاهدين وتكبيرهم تقطع أنياط قلوبهم وإن كان استعدادهم ضعيفًا، وإذا لم يستغرب هذا من الأعداء، فإن المؤسف والمستغرب حقًا أن تروج مثل هذه الشائعات في بلاد المسلمين، وتتسلل هذه الأفكار المحبطة للجهاد والمشوهة لصورة المجاهدين عند بعض أبناء المسلمين، ويتردد في الإعلام العربي والإسلامي مفاهيم خاطئة عن الجهاد وأهدافه وعن المجاهدين وصولتهم.
عباد الله، والجهاد في سبيل الله طريقنا إلى العز والتمكين في الدنيا، وهو طريق موصل إلى الجنة والنعيم في الآخرة؛ فالجنة تحت بارقة السيوف، والجنة تحت ظلال السيوف، كما قال محمد عليه الصلاة والسلام.
ترى، كم نحدث أنفسنا بالجهاد، وهل نتخوف على أنفسنا من النفاق حين لا نغزو ولا نحدث أنفسنا بالغزو؟ وفي الحديث الصحيح قال : ((من لم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق)) قال عبد الله بن المبارك: "فنرى أن ذلك كان على عهد رسول الله "، وقال غيره: "والظاهر الموافق للسنة الصحيحة عموم ذلك ولا دليل على هذا التخصيص".
عباد الله، هل نستجيب لنداء ربنا وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]، ترى هل يشعر المسلم مِنْ أجناد المسلمين أنه حينما ينخرط في الجيش إنما يربي نفسه ويعدها للجهاد في سبيل الله، وهل تقوم الاستعدادات في الجيوش في الدول الإسلامية والعربية على تنشئة أفرادها على الجهاد في سبيل الله وقمع الكفر ونشر الإسلام في أقطار المعمورة.
ذلكم توجيه ربنا وهدي محمد عليه الصلاة والسلام.
عباد الله، ومن هنا تبدو خطورة تناسي الجهاد وعدم تحديث النفس به، ويرحم الله أقوامًا وأممًا كانت تنام وتستيقظ على أخبار الجهاد، وترابط الشهور بل الأعوام في الثغور؛ لحماية أمة الإسلام، ونشر دين الله ما بلغ الليل والنهار.
وفي سنن المرسلين وسيرهم عليهم السلام همم عالية للجهاد؛ وفي صحيح البخاري باب "من طلب الولد للجهاد" وبالسند المتصل ساق الحديث عن النبي قال: ((قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين، كلهن تأتي بفارس، يجاهد في سبيله. فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون)).
قال الحافظ ابن حجر ـ يرحمه الله ـ في قوله: "باب من طلب الولد للجهاد" أي ينوي عند المجامعة حصول الولد ليجاهد في سبيل الله، فيحصل له بذلك أجر وإن لم يقع ذلك".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [النساء:95، 96].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] الفَرق: الخوف، وقد فَرِق منه. (مختار الصحاح، مادة: فرق). ... ... ...
... ... ...(/2)
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده، بالقلب واللسان وبالسيف والسنان حتى أتاه اليقين، وأقر الله عينه بنصرة الدين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المسلمين.
عباد الله، ولا ريب أن الجهاد يكون بالنفس والمال والقلب واللسان، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب وإما باللسان، وإما بالمال وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع".
أيها المسلمون، وليس يخفى أن الإخلاص شرط في قبول الأعمال كلها، وقد جاء النص عليه في الجهاد، قال : ((والله أعلم بمن يجاهد في سبيله)) رواه البخاري.
وجاء رجل إلى النبي فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله)) رواه البخاري.
ومن هنا يكون الحديث عن الجهاد الذي ترفع به راية الإسلام، وينشر به العدل، ويحقق به حكم الله في الأرض، ويذل به الكفار، وتطهر به الأرض من الظلم والجور والعدوان، ويخلى بين الناس وعبوديتهم لرب العالمين، وليس الجهاد الذي تزهق به الأرواح بغير حق، أو تدمر به الممتلكات بغير علم ودون فائدة، أو ترفع به الرايات العمّيّة، أو يكون ميدانًا للشهرة، أو تبرز فيه العصبيات والإقليميات الضيقة.
أيها المؤمنون، وفي فترات العز والقوة للمسلمين ترفع رايات الجهاد، ويبرز القادة المجاهدون، وكلما خيم الضعف على الأمة توارت رايات الجهاد، وقل المجاهدون، ومنذ أن بدأ محمد جهاده للأعداء وراية الجهاد مرفوعة على أيدي خلفائه الراشدين من بعده حتى انساح الإسلام في مشرق الأرض ومغربها، وجاءت الدولة الأموية والعباسية لتكملان مسيرة الفتح الإسلامي، وهكذا الدولة الأيوبية والمماليك وغيرها من دول الإسلام، وحينها كان الإسلام عزيزاً والعدو مقهوراً، وأهل الكتاب الذين لا يدينون دين الحق يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
ومع قوة المسلمين وغلبتهم وتحريرهم البلاد وقلوب العباد كان العدل قائمًا، والناس يدخلون في دين الله أفواجًا، إعجابًا بالإسلام وبأخلاق المسلمين الفاتحين.
ومن روائع عدل المسلمين ما تناقلته كتب التأريخ، أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله حين استخلف، وفد عليه قوم من أهل سمرقند، ورفعوا إليه أن كتيبة دخلت مدينتهم، وأسكنها المسلمين على غدر. فكتب عمر إلى عامله أن ينصب لهم قاضيًا ينظر فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين أخرجوا، فنصب لهم جميع بن حاضر الباجي فحكم القاضي بإخراج المسلمين على أن ينابذوهم على سواء، فكره أهل سمرقند الحرب وأقروا المسلمين فأقاموا بين أظهرهم.
ولا عجب أن يؤدي هذا العدل من المسلمين إلى انتشار الإسلام فيما وراء النهر وغيرها من بلاد الله الواسعة.
ترى، ما الذي حل بالمسلمين، حتى تراجعوا عن مراكز القيادة ولم يتركوا الجهاد فقط، بل تخطفهم العدو وغزاهم في قعر دارهم، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، ومن لم يغزُ غزي، ومن لم يدعُ إلى الخير دعي إلى الشر.
أمة الإسلام، ومع فترات الضعف التي تمر بها الأمة المسلمة أحيانًا، فهي أمة خير وذات رحم ولود، بل وذات رسالة خالدة، وقد يفتر جيل أو يتراخى أهل عصر ثم يبعث الله جيلاً آخر أكثر قوة وشجاعة فينصر الله بهم الدين ويكبت الأعداء ويفضح المنافقين.
ومن سمات هذه الأمة المسلمة أن الجهاد فيها ماضٍ إلى يوم القيامة، مع البر والفاجر وذلك بخبر الذي لا ينطق عن الهوى وهو القائل: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم)) واستنبط العلماء من الحديث بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين وهم المسلمون، كذا قال ابن حجر رحمه الله.
أيها المسلمون، ونحن نرى اليوم كيف أرهبت حركات الجهاد وإن كانت متواضعة؟ كم أرهبت أعداءَ الله! فأطفال الحجارة في فلسطين هددوا كيان العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة، وكم أرهب الأفغان والشيشان من بعدهم روسيا القيصرية على الرغم من فارق العدد والعدة! وهكذا الأمر في البوسنة والهرسك وكوسوفا وكشمير والفلبيين وغيرها من بلاد المسلمين، واليوم في داغستان جهاد يثير مخاوف الروس ومن حولهم.
ونسأل الله أن يمكن للمسلمين وأن ينصر المجاهدين الصادقين، ويذل الكفرة ويهزمهم أجمعين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عباد الله، والجهاد بالمال معناه أن تدفع مالاً يستعين به المجاهدون في سبيل الله في نفقتهم ونفقة عيالهم وفي شراء الأسلحة وغيرها من معدات الجهاد. وفضله عظيم، وقد ذكره الله في كتابه مقدمًا على الجهاد بالنفس مما يدل على أهميته ومكانته عند الله.(/3)
وفي سنن ابن ماجه باب "التغليظ في ترك الجهاد" وبالمسند المتصل ساق الحديثَ عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من لم يغز أو يجهز غازيًا أو يخلف غازيًا في أهله بخير أصابه الله سبحانه بقارعة قبل يوم القيامة)) إسناده حسن.
ألا فحدثوا أنفسكم ـ معاشر المسلمين ـ بالجهاد، وربُّوا ناشئتكم على حبه، وعلموهم الرماية وركوب الخيل، وأعينوا المجاهدين الصادقين بأموالكم ودعواتكم.
اللهم ارفع راية الجهاد، وأذل به ما انتشر من البلاء والفساد.
هذا وصلوا وسلموا على نبي الهدى والرحمة، فقد أمركم الله بذلكم في مُحكم التنزيل، فقال جل قائل عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
القابضات على الجمر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي أسكن عباده هذه الدار .. وجعلها لهم منزلة سفر من الأسفار .. وجعل الدار الآخرة هي دار القرار .. فسبحان من يخلق ما يشاء ويختار .. ويرفق بعباده الأبرار في جميع الأقطار .. وسبق رحمته بعباده غضبه وهو الرحيم الغفار ..أحمده على نعمه الغزار ..وأشكره وفضله على من شكر مدرار ..وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار ..وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار ..الرسول المبعوث بالتبشير والإنذار صلى الله عليه وسلم .. صلاة تتجدد بركاتها بالعشي والأبكار ..
أما بعد :
فهذه رسالة .. رسالة .. إلى القابضات على الجمر ..
رسالة .. إلى أولئك الفتيات الصالحات .. والنساء التقيات ..
حديثٌ .. إلى اللاتي شرفهن الله بطاعته .. وأذاقهن طعم محبّته ..
إلى حفيدات خديجة وفاطمة .. وأخوات حفصة وعائشة ..
هذه أحاسيس .. أبثها ..إلى من جعلن قدوتهن أمهات المؤمنين ..
وغايتهن رضا رب العالمين ..إلى اللاتي طالما دعتهن نفوسهن إلى الوقوع في الشهوات ..
ومشاهدة المحرمات .. وسماع المعازف والأغنيات ..
فتركن ذلك ولم يلتفتن إليه .. مع قدرتهن عليه .. خوفاً من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار ..
هذه وصايا .. إلى الفتيات العفيفات .. والنساء المباركات .. اللاتي يأمرن بالمعروف .. وينهين عن المنكر .. ويصبرن على ما يصيبهن ..
هذه همسات .. إلى حبيبة الرحمن .. التي لم تجعل همها في القنوات .. ومتابعة آخر الموضات .. وتقليب المجلات .. وإنما جعلت الهموم هماً واحداً هو هم الآخرة ..
هذه رسالة .. إلى تلك المؤمنة العفيفة التي كلما كشر الفساد حولها عن أنيابه .. رفعت بصرها إلى السماء وقالت : اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ..
هذه رسالة .. إلى القابضات على الجمر اللاتي قال فيهن النبي صلى الله عليه وسلم : ( يأتي على
الناس زمان يكون فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر ) ..
رسالة .. إلى المرأة الصالحة التقية .. التي قدمت محبة الله وأوامره .. على تقليد فلانة أو فلانة .. فأصبحت غريبة بين النساء بسبب صلاحها وفسادهن .. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لها فيما رواه ابن ماجة والدارمي : " إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء " . قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : " الذين يصلحون إذا فسد الناس " ..
هذه كلمات .. إلى القابضات على الجمر .. لأذكرهن بأخبار من تقدمهن إلى طريق الجنة .. ممن تركن لذة الحياة .. وحملن همَّ الدين .. حتى ضاعف الله لهن الحسنات .. وكفر السيئات .. ورفع الدرجات .. حتى سبقن كثيراً من الرجال ..
أول تلك القابضات على الجمر ..
هي تلك المرأة الصالحة التي كانت تعيش هي وزوجها .. في ظل ملك فرعون .. زوجها مقرب من فرعون .. وهي خادمة ومربية لبنات فرعون ..
فمن الله عليهما بالإيمان .. فلم يلبث زوجها أن علم فرعون بإيمانه فقتله ..فلم تزل
الزوجة تعمل في بيت فرعون تمشط بنات فرعون .. وتنفق على أولادها الخمسة .. تطعمهم كما تطعم الطير أفراخها ..
فبينما هي تمشط ابنة فرعون يوماً .. إذ وقع المشط من يدها ..
فقالت : بسم الله .. فقالت ابنة فرعون : الله .. أبي ؟
فصاحت الماشطة بابنة فرعون : كلا .. بل الله .. ربي .. وربُّك .. وربُّ أبيك ..
فتعجبت البنت أن يُعبد غير أبيها ..
ثم أخبرت أباها بذلك .. فعجب أن يوجد في قصره من يعبد غيره ..
فدعا بها .. وقال لها : من ربك ؟ قالت : ربي وربك الله ..
