[4] صحيح مسلم: كتاب الجمعة، باب: تخفيف الصلاة (867).
[5] رواه أحمد (4/126)، وأبو داود (5/13)، والترمذي وقال: "حسن صحيح"، وابن ماجه (1/15)، والدارمي (1/57)، والحاكم (1/95) وقال: "صحيح ليس له علة"، وقال الألباني: "سنده صحيح"، ونقل تصحيحه عن الضياء المقدسي في مشكاة المصابيح (165).
[6] رواه الإمام أحمد في المسند (1/435)، والدارمي في السنن (202)، والمروزي في السنة (ص5)، والحاكم في المستدرك (2/318) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، ورواه ابن أبي عاصم في السنة (17)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (127)، واللالكائي في شرح السنة (94)، وقد حسّنه الألباني. انظر: حاشية المشكاة (1/59)، وظلال الجنة مع كتاب السنة (17).
[7] أخرجه أحمد (2/188، 210، 158، 165)، وابن أبي عاصم في السنة (51)، وابن حبان (11)، قال الألباني: "صحيح على شرط الشيخين". انظر: ظلال الجنة مع كتاب السنة (ص28)، وصحيح الترغيب والترهيب (1/98).
[8] رواه البخاري في كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح (5063)، ومسلم في كتاب النكاح، باب: استحباب النكاح (1401).
[9] سنن الدارقطني: الوصايا (4/146)، وجامع بيان العلم (2/123)، وشرح اعتقاد أهل السنة (1/123).
[10] سنن الدرامي (1/49)، وجامع بيان العلم (2/123)، وشرح اعتقاد أهل السنة (1/123)، والإبانة لابن بطة (1/250) وقال المحقق: "إسناده صحيح".
[11] الإبانة (1/329)، والبدع لابن وضاح (80).
[12] الإبانة (1/329).
[13] شرح اعتقاد أهل السنة (1/121).
[14] الإبانة (1/327، 328).
[15] البدع لابن وضاح (34، 89)، وسنن الدارمي (191، 192)، وشرح اعتقاد أهل السنة (1/91، 92).
[16] البدع لابن وضاح (123).
[17] البدع والنهي عنها (58).
[18] شرح السنة للبغوي (1/216).
[19] الإبانة (1/121، 122).
[20] الإبانة (1/199).
[21] شرح السنة (1/216).
[22] جامع بيان العلم وفضله (2/93).
[23] الشرح والإبانة (141)، وجامع بيان العلم وفضله (2/93)، وتفسير ابن كثير (2/68).
[24] الشرح والإبانة (123).
[25] جامع بيان العلم (2/93)، وشرح السنة للبغوي (1/217).
[26] شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/135)، وجامع بيان العلم وفضله (2/93).
[27] جامع بيان العلم (2/93)، وشرح السنة للبغوي (1/217).
[28] شرح السنة للبغوي (1/216).
[29] شرح السنة (1/217).
[30] شرح السنة للبغوي (1/216).
[31] شرح السنة (1/217).
[32] شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/145)، وجامع بيان العلم وفضله (2/93).
[33] شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/138).
[34] سنن الدارمي (406)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/129)، ولفظه: "لا تجادلوا...".
[35] جامع بيان العلم وفضله (2/93)، وأخرجه اللالكائي (1/29) عن معاوية بن قرة، ومثله الآجري في الشريعة (56).
[36] جامع بيان العلم وفضله (2/95)، وانظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/148، 149).
[37] شرح السنة (1/217).
[38] شرح السنة (1/217).
[39] شرح السنة (1/216).
[40] شرح السنة (1/217).
[41] جامع بيان العلم (2/95)، وشرح السنة (1/217).
[42] شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/146)، وشرح السنة (1/217).
[43] جامع بيان العلم وفضله (2/95).
[44] شرح السنة (1/216).
[45] جامع بيان العلم وفضله (2/95).
[46] جامع بيان العلم وفضله 2/92.
[47] الاعتصام (1/141-142) باختصار.
رابعاً: من أسباب الوقوع في الابتداع:
1- الخلل في منهج التلقي:
أ- قلّة العلم بالشرع المُنزّل، والاعتماد على غيره:
ومن صوره:
• الجهل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وترك التفقه فيه:
"ثم إن من عجيب الأمر أن هؤلاء المتكلمين المدعين لحقائق الأمور العلمية والدينية المخالفين للسنة والجماعة يحتج كل منهم بما يقع له من حديث موضوع، أو مجمل لا يفهم معناه، وكلّما وجد أثراً فيه إجمال نزّله على رأيه"[1].
"وهؤلاء المبتدعون يجهلون حقائق ما جاء به الرسول ويعرضون عنه، ثم يحكمون بموجب جهلهم أن ليس في ذلك من البراهين من جنس ما في كلامهم، ولو أوتوا العقل والفهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لتبيّنوا أنه الجامع لكل خير"[2].
• الاعتماد على الحكايات والرؤى والمنامات:
"وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها، فيقولون: رأينا الرجل الصالح فقال لنا: اتركوا كذا، واعملوا كذا، ويتفق مثل هذا كثيراً للمترسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي كذا وأمرني بكذا، فيعمل بها ويترك بها، معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة"[3].
• الجهل بآثار السلف وأقوالهم:(/6)
"عامة هؤلاء المختلفين في الكتاب لم يعرفوا القول السديد قول السلف، بل ولا سمعوه ولا وجدوه في كتاب من الكتب التي يتداولونها، لأنهم لا يتداولون الآثار السلفية... ولهذا إنما يذكر أحدهم أقوالاً مبتدعة إما قولين وإما ثلاثة وإما أربعة وإما خمسة، والقول الذي كان عليه السلف ودلّ عليه الكتاب والسنة لا يذكره، لأنه لا يعرفه"[4].
• الاعتماد في تفسير القرآن على العقل واللغة دون الحديث وآثار السلف:
"ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسّرون القرآن برأيهم ومعقولهم وما تأوّلوه من اللغة. ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون لا على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم، وإنما يعتمدون على العقل واللغة، وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رؤوسهم"[5].
• الأخذ بالأحاديث والآثار المنقولة الواهية والمكذوبة:
"وأما أهل الأهواء ونحوهم فيعتمدون على نقلٍ لا يعرف له قائل أصلاً، لا ثقة ولا معتمداً، وأهون شيء عندهم الكذب المختلق، وأعلم من فيهم لا يرجع فيما نقله على عمدة، بل إلى سماعات عن الجاهلين والكذابين، وروايات عن أهل الإفك المبين"[6].
ب- ترك تلقي العلم الشرعي عن العلماء وترك مجالستهم:
قال أبو معاذ البلخي خلف بن سليمان: "كان جهم على معبر ترمذ، وكان رجلاً كوفيّ الأصل فصيح اللسان، لم يكن له علم ولا مجالسة لأهل العلم، كان تكلم كلام المتكلمين وكلّمه السُّمنيّة"[7].
ج- التلقي عن أهل البدع ومخالطتهم والجلوس معهم:
يقول الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
"وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمّح بمجالسة المبتدعة الذين يحرّفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة... ومن عرف هذه الشريعة المطهّرة حقّ معرفتها علم أن مجالسة أهل البدع المضلّة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان، فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه، فيعمل بذلك مدة عمره، ويلقى الله به معتقداً أنه من الحق، وهو ـ والله ـ من أبطل الباطل وأنكر المنكر"[8].
وقال أبو قلابة الجرميّ التابعي: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لُبّس عليهم"[9].
وقال الشيخ موفق الدين ابن قدامة: "كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع والنظر في كتبهم والاستماع لكلامهم"[10].
وقال أبو الوفاء بن عقيل: "وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علماً نافعاً"، فعلّق الذهبي قائلاً: "قلت: كانوا ينهونه عن مجالسة المعتزلة، ويأبى حتى وقع في حبائلهم، وتجاسر على تأويل النصوص، نسأل الله السلامة"[11].
وعن أبي أميّة اللخمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أشراط الساعة ثلاثاً، واحدتهن أن يلتمس العلم عند الأصاغر))[12].
قال ابن المبارك: "الأصاغر أهل البدع"[13].
2- الخلل في منهج الاستدلال:
أ- عدم التسليم للنصوص الشرعية وعدم الانقياد لها:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلّتت منهم أن يحفظوها، فقالوا في الدين برأيهم).
قال أبو بكر بن أبي داود: "أهل الرأي هم أهل البدع"[14].
ومن صور عدم التسليم:
• ردّ الأحاديث التي لا توافق بدعهم وأهواءهم:
• بالقدح في رواتها الثقات العدول.
• أو بنفي حجية خبر الآحاد.
• أو بتحريف الأدلة عن مواضعها وصرفها عن ظواهرها بتأويلات فاسدة[15].
• اتباع المتشابه من الأدلة وترك المحكم [16] .
• معارضة النصوص الشرعية بالأهواء (الكشف، الذوق، الرأي، المنامات، المصلحة...)[17].
ب- الاستدلال ببعض النصوص دون النظر في غيرها:
قال وكيع بن الجرّاح: "أهل السنة يروون ما لهم وما عليهم، وأهل البدعة لا يروون إلا ما لهم"[18].
ج- الاحتجاج على صحّة ومشروعية البدعة بالعادة والعُرف:
" فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة أو مَنْ قيّدته العامة أو قوم مترئّسون بالجهالة... والاحتجاج بمثل هذه الحجج والجواب عنها معلوم أنه ليس من طريقة أهل العلم، ولكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس حتى من المنتسبين إلى العلم والدين"[19].(/7)
د- الاحتجاج على صحّة ومشروعية البدعة بعمل بعض ذوي العلم والفضل بها:
"ومِنْ هنا يغلظ كثير من الناس، فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عبدوا عبادة أو دعوا دعاء ووجدوا أثر تلك العبادة وذلك الدعاء، فيجعلون ذلك دليلاً على استحسان تلك العبادة والدعاء، ويجعلون ذلك العمل سنة كأنه قد فعله نبيّ، وهذا غلط"[20].
هـ- الاحتجاج باختلاف العلماء[21].
و- الاحتجاج بحصول منفعة هذه البدعة بالتجربة[22].
3- الجهل بكلام العرب وأساليبهم في الخطاب:
قال الإمام الشافعي: "وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره لأنه لا يعلم مِنْ إيضاح جمل علم الكتاب أحدٌ جَهِل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرّقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها"[23].
قال الشاطبي: "ومنها تخرّصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع العُرُوّ عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله، فيفتاتون على الشريعة بما فهموا ويدينون به ويخالفون الراسخين في العلم، وإنما دخلوا في ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم واعتقادهم أنه من أهل الاجتهاد والاستنباط، وليسوا كذلك"[24].
4- اتباع الهوى:
قال وكيع بن الجراح: "من طلب الحديث كما جاء فهو صاحب سنة، ومن طلب الحديث ليقوّي هواه فهو صاحب بدعة"[25].
قال البخاري: "يعني أن الإنسان ينبغي أن يلغي رأيه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث ثبت الحديث، ولا يعلل بعلل لا تصح ليقوّي هواه"[26].
"وأصل الضلال اتباع الظن والهوى، كما قال الله تعالى في حق من ذمهم: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]"[27].
"وكان السلف يسمّون أهل الآراء المخالفة للسنة وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في مسائل العلم الخبرية وأهل مسائل الأحكام العملية، يسمونهم أهل الشبهات والأهواء؛ لأن الرأي المخالف للسنة جهلٌ لا علم، وهوى لا دين، فصاحبه ممن اتبع هواه بغير هدى من الله"[28].
"الشرع قد دلّ على أن الهوى هو المتبع الأول في البدع، وهو المقصود السابق في حقهم، ولذلك تجدهم يتأوّلون كل دليل خالف هواهم، ويتبعون كل شبهة وافقت أغراضهم".
"والأدلة على هذا كثيرة تشير أو تصرّح بأن كل مبتدع إنما يتبع هواه، وإذا اتبع هواه كان مذموماً وآثماً، والأدلة عليه أيضاً كثيرة:
كقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ} [القصص:50].
وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26].
وقوله: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28]"[29].
5- الغلو والتعصب:
قال الشاطبي: "والثالث من أسباب الخلاف: التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق، وهو اتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ وأشباه ذلك، وهو التقليد المذموم، فإن الله ذم ذلك في كتابه، كقوله: {بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف:23]".
"وهذا الوجه هو الذي مال بأكثر المتأخرين من عوام المبتدعة إذا اتفق أن ينضاف إلى شيخ جاهل أو لم يبلغ مبلغ العلماء، فيراه يعمل عملاً فيظنه عبادة فيقتدي به كائناً ما كان ذلك العمل، موافقاً للشرع أو مخالفاً، ويحتج به على من يرشده، فيقول: كان الشيخ فلان من الأولياء، وكان يفعله وهو أولى أن يقتدى به من علماء أهل الظاهر، فهو في الحقيقة راجع إلى تقليد من حسُن ظنه فيه أخطأ أو أصاب، كالذين قلّدوا آباءهم سواء"[30].
"ومن سالكي طريق الإرادة والعبادة والفقر والتصوّف من يجعل شيخه كذلك، بل قد يجعله كالمعصوم، ولا يتلقى سلوكه إلا عنه، ولا يتلقى عن الرسول سلوكه"[31].
[1] مجموع الفتاوى (4/82-83).
[2] درء التعارض (7/381-382).
[3] الاعتصام للشاطبي (1/331)، وانظر: مجموع الفتاوى (19/5).
[4] مجموع الفتاوى (12/309).
[5] مجموع الفتاوى (7/119).
[6] مجموع الفتاوى (27/479). وانظر: الاعتصام للشاطبي (1/287-293).
[7] شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (2/423).
[8] فتح القدير للشوكاني (2/128).
[9] أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1/137)، والدارمي في السنن (1/90)، والآجري في الشريعة (1/435-436) وغيرهم بإسناد صحيح.
[10] الآداب الشرعية لابن مفلح (1/251).
[11] سير أعلام النبلاء (19/447).
[12] أخرجه ابن المبارك في الزهد (61)، والطبراني في الكبير (22/361-362) وغيرهما، وحسّنه الحافظ عبد الغني المقدسي كما في السلسلة الصحيحة (695).
[13] ذم الكلام وأهله للهروي (5/76).
[14] جامع بيان العلم وفضله (2/1042)، وأثر عمر هذا مروي من وجوهٍ كثيرة يثبت بها.(/8)
[15] انظر: الاعتصام (1/294-301)، ومجموع الفتاوى (17/415).
[16] انظر الإبانة لابن بطة (2/501-الإيمان)، وإعلام الموقعين (2/293-306).
[17] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/687)، ودرء التعارض (5/245)، والنبوات (1/420-421).
[18] رواه الدارقطني في السنن (1/26)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/18-19).
[19] اقتضاء الصراط المستقيم (2/587-588، 585 –586)، وانظر: الحوادث والبدع للطرطوشي (ص69)، والباعث لأبي شامة (ص84).
[20] اقتضاء الصراط المستقيم (2/700-701).
[21] انظر: مجموع الفتاوى (22/366-367).
[22] اقتضاء الصراط المستقيم (2/695-700)، وسنن أبي داود (3883).
[23] الرسالة (ص50 فقرة 169).
[24] الاعتصام (1/301).
[25] رفع اليدين في الصلاة للبخاري (ص105).
[26] رفع اليدين في الصلاة (ص105).
[27] مجموع الفتاوى (3/384).
[28] إغاثة اللهفان (2/170).
[29] الاعتصام (1/190-191).
[30] الاعتصام (2/688-691).
[31] مجموع الفتاوى (19/272-273).
خامساً: أخطار البدع على دين المرء:
1- اتخاذ الشركاء مع الله عز وجل:
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
وقال الشافعي: "من استحسن فقد شرّع".
وقال الشافعي أيضًا: "وإنما الاستحسان تلذُّذ، ولا يقول فيه إلا عالم بالأخبار، عاقل بالتشبه عليها، وإذا كان هذا هكذا كان على العالم أن لا يقول إلا من جهة العلم ـ وجهة العلم الخبر اللازم ـ بالقياس بالدلائل على الصواب، حتى يكون صاحب العلم أبدًا متبعًا خبرًا وطالب الخبر بالقياس، كما يكون متبع البيت بالعيان وطالب قصده بالاستدلال بالأعلام مجتهدًا".
وقال أيضًا: "ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علمٍ مضى قبله، وجهة العلم بعد الكتاب والسنة والإجماع والآثار، وما وصفتُ من القياس عليها".
ويبين هذا الخطر ويوضحه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لآية التوبة: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، فقد دخل عدي بن حاتم رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، فقال عدي: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرّم الله فتحلونه؟!)) قال: بلى، قال: ((فتلك عبادتهم)).
2- مخالفة وتكذيب لصريح القرآن:
يقول المولى عز وجل: {مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْء} [الأنعام: 38]، ويقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3].
يقول الشوكاني: "فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم، فما هو الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه، إن كان من الدين في اعتقادهم فهو لم يكمُل عندهم إلا برأيهم، وهذا فيه ردٌّ للقرآن، وإن لم يكن من الدين فأي فائدة بالاشتغال بما ليس من الدين؟!".
3- مخالفة وتكذيب لصريح السنة الصحيحة:
قال صلى الله عليه وسلم: ((ما تركت شيئًا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنه لم يكن نبيٌ قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدلّ أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم)).
قال أحمد شاكر: "وهذا معلوم من الدين بالضرورة".
4- اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالخيانة:
يؤثر عن الإمام مالك رحمه الله قوله: "من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} [المائدة: 67].
قالت عائشة رضي الله عنها لمسروق: (ومن حدّثك أن محمدًا كتم شيئًا مما نزل عليه فقد كذب).
5- عمل المبتدع مردود:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، وفي رواية: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
وهذه خسارة ما بعدها خسارة، يقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104].
6- الهلاك والوعيد للمبتدع:
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((إني تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك)).(/9)
وقال ابن مسعود رضي الله عنه حين رأى حِلقًا في المسجد، وعلى كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، ثم يقول: هللوا مائة، وسبحوا مائة، فقال رضي الله عنه: (عدّوا سيئاتكم. ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تُكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة...).
7- المبتدع يحمل أوزار من تبعه:
يقول تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25].
قال مجاهد: "يحملون وزر من أضلوه، ولا ينقص من إثم المضلّ شيء".
قال ابن كثير: "أي: إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك فيتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم، أي: يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم، كما جاء في الحديث ((من دعا إلى هدى...)). ثم قال: وقال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13].
وهكذا روى العوفي عن ابن عباس قال: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} إنها كقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيء)).
8- المبتدع يحجب عن الحوض:
عن سهل بن سعد وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني فرطكم على الحوض من مرّ علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول سحقًا لمن غيرّ بعدي)).
جمع هذه الأخطار الشيخ وجدي غزاوي، وألقاها في خطبة جمعة، قبيل المولد لعام 1422هـ.
هذا القول مشهور ومستفيض عن الشافعي رحمه الله بهذا اللفظ، ولم نجده في مصدر ينسبه إلى الشافعي بسند، وجزم الألباني رحمه الله بنسبته إلى الإمام الشافعي. انظر: السلسلة الضعيفة (2/ 19).
الرسالة (ص507-508).
الرسالة (ص508).
أخرجه الطبري في تفسيره (6/114)، والطبراني في المعجم الكبير (17/92)، وأخرجه الترمذي بنحوه في كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة (3095).
القول المفيد من الرسائل السلفية (ص38).
أخرجه الشافعي في مسنده (1/14)، وفي الأم (7/289، 299)، والبيهقي في سننه (7/76)، وانظر تعليق أحمد شاكر على الرسالة (ص93-103)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/417)
أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (1844) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
تعليقه علىالرسالة للشافعي (ص95).
ذكره ابن حزم في الإحكام مسندًا (6/225).
صحيح البخاري: كتاب التفسير، باب: {ياأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} (4612)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (177).
أخرجه مسلم: كتاب الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718).
أخرجه البخاري: كتاب الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (2697)، ومسلم: كتاب الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718).
أخرجه بهذا اللفظ أحمد (4/126)، وابن ماجه: المقدمة، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين (44) وغيرهما، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (937).
الشرة: النشاط والرغبة. لسان العرب (4/401) [شرر].
أخرجه أحمد (2/188)، وابن أبي عاصم في السنة (51)، وحسن إسناده الألباني في التعليق على السنة.
سنن الدارمي: المقدمة، باب: كراهية أخذ الرأي (1/79).
تفسير القرطبي (10/96).
تفسير ابن كثير (4/484).
أخرجه مسلم: كتاب العلم، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة (2674).
فرطكم: الفارط والفَرَط ـ بالتحريك ـ: المتقدم إلى الماء، يتقدم الواردة فيهيئ لهم الأرسان والدلاء، ويملأ الحياض ويستقي لهم. لسان العرب (7/366) [فرط].
أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب: في الحوض (6583، 6584).(/10)
الشباب بين الحماسة والكياسة
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
المقدمة
أول ما نبدأ به من حديثنا ، حديثنا عن عنوان هذه المحاضرة ، ولا شك أننا سنحاول أن نجعل حديثنا في نقاط محددة ، وفي تعليقات مختصرة ؛ لأن الموضوع رحب الجوانب .. متعدد الشعاب .. كثير الفروع دقيق المآخذ مما يجعل الاسترسال في بعض فروعه يحيف باستكمال الموضوع في بقية جوانبه .
أولاً : التعريفات والمصطلحات
الشباب :
في معاجم اللغة يقولون: " الشباب الفتاء والحداثة " ، وذكر صاحب تاج العروس عن محمد بن حبيب ، تحديدات للفئة العمرية التي تتصل بالشباب ، ومن محاسن ما ذكره أنه قد وسع في بعض الأحوال ، فيجمع من هم في المصطلح العام خارج دائرة الشباب ، فقد نقل عن محمد بن حبيب: أن الشباب يمتد من سن السابعة عشر حتى الحادية والخمسين ، وبعد ذلك هو شيخ .
ونحن بهذا في هذه القاعة جميعاً شباب ، وربما هذا يقربنا إليكم حتى لا تقولوا قد جاؤا ليئدوا هذه الحماسة أو يطفئوا جذوتها ، أو يزيدوا من عقلانيتهم بحسب تقدم سنهم ، لكنه أردف بعد ذلك الأقوال الأخرى، فقال فيما قاله: أنه من البلوغ حتى يكمل الثلاثين ، وقيل: ابن الست عشرة سنة إلى ثنتين وثلاثين ثم هو كهل ، فهذا كأنكم لم تسمعوه ، ونحن باقون على العهد الأول لنكون جميعاً شباباً إن شاء الله ، ولنا عود إلى معنى الشباب في بعض نقاطنا الأخرى .
أما الحماسة : فهي أصل في اللغة يدل على الشدة والحماسة والشجاعة والشدة .
والتحمس: هو التشدد ، يقولون في اللغة: " حمس بالشيء إذا تعلق وتولع به " ، والأحمس: هو الورع من الرجال المتشدد في دينه ، وكذلك جاء في لسان العرب: أن الأحمس هو الشديد الصلب في الدين والقتال ، والكلام في هذا يطول خلاصته التي يمكن أن نخلص بها إلى تعريف محدد أو واضح : أن الحماسة تعلق وولع بالأمر يدعو إلى التشدد فيه ، والجرأة والشجاعة في إنفاذه ، فهو يبدأ بشعور وعاطفة وتعلق ، نبثق منه حينئذٍ تغير وسلوك نفسي يتولد من خلاله جرأة ترجم إلى شجاعة في إنفاذ الأمر وعدم التساهل أو الترخص فيه .
وأما الكياسة: فهي أصل يدل على ضمّ وجمع ، ومنه الكيس الذي تجمع فيه الأشياء ، والكيّس في الإنسان ضد الخرق أو ضد الحمق ؛ لأنه كما قال ابن فارس في معجمه[ مجتمع الرأي والعقل ] : " الكياسة هي خلاصة الرأي والعقل " ، ولذلك يقولون : " الكيس العقل والفطنة والفقه " ، والكيس في الأمور يجري مجرى الرفق فيها، والكيس: هو الظريف الخفيف المتوقد الذهن ، ورجل كيّس الفعل أي حسنه .
ومن هذه الومضات أيضاً نقف إلى خلاصة نقول فيها: إن الكياسة هي عقل وفطنة تقود إلى الرفق في الأمور والإحسان في أدائها دون حمق .
وإذا نظرنا إلى هذه المعاني نريد أن نبين أنها ليست متقابلة بمعنى ليست متضادة ، وإنما كل منها يعطي دلالة في جانب من الجوانب ، وجانب الحماسة تعلقه بالعاطفة والشعور والحمية وجانب الكيس والكياسة متعلق بالعقل والرفق والرشد ، ولا يعني أن يكون العاقل ليست له عاطفة ، ولا يعني – كذلك - أن يكون المتحمس طائشاً لا عقل له ولا رشد عنده ، وهذا هو الذي نريد أن نعالجه ، أو هذه - إذا صح التعير - هي المعادلة التي نحب أن يكون في طرفيها إتزان كما هو شأن المعادلات كلها .
عندما نخص الآن العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة المجتمعة في عنواننا هذا لابد أن يثور السؤال : ما صلة الشباب على وجه الخصوص بالحماسة ؟ وقد قدم الدكتور بأن الشباب فيه قوة وفتوة ، ونحن نرى ونعلم جميعا أنه إذا ذكرت الحماسة جاء في الذهن الشباب ، وأنه إذا ذكرت الكياسة جاء في الذهن الشيوخ .. إنطباع تغليبي ولكنه ليس إقصائي كما أشرت من قبل .
ثانياً : الشباب والحماسة
لماذا يتحمس الشباب؟
وهل الحماس في الشباب عيب ؟ أو شيء طارئ أو أمر غريب ؟
نقول: إن الحماسة في الشباب أمر طبيعي لعناصر كثيرة منها :
1- الحيوية والقوة
أن الشباب فيه حيوية وقوة ، والله - سبحانه وتعالى - كما جاء في التقديم قال :
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً}[ الروم: 54] .(/1)
فالشباب قوة بين ضعفين ، وانطلاقة بين هدوءين أو سكونين ، وحركة واندفاع بين جانبين فيهما من الهدوء والسكينة ما فيهما ، وحتى من الناحية الطبية نعلم أن الفئة العمرية في فترة البلوغ ما يزال الخلايا والأعضاء تزيد وتنمو وتعظم وتتكاثر ، وهذا أمر بيّن ، وإذا رجعنا حتى إلى اللغة تسعفنا هذه المعاني بشكل واضح ؛ لأن الاشتقاق اللغوي لأصل شبّ وهو أصل الشين والباء في اللغة يدل على نماء الشيء وقوته في حرارة تعتريه ، وهذا يدلنا على طبيعة الامتزاج بين الحيوية والحرارة والقوة وطبيعة الشباب ، ومن ذلك قولهم: شبت النار أو شببت الحرب ، ثم - كما يقول ابن فارس - " ثم اشتق الشباب منه ، وهو النماء والزيادة في قوة جسمه وحرارته " ، ولذلك نرى هذا الأمر واضحاً ، وأن من طبيعة الشباب الفطرية ، بل والخلقية البدنية أو ما يسمى بالبيولوجية - أي الطبيعية الفيزيائية - أنه بطبيعة خلقته في هذه الفترة العمرية فيه نمو وزيادة وشيء مما يزداد قوة ويزداد ..
ومن هنا فالحماسة قرينة الشباب بدون أن يكون هناك افتعال لها ، أو تكلف فيها أو تطلب لأسبابها ، بل هي قرينة الشباب من هذا الوجه .
2- الإرادة والتحدي
من طبيعة هذه الفترة العمرية أن فيها عزيمة صلبة ، وإرادة قوية .. من خصائص الشباب قبول التحدي بل والتعرض له ، والبحث عنه ، والثبات عليه ، ولو أننا أردنا أن نأخذ أمثلة ، والأمثلة اعذروني ستكون دائماً محدودة ؛ لأننا لو تشعبنا فيها يضيق المقام عن ذكر ما وراء ذلك .
قصة لابن مسعود ، وأنتم تعرفون ابن مسعود !كان من صغار الصحابة وشبابهم ، وكان إلى ذلك نحيل الجسم دقيق الساقين ، وكان الصحابة يضحكون من دقة ساقيه في الفترة المكية العصيبة التي كانت فيها المواجهة قاسية وشديدة وشاملة من قريش ضد المسلمين ، وفي جلسة بين بعض المسلمين كانوا يتداولون فيما بينهم من يمكن أن يقرأ القرآن ويصدع به في نوادي قريش ، وهي عملية تحد كبيرة وعملية تحتاج إلى قوة إرادة ، وصلابة عزيمة ، فانتدب لذلك ابن مسعود - الشاب النحيل - وذهب إلى منتدى قريش في البيت الحرام ، وصدع بآيات القرآن يقرؤها بين ظهرانيهم ، وإذا به كما هو متوقع ولم يكن هو يظن أن ذلك سيعجبهم ، بل كان يعرف ما يترتب على ذلك عمدوا إليه وضربوه ، وأثخنوه بالجراح ، ولعلنا نقول بعد هذا الحدث أنه قد أخذ درساً كافياً ، لكن ما الذي حصل ؟ في اليوم الذي يليه عندما تداول المسلمون تلك الحادثة قال: " أما لو شئتم لأعاودنهم بها " فهي طبيعة الإرادة القوية والتحدي ؛ لأن نفس الشاب دائما فيها هذه الحيوية التي تأبى في الجملة أن تلين ، أو أن تهادن ، أو أن تتراجع ، بل تريد دائماً أن تثبت نفسها ، وأن تظهر قوتها ، وأن تصرّ على رأيها ، وأن تثبت على مبدئها ، وأن تكون نموذجاً ينسجم مع طبيعة التفاعلات والمشاعر النفسية والعواطف الجياشة التي تمور بها النفس .
3-الأمل والطموح(/2)
لأن الشباب في مقتبل العمر ، فما زالت الصورة ممتدة والأفق واسعاً ، قد يرسم طريقاً في تخيله في آماله وطموحاته في مجال العلم ، وأنه سيحصل فيه ،وأن سيكون له كذا وكذا وكذا ، وقد يرسم طريقاً في مجال حياته الاجتماعية ، أو في حياته العملية ، لكن لو أننا تصورنا المرأة في الخمسين أو في الستين لا شك أن الأمل موجود ، لكنه قطعاً سيكون محدوداً ، ولن يكون له مثل طبيعة هذا الأمل الممتد العريض كالشباب في حياتهم وطموحاتهم ، ولو أردنا أن نأخذ أمثلة لوجدنا كذلك هذه الأمثلة في فتى الرابعة عشر الذي كان النبي - عليه الصلاة والسلام - في جملة تربيته لأصحابه يعرف كيف يصقل هذه النفوس ؟ وكيف يذكي تلك الآمال ؟ وكيف يشحذ تلك الهمم ربيعة بن كعب الذي مان يبيت إلى جوار بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا قام من الليل قام يصب له وضوءه فأراد النبي - عليه الصلاة والسلام - أن يكرمه - كما هو معروف في قصته - فقال : ( يا ربيعة سلني ما شئت ! ) والقائل هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجاب الدعوة ، فقال: " انظرني يا رسول الله " ، وعندما نقول الآن للشباب ماذا تريد ؟ ما هو أملك ؟ ما هو رجاؤك ؟ اطلب ما سنحققه لك ويطون رهن إشارتك وبين يديك ؟ فربما نعرف اليوم أنه ربما يطمح إلى هذا أو ذاك من أمور الدنيا وشؤونها ، لكن ربيعة بعد أن تريث وتأنى قال مقالة عظيمة رائعة فريدة ، لو اجتمعت لها عقول الشيوخ الكبار والعلماء العظام لربما قصروا عن أن يصيبوا مثل ما قال ، فأوجز وأبلغ في أمله وطموحه ، فقال : " أسألك مرافقتك في الجنة " ، فلم يسأل الله الجنة بل سأل مرافقة الرسول في الجنة ؛ ليكون سؤاله في أعلى وأعظم مطلب ، فماذا قال له النبي عليه الصلاة والسلام ؟ وهذه هي التربية لكي يبقى الأمل ممتداً ، والطموح متواصلاً : ( أعني على نفسك بكثرة السجود ) ، ونعلم قوله لعبد الله بن عمر يوم أول رؤياه قال : ( نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل ) والأمر في هذا واضح وجلي وكثير .
وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - يعطي لكلٍ ما كان يناسبه حتى يمتد في مجاله وميدانه الذي تتعلق به نفسه وأمله ، كما هو معروف في الحديث الذي رواه الترمذي ، عندما عدد النبي - عليه الصلاة والسلام - الصحابة وذكر في كل منهم خصيصة يتميز بها ، قال: ( أقرؤهم أبي ، وأفرضهم زيد ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ... ) إلى آخر ما ذكره عليه الصلاة والسلام .
4- تنوع الخيارات
مازال في مقتبل العمر هل يتزوج الآن ؟ هل يكمل دراسته ؟ هل يدخل ميدان العمل ؟ أما من قد طويت صفحات عمره ؛ فإن الخيارات في غالب الأحوال تكون محدودة ، وربما نرى نحن أننا نضيق الآن المجال فلا يبقى مساحة إلا لكم معاشر الشباب الذين تدخلون في جميع التعريفات ، أما من له تعريف واحد يتيح له أن يدخل في الشباب وتعريفات أخرى تخرجه منه يبدأ تضييق الدائرة عليه - كما قلنا - فلذلك لما كانت هذه الحماسة من طبيعة الشباب ، فنحن نرحب بها ولا نعارضها ، ولا نقول إنها شيء شاذ أو أمر غريب ، ولكننا نوصل أيضاً في مدح هذه الحماسة وبيان ثمراتها ، وبعض فوائدها ليكمل لنا حينئذ الصورة الإيجابية في هذه الحماسة بإذن الله عز وجل .
( مرحباً بالحماسة )
ثالثاً : ثمرات الحماسة
الحماسة تورث خلالا كثيرة وسمات عديدة :
1- الهمة والعزة(/3)
فهذه الحماسة تجعل الهمة عالية ، والعزيمة ماضية ، والعزة أبيّة ، والروح فتية بحيث أن هذه المشاعر تترجم إلى مواقف وإلى سمات شخصية تعد من مظاهر القوة الإيجابية ، ليس في الشباب رخاوة ، وليس في الشباب ضعف ، وإن كان حالنا اليوم أو حال بعض شبابنا قد جعلت لهم صورة أخرى في الشباب ، هي صورة الدعة والترف والرخاء ، ولكننا نقول : إن الأصل في طبيعة الشباب في التربية الصحيحة في الأجواء النقية أن يكون لهم همتهم القوية ، وعزتهم الأبية التي تجعلهم دائماً في قصب السبق والتقدم - كما سيأتي في المراحل التالية - ولعلنا نريد أن نصور بعض هذه الهمم في سير الشباب من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، والأمثلة محدودة -كما قلت - بحكم الوقت ، هذا نموذج رده النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى الاعتدال ، لكننا نرى كيف كانت القوة في أصل هذا النموذج ، عند البخاري في الصحيح من حديث النبي - عليه الصلاة والسلام - مع عبد الله بن عمرو بن العاص قال له عليه الصلاة والسلام : ( ألم أخبر أنك تصوم فلا تفطر وتصلي فلا تنام وتقرأ القرآن في كل ليلة ) فقال: بلى يا رسول الله، هذا الخبر بلغه عن عبد الله بن عمرو .. انظروا إلى همته وطاقته المتدفقة كيف كان على حال لا يفطر ولا ينام ليله ويختم في كل ليلة ! نعم رده النبي النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى الاعتدال المعروف في الحديث ، لكن الشاهد عندنا هو هذه الهمة العالية القوية التي كانت عنده ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مقتبل عمره وفي بداية دعوته كانت له المواقف العظيمة في مثل هذا .
2- العمل والإنتاج
الهمة والعزة تتحول إلى عمل مثمر ، وإلى تواصل في الإنجاز ، وحرق المراحل لكي يكون هناك ثمرة ظاهرة ، ونتيجة باهرة من خلال هذه الهمة ؛ لأن صاحب الهمة لا يرضى بالقعود ، ولا يرضى بالكسل والخمول ، ولا يرضى إلا أن تكون كل ثانية من ثواني حياته مملوءة بما يتناسب مع طبيعة هذه المشاعر المتدفقة ، والعواطف المتأججة في نفسه ، ولذلك نرى كيف كان شباب الصحابة والشباب في مراحل التاريخ الإسلامي كلها في الأجواء الصحيحة ، والتربية الجادة كيف كانوا دائما يأتون بالعجائب والإنجازات الباهرة حتى في مجالات مختلفة .
لعلي أذكر مثالا في قصة زيد بن ثابت - رضي الله عنه - وهو الذي كان غلاماً صغيراً في نحو السادسة عشر من عمره ، فقال له النبي النبي عليه الصلاة والسلام كما في المسند عند الإمام أحمد : ( اقرأ حرف يهود ) يعني حتى يقرأ له أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعلم اللغة حتى يقرأ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما يأتيه ، فتعلم السريانية ، في بعض الروايات أنه تعلمها في خمسة عشر يوماً ، وفي بعضها في سبعة عشر يوما ، فكان يقرأ للرسول ، وكان يكتب له ، وبالمناسبة أيضاً زيد بن ثابت كانت له المهمة الفريدة التي جعل من مؤهلاتها الشباب في صحيح البخاري الحديث المشهور في جمع القرآن ، قال أبو بكر عندما استدعى زيد بن ثابت: " إنك شاب عاقل لا نتهمك كنت تكتب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وأول هذه الخصائص أنها مهمة ثقيلة تحتاج إلى قوة .. تحتاج إلى عمل متواصل أسندت إلى هذا الشاب الفتي مع ما عنده من الأمانة والعلم والخبرات السابقة ، ثم كلفه بجمع القرآن وكتابته ، ومع أن الذي كان يحدثه أبو بكر خليفة المسلمين ومعه عمر وزيره ، وهما أفضل الصحابة وأكبرهما سناً إلى غير ذلك مع ذلك كله قال بكل رباطة جأش ، وهمة تناسب الشباب قال: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا يدل على قوة هذه الشخصية ، لكن بعد أن جاءت المراجعة وانشرح صدره لذلك قال: " فوالله لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون عليّ " ثم انطلق وبدأ في هذه المهمة ، وأعانه عمر ، ووضع الشروط والضوابط والشهادة المطلوبة على كل مكتوب أنه ثبتت كتابته بأمر النبي - عليه الصلاة والسلام - أو بحضرته ، وأتم هذه المهمة على أدق وأحكم وأمتن صوة ما كانت لتكون لولا هذه الفتوة والحيوية والحماسة والقوة في حياة الشباب ، والأمر في هذا كما قلنا يطول الحديث عنه .
3- الثبات والإصرار
كثير من الأعمال لا تعطي ثمرتها إلا مع طول الزمن ، ومع استمرارية العمل وذو النفس التي ليست فيها هذه الحماسة غالباً ما ينقطع نَفَسُه ، وينقطع عمله ، وينقطع بعد ذلك أثره ، ويطوى خبره ؛ لأن المسألة تحتاج إلى مثل هذا كما سنشير من مزايا الشباب في الحماسة أنها تعطيهم قوةً وثباتاً بشكل منقطع النظير ..(/4)
أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - وهو أمير على الكوفة ظل يقرئ القرآن في مسجدها أربعين عاماً كل يوم ، وهو أمير ، وهو يتولى الحكم ، لكنه كان في صفته وسمته يدل على هذا العطاء المستمر والثبات على العمل ، ليست قضية ردود أفعال ، ولا سحابة صيف تنقشع ، ولا أمراً أثارته بعض العواطف المهيجة ، ثم جاء غيرها ، ونرى بعض الشباب وهو يتموج ويذهب يمنة ويسرة مع بعض هذه التقلبات العاطفية ، وخاصة نحن في عصر عولمة وإعلام وكوكبة وموجات متدفقة هنا وهناك تعبث بالعقول والعواطف عبثاً كبيراً .
وحبيب بن زيد - رضي الله عنه - وهو من أمثلة الشباب كيف ثبت لما أرسله النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى مسيلمة الكذاب فكان يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، يقول مسيلمة: " قل أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن مسيلمة رسول الله " يقول: لا أسمع لا أسمع وإذا بمسيلمة بعد ذلك يبدأ في تقطيعه يقطع أذنه يجدع أنفه ، ويقطع إرباً إرباً ، وهو ثابت على هذا النهج الذي كان عليه مصعب بن عمير ، الشاب المدلل المترف المعطر ، الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما رأيت فتى أحسن لمة في أهل مكة من مصعب بن عمير ) .. لما دخل الإيمان في قلبه ، وتمكّن وأعطى عاطفته كلها لهذا المعتقد والمبدأ ، ووجه بكل أنواع الحصار والتضييق وشظف العيش لم تلن له قناة ، ولم يتغير له موقف ، ولم يتراجع في أي صورة من الصور التي أخذ بها - رضي الله عنه وأرضاه - حتى كانت بعد ذلك قصة استشهاده مضرب مثل ، بل موضع عبرة لكبار الصحابة أبكتهم سنواتٍ طوالاً بعد مصعب بن عمير - رضي الله عنه - كما ورد في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف عند البخاري أنه كان صائماً في يوم خميس وأتي له بطعام الإفطار وكان فيه صنفين من الطعام نوعين من الطعام فقط نوعين فبكى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فتعجب الناس قالوا: ما يبكيك ؟ قال : " ذكرت مصعب بن عمير .. مات يوم أحد يوم مات ولم نجد ما نكفنه به إلا بردة إن غطينا رأسه بدا قدماه وإن غطينا قدماه بدا رأسه ، وأخشى أن نكون قد عجلت لنا طيباتنا " ، بقي موقف مصعب في ثباته الفريد يوم قطعت يده اليمنى فرفع الراية بيسراه فقطعت ، فضمّها بعضديه حتى خرّ واستشهد - رضي الله عنه - على هذه الصورة من الثبات الرائع في قوة الحماسة والثبات على المنهج والمبدأ .
4- نجدة وإعانة
وينتج عن هذه الحماسة في الجلة أيضاً نجدة وإعانة ؛ لأن المتحمس يأبى أن يرى الضيم ويسكت .. يأبى أن يرى المحتاج وهو واقف لا تستجيشه تلك العاطفة إلى أن يمد يد العون ، وإلى أن يسابق ، وإلى أن يكون في الصفوف الأول في كل هيعة وفي كل ميدان من ميادين العطاء والنجدة ، ولعل قصة حنظلة بن أبي عامر - غسيل الملائكة -الذي دخل على زوجه وعروسه في ليلة عرسه ثم أصبح على ظهر الخيل مجاهدا في سبيل الله ناسيا أن يغتسل من جنابته حتى غسلته الملائكة فيما بين السماء والأرض كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك هي روح الحماسة المتدفقة في ميدانها الصحيح وفي عطائها الإيجابي .
5- امتنان وانتفاع
وبعد ذلك لا شك أن هذا كله تتسع به دائرة الامتنان في الأوساط التي يعيش فيها الشباب بهذه الروح وبهذا العطاء ، وانتفاع من حولهم بهم بدلاً من أن يكون ما قد يكون من عكس ذلك مما قد نعرج عليه في حديثنا هذا .
( مرحباً بالمتحمسين )
لا شك أيها الاخوة أنكم الآن متحمسون وأننا قد زينا الحماسة بما رحبنا به بالحماسة ، ونرحب هنا أيضا بالمتحمسين ولكن إلى أي مدى نمضي مع الحماسة ؟ وهل الحماسة أمر ما تزال تشعل ناره وتزيد أواره وتعظم من أمره دون أن يكون هناك ما يرشده أو يكمله أو يسدده ؟ طبيعة الأمور الساخنة أنها إذا اشتدت وزادت يكون فيها ما لا يتفق مع المطلوب منها ، ولا يتكامل مع الثمرة المنشودة أو الرغبة فيها ، ومن هنا فإن الحماسة في صورتين إما زيادة عن حدها وإما اختلال في مسارها لا تكون حماسة محمودة ،وتعود تلك الثمرات لتكون حسرات ومن هنا لعلنا كما قلت والموضوع شائك لا شائق وإن كان قد يصدق فيه الوصفان .
رابعاً : حسرات الحماسة(/5)
هنا انعطافة لننظر إلى الصورة الأخرى وإلى الشق الآخر حتى تكتمل الرؤية من جوانبها المختلفة ؛ لأنه ليس من مصلحتنا في شيء دائماً أن نسمع من الناس ما نرغبه وما نحبه بالعكس الإنسان يستفيد أكثر ممن قد يكون له وجهة نظر أخرى وممن قد يكون له من بيئته ومن تنشئته ومن معرفته ما قد لا يتفق معك ، فحينئذ يحصل نوع من التبادل والتكامل والامتزاج النافع والمفيد ، نحن لا نريد ولا ينبغي أن نفرح عنما نجد من يطبطب على ظهورنا ويؤيد مواقفنا في كل شيء ، وربما نجد أن طبيعة العاطفة تدعو إلى ذلك من هو الذي نحبه ونأنس به ؟ هو ذلك الذي يوافقنا في كل ما نقول ويسايرنا في كل ما نعمل ويعطينا الدعم المعنوي والإيجابي في كل مبدأ أو رأي أو موقف نتخذه دون أن يكون عده أدنى تحفظ ، حتى ولو أخطأنا أو حتى توقّع في مستقبل الأمر أن تكون هناك احتمالات لوجود عواقب أو مخاطر أو نحو ذلك ، لابد أن نأخ هذا الجانب مرة أخرى في صورة مغايرة عما سبق أول هذه الحسرات .
1- الفتور والإحباط
عندما تكون الاندفاعة قوية أكثر من اللازم ، وغير مستوعبة للواقع ، ولا مدركة للإمكانيات ، ولا متهيئة في الأخذ بالأسباب ؛ فإن هذه الإندفاعة تمضي فلا تحقق نتيجتها فيرتد حينئذ بعد تجربة وثانية وثالثة إلى فتور يترك معه كل عمل وكل حيوية وكل نشاط وكل إيجابية بل يرتد حينئذ إلى نفسية محطمة مهزومة لم تعد عندها أدنى درجات الثقة بالنفس التي يمكن أن تكون أساساً للإنطلاق أو العمل ، ولعلي أضرب مثالاً يدور أو يقع في صفوف الشباب كثيراً في بعض الجوانب الحياتية ، على سبيل المثال ربما يسمع كثير من الشباب الحث على العلم وطلب العلم وفضيلة العلم ، وتأتي هذه النصوص وتلك المحاضرات فتلهب في نفسه الحماسة وإذا به ولم تكن له سابق تجرة ولم يأخذ خبرة من صاحب تجربة يندفع اندفاعة من الناحية المنهجية غير صحيحة ، ومن الناحية التي تناسب طبيعته وقدرته غير متطابقة معها ، فإذا به لا يلوي على شيء ذكر البغوي في كتاب العلم شرح السنة عن الزهري - رحمه الله - قال: " من رام العلم جملة فقده جملة " ، وهذه طبيعة ونحن نرى كيف يقبل كثير ، وهذه ظاهرة موجودة الشباب يقبلون ويريد أن يدرس هذا العلم وذاك العلم ويحفظ هذا المتن .. اندفاعة ليست متكاملة ، فكثيراً ما يؤول به الأمر إلى أن يترك ذلك كله ، أو حتى في جانب الالتزام الشخصي والأخذ بأمور الفرائض والعبادات والتطوعات يندفع فيها بغير ما يتناسب مع طاقته أو ظرفه ، ويكون فقط تحت تأثير عاطفي مؤقت ، ثم يرجع إلى ما وراء ذلك ونجد في هذا - كما قلت - من الناحية الواقعية أمثلة كثيرة والتجربة فيه واضحة حتى نستطيع إن شاء الله أن نواصل هذه المعاني .
2- تعطيل والإعاقة
كثيراً ما تدفع الحماسة إلى عمل متهور تفسد به كل تلك الرؤى التي كانت تبنى عليها الآمال وتقام عليها الأحلام لمواصلة في عمل ما ؛ لأن الإندفاع الشديد والخروج عن المسار الصحيح لا شك أنه سوف يفعل ردود أفعال كثيرة ، وهذه ردود الأفعال سوف تكون تعطيل ومنع وإعاقة ، وواقع الشباب المسلم في المجتمعات الإسلامية أيضاً فيه أمثلة كثيرة من ذلك ، ونحن نعرف في كثير من بلاد المسلمين كيف كانت ثورات من الإندفاع في بلاد كثيرة أدت إلى منع خير كثير وإلى سد أبواب من الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل إلى تغييرات أعمق وأشد تأثيرا بدلا من ذلك الخير الذي كان ينشده بنسبة محدودة وإذا به ينقلب إلى كثير من العوائق والموانع والسدود التي تمنع كثيراً وكثيراً من الخير عليه وعلى آلاف مؤلفة من ورائه ، ولعلنا أيضاً لا يخفى علينا مثل هذا فيما جرى في كثير من البلاد التي انفرط فيها عقد أمنها ، واختلت فيها الموازين ، وكثر فيها الهرج والمرج مما سيأتي أيضا ذكر بعضه فيما نأتي به في هذه النقاط .
3- موت وإتلاف
يعني قد يبلغ الأمر إلى هذا المبلغ ، ونحن نعرف أن الحماسة المتمكنة في النفس أحياناً قد تصل إلى شيء من تغييب العقل ، وعدم النظر حتى في الضوابط والأحكام الشرعية ، ونحن نحب أن نؤكد هنا على أمر مهم وهو أن المنطلقات التي تحكم المسلم ليست منطلقات العاطفة ولا الشعور ولا ردود الأفعال ولا الانتصار للذات الذي يحكمنا أمران هما الأساسيان في تصرفاتنا كلها :
الأول: هو حكم الشرع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فما كان واجباً أمضيناه ، وما كان محرماً تركناه ويلحق به ويكمله .(/6)
الثاني : مراعاة المصلحة الشرعية في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع المعاصر ؛ فإن من الأمور ما قد يكون واجبا أو قد يكون مباحاً لكن إيقاعه في هذا الوقت أو في هذا المكان قد تترتب عليه مفاسد أعظم ، وقد يكون فعله في هذا الموطن محرماً ، وإن كان في أصله واجباً وهذه موازنات معروفة في مقاصد الشريعة الكلية التي ينبغي مراعاتها ، وفي القواعد الفقهية المستقاة والمستنبطة من الأدلة الكلية والفرعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مثل: (لا ضرر ولا ضرار ) ، وغير ذلك من القواعد المعروفة ، فهناك ما قد يصل إلى هذا مما يقع به إزهاق الأرواح وإتلاف الأموال وإفساد كثير من الأصول الثابتة التي لابد من معرفتها ، ولعلي هنا أيضا أركز في هذا المعنى ؛ لأن بعض الأفهام تتجاذبها عواطف ولا تكاد تفهم حقائق النصوص ، وإذا تأملنا في هذا الجانب ثمة أمر مهم نحن نذكره ؛ لأنه من دين الله ولابد أن نفقه ديننا وأن نعرف أن الأصل أننا متعبدون بشرع الله - عز وجل - وأنه لابد لنا أن نتأمل في حكمة الشارع ؛ لأن الشارع معصوم سواء كان ذلك في كتاب الله أو ما ثبت من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولعلي أخص هنا موضعاً محدداً من هذه المواضع التي أصبحت فيها الفتنة عامة في كثير من مجتمعات وبلاد المسلمين .
طائفة كبيرة كثيرة من أحاديث النبي - عليه الصلاة والسلام - صحيحة في النقل وصريحة في النص في قضية ما يتعلق بالانحراف أو الفساد في ولي الأمر أو الحاكم المسلم ، وكيف يكون التعامل في هذا الشأن ، ولعلي - وأنا أستطرد هنا قليلاً - لا أقول إن هذا الحديث وهذه المحاضرة قد أعدت من قبل وإن كانت متطابقة ربما مع أحداث مؤسفة ومحزنة وقعت البارحة وفي الفترات الماضية ، نقول الذي يتحدث بهذا هو سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ليست القضية - كما قلت - عاطفية ، يذكر - عليه الصلاة والسلام - جملة من الأحاديث لو ذكرتها لطال بنا المقام ، هذه الأحاديث فيها ضبط شديد وفيها تحوط كبير وفيها ربما في صورتها الظاهرة كأنما تأتي معاكسة لما ينبغي أن يكون فيقول على سبيل المثال - عليه الصلاة والسلام - في بعض ما صحّ من هذه الأحاديث قال : ( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر ) ، وفي رواية أخرى من حديث حذيفة قال: ( وإن جلد ظهره وأخذ ماله ) ، وفي رواية ثالثة عند مسلم في تفصيلات لهذا الحديث لما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفتنة ، قال حذيفة رضي الله عنه في هذا الحديث يعني قال لرسول الله: أرأيت إن أتي به إلى الصفين ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: ( فليدق سيفه ) يعني فليتلف سيفه حتى لا يخوض في هذه الفتنة أو في ذلك القتال ، ونجد بعض هذه الأحاديث يفهمها ربما بعض الناس على أنها سلبية مطلقة ، وعلى أنها لا تتفق مع ما يظنه من عوميات أخرى في دين الإسلام ، ولو أننا تأملنا هذه النصوص لعرفنا حكمة عظيمة للشارع نقل ابن حجر - رحمه الله - عن ابن بطال في كتاب [ الاعتصام بالكتاب والسنة ] ، وفيه أحاديث عظيمة من مثل هذا قال يعني في مثل هذه الأوامر قال: " فيه تسكين الدهماء وحقن الدماء ؛ لأن الأمر إذا انفرط عقده عظمت الفتنة وكبرت البلية ، وصار من الفساد على أمور الدين كلها ما لم يكن موجودا بمثل هذا الأمر ولا يعني ذلك بالطبع والقطع أن أي انحراف يقر وتصبغ عليه الشرعية ، كلا دين الله - عز وجل - واضح لا يضيعه أحد في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يملك أحد تغييره ولا تبديله - وذلك من فضل الله ونعمته علينا ، فينبغي أن نعرف أننا متعبدون بالشرع ، وانظروا إلى هذه الأمثلة :
حذيفة بن اليمان في قصته المشهورة في يوم الأحزاب ، لما طلب منه النبي أن يذهب ليرى خبر الأحزاب - أبو سفيان ومن معهم من قريش والقبائل - فتسلل حذيفة في حادثة مشهورة ويصف هو يقول: وكان أبو سفيان في مرمى سهمي إلا أني ذكرت قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تحدث شيئا حتى ترجع ) .. أبو سفيان رأس الكفر آنذاك ،وهو قائد الأحزاب وكان في مرمى سهمه ونباله ، لكنه امتثل ذلك الأمر ، والأمر قطعا كانت فيه حكمة وهو إرشاد ووحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم:3،4 ].(/7)
ومجزأة بن ثور السدوسي - رضي الله عنه - في معركة أخرى مع الروم عندما كلفه قائد المسلمين سعد ، وأتته رسالة بعد أن طال الحصار ولم يستطيعوا أن يقتحموا رسالة من بعض الروم تدلهم على منفذ تحت الأرض نفق فيه ماء فانتدب ، قال سعد لمجزأة : انظر لي رجلا من قومك خفيفاً جريئاً شجاعاً ، قال : اجعلني أنا ذلك الرجل أيها الأمير ، وقال له: لا تحدث شيئاً ، قال : وخلصت حتى رأيت الهرمزان ونازعتني نفسي في قتله إلا أني ذكرت قول سعد ، فرجع وأخذ ثلاثمائة وكلهم خاضوا ودخلوا وفتحوا من الداخل ، ليست القضية اندفاعات عاطفية وإنما هي انضباطات شرعية ومراعاة مصلحية ومنهجية في الأولوية ينبغي أن نعرفها .
4- الضياع والخسارة
كم من الشباب يندفعون في جوانب مختلفة ، ثم لا يرمون على شيء ؛ لأنهم لم يرشدوا تلك الحماسة ، ولم يجعلوها في برامج عملية وتدرج فيمضي الوقت ولا تحصل الثمرة ، وتنفق الجهود أو الأموال ولا تحصل النتيجة ، وذلك أيضا كما قلت حتى لا نطيل يزيد في الأمر ولعلي أضرب مثالا في قضية العلم مرة أخرى:
بعض الشباب في هذه الحماسة العلمية يتتبعون مسائل الخلاف وتجد الواحد بعد يوم أو يومين من بداية عنايته بالعلم أو بعنايته بالالتزام إذا به يسمع هذه المسائل الخلافية ويتحدث بها، فلان مخطئ فلان كذا ويبدد الجهود في تتبع الأخطاء وفي حفظ الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، وهو لم يعرف الصحيحة بعد ولم يحفظها ولم يكون من ذلك نظرة علمية واضحة يستطيع بها أن يميز بعد ذلك الخطأ الذي قد يكون في هذه المنهجيات المختلفة .
وقد قال ابن القيم - رحمه الله - كما ورد في الفوائد في شأن أولئك الذين يتتبعون شواذ المسائل التي فيها خلافات فقط ، وهو يقول عن تجربة: " وقلّ من رأيته يفلح في هؤلاء "، ما يصل إلى ثمرة لأنه إذا صح التعبير يأخذ من كل بحر قطرة وينتهي بعد ذلك إلى ولا قطرة ، ليست هناك يعني هذه الصورة الإيجابية التي بتجميع هذه الجهود نصل إلى ثمرة هناك ضياع وخسارة .
5- التضخيم والاختلال
هناك نقاط صغيرة يمكن بالمكبرات أن ترى وهي مئات أضعاف حجمها من حماسة الناس أحياناً .. إذا تحمس لأمر جعله هو كل شيء هو مبتدأ الأمر ونهايته ، وهو أوله وغايته وهو الذي لايمكن أن ينشغل أحد بسواه ، وإذا انشغل أحد بغيره فهو ضائع وتافه ومضيع للأمور ، وهكذا تندفع العاطفة تماماً هي العاطفة بطبيعتها حتى لو اندفعت العاطفة كما نعرف عند العشاق والمحبين تختصر الدنيا كلها في المعشوق والمحبوب ، كما قال المجنون ولا بأس أن يكون هذا التفريع للشباب، يقول:
إذا قيل للمجنون: ليلى تريد **** أم الدنيا وما في طواياها
لقال غبار من تراب نعالها **** أحب لنفسي وأشفى لبلواها
يقول ابن الجوزي معلقاً : " وهذا مذهب المحبين بلا خلاف فمن أحب الله ورسوله كان أدنى شيء منهما أحب إليه من كل هذه الدنيا وما فيها " .
فالمسألة الاندفاعية في العاطفة هذه قضية عظيمة ومن أمثلتها: التقديس والتبخيس والتهوين والتهويل .. من أحببناه جعلناه ذلك الرجل الذي كأنما هو ملك مبرأ من كل عيب ، أما علمه فغزير ، وأما رأيه فسديد ، وأما منطقه ففصيح ، وأما تصرفه فحكيم ، كأنما لم يكن فيه عيب مطلق ، ونحن حينئذٍ نقول : " هو الأول وهو الآخر وهو الذي ينبغي أن يكون … أين هذا من ذلك الاتزان ؟ حتى النبي - عليه الصلاة والسلام - يقول لأصحابه : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ) ، ويقول : ( قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ) يعني يجعل هذا الاعتدال في شخصه - عليه الصلاة والسلام - وهو من هو في عظمته ومكانته عند ربه - سبحانه وتعالى - ، ولذلك مما رواه أبو هريرة وهو من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحب شيء إلينا رؤيته فإذا أقبل علينا لم نقم له لأنا نعرف كراهيته لذلك .
وأحيانا إذا انتقصنا إنسانا وكان غير مقنع لنا فلا نكاد نرى له حسنة من الحسنات:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة **** ولكن عين السخط تبدي المساويا
وهذه قضية واضحة ونعرف الأمثلة في هذا قصة سلمان - رضي الله عنه - ولا أريد أن أطيل.
إذن هل نحن الآن مع الحماسة؟ وإلا فترت حماستنا للحماسة والمتحمسين لكننا نقول: " لا للتهور " ، الحماسة التي قلناها باقين على عهدنا بها وعلى تأييدنا لها .
خامساً : الحماسة المتهورة
ثم نمضي مرة أخرى إلى الحماسة المتهورة: ما أسباب هذا الذي رأيناه من قبل؟ لابد أن نعرف العلل من خلال أسبابها وبداياتها حتى نجتنبها وحتى نتقيها فالوقاية خير من العلاج أول هذه الأسباب :
1- قصور في العلم
مشكلة الجهل هي آفة الآفات ومن الجهل: جهل بسيط وجهل مركب كما تعلمون، الجهل الذي نقصده هناك غياب كثير من الأصول العلمية المهمة:(/8)
معرفة النصوص الشرعية في كثير من الميادين الحياتية والمسائل الآنية المستجدة ، معرفة القواعد الشرعية - كما قلت - التي هي خلاصة إستقراء للأدلة النصية ، معرفة المقاصد الشرعية التي هي خلاصة غاية هذا الدين وأهدافه ، معرفة السنن الربانية في طبيعة هذه الحياة ، وطبيعة قيام الدول وسقوطها وطبيعة مآل المتقين ، وعاقبة المكذبين والكافرين .. قضايا كثيرة لابد أن ندركها ونعرف أنها سنن ماضية لا تتبدل :
{ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } [ فاطر: من الآية43 ].
لابد أن يكون عندنا يقين ومعرفة وتشرب لهذه المعاني ؛ حتى لا نندفع مع العاطفة بعيداً عن هذه الأصول العلمية المهمة وكما قلت الأمثلة قد تطول ولكنني أذكر عندما نتلو قول الله سبحانه وتعالى:
{ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } [ محمد: من الآية7 ] .
عندما نقول:
{ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [ هود: من الآية49 ].
{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُون َ} [ الروم:60 ] .
هذه معاني مهمة النبي - عليه الصلاة والسلام - طبقّها والصحابة على سبيل المثال بعض الأمثلة .
في سنن أبي داود نفر من الصحابة كانوا في سفر شج أحدهم أصابته الجنابة استفتى أصحابه، قالوا: لا ! لابد أن تغتسل - الجو بارد والرجل مشجوج ومع ذلك قالوا له : لابد أن تغتسل - فاغتسل فمات ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله ، أ فلا سألوا إذ لم يعلموا ؟ إنما شفاء العي السؤال ) ..
كم من القضايا الضخمة الهائلة والمسائل الكبيرة التي من المفترض أن لا يتكلم فيها إلا أكابر العلماء مجتمعين وإذا بك تجد ذلك الشاب في مقتبل العمر يتناول الحديث فيها ويفتي فيها ويعطي القول الحاسم والجازم ويرفض كل ما يخالف رأيه وقوله وهذا في غالب الأحوال ليس عن أساس علمي وإنما هي عن اندفاعات عاطفية وخليط ومزيج من هذه التجاذبات التي تجتمع لدى هذا أو ذاك وكما قلت المسائل كثيرة.
2- النقص في الوعي
والوعي هو: إدراك المسائل من جميع جوانبها ، ومعرفتها من كل وجوهها ، كثيرا ما تكون النظرة إلى جانب واحد تذكرنا بالقصة المشهورة للعميان الثلاثة الذين اتفقوا هل رأوا الفيل ؟ فأحدهم وقعت يده على خرطومه ، والآخر وقعت يده على أذنه ، والثالث فكل عندما وصف إنما وصف الجزئية التي رآها وكان الوصف أبعد ما يكون عن الحقيقة ؛ لأنه لم تكتمل الأجزاء حتى تتكامل الصورة بشكل واضح .
معرفة الواقع أصل مهم في تنزيل الحكم الشرعي على هذه المسائل ، وهذه مسألة طويلة ، وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد فصولاً نفيسة في هذه المسألة وقال: " إن كل عالم ينبغي أن يكون عالماً بالشرع ، وبصيراً بالواقع ؛ حتى يستطيع أن ينزل هذا على ذاك نقص الوعي لما وراء هذه الأمور وما يترتب عليها من المفاسد والمصالح " ، والرؤية التكاملية إذا غابت ؛ فإنها في غالب الأحوال يقع لها يعني بها مثل ذلك الذي أشرنا إليه .
3- الضعف في التربية
كثيرة أجيال الشباب الذين لم يتلقوا تربية متكاملة منهجية على الأصول الإسلامية ..كثيرون منا كنا في أوقات ليس عندنا أحد يرشدنا ، أو ربما لقد كنا سرنا في طرق من التسيب أو التفلت أو تجاوز المحارم أو نحو ذلك ، ثم بعد ذلك عدنا أو كانت لنا ثقافات خليطة ، ثم بعد ذلك حاولنا أن تكون لنا ثقافة أصيلة هذا الخليط فيه ضعف في التربية ليس فيه تعود على منهجية متكاملة .. على سير واضح .. على تخطيط بيّن .. على صبر وانضباط .. كثيراً ما يكون عبارة عن هذه الردود الانفعالية ، وكثيراً ما نرى الجوانب المتضادة فمن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بغير أن تمر أو بغير أن يكون هناك مرور على منطقة الوسط ، وهذا مشاهد في كثير من الجوانب .
4- إحباط في الشعور
وهو لعله من أخطرها وأكثرها تأثيراً في الشباب الذين يتهورون وهو: الإحباط في مشاعرهم من نواح عدة أول هذه النواحي:
تسلط الأعداء وهيمنتهم على أحوال وأوضاع بل وبلاد الأمة الإسلامية في عجز فاضح وتخاذل واضح وسلبية مؤلمة ومحزنة :
هذه عند الشباب المتحمس يرى ذلك فتغلبه عاطفته ، وتتقد حماسته ، وربما عند غياب ما سبق تضيع الرؤية وطيش العقل وينعدم الرأي السديد المبني على العلم الصحيح وهذا نحن نعرف واقعه ، ونعرف كم هي بلاد الإسلام التي احتلها الأعداء وتسلطوا عليها ليس لسنة ولا سنتين ولا لعقد ولا عقدين ، بل لما هو أكثر من ذلك ، ولعل فترات الزمن الأخيرة كان فيها كثير مما يعد هزائم وتراجعات المسلمين على مستويات عدة ، بل على المستويات الحضارية والعلمية ، وهذا عند من تتقد نفسه غيرة وحمية لابد أن يكون لها أثر ، فإذا زاد حجم هذه القوة حجم هذا العدوان وحجم هذه الهزائم أصبحت أكبر من أن تحتملها نفسه فيخرج إلى غير حد اعتدال ، وإلى غير تصرف الاتزان وهذا أمره أيضا واضح .(/9)
الأثر الثاني في إحباط الشعور – أيضاً - كثرة الانحراف والخلل والتجاوز في مجتمعات المسلمين نفسها في حدود الله عز وجل .
نحن نعرف كم في بلاد المسلمين من هذه التجاوزات ؟كم في بلاد المسلمين من إقرار المنكرات والقيام بها وإعلانها وتبنيها ؟ كم فيها مما هو مخالف لشرع الله ويمنع شرع الله ويبيح ما يخالف شرع الله ، وهذ قضية لا شك أن كل ذي غيرة وإيمان يضيق صدره بها وتغلي نفسه ويشتعل قلبه حزناً وألماً ، ورغبة في أن لا يكون مثل ذلك لكن عندما تفقد بعض هذه الصور يكون أيضا ما ذكرناه .
وجانب ثالث: وهو سوء المعاملة والظلم في التعامل مع هؤلاء الشباب
سواء كان في بيئة التعليم من أساتذتهم أو من قد يكونون في موقع التربية ، ولا يجدون منهم إلا تخطئتهم وإتهامهم بالنزق والطيش أو كذا أو حتى في الدائرة الأسرية وعجز الآباء عن تفهم ما قد يكون عند الشباب من عواطف فيها أخطاء لكنها تحتاج إلى توجيه وربما كذلك أحيانا في المعالجات والمعاملات الأمنية عل مستوى الدول كثيرا ما كانت هذه هي بذور لتلك الانحرافات بشكل أو بآخر ونحن في عصر تتجدد أحداثه وتتفاقم بشكل كبير وهذه قضية مهمة .
5- رداءة في الاستيعاب
هذه الطاقة المتدفقة والحماسة المتألقة أين تصرف ؟ أين مجالها الصحيح؟ كيف نضعها على خط القطار ليمشي إلى الوجهة التي ينتهي إليها ..ليصل إلى غاية محددة ومعروفة .
عندنا أمران: إما أنها مسنفذة في أمور تافهة وضائعة ، فكم مستنفذ من حماس الشباب في الرياضة على سبيل المثال ، كم من حماسة وقوة وربما صراع وربما أعصاب ويعني قدرات تتفجر في هذا الجانب بهذه الضخامة أو في جوانب أخرى أيضا ليست في الاستثمار الصحيح الرياضة جيدة ربما حتى التشنيع في أصله ليس على هذا ليس شيئا مذموما لكن هذه المبالغات تجعل في آخر الأمر أنها لا تقنع وأنها في الأخير ترتد إلى فراغ يرجع إلى بحث عن بديل آخر ، وإما أيضا: أنه هناك غياب وقلة وندرة في المحاضر الاستيعابية لطاقة هؤلاء الشباب وحماستهم.
سادساً : حماسة الأكياس
لعلي أصل إلى نقطة أخيرة وإن كان وقتنا قد أزف إلى حد ما ، لكنها نقطة مهمة ، وكما قلنا لا للتهور نقول: لا للمتهورين وتسألون الآن: ما الذي تريد؟ وأين سنصل؟ ما بين حماسة مدحتها ثم عدت ونقضت أصولها وهنا نكمل بالشق الثاني لعنواننا ، ونقف هذه الوقفة الأخيرة في حماسة الأكياس .
1- التعقل والاتزان
وطبعاً ليست الأكياس الأكياس إنما الأكياس من ذوي العقول ، هنا جمعنا بين الأمرين نريد هذه الحماسة والحقيقة أن الإنسان بدون الحماسة والحيوية النفسية في الحقيقة هو أقرب إلى الجماد وإلى الموات منه إلى الإنسان الذي بطبيعته هو حيوي والتفاعلات الحيوية .. في جسم الإنسان في الثانية الواحدة تقوم عمليات ضخمة وهائلة في جسم الإنسان ، ثم هو بعد ذلك يكون خاملاً وقاعداً وكسولاً هذا لا يتطابق ، لذلك نقول: صفة الحماسة إذا أضفنا إليها هذا الخليط والمزيج من الكياسة أصبحت الحماسة الإيجابية هي التي نمدحها ونريدها ، وترشدها تلك النظرة العقلية المتزنة ، فتأتينا هذه الصورة التي نريد أن نعطي فيها وصف لهذه الحماسة الكيسة أو الكياسة المتحمسة ، أو كما ذكر في كلمات جميلة الأستاذ البنا يقول: " ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول ، وأنيروا أشعة العقول بلهيب الحماسة " .
وهي كلمات جميلة تبين أننا نحتاج لمزج ذلك العقل ، الذي دائماً يتحفظ يتحفظ ولا يريد أن ينطلق يحتاج إلى بعض الحماسة حتى تفك عنه بعض تلك القيود التي يبالغ فيها ، وربما تلك الحماسة المندفعة تحتاج إلى بعض القيود العقلي حتى يرشدها ، فلذلك التعقل والاتزان مهم جداً الاتزان لا يجعل هناك طغيان جانب على جانب كما قلنا ونستحضر - كما قلنا - في قصة سلمان وأبي الدرداء : لما جاء سلمان إلى أبي الدرداء شكت أم الدرداء، قالت: أخوك أبو الدرداء لا حظ له في الدنيا وكذا وإنما هو صائم نهاره أو قائم ليله ، فنزل ضيفا عليه وكان أبو الدرداء صائماً وقدّم لسلمان الطعام قال: كل معي ! قال أنا صائم قال: أفطر وجعله يفطر ثم أراد لما جاء الليل أن يصلي قال: نم ، ثم قام يريد أن يصلي، قال: نم، حتى انتصف الليل قال: قم فصلي ، ثم جادله في ذلك فلما بلغ الأمر الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (إن لأهلك عليك حقا وإن لزورك عليك حقاً - لضيوفك يعني - وإن لنفسك عليك حقا فأعطي كل ذي حق حقه ) .(/10)
موقف أيضا لعثمان بن عفان رضي الله عنه لما كان في فترة خلافته ، تعرفون ما بدأ بعض المرجفين يشيعونه من انتقادات على عثمان - رضي الله عنه - فلما جاء موسم الحج كان عثمان - رضي الله عنه - من أخيار الصحابة يريد أن يبين للناس خطأ ما يقولونه ويفند فقال : " لأقومن في الناس مقاما لا أدع شاردة وواردة إلا أتيت عليها " يريد أن يبين للناس ، قال عبد الرحمن بن عوف: " يا أمير المؤمنين لا تفعل ؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس ورب كلمة يطيرها عنك مطير " ، عقول لا تستوعب عامة الناس تذكر قضايا وإذا بها بعد ذلك تتطيش ، وهذا يأخذها يميناً وذاك يأخذها يساراً ، وهذا يفهمها على وجه ، وذاك يفهمها على وجه آخر الكلام في موضعه جعله الشاطبي - رحمه الله - من السنة وجعل الكلام في غير موضعه جعله من البدع ، كما ذكر ذلك في الاعتصام استدلالا بحديث النبي - عليه الصلاة والسلام - في حديث علي عند البخاري: " حدثوا الناس بما يعرفون أ تحبون أن يكذب الله ورسوله ! " وحديث ابن مسعود في مسلم قال: " ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " ، وهذا أمره واضح.
في الحديبية موقف جميل للنبي - عليه الصلاة والسلام - لما أرادوا أن يكتبوا قال: ( اكتب محمد رسول الله ) قال: سهل بن عمرو لو كنا نعلم أنك رسول الله ما جادلناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، ولما قال: ( اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ) قال: لا، لا نعرف ما الرحمن ولا الرحيم، اكتب باسمك اللهم، الرسول يقول لعلي بن أبي طالب: ( اكتب ) وعلي غير قابل لهذا ، يعني لا يرى ذلك المسألة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أوسع نظراً وعقلاً .. دع هذه الصغيرة من الأمور فقال علي : " لا أكتب " فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أرينيها ! ) فمسحها الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات بنفسه، قال لعلي: ( اكتب ) دعك من هذه القضية الصغيرة فإن هناك ما هو أكبر منها لا تجعل هذه المسألة أكبر من حجمها ، وبالتالي تجعل كل توجهك ومواجهتك وقوتك وطاقتك واعتراضك لهذه القضية ، فتستنفذ أو تقيم فيها معركة ضخمة هائلة كما نرى من بعض الشباب الآن عندما يذكرون أمرا من الشرع وسنة من السنن لكن يجعلون النفير عليها كأنها أصل الدين كله ، وربما جعلوا من ذلك كما يخرجون به إلى تفسيق أو تبديع أو تكفير من غير مثل هذا الذي ننبه الناس إليه .
2- الضبط والإحكام
وقد ذكرت في هذا ما هو مهم جدا ولعلنا نستحضر مثالاً واحداً :
في بيعة العقبة بعد أن بايع الصحابة - رضوان الله عليهم - بل قبل أن يبايعوا انظروا كيف كانت روح الحماس .. جاء أبو التيهان وفي رواية غيره قال: " اعلموا أنكم إنما تبايعون الرجل على حرب الأحمر والأسود ؛ فإن رأيتم أنكم تسلمونه فمن الآن "، أراد أن يفاصلهم وينبههم وأن يستشعر حميتهم فبايعوه ،فقال العباس بن عبيد بن نضلة - رضي الله عنه- : " يا رسول الله لو شئت أن نميل على أهل الوادي ميلة واحدة لفعلنا " في منى كان هذا الكلام في الفترة المكية، قال: لو تريد غدا أن نناجز القوم ونقاتلهم ، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نؤمر بذلك) ، ولما جاءه الخباب في الفترة المكية وقد اشتد الأذى: يا رسول الله ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا ؟ قال: ( إنه كان في من كان قبلكم من يحفر في الأرض ثم يوضع فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه فينشر حتى ينفلق إلى نصفين ما يصده ذلك عن دينه وإنه كان يؤتى بالرجل فيمشط بأمشاط من حديد ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ) ثم قال: ( والله ليبلغن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون ) .
3- التدرج والاستثمار
لهذه العاطفة: لو أننا تدرجنا لوجدنا أننا نحصل أكثر مما نحصل بالسرعة التي ليس فيها مراعاة للواقع ولطبيعة الإنسان وإمكانياته من أحسن الأمثلة في هذا :
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لما تولى أبوه الخلافة - ونعرف عمر كيف كان عندما تولى الخلافة ورعا وزاهدا وكان يعني يأخذ بالجد في الأمور - جاءه ابنه عبد الملك ينكر عليه ويقول : كيف تلقى الله عز وجل وفي هذا كذا وكذا، فقال له: " ألا ترضى أن لا يمر على أبيك يوم إلا وهو يميت بدعة ويحيي سنة "، ذاك الشاب يريد أن يغيرها كلها في يوم واحد ، وهذا لحكمته وأيضاً قوة إيمانه وحماسته يريد أن يجعلها في منهجية تحصل بها النتيجة ويقع بها الأثر المطلوب .
ونعرف ما كان من شأن النبي - عليه الصلاة والسلام - في عمرة القضاء في العام السابع من الهجرة طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - حول الكعبة والأصنام حولها ستون وثلاثمائة صنم ، والرسول يطوف بها بعد صلح الحديبية ، ولم يشتمها ولم يتعرض لها أبداً لأن له مجال آخر بعد عام واحد فقط في العام الثامن فتح مكة جاء ومعه محجنه - عليه الصلاة والسلام - يطعن هذه الأصنام وهي تتهاوى ويقول :(/11)
{ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } [ الإسراء:81 ] .
كل شيء بأوانه الإنسان يجتهد ويعد عدته ويفكر ويدبر ويستشير ويستعين بالله - عز وجل - ويستخير ولكن هذا التعجل لا ينبغي أن يكون .
4- الدوام والاستمرار
هو طبيعة ذلك التدرج : ( خير الأعمال أدومها وإن قل ) .. ( أحب الأعمال إلى الله ما كان ديمة ) وحتى النية لكي نحافظ على هذه الحماسة تأتينا ثمرتها نحن الآن لانريد العواطف التي تصل بنا إلى العواصف القاصمة وإنما نريد العمل الذي يدوم ويستمر .
ابن عباس يذكر قصة له مع صاحب من الأنصار في سنّه ، قال: لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم قلت لصاحبي من الأنصار: اغد بنا إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم نطلب العلم ، قال له : ومن ينظر إليك يابن عباس وفي القوم أبو بكر وعمر وفلان ، قال : فانطلقت وتركته وضللت أتتبع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآخذ عنهم وتدرج وتدرج حتى أصبح ابن عباس بعد فترة قصيرة من الزمن بهذه المواظبة والاستمرارية هو حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه .
والنبي - عليه الصلاة والسلام - رأى حبلاً متدلياً كما في الصحيح ، قال: ( ما هذا؟ ) قالوا: حبل لزينب ، تصلي فإذا تعبت تعلقت به، قال: (مه، عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا ، ليصلّ أحدكم نشاطه فإذا تعب فليرقد ) خذ أمرا تستطيع أن تواصل فيه .
5- التنامي والانتشار
وهذا أيضا من الأمور المهمة وينتج عن هذا لو أننا أخذنا بذلك سوف تنمو هذه الحماسة وتنتشر وتعم هذه الإيجابية بشكل مهم وأساسي ، ولعلنا وقد تجاوزنا الوقت نقول :
إن الذي نريده حماسة ولكنها مشوبة بهذه الكياسة نحن نقول: لا للتهجين والترويض ولكننا أيضا نقول: لا للإثارة والتهييج ، نحن نريد أن يكون لنا طريق إلى هذه الحماسة الراشدة من خلال ما قلناه في تلك الجوانب السلبية بعكسه إيجابيا:
علم بالشرع وبصر بالواقع وصبر في المعالجة وعدالة في المواقف وأناة في الممارسة والله سبحانه وتعالى قال :
{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً } [ الكهف:58 ] .
أكتفي بهذه الومضات وما ضاق عنه الوقت لعلكم تكملونه بما قدمتموه من المداخلات أو الأسئلة.(/12)
الشباب بين المهاوي والمعالي
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
وليس مقصودنا أن نتحدث عن الشباب وأهمية الفترة العمرية ، فقد سلف لنا حديثا في مثل هذا ، وإنما مرادنا هنا أن نوضح هذه المعاني البينية التي سندرس أو سنتعرض لذكر تعلق الشباب بها .
المهاوي لغة :
المهاوي : جمع هاوية ومهواة ، وأصل الاشتقاق اللغوي لهذه الكلمة من الفعل الثلاثي " هوى " ، ومعناه كما قال أهل اللغة : هو أصل يدل على خلو وسقوط، فالشيء الذي فيه هواء أي خال فارغ .
وإذا قلت هوى الشيء معناه سقط ولم يكن شيء يحجزه بل كان هناك فراغ أدى إلى مثل هذا السقوط واصله الهواء بين الأرض والسماء سمي كذلك لخلوه وكل خالٍ هواء ، كما قال جل وعلا : {وأفئدتهم هواء } ، أي خالية فارغة من الإيمان وتثبيته ، وقال المفسرون في هذا المعني : " خالية لا تعي شيئاً " .
والهوة هي الحفرة البعيدة القعر ، أي الهاوية السحيقة التي فيها بعد ٌوفراغ ٌ وخلوٌ من تعرض لها أو جاء إليها ؛ فإنه يسقط ويهوي ، والوهدة هي الغامظ من الأرض التي لا يتفطر إليها .. الوهدة أرض منخفضة لكن ليست ظاهرة فيقع الإنسان فيها وقد يتعثر ؛ ومن هنا نجد أن خلاصة معنى هذه المهاوي أنها في معنى الخلو والفراغ ، وأن فيها معنى الخفاء والغموض ، وأن فيها في آخر الأمر معنى التردي والسقوط .
وأما المعالي : فإنها واضحة في دلالتها من حيث اشتقاقها من الفعل الثلاثي " علواً أو العلو " وهو السمو والارتفاع ، ومعنى ذلك السمو إلى المعاني العظيمة ، والارتفاع إلى المهمات الجسيمة ، وهذا معناه أننا ندور في هذا الكلام حول الأمور والمطالب الشريفة السامية ، وقال الخليل : " المعلاة الكسب والشرف والجمع المعالي " ، وفلان من علية الناس أي من أهل الشرف فكل هذه المعاني السامية ترتبط بذلك .
ومعنى هذه البينية هي بينية تضاد ، فنحن لا نريد المهاوي ولكن نريد المعالي ، ونحذر من المهاوي ونرغب في المعالي ، لا نريد لشبابنا أن يسقط بين الحفر ، بل نريد لهم أن يسمو ويعلو للقمر ، لا نريد لهم أن يسقطوا في الأدناس بل نريد لهم يرتقوا ، وأن يكون شامة بين الناس ، لا نريد لهم أن يتلوثوا بالوحل والطين ؛ بل نريد لهم يتضمخوا بالعطر والطيب ، نريد أن لا يفقدوا الرعاية الحماية ولكننا نريد أن يجدوا التشجيع والإعانة .
والمراد هنا في آخر الأمر أن ننبه إلى بعض هذه المهاوي وأخطارها وأسبابها وأضرارها ؛ حتى يكون ذلك بمثابة تنبيه وتحذير ، وقرع لأجراس الخطر للشباب ، ولمن يهمهم أمر الشباب من الآباء والأمهات ومن سائر دوائر المجتمع في أهم وأكثر دوائره تأثيراً ، وخاصة في التعليم والإعلام .
وهذا ما سنتحدث عنه بإيجاز ؛ لأن كل هاوية من تلك المهاوي جديرة بأن تفرد لها أحاديث خاصة ؛ بل قد سبق لنا في مثل ذلك ، وسأتحدث عن أربعة مهاوي من الأمور التي لا تخطئها العين ، ونعلم يقينا أن لها صلة وطيدة بالشباب وتأثيراً عظيم فيهم وأضراراً كثيرة بهم ، ويعود ذلك - بالتالي - على المجتمعات الإسلامية والأمة الإسلامية بأوخم العواقب ، وأكثر الأضرار التي نشكو ونعاني منها وسنذكر في آخر الأمر بعض من المعالي ربما لا أكثر فيها ، وأذكر اثنين فحسب ؛ لعلها تكون وقد حذرنا من تلك المهاوي أن يكون شيء من الترغيب في تلك المعالي.
الهاوية الأولى :التدخين
وربما يكون ترتيبنا ليس مقصود بذاته ؛ فإن كل واحدة من هذه المهاوي لها مما يقدمها على غيرها من وجوه كثيرة حتى يحتار المرء في أيها يبدأ .
التدخين كلنا يعرفه ولكني أقول : إن الأرقام المتعلقة بالتدخين في فئة الشباب تروعك ، والحقائق تخيف ، والنتائج تنذر بخطر عظيم .. وهذه وقفات مختصرة جداً ؛ و إلا فإن هناك ما هو أكثر وأعظم وأخطر وإن الأرقام المتوفرة عن التدخين في دائرة الشباب مرعبة .
وقد نشرت صحفنا المحلية أن دراسة أجرتها وزارة التربية والتعليم في المدارس شملت سبعمائة واثنين وخمسين تلميذاً في المرحلة المتوسطة والثانوية بالمدارس الحكومية في مدينة الدمام ، أعطت هذه النتائج ثلاثين في المئة من هؤلاء الطلاب مدخنون في المرحلة المتوسطة والثانوية.