فأمرها بالرجوع عن دينها .. وحبسها .. وضربها .. فلم ترجع عن دينها .. فأمر فرعون
بقدر من نحاس فملئت بالزيت .. ثم أحمي .. حتى غلا ..
وأوقفها أمام القدر .. فلما رأت العذاب .. أيقنت أنما هي نفس واحدة تخرج وتلقى الله
تعالى .. فعلم فرعون أن أحب الناس أولادها الخمسة .. الأيتام الذين تكدح لهم ..
وتطعمهم .. فأراد أن يزيد في عذابها فأحضر الأطفال الخمسة .. تدور أعينهم .. ولا
يدرون إلى أين يساقون ..
فلما رأوا أمهم تعلقوا بها يبكون .. فانكبت عليهم تقبلهم وتشمهم وتبكي .. وأخذت
أصغرهم وضمته إلى صدرها .. وألقمته ثديها ..
فلما رأى فرعون هذا المنظر ..أمر بأكبرهم .. فجره الجنود ودفعوه إلى الزيت المغلي
.. والغلام يصيح بأمه ويستغيث .. ويسترحم الجنود .. ويتوسل إلى فرعون .. ويحاول
الفكاك والهرب ..
وينادي إخوته الصغار .. ويضرب الجنود بيديه الصغيرتين .. وهم يصفعونه ويدفعونه ..
وأمه تنظر إليه .. وتودّعه ..
فما هي إلا لحظات .. حتى ألقي الصغير في الزيت .. والأم تبكي وتنظر .. وإخوته
يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة .. حتى إذا ذاب لحمه من على جسمه النحيل .. وطفحت
عظامه بيضاء فوق الزيت .. نظر إليها فرعون وأمرها بالكفر بالله .. فأبت عليه ذلك ..
فغضب فرعون .. وأمر بولدها الثاني .. فسحب من عند أمه وهو يبكي ويستغيث .. فما هي(/1)
إلا لحظات حتى ألقي في الزيت .. وهي تنظر إليه .. حتى طفحت عظامه بيضاء واختلطت بعظام أخيه .. والأم ثابتة على دينها .. موقنة بلقاء ربها ..
ثم أمر فرعون بالولد الثالث فسحب وقرب إلى القدر المغلي ثم حمل وغيب في الزيت ..
وفعل به ما فعل بأخويه ..
والأم ثابتة على دينها .. فأمر فرعون أن يطرح الرابع في الزيت ..
فأقبل الجنود إليه .. وكان صغيراً قد تعلق بثوب أمه .. فلما جذبه الجنود .. بكى وانطرح على قدمي أمه .. ودموعه تجري على رجليها .. وهي تحاول أن تحمله مع أخيه ..
تحاول أن تودعه وتقبله وتشمه قبل أن يفارقها .. فحالوا بينه وبينها .. وحملوه من
يديه الصغيرتين .. وهو يبكي ويستغيث .. ويتوسل بكلمات غير مفهومة .. وهم لا يرحمونه ..
وما هي إلا لحظات حتى غرق في الزيت المغلي .. وغاب الجسد .. وانقطع الصوت .. وشمت الأم رائحة اللحم .. وعلت عظامه الصغيرة بيضاء فوق الزيت يفور بها ..تنظر الأم إلى عظامه .. وقد رحل عنها إلى دار أخرى ..
وهي تبكي .. وتتقطع لفراقه .. طالما ضمته إلى صدرها .. وأرضعته من ثديها .. طالما
سهرت لسهره .. وبكت لبكائه ..
كم ليلة بات في حجرها .. ولعب بشعرها .. كم قربت منه ألعابه .. وألبسته ثيابه ..
فجاهدت نفسها أن تتجلد وتتماسك ..فالتفتوا إليها .. وتدافعوا عليها ..
وانتزعوا الخامس الرضيع من بين يديها .. وكان قد التقم ثديها ..
فلما انتزع منها .. صرخ الصغير .. وبكت المسكينة .. فلما رأى الله تعالى ذلها
وانكسارها وفجيعتها بولدها .. أنطق الصبي في مهده وقال لها :
يا أماه اصبري فإنك على الحق ..ثم انقطع صوته عنها .. وغيِّب في القدر مع إخوته ..
ألقي في الزيت .. وفي فمه بقايا من حليبها ..
وفي يده شعرة من شعرها .. وعلى أثوابه بقية من دمعها ..
وذهب الأولاد الخمسة .. وهاهي عظامهم يلوح بها القدر ..
ولحمهم يفور به الزيت .. تنظر المسكينة .. إلى هذه العظام الصغيرة ..
عظام من ؟ إنهم أولادها .. الذين طالما ملئوا عليها البيت ضحكاً وسروراً .. إنهم
فلذات كبدها .. وعصارة قلبها .. الذين لما فارقوها .. كأن قلبها أخرج من صدرها ..
طالما ركضوا إليها ..وارتموا بين يديها ..
وضمتهم إلى صدرها .. وألبستهم ثيابهم بيدها .. ومسحت دموعهم بأصابعها .. ثم هاهم
ينتزعون من بين يديها .. ويقتلون أمام ناظريها ..
وتركوها وحيدة وتولوا عنها .. وعن قريب ستكون معهم ..
كانت تستطيع أن تحول بينهم وبين هذا العذاب .. بكلمة كفر تسمعها لفرعون .. لكنها
علمت أن ما عند الله خير وأبقى ..
ثم .. لما لم يبق إلا هي .. أقبلوا إليها كالكلاب الضارية .. ودفعوها إلى القدر ..
فلما حملوها ليقذفوها في الزيت .. نظرت إلى عظام أولادها .. فتذكرت اجتماعهم معهم
في الحياة .. فالتفتت إلى فرعون وقالت : لي إليك حاجة .. فصاح بها وقال : ما حاجتك
؟ فقالت : أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفنها في قبر واحد .. ثم أغمضت عينيها ..
وألقيت في القدر .. واحترق جسدها .. وطفت عظامها ..
فلله در هذه الماشطة ما أعظم ثباتها .. وأكثر ثوابها ..
ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء شيئاً من نعيمها .. فحدّث به أصحابه وقال لهم فيما رواه البيهقي : ( لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة .. فقلت: ما هذه الرائحة ؟ فقيل لي : هذه ماشطة بنت فرعون وأولادُها .. ) ..
الله أكبر تعبت قليلاً .. لكنها استراحت كثيراً ..
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين * الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم * الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } ..
مضت هذه المرأة المؤمنة إلى خالقها .. وجاورت ربها ..
ويرجى أن تكون اليوم في جنات ونهر .. ومقعد صدق عند مليك مقتدر .. وهي اليوم أحسن منها في الدنيا حالاً .. وأكثر نعيماً وجمالاً ..
وعند البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً .. ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ..
وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : من دخل الجنة ينعم لا يبؤس ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه . وله في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ..ومن دخل إلى الجنة نسي عذاب الدنيا .. فمن سكان الجنة ؟!
إنهم .. أهل الصيام مع القيام وطيب الكلمات والإحسان
أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان
عسل مصفى ثم ماء ثم خمر ثم أنهار من الالبان(/2)
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم ولحومهم طير ناعم وسمان
وفواكه شتى بحسب مناهم يا شبعة كملت لذي الإيمان
وصحافهم ذهب تطوف عليهم بأكف خدام من الولدان
وشرابهم من سلسبيل مزجه الكافور ذاك شراب ذي الإيمان
والحُلْيُ أصفى لؤلؤ وزبرجد وكذاك أسورة من العقيان
هذا وخاتمة النعيم خلودهم أبداً بدار الخلد والرضوان
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن أين المشتري فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن كيف تصبر العشاق عنك وهم ذوو إيمان
والله لم تخرج إلى الدنيا للذة عيشها أو للحطام الفاني
لكن خرجت لكي تعدَّ الزاد للأخرى فجئت بأقبح الخسران
ـــ
فما أطيب عيش المؤمنة في الجنة ..
عندما تتقلبُ في أنهارها .. وتشربُ من عسلها ..
بل وتنظر إلى وجه ربها ..
ما أطيب عيشك أنت .. وربُك يسألك في الجنة :
يا فلانة .. هل رضيت .. هل رضيت بما أنت فيه من النعيم ..
فتقولين : وما لي لا أرضى وقد أعطيتني ما أرجو وأمنتني مما أخاف ..
فيقول : أعطيك أعظم من ذلك .. ثم يكشف الحجاب عن وجهه فتنظرين إليه ..
فلا تنصرفين إلى شيء من النعيم ما دمت تنظرين إليه ..
{ كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده
المقربون * إن الأبرار لفي نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم * يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون * ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون } ..
ولكن لن يصل أحد إلى الجنة إلا بمقاومة شهواته .. فلقد حفت الجنة بالمكاره .. وحفت
النار بالشهوات .. فاتباع الشهوات في اللباس .. والطعام .. والشراب .. والأسواق ..
طريق إلى النار .. قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : ( حفت الجنة بالمكاره .. وحفت النار بالشهوات ) ..
فاتعبي اليوم وتصبَّري .. لترتاحي غداً ..
فإنه يقال لأهل الجنة يوم القيامة : { سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } ..
أما أهل النار فيقال لهم : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون } ..
ـ
هذه أولى القابضات على الجمر ..
ثبتت على دينها برغم الفتنة العظيمة التي أحاطت بها ..
فعجباً والله لفتيات .. لا تستطيع إحداهن الثبات على إقامة الصلاة .. فلا تزال تتساهل بأدائها حتى تتركها حتى تكفر ..
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) ..
ومن تركت الصلاة خلدها الله في النيران .. وعذبها مع الشيطان .. وأبعدها عن النعيم
.. وسقاها من الحميم ..
{ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } ..
ذكر الذهبي في الكبائر ..
أن امرأة ماتت فدفنها أخوها .. فسقط كيس منه فيه مال في قبرها فلم يشعر به حتى
انصرف عن قبرها .. ثم ذكره فرجع إلى قبرها فنبش التراب .. فلما وصل إليها وجد القبر يشتعل عليها ناراً .. ففزع .. ورد التراب عليها ..
ورجع إلى أمه باكياً فزعاً وقال : أخبريني عن أختي وماذا كانت تعمل ؟
فقالت الأم : و ما سؤالك عنها ؟
قال : يا أمي إني رأيت قبرها يشتعل عليها ناراً ..
فبكت الأم وقالت : كانت أختك تتهاون بالصلاة .. وتؤخرها عن وقتها .
فهذا حال من تؤخر الصلاة عن وقتها .. فلا تصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس .. أو تؤخر غيرها من الصلوات ..
فكيف حال من لا تصلي ؟
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤياه لعذاب من يخرج الصلاة عن وقتها .. فقال :
أتاني الليلة آتيان .. وإنهما ابتعثاني .. وإنهما قالا لي : انطلق .. وإني انطلقت معهما ..
وإنا أتينا على رجل مضطجع .. وإذا آخر قائم عليه بصخرة .. وإذا هو يهوي بالصخرة
لرأسه .. فيثلغ رأسه ..فيتدهده الحجر هاهنا .. فيتبع الحجر .. فيأخذه .. فلا يرجع إليه حتى يصحَّ رأسه كما كان ثم يعود عليه ..فيفعل به مثل ما فعل به مرة الأولى ..
فقلت : سبحان الله !! ما هذان ..فقال الملكان : هذا الرجل .. يأخذ القرآن فيرفضه .. ( يعني لا يعمل بما فيه ) ..وينام عن الصلاة المكتوبة ..
{ كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } ..
ـ
أما ثانية القابضات على الجمر ..
فقد كانت ملكة على عرشها ..
على أسرةٍ ممهدة ، وفرشٍ منضدة ..
بين خدم يخدمون .. وأهلٍ يكرمون ..
لكنها كانت مؤمنة تكتم إيمانها ..
إنها آسية .. امرأة فرعون .. كانت في نعيم مقيم ..
فلما رأت قوافل الشهداء .. تتسابق إلى السماء ..
اشتاقت لمجاورة ربّها .. وكرهت مجاورة فرعون ..
فلما قتل فرعون الماشطة المؤمنة .. دخل على زوجه آسيةَ يستعرض أمامها قواه ..
فصاحت به آسية : الويل لك ! ما أجرأك على الله .. ثم أعلنت إيمانها بالله ..
فغضب فرعون .. وأقسم لتذوقَن الموت .. أو لتكفرَن بالله ..(/3)
ثم أمر فرعون بها فمدت بين يديه على لوحٍ .. وربطت يداها وقدماها في أوتاد من حديد
.. وأمر بضربها فضربت ..
حتى بدأت الدماء تسيل من جسدها .. واللحم ينسلخ عن عظامها ..
فلما اشتدّ عليها العذاب .. وعاينت الموت ..رفعت بصرها إلى السماء .. وقالت :
{ رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم
الظالمين } ..
وارتفعت دعوتها إلى السماء ..
قال ابن كثير : فكشف الله لها عن بيتها في الجنة ..
فتبسمت .. ثم ماتت .. نعم .. ماتت الملكة ..
التي كانت بين طيب وبخور .. وفرح وسرور ..
نعم تركت فساتينها .. وعطورها .. وخدمها .. وصديقاتها ..
واختارت الموت ..
لكنها اليوم .. تتقلب في النعيم كيفما شاءت ..
ولماذا لا يكون جزاؤها كذلك .. وهي .. طالما ..
وقفت تناجي ربها والليل مسدول البراقع
تصغي لنجواها السماء وقد جرت منها المدامع
تدعو فتحتشد الملائك والدجى هيمان خاشع
والعابدات الزاهدات جفت مراقدُها المضاجع
وتخرّ للرحمن ساجدة مطهرة النوازع ..
نفعها صبرها على الطاعات .. ومقاومتها للشهوات ..
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا * أولئك لهم
جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقاً } ..
فأين نساؤنا اليوم ؟
أين نساؤنا عن سير هؤلاء الصالحات ..
أين النساء اللاتي يقعن في المخالفات الشرعية في لباسهن .. وحديثهن .. ونظرهن .. ثم
إذا نصحت إحداهن قالت : كل النساء يفعلن مثل ذلك .. ولا أستطيع مخالفة التيار ..
سبحان الله !!
أين القوةُ في الدين .. والثباتُ على المبادئ ..
إذا كانت الفتاة بأدنى فتنة تتخلى عن طاعة ربها .. وتطيع الشيطان .. أين الاستسلام
لأوامر الله .. والله تعالى يقول : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً } ..
أين تلك الفتيات العابثات .. اللاتي تتعرض إحداهن للعنة ربها ..
فتلبس عباءتها على كتفها .. فيرى الناس تفاصيل كتفيها وجسدها .. إضافة إلى تشبهها
بالرجال .. لأن الرجال هم الذين يلبسون عباءاتهم على أكتافهم .. ومن تشبهت بالرجال
فهي ملعونة ..
وأين تلك المرأة التي تنتف حواجبها وتغير خلق الله .. والنبي صلى الله عليه وسلم قد لعن النامصة والمتنمصة ..
وأين تلك تلك الواشمة .. التي تضع الوشم على وجهها على شكل نقط متفرقة .. أو على
شكل رسوم في مناطق من جسدها .. وهذا فعل المومسات .. والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال : لعن الله الواشمة والمستوشمة ..
بل .. أين تلك المرأة التي تلبس الشعر المستعار .. أو ما يسمى بالباروكة .. والله تعالى قد لعن الواصلة والمستوصلة ..
فهؤلاء النساء ملعونات ..أتدرين ما معنى ملعونة ؟! أي مطرودة من رحمة الله ..
مطرودة عن سبيل الجنة ..
أو ترضين أن تطردي عن الجنة .. بسبب شعرات تنتفينها من حاجبيك .. أو عباءة تنزلينها على كتفيك .. أو نقاط من وشم في أنحاء جسدك ..
أو تريدين الجمال ؟!
ليس الجمال والله بالتعرض للعنة الله وسخطه ..
بل الجمال الحقيقي هو ما يكون بطاعة الله ..
ويكمل الجمال ويزين .. للمؤمنات في الجنة ..
فإذا كان الله تعالى قد وصف الحور العين بما وصف ..
وهن لم يقمن الليل .. ولم يصمن النهار .. ولم يصبرن عن الشهوات ..
فما بالك بجمالك أنت .. وحسنك .. وبهائك ..
وأنت التي طالما خلوت بربك في ظلمة الليل .. يسمع نجواك .. ويجيب دعاك .. طالما
تركت لأجل رضاه اللذات .. وفارقت الشهوات ..
فيا بشراك وقد تلقتك الملائكة عند الأبواب .. تبشرك بالنعيم وحسن الثواب .. وقد
ازددت جمالاً فوق جمالك ..
{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } ..
فأنت في الجنة .. قد ..
كملت خلائقُك وأكمل حسنك كالبدر ليل الست بعد ثمان
والشمس تجري في محاسن وجهك والليل تحت ذوائب الأغصان
والبرق يبدو حين يبسم ثغرك فيضيء سقف القصر بالجدران
وتبختري في مشيكِ ويحق ذاك لمثلك في جنة الحيوان
ووصائف من خلفكِ وأمامكِ وعلى شمائلكِ ومن أيمان
لا تؤثرِ الأدنى على الأعلى فتحرمي ذا وذا يا ذلة الحرمان
منتكِ نفسُك باللحاق مع القعو د عن المسير وراحة الأبدان
ولسوف تعلمِ حين ينكشف الغطا ماذا صنعتِ وكنتِ ذا إمكان
ـ
فأين تلك المسكينة .. التي تعرض عن سماع السور والآيات .. وتستمع إلى المعازف
والأغنيات .. فتتعرض لعذاب الله .. وتحرم من سماع الغناء في الجنة .. سبحان الله ..
ما كفاك القرآن وسماعُه .. فتركتيه وبحثت عن الغناء .. قال محمد ابن المنكدر : إذا
كان يوم القيامة نادى مناد :
أين الذين كانوا ينزهون أسماعهم وأنفسهم عن مجالس اللهو ومزامير الشيطان ؟!(/4)
أسكنوهم رياض المسك .. ثم يقول الله للملائكة : اسمعوهم تمجيدي وتحميدي ..
وعن شهر بن حوشب : أن الله جل ثناؤه يقول لملائكته : إن عبادي كانوا يحبون الصوت الحسن في الدنيا فيدعونه من أجلي .. فأسمعوا عبادي ..
فيأخذون بأصوات من تسبيح وتكبير لم يسمعوا بمثله قط ..
قال ابن عباس
ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا لذة الأسماع لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
واهاً لذياك السماع فكم به للقلب من طرب ومن أشجان
نزه سماعك إن أردت سماع ذياك الغنا عن هذه الألحان
حب الكتاب وحب الحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان
والله إن سماعهم في القلب والإيمان مثل السم في الأبدان
والله ما انفك الذي هو دأبه أبدا من الإشراك بالرحمن
فالقلب بيت الرب جل جلاله حبا وإخلاصا مع الإحسان
فإذا تعلق بالسماع أصاره عبداً لكل فلانة وفلان ..
ـ
بل إن القابضات على الجمر .. لم يكتفين بالصبر على العذاب .. وتحمل البلاء .. وإنما
كان لهن في نصر الدين .. ومقاومة الباطل .. بطولات وأعاجيب .. صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم .. عجوز قد جاوز عمرها الستين سنة .. فلما اجتمع الكفار من قريش وغيرها .. وتآمروا على غزو المدينة .. حفر المسلمون خندقاً في جهة من جهات المدينة .. وكانت الجبال تحيط ببقية الجهات ..
وكان عدد المسلمين قليلاً .. فاستنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم للرباط أمام الخندق لصدّ من يتسلل إليهم من الكفار ..
أما النساء والصبيان فقد جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم في حصن منيع .. ولم يترك عندهم من يحرسهم .. لقلة المسلمين وكثرة الكفار ..
وبينما النبي صلى الله عليه وسلم منشغل مع أصحابه في القتال عند الخندق .. تسلل جمع من اليهود حتى وصلوا إلى الحصن .. ثم لم يجرؤا على الدخول خشية من وجود أحد من المسلمين .. فاصطفوا خارج الحصن .. وأرسلوا واحداً منهم يستطلع لهم الأمر .. فجعل هذا اليهودي يطوف بالحصن .. حتى وجد فرجة فدخل منها .. وجعل يبحث وينظر .. فرأته صفية رضي الله عنها .. ففزعت وقالت في نفسها :
هذا اليهودي يطوف بالحصن .. وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَن وراءنا من
يهود .. وقد شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.. وإن صرخت فزعت النساء والصبيان .. وعلم اليهودي أن لا رجال في الحصن ..
فتناولت سكيناً وربطتها في وسطها .. ثم أخذت عموداً من خشب ..
ونزلت من الحصن إليه وتحينت منه التفاتة .. فضربته بالعمود على أم رأسه .. حتى
قتلته .. فلما خمد .. تناولت سكيناً .. فلله درّ صفية .. تلك العابدة التقية ..
ـ
فتأملي في جرأتها وبذلها نفسها لخدمة الدين ..
فكم تبذلين أنت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
كم ترين في المجالس من النامصات .. وفي الأسواق من المتبرجات .. وفي الأعراس من المتعريات .. فماذا فعلت تجاههن ؟!
{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز
حكيم } ..
ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استحق اللعنة ..
{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } ..
ولا تخجلي من ذلك فالدعوة تحتاج إلى جرأة في أولها .. ثم تفرحين بآخرها ..
والصالحات القابضات على الجمر .. إذا أتى إحداهن الأمر من الشريعة .. أطاعت ..
وسلّمت .. وأذعنت .. ولم تعترض .. أو تخالف .. أو تبحث عن مخارج ..
وتأملي في خبر تلك الفتاة العفيفة الشريفة .. العروس ..
قال أنس رضي الله عنه : كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له : جليبيب في وجهه دمامة .. فعرض عليه رسول الله التزويج .. فقال : إذا تجدني كاسداً ..
فقال : غير أنك عند الله لست بكاسد ..
فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يتحين الفرص لتزويج جليبيب ..
حتى جاء رجل من الأنصار يوماً يعرض ابنته الثيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ليتزوجها .. فقال صلى الله عليه وسلم : نعم يا فلان .. زوجني ابنتك ..
قال : نعم ونعمين .. يا رسول الله ..
فقال صلى الله عليه وسلم : إني لست أريدها لنفسي .. قال : فلمن ؟ قال : لجليبيب ..
قال : جليبيب !! يا رسول الله !! حتى استأمر أمها ..
فأتى الرجل زوجته فقال : إن رسول الله يخطب ابنتك ..
قالت : نعم .. ونعمين .. زوِّج رسول الله صلى الله عليه وسلم .. قال : إنه ليس يريدها لنفسه .. قالت : فلمن ؟ قال : يريدها لجليبيب ..
قالت : حلقى لجليبيب .. لا لعمر الله لا أزوج جليبيباً .. وقد منعناها فلاناً وفلاناً .. فاغتم أبوها لذلك .. وقام ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فصاحت الفتاة من خدرها بأبويها : من خطبني إليكما ؟
قالا : رسول الله صلى الله عليه وسلم ..(/5)
قالت : أتردان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ؟ ادفعاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فإنه لن يضيعني .. فكأنما جلَّت عنهما ..
فذهب أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله .. شأنك بها فزوِّجها جليبيباً .. فزوجها النبي صلى الله عليه وسلم جليبيباً ..
ودعا لها وقال : اللهم صب عليهما الخير صباً .. ولا تجعل عيشهما كداً كداً ..
فلم يمض على زواجه أيام .. حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة .. وخرج معه جليبيب .. فلما انتهى القتال .. وبدأ الناس يتفقد بعضهم بعضاً ..
سألهم النبي صلى الله عليه وسلم : هل تفقدون من أحد قالوا : نفقد فلانا وفلانا ..
ثم قال : هل تفقدون من أحد ؟
قالوا : نفقد فلانا وفلانا ..ثم قال : هل تفقدون من أحد ؟
قالوا : نفقد فلاناً وفلاناً ..قال : ولكني أفقد جليبيباً ..
فقاموا يبحثون عنه .. ويطلبونه في القتلى .. فلم يجدوه في ساحة القتال ..
ثم وجدوه في مكان قريب .. إلى جنب سبعة من المشركين قد قتلهم ثم قتلوه .. فوقف
النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى جثته ..
ثم قال : قتل سبعة ثم قتلوه .. قتل سبعة ثم قتلوه .. هذا مني وأنا منه ..
ثم حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه .. وأمرهم أم يحفروا له قبره ..
قال أنس : فمكثنا نحفر القبر .. وجليبيب ماله سرير غير ساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. حتى حفر له ثم وضعه في لحده ..
قال أنس : فوالله ما كان في الأنصار أيم أنفق منها .. تسابق الرجال إليها كلهم يخطبها بعد جليبيب ..
{ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون * ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } ..
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح : ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا يا رسول الله ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) ..
فأين تلك الفتيات الصالحات .. اللاتي تقدم إحداهن محبة الله ورسوله على هواها .. فإذا سمعت الأمر من الله تعالى قدمته على أمر كل أحد .. بل قدمته على ما تزينه لها صديقاتها .. أو توسوس به لها نفسها ..
قالت عائشة رضي الله عنها كما عند أبي داود : والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار .. أشدَّ تصديقاً بكتاب الله .. ولا إيماناً بالتنزيل .. لقد أنزل في سورة النور قوله تعالى في الأمر بحجاب المؤمنات { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن } ..