تسعون في المئة من هؤلاء المدخنين بدأوا التدخين في مرحلة مبكرة .
وبينت الدراسة أن خمسة وخمسين في المئة من طلبة مرحلة السنة النهائية في السنة الثانوية لا يقدرون حق التقدير احتمال إصابتهم بالإدمان على التدخين.
ومن الأرقام المؤسفة أن جمعية مكافحة التدخين أشارت إلى أن سبعة عشر في المئة من الطبيبات السعوديات العاملات في منطقة الرياض مدخنات .
ومن الأرقام المفزعة – كذلك - دراسة أجريت في مدارس البنات المرحلة المتوسطة والثانوية في منطقة مكة المكرمة ، وأظهرت أن خمسة وثلاثين إلى خمسة وخمسين في المئة من الطالبات مدخنات .
وهذه النسبة تزيد عند المعلمات .(/1)
وتشير إحصائية أخرى إلى أن عدد المدخنين إجماليا في المملكة بلغ نحو ستة ملايين مدخن مابين ذكر وأنثى ومقيم ومواطن ، وأن إجمالي ما يدخنونه ثمانية مليارات وسبعمائة ألف سيجارة ، وأن ذلك يكلف ستمائة وثلاثة وثلاثين مليون ريال في العام الواحد .
لو حسبنا هذه الأرقام وتحدثنا عن البطالة أو عن المشروعات ، أو عما سيأتي من تكاليف العلاج سنرى كم هي الجريمة فادحة ، وكم هي الخسارة عظيمة في هذه الهاوية الخطيرة ، والتقارير العامة من منظمة الصحة العالمية تقول أن أعداد المدخنين تتناقص في أمريكا والدول الأوربية والدول المتحضرة ، وأنها تتزايد في دول العالم الثالث ! وأنه بحلول عام " ألفين وعشرين " يتوقع أن يكون سبعين في المئة من أسباب الوفيات راجعة إلى التدخين ..
أرقام أخرى تقول : " إن استهلاك السيجارة في المملكة - ليس كما ذكرت ولكن أرقام أخرى - خمسة عشر مليار سيجارة ، وأنها تكلف ذلك الرقم الذي ذكرته ، وأن إجمالي نسبة المدخنات من بين المدخنين عموماً تزيد على عشرين بالمئة " .
ونشرت جريدة البيان الإماراتية في تقرير نشره المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية : " أن التبغ كلف المجتمع الدولي عموماً أحد عشر ألف وفاة يومياً " .
وتقول الدراسة – كذلك - : " إن خمسة وأربعين وفاة يومياً في دول الخليج سببها المباشر التدخين " !
ومعنى خمسة وأربعين وفاة أن هذه الوفيات في اليوم يمكن أن تحسب بعد ذلك بالساعات بل ربما بما هو اقل من ذلك .
وتقول الدراسة التي أجريت في عام ألفين بأنه هناك ألف وفاة سنوياً بأمراض سرطانية لها علاقة مباشرة بالتدخين ، وتقول هذه الدراسة : " أن التدخين ينتشر في أربعين في المئة من المجتمع الرجالي وعشرة بالمئة في المجتمع النسائي وخمسة عشر في المئة من مجتمع صغار الشباب والمراهقين " .
وتؤكد الدراسة : أن الفئة الأطباء والعاملين في القطاع الصحي وطلب كليات الطب يمارسون التدخين بنسبة تصل إلى ثلث الشريحة ، وتتجاوز نصف الشريحة في السعودية والكويت والأمارات - والتي أكدت الدراسة - أن أربعة وأربعين في المئة من الأطباء الذكور يدخنون السيجارة .
وفي دراسة أيضا أجريت في أحدى مناطق المملكة تبين فيها دراسة على الطالبات أن سبعة وعشرين في المئة من طالبات المرحلة المتوسطة وخمسة وثلاثين في المئة من المرحلة الثانوية وأكثر من خمسين في المئة من المعلمات كلهن يدخن السجائر .
وإحصائية علمية في المملكة قدرت خسائر مستشفى الملك فيصل التخصصي في علاج الحالات المرضية للمدخينن بلغت أكثر من عشرة مليار دولار خلال خمسة وعشرين عاماً .
وتؤكد هذه الأرقام والإحصاءات أن المملكة هي الدولة الرابعة على مستوى العالم في استيراد واستهلاك التدخين .
وتبلغ نفقات التدخين في استيراده - فضلا عما يترتب عليه من مصروفات العلاج - أكثر من الميزانيات المخصصة للبحوث العلمية وتطوير التعليم .
وتقول أيضا الأرقام الأخرى العامة : أن أعلى الدول في العالم تدخينا بنسبة عدد السكان هي تركيا - البلد الإسلامي - الذي يبلغ نسبة المدخنين فيه إلى نسبة عدد السكان سبعة وستين ونصف في المئة من إجمالي عدد السكان .
وعدد المدخنين في مصر يرتفع سنويا ما بين ثمانية إلى تسعة في المئة وهو معدل أعلى بكثير من معدل زيادة المواليد .
وتقدر الشركات المصنعة والمستوردة للتدخين أن في مصر الآن ما بين ستة عشر إلى سبعة عشر مليون مدخن.
وتقول وزارة الصحة المصرية أن المصريين ينفقون نحو خمسة مليارات جنيه على التدخين أي نحو اثنين وعشرين بالمئة من متوسط الدخل القومي للفرد في مصر .
وهذه الأرقام كافية في أن تظهر لنا فداحة الأمر وخطورتة الشديدة الكبيرة .
وقفة ثانية مع قضية قريبة منا ولصيقة بنا كثيراً أعددت إستبانة أو استمارة صغيرة فيها معلومات عن الشخص ، ومتى بدأ التدخين ؟ وكم سيجارة يدخن في اليوم ؟ وما هو سبب تدخينه لأول مرة ؟ وهل فكر في الإقلاع عن التدخين وكم المدة التي مكثها عندما اقلع عن التدخين ثم عاد إليه .
وقد اخترت من نحو أربعين استمارة هذه النماذج اليسيرة وكلها أخذت من دائرة لا تزيد عن مئات الأمتار عن هذا المسجد الذي نستمع فيه إلى هذا الحديث .
هذه استمارات اخترتها لمن يدخنون وهم دون الخامسة عشر من العمر :
استمارة المدخن - فيها عمره اثنان وعشرون عاماً - ويقول : أنه بدأ التدخين قبل خمسة عشر عاماً - أي انه بدأ يدخن وهو ابن سبع سنوات - ويقول أنه يدخن نحو خمسة عشر سيجارة ، والسبب الرفقة والأصحاب ويقول فكر أكثر من مرة في ترك التدخين ولكنه لم يتركه إلا لأقل من أسبوع فقط .
وآخر عمره عشرون عاماً ويذكر أنه بدأ التدخين قبل عشر سنوات أي وعمره عشر سنوات ولكنه يدخن قليلا وقد ترك التدخين نحو عام ثم عاد إليه .(/2)
وآخر عمره ستة وعشرون عاماً ودخن قبل خمسة عشر عاماًً أي وعمره إحدى عشر عاماً ويدخن أكثر من عشرين سيجارة في اليوم الواحد ، ولم يفكر في ترك التدخين والسبب أيضا الرفقة والأصحاب .
ومثله من عمره اثنا عشر عاماً ويدخن أكثر من عشرين سيجارة ، ولم يفكر الإقلاع عن التدخين بعد كما يقول .
وهذا عمره أحدى عشر سنة ويدخن أكثر من عشرين سيجارة ، ويقول فكّر مرة واحدة وتوقف لأقل من أسبوع .
واثنان عمرهما أربعة عشر عاما وكلاهما يدخن يعني في حدود مابين خمسة عشر إلى أكثر من عشرين سيجارة .
أما الإجمال ؛ فإن أكثر الأسباب التي ذكرت في هذه الاستمارات هي الرفقة والأصحاب لعدد خمسة وعشرين من هؤلاء الأربعين كلهم ذكروا هذا السبب الأسباب الأخرى هكذا .. كتب بعضهم الطفش ، وكتب آخر الوهم ، وكتب ثالث السفر إلى الخارج ، وكتب رابع طيش الشباب وما وراء ذلك أيضا يمكن أن نعلم كثيرا وكثيراً منهم ..
ثم ليست من مهمة حديثنا هذا الوقوف مع الأضرار والأخطار ؛ فإنها وأقول هذا حتى ادفع من يسمع إلى أن يراجع ويبحث ، وأرجو أن لا يراجعني ، بل يراجع نفسه ويبحث ثم يعود التدخين أشد خطراً وضرراً من الخمر والمخدرات على المستوى العام ، وتبين الآن أن في مادة التبغ أكثر من أربعة مئة مكون كيميائي فيها بحد أدني .. أربعين مكون ساماً قاتلاً على المدى البعيد وكل من يتجاوز في التدخين أربع سنوات ؛ فإنه يكون معرضا للإصابة بالسرطان وتصلب الشرايين بنسبة تزيد على ثمانين في المئة ، والأرقام من حيث الاستهلاك والشيوع أكثر بكثير من بقية الأحوال الأخرى أقول بذلك بدءً بالتدخين ؛ لأنه خطير ولأن الحديث عنه والمواجه له من المفترض أن تكون أيسر وأسهل من غيره في جملة ما سيأتي ذكره من المهاوي الخطيرة .
كما قلت بالنسبة للأحكام الفقهية – أيضاً - ليس مرادنا الوقوف عندها ولكني وجدت لبعض الفتاوى نوع من الشمول والقوة ، والتي لعل ذكرها يزيل الأوهام ؛ لأننا الآن يكاد يجمع المدخنون أولاً وطائفة كبيرة من غير المدخنين أن التدخين لا يعدوا أن يكون مكروها ، وهذا لمن يجترىء لمن يقول أنه مكروه ؛ و إلا فبعضهم يرى أنه دون ذلك مع أنه قد عقد في عام ألف وأربعة مئة واثنين - أو اثنا عشر - مؤتمر في المدينة المنورة في الجامعة الإسلامية ، وحضره جمع من العلماء وأصدروا مما أصدروه من هذا المؤتمر فتوى إجماعية بحرمة التدخين ، وأنا اذكر هذه النصوص من فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، والشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، والثانية أوسع وأشمل فيها من المعاني ما يستلفت النظر والانتباه ، قال ابن باز رحمه الله : " الدخان محرم لكونه خبيث ، ومشتمل على أضرار كثيرة ، والله عز وجل إنما أباح لعباده الطيبات من المطاعم والمشارب وحرم عليهم الخبائث ، وقال الله تعالى { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } ، وقال في حق وصف النبي صلى الله عليه وسلم : { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } " .
فكل ما هو خبيث محرم ، ولا أظن مجنون وليس عاقلا في الدنيا يمكن أن يقول أن الدخان ليس خبيثاً فضلا على أن يقول أنه طيب ، وقال : " وهكذا مع جمع المسكرات كلها من الخبائث الدخان لا يجوز شربه ولا بيعه ولا التجارة فيه ،والواجب على كل من يشربه ويتجر فيه المبادرة في التوبة والإنابة " .(/3)
أما فتوى ابن عثمين - رحمه الله - فيقول فيها : " شرب الدخان محرم وكذلك بيعه وشراءه وتأجير من يبعه ؛ لأن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان ودليل تحريمه قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } ؛ ووجه الدلالة من ذلك أن الله نهى أن نأتي السفهاء أموالنا ؛ لأن السفيه يتصرف بها فيما لا ينفع ، وبيّن الله سبحانه وتعالى أن هذه الأموال قيام للناس لمصالح دينهم ودنياهم وصرفها في الدخان ليس من مصالح الدين ، ولا من مصالح الدنيا فكيف يكون صرفها في ذلك منافياً لما جعله الله تعالى لعباده ؟ ومن أدلة تحريمه : { ولا تقتلوا أنفسكم } ؛ ووجه الدلالة من الآية أنه قد ثبت في الطبّ شرب الدخان سبب لأمراض مستعصية تؤول لصاحبها إلى الموت مثل السرطان ، فيكون متناولها قد أتي سبب لهلاكه ، ومن أدلة تحريمه { وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } ؛ ووجه الدلالة من هذه الآية أنه إذا كان قد نهى عن الإسراف في المباحات - وهو مجاوزة الحد فيها - فإن النهي عن صرف المال في أمر لا ينفع يكون من باب أولى ، ومن أدلة تحريمه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ، ولاشك أن صرف المال في شراء الدخان إضاعة له ؛ لأنه إذا صرف المال إضاعة - بلا شك - وهناك أدلة أخرى ، والعاقل يكفيه دليل واحد ، أما النظر الصحيح الدال على تحريمه فهو أن كل عاقل لا يمكنه أن يتناول شيء يكون سبباً لضرره ومرضه ويستلزمه نفاذ ماله من صرفه فيه ؛ لأن العاقل لابد أن يحافظ على بدنه وماله ، ولا يهمل ذلك إلا من كان ناقص في عقله ودينه ، ومن الأدلة النظرية على تحريمه أيضا أن شربه يستلزم ثقل العبادات على شاربه - ولا سيما الصيام - فإن شارب الدخان يستثقل الصوم جداً ؛ لأنه حرمان له من شربه من بعد طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وهذا قد يكون في أيام الصيف الطويلة فيكون الصوم لديه مكروه ؛ وحينئذ فإنني أوجه النصيحة لأخواني عموما والمبتلين به خصوصا بالتحذير منه بيع وشراء وشرب وتأجير لمحلات من أجل بيعه فيها ومعونة عليه من أي وجه كان " .
وهذا - كما قلنا - يكفينا في هذا الأمر ، وأما الإقلاع عن التدخين فقد قامت لذلك جمعيات وابتكرت فيه بعض المبتكرات ، ولكن الوازع الديني ومراقبة الله عز وجل والخوف من ارتكاب الإثم وما يلحق بذلك هو أول وأعظم الأسباب المعينة على الإقلاع ، ومع ذلك فثمة وصايا نقولها ومضات سريعة .. الأمر أبصر من أن نستطيع الإلمام بجوانبه المختلفة ، في بعض هذه الوصايا يقول الناصحون حاول أن تتعرف على أضرار التدخين بشكل جيد وواسع حدد الوقت المناسب للإقلاع واربطه بذكرى عزيزة عليك أو انجاز مهم عندك أعلن نبأ إقلاعك عن التدخين لأفراد أسرتك ولجميع من حولك يكون ذلك محرج لك ومعين للآخرين على تذكيرك ، وأنت في الحقيقة أكبر من ذلك حاول أن تجد بديل عن السيجارة في إشغال يديك وليس نوع آخر ضع قلما في يدك دائماً اصطحب شيء في يدك حتى لا تأكلك يدك - كما يقول المدخنون - واقلع عن بعض المشروبات التي كنت تعتاد شرب الدخان معها كالشاي أو القهوة أو غير ذلك ، تجنب الأماكن التي كنت تذهب إليها مع أصدقاءك للتدخين ، تجنب الاختلاط بالمدخنين ، ارفض كل عرض يقدم لك للعودة إلى التدخين ، وقبل ذلك و بعده استعن بالله عز وجل واخلص في دعائك له أن يعينك على أن تترك هذا التدخين وكما قلت الأمر يطول ويطول.
الهاوية الثانية : المسكرات والمخدرات
وهي درجة أعلى - وإن كنت قد أشرت أن التدخين في جملة أضراره أكثر ضرراً في الجملة سواء على الفرد ولكنه على مستوى العام أكبر ؛ لأن شريحة المتعاطين له والمتضررين منه أكثر بكثير من تلك الدائرة مرة أخرى الشباب هم الضحايا في مثل هذه الهاوية الخطيرة .
وقد قمت من قبل بزيارة لمستشفى الأمل الذي يعالج فيه المدمنون ، ورأيت بأم عيني أن الغالبية العظمى التي تصل بحد أدنى إلى ستين في المئة ، وربما بحد أعلى نحو سبعين أو خمسة وسبعين في المئة هم من الشباب وعندما نقول من الشباب من السن الرابعة عشر بل ودون ذلك في بعض الأحيان إلى نحو الثلاثين من العمر كلهم من المدمنين الذين تجتالهم هذه الهاوية وتدفنهم فيها حقيقة لا مجازاً ، وأن الصور الحقيقية لهذا والمعبرة عنه كثيرة وليس بصدد الإحصاءات ؛ فإنها أيضا مخيفة ومرعبة وتلفت النظر إلى قضية الشباب.
الأوهام الخاطئة والأحلام القاتلة
وابدأ هنا بقضية مهمة وهي الأوهام الخاطئة والأحلام القاتلة التي تغري الشباب أو توقعهم فيها ؛ لأننا سوف نذكر ذلك في تلك الأسباب من بعد :
أول هذه الأوهام ما يروجه المروجون ويشيعه غيرهم كذلك من هذه المخدرات ليست محرمة ، وأنها ليست كالخمر ؛ لأن الخمر ورد فيها نص وأنها ليست هناك نصوص تدل على حرمتها ، وبعض الناس إذا وقع في هذه الآفة ؛ فإنه يستمرىء هذا القول ويحاول أن يقنع نفسه به .(/4)
وأمر ثاني آخر وهو : أن هذه المخدرات تنسي أصحابها الهموم وتفرج عنهم الغموم وتريحهم وتدخل شيء من السرور والسعادة إلى نفوسهم ، والحقيقة المُرّة أن الأمر على خلاف ذلك تماماً ؛ فإن الذين يدخلون في هذا الطريق ويسيرون فيه يصيبهم الشقاء المحتوم والنكد الدائم والهمّ المطبق وسوداوية الحياة كما سنذكر في بعض الصور.
ووهم ثالث أيضا نذكره بصراحة ؛ لأنه يشيع أيضاً بين الناس ، ومن أراد أن يلتفت إلى هذا فليقرأ ما كتب عن قصص الإدمان وطريقة هذا الوهم الثالث هو أن هذه المخدرات تعطي قوة ومتعة جنسية لمتعاطيها ، وهذا أيضا مما يروجه الذين يسعون لنشر هذه المخدرات ، وهذه الأوهام إنما ذكرتها ؛ لأنها من أكثر المصائد التي تصطاد الشباب وترغبهم أو تغريهم بهذه الآفة المهلكة المدمرة .
الأسباب الموصلة والطرق المهلكة
وننتقل من بعد إلى توضيح تفصيلي في الأسباب الموصلة والطرق المهلكة أولها وعلى رأسها كما أشرت من قلة الوازع الديني .. غيابه وضعفه التزكية والعبادة الإقبال والصلة بالله عز وجل أمر أساسي ؛ متى فقد فإنه هو الذي تترتب عليه هذه المعضلة وغيرها أيضا من أمثالها .
الأمر الثاني : ضعف التربية الأسرية
ويتجلى ذالك في صور عديدة جداً منها : غياب الآباء والأمهات عن أحوال أبنائهم ، ومعرفة مشكلاتهم ، والجلوس إليهم ، والحوار معهم ، ومعرفة ما يجول بخواطرهم ، وتلمّس معاناتهم ، فيبقى هؤلاء نهب حين إذن للفراغ أو للهم ويظنون انه سوف يزول بدخولهم أو بتعاطيهم لهذه المخدرات ويكون كذلك فريسة لفراغ قاتل يودي بهم إلى رفقة فاسقة - كما سنذكر - ومن الأسباب المتعلقة بهذا الجانب في التربية توفير الأموال وإعطاءها عند الطلب دون التنبه أو السؤال أو المتابعة لكيفية صرفها أو مجالات الانتفاع بها ، ولذلك نجد - وهذا مذكور في قصص واقعية في هذه المستشفيات بعضها مدون في كتب وبعضها مباشرة من بعض ما يلمسه الإنسان في مثل تلك الزيارات - أن بعض الآباء يعطون أبنائهم مصروفات في أيديهم - لا أقول تصل إلى المئات بل تصل إلى الآلاف - ثم أيضا يكون المال موجود في المنزل ولا يحرّج على احد أن يا خد منه شيء أو لا يلتفت إذا اخذ منه شيء وهذا يكون له أثره الواضح .
السبب الثالث : رفقة السوء وأصحاب الفساد
وبعض هؤلاء وهذا أيضا من اعترافاتهم وإقراراتهم بعضهم يحمل حقدا على الآخرين ؛ لأنه وقد وقع في هذه الآفة رأى كل مستقبله ينهار وصحته تتهاوى ؛ فإنه يريد أن يوقع الآخرين في مثل ما وقع فيه ، ولذلك بعضهم يتفنن في أن يجعل غيره مدمن فرفقة السوء يصلون إلى إدخال الشاب في حظيرة الإدمان .. إذا كان يمتنع و يرفض يمكن أن يضعوا له تلك المخدرات في العصير أو في الشاي أو في غيرها من المشروبات حتى يدمن رغماً عن أنفه وبغير معرفته ، وقد وقع ذلك كثيراً وهو من أساليب المروجين ؛ لأنهم يريدون أن ينفقوا بضاعتهم وأن يكسبوا الأموال المحرمة فيسعون إلى ذلك من الأسباب كذلك الأعلام والأفلام وما أدرك ما في هذا ! فإنه يعرض من فنون هذه الأمور ومن صورها ما يقولون أنه لبيان خطرها وحقيقته أنه يرغب فيها ؛ فإنك لا ترى بطل في غالب الأحوال إلا وهو مدخن ! وتراه إذا أراد يستمتع يشرب المسكر ! وتراه إذا شرب المخدر وهو في حالة تبدي أنه في سرور أو غير ذلك !
إضافة إلى تعليم الطرق وتعليم الأساليب ، وتعليم طرق التخفي ونحو ذلك من الأمور ، فضلا عن أمور أخرى سيأتي ذكرها .
سبب خامس وهو : السفر إلى الخارج
وقد ذكرت إحصائية أجريت على بعض المدمنين في السعودية أن اثنا وعشرون في المئة منهم تعاطوا المخدرات للمرة الأولى في خارج البلاد وهذا أيضا خطر واضح تمارسه الأسر دون أن تلتفت إلى مخاطره ، فيقول لك هؤلاء الآباء أو أولئك الآباء والأمهات : دعه يتنزه أو يسرّى عن نفسه ، أو يكتشف العالم ! لماذا نعقده ؟ لماذا نمنعه ؟ .. " ، ويترك له الحبل على غاربة ثم ينتهي به الأمر أما في سجون الشرطة وإما في مستشفيات الإدمان ، وإما في مقابر الموتى ، وتلك الحالات أكثر في الشباب منها في الحالات الأولى .
ومن ذلك أيضا : الاستخدام السيئ للأدوية وبعض العطور
وبعض الأغراض التي تستخدم في غير ما أعدت له ، وهذا أيضاً ينبغي الانتباه له والحذر منه والشباب يقعون فيه - وخاصة صغار السن الذين لا يملكون المال ولا يعرفون الأمور - فإنهم يبدأون بتلك الأمور الموجودة في البيوت ، والموجودة في كل مكان ، وتكون هي بداية الطريق ، وبعض هؤلاء كما هو وارد في تلك الدراسات والإحصاءات قد بدأوا في تلك العادات - المسماة بالشفط أو المسماة بالشمّ أوغير ذلك - وهم في سن السابعة والتاسعة قبل أن يبلغوا حتى العاشرة من عمره وهذه قضية أيضا خطيرة .
ومن الأسباب أيضاً : التفكك الأسري(/5)
بالطلاق وكثرته ، وكثرت الشقاق والخصام ، والنزاع بين الوالدين ، ووجود أجواء الحرمان العاطفي والتربوي بين الأب والأمّ وانعكاسه على الأبناء ؛ ولاشك - أيضاً - أن السبب من وراء مع ذلك كله أيضا استهداف أعداء الإسلام والمسلمين عموماً وأتباعهم لشباب الأمة ؛ لأنهم إذا دُمروا فقد جاء السبب الأكبر لتدمير الأمة ، ولو ذكرنا الإحصاءات - أو تذكرنا الإحصاءات - التي قلناها في التدخين ؛ فإن مثلها تماما يكاد يكون في المخدرات ، وفي دراسة نشرتها مجلة الفرقان في عددها الأخير - وهي كويتية - ذكرت إحصاءات خليجية وذكرت أيضاً إحصاءات سعودية كما قلت أشارت إلى نحو سبعين في المائة من المتعاطين للمخدرات هم من فئة الشباب من الرابعة عشر إلى الثلاثين من العمر .
الحكم الشرعي :
وأما مسالة الحكم الشرعي ، فالأمر فيها على خلاف الوهم فكل مسكر حرام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وما اسكر قليلة فكثيره حرام كما ورد في الصحيح أيضا عنه عليه الصلاة والسلام ، وقد أجمع العلماء المتقدمون في مسألة واضحة بينة فيما تترتب عليه الآثار.
كما قال الإمام النووي : " أول ما يزيل العقل من الأشربة والأدوية - كالبنج وهذه الحشيشة - فحكمه حكم الخمر في التحريم " .
وقال الحسقفي - من علماء الحنفية - نقلاً عن الجامعي : " أن من قال بحلّ البنج والحشيشة فهو زنديق مبتدع " .
المسألة ليست فقط في الحل وكل ما ذكرنها من الأدلة السابقة من إلقاء بالأيدي للتهلكة وتحريم الخبائث وغير ذلك يدخل في هذه الحرمة دخول واضح .
الآثار :
أما الآثار - أيها الأخوة - فإني أريد أن اذكر بعض من هذه الآثار مع الإشارة إلى بعض القصص الواقعية ؛ لأن هذه القصص يكون لها من التأثير والتذكير والاعتبار أكثر مما يكون لغيرها من النقاط أو المعلومات هناك آثار كثيرة ومآسن خطيرة على مستوى الفرد وعلى مستوى الأسرة وعلى مستوى المجتمع والأمة الآثار كثيرة في جوانب صحية ومالية واجتماعية ودينية ، وفي كل هذه الجوانب ما يضيق المقام عن ذكره أو حصره ، ثم نذكر بعض هذه على مستوى الفرد في بدنه وعقله وماله أمور خطيرة منها : ضعف العقل وقلة التركيز وعدم القدرة على الاستحضار لذلك يتخلف هؤلاء المتعاطون للمخدرات في دراساتهم ويرسبون ، وينتهي بهم المطاف جزماً إلى ترك الدراسة وعدم القدرة على المواصلة ، وهناك الأمراض الخطيرة الفتاكة التي تصيب البدن من تلف الكبد ، ومن ارتفاع نسب الإدمان في الدم حتى تصل في الجرعات الزائدة إلى الموت المفاجىء - وهو كثير جداً - وقد رأيت مما قرأت وشاهدت صوراً حقيقة لبعض الشباب ، وقد أغلق على نفسه غرفته ثم اخذ هذه الحقنة بعد أن ربط يده ، وكانت جرعة زائدة ثم مات وهو منكفىء على جبهته ، وبقي أكثر من ثلاثة أيام في هذا المكان دون أن يشعر به أحد .
وهناك أسرة مكونة من عدد من الأبناء - وقد كانت أسرة من الأسر الكريمة والطيبة - وابنها الأكبر دخل في هذا الطريق وانتهى به الأمر إلى أن مات ، ودون أن يعرف أهل سبب لموته ، وكان من ضحايا المخدرات ؛ والعجيب أن أخاه الأصغر منه كان يذهب معه في بعض تلك الجلسات ولم يكن يتعاطى المخدرات ، فبعد وفاة أخيه وبعد العبرة به ، إذ بأولئك الصحبة يغرونه بالالتحاق بهم ، ثم يدمن المخدرات ، ثم يكون أيضا ثاني الموتى ، ويلحقه الابن الأصغر أيضاً ويموت الثلاثة من الأبناء بسبب المخدرات ! القصة واقعية حقيقية لأسمائها وأشخاصها .(/6)
وكثير من هذه القصص قد لا يعلم لان الناس والأسر تستر على نفسها وأما المال ؛ فإنه يبدد بشك عجيب حتى إن اقل الناس ينفق إذا أراد أن يواظب على القدر الذي يحتاج إليه من هذه المخدرات مالا يقل عن مائتي ألف ريال في العام الواحد ، وهناك ما يترتب على هذا ؛ فإن الذي يفقد المال يبدأ فيسرق من بيته ، ويسرق مال أهله ويسرق ذهب زوجته ، بل يبيع أثاث بيته وأثاث بيت أهله قطعةً قطعة ، وقد قرأت من قصص لجنة بشائر الخير - وهي لجنة في علاج الإدمان والمدمنين في الكويت - وأعرف رئيسها ، وقد زرت هذه اللجنة ، والتقيت بعض المدمنين من التائبين ، يُذكر في القصص أن أمّاً اتصلت به ، تقول أدركني ؛ فإن ابني قد جاء بشاحنة ، وهو يشحن جميع أثاث البيت وقد باعه لأجل تأمين المخدرات ، وتبقى أمه ويبقى هو بلا أثاث ، وبلا مال ، وينتهي الأمر إلى ما أشرنا إليه .. فقدان الشهية والاستمتاع بالطعام ، غثيان دائم واستفراغ مستمر ، وتقزز من حالة من يستخدمون - وقانا الله وإياكم- يصابون بالتهاب الجيوب الأنفية ، وتسيل أنوفهم مخاطاً على طول الوقت ، ومن يستخدمون الإبر تتورم أجسامهم حتى لا يبقى موطن يستطيعون به أن يستخدموه بضرب الإبر لا في اليد ولا في اليد الأخرى ، ثم في الأرجل حتى يأتي الوقت الذي يضعون فيه الإبر في أماكن قاتلة ، فيموتون على قوارع الطرق ، وفي أماكن العمل ، وفي صور - نسأل الله عز وجل السلامة منها - لا يرضاها الإنسان على العدو الكافر فضلاً عن الشاب المسلم الطاهر .
ومن الآثار أيضاً انعدام القوة والقدرة الجنسية ؛ فضلاً عن المآسي والمخاطر الأسرية التي انتهت ببعضهم أن يضرب زوجته وهي حامل فتسقط ، وأن يهدد أبنائه بالقتل بالسكين ويفعل بعضهم ذلك ، وصور كثيرة خطيرة في هذه الأمور ، وأحسب أنها ليست مستغربة وليست منكرة ، بمعنى أنها لا يقول الناس إنها نادرة ، بل يعرفون أنها حقيقية وكثيرة ، وهناك عقوق الآباء والأمهات والعدوان عليهم ، وهناك انحراف الأبناء ، وهناك السمعة السيئة ، وهناك فقدان الوظيفة ، وهناك ضياع الدراسة ، وهناك تشوه المواليد الذين يكونون من نسل المدمنين أو المدمنات .. إلى صور مأساوية مهلكة محرقة ، يكاد المرء يعجب كيف - مع كل هذا - يمكن أن يدخل الناس ويلجأوا في ذلك ؟
ومن المخاطر على مستوى المجتمع - وهي من أسوء المخاطر وأكثرها ضررا وخطراً على الإيمان والخلق والسلوك - انتشار الدياثة والدعارة ؛ فإن المدمن يرضى السوء والفاحشة ؛ بل ويجبر زوجته على ذلك لقاء ما يحصل عليه من المخدرات ، والمدمنة - والعياذ بالله - تبيع شرفها وعرضها لأجل هذه المخدرات ، وهذا واقع ظاهر بيّن معروف مشهور ، لا يحتاج إلى إقامة الأدلة .
وانتشار الجريمة أيضاً أثر اجتماعي خطير ؛ فإن السرقات - وخاصة السرقات المسجلة - وإن الاحتيال و البطش والقوة والقتل كله في كثير من الأحوال ، وبنسبة مئوية مرصودة في الخارج - وليست عندنا - أنها تصل إلى بعض الأحيان 80% منها لها ارتباط بالمخدرات والمسكرات ، ومنها هو أيضاً أثر اجتماعي خطير الحوادث المرورية القاتلة للذين يقودون وهم سكارى أو تحت تأثير المخدرات ، وكم هم من تأتيهم حالات من الإغماء من أثر هذه المخدرات فيهلكون ويُهلكون نسأل الله السلامة .(/7)
ومن الآثار الاجتماعية المصروفات الصحية الهائلة ، والإمكانات التي استدعت أن يكون هناك مستشفيات خاصة وعلاج طبي ، وعلاج نفسي ، وعلاج صحي ، وعلاج ديني ، وتستنفذ من الجهود والطاقات والأموال ما كان جديراً بأن ينفق في التعليم والبناء والتربية وغير ذلك من المصالح والتربية والمعالي العظيمة قصص محزنة كثيرة ، وبعضها قصص عجيبة منها : قصة لمرأة وزوجة كريمة رأت زوجها وهو يهوي في هذه الهاوية ، ولم تكن والمرأة في كثير من الأحوال ضعيفة - لم تكن قادرة على أن نصنع شيئاً - إلا أنها استعانت بعد الله عز وجل ببعض الأقارب ، فكلهم تبرأ وابتعد ، و أراد أن يجتنب عن هذا المدمن ، وفكّرت وسألت ، وعرفت بعض المعلومات ، واستشارت طبيباً بالهاتف ، ثم قامت بتنفيذ هذه الخطة استدعت حداداً جعل على نافذة الحمام - أكرمكم الله حديداً قوياً - لا يمكن اختراقه ، وهناك حديد من الجهة الأخرى وبينهما عازل يمنع خروج الصوت ، حتى لما سألت قالت الإزعاج يأتينا من الخارج ، ويزعج الأبناء وبعض الأمور ، ثم لما جاء زوجها وهو على حالته من المخدرات ، كانت قد أعدت أيضاً في الحمام فراشاً ومخدة للنوم وثلاجة حافظة وضعت فيها مشروبات ليست فيها من الحديد أو الزجاج ، بل هي من الكراتين ووضعت بعض الأدوية التي تعلمتها من الطبيب ، ولما جاء زوجها قالت : ادخل الحمام وسوف تستريح ثم حبسته ، في ذلك الحمام مدة أسبوع تعطيه شيئاً من هذا الطعام من هذه النافذة ، حتى انتهى أثر المخدر ، ثم بعد ذلك واصل واستطاع بفضل الله عزوجل ، ثم بفضل هذه الزوجة العاقلة .. قد كان يصيح ويسبّها ، ويلفظ بألفاظ الطلاق ونحو ذلك ، ولكنها تركته حتى بدأ يستعيد عافيته ويتخلص من أثر تلك المخدرات ، ويبدأ في الطعام والشراب المعتاد .
وحقيقة أن الحالات التي تأتي في هذه الظروف عظيمة وخطيرة جداً والأمر فيها - كما قلنا - كثير وكبير ، والعلاج - كما قلت - من قبل سنجمع فيه كلمة جامعة في آخر من نريد الحديث عنه .
والهاوية الثالثة : الفضائيات التلفزيونية بكل أنواعها المختلفة
وهنا ومضات سريعة في هذا ؛ لأن الأرقام موجودة والدراسات العلمية مكتوبة ومطبوعة ومقروءة :
أولاً الشابات أكثر مشاهدة وتأثراً بالفضائيات من الشباب ، لماذا ؟ لأن قدرتهن على الخروج والتحرك أقل ، فهن في بيوتهن أوحجرهن يقضين من الوقت أكثره مع هذه الفضائيات .
نقطة ثانية : الشباب أكثر تجمعاً ومشاهدة جماعية من الشابات لهذه الفضائيات .
ثالثاً : الأسر تتأثر ، وتبدأ تنحل عرى أخلاقها وآدابها شيئاً فشيئاً بإدمان المشاهدة المحافظة نسبياً كما يقولون .
رابعاً : الشيوخ يتصابون ، والعجائز يتشببن ، فالتأثير ليس مقتصراً على الشباب ! فكم من شيخ عجوز يفتن وينحرف ويصل إلى درجة من الانحراف لا يصدقها عقل ، وعنده من الأبناء والبنات - بل وربما أحياناً الأحفاد والحفيدات - ما يجعل مثل فعله قبيحاً في غاية القبح !
ومثل ذلك أيضاً - وهو من الخطورة بمكان - الصغار الضحايا الأبرياء ، الذين تتفتح عيونهم في هذه القنوات منذ بداية ونعمومة أظفارهم ، تنطمس بصائرهم ، وتسود فطرهم ، وتختل موازينهم ، وتقبح كلماتهم ، وتنحرف سلوكياتهم ، شاء آبائهم وأمهاتهم أم لم يشاءوا ، عرفوا أو لم يعرفوا .
وقفة ثانية - وأحسب أن الوقفات في هذه الموضوعات كثيرة جداً لكننا نوجز - ماذا في هذه القنوات من الأمور المؤثرة ؟
لا أريد أن أذكر النسب ، ولا أريد أن أذكر أوقات عرض هذه النسب ، في قناة برامج دينية كم نسبتها قدّروها متى تعرض ؟ عندما ينام الناس ، ولا يكون هناك مشاهدين يبدأ بث هذه البرامج وإعادتها كرات ومرات ؛ حتى من يشاهدها ويقصد مشاهدتها بعد فترة يصبح قد حفظها وملّ منها ، لكن أوقات الذروة - كما تسمى - التي فيها أكثر المشاهدين ماذا فيها ؟
أولاً : باقات الأفلام التي يعلن عنها على صفحات الجرائد ، وعلى شاشات التلفاز فيها محتويات معروفة بكل وضوح وسهولة أنها تخرب العقائد والأفكار والتصورات ، وأنها تزيغ العقول والأفكار ، وأنها تحرف السلوك وأنها تدعو وتحث وترغب وتسهل الجرائم .
نقطة ثانية : أن هذه الفضائيات تحطم الحدود ، فليس هناك حدود جغرافية ، ولا حدود أخلاقية ، ولا مراعاة ثقافية ، ولا خصوصية قومية أو وطينة ، فهي تتجاوز ذلك كله ، بل إن الإعلانات - حتى في القنوات غير العربية - تقدم باللغة العربية وتكتب الأرقام ، ويقال : من أراد أن يتحدث بالعربية فهذه الأرقام كذا وكذا ، ومن أراد أن يتحدث بغيرها فله كذا وكذا ، وتظهر على الشاشات الجمل باللغة العربية وهي جمل وتدعو وترغب ، ثم أيضاً ماذا من البدع المحدثة ، تلك الأغاني الخليعة الماجنة التي لا يعرف الإنسان هل هو يستمع إلى غناء أم ينظر إلى فجور وفسق ، وإن كنا نعلم حرمة ذلك كله ! كان الناس أولاً يستمعون إلى الغناء فالأثر فيه أقل ، واليوم يرون فيه ما يرون .(/8)
وأمر ثالث أيضاً وهو : البرامج المباشرة وما أدراك ما فيها من الأحاديث والمغازلات والمعاكسات !
وكنت أقول فيما سبق : يشتكي من بعض الناس من بعض المعاكسات على هاتف منزله ، فيصدر الأمر بالمراقبة وتكون هناك عقوبات من الأمارة ، أما اليوم فعلى صفحات الجرائد إذا أردت أن تهدي عبر الهواتف المحمولة أغنية أو تسجل رسالة أو تنقل صورة أو غير ذلك .. أصبح الأمر في هذا شائعاً متاحاً، وأقول في الواقع كأنما هو مباح أيضاً ، وليس هذا من باب الإباحة الشرعية وأحسب أيضاً أننا جميعا نقر بأن الشباب يقضون في هذا من الأوقات كثيرا مما يؤثر آثارا عظيمة ، بل إنهم أصبحوا متخصصين في فنون البرمجة وفك التشفير و قلة التكلفة ، وغير ذلك كما نشرت صحفنا تحقيقات وقاضيات وأن هناك بطاقات بقليل من الأموال يمكن أن تشاهد بها قنوات إباحية جنسية ، ليست واحدة ولا اثنتين ولا خمسا ولا عشراً ، بل أكثر من ذلك وأنها تجدد بعشرة ريالات ، وأن هذا أصبح مألوفاً ومعروفاً ، ثم بعد ذلك نشكو من أحوال الشباب ، ل ما ذكرناه من التدخين والمخدرات والمسكرات من أعظم أسبابه هذه القنوات - وكما قلت - القليل هو الذي نذكره .
هذه بعض الآثار الحقيقية المباشرة ؛ ولعلي أتعجب أيضاً نحن نعلم أنه قد صدرت الفتاوى بتحريم المخدرات ، وتحريم ترويجها بل ومعاملة مروجي المخدرات معاملة من الناحية الشرعية ، وأحسب أن هذا الذي يكون في الفضائيات لا يقل عن ترويج المخدرات في آثاره وأضراره ، فكيف يكون تسويقه والإعلان عنه بهذه الصورة المؤثرة المرغبة التي في كل يوم تقدم جديداً ، وتقدم من الأسعار ما هو أرخص ، وتقول بإعلاناتها الواضحة الظاهرة : " إننا نقدم هذه الأفلام مباشرة كما هي " يعني ليس هناك مراقبة ، وليس هناك قص ، وليس هناك حجب لشيء من هذا وهذه .
وقفة رابعة مع الهاوية الرابعة : الشبكة العنكبوتية الإنترنت
والدراسات تقول وأعجب من هذا على المستوى العالمي : أكثر المواقع التي فيها دخول من الجمهور وتتفاعل معها بالدرجة الأولى المواقع الإباحية الجنسية ، والدرجة الثانية - وهذا عجيب ، وقد رأيته في إحصاءات ودراسات علمية - مواقع الدين والأفكار والمناقشات المتعلقة بذلك ، أما بالنسبة لواقع شبابنا ؛ فإن أكثر من نسبة سبعين بالمائة يستخدمون الانترنت استخدامات في المجالات الجنسية والمغازلات والمعاكسات وتبادل الصور ومشاهدة الأفلام ، وما هناك من العلم والثقافة وغير ذلك ليس هو الذي يعتني به الشباب إلا قلة منهم ، ولا أقول ذلك يقول أغلقوا هذه الوسيلة ، ولكني أبين أن هذه الخطورة هي عدم المتابعة والانضباط ، فهي شيء خطير جداً .
ثم أيضا هناك ما يسمى بالأحاديث المباشرة ، ولا أحب استخدام الكلمات الأجنبية " الشاتينغ " الذي يتيح فرصة التخفي ، فلا يعرف من أنت ؟ تتحدث بما شئت لمن شئت .. وتتحدث هي كما شاءت لمن شاءت .. ويكتب من شاء لمن شاء ، وتكتب من شاءت لمن شاء ، والأمور تبقى على هذه الصورة المزرية والمؤثرة والخطيرة .
هذه مهاوي أربع ذكرناها على سبيل الإيجاز ، ولكنه إيجاز أحسب أنه نبه إلى الخطر وكشف عن الضرر وأوجب علينا جميعاً أن نقف في مواجهة هذا الخطر ، وأننا جميعا غير آمنين على أنفسنا أو على أبنائنا منه ، وإنه لابد من بذل كل جهد في هذا السبيل .
المعالجة من تلك المهاوي
وسأذكر الآن إيجازاً من القول ثلاثة عناصر أساسية نعدها جملة أو الجمل الجامعة للمعاجلة النافعة لهذه المشكلات وغيرها ، وهي ثلاثة عناصر :
أولها : التزكية
وهي تربية الإيمانية العبادية التي يرتبط فيها الشاب أو المسلم بالله عز وجل ، يستحضر عظمته ، يستحي منه ، يخاف عذابه ، يرجو ثوابه ، يبكي بين يديه ويتضرع إليه ويتوكل عليه ؛ فحينئذٍ تكون حاله على غير الحال التي يمكن أن تصرعه هذه المشكلات وتلك المهاوي .
الثاني : التربية
ونعني بها تربية الوالدين ، وتربية المعلمين ، وتربية وسائل الإعلام .. أن تكون محددة ومرغبة في الخير ومحذرة ومنفرة من الشر ، وأن تأسس الشباب والأبناء على أسس سليمة لا تفسد فطرهم ، ولا تحرف سلوكهم ولا تزيغ أهوائهم ولا تضل عقولهم كما تمارس أحيانا وسائل الإعلام أو كما يقع في معاهد العلم والتعليم أو غير ذلك مما نعلمه أو نشير إليه .
الجانب الثالث : التوعية والتنبيه
بمعرفة الأخطار وكشف الأضرار والتحذير من الوسائل والسبل بأسلوب علمي دقيق ؛ فإن القرآن الكريم قد بيّن جوانب الضرر ، وبيّن جوانب مما قد يرى أنه فيه خير أو فيه مصلحة ، ورجح أن الأضرار إذا عظمت ؛ فإنها حين إذ لا يلتفت إلى تلك المنافع الموهومة والمزعومة .. { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } .(/9)
وهذا الإثم الكبير هو الذي جاء من بعد القرآن فنص على التحريم بشكل واضح { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسنا } ، فبنت الآية الوجهين حتى يكون الناس على بصيرة من أمرهم ، وكثير ما نخفي الحقائق - أو لا ننبه على المخاطر - فيقع الناس فريسة لها وورد هذه المهاوي وإن كان الحديث طال لكنه كان موجزاً كذلك أقف وقفتين مختصرتين مع أمرين أو صورتين من معالي نحبها لشبابنا والأصل أن يطول فيها حديثنا ولكنا الإشارات تغني إن شاء الله عن طول العبارات أولاً الشباب والتميز الشخصي أي تميز الشخصية للشاب واكتمالها واستوائها واعتدالها ، وأقول بعناوين جامعة التدين أساس والأخلاق زينة والجدية إنتاج والاستقلالية ثبات والمبادرة عطاء والهمة ارتقاء ، هذه أركان وركائز أعود عليها بشيء من التعريف التدين أساس فلا يقوم شيء قياما صحيحا ولا يدوم دواماً مستمرا إلا أن يكون له أساساً اعتقادي إيماني ؛ فإن الذي يحرك النفوس ، ويقوّي العزائم ، ويثبت في المواقف ، ويمنع في الانزلاق بعد عون الله – عز وجل - هو التدين والإيمان والخوف من الله عز وجل وتذكر العواقب ، والحرص على تجنب مواطن الخزي في الدنيا والندامة في الآخرة ؛ ولذلك لما تربى الجيل الأول من أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - والأجيال المؤمنة التي أخذت حظها من الإيمان والتربية حتى عصرنا الحاضر رأينا شبابا يستعلي على الشهوات ، ويقف بشموخ وقوة وصلابة أمام الإغراءات ، ونجده يسمو على كل تلك الترهات ، وينمو ويشمخ بهمته وعزيمته إلى ما هو أعلى وأسمى من كل هذه العوارض ، ونحن نرى ذلك بحمد الله ونرى أمثلة فنقول : من أراد أمورا كثيرة حتى تفوق الدراسة فضلاً عن التفوق الدراسي وغير ذلك مما سنذكره أساسه ومفتاحه ومبدئه التدين والارتباط بالله عز وجل .. أداء الفرائض الإقبال على الطاعات ، والاستكثار من الخيرات والحرص على الرفقة الصالحة ، والارتباط بكل ما يغذي ويحيى مشاعر الإيمان في النفوس والقلوب من دروس العلم ومواعظ الذكر وغير ذلك .
الأخلاق زينة ؛ فإن التربية الخلقية وإن كانت جزءاً من التربية الدينية إلا أنها صورة خاصة ومنطقة مهمة ينبغي العناية بها ، فخلق في الصدق والأمانة ، وخلق في العفة والحياء ، وخلق في الصبر والحلم ، وخلق في جوانب التعامل من البشاشة والرفق واللين وغير ذلك .. عندما نحبذها ونرغّب فيها الشباب ونشيعها بينهم ليس كما هو حالنا اليوم كثير من الشباب يمتهنون الكذب ويحترفونه ويعتبرون جودة الأساليب والمخادعة في الكذب نوعاً من الشطارة وما يسمونها أو غير ذلك من الحذق والمهارة ونحو هذا .
والجدية أخذ الأمور بجد .. استغلال للوقت ، وحرص على التحصيل ، وإتقان في العمل ، غلب على الشباب تراخ وكسل وتفريط وتضييع من أثر تلك المهاوي التي أشرنا إليها { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } ديننا دين قوة ، دين جد ، خوطب النبي عليه الصلاة والسلام في أول ما نزل عليه من القرآن في الآيات الأولى : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } ، وقال تعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً } ، وقال زيد بن ثابت لما كلفه أبو بكر بجمع القرآن : " لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون عليّ " كانوا يأخذون الأمور بجدية فتجدهم حينئذٍ وقد انتدبوا للمهمات وأدو الواجبات ، وأتقنوا الصناعات وتفوقوا في العلوم وغير ذلك من الجوانب المهمة الجدية مفتاح أساسي في الشاب على وجه الخصوص وشخصية المسلم على وجه العموم .. مالنا نرى كثيراً من الشباب وهم رقعاء سفهاء متخنثون متشبهون بالنساء !
نرى نوعاً من هذه الشخصية المهترئة التي شوهتها تلك المعاني والمهاوي التي أشرنا إليها .
والاستقلالية ثبات ؛ فإن شخصية الشاب لابد أن تكون فيها استقلالية وفيها قدرة على أن يعبر عن رأيه وأن يخرج مالديه من الاعتراضات أو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الوقوف كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : (لا يكن أحدكم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم ) .
الشاب لا بد أن يكون مستقلاً في شخصيته مع مراعاة الأدب ومع مراعاة حسن التوقير للكبير لكنه لا يغلب على نفسه ولا يسير مع التيار ؛ بل له - كما قلنا - من إيمانه وخلقه وجديته ما يثبت به على معتقده وعلى رأيه في الحياة وعلى جده في الأمور والمبادرة عطاء كثر أيضاً في شبابنا وشاباتنا أنهم ينتظرون غيرهم يبدأ وينتظرون الكبار أن يصنعوا ونحن نعرف أن الصغار كانوا في الزمان الأول كبارا ونحن اليوم نرى الكبار وهم في حقيقة أمرهم صغار ونحن نستصغر الشاب فنقول عنه في المتوسطة إنه صغير وإنه في الثانوية لم يكبر بعد ، وإنه في الجامعة مازال في مقتبل شبابه ولا يعتمد عليه حتى يبلغ إلى الخامسة والعشرين أو إلى الثلاثين .. إذاً متى سيكون هو ذلك الشاب الذي يثق في نفسه ويبادر لأن يتقدم وينتدب للمهمات(/10)
إذا القوم قالوا: من فتى خلت **** أنني عُنيتُ، فلم أكسل ولم أتبلد
متى يجدد ما حصل بين رافع بن خديج وسمرة بن جندب رضي الله عنهما - وهما صغار في السن عندما تصارعا ليفوز أحدهما بشرف الالتحاق بجيش النبي عليه الصلاة والسلام لمحاربة كفار قريش في غزوة أحد ؟
أين المبادرة ؟ حتى رأينا الشباب يستبقون إلى الموت فضلاً من أن يستبقوا إلى ميادين العلم أو الدعوة أو الجهاد وهم في سن نعدها اليوم في سنٍ صغيرة مابين قائد للجيوش في السابعة عشرة أو التاسعة عشر ، وما بين مفت للأمة كالشافعي وهو ابن التاسعة عشرة وما بين وما بين من شباب كثيرون ملئت بهم صفحات تاريخنا .. واليوم يبلغ الرجل الأربعين والخمسين وهو لا زال لا يقدم شيئا ولا يؤخر شيئا .
وأخيراً : الهمة ارتقاء
هناك همم عالية طموحة ولن تثمر جداً ولن تنبت استقلالاً ولن تنشئ مبادرةً فلا بد من تلك الهمم أن نشحذها في نفوس الشباب ، وأن نذكي نارها في قلوبهم ، وأن نجعلهم أصحاب طموح كما كان ربيعة بن كعب لما سئل عن مراده ومطلبه : ( أسألك مرافقتك في الجنة ) .
وأخيراً : وقفة في المعالي
وهي أيضاً على سبيل الإيجاز الشباب والتفوق الدراسي ، ونحن اليوم نرى نسب الرسوب كثيرة والناجحون يقنعون بالمقبول ، ونسأل الله القبول - كما يقولون - وقلة قليلة ممن تحقق نتائج متميزة وقلة من هؤلاء المتميزون يستمرون أو يبدعون أو يبتكرون ، وتأتي أمتنا من بعد في ذيل القائمة المتخلفة تخلفاً علمياً وتقنياً ؛ لأننا صرفنا الشباب عن هذا الميدان في التفوق الدراسي والعلمي والتقني ، وانشغلوا - كما قلنا - بترهات الأمور وبمفسدات العقول وبمضلات الفتن نسأل الله عز وجل السلامة .
وهنا نقول : الكثير من الجوانب نجملها في أمرين اثنين في كل منهما نقاط يسيرة :
أولاً : البواعث والعوامل لهذا التفوق
أ - الثقة مبعث القدرة
فالثقة بالنفس مبدأ مهم حتى تستطيع أن تبدأ في خطوة الإنجاز الأولى ، وكثير من الشباب بل كثير من قادة الرأي أحيانا يرون أنه لا يمكن أن يكون عندنا متفوقون كالغربيين أو الشرقيين العبقرية والعلم والاختراع لم تخلق لنا خلقت في أناس ليسو من بيئتنا ، وهنا نحطم شبابنا ويتحطم الشاب إذا لم يكن عنده ثقة في نفسه أنه يمكن أن يكون متفوقاً ، وأن يكون عالماًَ ، وأن يكون مبدعاً ، وأن يكون مخترعاً إلى غير ذلك ..
ب- التشجيع محفز الارتقاء
لا بد أن نشجع أولئك الأبناء على هذا التفوق تشجيعاً تربوياً متوازناً ، ونجعله متكاملاً ، فوسائل الإعلام تشجع على اللهو والعبث وضياع الأوقات في جوانب معينة ، ولا تقدم القدوات على أنهم - كما سبق أن قلت أصحاب – جرأة قلم ، أو ركلة قدم ، أو رنة نغم .. أو غير ذلك ؛ بل تقدّم النماذج التي تشجع حقيقة ، وهي نماذج التفوق الدراسي والعلمي ، فلابد أن يكون هذا التشجيع على كل المستويات ؛ حتى نكون عاملاً محفزاً للارتقاء .
ج- الانتباه قدرة على التركيز
وهذه من مهارات التعلم لابد أن يكون الطالب أو الشاب منتبهاً متيقظاً مركزاً حتى يستطيع باستمرار أن يحصل بسماعه سواءً في محاضرةً ، أو في حصة وفصل ، أو مجمع عام أن يكون دائم الانتباه والتركيز ليضيف إلى حصيلته من العلم ما يجعله متفوقاً .
د- الذكاء قدرة الاستنباط
ولابد من إعمار العقل وتقويته وشحذه ؛ حتى يكون عنده المقارنات ، ويكون عنده قدرة على الاستنباط والتحليل ، والعقل بطبيعته كلما شغلته زادت قدرته ، وكلما تركته - كما يقولون - في بعض النكت ورأيتها يمثلها بعض الشباب ليشيروا إلى بعض النقص أن هناك عقول للبيع فيقول هذا عقل مستهلك ومستخدم كثيراً ، ثم إذا جاء إلى العقل العربي يقول هذا عقل نظيف لم يستخدم أبداً تأخذه طازج ؛ لأنه لا يشتغل أو لا يفكر ، أو لا يعمل عقله يستحضر ذكاءه! وهذا أيضاً من ما ينبغي تجنبه الذاكرة قدرة على الحفظ ، والحفظ مهم في العلم مع الفهم ، ويخطئ من يقول : إن الفهم يستقل وحده .
وأخيراً : الإرادة هي القدرة على التفوق بالعزيمة الماضية
أما الطريق المتدرج وهو النقطة الثانية فله خطوات : الإنصات طريق التعلم ، والقراءة طريق التقدم ، والكتابة طريق التمكّن ، والدراسة طريق التفنن والتعبير - أي التعبير عن هذا كله هو طريق التحسن والإبداع في آخر الأمر - هو طريق التألق ، ولا بد من كل هذه المهارات ، ونحن نريد لشبابنا أن يأخذوا بهذا ، وأن يحرصوا عليه ، وأن لا تكون هذه الحالة التي نعاني منها - ولا شك - أننا نشعر بضرورة التكامل بين الجوانب المختلفة السيئة - التي أسلفناها - والحسنة - التي أخرناها - فإن هذه لا تكون إلا بتجنب تلك ، وإن وجود تلك سيفضي لنا إلى عدم تحقيق هذه ، نسأل الله - عز وجل - أن يحفظ شبابنا ، وأن يحفظنا جميعاً من مضلات الفتن ، ونزغات الهوى ووساوس الشيطان .(/11)
الشباب من الداخل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن من أعظم ما افترضه اللهُ علينا تجاه نعمةِ الذُّرية أن نقوم على أمر تربيتهم وتعاهدهم بما يصلح لهم أمور دنياهم وآخرتهم؛ولذا فإننا حينما نتحدَّث عن تربية الأبناء؛فإنما نتحدثُ عن أمانةٍ عظيمةٍ ومسئوليةٍ جسيمةٍ.
إنَّ الأبناءَ أمانةٌ ومسئوليةٌ،يقولُ-عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-:(كلكم راع,وكلكم مسئول عن رعيته,الإمام راعٍ,ومسئول عن رعيته،والرجل راعٍ في أهله,وهو مسئولٌ عن رعيتِهِ،والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها,ومسئولةٌ عن رعيتِها،والخادم راعٍ في مال سيده,ومسئولٌ عن رعيتِهِ، وكلُّكم راعٍ,ومسئولٌ عن رعيتِهِ)(1) .
إن بعض الآباء يؤدِّي حقوق الأبناء من مطعم وملبس,ويغفل عمَّا هو أهمُّ من ذلك، يغفل عن تأديبهم وتعليمهم وتربيتهم،وقد رُوِىَ عن النَّبيِّ- عليه الصلاة والسلام- الحديث ضعفه الألباني أنه عليه الصلاة والسلام قالَ:(ما نَحَلَ والدٌ ولداً مِن نحل أفضل من أدبٍ حسنٍ)(2) والمعنى أن أفضل ما يهب الوالدُ لولدِهِ حسنُ الأدبِ،ولاشكَّ أنَّ ذلكَ خيرٌ من صنوفِ الأموالِ والهباتِ.
إن التربية من أفضل الأعمال وأقرب القربات،فهي دعوة وتعليم،ونصح وإرشاد،وعمل وقدوة،ونفع للفرد والمجتمع.وكيف لا تكون من أعظم الأعمال وأجلِّها,وهي مُهمَّةُ الأنبياء والرسل,وقد قال-تعالى-:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )(3).
وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً وإنما يكملُ ويقوى بالغذاء،فكذلك النفس تُخلق ناقصةً قابلةً للكمال؛وإنما تكمل بالتربيةِ وتهذيبِ الأخلاقِ والتغذيةِ بالعلم).
إنَّ مهمَّةَ تربيةِ الأولادِ مُهمَّةٌ عظيمةٌ يجبُ على الآباء أنْ يحسبُوا لها حسابها،ويُعِدُّوا العُدَّةَ لمواجهتها،خُصُوصَاً في هذا الزَّمانِ الذي كثرتْ فيه دواعي الفسادِ،وتنوَّعتْ فيه وسائلُ التأثيرِ،وكَثُرَ إهمال الآباء للشباب فلم يعد يُسأل عنهم،وخرجت البنات مع السائقين،وقل الحزم والغيرة في الرجال،وكل ذلك مقرون مع الإهمال في التربية.
أيها الآباء: إن الله قد أمركم بأن تقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة، استمعوا إلى التوجيه الإلهي العظيم:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)(4) .
أيها الأحبة: لقد أهمل كثير من الآباء تربية أبنائهم فهم مشغولون بأعمالهم ووظائفهم, حتى أن بعض أبنائهم وقع في المصائب العظيمة دون أن يشعر بهم آباؤهم,وقد يغترُّ الأبُ بظاهر ابنه,فيظن أن ابنه على خير عظيم,وهو في الحقيقة واقع في المعاصي والسيئات. إن من يجلس مع بعض الشباب,ويعرفهم عن قرب ليرى العجب العجاب: شباب واقعون في المنكرات، قمار، أغاني،معاكسات، لواط،عادة سرية، دخان، مخدرات أفلام مشبوهة،تبادل سيديهات جنسية مواقع إباحية،وخذوا على سبيل المثال قضية شبكة الإنترنت فلقد تنوعت وتعددت مصادر الإفساد للشباب على الشبكة,وتعددت مجالاتها,فتجدها أحياناً جنسية وإباحية ، ومرة تجارة بالرقيق،وأخرى نشر للصور والأفلام المخلة بالآداب،وكذلك تعاطي المخدرات وطرق استخدامها والحصول عليها والعنف وبذاءة الألفاظ والعنصرية والممارسات الشاذة.
كتبت إحدى المجلات (5)عنواناً باسم : ( عالم الإنترنت السفلي.. قرصنة برامج.. إباحية.. مافيا..غسيل أموال.. مخدرات.. قمار..عنصرية .. منظمات الهاكر.. إرهاب.. متفجرات ثم عنونت داخل المجلة:( عالم إنترنت السفلي يناديك، يبسط لك ذراعيه، يلوح لك بكافة المغريات القذرة التي ابتكرها الإنسان عبر التاريخ.. برامج كاملة بالمجان.. صور وأفلام إباحية.. مخدرات.. قمار.. أموال قذرة.. فهل تستجيب ؟) وفي حوار من خلال مجلة(الجندي المسلم ) حول الإباحية في الإنترنت مع د. مشعل بن عبد الله الأستاذ المساعد في معهد بحوث الحاسب الآلي في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية قال:(قامت بعض الشركات بدراسة عدد زوار صفحات الدعارة والإباحية في الإنترنت فوجدت إحدى الشركات أن بعض هذه الصفحات يزورها عشرون ألف زائر يومياً، ولذلك صرَّحتْ وزارةُ العدل الأمريكية قائلة : لم يسبق في فترة من تاريخ وسائل الإعلام بأمريكا أن تفشى مثل هذا العدد الهائل من مواد الدعارة أمام هذه الكثرة من الأطفال في هذه الكثرة من البيوت. كما تفيد الإحصائيات بأن 63% من المراهقين الذين يرتادون صفحات وصور الدعارة لا يدري أولياء أمورهم بطبيعة ما يتصفحونه على الإنترنت . علماً بأن الدراسات تفيد
أن أكثر مستخدمي المواد الإباحية تتراوح أعمارهم ما بين 12 - 17 سنة ) (6)(/1)
فيا معاشر الآباء هل تعلمون ماذا يعمل أبناؤكم؟! وماذا يدور بينهم؟ ألا فلنتق الله في أولادنا,ولنحافظ عليهم من الانحراف والمعاصي,فَهُم أمانةٌ في أعناقنا،ولنتنبه لأخطائهم ونعالجها ,قبل أن تستفحل.
وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ عَلَى نبيِّنا مُحمَّدٍ,وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وسَلَّمَ.
________________________________________
1 - أخرجه البخاري كتاب الوصايا باب تأويل قول الله تعالى من بعد وصية يوصي بها أو دين برقم (2546).
2 - أخرجه الترمذي كتاب البر والصلة باب ما جاء في أدب الولد برقم (1875) واللفظ له، وأحمد (14856).
3 -(الجمعة:(2).
4 -التحريم: (6).
5 - في عددها الثاني للسنة الثالثة (إنترنت العالم العربي) نقلاً عن مجلة البيان العدد 172ص 38 .
6 - مجلة إنترنت العالم العربي في عددها الثاني للسنة الثالثة ص نقلاً عن مجلة البيان العدد 172ص 38.(/2)
... ... ...
الشتاء البارد ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- أن شدة الحر وشدة البرد من نفس جهنم 2- أن تقلب الطقس من برد إلى حر والعكس هو بأمر الله تعالى وله حكم في هذا 3- من السنة الإبراد بصلاة الظهر عند شدة الحر والتعجيل بها في البرد 4- كيف تصلي الجمعة في الحر الشديد والبرد الشديد 5- فضل الصوم في الشتاء 6- من عجائب فصل الشتاء والصيف 7- أن برد الشتاء يذكر بالفقراء 8- بعض الأحكام الفقهية التي قد يحتاجها الناس في فصل الشتاء. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
إن الله تعالى هو الذي خلق السماء والأرض وهو الذي أوجد اليابس والماء وهو الذي يكور الليل على النهار، ومكور النهار على الليل، وهو الذي يأتي بالصيف الحار وبالشتاء البارد ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. ولنا مع قدوم قليل من البرد هذه الأيام بعض تأملات وذكر بعض الأحكام:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعضاًً فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ. فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ)) رواه البخاري. قال ابن عبدالبر رحمه الله هذه الشكوى بلسان المقال. وقال القاضي عياض رحمه الله: إنه الأظهر. وقال القرطبي رحمه الله: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته. قال: وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله فحمله على حقيقته أولى. وقال النووي رحمه الله نحو ذلك ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب. وتنفسها على الحقيقة.
والمراد بالزمهرير شدة البرد , ولا إشكال من وجوده في النار ففيها طبقة زمهريرية نسأل الله العافية.
فهذه النار عندما اشتكت إلى خالقها، والشكوى كانت من أنه قد أكل بعضها بعضاً، فكيف بالذي في داخلها؟ وكيف بمن يعذب فيها؟ وكيف بمن حكم الله عليه بالخلود فيها؟ فشفقةً من الله بهذه النار التي خلقها لإحراق الكفار والمنافقين والعصاة ومن يستحق دخولها، أذن لها بنفسين، نفس في كل موسم فأشد ما نجد أيها الأحبة من الحر ما هو إلاّ نفس من أنفاس جهنم، وأشد ما نجد من البرد أيضاً ما هو إلاّ نفس من أنفاس جهنم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشتكت النار إلى ربها وقالت: أكل بعضي بعضا، فجعل لها نفسين: نفسا فى الشتاء، ونفسا فى الصيف، فأما نفسها فى الشتاء فزمهرير، وأما نفسها فى الصيف فسَمُوم)).
لبس الشتاء من الجليد جلودا فالبس فقد بَرَد الزمان بُرودا
كم مؤمن قرصته أظفار الشتا فغدا لسكان الجحيم حسودا
وترى طيور الماء في وكناتها تختار حر النار والسّفّودا
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهما حرك لنا عوداً وحرّق عودا
وهذا سؤال وجه لفضيلة الشيخ ابن عثيمين حفظه الله: هناك من ينسب شدة البرد أو الحر للعوامل المناخية أو لطبقة الأوزون أو لدوران الكرة الأرضية فهل يصح هذا التأويل؟ فكان الجواب: لاشك أن شدة الحر وشدة البرد لها أسباب طبيعية معلومة، ووجودها بأسبابها من تمام حكمة الله عز وجل، وبيان أنه سبحانه وتعالى خلق الخلق على أكمل نظام، وهناك أسباب مجهولة لا نعلمها نحن، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ)). وهذا سبب غير معلوم، لايُعلم إلا بطريق الوحي ولا حرج على الإنسان أن يضيف الشيء إلى سبب معلوم حساً أو شرعاً لكن بعد ثبوت أنه سبب حقيقي، وإن كان سبباً وهمياً أو كان سبباً مبنياً على نظريات لاأساس لها فإنه لايجوز اعتمادها لأن إثبات الوقائع أو الحوادث إلى أسباب غير معلومة لا عن طريق الشرع ولا عن طريق الحس يدخل في ما نهى الله عنه في قوله: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً .
أيها المسلمون: وقد ينزعج بعض الناس من برودة الشتاء كما يتضايق البعض من حر الصيف، وفي كلٍ منهما وفي تقلب الأحوال عموماً مصالح وحكم. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ثم تأمل بعد ذلك أحوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول وما فيها من المصالح والحكم، إذ لو كان الزمان كله فصلا واحدا لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه، فلو كان صيفا كله لفاتت منافع ومصالح الشتاء، ولو كان شتاء لفاتت مصالح الصيف، وكذلك لو كان ربيعا كله أو خريفا كله.(/1)
ثم بدأ رحمه الله يذكر بعض فوائد البرد ودخول فصل الشتاء فقال: ففي الشتاء تغور الحرارة في الأجواف وبطون الأرض والجبال، فتتولد مواد الثمار وغيرها، وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء، فيحصل السحاب والمطر والثلج والبرَد الذي به حياة الارض وأهلها واشتداد أبدان الحيوان وقوتها، وتزايد القوى الطبيعية واستخلاف ما حللته حرارة الصيف من الأبدان، وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء، فيظهر النبات ويتنور الشجر بالزهر، ويتحرك الحيوان للتناسل، وفي الصيف يحتد الهواء ويسخن جدا فتنضج الثمار وتنحل فضلات الأبدان والاخلاط التي انعقدت في الشتاء، وتغور البرودة وتهرب إلى الأجواف، ولهذا تبرد العيون والآبار ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من الأطعمة الغليظة لأنها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون، فلما جاء الصيف خرجت الحرارة إلى ظاهر الجسد وغارت البرودة فيه، فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان وصفا الهواء وبرد فانكسر ذلك السموم، وجعله الله بحكمته برزخا بين سموم الصيف وبرد الشتاء. انتهى كلامه رحمه الله.
ولشيخ ابن القيم، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام نفيس كان يتحدث فيه رحمه الله على هروب الشيء من ضده، وأن كثيراً من الأشياء يمكن أن تقاوم بأضدادها، وهذه قاعدة مهمة يحتاجها الجميع عامة والمصلحون خاصة، فمَثّل لقاعدته بكلام يناسب موضوعنا فقال رحمه الله: ويسخن جوف الإنسان في الشتاء، ويبرد في الصيف، لأنه في الشتاء يكون الهواء باردا فيبرد ظاهر البدن فتهرب الحرارة الى باطن البدن، لان الضد يهرب من الضد، والشبيه ينجذب إلى شبيهه، فتظهر البرودة إلى الظاهر، ولهذا يسخن جوف الأرض في الشتاء وجوف الحيوان كله، وتبرد الأجواف في الصيف لسخونة الظواهر فتهرب البرودة الى الاجواف. انتهى كلامه رحمه الله. فإذا عرفت بأن الضد يهرب من الضد، والشبيه ينجذب إلى شبيهه، أدركت وعرفت بأنه لاطريق للتخلص من رقّ المعصية إلاّ بضدها وهي الطاعة، وأنه إذا ارتاحت نفسك بالجلوس مع العصاة، فهذا من انجذاب الشبيه إلى شبيهه، والله المستعان.
أيها المسلمون: لقد جاءت السنة بالإبراد بصلاة الظهر في حر الصيف تخفيفاً على الناس فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ)). رواه البخاري. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا اشتد البرد بكّر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة. عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر فقال صلى الله عليه وسلم: ((أبرد، ثم أراد أن يؤذن فقال له: أبرد، حتى رأينا فيئ التلول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شده الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة)) متفق عليه. وهذا الحكم خاص بصلاة الظهر وأما صلاة الجمعة وإن كانت في وقت الظهر فإنها تصلى في وقتها حتى في الحر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما الجمعة فالسنة أن تصلى في أول وقتها في جميع الأزمنة، لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصليها في أول الوقت شتاء وصيفا، ولم يؤخرها هو و لا أحد من أصحابه، بل ربما كانوا يصلونها قبل الزوال، وذاك لأن الناس يجتمعون لها، إذ السنة التبكير إليها، ففي تأخيرها إضرار بهم.
ونعلم بأن السنة أن يقرأ الإمام في ركعتي الجمعة بسورة الجمعة والمنافقون كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسبح والغاشية ثبت ذلك أيضاً في صحيح مسلم، والسنة أن يقرأ الإمام مرة بهذا ومرة بهذا لئلا تهجر السنة، ولكن كما قال الشيخ ابن عثيمين حفظه الله لو أن الإمام راعى أحوال الناس ففي الشتاء البارد قرأ بسبح والغاشية ولم يقرأ بالجمعة والمنافقون تيسيراً على الناس، ومثله في أيام الحر الشديد، وذلك لأن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.
أيها المسلمون: بوب الامام الترمذي رحمه الله في سننه فقال: باب ما جاء في الصوم في الشتاء. ثم أخرج بسنده عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ)). حديث صحيح. وكانت غنيمةً باردةً لحصول المؤمن على الثواب بلا تعب كثير، فالصوم في الشتاء البارد لا يحس فيه الصائم بالعطش لبرودة الجو ولا بألم الجوع لقصر النهار، فحقاً إنها لغنيمة باردة، فأين أصحابها؟(/2)
أيها المسلمون: لقد عذّب الله أقواماً بالريح الباردة في الشتاء كقوم عاد كما قد ذكر ذلك أهل التفسير وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة وهو السحاب الذى يخال فيه المطر أقبل وأدبر وتغير وجهه فقالت له عائشة إن الناس إذا رأوا مخيلة استبشروا فقال: ((يا عائشة وما يؤمننى، قد رأى قوم عاد العذاب عارضا مستقبل أوديتهم فقالوا هذا عارض ممطرنا قال الله تعالى: بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم )).
أيها المسلمون: ومن عجائب فصل الشتاء أنه وقت لا يناسب نبات الأسنان عند الأطفال ومثله في حر الصيف فإنه ربما سبب للطفل التقيؤ والحمى وسوء المزاج، ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله وقال بأن أفضل وقت لذلك، نباتها في الربيع والخريف، ووقت نباتها لسبعة أشهر وقد تنبت في الخامس، وقد تتأخر إلى العاشر، فينبغي التلطف في تدبيره وقت نباتها.
ومن العجائب: أن من حكم الله تعالى أن نبات وفواكه الشتاء لو أُكل في الصيف أو العكس لربما أضر البدن وسبب له الأذى. قال ابن القيم رحمه الله: فلو كان نبات الصيف إنما يوافي في الشتاء لصادف من الناس كراهية واستثقالا بوروده مع ما كان فيه من المضرة للأبدان والأذى لها، وكذلك لو وافى ما في ربيعها في الخريف أو ما في خريفها في الربيع، لم يقع من النفوس ذلك الموقع ولا استطابته واستلذاذه ذلك الالتذاذ، ولهذا تجد المتأخر منها عن وقته مملولا محلول الطعم، ولا يظن أن هذا لجريان العادة المجردة بذلك، فإن العادة إنما جرت به لأنه وفق الحكمة والمصلحة التي لا يخل بها الحكيم الخبير. انتهى كلامه.
ومن عجائب الحر والبرد والصيف والشتاء: هذا الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه ضمن كرامات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ كَانَ أَبُو لَيْلَى يَسْمُرُ مَعَ عَلِيٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فَكَانَ يَلْبَسُ ثِيَابَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَثِيَابَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ فَقُلْنَا لَوْ سَأَلْتَهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيَّ وَأَنَا أَرْمَدُ الْعَيْنِ يَوْمَ خَيْبَرَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرْمَدُ الْعَيْنِ. فَتَفَلَ فِي عَيْنِي ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ)) قَالَ: فَمَا وَجَدْتُ حَرًّا وَلَا بَرْدًا بَعْدَ يَوْمِئِذٍ .
أيها المسلمون: وللفقراء علينا حقٌ دائم، ويتأكد هذا الحق لهم في الأزمات والملمّات، وفي النكبات والصعوبات، ومن ذلك أن نرحمهم ونعطف عليهم مع برد الشتاء، يقول أحدهم:
أتدري كيف قابلني الشتاء وكيف تكون فيه القرفصاء
وكيف البرد يفعل بالثنايا إذا اصطكت وجاوبها الفضاء
وكيف نبيت فيه على فراش يجور عليه في الليل الغطاء
فإن حل الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ آفته الشتاء
أتدري كيف جارك يا ابن أمي يهدده من الفقر العناء
وكيف يداه ترتجفان بؤساً وتصدمه المذلة والشقاء
يصب الزمهرير عليه ثلجاً فتجمد في الشرايين الدماء
خراف الأرض يكسوهن عِهنٌ وترفل تحته نعمٌ وشاء
وللنمل المساكن حين يأتي عليه البرد أو جُنّ المساء
وهذا الآدمي بغير دار فهل يرضيك أن يزعجه الشتاء
يجوب الأرض من حي لحي ولا أرض تقيه ولا سماء
معاذ الله أن ترضى بهذا وطفل الجيل يصرعه الشتاء
أتلقاني وبي عوز وضيق ولا تحنو؟ فمنا هذا الجفاء
أخي بالله لا تجرح شعوري ألا يكفيك ما جرح الشتاء
بارك الله لي ولكم … ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:
إن من الأحكام التي تحتاجها الناس والمتعلقة بالشتاء غالباً: مسألة المسح على الجوربين، وهي مسألة عقدية فقهية وقد ذكرها بعض العلماء في كتب العقائد منهم ابن أبى العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية وسبب ذكره لذلك أن هناك بعض الفرق الباطنية والمنحرفة ينكرون سنيّة المسح على الخفين، منهم الرافضة والمعتزلة وغيرهم، وقد تواترت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ليس في قلبي من المسح على الخفين شي، فيه أربعون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد: صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه مسح في الحضر والسفر، ولم ينسخ ذلك حتى توفي ووقّت للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن في عدة أحاديث حسان وصحاح وكان صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر الخفين، ولم يصح عنه مسح أسفلهما، ومسح على الجوربين والنعلين، ومسح على العمامة مقتصرا عليها ومع الناصية، وثبت عنه ذلك فعلاً وأمراً في عدة أحاديث، ولم يكن يتكلف ضد حاله التي عليها قدماه بل إن كانتا في الخف مسح عليهما ولم ينزعهما، وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين ولم يلبس الخف ليمسح عليه. انتهى كلامه.(/3)
وكيفية المسح أن يبل يديه بالماء ثم يمرّهما على ظهر الخفين من أطرافهما مما يلي الأصابع إلى الساق مرة واحدة، ولو مسح اليمنى على اليمنى، واليسرى على اليسرى، فهذا حسن، ولو مسح كليهما بيده اليمنى فلا حرج في ذلك.
ويبدأ مدة المسح من أول مسحة مسحها وليس الابتداء من الحدث بعد اللبس كما قال به البعض، فإذا لبس الإنسان الجورب لصلاة الفجر ولم يمسح عليهما أول مرة إلا لصلاة الظهر فابتداء المدة من الوقت الذي مسح فيه لصلاة الظهر فيمسح المقيم إلى مثل ذلك الوقت من الغد.
وإذا تمت المدة وهو على طهارة، فطهارته باقية حتى تنتقض، فإذا انتقضت بعد تمام المدة وجب عليه غسل رجليه إذا توضأ، ثم يلبس من جديد.
ومن تمت مدته فنسى ومسح بعد تمام المدة فعليه أن يعيد الصلاة التي صلاها بالمسح الذي بعد تمام المدة.
وأيضاً من المسائل المتعلقة بالشتاء غالباً: مسألة صلاة الاستسقاء وقد نزول المطر، هل نصلي الاستسقاء وقد نزل المطر؟
الجواب: أننا لانصلي ولا نخرج للصلاة وقد نزل المطر. قال ابن قدامة رحمه الله: وإن تأهبوا للخروج فسُقوا قبل خروجهم، لم يخرجوا وشكروا الله على نعمته وسألوه المزيد من فضله.
وقال الشيخ ابن عثيمين حفظه الله: وإذا سقاهم الله وأنزل المطر قبل أن يخرجوا، فلا حاجة للخروج، ولو خرجوا في هذا الحال لكانوا مبتدعين، لأن صلاة الاستسقاء إنما تشرع لطلب السقيا، فإذا سقوا فلا حاجة لها، ويكون عليهم وظيفة أخرى وهي وظيفة الشكر، فيشكرون الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة بقلوبهم وبألسنتهم وبجوارحهم. انتهى كلامه. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
الشجاعة والتضحية
عباد الله
إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم وصوره في أحسن صورة وفطر عنده من الصفات والأخلاق التي ما إن تحلى بها حتى يصل إلى درجة تجاري درجة الملائكة في عبادتهم وطاعتهم لله سبحانه وتعالى فقد قال تعالى: ((لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )) وقال جل جلاله: (( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) ومن حكمته جل جلاله ولابتلاء البشر وتمحيصهم حف الجنة بالمكاره وحف النار بالشهوات حتى يميز الخبيث من الطيب ويظهر الصالح من الطالح وينجلي صاحب الإرادة الذي عبد حق لله تعالى ومهزوم النفس ضعيف التحمل الذي لا يلبث ينجر وراء شهواته وغفلاته حتى يفاجئه الموت وعندها خسارته كبيرة والعياذ بالله فقال تعالى : (( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم )) لذلك فرق الله سبحانه وتعالى في الدنيا قبل الآخرة بين المؤمن والكافر وبين المسلم الذي يتق الله في كل أحواله وبين المسلم الذي يقترف من المعاصي مالا يبالي له فقال تعالى (( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون )) ولم يسو الله سبحانه بين المجاهد بنفسه والمجاهد بماله كما لم يساوي أي منهما بالقاعد فالجهاد في سبيل الله بالمال وبالنفس فيه خير كثير للأمة وللدين وللعقيدة وإن كان ظاهر الأمر فيه خسارة مالية أو بدنية للمجاهد ، ولما كان الجهاد فيه عرضة للخسارة فإنه احتاج إلى خلق عال يتحلى به صاحبه لأن النفس تكره الجهاد ذلك الخلق ألا وهو الشجاعة التي تتبعها التضحية فقال جل جلاله (( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ))أيها المسلمون : إن الغايات والأهداف التي شرع الله تعالى الجهاد لأجلها كثيرة ومتنوعة أشهرها وأظهرها لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى فقال تعالى: (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير )) وقال صلى الله عليه وسلم: (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) ولتحقيق هذه الغايات وإقامة شرائع الدين كان لا بد بجيل من المسلمين في كل زمان ومكان أن يقوم بهذا الواجب وألا يتخلف عنه مخلصا بذلك لوجه الله تعالى وهذا الأمر عباد الله لا يتحقق إلا بالشجاعة التي يتحلى بها المجاهدون والتضحية التي يبذلها هؤلاء المؤمنين فلا بد من رد اعتداء المعتدين والوقوف في وجه الظالمين دون خشية من أحد ومهما كانت موازين القوى راجحة لطرف دون آخر فإن ذلك لا يعتبر عذرا يوقف تضحية وشجاعة المقدمين فقد قال تعالى: (( ألا تقاتلون قوما نكثوا إيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين )) فالمجاهد المقدام لا يضع نصب عينيه إلا مخافة الله سبحانه وخشيته جل جلاله ولو عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمنطق المعاصرين لما وصل الدين لأحد في أيامنا هذه ففي الإقدام والتضحية والشجاعة بعد التوكل على الله سبحانه وتعالى ذل لهؤلاء المجرمين وشفاء لصدور المؤمنين فقد قال جل جلاله (( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ))
أخوة الإسلام : إن الله سبحانه وتعالى بقدرته وعلمه وسلطانه قادر على أن ينصر دعوة نبيه وأن يرفع أمر دينه دون عناء لأحد أو شقاء لمرء فإن الكافرين مهما بلغت قوتهم ومهما بلغ حجمهم وسلاحهم فإنهم لن يعجزوا الله جل جلاله ولكن التمحيص والاختبار لأصحاب الشجاعة والتضحية يقتضي أن يخوض هؤلاء هذه التجربة فقد قال تعالى: (( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ))(/1)
وقال جل جلاله (( ذلك لو يشاء الله لانتصر منكم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالكم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم )) فلئن كان بالتضحية والإقدام بشيء من الخسارة في نظر البعض فان العدو أيضا يألم كما يألم المسلم ويرجو المؤمن من الله تعالى ما لا يرجوه ذلك الكافر وعز المؤمن في دنياه بجهاده والأيام دول جعلها الله بين الناس فقد قال تعالى: (( ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم إن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين )) ومن هنا عباد الله فهم سلفنا الصالح من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن سار على دربهم إلى يومنا هذا هذه القاعدة وعملوا بها فقدموا الغالي والنفيس بداية من أموالهم ونهاية بأنفسهم حتى يرضى عنهم الله سبحانه وتعالى فكانوا على درجة من الشجاعة والتضحية ما لا يتصوره عقل إنسان في هذه الأيام إلا من فهم ما فهموه ، فعلموا أن التخلي عن التضحية والشجاعة ردة عن دين الله سبحانه وتعالى يؤذن بزوال الفاعلين لذلك ووعد الله أن يبدلهم بآخرين يحبهم ويحبونه ووصفهم أنهم (( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم )) وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم ضرب لنا أروع الأمثلة في الشجاعة والتضحية ابتداء من حمله الرسالة وتحمله الأذى والعذاب في سبيل تبليغها إلى غير ذلك من المواقف، يقول أنس رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول : (( لم تراعوا ---- لم تراعوا )) ويقول البراء رضي الله عنه (( كنا والله إذا احمر البأس نتقي برسول الله )) أي إذا اشتدت المعركة نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا علي كرم الله وجهه يقول (( لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسا )) وهذا المقداد بن الأسود رضي الله تعالى عنه لما شاور النبي أصحابه في غزوة بدر يقول (( يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك لا نقول لك كما قال بنوا إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى (( برك الغماد )) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه)) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له 0هؤلاء هم الذين تربوا على أيدي رسولنا صلى الله عليه وسلم شجاعة وإقدام منقطعة النظير فلم يقولوا إن عدونا ثلاثة أضعافنا ولم يتخلوا عنه ويقولوا أنت من مكة ونحن من المدينة ، فوا عجبا لمن تخلوا اليوم عن المجاهدين أصحاب الشجاعة والتضحية والإقدام وتركوهم يواجهون عدوهم ومصيرهم ثم يزعمون بعد ذلك الإيمان والتقوى بل إن بعضهم راح يعيب على الشجعان شجاعتهم وعلى المضحين تضحيتهم حتى أصبحت الفتاوى تصدر يمينا وشمالا تحرم وتحلل فشتان شتان بين من يجلس على مقعده آمنا مطمئنا بين أهله وعلى أرضه ويطلق فتاوى التحليل والتحريم وبين المجاهد الذي يوقّع على هذه الفتاوى بدمه نازفا وبحجارة بيته الذي يهدم على أهله 0أيها المسلمون : هذا سعد بن معاذ رضي الله عنه سيد الأنصار لما طلب النبي الرأي في بدر حينما قال صلى الله عليه وسلم أشيروا علي أيها الناس فقال سعد والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال أجل ، قال فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهدنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرض بنا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إما لصبر في الحرب صدق عند اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقربه عينك فسر على بركة الله ، فسرّ النبي صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ثم قال (( سيروا وأشيروا فان الله وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني انظر إلى مصارع القوم )) فالله الله على الرجال إخوة الإسلام الله الله على الذين يريدون خوض البحار لإعلاء كلمة الله الذين ما نظروا في العدد ولا العدة ولكنهم تيقنوا أن الله حسبهم فكان يقينهم في مكانه ولم لو يخذلوا أبدا وما شاء جل جلاله أن يخذل من كان معه 0 أما إذا أردتم اخوة الإسلام أن تروا حال الصبية في زمن الحبيب صلى الله عليه وسلم فهذان الغلامان معاذ بن عمرو بن الجحوح ومعاذ بن عفراء كانا يبحثان عن أبي جهل في معركة بدر حتى يقتلاه لأنه كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لهما ما أرادا حيث انطلق كل واحد منهما بسيفه(/2)
إلى أبي جهل بعد أن قال لعبد الرحمن بن عوف (( أخبرت انه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده ـ أي جسدي جسده ـ حتى يموت الأعجل منا ،فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه يقول كل منهما أنا قتلته ، قال صلى الله عليه وسلم هل مسحتما سيفكما قالا : لا، قال فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فقال كلاهما قتله وقضى بسلبه لهما ))هلا سمعتم عباد الله حال الشباب زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأين تربى هؤلاء الشباب ؟ وما تربية أبنائنا في يومنا هذا ؟ هل كان يبحث أولئك الشباب عن قصة شعرهم أم عن نوع لبسهم أم ما هي السيارة التي يحلمون بها أم أنهم بحثوا عن دينهم ونبيهم حتى وصلوا إلى هذه الدرجة من الشجاعة والإقدام يقف الواحد منهم على رؤوس أصابع قدميه حتى يظهر طويلا فيخرج للجهاد عباد الله إن الشجاعة والتضحية لا تكون في الخطب الرنانة وفي كثرة الكلام ولا في التصريحات الإعلامية ولا في كثرة الشتم والسباب إنما الشجاعة والتضحية تحتاج إلى تربية وصبر ومصابرة بعد إخلاص النية لله سبحانه وتعالى حتى ينال صاحبها الشهادة فيكون الله قد اتخذه شهيدا من بين الناس أجمعين .فاللهم قوّ عزائمنا وانزع الجبن والخوف من قلوبنا وارزقنا الشهادة في سبيلك إنك أنت نعم المولى ونعم النصير(/3)
... ... ...