فسمعها الرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم انقلبوا إليهن .. يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها .. يتلو الرجل على امرأته .. وابنته .. وأخته .. وعلى كل ذات قرابته ..فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرطها - وهو كساء من قماش تلبسه النساء - .. فاعتجرت به .. - لفته على رأسها - .. وقامت بعضهن إلى أزرهن فشققنها واختمرن بها .. أي الفقيرة التي لم تجد قماشاً تستر به وجهها .. أخذت إزارها وهو ما يلبس من البطن إلى القدمين ثم شقت منه قطعة غطت بها وجهها .. تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله في كتابه ..
قالت عائشة : فأصبحن وراء رسول الله معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان ..
ــ
الله أكبر .. هذا حال المرأة في ذلك الزمان .. في تغطيتها لوجهها .. وسترها لزينتها
.. تتستر حتى لا يراها الرجال ..
هل تدرين من هي هذه المرأة التي أمرت بالتستر ..
إنها عائشة أم المؤمنين .. وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وأسماء بنت أبي بكر .. وغيرهن من الصالحات التقيات ..
وهل تدرين يسترن زينتهن عن من .. عن أبي بكر .. وعمر .. وعثمان .. وعلي .. وغيرهم من الصحابة .. أزكى رجال الأمة .. وأعفُهم وأطهرُهم .. ومع ذلك أمرت النساء بالتستر مع صلاح ذلك المجتمع ..
بل قد نهى الله أبا بكر .. وعمر .. وطلحة .. والزبير .. والصحابة جميعاً عن الاختلاط بالنساء .. فقال : { وإذا سألتموهن متاعاً } يعني إذا سألتم أزواج النبي وهن أطهر النساء .. { فاسألوهن من وراء حجاب } .. لماذا ..؟؟ { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } ..
فكيف الحال اليوم مع نسائنا .. ورجالنا .. وقد فسد الزمان ؟
ماذا نقول لنساء جريئات .. تحادث إحداهن البائع في السوق بكل طلاقة لسان .. وكأنه
زوجُها أو أخوها .. بل قد تضاحكه وتمازحه .. ليخفض لها في السعر .. مع لبسها للنقاب الواسع ..
وقد تزيد على ذلك الخلوة بالسائق .. وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ..
وكل هذه المعاصي هي تعلم أنها معاصٍ .. لكنها مع ذلك تقدم عليها بنعم أعطاها الله
لها .. فتعصي الله بنعمته .. وكأن ربها عاجز عن عذابها ..
سبحان الله .. لو شاء الله لسلب منك هذه النعم التي تعصينه بها !!
اذهبي إلى مستشفى النقاهة وانظري أحوال النساء التي فقدن العافية ..
اذهبي إلى هناك .. لتري فتيات في عمر الزهور ..
لا يتحرك في الواحدة منهن إلا عيناها ..(/6)
أما بقية جسدها فمشلول شلل كلّي .. لو قطعت رجلاها ويداها بالسكاكين لما أحست بشيء .. نسأل الله لهن الشفاء والعافية .. والأجر العظيم ..
كل واحدة منهن .. تتمنى لو تتحكم ولو .. بإخراج البول والغائط ..
بل لا تدري إحداهن أنه قد خرج منها بول أو غائط إلى إذا شمت الرائحة .. يُلْبَسْنَ
حفائظ على عوراتهن كالأطفال ..
وتبقى الحفائظ على بعضهن ثلاثة أيام وأربعة ..
قد كانت مثلك .. تأكل وتشرب .. وتضحك وتلعب .. وتتمشى في الأسواق .. وفجأة .. ودون سابق تحذير .. أصيبت بحادث سيارة .. أو جلطةٌ في القلب أو الدماغ ..
والنتيجة .. صارت حية في صورة ميتة .. عشر سنين .. وعشرين سنة .. وثلاثين ..
{ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون * قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون } ..
ولا يعني أن كل من أصابها مرض فإن ذلك يكون عقوبةً وجزاء .. كلا .. ولكن .. لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ..
والقابضات على الجمر ..
يتسابقن إلى الأعمال الصالحة .. صغيرها وكبيرها .. ولهن في كل ميدان سهم .. ولا
تعلمين ما هو العمل الذي به تدخلين إلى الجنة ..
فلعلَّ شريطاً توزعينه في مدرسة ..
أو نصيحةً عابرة تتكلمين بها .. يكتب الله بها لك رضاه ومغفرتَه ..
ولقد .. أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : أن امرأة بغياً من بني إسرائيل كانت تمشي في صحراء .. فرأت كلباً بجوار بئر يصعد عليه تارة .. ويطوف به تارة .. في يوم حار قد أدلع لسانه من العطش .. قد كاد يقتله العطش .. فلما رأته هذه البغي ..
التي طالما عصت ربها .. وأغوت غيرها .. ووقعت في الفواحش .. وأكلت المال الحرام ..
لما رأت هذا الكلب .. نزعت خفها .. حذاءها .. وأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء .. وسقته ..
فغفر الله لها بذلك .. الله أكبر .. غفر الله لها .. بماذا ..؟
هل كانت تقوم الليل وتصوم النهار ؟! هل قتلت في سبيل الله ؟!
كلا .. وإنما سقت كلباً شربةً من ماء .. فغفر الله لها ..
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها أخبرت عن : امرأة مسكينة جاءتها .. تحمل ابنتين لها .. فقالت : يا أم المؤمنين .. والله ما دخل بطوننا طعام منذ ثلاثة أيام ..
فبحثت عائشة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد إلا ثلاث تمرات ..
فأعطتها الثلاث تمرات .. ففرحت المسكينة بها .. وأعطت كل واحدة من الصغيرتين تمرة .. ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها .. فكانت البنتان لفرط الجوع .. أسرعَ إلى تمرتيهما من الأم إلى تمرتها .. فرفعتا أيديَهما تريدان التمرة التي بيد الأم .. فنظرت الأم إليهما .. ثم شقت التمرة الباقية بينهما ..
قالت عائشة : فأعجبني حنانها .. فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله قد أوجب لها بها الجنة .. أو أعتقها بها من النار ..
فالقابضات على الجمر يتسابقن إلى الطاعات .. وإن كانت يسيرة صغيرة .. والأعظم من ذلك هو الحذر من المعاصي .. وعدم التساهل بها .. فقد قال تعالى عن قوم تساهلوا بالمعاصي وتصاغروها : { وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم } ..
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين .. أنه رأى امرأة تعذب في النار ..
فما الذي أدخلها إلى النار ؟
هل سجدت لصنم ..؟ هل قتلت نبياً ؟ .. هل سرقت أموال الناس .. ؟ كلا ..دخلت امرأة
النار في هرة .. سجنتها .. فلا هي أطعمتها .. ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض
حتى ماتت هزلاً .. قال صلى الله عليه وسلم : فلقد رأيتها في النار والهرة تخدشها ..
وروى البخاري .. أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار .. وتفعل .. وتصدق .. لكنها .. تؤذي جيرانها بلسانها ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا خير فيها .. هي من أهل النار ..
قالوا : وفلانة تصلي المكتوبة .. وتصدق بأثوار – يعني بأجزاء يسيرةٍ من الطعام –
ولا تؤذي أحداً ..
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي من أهل الجنة ..
والقابضات على الجمر في هذا الزمان .. تعلم كل واحدة منهن .. أن الحرب الموجهة إليها حرب ضروس يريدون منها استعبادها .. وهتك عرضها .. باسم الحرية والمساواة ..
فما معنى الحرية التي يدعوا إليها المفسدون ؟ ..
ولماذا لا يدعون إلى تحرير العمال المظلومين .. والضحايا المنكوبين .. والأيتام
المنبوذين ..
لماذا يصرون على أن المرأة العفيفة .. التي تعيش في ظل وليها .. ولو مدَّ أحد
العابثين يده إليها .. لما عادت إليه يده .. لماذا يصرون دائماً على أن هذه المرأة
تحتاج إلى تحرير ..
هل ارتداء المرأة للعباءة والحجاب لتحمي نفسها من النظرات المسعورة .. يعدُّ عبودية
تحتاج أن تحرر المرأة منها ..؟؟
هل تخصيص أماكن معينةٍ لعمل المرأة .. بعيدةٍ عن مخالطة الرجال .. هو عبودية وذلٌ
للمرأة .. ؟(/7)
هل تربية المرأة لأولادها .. ورأفتها ببناتها .. وقرارها في بيتها .. هو عبودية
تحتاج إلى تحرير ..؟؟
ثم .. لماذا نجد أن أكثر من يتنابحون ويدعون إلى تحرير المرأة .. وتكشفها لهم ..
ويزعمون أن حجابها قيد وغلٌ لا بدَّ أن تتحرر منه .. لماذا نجد أن أكثر هؤلاء هم
ليسوا من العلماء .. ولا من المصلحين .. وإنما أكثرهم من الزناة .. وشراب الخمور ..
وأصحاب الشهوات المسعورة ؟؟
فلماذا يدعوا هؤلاء إلى تحرير المرأة ؟
لماذا يستميتون لإخراج العفيفة من بيتها .. لماذا ؟؟ الجواب واضح ..
اشتهوا أن يروها متعرية راقصة فزينوا لها الرقص .. فلما تعرّت وتبذلت .. وأصبحت
تلهو وترقص في المسارح .. أرضوا شهواتهم منها .. ثم صاحوا بها وقالوا : قد حرّرناك
..
واشتهوا أن يتمتعوا بها متى شاءوا .. فزينوا لها مصاحبة الرجال .. ومخالطتهم .. حتى
حوّلوها إلى حمام متنقل .. يستعملونه متى شاءوا .. على فرشهم .. وفي حدائقهم ..
وباراتهم .. وملاهيهم .. فلما تهتكت وتنجّست .. صاحوا بها وقالوا : قد حرّرناك ..
خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرّهن الثناء
واشتهوا أن يروها عارية على شاطئ البحر .. وساقيةً للخمر .. وخادمةً في طائرة ..
وصديقة فاجرة .. فزينوا لها ذلك كلَّه وأغروها بفعله ..
فلما ولغت في مستنقع الفجور .. تضاحكوا بينهم وقالوا : هذه امرأة متحررة .. فمن
ماذا حرّروها ؟
عجباً .. هل كانت في سجن وخرجت منه إلى الحرية ؟
هل الحرية في تقصير الثياب .. ونزع الحجاب ..
أم الحرية في التسكع في الأسواق .. ومضاجعة الرفاق ..
هل الحرية في مكالمة شاب فاجر .. أو الخلوة بذئب غادر ..
أليس الحرية الحقيقية .. والسيادة النقية .. هي أن تكوني عفيفة مستترة ..
أبوك يرأف عليك .. وزوجك يحسن إليك ..
وأخوك يحرسك بين يديك .. وولدك ينطرح على قدميك ..
وهذه هي الكرامة العظيمة التي أرادها الله تعالى لك ..
فلقد أوصى الله بك أباك وأمك :
فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : ( من عال جاريتين حتى تبلغا .. جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه ) ..
وأوصى بك أولادك فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين .. للرجل الذي سأله فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي ؟
قال : أمك .. ثم أمك .. ثم أمك .. ثم أبوك ..
بل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة زوجها .. وذمّ من غاضب زوجته أو أساء إليها .. فعند مسلم والترمذي ..أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في حجة الوداع .. فإذا بين يديه مائةُ ألف حاج .. فيهم الأسود والأبيض .. والكبير والصغير .. والغني والفقير .. صاح صلى الله عليه وسلم بهؤلاء جميعاً وقال لهم : ألا واستوصوا بالنساء خيراً .. ألا واستوصوا بالنساء خيراً ..
وروى أبو داود وغيره .. أنه في يوم من الأيام أطاف بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشتكين أزواجهن ..فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك .. قام .. وقال للناس : لقد طاف بآل محمد صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشتكين أزواجهن .. ليس أولائك بخياركم ..
وصحّ عند ابن ماجة والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خيرُكم خيرُكم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) ..
بل .. قد بلغ من إكرام الدين للمرأة .. أنها كانت تقوم الحروب .. وتسحق الجماجم ..
وتتطاير الرؤوس .. لأجل عرض امرأة واحدة ..
ذكر أصحاب السير :
أن اليهود كانوا يساكنون المسلمين في المدينة ..
وكان يغيظهم نزولُ الأمر بالحجاب .. وتسترُ المسلمات .. ويحاولون أن يزرعوا الفساد
والتكشف في صفوف المسلمات .. فما استطاعوا ..
وفي أحد الأيام جاءت امرأة مسلمة إلى سوق يهود بني قينقاع ..
وكانت عفيفة متسترة .. فجلست إلى صائغ هناك منهم ..
فاغتاظ اليهود من تسترها وعفتها .. وودوا لو يتلذذون بالنظر إلى وجهها .. أو لمسِها
والعبثِ بها .. كما كانوا يفعلون ذلك قبل إكرامها بالإسلام .. فجعلوا يريدونها على
كشف وجهها .. ويغرونها لتنزع حجابها .. فأبت .. وتمنعت .. فغافلها الصائغ وهي جالسة .. وأخذ طرف ثوبها من الأسفل .. وربطه إلى طرف خمارها المتدلي على ظهرها .. فلما قامت .. ارتفع ثوبها من ورائها .. وانكشفت سوأتها .. فضحك اليهود منها.. فصاحت المسلمة العفيفة .. وودت لو قتلوها ولم يكشفوا عورتها .. فلما رأى ذلك رجل من المسلمين .. سلَّ سيفه .. ووثب على الصائغ فقتله ..فشد اليهود على المسلم فقتلوه ..
فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك .. وأن اليهود قد نقضوا العهد وتعرضوا للمسلمات .. حاصرهم .. حتى استسلموا ونزلوا على حكمه ..
فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكل بهم .. ويثأر لعرض المسلمة العفيفة ..
قام إليه جندي من جند الشيطان .. الذين لا يهمهم عرض المسلمات .. ولا صيانة المكرمات .. وإنما هم أحدهم متعة بطنه وفرجه ..
قام رأس المنافقين .. عبد الله بن أبي ابن سلول ..
فقال : يا محمد أحسن في موالي اليهود وكانوا أنصاره في الجاهلية ..(/8)
فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم .. وأبى ..
إذ كيف يطلب العفو عن أقوام يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ..فقام المنافق
مرة أخرى .. وقال : يا محمد أحسن إليهم .. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم .. صيانة لعرض المسلمات .. وغيرة على العفيفات ..
فغضب ذلك المنافق .. وأدخل يده في جيب درع النبي صلى الله عليه وسلم .. وجرَّه وهو يردد : أحسن إلى مواليّ .. أحسن إلى مواليّ ..
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم والتفت إليه وصاح به وقال : أرسلني ..
فأبى المنافق .. وأخذ يناشد النبي صلى الله عليه وسلم العدول عن قتلهم ..
فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : هم لك ..
ثم عدل عن قتلهم .. لكنه صلى الله عليه وسلم أخرجهم من المدينة .. وطرَّدهم من ديارهم ..
إن الصالحات .. القابضات على الجمر .. عفيفاتٌ مستوراتٌ ..
تموت إحداهن ولا تهتك سترها .. بل قد ..
ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب ..
أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. كانت دائمة الستر والعفاف ..
فلما حضرها الموت ..
فكرت في حالها وقد وضعت جثتها على النعش .. وألقي عليها الكساء .. فالتفتت إلى
أسماء بنت عميس ..
وقالت يا أسماء : إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء ..
إنه ليطرح على جسد المرأة الثوب فيصف حجم أعضائها لكل من رأى ..
فقالت أسماء : يا بنت رسول الله .. أنا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة ..
قالت : ماذا رأيتِ .. فدعت أسماء بجريدة نخل رطبة فحنتها .. حتى صارت مقوّسة كالقبة .. ثم طرحت عليها ثوباً .. فقالت فاطمة : ما أحسن هذا وأجمله .. تُعرف بها المرأة من الرجل ..فلما توفيت فاطمة .. جعل لها مثل هودج العروس .. هذا حرص فاطمة على الستر وهي جثة هامدة .. فكيف لما كانت حية ؟!
سبحان الله !!
أين أولئك الفتيات المسلمات .. اللاتي نعلم أنهن يحببن الله ورسوله ..
وقلوبهن تشتاق إلى الجنة .. ولكن مع ذلك :
تذهب إحداهن إلى المشغل النسائي فتكشف عورتها طائعة مختارة لتقوم امرأة أخرى بإزالة الشعر من أجزاء جسدها .. وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي : ( ما من امرأة تضع ثيابها .. في غير بيت زوجها .. إلا هتكت الستر بينها وبين ربها ) .
والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال فيما صح عند البيهقي : ( شر نسائكم المتبرجات المتخيلات ، وهن المنافقات ، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم ) ..
بل .. أين الفتيات المسلمات اللاتي نؤمل فيهن أن ينصرن الإسلام .. ويبذلن أنفسهن وأرواحهن خدمة لهذا الدين ..
فنفاجأ بإحداهن قد لبست العباءة المطرّزة .. أو الكعب العالي .. ثم ذهبت إلى سوق ..
أو حديقة .. أو تلبس إحداهن البنطال .. وتقول : لا يراني إلا إخوتي .. أو أنا ألبسه بين النساء .. وكل هذا لا يجوز .. كما أفتى بذلك العلماء ..
بل قد تزيد بعض النساء بأن لا تكتفي بعمل المعصية بل تجرّ غيرها من الفتيات إليها .. فتنشر الصور المحرّمة .. أو أرقام الهواتف المشبوهة .. أو المجلات المليئة بالعهر والفساد .. والله تعالى يقول : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم
عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون } ..
ــ
إن تساهل المرأة بالتكشف والسفور .. يؤدي إلى فساد حياتها .. وأن تكون أحقر عند
الناس من كل أحد ..
سألت عدداً من الشباب .. ممن يتتبعون الفتيات في الأسواق وعند بوابات المدارس ..
كيف تنظرون إلى الفتاة التي تستجيب لكم فقالوا لي جميعاً – والله - : إننا نحتقرها
ونلعب بها وبعقلها .. فإذا شبعنا منها ركلناها بأرجلنا .. بل قال لي أحدهم : والله
يا شيخ إني إذا ذهبت إلى السوق ورأيت فتاة عفيفة قد جمعت على نفسها ثيابها فإنها
تكبر في عيني .. ولا أجرؤ على الاقتراب منها .. بل والله لو رأيت أحداً يقترب منها
لتشاجرت معه ..
بل انظري إلى ما يحدث في البلاد التي يزعمون أن فيها حرّية ..
فقد بلغت المرأة من التكشف والسفور .. بل التفسخ والانحطاط .. ما ندمت عليه ..
يغتصب يومياً في أمريكا ألفٌ وتسعمائة فتاة .. عشرون في المائة منهن يغتصبن من قبل آبائهن ..!!
ويقتل سنوياً في أمريكا مليون طفل ما بين إجهاض متعمد أو قتل فور الولادة !! وبلغت
نسبة الطلاق في أمريكا ستين في المائة من عدد الزيجات ..!! وفي بريطانيا مائة وسبعون شابة تحمل سفاحاً كلَّ أسبوع !!
كم من امرأة هناك والله تتمنى ما أنتِ عليه من تستر وعفاف ..
بل إن النساء لما تكشفت هناك .. انتشرت الفواحش .. وكثرت السرقات وأنواع الجرائم ..
والشيطان طالما استعمل بعض النساء لتحقيق الفساد في الأرض .. ومن استغواها الشيطان .. فأطاعته وقدمت شهوات نفسها .. وتتبعت الموضات .. في اللباس .. والعباءة .. والنمص .. والوشم .. والأغاني .. والأفلام .. والمجلات .. وصارت هذه الشهوات أغلى عندها من اتباع شريعة ربها .. فهي عاصية .. وما خلقت النار إلا لتأديب العصاة ..(/9)
أخرج مسلم عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم يوماً .. فسمعنا وجبة .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أتدرون ما هذا ؟
فقلنا : الله و رسوله أعلم ..
قال : هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفاً .. فالآن انتهى إلى قعرها ..قال الله
: { خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً * يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً } ..
{ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون * وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين * ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون *
لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون } ..
أما طعامهم فيها فشجرة الزقوم : { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم * خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم * إن هذا ما كنتم به تمترون } ..
أما حالهم في المحشر بين الناس فهم كما قال الله :{ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً } ..
هذا حال من عصت ربها .. وأهملت آخرتها ..
حتى خفت موازينها .. وتبرأ منها أبوها وأمها ..
ولم تنفعها صديقاتها .. ولا أساورها ومجلاتها ..
وأهل النار .. هم في النار لا ينامون ولا يموتون ..
يمشون على النار .. ويجلسون على النار ..
ويشربون من صديد أهل النار .. ويأكلون من زقوم النار ..
فرشهم نار .. ولحفهم نار .. وثيابهم ونار .. وتغشى وجوههم النار ..
قد ربطوا بسلاسل بأيدي الخزنة أطرافها ..
يجرونهم بها في النار .. فيسيل صديدهم .. ويرتفع صراخهم ..
ويلقى الجرب على جلودهم .. فيحكّون جلودهم .. حتى تبدو العظام ..
ولو أن رجلاً أدخل النار .. ثم أخرج منها إلى الأرض ..
لمات أهل الأرض من نتن ريحه .. وتشوّه خلقه ..
{ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون * ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون * قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون } ..
{ فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون
* تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * وما أضلنا إلا المجرمون *
فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم * فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم } ..
ــ
والقابضات على الجمر ..
لا تعيش إحداهن لنفسها فقط .. بل تحمل هم هذا الدين .. ليس هم إحداهن لباسها وحذاؤها .. وتسريحة شعرها .. وإنما همها الأكبر كيف تخدم هذا الدين .. إذا رأت عاصية فكيف تنصحها .. فتجدين أنها مباركة أينما كانت .. تفيد النساء في مجالسهن ..
توزع عليهن الأشرطة النافعة .. تنصح هذه .. وتتودد إلى هذه .. فهي أحسن الناس قولاً
.. { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين }
* * * * * * * *
القابضات على الجمر ..
هن نساء صالحات .. تغض إحداهن بصرها عن النظر إلى الرجال .. بل وتغض بصرها عن النظر إلى من قد تُفتن بها من النساء .. ومن تساهلت بالنظر الحرام .. والخلوة المحرمة .. جرّها ذلك إلى كبيرة الزنا .. أو السحاق عياذاً بالله ..
{ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } ..
وعند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجالاً ونساءً عراة في مكان ضيق مثل التنور .. أسفله واسع وأعلاه ضيق .. وهم يصيحون ويصرخون .. وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم .. فإذا أتاهم ذلك اللهب صاحوا من شدة حره ..قال صلى الله عليه وسلم : فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟
قال : هؤلاء الزناة والزواني .. فهذا عذابهم إلى يوم القيامة .. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .. نسأل الله العفو والعافية .
ومن تساهلت بالمعصية الصغيرة جرتها إلى الكبيرة .. وخشي عليها من سوء الخاتمة ..
والله يقول { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } ..
ذكر ابن جرير في تفسيره .. إن راهباً من بني إسرائيل تعبد ستين سنة ..
وأن الشيطان أراد أن يغويه فلم يقدر عليه ..
فمرضت فتاة لها ثلاثة إخوة ..
فجاؤوا بها إليه .. وجعلوها في بيت قريب منه .. ليأتي إليها ويداويها ..
فوسوس له الشيطان مراراً .. حتى خلا بها .. فوقع عليها وحملت منه ..
فقال له الشيطان : الآن يعلم أخوتها .. فيفضحوك ..
فاقتلها .. وقل لهم : ماتت فصليت عليها ودفنتها ..
فعمد إليها فقتلها ودفنها .. فلم يلبث أخوتها أن علموا به ..
فاشتكوه إلى ملكهم فأمر بصلبه وقتله ..
فلما رُبط ليقتل .. أتاه الشيطان .. وقال له :(/10)
أنا صاحبك الذي وسوست لك حتى أوقعتك ..
فاسجد لي سجدة واحدة .. وأخلصك مما أنت فيه ..
فخرّ له الراهب ساجداً .. فلما سجد له .. قال له الشيطان :
إني بريء منك .. إني أخاف الله رب العالمين ..
فذلك قوله : { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين } ..
واعلمي أن المؤمنات إذا ذُكرن تذكرن ..
ذكر ابن قدامة في كتابه التوابين :
أن قوماً فساق .. أمروا امرأة ذات جمال أن تتعرض للربيع بن خثيم فلعلها تفتنه .. وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم ..
فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب .. وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه ..ثم تعرضت له حين خرج من مسجده .. فنظر إليها .. فراعه أمرها فأقبلت عليه وهي سافرة ..
فقال لها الربيع : كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك ؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين ؟ أم كيف بك لو قد ساء بك منكر ونكير ؟ فصرخت صرخة .. وبكت .. ثم تولت إلى بيتها .. وتعبدت .. حتى ماتت ..
وذكر العجلي في تاريخه :
أن امرأة جميلة بمكة وكان لها زوج فنظرت يوماً إلى وجهها في المرآة ..
فقالت لزوجها : أترى يرى أحد هذا الوجه ولا يفتتن به ؟!
قال : نعم .. قالت : من ؟! قال : عبيد بن عمير العابد الزاهد في الحرم ..
قالت : أرأيت إن فتنته .. وأكشف وجهي عنده ..
قال : قد أذنت لك ..فاتته كالمستفتية فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام ..فأسفرت
عن وجه مثل فلقة القمر ..
فقال لها : يا أمة الله .. غطي وجهك واتق الله ..
فقالت : إني قد فتنت بك ..
فقال : إني سائلك عن شيء .. فإن أنت صدقت .. نظرت في أمرك ..
قالت : لا تسألني عن شيء إلا صدقتك ..
قال : اخبريني .. لو أن ملك الموت أتاك يقبض روحك .. أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة .. قالت : اللهم لا ..