الشجر ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1-عظيم خلق الله تعالى للشجروتقلب أحوال الثمر عليها 2-أمثلة وتشبيهات ضربها الشارع للشجرة 3-أن الشجر يسبح بحمد الله بل ويلبي مع المسلمين في حجهم وعمرتهم 4-أن الشجر يستريح بموت الفاجر بل ويعين المسلمين على قتال اليهود 5-صفة شجر الجنة وكيف يغرس المسلم لنفسه شجرا في الجنة 6- شجرة الزقوم وصفها ولمن هي 7- حكم شجر الحرم 8-لا يشرع غرس الأشجار على القبور 9- يجوز تصوير الأشجار 10-حكم أسبوع الشجرة. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
إن الله جل وتعالى خلق من جملة ما خلق هذه الأشجار التى نراها وتفيؤ ظلالها ونستروح من عبيرها، ومنها ما يثمر فيكون نفعه أكثر مما نأكل منها مما أنعمه الله وتعالى وأحله لعباده، قال الله تعالى: أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون .
إن هذه الأشجار في بعض جوانبها لها شبه بالإنسان، ففي كل عام لها حمل ووضع! فهي دائماً في حمل وولادة فتأمل في تكون حمل الشجر وتقلبه من حال إلى حال كتنقل أحوال الجنين المغيب عن الأبصار، ترى العجب العجاب فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين، بينا تراها حطباً قائماً عارياً لا كسوة عليها إذ كساها ربها وخالقها من الزهر أحسن كسوة، ثم سلبها تلك الكسوة وكساها من الورق كسوة هي أثبت من الأولى، ثم أطلع فيها حملها ضعيفاً ضئيلاً بعد أن أخرج ورقها صيانة وثوباً لتلك الثمرة الضعيفة لتستجنّ به من الحر والبرد والآفات، ثم ساق إلى تلك الثمار رزقها وغذّاها في تلك العروق والمجاري فتغذّت به كما يتغذى الطفل بلبان أمه، ثم ربّاها ونماها شيئاً فشيئاً حتى استوت وكملت، وتناهى إدراكها فأخرج ذلك الجني اللذيذ اللين من تلك الحطبة الصماء[1].
ثم هل تأملت إذا نصبت خيمة كيف تمده من كل جانب بالأطناب ليثبت فلا يسقط ولا يتعوج؟ وهكذا الشجر، له عروق ممتدة في الأرض منتشرة إلى كل جانب لتمسكه وتقيمه، وكلما ارتفعت الشجرة إلى أعلى، امتدت عروقها وأطنابها إلى أسفل في كل جهة. ولولا ذلك فكيف كانت تثبت هذه النخيل الطوال الباسقات على الرياح والعواصف[2].
أيها المسلمون: لقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الشجر عدداً من الأمثلة، وشبه به عدة تشبيهات إليك بعضها:
من ذلك تشبيه المسلم بالنخلة من حيث كثرة بركته وخيره وعطائه فعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ. فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ)) رواه البخاري.
وشبه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا وسرعة زوالها بظل شجرة فقال: ((ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركه))ا.
ومن التشبيهات الجميلة التي شبه بها الرسول صلى الله عليه وسلم الشجر وهي تُسقط ورقها، فمرة شبهها بسقوط الخطايا عن المسلم بسببه وفعله وهو بتلفظه للأذكار الشرعية فقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: ((سبحان الله، و الحمد لله، و لا اله الا الله، و الله اكبر تنفض الخطايا، كما تنفض الشجره ورقها)).
ومرة يكون سقوط الخطايا من عدم فعلٍ من المسلم بل بسبب ما يصيبه من مصائب فيصبر عليها محتسباً قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها، الا حط الله له به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها)) روى البخاري في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا وَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. قُلْتُ: إِنَّ ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. قَالَ: ((أَجَلْ. مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلَّا حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ)).(/1)
ومن تشبيهات الرسول صلى الله عليه وسلم بالشجر تشبيه المؤمن في قوة صلابته وثباته بالأشجار القوية التي لاتهزها رياح الفتن وأعاصير الضلالة، بل يثبت ويتمسك بدينه ولو فُعل به ما فعل، أما طبقة المرتزقة من المنافقين وأذنابهم فشبههم الرسول صلى الله عليه وسلم بشجرة الأرز، وشجرة الأرز معروف ضعفها فأدنى ريح تقلعها، لأن المنافقين أصحاب أهواء، وصاحب الهوى لا يثبت على طريق، بل يتقلب بحسب مصالحه الدنيوية نسأل الله العافية قال عليه الصلاة والسلام: ((مثل المؤمن كمثل الزرع، لا تزال الريح تفيؤه، و لا يزال المؤمن يصيبه بلاء، و مثل المنافق كمثل شجرة الأرز، لا يهتز حتى يستحصد))[3].
قال الله تعالى: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء .
ومن طرائف أحاديث التشبيه بالشجر ما مثلت به عائشة رضي الله عنها وعن أبيها نفسها بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا وَوَجَدْتَ شَجَرًا لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا. فِي أَيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ قَالَ: ((فِي الَّذِي لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا)) رواه البخاري.
أيها المسلمون: أن الشجر كباقي المخلوقات يسبح بحمد ربه كما قال جل وعز: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم . وقال سبحانه: والنجم والشجر يسجدان لكنك قد تعجب إذا علمت بأن الشجر أيضاً يلبي مع المسلمين في حجهم وعمرتهم، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا. بل والأعجب من هذا أن هذا الشجر يستريح إذا أهلك الله فاجراً من فجّار الأرض.
نعم، هذا الشجر الذي نراه ونتعامل معه يومياً يتفاعل مع هذا الدين في بعض القضايا التي مات فيها إحاسيس كثير من أبناء هذه الأمة، يستريح إذا مات فاجر عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، محارب للدين وأهله. فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَال: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ: ((الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ. وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ)) رواه البخاري. كم من فاجر في هذه الأرض ينصب العداوة لهذا الدين ولأهله العاملون المتمسكون به، ثم يأتي الخبر بهلاكه ولا نحس بالارتياح الذي تحسه الأشجار فنعوذ بالله من موت الشعور، وضعف الأحاسيس تجاه قضايا الدين.
بل إن من عجائب تفاعل الشجر ضد أعداء الدين، ما جاء في صحيح مسلم من أن الشجر يتكلم، ينطقه الله عز وجل بقدرته في آخر الزمان عندما يقضي الله على اليهود بالهلاك، ويكون التمكين لأهل الايمان العاملون به، عندما ترتفع راية الاسلام مرة أخرى في آخر الزمان وتكون الغلبة للدين وأهله، فيبدأ المسلمون في قتل اليهود على أرض فلسطين فيختبأ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيتكلم الحجر والشجر بقدرة من ينطق الجماد إذا أراد. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ: هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ)).
أيها المسلمون: إن من جملة ما أنعم الله به على عباده في الجنة الأشجار، إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام ما يقطعها، وهي شجرة طوبى، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها. بل إن أرواح المؤمنين كما ثبت في الخبر الصحيح عن الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه، أن أرواحهم في طير خضر تعلق بشجر الجنة حتى يبعث الله هذه الأجساد يوم يبعثها. وقال في حديث آخر: ((تكون النسم (وهي أرواح المؤمنين) طيراً تعلق بالشجر، حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب)).
قال ابن القيم رحمه الله وهو يصف أشجار الجنة:(/2)
أشجارها نوعان منها ما له في هذ الدنيا مثال ذان
كالسدر أصل النبق مخضود مكا ن الشوك من ثمر ذوي ألوان
هذا وظل السدر من خير الضلال ونفعه الترويح للأبدان
والطلح وهو الموز منضود كما نضدت يد بأصابع وبنان
أو أنه شجر البوادي موقراً حملاً مكان الشوك في الأغصان
وكذلك الرمان والأعناب التي منها القطوف دوان
هذا ونوع ما له في هذه الدنيا نظير كي يرى بعيان
يكفي من التعداد قول إلهنا من كل فاكهة بها زوجان[4]
وهل تريد يا عبدالله أن يكون لك شجر في الجنة؟ يكون ذلك بإذن الله عز وجل. أتدري كيف يكون ذلك؟ يكون بذكر الله عز وجل، هذا الأمر اليسير على من وفق الله لسانه أن يكون دائماً رطباً بذكر الله، وعسير على من حرم ذلك. يقول صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلك على غراس، هو خير من هذا؟ تقول: سبحان الله، و الحمد لله، ولا اله الا الله، والله اكبر، يغرس لك بكل كلمة منها شجرة فى الجنة)).
وفي المقابل فإن أهل النار أيضاً لهم شجر، ولكن أيّ شجر؟ ذكر الله شجرة الزقوم في سورة الدخان طعام أهل النار إن شجرة الزقوم طعام الأثيم وفي الاسراء والشجرة الملعونة في القرآن وفي الصافات أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم إنّا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره على آية الاسراء: وأما الشجرة الملعونة في القرآن فهي الزقوم كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار، ورأى شجرة الزقوم فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل عليه لعائن الله: هاتوا تمراً وزبداً وجعل يأكل من هذا ويقول: تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا .[5] نسأل الله العافية.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. . .
[1] مفتاح دار السعادة 2/37
[2] مفتاح دار السعادة 2/103
[3] نرى والله أعلم أن وجه الشبه في الحديث بين المنافق والأرز أن المنافق لا ينتفع في البلاء الذي يصيبه كما لا تنتفع ولا تتأثر شجرة الأرز إلا بالسقوط.
في حين أن المسلم يستفيد من البلاء ويستجيب له كما تستجيب الخامة من الزرع أي الضعيفة (كما في رواية للحديث عند الدارمي). فريق المنبر.
[4] نونية ابن القيم 2/335
[5] فتاوى اللجنة الدائمة 4/246 ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:
وهذه بعض الأحكام المتعلقة بالأشجار:
قال البخاري رحمه الله: بَاب لَا يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَم. ثم ساق حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ وَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ)).
قال الفقهاء رحمهم الله لايجوز قطع شجر الحرم الذي لم ينبته الآدمي، واختلفوا فيما أنبته الآدمي، والظاهر جواز قطعه. والحديث لم يفرق بين الأخضر واليابس، ولكن جوّز الفقهاء قطع اليابس، وقالوا: لأنه بمنزلة الميت، وعلى هذا فسياق الحديث يدل على أنه إنما أراد الأخضر. وفي الحديث دليل على أنه إذا انقلعت الشجرة بنفسها، أو انكسر الغصن، جاز الانتفاع به، لأنه لم يعضده هو، وهذا لا نزاع فيه. فإن قلعها قالع، ثم تركها، فهل يجوز لغيره أن ينتفع بها؟ سئل الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال: من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها، وقال لم أسمع إذا قطعه ينتفع به[1].
ومن الأحكام: أنه لا يشرع غرس الأشجار على القبور، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولا خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم. أما ما فعله مع القبرين اللذين أطلعه الله على عذابهما من غرس الجريد فهذا خاص به صلى الله عليه وسلم وخاص بالقبرين، لأنه لم يفعل ذلك مع غيرهما، وليس للمسلمين أن يحدثوا شيئاً من القربات لم يشرعه الله، قال الله تعالى: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [2].(/3)
ومن الأحكام: أنه لما حرم الاسلام تصوير ذوات الأرواح أجاز تصوير الأشجار وما لا نفس له ففي صحيح مسلم عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ فَأَفْتِنِي فِيهَا فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ قَالَ: أُنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ))، وقَالَ: إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاصْنَعْ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ.
أيها الأحبة: وقد سئل بعض علمائنا عما يقام من احتفالات تحت مسمى أسبوع الشجرة. فكان الجواب:
هذه الأسابيع لا أعلم لها أصلاً من الشرع وإذا اتخذت على سبيل التعبد وخصصت بأيام معلومة تصير كالأعياد فإنها تلتحق بالبدعة، لأن كل شيء يتعبد به الانسان عز وجل وهو غير وارد في كتا ب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه من البدع. لكن الذين نظموها يقولون: إن المقصود بذلك هو تنشيط الناس على هذه الأعمال التي جعلوا لها هذه الأسابيع وتذكيرهم بأهميتها. ويجب أن ينظر في هذا الأمر وهل هذا مسوّغ لهذه الأسابيع أو ليس بمسوّغ[3].
وختاماً فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون فتن في آخر الزمان، القاعد فيها خير من الماشي، ومن جملة ما أوصى به عليه الصلاة والسلام حال الفتن أن يعتزلها المسلم ولو أن يعض على أصل شجرة. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: تكون هدنة على دخن: ... ثم تكون دعاة الضلالة، فإن رأيت يومئذ خليفة الله فى الارض فالزمه، و إن نهك جسمك وأخذ مالك، وإن لم تره فاضرب فى الأرض، ولو أن تموت و أنت عاض على جذل شجرة.
[1] زاد المعاد 3/449
[2] مجموع فتاوى بن باز 5/407
[3] مجموع الفتاوى 2/300 ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
الشخصية المتميزة للمسلم
أحمد سعد الدين
تعني الشخصية في مفهومها العام ملامح الإنسان وصفاته التي تميزه عن غيره،ولا يقتصر هذا المفهوم على الصفات البدنية، إنما يتعداها إلى الصفات النفسية والاجتماعية والعقلية، وقد صارت الشخصية علماً على السمات الخاصة التي يتميز بها كل إنسان عن الآخر في عقيدته وعواطفه ومشاعره وسلوكه وعلاقته الاجتماعية وطرائق تفكيره وسائر تصرفاته الإرادية، لأن هذه هي المقومات الشخصية للإنسان ومحار الحكم على شخصيته. إن تفاوت الناس في صفاتهم البدنية يرجع إلى عوامل الوراثة والبيئة، وهو تفاوت محمود لا يغير شيئاً من خصائص الإنسان الجسمية،ووظائفه العضوية، وقلما يكون له تأثير في الصفات النفسية إلا لدى أصحاب العاهات من الشواذ، والنادر لا حكم له. والحياة الإنسانية لا تقوم بالمقاييس الحسية الظاهرة، إنما تقوم بمعيار العقيدة والقيم الأخلاقية، والمستوى الفكري، لأن هذه هي خصائص الإنسان العاقل المكلف الرشيد. وبهذا المفهوم الخاص تتميز شخصية المسلم عن غيره. فهي شخصية مؤمنة مهتدية، تتجه بمشاعرها وأحاسيسها لله تعالى، تستلهم منه الرشد والسداد،وتهتدي بنور الإيمان في سلوكها،وتتخذ الشريعة الإسلامية نبراسا لها في تصرفاتها،وتحتكم إليها في كل شؤون حياتها. وهي شخصية متميزة بالعقيدة الإسلامية التي تؤمن بها.وتخلط شغاف قلبها،وتمتزج بأحاسيسها،فتعيش من أجلها،وتجعل حياتها وقفاً عليها،إذ لا قيمة للحياة بدون عقيدة. والعقيدة لدى المسلم هي المعيار الأساسي للعمل.فأي عمل لا ينبعث من العقيدة لا قيمة له في ميزان الإسلام مهما كان جليلاً نافعاً يعود على البشرية بالخير.{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( ) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ }سورة التوبة: 17-18. وهي شخصية متميزة بسلوكها على حساب دينها الإسلامي، تقف عند حدود الإسلام وشرائعه، عبادة ومعاملة وأخلاقاً لا تجامل، ولا تداري ولا تماري ولا تدع لأي ضغط اجتماعي فرصة للتأثير عليها. حتى تتهاون في شيء من قيمها، وهي شخصية تعتز بمقوماتها من غير كبرياء، فلا تلين ولا تضعف، ولا تذوب في أي بيئة تعيش فيها، أو مجتمع يضمها، إنها شخصية تؤثر في غيرها، ولا يؤثر عليها، وان استفادت بكل خير، "فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها". فالشخص المسلم الذي يخضع للعادات والتقاليد الفاسدة التي تفرض وجودها بالانتشار في بعض المجتمعات، فيجاري أحوال الناس في فسادهم، أو يعيش في مجتمعات غير إسلامية لمقاصد سليمة فلا يلبث طويلاً حتى ينخرط في سلكها، ويتقبل أوضاع حياتها التي تتنافى مع عقيدته أو دينه، هذا الشخص أو ذاك لا شخصية له لأنه تهاون في مقومات شخصيته الإسلامية وأهدر مثلها. وجماع ما تتميز به شخصية المسلم أن يكون رجل عقيدة، ترى حياته صورة صادقة لها، يقرأ الناس فيها كتاب الإسلام مسطورا في آرائه وأفكاره وأخلاقه وسلوكه، حيث تكون نظرته إلى الكون والإنسان والحياة نظرة إسلامية، وتكون المثل الذي يحتديها والفضائل التي يتحلى بها أخلاقاً قرآنية ويستقي أحكامه على الأمور كلها من هدي الإسلام وشريعته، ويأخذ نفسه بعد هذا يدين لله في أعماله وشؤون حياته، يفتدي عقيدته بنفسه وماله، ويفي بالبيعة وفاء المؤمنين الصادقين { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } سورة التوبة الآية: 111 .
أسس بناء الشخصية المسلمة :(/1)
من الجدير بالذكر أن الإيمان الحق بدفع إلى السلوك المستقيم حيث جاء الإنسان إلى الحياة ومعه فطرة نقية مهيأة لقبول الحق وكل تغيير لنقاء هذه الفطرة وصفائها ما هو إلا تشويه لشخصية المسلم الذي ينبغي أن يتجه اتجاها مستقيماً لا عوج فيه، وهو الاتجاه نحو الله تعالى والاستسلام له والاستعانة منه في كل أمور وشجون الحياة. إن الأساس الأول لشخصية المسلم هو الأسوة الحسنة إذ يبدأ المسلم تكوين شخصيته الإسلامية سلوكا وتطبيقا من القرآن الكريم ومنهج الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأهل بيته الكرام (رضي الله عنهم) ، فقد ذكر القرآن ، الصفات الأساسية التي تشكل صورة واضحة الملامح لشخصية المؤمن كما أرادها الله تعالى وهي الصورة التي تمثلها شخصية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لآن خلقه القرآن ولآن الله تعالى قد أدبه فأحسن تأديبه. إما الأساس الثاني فهو العلم حيث تتسامى شخصية المسلم بالعلم الذي يكشف له طريق الحق والخير وينير مسالك الحياة فيمضي فيها على هدى، فتتميز شخصيته عن غيره بالفكر والعلم المفيد. ومن أسس الشخصية الإسلامية ، العبادات فهي دعائم الإسلام وهي التطبيق العملي للعقيدة والعبادات بدورها تثمر السلوك الصحيح والخلق القويم وترسم لشخصية المسلم، الخطوط العريضة فيعيش حياته موصولا بربه، حانيا على مجتمعه، ففي كل عبادة من عبادات الإسلام يستشعر بنبض الإيمان في أعماقه فلا ينبعث من حياته إلا الخير. ويعتبر العمل من الأسس الهامة في بناء شخصية المسلم، فالمسلم العامل له في الحياة أهميته مهما كان عمله مادام عملا شريفا وما دام كسبه حلالا فهو يشارك في عمارة الحياة وازدهارها ويعمل على دفعها إلى الإمام.
وتنهض شخصية المسلم على أساس العمل بإتقانه له، أخروياً كان أو دنيويا. ثم يأتي الجهاد كأساس أخير لشخصية المسلم فهو شجاع لا يعرف الجبن إلى قلبه سبيلا. يتوجه بعقيدة راسخة يرى من خلالها أن الأجل واحد، لذا فهو يدافع عن الدين وعن النفس والعرض والأرض والمال وفي قلبه يقين لا يتزعزع. من ملامح شخصية المسلم، العزة من غير تكبر فهو لا يذل ولا يستكين لأحد، وعزته هذه تتنافى مع الغرور والاستعلاء. كما يتميز المسلم باستقلال الشخصية فهو يعتنق الحق ويسير على ضوئه ويعمل في دائرته دون أن يكون هناك أي تأثير خارجي عليه ، وقد حرص الإسلام على تحرير الشخصية لئلا تستبد بها الآفات أو تحتلها الأباطيل والنزعات، فليس لأحد أن يخضع إلا لله، ودعا إلى تحرير الشخصية من العادات السيئة والتقاليد المرفوضة، وحث المسلم إلى تحرير شخصيته من الخوف والقلق. ومن ملامح شخصية المسلم أيضاً، الثبات في العسر وفي اليسر، فهو شاكر في السراء، صابر في الضراء . وللمسلم شخصيته المعتدلة نحو المال الذي استودعه الله إياه فهو يتصرف فيه بالطرق المشروعة من غير إسراف أو تقتير ، سائرا على المنهج القرآني الذي رسمه الله تعالى في قوله: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } الفرقان: 67.(/2)
ولشخصية المسلم سمة من أرفع السمات التي تميزه عن غيره، أنها القوة الدافعة قوة الإيمان التي تستحثه لارتياد مسالك الخير وتجعل منه إنساناً قوياً لا يخشى في الحق لومة لائم ، وهو ثابت الشخصية لا تزلزله عواصف الحياة، انه يستمد ثباته من عقيدته الثابتة التي تمنحه القوة والرسوخ ولذا نرى الإنسان المسلم صاحب العقيدة الراسخة، ثابتاً في كل أحواله وإعماله وأفعاله، يتحلى بالأخلاق والقيم النابضة. ومن ابرز صفات المسلم، الشجاعة الأدبية فهي إحدى قيم الإسلام الهامة، والشجاعة الأدبية تحتاجها مواقف الحياة الفاضلة، كجهاد أهل الباطل والزيغ والجهر بكلمة الحق، فالمسلم الذي يعتمد على ربه لا يخاف من مخلوق وإنما يخاف ربه وحده القادر على كل شيء . ويعمل الإسلام على إلا يتعرض المسلم إلى الأذى بأية صورة ، ووجوب المحبة والمودة لأخيه المسلم وان يؤثر أخاه على نفسه وعندئذ ترتقي شخصيته الإيمانية ويستشعر عظمة الإسلام في كل كيانه. ولشخصية المسلم مظهر معين يتسم بالهدوء، فهو لا يقوم إلا على ما يطمئن إليه، كما يتميز بصفاء القلب ونقاء سريرته، فبصفاء القلب وصلاحه تستقيم الجوارح ويتهذب السلوك، وهو قادر على ضبط النفس، فالإنسان القائم على نفسه، الحاكم لرغباتها الكابح لجماحها، إنسان قوي الشخصية. والمسلم غني النفس راض بما في يده، قانع بما عنده لا يتطلع إلى غيره. وهناك عوائق تعترض النفس البشرية وتعوق أمنها وراحتها فإذا ما اهتدى بهدى الله ويمم وجهه شطر الإيمان وجد العقيدة الإسلامية، عاصمة له يقول عز وجل: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } الأنعام: 82. ويعنى الإسلام ببناء الشخصية على الصدق منذ فجر الصبا ويدعو الآباء والأمهات إلى تنشئة الأبناء عليه منذ صغرهم. ومن سمات شخصية المسلم الحياء وهو شعبة من الإيمان وتتسم شخصية المسلم بأعلى أنواع الحياء وهو الحياء من الله تعالى كما تتميز شخصية المسلم بالأمانة حيث يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : " لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له " ولعظمة الأمانة وضخامتها وما تشتمل عليه من أحكام الدين الشرعية فأن ضعاف الشخصية لا يستطيعون حملها. كما تتميز شخصية المسلم بالتعاون والعفة نظرا لحرصه على حفظ دينه وعرضه وكرامته وشرفه، والمبادرة بالعمل الصالح والوفاء والشكر والبر وقدرته على توثيق العلاقات الإنسانية والاجتماعية والعفو عند المقدرة والصبر وغير ذلك من السمات.(/3)
الشخصية المسلمة معتدلة
تتضح الرؤية الاسلامية في الاعداد وبناء الشخصية المعتدلة فلنقرأ هذه القيم والمبادي في آيات الكتاب العزيز:
قال تعالى:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً). (البقرة/143)
(والذين اذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً). (الفرقان/67)
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله اليكَ ولا تبغ الفساد في الارض إن الله لايحب المفسدين). (القصص/77)
(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). (الحشر/9)
(فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولاتطغوا). (هود/112)
وبالتأمل في هذه النصوص المباركة وغيرها، نستطيع أن نشخص أهم مرتكزات التوازن الاتي:
1 ـ التوازن بين الدنيا والاخرة.
2 ـ التوازن بين الحاجات الجسدية والعقلية والنفسية.
3 ـ التوازن والاعتدال في السلوك والممارسات والمواقف.
4 ـ التوازن بين الفرد والمجتمع.
ولقد تبنى القرآن الدعوة الى الاعتدال والاستقامة والتوازن في مجالات الحياة كلها، من غير افراط ولاتفريط.
فقد دعا القرآن الانسان الى أن يوازن بين طلب الدنيا وطلب الاخرة بقوله: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولاتنس نصيبك من الدنيا).
بل جعل الله الدنيا طريقاً الى الاخرة، فليس هناك فصل بين عمل الدنيا وعمل الاخرة.
فكل فعل الانسان في عالم الدنيا مرتبط بعالم الاخرة. لذلك حرم الاسلام الرهبانية وحرمان النفس مما أحل الله من الطّيبات. كما رسم للانسان منهاجاً عبادياً متكاملاً يجعله في دائرة العبودية لله سبحانه، والارتباط بعالم الاخرة في كل فعل واتجاه; لئلا يستغرق في ملذات الدنيا، ويترك الاعداد للاخرة.
ومن مظاهر الاعتدال والاتزان في القيم والمبادي والاحكام الاسلامية هو الموازنة بين نزعات النفس المختلفة وحاجاتها، وتوظيف طاقاتها. فقد دعا الى اشباع حاجات الجسد المادية والغريزية من الطعام والشراب والجنس والراحة.. الخ، دونما افراط أو تفريط.
والى جانب دعوته الى اشباع حاجات الجسم المادية دعا وبعناية فائقة الى احترام العقل، وتلبية حاجاته من العلم والمعرفة، وفسح المجال امام عمليات الفكر والتفكير المنتج، ورسم أمامه حدود الالتزام واسسه. وكما أعطى العقل دوره في التفكير والفهم والاستنتاج، اعطى التجربة والمعارف الحسية دورها الواقعي في الحياة، فلم ينكر دور العقل العلمي، ولم يسقط قيمة التجارب الحسية والميدانية، بل حدد لكل منهما ميدانه ودوره العلمي القادر على اكتشافه وتحصيله.
وحين تعامل مع الجانب النفسي من الانسان لم يعتبر الانسان مجموعة من الاجهزة والتشكيلات المادية والعضوية، بل تعامل معه كانسان يحمل الاحاسيس والمشاعر الوجدانية والعواطف الانسانية من الحب والكراهية والرضا والسخط والاحساس بالكرامة والقيم الاعتبارية..الخ.
ولكي لايطغى بعض الاحاسيس والانفعالات الوجدانية والعواطف على بعض، فتختل حركة النفس وسلوكية الانسان دعا الى الاعتدال في الحب والكراهية وفي الغضب والسخط والرضا...الخ، ونظّم الانفعالات والمواقف النفسية تلك على أساس الالتزام بالقيم، لتبقى حركة الانسان في دائرة الاعتدال والاستقامة النفسية.
وهكذا يضع الاسلام خطته العملية في الموازنة والاعتدال لتعمل الاجهزة الاربعة: العقل والنفس والضمير والجسد بتوازن وتنسيق واستقامة.
ومن هذه الاسس انطلق في تنظيم السلوك في اتجاهاته المختلفة، فدعا الى الانفاق المعتدل، وتناول الطعام والشراب بشكل معتدل، وممارسة العمل والكسب والجنس والراحة والنوم بشكل معتدل.
لذا حرّم الاسراف والتبذير والتقتير، ودعا الى عدم المبالغة في الحب والكراهية، وكره كثرة النوم والبطالة، ودعا الى الاعتدال في الكسب المادي وطلب المعيشة وعدم ارهاق الجسم..الخ.
وبذا جاء منهاجه معتدلاً متوازناً في بناء الشخصية الانسانية كوحدة بيولوجية وسيكولوجية وايديولوجية وفسيولوجية متكاملة.
وبعد أن حدد الاسلام أسس بناء الشخصية المتوازنة ذاتياً اتجه الى تحقيق التوازن في الحقوق والواجبات بين الفرد والجماعة، ليوازن بين النزعة الفردية والمصلحة الاجتماعية.
فالانسان ليس وحدة حياتية مستقلة عن بقية أفراد المجتمع، بل لابد له أن يعيش ضمن دائرة المجتمع، ويتبادل المنافع والمصالح، وينشىء العلاقات، ومن تلك الروابط نشأت الحقوق والواجبات وكان من مسؤولية القانون والاخلاق أن ينظّما الحقوق والواجبات ومسألة الوظيفة الاجتماعية للانسان.
لذا دعا الى الايثار لتهذيب النزعة الذاتية. وتقديم مصلحة الجماعة على النفس، قال تعالى واصفاً المؤمنين الملتزمين:
(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
وتحدث الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) عن التكامل والاهتمام بمصلحة الجماعة بقوله: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى).(/1)
(لايؤمن أحدكم حتى يحب لاخيه مايحب لنفسه).
(خير الناس من نفع الناس).
(من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم).
إن هذه المجموعة من النصوص والمفاهيم الاسلامية توضح الموازنة بين الفردية والاجتماعية، وتعمل على توعية الانسان المسلم بالوعي الاجتماعي.
وتتحمل التربية مسؤولية توظيف تلك المبادي في منهج عملها، وتنشئة الشخصية المتوازنة بكامل نزعاتها وعلاقتها الانساني(/2)
الشرعية الدولية في الميزان
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تبارك وتعالى ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله )
وقال عز وجل ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ؛ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً ) النساء
والصلاة والسلام على معلم الناس الخير ؛ محمدٍ وآله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ..
وبعد ،، فإن الحاجة ماسة لإلقاء الضوء على موضوع التحاكم للقوانين والأعراف الدولية .. تلك التي اختار لها مروجوها والداعون لها ؛ اسماً يصرح بمرادهم منها .. فأسموها ( الشرعية ) الدولية .. يعني أنها شرع يحكم علاقات الدول والأمم ..
فهل هذا التشريع المتداول مقبول في ميزان الشريعة ، وما هو موقف الإسلام العقائدي من هذا الواقع الضاغط الأثيم ؟؟!
في الحقيقة .. أن الكثير من الناس ؛ لا ينتبه إلى خطورة تلك العبارات التي أصبحت تتردد على أسماعنا كلما حاول الواحد منا متابعة أو استيعاب ما يدور من حولنا في العالم الخارجي ؛ من مواقف وإجراءات وقرارات لها التأثير المباشر في صياغة مداركنا وصناعة حياتنا وتدبير معاشنا ، وصبغها بلون القرار وما يستهدف واضعوه من غايات ومقاصد ، وما يترتب عليه من نتائج وآثار ..!!
" ضرورة احترام الشرعية الدولية " .. " وجوب التحاكم للشرعية الدولية " .. " تحريم وتجريم الخروج على الشرعية الدولية "
لقد غزت هذه المصطلحات خصوصيات أمتنا ، واخترقت جدار هويتنا ؛ حتى لاكتها وجرت بها ألسنة العلماء والدعاة وكثير من المتدينين .. كأنها شئ طبيعي ؛ لا يتعارض مع ثقافتنا وديننا وهويتنا وانتمائنا العقائدي ..
إن أمر هذه الجاهلية لا يعني أمة الإسلام كثيراً ، لو اقتصر أمر مصطلحاتهم على نظامهم وقوانينهم وأعرافهم المتداولة .. لولا أنهم جعلوا من شرعيتهم " شريعةً ملزمةً " يحاكموننا إليها ونظاماً يلزموننا به .
نعم إن تلك التشريعات لم توضع وفق نظام الإسلام وثقافته ، ولم تراع خصوصية أمة التوحيد .. ولكنها من الناحية الواقعية تشملنا وتفرض علينا .. لا سيما وأن آلة الإعلام الطاغوتي في مجتمعاتنا تسعى جهدها في تلميع وترسيخ مفاهيم الإحترام والإنسجام والإلتزام بنصوص ودلالات وقرارات الشرعية الدولية ..
فهل هي فعلاً واجبة الإحترام ، وهل هي ملزمة في الإحتكام ، أو عادلة على الدوام ؟؟
أليست هذه القوانين والنظم هي التي صاغتها الدول المنشئة لما يسمى بمنظمة " الأمم المتحدة " وهي التي قامت على أكتاف من تحالفوا وانتصروا في الحرب العالمية الثانية ( أمريكا ، وبريطانيا ، روسيا ) ؛ حيث تعاقدوا - بالإضافة لفرنسا والصين - وتعاهدوا جميعاً على تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ ومصالح .. " محميات طبيعية " ..
لقد صاغت يومئذ تلك الدول بمفردها ما أطلق عليه " ميثاق الأمم المتحدة " ؛ لتكون له السيادة في حفظ مصالحهم ، والمرجعية العليا التي تتحكم في كل قضايا العالم ، بحيث يستمد منه واضعوه الأحكام والنظم ، ويستندون عليه في الإجراءات والتحركات .!!
وعلى هذا الأساس ،، فإن ميثاق الأمم المتحدة ليس مجرد وثيقة منشئة لمنظمة دولية ؛ لتحدد قواعد عملها ومجالاته ، بل هو أكثر من ذلك بكثير ..!؟
إن خبراء القانون الدولي ، يعلنون بكل صراحة ووضوح " أن الميثاق هو أعلى مراتب المعاهدات الدولية ، وأكثر قواعد القانون الدولي سمواً ومكانةً ، وأنه حاكم وليس بمحكوم " ، ولذلك فقد نصت المادة 103 منه على أنه " إذا تعارضت الإلتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم التحدة وفقاً لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي يرتبطون به ، فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق " !!؟
ومعنى ذلك أنه لا يجوز للدول الأعضاء أن تبرم أي اتفاق دولي تتعارض أحكامه مع القواعد والأحكام الواردة في الميثاق ، وعليه فإن أي سلوك أو فعل لأي دولة في العالم يتناقض أو يشكل خرقاً لميثاق الأمم المتحدة ؛ يصبح فعلاً منافياً للقانون الدولي و خروجاً على الشرعية الدولية ..
فإذا ما اتضح ذلك ،، فيمكنك أيها القارئ الكريم أن تستحضر الكثير من الأحكام والأوامر والمواقف الواجبة في شريعة الإسلام ؛ لتعلم أنها " من وجهة نظر الشرعية الدولية " محرمة ومجرمة ، وتشكل خروجاً على شريعة الطاغوت العالمية ..
- فلو أن مارقاً من المرتدين ، انشقوا على دولة الموحدين ، وقاموا بحركة انفصالية ؛ فاقتطعوا أرضاً وأعلنوا دولةً .. ثم شاءت الدول الكبرى أو بعضها أن تعترف بتلك الدولة المنشقة حتى صارت عضواً في المنظمة الدولية ، لما كان بمستطاع دولة الإسلام أن أن تنصب في وجه أولئك المرتدين أو الخارجين سيف القتل أو سوط التأديب ..!!(/1)
- ولو أن طائفة من الملحدين احتلوا أرضاً إسلامية وأعلنوا فيها دولةً لهم ( كما هو الواقع ) .. ثم أرادت مشيئة الدول الكبرى أو بعضها أن تعترف بهذا الإغتصاب - كما هو حاصل فعلاً في فلسطين - لما كان بإمكان المسلمين كلهم أو بعضهم ، أن يعيدوا هذه الأرض المغتصبة التي أصبحت " دولة مستقلة ذات سيادة ، ولشعبها الحق في تقرير المصير " ..!!
وهكذا تتشكل خريطة العالم الإسلامي على حسب ما يتقرر في أروقة هيئة الأمم المتحدة ضدنا ..!!
- أما لو صدر قرار ضد أي دولة أو منظمة أو حركة مخالفة - كما حصل من تجميد أرصدة وممتلكات ا
الجماعات الإسلامية إثر أحداث أبراج نيويورك - .. فإنه يتوجب على الدول الأعضاء أن تلتزم به مهما كان ظالماً وجائراً ؛ لأنه ينبغي عليها دائماً أن تتأدب بآداب عضوية المنظمة الدولية ..؟؟
وهكذا يمكنك أن تقيس على ذلك الكثير مما تسمعه الأذن ، وتبصره العين ، وتزكم برائحته الأنوف ؛ مما تدور رحاه على عالم الإسلام وأوطان المسلمين .
لقد آل أمر المنظمة الدولية إلى أن أصبحت تنظيم شمولي يرعى مصالح المؤسسين ، ويحفظ توازنات المرحلة وفق شبكة معقدة من العلاقات الحكومية وغير الحكومية ، وقد استقرت المنظومة لتعكس الإطار المؤسسي الذي تكون له أهلية التوجيه والتخطيط والإلزام في كافة مناحي الأنشطة الإقتصادية والتعليمية والبيئية والإجتماعية ، وخصوصاً الأسرية منها لدى شعوب العالم .
ولقد بلغ حال التكيف والإنصهار في واقع الدول الأعضاء ، إلى درجة أنها أصبحت صالحة لأن تتعامل معها الدول الكبرى كعجينة تقبل التشكل وفق أهوائها ، وبما يخدم مصالحها وأنانيتها ومزاجها اليهودي الآسن ..
مؤتمر " الأرض " .. مؤتمر " السكان " .. مؤتمر " المرأة " ..!!
إن نظرة متأنيةً لمضمون هذه المؤتمرات التي انعقدت وستنعقد تحت مظلة الأمم المتحدة ؛ تشهد على هذا التطور النوعي في اتجاهات التفكير والتوجيه والتأثير والتحكم .. قد جعلت منها أداةً في يد المؤسسين الكبار ، بما محصلته النهائية حكومة عالمية ، وتبعية وعبودية لكل من أقر لهذه الشرعية الطاغوتية المتجبرة .. من المستضعفين والمسلوبين والراكعين من خدم التشريفات برتبهم المتفاوتة من ملوك وأمراء ورؤساء جمهوريات ، وأحزاب وكتل وتنظيمات ، وتيارات وأفكار ومواءمات ..
فاليوم توصيات .. وغداً قرارات .. ثم تأتي التشريعات والإلزامات ..
فهل يعقل أن يروج لهذا الضلال والظلم والعدوان أبناء الإسلام ودعاة المسلمين .. ؟؟
هل يمكن أن نقبل بأن تدعى الشعوب المسلمة إلى إحترام شرعية المنظمة الدولية العالمية والإحتكام إليها ..؟؟
إن مسؤولية إحقاق الحق ، وإبطال الباطل تقتضي من أهل الغيرة على الإسلام ألا يمرروا هذا الواقع المتعفن على أنه رؤية مشروعة ومسلك مستقيم .. إن الفرق كبير بين أن تضطر إلى أكل لحم الخنزير ، وبين أن تستحل أكله وإن لم تذقه ..!!
إنها أيها الإخوة والأخوات .. دعوة لاستبانة خصائص ومقومات وآثار تلك الشرعية المزعومة ، والتي يراد منا احترامها والتحاكم إليها والركون لها ..
كما أنها دعوة لإعادة النظر في موقفنا من نصوص الشريعة وقاعدتها فيما يتعلق بقضية التحاكم إلى غير الشرعية الإسلامية ، ولو كانت هذه الشرعية هي ما تعارف عليه معسكر الجاهلية وفرضه علينا وعلى مستضعفي الأمم ، ثم أسماه " الشرعية الدولية " ..
قال تعالى ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ، ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون .. وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ، وانتظروا إنا منتظرون ) هود .
هذا ما لزم ،، وتقبلوا تحياتي
أخوكم المهاجر(/2)
الشرك- أصله ونشأته
الحمد لله الذي هدانا للإسلام،وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله،والصلاة والسلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه.
أمَّا بعدُ:
خلق اللهُ-تعالى-هذا الإنسانَ على فطرة التوحيد والإسلام مُتهيئاً لقبول الدين1، فلا يعدل عن هذا وينحرف إلا لآفة تنحرف بهذه الفطرة،وذلك عندما تتضافرُ جملة من العوامل التي تساعد على الانحراف،فيقع الإنسان عندئذٍ في واحدةٍ من صوره كالشرك والنفاق.
وسنقف-إنْ شاء اللهُ تعالى-على واحدة من هاتين الصورتين بكلمةٍ تعريفيةٍ مُوجزة،تحدد معناها اللغويَّ والاصطلاحيَّ، وأصلها ونشأتها، وبعض صورها.
إذا استنطقنا كتب اللغة وجدنا أن (الشين والراء والكاف) أصلان يدل أحدهما على مقارنة وخلاف انفراد، والآخر يدل على امتداد واستقامة. فالأول الشركة، وهو أن يكون الشيء بين اثنين، لا ينفرد به واحد منهما. يُقال:"شاركتُ فلاناً في الشيء؛ إذا صرتُ شريكه،وأشركتُ فلاناً: إذا جعلته شريكاً لك". يُقال: أشرك بالله: جعل له شريكاً في ملكه-تعالى الله عن ذلك-... ومن عدل باللهِ-تعالى-شيئاً من خلقه فهو كافر مشرك؛ لأن الله وحده لا شريك له، ولاندّ له ولا نديد2.
وفي الاصطلاح الشرعي: يطلق لفظ الشرك على نوعين:أحدهما: إثبات شريك لله-تعالى-، وهو الشرك الأكبر.والثاني: مراعاة غير الله-تعالى- في بعض الأمور،وهو الشِّركُ الأصغر. فالشِّركُ الأكبرُ هو أن يتخذ مع الله-تعالى-،أو من دون الله، إلهاً آخر، يعبده بنوع من أنواع العبادة.
قال ابنُ القيِّم:"والشِّرك الأكبر لا يغفره اللهُ إلا بالتوبةِ منه، وهو أنْ يتخذ من دُون الله نِدَّاً يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين بربِّ العالمين"3. وقال الشَّيخُ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ:" الشرك قد عرَّفه النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم-بتعريف جامع،كما في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله،أي الذنب أعظم ؟ قال:(أن تجعل لله نداً وهو خلقك)4، والند: المثل والشبيه، فمن صرف شيئاً من العبادات لغير الله، فقد أشرك به شركاً يُبطل التَّوحيدَ ويُنافيه"5.
وعرَّف الشيخ عبد الرحمن السعدي هذا الشرك بتعريف جامع مانع، فقال:"إنَّ حدَّ الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده؛ أنْ يصرفَ العبدُ نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله، فكلُّ اعتقادٍ أو قولٍ أو عملٍ ثبت أنه مأمورٌ به من الشارع، فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر، فعليك بهذا الضابط الذي لا يشذ عنه شيء".6
وهذا أعظم الشرك والظلم، ولا يغفره الله لصاحبه إن مات عليه، لأنه يناقض أصلَ التوحيد ويخرج صاحبه عن الملّة،ويحبط عمله،ويخلِّد في النار. وإذا أطلقت كلمة الشرك فإنها تنصرف إلى هذا النوع منه.
نشأةُ الشِّركِ:
روى البخاريُّ في صحيحه عن ابن عباس-رضي الله عنهما-،قال:(صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غُطَيْفٍ بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان،وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد،حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عبدت)7.
قال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ-رحمه الله-:قوله (صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ) في رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: كانت آلهةً تعبدها قوم نوح،ثم عبدتها العرب بعد، وقال أبو عبيدة: وزعموا أنهم كانوا مجوساً، وأنها غرقت في الطوفان، فلما نضب الماء عنها، أخرجها إبليس فبثها في الأرض.انتهى. وقوله كانوا مجوساً غلط، فإن المجوسية كلمة حدثت بعد ذلك بدهر طويل، وإن كان الفرس يدعون يدعون خلاف ذلك. وذكر السهيلي في "التعريف" أن يغوث هو ابن شيت بن آدم فيما قيل، وكذلك سواع وما بعده وكانوا يتبركون بدعائهم، فلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها إلى زمن مهلائيل فعبدوها بتدريج الشيطان لهم، ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية، ولا أدري من أين سرت لهم تلك الأسماء؟ من قِبَل الهند فقد قيل إنهم كانوا المبدأ في عبادة الأصنام بعد نوح، أم الشيطان ألهم العرب ذلك انتهى. وما ذكره مما نقله تلقاه من" تفسير بقي بن مخلد" فإنه ذكر فيه نحو ذلك على ما نبه عليه ابن عسكر في ذيله، وفيه أن تلك الأسماء وقعت إلى الهند فسموا بها أصنامهم، ثم أدخلها إلى أرض العرب عمرو بن لحي.(/1)
وعن عُروة بن الزُّبير أنهم كانوا أولاد آدم لصلبه، وكان ود أكبرهم وأبرَّهم به، وهكذا أخرجه عمر بن شبة في" كتاب مكة"من طريق محمد بن كعب القرظي، قال: كان لآدم خمس بنين فسمَّاهم، قال: وكانوا عُبَّاداً، فمات رجل منهم فحزنوا عليه، فجاء الشيطانُ فصوَّره لهم، ثم قال للآخر إلى آخر القصة، وفيها: فعبدوها حتى بعث الله نوحاً. ومن طريق أخرى أنَّ الذي صوَّره لهم رجل من ولد قابيل بن آدم8.
أصلُ الشِّركِ:
هو تسوية غير الله بالله-تعالى-،أو هو تشبيه غير الله بالله-تعالى-في صفة من الصفات التي يختصُّ بها؛ مما لم يُعْهَدْ في جنس الإنسان، فالذي يعبد كائناً ما من دون الله فيدعوه أو يطلب منه الشفاعة أو يخافه، أو يتخذ حكمه شرعاً له... إنما يفعل ذلك لأنه يعتقد أنه صاحب سلطة وحكم على الخلق..
يقول ابن تيمية رحمه الله:" وأصل الشرك أن تعدل بالله- تعالى- مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده، فإنه لم يعدل أحد بالله شيئاً من المخلوقات في جميع الأمور، فمن عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك".9والصورة الواضحة الجلية لهذا الشرك هي عبادة الأصنام، التي كانت تتخذ سابقاً في عصور الجاهلية القديمة من حجر أو خشب... ولكنها تظهر في عصور أخرى بمظاهر شتى قد تكون مذهباً من المذاهب الفكرية، أو الاقتصادية،وقد تكون أهواء وشهوات يخضع لها الناس فيتخذونها آلهة.. وقد تكون الأصنام مجموعة من القيم الاجتماعية والمادية التي تسيطر على الناس، على ما حكاه الله- تعالى- عن أقوام فقال:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}10، ويبحث العلماء تحت هذا الشرك أنواعاً من العبودية لغير الله، كشرك الدعاء سواء كان دعاء عبادة وثناء، أو دعاء طلب ومسألة، مما لا يجوز أن يُتوجه به إلا لله-تعالى- وحده؛ لأنَّ الدعاء هو العبادة. وكذلك شرك العبادة والتقرب الذي يظهر جلياً وواضحاً في عبادة الأصنام وإعطائها بعض خصائص الألوهية، أياً كانت هذه الأصنام وبأي صورة ظهرت. ولا يقل عن هذا اللون من الشرك ما يُسمَّى –أيضاً- بشرك طلب الشفاعة من غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله-تعالى-..وكتب العقيدة والتوحيد أفاضت في بيان ذلك كله. وتبقى ألوان أخرى من الشرك الأكبر قد تكون اتسعت دائرتها في العُصُور الأخيرة، أكثر مما كانت في عصور سابقة،وذلكم هو شِرْكُ الطاعة والاتباع،وشرك المحبة والنصرة.
وقد اتفق العلماءُ على أن الحكم لله وحده-سبحانه وتعالى-، فهو المتفرد بالخلق فينبغي أن يكون متفرداً بالأمر. فلا أحد يستحقُّ أن ينفذ حكمُهُ على الخلق إلا من كان له الخلق والأمر - سبحانه وتعالى-، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الله الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له. أما غيره- سبحانه-، فلا يجب شيء بإيجابه، بل بإيجاب الله- تعالى- طاعتهم11.وقد تواردت النصوص الشرعية تؤيد هذا المنطق السليم وتؤكده، فهي تُلْزِم البشر باتباع ما جاء من عند الله- تعالى-، وتحرِّم عليهم تحريما قاطعاً اتباع ما يخالفه قال-تعالى-: {اتَّبِعْ َا أُوحِيَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ}12وقال-تعالى-:{اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}13.. والآيات في ذلكَ كثيرةٌ تفوق الحصر.. توجب الحكم بما أنزل الله، وتحكم بالكفر والفسق والظلم على كل من يخالف حكم الله-تعالى-.(/2)
ولذلك كان كل من أطاع مخلوقاً في تحريم الحلال أو تحليل الحرام-وهو متبع له في هذا التبديل-فهو مشركٌ شرك الطاعة والانقياد والاتباع14، وقد حكم اللهُ على اليهود والنَّصارى بالشرك لاتباعهم الأحبار والرهبان واتخاذهم أرباباً من دُون الله، ثم بيَّن النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-ذلك بياناً واضحاً ببيان ماهية العبادة التي وقعُوا فيها.15، وهذا النَّوعُ من الشرك يعمُّ اليوم أصقاعاً وبقاعاً كثيرةً في بلدان العالم، بعد تنحية الشريعةِ الإسلاميةِ عن الحكم في شؤون الحياة كبيرها وصغيرها،وحصرها في جوانب ضيقة، واستبدلوا بها القوانين الوضعية التي ارتضاها الناس لأنفسهم بمعزل عن دين الله تعالى وشرعه. ولذلك كان من الواجب العناية بهذا اللون من الشرك وبيان خطورته،وإن كان ذلك سيُؤدِّي إلى تكاليف باهظة يحتسبها المسلم عند الله-تعالى-. وأما شرك المحبة والنصرة والولاء فيكون عندما يتوجه الإنسان بالمحبة لغير الله-تعالى-، إذْ من مقتضيات التوحيد وأصول العبادة أن نفرد الله-تعالى- بالمحبة التي لا تصلح إلا له وهي حب طاعته والانقياد لأمره،وإلا وقع الشرك الذي جاء التحذير منه،عندما تكون المحبة لأعداء الله،عند موالاة الكافرين ونصرتهم، لأن في ذلك نقضاً للميثاق ولكلمة التوحيد، وخروجاً على مقتضيات الإيمان:{لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}16،{يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}17 .
وأمَّا تعريفُ الشِّركِ الأصغرِ، فهو ما أتى في النصوص الشرعية أنه شرك،ولم يصل إلى حدِّ الشرك الأكبر. ومن أمثلة هذا الشرك: التطير؛ وهو التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع وغيرها.
ومن الشرك الأصغر: شرك الألفاظ كالحلف بغير الله،وقول أحدهم: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وفلان... إلخ.. ومن الشرك الأصغر:يسير الرياء؛ لقوله-صلى الله عليه وسلم-: (إن يسير الرياء شرك)18.
وفي ختام هذا الدرس ندعو بما ورد عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-في قوله:?(اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم واستغفرك لما لا أعلم)19.
________________________________________
1- هذا الدرس مستفاد من مجلة البيان العدد 69 ص 8.
2- معجم مقاييس اللغة: 3 / 265، لسان العرب: 10/449 - 450.
3- مدا رج السالكين: (1/ 339).
4-أخرجه البخاري كتاب تفسير القرآن باب قوله تعالى فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون برقم (4117) ومسلم كتاب الإيمان باب كون الشرك أقبح الذنوب برقم (124).
5- الدرر السنية: (2/153).
6 -القول السديد: (43).
7- أخرجه البخاري كتاب التفسير باب (وداً ولا يغوث ويعوق) برقم(4920).
8- فتح الباري (8/536).
9- الاستقامة: 1/344.
10- الجاثية: 23.
11- المستصفى لغزالي: 1/ 83، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/ 76، مسلم الثبوت: 1 / 52، وشرح الكوكب المنير: 1/ 484، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 1/157- 158.
12- الأنعام: 106.
13- الأعراف: 3.
14- انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية: 1/97، 98، 14/ 328، 7/70 وتيسير العزيز الحميد (543).
15- انظر: تفسير الطبري 4 1/210-211، والبغوي: 4/ 39، تفسير ابن كثير: 3/122-123 مفاهيم ينبغي أن تصحح، للأستاذ/ محمد قطب، فصل (مفهوم لا إله إلا الله).
16- آل عمران: 28.
17-المائدة: 51.
18- أخرجه ابن ماجه كتاب الفتن باب من ترجى له السلامة من الفتن برقم (3979).
19-أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (18781).(/3)
الشرك
أولا: تمهيد:
1- أهمية التوحيد ومعرفة ما يضاده:
قال ابن أبي العز: "اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ اله غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، وقال هود عليه السلام لقومه: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ اله غَيْرُهُ}... وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)).
ولهذا كان الصحيح أنَّ أوَّل واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك، كما هي أقوالٌ لأرباب الكلام المذموم، بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان... فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة))، وهو أول واجب وآخر واجب".
ولأهمية التوحيد كان لا بد من معرفة ما يضادّه وهو الشرك حتى يحذر منه المرء على توحيده.
قال سليمان آل الشيخ: "لما كان الشرك أعظم ذنب عصي الله به، ولهذا رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، من إباحة دماء أهله وأموالهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه، نبه المصنف بهذه الترجمة على أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف منه ويحذره، ويعرف أسبابه ومبادئه وأنواعه لئلا يقع فيه، ولهذا قال حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه. وذلك أن من لم يعرف إلا الخير قد يأتيه الشر ولا يعرف أنه شر، فإما أن يقع فيه، وإما أن لا ينكرَه كما ينكره الذي عرفه، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية)".
2- هل الأصل في الإنسان التوحيد أم الشرك؟
اتفق أهل الملل الثلاثة ـ اليهود والنصارى والمسلمون ـ على أن الأصل في الإنسان هو التوحيد، والشرك طارئ عليه.
وذلك بناء على أن البشر خلقوا من نفس واحدة وهي نفس آدم عليه السلام كما قال تعالى: {ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء} [النساء:1]. وهذا متفق عليه بين الديانات الثلاثة.
ومما يدل على ذلك:
1- أن الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام كان نبياً يعبد الله وحده لا شريك له، وعلّم أبناءه التوحيد.
قال ابن تيمية: "ولم يكن الشرك أصلاً في الآدميين، بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله، لاتباعهم النبوة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ} [يونس:19]، قال ابن عباس: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام). فبتركهم اتباع شريعة الأنبياء وقعوا في الشرك، لا بوقوعهم في الشرك خرجوا عن شريعة الإسلام".
2- أن الله تعالى أخبر في كتابه أن الفطرة التي فطر الناس عليها هي فطرة الإسلام التي هي التوحيد الخالص.
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم30].
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172].
قال ابن عباس: (مسح ربك ظهر آدم فخرجت كلّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان هذه ـ وأشار بيده ـ، فأخذ مواثيقهم وأشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ}).
وقال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر ـ يا محمد ـ ربَّك إذ استخرج ولد آدم من أصلاب آبائهم، فقرّرهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض شهادتهم بذلك وإقرارهم به".
3- بين الله تعالى أن التوحيد هو أصل دعوة الرسل وإليه دعوا أقوامهم.
قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى:13].(/1)
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:24].
قال ابن تيمية: "إن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام وقبل نوح عليه السلام على التوحيد والإخلاص، كما كان أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام، حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان بدعة من تلقاء أنفسهم، لم ينزل الله بها كتاباً ولا أرسل بها رسولاً، بشبهات زيّنها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة والفلسفة الحائدة، قوم منهم زعموا أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية والدرجات الفلكية والأرواح العلوية، وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين... فابتعث الله نبيه نوحاً عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة ما سواه... وجاءت الرسل بعده تترى، إلى أن عم الأرض دين الصائبة والمشركين، كما كانت النماردة والفراعنة، فبعث الله تعالى إليهم إمام الحنفاء وأساس الملة الخالصة والكلمة الباقية إبراهيم خليل الرحمن فدعا الخلق من الشرك إلى الإخلاص، ونهاهم عن عبادة الكواكب والأصنام".
4- ومن الأدلة في السنة النبوية حديث عياض بن حمار رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطاناً)).
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟!))، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].
قال ابن تيمية: "فالصواب أنها فطرة الإسلام، وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف:172]، وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة... وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: ((كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟!)) بيّن أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حدثٌ طارئ".
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يوضّح كيفية دخول الشرك، فعنه في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23]، قال: (صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ؛ أما وَدّ كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجوف عند سبإ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبَد، حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عبِدَت).
أخرجه البخاري في الإيمان، باب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة} (25)، ومسلم في الإيمان (22) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
أخرجه أحمد في مسنده (5/233)، وأبو داود في الجنائز، باب: في التلقين (3116)، والحاكم في المستدرك (1/503) من حديث معاذ رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2673).
شرح العقيدة الطحاوية (77-78)، وانظر: مدارج السالكين (3/462).
هي ترجمة: (باب الخوف من الشرك) في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
تيسير العزيز الحميد (114).
الشرك في القديم والحديث (1/181).
مجموع الفتاوي (20/106).
أي: بعرفة.
جامع البيان (6/110).
جامع البيان (6/110).
مجموع الفتاوي (28/603).
أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865).
أي: سليمة من العيوب، مجتمعة الأعضاء. النهاية في غريب الحديث (1/296).
أي: مقطوعة الأطراف، أو واحدها. النهاية في غريب الحديث (1/247).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: {لا تبديل لخلق الله} (4775)، ومسلم في القدر (2658).
مجموع الفتاوى (4/245).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: {وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق} (4920).
ثانيا: تعريف وبيان:
1- معنى الشرك لغة:
قال ابن فارس: "الشين والراء والكاف أصلان، أحدهما يدلّ على مقارنة وخلافِ انفرادٍ، والآخر يدلّ على امتداد واستقامة.
فالأول: الشركة، وهو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما، يقال: شاركت فلاناً في الشيء إذا صرت شريكَه، وأشركت فلاناً إذا جعلته شريكاً لك".
وقال الجوهري: "الشريك يجمع على شركاء وأشراك، وشاركت فلاناً صرت شريكه، واشتركنا وتشاركنا في كذا، وشركته في البيع والميراث أشركه شركة، والاسم: الشرك".
وقال أيضاً: "والشرك أيضاً الكفر، وقد أشرك فلان بالله فهو مشرك ومشركيّ".(/2)
وقال الفيروز آبادي: "الشِّرك والشُِّركة بكسرهما وضم الثاني بمعنى، وقد اشتركا وتشاركا وشارك أحدهما الآخر، والشِّرك بالكسر وكأمير: المشارك، والجمع أشراك وشركاء".
2- معنى الشرك شرعاً:
قال ابن سعدي: "حقيقة الشرك أن يُعبَد المخلوق كما يعبَد الله، أو يعظَّم كما يعظَّم الله، أو يصرَف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية".
وقال الدهلوي: "إن الشرك لا يتوقّف على أن يعدِل الإنسان أحداً بالله، ويساوي بينهما بلا فرق، بل إن حقيقة الشرك أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال ـ خصها الله تعالى بذاته العلية، وجعلها شعاراً للعبودية ـ لأحد من الناس، كالسجود لأحد، والذبح باسمه، والنذر له، والاستعانة به في الشدة، والاعتقاد أنه ناظر في كل مكان، وإثبات التصرف له، كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح به الإنسان مشركاً".
3- الفرق بين الشرك والكفر:
1- أما من حيث اللغة فإن الشرك بمعنى المقارنة، أي: أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما. أما الكفر فهو بمعنى الستر والتغطية.
قال ابن فارس: "الكاف والفاء والراء أصل صحيح يدل على معنى واحد، وهو الستر والتغطية"، إلى أن قال: "والكفر ضد الإيمان، سُمّي لأنه تغطية الحق، وكذلك كفران النعمة جحودها وسترها".
2- وأما من حيث الاستعمال الشرعي فقد يطلقان بمعنى واحد، قال الله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا} [الكهف:35-38].
وقد يفرق بينهما، قال النووي: "الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد وهو الكفر بالله تعالى، وقد يفرق بينهما فيخص الشرك بعبادة الأوثان وغيرها من المخلوقات مع اعترافهم بالله تعالى ككفار قريش، فيكون الكفر أعم من الشرك".
مقاييس اللغة (3/265).
الصحاح (4/1593-1594).
الصحاح (4/1593-1594).
القاموس المحيط (2/1251).
تيسير الكريم الرحمن (2/499).
رسالة التوحيد (ص32، 33). وانظر: الشرك في القديم والحديث (1/120).
مقاييس اللغة (5/191).
شرح صحيح مسلم (2/71)، وانظر: حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد (302).
ثالثا: أنواع الشرك:
الشرك ثلاثة أنواع: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي.
وهذا التقسيم هو أحسن التقاسيم المذكورة لأنواع الشرك.
النوع الأول: الشرك الأكبر:
وهو ثلاثة أنواع، يتعلق كل نوع بأنواع التوحيد الثلاثة.
قال سليمان بن عبد الله آل الشيخ: "فاعلم أن الشرك ينقسم ثلاثة أقسام بالنسبة إلى أنواع التوحيد، وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقاً، وقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه".
1- الشرك في الربوبية:
قال ابن تيمية: "أما النوع الثاني فالشرك في الربوبية، فإن الرب سبحانه هو المالك المدبر، المعطي المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل، فمن شهد أن المعطي أو المانع أو الضار أو النافع أو المعز أو المذل غيره فقد أشرك بربوبيته".
وهذا إما شرك في التعطيل وإما شرك في الأنداد:
أ- شرك التعطيل:
قال سليمان آل الشيخ: "شرك التعطيل: وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، ومن هذا شرك الفلاسفة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدوماً أصلا، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها العقول والنفوس.
ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود، كابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني وابن الفارض، ونحوهم من الملاحدة الذين كسوا الإلحاد حلية الإسلام، ومزجوه بشيء من الحق، حتى راج أمرهم على خفافيش البصائر".
ب- شرك الأنداد:
وهو شرك من جعل مع الله إلهاً آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته.
قال سليمان آل الشيخ: "النوع الثاني: شرك من جعل معه إلهاً آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، وشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة.
ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها مدبّرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم. ويلتحق به من وجه شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواحَ الأولياء تتصرف بعد الموت، فيقضون الحاجات، ويفرجون الكربات، وينصرون من دعاهم، ويحفظون من التجأ إليهم ولاذ بحماهم، فإن هذه من خصائص الربوبية".
وخلاصة هذا النوع ما يلي:(/3)
أ- الشرك في الربوبية بالتعطيل: وذلك إما بالإلحاد كقول فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} وكالمذهب الشيوعي، وإما بتعطيل الكون عن صانعه كالقول بقدم العالم والقول بوحدة الوجود، وإما بتعطيل الصانع عن أفعاله كشرك منكري إرسال الرسل ومنكري القدر والبعث وغير ذلك.
ب- الشرك في الربوبية بالأنداد: وذلك إما بدعوى تصرف غير الله تعالى في الكون كشرك مشركي قوم إبراهيم الصابئة والمتصوفة القائلين بالغوث والقطب والأوتاد والأبدال المعتقدين فيهم التصرف والتدبير، وإما بإعطاء حق التشريع والتحليل والتحريم لغير الله تعالى كما هو عند النصارى وغيرهم وكما هو في القوانين الوضعية، وإما بدعوى تأثير النجوم والهياكل في الكون كما يعتقده الصابئة من قوم إبراهيم، أو دعوى تأثير الأولياء أو التمائم والأحجبة.
2- الشرك في توحيد الأسماء والصفات:
وهو أيضا إما بالتعطيل وإما بالأنداد:
أ- شرك التعطيل:
وذلك بتعطيل الصانع عن كماله المقدس، كشرك الجهمية الغلاة والقرامطة الذين أنكروا أسماء الله عز وجل وصفاته.
ب- شرك الأنداد:
وهو على وجهين:
الوجه الأول: إثبات صفات الله تعالى للمخلوقين، وذلك بالتمثيل في أسمائه أو صفاته كالشرك في علم الباري المحيط، ويدخل في ذلك التنجيم والعرافة والكهانة، وادعاء علم المغيبات لأحد غير الله، وكالشرك في قدرة الله الكاملة، وذلك بادعاء التصرف للغير في ملكوت الله، وخوف الضرر أو التماس النفع من غير الله، أو بالاستغاثة بغير الله، أو تسمية غيره غوثاً، أو بالسحر والتسحّر.
الوجه الثاني: وصف الله تعالى وتقدس بصفات المخلوقين، كشرك اليهود المغضوب عليهم الذين شبهوا الله بخلقه، فوصفوا الله تعالى بأنه فقير وأن يده مغلولة، وهكذا النصارى في قولهم بالبنوة والأبوة، وما إلى ذلك من صفات المخلوقات.
ويدخل في ذلك كل من شبّه الله بخلقه ومثله بهم من هذه الأمة.
3- الشرك في توحيد الألوهية:
قال ابن تيمية: "فأما الشرك في الإلهية فهو أن يجعل لله نداً ـ أي: مثلاً ـ في عبادته أو محبته أو خوفه أو رجائه أو إنابته، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، قال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:48]، وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب لأنهم أشركوا في الإلهية، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ} الآية [البقرة:165]، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية [الزمر:3]، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ الهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَىْء عُجَابٌ} [ص:5]، وقال تعالى: {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24]، إلى قوله: {الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ الهاً ءاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:26]".
وقال المقريزي: "فالشرك في الإلهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عبّاد الأصنام، وعبّاد الملائكة، وعبّاد الجن، وعبّاد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات، الذين قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده، وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قربٌ وكرامة، كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه وخاصته. والكتب الإلهية كلها من أوّلها إلى آخرها تبطل هذا المذهب وتردّه، وتقبِّح أهله، وتنصّ على أنهم أعداء الله تعالى، وجميع الرسل صلوات الله عليهم متفقون على ذلك من أوّلهم إلى آخرهم، وما أهلك الله تعالى من أهلك من الأمم إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله".
أنواع الشرك في الألوهية:
أ- شرك الدعوة:
قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: فإذا ركب هؤلاء المشركون السفينة في البحر، فخافوا الغرق والهلاك فيه {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ}، يقول: أخلصوا لله عند الشدة التي نزلت بهم التوحيدَ، وأفردوا له الطاعة، وأذعنوا له بالعبودة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم ولكن بالله الذي خلقهم. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ}، يقول: فلما خلّصهم مما كانوا فيه وسلّمهم فصاروا إلى البر إذا هم يجعلون مع الله شريكاً في عبادتهم، ويدعون الآلهة والأوثان معه أرباباً".
وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ B وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} [يونس:106، 107].(/4)
قال ابن جرير: "ولا تدع ـ يا محمد ـ من دون معبودك وخالقك شيئاً لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة والأصنام، أي: لا تعبدها راجياً نفعها أو خائفاً ضرها، فإنها لا تنفع ولا تضر، {فَإِن فَعَلْتَ} ذلك فدعوتَها من دون الله {فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ}، يقول: من المشركين بالله الظالمين أنفسهم".
وقال سليمان آل الشيخ: "والآية نص في أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك أكبر، ولهذا قال: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، لأنه المتفرد بالملك والقهر والعطاء والمنع، ولازم ذلك إفراده بتوحيد الإلهية لأنهما متلازمان، وإفراده بسؤال كشف الضر وجلب الخير، لأنه لا يكشف الضر إلا هو، ولا يجلب الخير إلا هو، {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:4]، فتعيّن أن لا يدعَى لذلك إلا هو، وبطل دعاء مَن سواه ممن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلاً عن غيره، وهذا ضدّ ما عليه عبّاد القبور، فإنهم يعتقدون أن الأولياء والطواغيت الذين يسمونهم المجاذيب ينفعون ويضرون، ويمَسّون بالضر ويكشفونه، وأن لهم التصرف المطلق في الملك".
وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ E وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5، 6].
قال سليمان آل الشيخ: "حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى حكم بأنه لا أضلّ ممن يدعو من دون الله لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة واستغاثة مَن هذه حالُه، ومعنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضُّلاَّل كلِّهم أبلغ ضلالاً ممن عبد غير الله ودعاه حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كلّ بغية ومرام، ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم، ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دام في الدنيا وإلى أن تقوم القيامة".
وقد قرّر العلماء أن دعاء المسألة ودعاء العبادة متلازمان، قال سليمان آل الشيخ: "واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان.
فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، فالمعبود لا بد أن يكون مالكاً للنفع والضر، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضراً ولا نفعاً كقوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76]، وذلك كثير في القرآن، فهو يدعي للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعي خوفاً ورجاء دعاء العبادة، فعلم أن النوعين متلازمان، فكل دعاء عبادة مستلزم دعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة، وهذا لو لم يرد في دعاء المسألة بخصوصه من القرآن إلا الآيات التي ذكر فيها دعاء العبادة، فكيف وقد ذكر الله في القرآن في غير موضع، قال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، وقال تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] وغير ذلك".
وقد نص العلماء على أن من صرف شيئاً من نوعَي الدعاء لغير الله فهو مشرك.
قال ابن تيمية: "من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكّل عليهم يدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً".
وقال ابن القيم: "ومن أنواعه ـ أي: الشرك ـ طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم".
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "ومن نوع هذا الشرك أن يعتقد الإنسان في غير الله من نجم أو إنسان أو نبي أو صالح أو كاهن أو ساحر أو نبات أو حيوان أو غير ذلك أنه يقدر بذاته على جلب منفعة من دعاه أو استغاث به، أو دفع مضرة".
وقال سليمان آل الشيخ: "فاعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئاً من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك ولو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى وصام؛ إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلا الله، فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله فما أتى بهما حقيقة وإن تلفظ بهما، كاليهود الذين يقولون: لا إله إلا الله وهم مشركون، ومجرّد التلفّظ بهما لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعاً".
ب- شرك النية والإرادة والقصد:
قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحياةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود:15، 16].(/5)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من عمل صالحاً التماس الدنيا، صوماً أو صلاة أو تهجداً بالليل لا يعمله إلا لالتماس الدنيا، يقول الله: أوفّيه الذي التمَسَ في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمل التمَاسَ الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين).
وقال ابن القيم: "أما الشرك في الإرادات والنيّات فذلك البحر الذي لا ساحل له وقلّ من ينجو منه، من أراد بعمله غير وجه الله ونوى شيئاً غير التقريب إليه وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته".
وقد سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن معنى قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحياةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} فأجاب بما ملخصه: "ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه، فمن ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وإحسان إلى الناس، وترك ظلم ونحو ذلك مما يفعله الإنسان، أو يتركه خالصاً لله لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعم عليهم، ولا همّة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب.
النوع الثاني وهو أكبر من الأول وأخوف: وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة.
النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد به مالاً، مثل أن يحج لمالٍ يأخذه لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر أيضاً هذا النوع في تفسير هذه الآية، وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم؛ لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها، والذين قبلهم عملوا من أجل المدح والجلالة في أعين الناس، ولا يحصل لهم طائل، والنوع الأول أعقل من هؤلاء، لأنهم عملوا لله وحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا منه الخير الكثير الدائم وهو الجنة، ولم يهربوا من الشر العظيم وهو النار.
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصاً في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفّره كفراً يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم.
بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله طالباً ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالاً قاصداً بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأهل الدنيا، فهو لما غلب عليه منهما".
تنبيه هام:
مما ينبغي التأكيد عليه هنا أنه لا بد من التفريق بين شرك الإرادة المستوجب للشرك الأكبر والخلود في النار، وبين الشرك الأصغر المستوجب لحبوط العمل وإن لم يكن مخرجاً من الملة.
والضابط الفارق في ذلك هو النظر إلى النية والباعث على العمل، فمن كان عمله اتباعاً للهوى مطلقاً وإرادة الدنيا أصلاً كان مشركاً شركاً أكبر، ومن كان الباعث له على العمل حب الله وابتغاء رضوانه والدار الآخرة لكن دخل مع ذلك حب الجاه أو نحو ذلك من أسباب الرياء كان مشركاً شركاً أصغر.
ج- شرك الطاعة:
قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الهاً واحِداً لاَّ اله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "وتفسيرها الذي لا إشكال فيه هو طاعة العلماء والعباد في معصية الله سبحانه، لا دعاؤهم إياهم، كما فسّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما سأله فقال: لسنا نعبدهم! فذكر له أن عبادتهم طاعتهم في المعصية".
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: ((يا عدّي، اطرح عنك هذا الوثن))، وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ}، قال: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه)).
قال ابن تيمية: "وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحلّ الله يكونون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدّلوا دين الله فيتّبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤساهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلّون لهم ويسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.(/6)
والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما الطاعة في المعروف))، وقال: ((على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية))" .
وقال ابن تيمية أيضاً: "ثم ذلك المحرِّم للحلال والمحلِّل للحرام إن كان مجتهداً قصدُه ابتاع الرسول لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه، ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمّه الله، لا سيما إن اتّبع في ذلك هواه ونصره باللسان واليد، مع علمه بأنه مخالف للرسول، فهذا شرك يستحقّ صاحبه العقوبة عليه".
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بيان فوائد حديث عدي رضي الله عنه: "وفيه تغيّر الأحوال إلى هذه الغاية صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، ويسمونها الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه".
قال سليمان آل الشيخ: "يشير إلى ما يعتقده كثير من الناس فيمن ينتسب إلى الولاية من الضر والنفع والعطاء والمنع، ويسمون ذلك الولاية والسر، ونحو ذلك وهو الشرك.
وقوله: وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، أي: هي التي تسمّى اليوم العلم والفقه المؤلَّف على مذاهب الأئمة ونحوهم، فيطيعونهم في كل ما يطيعونك، سواء وافق حكم الله أم خالفه، بل لا يعبؤون بما خالف ذلك من كتاب وسنة، بل يردون كلام الله وكلام رسوله لأقوال من قلَّدوه، ويصرِّحون بأنه لا يحلّ العمل بكتاب ولا سنة، وأنه لا يجوز تلقي العلم والهدى منهما، وإنما الفقه والهدى عندهم هو ما وجدوه في هذه الكتب، بل أعظم من ذلك وأطمّ رمي كثير منهم كلام الله وكلام رسوله بأنه لا يفيد العلم ولا اليقين في باب معرفة أسماء الله وصفاته وتوحيده، ويسمّونها ظواهر لفظية، ويسمّون ما وضعه الفلاسفة المشركون القواطع العقلية، ثم يقدّمونها في باب الأسماء والصفات والتوحيد على ما جاء من عند الله، ثم يرمون من خرج عن عبادة الأحبار والرهبان إلى طاعة رب العالمين وطاعة رسوله وتحكيم ما أنزل الله في موارد النزاع بالبدعة أو الكفر".
د- شرك المحبة:
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا كَذالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:165-167].
قال ابن زيد: "هؤلاء المشركون، أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حباً لله من حبهم هم لآلهتهم".
قال ابن القيم: "منزلة المحبة: وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علَمها شمّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروّح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرِمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدِمه حلّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه" إلى آخر كلامه.
وقال سليمان آل الشيخ: "واعلم أن المحبة قسمان: مشتركة وخاصة.
فالمشتركة ثلاثة أنواع:
أحدها: محبة طبيعية، كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء ونحو ذلك، وهذه لا تستلزم التعظيم.
الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل، وهذه أيضاً لا تستلزم التعظيم.
الثالث: محبة أنس وإلف، وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضاً، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضاً.
فهذه الأنواع الثلاثة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركاً في محبة الله، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان يحب نساءه، وعائشة أحبّهن إليه، وكان يحبّ أصحابه، وأحبّهم إليه الصديق رضي الله عنه.(/7)
القسم الثاني: المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله، ومتى أحبّ العبد بها غيره كان شركاً لا يغفره الله، وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة وإيثاره على غيره، فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلاً، وهي التي سوّى المشركون بين الله تعالى وبين آلهتهم فيها".
هـ- شرك الخوف:
قال تعالى: {إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
قال مجاهد: "يخوّف المؤمنين بالكفار".
قال سليمان آل الشيخ: "الخوف على ثلاثة أقسام:
أحدها: خوف الشر، وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء، من مرض أو فقر أو قتل ونحو ذلك، بقدرته ومشيئته، سواء ادَّعى أن ذلك كرامة للمخوف بالشفاعة، أو على سبيل الاستقلال، فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلاً، لأن هذا من لوازم الإلهية، فمن اتخذ مع الله نداً يخافه هذا الخوف فهو مشرك.
وهذا هو الذي كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وآلهتهم، ولهذا يخوفوِّن به أولياء الرحمن، وهذا القسم هو الواقع اليوم من عبّاد القبور، فإنهم يخافون الصالحين، بل الطواغيت، كما يخافون الله بل أشدّ، ولهذا إذا توجّهت على أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الأيمان كاذباً أو صادقاً، فإن كان اليمين بصاحب التربة لم يُقدم على اليمين إن كان كاذباً، وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله، ولا ريب أنّ هذا ما بلغ إليه شرك الأولين، بل جهد أيمانهم اليمين بالله تعالى.
الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر إلا الخوف من الناس، فهذا محرم.
الثالث: خوف وعيد الله الذي توعّد به العصاة، وهو الذي قال الله فيه: {ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14]، وقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان، وإنما يكون محموداً إذا لم يوقع في القنوط واليأس من رَوح الله.
بقي قسم رابع: وهو الخوف الطبيعي، كالخوف من عدو وسبع وهدم وغرق ونحو ذلك، فهذا لا يذم، وهو الذي ذكره الله عن موسى عليه الصلاة والسلام في قوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:21]".
و- الشرك في التوكل:
قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
قال سليمان آل الشيخ: "وفي الآية دليل على أن التوكل على الله عبادة، وعلى أنه فرض، وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك".
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
قال ابن كثير: "أي: لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، ولهذا قال سعيد بن المسيب: التوكل على الله جماع الإيمان".
قال ابن القيم: "التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين، لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين، وعموم التوكل، ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار والفجار والطير والوحش والبهائم".
وأما التوكل على غير الله فهو قسمان.
قال سليمان آل الشيخ: "أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ والرزق والشفاعة، فهذا شرك أكبر، فإن هذه الأمور ونحوها لا يقدر عليها إلا الله تبارك وتعالى.
والثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة العادية، كمن يتوكّل على أمير أو سلطان، فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى ونحو ذلك، فهذا شرك خفي.
والوكالة الجائزة هي توكيل الإنسان في فعل مقدور عليه، ولكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكّله، بل يتوكّل على الله، ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه".
النوع الثاني: الشرك الأصغر:
1- تعريفه:
قال ابن سعدي: "هو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسّل بها إلى الشرك كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة، كالحلف بغير الله ويسير الرياء ونحو ذلك".
وقال السلمان: "هو كلّ وسيلة وذريعة يتطرّق بها إلى الشرك الأكبر".
وعرفه بعضهم بأنه تسوية غير الله بالله في هيئة العمل أو أقوال اللسان، فالشرك في هيئة العمل هو الرياء، والشرك في أقوال اللسان هو الألفاظ التي فيها معنى التسوية بين الله وغيره، كقوله: ما شاء الله وشئت، وقوله: اللهم اغفر لي إن شئت، وقوله: عبد الحارث، ونحو ذلك".(/8)
واختار البعض أنه لا يعرف بل يذكر بالأمثلة، لأن تعريفه غير منضبط لكثرة أفراده وتنوعه، وذلك كما صنع ابن القيم.
2- مصدر تسميته بالشرك الأصغر:
جاء في بعض النصوص الشرعية تسمية هذا النوع من الشرك بالشرك الأصغر.
فعن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)).
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: كنا نعدّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرياء الشرك الأصغر.
3- أنواعه:
للشرك الأصغر أنواع كثيرة، ويمكن حصرها فيما يأتي:
أ- قولي: وهو ما كان باللسان، ويدخل فيه ما يأتي:
1- الحلف بغير الله تعالى:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا يُحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حلف بغير فقد كفر أو أشرك)).
قال ابن تيمية: "والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك.
وقيل: هي مكروهة كراهة تنزيه، والأول أصح، حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر: (لأن أحلفَ بالله كاذباً أحبّ إليَّ من أن أحلف بغير الله صادقاً)، وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم من الكذب".
وقال سليمان آل الشيخ: "قوله: ((فقد كفر أو أشرك)) أخذ به طائفة من العلماء فقالوا: يكفر من حلف بغير الله كفرَ شرك، قالوا: ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه بقول: لا إله إلا الله، فلولا أنه كفرٌ ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك.
وقال الجمهور: لا يكفر كفراً ينقل عن الملة، لكنه من الشرك الأصغر، كما نصّ على ذلك ابن عباس وغيره، وأما كونه أمر من حلف باللات والعزى أن يقول: لا إله إلا الله، فلأنّ هذا كفارة له مع استغفاره، كما قال في الحديث الصحيح: ((ومن حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله))، وفي رواية ((فليستغفر))، فهذا كفارة له في كونه تعاطى صورةَ تعظيم الصنم، حيث حلف به، لا أنه لتجديد إسلامه، ولو قُدّر ذلك فهو تجديد لإسلامه لنقصه بذلك لا لكفره، لكن الذي يفعله عبّاد القبور إذا طلبت من أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الإيمان صادقاً أو كاذباً، فإذا طلبت منه اليمين بالشيخ أو تربته أو حياته ونحو ذلك لم يقدِم على اليمين به إن كان كاذباً، فهذا شرك أكبر بلا ريب، لأن المحلوف به عنده أخوف وأجلّ وأعظم من الله، وهذا ما بلغ إليه شرك عبّاد الأصنام، لأن جهد اليمين عندهم هو الحلف بالله كما قال تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ} [النحل:38]".
2- قول: "ما شاء الله وشئت":
عن قُتيلة امرأة من جهينة أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تندّدون وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، ويقول أحدهم: ما شاء الله ثم شئت.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئت)).
قال سليمان آل الشيخ: قوله: (إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت) هذا نص في أن هذا اللفظ من الشرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ اليهودي على تسمية هذا اللفظ تنديداً أو شركاً، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأرشد إلى استعمال اللفظ البعيد من الشرك، وقول: ما شاء الله ثم شئت، وإن كان الأولى قول: ما شاء الله وحده كما يدل عليه حديث ابن عباس وغيره. وعلى النهي عن قول: (ما شاء الله وشئت) جمهور العلماء".
وقال أيضاً: "وفي الحديث من الفوائد: معرفة اليهود بالشرك الأصغر، وكثير ممن يدعي الإسلام لا يعرف الشرك الأكبر... وأن الحلف بغير الله من الشرك الأصغر لا يمرق به الإنسان من الإسلام".
3- الاستسقاء بالأنواء:
قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} [المعارج:82].
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (شكركم، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما مُطر قوم قط إلا أصبح بعضهم كافراً يقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا).(/9)
وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)).
قال سليمان آل الشيخ: "والمراد بالكفر هنا هو الأصغر بنسبة ذلك إلى غير الله وكفران نعمته، وإن كان يعتقد أن الله تعالى هو الخالق للمطر المنزل له بدليل قوله في الحديث: ((فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته)) الخ، فلو كان المراد هو الأكبر لقال: أنزل علينا المطر نوء كذا، فأتى بباب السببية ليدل على أنهم نسبوا وجود المطر إلى ما اعتقدوه سبباً".
وقال عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "فإذا قال قائلهم: مطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا فلا يخلو إما أن يعتقد أن له تأثيراً في إنزال المطر فهذا شرك وكفر، وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية، كاعتقادهم أن دعاء الميت والغائب يجلب لهم نفعاً أو يدفع عنهم ضراً، وأنه يشفع بدعائهم إياه، فهذا هو الشرك الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه وقتال من فعله. وإما أن يقول: مطرنا بنوء كذا مثلاً، لكن مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده، لكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، والصحيح: أنه يحرم نسبة ذلك إلى النجم ولو على طريق المجاز، فقد صرح ابن مفلح وجزم في الإنصاف بتحريمه ولو على طريق المجاز، وذلك أن القائل لذلك نسب ما هو من فعل الله تعالى الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخَّر لا ينفع ولا يضر، ولا قدرة له على شيء، فيكون ذلك شركاً أصغر، والله أعلم".
ب- فعلي: وهو ما كان بأعمال الجوارح، ويدخل فيه ما يأتي:
1- التطير:
قال ابن الأثير: "الطيَرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن: هي التشاؤم بالشيء. وهي مصدر تطيّر، وأصله فيما يقال: التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضر".
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل)).
قال ابن تيمية: "وأما الطيرة بأن يكون قد فعل أمراً متوكّلاً على الله أو يعزم عليه، فيسمع كلمة مكروهة: مثل ما يتم، أو ما يفلح، ونحو ذلك فيتطيّر ويترك الأمر، فهذا منهي عنه".
وقال سليمان آل الشيخ: "قوله: ((الطيرة شرك)) صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك لما فيها من تعلّق القلب على غير الله".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك))، قالوا: يا رسول الله، ما كفارة ذلك؟ قال: ((أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك)).
قال سليمان آل الشيخ: "قوله: ((من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك)) وذلك أن التطير هو التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع، فإذا استعملها الإنسان فرجع بها عن سفره وامتنع بها عمّا عزم عليه، فقد قرع باب الشرك بل ولجه وبرئ من التوكل على الله، وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله، وذلك قاطع له عن مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيصير قلبه متعلقاً بغير الله، وذلك شرك، فيفسد عليه إيمانه، ويبقى هدفًا لسهام الطيرة، ويقيّض له الشيطان من ذلك ما يفسد عليه دينه ودنياه، وكم ممن هلك بذلك وخسر الدنيا والآخرة".
2- إتيان الكهان والعرافين وتصديقهم:
عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أتى عرّافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)).
قال الخطابي: "الكاهن هو الذي يدّعي مطالعة علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن... وكان منهم من يسمّى عرافاً، وهو الذي يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها، كالشيء يُسرق فيعرف المظنون به السرقة".
وقال عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: " وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما يقع في الأرض من الأخبار فيظنه الجاهل كشفاً وكرامة، وقد اغترّ بذلك كثير من الناس، يظنون المخبِر لهم بذلك عن الجن ولياً لله، وهو من أولياء الشيطان".(/10)
قال الشيخ سليمان آل الشيخ: "وظاهر الحديث أنَّ هذا الوعيد مرتّب على مجيئه وسؤاله، سواء صدّقه أو شكّ في خبره، لأن إتيان الكهان منهي عنه كما في حديث معاوية بن الحكم السلمي قلت: يا رسول الله، إن منا رجلاً يأتون الكهان، قال: ((فلا تأتهم))، ولأنه إذا شكّ في خبره فقد شكّ في أنّه لا يعلم الغيب، وذلك موجب للوعيد، بل يجب عليه أن يقطع ويعتقد أنه لا يعلم الغيب إلا الله".
وقال الشيخ أيضاً: "وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان لاعتقاده أنه يعلم الغيب، وسواء كان ذلك من قبل الشياطين، أو من قبل الإلهام، لا سيما وغالب الكهان في وقت النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين".
وقال عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر، فلا ينقل عن الملة، أم يتوقف فيه، فلا يقال: يخرج عن الملة ولا يخرج؟ وهذا أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى".
وقال ابن قاسم: "الأحاديث التي فيها الكفر مقيّدة بتصديقه".
وقال ابن عثيمين: "وظاهر الحديث أن مجرّد سؤاله يوجب عدم قبول صلاته أربعين يوماً، ولكنه ليس على إطلاقه، فسؤال العراف ونحوه ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يسأله سؤالاً مجرّداً فهذا حرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أتى عرافاً...)) إلخ، فإثبات العقوبة على سؤاله يدل على تحريمه، إذ لا عقوبة إلا على محرّم.
القسم الثاني: أن يسأله فيصدقه، ويعتبر قولَه، فهذا كفر، لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن.
القسم الثالث: أن يسأله ليختبره: هل هو صادق أو كاذب؟ لا لأجل أن يأخذ بقوله، فهذا لا بأس به، ولا يدخل في الحديث.
القسم الرابع: أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه، فيمتحنه في أمُور، وهذا قد يكون واجباً أو مطلوباً".
وقال ابن عثيمين أيضاً: "قوله: ((كفر بما أنزل على محمد)) وجه ذلك: أن ما أنزل على محمد قال الله تعالى فيه: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاواتِ والأرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل:65]، وهذا من أقوى طرق الحصر، لأن فيه النفي والإثبات، فالذي يصدق الكاهن في علم الغيب، وهو يعلم أنه لا يعلم الغيب إلا الله، فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً عن الملة، وإن كان جاهلاً ولا يعتقد أن القرآن فيه كذب فكفره كفر دون كفر".
3- لبس الحلقة والخيط ونحوها:
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "باب: من الشرك لبس الحلقة والخيط وغيرهما لرفع البلاء أو دفعه، وقول الله تعالى: {أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ} [الزمر:38]".
قال سليمان آل الشيخ: "فهم يعلمون أنّ ذلك لله وحده، وقد دخل في ذلك كلّ من دعا من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين فضلاً عن غيرهم، فلا يقدر أحد على كشف ضر ولا إمساك رحمة، وإذا كان كذلك بطلت عبادتهم من دون الله، وإذا بطلت عبادتهم فبطلان دعوة الآلهة والأصنام أبطل وأبطل، ولبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه كذلك، فهذا وجه استدلال المصنف بالآية، وإن كانت الترجمة في الشرك الأصغر، فإن السلف يستدلون بما نزل في الأكبر على الأصغر، كما استدل حذيفة وابن عباس وغيرهما، وكذلك من جعل رؤوس الحمر ونحوها في البيت والزرع لدفع العين كما يفعله أشباه المشركين، فإنه يدخل في ذلك".
وقال ابن عثيمين: "ولبس هذه الأشياء قد يكون شركاً أصغر، وقد يكون شركاً أكبر، بحسب اعتقاد لابسها، وكان لبس هذه الأشياء من الشرك لأن كل من أثبت له سبباً لم يجعله الله سبباً شرعياً ولا قدرياً فقد أشرك بالله".
وقال أيضاً: "ولبس الحلقة ونحوها إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله فهو مشرك شركاً أكبر في توحيد الربوبية، لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً غيره، وإن اعتقد أنها سبب، ولكنه ليس مؤثراً بنفسه فهو مشرك شركاً أصغر، لأنه اعتقد أن ما ليس بسبب سبب، فقد شارك الله في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله تعالى لم يجعله سبباً".
4-تعليق التمائم:
عن زينب امرأة عبد الله، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك))، قالت: قلت: لم تقول هذا؟ والله لقد كان عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيني، فإذا رقاني سكنت، فقال عبد الله: إنما ذاك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كفّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أذهِب البأس، ربَّ الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً)).
قال ابن الأثير: "التمائم جمع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تحلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام".
وقال أيضاً: "وإنما جعلها شركاً لأنهم أرادوا بها دفع المقادير المكتوبة عليهم، فطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه".(/11)
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "التمائم: شيء يعلق على الأولاد عن العين، لكن إذا كان المعلَّق من القرآن فرخَّص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخِّص فيه ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.
والرقى: هي التي تسمّى العزائم، فخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخّص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة.
والتولة: شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبّب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته".
قال عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته:
فقالت طائفة: يجوز ذلك، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو ظاهر ما روي عن عائشة، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية، وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك.
وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وبه قال ابن مسعود وابن عباس، وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر، وبه قال جماعة من التابعين، منهم أصحاب ابن مسعود، وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه.
وهذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل:
الأول: عموم النهي ولا مخصّص للعموم.
الثاني: سدّ الذريعة، فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك.
الثالث: أنه إذا علّق فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك".
قال ابن عثيمين: "قوله: ((شرك)) هل هي شرك أصغر أو أكبر؟
نقول: بحسب ما يريد الإنسان منها، إن اتخذها معتقِداً أن المسبّب هو الله فهي شرك أصغر، وإن اعتقد أنها تفعل بنفسها فهي شرك أكبر".
ج- قلبي:
ومن أمثلته الرياء، عن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)).
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك.
الثانية: أن الرياء من الشرك.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين".
قال سليمان آل الشيخ: "ولما كانت النفوس مجبولة على محبة الرياسة والمنزلة في قلوب الخلق إلا من سلم الله، كان هذا أخوف ما يخاف على الصالحين، لقوة الداعي إلى ذلك، والمعصوم من عصمه الله، وهذا بخلاف الداعي إلى الشرك الأكبر، فإنه إما معدوم في قلوب المؤمنين الكاملين، ولهذا يكون الإلقاء في النار أسهل عندهم من الكفر، وإما ضعيف، هذا مع العافية، وأما مع البلاء فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)).
قال سليمان آل الشيخ: "لما كان المرائي قاصداً بعمله الله تعالى وغيره كان قد جعل الله تعالى شريكاً، فإذا كان كذلك فالله تعالى هو الغني على الإطلاق، والشركاء بل جميع الخلق فقراء إليه بكل اعتبار، فلا يليق بكرمه وغناه التام أن يقبل العمل الذي جعل له فيه شريك، فإن كماله تبارك وتعالى وكرمه وغناه يوجب أن لا يقبل ذلك".
وقال ابن عثيمين: "الرياء من الشرك الأصغر، لأن الإنسان قصد بعمله غير الله، وقد يصل إلى الأكبر، وقد مثّل ابن القيم للشرك الأصغر فقال: مثل يسير الرياء، وهذا يدل على أن الرياء كثيره قد يصل إلى الأكبر".
والرياء له صور متعددة:
فقد يكون بالأعمال، كمن يصلي فيطيل القيام، ويطيل الركوع والسجود، ويظهر الخشوع عند رؤية الناس له.
وقد يكون بالأقوال، كالرياء بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار لأجل المحاورة وإظهار غزارة العلم، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس مع التغافل عنه إذا كان في منزله.
وقد يكون بالزي، كإبقاء أثر السجود على جبهته، ولبس الغليظ من الثياب وخشنها مع تشميرها كثيراً ليقال: عابد زاهد.
وقد يكون بالأصحاب والزائرين، كالذي يتكلّف أن يستزير عالماً أو عابداً ليقال: إن فلاناً قد زار فلاناً.
وقد يكون الرياء لأهل الدنيا، كمن يتبختر ويختال في مشيته وتحريك يديه وتقريب خطاه، أو يأخذ بطرف ثوبه أو يصعّر خده ونحو ذلك.
وقد يكون من جهة البدن، كأن يرائي بإظهار النحول والصفار ليوهم الناسَ أنه جادّ في العبادة كثير الخوف والحزن، أو يرائي بتشعيث الشعر ليظهر أنه مستغرق في همّ الدين لا يتفرّغ لتسريح شعره ونحو ذلك.
حكم العمل إذا خالطه الرياء:
قال ابن رجب: "واعلم أن العمل لغير الله أقسام:(/12)
فتارة يكون رياء محضاً بحيث لا يراد به سوى مراعاة المخلوقين لغرض دنيوي، كحال المنافقين في صلاتهم، كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءونَ النَّاسَ} [النساء:142]، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة والحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة والتي يتعدى نفعها فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضاً وحبوطه كحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) ، وروي عن طائفة من السلف، منهم عبادة بن الصامت وأبو الدرداء والحسن وابن المسيب وغيرهم.
فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء مثل أخذه أجرة للخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهاده ولم يبطل بالكلية.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الغزاة إذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم، فإن لم يغنموا شيئاً تم لهم أجرهم)).
وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء، فإن كان خاطرا ودفعه فلا يضر بغير خلاف، فإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري".
النوع الثالث: الشرك الخفي:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي؟)) قال: قلنا: بلى، قال: ((الشرك الخفي؛ أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل)).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل))، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: ((قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفره لما لا نعلم)).
هذه النصوص تدلّ على أن هناك نوعاً آخر من الشرك يسمّى الشرك الخفي، فهل هذا يدخل تحت أحد نوعي الشرك أم هو نوع مستقل بذاته؟ اختلفوا في ذلك، فقيل: يمكن أن يجعل الشرك الخفي نوعاً من الشرك الأصغر، فيكون الشرك حينئذ نوعين: شرك أكبر ويكون في عقائد القلوب، وشرك أصغر ويكون في هيئة الأفعال وأقوال اللسان والإرادات الخفية، ولكن الظاهر من النصوص أن الشرك الخفي قد يكون من الشرك الأكبر، وقد يكون من الشرك الأصغر، وليس له وصف منضبط، بل دائماً يتردّد بين أن يكون من الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، بل هو كل ما خفي من أنواع الشرك.
ومن أمثلة الشرك الخفي ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} [البقرة:22] قال: (الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاء سوداء، في ظلمة الليل. وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلانة وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلان، فإن هذا كله به شرك).
قال سليمان آل الشيخ: "أي: إن هذه الأمور من الشرك خفيةٌ في الناس، لا يكاد يتفطن لها ولا يعرفها إلا القليل، وضرب المثل لخفائها بما هو أخفى شيء وهو أثر النمل، فإنه خفي، فكيف إذا كان على صفاة؟ فكيف إذا كانت سوداء؟ فكيف إذا كانت في ظلمة الليل؟ وهذا يدل على شدة خفائه على من يدّعي الإسلام وعسر التخلص منه".
وقال ابن عثيمين: "قوله: (هذا كله به شرك) وهو شرك أكبر أو أصغر، حسب ما يكون في قلب الشخص من نوع هذا التشريك".
وعلى هذا فيجب الحذر من هذا النوع من الشرك لكثرة الاشتباه فيه، فربما يظن في أمر من الأمور أنه من الشرك الأصغر وهو في واقع الأمر من الشرك الأكبر، وهكذا العكس، وذلك لخفاء مأخذه، ودقة أمره، وصعوبة معرفته، فيكون مجاله الأمر المشتبه الذي لا يعرفه إلا الحذاق من أهل العلم، وإن كان قد يخفى على غيرهم ممن لم يكمل نظره، وضعف فهمه في أدلة الكتاب والسنة.
انظر: مدارج السالكين (1/368)، وتيسير العزيز الحميد (ص 45)، والدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/69).
تيسير العزيز الحميد (ص43).
مجموع الفتاوى (1/92).
تيسير العزيز الحميد (43).
تيسير العزيز الحميد (43-44).
انظر: الجواب الكافي (ص156، 157). والشرك في القديم والحديث (1/145-146).
الشرك في القديم والحديث (1/146).
انظر: تيسير العزيز الحميد (44)، والشرك في القديم والحديث (1/146-147).
مجموع الفتاوى (1/91).
تجريد التوحيد المفيد (52-53).(/13)
جامع البيان (10/159).
جامع البيان (6/618).
تيسير العزيز الحميد (237-238).
تيسير العزيز الحميد (239).
تيسير العزيز الحميد (215-216) بتصرف واختصار.
انظر: الإنصاف (27/108) مع المقنع والشرح الكبير.
مدارج السالكين (1/375).
الدرر السنية (4/7).
تيسير العزيز الحميد (227).
جامع البيان (7/13).
الجواب الكافي (163).
تيسير العزيز الحميد (536-538) باختصار.
ضوابط التكفير للدكتور عبد الله القرني (128).
الدرر السنية (2/70).
أخرجه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التوبة (3095) واللفظ له، وابن جرير في تفسيره، والبيهقي (10/116)، وحسنه ابن تيمية في الإيمان (7/67ـمجموع الفتاوى)، كما حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2471).
كذا العبارة في المجموع وفيها قلب ولعل صوابها: "بتحريم الحرام وتحليل الحلال".
أخرجه البخاري في الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (7145)، ومسلم في الإمارة (1840) من حديث علي رضي الله عنه.
أخرجه البخاري بنحوه في الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (7144) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
مجموع الفتاوى (7/70).
مجموع الفتاوى (7/71).
كتاب التوحيد، ضمن الجامع الفريد (163).
كذا في المطبوع، ولعله تصحيف.
تيسير العزيز الحميد (553).
جامع البيان (3/280).
مدارج السالكين (3/6-7).
تيسير العزيز الحميد (467-468).
جامع البيان (3/525).
تيسير العزيز الحميد (484-486) بتصرف واختصار.
تيسير العزيز الحميد (497).
تفسير القرآن العظيم (2/452).
مدارج السالكين (2/113-114).
تيسير العزيز الحميد (497-498).
القول السديد (15).
الكواشف الجلية (321).
المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للبريكان (126، 127).
انظر: مدارج السالكين (1/373)، والشرك في القديم والحديث (1/167).
أخرجه أحمد في المسند (5/428، 429)، والبيهقي في الشعب (5/333)، وحسّن الحافظ إسناده في بلوغ المرام (4/355ـ سبل السلام)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (29).
أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة (1/34)، والطبراني في الكبير (7/289)، والبيهقي في الشعب (5/337)، وصححه الحاكم في المستدرك (4/365)، والألباني في صحيح الترغيب (32).
أخرجه الترمذي في النذور والإيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله (1535)، والحاكم في المستدرك (4/330)، والبيهقي في الكبرى (10/29)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، والألباني في صحيح الترغيب (2952).
مجموع الفتاوى (1/204).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: {أفرأيتم اللات والعزى} (4860)، ومسلم في الإيمان (1647) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
تيسير العزيز الحميد (ص593).
أخرجه أحمد في المسند (6/371-372)، والنسائي في الأيمان (3773)، والحاكم (4/297)، والبيهقي في الكبرى (3/216)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، والألباني في السلسلة الصحيحة (136).
أخرجه ابن ماجة في الكفارات، باب: النهي أن يقول: ما شاء الله وشئت (2117)، وقال الألباني في الصحيحة (1093): "إسناده حسن"، وذكر له شواهد أخرى بأرقام (136، 137، 139).
هو حديث أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: ((أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)). أخرجه أحمد (1/214)، والبخاري في الأدب المفرد (783)، والنسائي في عمل اليوم والليلة، والطبراني في الكبير (13005)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (139).
تيسير العزيز الحميد (599).
تيسير العزيز الحميد (600-601) ، وانظر: مدارج السالكين (1/373).
جامع البيان (11/662).
جامع البيان (11/662).
أخرجه البخاري في الأذان، باب: يستقبل الإمام الناس إذا سلم (846)، ومسلم في الإيمان (71).
تيسير العزيز الحميد (458).
فتح المجيد (282).
النهاية في غريب الحديث (3/152).
أخرجه أحمد في المسند (1/389)، وأبو داود في الطب، باب: في الطيرة (3910)، والترمذي في السير، باب: ما جاء في الطيرة (1614)، وابن ماجه في الطب، باب: من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة (3538)، وصححه الترمذي، والحاكم (1/17-18)، وأقره الذهبي، والألباني في السلسلة الصحيحة (429).
مجموع الفتاوى (23/67).
تيسير العزيز الحميد (438).
أخرجه أحمد في المسند (2/220)، قال الهيثمي في المجمع (5/105): "رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات"، لكن رواه عن ابن لهيعة عبد الله بن وهب كما في جامعه (1/110)، ومن طريقه أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (293)، وحسن الحديث شعيب الأرنؤوط في تحقيقه للمسند (11/623)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1065).
تيسير العزيز الحميد (439).
أخرجه مسلم في السلام (2230).(/14)
أخرجه أحمد في المسند (2/408، 476)، وأبو داود في الطب، باب: في الكاهن (3904)، والترمذي في الطهارة، باب: في كراهية إتيان الحائض (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة، باب: النهي عن إتيان الحائض (339)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "وضعف محمد ـ يعني: البخاري ـ هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك. وله شاهد من حديث جابر أخرجه البزار (9045- كشف الأستار)، وجوده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (11715): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وصححه الألباني في غاية المرام (285).
معالم السنن (4/211-212).
فتح المجيد (255).
أي: حديث ((من أتى عرافاً فسأله...)) الخ.
أخرجه مسلم في المساجد (537).
تيسير العزيز الحميد (406-407).
تيسير العزيز الحميد (409).
فتح المجيد (257).
حاشية كتاب التوحيد (204).
القول المفيد (2/49).
القول المفيد (2/55).
كاب التوحيد، ضمن الجامع الفريد (49).
تيسير العزيز الحميد (154).
القول المفيد (1/159).
القول المفيد (1/162-163).
أخرجه أحمد (1/381)، وأبو داود في الطب، باب: في تعليق التمائم (3883) واللفظ له، وابن ماجه في الطب، باب: تعليق التمائم (3530) بأطول منه، وصححه ابن حبان (13/456)، والحاكم (4/418)، وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3288).
النهاية في غريب الحديث (1/197).
النهاية في غريب الحديث (1/198).
كتاب التوحيد، ضمن الجامع الفريد (55).
قال الشيخ ابن باز: "الرواية بذلك ضعيفة، ولا تدل على هذا، لأن فيها أن ابن عمرو كان يحفظه أولاده الكبار ويكتبه في ألواح ويعلقه في عنق الصغار، فالظاهر أنه كان يعلقه في اللوح ليحفظه الصغير لا على أنه تميمة، والتميمة تكتب في ورقة لا في لوح، وكيفما كان فهو عمل فردي من عبد الله بن عمرو، لا يترك به حديث رسول الله وعمل كبار الصحابة الذين لم يعملوا مثله". من تعليق الشيخ على فتح المجيد (109).
فتح المجيد (109).
القول المفيد (1/179).
أخرجه أحمد في المسند (5/428، 429) والبيهقي في الشعب (5/333)، وحسّن الحافظ إسناده في بلوغ المرام (4/355ـ سبل السلام)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (29).
كتاب التوحيد، ضمن مجموعة التوحيد (162).
تيسير العزيز الحميد (118-119).
أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2985).
تيسير العزيز الحميد (527).
القول المفيد (2/226).
انظر: الشرك في القديم والحديث (1/171-172).
أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2985).
أخرجه مسلم في الإمارة (1906)، ولفظه: ((ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم)).
جامع العلوم والحكم (1/38-41) باختصار.
أخرجه أحمد في المسند (3/30)، وابن ماجه في الزهد، باب: الرياء بالسمعة (4204)، والبيهقي في الشعب (5/334)، وصححه الحاكم في المستدرك (4/329)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (30).
أخرجه أحمد في المسند (4/403)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/70)، وأبو يعلي في مسند (1/60)، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب (36).
الشرك في القديم والحديث (1/179) بتصرف يسير.
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1/81)، وقال الشيخ سليمان آل الشيخ: "وسنده جيد". تيسير العزيز الحميد (587)، وقال المحقق: "إسناده حسن".
تيسير العزيز الحميد (587).
القول المفيد (2/323).
الشرك في القديم والحديث (1/179-180).
رابعا: الفرق بين أنواع الشرك:
1- الشرك الأكبر لا يغفر الله لصاحبه إلا بالتوبة منه، وأما الأصغر فقد اختلف فيه، فقيل: إنه تحت المشيئة، وقيل: إن صحابه إذا مات فلا بد أن يعاقبه الله عليه، لكن لا يخلَّد في النار. وقد اختلف كلام ابن تيمية في هذه المسألة، فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال: الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر.
2- الشرك الأكبر محبِط لجميع الأعمال، وأما الشرك الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي قارنه على القول الراجح.
3- الشرك الأكبر يخرج من ملة الإسلام، وأما الشرك الأصغر فلا يخرج منها، ولذا فمن أحكامه أن يعاملَ معاملةَ المسلمين فيناكح، وتؤكل ذبيحته، ويرث ويورث، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين.
4- أن الشرك الأكبر صاحبه خالد مخلَّد في النار، وأما الأصغر فلا يخلّد في النار وإن دخلها كسائر مرتكبي الكبائر.
5- الشرك الأكبر يحلّ الأنفس والأموال، وأما الشرك الأصغر فإن صاحبه مسلم مؤمن ناقص الإيمان، فاسق من حيث الحكم الديني.
6- أما الشرك الخفي فهو قد يكون أصغر وقد يكون أكبر، فيختلف حاله، ويختلف الحكم عليه، لذا لا يحكم عليه إلا إذا تبيّن من أيّ نوع هو.
انظر: القول المفيد (1/110)، والشرك في القديم والحديث (1/176).(/15)
انظر: المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للعبيكان (127، 128) والشرك في القديم الحديث (1/171).
خامسا: تحريم الشرك وبيان أنه أكبر الكبائر:
1- الشرك أعظم الظلم:
قال تعالى: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
قال ابن كثير: "أي: هو أعظم الظلم".
وقال ابن سعدي: "ووجه كونه عظيماً أنه لا أفظع وأبشع ممن سوّى المخلوق من تراب بمالك الرقاب، وسوّى الذي لا يملك من الأمر شيئاً بمن له الأمر كله، وسوّى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالربّ الكامل الغني من جميع الوجوه، وسوّى من لم ينعم بمثقال ذرة [من النعم] بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ودنياهم وأخراهم وقلوبهم وأبدانهم إلا منه، ولا يصرف السوء إلا هو، فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟!".
2- الشرك مما نهى الله تعالى عنه وحرّمه:
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} [النساء:36].
وقال سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151].
قال ابن كثير: "يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له، فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضّل على خلقه في جميع الآنات والحالات، فهو المستحقّ منهم أن يوحّدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته".
وقال ابن سعدي: "يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، وهو الدخول تحت رقّ عبوديته، والانقياد لأوامره ونواهيه، محبة وذلاً وإخلاصاً له، في جميع العبادات الظاهرة والباطنة. وينهي عن الشرك به شيئاً، لا شركاً أصغر ولا أكبر، لا ملَكاً ولا نبياً ولا ولياً ولا غيرهم من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً".
3- الشرك أكبر الكبائر:
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين))، وكان متكئا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور))، فما زال يقولها حتى قلت: لا يسكت.
وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر قال: ((الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وقول الزور)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)).
قال ابن تيمية: "اعلم ـ رحمك الله ـ أن الشرك بالله أعظم ذنب عُصي الله به، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48]، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك))".
وقال حافظ الحكمي: "والمقصود أن الشرك أعظم ما نهى الله عنه، كما أن التوحيد أعظم ما أمر الله به، ولهذا كان أول دعوة الرسل كلهم إلى توحيد الله عز وجل ونفي الشرك، فلم يأمروا بشيء قبل التوحيد، ولم ينهوا عن شيء قبل الشرك، وما ذكر الله تعالى التوحيد مع شيء من الأوامر إلا جعله أوَّلها، ولا ذكر الشرك مع شيء من النواهي إلا جعله أولها".
4- الشرك لا يغفره الله:
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48].
قال ابن كثير: "أخبر تعالى أنه لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، ويغفر ما دون ذلك من الذنوب لمن يشاء من عباده".
قال ابن تيمية: "فالشرك لا يغفره الله، وما دون الشرك أمرُه إلى الله إن شاء عاقب عليه، وإن شاء عفا عنه".
وقال سليمان آل الشيخ: "فتبين بهذا أن الشرك أعظم الذنوب، لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره، أي: إلا بالتوبة منه، وما عداه فهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء غفره بلا توبة، وإن شاء عذّبه، وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من هذا الذنب الذي هذا شأنه عند الله".
قال الشنقيطي: "ذكر الله في هذه الآية الكريمة أنه تعالى لا يغفر الإشراك به، وأنه يغفر غير ذلك لمن يشاء، وأنّ من أشرك به فقد افترى إثماً عظيماً. وذكر في مواضع أخر أن محل كونه لا يغفر الإشراك به إذا لم يتب المشرك من ذلك، فإن تاب غفر له، كقوله: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [مريم:60] الآية، فإن الاستثناء راجع لقوله: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ} [الفرقان:68] وما عطف عليه، لأن معنى الكلّ جُمع في قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً} الآية، وقوله: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:28]".
5- الشرك يحبط الأعمال:(/16)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
وقال عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88].
قال ابن كثير: "هذا تشديدٌ لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته".
وقال ابن سعدي: "فإن الشرك محبط للعمل، موجب للخلود في النار، فإذا كان هؤلاء الصفوة الأخيار لو أشركوا ـ وحاشاهم ـ لحبطت أعمالهم، فغيرهم أولى".
6- الشرك يوجب الخلود في النار وتحريم الجنة:
قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار)).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)).
قال القرطبي: "أي: من لم يتّخذ معه شريكاً في الإلهية ولا في الخلق ولا في العبادة، ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة، وإن مات على الشرك لا يدخل الجنة، ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد من غير انقطاع عذاب، ولا تصرم آماد، وهذا معلوم ضروري من الدين مجمع عليه بين المسلمين".
وقال النووي: "فأما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عناداً وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده ما يكفر بجحده وغير ذلك".
تفسير القرآن العظيم (3/708).
تيسير الكريم الرحمن (648).
تفسير القرآن العظيم (1/468).
تيسير الكريم الرحمن (178).
أخرجه البخاري في الأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر (5976)، ومسلم في الإيمان (87).
أخرجه البخاري في الأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر (5977)، ومسلم في الإيمان (88).
أخرجه البخاري في الحدود، باب: رمي المحصنات (6857)، ومسلم في الإيمان (89).
أخرجه البخاري في الأدب، باب قتل الولد خشية أن يأكل معه (6001)، ومسلم في الإيمان (86).
مجموع الفتاوى (1/88).
معارج القبول (1/318).
تفسير القرآن العظيم (1/482).
مجموع الفتاوى (11/663).
التيسير العزيز الحميد (115).
أضواء البيان (1/291).
تفسير القرآن العظيم (2/174).
تيسير الكريم الرحمن (264).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً} (4497).
أخرجه مسلم في الإيمان (93).
المفهم (1/290).
شرح صحيح مسلم (2/97).
سادسا: بيان بطلان الشرك بأوضح الأدلة:
ذكر الله تعالى في القرآن العظيم أمثلةً كثيرة على بطلان الشرك، فمن ذلك:
1- قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مّن شُرَكَاء فِى مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28].
قال ابن القيم: "هذا دليل قياس احتجّ الله سبحانه به على المشركين، حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء، فأقام عليهم حجّة يعرفون صحّتها من نفوسهم، فقال: هل لكم مما ملكت إيمانكم من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل؟ أي: هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم، فأنتم وهم في ذلك سواء؟ أتخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ويستأثرون ببعضها عليكم كما يخاف الشريك شريكه؟ فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم، فلِم عدلتم بي من خَلقي من هو مملوك لي؟ فإن كان هذا الحكم باطلاً في فطركم وعقولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقّكم، إذ ليس عبيدكم ملكاً لكم حقيقةً، وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، وأنتم وهم عباد لي، فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقّي مع أن من جعلتموه لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي؟!".
2- وقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَىْء وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل:25].(/17)
قال ابن القيم عن هذا المثل: "ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان، فالله سبحانه هو المالك لكل شيء، ينفق كيف يشاء على عبيده سراً وجهراً، وليلاً ونهاراً، يمينه ملأى لا يغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار، والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف يجعلونها شركاء لي ويعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟! هذا قول مجاهد وغيره وهو أشبه بالمراد، فإنه أظهرُ في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة".
3- وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ اله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91].
قال ابن القيم: "فتأمل هذا البرهان بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً، يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل، وحينئذٍ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرّده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه، وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بممالكه، إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه، فلا بد من أحد ثلاثة أمور: إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه، وإما أن يعلو بعضهم على بعض، وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحده هو الإله، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه، وانتظامُ أمر العالم كله وإحكام أمره من أدلّ دليل على أن مدبره إله واحد وملِك واحد ورب واحد، لا إله للخلق غيره، ولا رب لهم سواه".
4- وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22، 23].
قال ابن القيم: "فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين مجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك، وسدّ بها عليهم أبلغ سدّ وأحكمه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وإلا فلو كان لا يرجو منفعة لم يتعلق قلبه به، وحينئذٍ فلا بد أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينفع بها عابده، أو شريكاً لمالكها، أو ظهيراً أو وزيراً أو معاوناً له، أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت موادّه، فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض، فقد يقول المشرك: هي شريكة الملِك الحق، فنفى شركَها له، فيقول المشرك: قد يكون ظهيراً أو وزيراً أو معاوناً، فقال: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ}، ولم يبق إلا الشفاعة، فنفاها عن آلهتهم، وأخبر أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، فإن لم يأذن للشافع لم يتقدم بالشفاعة بين يديه".
5- وقوله تعالى: {ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73].
قال ابن القيم: "فتأمّل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه، فمن لم يسمعه فقد عصى أمره، كيف تضمّن إبطال الشرك وأسبابه بأوضح برهان في أوجز عبارة وأحسنها وأحلاها، وسجّل على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد وعاون بعضهم بعضاً بأبلغ المعاونة لعجزوا عن خلق ذباب واحد، ثم بيّن عجزهم وضعفهم عن استنقاذ ما يسلبهم الذباب إياه حين يسقط عليهم، فأي شيء أضعف من هذا الإله المطلوب، ومن عابده الطالب نفعه وحده؟ فهل قدّر القوي العزيز حقاً قدره من أشرك معه آلهة هذا شأنها؟ فأقام سبحانه حجة التوحيد، وبيّن ذلك بأعذب ألفاظٍ وأحسنها، لم يستنكرها غموض، ولم يشنها تطويل، ولم يعبها تقصير".
6- وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءالِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22].
قال ابن سعدي: "أي: في السموات والأرض {لَفَسَدَتَا} في ذاتهما، وفسد من فيهما من المخلوقات.(/18)
وبيان ذلك أن العالم العلوي والسفلي ـ على ما يرى ـ في أكمل ما يكون من الصلاح والانتظام الذي ما فيه خلل ولا عيب، ولا ممانعة ولا معارضة، فدلّ ذلك على أن مدبّره واحد وربه واحد وإلهه واحد، فلو كان له مدبّران وربّان أو أكثر من ذلك لاختلّ نظامه وتقوّضت أركانه، فإنهما يتمانعان ويتعارضان، وإذا أراد أحدهما تدبير شيء وأراد الآخر عدمه فإنه محال وجود مرادهما معاً، ووجود مراد أحدهما دون الآخر يدلّ على عجز الآخر وعدم اقتداره، واتفاقهما على مرادٍ واحد في جميع الأمور غير ممكن، فإذاً يتعيّن أن القاهر الذي يوجد مراده وحدَه من غير ممانع ولا مدافع هو الله الواحد القهار".
إعلام الموقعين (1/211) بتصرف.
إعلام الموقعين (1/211-212) بتصرف.
مختصر الصواعق (95، 96).
مختصر الصواعق (94).
مختصر الصواعق (97).
تيسير الكريم الرحمن (521).
سابعا: آثار الشرك وأضراره:
1- ضعف تعظيم الربّ تعالى ومحبته في قلب صاحبه:
ذكر العلماء في وصف حال المشركين أنهم يحبون معبوداتهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله، وكثير منهم ـ بل أكثرهم ـ يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد ربَّ العالمين، وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضبَ الليث إذا حرَد، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئاً رضوا عنه، ولم تتنكر له قلوبهم... فهذه حال من اتخذ من دون الله ولياً، ويزعم أنه يقربه إلى الله.
2- سقوط صاحبه من أوج العزة والكرامة إلى حضيض السفول والقلق والرذيلة:
قال تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
قال ابن القيم: "تأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره، ويجوز لك في هذا التشبيه أمران:
أحدهما: أن تجعله تشبيها مركّبا، ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيرَه برجل قد تسبّب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يُرجى معه نجاة، فصوّر حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير في الهوى فتمزّق مزقا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة، وعلى هذا لا تنظر إلى كلّ فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به.
والثاني: أن يكون من التشبيه المفرّق، فيقابَل كل واحد من أجزاء الممثّل بالممثّل به، وعلى هذا فيكون قد شبّه الإيمان والتوحيد في علوّه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه، فمنها هبط إلى الأرض، وإليها يصعد منها، وشبّه تاركَ الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة والطير الذي تخطف أعضاءه وتمزقه كلّ ممزق بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه وتؤزّه أزّا وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه، فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكلّ طير مزعة من لحمه وأعضائه، والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء".
3- نجاسة صاحبه:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28].
قال ابن القيم: "ونجاسة الشرك عينية، ولهذا جعل سبحانه الشرك نجَساً بفتح الجيم، ولم يقل: إنما المشركون نجِس بالكسر، فإن النَّجَس عين النجاسة، والنجِس بالكسر المتنجِّس، فأنجس النجاسة الشرك، كما أنه أظلم الظلم".
4- أنه يوجب لصاحبه عذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: {لّيُعَذّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الأحزاب:73].
قال ابن القيم: "والمقصود أن الشرك لما كان أظلم الظلم وأقبح القبائح وأنكر المنكرات كان أبغض الأشياء إلى الله وأكرهها له وأشدها مقتاً لديه، ورتّب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حَرَمِه، وحرّم ذبائحهم ومناكحتهم، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وجعلهم أعداءً له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم وأن يتخذوهم عبيداً، وهذا لأن الشرك هضم لحقّ الربوبية، وتنقيص لعظمة الإلهية".
5- أن المتلبّس به يسيء الظن بربّ العالمين ويتنقصه تعالى:
قال تعالى: {وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْء عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْء وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [الفتح:1].(/19)
قال ابن القيم: "فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك، فإنهم ظنّوا به ظنّ السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظنّ لوحّدوه حقّ توحيده".
وقال أيضاً: "فالشرك ملزوم لتنقّص الربّ سبحانه، والتنقّص لازم له ضرورة، شاء المشرِك أم أبى، ولهذا اقتضى حمدُه سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره، وأن يخلّدَ صاحبَه في العذاب الأليم ويجعله أشقى البرية، فلا تجد مشركاً إلا وهو متنقّص لله سبحانه".
6- أن التلبس به يوقع الفرد والمجتمع في ظلمات متراكمة:
إن أكبر الكبائر الإشراك بالله تعالى، ذلك لأن الشرك ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، وحجب متلاطمة لا يقرّ لها قرار، فهو يجعل الإنسان عبداً للمخلوق، وهو لا يعبد المخلوق إلا جلباً لفائدة أو دفعاً لضرر، فهو في الواقع عبد لمصلحته، وبالتالي هو عبد لنفسه، وعبادة النفس معناها أن الشخص غير صالح ليكون عضواً كريماً عاملاً على الرقي بالجماعة الإنسانية محققاً لسعادتها، بل هو على الضد من ذلك يكون عدواً للإنسانية، هادماً لأركانها، ساعياً في شقائها دون أن يدري؛ إذ إن الشرك يقلب الأوضاع، فيجعل الحقّ باطلاً، والباطل حقاً، والخالق مخلوقاً، والمخلوق خالقاً، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن تبنى قواعد الجماعات على أسس سليمة، ذلك لأن العلاقات الإنسانية تكون مبنية على مستلزمات الشرك، وهي الجشع والتربص والحقد والكذب وسفك الدماء والعدوان والاستعباد والإذلال.
كل ذلك يؤدي إلى انفراط نظام العقد الإنساني الذي يتحوّل إلى فوضى لا ضابط لها ولا رابط، يسودها الخوف، ويخيّم عليها القلق، وتتخلّلها الحروب التي لا تنتهي، والتي تسببها الأطماع التي لا تنتهي، وحينئذ تصبح الحياة شقاء لا سعادة فيه، وجحيماً لا يطاق، يعذّب فيه البشر بعضهم بعضاً.
مدارج السالكين (1/368-369).
إعلام الموقعين (1/180).
إغاثة اللهفان (1/98).
إغاثة اللهفان (1/99).
إغاثة اللهفان (1/99).
إغاثة اللهفان (1/101).
انظر: دعوة التوحيد، لمحمد خليل هراس (72-73).
ثامنا: سدّ الذرائع المفضية إلى الشرك:
جاءت الشريعة الإسلامية الغراء بالتدابير الواقية من الوقوع في الشرك، فمن ذلك:
أ- التحذير من الوقوع في الشرك فيما يتعلق بذات الله سبحانه وأسمائه وصفاته:
1- التحذير من الوساوس والشكوك والأوهام:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل: إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولون: هذا الله خلَق الخلْق، فمن خلق الله؟)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟)) .
فهذا الشكّ إذا تمكّن في القلب يحصل الشرك في ذاته سبحانه، فحذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في ذلك، وبيّن للناس كيفية اتّقائه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينتَهِ))، وفي رواية: ((فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله))، زاد في رواية: ((ورسله)).
2- التحذير من الكبر الذي هو حق الله تعالى:
عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته)).
قال النووي: "ومعنى ((ينازعني)): يتخلّق بذلك فيصير بمعنى المشارك، وهذا وعيد شديد في الكبر".
3- التحذير من التشبه بالله تعالى في الاسم الذي لا ينبغي إلا له وحده:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((أخنع الأسماء عند الله رجل تسمَّى بملك الأملاك))، وفي لفظ: ((أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك)).
قال النووي: "واعلم أن التسمي بهذا الاسم حرام، وكذلك التسمي بأسماء الله تعالى المختصة به كالرحمن والقدوس والمهيمن وخالق الخلق ونحوها".
ب- التحذير من الوقوع في الشرك في عبادة الله تعالى:
1- الإخبار بوقوع الشرك في آخر الزمان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة))، وكانت صنماً تعبدها دوس في الجاهلية بتبالة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبَد اللات والعزى))، فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظنّ حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] أنَّ ذلك تاماً!! قال: ((إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فتوفّي كلّ من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم)).(/20)
وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فرجعت دوس وما حولها من القبائل لعبادة الخلصة وافتتنوا بها، حتى قامت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتجدّد ما اندرس من الدين وعاد الإسلام لجزيرة العرب، فهدمت ذي الخلصة وأزيلت آثارها ولله الحمد.
2- النهي عن الإطراء في مدحه صلى الله عليه وسلم:
عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)).
إذ الغلو في تعظيمه يؤدّي إلى استشعار القلب بالخوف والرهبة منه والرجاء فيه، فيصرف إليه عندئذٍ شيئاً من حقوق الله تعالى.
3- النهي عن البناء على القبور، وعن اتخاذها عيداً ومساجد:
عن عائشة أن أم سلمة رضي الله عنهما ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)).
وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمّ بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، يحذر ما صنعوا.
قال الحافظ: "وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظّم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذمّ من يفعل فعلهم".
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصّص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه.
4- النهي عن الصلاة إلى القبور:
عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها)).
قال النووي: "فيه تصريح بالنهي عن الصلاة إلى قبر".
قال ابن القيم: "فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواء".
5- الأمر بتسوية القبور وهدم ما بني عليها:
عن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها.
وعن أبي الهيّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع تمثالاً إلا طمستَه، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته.
قال سليمان آل الشيخ: "وقد أجمع العلماء على النهي عن البناء على القبور وتحريمه ووجوب هدمه لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه، ولا فرق في ذلك بين البناء في مقبرة مسبّلة أو مملوكة إلا أنه في المملوكة أشدّ".
6- التحذير من زيارة القبور للصلاة في المساجد المبنية عليها أو الدعاء عندها وشدّ الرحال إليها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى)).
قال ابن تيمية: "فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة".
وقال أيضاً: "وهذا النهي يعم السفر إلى المساجد والمشاهد، وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب".
7- النهي عن الحلف بغير الله:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله)).
قال ابن تيمية: "وهو صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغير الله، وعن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وعن اتخاذ القبور مساجد، واتخاذ قبره عيداً، ونهى عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة، وأمثال ذلك لتحقيق إخلاص الدين لله، وعبادة الله وحده لا شريك له، فهذا كله محافظة على توحيد الله عز وجل وأن يكون الدين كله لله، فلا يعبد غيره، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يدعى إلا هو، ولا يتَّقى إلا هو، ولا يصلى ولا يصام إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يحج إلا إلى بيته".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
أخرجه مسلم في الإيمان (136).
أخرجه مسلم في الإيمان (135).
أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده (3276)، ومسلم في الإيمان (134).
وهي رواية لمسلم (134).
وهي رواية لمسلم (134).
أخرجه مسلم في البر والصلة (2620).
شرح صحيح مسلم (16/173).
أخرجه البخاري في الأدب، باب: أبغض الأسماء إلى الله (6206).
هذا اللفظ عند مسلم في الآداب (2143).(/21)
شرح صحيح مسلم (14/122).
أخرجه البخاري في الفتن، باب: تغيير الزمان حتى تعبد الأوثان (7116)، ومسلم في الفتن (2906).
أخرجه مسلم في الفتن (2907).
الشرك في القديم والحديث (1/600).
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: قول الله: {واذكر في الكتاب مريم} (3445).
الشرك في القديم والحديث (1/612).
أخرجه البخاري في الصلاة، باب: الصلاة في البيعة (434).
أخرجه البخاري في الصلاة، باب: حدثنا أبو اليمان (435).
فتح الباري (1/634).
أخرجه مسلم في الجنائز (970).
أخرجه مسلم في الجنائز (972).
شرح صحيح مسلم (7/38).
إغاثة اللهفان (1/189).
أخرجه مسلم في الجنائز (968).
أخرجه مسلم في الجنائز (969).
تيسير العزيز الحميد (332).
أخرجه البخاري في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1189). ومسلم في الحج (511).
اقتضاء الصراط المستقيم (2/153).
اقتضاء الصراط المستقيم (2/182).
أخرجه البخاري في الأدب، باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً (6108)، ومسلم في الأيمان (1646).
أخرجه البخاري في الأدب، باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً (6107)، ومسلم في الأيمان (1647).
مجموع الفتاوى (27/350-351).(/22)
الشروط التي يجب توفرها في الإمام
الحمد لله رب العالمين، عم بنعمته الخلائق كلها، على مدار الأعوام والسنين، وأكمل دين الإسلام ورضيه ديناً لعباده المؤمنين.. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الصادق الأمين، وعلى آله الطيبين وصحابته الأكرمين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد..
في هذا اللقاء نتعرف على حكم شرعي في الإمامة وهو: الشروط التي يجب أن تتوفر في إمام الصلاة؟!
هناك شروط متفق عليها بين العلماء فيمن يأمّ الناس في الصلاة وشروط مختلف فيها..
فمن المتفق عليها:
1. أن يكون الإمام مسلماً.. فلا تصح صلاة الكافر فضلاً عن إمامته، اتفق على ذلك العلماء.. فالكافر لا يقبل منه صرف ولا عدل، ولا يقبل منه عمل حتى يدخل في الإسلام كما قال –تعالى-:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (85) سورة آل عمران. وقوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ}التوبة: 54.
ومن السنة حديث عائشة قالت: قلت: يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. رواه مسلم: (214)
2. أن يكون بالغاً مميزاً .. فلا تصح إمامة الصبي غير المميز باتفاق، وأما الصبي المميز فقد وقع فيه الخلاف على قولين؛ قول بالجواز وآخر بعدمه, كما سيأتي.
3. أن يكون القوم وراءه راضين عنه، ويخرج بهذا الشرط من أم قوماً وهم له كارهون، فقد اتفق الأئمة الأربعة على أنه يكره أن يؤم المسلم قوماً وهم له كارهون، وذلك إذا كرهوه لمعنى مذموم شرعاً كأن يكون ظالماً، أو يعاشر أهل الفسوق، أو ينقص هيئات الصلاة ولا يكملها.. أما إذا كرهوه لغير ذلك، وهو مع ذلك ذو دين وسنة فلا تكره إمامته..
واشترط الشافعية أن يكون أغلبهم يكرهونه أما إذا كرهه نصفهم فأقل فإن ذلك لا يؤدي إلى كراهة إمامته. ذكره النووي في المجموع.
واستدلوا على بأدلة منها منها ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-قال: (ثلاث لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً: رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان) رواه ابن ماجه وابن حبان وهو صحيح. وروى نحوه الترمذي والبيهقي.
وأما الشروط المختلف فيها فنورد منها:
1- العدالة: اختلف في إمامة الفاسق؛ هو المصِرُّ على الصغائر أو الواقع في الكبائر.. مع اتفاقهم على كراهة الصلاة خلفه؛ كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: الأئمة متفقون على كراهة الصلاة خلف الفاسق لكن اختلفوا في صحتها : فقيل لا تصح . كقول مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنهما . وقيل : بل تصح كقول أبي حنيفة والشافعي والرواية الأخرى عنهما ولم يتنازعوا أنه لا ينبغي توليته... .23/357
لعل السبب في كراهة العلماء للصلاة خلف الفاسق هو عدم الوثوق به في المحافظة على الشروط؛ أو لأن في تقديمه تقليلاً للجماعة لكره بعض المصلين له، أما نزاعهم في صحة الصلاة خلف الفاسق ، والمبتدع فهو إذا كان الإمام فاسقا أو مبتدعا وأمكن أن يصلى خلف عدل . فقيل : تصح الصلاة خلفه وإن كان فاسقا . وهذا مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وأبي حنيفة. وقيل: لا تصح خلف الفاسق إذا أمكن الصلاة خلف العدل وهو إحدى الروايتين عن مالك وأحمد. والله أعلم 23/ و3/280
"وهذا إنما هو في البدعة التي يعلم أنها تخالف الكتاب والسنة مثل بدع الرافضة والجهمية ونحوهم . فأما مسائل الدين التي يتنازع فيها كثير من الناس في هذه البلاد مثل " مسألة الحرف والصوت " ونحوها فقد يكون كل من المتنازعين مبتدعا وكلاهما جاهل متأول فليس امتناع هذا من الصلاة خلف هذا بأولى من العكس فأما إذا ظهرت السنة وعلمت فخالفها واحد فهذا هو الذي فيه النزاع والله أعلم .. .23/356
"وَحِينَئِذٍ فَإِذَا صَلَّى خَلْفَ الْفَاجِرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ لِلْعُلَمَاءِ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : أَنَّهُ يُعِيدُ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا لَا يُشْرَعُ بِحَيْثُ تَرَكَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِنْكَارِ بِصَلَاتِهِ خَلْفَ هَذَا فَكَانَتْ صَلَاتُهُ خَلْفَهُ مَنْهِيًّا عَنْهَا فَيُعِيدُهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُعِيدُ . قَالَ : لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي نَفْسِهَا صَحِيحَةٌ وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَرْكِ الْإِنْكَارِ هُوَ أَمْرٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ الصَّلَاةِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْبَيْعَ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَة ِ23/342..
أي في افكاك جهة الأمر عن جهة النهي.(/1)
هل تصح الصلاة خلف المخالف في الفروع؟ وذلك كمن صلى خلف حنفي لا يقرأ الفاتحة، ولا يرى وجوبها، مع أن من خلفه يرى أنها ركن تبطل الصلاة بدون قراءتها ؟ فما الحكم؟
عند المالكية ووجه عند أصحاب الشافعي اختاره القفال، وهو رواية عن أحمد، واختاره ابن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم أن صلاة المأموم صحيحة، واستدلوا بحديث: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم) رواه البخاري.
فدل الحديث على أن الخطأ يتحمله الإمام وليس على المأموم شيء؛ ولأنه يعتقد أن الإمام مجتهد في ذلك، وهو معذور باجتهاده، فصلاته صحيحة.
القول الثاني: لا تصح الصلاة خلفه؛ لأن المأموم يعتقد فساد صلاته، ومعلوم أن الإمام إذا فسدت صلاته فسدت إمامته من باب أولى.
والراجح القول الأول والله أعلم..
2- المسألة الثالثة: صلاة الصبي المميز، إمامته في الفرض فيها خلاف:
1) تصح إمامته في الصلاة المفروضة، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد، ودليلهم حديث عمرو بن سلمة أنه أَمَّ قومه وعمره ست أو سبع سنين. رواه البخاري.
2) لا تصح إمامته وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة.. قالوا: لأن الصلاة لا تجب على الصبي، فهي في حقه نفل، وفي حق المأموم فرض، وقد نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الاختلاف على الإمام.. واستدلوا بحديث: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ...) الحديث..
وفي النفل اختلفوا على قولين: تصح إمامته وهو قول الشافعية والمالكية وأحمد.
وقيل: لا تصح إمامته وهو قول الأحناف. وقالوا: لا فرق بين الفرض والنفل في عدم الصحة.. والصحيح صحة الصلاة خلفه إذا كان طاهر الملبس والجسد محسن لشروط الصلاة وأركانها؛ ولأنه قد يكون ذا قراءة حسنه تفضل قراءة كثير من المؤتمين به؛ كما جوز الرسول لعمرو بن سلمة أن يؤم قومه وهو صبي لم يجاوز السابعة من عمره.
ما حكم إمامة الأمي اللحَّان: أي الذي يلحن بقراءة الفاتحة لحناً فاحشاً يحيل المعنى؟
فيه قولان:
1. قول الأئمة الأربعة عدم صحة إمامته، ولا تصح الصلاة خلفه لحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) متفق عليه، ولأن من أخل بقراءتها لا يعتبر قارئاً لها قراءة تامة.
2. قول عطاء بن أبي رباح وقتادة والمزني وأبي ثور وابن المنذر: تجوز الصلاة خلفه، والأول أصح..
إذن: نأخذ شرطاً من هذا الموضوع للحديث السابق ألا وهو: أن تكون قراءة الإمام للفاتحة صحيحة، لا تحيل المعنى، فإن كان يلحن لحناً شديداً يحيل المعنى، فلا يجوز للقارئ أن يأتم بالعامي اللحَّان.
3- المسالة الرابعة: إمامة المرأة للرجال:
القول الأول: لا يجوز أن تؤم المرأة الرجال مطلقاً في الفرض والنفل، وهو قول الأحناف والمالكية والشافعية، وهو مذهب أحمد في الفرض، وأما في النفل فهو رواية عن أحمد وهذه الرواية هي المذهب عند الحنابلة.. وفي رواية تصح الصلاة خلفها في التراويح.. استدلوا من استدلوا؟ بقوله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها) رواه مسلم.
فدل على أن موقفهن التأخر عن الرجال، والإمام لا يكون إلا متقدماً؛ فإذن لا تجوز إمامتها للرجال. واستدلوا بحديث: (لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) رواه البخاري والترمذي.
قالوا : والصلاة نوع من الولاية.. وغيرها من الأدلة.
القول الثاني: لا تصح إمامة المرأة في الفرض وتصح في التراويح، وهي رواية عن أحمد، وهو الأشهر عند المتقدمين من أصحاب الإمام أحمد.
واستدلوا بحديث أم ورقة بنت نوفل -رضي الله عنها- أنها استأذنت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تتخذ مؤذناً في دارها فأذن لهن. وفي رواية: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذناً يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها، قال عبد الرحمن بن خلاد الأنصاري: فأنا رأيت مؤذنها شيخاً كبيراً) رواه أبو داود والحاكم والدارقطني وابن خزيمة..وحسنه الألباني في صحيح أبي داود.
فدل الحديث على أنها تصلي بأهل دارها ومن بينهم المؤذن..
القول الثالث: جواز إمامة المرأة للرجال مطلقاً، أي في الفرض والنفل وهو قول أبي ثور والمزني وابن جرير الطبري، ذكر ذلك النووي في المجموع.(/2)
واستدلوا بما جاء في حديث أم ورقة بنت نوفل في رواية: أنه أمرها أن تؤم أهل دارها في الفرائض، وكان من ضمنهم المؤذن، فدل على جواز إمامتها في الفرض والنفل.. والصحيح عدم الصحة لما سبق من الأدلة، وأن القول بجواز إمامة المرأة للرجال يفتح أبواباً للفتن والشر، وأمور لا تحمد عقباها، وأن ما استدل به أصحاب هذا القول لا يدل على المقصود، وهي حادثة معينة ورخصة من الرسول لامرأة لا يستفاد منها التعميم.. كيف لا وقد نهى الرسول عن الاختلاط وأمر النساء بالتوسيع لمرور الرجال في الطرق، وتميزهن عن الرجال في الصلاة، وجعلهن خلفهم، فكيف لو كانت المرأة أمامهم تركع وتسجد!! وهذا القول -والله أعلم- لم يعمل به، وهو دليل على ضعفه، وأن المصائب والفتن قد تحصل إذا أمت المرأة الرجال خاصة في أزمنة كثرت فيها المغريات..
الخلاصة:
أن شروط الإمامة هي:
الشرط الأول: كون الإمام مسلماً فلا تصح إمامة الكافر.
الشرط الثاني: كونه بالغاً مكلفاً بفرائض الإسلام –واختلف في التمييز-.
الشرط الثالث: أن يكون القوم راضين عنه وعن سيرته الخلقية والدينية غير كارهين له..
الشروط المختلف فيها: نذكر الراجح منها:
إمامة المسلم الفاسق الذي يقع في كبائر الذنوب الغليظة كالفواحش مكروهة كراهة شديدة، وقد لا تصح بحسب عظم الذنب.
1. الشرط الرابع: تصح الصلاة خلف المخالف في الفروع كمن لا يرى قراءة الفاتحة فرضاً ومن يرى أن لمس المرأة ليس بناقض مع أن المأموم يراه ناقصاً، وهكذا...
2. صحة صلاة الصبي المميز
3. أن يكون الإمام للرجال رجلاً على الراجح فلا تصح إمامة المرأة للرجال..
هذا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
الشروط المتفق عليها لصحة الأذان
الحمد لله,والصلاة والسلام على رسول الله،وعلى آله وصحبه ومن والآه.
أمَّا بعدُ:
إن الأعمال التي يُراد فعلها على الوجه الصحيح والأسلم لابد من أن تكون حسب المواصفات والشروط،وإلا فإن العمل لم يؤدى بأكمل وجه، ولأن الأذان من أجلِّ العبادات وأنفعها، ولأنه يعلن رسالة التوحيد في اليوم والليلة خمس مرات، فإنه لابد من أن تتوفر فيه شروط الصحة, و إلا فإنه لم يؤدي الرسالة المطلوبة منه، بل إنه لا يصح أن يكون بغير شروط الصحة، وإننا في هذا المبحث القصير سنتكلم عن بعض الشروط التي لا يكون الأذان صحيحاً إلا بعد توفرها، فإليك أخي الكريم هذه الشروط:
1- الشروط المتفق عليها:
الأول: دخول وقت الصلاة.
اتفق الفقهاءُ على أنه يُشترط لصحة الأذان والإقامة دخول وقت الصلاة المفروضة، فلا يصحُّ الأذان ولا الإقامة قبل دخول الوقت، وأنه إذا أذن قبل دخول وقت الصلاة أعاد الأذان بعد دخول الوقت، إلا إذا صلى النَّاسُ في الوقت وكان الأذانُ قبله فلا يُعَاد(1).
الأدلة على ذلك:
1- حديث ابن عمر-رضي الله عنه-:" أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي-صلى الله عليه وسلم- أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام"(2). وجه الدلالة أن النبي-صلى الله عليه وسلم-علّق الأمر بالأذان على حضور الصلاة، وحضورها يكون بدخول وقتها.
2- عن جابر بن سَمُرة-رضي الله عنه-قال:" كان بلالٌ يؤذن إذا دحضت(3)،فلا يقيم حتى يخرج النبي-صلى الله عليه وسلم-، فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه"(4) .
3- وعن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال:"الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن..."5. والدلالة أن المؤذن مؤتمن على أوقات الصلاة، وفي الأذان قبل الوقت إظهار للخيانة فيما ائتمن فيه"(6).
الثاني: خلوّ الأذان والإقامة من اللّحن:
تعريف اللحن: يأتي على الخطأ في الإعراب، وترك الصواب في القراءة والنشيد ونحو ذلك، يقال: فلان لَحّانٌ ولَحّانةٌ، أي : يخطئ، والتلحين: التخطئة.
ويأتي بمعنى الأصوات المصوغة الموضوعة التي فيها تغريد وتطريب، وجمعه ألحان ولحون، يقال: لحن في قراءته إذا غرّد وطرب فيها بألحان. والتطريب في الصوت: مدّه وتحسينه"(7).
حكم اللحن في الأذان والإقامة:
ينقسم اللحن-سواء ما كان بالمعنى الأول وهو الخطأ في الإعراب، أو المعنى الثاني الذي هو التمطيط والتطريب-إلى قسمين:
الأول: اللحن الذي يتغيّربه المعنى: وهذا اتفق الفقهاء على أنه إذا كان اللحن يحيل المعنى، فإنه يحرم ويبطل الأذان(8)، لأن الأذان إنما المقصود به النداء إلى الصلاة، فلا بدَّ من تفهيم ألفاظه للسامع، واللّحن المحيل للمعنى يخرجه عن الإفهام(9).
قال الشيخ علي محفوظ: " من البدع المكروهة تحريماً التلحين في الأذان، وهو التطريب- أي التغني به- بحيث يؤدي إلى تغيير كلمات الأذان وكيفياتها بالحركات والسكنات، ونقص بعض حروفها، أو زيادة فيها؛ محافظة على توقيع الألحان، فهذا لا يحل إجماعاً في الأذان، كما لا يحل في قراءة القرآن"(10). قال ابن الجوزي:" كره مالك بن أنس وغيره من العلماء التلحين في الأذان كراهية شديدة؛ لأنه يخرجه عن موضع التعظيم إلى مُشابهة الغناء"(11). والتلحين الذي بمعنى التطريب والتغني قد تجافاه السلف، وإنما أحدث بعدهم، كإمالةِ حروفِ الأذانِ وإفراط المدِّ فيه، أو التَّأذين بالألحان مما يُشبه الغناء، فهذا لا يحلُّ باتفاقِ الفُقهاء(12).
وروي أنَّ مُؤذِّناً أذن فطرب في أذانه، فقال له عمر بن عبد العزيز: أذِّن أذاناً سمحاً وإلا فاعتزلنا"(13).
أمثلة على هذا اللحن:
1- مد همزة "آلله" لأنه استفهام.
2- مد همزة" أكبر".
3- مدّ الباء من " أكبر" فيصير جمع كَبَر بفتح الباء وهو الطبل، لأنه يجعل فيها ألفاً.
4- الوقف على" لا إله" ويبتدئ "إلا الله".
الثاني: اللَّحن الذي لا يتغيرُ به المعنى: يرى جمهورُ الفُقهاء من الحنفيَّة والمالكيَّة والشافعيَّة والحنابلة على الأصحِّ، أنَّ اللَّحْنَ إذا كانَ لا يُحِيلُ المعنى، فإنَّهُ يَصِحُّ معه الأذانُ مع الكراهةِ، وذلكَ لأنَّ المقصودَ من الأذانِ الإعلامُ ويحصل به، ولأنه يأتي به مرتباً فيصح كغيره(14).
أمثلة على هذا اللحن:
1- عدم إدغام تنوين" محمد" في الراء بعدها.
2- فتح النون من "أن لا إله إلّا الله".
3- الزيادة عن مقدار المدّ الطبيعي في لفظ" إله" زيادة فاحشة.
4- إشباع الفتحة من "إله" فتكون ألفاً فيقول"إلهاً".
5- الإتيان بهاء زائدة بعد الهاء من "إله".
6- وغيرها من الأمثلة : كضم" محمد" وإدغام" حيّ" وفتح الراء في " أكبر" الأولى،، وقلب الألف هاءً من " الله". وإدغام الهاء في الشين في كلمة" أشهد" فتنطق" أشَّد". كل هذه تلحق باللحن المكروه وهو غير المحيل للمعنى.(/1)
قال الشيخ ابن باز:"ينبغي للمؤذن أن يصون الأذان من اللحن والتلحين . واللحن كونه يخل بالإعراب ، كان يقول : أشهد أن محمداً رسولَ الله بفتح اللام ، بل يجب ضم لام ( رسول الله ) ؛ لأن رسول الله خبر أنَّ مرفوع، فإن نصب ( اللام ) كان ذلك من اللحن الممنوع ، وإن كان لا يخلُّ بالمعنى في الحقيقة ، ولا يمنع صحة الأذان؛ لأنَّ مقصودَ المؤذِّنِ : هو الإخبار بأنَّ مُحمَّداً-صلى الله عليه وسلم-هو رسول الله؛ ولأنَّ بعضَ العرب ينصب المعمولين ، لكن ذلك لحنٌ عندَ أكثر العربِ .
وأما التَّلحين: فهو التَّطويلُ والتَّمطيطُ ، وهو مكروهٌ في الأذانِ والإقامةِ.(15)
الثالث: أداء الأذان باللغة العربية:
اتفق الفقهاء- في الجملة- على أنه يُشترط لصحة الأذان والإقامة أدائهما باللغة العربية، فلا يصح أدائهما بغيرِ اللُّغةِ العربيَّةِ، إلا ما رُوي عن أبي حنيفةَ بجوازِ ذلكَ إذا علم أنه أذان وإلا لم يجز.
واشتراط أداء الأذان والإقامة باللغة العربية هو قول جمهور الحنفية، وظاهر مذهب المالكية، وهو قول الشافعية والحنابلة. إلا أن الشافعية قيدوا هذا الاشتراط في حالة وجود من يحسن العربية، فإن لم يوجد من يحسنها صحَّا، وكذلك إن كان يؤذن أو يقيم لنفسه وهو لا يحسن العربية وقد وافقهم بعض الحنابلة فيمن يؤذن أو يقيم لنفسه مع عجزه عن العربية. واستدلَّ على اشتراط اللغة العربية لصحةِ الأذانِ والإقامةِ بما يلي:
1- أن الأذان والإقامة وردا بلسانٍ عربيِّ في الأحاديث الدالّة على بدء مشروعيتهما ولم ترد بغير اللغة العربية، ومنها حديث عبد الله بن زيد أنه أري الأذان في المنام، وأنه بالعربية.
2- قياساً على أذكار الصلاة، فكما أنها لا تصح بغير العربية، فكذلك الأذان والإقامة؛ لأن كلَّاً منهما يُراد به التعبُّد(16)
إن هذه الشروط المتفق عليها بين الفقهاء لصحة الأذان، يجب على المؤذن أن يُراعيها وأن يلتزم بها لكي يكونَ أذانه صحيحاً، ثم إنَّ عليه أن ينتبه للحن المحيل عن المعنى فإنه لا يصح معه الأذان، بل يكون باطلاً، ومما يؤسف له اليوم أن تسمع العشرات من المؤذنين بل المئات في معظم البلاد الإسلامية والعربية ممن يلحن في الأذان بهذا اللحن – أي اللحن المحيل عن المعنى- ثم لا تجد من ينصحه أو يغير عليه, بل يستمر سنوات على هذا اللحن، وهذا من الخطأ الذي يجب على إمام المسجد أو المسئول المباشر على المسجد أن يتنبه لهذا الأمر ، فيقوم بتغييره، أو تعليمه، وهذا من أمور الدين التي لا يصح السكوت عنها؛ لأنه يسكت على أذان غير صحيح.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين،،
________________________________________
1 - المجموع(3/95)، والمغني(2/62).
2 - رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.
3 - أي زالت الشمس.(النهاية(2/98)
4 - صحيح مسلم(1/354)(606).
5 - رواه أبو داود، وصححه الألباني كما في "صحيح الجامع" حديث(2787).
6 - أحكام الأذان والإقامة".
7 - الصحاح(1/259).
8 - فتح القدير(1/150).
9 - راجع: أحكام الأذان والإقامة ص(163).
10 - "الإبداع" ص(176)
11 - تلبيس إبليس(ص152).
12 - أحكام الأذان ص (163).
13 - رواه ابن أبي شيبة (1/229). وقد أورده البخاري تعليقاً مجزوماً به في باب رفع الصوت بالنداء.
14 - أحكام الأذان ص(164).
15 -راجع: مجموع الفتاوى – الجزء العاشر.
16 - راجع: رسالة في أحكام الأذان والإقامة ص(167).(/2)
الشروط المتفق عليها لصحة الأذان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فإن الأعمال التي يراد فعلها على الوجه الصحيح والأسلم لا بد من أن تكون حسب المواصفات والشروط، وإلا فإن العمل لم يؤدَّ بأكمل وجه أو أن فيه نقصاً، ولأن الأذان من أجل العبادات وأنفعها، ولأنه يعلن رسالة التوحيد في اليوم والليلة خمس مرات، فإنه لا بد من أن تتوفر فيه شروط الصحة وإلا فإنه لم يؤدِّ الرسالة المطلوبة منه، بل إنه لا يصح إلا بشروط، وإننا في هذا المبحث القصير سنتكلم عن بعض الشروط التي لا يكون الأذان صحيحاً إلا بتوفرها، فإليك أخي الكريم هذه الشروط:
1- الشروط المتفق عليها:
الأول: دخول وقت الصلاة.
اتفق الفقهاء على أنه يشترط لصحة الأذان والإقامة دخول وقت الصلاة المفروضة، فلا يصحّ الأذان ولا الإقامة قبل دخول الوقت، وأنه إذا أذن قبل دخول وقت الصلاة أعاد الأذان بعد دخول الوقت، إلا إذا صلى الناس في الوقت وكان الأذان قبله فلا يعاد(1).
الأدلة على ذلك:
1- حديث ابن عمر-رضي الله عنه-:" أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي-صلى الله عليه وسلم- أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام"2. وجه الدلالة أن النبي-صلى الله عليه وسلم-علّق الأمر بالأذان على حضور الصلاة، وحضورها يكون بدخول وقتها.
2- عن جابر بن سمرة-رضي الله عنه-قال:" كان بلالٌ يؤذن إذا دحضت3،فلا يقيم حتى يخرج النبي-صلى الله عليه وسلم-، فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه"4 .
3- وعن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال:"الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن..."5. والدلالة أن المؤذن مؤتمن على أوقات الصلاة، وفي الأذان قبل الوقت إظهار للخيانة فيما ائتمن فيه"6.
الثاني: خلوّ الأذان والإقامة من اللّحن:
تعريف اللحن: يأتي على الخطأ في الإعراب، وترك الصواب في القراءة والنشيد ونحو ذلك، يقال: فلان لَحّانٌ ولَحّانّةٌ، أي : يخطئ، والتلحين: التخطئة.
ويأتي بمعنى الأصوات المصوغة الموضوعة التي فيها تغريد وتطريب، وجمعه ألحان ولحون، يقال: لحن في قراءته إذا غرّد وطرّب فيها بألحان. والتطريب في الصوت: مدّه وتحسينه"(7).
حكم اللحن في الأذان والإقامة:
ينقسم اللحن- سواء ما كان بالمعنى الأول وهو الخطأ في الإعراب، أو المعنى الثاني الذي هو التمطيط والتطريب- على قسمين:
الأول: اللحن الذي يتغيّربه المعنى: وهذا اتفق الفقهاء على أنه إذا كان اللحن يحيل المعنى، فإنه يحرم ويبطل الأذان(8)، لأن الأذان إنما المقصود به النداء إلى الصلاة، فلا بدّ من تفهيم ألفاظه للسامع، واللّحن المحيل للمعنى يخرجه عن الإفهام(9).
قال الشيخ علي محفوظ: " من البدع المكروهة تحريماً التلحين في الأذان، وهو التطريب- أي التغني به- بحيث يؤدي إلى تغيير كلمات الأذان وكيفياتها بالحركات والسكنات، ونقص بعض حروفها، أو زيادة فيها؛ محافظة على توقيع الألحان، فهذا لا يلح إجماعاً في الأذان، كما لا يحل في قراءة القرآن"(10). قال ابن الجوزي:" كره مالك بن أنس وغيره من العلماء التلحين في الأذان كراهية شديدة، لأنه يخرجه عن موضع التعظيم إلى مشابهة الغناء"(11). والتلحين الذي بمعنى التطريب والتغني قد تجافاه السلف، وإنما أحدث بعدهم، كإمالة حروف الأذان وإفراط المدّ فيه، أو التأذين بالألحان مما يشبه الغناء، فهذا لا يحل باتفاق الفقهاء(12).
وروي أن مؤذناً أذن فطرب في أذانه، فقال له عمر بن عبد العزيز: أذَّن أذاناً سمحاً وإلا فاعتزلنا"(13).
أمثلة على هذا اللحن:
1- مد همزة "آلله" لأنه استفهام.
2- مد همزة" أكبر".
3- مدّ الباء من " أكبر" فيصير " أكبار"جمع كَبَر بفتح الباء وهو الطبل، لأنه يجعل فيها ألفاً.
4- المد في أول " أشهد" فيخرج إلى حيّز الاستفهام، والمراد أن يكون خبراًَ إنشائياً.
5- الوقف على" لاإله" ويبتدئ "إلا الله".
الثاني: اللحن الذي لا يتغير به المعنى: يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على الأصح، أن اللحن إذا كان لا يحيل المعنى، فإنه يصح معه الأذان مع الكراهة، وذلك لأن المقصود من الأذان الإعلام ويحصل به، ولأنه يأتي به مرتباً فيصح كغيره(14).
أمثلة على هذا اللحن:
1- عدم إدغام تنوين" محمد" في الراء بعدها.
2- فتح النون من "أن لا إله إلّا الله".
3- الزيادة عن مقدار المدّ الطبيعي في لفظ" إله" زيادة فاحشة.
4- إشباع الفتحة من "إله" فتكون ألفاً فيقول"إلهاً".
5- الإتيان بهاء زائدة بعد الهاء من "إله". هذه وغيرها من الأمثلة : كضم" محمد" وإدغام" حيّ" وفتح الراء في " أكبر" الأولى،، وقلب الألف هاءً من " الله". وإدغام الهاء في الشين في كلمة" أشهد" فتنطق" أشَّد". كل هذه تحلق باللحن المكروه وهو الغير المحيل للمعنى.(/1)
قال الشيخ ابن باز:"ينبغي للمؤذن أن يصون الأذان من اللحن والتلحين . واللحن كونه يخل بالإعراب ، كان يقول : أشهد أن محمدا رسول الله بفتح اللام ، بل يجب ضم لام ( رسول الله ) ؛ لأن رسول الله خبر أن مرفوعا ، فإن نصب ( اللام ) كان ذلك من اللحن الممنوع ، وإن كان لا يخل بالمعنى في الحقيقة ، ولا يمنع صحة الأذان؛ لأن مقصود المؤذن : هو الإخبار بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو رسول الله؛ ولأن بعض العرب ينصب المعمولين ، لكن ذلك لحن عند أكثر العرب .
وأما التلحين : فهو التطويل والتمطيط ، وهو مكروه في الأذان والإقامة"15
الثالث: أداء الأذان باللغة العربية:
اتفق الفقهاء- في الجملة- على أنه يشترط لصحة الأذان والإقامة أداءهما باللغة العربية، فلا يصح أداءهما بغير اللغة العربية، إلا ما روي عن أبي حنيفة بجواز ذلك إذا علم أنه أذان وإلا لم يجز.
واشتراط أداء الأذان والإقامة باللغة العربية هو قول جمهور الحنفية، وظاهر مذهب المالكية، وهو قول الشافعية والحنابلة. إلا أن الشافعية قيدوا هذا الاشتراط في حالة وجود من يحسن العربية، فإن لم يوجد من يحسنها صحَّا، وكذلك إن كان يؤذن أو يقيم لنفسه وهو لا يحسن العربية وقد وافقهم بعض الحنابلة فيمن يؤذن أو يقيم لنفسه مع عجزه عن العربية. واستدلّ على اشتراط اللغة العربية لصحة الأذان والإقامة بما يلي:
1- أن الأذان والإقامة وردا بلسانٍ عربيِّ في الأحاديث الدالّة على بدء مشروعيتهما ولم ترد بغير اللغة العربية، ومنها حديث عبد الله بن زيد. أنه أري الأذان في المنام، وأنه بالعربية.
2- قياساً على أذكار الصلاة، فكما أنها لا تصح بغير العربية، فكذلك الأذان والإقامة؛ لأن كلَّاً منهما يراد به التعبّد(16)
إن هذه الشروط المتفق عليها بين الفقهاء لصحة الأذان، يجب على المؤذن أن يراعيها وأن يلتزم بها لكي يكون أذانه صحيحاً، ثم إن عليه أن ينتبه للحن المحيل عن المعنى فإنه لا يصح معه الأذان، بل يكون باطلاً، ومما يؤسف له اليوم أن تسمح العشرات من المؤذنين بل المئات في معظم البلاد الإسلامية والعربية من يلحن في الأذان بهذا اللحن – أي اللحن المحيل عن المعنى- ثم لا تجد من ينصحه أو يغيره بل يستمر سنوات على هذا اللحن، وهذا من الخطأ الذي يجب على إمام المسجد أو المسؤل المباشر على المسجد أن يتنبه لهذا الأمر الخطير، فيقوم بتغييره، أو تعليمه، وهذا من أمور الدين لا يصح السكوت عنه، لأنه يسكت على أذان غير صحيح.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين،،
________________________________________
1 - المجموع(3/95)، والمغني(2/62).
2 - رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.
3 - أي زالت الشمس.(النهاية(2/98)
4 - صحيح مسلم(1/354)(606).
5 - رواه أبو داود، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع حديث(2787).
6 - أحكام الأذان والإقامة".
7 - الصحاح(1/259).
8 - فتح القدير(1/150).
9 - راجع: أحكام الأذان والإقامة ص(163).
10 - "الإبداع" ص(176)
11 - تلبيس إبليس(ص152).
12 - أحكام الأذان ص (163).
13 - رواه ابن أبي شيبة (1/229). وقد أورده البخاري تعليقاً مجزوماً به في باب رفع الصوت بالنداء.
14 - أحكام الأذان ص(164).
15 -راجع: مجموع الفتاوى – الجزء العاشر.
16 - راجع: رسالة في أحكام الأذان والإقامة ص(167).(/2)
... ... ...
الشفاعة الحسنة ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- تفاضل الناس في الدنيا في الأرزاق وفي المكانة والجاه 2- فضل من استغل جاهه ومكانته في خدمة إخوانه المسلمين 3- شروط الشفاعة الحسنة المقبولة التي تنفع صاحبها وتزيد من أجره وبيان لبعض الشفاعات السيئة المحرمة 4- أحكام تتعلق بالشفاعة الحسنة 5- شفاعة الميت لمن صلى عليه 6- يوم القيامة تزول كل الشفاعات الباطلة 7- أعظم شفاعة هي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ليأتي الله لفصل القضاء ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
يقول سبحانه وتعالى: أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون .
خلق الله الخلق فجعلهم درجات ،فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والأعمال والعقول وغير ذلك ،وكل ذلك من أجل أن يتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ،يكون كل منهم مسخراً لخدمة الآخر وللسعي في حاجته. الغنيُ يخدمُ الفقير بجاهه وماله ،والفقير يخدم الغني بعمله وسعيه.
ومن نعم الله على العبد المسلم نعمة الجاه والمكانة بين الناس ،إذا قام بشكرها كانت نعمة ،وإذا قام بكفرها فحجب هذا الجاه عن أهله المستحقين له كانت نقمة ووبالاً عظيماً. قال صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)) رواه مسلم.
ومن أعظم أبواب النفع للمسلمين باب الشفاعة الحسنة ،يقول سبحانه وتعالى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها .
الشفاعة الحسنة وبذل الجاه والمكانة للمسلمين أياًما كانوا ،أصبح في حكم المعدوم والنادر في هذا الزمان. وتناسى أصحاب المكانات والجاه والرئاسة الفضل العظيم في قبول الشفاعات الحسنة. ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه ،من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ،ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة في الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: ((لأن أمشي في حاجة أخي أحبُ إليَّ من أن أعتكف شهراً)).
((وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه السائل - أو صاحب الحاجة - قال: اشفعوا فلتؤجروا ،وليقض الله على لسان رسوله ما شاء)) رواه البخاري. الفتح 10/451.
قال الإمام الشافعي: "الشفاعات زكاة المروات" كشف الخفاء 1/129.
ومرة: جاء رجلٌ إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة ،قضاها ،فأقبل الرجل يشكره ،فقال له الحسن بن سهل: علام تشكرنا ،ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة؟ ثم أنشأ يقول: ... ... ... ...
وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فاجهد بوسعك كله أن تنفعا
... فرضت علي زكاة ما سكلت يدي
فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع
... ... ...
أيها الأخوة: إن الشفاعة الحسنة مبذولة لكل مسلم ،ليست لمعارفك ولا لإخوانك: إنك عمَّا قريب ستفارق جاهك ،وتفارق منصبك ،فلا تبخل حتى بجاهك ومساعدتك عن إخوانك المسلمين. إنما المؤمنون إخوة ، ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)). إذا جاءك رجل مسلم يريدُ شفاعتك في كذا فقم معه ،ولا تتوانى ،ترفع عنه الظلم أو تجلب له الخير بشفاعتك الحسنة.
أيها الأخوة: والشفاعة حتى تكون حسنة ،مقبولة شرعاً ،تنفع صاحبها ،وتزيد في أجره لابد أن تتوفر فيها ضوابط وشروط:
الأول: عدم تضييع من له حق: فكم من الناس يشفع ويتوسط ويتوسل في أمور يضيع بها حقوق المسلمين لنفع صاحبه أو قريبه ،وهذا من المحرمات ،ومن البلايا التي ابتلي بها أهل الزمان ،تضيع حقوق وتهدر أحوال وأوقات وجهود بسبب مكالمة أو ورقة صغيرة: إثمها كبير، ووزرها خطير ،ويظن الجاهل أن هذا من الشفاعة الحسنة ،وما علم أنها من الشفاعة المحرمة: ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كِفل منها وكان الله على كل شيء مقيتاً . ومن علامات سوء المجتمع. أنك لا تستطيع إنجاح حاجة من حوائجك بدون أن تكلم فلان أو تتصل على هيان بن بيان أو تستخرج ورقة من علان ،لتسجيل أحد أولادك في الجامعة أو أحد بناتك في الكلية ،أو حتى تسجيل بعض أولادك الصغار في المدارس. أو لكي تعين في المنطقة الفلانية أو تنقل من جهة إلى جهة. وتدخل الشفاعات السيئة عندما يصل الأمر إلى نقل المدرسات من منطقة إلى منطقة بل قد يتعدى الأمر إلى الرشاوى، هذا والنظم موجودة والباب مفتوح. فإلى الله المشتكى. وهذا إن حصل فكما قلت علامة سوء المجتمع.
والضابط الثاني ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه، والأجر لا يكون في الشفاعة إلا إذا كانت شرعية ،يقرها الشرع.
وبعض الناس يظن أن كل شفاعة أو واسطة فيها الأجر والثواب ،وهذا مخالف لقول الله تعالى: ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ،فدل على وجود نوع من أنواع الشفاعات: حرام ،وهي الشفاعة السيئة.(/1)
وقد يشفع إنسان ما بجاهه ومنزلته وبكلمته المسموعة ليغتصب حقوق الآخرين ويظلمهم ويأكل أموالهم بالباطل.
والضابط الثالث: ((ألا تكون الشفاعة في حدٍ من حدود الله)).
إن الشفاعة في الحدود من الكبائر عدها إبن القيم منها ،واستدل بحديث ابن عمر المرفوع: ((من حالت شفاعته دون حدٍ من حدود الله فقد ضاد الله في أمره)) رواه أحمد وغيره بإسناد جيد.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت ،فقالوا: مَنْ يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ومن يجترئ عليه إلا أسامة حِبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلم أسامة رسول الله. فقال: ((تشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام صلى الله عليه وسلم فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم إنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه ،وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد. وأيمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ،لقطع محمد يدها)) رواه البخاري.
وهذا في الشفاعة إذا وصل الحد إلى السلطان ،فلا تجوز الشفاعة حينئذ ،ومن يشفع فهو مرتكب لكبيرة من الكبائر العظام ،مضاد لحكم الله في أرضه وسلطانه لكن إذا لم يصل السارق إلى السلطان أو شارب الخر فالستر عليه والعفو عنه.