قال : فلو أدخلت في قبرك فأجلست للمساءلة .. أكان يسرك إني قضيت لك هذه الحاجة ؟..
قالت : اللهم لا ..
قال : فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين تأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك .. أكان
يسرك أنى قضيت لك هذه الحاجة ؟
قالت : اللهم لا ..
قال : فلو أردت المرور على الصراط ولا تدرين تنجين أم لا .. كان يسرك أنى قضيت لك هذه الحاجة ..
قالت : اللهم لا .. قال : فلو جيء بالموازين وجيء بك لا تدرين تخفين أم تثقلين .. كان يسرك إني قضيت لك هذه الحاجة ؟
قالت : اللهم لا .. قال : فلو وقفت بين يدي الله للمساءلة .. كان يسرك إني قضيت لك
هذه الحاجة ؟ قالت : اللهم لا ..قال : فاتقي الله يا أمة الله .. فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك .. فرجعت إلى زوجها ..
فقال : ما صنعت ؟ قالت : أنت بطال .. ونحن بطالون .. الناس يتعبدون ويستعدون للآخرة .. وأنا وأنت على هذا الحال ..
فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة .. حتى ماتت ..
وختاماً :
أيتها الجوهرة المكنونة .. والدرةُ المصونة ..
يا مربية الأجيال .. وصانعة الرجال ..
هذه وصايا استخرجتها لك من مكنون نصحي ..
سكبت فيها روحي .. وصدقتكِ فيها النصحَ والتوجيه ..
أسأل الله تعالى أن يحفظك ويحميك من كل سوء ..
وأن يجعلك مباركة في نفسك وأهلك وولدك ..
اللهم وفق وليَّ أمرنا لمل تحب وترضى ..
* * * * * * * *
كتبه / د. محمد بن عبد الرحمن العريفي(/11)
القابضون على الجمر
للشيخ/ محمد صالح المنجد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الحمد لله ملك يوم الدين الحمد لله الذي خلق الخلق وجعل لهم مما أنزل عليهم نبراسا يهتدون به ونورا الحمد لله الذي أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم للعالمين مبشرا ونذيرا فعلمنا العفة وأمرنا بالعفاف ونهانا عن الفحش وبين لنا ما يغضب الرب عزوجل ونحن في زمن عصيب كثرة فيه الفتن عم فيه الفساد تبرج وسفور اختلاط ومجون غناء ورقص دعارة فضائية ومطبوعة ومنشورة ودعاة على أبواب جهنم هذه الأمور الإباحية الفاضحة أفلام جنسية وأغاني فاجرة دعايات سيئة واتصالات مشبوهة خطوط صداقة فاجرة وغرف عارمة بالمعاصي لا يخافون الله عجت الملائكة إلى ربها من ظلم الخلق وفجورهم واشتكت الأرض والسماوات إلى رب البريات وهذه الملائكة صاعدة بأنواع الفحش والفجور من هؤلاء العباد الذين تمردوا على الله وعلى دينه وشرعه زادت الفتن وعم الخطب
هذه المفاسد عمت كل ناحية وهكذا الفحش حل السهل والجبل
وقد طم أكناف الديار وعمها فسوق وعصيان وهتك المحارم(/1)
إننا نبرأ إلى الله في هذا الزمن الذي لم يمر مثله على البشرية في انفتاح الشهوات عليهم وشياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا يا أيها المسلمون يا أيتها المسلمات ماذا حل بنا وصار الذي يصبر عن الحرام ويريد الوقوف أمام موجات الفساد كالقابض على دينه يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر وهكذا إن من وراءكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل القبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله لماذا لعظم الصبر في هذه الأيام أيها الإخوة والأخوات لأن الشهوات قد عمت وطمت لأن الفتن بالمحرمات قد غشيت كل ناحية لأن معسكر الشيطان قد اتسع لأن الحرام صار في الجبل والسهل في الأرض والفضاء في البر والبحر لم يترك ناحية وهكذا صار المسلم محاصر بأنواع المحرمات جهر بالفواحش قلب نظرك في كل ناحية لترى الإعلان عنها كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه رواه البخاري هكذا الدعوة إلى المعاصي بأنواعها والكبائر والإعلان والإذاعة والإشاعة صارت القنوات الفضائية تنقل حيا كما يقولون ولكن مما يميت كل قلب ينظر إليها هذه المجاهرة التي صارت تنقل لحظة بلحظة يتحدثون وهكذا يقومون بأنواع المحرمات استخفافا بأمر الله واعتداءا على شرعه وانتهاكا لحرماته والله سبحانه وتعالى يغار، يغار أن يزني عبده أو تزنيه أمته الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في أنحاء العالم اليوم الأمور القبيحة والمستشنعة تظهر وتنتشر هكذا يريدونها ويختارون أن يذيع الزنى كما قال قتادة رحمه الله أن يظهر الزنا وفعل القبيح ومن أعان على نشرها فقد توعده الله بالعذاب وأنظر في الآية إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فإذا توعد بالعذاب على مجرد محبة أن تشيع الفاحشة فكيف بالذي يعملها كيف بالذي ينشرها ويذيعها كيف بالذي يعلنها ويستعلن بها وهكذا قامت هذه الشبكات العنكبوتية اليوم بضخ أنواع الفواحش عبر العالم تجارة الجنس تقدر بخمسة وسبعين مليارا من الدولارات واثنا عشر في المائة من إجمالي مواقع الشبكة لتجارة الفاحشة وأكثر من ثلاثمائة وأثنين وسبعين مليون صفحة تحمل الخنا والفجور وبليونان ونصف البليون من رسائل البريد الإلكتروني وخمس وعشرين في المائة من إجمالي الطلبات لمستخدمي الشبكة في البحث عن أوكار الفواحش حتى صور الأطفال بل جنس الأطفال كما يسمونه لم تسلم منه هذه الشبكات ملايين الملايين يزورون المواقع صفحة واحدة في موقع واحد استقبلت خلال سنتين أكثر من ثلاثة وأربعين مليونا من هؤلاء الناظرين والناظرات والسامعين والسامعات والناقلين والناقلات تزعم إحدى المواقع أنهم قد وزعوا أكثر من مليار مرة ثلاثمائة ألف صورة خليعة وهكذا عندنا أكثر من ثمانين في المائة من الذين يدخلون الشبكة يدخلونها بالحرام عم الحرام في كل ناحية وصارت البيوت تشتكي الأسر تأن هكذا انفصمت عرى كثير من الأسر هكذا تشتكي الزوجة المسكينة وهكذا يكتشف الزوج المسكين وهذا يفاجئ بابنه وهذا يطعن من الخلف بابنته ماذا حل بنا ما هذه المنديات للفضائح ما هذه المواقع التي تنشر القصص الواقعية كما يسمونها ما هذه المواقع التي تدعوا إلى إقامة العلاقات تقيمها هذه الأشرطة التي تعلن على الشاشات فيها الأرقام والعناوين والاتصالات وصارت ترقيم الإلكتروني شيئا بديلا عن الترقيم الورقي واعجبا هذا يحل بأمة الإسلام وأمة القرآن هل هذه أخلاق المؤمنين من الذي يرضى بهذا إنفاق الملايين على تجارة الجنس والسفر إلى الأماكن المحرمة ورؤية البرامج المختلفة سحقت الفضيلة وعمت الرذيلة تهدمت المفاهيم عند الكثيرين وأصبح اختزان الصور في القلوب والعقول وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا هذه الاتصالات الفضائية بأنواعها قنوات النصف الأسفل العري في كل مكان أيليق هذا بأمة الإسلام التي هي خير أمة أخرجت للناس ما معنى أن تنتشر هذه الفواحش والدعوة إليها والتمايل والرقص وأنواع الحرام والغناء والتغزل وهكذا الوصف الدقيق الذي يثير الغرائز والشهوات بأيدي أبناء أناس من هذه الأمة تعم الرسائل في كل مكان لا أسواقنا نظيفة ولا شوارعنا ولا مدارسنا ولا مكاتبنا إعلان للحرام أتصل أتصلي على الرقم كذا أريد أن أتعرف على كذا وهكذا شرائط الم أس أم والأم أم أس وما يأتي في الزمن القادم مما لا يعلمه إلا الله دعوة للرذيلة والفاحشة سماسرة للفساد ويقودون إلى الفحشاء ووسائط في التعرف ولا يكتفي أن يفعل إلا أن يخبر أصحابه وهكذا تجر صاحباتها والقصص الغرامية المخزية أخبار الممثلين الداعرين والراقصين الفاسقين والدعوة إلى الاختلاط في كل مكان مقالات ملتهبة ووصف لمن يريد العفاف بأنهم من متأخري القرون الماضية والمتخلفين الذين نسيهم الزمن في القرن الحادي والعشرين وأتت كمرات(/2)
الجوال لتكمل المسلسل الداعر وتنشر النار في الهشيم فتنقل حيا كما يقولون وتذيع وتقنية البلوتوث التي صارت عند الكبار والصغار من مائة وعشرين جوالا في إحدى المدارس ثمانون منها بالكميرة في أحد الجوالات تسعة وأربعين مقطع جنسي وثلاثمائة صورة فاضحة مفهرسة موقع كامل على هاتف أحد الطلاب ماذا نتوقع وهكذا يفاجئ الأب وتفاجئ الأم وهكذا تنقل الرذيلة خلال لحظات ماذا يحدث بأمة الإسلام اليوم ماذا يحدث بهؤلاء الشباب والشابات الذين سيسعون بعد ذلك في حال تأجج هذه المشاعر المحرمة لديهم إلا لتطبيق ما يرون والسعي للوقوع في هذه الفواحش لتلبية هذا العطش الجنسي المسعور الذي أججته هذه الصور وهذه القصص وهذه الأفلام وهذه الأغاني وهذا الفيديو كليب وهذه الأخبار الذي يتناقلونها فيما بينهم وهذا الحجاب اليوم الذي يشكي إلى الله من ظلم الظالمين والظالمات الذي تعرض به هذه المرأة التي استجابت لسبيل الشيطان مفاتنها فماذا نتوقع بعد ذلك عصفت القضية بالبيوت والأسر كثر أولاد الحرام عم السفاح ذهبت العفة قصص هروب البنات وذهاب الزوجات بل الزنا بالمحارم أيها الإخوة والأخوات إننا والله أمام واقع رهيب وأمر عصيب مما يراد بنا ومما ينساق إليهم المجتمع كالأعمى الذي لا يدري إلى أي شيء يقدم عليه وفتنة النساء التي ذكرها لنا الشرع المطهر وحذرنا منها وجاءت الآيات والأحاديث بالأمر من العفة والعفاف وأمر النساء بالحجاب والرجال والنساء بغض البصر وهكذا إذا أردها شيئا أن يسألها من وراء الحجاب وهكذا أن لا تبدي زينتها لهؤلاء الأجانب وأن لا تخضع بالقول توجيهات كثيرة من الخالق سبحانه وتعالى لحفظ الفروج وحفظ الأبصار والأسماع ولكننا اليوم في عصر رقيق الأبيض الذين ينقلونه من مكان إلى مكان وتأتي الأخبار لتبين حجم العلاقات خارج نطاق الزواج في مدرسة ثانوية أكثر من خمسين بالمائة من هؤلاء الشباب قد أقاموا علاقات محرمة على درجات متفاوتة يزعم البعض أنها للتسلية والبعض يصرح بأنه قد وقع في الفاحشة الكبيرة ماذا لدينا اليوم قصص اغتصاب خطف الفتيات خطف النساء في الشوارع خطف النساء في الأسواق التحرش العلني إنها نتيجة طبيعية لما يدور اليوم لما يعج به العالم من أنواع الشهوات لقد جاءت الشريعة الإسلامية وهذه الرسالة المحمدية لمصلحتنا نحن لقد منع اختلاط الرجال بالنساء لا في المساجد ولا في الخروج منها ولا في الطرق حتى في صفوف الصلاة لم يكن هنالك اختلاط وذلك لأن الشارع حكيم يعلم ما يصلح للبشر فإذا تمردوا على الشرع وأراد كسر الحواجز وإحداث الاختلاط في التعليم وأنواع المنشآت والمكاتب والشركات والمدارس والكليات فماذا سيبقى يا عباد الله ألم يأتنا الواعظ من الغرب بأن نسبة التلميذات الحوامل سفاحا في مدرسة ثانوية في ولاية المتحدة قد بلغت ثماني وأربعين في المائة هذا ثمار التعليم المختلط إما أن تحدث الفاحشة بالرضا أو بالإكراه ويتبع ذلك حمل أو إجهاض وقتل للمولود أو ولادة السفاح ليعم أولاد الحرام وأولاد الحرام أين سينشئون ما هو مستقبلهم وعندما تكون الفتنة في الأسواق كما نرى اليوم وفي وسائل المواصلات والمضيفات إنها فتنة عظيمة قد حذرنا منها محمد صلى الله عليه وسلم بقوله ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ما معنى السعي الحثيث والعمل الدوؤب لإيجاد الاختلاط في أماكن العمل ألم يكفنا ما جاء من النذر من الشرق والغرب عما يحدث من حوادث التحرش والاعتداء في أماكن العمل يأتيك الشر اليوم من كل مكان حتى لو لم تكن تسعى إليه وربما يأتيك إلى جوالك مستقبلا عبر قنوات عبر رسائل قد جاءت نذورها وبدأ بثها فأي شيء ننتظر تفاجئ اليوم بأنواع من هذه الصور حتى لو لم تكن تبحث عنها أصرف بصرك يا علي لا تتبع النظرة، النظرة وهكذا تأتي الشواهد القرآنية وهذه الأحاديث النبوية لكي تبين لنا ماذا نتصرف حيال هذه المواقف وأمام هذا الوضع من التفشي والشيوع والأشياء الذي يعلمها الكثيرون .