ومن أسباب النكبات التي تمر بها بلدان المسلمين تعطيل الحدود الشرعية، بسبب شفاعات السوء ،وجاهات الضرار التي تحاد شرع الله، فإذا تعطل الحد الشرعي حلت عقوبة قدرية كونية تشمل المجتمع كليه ،قال صلى الله عليه وسلم: ((حد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً)).
- يزني الزاني فيشفع فيه من يشفع فلا يقام عليه الحد.
- ويشرب الخمر من يشربها فيشفع فيه من يشفع.
- ويسرق من يسرق فيشفع فيه من يشفع فلا يقام عليه الحد.
- ويسبُ الدين والشرع ويستهزأ به ولا يقام الحد.
ويرتد من ارتد عن دينه فلا يقام حد الردة.
وكل ذلك بسبب شفاعات السوء ،التي تحارب حكم الله وحدوده.
أيها الأخوة: وللشفاعة الحسنة أحكام تتعلق بها ،وتنبيهات يجدر بالمسلم أن يتفطن لها. فإذا شفعت أيها الأخ المسلم شفاعة حسنة: فلا يجوز لك أن تأخذ مقابل على هذه الشفاعة والواسطة. والدليل ما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة مرفوعاً: ((من شفع لأحد شفاعة ،فأهدى له هدية (عليها) فقبلها (منه) فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)).
ومن الناس من يعرض بذل جاهه ووساطته مقابل مبلغ مالي يشترطه: ليعين شخصاً في وظيفة أو نقل آخر من دائرة لأخرى، أو من منطقة إلى أخرى، أو حتى يُدخل مريضاً المستشفى لعلاجه، أو ليُخرج أوراقاً يمكث بها الناس في بعض الديار والبقاع ،ويأخذ على هذا مبلغاً مالياً ،يشترطه.
إن هذا المقابل المادي حرام لا يجوز أخذه والدليل: ((من شفع لأحد شفاعة فأهدي له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)).
بل إن ظاهر الحديث يشمل الأخذ ولو بدون شرط مسبق كما يقوله الشيخ العلامة ابن باز ،فلو شفعت أخي المسلم لأخيك وجاءك بهدية - بدون أن تشترطها - فلا تأخذها ،وأجرك على الله ،ولا تجعل باباً للشيطان يُفسد عليك أعمالك الصالحة التي تبتغي بها وجه الله، لا تقبل هدية ،ولا مال ،ولا خدمة أخرى مقابل شفاعتك وواسطتك، فإن "الشفاعات زكاة المروات".
وإذا قلنا بتحريم - أخذ الهدية - على الشفاعة والواسطة ولو لم تشترط ،فإنه لا يدخل في ذلك استئجار شخص لإنجاز معاملة ومتابعتها وملاحقتها في الدوائر ،مقابل أجرة معلومة، فهذا باب آخر غير مسألة الشفاعة والواسطة ،فهو من باب الإجارة: فكأنك تستأجر فلان ليُطارد لك معاملتك وينجزها ،فهذا جائز لا شيء فيه، وهو ليس من باب بذل الجاه والشفاعة والمكانة مقابل المال. فهذا هو المحرم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. ... ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:
فقد تعرضنا في الخطبة السابقة ،لأحكام الشفاعة للحي وفضلها ،وهي التي لا يعرف الناس سواها ،وهناك شفاعة أخرى غائبة عن كثير من الناس إلا ما رحم ربي وقليل ماهم . إنها الشفاعة للميت. نعم. "الميت" أحوج ما يكون للدعاء والشفاعة ،تشفع فيه بدعائك الصالح الذي قد يقبله الله منك. "الميت" أحوج لهذه الشفاعة من ذلك الحي الذي تسعى له بكل جهدك وأعمالك لتصلح من حاله.
يقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)) وقال: ((ما من رجل مسلم يموت ،فيقوم على جنازته أربعون رجلاً ،لا يشركون بالله شيئاً ،إلا شفعهم الله فيه)) ويموت الميت في هذا الزمان ولا يبالي به بعض أهله ولا يكترثون بمن يُصلى عليه أو يصلي عليه وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في شفاعة الأحياء: ((اشفعوا تؤجروا)) فإنه يقول في الصلاة على الميت: ((من خرج مع جنازة من بيتها أو صلى عليها ،ثم تبعها حتى تدفن ،كان له قيراطان من أجر ،كل قيراط مثل أحد ،ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد)).(/2)
أيها الأخوة: وفي يوم الدين تزول الشفاعات الباطلة ،ولا تبقى إلا شفاعة من أذن الله له ورضي له قولاً. يقول الكفار في ذلك اليوم: فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ويقول عز وجل عنهم: فما تنفعهم شفاعة الشافعين حتى لو شفع أحد فيهم فلا تنفعهم شفاعة شافع مهما كان. والكفار لا شفيع لهم في يوم المعاد ولهذا يقولون: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم كانوا في الدنيا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله ويقول الله لهم: وما نرى معكم شفعاؤكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ويقول: ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين .
أخي الحبيب: وفي يوم القيامة كما في الصحيحين: ((يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ،فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم؟ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم ،فيأتون آدم ،فيقولون: يا آدم ،أنت أبو البشر ،خلقك الله بيده ،ونفخ فيك من روحه ،وأمر الملائكة فسجدوا لك ،فاشفع لنا إلى ربك ،ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ،ولن يغضب بعده مثله ،وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته ،نفسي نفسي ،نفسي نفسي ،اذهبوا إلى غيري ،اذهبوا إلى نوح ،فيأتون نوحا ،فيقولون: يا نوح ،أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ،وسماك الله عبداً شكورا ،فاشفع لنا إلى ربك ،الا ترى إلى ما نحن فيه؟ألا ترى ما قد بلغنا؟فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ،ولن يغضب بعده مثله ،وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي ،نفسي نفسي، نفسي نفسي ،إذهبوا إلى غيري ،اذهبوا إلى إبراهيم ،فيأتون إبراهيم ،فيقولون: يا إبراهيم ،أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ،ألا ترى إلى ما نحن فيه؟الا ترى ما قد بلغنا؟فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ،ولن يغضب بعده مثله ،وذكر كذباته ،نفسي نفسي، نفسي نفسي ،اذهبوا إلى غيري ،اذهبوا إلى موسى ،فيأتون موسى فيقولون: يا موسى ،أنت رسول الله ،اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس ،اشفع لنا إلى ربك ،ألا ترى ما نحن فيه؟ألا ترى ما قد بلغنا؟فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ،ولن يغضب بعده مثله ،وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها ،نفسي نفسي، نفسي نفسي ،اذهبوا إلى غيري ،اذهبوا إلى عيسى ،فيأتون عيسى ،فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه ،قال: هكذا هو ،وكلمت الناس في المهد ،فاشفع لنا إلى ربك ،ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ،ولن يغضب بعده مثله ،ولم يذكر له ذنبا ،اذهبوا إلى غيري ،اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم ،فيأتون ،فيقولون: يا محمد ،أنت رسول الله ،وخاتم الأنبياء ،غفر الله لك ذنبك ،ما تقدم منه وما تأخر ،فاشفع لنا إلى ربك ،ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم ،فآتي تحت العرش ،فأقع ساجداً لربي عز وجل ،ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ،فيقال: يا محمد ،ارفع رأسك ،سل تعطه ،اشفع تشفع ،فأقول: يا رب أمتي أمتي ،يا رب أمتي أمتي ،يا رب أمتي أمتي ،فيقول: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ،وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب ،ثم قال: والذي نفسي بيده ،لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر ،أو كما بين مكة وبصرى)) أخرجاه في الصحيحين بمعناه ،واللفظ للإمام أحمد. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
الشمائل المحمدية لفضيلة الشيخ علي عبد الرحمن السديس
إمام الحرم المكي
الحمد لله الذي أبان الطريق وأوضح المحجة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسل
رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة، وأشهد أن نبينا وحبيبنا
محمداً عبد الله ورسوله، كساه من حُلل النبوة ما زاده مهابةً وبهجة، صلى الله
وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذين فدوه بكل ما لديهم من نفسٍ ومهجة،
والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما أمَّ هذا البيت زائر واعتمره وحجه.
أما بعد: فيا
أيها المسلمون، حينما يتعاظم رُكام الفتن في الأمة وتخيّم على سمائها الصافية
غيومُ الغمة فيلتبس الحق بالباطل، وتخفى معالم الحق على كثير من أبناء الملة،
ويختلط الهوى بالهدى، فإن تقوى الله سبحانه هي التي تنير طريق الهداية، ويبدّد
نورها ظلماتِ الجهل والغواية. من وهبة الله التقوى فقد وهبه نوراً يمشي به على
درب النجاة في سلامةٍ من المؤثرات العقدية والمنهجية، وفي بُعدٍ عن اللوثات
الفكرية والسلوكية. ألا ما أحوج الأمة اليوم إلى أن تُعمر قلوبُ أبنائها
بالتقوى واليقين؛ ليتحقق لها بإذن الله النصر والتمكين.
معاشر المسلمين،
قضيتُنا الكبرى التي يجب أن لا تُنسى في جديد التحديات وفي زخَم الحوادث
والمؤامرات، حيث إنها الركيزة العظمى التي تُبنى عليها الأمجاد والحضارات، بل
وتتحقق بها التطلعات والانتصارات، وتخرج بها الأمة من دوامة الصراعات، هي أننا
أمة عقيدةٍ إيمانية صافية، ورسالةٍ عالمية سامية، أمةُ توحيد خالص لله، واتباع
مطلق للحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذه القضية الكبرى هي حديثُ المناسبة وكلِّ مناسبة،
والتذكير بها موضوع الساعة وكلِّ ساعةٍ إلى قيام الساعة. وإن خير ما عُني به
المسلمون وتحدَّث عنه المصلحون العقيدةُ الإيمانية والسنة المحمدية والسيرة
النبوية، فهي للأجيال خيرُ مربٍّ ومؤدِّب، وللأمة أفضل معلم ومهذِّب، وليس هناك
أمتعُ للمرء من التحدث عمن يُحبّ، فكيف والمحبوب هو حبيب رب العالمين وسيد
الأولين والآخرين، فهو مِنة الله على البشرية، ورحمته على الإنسانية، ونعمته
على الأمة الإسلامية. فبالله ثم بمحمد بن عبد الله قامت شِرعةٌ وشُيِّدت دولةٌ
وصُنِعَت حضارةٌ وأسُّست ملةٌ من ملل الهدى غراءُ.
بُنيت على التوحيد وهي
حقيقةٌ
نادى بها الحكماء والعقلاء
وليس هناك أحدٌ من البشر نال من الحب
والتقدير ما ناله المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فباسمه تلهج ملايين الألسنة، ولذكره تهتزّ قلوب
الملايين، ولكن العبرة أن يتحول هذا الحب إلى محض اتباع دقيق لكل ما جاء به
عليه الصلاة والسلام، كما قال الحق تبارك وتعالى مبيناً معيار المحبة الصادقة:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله
ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم [آل
عمران:31].
إخوة الإيمان، ولم تكن حاجةُ الأمة في عصرٍ ما إلى الاقتباس من
مشكاة النبوة والسنة المباركة ومعرفة السيرة العطرة معرفة اهتداء واقتداء أشدَّ
إليها من هذا العصر الذي تقاذفت فيه الأمةَ أمواجُ المحن، وتشابكت فيه حلقات
الفتن، وغلب فيه الأهواء، واستحكمت المزاعم والآراء، وواجهت فيه الأمة ألواناً
من التصدي السافر والتحدي الماكر والتآمر الجائر من قبل أعداء الإسلام الذين
رموه عن قوس واحدة، والذي تولى كبره منهم من لعنه الله وغضب
عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت
[المائدة:60]، من اليهود المعتدين والصهاينة الغاشمين، ويوالي مسيرتهم دعاةُ
التثليث وعبدة الصليب، ويشد أزرهم المفتونون بهم المتأثرون بعفن أفكارهم وسموم
ثقافاتهم، من أهل العلمنة ودعاة التغريب.
ويزداد الأسى حين يجهل كثير من أهل
الإسلام حقائق دينهم وجوهر عقيدتهم، ويسيرون مع التيارات الجارفة دون تمحيص ولا
تحقيق، أو يجمدون على موروثات مبتدعة دون تجلية ولا تدقيق، وقد صح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [خرجه مسلم في صحيحه]
بعض شمائل
المصطفى صلى الله عليه وسلم
أيها الإخوة في الله، يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذه وقفاتٌ ومقتطفات مع
جانب من أهم جوانب السنة العطرة والسيرة المباركة، ذلكم هو جانب الشمائل
النبوية والسجايا المحمدية والآداب المصطفوية، فهي معينٌ ثرٌّ، وينبوع صافٍ
متدفق، يرتوي من تميزه كلُّ من أراد السلامة من لوثات الوثنية والنجاة من أكدار
الجاهلية، بل هي المنظومة المتألفة والكوكبة المتلألئة والشمس الساطعة والسنا
المشرق والمشعل الوضاء الذي يبدّد ركام الظُّلْم والظُّلَم، ولئن فات كثيرين
رؤيتُه صلى الله عليه وسلم بأبصارهم، فإن في تأمُّلِ شمائله لعزاءً وسلوانا، فالمطبقون لشمائله
إن لم يصحَبوا نفسَه أنفاسَه صحِبوا.
إن فاتكم أن تروه بالعيون فما
يفوتكم
وصفُه هاذي شمائله
مكمَّل الذات في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ
وفي صفاتٍ فلا تحصى
فضائله(/1)
إخوة العقيدة، إننا بحاجة إلى تجديد المسار على ضوء السنة المطهرة،
وتصحيح المواقف على ضوء السيرة العطرة، والوقوف طويلا للمحاسبة والمراجعة. نريد
من مطالعة السنة والسيرة ما يزيد الإيمان، ويزكي السريرة، ويعلو بالأخلاق
ويقوِّم المسيرة.
يخطئ كثيرون حينما ينظرون إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته كما ينظر
الآخرون إلى عظمائهم في نواحٍ قاصرة، محدودة بعلمٍ أو عبقرية أو حِنكة. فرسولنا
صلى الله عليه وسلم قد جمع نواحي العظمة الإنسانية كلها في ذاته وشمائله وجميع أحواله، لكنه مع
ذلك ليس رباً فيقصَد، ولا إلهًا فيُعبَد، وإنما هو نبي يُطاع ورسول يُتَّبع،
خرَّج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن
مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا: عبد الله ورسوله».
إن من المؤسف حقاً أن بعض أهل
الإسلام لم يقدروا رسولهم صلى الله عليه وسلم حقَّ قدره حتى وهم يتوجهون إليه بالحب والتعظيم،
ذلك أنه حبٌّ سلبي لا صدى له في واقع الحياة، ولا أثر له في السلوك
والامتثال.
أمة الإسلام، تأملوا هديه وشمائله ـ بأبي هو وأمي عليه الصلاة
والسلام ـ في جوانب الدين والدنيا بأسرها.
ففي مجال توحيده لربه صدَع بالتوحيد
ودعا إليه ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة، كيف لا وهو المنزَّل عليه قوله
سبحانه: قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب
العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول
المسلمين [الأنعام:162، 163]. وإن أول واجب على محبيه أن يُعنَوا بأمر
الدعوة إلى توحيد الله التي قامت عليها رسالته عليه الصلاة والسلام، ومحاذرة كل
ما يخدش صحيح المعتقد وصفو المتابعة، من ضروب الشركيات والبدع والمحدثات.
وفي
مجال عبوديته لربه قام من الليل حتى تفطرت قدماه، فيقال له: تفعل هذا وقد غفر
الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟!».
[خرجه
الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي مجال الأخلاق تجده
مثال الكمال في رقة القلب، وسماحة اليد، وكفِّ الأذى، وبذل الندى، وعفة النفس،
واستقامة السيرة. كان عليه الصلاة والسلام دائم البشر، سهل الطبع، ليّن الجانب،
ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو
ويصفح.
زانتْه في الخلق العظيم شمائلٌ
يُغرى بهن ويولَع الكرماء
وأعظم من ذلك
وأبلغ ثناءُ ربه عليه بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4]،
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ
القلب لانفضوا من حولك [آل عمران:159]، يقول أنس رضي الله عنه:
ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألينَ من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شممت رائحة قط أحسنَ
من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أفٍ قط،
ولا قال لشيء فعلتُه: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا.
تلك لعمرو
الحق عراقةُ الخلال وسمو الخصال، وكريم الشمائل وعظيم الفضائل، فسبحان من رفع
قدره، وشرح صدره، وأعلى في العالمين ذكره.
وشقَّ له من اسمه
ليجلَّه
فذو العرش محمود وهذا محمد
فهل من يتغنون اليوم بسيرته يقتفون أثره في
هديه وشمائله؟!
وهناك صفحة أخرى يا رعاكم الله، في معاملاته لأصحابه وأهل بيته
وزوجاته، يقول صلى الله عليه وسلم : «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم
لنسائهم». [خرجه أحمد وأهل السنن]
وهكذا في سياسة الدولة الإسلامية وفي عبادته
لربه، وفي نفقته وبذله، وفي قوته وجهاده، وحرصه على أداء رسالة الله وتبليغ
دعوة ربه تبارك وتعالى.
وهاكم ـ رعاكم مولاكم ـ أنموذجاً على حكمته في الدعوة،
ورفقه بالمدعوين ورحمته بالناس، مسلمين وغير مسلمين، وما أرسلناك
إلا رحمة للعالمين [الأنبياء:107]، ومراعاته لحقوق الإنسان، بل
ورفقه حتى بالحيوان، في وقت تتغنى فيه حضارة اليوم بدوس كرامة الإنسان ورعاية
أحطِّ حيوان، فالله المستعان.
ويتجلى هذا الأنموذج الرائع في قصة الأعرابي الذي
بال في ناحية المسجد، حين نهره الصحابة رضي الله عنهم، فقال صلى الله عليه وسلم : «دعوه، لا
تزرموه»، أي: لا تنهروه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : «إنما بُعثتم مبشرين، ولم تبعثوا معسرين»
وأرشده برفق وحكمه، وكانت النتيجة أن قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا
ترحم معنا أحداً.
[متفق عليه]
وفي قصة ثمامة بن أثال حينما أُسر ورُبط بسارية
المسجد وهو مشرك وسيد قومه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به ويقول: «ماذا عندك يا ثمامة؟»
فيقول: عندي خير يا محمد، إن تقتلْ تقتلْ ذا دم، وإن تنعمْ تُنعم على شاكر، وإن
كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فيقول صلى الله عليه وسلم بعد أن أكرمه ورفق به وأحسن
معاملته: «أطلقوا ثمامة»، فانطلق ثمامة فاغتسل ثم دخل المسجد، وقال: أشهد أن لا
إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، والله يا محمد، ما كان على وجه(/2)
الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك اليوم أحبَّ الوجوه كلها إليَّ،
وما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك اليوم أحبَّ الدين كله إليّ،
والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلها
إليَّ.
[خرجه الشيخان]
الله أكبر، تلك آثار الدعوة بالرفق والرحمة والحسنى،
والبعد عن مسالك العنف والغلظة والفظاظة، وهو درس بليغ للدعاة إلى الله إلى
قيام الساعة.
بنيتَ لهم من الأخلاق ركناً
فخانوا الركن فانهدم اضطرابا
وكان
جَنابهم فيها مُهابا
ولَلأخلاق أجدرُ أن تهابا
ولما قيل له عليه الصلاة
والسلام: ألا تدعو على المشركين؟! قال: «إني لم أُبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة
للعالمين». [خرجه مسلم]، وقال لهم: «ما تظنوني أني فاعلٌ بكم؟» قالوا: خيراً،
أخٌ كريم وابن أخ كريم، قال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، اذهبوا فأنتم
الطلقاء».
ألا فلتعلم الإنسانية قاطبة والبشرية جمعاء هذه الصفحات الناصعة من
رحمة الإسلام ورسول الإسلام والسلام عليه الصلاة والسلام، الذي يجدون ذكر
شمائله في توراة موسى وفي بشارة عيسى، وليعلم من يقفُ وراء الحملات المغرضة ضد
الإسلام ورسول الإسلام وأهل الإسلام ما يتمتع به الإسلام من مكارم وفضائل،
ومحاسن وشمائل، ومدى البون الشاسع بين عالميته السامية وعولمتهم المأفونة في
إهدارٍ للقيم الإنسانية وإزراءٍ بالمثل الأخلاقية.
وهل تدرك الأمة الإسلامية
اليوم الطريقةَ المثلى للدعوة إلى دينها وإحياء سنة رسولها صلى الله عليه وسلم إحياءً عملياً
حقيقياً، لا صوريا وشكلياً؟!
وإن الأمة اليوم بأمس الحاجة في هذه اللحظات
الحاسمة من تاريخها إلى التمسك الصحيح بدينها وسنة رسولها صلى الله عليه وسلم ، في محبة وتآلف
واعتصام، وفي سماحة ويسر ووئام، وبذلك تتحقق وحدة الصف وجمع الشمل وتوحيد
الكلمة على منهج الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة رحمهم الله، فلن يصلح أمرُ آخر
هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وبذلك تنكشف الغمة عن هذه الأمة، وما ذلك على
الله بعزيز.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لقد كان لكم فى رسول
الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر
وذكر الله كثيرا [الأحزاب:21].
فاتقوا الله عباد الله، وروّوا
قلوبكم وأرواحكم من شمائل نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وتأمَّلوا خصاله العظيمة وشمائله الكريمة،
واربطوا أنفسكم وناشئتكم وأسَرَكم بها رباطاً محكماً وثيقاً يسمو عن التخصيص في
أوقات، والتعيين في مناسبات، فليس هذا من منهج السلف الثقات.
واعلموا ـ رحمكم
الله ـ أن هذه الشمائل المصطفوية والسجايا النبوية ينبغي أن يكون لها تأثير
عملي في إصلاح المنهج، وأثرٌ تطبيقي في إحكام المسيرة والبناء، في عصرٍ كثرت
فيه المتغيرات، وتسارعت فيه المستجدات عبر كثيرٍ من القنوات والشبكات، فالسنة
خير عاصم من شرور هذه القواصم.
وإن الأمة اليوم بحاجة أكثرَ من أي زمان مضى إلى
الاتحاد على منهج الكتاب والسنة حتى تتلاقى الجهود في ميدان واحد نحو الهدف
السامي الذي يسعى إليه كل مسلم لقيادة سفينة الأمة إلى برّ الأمان وشاطئ
السلامة بعيداً عن كل ما يعكِّر صفوَ ورودها. وإن كل مسلم على ثغر من ثغور
الإسلام في خدمة دينه وعقيدته وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بحسب مكانه ومسؤوليته.
فأروا الله ـ
أيها المسلمون ـ من أنفسكم خيراً، سيروا بخطى متوازنة يتوّجها العلم الشرعي،
الذي من خلاله يُبنى الوعي الواقعي؛ لتأخذ هذه الأمة دورها القيادي ومكانها
الريادي من جديد في مقدمة الركب، ولتقود البشرية الحيرى مرةً أخرى إلى مواطن
العز والشرف، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس
لا يعلمون [يوسف:21].
=صلوا عليه صلاةَ متَّبعٍ له محبٍّ له مقتفٍ
آثارَه متمسِّك بسنته، فلا إطراء ولا جفاء، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال
تعالى قولاً كريماً في محكم التنزيل وأصدق القيل: إن الله
وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا
صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56].(/3)
الشهر المحرم
أولاً: تعريف وبيان.
ثانياً: ما ورد في صيامه.
ثالثاً: مسألة: لماذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في المحرم مع ما ذكر فيه من الفضل؟!
أولاً: تعريف وبيان:
المحرم أو شهر المحرم هو أول شهور العام، سمِّي بذلك لأن العرب في الجاهلية كانوا يحرِّمون فيه القتال، ويجمع على محرمات ومحارم ومحاريم[1].
وكانت العرب في جاهليتها مع ما كونوا عليه من الضلال والكفر يعظمونه مع باقي الأشهر الحرم، ويحرِّمون القتال فيها، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يهيجه، إلى أن حدث فيهم النسيء، فكانوا يؤخرون حرمة شهر إلى شهر آخر ليستبيحوا القتال في الأشهر الحرم.
ويضاف إلى الله تعالى فيقال: شهر الله المحرم.
فإن قيل: ما الحكمة في إضافته إلى الله تعالى مع أن الشهور كلها لله؟! فيقال: يحتمل أنه لما كان من الأشهر الحرم التي حرم الله فيها القتال وكان أول شهور السنة أضيف إليه إضافة تخصيص، ولم يصحّ إضافة شهر من الشهور إلى الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا شهر الله المحرم[2].
وقيل: أضيف إلى الله تعالى إعظاماً له[3].
وكانت العرب العاربة تسميه المؤتمِر أخذاً من أمِرَ القوم إذا كثروا، بمعنى أنهم يحرِّمون فيه القتال فيكثرون، وقيل: أخذاً من الائتمار بمعنى أنه يؤمر فيه بترك الحرب، ويجمع على مؤتمرات ومآمر ومآمير[4].
[1] انظر: صبح الأعشى (2/401)، ولسان العرب (2/845) مادة (حرم).
[2] انظره من كلام أبي الفضل العراقي كما في حاشية السيوطي على سنن النسائي (3/206).
[3] انظر: لسان العرب (2/845) مادة (حرم).
[4] انظر: صبح الأعشي (2/405).
ثانياً: ما ورد في صيام المحرم.
1 – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر اللّه المحرّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))[1].
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)) تصريح بأنه أفضل الشهور للصوم"[2].
وقال الشوكاني: "وفيه دليل على أنّ أفضل صيام التّطوّع صوم شهر المحرّم, ولا يعارضه حديث أنس عند التّرمذيّ قال: سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أيّ الصّوم أفضل بعد رمضان؟ قال: ((شعبان لتعظيم رمضان))[3]؛ لأنّ في إسناده صدقة بن موسى وليس بالقويّ"[4].
وحمله ابن رجب على أنّ صيامه أفضل في التّطوّع المطلق بالصّيام بدليل قوله عليه أفضل الصّلاة والسّلام: ((أفضل الصّلاة بعد المكتوبة جوف اللّيل))، قال: "ولا شكّ أنّ الرّواتب أفضل, فمراده بالأفضليّة في الصّلاة والصّوم التّطوّع المطلق, وقال: صوم شعبان أفضل من صوم المحرّم; لأنّه كالرّاتبة مع الفرائض. قال: فظهر أنّ فضل التّطوّع ما كان قريبا من رمضان, قبله أو بعده, وذلك ملتحق بصيام رمضان لقربه منه, وهو أظهر"[5].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "اختلف العلماء رحمهم الله أيهما أفضل: صوم شهر المحرم أم صوم شهر شعبان؟ فقال بعض العلماء: شهر شعبان أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه كله، أو إلا قليلا منه، ولم يحفظ عنه أنه كان يصوم شهر المحرم، لكنه حثَّ على صيامه بقوله: ((إنه أفضل الصيام بعد رمضان))، قالوا: ولأن صوم شعبان ينزَّل منزلة الراتبة قبل الفريضة، وصوم المحرم ينزل منزلة النفل المطلق، ومنزلة الراتبة أفضل من منزلة النفل المطلق، وعلى كل فهذان الشهران يسن صومهما"[6].
2- عن علي رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد فقال: يا رسول الله، أي الشهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان؟ فقال: ((إن كنت صائماً بعد شهر رمضان فصم المحرّم، فإنه شهر الله، فيه يوم تاب الله فيه على قوم ويتوب فيه على قوم آخرين))[7].
وبما تقدم يتبين مشروعية صيام شهر محرم واستحبابه، قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "شهر محرم مشروع صيامه وشعبان كذلك، وأما عشر ذي الحجة فليس هناك دليل عليه، لكن لو صامها دون اعتقاد أنها خاصة، أو أن لها خصوصية معينة فلا بأس. أما شهر الله المحرم فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم))، فإذا صامه كله فهذا طيب، أو صام التاسع والعاشر والحادي عشر فذلك طيب، وهكذا شعبان فقد كان يصومه صلى الله عليه وسلم"[8].
[1] أخرجه مسلم في الصيام (1163).
[2] شرح صحيح مسلم (8/55).
[3] أخرجه الترمذي في الزكاة (663)، وقال: "هذا حديث غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم بذاك القوي".
[4] نيل الأوطار (4/241 ـ 242).
[5] لطائف المعارف.
[6] الشرح الممتع (6/469).
[7] أخرجه الدارمي (1756)، والترمذي (741) وقال: "حسن غريب"، وفي سنده النعمان بن سعد – الراوي عن علي – لم يرو عنه غير ابن أخته عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، فهو مجهول، وعبد الرحمن هذا متفق على ضعفه. انظر: الميزان (4/265) والتهذيب (10/453)، ولذا ضعفه الألباني فأورده في ضعيف الترغيب والترهيب (614).(/1)
[8]مجموع فتاوى سماحة الشيخ في الزكاة والصيام، إعداد الطيار (ص 269).
ثالثاً: علة عدم إكثار صلى الله عليه وسلم الصوم في المحرم:
قال النووي: "قد سبق الجواب عن إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان دون المحرم, وذكرنا فيه جوابين:
أحدهما: لعله إنما علم فضله في آخر حياته.
والثاني: لعله كان يعرض فيه أعذار من سفر أو مرض أو غيرهما"[1].
ونقله الحافظ في الفتح ولم يتعقبه[2].
[1] شرح صحيح مسلم (8/55).
[2] فتح الباري (4/215).(/2)
الشيطان مداخل ومكائد(مداخل الشيطان)
ملخص الخطبة
سبب عداوة الشيطان للأبوين – أهمية معرفة صور كيد إبليس ومداخله للنجاة منه - من خطوات الشيطان : الكفر , البدع والأهواء والشبهات , القول على الله بغير علم , البخل وخوف الفقر ,الغضب , الغلو والتفريط – سبل النجاة من كيد الشيطان - بعض التوجيهات والإرشادات في التحذير من مسالك الشيطان
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ فإن لكل شيء حساباً، ولكل أجل كتاباً، وأنتم بأعمالكم مجزيون.
أيها المسلمون، يقول الله عزَّ وتبارك: يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:27].
مارس الشيطان كيده وفتنته مبتدئاً بالأبوين الكريمين. ولقد كان بلاءً عظيماً، دافعه الغيظ والحسد: أَرَءيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ [الإسراء:62]، دافعه الكبر والخيلاء: إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]، ووسيلته الأيْمان الكاذبة: وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]. والمقاييس الفاسدة: أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف:12].
فتنة عظمى، وبلية كبرى حين يعظم سلطان إبليس فيستفز القلوب والعقول والمشاعر في معركة صاخبة. تزمجر فيها الأصوات، وفيها إجلاب الخيل والرجال للمبارزات: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاْمْوالِ وَالأولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء:64].
أيها الإخوة في الله، إن تبين صور هذا الكيد الإبليسي، والتأمل في هذا المكر الشيطاني، أمرٌ من الأهمية بمكان؛ من أجل النظر في سبيل الخلاص، وطريق النجاة. فالله قد هدى النجدين، وأوضح الطريقين.
معاشر الأحبة، مداخل الشيطان تأتي من قبل صفات الإنسان، فلإن كان الشيطان خرج من الجنة بالحسد، فإن آدم خرج منها ـ كما يقول العلماء ـ بالحرص والطمع.
وتترقى خطوات الشيطان التي يستدرج فيها ابن آدم حتى يتَّخذه معبوداً له من دون الله عياذاً بالله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يس:60]. ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً [مريم:44].
ويقع العبد في ذلك حين يسلم قياده لعدوه، ويفلت الزمام لشهواته، فيتبع كل شيطان مريد كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:4]. وفي الحديث: ((إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك، وآباء أبيك؟...))[1].
ويأتي من بعد الكفر مسالك أخرى في خطوات البدع والأهواء والشبهات. فكم روَّج الزغل على بعض العارفين، وكم سحر ببهرجه بعض المتعبدين، حتى ألقاهم في تشعبات الآراء، ومسالك الضلال. منتقلاً بهم إلى حالة يقولون فيها على الله ما لا يعلمون: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوء وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:168-169].
نعم أيها الإخوة، القول على الله بلا علم خطوة من خطوات الشيطان، وهو الأصل في فساد العقائد، وتحريف الشرائع، ويخشى من ذلك على أقوام يخوضون في علوم لا يحسنونها، ويتجرءون على فتاوى لا يحيطون بها، وقد يجرهم في خطواتهم إلى الإفك والإثم، والتزوير والكذب، وحينئذٍ تتنزل عليهم الشياطين تنزلاً هل أنبئكم على من تنزل الشياطين % تنزل على كل أفاك أثيم [الشعراء:221-222]. وحينئذٍ لا يدعون إلى هدىً، ولا يأمرون بتقوى، ولا يدلون على حق، ويريد الشيطان في ذلك الطيش والعجلة كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ((التأني من الله، والعجلة من الشيطان))[2]، ورواته رواة الصحيح، وتأتي خطوات من بعد ذلك في أهواء النفوس وطبائعها، فالبخل وخوف الفقر سلاح شيطاني. يقول فيه سفيان الثوري: ليس للشيطان سلاح للإنسان مثل خوف الفقر. فإذا وقع في قلب الإنسان مُنع الحق، وتكلم بالهوى، وظن بربه ظن السوء. وأصدق من ذلك وأبلغ قول ربنا عزّ وتبارك: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].(/1)
والغضب ـ أيها الإخوة ـ تمرد شيطاني على عقل العاقل، وحالةٌ من الخروج عن جادة ذوي الرجاحة والأسوياء. رُوي عن بعض الأنبياء أنه قال لإبليس: بم غلبت ابن آدم؟ قال: عند الغضب وعند الهوى. وأغلظ رجل من قريش لعمر بن عبد العزيز القول، فأطرق عمر برهةً، ثم قال: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان، فأنال منك اليوم ما تنال مني غداً!!
أمَّا الأماني وحصائد الغرور... فذلكم هو السلاح الشيطاني المضَّاء يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً [النساء:120]. وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ [إبراهيم:22]. فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ [الأنفال:48]. يعدهم هذا الغرَّار بحسب طبائعهم، يجرهم إلى حبائله بحسب ميولهم ومشتهياتهم. يخوِّف الأغنياء بالفقر، إذا هم تصدقوا وأحسنوا. كما يزين لهم الغنى وألوان الثراء بالأسباب المحرمة والوسائل القذرة.
يزين لأصحاب المِلل والنحل التعصب وتحقير المخالفين، ويصور لهم ذلك طريقاً إلى الحرص على العلم وحبِّ أهله. وينقضي عمْرُ ابن آدم وهو في بحر الأماني يسبح، وفي سبيل الغواية يخوض. يعده الباطل، ويمنيه المحال، والنفس الضعيفة المهينة تغتذي بوعده، وتلتذ بأباطيله، وتفرح كما يفرح الصبيان والمعتوهون.
والخروج عن الوسط ومجاوزة حد الاعتدال خطو إبليسي، ومسلك شيطاني. يقول بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط أو تقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي إبليس بأيهما ظفر.
وإن حبائل الشيطان بين هذين الواديين تحبك وتحاك. غلا قومٌ في الأنبياء وأتباعهم حتى عبدوهم، وقصَّر آخرون حتى قتلوهم، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس، وطوائف غلوا في الشيوخ وأهل الصلاح، وآخرون جفوهم وأعرضوا عنهم.
وإذا نظرت في فروع الأحكام. فإنك سترى أناساً قصَّروا بواجبات الطهارة، وتجاوز آخرون إلى الوسواس، وفئامٌ من أناس جعلوا تحصيل العلم غايتهم، وأهملوا العمل. وآخرون تركوا فروض الأعيان المتعيِّنة فلم يتعلموها. وأما أعمال القلوب من الخشية والانكسار والإخبات وأمثالها فقد أهملها بعض من استحوذ عليهم الشيطان، ولم يلتفتوا إليها، وظنوها من فضول العمل، واستحوذ على آخرين في الجانب الآخر حتى أهملوا أعمال الجوارح، وقالوا بسقوط التكاليف عن بعض العارفين الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد:25]. وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً [النساء:38]. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [الزخرف:37]. إن أسوأ ما يصنعه القرين من الشيطان أن يصد قرينه عن سبيل الحق. ثم لا يدعه يفيق ولا يستبين، بل يوهمه أنه سائر على الطريق المستقيم... حتى يُفجأ بالمصير الأليم: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [الأعراف:30].
أيها المسلمون، لقد أخذ هذا اللعين الميثاق على نفسه ليقعد لابن آدم كل طريق: لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16، 17]. لإن كان هدد بذلك وتوعد؛ فإن كيده ضعيف، ومكره يبور. إذا تسلح العبد بسلاح الإيمان، والعقيدة النقية، وحسن لله تعبده، وصح على ربه توكله إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99]. ليس له سلطان على أهل التوحيد والإخلاص، ولكنه ذو تسلط عظيم على من تولاه وكفر بالله: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً [مريم:83]. ولإن انطلق عدو الله ينفذ وعيده، ويستذل عبيده، فليس له طريق إلى عباد الله وحزب الرحمن: إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الإسراء:65].(/2)
أيها الإخوة: وعلى الرغم من وضوح ذلك وجلائه، فقد يزل المؤمن أو يخطئ، وقد يصيبه نزغ من الشيطان، أو يمسه طائف منه، وقد يران على قلبه من وسواسه، لكنه سرعان ما يلوذ بربه ويلجأ إلى ذكره، ويتوب إليه من قريب، فيخنس شيطانه إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201]. صلتهم بالله الوثيقة تعصمهم من أن ينساقوا مع عدو الله وعدوهم، يتخلص المؤمن بذكر الله – لجوءاً إلى ربه، واستعاذة به – من نزوات الشيطان ونزغاته، وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36]. ((أعوذ بوجه الله الكريم، وكلماته التامات اللاتي لا يجاوزهن بَر ولا فاجر، ومن شر ما ينزل من السماء، وشر ما يعرج فيها. وشر ما ذرأ في الأرض، وشر ما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن))[3].
أيها الإخوة، حق على من أراد الخير لنفسه، والسلامة لدينه، ودحر شيطانه، أن ينظر بعين البصيرة لا يهوى الطبع والطمع، وليسلك مسالك التقوى والعلم المكين.
ولقد قال الحسن رحمه الله: إنما هما همَّان يجولان في القلب. هَمٌّ من الله تعالى، وهَمٌّ من العدو، فرحم الله عبداً وقف عند همِّه فما كان من الله تعالى أمضاه، وما كان من عدوه جاهده وتوقاه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:5، 6].
[1] صحيح، أخرجه أحمد (3/483)، والنسائي: كتاب الجهاد – باب ما لمن أسلم وهاجر... حديث (3134)، والطبراني في الكبير (6558)، وحسّن الحافظ إسناده في الإصابة (3/31) في ترجمة سبرة بن الفاكه رضي الله عنه راوي الحديث. وصححه الألباني في صحيح الجامع (1648).
[2] حسن، أخرجه أبو يعلى (4256)، والبيهقي (10/104)، كما أخرجه أيضاً الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في التأني والعجلة، حديث (2012)، والطبراني في الكبير (5702) كلاهما بلفظ: ((الأناة من الله...))، قال المنذري في الترغيب: رجاله رجال الصحيح (2/284) و(3/280)، وتبعه الهيثمي في المجمع (8/19)، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع (3088)، والسلسلة الصحيحة (1795).
[3] إسناده ضعيف، أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع – باب ما يؤمر به من التعوذ، حديث (1773) مرسلاً، وأخرجه أيضاً أحمد (3/419) وفي إسناده جعفر بن سليمان الضبعي وهو لا يُحتمل تفرده. انظر ميزان الاعتدال للذهبي (1/408).
الخطبة الثانية
الحمد لله المتعالي في مجده وملكه، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن شر الشيطان وشركه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحقِّ؛ ليظهره على الدين كله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون، هذه بعض التوجيهات المحمدية، والإرشادات المصطفوية، تحذر من مسالك الشيطان وعوائد إبليس.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لا يأكلن أحد منكم بشماله، ولا يشربن بها؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها))[1].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية))[2].
وعن قتادة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : ((الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئاً يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثاً، وليتعوذ من الشيطان، فإنها لا تضره وإن الشيطان لا يتراءى بي))[3]، وفي حديث عند مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: ((إذا تثاءب أحدكم، فليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخل))[4].
وفي الخبر الآخر: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل. فإن "لو" تفتح عمل الشيطان))[5].
فاتقوا الله رحمكم الله، واستعيذوا بالله ربكم من الشيطان، ومن شره وشركه، ومن همزه ونفثه ونفخه.
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الأشربة – باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، حديث (2020).(/3)
[2] حسن، أخرجه أحمد (5/196)، وأبو داود: كتاب الصلاة – باب في التشديد في ترك الجماعة، حديث (547)، والنسائي: كتاب الإمامة – باب التشديد في ترك الجماعة، حديث (847)، وصححه ابن حبان (2101)، والحاكم (1/246)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5577).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب التعبير – من رأى النبي في المنام، حديث (6995)، واللفظ له، وأخرجه أيضاً مسلم: كتاب الرؤيا، حديث (2261).
[4] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الزهد – باب تشميت العاطس... حديث (2995)، وأخرجه البخاري نحوه: كتاب الأدب – إذا تثاءب فليضع... حديث (6226).
[5] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب القدر – باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة، حديث (2664).(/4)
الشيعة الاثنا عشرية
لفضيلة الشيخ/ ممدوح الحربي
أولاً: التعريف بالشيعة الإمامية.
ثانياً: أشهر شخصيات ومؤلفات الشيعة الإمامية.
ثالثاً: عقيدة الشيعة الإمامية في توحيد الربوبية.
رابعاً: عقيدة الشيعة الإمامية في توحيد الألوهية.
خامساً: عقيدة الشيعة الإمامية في توحيد الأسماء والصفات.
سادساً: عقيدة الشيعة في القرآن الكريم.
سابعاً: عقيدتهم في الصحابة رضوان الله عليهم.
ثامناً: عقيدتهم السرية في الطينة.
تاسعاً: عقيدة الشيعة الإمامية في الغيبة.
عاشراً: عقيدة الشيعة الإمامية في الرجعة.
حادي عشر: عقيدة الشيعة الإمامية في التقية.
ثاني عشر: عقيدتهم في نكاح المتعة.
ثالث عشر: أعياد الشيعة الإمامية.
رابع عشر: الخطة السرية للشيعة الإمامية في تشييع المناطق والدول المجاورة لدولتهم إيران.
خامس عشر: الاغتيالات والجرائم والمجازر التي قام بها الشيعة في حق أهل السنة من العلماء والأمراء والعامة على مدار التاريخ.
سادس عشر: حكم علماء الإسلام على الشيعة الإمامية الاثنا عشرية
أولاً: الشيعة الإمامية:
هي فرقة لها عدة أسماء، فإذا قيل عنهم: الرافضة فهم الذين يرفضون إمامة الشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ويسبون ويشتمون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا قيل عنهم: الشيعة فهم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على الخصوص، وقالوا بإمامته، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإذا قيل لهم: الاثنا عشرية فلاعتقادهم بإمامة اثنتي عشر إماماً، آخرهم الذي دخل السرداب، وهو محمد بن الحسن العسكري، وإذا قيل لهم: الإمامية فلأنهم جعلوا الإمامة ركناً خامساً من أركان الإسلام، وإذا قيل لهم: جعفرية فلنسبتهم إلى الإمام جعفر الصادق، وهو الإمام السادس عندهم، الذي كان من فقهاء عصره، وينسب إليه كذبا وزوراً فقه هذه الفرقة.
ثانياً: أشهر شخصيات ومؤلفات الشيعة:
فنقول: إخواني في الله، من أشهر شخصيات الشيعة الإمامية هم الاثنا عشر إماماً الذين يتخذهم الشيعة الإمامية أئمة لهم، وهؤلاء الأئمة يبرؤون إلى الله تعالى من اعتقادات الشيعة، وما ينسبونه إليهم من كذب وزور وبهتان، حيث ترتِّبهم الشيعة الإمامية الاثنا عشرية على النحو التالي:
الإمام الأول: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويلقبونه بالمرتضى، وكنيته أبو الحسن، وهو رابع الخلفاء الراشدين، وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله الضال المضل عبد الرحمن بن ملجم في مسجد الكوفة.
الإمام الثاني: الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ويلقبونه بالمجتبى، وقيل: بالزكي، وكنيته أبو محمد.
الإمام الثالث: الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ويلقبونه بالشهيد، وهو حقاً كذلك رضي الله عنه، وقيل: بسيد الشهداء، وكنيته أبو عبد الله.
الإمام الرابع: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويلقبونه بالسجاد، وقيل: بزين العابدين، وكنيته أبو محمد.
الإمام الخامس: محمد بن علي بن الحسين، ويلقبونه بالباقر، وكنيته أبو جعفر.
الإمام السادس: جعفر بن محمد بن علي، ويلقبونه بالصادق، وكنيته أبو عبد الله.
الإمام السابع: موسى بن جعفر الصادق، ويلقبونه بالكاظم، وكنيته أبو إبراهيم.
الإمام الثامن: علي بن موسى بن جعفر، ويلقبونه بالرضا، وكنيته أبو الحسن.
الإمام التاسع: محمد بن علي بن موسى، ويلقبونه بالتقي، وقيل: بالجواد، وكنيته أبو جعفر.
الإمام العاشر: علي بن محمد بن علي، ويلقبونه بالنقي، وقيل: بالهادي وكنيته أبو الحسن.
الإمام الحادي عشر: الحسن بن علي بن محمد، ويلقبونه بالزكي، وقيل: بالعسكري وكنيته أبو محمد.
الإمام الثاني عشر والأخير: هو محمد بن الحسن العسكري، ويلقبونه: بالمهدي، وقيل: بالحجة القائم المنتظر وكنيته أبو القاسم، وهو الحجة الغائب عند الشيعة، وقيل: إنه ولد في سنة 256 للهجرة، وغاب غيبة صغرى سنة 260 للهجرة، وغيبة كبرى سنة 329 للهجرة، كما تعتقد الشيعة أيضاً أن هذا الإمام الثاني عشر قد دخل سرداباً في دار أبيه بسرّ من رأى ولم يخرج إلى الآن.
ننتقل ـ أحبتي في الله ـ إلى شخصيات أخرى للشيعة، ومن هذه الشخصيات:
عبد الله بن سبأ اليهودي، ويعد المؤسس الأول لمعتقدهم الفاسد، وهو يهودي من يهود اليمن، ويلقب بابن السوداء نسبة إلى أمه الحبشية. وقد أظهر الإسلام ليهدمه من الداخل، وهو أول من قال بأن القرآن جزء من تسعة أجزاء، وعِلمُه عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الذي ألب الأحزاب على ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو أول من قال بالرجعة والبداء والنسيان على الله عز وجل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.(/1)
من شخصياتهم أيضاً علي بن إبراهيم القمي أبو الحسن الهالك في عام 307 للهجرة، والمشهور بتفسيره المسمى بتفسير القمي، وقد صرح فيه عدو الله بتحريف القرآن الكريم، كما له عدة مؤلفات مثل كتاب التاريخ، وكتاب الشرائع، وكتاب الحيض، وكتاب التوحيد والشرك، وكتاب فضائل أمير المؤمنين، وكتاب المغازي وغيرها من الكتب.
من شيوخهم أيضاً وأئمتهم محمد بن يعقوب الكليني أبو جعفر الهالك في عام 328 للهجرة، صاحب كتاب الكافي الذي ذكر فيه تحريف القرآن في اثنين وعشرين صفحة من هذا الكتاب في جزئه الأول والثاني فقط، وهو كتاب كبير يشتمل على أقسام ثلاثة: الأصول والفروع والروضة.
من شخصياتهم أيضاً ـ إخواني في الله ـ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، والمعروف بالصدوق، الهالك في عام 381هـ، صاحب كتاب: "من لا يحضره الفقيه".
محمد بن الحسن الطوسي الهالك في عام 460هـ صاحب كتاب: "تهذيب الأحكام"، وكتاب: "الاستبصار"، وكتاب: "التبيان"، وكتاب: "الغيبة"، وكتاب: "أمالي الطوسي"، و"الفهرست"، و"رجال الطوسي".
الحاج ميرزا حسين محمد النوري الطبرسي من أئمتهم، الهالك في عام 1320هـ بالنجف، صاحب كتاب: "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب"، والذي يدعي فيه هذا الزنديق أن القرآن الكريم فيه تحريف وزيادة ونقصان، وقد طبع هذا الكتاب في دولة إيران عام 1289هـ.
من شخصياتهم آية الله المامقاني، صاحب كتاب: "تنقيح المقال في أصول الرجال"، وهو إمامهم في الجرح والتعديل، وأطلق في هذا الكتاب على أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما لقب: الجبت والطاغوت، وقد طبع هذا الكتاب في عام 1352هـ بالمطبعة المرتضوية بالنجف.
من أئمتهم محمد باقر المجلسي شيخ الدولة الصفويّة في زمانه، الهالك في عام 1111هـ، صاحب كتاب: "بحار الأنوار". ومن أئمتهم أيضاً نعمة الله الجزائري الهالك في عام 1112هـ، وهو صاحب كتاب: "الأنوار النعمانية".
وأبو منصور الطبرسي الهالك عام 620هـ، صاحب كتاب: "الاحتجاج".
وأبو عبد الله المفيد الهالك عام 413هـ، صاحب كتاب: "الإرشاد"، وكتاب: "أمالي المفيد".
ومحمد بن الحسن العامري الهالك عام 1104هـ، صاحب كتاب: "الإيقاظ من الهجعة في إثبات الرجعة".
وننتقل إلى إمام من أئمتهم المعاصرين، وهو آية الله الخميني، واسمه: روح الله مصطفى أحمد الموسوي الخميني، هاجر جده أحمد من الهند إلى إيران عام 1885م، وكان مولد الخميني في قرية خمين، بالقرب من مدينة قم عام 1320هـ، وقتل والده بعد عام من ولادته، ولما قارب سن البلوغ ماتت أمه، فرعاه أخوه الأكبر، وقد كان من رجال الدين عند الشيعة، ومن مؤلفات الخميني كتاب: "كشف الأسرار" الذي يقول فيه عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في (ص116) ما نصه: "إن أعمال عمر نابعة من أعمال الكفر والزندقة والمخالفات لآيات ورد ذكرها في القرآن" انتهى كلامه.
كما أن للخميني ـ إخواني في الله ـ كتاب: "تحرير الوسيلة"، وكتاب: "الحكومة الإسلامية" الذي يقول فيه في (ص13) ما نصه: "إن تعاليم الأئمة كتعاليم القرآن، يجب تنفيذها واتباعها" انتهى.
وقد هلك الخميني في عام 1989م عن عمر يناهز التاسعة والثمانين عاماً. وقد أودع المقربون إليه جسده في نعش زجاجي، ووضعوه في أكبر ساحة في طهران عاريَ الوجه، يطوف حوله المريدون، وقد سار خلفه نحو عشرة ملايين رافضي، قد تزاحموا عليه بالمناكب، وهم يلطمون الخدود، وتضربون الصدور، كما قرر المتاجرون بجسد الخميني أن يبنوا عليه بنيانا تعلوه أرفع قبة في إيران، مطلية بالذهب، تشرف على قرية اختار لها ابنه أحمد اسما هو: روح الإسلام، وقد قيل: إن تكلفة هذه القبة قرابة السبعة مليارات من الدولارات في بلد به أكثر من خمسة ملايين عاطل
ثالثاً: عقيدة الشيعة الإمامية في توحيد الربوبية:
أولاً: اعتقاد الشيعة الإمامية بأن الرب هو الإمام:
حيث تعتقد الشيعة بأن الرب هو الإمام الذي يسكن الأرض، كما جاء في كتابهم: "مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار" (ص59) أن علياً كما يفترون عليه قال: أنا رب الأرض الذي يسكن الأرض به، وكقول إمامهم العياشي في تفسيره المجلد (2/353) لقول الله تعالى: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} [الكهف:110]، قال العياشي ما نصه: "يعني التسليم لعلي رضي الله عنه، ولا يشرك معه في الخلافة من ليس له ذلك ولا هو من أهله" انتهى كلامه.
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى شيخهم حسين الفهيد الأحسائي وهو ينادي علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويصفه بأنه وجه رب الكون عياذاً بالله تعالى، بل ويزعم حسين الأحسائي أن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي علَّم آدم عليه الصلاة والسلام كيف يتوب في الجنة عياذاً بالله تعالى من ذلك، ولاحظ ـ أخي في الله ـ أصوات النساء وهن يبكين بعد ندائه فاستمع ماذا يقول:
علي يا وجه رب الكون... علي علمت آدم يتوب...
ثانياً: اعتقاد الشيعة الإمامية بأن الدنيا والآخرة بيد الإمام:(/2)
وكذلك تعتقد الشيعة أن الدنيا والآخرة كلها للإمام يتصرف بها كيف يشاء، وقد عقد إمامهم الكليني في كتابه الكافي (1/407-410) باباً بعنوان: "باب أن الأرض كلها للإمام" جاء فيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء؟!" انتهى كلامه.
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى أحد شيوخهم في الخليج وهو يغلو في فاطمة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فيقول: لولا فاطمة لما خلق الله عز وجل علي بن أبي طالب ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا علي بن أبي طالب لما خلق الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فاستمع ماذا يقول:
"فاطمة وما أدراك ما فاطمة، سيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء محور الخلق، يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك، لولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما صلوا على محمد وآله".
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى شيخهم سيد الفالي الذي يقول في إحدى محاضراته: إن نبي الله عيسى عليه السلام يتشرف أن يكون عبداً من عبيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فاستمع ماذا يقول: "يا قوم قبل أيام كان عيد ميلاد السيد المسيح الذي يتشرف أن يكون عبداً لعلي بن أبي طالب، وقد ملأ المسيحيون الخافقين بعيد ميلاد المسيح، حتى في بلادنا الإسلامية .. لماذا تتعزّى عن علي بن أبي طالب؟ ما الذي ضرنا لو كنا نهتف باسمه؟".
ثالثاً: إسناد الحوادث الكونية لأئمتهم:
كما تسند الشيعة الحوادث الكونية التي لا يتصرف فيها إلا الله تعالى إلى أئمتهم، فكل ما يجري في هذا الكون من رعد وبرق وغير ذلك فأمره إلى أئمتهم كما ذكر ذلك إمامهم المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" (27/33) عن سماعة بن مهران قال: كنت عندي أبي عبد الله عليه السلام فأرعدت السماء وأبرقت فقال أبو عبد الله عليه السلام: أما إنه ما كان من هذا الرعد ومن هذا البرق فإنه من أمر صاحبكم، قلت: من صاحبنا؟ قال: أمير المؤمنين عليه السلام.
رابعاً: اعتقاد الشيعة الإمامية أن علياً يركب السحاب:
وهذه العقيدة يتوافق بها الشيعة الإمامية والشيعة النصيرية التي سوف نفصِّل في درسها بإذن الله تعالى، فقد أثبت هذا شيخهم المجلسي في كتابه "بحار والأنوار" (27/34) أن علياً أومأ إلى سحابتين فأصبحت كل سحابة كأنها بساط موضوع، فركب على سحابة بمفرده، وركب بعض أصحابه على الأخرى وقال فوقها ما نصه: "أنا عين الله في أرضه، أنا لسان الله الناطق في خلقه، أنا نور الله الذي لا يطفأ، أنا باب الله الذي يؤتى منه حجته على عباده" انتهى.
خامساً: اعتقاد الشيعة الإمامية أن أئمتهم يعلمون الغيب:
وكذلك تعتقد الشيعة الإمامية ـ إخواني في الله ـ بأن أئمتهم يعلمون الغيب، حيث أقر هذه العقيدة شيخهم الكليني، إذ بوب في كتابه الكافي (1/258) باباً بعنوان" باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيارهم"، وكذلك بوب في كتابه الكافي (1/260) باباً بعنوان: "باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم شيء". وكذلك روى إمامهم المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" (26/27-28) عن الصادق عليه السلام كذباً وزوراً أنه قال: "والله لقد أُعطينا علم الأولين والآخرين، فقال له رجل من أصحابه: جُعلتُ فداك أعندكم علم الغيب؟ فقال له: ويحك إني لأعلم ما في أصلاب الرجال وأرحام النساء" انتهى عياذاً بالله.
سادساً: اعتقاد الشيعة بأن أئمتهم ينزل عليهم الوحي:
وكذلك تعتقد الشيعة الإمامية بنزول الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أئمتهم عن طريق جبريل عليه السلام، بل عن طريق ملك أعظم من جبريل وأفضل، فهم بذلك يشرعون ويعلمون الغيب، وكل ما هو كائن إلى يوم القيامة، وهذه العقيدة ـ إخواني في الله ـ متناثرة في كتب الشيعة ككتب الحديث والتفسير بروايات عديدة. فقد أورد إمامهم محمد بن الحسن الصفار المتوفى عام 290هـ للهجرة، والذي يعدونه من أصحاب الإمام المعصوم الحادي عشر، كما يعدونه من أقدم المحدثين لديهم، بالإضافة إلى أنه شيخ الكليني الذي يلقب عندهم بحجة الإسلام، فقد روى إمامهم الصفار في كتابه المشهور "بصائر الدرجات الكبرى" والذي هو عبارة عن عشرة أجزاء أخباراً كثيرة لا تحصى ولا تعد في إثبات نزول الوحي على أئمتهم عن طريق الملائكة الكرام، ففي الباب السادس عشر من الجزء الثامن: "باب في أمير المؤمنين أن الله ناجاه بالطائف وغيرها ونزل بينهما جبريل"، روى تحت هذا الباب قرابة عشر روايات، منها عن حمران بن أعين قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جُعلت فداك، بلغني أن الله تبارك وتعالى قد ناجا علي عليه السلام، قال: أجل قد كان بينهما مناجاة بالطائف نزل بينهما جبريل" انتهى لفظه.
هذا ـ إخواني في الله ـ في كتاب "بصائر الدرجات الكبرى" لإمامهم الصفار الجزء الثامن الباب السادس عشر (ص430) طبعة إيران.(/3)
كما أن هذا الأمر لا يختص به علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل يشاركه فيه جميع الأئمة عند الشيعة الاثنا عشرية، كما روى الصفار في كتابه: "بصائر الدرجات" في الجزء التاسع تحت عنوان: "الباب الخامس عشر: في الأئمة عليهم السلام أن روح القدس يتلقاهم إذا احتاجوا إليه"، يعني جبريل عليه السلام. وقد روى تحت هذا الباب قريباً من ثلاث عشرة رواية منها: عن أسباط عن أبي عبد الله جعفر أنه قال: قلت: تُسأَلون عن الشيء فلا يكون عندكم علمه، قال: ربما كان ذلك، قلت: كيف تصنعون؟ قال: تلقانا به روح القدس". وكذلك ذكر الصفار في كتابه "بصائر الدرجات" عن أبي عبد الله أنه قال: "إنا لنزاد في الليل والنهار، ولو لم نزد لنفد ما عندنا" يعني: لو لم ينزل علينا الوحي ولم نزِد في هذا العلم في الليل والنهار لانتهى ما عندنا، قال أبو بصير: جُعلت فداك من يأتيكم به؟ قال: إن منا من يعاين أي يرى، وإن منا من ينقر في قلبه كيت وكيت، وإن منا لمن يسمع بأذنه وقعاً كوقع السلسلة في الطشت، قال فقلت له: من الذي يأتيكم بذلك؟ قال: خلق أعظم من جبريل وميكائيل" هذا في كتاب "بصائر الدرجات الكبرى" للصفار الباب السابع من الجزء الخامس (ص252).
وكذلك ـ إخواني في الله ـ روى الكليني مثل هذه العقيدة، في كتابه الكافي تحت عنوان: باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة عليهم السلام: "فعن أسباط بن سالم قال: سأل رجل من أهل بيتي أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، فقال: منذ أن أنزل الله عز وجل ذلك الروح ـ يعني: جبريل عليه السلام ـ على محمد صلى الله عليه وآله ما صعد إلى السماء وإنه لفينا، وفي رواية: كان مع رسول الله يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده" انتهى.
هذا ـ إخواني في الله ـ في كتاب الكافي لحجة الإسلام عندهم محمد بن يعقوب الكليني في الأصول كتاب الحجة 1/273) طبعة طهران.
كما روى الكليني في كتابه الكافي في الأصول (1/261) طبعة إيران، عن أبي عبد الله قال: إني أعلم ما في السموات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة والنار، وأعلم ما كان وما يكون" انتهى.
وكذلك عقد شيخهم الحر العامري باباً في كتابه "الفصول المهمة في أصول الأئمة" باب أربعة وتسعين (ص145) جاء فيه ما نصه: "إن الملائكة ينزلون ليلة القدر إلى الأرض، ويخبرون الأئمة عليهم السلام بجميع ما يكون في تلك السنة من قضاء وقدر، وإنهم ـ أي: الأئمة يعلمون علم الأنبياء عليهم السلام".
واستمع ـ أخي في الله وحبيبي في الله ـ إلى أحد شيوخهم وهو يصرح بأن أئمتهم المعصومين يرون الملائكة، بل إن الملائكة الكرام خدمٌ عند أئمتهم المعصومين فاستمع ماذا يقول: "ونحن نعتقد أن الأئمة أيضاً كانوا يرون الملائكة، وهذا ليس من الشيء الغريب حتى واحد يستنكر علينا، لأن الملائكة مخلوقات مطيعة لله، والأنبياء والأئمة المعصومون [أفضل] المخلوقات، بيُمنهم رُزق الورى، فليس من العجيب والغريب أن تأتي إلى بيت النبي وبيت علي كخدم لهم هذه عقيدتنا".
سابعاً: اعتقاد الشيعة بأن جزءاً من النور الإلهي حل في علي رضي الله عنه:
وكذلك تعتقد الشيعة بأن جزءاً من النور الإلهي قد حل بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما نقل ذلك إمامهم الكليني في أصول الكافي (1/440): "قال أبو عبد الله: ثم مسحنا بيمينه فأفضى نوره فينا"، ونقل أيضاً ما نصه: "ولكن الله خلطنا بنفسه".
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى أحد شيوخ الشيعة وهو يغلو في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فيذكر أنه هو الذي خلق مروان بن الحكم من دون الله تعالى فاستمع ماذا يقول: "مروان بن الحكم لعنه الله، صعد على منبر رسول الله في المدينة، وأخذ يشتم الإمام علي بن أبي طالب، والرواية موجودة في جوامع الكلم، يشتم الإمام علي بن أبي طالب، فبينما الناس جلوس إذ خرجت كفان من قبر رسول الله مكتوباً عليهما وقيل: يد واحدة مكتوباً عليها: أتشتم علي بن أبي طالب وهو الذي خلقك؟! أتشتم من خلقك؟! هذه العظمة ما تتخصص إلا في أناس، ومعاجز كرامات وألفاظ لأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، لا تعد ولا تحصى، مستحيل أحد يحصيها، ومستحيل أحد أن يكون يعدّها تحويل الجماد إلى حياة، وتحويل الحياة إلى جماد من شأن أهل البيت".(/4)
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى منشد الشيعة المشهور باسم الكربلائي الذي يغلو في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حضور شيوخ الشيعة، حيث يصفه بأنه هو الذي يعلِّم جبريل عليه السلام، وأن اسم علي ذكر في التوراة والزبور والإنجيل، وأن سفينة نوح عليه السلام لم تسِر إلا بفعل علي بن أبي طالب، وأن آدم عليه السلام حينما عصى ربه في الجنة تقرب باسم علي رضي الله عنه، وأن علياً هو الذي رفع عيسى عليه السلام، وقبله إدريس عليه السلام، فاستمع هذا الغلو في قوله: ".... علي يا من علمت جبريل، اسمك نزل في التوراة والزبور والصحف والإنجيل، يا كوكب خُبَر مُسند إلى تحت العرش مسند لولاك أنفنى الإسلام، يا علي لا عابد ولا معبد، ولا سارت سفينة نوح ولا سجلت... وآدم من عصى وأبعد باسمك يا علي تقرَّب، يا رافع لابن مريم عيسى وقبل عيسى إدريس، برد وسلام لإبراهيم، نار البسمة تلهب، إي والله علي عالي".
ثامناً: اعتقاد الشيعة الإمامية بأن الأعمال تعرض على الأئمة:
وكذلك يعتقد الشيعة الإمامية بأن أعمال العباد تعرض على الأئمة في كل يوم وليلة، كما نقل ذلك إمامهم وحجتهم الكليني في الأصول من الكافي (1/219)، عن الرضى عليه السلام: أن رجلاً: قال له: أدع الله لي ولأهل بيتي، فقال: "أولست أفعل؟! والله إن أعمالكم لتعرض علي في كل يوم وليلة" انتهى.
رابعاً: عقيدة الشيعة الإمامية في توحيد الألوهية:
أولاً: اعتقاد الشيعة بأن أئمتهم الواسطة بين الله وبين خلقه:
فتعتقد الشيعة الإمامية بأن أئمتهم الاثني عشر هم الواسطة بين الله وبين خلقه، حيث قال إمامهم المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" (23/97) عن أئمتهم ما نصه: "فإنهم حجب الرب والوسائط بينه وبين الخلق"، وكما بوب شيخهم المجلسي في كتابه المذكور آنفاً باباً بعنوان: "باب أن الناس لا يهتدون إلا بهم ـ يعني: بالأئمة ـ وأنهم الوسائل بين الخلق وبين الله، وأنه لا يدخل الجنة إلا من عرفهم" انتهى.
ثانياً: استغاثة الشيعة الإمامية بقبور أئمتهم:
حيث تستغيث الشيعة الإمامية بأئمتهم في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وأن أئمتهم الشفاء الأكبر والدواء الأعظم لمن استشفى بهم، كما قال المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" (94/29) والمطبوع بدار إحياء التراث العربي في بيروت ما نصه: "إذا كان لك حاجة إلى الله عز وجل فاكتب رقعة على بركة الله، واطرحها على قبر من قبور الأئمة إن شئت أو فشدها واختمها واعجن طينا نظيفا واجعلها فيه، واطرحها في نهر جار أو بئر عميقة أو غدير ماء، فإنها تصل إلى السيد عليه السلام، وهو يتولى قضاء حاجتك بنفسه" انتهى.
ثالثاً: اعتقاد الشيعة الإمامية بأن أئمتهم لهم حق التحليل والتحريم في شرع الله تعالى:
وكذلك يعتقد الشيعة الإمامية ـ إخواني في الله ـ بأن أئمتهم لهم حق التحريم والتحليل والتشريع، حيث ذكر إمامهم الكليني في أصول الكافي (1/441)، والمجلسي في "بحار الأنوار" (25/340) ما نصه: "خلق الله محمداً وعلياً وفاطمة فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها، وأجرى طاعتهم عليها، وفوض أمورهم إليها، فهم يحلون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون" انتهى كلامه.
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى إمامهم المعاصر سيد الفالي، والذي يؤصِّل عقيدة الغلو في الأئمة حيث يذكر أن الذي يحاسب جميع الخلائق يوم القيامة هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حتى إنه يحاسب جميع علماء أهل السنة والجماعة، بل هو الذي يقسِّم الناس في اعتقادهم إلى الجنة أو إلى النار عياذاً بالله تعالى من هذا الكفر والضلال فاستمع ماذا يقول: "يوم القيامة أعمالنا تُعرض على ميزان الأعمال وهو أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه. إذاً فالمعنى صار واضح، ذُكر في زيارة الجامع الكبيرة، انظروا إخواني [يجمع] الكلمات، لازم، نحن الزيارات نتشرف بها، ولكن رجائي منكم يا شباب المجلس خصوصاً، الكبار الحمد لله أحسن يعرفوا، أنتم الشباب لما تقرؤوا الكلمة حققوا فيها، ما معنى أن تقف مقابل الإمام المعصوم تقول له: حساب الخلق إليكم، عليكم، إياب الخلق إليكم وحسابه عليكم، وفصل الخطاب عندكم، كل شيء يوم القيامة بأيديكم، حتى السنة حتى علماء كبار السنة لما يصل إلى أمير المؤمنين سلام الله عليه يقول: علي حبُّه جُنة، قسيم النار والجنة، ما معنى قسيم النار والجنة، أمير المؤمنين هو الميزان، أمير المؤمنين يبين لك يقول لك: أنت من أهل الجنة إن شاء من أهل الجنة، أو من أهل النار والعياذ بالله".
رابعاً: عبادة الشيعة الإمامية لقبور أئمتهم، والذبح والنذر عندهم:(/5)
كذلك ـ إخواني في الله ـ فإن الشيعة الإمامية يعبدون قبور أئمتهم فيذبحون عندها وينذرون لها ويحلفون بها، ويطلبون منها حاجاتهم وحوائجهم، فيستغيثون بها، ويستعينون بها، كما يسجدون ويركعون عندها، وينذرون الأموال لهذه الأضرحة والمشاهد، حتى بلغ الأمر أن لكل قبر وضريح في إيران رقماً خاصاً به في البنوك تجتمع فيه النذور والتبرعات.
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى أحد شيوخهم في الخليج وهو يستغيث بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه من دون الله عز وجل، بل ويطلبون منه قضاء حوائجهم وشفاء مرضاهم من دون الله سبحانه وتعالى فاستمع ماذا يقول: "عن قلوب ثابتة على الولاية مطمئنة بالولاية مطمئنة بأمير المؤمنين، ومفوضة الأمر هذه الليلة، كل هذه الوجوه المستنيرة مفوضة الأمر إليك يا علي بن أبي طالب، يستندون إليك يستغيثون بك، يفوضون أحوالهم مرضاهم، يفوضون حوائجهم، يفوضون كل الأحوال التي جرت عليهم إليك يا علي بن أبي طالب، نحن هذه الليلة نتوسل إليك يا أمير المؤمنين، فانظر إلى شيعتك بعين الرحمة، فانظر إلى شيعتك بعين الرأفة، محبيك بعين العطف، عندهم حاجات والليلة الجمعة يا علي، عندهم مرضى واليوم الجمعة يا علي، يا بعلي مظهراً عجائب تجده عوناً لك في النوائب كل هم وغم سينجلي بولايتك يا علي، يا والي الولي يا قاهر العدو، يا مظهر العجائب يا مرتضى علي، ما عندنا أحد نتجه إليه يا أمير المؤمنين، فنحن هذه الليلة نقسم عليك بمنحر أبي عبد الله، إلا أنك نظرت إلى مرضانا بنظرة الشفاء والعافية، ونظرت إلى المحتاجين بنظرة قضاء حوائجهم، وتيسير أمورهم، يا أمير المؤمنين يا وجيهاً عند الله، ادفع لنا عند الله نقسم عليك بحق رضيك الحوراء زينب، مولاتك الحوراء زينب، أقسم على أمير المؤمنين بزينب ما يخيبك أمير المؤمنين خصوصاً هذه الليلة، ليلة جمعة، ونحيي رزية من رزايا الحوراء زينب وبهذه الرزية تقسم على أمير المؤمنين".
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى أحد شيوخ الشيعة، وهو يذكر للحاضرين أن فاطمة الزهراء رضي الله عنها سوف توزِّع لهم في مجلسهم أوراق العتق والبراءة من نار جهنم، وصكوك تفريج الحاجات عياذاً بالله فاستمع ماذا يقول: "السيدة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها تتشكر بجهود الحريم المؤمنات الصالحات، نشارك في مجالس الحسين، خلي فاطمة الزهراء توزع عليكم الأوراق إن شاء الله أوراق البراء من النار، إن شاء الله أوراق العتق من نار جهنم، إن شاء الله أوراق قضاء الحوائج، ... إن شاء الله حوائجكم مقضية بقلوب مفحمة بالإيمان بالطيب، تروحون إلى بيوتكم والحمد لله، … قضيناها في مصابك أبا عبد الله تبكيك عيني.
خامساً: اعتقاد الشيعة الإمامية الاثنا عشرية أن قبر الحسين عليه السلام شفاء من كل داء:
فتعتقد الشيعة أيضاً أن قبر الحسين بن علي شفاء من كل داء، فقد ذكر شيخهم المجلسي قرابة من ثلاث وثمانين رواية، في كتابه "بحار الأنوار" عن تربة الحسين وفضائلها وأحكامها وآدابها ومنها قوله: "قال أبو عبد الله: حنكوا أولادكم بتربة الحسين فإنه أمان". وقال أيضاً: "ثم يقوم ويتعلق بالضريح ويقول: يا مولاي يا ابن رسول الله، إني آخذ من تربتك، بإذنك اللهم فاجعلها شفاء من كل داء، وعزاً من كل ذل، وأمنا من كل خوف، وغنىً من كل فقر" انتهى ما جاء في كتاب بحار الأنوار للمجلسي.
كما أفتى الخميني لأتباعه ومريديه بأن يأكلوا من تربة الحسين للاستشفاء بها، حيث أنه يرى لها فضيلة لا تلحق بها أي تربة، حتى تربة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال في كتابه تحرير الوسيلة (2/164) ما نصه: " يستشفى من الطين، طين قبر سيدنا أبي عبد الله الحسين عليه السلام للاستشفاء، ولا يجوز أكله بغيره ولا أكل ما زاد عن قدر الحمصة المتوسطة ولا يلحق به طين غير قبره، حتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة عليهم السلام" انتهى كلام الخميني.
أقول: إخواني في الله، قد غلت الشيعة الإمامية الاثنا عشرية في الحسين بن علي رضي الله عنهما، حتى إنك ترى ثلجات الماء التي يضعونها للشرب في شوارع وطرقات دولتهم إيران قد كتب عليها بهذه اللفظة: "بنو شيب بنام حسين" أي: "اشرب باسم الحسين" عياذاً بالله تعالى من هذا الشرك.(/6)
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى غلو الشيعة في الحسين رضي الله عنه حيث يقول أحد شيوخهم: إن جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وجميع الأوصياء لهم يوم القيامة شفاعة واحدة أما الحسين فله وحده تسع وتسعون شفاعة، عياذاً بالله تعالى من هذا الضلال، فاستمع ماذا يقول: "إخوان، قرأتُ في كتاب التكامل في الإسلام الجزء السادس، عما يتعلق بالحسين، يقول هذا العالم وهذا المؤلف الكبير أحمد أمين النجفي بالنصوص المعتبرة، التي يأخذها عن الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم، حينما يتكلم عن الحسين وشأن الحسين وشفاعة الحسين، يأتي بالخبر عن رسول الله، قال: إن يوم القيامة، الله تعالى يعطي جزءاً من شفاعة للأنبياء وللأوصياء وللحسين لوحده تسعا وتسعين".
سادساً: اعتقاد الشيعة بأن زيارة قبور أئمتهم أعظم من الحج:
كذلك ـ إخواني في الله ـ تعتقد الشيعة الإمامية بأن زيارة مشاهد وقبور أئمتهم أعظم من الحج إلى بيت الله العتيق، قال شيخهم وإمامهم الكليني في فروع الكافي (ص59) ما نصه: "إن زيارة قبر الحسين تعدل عشرين حجة، وأفضل من عشرين عمرة وحجة".
وسأبين لكم ـ إخواني في الله ـ مدى ما وصل إليه الشيعة الاثنا عشرية من غلوٍ فاحش في أئمتهم وزيارة قبور أئمتهم وذلك عندما أقرأ عليكم بعض أبواب وفهارس الكتب المعتمدة عند الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، والتي تبين غلوهم في أئمتهم، ومن هذه الكتب ما يأتي: نقرأ في فهارس كتاب الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني طبعة دار التعارف بيروت. من فهارس هذا الكتاب ـ إخواني في الله ـ ما يأتي واسمع جيداً :
باب أن الأئمة عليهم السلام ولاة أمر الله وخزنة علمه.
باب أن الأئمة عليهم السلام نور الله عز وجل.
باب أن الأئمة عليهم السلام إذا شاءوا أن يعلموا علموا.
باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم.
باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم شيء.
باب عرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام.
باب أن الأئمة معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة.
باب أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم.
باب أن الأئمة عليهم السلام عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها.
باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام.
باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل عليهم السلام عياذاً بالله تعالى.
ننتقل إلى فهارس كتاب بحار الأنوار لمحمد باقر المجلسي طبعة دار إحياء التراث العربي في بيروت، من فهارس هذا الكتاب ـ إخواني في الله ـ ما يلي:
باب أن الله تعالى يرفع للإمام عموداً ينظر إلى أعمال العباد.
باب أنه لا يحجب عنهم ـ يعني الأئمة ـ شيء من أحوال شيعتهم وما تحتاج إليه الأئمة من جميع العلوم، وأنهم يعلمون ما يصيبهم من البلايا ويصبرون عليها، وأنهم يعلمون ما في الضمائر، وعلم المنايا والبلايا، وفصل الخطاب والمواليد.
هذا كله تعلمه الأئمة في عقيدة الشيعة الاثنا عشرية.
باب أن عندهم ـ أي الأئمة ـ جميع علوم الملائكة والأنبياء وأنهم أعطوا ما أعطاه الله الأنبياء وأن كل إمام يعلم جميع علم الإمام الذي قبله.
باب أنهم أعلم من الأنبياء عليهم السلام.
باب أنهم يعلمون متى يموتون، وأنه لا يقع ذلك إلا باختيارهم.
باب أحوالهم بعد الموت، وأن لحومهم حرام على الأرض، وأنهم يرفعون إلى السماء.
باب أنهم يظهرون بعد موتهم، ويظهر منهم الغرائب.
باب أن أسماءهم عليهم السلام مكتوبة على العرش والكرسي واللوح وجباه الملائكة وباب الجنة وغيرها.
باب أن الجن خدامهم يظهرون لهم ويسألونهم عن معالم دينهم.
باب أنهم يقدرون على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وجميع معجزات الأنبياء عليهم السلام.
باب أن الملائكة تأتيهم وتطأ فرشهم، وأنهم يرونهم صلوات الله عليهم أجمعين.
باب أنهم عليهم السلام لا يحجب عنهم علم السماء والأرض والجنة والنار، وأنه عرض عليهم ملكوت السموات والأرض ويعلمون علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة. أعوذ بالله من هذا الغلو الفاحش.
ننتقل ـ أحبتي في الله ـ إلى كتابهم الثالث، وهو كتاب بصائر الدرجات لأبي جعفر محمد بن الحسن الصفار طبعة الأعلمي في إيران، من فهارس هذا الكتاب الذي يدلل على غلوهم في هؤلاء الأئمة، ورفعهم إلى مرتبة الله عز وجل ما يأتي:
باب أن الأعمال تعرض على رسول الله والأئمة عليهم السلام.
باب عرض الأعمال على الأئمة الأحياء والأموات.
باب في أن الإمام يرى ما بين المشرق والمغرب.
باب في الأئمة أنهم يحيون الموتى ويبرئون الأكمه والأبرص بإذن الله.
باب في أمير المؤمنين أن الله ناجاه بالطائف، وغيرها ونزل بينهما جبريل، يعني: كان جبريل ينزل على قلب علي بن أبي طالب كما كان ينزل على قلب رسول الله، عياذاً بالله من هذا الكفر.(/7)
باب في علم الأئمة بما في السموات والأرض والجنة والنار وما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة.
ننتقل إلى كتاب كامل الزيارات لإمامهم جعفر بن محمد بن قولويه، وهذه بعض الأبواب ـ يا إخواني ـ من فهارس هذا الكتاب، تبين غلوهم في أئمتهم، والكتاب طبعة دار السرور في بيروت عام 1997 للميلاد، يعني الطبعة الحديثة فأقول:
باب من زار الحسين كان كمن زار الله في عرشه.
باب إن زيارة الحسين والأئمة عليهم السلام تعدل زيارة قبر رسول الله وآله.
باب إن زيارة الحسين تحط الذنوب.
باب إن زيارة الحسين تعدل عمرة.
باب إن زيارة الحسين تعدل حجة.
باب إن زيارة الحسين تعدل حجة وعمرة.
باب إن زيارة الحسين ينفس بها الكرب ويقضى بها.
باب ما يستحب من طين قبر الحسين وأنه شفاء.
باب إن طين قبر الحسين شفاء وأمان.
باب ما يقول الرجل إذا أكل طين قبر الحسين.
باب إن زائري الحسين يدخلون الجنة قبل الناس.
ننتقل إلى كتاب "نور العين في المشي إلى زيارة قبر الحسين" للإمام محمد بن حسن طبعة دار الميزان في بيروت، ومن أبواب هذه الفهارس ـ إخواني في الله ـ:
باب إن زائر الحسين عليه السلام يعطى له يوم القيامة نور يضيء لنوره ما بين المشرق والمغرب.
باب إن زيارته عليه السلام توجب العتق من النار.
باب إن زيارته غفران ذنوب خمسين سنة.
باب إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل الإعتاق والجهاد والصدقة والصيام.
باب إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل اثنتين وعشرين عمرة.
باب إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل حجة لمن لم يتهيأ له الحج، وتعدل عمرة لمن لم تتهيأ له عمرة.
باب إن الله تبارك وتعالى يتجلى لزوار قبر الحسين عليه السلام ويخاطبهم بنفسه.
باب إن الله جل وعلا يزور الحسين عليه السلام في كل ليلة جمعة.
باب عن الأنبياء يسألون الله في زيارة الحسين عليه السلام، انظر إلى الغلو.
باب أن النبي الأعظم ـ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ـ والعترة الطاهرة يزورون الحسين عليه السلام.
باب إن إبراهيم الخليل عليه السلام يزور الحسين عليه السلام.
باب إن موسى بن عمران سأل الله جل وعلا أن يأذن له في زيارة قبر الحسين عليه السلام.
باب الملائكة يسألون الله عز وجل أن يأذن لهم في زيارة قبر الحسين عليه السلام.
باب ما من ليلة تمضي إلا وجبريل وميكائيل يزورانه صلوات الله عليه.
باب إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل ثلاثين حجة مبرورة متقبلة زاكية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
باب من زار قبر الحسين عليه السلام كان كمن زار الله فوق عرشه.
باب من زار قبر الحسين عليه السلام كان كمن زار الله فوق كُرْسيه.
باب من زار قبر الحسين عليه السلام كتبه الله في أعلى عليين، وأعوذ بالله من هذا الغلو، وهذا التقديس الفاحش في حق هؤلاء الأئمة.(/8)
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى شيخهم حسين الأحسائي وهو يذكر خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تعتقد الشيعة الإمامية أن علياً رضي الله عنه قد قالها قبل موته والتي فيها من الشرك العظيم والكفر المبين ما تقشعر منه جلود المؤمنين الموحدين، فاستمع ماذا يقول: "من خطبة له صلى الله عليه وآله يقول فيها: أنا عندي مفاتيح الغيب لا يعلمها بعد رسول الله إلا أنا، أنا ذو القرنين المذكور في الصحف الأولى، أنا صاحب خاتم سليمان، أنا ولي الحساب، أنا صاحب الصراط والموقف، أنا قاسم الجنة والنار بأمر ربي، أنا آدم الأول، أنا نوح الأول، أنا آية الجبار، أنا حقيقة الأسرار، أنا مورِّق الأشجار، أنا مونع الثمار، أنا مفجِّر العيون، أنا مجري الأنهار، أنا خازن العلم، أنا طول الحلم، أنا أمير المؤمنين، أنا عين اليقين، أنا حجة الله في السموات والأرض، أنا الراجفة أنا الصاعقة، أنا الصيحة بالحق، أنا الساعة لمن كذب بها، أنا ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، أنا الأسماء الحسنى التي أمر أن يُدعى بها، أنا ذلك النور الذي اقتبِس منه الهدى، أنا صاحب الصور، أنا مخرج من في القبور، أنا صاحب يوم النشور، أنا صاحب نوح ومُنجيه، أنا صاحب أيوب المبتلى وشافيه، أنا أقمت السموات بأمر بي، أنا صاحب إبراهيم، أنا سر الكليم، أنا الناظر في الملكوت، أنا أمر الحي الذي لا يموت، أنا ولي الحق على سائر الخلق، أنا الذي لا يبدَّل القول لدي، وحساب الخلق إلي، أنا المفوضَة إلي أمر الخلائق، أنا خليفة الإله الخالق، أنا سر الله في بلاده، وحجته على عباده، أنا أمر الله والروح كما قال سبحانه: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى} [الإسراء:85]، أنا أرسيت الجبال الشامخات، وفجرت العيون الجاريات، أنا غارس الأشجار، ومخرج الألوان والثمار، أنا مقدر الأقوات، أنا ناشر الأموات، أنا منزل القبر، أنا منوِّر الشمس والقمر والنجوم، أنا أقيم القيامة، أنا ألقيم الساعة، أنا الواجب له من الله الطاعة، أنا سر الله المخزون، أنا العالم بما كان وما يكون، أنا صلوات المؤمنين وصيامهم، لنا صاحب بدر وحنين، أنا الطور أنا الكتاب المسطور، أنا البحر المسجور، أنا البيت المعمور، أنا الذي دعا الله الخلائق إلى طاعتي فكفرت وأصرت فمسخت، وأجابت أمة فنجت وأزلقت، أنا الذي بيدي مفاتيح الجنان، ومقاليد النيران، كرامة من الله، أنا مع رسول الله في الأرض وفي السماء، أنا المسيح حيث لا روح يتحرك ولا نفس يتنفس غيري، أنا صاحب القرون الأولى، أنا الصامت ومحمد الناطق، أنا جاوزت بموسى في البحر، وأغرقت فرعون وجنوده، وأنا أعلم هماهم البهائم ومنطق الطير، أنا الذي أجوز السموات السبع والأرضين السبع في طرفة عين، أنا المتكلم على لسان عيسى في المهد، أنا الذي يصلي عيسى خلفي، أنا الذي أنقلب في الصور كيف شاء الله".