ولقد رأيت معاشرا جمحت بهم ... ... تلك الطبيعة نحو كل تيار
تهوى نفوسهم هوى أجسامهم ... ... شغلا بكل دناءة وصغار
تبعوا الهوى فهوى بهم وكذا الهوى ... ... منه الهوان بأهله فحذار
فأنظر بعين الحق لا عين الهوى ... ... فالحق للعين الجلية عار
قاد الهوى الفجار فانقادوا له ... ... وأبت عليهم مقادة الأبرار
أيها الإخوة والأخوات نحن اليوم أمام واقع يعصف بالأخلاق ويعصف بالأمة كلها إنه واقع أليم مرير إنه شيء قد دنس الفضيلة .
يا وردة عصفت الذبول بعطرها لا خير في الريحان غير معطر(/3)
فإذا صار الطيب أصلا ملوثا فماذا سيطيب بعد ذلك ماذا نفعل اليوم أمام هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم ماذا نفعل اليوم أمام هذا الشيوع للفاحشة الذي حصل ذهب الورع وقل الدين وفسدت المروءة أين الغيرة ماذا نفعل اليوم وغضب الرب تعالى نازل على كثير من هؤلاء ذكورا وإناثا وهم ينقادون إلى الحرام ويفعلونه لقد بدلوا بدلا من الطيب أخذوا الخبيث الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والجنة لا يدخلها إلا طيب إنها ثواب الله تعالى وكرامته ماذا يفعل أولئك الذين يصبرون اليوم كالقابضين على الجمر أيها الإخوة لا بد أن يكون لنا وقفات وطرق نتبعها للحذر والتحذير من الحرام أولا اجتناب الخلوة بالمرأة الأجنبية سواء كانت من الأقارب كبنت الخال وبنت الخالة وبنت العم وبنت العمة وأخت الزوجة وأخو الزوج والحمو الموت أو الأباعد كالخادمة والسائق المدرس الخصوصي صديقة الزوجة الجارة المطلقة لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر من أن يزني بامرأة جاره بعد الذنب العظيم بالشرك وبعد قتل الولد قال أن تزاني حليلة جارك أجاب عن سؤال أي الذنب أعظم وهكذا تقود القيادة نساء للسيارات في البر والأماكن النائية وما سيحصل من الطرق الخالية عندما ينزل لمساعدتها أو تتوقف له وتشير لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال يا رسول الله امرأة خرجت حاجة واكتتبت في غزوة كذا وكذا قال أرجع وحج مع امرأتك لقد ذهبت مع رفقة صالحة من الصحابة والصحابيات إلى فريضة من فرائض الله ومع ذلك أمره بالخروج من الجهاد ليلحق بامرأته ومن أعظم أنواع الخلوة التي تكون مع قريب الزوج كأخيه وابن عمه وابن خالته أو ابن عمها وأبن خالتها وكذلك خلوة الرجل مع قريباته وهكذا من غير المحارم إياكم والدخول على النساء.
ثانيا أخذ الاحتياطات الواجبة في حال السفر وعدم ترك الابن الشاب وحده في البيت أو البنت الشابة فتكفي ساعة غفلة من الشيطان لفتح الباب لموعد بالحرام قال تعالى إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير وهنالك حالات كثيرة لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وتعالى ولذلك كان لا بد من تأسيس الإيمان في النفوس ليخشى هؤلاء ربهم بالبيت فإذا غابوا عن أعين الناظرين فلم يغيبوا عن نظر الله تعالى .
ثالثا الحذر عند السفر فلم يغيبوا عن نظر الرب تبارك وتعالى.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فأستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
لقي رجل أعرابية فأرادها على نفسها فأبت وقالت ثكلتك أمك أما لك زاجر من كرم أما لك ناه من دين قال والله لا يرانا إلا الكواكب قالت فأين مكوكبها .
رابعا الحذر عند السفر إلى البيئات المتمردة على شرع الله فيحصل التعارف على بنات الأسر هناك أو الوصول إلى الحرام عن طريق سائق سيارة الأجرة أو المستقبلات في المطار من مندوبات السفر والسياحة أو في الفنادق ودور اللهو المحرمة وأماكن البغاء والملاهي الليلة وعصابات الدعارة والقيادة إلى الحرام أين هؤلاء الذين يسمعون عند سفرهم ذلك الدعاء اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى يذهبون وهم يعلمون ماذا سيفعلون وهم يسمعون اللهم أنت الصاحب في السفر نزل السري ابن دينار في درب بمصر بعد أن حل من سفر وكانت فيه امرأة جميلة قد فتنت الناس فقالت لأفتننه فلما دخل من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها تعرضت له فجأة قال مالك قالت هل لك في كذا وكذا فأقبل عليها وهو يقول
وكم ذي معاص نال منها لذة ومات فخلها وذاق الدواهي
تصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هي
فيا سوأتا والله راء وسامع لعبد بعين الله يغشى المعاصي
خامسا اجتناب التحديق والتأمل في محاسن النساء وعلامات الجمال وهذا سيقود إلى التعلق من الطرفين فيقود للحرام وقد نهى الله الرجال والنساء عن إطلاق البصر في الفتنة قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم وقال كذلك للمؤمنات أن يغضضن أبصارهن والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا في الستة التي تدخل الجنة أحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكل الحوادث مبدأها من النظر وهكذا يتطاير الشرر .
والعبد مادام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
نحتاج إلى غض البصر حتى في الحرم نحتاج إلى غض البصر حتى عند الكعبة نحتاج إلى غض البصر في كل مكان اليوم لأن هنالك إهمالا عجيبا في أمر الحجاب هذا الضيق والشفاف والملون ولافت النظر بفتنته وما فيه لقد صارت العباءة فستانا أسود مطرزا مزينا يلفت النظر ويوقع في الحرام .(/4)
وسادسا اجتناب إقامة الصادقات والعلاقات العاطفية وبث المشاعر وكلمات الإطراء والإعجاب التي تؤدي إلى الإنفراد والوقوع في الحرام في النهاية اتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء قال عليه الصلاة والسلام ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء رواه البخاري ومسلم قال سعيد بن المسيب ما خفت على نفسي شيئا مخافة النساء قال يا أبا محمد إن مثلك لا يريد النساء ولا تريده النساء قال هو ما أقوله لكم وكان شيخا كبيرا أعمش هو الذي يقول لو ءاتمنوني على بيت المال لأديت ولا أؤتمن نفسي على امرأة سوداء لو ءاتمنوني على أئمة سوداء لخشية على نفسي وهكذا أولياء الله عزوجل يخافون على أنفسهم ولا يقول أنا واثق من نفسي ولا تقول أنا واثقت من نفسي وإنما يحدث اليوم من التساهل في إقامة العلاقات الذي يؤدي في النهاية إلى الوقوع في الحرام هذه العلاقات الكلامية لا تعدم أن تجد فتاة مضطهدة من أبيها أو إخوانها أو مطلقة أو ذات زوج يسيء معاملتها أو تأخر زواجها بحبس أوليائها تعاني من فراغ عاطفي للسبب أو لآخر فتلتقي الحاجة النفسية مع الكلام المعسول لتتطور القضية إلى علاقة وردية في الظاهر ذات عذاب في الباطن ليحدث بعد ذلك الحرام على يد فارس الأحلام الذي يرميها وردة ذابلة مدعوسة بالأقدام بعد هتك العرض وذهاب الشرف أو الحمل المحرم يقول في افتتانه إجازة زائد نيل زائد هدوء زائد فراغ زائد شبكة الإنترنت منتدى فرايفت حوار مزاح مناوشة سوالف تعارف ثم الماسنجر سماع الصوت ويمكن رؤية الصورة ثم الكلام عن التجارب في العلاقات ثم موعد ولقاء ووقوع في هذه الكبيرة من السبع الكبائر العظيمة.
سابعا اجتناب لبس الملابس الباعثة على إثارة الغرائز من الضيق والقصير والشفاف لأن عاقبة هذا أن يأتيها من يوقعها في الحرام طوعا أو كرها خمسين ألف امرأة تتعرض للاغتصاب في بريطانيا سنويا ممن وصل خبرهن أما التي لم تبلغ خشية الفضيحة فكثير أظهر استطلاع أجرته منظمة العفو الدولية في لندن وشمل ألف امرأة ورجل أن السبب الأساسي والخبر قريب قد نشر في مواقع الأخبار لجرائم الاغتصاب أن السبب الأساسي لجرائم الاغتصاب التي يشهدها الشارع البريطاني تعود لعبث المرأة ولباسها الفاضح لتتحمل بذلك المسئولية إبتداءا في افتتان هذا الرجل ليكون سويا بعد ذلك في الهاوية قال عليه الصلاة والسلام صنفان من أهل النار لم أرهما قال ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسرية كذا وكذا .(/5)
ثامنا اجتناب العمل في أماكن الاختلاط لأن تقارب الأشخاص والأنفاس يؤدي إلى الوقوع في الأرجاس وما يسمى بزميلة العمل اليوم لا تكف عن الأناقة في الملبس ولا وضع الروائح الفواحة قال عليه الصلاة والسلام إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية قال سعيد بن المسيب ما أييس الشطيان من شيء إلا أتاه من قبل النساء هو الذي يقول لتلاميذه وهو ابن أربع وثمانين سنة وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشوا بالأخرى ما شيء أخوف عندي من النساء يحدث الاختلاط اليوم في المستشفيات بين الأطباء والطبيبات بين الأطباء والممرضات بين الطلاب والطالبات وهكذا وهكذا يحدث مع طبيبة الأسنان التي تعالج الرجال فماذا يتوقع وهكذا يحدث من هذا الذي قد أتخذ سكرتيرة فماذا يتوقع وعندما تقوم الدعوة إلى الاختلاط علنا وعندما يقاد الناس إلى ذلك عندما يخالط البائعات الباعة في دكان واحد وعندما يكون هو وهي في الصيدلية في ساعة متأخرة من الليل إن أماكن الاستقبال الموجود اليوم في الفنادق والمستشفيات والشقق المفروشة وغير ذلك مما سيكون فيه أو حصل فيه اختلاط الرجال بالنساء ما هو الوضع المتوقع في مثل هذه الحالة وعندما تكون الاجتماعات مختلطة وعندما تكون اللقاءات مشتركة بين الجنسين ماذا سيكون إننا أمام وضع خطير جدا اليوم في الدعوة إلى الاختلاط وتقنينه وتشجيعه وفتح المجالات كافة بدخول المرأة في معتركات الرجال ما هو المتوقع أليس في النهاية القيادة إلى الحرام وكذلك فإن من الإجراءات المهمة إحاطة الشباب والفتيات الذين لا يعيشون مع أسرهم في أوضاع مستقرة بمزيد من العناية كالأيتام واللقطاء إذا كبروا والمطلقات والعمال والموظفين والطلاب في بلاد الغربة لأن هؤلاء الذين حرموا من جو الأسرة الذي يحفظ العرض والدين إذا كانت صالحة إن هؤلاء بفقدهم لهذه الحماية محتاجون جدا إلى مساندة ومساعدة وحماية من أناس أخيار من بيئة طيبة ممن يعينهم على الصمود في وجه الفتن جاءت امرأة شابة إلى عهد السلف تسأله مالا تنفق به على أيتامها فأعطاها مالا كثيرا فلما ولت المرأة سأله أصحابه لماذا أعطيتها كل هذا المال كان يكفيها أقل من هذا قال رأيتها شابة ليست ذات بعل لقد فقدت الأسرة ركنا وهو المنفق المعين المشرف رأيتها شابة فخفت عليها أن تقع في الحرام من أجل المال فأعطيتها أكثر مما تحتاج ومن الإجراءات المهمة تفقد الأبناء والبنات في البيوت في علاقاتهم ومراقبة ذلك عن بعد مع السخائب النصح والتوجيه وقصص الاعتبار واستعمال شيء من الحزم والمحاسبة عند التأخر عن الرجوع من البيت أو كثرة الخروج يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته مسؤول يعني يوم القيامة سيسأله الله عزوجل يقول هؤلاء في قصتهم إنهم قد سرقوا جوازات سفرهم من أهليهم لأن أسرهم محافظة تمنعهم من السفر ثم أخبروا أهاليهم بأنهم سيذهبون إلى عمرة وبعد ذلك انطلقوا إلى الحرام فماذا كانت النتيجة ومن الأسباب المهمة أيضا للوقاية الحذر الشديد من ترك البنات في الأسواق أو أماكن الألعاب والترفيه والشواطئ بل متابعة سجل الحضور والغياب في المدرسة والكلية والتعاون مع القائمين عليها إدارة ومراقبة ثم أيضا رفض جميع أشكال الزنا مغلف بغطاء وهمي مما يسمونه شرعيا وهو زائف كزواج المتعة ووهبتك نفسي والزواج العرفي من غير ولي وكذلك نكاح الدم يجرح أصبعه لتجرح أصبعها فيضعان الدم على الدم ويقولون هذا عقد فأنظر إلى هذه السخافات والمحرمات والاعتداء على الميثاق الغليظ الذي غلظه الله عزوجل هذا العقد وهو عقد النكاح كيف صارت الأمور بهذه العبثية إنه جهل يضاف إلى الهوى والشهوة لتنتج أنواعا من هذه العلاقات المحرمة ومن الإجراءات أن على أصحاب الفنادق وشقق المفروشة والاستراحات وإدارييها وعمالها والقائمين على المنتزهات ومدن الألعاب والترفيه القيام لله بالواجب ومعرفة حقه والغيرة مما يغار سبحانه ويترتب على ذلك منع المنكر وسد أبواب الشر وطريق الحرام وعدم التمكين منه ولا الإعانة عليه وأن لا تكون المنشأة التي تملكها أو تشرف عليها أو تعمل فيها يا عبد الله مكانا للفجور ونزول سخط الرب ولعنته لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعله لبأس ما كانوا يفعلون وأيضا فإن خرق السفينة لا يأتي من جهتك يا أيها المسلم ويا أيتها المسلمة ثم الحذر من الأفلام الساقطة وقنوات الفاحشة ومجلات الفجور ومواقع الخنا واستباحت ما حرم الله إن الدلالة عليها وبيع هذه المنتجات وشرائها وتأجيرها وبيع البطاقات وفك التشفير وإرسال مقاطع البلوتوث العفنة وتبادل الصور وإرسالها وقراءة قصص الزنا وشعر الخنا وكل هذا مما يسمونه ثقافة جنسية هو في الحقيقة بداية التطبيق العملي للحرام(/6)
بأنواعه ودرجاته وهي راية الشيطان والقائد للوقوع في الموبقات والعيش مع خيالات الحرام ومحاولة التشبه والوقوع في مستنقع الرذائل وفقدان العفة والالتحاق بالبهيمية والتمرد على شرع الله كل أمتي معافى إلا المجاهرين وهؤلاء يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وأيضا إذا تعرض المسلم أو المسلمة في دعوة للفحشاء وهذه قد تقع فجأة في مدخل عمارة في سلم في مصعد قد تقع فجأة باتصال عبثي قد تقع بطريقة غير محسوبة يدعى إنسان فجأة إلى الحرام الآن ما بين الاتصال والوقوع في الزنا أحيانا لا يتعدى الأمر ساعتين كم عرفنا ذلك من خلال اعترافاتهم من خلال هذه القصص المؤلمة التي أخبر بها عدد من هؤلاء التائبين إذن حرام يتوالى إركاب في السوق بمجرد أن يوقف السيارة في مكان معين وإذا بها تصعد إن القضية اليوم من الإدهاش بحيث أن الإنسان يتعجب كيف يقع الحرام سريعا من دون تعارف مسبق من دون علاقة مسبقة فجأة تركب ليقع الحرام إنه شيء عجيب إنه شيء مخيف مروع ومذهل ولذلك حديث السبعة الذين يظلهم الله ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله تلك الجملة العظيمة الجميلة التي قالها يوسف عليه السلام معاذ الله وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إن الموقف العظيم الذي قام بسبب خوف الله والتذكير بحق الله ذلك الرجل من مقام الفاحشة ولم يبقى بينه وبينها شيء يا عبد الله اتقي الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه قال فقمت عنها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج لنا منها فرجة ففرج لهم ذكرته بالله فتذكر وأن الله مطلع عليه وناظر ثم الحذر البالغ عند الكلام مع المرأة الأجنبية ألم يقل الله وإذا سألتموهن متاعا فسألونهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ألم يقل للنساء فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا فكيف بمن يتبادلون الأرقام ويمضون الساعات بالكلام فيما حرم العزيز العلام وعبارات الإطراء وتبادل الثناء التي تقود إلى الفحشاء وأيضا الحرص على أن تكون زيارات الأبناء والبنات إلى بيوت معروفة إن عدد من حالات مشاهدات الأفلام الخلاعية والعلاقات الشاذة قد تمت بحجة المذاكرة إن الخلوة بالإنترنت اليوم صارت مجالا للعلاقات المحرمة وتبادل الصور المرء على دين خليله وأيضا لا بد من الحذر من إدخال العمال إلى البيت لقد حصل الافتتان ببعض حراس الأبراج السكنية وعمال المطاعم الذين يدخلون الطلبيات إلى البيوت وكذلك هذه التي سافر زوجها أو غاب مع عمال النظافة ونحوهم ماذا سيكون حال السينما التي تفتح ليتجاور فيها الرجال والنساء بعد مدة فتطفأ الأنوار وتعرض الأفلام ما حال الشاب الذي تفتح له الشغالة في ساعة متأخرة من الليل وأهله نائمون تكون بحال هي أيضا ربما تريد الحرام أو يغيبون في إجازة وعنده دراسة أو عمل فيتركونها من أجله بزعمهم ماذا يحدث في الفنادق والأندية الصحية التي تقدم خدمة التدليك لماذا نتعامى عن الوقائع لماذا نغمض أبصارنا ولماذا نغطي أسماعنا ولماذا ندفن رؤوسنا في الرمال ونحن نرى من هاهنا بابا للحرام أو نافذة تفتح وإن الالتزام بالآداب الشرعية أمر مهم جدا ولذلك فإن الله تعالى قد ندب الأبوين إلى الحرص على أن يكون الأمر في حال خلوتهما بمعزل عن رؤية حتى الأطفال لأن تلك المشاهد لا تمح من الذاكرة وربما قادت إلى تطبيق أو تقليد وربما انتهت إلى زنا المحارم والعياذ بالله وكثرة غياب راعي البيت أبي لا يرجع إلى متأخرا من عمله وأمي في زيارة نسائية طويلة وهكذا تترك لتذهب ثم إن الإبتعاث للدراسة في الخارج إذا لم يرافقه تقوى من الله في أناس يفتحون أعينهم فجأة كانوا في أوساط نظيفة وبيئات محافظة يفتحونها على ماذا عري فاضح فماذا تتوقع عندئذ تحدث الصدمة وهكذا رجع إمام البعثة مفتونا العمل في الأماكن المشبوهة التي يغشاها النساء في الأسواق والمجمعات التجارية لقد جاءت إحصاءات الهيئات والمحتسبين بان أكثر حالات الحرام التي تحدث في الأسواق من هؤلاء الباعة مع النساء ثم ما يحدث من علاقات الصداقة في الجامعات المختلطة وقد أخبر الشبان الذين يدرسون فيها وكذلك بعض اللاتي كتبن عن التجارب مما يحدث من علاقة تبدأ بكتاب وبحث واختبار ومذاكرة كنا نرى بعضنا يوميا ونتحدث في شتى المواضيع والنهاية الوقوع في الحرام.(/7)
أيها الأخوة والأخوات إن هذه الإجراءات وغيرها مما ينبغي على المسلم أن يتذكره جيدا وعلى المسلمة كذلك يوجب علينا أيضا مقاومة تقنين الفساد والدعوة إليه مقاومة إشاعة الاختلاط الأمة لا زال فيها عرق ينبض الأمة لم تمت يوجد بحمد الله أناس كثيرون على العفاف يوجد بحمد الله أناس نظيفون كثر يوجد من لا يريد المنكر ومن يأبى الوقوع في الفاحشة لا زالت هناك فطر سليمة وعقول مستقيمة نريد أن ينهض هؤلاء الأخيار وأهل الصلاح والإصلاح للوقوف أمام هؤلاء الذين يريدونها معوجة منحرفة عن سيبل الله تعالى نريد من هؤلاء الذين نعلم أنهم سيقابلون تيارا وينازلون معتركا وعدوا هائجا الذين يريدون اليوم أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا عبر فتح الأبواب المختلفة في الاختلاط ولقد تبين أمرهم وأنكشف حال هؤلاء المنافقين الذين زعموا في البداية أن القضية مهنية وأن القضية اختلاف فقهي في مسألة الوجه فإذا بهم يشهرون الصور لنساء بلا غطاء لا للوجه ولا للشعر كشفن القبائح وكانت متسترة لا يعرف قبحها فأسفرت عن قبح والتي فيها جمال شكل أسفرت عن قبح أخلاقها أسفرت على تمردها على شرع ربها إننا اليوم نواجه تيار الفساد بأشكاله وصوره إنهم يتعاقبون علينا ويريدون منا أن نفقد هذه العفة التي أمرنا الله بها ولكن لا زال في المجتمع بحمد الله صخور تتحطم عليها موجات الفساد لا زال يوجد بحمد الله أهل دين وأهل علم وأهل دعوة وأهل تقي إن الأمة لم يتودع منها بل لا زال في شبابها وفتياتها من يعبد الله ويخشاه بالغيب لا زال فيها بحمد الله من هو على درجة كبيرة من الوعي إنه الوعي بما يريدوه المنافقون والفجار والأعداء الكفار الذين لا يزالون يشجعون على خطوات الفساد ويظهرون الإعجاب بالحال ولكن ليس لهم منا إلا المنابذة ولا يمكن أن يرضى المسلمون بالدنية في دينهم الله أعلى وأجل الله مولانا ولا مولى لهم شرع لنا من الحق والهدى ما يحفظ العرض يحفظ الأخلاق ما يحفظ النفوس ويحفظ هذه الأعراض ولذلك فإننا لا بد أن نقوم لله بالحجة لا بد أن نبين لا بد أن ننصح لا بد أن نقوم بالواجب الشرعي إن قضية البيان تجب علينا في هذا المقام أكثر من أي وقت مضى ولا يوجد في البشرية فضلا عن بلاد المسلمين وقت قد انتشرت فيه الرذيلة والدعوة إليها وأنواع الفساد ووسائله مثل هذا الوقت فلا بد أن يقابل منا بالعمل لا بد أن يقابل منا بالاحتساب لا بد أن يقابل منا بالسعي والحركة وفيها البركة بمشيئة الله علم شرعي ينشر وفتاوى لأهل العلم تعمم تنبيه وتعليم للجاهلين ونصيحة للغافلين وهكذا يوقظ السادرون في غيهم ويقال لهم ألا ترون إلى أن يسير المجتمع ألا ترون إلى أي هاوية ننحدر نحن أين وقفتكم أين اجتماعكم لصد العدوان لا بد أن نحاسب أنفسنا هل عملنا لله بما طلب منا وأمر أم أننا مقصرون وكذلك لا بد أن يقوم المربون بواجبهم من أنواع التربية الإيمانية التي تؤسس في الطلاب والطالبات في الفتيان والفتيات في الكبار والصغار الذكور والإناث تقوى الله واعظ الله في القلوب ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخى وعلى باب الصراط داع يقول أيها الناس أدخلوا الصراط جميعا ولا تتعوجوا وداع يدعوا من جوف الصراط فإذا أراد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ويحك لا تفتحه قناة تلفزيونية ويحك لا تفتحه موقع إنترنت ويحك لا تفتحه البلوتوث ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه قال مفسرا المثل والصراط الإسلام والسوران حدود الله تعالى والأبواب المفتحة محارم الله تعالى ولذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله عزوجل والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم لا بد اليوم من تربية إيمانية أكثر من أي وقت مضى تعلم الناشئ والناشئة أن الله معك أنه يراك أنه يسمعك وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون لا بد من تربية على قوله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهكذا تتذكر أن الله يسمع كلامك وأنه ينظر إليك وأنه مطلع عليك وأن الملائكة الكرام يكتبون أقوالك وأفعالك وأن جوارحك معدود محسوب ما تفعله إن السمع والبصر والفؤاد كل أؤلئك كان عنه مسئولا هناك في الدين أخلاق هناك عفة هناك في الدين نظام للأخلاق عظيم لا بد من إقامته لا بد أن نعلم الناس هذه العفة ونعلم أنفسنا قبل أن نعلم غيرنا نظام العفة في الإسلام لما قال الله ولا تقرب الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا لما قال الله والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ، ضعيفا لا يصمد أمام الإغراءات لا يصمد أمام الشهوات تعليم العفة من خلال الذين عفوا ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء كان همه خاطرة وكان همها فعلا ودعوة كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا(/8)