خامساً: عقيدة الشيعة في توحيد الأسماء والصفات:
أولاً: الشيعة ـ إخواني في الله ـ هم نفاة في صفات الله:
ولذا فقد نفوا عن الله تعالى صفاته فقالوا: ليس لله سمع ولا بصر، وليس له وجه ولا يد، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ووافقوا بذلك شيوخهم من المعتزلة بل ألصقوا أسماء الله تعالى وصفاته بأئمتهم، كما روى إمامهم الكليني في الأصول من الكافي (1/143) قوله: "قال جعفر بن محمد عليه السلام في قوله تعالى: {وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:80]، نحن والله الأسماء الحسنى يعني الأئمة التي لا يقبل الله من عباده عملاً إلا بمعرفتنا" انتهى.
ثانياً: اعتقاد الشيعة بأن القرآن مخلوق عياذاً بالله:
فكذلك فإن الشيعة الاثنا عشرية ـ إخواني في الله ـ وافقوا الجهمية، بأن القرآن مخلوق، فقد عقد شيخهم المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" في كتاب القرآن بابا بعنوان: باب أن القرآن مخلوق ذكر فيه إحدى عشرة رواية على هذا المعتقد الفاسد الضال، وهو كفر صريح قد أجمع عليه أهل القبلة والملة والدين.
ثالثاً: إنكار الشيعة الإمامية رؤية الله يوم القيامة:
فكذلك نفت الشيعة ـ إخواني في الله ـ رؤية الله يوم القيامة، وقد ذكر ذلك شيخهم ابن بابويه في كتابه التوحيد، وجمعها المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" على أن الله تعالى لا يرى يوم القيامة، فوافقوا بذلك الجهمية والمعتزلة، والخوارج، وباقي الفرق الضالة المضلة
سادساً: عقيدة الشيعة الإمامية الاثنا عشرية في القرآن الكريم:(/9)
فنقول ـ إخواني في الله ـ: القرآن الكريم هو المنزل من عند الله تعالى على قلب الإمام المعصوم الأوحد عند أهل السنة والجماعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، المعجز في أسلوبه ونظمه، الذي فيه نبأ من قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء, ولا تلتبس به ألسنة الضعفاء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق من كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به ـ إخواني في الله ـ صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم، والذي تحدى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فصحاء العرب، وأرباب البلاغة وفرسان اللغة، إنه القرآن الكريم ـ إخواني في الله ـ الذي يعتقد فيه أهل السنة والجماعة بأنه كلام الله، الذي أنزله على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم، من اعتقد أن فيه حرفاً زائداً أو ناقصاً فهو مرتد، قد خلع ربقة الإسلام من عنقه، ولا يقبل الله منه عدلاً ولا صرفاً يوم القيامة، هذا اعتقاد أهل السنة في هذا القرآن، فماذا تعتقد الشيعة الإمامية الاثنا عشرية في هذا القرآن؟
أقول ـ إخواني في الله ـ: إنهم يعتقدون أن القرآن الكريم قد وقع فيه التحريف والتبديل، والزيادة والنقص، بل إن الذي نقص هو ما يعادل ضعفي القرآن الموجود بين يدي أهل السنة، وأن الذي قام بهذه الجريمة بزعم الشيعة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين، واستمع ـ أخي في الله ـ إلى الدكتور عدنان الوايل وهو من شيعة الكويت، كيف يحرف القرآن الكريم، أمام جموع من الشيعة في كلمة له، حينما قرأ قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، حيث حرفها هذا الشيخ فحذف قوله تعالى: {مِن رَّبّكَ} ووضع مكانها قوله في علي اعتقاداً من الشيعة بأن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم هم الذين قاموا بذلك، فاستمع ماذا يقول: "الشوق يحدونا، الشوق هو الذي جاء بنا إلى هذا المكان، لا لكي نحتفل، ولكن لكي نجدد العهد بالولاية بسيدي ومولاي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه. عندما نزلت الآية: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}".
فهذه روايات الشيعة التي تجاوزت أكثر من ألفي رواية منتشرة في كتبهم المعتمدة والأصلية، التي تصرح بتحريف القرآن الكريم، الذي هو بين يدي أهل السنة والجماعة، وقد نقل هذا الكفر وهذه الزندقة مشاهير أئمتهم وكبار شيوخ طريقتهم الضالة ومنهم إمامهم الأول الذي قال بتحريف القرآن هو علي بن إبراهيم القمي، وقد ذكر أن القرآن محرف في مقدمة تفسيره (1/36-37) طبعة دار السرور في بيروت حيث يقول إمامهم: "وأما ما هو على خلاف ما أنزل فهو قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فقال أبو عبد الله عليه السلام لقارئ هذه الآية: خير أمة، يقتُلون أمير المؤمنين والحسن والحسين بن علي عليهم السلام؟! فقيل له: وكيف نزلت يا ابن رسول الله؟ فقال: إنما نزلت: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}" انتهى كلامه من تفسيره.
إمامهم الثاني ـ إخواني في الله ـ الذي قال بتحريف القرآن هو نعمة الله الجزائري، هذا المجرم الذي صرح بتحريف القرآن الكريم، على يد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، حيث يقول في كتابه الأنوار النعمانية (1/97) ما نصه: "ولا تعجب من كثرة الأخبار الموضوعة، فإنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم قد غيروا وبدلوا ـ يقصد هنا الخبيث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ في الدين ما هو أعظم من هذا، كتغييرهم القرآن وتحريف كلماته وحذف ما فيه من مدائح آل الرسول والأئمة الطاهرين" انتهى كلامه من كتابه الأنوار النعمانية.
ننتقل إلى إمامهم الثالث، الذي قال بتحريف القرآن وهو الفيض الكاشاني وهو من كبار مفسريهم ـ إخواني في الله ـ وصاحب كتاب الصافي، وهو من منشورات مكتبة الصدر في طهران بإيران، والذي بدأ كتابه باثنتي عشرة مقدمة، ذكر في المقدمة السادسة أن القرآن محرف، وجعل لهذه المقدمة عنوان: هو المقدمة السادسة في نبذ مما جاء في جمع القرآن وتحريفه وزيادته ونقصه وتأويل ذلك" انتهى.(/10)
وقال أيضاً في تفسيره السابق (1/49) ما نصه: "والمستفاد من هذه الأخبار وغيرها من الروايات من طريق أهل البيت عليهم السلام أن القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه ـ يعني ما هو كامل ـ كما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله، ومنه ما هو مغير محرف، وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة، منها اسم علي عليه السلام في كثير من المواضع، ومنها لفظة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم غير مرة، ومنها أسماء المنافقين في مواضعها"، طبعاً يعني بالمنافقين هنا هم الصحابة رضوان الله عليهم إلى أن قال: "ومنها غير ذلك وأنه ليس أيضاً على الترتيب المرضي عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم" انتهى كلامه.
ننتقل ـ أحبتي في الله ـ إلى إمامهم الرابع الذي قال بتحريف القرآن، وهو أبو منصور أحمد بن منصور الطبرسي، وهو كذلك قد صرح بتحريف القرآن الكريم على أيدي الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، حيث يقول في كتابه الاحتجاج (1/249) ما نصه: "إن الكناية عن أسماء أصحاب الجرائر العظيمة من المنافقين في القرآن ليست من فعله تعالى، وإنها من فعل المغيرين والمبدلين الذين جعلوا القرآن عضين، واعتاضوا الدنيا من الدين" انتهى.
ويقول كذلك في كتابه المذكور آنفاً (1/254) ما نصه: "ولو شرحت لك ما أسقط وحرف وبدّل ـ يعني في القرآن الكريم ـ مما يجري هذا المجرى لطال، وظهر ما تحضر التقية إظهاره من مناقب الأولياء ومثالب الأعداء" انتهى كلامه.
ننتقل ـ إخواني في الله ـ إلى إمامهم الخامس الذي قال بتحريف القرآن وهو محمد بن باقر المجلسي، الذي بوب في كتابه "بحار الأنوار" (89/66) باباً بعنوان: "باب التحريف في الآيات التي هي خلاف ما أنزل الله" انتهى كلامه.
وبالمناسبة ـ إخواني في الله ـ هذا الكتاب بحار الأنوار يتكون من مائة وعشر مجلد قام بجمعها هذا الرجل المجلسي وهو شيخ الدولة الصفوية، عامله الله بعدله وبما يستحق.
ننتقل ـ إخواني في الله ـ إلى إمامهم السادس الذي قال بتحريف القرآن وهو محمد بن محمد النعمان والملقب بالمفيد، الذي قال في كتابه أوائل المقالات (ص48، 49) ما نصه: "واتفقوا ـ يعني أئمة الشيعة ـ أن أئمة الضلال خالفوا في كثير من تأليف القرآن، وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم" انتهى. ويعني هنا بأئمة الضلال الصحابة رضوان الله عليهم.
وقال أيضاً في كتابه السابق (ص525) ما نصه: "إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وسلم باختلاف القرآن، وما أحدثه الظالمون فيه من الحذف والنقصان"، ويقصد أيضاً هنا بالظالمين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين.
ننتقل ـ أحبتي في الله ـ إلى إمامهم السابع الذي قال بتحريف القرآن وهو أبو الحسن العاملي الذي قال في المقدمة الثانية لتفسيره مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار (ص36) ما نصه: "اعلم أن الحق الذي لا محيص عنه بحسب الأخبار المتواترة وغيرها، أن هذا القرآن الذي في أيدينا، قد وقع فيه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من التغييرات، وأسقط الذين جمعوه بعده كثيراً من الكلمات والآيات" انتهى كلامه.
ننتقل إلى إمامهم الثامن الذي قال بتحريف القرآن وهو سلطان محمد بن حيدر الخرساني والذي قال في كتابه بيان السعادة في مقامات العبادة، (1/12) ما نصه: "اعلم أنه قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأطهار بوقوع الزيادة والنقيصة والتحريف والتغيير فيه ـ يعني: القرآن الكريم ـ بحيث لا يكاد يقع شك في صدور بعضها منهم ـ يعني من أصحاب رسول الله ـ" انتهى كلامه.
إمامهم التاسع الذي قال بتحريف القرآن هو مرزا حسين النوري الطبرسي والذي ألف كتابه فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" في عام 1292 للهجرة، وقد حصل لهذا الكتاب ضجة كبيرة بين أوساط علماء الشيعة؛ لأن خروج مثل هذا الكتاب يكون حجة لخصوم الاثنا عشرية، فقام مرزا حسين هذا المدعو بتأليف كتابه الثاني، الذي يدافع فيه عن كتابه الأول، وسماه "رد بعض الشبهات عن فضل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" وكان تأليف هذا الكتاب قبل هلاك هذا المجرم بسنتين تقريباً.
وقد ذكر الطبرسي في مقدمة كتابه فصل الخطاب في إثبات تحريف كلام رب الأرباب ما نصه حيث يقول: "وبعد: فيقول العبد المذنب المسيء حسين بن محمد تقي النور الطبرسي، جعله الله من الواقفين ببابه، المتمسكين بكتابه، هذا كتاب لطيف وسفر شريف في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان ـ يعني: الصحابة رضوان الله عليهم ـ وسميته فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب، وجعلت له ثلاث مقدمات وبابين، وأودعت فيه من بدائع الحكمة ما تقر به كل عين" انتهى كلامه عياذاً بالله تعالى.(/11)
ننتقل ـ إخواني في الله ـ إلى إمامهم العاشر الذي قال بتحريف القرآن وهو محمد بن يعقوب الكليني، والذي ذكر في أصول الكافي في كتاب الحُجة، (1/284) ما نصه: "عن جابر قال: سمعت أبي جعفر عليه السلام يقول: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما أنزل الله تعالى إلا علي بن أبي طالب عليه السلام، والأئمة من بعده عليهم السلام" يعني: جمع القرآن في عقيدتهم محصور في علي بن أبي طالب والأئمة الإحدى عشر من بعده، أما الصحابة الذين حفظوا هذا القرآن فهؤلاء لا يؤمنون بهذا الجمع ولا بهذا القرآن الذي يعتقده أهل السنة والجماعة.
ننتقل ـ أحبتي في الله ـ إلى إمامهم الحادي عشر الذي قال بتحريف القرآن، وهو محمد بن مسعود والمعروف بالعياشي، حيث ذكر في تفسيره المشهور (1/25) ما نصه: "عن أبي عبد الله أنه قال: لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمَّين" انتهى، أي: لو لم يحرف القرآن الكريم بزعمهم، لوجدت أسماء الأئمة الاثني عشر موجودة.
أقول: إخواني في الله، إذاً لماذا تقرأ الشيعة الاثنا عشرية القرآن الذي بين أيدي أهل السنة والجماعة، مع اعتقادهم بأنه محرف، وكثير من أهل السنة يرون عامة الشيعة، إن لم يكن جل الشيعة يقرؤون القرآن وأهل السنة ينظرون إليهم؟! فكيف يقرؤون وهم يعتقدون أنه محرف.
أقول: هذا السؤال الذي يسأله أهل السنة يجيب عليه إمامهم ومرجعهم نعمة الله الجزائري في كتابه الأنوار النعمانية (2/360) حيث يقول هذا الإمام جواباً على سؤال أهل السنة ما نصه: "فإن قلت: كيف جاز القراءة في هذا القرآن مع ما لحقه من التغيير قلت: قد روي في الأخبار أنهم عليهم السلام ـ يعني: الأئمة ـ أمروا شيعتهم بقراءة هذا الموجود من القرآن في الصلاة وغيرها، والعمل بأحكامه، حتى يظهر مولانا صاحب الزمان، فيرتفع هذا القرآن من أيدي الناس، ويخرج القرآن الذي ألفه أمير المؤمنين عليه السلام، فيقرأ ويعمل بأحكامه" انتهى كلامه.
إذاً الجواب واضح حينما يسأل أهل السنة والجماعة: لماذا تقرأ الشيعة هذا القرآن المحرف عندهم؟! لأن أئمتهم أمروهم بهذا، حتى يخرج صاحب السرداب محمد بن الحسن العسكري، فينزع هذا القرآن ويرفعه، ثم يخرج القرآن الذي جمعه علي بن أبي طالب، فيحكم به الأرض عياذاً بالله تعالى من هذا الكفر ومن هذا النفاق
سابعاً: عقيدة الشيعة في الصحابة رضوان الله عليهم:
ونتكلم أولاً عن فضل الصحابة رضوان الله عليهم:
فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إخواني في الله ـ هم خير الخليقة بعد الأنبياء والمرسلين، وهم الذين اصطفاهم الله تعالى لصحبة نبيه وخليله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا خير أصحاب وخير أصهار، مدحهم الله تعالى في كتابه الكريم، وأثنى عليهم وعلى ما حملوه من إيمان عظيم، فقال تعالى مبيناً حقهم وعظيم أجرهم: {وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]. أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بذلوا الأموال والأرواح والمهج رخيصة في سبيل الله تعالى، حتى جعلت الواحد منهم يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحري دون نحرك يا رسول الله) فتفجرت بذلك دماؤهم الزكية، وتناثرت أشلاؤهم الطاهرة في الجهاد في سبيل الله، وهم يذبون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفعون كلمة التوحيد خفاقة، حتى انتشر الإيمان والإسلام في أرجاء المعمورة وأطرافها، واندحر الشرك ـ إخواني في الله ـ والإلحاد تحت سنابك خيولهم، فكانوا أحق الناس بكلمة التقوى وأهلها حيث قال الله تعالى عنهم: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26]، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الصادقون في إسلامهم، أصحاب المنزلة الرفيعة والمكانة العلية، العدول الأثبات الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم ففد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه)) رواه الترمذي.(/12)
ولهذا إخواني في الله، أجمع أهل السنة والجماعة على فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخالف في ذلك إلا الشيعة الاثنا عشرية، حيث حكموا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالردة والخروج من الدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال التستري وهو من كبار علمائهم في كتابه إحقاق الحق ما نصه: "كما جاء موسى للهداية، وهدى خلقاً كثيراً من بني إسرائيل وغيرهم، فارتدوا في أيام حياته، ولم يبق فيهم أحد على إيمانه سوى هارون عليه السلام، كذلك جاء محمد صلى الله عليه وسلم، وهدى خلقاً كثيراً، لكنهم بعد وفاته ارتدوا على أعقابهم" انتهى. كما ذكر الكليني في الكَافي والعياشي في تفسيره، والمجلسي في "بحار الأنوار" ما نسبوه كذباً وزوراً إلى محمد بن علي الباقر أنه قال: "كان الناس أهل ردة بعد النبي إلا ثلاثة" انتهى.
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى أحد شيوخ الشيعة الإمامية وهو يقول: إن جميع الناس يعني: الصحابة رضوان الله عليهم قد ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعة عياذاً بالله تعالى، فاستمع ماذا يقول: "يقول الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام: ارتد الناس بعد الحسين إلا قليل، كما ارتد الناس بعد رسول الله إلا أربعة أشخاص، ارتد الناس بعد مقتل الحسين عليه الصلاة وأزكى السلام إلا قليل، هكذا كان الوضع عندما تسلَّم الإمام السجاد أزمة الأمور وأزمة العالم بأجمعه".
كما سأبين لك ـ أخي في الله ـ بعض أقوالهم في أعظم وأحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنرى مدى جراءة وافتراء وظلم الشيعة في حق الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وإلى أولهم:
عائشة رضي الله عنها فهي أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، الطاهرة المطهرة التي نشأت في بستان الطهر، وتربت في واحة العفة والحياء، حبيبة حبيب الله صلى الله عليه وسلم، وصديقة فراشه العفيفة المبرّأة من فوق سبع سموات، والتي مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه الشريف بين سحرها ونحرها، وريقه الشريف قد خالط ريقها، والتي قبض ودفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها وهو راضٍ عنها، والتي يقدمها أهل السنة والجماعة على عشائرهم وقبائلهم، بل والله على أمهاتهم وآبائهم لقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحبه الشديد لها، حيث سئل صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحب إليك؟ قال: ((عائشة)) رواه البخاري، والتي تغنى بها وبتقواها وبطهرها شعراء أهل السنة، حتى قال قائلهم:
أكرم بعائشة الرضا من حرة بكر مطهرة الإزار حصانِ
هي زوج خير الأنبياء وبكره وعروسه من جملة النسوان
هي عرسه هي أنسه هي إلفه هي حبه صدقاً بلا ادهان
هذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة، أصحاب القلوب البيضاء في الطاهرة العفيفة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والتي نفديها بالأهل والعشائر ونقدمها على الآباء والأمهات لقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحبه الشديد لها.
فماذا تعتقد الشيعة الإمامية الاثنا عشرية في حق هذه الطّاهرة المطهرة إخواني في الله...
{مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92]، عائشة هي نكثت إيمانها" انتهى عياذاً بالله.
كما تعتقد الشيعة الاثنا عشرية في العفيفة الطاهرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأن لها باباً من أبواب النار تدخل منها عياذاً بالله، حيث ذكر إمامهم العياشي في تفسيره (2/243) ما أسنده إلى جعفر الصادق كذباً وزوراً أنه قال في تفسير قوله تعالى حكاية عن النار {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر:44]، قال: يؤتى بجهنم لها سبعة أبواب... إلى أن قال: والباب السادس لعسكر. يعني: هذا الباب السادس مخصص لعسكر.
أقول أحبتي في الله: وعسكر هو كناية عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما ذكر ذلك المجلسي في كتابه "بحار الأنوار"، ووجه الكناية عن هذا الاسم كونها كانت تركب جملاً في موقعة الجمل، يقال له: عسكر، هذا ـ إخواني في الله ـ اعتقاد الشيعة في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وننتقل إلى طعن الشيعة في أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما:(/13)
فأقول: إخواني في الله، أولاً: هما خير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه، فأبو بكر الصديق هو السابق إلى التصديق، والملقب بالعتيق، وهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والأسفار، ورفيقه الشفيق في جميع الأطوار، وضجيعه بعد الموت في الروضة المحفوفة بالأنوار، المخصوص في الذكر الحكيم حيث قال عالم الأسرار: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ} [التوبة:40]. أول الصحابة إسلاماً، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس، وواسى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله، حتى قال فيه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ((إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله)) رواه البخاري. أسلم على يديه صفوة الأصحاب، وأعتق بماله الكثير من الرقاب، سماه الرسول صلى الله عليه وسلم صديقاً، وما انتقل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه إلا وهو عنه راض.
أما عمر بن الخطاب فهو الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل، أفضل الصحابة بعد الصديق، أسلم فكان إسلامه عزاً للمسلمين، كان قوياً في دينه، شديداً في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم، ثاقب الرأي، حاد الذكاء، جعل الله الحق على لسانه وقلبه، تولى الخلافة بعد الصديق، فكانت خلافته فتحاً للإسلام، حيث تهاوت في أيامه عروش كسرى وقيصر، والذي قال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرت غيرته فوليت مدبراً)) فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟! رواه البخاري.
فهذا ـ إخواني في الله ـ أبو بكر الصديق وهذا عمر الفاروق رضي الله عنهما بكل هذه الفضائل والمناقب والمحاسن، فماذا تعتقد الشيعة الإمامية الاثنا عشرية في حق هذين الإمامين العظيمين؟
أقول: إخواني في الله، إن الشيعة الإمامية تعتقد بوجود لعنهما، وقد افترت الشيعة الاثنا عشرية أدعية كثيرة في شتم وسب ولعن الشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ونثروها في كتبهم، ومن هذه الأدعية التي تروجها الشيعة ما يسمى بدعاء صنمي قريش، والذي يلعنون فيه أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابنتيهما أمهات المؤمنين عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر رضي الله عنهم أجمعين. وسأستعرض لك ـ أخي في الله ـ دعاء صنمي قريش عند الإمامية الاثنا عشرية كاملاً، ونصه موجود في كتاب "بحار الأنوار" للمجلسي (85/260) الرواية الخامسة باب رقم (33) جاء في هذا الدعاء ما نصه واسمع أخي في الله، يقولون: "اللهم العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وإفكيهما وابنتيهما ـ يعني: حفصة وعائشة رضي الله عنهما ـ اللذين خالفا أمرك وأنكرا وحيك وجحدا إنعامك، وعصيا رسولك وقلبا دينك وحرفا كتابك، وعطلا أحكامك وأبطلا فرائضك، وألحدا في آياتك وعاديا أولياءك، وواليا أعداءك وخربا بلادك، وأفسدا عبادك، اللهم العنهما وأنصارهما فقد أخربا بيت النبوة" عياذاً بالله. هذا كله ـ إخواني في الله ـ في أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم أجمعين. ثم يقول هذا الدعاء: "وردما بابه ونقضا سقفه، وألحقا سماءه بأرضه، وعاليه بسافله، وظاهره بباطنه، واستأصلا أهله وأبادا أنصاره وقتلا أطفاله، وأخليا منبره من وصيه ووارثه، وجحدا نبوته، وأشركا بربهما فعظم ذنبهما ـ عياذاً بالله ـ وخلدهما في سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر، اللهم العنهم بعدد كل منكر أتوه وحق أخفوه ومنبر علوه ومنافق ولوه، ومؤمن أرجوه، وولي آذوه وطريد آووه، وصادق طردوه، وكافر نصروه، وإمام قهروه، وفرض غيروه وأثر أنكروه، وشر أضمروه، ودم أراقوه، وخبر بدلوه، وحكم قلبوه، وكفر أبدعوه وكذب دلسوه، وإرث غصبوه، وفيء اقتطعوه" عياذاً بالله تعالى من هذا الكفر ومن هذه الزندقة، كل هذا في حق أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم أجمعين، انتهى هذا الدعاء يا إخواني.(/14)
وقد اهتم علماء الشيعة الإمامية بهذا الدعاء اهتماماً بالغاً، حيث قاموا بشرحه حتى بلغت شروحه أكثر من عشرة شروح، منهم شرح الإمام الكفحمين في كتابه "البلد الأمين"، والإمام الكاشاني في علم اليقين، والنوري الطبرسي في فصل الخطاب، والطهراني الحائري في مفتاح الجنان، والكركي في نفحات اللاهوت، وإمامهم المجلسي في بحار الأنوار، والتستري في إحقاق الحق، والحائري في كتابه إلزام الناصب، والمقصود بالناصب هو السني، وقد وضعوا له كذباً وزوراً وبهتاناً فضائل ومحاسن، ومن هذه الفضائل أن من قرأه مرة واحدة كتب الله له سبعين ألف حسنة. انظر، يشتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة ويكتب الله له سبعين ألف حسنة!!! فمن قرأ هذا الدعاء مرة واحدة كتب الله له سبعين ألف حسنة، ومحا عنه سبعين ألف سيئة، ورفع له سبعين ألف درجة، ويقضى له سبعون ألف ألف حاجة. هذا ثابت في كتابهم ضياء الصالحين (ص513) وأن من يلعن أبا بكر وعمر في الصباح لم يكتب عليه ذنب حتى يمسي، ومن لعنهما في المساء لم يكتب عليه ذنب حتى يصبح، عياذاً بالله تعالى من هذا.
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى أحد علماء شيعة الخليج وهو يسب أبا بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما، في مكالمة هاتفية بينه وبين أحد أتباعه من الشيعة حيث يشتم هذا الرافضي الخبيث أبا بكر وعمر، بل ويلعن أبو أسلافهم كما يقول ثم يصرح بعد ذلك أنه إذا ذهب إلى أهل السنة وضعوه فوق رؤوسهم فاستمع ماذا يقول: "أنا أسألك سؤالا: نحن ما نسب أبا بكر وعمر؟! نسب أو ما نسب؟! نسب أبا بكر وعمر ونلعن أبو أسلافهم، لكن لما نروح عند السنة ونحن نسبهم يحترموننا ويحطوننا فوق رؤوسهم، يا أخي كل الشيعة يسبون أبا بكر وعمر، هذا واضح ما فيه مغالاة".
ونتكلم بعد ذلك ـ إخواني في الله ـ عن طعن الشيعة في عثمان بن عفان رضي الله عنه ونتكلم قبلها عن فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فهو أفضل الصحابة بعد الصديق أبي بكر والفاروق عمر رضي الله عنهم أجمعين، زوَّجه الرسول صلى الله عليه وسلم بابنتيه الواحدة تلو الأخرى، ولهذا سمي بذي النورين، كان شديد الحياء رضي الله عنه، قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)) رواه مسلم.
أسلم رضي الله عنه فكان من أتقى الناس، وأورع الناس، وأجود الناس. شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، وتولى الخلافة بعد أبي بكر وعمر، فسار بالناس بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان قواماً صواماً كثير قراءة القرآن الكريم، بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ثلاث مرات، قتل وهو يقرأ القرآن الكريم رضي الله عنه وعن جميع الصحابة الكرام. فهذا هو عثمان بن عفان رضي الله عنه ذو النورين، صاحب الخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة، فماذا تعتقد الشيعة الاثنا عشرية في حق هذا الصحابي الجليل.
أقول: إخواني في الله:
أولاً اعتقاد الشيعة بأن عثمان بن عفان من المنافقين:
إن الشيعة يزعمون أن ذا النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه كان منافقاً يظهر الإسلام، ويبطن النفاق، عياذاً بالله تعالى. قال شيخهم نعمة الله الجزائري في كتابه "الأنوار النعمانية" (1/81) ما نصه: "عثمان كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله ممن أظهر الإسلام وأبطن النفاق" انتهى كلامه، كما أن شيوخ الشيعة ـ إخواني في الله ـ يوجبون على أتباعهم عداوة عثمان بن عفان رضي الله عنه، واستحلال عرضه واعتقاد كفره، كما قال شيخهم الكركي في كتابه "نفحات اللاهوت" ما نصه: "إن من لم يجد في قلبه عداوة لعثمان ولم يستحل عرضه، ولم يعتقد كفره، فهو عدو لله ورسوله كافر بما أنزل الله" انتهى كلامه.
ثانياً: اعتقاد الشيعة بأن عثمان بن عفان لا يهمه إلا فرجه وبطنه:
كذلك ـ إخواني في الله ـ تعتقد الشيعة الإمامية الاثنا عشرية أن ذا النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه لا يهمه إلا بطنه وفرجه، فقد روى الكليني في كتاب "الكافي" كذبا وزورا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في إحدى خطبه ما نصه: "سبق الرجلان ـ يعني: أبو بكر وعمر رضي الله عنهم ـ وقام الثالث ـ يعني: عثمان رضي الله عنه ـ وقام الثالث كالغراب، همته بطنه وفرجه يا ويحه لو قص جناحاه وقطع رأسه لكان خيراً له" انتهى كلامه.
فرضي الله تعالى عن الشهيد المظلوم ذي النورين عثمان بن عفان، وعامل الله من عاداه وأبغضه بعدله وانتقامه.(/15)
واستمع ـ أخي الحبيب ـ إلى شيخ من شيوخ الشيعة الإمامية وهو يقول لأتباعه في أحد دروسه، أننا نحن الشيعة نحقد على أبي بكر وعثمان، بل نكرههم ونلعنهم؛ لأنهم أعادوا المسلمين إلى الجاهلية الأولى عياذاً بالله تعالى، فاستمع ماذا يقول: "ولذلك نحن الشيعة إذا رأيتم نكره أبو بكر وعمر وعثمان صحابة الرسول وصاحبوا الرسول.. في الواقع نحن نحقد عليهم، ونبغضهم ونلعنهم لأنهم كانوا يعني بداية انحطاط الأمة، لأنهم قاموا بثورة مضادة للعودة بالمسلم عن الإسلام إلى القيم الجاهلية المادية السابقة".
واستمع ـ أخي الحبيب ـ إلى شيخ من شيوخ الشيعة الإمامية، وهو يخطئ رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لأنه مات ولم يوص بالخلافة لعلي بن أبي طالب بل يقول هذا الخبيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يتحمل تبعات ومسؤولية الفتن والضياع والبلبلة التي وقعت في هذه الأمة عياذاً بالله تعالى فاستمع ماذا يقول هذا الخبيث: "صلى الله عليك يا رسول الله، أخطأت خطأً كبيراً حين خرجت من الدنيا ولم توص إلا أحد تتحمل تبعات هذه الأمة، وأنت تتحمل مسؤولية هذه الأمة، وبلبلة هذه الأمة، وضياع هذه الأمة وفتنة هذه الأمة، هلا أوصيت يا رسول الله
ثامناً: عقيدة الشيعة السرية في الطينة:
أقول: إخواني في الله، تعتقد الشيعة الاثنا عشرية بهذه العقيدة السرية لديهم والتي يتواصى كبار أئمتهم بكتمانها عن عوامهم، لأنه لو علم العامي منهم لأفسد عليهم البلاد والعباد، ومختصر هذه العقيدة هو أن الشيعي خلق من طينة خاصة أخذت من أرض طيبة طاهرة قد أجرى عليها الماء العذب سبعة أيام مع لياليها، أما المسلم السني والذي يسمونه الناصب فقد خلق من طين أسود ملعون منتن في غاية الفساد والعفونة، ثم تم الخلط بين الطينتين بوجه عام فما كان في الشيعي من المعاصي والجرائم فهو من تأثره بطينة السني، وما كان في السني من صلاح وتقوى فهو من تأثره بطينة الشيعي، فإذا كان يوم القيامة، فإن سيئات وكبائر الشيعة توضع في صحائف أهل السنة، وحسنات أهل السنة توضع في صحائف الشيعة، وقد ذكر هذه العقيدة الكثير من أئمتهم وشيوخهم كنعمة الله الجزائري في كتابه "الأنوار النعمانية" والمجلسي في كتابه "بحار الأنوار"، كما تولى تثبيت هذه العقيدة الفاسدة وإرسائها شيخهم الكليني في كتابه "الكافي"، والذي بوب لها بعنوان "باب طينة المؤمن والكافر"، ذكر فيها سبعة أحاديث في عقيدة الطينة هذه، وكذلك عقد المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" باب بعنوان: "الطينة والميثاق" ذكر تحته سبعة وستين حديثاً، ليؤصل هذه العقيدة عند عوام الشيعة.(/16)
ومن هذه الروايات ما يقول إمامهم ما نصه: "يا إسحاق ـ وهو راوي الخبر ـ ليس تدرون من أين أتيتم؟ قلت: لا والله، جُعلت فداك إلا أن تخبرني فقال: يا إسحاق، إن الله عز وجل لما كان متفرداً بالوحدانية، ابتدأ الأشياء لا من شيء، فأجرى الماء العذب على أرض طيبة طاهرة سبعة أيام مع لياليها ثم نضب الماء عنها، فقبض قبضة من صفاوة ذلك الطين، وهي طينتنا أهل البيت، ثم قبض قبضة من أسفل ذلك الطين، وهي طينة شيعتنا، ثم اصطفانا لنفسه، فلو أن طينة شيعتنا تركت كما تركت طينتنها لما زنى أحد منهم، ولا سرق ولا لاط ولا شرب المسكر، ولا اكتسب شيئاً مما ذكرت، ولكن الله عز وجل أجرى الماء المالح على أرض ملعونة سبعة أيام ولياليها، ثم نضب الماء عنها، ثم قبض قبضة، وهي طينة ملعونة من حمأ مسنون ـ أي طين أسود متغير منتن ـ وهي طينة خبال وهي أعدائنا ـ يعني: أهل السنة ـ فلو أن الله عز وجل ترك طينتهم كما أخذها، لم تروهم في خلق الآدميين، ـ لاحظ وهذه نفس عقيدة اليهود الذين يعتقدون أن البشر لم يخلقوا على هيئة الآدميين إلا لكي يستطيعوا أن يخدموا اليهود، وإلا هم كالحمير هذا في اعتقاد اليهود والشيعة تتفق، لهذا يقولون ـ: لم تروهم في خلق الآدميين، ولم يقروا بالشهادتين، ولم يصوموا، ولم يصلوا، ولم يزكوا، ولم يحجوا البيت، ولم تروا أحداً بحسن خلقٍ، ولكن الله تبارك وتعالى جمع الطينتين طينتكم وطينتهم فخلطهما، وعركهما عرك الأديم، ومزجهما بالمائين، فما رأيت من أخيك من شر اللفظ أو زنا، أو شيء مما ذكرت من شرب مسكر أو غيره، ليس من جوهريته وليس من إيمانه، إنما هو بمسحة الناصب، ـ والناصب إخواني في الله يطلقونها على أهل السنة والجماعة ـ، إنما هو بمسحة الناصب، اجترح هذه السيئات التي ذكرت، وما رأيت من الناصب من حسن وجه، وحسن خلق، أو صوم أو صلاة أو حج بيت أو صدقة أو معروف، فليس من جوهريته، إنما تلك الأفاعيل من مسحة الإيمان اكتسبها ـ يعني من الشيعي ـ وهو اكتساب مسحة الإيمان. قلت: ـ أي يقول ذلك السائل لهذا الإمام ـ، قلت: جعلت فداك فإذا كان يوم القيامة فَمَهْ؟ يعني ماذا يكون، قال لي أي الإمام: يا إسحاق، أيجمع الله الخير والشر في موضع واحد؟! إذا كان يوم القيامة نزع الله عز وجل مسحة الإيمان منهم ـ يعني من أهل السنة ـ فردها إلى شيعتنا، ونزع مسحة الناصب بجميع ما اكتسبوا من السيئات فردها على أعدائنا وعاد كل شيء إلى عنصره الأول، قلت أي السائل: جعلت فداك تؤخذ حسناتهم فترد إلينا؟! يريد أن يتأكد، يعني هل تؤخذ حسنات أهل السنة وتوضع على شيعتنا؟! قلت: جعلت فداك تؤخذ حسناتهم فترد إلينا، وتؤخذ سيئاتنا فترد إليهم، قال أي الإمام: إي والله الذي لا إله إلا هو" انتهى من كتاب "بحار الأنوار" للمجلسي (5/247-248).
تاسعاً: عقيدة الشيعة في الغيبة:
وهذه العقيدة الشيعية ترجع في أصولها ـ إخواني في الله ـ إلى عقائد المجوس الذين يعتقدون أن لهم إماماً مهدياً حياً لم يمت، من ولد بشتاسِف بن بهراسف يدعى أبشاوثن، وانه قد اختفى وغاب في داخل حصن عظيم بين خرسان والصين.
كذلك تعتقد الشيعة الاثنا عشرية نفس هذه العقيدة المجوسية، وهي عقيدة الغيبة التي يقول عنها شيخهم القمي الملقب عندهم بالصدوق في كتابه إكمال الدين ما نصه: "من أنكر القائم عليه السلام في غيبته مثل إبليس في امتناعه في السجود لآدم" انتهى.(/17)
والغيبة ـ إخواني في الله ـ عند الشيعة هي أن إمامهم الحادي عشر الحسن العسكري قد ولد له ولد، هو محمد بن الحسن إمامهم الثاني عشر، وأن هذا الولد قد دخل سرداباً في دار أبيه بمدينة سر من رأى، وعمره خمس سنوات وغاب غيبتين غيبة صغرى وغيبة كبرى، فالغيبة الصغرى هي الغيبة التي كان السفراء الواسطة فيها بين هذا الإمام وبين بقية الشيعة، ولا يعلم بمكان هذا الإمام إلا خاصته من الشيعة، وقد كانت مدة هذه الغيبة أربعاً وسبعين سنة على خلاف بينهم في تحديد هذه المدة، أما الغيبة الكبرى ـ إخواني في الله ـ فهي التي اختفى فيها الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري عن السفراء، وعن خاصته من الشيعة بدخوله السرداب في دار أبيه، ومن أجل هذا فالشيعة يجتمعون كل ليلة بعد صلاة المغرب أمام باب السرداب، ويهتفون باسمه ويدعونه للخروج حتى تشتبك النجوم، وللشيعة الإمامية أدعية عند زيارة الإمام الغائب ذكرها علماؤهم في كتبهم المعتمدة لديهم، ككتاب "بحار الأنوار" للمجلسي، وكتاب "كلمة المهدي" للشيرازي، وكتاب "المزار الكبير" لمحمد المشهدي، وكتاب "مصباح الزائر" لعلي بن طاووس، جاء فيها ما نصه: "ثم ائتي سرداب الغيبة، وقِف بين البابين، ماسكاً جانب الباب بيدك، ثم تنحنح كالمستأذن وسم وانزل، وعليك السكينة والوقار، وصل ركعين في عرضة السرداب، وقل: اللهم طال الانتظار وشمت بنا الفجار وصعب علينا الانتظار، اللهم أرنا وجه وليك الميمون، في حياتنا وبعد المنون، اللهم إني أدين لك بالرجعة، وبين يدي صاحبي هذه البقعة، الغوث الغوث الغوث، يا صاحب الزمان ـ عياذاً بالله تعالى من هذا الشرك ـ هجرتُ لزيارتك الأوطانِ، وأخفيت أمري عن أهل البلدان، لتكون شفيعاً عند ربي وربك إلى أن قالوا: يا مولاي يا ابن الحسن بن علي، جئتك زائراً لك" انتهى نص الدعاء.
عاشراً: عقيدة الشيعة في الرجعة:
وهي من العقائد التي تسربت وجاءت للشيعة الإمامية الاثنا عشرية عن طريق بعض الديانات الفارسية مثل: الديانة الزَرَادَشتية، وعقيدة الرجعة تعد من أصول دين الشيعة، بل ومن أشهر عقائدهم التي بينها علماؤهم في كتبهم القديمة والحديثة في أكثر من خمسين مؤلفاً، بل هذه العقيدة محل إجماع جميع الشيعة الإمامية، وأنها من ضروريات مذهب الإمامية.
وملخَّص هذه العقيدة أي: عقيدة الرجعة، هو رجوع وعودة إمامهم الثاني عشر صاحب السرداب محمد بن الحسن العسكري، والملقب عندهم بالحجة الغائب، فماذا سيفعل هذا الحجة الغائب بعد الرجعة؟ هذا ما سنذكره في الخطوات والفقرات التالية:
أولاً: هدم الحجرة النبوية وصلب الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على يد مهدي الشيعة المنتظر:
حيث جاء في كتاب "بحار الأنوار" لإمامهم المجلسي (53/39) ما نصه: "وأجيء إلى يثرب، فأهدم الحجرة ـ يعني: الحجرة النبوية ـ وأخرج من بها وهما طريان ـ يعني: أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لأنهما دفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وبجوار قبره ـ فآمر بهما تجاه البقيع، وآمر بخشبتين يصلبان عليهما، فتورقان من تحتهما ـ يعني: تشتعلان ـ فيفتتن الناس بهما أشد من الأولى، فينادي مناد الفتنة من السماء: يا سماء أنبذي ويا أرض خذي، فيومئذ لا يبقى على وجه الأرض إلا مؤمن" انتهى كلامه.
كما يؤكد ـ إخواني في الله ـ هذه العقيدة شيخهم الأحسائي في كتابه "الرجعة" (ص186) في رواية يرويها المفضل عن جعفر الصادق، وفيها ما نصه: "قال المفضل: يا سيدي، ثم يسير المهدي إلى أين؟ قال عليه السلام: إلى مدينة جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني: المدينة المنورة ـ فيقول أي: هذا المهدي في رجعته: يا معشر الخلائق هذا قبر جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: نعم يا مهدي آل محمد، فيقول: ومن معه في القبر؟ فيقولون: صاحباه وضجيعاه أبو بكر وعمر، فيقول أي: الإمام: أخرجوهما من قبريهما، فيخرجان غضين طريين، فيكشف عنهما أكفانهما، ويأمر برفعهما على دوحة يابسة نخرة فيصلبهما عليها" انتهى كلامه عياذاً بالله تعالى.
وجاء في نص آخر في كتاب الأحسائي ما نصه: "وهذا القائم هو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيخرج اللات والعزى ـ يعني: أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ـ طريين فيحرقهما" انتهى كلامه.
ثانياً: مهدي الشيعة يقيم الحد على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:(/18)
وهذا ما يفعله ـ إخواني في الله ـ مهديهم في رجعته المزعومة بأم المؤمنين الطاهرة المطهرة عائشة رضي الله عنها، حيث ذكر شيخهم الحر العاملي في كتابه "الإيقاظ من الهجعة" والمجلسي في "بحار الأنوار" عن عبد الرحمن القصير، عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: "أما لو قد قام قائمنا ـ يعني: خرج الإمام في رجعته ـ لقد ردت إليه الحميراء، ـ والحميراء إخواني في الله تصغير الحمراء، وهي الطاهرة عائشة أم المؤمنين، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يناديها بهذا الاسم لشدة بياضها وجمالها رضي الله عنها ـ حتى يجلدها الحد" انتهى كلامه عياذاً بالله.
ثالثاً: الذي يفعله إمامهم المهدي، قتل الحجاج بين الصفا والمروة:
فمن أعمال مهدي الشيعة المنتظر ـ إخواني في الله ـ والذي سيظهر في آخر الزمان في اعتقاد الشيعة هو قتل المسلمين الحجاج الأبرياء بين الصفا والمروة، فقد روى إمامهم المجلسي في "بحار الأنوار" (53/40) ما نصه: "كأني بحمران بن أعين وميسرة بن عبد العزيز يخبطان الناس بأسيافهما بين الصفا والمروة" انتهى.
رابعاً: قطع أيدي وأرجل المشرفين على الحرم على يدي مهدي الشيعة:
فعند خروج مهدي الشيعة ـ إخواني في الله ـ يقوم بتعذيب المشرفين على الحرمين الشريفين، زادهما الله عزاً وتشريفاً، وكل هذا الحقد الدفين لأنهم يقومون بخدمة حجاج بيت الله الحرام، وينظمون مسيرة الحج، ويهيئون المشاعر المقدسة لاستقبال زوار بيت الله تعالى، الذي أسأل الله عز وجل أن يوفق ولاة أمورنا في هذه البلاد لكل ما يحبه الله ويرضاه، وأن يجعلهم ممن يخدمون حجاج بيت الله عز وجل، إنه على كل شيء قدير.
فقد روى شيخهم النعماني في كتابه الغيبة ما نصه: "كيف بكم لو قد قطّعت أيديكم وأرجلكم وعلّقت في الكعبة، ثم يقال لكم: نادوا: نحن سراق الكعبة" انتهى كلامه. كما روى شيخهم المفيد في كتابه "الإرشاد" والطوسي في كتابه "الغيبة" ما نصه: "إذا قام المهدي هدم المسجد الحرام" إلى أن قال: "وقطع أيدي بني شيبة، وعلقها بالكعبة، وكتب عليها: هؤلاء سراق الكعبة" انتهى كلامه.
وجاء في نص ثالث لهم أنه يجرد السيف، أي: أن هذا الإمام الذي يخرج في الرجعة أنه يجرّد السيف على عاتقه ثمانية أشهر يقتل هرجاً، فأول ما يبدأ ببني شيبة، فيقطع أيديهم ويعلقها في الكعبة، وينادي مناديه: هؤلاء سراق الله، ثم يتناول قريشاً، فلا يأخذ منها إلا السيف، ولا يعطيها إلا السيف" انتهى كلامه من كتاب الغيبة.
خامساً: سرقة أموال أهل السنة واغتصابها:
كذلك من عقائد الشيعة الإمامية استحلال ممتلكات أهل السنة الذين يسمونهم بالنواصب، حيث يبيحون لأتباعهم الاستيلاء عليها كلما حانت لهم الفرصة وتيسّر طريق ذلك لهم، وهذه نفس عقائد اليهود الذين يستحلون أموال وأعراض الأمميين، والذي سوف نوضحه في درس اليهودية بإذن الله تعالى.
أقول: فقد روى إمامهم الطوسي في كتابه تهذيب الأحكام (1/384) ما نصه: "خذ مال الناصب ـ يعني: السني ـ حيثما وجدته، وادفع إلينا الخمس" انتهى كلامه. وقال أيضاً ما نصه: "مال الناصب وكل شيء يملكه حلال" انتهى كلامه.
واستمع ـ أخي الحبيب ـ إلى شيخهم المهاجري وهو يستنكر على بعض الشيعة التقارب مع أهل السنة في أسبوع الوحدة بين السنة والشيعة، فاستمع ماذا يقول: "يمرّ يوم الغدير ولا أحد يذكره نهائياً، خصوصاً إذا كان أسبوع الوحدة بين المسلمين، أسبوع وحدة فلازم نحن ما نذكر يوم الغدير، وما نذكر مظلومية أهل البيت، وما نذكر مظلومية الزهراء، لأن هذه تخدش مشاعر بقية المسلمين، لاحظ كيف، وقسم بلغ به الأمر للحفاظ على أسبوع الحدة أنه يقول للخطباء الحاضرين: أنتم الآن مقبلون على شهر محرم، وأنا أرى أن ذكر يزيد بن معاوية يسبب انشقاقاً بين المسلمين، فلا تذكروا يزيد، لاحظ، ذكر يزيد بن معاوية أنه قتل الحسين يسبب انشقاقاً بين المسلمين، وغير متصدعة أبداً بحيث ذكر عاشوراء يسبب انشقاقاً، أو أن ذكر معاوية يجرح مشاعر بني أمية، يا سلام على مشاعر بني أمية، إشلون يجرح مشاعرهم؟! لا تُذكر، وهكذا لما تعطي مجالاً بعد ذلك يقول لك: أترك كل شيء وخلاص، انتهى، هؤلاء بنو أمية ارفع رايتهم على المنبر، وانتهي الأمر، وبعد ذلك إلى جهنم وبئس المصير، تنزل معهم لأنه ما يصير تتركهم وحدهم في النار، لازم واحد يروح إلى جهنم معهم؟! يرى هناك الأمر كيف هو؟ عرفتم؟ سبحان الله، هكذا؟! لو كان من أجل الوحدة نترك إمامة أهل البيت وعصمة الزهراء!! كما قال أحدهم: نحن نتنازل عن عصمة الزهراء من أجل وحدة المسلمين، الله يلعن هذه الوحدة في الدنيا والآخرة".
سادساً: قذف الشيعة لحجاج بيت الله تعالى بالزنا وأنهم أولاد زنا:(/19)
كما أن من عقيدة الشيعة الإمامية كره حجاج بيت الله تعالى، حتى إنهم يعدون الحجاج الذين يقفون في يوم عرفة من الزناة، فقد روى شيخهم وإمامهم الكاشاني في كتابه "الوافي" ما نصه: "إن الله يبدأ بالنظر إلى زوار الحسين بن علي عشية عرفة قبل نظره إلى أهل الموقف ـ يعني: الذين يقفون بعرفة ـ لأن أولئك ـ يعني: حجاج بيت الله ـ أولاد زنا، وليس في هؤلاء زناة" انتهى كلامه.
كذلك عقد شيخهم المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" باباً لهذه العقيدة بعنوان: باب أنه يُدعى الناس بأسماء أمهاتهم إلا الشيعة، وذكر فيه اثنتي عشرة رواية، كما جاء في كتاب "الكافي" لشيخهم الكليني ما يثبت هذه العقيدة حيث قال ما نصه: "إن الناس كلهم أولاد بغايا ـ يعني: أولاد زنا ـ ما خلا شيعتنا" انتهى كلامه.
كما ذكر إمامهم العياشي في تفسيره (2/237) ما نصه: "ما من مولود يولد إلا وإبليس من الأبالسة بحضرته، فإن علم أن المولود من شيعتنا حجبه من ذلك الشيطان، وإن لم يكن المولود من شيعتنا ـ يعني: من أهل السنة ـ أثبت الشيطان إصبعه في دبر الغلام، فكان مأبوناً ـ ومعنى المأبون إخواني في الله أي: المزني فيه عياذا بالله ـ، وفي فرج الجارية فكانت فاجرة" انتهى كلامه عياذاً بالله.
سابعاً: نزع الحجر الأسود من الكعبة، ونقله إلى مدينتهم المقدسة الكوفة:
فكذلك من عقائد الشيعة الإمامية نزع الحجر الأسود، وقلعه من مكة المكرمة شرّفها الله تعالى، وترحيله إلى مدينتهم المقدسة الكوفة، كما نقل ذلك إمامهم الفيض الكاشاني في كتابه الوافي ما نصه: "يا أهل الكوفة، لقد حباكم الله عز وجل بما لم يحب أحداً من فضل، مصلاكم بيت آدم، وبيت نوح وبيت إدريس ومصلى إبراهيم... إلى أن قال: ولا تذهب الأيام والليالي حتى ينصب الحجر الأسود فيه" انتهى كلامه.
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى شيعة الخليج وهم يستغيثون بإمامهم الغائب، ويطلبون منه العودة والخروج من السرداب، وذلك لأن أهل السنة والذين يسمونهم بالأعداء يحيطون بهم من كل مكان، ولاحظ ـ أخي في الله ـ تلك الأصوات التي سوف تسمعها والتي هي نتيجة لضرب صدورهم، فاستمع ماذا يقولون: "وينك، وينك، يا راعي العالم، ليه ما تجينا، ما تجينا، وينك، وينك، يا راعي العالم، ما تجينا ما تجينا .. ما تجي وتشوف حالي بعد عينك .... تحيط بي الأعداء بالضرب والرعوب، وامشي بالذلة بعد ما أنت .. تشوف .. على تلك الهزل حايرة... ما فيهم رجل، غير والين علي بن الحسين، وحسيناه حجة الله".
حادي عشر: عقيدة الشيعة الإمامية في التقية:
فهي من أهم عقائد الشيعة الإمامية، بل هي ركن من أركان الدين عندهم والتقية ـ إخواني في الله ـ عند الشيعة كما يعرفها الخميني في كتابه "كشف الأسرار" هي: "أن يقول الإنسان قولاً مغايراً للواقع، أو يأتي بعمل مناقض لموازين الشريعة، وذلك حفاظاً لدمه أو عرضه أو ماله" انتهى كلامه.
أما عن مكانة هذه العقيدة في دين الشيعة الإمامية، فهي عندهم ليست رخصة من الرخص، بل هي ركن من أركان دينهم، كالصلاة أو أعظم، قال شيخهم ابن بابويه ما نصه: "اعتقادنا في التقية أنها واجبة، من تركها بمنزلة من ترك الصلاة" انتهى كلامه. كما عقد إمامهم الكليني في كتابه "الكافي" باباً خاصاً لهذه العقيدة بعنوان: "باب التقية"، ذكر فيها ثلاثة وعشرين حديثاً تؤيد هذه العقيدة، ثم ألحق باباً بعد هذا الباب ـ أي: بعد باب التقية ـ بعنوان: باب الكتمان، وذكر فيه ستة عشر حديثاً كلها تأمر الشيعة الإمامية بكتمان دينهم وعقيدتهم. وكذلك ذكر شيخهم المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" مائة وتسع روايات، تقرر هذه العقيدة تحت باب عقده بعنوان: "باب التقية والمداراة".
ومن أمثلة عقيدة التقية مع أهل السنة، ما رواه شيخهم الصدوق عن أبي عبد الله أنه قال: "ما منكم أحد يصلي صلاة فريضة في وقتها، ثم يصلي معهم ـ يعني: يصلي مع أهل السنة ـ صلاة تقية وهو متوضئ إلا كتب الله لها بها خمساً وعشرين درجة فارغبوا في ذلك" انتهى كلامه.
كما أن الشيعة الاثنا عشرية يطلقون على ديار أهل السنة بدار التقية ويرون وجوب التقية فيها كما جاء في كتاب "بحار الأنوار" للمجلسي (75/411) ما نصه: "والتقية في دار التقية واجب" انتهى.
وكذلك يطلقون على ديار أهل السنة بدولة الباطل، كما ذكر المجلسي ما نصه: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يتكلم في دولة الباطل إلا بالتقية" انتهى كلامه من كتابه "بحار الأنوار" (75/412).
كما تعتقد الشيعة الإمامية ـ إخواني في الله ـ بوجوب مخالطة أهل السنة بعقيدة التقية، حيث أكد شيخهم الحر العاملي في كتابه "وسائل الشيعة" (11/479) هذه العقيدة تحت باب بعنوان "وجوب عشرة العامة ـ يعني: أهل السنة والعامة هم أهل السنة عند الشيعة ـ بالتقية" انتهى كلامه.
وجاء في كتاب "بحار الأنوار" للمجلسي ما نصه: "من صلى خلف المنافقين ـ والمنافقون هنا هم أهل السنة والجماعة ـ بتقية كان كمن صلى خلف الأئمة" انتهى كلامه.(/20)
نذكر الآن أمثلة لاستعمال الشيعة الإمامية لعقيدة التقية:
ومن هذه الأمثلة ما ذكره بعض علماء السنة، أن في قريتهم رجلاً من أهل السنة تزوج بامرأة شيعية، وقد كانت تظهر محبتها للسنة وأهلها، ثم حملت هذه المرأة وأنجبت طفلاً، فأمر هذا العالم والد الطفل أن يسميه عمر، فذهب الزوج إلى زوجته وهي مريضة بسبب متاعب الحمل، وقال لها: إني أريد تسمية ابني، فقالت المرأة بمنتهى الأدب: أنت أبو الولد والأمر إليك، فقال الوالد: إنني سميته عمر، فيقول الزوج بعد ذلك: يا عجب ما رأيت، لقد نهضت المرأة بسرعة مذهلة من فراشها، وصاحت بصوت مرتفع قائلة: لم تجد من الأسماء غير هذا الاسم؟! وذلك لأن الشيعة ـ إخواني في الله ـ يكرهون الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكذلك من الدلائل المشاهدة والملموسة بين أهل السنة، هو اختلاط الكثير من هؤلاء الشيعة الإمامية ببعض أهل السنة لفترات طويلة، تصل إلى عدة سنين بدون أن يظهر هذا الرافضي عقيدته الفاسدة، وكل هذا تحت عقيدة التقية التي يدينون بها.
ثاني عشر: عقيدة الشيعة الاثنا عشرية في نكاح المتعة:
فتعريف نكاح المتعة عند الشيعة الإمامية هو الزواج المؤقت والاتفاق السري بين الرجل والمرأة، على ممارسة الجنس بينهما بشرط واحد فقط، وهو أن لا تكون المرأة في عصمة رجل آخر. وحينئذ يجوز نكاحها بعد أداء صيغة الزواج بين الرجل والمرأة المتمتع بها، حيث لا يحتاج الأمر فيه إلى شهود، ولا إلى إعلان، بل ولا حتى إلى إذن وليها.
قال شيخهم الطوسي في النهاية ما نصه: "يجوز أن يتمتع بها من غير إذن أبيها وبلا شهود ولا إعلان" انتهى كلامه.
وأما عن صيغة هذا الزواج ـ إخواني في الله ـ الذي تباح فيه فروج النساء عياذاً بالله عند الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، فهي كلمات يقولها الرجل أمام المرأة المتمتع بها عند الخلوة بها، فقد روى شيخهم الكليني في الفروع من كتابه الكافي (5/455): "أن جعفر الصادق سئل: كيف أقول لها إذا خلوتُ بها؟ ـ يعني: إذا خلا بهذه المرأة التي يريد أن يتمتع بها ـ، قال: تقول أتزوجك متعة على كتاب الله وسنة نبيه، لا وارثة ولا موروثة كذا وكذا يوم، وإن شئت كذا كذا سنة بكذا وكذا درهماً، وتسمي من الأجر ما تراضيتما عليه، قليلاً كان أم كثيراً" انتهى كلامه.
ننتقل إلى فضل نكاح المتعة ومكانته عند الشيعة الإمامية:
أقول: إخواني في الله، إن الشيعة الإمامية الاثنا عشرية قد وضعوا أحاديث وروايات ترغب وتدعو إلى نكاح المتعة، حتى جعلوا ممارسة هذه الفاحشة واستحلال فروج النساء سراً من أعظم القربات والطاعات التي يتقرب بها الشيعة إلى الله تعالى، فزعموا أن الله عز وجل يغفر للمتمتع بعد فراغه من هذه الجريمة، وقيامه من على هذه الفاحشة بقدر الماء الذي مر على رأسه عند اغتساله، فقد روى إمامهم المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" (100/306) ما نصه: "عن صالح بن عقبة عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: للمتمتع ثواب؟ ـ هذا سائل يسأل ـ قال ـ أي الإمام ـ: إن كان يريد بذلك وجه الله تعالى وخلافاً على من أنكرها ـ يعني: على أهل السنة ـ لم يكلمها ـ يقصد هنا المرأة التي يرتكب معها هذه الفاحشة وهذه الجريمة التي تقدَّم وتعرض باسم الإسلام والدين ـ كلمة إلا كتب الله له بها حسنة، ولم يمد يده إليها ـ أي: إلى المرأة المتمتع بها ـ إلا كتب الله له حسنة، فإذا دنا منها غفر الله له بذلك ذنباً، فإذا اغتسل ـ أي بعد أن انتهى من هذه الجريمة والعياذ بالله ـ غفر الله له بقدر ما صب من الماء على شعره، قلت: ـ أي يسأل هذا ـ بعدد الشعر؟ قال: بعدد الشعر" انتهى كلامه.
ننتقل إلى مقدار مهر المرأة المتمتع بها عند الشيعة الإمامية :
أقول: إخواني في الله، فإن الشيعة قد يسروا لنسائهم ورجالهم هذه الفاحشة، فيجزئ فيه مقدار درهم واحد فقط، أو حتى كف من طعام أو دقيق أو تمر، فقد روى شيخهم الكليني في الفروع من كتابه الكافي ما نصه: "عن أبي جعفر أنه سئل عن متعة النساء قال: حلال وإنه يجزئ فيه درهم فما فوقه" انتهى كلامه.
بل وصل ثمن جسد المرأة عند الشيعة الإمامية إلى أقل من ذلك، وذلك ببركة وتشجيع شيوخهم وأئمتهم، حيث جعلوا لهم ممارسة المتعة بالنساء لا تساوي سوى كف من دقيق. أو سويق تمر، يدفعها الشيعي لتلك الشيعية، ليستحل بعد ذلك فرجها عياذاً بالله تعالى. فقد روى شيخهم الكليني في الفروع من الكافي ما نصه: "عن أبي بصيرة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أدنى مهر المتعة ما هو؟ قال: كف من طعام دقيق أو سَوِيق تمر" انتهى كلامه.(/21)
وقد ذكرت مجلة الشراع الشيعية في عددها رقم (684) للسنة الرابعة أن رئيس دولة إيران رفسنجاني أشار إلى وجود ربع مليون لقيط ـ يعني: أكثر من (250) ألف طفل لقيط في إيران ـ، بسبب زواج المتعة، وهدد هذا الرئيس بمنع وتعطيل هذا النكاح، بسبب المشاكل التي خلفها، كما ذكرت الكاتبة شهلة الحائري في كتابها: "المتعة في إيران" حينما وصفت مدينة مشهد الشيعية الإيرانية، والتي شاع فيها زواج المتعة وانتشر، بأنها المدينة الأكثر انحلالاً على الصعيد الأخلاقي في آسيا" انتهى كلامها.
ويقول الإمام حسين الموسوي رحمه الله تعالى الذي تحول إلى مذهب أهل السنة بعد أن كان من أقرب تلاميذ الإمام الخميني، في كتابه "لله ثم للتاريخ" (ص 44) ما نصه: "وكم من متمتع جمع بين المرأة وأمها، وبين المرأة وأختها، وبين المرأة وعمتها أو خالتها وهو يدري"، يقول: "جاءتني امرأة يستفسر مني عن حادثة حصلت معها، إذ أخبرتني أن أحد السادة، وهو السيد حسين الصدر، كان قد تمتع بها قبل أكثر من عشرين سنة، فحملت منه، فلما أشبع رغبته منها فارقها، وبعد مدة رزقت ببنت، وأقسمت أي هذه المرأة أنها حملت منه هو، إذ لم يتمتع بها وقت ذاك أحد غيره، وبعد أن كبرت البنت وصارت شابة جميلة متأهلة للزواج، اكتشفت الأم أن ابنتها حبلى، فلما سألتها عن سبب حملها، أخبرتها البنت أن السيد المذكور استمتع بها فحملت منه، فدهشت الأم وفقدت صوابها، إذ أخبرت ابنتها أن هذا السيد هو أبوها، وأخبرتها القصة فكيف يتمتع بالأم، واليوم يأتي ليتمتع بابنتها التي هي ابنته هو، ثم جاءتني مستفسره عن موقف السيد المذكور منها ومن ابنتها التي ولدتها منه وما زال يقول الشيخ: إن الحوادث من هذا النوع كثيرة جداً، فقد تمتع أحدهم بفتاة تبين له فيما بعد أنها أخته من المتعة، ومنهم من تمتع بامرأة أبيه" انتهى كلام الإمام حسين الموسوي ـ رحمه الله تعالى ـ.
ننتقل ـ إخواني في الله ـ إلى فقرة تالية، وهي عدد النساء اللاتي يتمتع بهن الشيعي: كم عدد النساء التي يتمتع بهن الشيعي؟
أقول: فإن الشيعة الإمامية، قد فتحوا باب التعدد في نكاح النساء المتمتع بهن، وذلك لأنهن خليلات مستأجرات، فيجوز للشيعي أن يتمتع بأكثر من مائة امرأة شيعية، أربعة نسوة لا يكفينه، بل يجوز له أن يتمتع بالمئات من نساء الشيعة وفي وقت واحد، فقد روى شيخهم الكليني في الفروع من الكافي والطوسي في كتابيه الاستبصار والتهذيب ما نصه: "عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ذكرت له المتعة، أهي من الأربع؟ ـ يعني: هل هن من الأربع الحرائر؟ ـ فقال: ـ أي: قال ذلك الإمام ـ تزوج منهن ألفاً فإنهن مستأجرات" انتهى كلامه. وروى شيخهم الطوسي في كتابه الاستبصار ما نصه: "إن أبا جعفر قال: المتعة ليست من الأربع ـ يعني ليست من نساء الحرائر الأربع ـ لأنها لا تطلق ولا تورث ولا ترث، وإنما هي مستأجرة" انتهى كلامه.
وكذلك ـ إخوان في الله ـ تعتقد الشيعة الإمامية بأن المرأة المتمتع بها هي بمنزلة الجارية والأمة التي لا كرامة لها ولا حرية، بل هي بمثابة اللعبة التي تقضي أوقاتها بين أحضان الرجال، واحداً بعد الآخر، فقد روى إمامهم القمي في كتابه "من لا يحضره الفقيه" ما نصه: "عن محمد بن علي بن الحسين عن الفضيل بن يسار أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن المتعة فقال: هي كبعض إمائك ـ يعني: جواريك" انتهى كلامه.
ننتقل إلى موضوع مهم في نكاح المتعة، وهو أمر يشد الأنفس، وذلك هو التمتع بالعذارى والأبكار عند الشيعة الإمامية:
فإن الشيعة ـ إخواني في الله ـ وأنا أقول بعضهم لم يسلم من شذوذهم الجنسي حتى العذارى والأبكار، فقد أجازوا التمتع بهن بدون أخذ الموافقة من وليها، بشرط أن لا يحاول فضّ بكارتها، فقد روى إمامهم الكيليني في الفروع من الكافي (2/46) ما نصه: "عن زياد بن أبي الحلال قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا بأس أن يتمتع بالبكر ما لم يفض إليها كراهية العيب على أهلها" انتهى كلامه، يعني: لا يفض بكارتها، والرواية القادمة تؤكد هذا وتبينه.
أقول: وكذلك جاء في الفروع من الكافي ما نصه: "عن محمد بن أبي حمزة عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام في البكر يتزوجها الرجل متعة قال: ـ أي قال هذا الإمام ـ لا بأس ما لم يفتضها" انتهى كلامه.
ننتقل ـ إخواني في الله ـ إلى التمتع بالصبية الصغيرة عند الشيعة الإمامية الاثنا عشرية.
حيث أجاز شيوخ الشيعة التمتع بالطفلة الصغيرة، فقد روى إمامهم الطوسي في كتاب الاستبصار والكليني في الفروع من الكافي ما نصه: "سئل عن الجارية يتمتع بها الرجل قال: نعم إلا أن تكون صبية تخدع، قال: قلت: أصلحك الله فكم حد الذي إذا بلغت ولم تخدع قال: بنت عشر سنين" انتهى كلامه.(/22)
ننتقل ـ إخواني الله ـ إلى هذه القصة التي يقشعر منها جلد الموحدين، حيث روى العلامة حسين الموسوي رحمة الله عليه، وهو من أقرب تلاميذ الإمام الخميني في كتابه: "لله ثم للتاريخ"، والذي قتل رحمه الله تعالى بعد تأليفه لهذا الكتاب ما نصه يقول هذا الإمام: "لما كان الإمام الخميني مقيماً في العراق، كنا نتردد إليه، ونطلب منه العلم حتى صارت علاقتنا معه وثيقة جداً، وقد اتفق مرة أن وجهت إليه دعوة، فطلبني للسفر معه، فسافرت معه، فاستقبلونا وأكرمونا غاية الكرم، ولما انتهت مدة السفر ورجعنا وفي طريق عودتنا ومرورنا في بغداد أراد الإمام أن نرتاح من عناء السفر، فأمر بالتوجه إلى منطقة العطيفية، حيث يسكن هناك رجل إيراني الأصل يقال له: سيد صاحب، كان بينه وبين الإمام معرفة قوية. فرح سيد صاحب بمجيئنا وكان وصولنا إليه عند الظهر. فصنع لنا غداء فاخراً، واتصل ببعض أقاربه فحضروا، وازدحم منزله احتفاء بنا، وطلب سيد صاحب إلينا أن المبيت عنده تلك الليلة، فوافق الإمام، ثم لما كان العشاء، أتونا بالعشاء، وكان الحاضرون يقبلون يد الإمام ويسألونه ويجيب عن أسئلتهم، ولما حان وقت النوم، وكان الحاضرون قد انصرفوا إلا أهل الدار، أبصر الإمام الخميني صبية بعمر أربع سنوات أو خمس ولكنها جميلة جداً، فطلب الإمام من أبيها سيد صاحب إحضارها للتمتع بها، فوافق أبوها بفرح بالغ، فبات الإمام الخميني والصبية في حضنه ونحن نسمع بكاءها وصريخها. إلى أن قال الشيخ المهم أنه أمضى تلك الليلة ـ أي: الخميني ـ فلما أصبح الصباح وجلسنا لتناول الإفطار، نظر إلي ـ يعني نظر الإمام الخميني إلى حسين الموسوي ـ فوجد علامات الإنكار واضحة في وجهي، إذ كيف يتمتع بهذه الطفلة الصغيرة وفي الدار شابات بالغات راشدات. كان بإمكانه التمتع بإحداهن فلم يفعل، فقال لي: ـ يعني: الخميني ـ سيد حسين ما تقول في التمتع بالطفلة؟ فقلت له: سيد القول قولك والصواب فعلك وأنت إمام مجتهد، ولا يمكن لمثلي أن يرى أو يقول إلا ما تراه أنت أو تقوله. ومعلوم أني لا يمكنني الاعتراض وقت ذاك. فقال: ـ يعني: الخميني ـ سيد حسين، إن التمتع بها جائز ولكن بالمداعبة والتقبيل والتفخيذ أما الجماع فإنها لا تقوى عليه" انتهى كلام العلامة حسين الموسوي ـ رحمه الله ـ من كتاب "لله ثم للتاريخ".
ننتقل ـ إخواني في الله ـ إلى التمتع بالمرأة في دبرها عياذاً بالله عند الشيعة الإمامية الاثنا عشرية:
فإن الشيعة الإمامية الاثنا عشرية يعتقدون بجواز إتيان النساء في أدبارهن، بل يرونه حقاً من حقوق الزوج الشيعي كما روى ذلك شيخهم الكيليني في الفروع من الكافي والطوسي في الاستبصار ما نصه: "عن الرضى أنه سأله صفوان بن يحيى أن رجلاً من مواليك أمرني أن أسألك قال: ـ أي الإمام ـ وما هي؟ قلت: الرجل يأتي امرأته في دبرها قال: ذلك له، قال: قلت له: فأنت تفعل؟ قال: إنا لا نفعل ذلك" انتهى كلامه.
كما أباح هذا الجريمة شيخ من شيوخهم في هذا العصر، وهو المدعو الخميني حيث قال في كتابه تحرير الوسيلة. (2/241) ما نصه: "والأقوى والأظهر جواز وطء الزوجة مع الدبر" انتهى كلا
ثالث عشر: أعياد الشيعة الإمامية الاثنا عشرية:
فإن للشيعة الإمامية ـ إخواني في الله ـ العديد من الأعياد والمناسبات التي يحتفلون بها، وينتظرونها بكل لهف وشوق، ومن هذه الأعياد والمناسبات ما يأتي:
عيد غدِير خُمْ وهو عندهم في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة ويفضلونه على عيدي الفطر والأضحى، ويسمونه بالعيد الأكبر وهم يصومون يومه.
عيد النَيْرُوز وهو من أعياد الفرس المجوس، ومعناه اليوم الجديد، وقد كان الفرس تعتقد أنه اليوم الذي خلق الله فيه النور، وبعضهم يزعم أنه أول الزمان الذي ابتدأ الفلك فيه بالدوران، وقد أفتى شيخهم الخميني بجواز الغسل والصيام في عيدي الغدير والنيروز، كما جاء في كتابه تحرير الوسيلة.
عيد بابا شجاع الدين، وهو أبو لؤلؤة المجوسي، الذي قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويزعمون أنه في اليوم التاسع من ربيع الأول، ويسمونه بيوم المفاخرة، ويوم التبجيل، ويوم الزكاة العظمى، ويوم البركة، ويوم التسلية، وهم يحتفلون فيه بمقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يد هذا المجوسي الخبيث.
احتفالهم بيوم عاشوراء، وهو في اليوم العاشر من شهر محرم ويقيمون فيه حفلات العزاء والنياحة والجزع وضرب الصدور، وشج الرؤوس بالسيوف والخناجر والسلاسل. وكل هذا حزناً على مقتل الحسين رضي الله عنه
رابع عشر: الخطة السرية للعلماء وآيات الشيعة الإمامية في تشييع المناطق والدول المجاورة لدولتهم إيران:
وقد قام بنشر هذه الخطة السرية والخطيرة في محتواها ومضمونها رابطة أهل السنة في إيران، كما نشرت في بعض الدوريات والمجلات التي توزع في بلاد أهل السنة، ومنها مجلة البيان في عددها رقم (123) لشهر ذي القعدة عام 1418 للهجرة، الموافق لشهر مارس عام 1998 للميلاد.(/23)
وهذه الخطة ـ إخواني في الله ـ هي عبارة عن رسالة سرية وجهت من المجلس الأعلى الثقافي لشورى الثورة الإيرانية إلى جميع المحافظين ورجال الدين في مختلف الولايات الإيرانية، وهي عبارة عن خطة زمنية طويلة المدى، تستغرق خمسين سنة، هدفها تشييع أهل السنة في المناطق الإيرانية، وكذلك تشييع الدول المجاورة لإيران، إضافة إلى السيطرة الكاملة على هذه الدول عقدياً واجتماعياً وثقافياً بل وعسكرياً، وذلك بمحاولة إطاحة هذه الدول وأنظمتها كدول الخليج العربي وغيرها من الدول.
نص المخطط الرافضي تشييع الدول المجاورة لإيران وعلى رأسها دول الخليج:
يقول نص الرسالة: "إذا لم نكن قادرين على تصدير ثورتنا إلى البلاد الإسلامية المجاورة، فلا شك أن ثقافة تلك البلاد الممزوجة بثقافة الغرب سوف تهاجمنا وتنتصر علينا، وقد قامت الآن بفضل الله وتضحية أمة الإمام الباسلة دولة الاثنا عشرية في إيران بعد قرون عديدة، ولذلك فنحن وبناءً على إرشادات الزعماء الشيعة المبجلين نحمل واجباً خطيراً وثقيلاً وهو تصدير الثورة، ولهذا فإننا خلال ثلاث جلسات وبآراء شبه إجماعية من المشاركين وأعضاء اللجان، وضعنا خطة خمسينية تشمل خمس مراحل، ومدة كل مرحلة عشر سنوات، لنقوم بتصدير الثورة الإسلامية إلى جميع الدول المجاورة ونوحد الإسلام أولاً.
أقول: إخواني في الله، أي لا يكون الممثل الوحيد للإسلام على وجه الأرض إلا العقيدة الرافضية الاثنا عشرية التي تكفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلعنهم وتتقرب إلى الله تعالى ببغضهم.
ثم تقول الخطة أيضاًً: لأن الخطر الذي يواجهنا من الحكام الوهابيين وذوي الأصول السنية أكبر بكثير من الخطر الذي يواجهنا من الشرق والغرب.
ولهذا ـ إخواني في الله ـ قالت المخابرات الإيرانية للعلامة الشيخ محمد صالح ضياء، قبل أن يمزقوه إرباً إرباً: إن الطلاب الذين أرسلتهم للدراسة في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة أخطر علينا من صواريخ صدام حسين.
ثم تقول الخطبة أيضاً: بناءً على هذا يجب علينا أن نزيد نفوذنا في المناطق السنية داخل إيران، وبخاصة المدن الحدودية، ونزيد من عدد مساجدنا والحسينيات، ونقيم الاحتفالات المذهبية أكثر من ذي قبل وبجدية أكثر، ويجب أن نهيئ الجو في المدن التي يسكنها تسعين إلى مائة في المائة من السنة، حتى يتم ترحيل أعداد كبيرة من الشيعة من المدن والقرى الداخلية إليها، ويقيمون فيها إلى الأبد للسكنى والعمل والتجارة.
ثم ننتقل مع هذه الخطة السرية ـ إخواني في الله ـ إلى الدول المجاورة، فتقول هذه الخطة: إذا استطعنا أن نزلزل كيان تلك الحكومات بإيجاد الخلاف بين الحكام والعلماء، ونشتت أصحاب رؤوس الأموال في تلك البلاد، ونجذبها إلى بلادنا أو إلى بلاد أخرى في العالم، نكون بلا ريب قد حققنا نجاحاً باهراً وملفتاً للنظر، لأننا أفقدناهم تلك الأركان الثلاثة، وأما بقية الشعوب التي تشكل سبعين إلى ثمانين في المائة من سكان كل بلد، فهم اتباع القوة والحكم، ومنهمكون في أمور معيشتهم وتحصيل رزقهم من الخبز والمأوى. ولذا هم يدافعون عن من يملكون القوة، ولهذه المنطقة بالذات أهمية كبرى، سواءً في الماضي أو في الحاضر، كما أنها تعتبر حلقوم الكرة الأرضية من حيث النفط، ولا توجد في العالم نقطة أكثر حساسية منها، ويملك حكام هذه المناطق بسبب بيع النفط أفضل إمكانيات الحياة.
ثم تقسم ـ إخواني في الله ـ الخطة السرية الشيعية شعوب مناطق النفط إلى ثلاث فئات، فتقول الخطة: فئات شعوب المنطقة وسكان هذه البلاد هم ثلاث فئات:
الفئة الأولى هم البدو وأهل الصحراء الذين يعود وجودهم في هذه البلاد إلى مئات السنين.
والفئة الثانية هم الذين هاجروا من الجزر والموانئ التي تعتبر من أرضنا اليوم، وبدأت هجرتهم منذ عهد الشاه إسماعيل الصفوي.
والفئة الثالثة هم من الدول العربية الأخرى ومن مدن إيران الداخلية.
أما التجار وشركات الاستيراد والتصدير والبناء، فيسيطر عليها في الغالب غير المواطنين الأصليين، ويعيش السكان الداخليون من هذه البلاد على إيجار البنايات وبيع الأراضي وشرائها، وأما أقرباء ذوي النفوذ فهم يعيشون على الرواتب العائدة من بيع النفط، وقد قام كثير منهم بشراء الشقق وأسهم المصانع وإيداع رؤوس الأموال في أوربا وأمريكا، وخاصة في اليابان وانجلترا والسويد وسويسرا خوفاً من الخراب المستقبلي لبلادهم، إن سيطرتنا على هذه الدول تعني السيطرة على نصف العالم.(/24)
أسلوب تنفيذ الخطة المعدة: ولإجراء هذه الخطة الخمسينية يجب علينا بَادِئ ذي بدء أن نحسن علاقتنا مع دول الجوار، ويجب أن يكون هناك احترام متبادل وعلاقة وثيقة وصداقة بيننا وبينهم، وفي حال وجود علاقات ثقافية وسياسية واقتصادية بيننا وبينهم، فسوف يهاجر بلا ريب عدد من الإيرانيين إلى هذه الدول، ويمكننا من خلالهم إرسال عدد من العلملاء كمهاجرين ظاهراً، ويكونون في الحقيقة من العاملين في النظام، وسوف تحدد وظائفهم حين الخدمة والإرسال.
أقول: إخواني في الله، قد تكون هذه العلاقات الثقافية بتبادل العلوم والتعاون العلمي، من خلال الجامعات في دولة إيران، وجامعات الدول المجاورة لها، إضافة إلى فتح المجال للمفكرين والمثقفين والطلاب الشيعة في جامعات إيران لبث سمومهم وعقائدهم الضالة من خلال الأطروحات والزيارات العلمية التي تلقى في جامعات أهل السنة المستهدفة في هذه الخطة، وكل ذلك تحت ستار التعاون الثقافي المتبادل، أو تحت شعار تبادل التراث الإسلامي بين أبناء المنطقة الواحدة.
وقد تكون هذه العلاقات السياسية ـ إخواني في الله ـ بتبادل الخبرات في المجال العسكري، تحت ستار المصالح المشتركة أو استتاب الأمن في المنطقة، وعلى إثر ذلك يكون تبادل الخبراء العسكريين من الطرفين فيأتي الخبراء الإيرانيون على أنهم مستشارون في هذه القطاعات العسكرية الحساسة عند أهل السنة، ومن خلاله تتسرب المعلومات المهمة والحساسة عن وضع الجيوش المسلمة من حيث قوتها وعتادها وغير ذلك من الأمور الخطيرة.
وقد تكون هذه العلاقات الاقتصادية التي جاءت في الخطة عن طريق التبادل التجاري الواسع على جميع المستويات، حيث احتمال قيام شركات كبيرة وضخمة ذات رؤوس أموال مشتركة شيعية سنية، إضافة إلى الزيارات الرسمية التجارية المتبادلة، والتي قد يتم تنسيقها عن طريق وزارة التجارة الإيرانية ونظيراتها في الدول المجاورة.
ثم تقول الخطة أيضاً ـ إخواني في الله ـ ما نصه: "مراحل مهمة في طريقنا:
أولاً: ليس لدينا مشكلة في ترويج المذهب في أفغانستان وباكستان وتركيا والعراق والبحرين، وسنجعل هذه الخطة العشرية الثانية هي الأولى في هذه الدول الخمس، وعلى ذلك فمن واجب مهاجرين ـ أي العملاء ـ والمكلفين في بقية الدول ثلاثة أشياء، أولاً شراء الأراضي والبيوت والشقق وإيجاد العمل ومتطلبات الحياة لأبناء مذهبهم ليعيشوا في تلك البيوت ويزدادوا تعداداً للسكان.
أقول: إخواني في الله، وهذا تماماً نفس مخطط اليهود، وهو الذي يفعلونه تماماً في أرض الجهاد وأرض الشهداء، وأرض الأنبياء فلسطين، حيث توسعوا في بناء المستوطنات اليهودية حول القدس الشريف، وما زالوا في التوسع وعندها تصبح هذه الأراضي ملكاً شرعياً لهم، فيصعب إخراجهم منها بعد ذلك.
ثانياً: العلاقة والصداقة مع أصحاب رؤوس الأموال في السوق والموظفين الإداريين خاصة الرؤوس الكبار والمشاهير والأفراد الذين يتمتعون بنفوذ وافر في الدوائر الحكومية.
ثالثاً: هناك في بعض هذه الدول قرى متفرقة في طور البناء، وهناك خطط لبناء عشرات القرى والنواحي والمدن الصغيرة الأخرى، فيجب أن يشتري هؤلاء المهاجرون العملاء الذين أرسلناهم أكبر عدد ممكن من البيوت في تلك القرى ويبيع في مراكز المدن، وبهذه الخطة تكون المدن ذات الكثافة السكانية قد أخرجت من أيديهم.
كما توصي الخطة السرية أبناءهم الشيعة، المتواجدين في الدول المجاورة بقولها: يجب حث الناس ـ أي الشيعة ـ على احترام القانون وطاعة منفذ القانون وموظفي الدولة، والحصول على تراخيص رسمية للاحتفالات المذهبية وبناء المساجد والحسينيات، لأن هذه التراخيص الرسمية سوف تطرح مستقبلاً على اعتبار أنها وثائق رسمية. ولإيجاد الأعمال الحرة يجب أن نفكر في الأماكن ذات الكثافة السكانية العالية، لنجعلها موضع المناقشة في المواقع الحساسة، ويجب على الأفراد في هاتين المرحلتين أن يسعوا للحصول على جنسية البلاد التي يقيمون فيها باستغلال الأصدقاء، وتقديم الهدايا الثمينة.(/25)
أقول: إخواني في الله، قد يكون هؤلاء الأصدقاء هم من في المناصب الحساسة والمهمة في الدول المجاورة، من وزراء ورؤساء القطاعات العسكرية والتعليمية والاقتصادية وغيرها من الأماكن المهمة، بل قد يصل خبث هؤلاء الشيعة إلى إنشاء بعض العلاقات التجارية مع بعض أبناء الأسر الحاكمة، والذين قد يغرر بهم وهم لا يعلمون مخططات هؤلاء المنافقين الباطنيين، وقد تكون هذه الهدايا الثمينة ـ إخواني في الله ـ عبارة عن رشاوي وأموال تغدق على هؤلاء الأصدقاء لكي تشترى بها ذممهم ليخونوا بها دينهم وعقيدتهم وبلادهم عياذاً بالله تعالى، كما قد تكون هذه الهدايا الثمينة عبارة عن نساء مجندات فارسيات، يجدن اللغة العربية، ويتصفن بذكاء حاد وقوة للشخصية إضافة إلى جمال منتقى بمنتهى الخبث والدهاء، ليكون مصيدة لوقوع الفريسة المراد احتواؤها من الأصدقاء المغفلين عن طريق العلاقات السرية الداعرة والمشبوهة تحت ستار نكاح المتعة.
وتستمر الخطة السرية ـ إخواني في الله ـ فتقول: وعليهم أن يرغبوا الشباب ـ يعني: شباب الشيعة ـ بالعمل في الوظائف الحكومية والانخراط في سلك الجندية.
أقول: إخواني في الله، قد بدؤوا بالفعل الدخول في الكليات العسكرية، بعد تغيير أسمائهم التي تدل على عقيدتهم، وتسموا ببعض أسماء أهل السنة، حتى لا يتعرف أحد على مخططاتهم، وعلى سبيل المثال فإن الشيعة قد انتشروا في صفوف القوات المسلحة في إحدى الدول الخليجية حتى بلغت نسبتهم حوالي 30% من تعداد الجيش، ويزيدون بنسب أعلى في صفوف الضباط، أما عن سلاح الطيران في هذه الدولة المقصودة فقد بلغت نسبتهم فيه حوالي 40% بحيث يستطيع العاملون في هذا الجهاز استخدام من يشاؤون من هذه المطارات من أبناء جلدتهم وأبناء عقيدتهم، وبدون علم المسؤولين وولاة الأمر في تلك البلاد، وكذلك بدأت آثار انتشارهم في قطاعات التعليم والصحة في الكثير من الدول المجاورة لدولتهم إيران، مما أخاف كثيراً من المخلصين والمراقبين، فقد دخلوا في مناصب مهمة وحساسة مثل سلك التدريس بجميع مستوياته الابتدائي والمتوسط والثانوي، وأصبحوا ذَوي تأثير على أبناء أهل السنة، كذلك تولى البعض منهم وظائف طبية حساسة في المختبرات وغرف العمليات، وأقسام الأشعة في مستشفيات أهل السنة.
وتستمر الخطة السرية الخبيثة ـ إخواني في الله ـ فتقول: وفي النصف الثاني من هذه الخطة العشرية، يجب بطريقة سرية غير مباشرة استثارة علماء السنة الوهابية ضد الفساد الاجتماعي والأعمال المخالفة للإسلام الموجودة بكثرة في تلك البلاد، وذلك عبر توزيع منشورات انتقادية باسم بعض السلطات الدينية والشخصيات المذهبية من البلاد الأخرى، ولا ريب أن هذا سيكون سبباً في إثارة أعداد كبيرة من تلك الشعوب، وفي النهاية إما أن يلقوا القبض على تلك الديانات الدينية أو الشخصيات المذهبية، أو أنهم سيكذبون كل ما نشر بأسمائهم، وسوف يدافع المتدينون ـ يعني المطاوعة ـ عن تلك المنشورات بشدة بالغة، وستقع أعمال مريبة وستؤدي إلى إيقاف عدد من المسؤولين السابقين أو تبديلهم، وهذه الأعمال ستكون سبباً في سوء ظن الحكام بجميع المتدينين في بلادهم وهم لذلك سوف لن يعملوا على نشر الدين وبناء المساجد والأماكن الدينية، وسوف يعتبرون كل الخطابات الدينية والاحتفالات المذهبية أعمالاً مناهضة لنظامهم، وفضلاً عن هذا سينمو الحقد والنفرة بين العلماء والحكام في تلك البلاد، وحتى أهل السنة والوهابية سيفقدون حماية مراكزهم الداخلية، ولن يكون لهم حماية خارجية إطلاقاً.
ثالثاً: وفي هذه المرحلة حيث تكون ترسخت صداقة عملائنا ـ يعني: الجواسيس الإيرانيين لأصحاب رؤوس الأموال والموظفين الكبار، ومنهم عدد كبير في السلك العسكري والقوة التنفيذية، وهم يعملون بكل هدوء ودأب، ولا يتدخلون في الأنشطة الدينية، فسوف يطمئن لهم الحكام أكثر من ذي قبل، وفي هذه المرحلة، حيث تنشأ خلافات وفرقة، كرد بين أهل الدين والحكام، فإنه يتوجب على مشايخنا المشهورين من أهل تلك البلاد ـ يعني: مشايخ الشيعة ـ أن يعلنوا ولاءهم ودفاعهم عن حكام هذه البلاد، وخاصة في المواسم المذهبية، ويبرزوا التشيع كمذهب لا خطر منه عليهم، وإذا أمكنهم أن يعلنوا ذلك للناس عبر وسائل الإعلام فعليهم أن لا يترددوا ليلفتوا نظر الحكام، ويحوزوا على رضاهم فيقلدوهم الوظائف الحكومية دون خوف منهم أو وجل، وفي هذه المرحلة ومع حدوث تحولات في الموانئ والجزر والمدن الأخرى في بلادنا، إضافة إلى الأرصدة البنكية التي سوف نستحدثها، سيكون هناك مخططات لضرب الاقتصاد في دول الجوار، ولا شك في أن أصحاب رؤوس الأموال وفي سبيل الربح والأمن والثبات الاقتصادي، سوف يرسلون جميع أرصدتهم إلى بلادنا.(/26)
رابعاً: وفي المرحلة الرابعة سيكون قد تهيأ أمامنا دول بين علمائها وحكامها مشاحنات والتجار فيها على وشك الإفلاس والفرار، والناس مضطربون ومستعدون لبيع ممتلكاتهم بنصف قيمتها، ليتمكنوا من السفر إلى أي أماكن آمنة، وفي وسط هذه المعمعة فإن عملاءنا ومهاجرينا سيعتبرون وحدهم حماة السلطة والحكم، وإذا عمل هؤلاء العملاء بيقظة فسيمكنهم أن يتبوؤوا كبرى الوظائف المدنية والعسكرية، ويضيقوا المسافة بينهم وبين المؤسسات الحاكمة والحكام، ومن مواقع كهذه يمكننا بسهولة بالغة أن نشي بالمخلصين لدى الحاكم على أنهم خونة، وهذا سيؤدي إلى توقيفهم أو طردهم واستبدالهم بعناصرنا ولهذا العمل ذاته ثمرتان إيجابيتان:
الأولى: أن عناصرنا سيكسبون ثقة الحكام أكثر من ذي قبل.
الثانية: أن سخط أهل السنة على الحكام ـ أي: على حكام أهل السنة ـ سيزداد بسبب ازدياد قدرة الشيعة في الدوائر الحكومية، وسيقوم أهل السنة من جراء هذا بأعمال مناوئة أكثر ضد الحكام، وفي هذه الفترة يتوجب على أفرادنا أن يقفوا إلى جانب الحكام، ويدعوا الناس إلى الصلح والهدوء، ويشتروا في الوقت نفسه بيوت الذين هم على وشك الفرار وأملاكهم.
وتستمر الخطة السرية الخبيثة ـ إخواني في الله ـ فتقول: وفي العشرية الخامسة فإن الجو سيكون قد أصبح مهيأً للثورة؛ لأننا أخذنا منهم العناصر الثلاثة التي اشتملت على الأمن والهدوء والراحة، والهيئة الحاكمة ستبدو كسفينة وسط الطوفان مشرفة على الغرق تقبل كل اقتراح للنجاة بأرواحها، وفي هذه الفترة سنقترح عبر شخصيات معتمدة ومشهورة تشكيل مجلس شعبي لتهدئة الأوضاع وسنساعد الحكام ـ يعني صوريا ـ في المراقبة على الدوائر وضبط البلد، ولا ريب أنهم سيقبلون ذلك، وسيحوز مرشحونا وبأكثرية مطلقة على معظم كراسي المجلس، وهذا الأمر سوف يسبب فرار التجار والعلماء، حتى الخدمة المخلصين، وبذلك سوف نستطيع تصدير ثورتنا الإسلامية إلى بلاد كثيرة دون حرب أو إراقة للدماء، وعلى فرض أن هذه الخطة لم تثمر في المرحلة العشرية الأخيرة، فإنه يمكننا أن نقيم ثورة شعبية ونسلب السلطة من الحكام، وإذا كان في الظاهر أن عناصرنا الشيعة هم أهل تلك البلاد ومواطنوها وساكنوها، لكننا نكون قد قمنا بأداء الواجب أمام الله والدين وأمام مذهبنا، وليس من أهدافنا إيصال شخص معين إلى سدة الحكم، فإن الهدف هو فقط تصدير الثورة، وعندئذ نستطيع رفع لواء هذا الدين الإلهي، وأن نظهر قيامنا في جميع الدول، وسنتقدم إلى عالم الكفر بقوة أكبر، ونزين العالم بنور الإسلام والتشيع حتى ظهور المهدي الموعود" انتهى نص الرسالة
خامس عشر: الاغتيالات والجرائم والمجازر التي قام بها الشيعة في حق أهل السنة والجماعة من العلماء والقضاة والملوك والأمراء والوزراء والعامة على مدار التاريخ:
أقول: إخواني في الله، فلقد ذهب ضحية إجرام الشيعة على اختلاف طوائفهم عدد كبير من العلماء والأمراء والقضاة والوعاظ والملوك والخلفاء والوزراء، حتى بلغ الأمر أنه إذا أظهر أي عالم أو فقيه أو واعظ مبادئ هؤلاء، وأخذ يبين زيف عقائدهم الباطلة وأفكارهم المنحرفة، قاموا بتصفيته جسدياً على أيدي رجال الجناح العسكري، ونذكر أمثلة على ذلك عبر التاريخ منها ما يأتي:
محاولة نبش وسرقة وحرق جسد الخليفتين الراشدين أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهم على أيدي شيعة الشام لعنهم الله. وذلك أنه جاء قوم من شيعة حلب، كما ذكر ذلك صاحب كتاب الدر الثمين، وأغروا أمير المدينة آنذاك بالأموال الجزيلة، لكي يمكنهم من نقل جثمان أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهم ليحرقوهم فأجابهم الأمير لذلك؛ لأن الشيعة في ذلك الوقت كان لهم نفوذ في الحجاز، فذهب الأمير إلى شيخ خدام المسجد النبوي الشريف واسمه شمس الدين صواب، وكان رجلاً صالحاً ومنفقاً وقال له ـ أي قال الأمير ـ: يا صواب يدق عليك الليلة أقوام باب المسجد فافتح لهم ومكنهم مما أرادوا، وكان شمس الدين صواب قد علم بما أرادوا فأصابه همّ وغمّ واشتد بكاؤه وكاد يختل عقله، وبعد أن خرج الناس من المسجد بعد صلاة العشاء، وأغلقت أبواب المسجد، وإذا بالباب يدق وهو باب السلام الذي كان يسمى بباب مروان فتح لهم الباب وإذا بهم أربعون رجلاً ومعهم المساحي والمعاول وآلام الهدم والحفر، واتجهوا إلى الحجرة النبوية الشريفة، وقبيل أن يصلوا إلى المنبر انفتحت لهم الأرض وابتلعتهم بما معهم وذلك أمام عين شيخ خدام المسجد النبوي الشريف شمس الدين صواب، فكاد يطير من الفرح وزال عنه الهم والغمّ، فلما استبطأهم الأمير جاء يسأل عنهم شيخ الخدام فقال: تعال أريكهم، فأخذه بيده وأدخله المسجد، وإذا بهم في حفرة من الأرض تنزل بهم وتنخسف شيئاً فشيئاً وهم يصيحون ويستغيثون، فارتاع الأمير وعاد وهدد شمس الدين بأنه إذا أعلم أي أحد بما وقع فسوف يقتله ويصلبه، فأصبحوا وقد توارت الأرض فوقهم.(/27)
ننتقل إلى قتل الإمام آية الله أبو الفضل البرقعي، فهو الإمام العالم المجاهد العلامة السيد أبو الفضل بن الرضا البرقعي، تلقى علومه في الحوزة العلمية في وقم بإيران، ونال درجة الاجتهاد في المذهب الجعفري الاثنا عشري، له مئات التصانيف والمؤلفات والبحوث والرسائل، هداه الله تعالى إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، وألف عدة كتب يرد فيها على الشيعة الإمامية، ومنها كتابه القيم النفيس "كسر الصنم" وقد حاول رجال حرس الثورة الإيراني الشيعي اغتياله بالرصاص الحي في قعر داره، وهكذا أثناء صلاته أطلقت عليه أعيرة نارية فأصابت منه الخد الأيسر لتخرج من الخد الأيمن مسببة له بعض الأذى في سمعه، علماً بأن عمر الشيخ رحمه الله تعالى تجاوز الثمانين من عمره، وفي المستشفى حيث تم نقله للعلاج صدرت الأوامر للأطباء بعدم معالجته، فغادر المستشفى إلى منزله ليتداوى فيه، ولم يتراجع قيد أنملة وبعدها تم اعتقاله إلى السجن، ولكن هذه المرة إلى سجن أوين الذي يعتبر من أقسى السجون السياسية في إيران، من حيث طرق التعذيب فيه، حيث أمضى في غياهبه قرابة السنة ثُم تَم نفيه إلى مدينة يزد، ثم أعيد إلى السجن مرة أخرى حيث جاءت الأخبار بوفاته رحمه الله تعالى في عام 1992 للميلاد. ولا يستبعد ـ إخواني في الله ـ أن يكون قد تم اغتياله في داخل السجن، كما أوصى رحمه الله تعالى أن لا يدفن في مقابر الشيعة وأسأل الله تعالى أن يغمسه في أنهار جنة الفردوس آمين.
ننتقل ـ أحبتي في الله ـ إلى قتل العلامة المجاهد إحسان إلهي ظهير، ففي عام 1407هـ، كان العلامة إحسان إلهي ظهير يحاضر في جمعية أهل الحديث بلاهور في باكستان، حيث انفجرت عبوة ناسفة كانت قريبة من مكان الندوة المنعقدة، مما أدى إلى مقتل ثمانية عشر شخص في الحال وإصابة أكثر من مئة شخص إضافة إلى سقوط بعض العمارات والبيوت القريبة من مكان الحادث، وقد أصيب العلامة إحسان إلهي ظهير إصابات بالغة في العين اليسرى والرقبة، والصدر والذراعين، وعلى إثر ذلك طلب سماحة الإمام العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى من خادم الحرمين الشريفين وفقه الله تعالى بأن يعالج في مستشفيات الرياض، فأمر الملك من بنقله من باكستان إلى الرياض، ولكن وافته المنية قبل أن يكمل علاجه، فغسل هناك وصلى عليه جمع كثير من أهله وطلابه ومحبيه، وعلى رأسهم سماحة الإمام العلامة عبد العزيز بن باز حيث صلى عليه، فسمع البكاء والنشيج من الناس، حزناً على هذا المجاهد الكبير، ثم نقل جثمانه الطاهر بعد ذلك بالطائرة إلى المدينة المنورة حيث دفن في مقبرة البقيع مع الذين كان يذب عنهم ويدافع عنهم وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمهات المؤمنين، وآل البيت رضي الله عنهم أجمعين، ورحم الله العلامة إحسان إلهي ظهير.
ننتقل ـ إخواني ـ إلى اغتيال علماء السنة في إيران بعد الثورة الخمينية ومنهم العلامة السيد بهمن شكوري الذي كان معلماً في زمن الشاه، ثم سجن خلال عهد الشاه كثيراً ومنع من التدريس قرابة عشر سنين، وقد كان رحمه الله تعالى يتنقل بين السجن وخارجه حتى قتل بعد الثورة الخمينية بسنتين تقريباً وهو صائم في سجن أُوين السياسي، والذي يعد من أشرس السجون السياسية في بلاد الشيعة، حيث كانت تهمته وجريمته رحمه الله أنه كان يحذر من تعظيم وتقديس المزارات والمشاهد لأئمة الشيعة.
ومن هؤلاء أيضاً العلامة المجاهد أحمد مفتي زاده والذي سجن قرابة العشر سنوات في سجون الآيات والأئمة، وبعد انتهاء المدة ولأنه لم يتب تركوه سنوات عديدة أخرى، فأصيب في السجن رحمه الله تعالى بأمراض مزمنة، ولم يعالجوه حتى اطمأنوا إلى أنه ميت لا محالة، فأخرجوه في آخر أيامه ليموت خارج السجن، وقد كان رحمه الله تعالى في آخر حياته ملقى في الفراش، له نفسية كنفسية الأسد في جسم ضعيف كالعجوز، مع أنه كان قبل ذلك قوي الجسم طويل القامة رحمة الله عليه.
كما قتلت الشيعة الإمامية في السجن الطبيب الجراح الدكتور علي مظفرياني رحمة الله عليه الذي كان شيعياً ثم أصبح من أهل السنة.
كذلك قتل الشيخ عبد الحق الذي تخرج من جامعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في باكستان بتهمة الوهابية.
كما قتل الكثير من المشايخ والعلماء من أهل السنة كالشيخ العلامة السلفي ناصر السبحاني رحمه الله تعالى الذي قبل حبل المشنقة قبل قتله مباشرة وقال: "إني أرى هناك ما لا ترونه أنتم" رحمة الله عليه.
كما تم إعدام العلامة الشيخ عبد الوهاب صديقي وسجن السيد عبد الباعث.(/28)
ننتقل إلى الحدث العظيم، وهو اغتيال الملك الصالح والإمام العادل، الملك عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله على يد الشيعة الإمامية، ففي سنة 1218هـ، وفي العشر الأواخر من رجب قتل ذلك الإمام الورع التقي عبد العزيز بن محمد بن سعود في مسجد الطريف المعروف في الدرعية، وهو ساجد أثناء صلاة العصر، فوثب عليه القاتل من الصف الثالث والناس سجود فطعنه في خاصرته أسفل البطن بخنجر معه قد أخفاها وأعدها لذلك، فاضطرب أهل المسجد، وماج بعضهم في بعض، ولم يكن يدرون ما الأمر، فمنهم المنهزم ومنهم الواقف، ولما طعن المجرم الإمام عبد العزيز أهوى على أخيه عبد الله، وهو إلى جانبه وبرك عليه ليطعنه فنهض عليه وتصارعا، وجرح عبد العزيز جرحاً شديداً ثم إن عبد الله صرعه وضربه بالسيف، وتكاثروا عليه الناس وقتلوه، ثم بعد ذلك حمل الإمام إلى قصره، وقد غاب ذهنه، وقرب نزعه لأن الطعنة قد هوت إلى جوفه فلم يلبث أن توفي بعدما صعدوا به إلى القصر رحمه الله، قال العلامة المؤرخ ابن بشر في كتابه "عنوان المجد في تاريخ نجد" ما نصه: "وقيل إن هذا الدرويش الذي قتل عبد العزيز من أهل بلد الحسين رافضي خبيث" انتهى كلامه رحمه الله تعالى، وقال الأمير سعود بن هذلول في كتابه "تاريخ ملوك آل سعود" عن القاتل ما نصه: "قتله رجل رافضي اسمه عثمان من أهل النجف في العراق، جاء إلى الدرعية متنكراً، وغدر بهذا الإمام" انتهى كلامه رحمه الله.
ننتقل ـ أحبتي في الله ـ إلى محاولة اغتيال الإمام الصالح الملك عبد العزيز آل سعود على يد شيعة اليمن، حيث حاول شيعة اليمن اغتيال ذلك الإمام العادل الذي وحد جزيرة العرب على كلمة التوحيد، وهو الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله تعالى، ولكن الله خيب آمال أولئك المبتدعة الضلال، ففي يوم الجمعة عشر ذي الحجة، الساعة الواحدة صباحاً من يوم النحر عام 1353هـ، شرع الملك عبد العزيز، وحضرة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير سعود ورجال الحاشية والحرس ومعهم ثلة من رجال الشرطة، يطوفون بالبيت الحرام طواف الإفاضة، وبعد انتهاء الشوط الرابع، واستلام الحجر الأسود تقدم الملك سائراً في شوطه الخامس وولي عهده وحاشيته يسيرون خلفه، إذا برجل يخرج فجأة من حجر إسماعيل، شاهراً خنجراً قد انتضاها في يده، وهو يصيح بصوت غير مفهوم، متقدماً من الملك عبد العزيز يريد طعنه فاعترضه أحد جنود الشرطة وهو يدعى أحمد بن موسى العسيري، فطعنه ذلك الرجل فأرداه قتيلاً، فأمسك به آخر يسمى مجدوع بن شباب فطعنه أيضاً، فعاجل المجرم عبدٌ من عبيد الملك يدعى عبد الله البرقاوي بطلق ناري من سلاحه فأرداه قتيلاً قبل أن يتمكن من الوصول إلى الملك عبد العزيز، وفي هذه اللحظة شوهد مجرم ثان رفيقاً للمجرم الأول يجري من خلف الملك يريد القضاء على ولي العهد الأمير سعود، خارجاً من حجر إسماعيل من جهة الركن اليماني للبيت الشريف، شاهراً خنجراً أيضاً، فعاجله عبد من عبيد ولي العهد يدعى خير الله بطلق ناري من سلاحه فقتله، وحينما رأى المجرم الثالث ما حل بأصحابه وكان قد خرج فيما يظهر من حجر إسماعيل مع المجرم الثاني هرب مسرعاً يريد الفرار فأطلق عليه جنود الشرطة رصاص بنادقهم، فخرّ صريعاً وظل على قيد الحياة مدة ساعة واحدة، تمكن المحققون في أثنائها من معرفة اسمه بقوله: "أنا علي" فنجى الله عز وجل الملك الصالح عبد العزيز آل سعود رحمه الله تعالى من خبث وإجرام أولئك المبتدعة.(/29)
ننتقل ـ أحبتي في الله ـ إلى مجزرة بغداد، وقتل الخليفة العباسي المستعصم على يد وزيره الشيعي ابن العلقمي لعنه الله، ففي عام 656هـ كاتب الوزير الشيعي ابن العلقمي ملك التتار هُولاكُو سرًّا وقال له: إن جئتَ إلى بغداد سلمتُها لك، فرد عليه هولاكو قائلاً: إن عساكر بغداد كثيرة، فإن كنت صادقاً فيما قلته، وداخلاً في طاعتنا، فرق عساكر بغداد ونحن نحضر، وعندها أشار الوزير الشيعي على الخليفة العباسي المستعصم بتسريح أكبر عدد من الجند والعساكر المرابطين في عاصمة الخلافة بغداد، بحجة تخفيف الأعباء المالية الثقيلة في ميزانية الدولة العباسية، عندها وافق الخليفة على ذلك، فخرج هذا الوزير الشيعي على الفور ومحا اسم خمسة عشر ألف من عساكر بغداد، ثم نفاهم من بغداد ومنعهم من الإقامة بها، ثم بعد شهر فعل مثل فعلته الأولى ومحا اسم عشرين ألفاً من ديوان الجند، واستمر هذا الوزير الخبيث الشيعي يجتهد في صرف جيوش أهل السنة وإسقاط أسمائهم من ديوان الجند، حتى أصبح عدد المسجلين في ديوان الجند عشرة آلاف، بعد أن كانوا في آخر أيام الخليفة المستنصر أكثر من مائة ألف مقاتل من أهل السنة، وعندما توجه القائد التتري هولاكو إلى بغداد، من جهة البر الشرقي، وأحاط ببغداد، أشار الوزير الشيعي على الخليفة العباسي بمصالحتهم، وقال له: ـ أي: قال الشيعي لهذا الخليفة ـ أخرج أنا إليهم من أجل الصلح، فخرج هذا الخبيث، وتوثق لنفسه ولشيعته، ثم رجع إلى الخليفة قائلاً: إن السلطان ـ يا مولانا ـ أمير المؤمنين، يريد أن يزوج بنته بابنك الأمير أبي بكر ويبقيك في منصب الخلافة، فخرج إليه الخليفة العباسي المستعصم المغرر به ومعه سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والأمراء ورجال الدولة وأعيان العاصمة الإسلامية من أهل السنة، فلما اقتربوا من مكان إقامة السفاح هولاكو قُبض عليهم جميعاً إلا سبعة عشر نفساً، فدخل الخليفة العباسي بهؤلاء إلى هولاكو، وأنزل الباقون من مراكبهم، ونهبت ثم قتلوا عن آخرهم، ثم أحضر أبناء الخليفة، فضربت أعناقهم أمام الجميع، أما الخليفة العباسي فقيل: إنه طلبه ليلاً ثم أمر به ليقتل فقال خواص هولاكو ومستشاريه: إن هذا إن سكب دمه أظلمت الدنيا فإنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندها خاف هولاكو وهاب أن يقتله، فقام الخبيث الشيعي نصير الدين الطوسي وقال: يقتل ولا يسكب دمه، قالوا: كيف؟ قال: ضعوه في بساط، وارفسوه حتى يموت فلا يسكب دمه ففعلوا، وقيل: بل خنقوه وقيل بل أحرق رحمه الله تعالى.
ثم بعد ذلك اجتاح التتار عاصمة الخلافة الإسلامية بغداد بمساعدة الرافضيين الخبيثين ابن العلقمي ونصير الدين الطوسي، ودخلوا دار الخلافة، ونهبوا كثيراً من الذهب والحلي والمصاغي والجواهر والأشياء الثمينة، ثم مالوا على أهل السنة في بغداد، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، حتى دخل كثير من المسلمين في الآبار وأماكن الحشوش والوسخ، فكان الناس يجتمعون في الدار ويغلقون عليهم الأبواب، فيأتي التتار برئاسة الشيعي الخبيث ابن العلقمي فيفتحونه، إما بالكسر وإما بالنار ثم يدخلون عليهم ويقتلونهم، حتى جرت الميازيب من كثرة الدماء، وبلغ عدد الذين قتلوا في بغداد مليوناً وثمانمائة ألف مسلم موحد من أهل السنة، على يد الشيعي الخبيث نصير الدين الطوسي الذي قال عنه الخميني في كتابه "الحكومة الإسلامية" (ص128) ما نصه: "ويشعر الناس بالخسارة أيضاً بفقدان الخواجة نصير الدين الطوسي وأمثاله، ممن قدموا خدمات جليلة للإسلام" انتهى كلامه عدو الله.
ننتقل ـ إخواني في الله ـ إلى مجزرة المخيمات الفلسطينية على يد حزب أمل الشيعي:
وحزب أمل ـ إخواني في الله ـ هي حركة شيعية لبنانية مسلحة، ذات عقيدة إمامية اثنا عشرية، أسسها موسى الصدر في لبنان عام 1975م للدفاع عن مصالح الشيعة، وأطلق عليها بعد ذلك اسم أفواج المقاومة اللبنانية.
أما عن المجزرة التي ارتكبتها هذه المنظمة الشيعية الاثنا عشرية:(/30)
ففي يوم الأحد 19/5/1485م الساعة التاسعة مساءً كانت دورية مسلحة شيعية تابعة لحزب أمل تجوب مخيم صبرا الفلسطيني، حيث توقفت الدورية قرب فتى يحمل مسدساً حربياً، وهي ظاهرة مألوفة في لبنان في ذلك الوقت، فحاولت الدورية اعتقال الفتى لكنهم فشلوا، وأفلت الفتى من أيديهم، وانطلق يعدو هارباً، وكانت هذه الحادثة بداية حرب دامية لم تنته إلا بعد شهر كامل، وفي اليوم التالي اقتحمت مليشيات أمل الشيعية مخيمي صبرا وشاتيلا الفلسطيني، وقامت باعتقال جميع العاملين في مستشفى غزة وساقوهم مرفوعي الأيدي إلى مكتب أمل في أرض جليل، كما منعت القوات الشيعية الهلال الأحمر وسيارات الأجهزة الطبية من دخول المخيمات الفلسطينية، كما قطعت القوات الشيعية لحزب أمل إمدادات المياه والكهرباء عن المستشفيات الفلسطينية، وأفاد بعض شهود العيان أن الحرائق شبت في مستشفى غزة، وفي الساعة السابعة من نفس اليوم تعرض مخيم برج البراجنة الفلسطيني لقصف عنيف بقذائف الهاون من عدة جهات عندما أصدر الشيعي الخبيث نبيه بري أوامره لقيادة اللواء السادس في الجيش اللبناني بمشاركة قوات حزب أمل، في ذبح مسلمين السنة في لبنان، ومن الجدير بالذكر ـ إخواني في الله ـ أن جميع أفراد اللواء اللبناني السادس كلهم من طائفة الشيعة الحاقدة على أهل السنة، حيث خاض هذا اللواء معارك في منتهى الشراسة ضد المسلمين العزل من أهل السنة، في بيروت الغربية.
وفي يوم الثلاثاء 21/5/1985م وفي تمام الساعة السابعة صباحاً وجه اللواء السادس الشيعي اللبناني نداءات بواسطة مكبرات الصوت، إلى سكان المخيمات الفلسطينية السنة تطالبهم بإخلاء هذه المخيمات وعندها سارعت العائلات على الفور بالفرار من منازلها واللجوء إلى المدارس والمساجد والأحياء الآمنة، وبعد نصف ساعة تماماً أي: في تمام الساعة السابعة والنصف، بدأ القصف الشيعي المركَّز من قبل حزب أمل حتى إن بعض التقارير قالت: إن طفلاً من المصابين يموت كل خمس دقائق، حيث بلغ عدد القتلى في هذين اليومين الاثنين والثلاثاء إلى مائة قتيل وخمسمائة جريح من أهل السنة، سكان المخيمات الفلسطينية، حيث حصد حزب أمل الشيعي الرجال والنساء والأطفال، ولم يتوقفوا عند هذا الحد، بل امتدت أيديهم القذرة لتطول المستشفيات ودار العجزة لأهل السنة، ومن الفظائع التي ارتكبتها قوات أمل الشيعية الاثنا عشرية بحق الفلسطينيين الآمنين في المخيمات ما ذكرته صحيفة ريبو بليكة الإيطالية من أن فلسطينيا من المعاقين لم يكن يستطيع السير منذ سنوات رفع يديه مستغيثاً في مخيم شاتيلا أمام عناصر أمل الشيعية طالباً منهم الرحمة، فكان الرد عليه عدة طلقات غادرة استقرت في جسده البريء. كما ذكر مراسل صحيفة الساندي تليغراف في بيروت أن عدداً من الفلسطينيين قتلوا في مستشفيات بيروت، وأن مجموعة من الجثث الفلسطينية قد ذبح أصحابها من أعناقهم كما تذبح الشياه، وكشف ناطق فلسطيني النقاب عن قيام قوات أمل الشيعية بنسف أحد الملاجئ في يوم 26/5/1985م والذي كان يتواجد فيه المئات من الشيوخ والأطفال والنساء في عملية دنيئة بربرية، وذكرت شاهدة عيان أنها رأت أحد أفراد مليشيا قوات أمل الشيعية يذبح بحربة بندقيته ممرضة فلسطينية في مستشفى غزة لأنها احتجت على قتل جريح أمامها، كما ذكرت بعض وكالات الأنباء بأن قوات أمل الشيعية قامت باغتصاب 25 فتاة فلسطينية من أهالي مخيم صبرا، وعلى مرأى من أهالي المخيم فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ننتقل ـ أحبتي في الله ـ إلى تفجيرات عام 1409 للهجرة في مكة المكرمة على يد شيعة كويت:
ففي عام 1409هـ قامت مجموعة من شيعة الكويت والمنتسبون إلى خلية السائرون على خط الإمام الخميني، والمتفرعة من حزب الله، وهم كلٌّ من منصور حسن المحميد، وعلي عبد الله كاظم، وعبد العزيز حسين شمس، وعبد الوهاب حسين بارول، وهاني حبيب السري، وحسن عبد الجليل الحسيني، وعادل محمد خليفة، وصالح عبد الرسول ياسين، الذين قاموا بتفجيرات بمكة المكرمة شرفها الله تعالى وحرسها، في موسم الحج لعام 1409 للهجرة، بجوار بيت الله المعظم بعد أن تم تسليم المواد المتفجرة لهؤلاء الجناة من قبل مسؤول السفارة الإيرانية في دولة الكويت واسمه محمد رضا غلول، ونتج عن هذه التفجيرات قتل وجرح العديد من حجاج بيت الله، حيث بلغت الإصابات في ضيوف بيت الله تعالى إلى حروق شديدة وخطيرة، إضافة إلى تجمعات دموية في الصدر وانفجار في طبلات الأذن، وجروح متهتكة، ونزيف داخلي، إضافة إلى تمزق أوتار العضلات وشلل في الأقدام.
ننتقل إلى هدم مسجد فيض السني في مدينة مشهد الإيرانية على أيد الشيعة الاثنا عشرية عام 1414 للهجرة.(/31)
ففي ليلة الاثنين 19/8/1414هـ والموافق لذكرى وصول الخميني إلى إيران، وحيث تحتفل الدولة الإيرانية بتلك المناسبة أشد الاحتفالات، حاصرت المخابرات الإيرانية مسجد فيض لأهل السنة في مدينة مشهد حصاراً عنيفاً، ثم استقدمت خمس عشرة جرافة كبيرة، وبعد منع الناس من التردد حول المسجد، بدأت الجرافات الشيعية في العمل من خارج المسجد طوال الليل في هدم الجدران والأبواب باتجاه الداخل، دون أن يفرغ المسجد من المصاحف والسجادات والمكتبة الموجودة فيه، واقتيد إلى السجن كل من كان في المسجد، غير من قتل تحت الجرافات من أهل السنة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
سادس عشر: حكم علماء الإسلام وفتاواهم في الشيعة الإمامية الاثنا عشرية:
أقول: إخواني في الله، إن الشيعة الإمامية الاثنا عشرية من فرق الضلال التي جمعت في عقيدتها كل شر وانحراف موجود في باقي الفرق والنحل، ولهذا حكم جمهور العلماء بكفرهم وزندقتهم، وفي مقدمتهم سيد الأولين والآخرين وإمام العلماء والمتقين وخاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرك الشيعة الإمامية، بل أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم وأوصى بذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا علي، سيكون في أمتي قوم ينتحلون حبَّنا أهل البيت، لهم نبز يسمَّون الرافضة فاقتلوهم فإنهم مشركون)) رواه الإمام الطبراني في المعجم الكبير (12/242) حديث رقم (12998) وإسناده حسن.
قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (سيكون بعدنا قوم ينتحلون مودتنا، يكذبون علينا مارقة، آية ذلك أنهم يسبون أبا بكر وعمر) وهم الشيعة الإمامية.
قول عمار بن ياسر رضي الله عنه:
فعن عمرو بن غالب أن رجلاً نال من عائشة رضي الله عنها عند عمار رضي الله عنه فقال: (اغرب مقبوحاً، أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) رواه الترمذي بإسناد حسن.
وأقول: كل الشيعة يطعنون في عائشة رضي الله عنها.
قول عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه:
فعن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلت لأبي: ما تقول في رجل سب أبا بكر؟ قال: يقتل، قلت: ما تقول في رجل سب عمر؟ قال: يقتل.
والشيعة الإمامية يسبون ويلعنون أبا بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين، كما سمعت ذلك آنفاً من قول إمامهم وبصوته.
قول جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
فعن سالم بن أبي حفصة وهو شيعي قال: سألت أبا جعفر وابنه جعفر عن أبي بكر وعمر، فقال: يا سالم، تولهما وابرأ من عدوّهما، فإنهما كانا إمامي هدى، ثم قال جعفر: يا سالم، أيسب الرجل جده؟! أبو بكر جدي، لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إن لم أكن أتولاهما، وأبرأ من عدوهما، انتهى.
وقال أيضاً رضي الله عنه: "برئ الله ممن تبرأ من أبي بكر وعمر" انتهى قوله رحمه الحديث.
قول الإمام عبد الله بن المبارك:
قال رحمه الله تعالى: "الدين لأهل الحديث، والكلام والحيل لأهل الرأي، والكذب للرافضة" يعني للشيعة.
قول سفيان الثوري أمير المؤمنين في حديث رسول الله:
فعن إبراهيم بن المغيرة قال: سألت الثوري: يصلَّى خلف من يسب أبا بكر وعمر؟ قال: لا.
قول الإمام الزهري قال الإمام الزهري: "ما رأيت قوماً أشبه بالنصارى من السبئية، قال الإمام أحمد بن يونس: هم الرافضة.
قول الإمام سفيان بن عيينة:
قال رحمه الله تعالى: "لا تصلوا خلف الرافضي ـ يعني الشيعي ـ ولا خلف الجهمي، ولا خلف القدري، ولا خلف المرجئي" انتهى.
قول علقمة بن قيس النخعي:
قال رحمه الله تعالى: "لقد غلت هذه الشيعة في علي رضي الله عنه كما غلت النصارى في عيسى بن مريم" انتهى.
قول أبي يوسف القاضي:
قال رحمه الله تعالى: "لا أصلي خلف الجهمي أو رافضي ـ يعني الشيعي ـ ولا قدري" انتهى.
قول الإمام يزيد بن هارون الواسطي:
قال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: "يكتب عن كل مبتدع إذا لم يكن داعية إلا الرافضة ـ يعني الشيعة ـ فإنهم يكذبون" انتهى.
قول الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام:
قال هذا الإمام رحمة الله عليه: "لا حظ للرافضي ـ يعني الشيعي ـ في الفيء والغنيمة. انتهى. وقال كذلك رحمه الله: " عاشرت الناس وكلمتُ أهل الكلام وكذا، فما رأيت أوسخ وسخاً ولا أقذر قذراً ولا أضعف حجة ولا أحمق من الرافضة"، يعني: الشيعة. انتهى.
قول الإمام الأعمش:
قال معاوية بن خازن: سمعت الأعمش يقول: أدركت الناس وما يسمونهم إلا بكذابين، يعني: الرافضة، انتهى.
قول الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة:
قال هذا الإمام: "الذي يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس لهم اسم ـ أو قال: نصيب ـ في الإسلام. كما سئل الإمام مالك عن الرافضة الشيعة، فقال: لا تكلمهم ولا ترد عنهم فإنهم يكذبون. انتهى.(/32)
قول الإمام الشافعي:
قال حرملة: سمعت الشافعي يقول: لم أر أحداً أشهد بالزور من الرافضة. يعني: الشيعة، انتهى.
قول الإمام أحمد بن حنبل:
روى الخلال عن أبي بكر المروذي قال: سألت أبا عبد الله ـ يعني: أحمد بن حنبل ـ عن من يشتم أبا بكر وعمر وعائشة قال ـ أي: قال الإمام أحمد ـ ما أراه على الإسلام، انتهى.
وقال الخلال: أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد قال: سمعت أبا عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ قال: من شتم ـ يعني: أصحاب رسول الله ـ أخاف عليه الكفر مثل الروافض، ثم قال: من شتم. أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نأمن أن يكون قد مرق من الدين ـ أي: خرج من الدين ـ، انتهى.
وقال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عن رجل شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ـ أي: الإمام أحمد ـ ما أراه على الإسلام. انتهى.
وجاء عن الإمام أحمد بن حنبل قوله عن الرافضة الشيعة ما نصه: هم الذين يتبرؤون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويسبونهم وينتقصونهم ويكفرون الأئمة إلا أربعة ـ يعني: الصحابة إلا أربعة ـ علي وعمار المقداد وسلمان، وليست الرافضة في الإسلام من شيء. انتهى.
وقال ابن عبد القوي: كان الإمام أحمد يكفر من تبرأ منهم ـ أي: من الصحابة ـ ومن سب عائشة أم المؤمنين مما برأها الله منه، وكان يقرأ ـ أي: الإمام أحمد رحمة الله عليه ـ قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [النور:17]، انتهى.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن الذي يشتم معاوية: أيصلى خلفه؟ قال: لا يصلى خلفه، ولا كرامه. انتهى.
قول الإمام البخاري:
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي ـ يعني: الشيعي ـ أم صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلَّم عليهم ولا يعادون ـ أي: لا يزارون في مرضهم ـ ولا يناكحون ولا يشهدون ـ أي: لا تشهد جنائزهم ـ لأنهم ماتوا على غير ملة الإسلام، ولا تؤكل ذبائحهم. انتهى قول الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
ننتقل إلى قول طلحة بن مصرف:
قال هذا الإمام رحمه الله: الرافضة لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم لأنهم أهل ردة. انتهى.
قول الإمام الفريابي:
روى الخلال قال: أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني، قال: حدثنا موسى بن هارون بن زياد قال: سمعت الفريابي ورجل يسأله عن من شتم أبا بكر، قال: ـ أي: الإمام الفريابي ـ كافر، قال: ـ أي: السائل ـ فيصلى عليه؟ قال: لا، وسألته: كيف يصنع به وهو يقول لا إله إلا الله؟! قال: لا تمسوه بأيديكم ارفعوه بالخشب، حتى تواروه في حفرته. انتهى.
وقال أيضاً رحمه الله: ما أرى الرافضة ـ يعني: الشيعة ـ والجهمية إلا زنادقة، انتهى.
قول الإمام محمد بن الحسين الآجري.
قال هذا الإمام وهذا العَلَم رحمه الله تعالى وهو إمام من أئمة أهل الحديث رحمة الله على أهل الحديث قال: وقد تقدم ذكرنا لمذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذريته الطيبة ينكرون على الرافضة ـ يعني الشيعة ـ سوء مذاهبهم، ويتبرؤون منهم، وقد أجل الله الكريم أهلَ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مذاهبهم القذرة التي لا تشبه المسلمين، انتهى.
وقال أيضاً الإمام الآجري ما نصه: إن الرافضة أسوأ الناس حالة وإنهم كذبة فجرة، وإن علياً رضي الله عنه وذريته الطيبة أبرياء مما تمْحله الرافضة إليهم، وقد برأ الله الكريم علياً رضي الله عنه وذريته الطيبة من مذاهب الرافضة الأنجاس الأرجاس، انتهى كلامه.
ننتقل إلى قول الإمام أحمد بن يونس:
قال هذا الإمام: لو أن يهودياً ذبح شاةً وذبح رافضي ـ يعني: شيعي ـ لأكلت ذبيحة اليهودي ولم آكل ذبيحة الرافضي لأنه مرتد عن الإسلام، انتهى.
قول إمام الجرح والتعديل أبي زرعة الرازي رحمة الله عليه:
قال هذا الإمام ما نصه: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه زنديق لأن مؤدَّى قوله إلى إبطال القرآن والسنة، انتهى كلامه.
قول الإمام البربهاري:
قال هذا الإمام رحمه الله تعالى: واعلم أن الأهواء كلها ردية تدعو إلى السيف، وأردؤها وأكفرها الرافضة ـ يعني الشيعة ـ والمعتزلة والجهمية، فإنهم يريدون الناس على التعطيل والزندقة، انتهى كلامه رحمة الله عليه.
قول الإمام بن الجوزي:
قال رحمه الله تعالى: وغلو الرافضة في حب علي رضي الله عنه حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله، أكثرها تشينه وتؤذيه ثم لهم خرافات لا يسندونها إلى مستند، ولهم مذاهب في الفقه ابتدعوها وخرافات تخالف الإجماع ومسائل كثيرة يطول ذكرها خرقوا فيها الإجماع وسوّل لهم إبليس وضعها. انتهى.
قول عبد القاهر البغدادي:
قال ما نصه: وأما أهل الأهواء من الجارودية والهاشمية والجهمية والإمامية ـ يعني: الشيعة الاثنا عشرية ـ الذين أكفروا خيار الصحابة، فإنا نكفرهم، ولا تجوز الصلاة عليهم عندنا ولا الصلاة خلفهم. انتهى.(/33)
وقال أيضاً: وما رأينا ولا سمعنا بنوع من الكفر إلا وجدنا شعبة منه في مذهب الروافض. انتهى.
قول الإمام ابن حزم الظاهري:
قال هذا الإمام: وأما قولهم ـ يعني النصارى ـ في دعوى الروافض تبديل القرآن، فإن الروافض ليسوا من الإسلام، إنما هي فرقة حدث أولها بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، وهي طائفة ـ استمع أخي ماذا يقول ابن حزم ـ تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر. انتهى كلامه.
قول الإمام القاضي عياض:
قال رحمه الله تعالى: نقطع بتكفير غلاة الروافض في قولهم: إن الأئمة أفضل من الأنبياء. انتهى.
قول الإمام السمعاني:
قال هذا الإمام رحمه الله تعالى ما نصه: واجتمعت الأمة على تكفير الإمامية ـ يعني الشيعة الاثنا عشرية ـ لأنهم يعتقدون تضليل الصحابة وينكرون إجماعهم، وينسبونهم إلى ما لا يليق بهم. انتهى كلامه.
قول الجبل وهذا الإمام وهو شيخ الإسلام ابن تيمية:
قال هذا الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: من زعم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة فلا خلاف في كفرهم، ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب أيضاً في كفره، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين، انتهى كلامه.
بل ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بوجوب قتال الشيعة، وأن قتالهم أولى وأحق من قتال الخوارج، وأن أئمتهم ـ أي: أئمة الشيعة ـ من الزنادقة حيث قال: إنهم شر من عامة أهل الأهواء، وأحق بالقتال من الخوارج، وأيضاً فغالب أئمتهم زنادقة، إنما يظهرون الرفض، لأنه طريق إلى هدم الإسلام كما فعلته أئمة الملاحدة. انتهى.
وقال أيضاً: وفي الجملة فمن جرب الرافضة ـ يعني: الشيعة ـ في كتابهم وخطابهم، علم أنهم من أكذب خلق الله، انتهى.
وقال أنها في مجموع الفتاوى: فإن الذي ابتدع الرفض كان يهودياً أظهر الإسلام نفاقاً، ودس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الدين، ولهذا كان الرفض ـ يعني: التشيع ـ أعظم أبواب النفاق والزندقة، ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة من الإسماعيلية والنصيرية وأنواعهم من القرامطة والباطنية والدرزية، وأمثالهم من طوائف الزندقة والنفاق، انتهى.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى في منهاج السنة النبوية ما نصه: فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه، وما يقرب في زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة، وتجدهم من أعظم الناس فتناً وشراً. انتهى كلامه.
ننتقل إلى قول الإمام ابن القيم:
قال بن قيم رحمه الله في مفتاح دارا لسعادة ما نصه: واقرأ نسخة الخنازير من صور أشباههم، ولا سيما أعداء خيار خلق الله بعد الرسل وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذه النسخة ظاهرة في وجوه الرافضة أي في الشيعة، يقرؤها كل مؤمن كاتب وغير كاتب، وهي تظهر وتخفى بحسب خنزيرية القلب وخبثه، فإن الخنزير أخبث الحيوانات وأردؤها طباعاً، ومن خاصيته أنه يدع الطيبات فلا يأكلها، ويقوم الإنسان عن رجيعه فيبادر إليه. انتهى.
وقال أيضاً: وأخرج الروافض الإلحاد والكفر، والقدح في سادات الصاحبة وحزب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأوليائه وأنصاره في قالب محبة أهل البيت والتعصب لهم وموالاتهم. انتهى.
قول الإمام الذهبي:
قال الإمام الذهبي: في كتاب الكبائر ما نصه: فمن طعن فيهم أو سبهم ـ يعني: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقد خرج من الدين، ومرق من ملة المسلمين. انتهى.
قول الإمام محمد المقدسي:
قال هذا الإمام إخواني في الله: لا يخفى على كل ذي بصيرة وفهم من المسلمين أن أكثر ما قدمناه من الباب قبله من عقائد هذه الطائفة الرافضة على اختلاف أصنافها كفر صريح، وعناد مع جهل قبيح، لا يتوقف الواقف عليه من تكفيرهم، والحكم عليهم بالمروق من دين الإسلام. انتهى.
قول الإمام علي بن سلطان القارئ: قال رحمه الله تعالى: وأما من سب أحداً من الصحابة فهو فاسق ومبتدع بالإجماع، إلا إذا اعتقد أنه مباح، كما عليه بعض الشيعة وأصحابهم، أو يترتب عليه ثواب كما هو دأب كلامهم، أو اعتقد كفر الصحابة وأهل السنة فإنه كافر بالإجماع. انتهى كلامه.
ننتقل إلى قول الإمام المجدد، مجدد الدعوة السلفية في الجزيرة العربية وهو الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه:
فكذلك حكم ـ إخواني في الله ـ هذا الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى يكفر الشيعة الاثنا عشرية، وذلك لسبهم الصحابة رضوان الله عليهم ولعنهم حيث قال: فإذا عرفت أن آيات القرآن تكاثرت في فضلهم ـ يعني: في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ والأحاديث المتواترة بمجموعها ناصة على كمالهم فمن اعتقد فسقهم أو فسق مجموعهم، وارتدادهم وارتداد معظمهم عن الدين، فقد كفر بالله تعالى ورسوله. انتهى.(/34)
وقال أيضاً: وبهذا وأمثاله تعرف أن الرافضة أكثر الناس تركاً لما أمر الله، وإتياناً لما حرمه، وأن كثيراً منهم ناشئ من نطفة خبيثة، موضوع في رحم حرام ـ يقصد هنا الشيخ رحمة الله عليه نكاح المتعة عندهم ـ ولذا لا ترى منهم إلا الخبيث اعتقاداً وعملاً، وقد قيل: كل شيء يرجع إلى أصله. انتهى كلامه.
وقال رحمه الله أيضاً: فهؤلاء الإمامية ـ يعني: الشيعة الاثنا عشرية ـ خارجون عن السنة، بل عن الملة، واقعون في الزنا ـ يعني: في نكاح المتعة ـ وما أكثر ما فتحوا على أنفسهم أبواب الزنا في القبل والدبر، فما أحقهم أن يكونوا أولاد زنا. انتهى كلامه رحمة الله عليه.
ننتقل إلى قول الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمة الله عليه:
قال هذا الإمام ما نصه: وعندهم المشهد الحسيني، وقد اتخذه الرافضة وثنا بل رباً مدبراً، وخالقاً ميسراً وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية، وكذلك مشهد العباس ومشهد علي... إلى أن قال: والرافضة يصلون لتلك المشاهد ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور لسكان تلك الأجداث والقبور ما لا يصرف عشر معشاره للملك العلي الغفور... إلى أن قال: وكذلك جميع قرى الشط والمجرى على غاية من الجهل، والمعروف في القطيف والبحرين من البدع الرافضة، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنيفية. انتهى كلامه رحمة الله عليه من كتاب مجموعة الرسائل والمسائل النجدية.
ننتقل إلى قول الإمام محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ:
قال هذا الجبل وهذا العَلَم وهذا الإمام ما نصه: وأما مجرد السلام على الرافضة ومصاحبتهم ومعاشرتهم مع اعتقاد كفرهم وضلالهم فخطر عظيم وذنب وخيم، يخاف على مرتكبه من موت قلبه وانتكاسه... إلى أن قال: وزوال الإيمان فلا يجادل في جوازه إلا بنفسه مغرور مستعبد لفلسه، فمثل هذا يقابل بالهجر وعدم الخوض معه في هذه المباحث التي لا يدريها إلا من تربى بين يدي أهل هذه الدعوة الإسلامية والطريقة المحمدية. انتهى.
وقال أيضاً الإمام محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ ما نصه: فهذا حكم الرافضة في الأصل، وأما الآن فحالهم أقبح وأشنع لأنهم أضافوا إلى ذلك الغلو في الأولياء والصالحين من أهل البيت، فمن توقف في كفرهم والحالة هذه وارتاب فيه فهو جاهل بحقيقة ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، فليراجع دينه قبل حلول رمسه. انتهى كلامه رحمة الله عليه من كتاب الدرر السنية في الأجوبة النجدية.
ننتقل إلى قول الجبل والإمام عبد الرحمن بن حسن:
قال رحمه الله تعالى: فأصل الرافضة خرجوا في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه... إلى أن قال: وهم الذين أحدثوا الشرك في صدر هذه الأمة، بنوا على القبور، وعمت بهم البلوى، ولهم عقائد سوء يطول ذكرها. انتهى كلامه من مجموعة الرسائل والمسائل النجدية.
ننتقل إلى قول الإمام عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين:
قال رحمه الله تعالى: فهذا حكم الرافضة في الأصل، فأما حكم متأخريهم الآن فجمعوا بين الرفض والشرك بالله العظيم بالذي يفعلونه عند المشاهد، وهم الذين ما بلغهم شرك العرب الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى كلامه من مجموعة الرسائل والمسائل النجدية.
قول الإمام سليمان بن سحمان رحمة الله عليه:
قال هذا الإمام: وقد تقدم قريباً من كلام أهل السنة في شأن هؤلاء الأرفاض ـ يعني الرافضة ـ من مقالاتهم الشنيعة وأوضاعهم الخاطئة الكاذبة الوضيعة ما تمجه الطباع، وتستكّ عن سماعه الأسماع، فمن كان ما تقدم ذكره عنهم هذه نحلته، وهذا دينه، فهم عند جماهير المسملين ليسوا من أهل الإسلام. انتهى كلامه.
وقال أيضاً رحمه الله: ولم يخالف فيما ذكرناه إلا هؤلاء الملاحدة كالرافضة والإمامية وعباد القبور والمشاهد وهؤلاء لا عبرة بخلافهم فيما قالوا من المخرقة والخزعبلات التي لا تفيد، فلا يقول بها إلا كل كفار عنيد. انتهى كلامه رحمه الله من كتابه العظيم الحجج الواضحة الإسلامية في رد شبهات الرافضة والإمامية.
ننتقل إلى قول الإمام المحدث شاه عبد العزيز الدهلوي:
قال الإمام عبد العزيز الدهلوي، وهو من محدثي القارة الهندية، بعد أن اطلع على كتب الشيعة الاثنا عشرية ما نصه: ومن استكشف عقادئهم وما انطووا عليه علم أن ليس لهم في الإسلام نصيب، وتحقق كفرهم لديه. انتهى كلامه من كتابه العظيم مختصر التحفة الاثنا عشرية.
قول إمام اليمن ومحدث اليمن الشوكاني:
قال هذا الإمام رحمة الله عليه ما نصه: وبهذا يتبين أن كل رافضي خبيث يصير كافراً بتكفيره لصحابي واحد، فكيف بمن كفر كل الصحابة واستثنى أفراداً يسيرة، تغطية لما هو فيه من الضلال. انتهى كلامه من كتاب نثر الجوهر على حديث أبي ذر.(/35)
وقال أيضاً الشوكاني ما نصه: لا أمانه لرافضي قط على من يخالفه في مذهبه، ويدين بغير الرفض، بل يستحلّ ماله ودمه عند أدنى فرصة تلوح له، لأنه عنده مباح الدم والمال، وكل ما يظهره من المودة فهو تقية، يذهب أثره بمجرد إمكان الفرصة. انتهى كلامه من كتابه طلب العلم.
ننتقل إلى قول الإمام المحدث محمد صديق حسن خان القنوجي: قال رحمه الله تعالى: وأقول: ما أصدق هذا المقال... إلى أن قال: فإنه دل دلالة واضحة صريحة لا سترة عليها على أن الرافضة كفار كفراً بواحاً... إلى أن قال: فينبغي أن يجري حكم الكفار عليهم في جميع المسائل والأحكام من ترك المناكحة بهم والجهاد معهم، والرد على مذهبهم والإنكار على صنيعهم، والاعتقاد بعدم إسلامهم، وبكونهم أخبث الطوائف في الدنيا. انتهى كلامه من كتابه العظيم الدين الخالص.
ننتقل إلى الإمام المجاهد محمود شكري الألوسي:
قال العلامة محمود شكري الألوسي رحمه الله تعالى ما نصه: وقد زعم الروافض أن جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا من استثني قد ظلموا عياذاً بالله... إلى أن قال: ولعمري إن كفرهم أشهر من كفر إبليس. انتهى كلامه من كتابه العظيم هبّ العذاب على من سب الأصحاب.
قول علماء ما وراء النهر:
قال الإمام الألوسي صاحب التفسير ما نصه: وكالاثنا عشرية فقد كفرهم معظم علماء ما وراء النهر، وحكموا بإباحة دمائهم وأموالهم وفروج نسائهم، حيث أنهم يسبون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لا سيما الشيخين رضي الله تعالى عنهما، وهما السمع والبصر منه عليه الصلاة والسلام. انتهى من كتاب صب العذاب على من سب الأصحاب.
قول الإمام والجبل محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي الديار السعودية:
قال الإمام العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله ما نصه: وهؤلاء الروافض قد ارتكبوا بهذا الصنيع عدة جرائم شنيعة منها الاستهزاء بأفاضل الصحابة رضوان الله عليهم، وسبهم ولعنهم... إلى أن قال: وهذا يدل على خبثهم وشدة عداوتهم للإسلام والمسلمين، فيجب على المسلمين أن يغاروا لأفضال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يقوموا على هؤلاء الروافض قيام صدق لله تعالى، وأن يحاكموهم محاكمة قوية دقيقة، ويوقعوا عليهم الجزاء الصارم البليغ، سواء كان القتل أو غيره. انتهى كلامه رحمة الله عليه من فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/249-250).
كما أفتى سماحته رحمه الله تعالى بقتل أحد الدعاة من الرافضة، الذي قام بتأليف كتاب ينشر فيه معتقده الخبيث حيث قال رحمه الله تعالى ما نصه: والذي أراه أنه يسوغ قتل هذا الخبيث تعزيراً، لأن ما أبداه رأس فتنة إن قطع خمدت، وإن تسوهل في شأنه عادت بأفظع من هذا الكتاب... إلى أن قال: وقتل مثل هذا تعزيراً إذا رآه الإمام ردعاً للمفسدين، وحسماً لمادة البدعة، وسداً لهذا الباب.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى: فالرافضة أحبت أهل البيت ولكنها غلت، حتى صار الروافض هم أئمة كل شرك وخرافة، فهم أول من بنى المساجد على القبور. انتهى كلامه رحمه الله تعالى من كتابه فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية.
ننتقل إلى قول وفتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية:
وهم كل من العلامة والإمام والمحدث وبقية السلف عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، والعلامة عبد الرزاق عفيفي، والعلامة عبد الله بن غديان، والعلامة عبد الله بن قعود حيث وجه إلى اللجنة الدائمة سؤال عن حكم أكل ذبائح جماعة من الجعفرية الإمامية الاثنا عشرية، فأجابت اللجنة بقولها ما نصه: إذا كان الأمر كما ذكر السائل من أن الجماعة الذين لديه من الجعفرية يدعون عليا والحسن والحسين وسادتهم، فهم مشركون مرتدون عن الإسلام والعياذ بالله، لا يحل الأكل من ذبائحهم لأنها ميتة ولو ذكروا عليها اسم الله. انتهى.
وقالت اللجنة في جواب آخر ما نصه: إذا كان الواقع كما ذكرت من دعائهم عليا والحسن والحسين ونحوهم فهم مشركون شركاً أكبر، يخرج من ملة الإسلام، فلا يحل أن نزوجهم المسلمات، ولا يحل لنا أن نتزوج من نسائهم، ولا يحل لنا أن نأكل من ذبائحهم. انتهى.
كما أجابة اللجنة الدائمة في جواب آخر عن حكم من يعتقد أن القرآن قد وقع فيه التحريف، كما تعتقده الشيعة الإمامية بقولها ما نصه: ومن قال إنه غير محفوظ أو دخله شيء من التحريف أو النقص فهو ضال مضل، يستتاب فإن تاب وإلا وجب على ولي الأمر قتله مرتداً... إلى أن قالت هذه اللجنة: ولهذا أنكر علماء الإسلام على الشيعة الباطنية زعمهم أن القرآن الذي بين أيدي المسلمين ناقص، وأن الذي عندهم هو الكامل، وهذا من أبطل الباطل. انتهى كلامهم رحمة الله عليهم، من فتاوى اللجنة الدائمة.
ننتقل إلى قول مؤتمر رابطة العالم الإسلام الثالث:(/36)
حيث جاء في بيانه الصادر في ربيع الأول لعام 1408هـ ما نصه: لقد تبين للمشاركين في المؤتمر أن الخميني داعية ضلال، جر على المسلمين من المصائب والفتن ما مزق الشمل، وأن منهجه خارج على الإسلام وتعاليمه، ويشكل خطورة على أمة الإسلام، لذا فإنهم يطلبون الحكام والمنظمات والشعوب الإسلام بمقاطعته على مختلف المستويات، والتصدي لتحركاته على الساحة الإسلامية. انتهى.
ننتقل إلى قول الإمام وبقية السلف المحدث عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمة الله عليه مفتي الديار السعودية سابقاً:
قال هذا الإمام ـ إخواني في الله ـ في الشيعة الاثنا عشرية ما نصه: وأفيدكم بأن الشيعة فرق كثيرة، وكل فرقة لديها أنواع من البدع، وأخطرها فرقة الرافضة الخمينية الاثنا عشرية لكثرة الدعاة إليها، ولما فيها من الشرك الأكبر، كالاستغاثة بأهل البيت واعتقاد أنهم يعلمون الغيب، ولا سيما الأئمة الاثنا عشر حسب زعمهم، ولكونهم يكفرون ويسبون غالب الصحابة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، نسأَلُ الله السلامة مما هم عليه من الباطل. انتهى كلامه، مجموع فتاوى ومقالات الإمام عبد العزيز بن باز (4/439).
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى الإمام العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى مفتي الديار السعودية، وهو يحذر من الفرق الضالة والديانات المنحرفة، ومنها فرقة الشيعة الإمامية فاستمع ماذا يقول رحمه الله تعالى: وبذلك نكتشف بطلان جميع المذاهب الهدامة والأكثر منحلة، لأن من علم شرع الله وتبصر في دينه وتفقه في ذلك اتضح له كل مذهب باطل وكل فكر فاسد، سواء كان ذلك فكراً خارجا عن الدين بالكلية، أو فكراً يزعم صاحبه أنه من الإسلام وليس من الإسلام، فتعرف المذاهب الهدامة من شيوعية وغيرها، وهكذا الأفكار والدعوات المنحرفة، من الإمامية أو قومية أو غير ذلك مما يدعو إليه كثير من الناس، فالقرآن الكريم والسنة المطهرة يحاربان كل هذه الدعوات الباطلة، فلا قومية ولا علمانية ولا شيوعية ولا بعثية ولا شيعية ولا بوذية ولا نصرانية ولا يهودية ولا غير ذلك، كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاربون هذه المذاهب الباطلة وهذه الأفكار الزائفة، ويبين القرآن والسنة أن الحق في اتباع كتاب الله العظيم وسنة رسول الله الأمين فقط.
ننتقل إلى قول محدث العصر الإمام محمد ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه:
قال العلامة المحدث الألباني مجيباً لسؤال وجه إليه عن حكمه في المدعو الخميني ما نصه:
فقد وقفت على الأقوال الخمسة التي نقلتموها عن كتب المسمى بروح الله الخميني، راغبين مني بيان حكمي فيها وفي قائلها، فأقول وبالله تعالى وحده أستعين: إن كل قول من تلك الأقوال الخمسة كفر بواح وشرك صراح لمخالفته للقرآن والسنة المطهرة وإجماع الأمة، وما هو معلوم من الدين بالضرورة، ولذلك فكل من قال بها معتقداً ولو ببعض ما فيها فهو مشرك كافر، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. انتهى كلامه رحمة الله عليه من كتاب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية في ميزان الإسلام لربيع السعود.
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى الإمام المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى وهو يؤكد أن الخلاف الذي بين أهل السنة وبين الشيعة الإمامية هو خلاف في الأصول لأنهم يعتقدون بأن القرآن الكريم محرف عندهم، بل ويحكم الإمام الألباني بأن الذي يدعو إليه إمام الشيعة الخميني من الكفر الذي لا شك فيه، فاستمع ماذا يقول رحمه الله تعالى: "وهذا ما كنت أجابه به الشيعة وأنا في دمشق، فكنت أقول لهم: أنتم مثلاً لا تعتمدون على صحيح البخاري، ونحن لا نعتمد على الكليني، وهم يزعمون وهذا أمر خطير جداً أنه لا خلاف بين المسلمين في الأصول، كثير من الدعاة الإسلاميين اليوم أنه لا خلاف بين المسلمين في الأصول، وهذا الذي ورّط طائفة من الشباب المسلم حينما أعلن الخميني دولته، فسارعوا إلى مبايعته وإلى مساندته وو...إلخ، ذلك لأنهم يتوهمون أنه لا خلاف بيننا وبين الشيعة إلا في الفروع؛ لأنهم يجهلون ما في بطون كتب الشيعة من الخلاف في الأصول، وأي أصل مثلاً بالنسبة إليهم بعد القرآن؟! إذا كانوا يعتقدون بأن القرآن الذي بين أيدينا هو ربع مصحف فاطمة، فأي أصل بعد ذلك يصح أن يخالف؟! مثلاً الخميني أعلن عن عقيدته بما سماه الحكومة الإسلامية، وهذا كفر بلا شك.
ننتقل إلى قول الشيخ الفاضل والإمام المجتهد عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين:
قال هذا الشيخ ما نصه: "فالرافضة بلا شك كفار إلى... أن قال: ومن شك في ذلك فليقرأ كتب الرد عليهم ككتاب القفاري في تفنيد مذهبهم، وكتاب الخطوط العريضة، وكتاب إحسان إلهي ظهير وغيرها. انتهى كلامه من كتابه اللؤلؤ المكنون.(/37)
هذا واستمع ـ أخي في الله ـ إلى العلامة عبد الله بن جبرين، عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وهو يحكم بشرك الرافضة، وأن الحجة قد قامت عليهم، بل ويذكر هذا الإمام حال إخواننا من أهل السنة في دولة إيران وكيف أنهم مضطهدون، ومنبوذون عند الشيعة هناك، وأن الشيعة لو تمكنوا من رقاب أهل السنة لفعلوا الأفاعيل الخبيثة في حق أهل السنة ، فاستمع ماذا يقول حفظه الله تعالى: لقد ذكرنا أن الموجودين الآن من الرافضة غالباً مشركون، لأنهم يدعون علياً والحسن والحسين وغيرهم في الملمات عوامهم وخواصهم، والآن قد قامت عليهم الحجة، وقد عرفوا أن هذا شرك، سيما الذين في المملكة، ولكنهم لا يقبلون، بل يعيبون من أنكر عليهم، ويسموننا وهابيين فلا يتقبلون منا، فنقول: هذا من المكفرات، كونهم يدعون عليا حتى في الملمات وفي الأزمات والشدائد، ويدخل في ذلك عامتهم، فأظهروا ذلك. فالواجب علينا إذا رأينا إعلاناتهم هذه وأعمالهم أن ننكر عليهم، وأن نسعى إلى ولاة الأمور، ونأمرهم بأن يأخذوا على أيديهم، فلا يظهروا بدعتهم ببلاد الإسلام، ومن أراد منهم أن يظهر بدعته فليذهب إلى البلاد التي يحكمها الرافضة كبلاد إيران أو العراق، هنالك يفعلون ما يريدون، أما بلاد تحكم بالشريعة فلا يجوز أن يمكنوا من إظهار هذه البدعة، هناك في بلاد إيران مجموعة كبيرة من أهل السنة، نحو اثني عشر المليون من أهل السنة، ولكنهم مضطهدون في غاية من الذل، وفي غاية من الإهانة، لما كانت الكثرة الكاثرة إلى الرافضة فلا يقدرون أن يعلنوا إسلامهم وعباداتهم، ولا يتولون شيئاً من الولايات التي لها أهمية، فليس منهم خطباء، وليس منهم دعاة، وليس منهم موظفون مدراء ولا مدرسون، ولا غيرهم بل محتقرون، إنما يتكسبون بما يستطيعونه من الكسب بأيديهم وبأعمالهم، أما الولايات الحكومية فليس لهم منها نصيب أبداً، لماذا؟ لأنهم أهل سنة، والغالبية على الولاية أنهم رافضة، أما في ولايتنا... على الدولة تدين بالسنة والولاية، الأكثرية والحمد لله لأهل السنة، فإن هؤلاء الرافضة تمكنوا لما أنهم مكنوا من الدراسة، ودرسوا في دراسات صناعية وحملوا مؤهلات متنوعة، فتولوا وللأسف كثيراً من الولايات، بسبب أنهم جاؤوا بهذه المؤهلات وهذه الشهادات، ودخلوا المسابقات، وانطبقت عليهم الشروط، وصدق عليهم أنهم مواطنون وأنهم سعوديون، ولم ينظر إلى معتقدهم، ولم يتفطن القائمون على هذه الوظائف بخبث طواياهم وولوهم هذه الولايات، وهم لا يشعرون، فيخاف أن يكيدوا فيما بعد بالإسلام والمسلمين، فهم إذا تولوا التدريس فالغالب أنهم لا يدرسون تدريساً صحيحاً في العقيدة لأبناء المسلمين، بل إما أن يشككوهم في عقيدتهم، وإما أن يتركوهم على جهلهم بالعقيدة الصحيحة السليمة، وهم إذا تولوا مثلاً الطب فلا يؤمنون إذا عالجوا أهل السنة أن يمكروا بهم، وأن يكيدوا لهم ما يسبب زيادة المرض أو الموت أو العقم أو ما أشبه ذلك، وكذلك إذا تولوا توليد النساء لم يؤمن في الأطفال المواليد أن يضروهم كما ذكر ذلك في كثير من المولدين ونحوهم، ربما اجتذبوا للطفل وهو صغير، فانخلعت قدمه، أو حصل به خلل خلقي بسبب توليهم ذلك، لا شك أنهم غير مأمونين.
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].
واستمع ـ أخي في الله ـ إلى توبة أحد الشيعة واسمه حمزة أمام أحد الدعاة من أهل السنة عن طريق الاتصال عبر الإنترنت وما يعرف بالبالتولك، واستمع إليه كيف يذكر الشهادة وهو يبكي بعد أن شرح الله صدره للإسلام، واستمع إليه ـ أخي الحبيب ـ وهو يدافع عن الصحابة وعن أمهات المؤمنين بعد توبته، فاستمع إلى هذا اللقاء المؤثر: "ولكن الآن أقول: الحمد لله الذي هداني لهذا الدين، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتني، وفليعلم الجميع أني ما كنت صاحب علم، لكن صاحب علم في مذهبي، ولكن عندي العلم القليل الذي أخذته من بعض الحسينيات وبعض الجلسات، ولكن أقول: الحمد لله الحمد لله الحمد لله أني لم أغرغر، أن الله سبحانه وتعالى لم يمتني، أنا الحمد لله الآن عائش بين إخواني المسلمين، الحمد لله الذي جعلني الآن أقدر أقول لكم: الحين أنا مسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال الداعية: الله أكبر الله أكبر ... يأبى الله يا إخواني إلا أن يظهر نوره، إلا أن يعز الإسلام، أبشر، يا حمزة أبشر والله إنك أخ حبيب لنا، والله لأنت أحب إلينا من بعض أبنائنا، أبشر هذه الدمعات، أبشر إن شاء الله، عينان لن تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، فأنت على خير، فأنت على خير، أرجو منك أخي الحبيب أن تتابع، لحظة يا مناصر أخي الحبيب لحظة شوية بارك الله فيك، تفضل يا حمزة، حمزة حبيبي تفضل.(/38)
حمزة: جزاك الله خيراً يا أخي، أنا لا أحب أن أطيل عليكم إلا في كلمة أخيرة أقولها لكم إن شاء الله، أقول: اللهم العن من سب الصحابة، أو إحدى أمهات المؤمنين، هؤلاء أمهاتنا ونحن نفتديهم، وهم أشرف منا وأشرف من أزواجنا وأشرف من أمهاتنا وأخواتنا وأبنائنا، والله إن هذا كان في قلبي، والله يشهد الله أن هذا في قلبي من زمان، ولكن ما كنا نقدر نقول هذا الكلام... من البدع التي كنا فيها، ولكن أقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ولو أتاني ملك الموت الآن لأني أفرح... وإني أعتقد أني سوف أدخل الجنة، ولكن على مذهب الشيعة للأسف، أني كنت أعرف أنني على شفا حفرة من النار، فأنجاني الله سبحانه وتعالى و.... يقول الداعية: أسأل الله أن يحفظك، الحمد لله الذي أنقذ أخانا من النار، الحمد لله الذي أنقذك من النار، والله يا أخي الحبيب، والله لأنت أحب إلينا من بعض أبنائنا، يشهد الله عز وجل، لذلك إخواني هذا من فضل الله علينا، ثم من فضل مشايخنا، حقيقة الأمر إخواني الذين كان لهم الصبر على أمثال هؤلاء، والله يا إخواني، والله لا يشكر الله من لا يشكر الناس، والله يا إخوة على كل حال، يا حمزة يا أخي الحبيب، نريد منك أن تشرح لنا، يعني ما كانت عقيدتك بارك الله فيك، ومن كان له الأثر على إيصال هذا الخير لك حفظك الله، ولو بإسهاب بارك الله فيك.
حمزة: والله يا أخي كان أخ سعد عندكم في البالتولك والأخ الثاني اسمه أبو علي، وبصراحة بكلام الشيخ أبو منتصر الذي كان له أثر يعني بصراحة، وكنت دائما عناوين يعني على البالتولك، يعني تتكلم عن الشيعة، فكنت أدخلها بصراحة، أي عنوان كنتم تحطونه، أنا كنت أدخل هذا العنوان فأطالع أموراً من البدع، للأسف يعني والله إنها أكاذيب، ولكن رأيت... حقيقة وفي الآونة الأخيرة عند أهل السنة انتشر كتاب اسمه كتاب لله ثم للتاريخ، لما قرأت الكتاب، قرأته ممكن مرتين أو ثلاث مرات، فوالله إني ظننت أن هذا الكلام بدعة، يعني بدعة الكلام علينا، ولكن فتحت المراجع عندنا، والله رأيت كل الأمور موجود فعلاً، وكل الأمر الذي كتبه سيد حسين مساوي فعلاً موجود، بالمراجع بالكلمة بالنص بالصفحة، فإن كان هذا الكلام فعلاً موجوداً فهذا ليس ديناً هذا كارثة، كارثة على الأمة وفاجعة على الأمة الإسلامية، فالحمد لله، ولكن الآن أخبرك أنني أقوى، والله ثم والله أكثر الشيعة عندهم شك في دينهم، أنا واحد من الناس الذين كان لي شك في ديني، ومثلي كثير بالآلاف، والله على البالتولك وخارج البالتولك، مجرد أنك تقيم عليهم الحجة، لا يستطيعون أتدرون لماذا؟ لأننا لا نستطيع المجادلة، لا نقدر على الكلام، أنتم أهل الحجة، ونحن كنا ضعفاء، نحن ما عندنا إلا... أما أنتم عندكم دائماً ألاحظكم تقولون: قال الله، قال رسول الله، نحن لا، قال: أبو عبد الله عليه السلام، قال الحسين، قال الإمام الفلاني، ما عندنا من يقول: قال رسول الله، والله أكبر والله المستعان.
قال الداعية: الله أكبر يا إخوان، أسأل الله أن يثبتك يا أخي الحبيب.
{قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
هذا وإلى لقاء قادم، أحبتي في الله بإذن الله تعالى، مع فرق وديانات جديدة، وصلى الله على نبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.(/39)
الصادعون بالحق
14 / 11 / 1426هـ
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }، { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجال كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً }، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } أما بعد،، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
النجاة لأهل الاستقامة على الدين، أمر الله تعالى عباده بذلك،، { واستقيموا إليه }، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }، فالاستقامة على الدين والممات على الإسلام والثبات على هذا الأمر رأس مال المسلم، اللهم إن أسألك الثبات على الأمر، يعني: على الدين ولزوم الاستقامة عليه والعزيمة على الرشد الجد في الأمر بحيث ينجز كل ما هو رشد، والرشد هو الصلاح والفلاح والصواب، فالدين مداره على أصلين العزم والثبات، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يسألهما.
عباد الله، لقد حذرنا الله تعالى من النكوص والردة، وتوعد من يرتد بأنه سوف يأتي بخير منه، وأمرنا بإتباع ما أنزل، { أتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبع من دونه أولياء }، أمرنا بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحذرنا من الانحراف عن ذلك، { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }، واليوم يريد أعداء الإسلام في الداخل والخارج الصد عن سبيل الله، { ويحرفون الكلم عن مواضعه}، { يريدون أن يبدلوا كلام الله}، { ودوا لو تدهن }، هؤلاء الذين يريدون إطفاء نور الله وتغيير أحكام الشريعة ونشر الفساد، يريدونها عوجاً ويبغونها فساداً، والله سبحانه وتعالى قد تكفل بنصر دينه وهو عزوجل غالب على أمره، { والله متم نوره ولو كره الكافرون }، ويبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، أي: من درس من العمل بالكتاب والسنة، وما ذهب ونقص من الناس فيعيده الله مرة أخرى على أيدي أوليائه، ولا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته، ولا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله.
عباد الله، ومطلوب منا نحن أن نستمسك بالذي أوحي إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن نستقيم على ذلك، إن هذا مقتضى دين الإسلام إن هذا مقتضى التوحيد، وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وصول دعوته، فقال: التمسك بدين الإسلام الذي قال الله فيه: { ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه }.
ثانياً: دعوة الناس إلى التوحيد الذي قال الله فيه: { قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين }.
ثالثاً: النهي الناس عن الشرك الذي قال الله فيه: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار }.
رابعاً: التمسك بالكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح والأئمة الأربعة، وهكذا إلى أن يقول: ألزمنا من تحت أيدينا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله ونهينا عن الربا والمسكرات وأنواع المنكرات.
أيها المسلمون، إن دعوة التوحيد دعوة صافية، نقية، معروفة واضحة، إن هذا الدين لا بد من أخذه كله، ولا بد أن لا نبخس هذا الدين حقه، نحن أهله نحن عباد الله نحن أهل الإسلام فلا خيار لنا في هذا، { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }، والمحاولات لهدم الدين لا تزال مستمرة سواء كان ذلك بنشر الشرك، ومداهنة المشركين، وتقريب الكفار والرضى عن أعمالهم، والذب عنهم والتسوية بين الحق والباطل، والتوحيد والشرك، والسنة والبدعة، وما هي بسوائل والله لا يستوون عند الله، وإذا كانت الظلمات لا تستوي مع النور، والظل لا يستوي مع الحرور، والأحياء لا يستوون مع الأموات، فكذلك لا تستوي هذه عند الله إن هنالك فرقاً كبيرة.(/1)
عباد الله، لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فتركهم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، قاموا أصحابه بعده بحراسة التوحيد، وحراسة الملة والدين، وجردوا السيوف لذلك، وأريقت الدماء لأجل إقامة لا إله إلا الله هذه الملة العظيمة التي بعث الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه في وقت قوة أهل الإسلام ما كان أهل الباطل يجرؤون على أن ينالوا منه، ولذلك ما حفظ في عهد عمر رضي الله عنه أن أحداً أستطاع أن ينشر بدعة فقد كان لهم بالمرصاد، ومنذ أن حاول أحد الناس أن يشكك الحاضرين في مشتبهات، وأن يسأل عن آيات من القرآن يجمعها يوهم الناس أن بعضها يتعارض مع بعض، حضر له عمر رضي الله عنه تلك العصي حتى أفرغ جميع ما في رأسه من تلك الشبهات، ثم بدأت البدع بعد ذلك لما أنكسر الباب تدخل على أهل الإسلام فقاومها الصحابة خير المقاومة، وقاموا في إنكارها أحسن القيام، يقول واحد من السلف: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداء، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن يعني أبن مسعود؟، قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفا أمراً أنكرته، قال: فما هو؟، قال: إن عشت فستراه، رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً، ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟، قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك، وانتظار أمرك. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم، ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم، وفي رواية، أنه كان قد وضع لثاماً فلما حضر فوقهم كشف لثامه وأخبرهم أنه عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قال: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد بها التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبلى وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعل ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه.
عباد الله، قاوم الصحابة ولأدنى محاولة ولأدنى شبهة بدعة، يقول: مالك رحمه الله، ليعلن الحرب على أصحاب ذلك في مسجد النبوي، وينادي الحراس لأخذ من فعل شيئاً غير معهود لا يعهد في أيام النبي صلى الله أي مخالفة، ولما بلغ عبد الله بن عمر مذهب القدرية، وأنهم يقولون: إن الناس يخلقون الشر والله لا يخلق هذه الأفعال مع أن الله عزوجل خالق كل شيء سبحانه، قال لمن أبلغه: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، وهكذا مضى التابعون وأتباعهم والأئمة، ولما قامت فتنة خلق القرآن ثبت أحمد رحمه الله، والبويطي، وأحمد بن نصر، وغيرهم،، من الأئمة ابتغاء القيام بكلمة الحق وإنكار هذا المنكر، وصد هذه البدعة، وناظر أحمد رحمه الله هؤلاء المبتدعة أمام الخليفة يقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسولي حتى أقول به، لدرجة أن ابن أبي دوآد المجرم، قال له: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا. قال أحمد: وهل يقوم الإسلام إلى بهما، إلا بالكتاب والسنة، أتريدون أن أخذ شيئاً من غير الكتاب والسنة؟.
عباد الله، إن مقاومة البدع والمحدثات، مقاومة الشرك شيئاً عظيم واجب، ولذلك كان أهل السنة إذا سمعوا بقبر عليه ضريح، أو أناس يستغيثون بغير الله، أتوا ذلك المكان فطهروه من الشرك.
ولذلك فإن الصحابة رضوان الله عليهم لما فتحوا تستر وجدوا سرير ميت باق بحاله، وذكر لهم أنه دانيال من الأنبياء، جسده كما هو باق، فكتب أبو موسى الأشعري إلى عمر يستشيره، فكتب عمر إليهم أن يحفروا بالنهار ثلاثة عشرة قبراً، ثم يدفن بالليل في واحد منها ويعفى قبره، لألى يفتتن الناس به، لأن الميت يدفن، ولا يبقى ظاهراً، ولألى يصبح هذا القبر مزاراً يعبد من دون الله.
أمر عمر رضي الله عنه بحفر ثلاثة عشر قبراً، يدفن في واحد منها وتطم كلها ولا يميز بينه وبينه، وهكذا يكون الدفن بالليل ولا يعرف ذلك إلا هؤلاء القلة من الصحابة، لألى يتخذ هذا القبر وثناً يعبد من دون الله.(/2)
عباد الله، لقد قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي حصلت عندها بيعة الرضوان، لماذا؟ صيانة للتوحيد والدين، ولما حاول بعض الناس جعل بعض الآثار مزارات يزورونها غار حراء، وغار الثور، وجبل النور، والمساجد السبعة، ونحو ذلك،، كتب العلماء التوضيح والبيان، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: ( وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة، غير المشاعر عرفة، ومزدلفة، ومنى، قصد الجبال والبقاع التي حول مكة كجبل حراء، والجبل الذي عند المنى، والذي يقال إنه كان فيه قبة الفداء، ونحو ذلك،، فإنه ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، زيارة شيئاً من ذلك بل بدعة ).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: ( ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بدين الله، وأحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكملهم نصحاً لله ولعباده، ولم يحيوا هذه الآثار، ولم يعظموها، ولم يدعوا إلى إحيائها، ولو كان إحياؤها أو زيارتها أمراً مشروعاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وبعد الهجرة، أو أمر بذلك، أو فعله أصحابه أو أرشدوا إليه، فلما لم يعرف أن أحداً منهم زار تلك الآثار أو تتبعها وأمر بتشييدها، فليعلم بأن زيارة تلك الأماكن واعتبارها أثرية جعلها مزارات للناس بدعة من البدع، يؤدي إلى تقديس الأماكن وإلى أن ترتكب عندها أنواع الشرك والبدعة ).
أيها المسلمون، ولما وقع كثير من أبناء المسلمين وبناتهم مع الأسف في أعياد الكفار، يحتفلون بها تشبهاً بهم كعيد الحب، وغيره،، قاموا العلماء يبينون بأنه يحرم على المسلم الإعانة على هذا العيد، أو غيره من الأعياد المحرمة، بأي شكل من أكل، أو شرب، أو بيع، أو شراء، أو صناعة، أو هدية، أو مراسلة، أو إعلان، أو غير ذلك، أن ذلك كله من التعاون على الإثم والعدوان ومعصية الله والرسول، والله جل وعلا قال: { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }، ويجب على المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة في جميع أحواله، لا سيما في أوقات الفتن وكثرة الفساد، وعليه أن يكون فطناً حذراً من الوقوع في ضلالات المغضوب عليهم، والضالين، والفاسقين، الذين لا يرجون لله وقاراً، ولا يرفعون بالإسلام رأس، وعلى المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى بطلب هدايته والثبات عليها.
ولما قام الكفرة برسم النبي صلى الله عليه وسلم بزعمهم في رسومات ساخرة، وقام من قام بالكتابة ذماً لنبينا صلى الله عليه وسلم قام من أهل الإسلام من أظهر الغيرة لله أظهر الغيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك، وعما من مظاهر احتجاج المسلمين وكلامهم في رفض هذا ما حصل، ومن شارك فيه فإنه مأجور، دفاعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام قد أهدر دم امرأة كانت تقع فيه قتلها رجل مسلم كان يملكها وكانت به معتنية أتم الاعتناء وله منها ولدان مثل اللؤلؤتين، ومع ذلك لما وقعت في النبي صلى الله عليه وسلم لما يتوانى ذلك المسلم الأعمى أن قتلها رضي الله عنه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأبطل دمها وأهدره.
عباد الله، ويقوم من يقوم بالطعن في دين الإسلام، الطعن في أحكام الشريعة إرادة التشبه بالمشركين، وكما حصل من أتان الترك وغيره في بلاد الترك عندما أراد أن يحمل المسلمين على التشبه بالكفار، وألغى الخلافة، وألغى الآذان، وألغى اللباس لباس المسلمين، وأوجب عليهم أن يضعوا بدل العمامة قبعات الكفار، فقام من قام من عباد الله ببيان الحق في ذلك، ومنهم عاطف أسكولف الشيخ رحمه الله في كتابه الذي بين تحريم التشبه بالكفار وأفتى بتحريم ارتداء ملابسهم، فأخذ ليحاكم في ذلك، فقال له رئيس المحكمة: إنكم أيها الشيوخ مغرقون في الصف صفة الفارغة، رجل يرتدي عمامة يكون مسلماً فإذا ارتداء قبعة صار فاسقاً، وهذا قماش وهذا قماش. فأجابه الشيخ: أنظر أيها القاضي إلى هذا العلم المرفوع خلفك علم تركيا فأستبدله بعلم انكلترا مثلاً ما رأيك بذلك؟ إن قبلت وإلا فهي صف صفة منك فهذا قماش وهذا قماش. فبهت الذي كفر، وكان لسقوط الخلافة الإسلامية وقع أليم على المسلمين حتى قال شاعرهم:
عادت أغان العرس رجع نواحي ... ... ونعيت بين معالم الأفراح
كفنت في ليل الزفاف بثوبه ... ... ودفنت عند تبلج الإصباح
ضجة عليك مآذن ومنابر ... ... وبكت عليك ممالك ونواحي
الهند والهت ومصر حزينت ... ... تبكي عليك بمدمع سحاح
والشام تسأل والعراق وفارس ... ... أمحى من الأرض الخلافة ماح
وهكذا لما قام من قام يريد احتذاء النموذج الغربي تماماً، وأصدر الأوامر بنزع الحجاب، لإطلاق حرية المرأة، وقال متواقحاً: إن للمرأة أن تطلق الرصاص على زوجها إذا عارض حريتها، ومنع من ارتداء أزياء المسلمين.
وذهب إلى الغلو أبعد مذهب في فرض التشبه بالكفار
ومنع تعدد الزوجات، واعتبار العطلة بدلاً من يوم الجمعة واستبدال ذلك، فما كان من الناس من أهل الإسلام إلا أن قاموا لله قومت رجل واحد فغيروا ذلك كله.(/3)
عباد الله، وبعض الناس اليوم أيضاً، يعتدي على أحكام الشريعة وعلى القرآن والسنة، ويريد أن يغير من ذلك، فيقوموا أهل الإسلام لهم ببيان الحق وهذا هو الواجب، وإذا لم يكن من يبين الحق فمتى يتبين؟، ولما كتب بعض الكتاب ممن يحب الكفرة مريداً أن تزال كل العبارات والكلمات التي تأمر ببغضهم، وأن تحذف الآيات والأحاديث التي تنص على ذلك، وقال: إننا نحبهم محبة طبيعية كما يحب المتزوج من الكتابية زوجته، فقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله معقباً على الكلام الباطل: ( هذا قياس مع الفارق فليس كل كافر يتصف بالزوجية التي قيست عليها فهذه محبة إن وجدت فهي خاصة بالزوجة الكتابية التي أباح الله للمسلم، الزواج بها بشرط أن تكون محصنة أي عفيفة من الزنا ومعلوم ما للزوج من السلطة على زوجته وما له من التأثير عليها، فربما يكون زواجه منها وسيلة إلى إسلامها بدعوتها إلى الإسلام ولا بد أن المسلم سيدعو زوجته الكتابية إلى الإسلام وكثيراً ما أسلمت كتابيات بهذه الوسيلة )، وقولك:
إن النصوص تدل على أن البراء يكون فقط ممن حارب وليس ممن كفر وسالم، نقول لك:
( هذا قيد جئت به من عندك فالله علق البراء على الكفر مطلقاً، أي أن المسلم يتبرأ من الكافر سواء حارب الإسلام أو لم يحاربه، قال الله تعالى: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين }، الكافرين عموماً لا يجوز اتخاذهم أولياء، وقال تعالى: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا أبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا أبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان }، فبمجرد أن يستحب الكافر الكفر على الإيمان فإنه تجب البراءة منه، وبغضه لكفره، وعجيب أمر هؤلاء الناس يقولون: إذا جاءوا الكفار فحاربونا، وقتلونا، واحتلوا ديارنا، وسفكوا دمائنا، واعتدوا على أعراضنا، ونهبوا أموالنا، فإننا نبغضهم ونتبرأ منهم وإذا لم يفعلوا ذلك فلا نتبرأ منهم، ولا نبغضهم، ولا نكرههم، بل نحبهم محبة طبيعية. سبحان الله!!، وماذا فعلوا بربك عزوجل؟، إذا فعلوا بك ضرراً أقمت الدنيا، فما تفعل إذا قالوا عن ربك إنه له زوجه وولد وله صاحبة؟، سبوا الله سباً ما سبه مثلهم أحد، عندما يقال: إن الله ثالث ثلاثة، عندما يسبون الله، يشتمون الله، يكفرون بالله، لا تكرههم، فإذا سبوك وشتموك وآذوك أنت كرهتهم، ألهذه الدرجة عندك النظرة الدونية لربك عزوجل، مالكم لا ترجون لله وقاراً؟، أليس قد كفروا بالله، أليس قد أشركوا به، أليس قد آذوا الله وشتموه وسبوه، وقال: يؤذيني ابن آدم، يشتموني ابن آدم، وبين شتمه إياه وإيذاءه إياه، ولا يلزم من الإيذاء أن يحصل ضرر والله عزوجل لا يمكن أن ينال بضرر، ولكن ما يفعله هؤلاء هو إيذاء لله، وشتم لله، وسب لله، وشرك بالله، وكفر بالله، وهذا عندنا أعظم، وهذا عندنا أشد من اعتدائهم على أموالنا، ودماءنا، وأعراضنا، وبيوتنا، لأن الله عندنا أعلى وأجل وأغلى سبحانه وتعالى، فوجب إذن البراءة وبغض كل من كفر بالله لأجل الله وحق الله.
اللهم أجعلنا لك معظمين، وبشرعك آخذين، ولسنة نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وأزواجه، وذريته، وبارك على محمد، وعلى آله محمد، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
عباد الله، لا بد أن نغار لله ورسوله ودينه، لا بد أن يكون عندنا أنفة وحمية، لا بد أن نري الله من أنفسنا خيراً، عندما يعتدي على الدين والشرع، عندما يراد الباطل، عندما يراد الفساد، عندما تراد المخالفة لأحكام الله ورسوله، لأن المجاهرة اليوم بالباطل أمر عجب، عجب، عجب، المهاجرة بالشر، إعلان الكفر، إعلان الردة، إعلان التمرد على الكتاب والسنة، إعلان المعصية لله ورسوله، إعلان وتقرير لذلك، وأهل النفاق بالإضافة إلى أهل الكفر ينشرونه، ويذيعونه، وعندما تقوم عجوز شمطاء تسأل عن الحج هل حججتي؟ قالت: أنا لم أحج، ولن أحج، حجي في شرفتي، وصلاتي في كتبي، يعني لا حج ولا صلاة واعتبرت الكاتبة أن الحج من العادات الوثنية وأنه من بقايا ذلك وأنه لا يوجد نص يوجب ارتداء نساء للحجاب وطالبت بالمساواة في الميراث بين الرجال والنساء إلى آخر هذا الهراء.(/4)
عباد الله، كان الصحابة رضوان الله عليهم عندهم غيرة على الدين، بل عند أطفالهم عند غلمانهم، عبد الرحمن بن عوف لما وقف في الصف يوم بدر قال: فنظرت عن يمني وعن شمالي فإذا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال لي: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لأن رأيته لا يفارق سوادي سواده، حتى يموت الأعجل منا فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي: مثلها، عندما كان أهل العلم يرون الانحرافات يخطبون، يكتبون، يتكلمون، ينكرون، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما ترك انحرافاً في عصره، ولا بدعة، ولا طريقة مبتدعة، إلا وحذر منها، تكلم، وخطب، وكتب، وأبلغ، وأنكر، وذهب ليغير مع طلابه، وهكذا يكون أهل العلم، وعندما طلبوا منه أن يكتب كلاماً باطلاً رفض وأبى، فكان ذلك سبباً في أن يبتلى رحمه الله تعالى بالحبس، فلما تذمر الناس قالوا له: أخرج. قال: لن أخرج أنتم خارجة قلقون وأنا فيه أتعبد ربي. قالوا: أكتب أنك حبست بسبب مسألة العرش، ومسألة القرآن، ونأخذ خطك بذلك ونبرر حبسك، ثم نمزق الأوراق. قال: تدعونني أن أكتب بخطي أنه ليس فوق العرش إله يعبد، ولا في المصاحف قرآن، ولا لله في الأرض كلام، ثم رفع برأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أشهدك على أنهم يدعونني أن أكفر بك وبكتبك ورسولك، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين.
عباد الله، قاوم أهل العلم تلك المنكرات، وتتبعوا تلك البدع والضلالات، والقيام لله بهذا من أعظم القربات عند الله، لأن الله يحب أن يعلي شأن الدين، لأن الله سبحانه وتعالى يريد من ينصر شرعه، ودينه، لأنه عزوجل يثيب بأعظم الثواب من قام ينافح عن الله ورسوله ودينه وشرعه، كانت الغيرة موجودة عند أهل الإسلام ولما كان الوضاعون يضعون الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام المحدثون وقام العلماء يبينون وألفوا الكتب في ذلك دفاعاً عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولما انتشرت البدع وألوان الشرك في الجزيرة، قيد الله لها شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقام بمحو مظاهر الشرك وهدم القبة المبنية على قبر زيد بن الخطاب، وقطعت تلك الشجرة التي كانت يلجأ إليها من دون الله في طلب الأولاد من قبل العقيم، ونحو ذلك، وهكذا،، وهكذا من الأمثلة الكثيرة وعندما نسمع اليوم عن المسلسلات وأفلام تلمز من الدين فيقوم لله أهل الغيرة، وعندما كذلك نسمع من يريد نزع الحجاب يقوموا لله عزوجل بالحق، من أهل الغيرة على الدين، والواجب أيضاً إبراز اعترافات هؤلاء المتراجعات عن هذا الخط الذي يسمونه تحرير المرأة، كما قالت إحداهن: وهي خليجية في مقال لها بعنوان ( وحي الكلمات ) وكانت من أشد المطالبات بتحرير المرأة، والمقصود بالتحرير مما يسمونه قيود الشريعة، قالت: كبرنا وكبرت آمالنا وتطلعاتنا نلنا كل شيء من العلم، والمعرفة، ما يفوق الوصف أصحبنا كالرجل تماماً نسوق السيارة، نسافر للخارج وحدنا، يعني بلا محرم، نلبس البنطلون، ونظهر للناس، أصبحت لنا أرصدة، ووصلنا إلى المناصب القيادية، واختلطنا بالرجال، ورأينا الرجل الذي أخافنا في طفولتنا رأيناه كما هو، والمرأة غدت رجلاً وبعد أن نلنا كل شيء، وأثلجت صدورنا انتصاراتنا النسائية على الرجال، أقول لكم وبصراحة المعهودة: ما أجمل الأنوثة، وما أجمل المرأة التي تحتمي بالرجل، ويشعرها الرجل بقوته ويسافر معها، ولا يتركها تسافر وحدها، ما أجمل ذلك،، ما أجمل أن تربي أطفالها وتشرف على مملكتها، وهو السيد القوي نعم،، أقولها بعد تجربة، أريد أن أرجع إلى أنوثتي التي فقدتها أثناء اندفاعي في مجال الحياة والعمل، وهكذا، لا يصح إلا الصحيح فيكف يترك الرجال الذين أناط الله بهم الكسب والذين في نفوسهم العمل غريزة والاكتساب؟، لا بد لهم منه، كيف يترك هؤلاء بلا وظائف وتقدم النساء؟، ولذلك عندما تعكس الفطرة، وعندما لا يكون حاصلاً بين الناس هذا الأمر الغريزي الأصلي الموافق للخلقة، فلا شك أنه من الفساد العظيم.(/5)
عباد الله، ليس القيام بأمر الله والدفاع عن الدين والغيرة هو من شأن العلماء وحدهم، ولا من شأن الدعاة وحدهم، بل ولا من شأن المتمسكين بالدين فقط، بل هو شأن عامة الناس كلهم، يجب أن يوضحوا ذلك وأن يبينوه، وأن يذبوا عن الشرع، وأن يدعوا إلى التزام بأحكام الدين الحنيف، والامتناع عن العمل بأي شيء فيه مخالفة لأحكام الشريعة، ومن الأمثلة الطريفة في ذلك، أن الدفاع عن الدين ليس وظيفة أهل الاستقامة فقط، ما فعله أبو محجن رحمه الله أتي به يوم القادسية إلى سعد بن أبي وقاص، وقد شرب الخمر فأمر به إلى القيد، فلما التقى الناس أي المسلمون والمشركون، صحيح الرجل هذا يشرب الخمر لكنه يريد الجهاد في سبيل الله، ويريد الذب عن المسلمين، ويريد الطعان في هؤلاء الكافرين، فتحسر أنه مقيد، والمسلمون يجاهدون فقال:
كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنى وأترك مشدوداً علي وثاقيا
فقال لامرأة سعد: أطلقيني ولك والله علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت استرحت مني فأشفقت المرأة لحاله، فحلته وذهب أبو محجن حتى التقى الناس وكانت بسعد جراحة لم يستطع المشاركة فيشرف عليهم من علو، فلم يخرج يومئذ إلى الناس، كان سعد القائد جريحاً فصعدوا به لينظر ويشرف على المعركة، وأستعمل على الخيل خالد بن عرفطه، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها: البلقاء، ثم أخذ رمحاً ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، من جرأته وقوته، وجعل الناس يعني المسلمون يقولون: هذا ملك لما رأوه يصنع، وجعل سعد يقول متعجباً: ( الصبر صبر البلقاء والظفر ظفر أبي محجن، عجباً!) سعد يتعجب هذه الدابة فيما يظن هذا شأن دابته البلقاء، والطعن طعن أبي محجن وأبو محجن في القيد، فكيف هذا؟ فلما هزم العدو ورجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد، فأخبرت أبنته حفصة سعداً بما كان من الأمر، فقال سعد: ( لا والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاهم )، فخل سبيله، فقال أبو محجن: ( قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها، فأما إذ، أي: أنقذتني وتركتني، فوالله لا أشربها أبداً ) وهكذا يكون الذب عن الدين مسؤولية الجميع.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، اللهم أحيينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، اللهم أجعلنا ممن نصر الدين، اللهم أجعلنا ممن نصر الدين، اللهم أجعلنا ممن نصر الدين يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والنجاة يوم المعاد يا رب العباد، اللهم إنا نسألك أن تجعل بلادنا في أمن وعافية يا رب العالمين، من أراد بلدنا هذا بسوء وبلاد المسلمين فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، اللهم إنا نسألك أن تجعل خاتمتنا حسنة، وأن تحسن عاقبتنا في الدنيا والآخرة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(/6)
( الصبر الجميل )
جزء من محاضرة : ( صبر الرسول صلى الله عليه وسلم ) للشيخ : ( عائض القرني )
الصبر الجميل
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة.
ما هو الصبر الجميل ...
يقول الله له: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً [المزمل:10] ما هو الصبر الجميل الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصبره؟
الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه، أن تصبر ولا تشتكي إلى أحد، فالشكوى إلى الله، ولا يرفع الضر إلا الله، ولا يجيب دعاء المضطر إلا الله، ولا يغنيك من الفقر إلا الله، ولا يشافيك من المرض إلا الله، ولا يجبر مصيبتك إلا الله، فلذلك كان عليه الصلاة والسلام لا يشكو همومه وغمومه إلا على الله.
الصبر الجميل في مرضه صلى الله عليه وسلم ...
دخل عليه ابن مسعود رضي الله عنه، قال: {فوجدت الرسول صلى الله عليه وسلم مريضاً على الفراش } سيد البشر، خير من خلق الله، أصابته الحمى وصارعته على الفراش، مع مشاكل الدعوة، ومع هموم الدعوة، ومع محاربة الأعداء، والفقر، والجوع، ومع موت الأولاد والبنات تصيبه الحمى في جسمه.
قال: {دخلت عليه وهو يوعك وعكاً شديداً } أي: يضطرب ويتزلزل على الفراش، من شدة الحمى، قال: {فوضعت يدي على جسمه الشريف، قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي } معناه: أفديك بأبي وأمي، وصدق، رضي الله عنهم فإنهم فدوه بالآباء والأمهات.
فِداً لك من يقصر عن مداكا فما ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحلَّ به سواكا
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
قلت: {يا رسول الله! فداك أبي وأمي، إنك توعك وعكاً شديداً، قال: نعم، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم -جمع الله عليه مرضين- قلت: ذلك بأن لك الأجر مرتين يا رسول الله، قال: أجل، ما من إنسان يصيبه مرضٌ، أو همٌ، أو حزنٌ؛ إلا كفَّر الله بهن الخطايا }.
في صحيح البخاري ، باب: هل يقول الرجل: وارأساه؟ هل يتوجع؟ يعني: هل يقول: آه من المرض؟
دخلت عائشة رضي الله عنها على الحبيب صلى الله عليه وسلم قالت: {يا رسول الله! -بها صداع- وارأساه، قال وهو في مرض الموت: وارأساه، والله لقد هممت أن أستدعي أباك وأخاك؛ لأكتب لهم كتاباً } لأنه علم أنه سوف يموت بعد أيام، تأتيه الحُمَّى فتهزه هزاً عنيفاً في مرض موته، مرض مرضاً عجيباً، سمع بلالاً يطلق التكبير على المنارة، لكن لا يسمع بلالاً إلا أهل القلوب الحية، قال: {اجعلوا لي ماءً في المخضب أغتسل لأصلي بالناس؟ قالوا: يا رسول الله! إنك مريض، قال: أسمع الأذان وأصلي في البيت!! فوضعوا له قربة فاغتسل، فلما قام ليذهب إلى المسجد أغمي عليه، فجعلوا له ماءً؛ فاغتسل؛ فأغمي عليه، وجعلوا له الماء ثالثة؛ فأغمي عليه، ورابعة وخامسة } وفي الأخير لفظ أنفاسه، وقال ودموعه تهراق على خده، لأنه يريد الصلاة {وجعلت قرة عيني في الصلاة } كان يقول: {أرحنا بالصلاة يا بلال
} أرحنا بها من هموم الدنيا، وتعب الدنيا، ومشاكل الدنيا، ومخالفات الدنيا:
وقل لبلال العزم من قلب صادقٍ أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترقَ أبواب الجنان الثمانيا
قال: {مروا أبا بكر فليصل بالناس، فذهب بلال إلى أبي بكر فأمره أن يصلي بالناس، فبكى أبو بكر ، وقال: الله المستعان، إنا لله وإنا إليه راجعون }.
فصبر صلى الله عليه وسلم على هذه الأحداث فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً [المعارج:5].
فيا أيها المسلمون! ويا أتباع الرسول! ويا تلاميذ الرسول عليه الصلاة والسلام! من أصيب منكم بمصيبة فليتعزَّ بالرسول عليه الصلاة والسلام.
إن هذا دين العظماء، إنه دين العقلاء، إنه دين الشرفاء، أهل المبادئ الأصيلة، والأهداف الجليلة، والأخلاق الجميلة.
يموت ابنك فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً [المعارج:5].
تمرض زوجتك فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً [المعارج:5].
تذهب عيناك، يصم سمعك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً [المعارج:5].
تصاب بمرض، بحادث، بكارثة، يزلزل بيتك، يدمر عقارك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً [المعارج:5].
كل مصيبة تهون إلا مصيبة الدين، كل مصيبة سهلة إلا يوم يتخلى الله عنك، فتصبح بعيداً عن الله، كل شيء سهل إلا يوم يصبح الإنسان فاجراً متنكراً للمسجد، وللمصحف، ولذكر الله، كل شيء سهل إلا هذا الدين، لا يفوتك من قلبك.(/1)
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً }.
اللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين!
وارض اللهم عن صحابته الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يا رب العالمين!
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم اهدهم إلى سبل السلام.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق؛ أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك، في برك وبحرك يا رب العالمين!
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(/2)
الصبر علي الطاعات سبب لدخول الجنات
إعداد/ علاء خضر
من نور كتاب الله
قال الله تعالي والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار (22) جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (23) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار
[الرعد 22:24]
من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
من تجاوز عن المعسر تجاوز الله عنه
عن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:. حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان رجلاً موسرًا و كان يخالط الناس و كان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر «وهو الذي عليه دين ولا يستطيع السداد» فقال الله عز و جل لملائكته: نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه.
[جامع الترمذي]
من دلائل النبوة
الله يحفظ نبيه من إغواء الشيطان
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج منه علقة، فقال هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه وأعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (يعني ظئره) (مرضعته). فقالوا إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: فكنت أرى أثر المخيط في صدره.
[رواه مسلم]
من فضائل الصحابة
استخلاف أبي بكر رضي الله عنه
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: «ادعى لي أبا بكر، أباك وأخاك، حتى أكتب كتابًا. فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقولَ قائل أنا أوَلى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر». [رواه مسلم]
حكم ومواعظ
عن بلال بن سعد قال: إن المعصيةَ إذا خَفِيت لم تضرَّ إلا صاحِبَها و إذا أُعْلِنَتْ فلم تُغَيَّرْ ضرَّت العامةَ. و في رواية ابن بشران: إن الخطيئةَ إذا خفيت لم تضر إلا عامِلَها و إذا ظهرت ضرَّتِ العامة.
وعن الحسن بن عبد العزيز الجردي قال: عاتب رجلٌ أخاً له فقال: هل دللتني قطُّ على مريض؟ هل دللتني قط على جنازة؟ هل دللتني على خير ؟
وعن ابن المبارك قال: إنه ليعجبني من القراءِ كلُّ طلْقٍ مِضْحَاك، فأما من تلقاه بالبشر و يلقاك بالعبوس - كأنه يمن عليك بعمله - فلا أكثر اللهُ في القراءِ مِثْلَهُ.
[شعب الإيمان]
من جوامع الدعاء
عن شداد بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال: «ومن قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة». [رواه البخاري]
من آداب الصحبة
عن الحسين الوراق قال: سألت أبا عثمان عن الصحبة فقال: الصحبة مع الله بحسن الأدب و دوام الهيبة، والصحبة مع الرسول صلى الله عليه و سلم باتباع سنته و لزوم ظاهر العلم، و الصحبة مع أولياء الله بالاحترام والحرمة، والصحبة مع الأهل بحسن الخلق، و الصحبة مع الإخوان بدوام البشر و الانبساط ما لم يكن إثماً، والصحبة مع الجهال بالدعاء لهم و الرحمة عليهم و رؤية نعمة الله عليك أنه لم يبتلك بما أبلاهم به. [شعب الإيمان]
من آثار المعاصي
قال ابن القيم: ومن عقوباتها أنها تنسي العبد نفسه فإذا نسي نفسه، أهملها وأفسدها وأهلكها، قال تعالى: ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون فلما نسوا ربهم سبحانه نسيهم وأنساهم أنفسهم، ونسيانه سبحانه للعبد إهماله وتركه وتخليه عنه، وأما إنساؤه نفسه فهو إنساؤه لحظوظها العالية وأسباب سعادتها وفلاحها وإصلاحها، وهذا من أعظم العقوبة للعامة والخاصة، فأي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نفسه وضيعها ونسي مصالحها وداءها ودواءها وأسباب سعادتهما وصلاحها وفلاحها وحياتها الأبدية في النعيم المقيم. [الجواب الكافي باختصار]
من مكائد الشيطان
ومن مكايده: أنه يأمرك أن تلقى المساكين وذوي الحاجات بوجه عبوس، ولا تريهم بشرًا ولا طلاقة فيطمعوا فيك ويتجرءوا عليك وتسقط هيبتك من قلوبهم، فيحرمك صالح أدعيتهم وميل قلوبهم إليك ومحبتهم لك، فيأمرك بسوء الخلق، ومنع البشر والطلاقة مع هؤلاء، وبحسن الخلق والبشر مع أهل البدع أو النساء، فمتى كشفت لهما بياض أسنانك كشفا لك عما هنالك، ومتى لقيتهما بوجه عابس وقيت شرهما فيفتح لك بذلك باب الشر ويغلق عنك باب الخير. [إغاثة اللهفان باختصار]
من الطب النبوي التلبينة(/1)
عن عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : كانت إذا مات الميت من أهلها، فاجتمع لذلك النساء، ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها، أمرت ببرمة من تَلْبِينَة فطبخت، ثم صُنِعَ ثَريد فصُبَّت التَّلْبِينَة عليها، ثم قالت: كلن منها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (التَّلْبِينَة مُجِمَّةٌ "مريحة " لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن). التلبينة: حساء يتخذ من دقيق الشعير وربما جعل بعسل أو لبن وشبهه باللبن لبياضه. و لماء الشعير منافع جمة لا تخفى على الأطباء.
أخطاء في العقيدة
من أول الخلق ؟
من الخطأ الاعتقاد أن الله تعالى خلق أول ما خلق نور محمد صلى الله عليه وسلم ، و الأحاديث التي في هذا الباب أحاديث موضوعة وضعيفة؛ كحديث جابر: «أول ما خلق يا جابر نور نبيك»، أو حديث «أول ما خلق الله نوري ». قال السيوطي: في الحاوي: ليس له إسناد يعتمد عليه وحديث كنت نبيا و آدم بين الطين والماء قال السخاوي لم أقف عليه والصحيح أن أول مخلوق الماء ثم العرش ثم القلم وفي الصحيح أنه قال: " كان الله ولم يكن شئ قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شئ وخلق السماوات والأرض" قال ابن حجر: معناه أنه خلق الماء سابقًا ثم خلق العرش علي الماء وقد وقع في قصة نافع بن زيد الحميري بلفظ: " كان عرشه على الماء ثم خلق القلم فقال: اكتب ما هو كائن ثم خلق السماوات والأرض وما فيهن " فصرح بترتيب المخلوقات بعد الماء والعرش. والله أعلم.(/2)
الصبر واليقين طريق النصر والتمكين
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
حديثنا اليوم عن معادلة إيمانية نصها : "الصبر واليقين طريق النصر والتمكين " .
تلك المعادلة الإيمانية نطقت بها الآيات القرآنية ، وشهدت بها الحوادث التاريخية ، وصدقتها الوقائع الحاضرة ، وتثبت كذلك في الوقائع المستقبلية .. ذلك أنها من سنن الله - عز وجل – ولن تجد لسنة الله تبديلاً ، ولن تجد لسنة الله تحويلا .
إن الإيمان إذا رسخ في القلب ، وإن اليقين إذا تعمّق في النفس تولّد منه الصبر على ما يقّدره الله - عز وجل - من البلاء ، وينبثق عن ذلك الثبات على نهج الرسل والأنبياء ، ويؤسس كل ذلك على يقين راسخ برب الارض والسماء ، ثم لا يلبث الليل الطويل - من الظلم والعسف والطغيان - أن ينبلج بفجر النصر والعز والتمكين لأهل الأيمان ، ولاتلبث القوى الأرضية - التي تتآمر على أهل الأيمان - أن تذهب ريحها ، وتتفرق صفوفها ، وأن يصبح بأسها بينها شديداً ، وأن تكون حصاداً للأيدي المتوضئة تخلص منها البلاد والعباد وتدرأ شرورها عن هذه الحياة.
وإذا تأملنا في كتاب ربنا ، وفي سيرة نبينا محمد صلي الله عليه وسلم ، ثم نظرنا إلى واقعنا الذي نعيشه ؛ فإننا نرى أن تشبث أهل الأيمان بإيمانهم وصبرهم على ما يلاقون في طريق الأيمان والدعوة والجهاد في سبيل الله وثباتهم دون تغييرولاتبديل هو الذي يؤذن - بإذنه سبحانه وتعالى - أن ينزل نصر الله - جل وعلا - وأن يعجّل به ، وأن يعجّل بهزيمة أعداء الله سبحانه وتعالى.
والصبر واليقين هما عمادا الإمامة في الدين ، والله - جل وعلا – يقول : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } .
والله سبحانه وتعالى خاطب نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: { فاصبر إن وعد الله حق } .
الصبر لا يدوم ، والثبات لا يستمر إلا عندما يكون القلب موصولاً بالله ، والثقة عظيمة في نصر الله ، واليقين لا يعتريه الشك في وعد الله عز وجل ،وذلك يثبت المؤمن بإذن الله عز وجل ، كما قال سبحانه وتعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } .
وانظر إلى الأمر الرباني الذي يوصي أهل الأيمان بأن لايحيدو عن نهجه قيد شعره ، وأن لا يغيروا ولا يبدلوا .. { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطو واتقو الله لعلكم تفلحون } .
إنه الصبر والمصابرة والمرابطة والاستمرار والثبات الموصول بيقين راسخ في الله عز وجل : { واتقوا الله لعلكم تفلحون } .
ويأتي هذا الفلاح في صورة طمأنينة في القلوب ، وسكينة في النفوس ، وثبات في الأقدام ، ووضوح في الحجة والبرهان في هذه الحياة الدنيا.
ثم كذلك يتجلى في صور من النصر ، وفي صور من الظفر لم تكن تخطر على بال ولا ترتبط ولا تتلائم مع القوى الضعيفة والعدة القليلة لأهل الأيمان في مواجهة أهل الكفر والطغيان والعاقبة من بعد ذلك عند الله عز وجل : { جنات عرضها السماوات والأرض } .
وإذا أردنا إن نستقرئ الأحداث والشواهد من كتاب ربنا ؛ فإننا نرى ذلك التصوير القرآني الفريد البديع ، الذي يبيّن كيف ينبغي أن يرتبط المؤمن بإيمانه حتى آخر لحظة من لحظات الحياة ، مهما أدلهمت الظروف ، ومهما تكالب الأعداء ، ومهما حصل من أسباب هذه الحياة الدنيا يعيق عن المضي في طريق الله ؛ فإنه لاينبغي للمؤمن أن يتراجع ولا أن يتخاذل مطلقاً.
انظر إلى الوصف الرباني لأهل الأيمان الصابرين { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالو إنا لله وإنا إليه راجعون } لم يلتفتوا إلى شرق ولا إلى غرب إذا حلت بهم النكبات ، لم ينظروا إلى قوى الأرض ولكن التجأوا قوة رب الأرباب ، وملك الملوك ، وجبار السماوات والأرض سبحانه وتعالى .
{ الذين إذا أصابتهم مصيبة }لم يشكوا ، لم يرتابوا ، لم يغيروا ، لم يبدلوا ، لم ينافقوا ، لم يداهنوا ، لم يجاملوا في دين الله عز وجل ، وإنما ظلت حبالهم موصولة بربهم ، ويقينهم راسخ في دينهم ، وثباتهم على كتاب ربهم ، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، يقتفون في ذلك آثار الرسل والانبياء { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } .
إنها المعادله الإيمانية الآيات القرآنية ، والسنة الربانية التي لا تتخلف ولاتتغير أبداً { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .(/1)
وانظر إلى قصة يوسف - عليه السلام - لترى هذه المعادلة الايمانية واضحا ًفي قصة فردية ، فإذا بيوسف - عليه السلام - من غيابة الجب وظلمته ، إلى رحابة الأرض وسعتها ، ثم إذا به من ذل الأسر إلى عزّ القصر ، ثم بعد ذلك من ظلمة السجن إلى سدة الحكم .. ثبات وصبر وارتباط بالله ، بإذنه - عزوجل - يفرج كل كرب ، وينفس كل هم ، ويزيل كل ضائقة
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت أظنها لاتفرج
وانظر إلى المثل الآخر في قصة جماعية ، قصّها الله - جل وعلا - علينا من قصص الأمم الغابرة ، وهي من أكثر القصص القرآنية تكرراً في كتاب الله عز وجل .. قصة فرعون ، وهي متشعبة متعددة الجوانب متكاثرة في أسلوب عرضها في كتاب الله سبحانه وتعالى ، ومن ذلك العرض الذي جاء إيجازه في بعض صور القران قوله جل وعلا : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ } .
هذه إرادة الله ولا راد لقضاءه وإرادته سبحانه وتعالى { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} .
والله - سبحانه وتعالى - قد ذكر لنا من سيرة المصطفي صلى الله عليه وسلم أمثلة كثيرة ، غير أن منها مثلاً فريداً ظاهراً في هذا الأمر ، في صبر أهل الإيمان ويقينهم بالله ، وما يترتب على ذلك من النصر والتمكين لهم بإذن الله ، وتتجلي هذه الصورة في أهل النفاق .. في ضعف يقينهم ، وزوال أيمانهم ، وفي حرصهم على دنياهم ، وفي تخذيلهم للصفوف ، وتفتيتهم لعرى الروابط في صفوف أهل الأيمان .. ذلكم هو الوصف القرآني لما كان من شأن الأحزاب الذين تألبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم ، وليس أبلغ من وصف القرآن { إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً } .
اجتمع عليهم شدة الخوف ، مع شدة الجوع ، مع شدة البرد ، ولم يكن هناك بارقة أمل ، ولم يكن هناك في نظر أهل الارض وأهل النظرات المادية مهرباً ولا منفذاً ! إنما كان الفناء الماحق والهلاك المتحقق ، وزلزلوا زلزالاً شديداً .
ثم يأتي وصف القرآن لأهل النفاق بعد إن مرت بهم هذه الظروف ، فيقول جل وعلا : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً }
كان أحدهم يقول : " إن محمد صلى الله عليه وسلم يعدكم بكنوز كسرى وقيصر ، وإن أحدكم لايستطيع إن يمضي خطوات ليقضي حاجته ! " .
{ وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا .. }.
أما لكم بهذه القوى المجتمعة والمؤامرات العظيمة والأسلحة الفتاكة والخطط المحكمة !
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً }
جبناً وخوفاً وهلعاً .. كفراً ونفاقاً ، ولذلك جاء هذا الوصف القرآني يعري صورتهم ، ويكشف حقيقتهم ، ويضرب المثل بأشياعهم ونظرائهم في كل مجتمع إسلامي وفي كل زمان ومكان .. { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً {14} وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً } .(/2)
ذلك وصف أهل النفاق ، فانظر إلى وصف أهل الصبر والإيمان واليقين ، الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ظل هذه المحنة العصيبة ، وفي ظل محاصرة هذه القوى الرهيبة .. { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }
هذه مواقف المؤمنين .. هذه مواقف الصابرين .. هذه مواقف أهل اليقين ، وهذه كلمات أهل الثبات ، الذين لا يشكون لحظة في وعد الله ، ولا يعتريهم التزعزع أوالتردد في دين الله عز وجل ، يظل الواحد منهم ثابتاً واقفاً راسخاً لا يتزعزع .. فعلى أي شئ انتهي الأمر ؟ وبأي شئ انجلى الموقف ؟
إنها الآيات القرآنية تذكر لنا في صورة رائعة مشرقة كيف كان نزول النصر ، وكيف كان بداية التمكين ، لم تردهم السيوف ولا القوى ولا الخطط ، وإنما هي قوة الله عز وجل ، وإنما هو نصر الله الذي تنزل { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } .
هذا كتاب ربكم ، وهذه سنة نبيكم ، فهل أنتم في شك من دينكم ؟
لابد أن نقوى اليقين بدين الله عز وجل وبوعد الله ؛ إذ حيث تكالب الأعداء في هذا العصر فتّ ذلك في عضد بعض المؤمنين ، وأضعف إيمانهم ، والتمسوا الدنية في دينهم ، وأعطوا التبعية لأعدائهم ، ومنحوا بعض الذل والولاء والمداهنة لأعداء الله عز وجل .
وماذا بعد هذا ؟ إنه مصير أهل النفاق يتكرر ، أما إذا رجعت الأمة إلى ربها ، وتذكرت ذلك الوصف القرآني { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }
إذا مدّت الحبال مرة أخرى إلى الله .. إذا رفعت الأكفُّ مرة أخرى إلى الله .. إذا سجدت الجباه مرة أخرى ذله لله .. إذا ترابطت الصفوف وتوحدت الأمة على منهج الله ؛ فإن نصر الله متنزل ، وإن طريق التمكين ممهد .
لقد خرج محمد صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً ، وجاهد بعد ذلك عشر سنين ، وثبت - عليه الصلاة والسلام - ثم جاء بعد ذلك إلى مكة التي خرج منها مهاجراً عاد إليها فاتحاً وجاء بعصاه وهو يطيح بهذه الأصنام من حول الكعبة ، ويقرأ قول الله عز وجل : { وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } .
ولقد اعترى بعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم نوع مما يعتري النفوس البشرية ، وجاءه خباب بن الأرت - وكان من المعذبين المضطهدين الصابرين في مكة – وقال له : يا رسول الله ألا تدعو لنا ؟ ألا تستنصر لنا ؟
فذكّره النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه، فيُجاء بالميشار ـ المنشار ـ فيوضعُ على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه. والله! لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يَسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون )
ولذلك أريد أبيّن أن بعض مشاهد الواقع عندما يأذن الله عز وجل بأن تعود فئة من الأمة إلى ربها ، وأن يسوق لها من الاحداث والمحن من يذكرها بحقيقة ضعفها وتقصيرها في إلتزامها دين الله - سبحانه وتعالى - أن ذلك يجسّد مره أخرى هذه المعادله الإيمانية والسنة الربانية .
وانظروا إلى أحداث الأمة وإلى أشدّ قضاياها قساوة ومعاناة .. انظروا إلى كل الجرائم والفضائع التي تصبّ على المسلمين .. انظروا إلى بشاعة وفضاعة وقسوة أعداء دين الله عز وجل ، ثم انظروا إلى ما انبثق في القلوب من صبره وما سكب ا لله عزوجل فيها من يقين ، وما ثبت به الأقدام فلم تتزعزع والقلوب فلم تشك ولم ترتاب .
ثم انظروا إلى بعض الصور في هذه الوقائع : انظروا إلى إخواننا في البوسنة والهرسك .. انظروا إلى إخواننا في كشمير ، إلى إخواننا في طاجكستان وفلسطين .. انظروا إلى شرق الأرض وغربها حيث يضطهد المسلمون ، حيث يعذبون ، حيث يحاربون .(/3)
انظروا .. فماذا ترى ؟ قد يرى الرائي إذا نظر بغير منظار إيمان صورة سوداء أو شوهاء ، ويدقّ في قلبه بأس عجيب ، ويظن أن الأمر قد قضي ، وأن الأمة لابد أن تتراجع وأن تتخاذل ، وأن تعطي لأعدائها ما يشاؤون !
إلا أن الناظر بنظر الأيمان يرى مثل هذه الصور تتجلى من جديد .. إخواننا في البوسنة والهرسك الذين ظن الأعداء - الذين تكالبوا عليهم بصورة تشبه بل قد تكون أشد مما تكالب الأعداء يوم الأحزاب على النبي صلى الله عليه وسلم - وجاءهم صرب وكروات ، ومن ورائهم قوي عظمى ، ومن ورائهم دول ، ومن ورائهم حيل وسياسات ومؤامرات .. ومع ذلك مازال صمودهم وثباتهم بحمد الله عز وجل راسخاً ! بل قد رجع كثير منهم إلى الله عز وجل ، وأصبح لسان حالهم يردد : { إنا لله وإنا إليه راجعون } ، واصبح حالهم كأنه يمضى إلى تحقيق الوصف الرباني { وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً }.
ولسان حالهم يذكرنا بما قص الله علينا من شأن محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }.
هل ترونهم ينظرون إلى مدد من شرق أو غرب وهل تروهم يعتمدون على قوة مادية أو عسكرية.
ومع ذلك انظروا على ما فتح الله عليهم ومن النصر والإيمان ، وقبل ذلك إلى ما سكب في قلوبهم من اليقين والطمأنينة ، ومن رجوعهم إلى ربهم وصلتهم بمولاهم ، وخضوعهم له سبحانه وتعالى .. وإذا بهم يرجعون إلى القرآن ، وإلى حلق الذكر ، وإذا بنسائهم يمضين في طريق فيه التذكر ولبس الحجاب .. وغير ذلك من الأمور.
ثم انظروا إلى ما فتح الله عليهم ، فإذا بهم اليوم في الآونة الأخيرة ينتصرون ، ويعجب المرء كيف ينتصر الضعفاء العزل المحاصرون الذين ليس في ديارهم ماء ولا كهرباء ولا كساء ولا غذاء ، كيف يكون مثل هذا ؟ كيف ينتصرون ويفتحون فآريس وخمس مدن وقرى كرواتيه ، ويطردون عشرات الآلاف من أولئك الأراغل الأعداء ؟
كيف يثبتون هذا الثبات في سراييفو العاصمة التي كل لحظة يتهدد أصحابها وسكانها الموت ، إما برصاص وإما بقذاف وإما بجوع وإما بأية صورة من الصور.
يحصد الموت الناس حصداً ، ومع ذلك تجد الواحد منهم يقول : " ثابتون صامدون ، وبقضاء الله عز وجل راضون " .
وانظر إلى فضاعة أعداء الله عز وجل وإرهابهم وتطرفهم ، وكل الأوصاف الذميمة التي يريدون إلصاقها زوراً وبهتاناً بأهل الإسلام والإيمان هي فيهم.
وكان الناس يذكرون الصرب ، وأنهم ظلمة ، وأنهم قساة ، وأنهم طغاة ، فجدد الكروات ما أنسى سيرة الصرب ..
ونعلم قصة القرية التي أحرقوها عن بكرة أبيها ومن فيها من رجالها ونساها وأطفالها وبيوتها ، حتي أذهلوا الناس والعالم أجمع ، ومع ذلك ما فتّ ذلك في عضد أهل الأيمان ، وما رفعوا أيديهم استسلاماً ، وما قالو حسبنا هذا ! وإنما قالوا : { حسبنا الله ونعم الوكيل }.
وانظروا إلى إخواننا في كشمير اليوم ، وهم قد حوصروا في أعظم مسجد من مساجدهم " مسجد حضرة أبال " يحاصره خمسة عشرة ألف جندي ، والطائرات المروحية والقوات ، ومنع التجول ، وبعد ذلك يحصدون ، وإذا بالحصاد في بضعة أسابيع يبلغ مئات ، ومع ذلك ما يزالون صامدين ، وما يزالون في أوج مواجهتهم وجهادهم ، يتمسكون بالله عز وجل وبكتابه ، وبهدى نبيه صلى الله عليه وسلم ، ويثقون بالنصر ثقة ليس فيها شك .. حتى يقول قائد من قوادهم ، وهو من زعماءهم الكبار : " إن الجهاد في كشمير ماضٍ في طريقة حتى نهايته المنطقية ، وإن الشعب الكشميري قد وصل إلى منطقة اللا عودة " .
بل علماء الأيمان والإسلام في تلك الديار يحثون المؤمنين على الصبر والثبات والصمود ، وعلى أن لا يضعفوا وأن لا يجبنوا أمام أعداء الله عز وجل ، ويفتون بكفر من يكون عوناً للأعداء على المجاهدين والمسلمين في أرض كشمير المسلمة.
وانظروا إلى كل مكان ، وانظروا إلى إخواننا في أرض الإسراء وما قد أثلجوا به صدورنا مما يظهرون من مظاهر القوة والاستعلاء { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } .
صبر وثبات لا يتغير ولا يتبدل ، مع استقامة على أمر الله وشرع الله والصياح والهتاف : " الله اكبر .. الله أكبر ".
والأيدي المرتفعة متوضئة ، وهي ترفع في أيديها المصافح تغيرت بعض ملامح الأمة ، فاصطلحت في بعض أحوالها وأشخاصها وديارها مع الله عز وجل ، فجاءها بعض هذا النصر ، وارتسمت لها بعض مسالك التمكين ..
فالله الله في تجديد ما ذكر الله سبحانه وتعالى من هذه السنن ، وأن تكون أوثق بالله عز وجل ، أوثق بنصرة ووعده من كل شئ في هذه الأرض ومن كل قوة في هذه الدنيا ، والله لتعلمن نبأه بعد حين ، والله منجز وعده ، ومنزل نصره .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :(/4)
إذا تأمل العبد وجد الحكمة التي جاءت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، تبين لنا الطريق وتعرفنا به ، فلسنا في جهل وعماية ، بل الأمر واضح بيّن .
فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول:( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات )
فليس الطريق مفروش بالورد ، وليس على جانبيه أسباب الأمن والسلامة والسلام ، وإنما هو الطريق الذي فيه ذلك البذل والصفق مع الله عز وجل : { اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ }
إنها السنة التي ذكرها الله عز وجل بقوله : { الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } .. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }
نعم أيها الاخوة نحن في وقت عصيب ، وفي محنة شديدة ، وإخواننا في مشارق الارض ومغاربها يعانوا الأمرين من أعداء هذا الدين ، الذين تظهر فيهم الآن صورة حقيقية واضحة لا غبش فيها ، ولاشك فيها مطلقاً .. صورة تتجلى فيها صفات الكفر والكافرين ؛ لما فيهم من عداء ومن قسوة ومن حقد حسد ، ومن انعدام الإنسانية وانسلاخ الفطرة وانعدام كل معنى من المعاني الشريفة والقيم الفاضلة .. كل ذلك يتجسد واضحاً كما اخبرنا الله عز وجل به في قوله جل وعلا : { لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة }
والسؤال الذي يتبادر ألي أذهاننا ، ونختم به هذه الوقفة هو ما دورنا ؟ وماهي مهمتنا ؟ هل نحن متفرجون أم نحن مشجعون ؟
إن التشجيع لو اردنا أن نأخذه بمبدأ التشجيع الذي نعرفه في ميادين التشجيع المشهورة المعروفة هو في حقيقته موقف إيجابي ، إن المشجعين نراهم بأم أعيننا لا يجلسون على مقاعدهم ، بل كلما جرت حركة في الميدان تحركوا وقاموا ، وإذا بهم أيضاً يهتفون ، وإذا استدعي الأمر يغضبون ، وإذا استدعي الأمر بعد ذلك ربما يتحركون وينصرون أو يشتبكون.
أن هذا لم يكن منهم الأ من تحريك قلوبهم وتحرقها وحماستها ومحبتها وغيرتها .. أفيكون ذلك في أمور من اللهو أو في أمور عارضة من أسباب هذه الحياة ومن زينتها ومن زخرفها ، ولا يكون ذلك في أمر من أعظم أسس الحياة ، ومن أعظم مهمات الإنسان المسلم في هذه الحياة في أمر دينه وأمته وإخوانه المسلمين !
إنه لابد إن تنبض هذه القلوب بالمحبة ، وأن تمتلئ بالولاء والنصرة ، وأن تعظم فيها الغيرة على دين الله والحرقة والأسى والحزن على أحول الأمة ، ولا يكون ذلك ونحن ساهون لاهون ، ونحن نملاء البطون ونضحك ملء أشداقنا ، ونأكل ملء بطوننا ، وننام ملء عيوننا .. فما ذلك حال المشجعين الذين نعرفهم ؟
إن أولئك يسعون إلى الميادين لينظروا ، فاسعوا إلى أن تعلموا أخبار إخوانكم ، وأن تعرفوا أحوالهم ، وأن تكونوا بعد ذلك ورائهم قلباً وقالباً ، بدعاء في السحر وفي جوف الليل وفي أدبار الصلوات وفي سجودها ، حتى يأذن الله عز وجل بأن ينصر وأن يُمكّن .
وكونوا أيضا مع إخوانكم بأموالكم وبدعمكم وبذلكم في سبيل الله عز وجل ؛ فإن الجهاد بالمال من أعون أسباب النصر لهذه الأمة ولإخواننا المجاهدين والمضطهدين في كل مكان.
وليكن لنا من وراء ذلك أيضاً ما نتحرك به لنصرة هذا الدين ، ببيان الدروس والعبر ، وبيان المواقف المشرقة ، وبيان المواقف البطولية الاستشهادية ، التي يظهر فيها عيوب كفة القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة في مواقع شتى في أماكن عديدة .. إذا بنا نرى صوراً تنشرح لها صدور المؤمنين ، ويفرح لها أهل الأيمان عندما نرى آلاف أم من أعداء الله وهم يخشون واحداً أو اثنين إذا كبر أحدهم ، أو إذا صاح بآية من آيات القرآن الكريم ، وإذا بالصفوف تنفلّ ، وإذا بالجموع تتفرق ، وإذا بواحد أو فئة قليلة تنصر بإذن الله عز وجل كما وعد الله عز وجل في كتابة الكريم.
لابد أن ننقل هذه الأخبار المفرحة حتى يزول بعض اليأس الذي عرى النفوس وغزى القلوب ؛ فإن المؤمن لا ييأس من روح الله ، ولا ييأس من روح الله لا القوم الكافرون والقانطون ، وليس المؤمن بكافر ولا قانط ، إنه واثق بنصر الله وثقته بالله عز وجل عظيمة.(/5)
ينبغي أن نلقن الأمة وأن نشيع في صفوفها هذه الدروس ، وينبغي أن نرتقي بمستوانا ومستوى من حولنا ومستوى من حولنا عن سفاسف الأمور وصغائرها ؛ فإنه لا يليق أن تكون الأمة محاصرة ، وأن يكون أعداء الله قد جدوا لحربها وفي إنزال البلاء بها ، ثم يكون انشغالنا بالدون من الأمور ، وبالتافهة من القضايا ، دون أن تكون مهمتنا هي أن ننصر ديننا ، وأن نحمي أمتنا ، وأن نرعى نشأنا ، وأن ننشئ جيلنا نشأة تجدد لنا ذكر أبى بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة وأئمة الأمة من سلفها رضوان الله عليهم.
إن بإمكاننا أن نظهر في نفوسنا وفي أسرنا وفي مجتمعاتنا نصر الله عز وجل فيتنزل علينا باذنه سبحانه وتعالى النصر { إن تنصروا الله ينصركم }
ونصركم دين الله عز وجل يكون أول شئ باستقامتكم على أمره .. بالتزامكم حكمه .. باتباعكم هدى النبي صلى الله عليه وسلم.
والثبات الثبات .. لاشك ولا ريب ، ولا مداهنة ولا نفاق ، ولا تراجع ولا ضعف ، وانما هو المضي وذلك هو الذي كان ويكون في كل وقت وآن ، كلما ازدادت المحنة وكان الأيمان عظيماً كلما ازداد أثر هذا الإيمان وتجلت صورة وظهرت آثاره وأشرقت أنواره ، فإذا بها تبدد بعد ذلك كلما يعتري النفوس من ضعف أو خور أو ذلة أو قنوط ويأس ..
وذلك ما ينبغي أن يكون فيما بيننا ، وأن نشيعه في صفوفنا ؛ فإن هذه الأمة لم ولن تهزم قط مادامت متمسكة بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
وفي أتون المحنة وشدتها في وقعة الأحزاب كبّر النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع خبر خيانة اليهود ، وكان خبراً كالطعنة النجلاء من الخوف قال : ( الله أكبر الله أكبر أبشروا أبشروا ) .
البشارة بأنه علم أن الأمة مؤمنة بربها ، وواثقة بالرسول ؛ ولأنها أمة ملتحمة متلاصة متوحدة فلا خوف عليها من أعداءها ، وانما الخوف من أنفسنا .. من ضعف إيماننا .. من كثرة معاصينا .. من تفرق صفوفنا .. من مجاهرتنا بالمعصية لله عز وجل .. من إعطائنا ولاءنا لغير الله سبحانه وتعالى ، ولغير عباد الله المؤمنين ..
هنا يكمن الخطر ، وهنا تأتي الثغرات .. فالله الله في دينكم ، والله الله في نصرة إخوانكم ، والله الله أن يؤتي هذا الدين من قبلكم ، فليكن كل منكم على ثغرة ، وليكن كل منكم قائم بأمر الله عز وجل في نفسه أهله ومجتمعه ؛ حتى يعجّل الله عز وجل بالنصر والتمكين إنه الولي على ذلك والقادر عليه .(/6)
... ...
الصحابة ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- من هم الصحابة. 2- عدالة الصحابة. 3- سمات رسول الله. 4- أسباب تميز الصحابة. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
قال تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم [التوبة :100].
يقوم الإمام الطحاوي رحمه الله: ونحب أصحاب رسول الله . ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.
فمن هم الصحابة؟ وما هي مكانتهم؟ وما سماتهم؟ وما موقف المسلم منهم؟
الأصحاب: جمع صاحب والصاحب اسم فاعل من صحبه يصحبه وذلك يقع على قليل الصحبة وكثيرها([1]).
اصطلاحا: والصحابي هو من لقي النبي وكان مسلما ومات مسلما من غير ارتداد طالت صحبته أم قصرت([2]).
وينبغي أن تعلم:
أن أفضل وخير أمة محمد هم الأصحاب رضي الله عنهم جميعا للحديث: ((خير أمتي قرني))([3]).
ولن يبلغ أحد ما بلغه الأصحاب من المنزلة عند الله عز وجل للحديث: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه))([4]).
إن علماء الإسلام أجمعوا على أن الصحابة كلهم عدول ولا يجوز للمسلم أن ينتقصهم بل الواجب ذكر محاسنهم والإعراض عما شجر بينهم.
يقول الإمام أحمد: (إذا رأيت أحدا يذكر أصحاب رسول الله بسوء فاتهمه على إسلامه)([5]). وللحديث: ((أن الله اختارني واختار لي أصحابا جعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصحابا فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا))([6]).
وأما ما هي مكانتهم؟:
فإنهم مرضي عنهم رضاء ثابتا في الكتاب والسنة :
في الكتاب قوله تعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليه وأثابهم فتحا قريبا [الفتح:18].
وفي السنة: ((الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي من أحبهم فقد أحبني، ومن أبغضهم فقد أبغضني، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه))([7]).
والأصحاب كلهم عدول ولا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة وهذا ما أجمع عليه السلف والخلف. والطعن فيهم هو طعن في المنقول عنهم من كتاب وسنة. يقول أبو زرعة: (إذا رأيت الرجل ينتقص الأصحاب فاعلم أنه زنديق وذلك لأن الرسول حق، والقرآن الكريم حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة فالجرح بهم أولى)([8]).
والصحابة هم الذين حملوا راية الإسلام إلى الدنيا كلها بجهادهم وتضحياتهم وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأبناء غضبة لله ورسوله، ونحن مدينون لهم بإسلامنا وهدايتنا بعد الله عز وجل. جزاهم الله عنا خير الجزاء، وأثابهم أعظم الثواب وأكرمه، يقول ابن حزم: (الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعا لقوله تعالى: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى . فثبت أن جميعهم من أهل الجنة وأنه لا يدخل أحد منهم النار)([9]).
وأما سمات أصحاب رسول الله :
قوة في اليقين: لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة، حضر أبا ذر الموت بكت امرأته فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: أبكي لأنه لا يدان لي بتغيبك وليس لي ثوب يسعك، قال: فلا تبكي، فإني سمعت رسول الله يقول لنفر أنا منهم: ((ليموتن منكم رجل بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين. وليس من أولئك النفر رجل إلا قد مات في قرية وجماعة من المسلمين وأنا الذي أموت بفلاة، والله ما كذب ولا كذّبت فأبصري الطريق)). فقالت: أنى وقد انقطع الحاج وتقطعت الطرق! فكانت تشد إلى كثيب تقوم عليه تنظر ثم ترجع إليه فتمرضه، فبينما هي كذلك إذا هي بنفر، فألاحت بثوبها فأقبلوا، قالوا: مالك؟ قالت: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه؟ قالوا: ومن هو؟ قالت: أبو ذر ،ففدوه بآبائهم، وأمهاتهم حتى جاؤوه، فقال: أبشروا، فحدثهم الحديث الذي قال رسول الله ([10]).
الأخذ بالعزائم والبعد عن الرخص:
في الطاعات: عبد الله بن الحارث الباهلي: أتى النبي فقال: ((يا رسول الله أنا الرجل الذي جئتك عام الأول، فقال: فما غيّرك وقد كنت حسن الهيئة؟ قال: ما أكلت طعاما إلا بليل منذ فارقتك، فقال رسول الله : ((لم عذبت نفسك صم شهر الصبر ويوما من كل شهر قال: زدني فإن بي قوة، قال: ((صم يومين)) قال: زدني، قال: ((صم من الحرم واترك))([11]). أي الأشهر الحرم ذو العقدة، وذو الحجة والمحرم ورجب.(/1)
في طلب الشهادة: دخل عمر المسجد والنعمان بن مقرن يصلي فقعد إلى جنبه فلما قضى صلاته، قال: إني أريد أن أستعملك، فقال النعمان: أما جابيا فلا ولكن غازيا، قال عمر: فأنت غاز فوجهه إلى أصبهان، فلما وصل وجمع جنده قال لهم: إني هاز لوائي ثلاث مرات، فأما الهزة الأولى: فقضى رجل حاجته وتوضأ، وأما الثانية: فنظر رجل في سلاحه وفي نعله فأصلحه، وأما الثالثة: فاحملوا على العدو وإني داع بدعوة فعزمت على كل امرئ منكم لما أمّن عليها: اللهم أعط اليوم النعمان شهادة في نصر المسلمين وافتح عليهم. فكان أول صريع وفي رواية قال: اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام وذل يذل به الكفار ثم اقبضني إليك بعد ذلك على الشهادة، أمّنوا يرحمكم الله. فأمّنا وبكينا([12]).
لا إيثار في الجنة: لما خرج رسول الله إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعا الخروج معه. فأمر النبي أن يخرج أحدهما، فاستهما، فقال خيثمة لابنه سعد رضي الله عنهما: إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم، فأقم مع نسائك، فقال سعد: لو كان غير الجنة لآثرتك به إني أرجو الشهادة في وجهي هذا فاستهما، فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله إلى بدر فقتله عمرو بن عبد وُدّ([13]).
تحمل الشدائد في سبيل الله سبحانه:
صبر على إيذاء المشركين وضربهم: عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله إن كانوا ليضربون أحدهم يجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به([14]).
صبر على الجوع في سبيل الله: عن أبي جهاد ، وكان من أصحاب النبي ، فقال له ابنه: يا أبتاه رأيتم رسول الله وصحبتموه والله لو رأيته لفعلت، فقال له أبوه: اتق الله وسدد، فوالذي نفسي بيده، لقد رأيتنا ليلة الخندق وهو يقول: ((من يذهب فيأتينا بخبرهم، جعله الله رفيقي يوم القيامة))، فما قام من الناس أحد من صميم ما بهم من الجوع والقر حتى نادى في الثالثة: ((يا حذيفة))([15]).
وعن ابن مسعود ، قال: نظر رسول الله إلى الجوع في وجوه أصحابه، فقال: ((أبشروا فإنه سيأتي عليكم زمان يغدى على أحدكم بالقصعة من الثريد ويراح عليه بمثلها)) قالوا: يا رسول الله نحن يومئذ خير، قال: ((بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ))([16]).
الإنفاق والبذل في سبيل الله:
أ- في تجهيز الجيوش: بعث النبي إلى عثمان يستعينه في جيش العسرة فبعث إليه عثمان بعشرة آلاف دينار فصبت بين يديه فجعل النبي يقلبها بين يديه ويقول: ((غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ما يبالي عثمان ما عمل بعد هذا))([17]).
ب-في إطعام الفقراء: بينما عائشة رضي الله عنها في بيتها إذ سمعت صوتا في المدينة، قالت: ما هذا؟ قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل كل شيء. قال وكانت سبع مائة بعير، قال: فارتجت المدينة من الصوت، فقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله يقول: ((قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا)) فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فقال: لئن استطعت لأدخلنها قائما، فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله([18]).
الحب الخالص لله وللرسول : حب ملأ عليهم جوانحهم، فما من ذرة في أبدانهم إلا وقد غمرها الحب، حب اختلط بالدم والعصب والعظم.
وهذا خبيب بن عدي رفعه المشركون على خشبة ليصلبوه، نادوه يناشدونه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه، فضحكوا([19]).
وكذا قال زيد بن الدثنة وقد اجتمع رهط من قريش لقتله فيهم أبو سفيان، فقال له أبو سفيان – حين قدم للقتل – أنشدك الله يا زيد: أتحب أن محمدا الآن عندنا فنضرب عنقه. وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي.
فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ثم قتله نسطاس([20]).
وفي غزوة أحد كسرت رباعيته اليمنى السفلى وجرحت شفته السفلى ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ووقع في حفرة، وأخذ علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة بن عبد الله حتى استوى قائما ومصّ مالك بن سنان - والد أبي سعيد الخدري - الدم عن وجه رسول الله : ثم أزدرده (أي شربه) فقال رسول الله : ((من مس دمي دمه لم تصبه النار))([21]).
وهذه امرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله بأحد فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله ؟ قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أروني أنظر إليه. فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (أي صغيرة)([22]).
العالمية في حبهم ودعوتهم: إن مما مزق الصف المسلم هي الإقليمية البغيضة النتنة التي زين الشيطان للبعض أن يجعلها ضرورة لخدمة الإسلام فأحاطوه بالشرعية بعد لي الآيات والأحاديث عن مرادها فضلوا وأضلوا.(/2)
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: إن فيّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية فلوددّت أن جميع الناس يعلمون ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح ولعلي لا أقاضي إليه أبدا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح ومالي به من سائمة([23]).
وعن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع رسول الله ونحن ستة نفر، فقال: المشركون: اطرد هؤلاء عنك فإنهم وإنهم (أي واجعل لنا مجلسا خاصا بنا) قال: فوقع في نفس النبي من ذلك ما شاء الله فحدث به نفسه (أي رجاء إسلامهم) فأنزل الله عز وجل: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ([24]). وفي رواية قالوا: اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك([25]).
والمتأمل في أحوال المسلمين يجد الفرقة والشتات والتمزق فيأتي دعاة الإقليمية فيزيدوا الفرقة فرقة، والضياع ضياعا: الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [الكهف:104].
الاستعلاء على المناصب: وإذا ترحل الإخلاص من القلوب، انحرف العبد في عبوديته فيكون عبدا لغير الله سبحانه من درهم أو دينار أو منصب أو جاه. ولما كان الكذب سمة غير المخلصين لذا تجد المهزلة في وصف التكالب على الدنيا، واستباحة الدماء جهادا وإحقاقا للحق.
قام أبو بكر من الغد حين بويع فخطب الناس فقال: يا أيها الناس، إني قد أقلتكم بيعتكم (أي رددت عليكم بيعتكم) إني لست بخيركم فبايعوا خيركم. فقاموا إليه فقالوا: يا خليفة رسول الله أنت – والله – خيرنا([26]).
وذلك لعلمهم أن الأمر عظيم، والتبعة كبيرة، والسؤال عنها خطير، والعذاب شديد لمن ضيع. وللحديث: ((ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله مغلولا يوم القيامة يده إلى عنقه فكه بره أو أوثقه إثمه، أولها سلامة، وأوسطها ندامة وآخرها خزي يوم القيامة))([27]).
وأما ما هي الأسباب التي أدت إلى ظهور أصحاب رسول الله بهذه السمات؟
1- الوحي: الذي كان يرصد كل حركة وكل همسة وكل نجوى، وتنزل آيات الله تتلى في كشف أستار النفوس وما فيها من عوار أو صلاح، الأمر الذي جعل الأصحاب رضوان الله عليهم تحت رقابة صارمة لا تعرف المحاباة، فكانت ثمرتها الاستشعار لرقابة الله سبحانه، والانضباط في السر والعلن، والحذر من الوقوع في المخالفة فكل هذا وغيره كان ببركة الوحي الذي استشعرت أم أيمن فقده وانقطاعه، وقد قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله : ((انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله يزورها، فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك، أما تعلمين أن ما عند الله تعالى خير لرسول الله ، قالت: أنا لا أبكي لذلك لأني أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فجعلا يبكيان معها))([28]).
أما وأن الوحي قد انقطع فليدع الإخلاص المنافقون وليدع الصدق الكاذبون ففي الأمر سعة ولا تعرف الحقائق إلا بعد الفواجع: نسأل الله العافية.
2- وجود رسول الله : كان له الأثر العظيم في وجود أصحاب رسول الله بهذه السمات حيث:
أ / القدوة: والتطبيق العلمي الواقعي فقد كان قرآنا يمشي على الأرض ووصفته عائشة رضي الله عنها فقالت: ((كان خلق نبي الله القرآن))([29]).
ب/ المعجزات الحسيّة: التي أيد الله بها رسوله من نبع الماء بين أصابعه وتكثير الطعام وحنين الجذع والأخبار بأمور مستقبلية وكشف لنوايا القلوب، كل هذا كان يزيد الأصحاب إيمانا ويقينا وهم يرون ذلك رأي العين.
ج/ الشخصية التي تجتمع عليها القلوب: فلا تنازع ولا اختلاف ولا داء الأنا الذي ورثه الكثيرون عن الشيطان: أنا خير منه [الأعراف:12]. كل ذلك الأصحاب في منأى عنه ونجاة وانشغال بما هو أنفع لدينهم وآخرتهم ودعوتهم.
3.المحك الذي تتميز عنده القلوب :
حيث الشدائد والمحن، وأجواء المواجهة والتحدي كل هذا كان لا يسمح بدخول الأدعياء والمنافقين في صفوفهم عندما كانوا في مكة مستضعفين.
الجهاد الذي كان يفرض على كل قادر سليم أن يؤدي دوره في الدفاع عن الإسلام ونشره في أرجاء الدنيا.
وقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة العسرة ونظرة المجتمع المسلم إليهم واعتزاله لهم، في مثل هذه الأجواء، تتكشف حقائق القلوب وتعرف للرجال أقدارهم فليس الأمر تشدق بعبارات رنانة جوفاء – وخيالات وتأملات خواء. لقد كان الأمر جدا فأصبح هزلا.
وضوح الأولويات: لقد كان أصحاب رسول الله واضحة عندهم المعالم من تقديم لقول الله ورسوله وحرص على وحدة أمة محمد وتوجيه الطاقات لإزالة المنكر الأكبر واستشعار خطر العدو المشترك وتقديم للأصول على الفروع والفرائض على السنن وجواز تعدد الصواب في دائرة الشرع والبعد عن اختلاف القلوب والحرص على الجانب العملي والمسارعة في الخيرات وعالمية الدعوة والحب والمساعدة.
البعد عن المهاترات والنزاعات:(/3)
والتي لا تزيد الأمة المسلمة إلا ضعفا، وهوانا إلى هوانها وهم الأمل المرجي بعد الله تعالى أن يأخذوا بهذه الأمة إلى الوحدة والعزة والهداية.
إذا كنت أعمى فكيف تقود غيرك، وفاقد الشيء لا يعطيه، والمربي عليه أن يكون قد نال نصيبه من التربية قبل ذلك. ومن تسود قبل أوانه لم تفارقه الحموضة.
([1])حكم سب الصحابة ص 41 .
([2])تيسير الأصول ص 287 ، وحكم سب الصحابة قول ابن تيميه ص 41 .
([3])البخاري .
([4])البخاري .
([5])حكم سب الصحابة ص 11 .
([6])الطبراني .
([7])الترمذي وأحمد .
([8])حكم سب الصحابة ص 12.
([9])حكم سب الصحابة ص 26 .
([10])حياة الصحابة ، مجلد 3 ص 66 .
([11])رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والبيهقي بسند جيد .
([12])حياة الصحابة ، مجلد ص 497- 498 .
([13])حياة الصحابة ، مجلد 1 ص 498-499 .
([14])حياة الصحابة ، مجلد 1 ص 285 .
([15])حياة الصحابة ، مجلد 1 ص 301 .
([16])حياة الصحابة ، مجلد 1 ص 301 .
([17])حياة الصحابة ، مجلد 2 ص 152-153 .
([18])حياة الصحابة ، مجلد 2 ص 153 .
([19])حياة الصحابة ، مجلد 1 ص 510 .
([20])حياة الصحابة ، مجلد 1 ص 508 .
([21])تهذيب سيرة ابن هشام 182 .
([22])تهذيب سيرة ابن هشام ص 190 .
([23])حياة الصحابة ، مجلد 2 ص 415 – 516 .
([24])حياة الصحباة ، مجلد 2 ص 459-460 .
([25])حياة الصحابة ، مجلد 2 ص 17 .
([26])حياة الصحابة ، مجلد 2 ص 17 .
([27])مسلم .
([28])مسلم .
([29])مسلم . ... ...
... ...
... ...
... ...(/4)
الصحابة1
1450
الصحابة
عبد الرحمن عبدالعزيز السديس
مكة المكرمة
24/4/1417
جامع الفرقان
ملخص الخطبة
1- سلامة صدورنا على أصحاب النبي ومحبتهم. 2- ثناء القرآن على الصحابة ووعده لهم بالجنة. 3- قول الإمام مالك بتكفير من كره الصحابة فهماً منه لبعض الآيات فيهم. 4- قول ابن حزم بدخول جميع الصحابة الجنة فهماً منه لبعض الآيات فيهم.
الخطبة الأولى
عباد الله: أن من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم على أصحاب رسول الله كما وصفهم الله به في قوله: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم وطاعة لرسول الله في قوله: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) فهم يترضون عن الصحابة جميعاً ولا يحملون غلاً في قلوبهم لا حد منهم كما هو حال الذين في قلوبهم مرض، لا يسبون أحد منهم ويكفون عما شجر بينهم من خلاف ويعتقدون أنهم جميعاً مجتهدون، فالمصيب منهم له أجران، والمخطأ له أجر واحد، وذنبه مغفور بفضل سابقته وجهاده مع رسول الله ، فلهم من الحسنات الماحية للسيئات الشيء الكثير قال الله تعالى في فضائلهم لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم أنه بهم رؤوف رحيم فصرح جل وعلا ها هنا بتوبته على جميع من شارك في جيش العسرة، وهو الذي يقول فيه كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا ولقد رأيتني وما أرى في المدينة أحداً تخلف عن رسول الله إلا منافق معلوم النفاق أو رجلاً ممن عذر الله عز وجل، فهم الذين ذهبوا مع رسول الله يوم أن قعد عنه المنافقون وخذلوا عنه قائلين لا تنفروا في الحر، وكانت غزوة تبوك في الصيف الشديد الحرارة حين طابت الثمار وبعدت شقة السفر من المدينة إلى تبوك كما قال تعالى: ولكن بعدت عليهم الشقة وقال تعالى في فضائل الصحابة: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم فصرح جل وعلا في هذه الآية بأنه قد رضي على المهاجرين والأنصار وأنه أعد لهم الجنة، ولذلك فأصل السنة والجماعة إذا ذكروا أحداً من أصحاب النبي ترضوا عليه، وقال تعالى في فضائلهم محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار فأثنى الله عليهم بشدتهم على الكفار وهم في ذلك يمتثلون قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة وقد أثنى الله جل وعلا على من كان هذا شأنهم بقوله فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ثم قال جل وعلا في وصف أصحاب محمد : رحماء بينه وهم بذلك يمتثلون قوله : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) وقوله: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان بشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه)) ثم قال جل وعلا: تراهم تركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود وهو السمت الحسن والخشوع والتواضع يبدو على وجوههم.
قال جل وعلا: ذلك مثلهم في التوراة أي ما سبق ذكره من صفاتهم هي صفاتهم المذكورة في التوراة ثم قال: ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره أخرج شطئه أي أخرج فراخه فآزره أي شده فاستغلظ أي شب وطال، فاستوى على سوقه يعجب الزراع أي فكذلك أصحاب محمد آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطؤ مع الزرع ليغيظ به الكفار أي ليغيظ الله بالصحابة الكفار، ومن هنا انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه القول بتكفير من يبغضون الصحابة رضي الله عنهم، قال رحمة الله عليه: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظه الصحابة فهو كافر.
قال ابن كثير حمه الله ووافقه كثير من العلماء على ذلك ثم قال جل وعلا: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً فذنوبهم مغفورة وحسناتهم جزيلة مبرورة، فرحمهم الله ورضي عنهم، نصروا رسول الله وآمنوا به وعزروه واتبعوا النور الذي أنزل معه فهم المفلحون حقا، اللهم أرض عنهم، والعن من لعنهم أو أبغضهم، اللهم اجمعنا بهم في دار كرامتك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(/1)
فيا عباد الله من الآيات العظيمات التي ذكرها ربنا جل وعلا في الثناء على أصحاب محمد قوله سبحانه: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير قال الإمام ابن حزم رحمة الله عليه وقد دلت هذه الآية على أن جميع الصحابة في الجنة لأنهم إما منفق قبل الفتح ومقاتل أو منفق بعد الفتح ومقاتل، وقد وعد الله الفريقين بالجنة بقوله سبحانه: وكلاً وعد الله الحسنى والحسنى هي الجنة.
ومن ذلكم قول الله سبحانه: لقد رضى الله على المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة وقوله سبحانه: في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ويدخل في هذه الآية دخولاً أولياء أصحاب النبي .
وقوله سبحانه: لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ومن ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم من قوله: ((وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).
والآيات في مدح والثناء على أصحاب النبي والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة تكفي من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فنسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلي أن يحشرنا في زمرتهم ويجمعنا بهم في دار كرامتهم.
اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، سبحانك ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(/2)
الصحبة يا رسول الله ... ...
سعود الشريم ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- مؤامرة قريش لقتل الرسول ليلة الهجرة. 2- نجاة الرسول من المؤامرة. 3- تضحية علي ونومه في فراش النبي. 4- رسول الله وصاحبه في غار ثور. 5- سراقة بن مالك يلحق برسول الله ليقتله. 6- رسول الله يبارك شاة أم معبد. 7-استقبال الأنصار للرسول. 8- التأريخ بالهجرة. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، فبتقوى الله ـ عز وجل ـ تجتمع الكلمة، وتتم النعمة، وتتجلى الحكمة.
أيها المسلمون، إن في دنيا الناس، ذكريات لا يمل حديثها، ولا تسأم سيرتها، بل قد تحلو أو تعلو إذا أعيدت وتكررت، كما يحلو مذاق الشهد وهو يكرر، ومن الذكريات التي لا يمل حديثها، ولا تسأم سيرتها، حياة محمد إمام البشرية، وسيد ولد آدم فهي من الذكريات الغوالي، التي تتجدد آثارها وعظاتها، كلما سلك المرء سبيله إلى الاعتبار والادكار، والعبد المؤمن إذ يغشى معالم سيرته فهو كعابد يغشى مصلاه، ومن حسن حظ المؤمن، أنه ما قلب سيرة المصطفى يوما فأخطأ دمع العين مجراه، وفي أيام محمد الجليلة النبيلة أيام خوالد، ما تزال تتضوأ على الأيام. وتتألق في غرة الزمان، ولعل من أسطعها وأروعها، يوم الهجرة، الذي تهب علينا نسمات ذكراه، في كل عام من أعوام الزمن، ومن شواهد عظم حادث الهجرة أنه يزداد بهاء وسناء كلما تناوله العرض والبحث، كالذهب والإبريز؛ كلما عرضته على النار لتمحصه، ازداد إشراقا وصفاء، وهجرة المصطفى كانت فاتحة الأمل، وبارقة النصر، وطريق العودة له ولأصحابه إلى مكة فاتحين ظافرين، كما قال ـ تعالى ـ: إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85]. يعني إلى مكة.
عباد الله، إننا هنا، نعرض لمحات من هجرة المصطفى ، في الوقت الذي يشهد فيه المسلمون نكبات وويلات، تعصر قلوبهم، وتمزق صدورهم، وأمتهم وعقيدتهم وحرماتهم ومقدساتهم، تستصرخ ولا مجيب، وتطالب المسلمين بتضحيات وفداء وبذل. والهجرة النبوية، تعطينا في هذا المجال، قدوة وأسوة، ففيها تتجلى دروس ودروس، من التضحية والفداء والبذل، فهذا رأس الأمة، وإمام الملة صلوات الله وسلامه عليه يتحمل العبء الثقيل، في سبيل الدعوة إلى الله، وإعلاء كلمته، ويشتط المجرمون من أعدائه في مقاومته، بحيلة الوعد والإغراء، ثم بتسليط الغوغاء والسفهاء، ثم بالتآمر الدنيء، الذي ينتهي إلى الإجماع على اغتياله بلا ارعواء وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
أيها المسلمون، لما رأى المشركون أصحاب رسول الله قد تجهزوا، وخرجوا بالذراري والأطفال، وساروا بهم إلى المدينة، خافوا خروج رسول الله إليهم، ولحوقه بهم، فاشتد عليهم أمره، ولم يبق بمكة من المسلمين، إلا رسول وأبو بكر وعلي ـ رضي الله عنهم ـ وخلا من اعتقله المشركون كرها، فلما كانت ليلة همّ المشركون بالفتك برسول الله ، جاء جبريل بالوحي من عند ربه ـ تبارك وتعالى ـ فأخبره بذلك، وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة. وجاء رسول الله إلى أبي بكر نصف النهار، في ساعة لم يكن يأتيه فيها، فقال له: ((أُخْرِجْ من عندك)) فقال: إنما هم أهلك يا رسول الله، فقال: ((إن الله قد أذن لي في الخروج))، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: ((نعم))، فقال أبو بكر، فخذ ـ بأبي وأمي ـ إحدى راحلتي هاتين فقال له رسول الله : ((آخذها بالثمن))[1].
وأمر عليا أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، واجتمع أولئك النفر من قريش، يتطلعون من صِيْر[2] الباب ويرصدونه، ويأتمرون أيهم يكون أشقاها، فخرج رسول الله فأخذ حفنة من البطحاء، فجعل يذروه على رؤوسهم وهم لا يرونه وهو يتلو وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس:9]. ومضى رسول الله إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في داره ليلا، ثم مضى رسول الله وأبو بكر إلى غار ثور فدخلاه، وضرب العنكبوت على بابه، وجدَّتْ قريش في طلبهما، وأخذوا معهم القافلة، حتى انتهوا إلى باب الغار فوقفوا عليه، فقال أبو بكر، يا رسول الله: لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا، فقال رسول الله يا أبو بكر ما ظنك باثنين، الله ثالثهما[3].(/1)
ولما يئس المشركون من الظفر بهما، جعلوا لمن جاء بهما دية كل واحد منها مائة ناقة بدل كل واحد منها، فجدّ الناس في الطلب، فلما مروا بحي مدلج، بصر بهم سراقة بن مالك فركب جواده وسار في طلبهم، فلما قرب منهم سمع قراءة النبي ، ثم دعا عليه رسول الله ، فساخت يدا فرسه في الأرض، ثم قال سراقة: ادعو الله لي، ولكما علي أن أرد الناس عنكما، فدعا له رسول الله فأطلق، ورجع يقول للناس: قد كفيتم ما هاهنا[4].
ومر رسول الله في مسيره ذلك بخيمة أم معبد، فقال عندها، ورأت من آيات نبوته في الشاه وحلبها لبنا كثيرا في سنة مجدبة، ما بهر العقول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ[5].
وقد كان بلغ الأنصار مخرجه من مكة، وقصده المدينة، وكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة، ينتظرونه أول النهار، فإذا اشتد حر الشمس، رجعوا على عادتهم إلى منازلهم، فلما كان يوم الاثنين، ثاني عشر ربيع الأول، على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة، خرجوا على عادتهم، فلما حَمِىَ حر الشمس رجعوا، وصعِد رجل من اليهود على حصن من حصون المدينة لبعض شأنه، فرأى رسول الله وأصحابه، فصرخ بأعلى صوته، يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدّكم الذي تنتظرونه، فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول الله وسمعت الرجة والتكبير، وكبر المسلمون فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه فتلقوه، وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه. وجاء المسلمون يسلمون على رسول الله وأكثرهم لم يروه بعد، وكان بعضهم أو أكثرهم، يظنه أبا بكر، لكثرة شيبه، فلما اشتد الحر، قام أبو بكر ، بثوب يظلل على رسول الله فتحقق الناس حينئذ رسول الله [6].
بذلك كله ـ أيها المسلمون ـ يتضح موقف هو أعظم المواقف، التي وقفها رسول الله ضد العدوان فغير به مجرى الأحداث، وضيع على خصومه فرصة الانتقام، وأحبط مسعاهم، وبلبل أفكارهم، وأسفر عن مبلغ تأييد الله له، وحمايته من كيد الكائدين، وطيش الظلمة الجاحدين.
أيها الناس، بمثل هذه السيرة العطرة، تتجلى الخواطر، لننهل منها دروسا عظيمة، عميقة الدلالة، دقيقة المغزى، بعيدة الأثر في نفوس الكرام من أبناء الملة. ومن واجب المسلمين أن يحسنوا الانتفاع بها، عن طريق التذكر المفضي إلى العمل بها: إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]. ومهما تتبارى القرائح، وتتحبر الأقلام، مسطرة فوائد الهجرة، فستظل جميعا كأن لم تبرح مكانها، ولم تحرك لسانها، وقد يعجز عن حصرها كثير من الناس. قال شيخ الإسلام، الإمام محمد بن عبد الوهاب المجدد لما اندرس من معالم الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ قال في حادث الهجرة: (وفيها من الفوائد والعبر ما لا يعرفه أكثر من قرأها). انتهى كلامه ـ رحمه الله ـ.
ولعل من أبرز الدروس المستقاة من حادث الهجرة، هو أن صاحب الدين القويم والعقيدة الصحيحة، ينبغي ألا يساوم فيها، أو يحيد عنها، بل إنه يجاهد من أجلها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وإنه ليستهين بالشدائد والمصاعب – تعترض طريقه عن يمين وشمال – ولكنه في الوقت نفسه، لا يصبر على الذل يناله، ولا يرضى بالخدش يلحق دعوته وعقيدته.
ويلوح لنا في حادث الهجرة خاطر آخر، يتعلق بالصداقة والصحبة، فالإنسان في هذه الحياة لا يستطيع أن يعيش وحيدا منفردا، بل لابد من الصديق يلاقيه؛ ويناجيه ويواسيه، يشاركه مسرته، ويشاطره مساءته. وقد تتجلى هذه الصداقة والصحبة في تلك الرابطة العميقة، التي ربطت بين الرسول وبين أبي بكر .
لقد أصبحت علاقات الكثيرين من الناس في هذا العصر، تقوم لعرضٍ أو لغرض، وتنهض على رياء أو نفاق، إلا من رحم الله، والأمة المسلمة اليوم أحوج ما تكون على عصبة أهل الخير، التي تتصادق في الله، وتتناصر على تأييد الحق، وتتعاون على البري والتقوى الأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
وخاطر ثالث يتجلى من ذكر هذه الحادثة، وهو أن الله ينصر من ينصره، ويعين من يلجأ إليه ويعتصم به ويلوذ بحماه، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن المخلص، الموقن بما عند الله، حين تنقطع به الأسباب، وحين يخذله الناس، وبعض الأغرار الجهلاء يرون مثل ذلك فرارا وانكسارا، ولكنه - في الحقيقة - كان عزا من الله وانتصارا: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40]. وبم نصره الله؟ نصره بأضعف جنده وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]. نصره بنسيج العنكبوت [قصة العنكبوت حسنها الحافظ ابن حجر رحمه الله، انظر زاد المعاد بتحقيق الأرناؤوط]. وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41].(/2)
وخاطر رابع؛ يشير إلى أن الشباب إذا نبتوا في بيئة الصلاح والتقوى، نشؤوا على العمل الصالح، والسعي الحميد، والتصرف المجيد، والشباب المسلمون إذا رضعوا رحيق التربية الدينية الكريمة، كان لهم في مواطن البطولة والمجد، أخبار وذكريات. فعلي بن أبي طالب لم يتردد في أن ينام على فراش الرسول ، وهو يعلم أن سيوف المشركين تستعد للانقضاض على النائم فوق هذا الفراش، يتغطى ببردته، في الليلة التي اجتمع فيها شياطين الكفر والغدر، ليفتكوا برسول الله ، ويالها من نومة تحيطها المخاوف والأهوال، ولكن: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ [يوسف:64].
أيها المسلمون، هكذا تعطينا الهجرة اليوم ما يعظنا في حاضرنا، وينفعنا في أولانا وأخرانا، وهناك اليوم في أرجاء المعمورة إخوان لنا مهاجرون مسلمون، أرغموا على ترك ديارهم وأوطانهم، بعد أن فعل بهم الكفرة الأفاعيل، وبعد أن تربصوا بهم الدوائر، ووقفوا لدعوة النور في كل مرصد، يقطعون عليها الطريق، ويعذبون أهلها العذاب الشديد، لا لشيء إلا لأنهم قالوا ربنا الله، فهاجروا كرها، وأخرجوا كرها، فهم يهاجرون من موطن لآخر، إقامة لدين مضطهد، وحق مسلوب في فلسطين، وفي البوسنة والهرسك، وفي كشمير، وإريتريا، وغيرها من بلاد المسلمين.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وقفوا وقفة المهاجر بنفسه، وإن لم يهاجر بحسه، فلنهاجر إلى الله ـ تعالى ـ بقلوبنا وعقولنا وأعمالنا ولنلجأ إلى الله ليكون ناصرنا ومؤيدنا إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران :160].
[1] أخرجه البخاري ح (2138).
[2] الصِّيْر : شَقّ الباب (القاموس، مادة صير).
[3] أخرجه البخاري ح (4663) ، ومسلم ح (2381).
[4] أخرجه البخاري ح (3615) ، ومسلم ح (2009).
[5] انظر قصة أم معبد في معجم الطبراني الكبير ح (3605) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/58) : وفي إسناده جماعة لم أعرفهم. وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/9-10) وقال : صحيح الإسناد. قال الذهبي: ما في هذه الطرق شيء على شرط الصحيح. لكن للقصة شواهد تقويها ، ولذلك حسنها الألباني ، انظر : فقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني ص 168 حاشية (1).
[6] أخرجها البخاري ح (3906) في قصة طويلة. ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على طريقه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، لقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي الهجري، منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، حيث جمع الناس إبان خلافته، فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ، فقال بعضهم: يبدأ من مولد النبي ، وقال بعضهم: يبدأ من بعثته، وقال آخرون: يبدأ من هجرته، وقال بعضهم: يبدأ من وفاته، ولكنه رجح أن يبدأ من الهجرة، لأن الله فرق بها بين الحق والباطل، فجعل مبتدأ تاريخ السنين من الهجرة، ثم تشاوروا من أي شهر يبدؤون السنة فقال بعضهم: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي مهاجرا إلى المدينة، واتفق رأي عمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم ـ على ترجيح البداءة بالمحرم؛ لأنه شهر حرام، ويلي ذا الحجة، الذي به تمام أركان الإسلام وهو الحج.
فعلينا جميعا أيها المسلمون، أن نأخذ بالتاريخ الهجري، فأعداء الله حريصون على أن يمسخوا الأمة المسلمة في كل شؤونها، حتى في تسمية الشهور والأعوام وإن استبدال تاريخ الكفار بالتاريخ الهجري عدول عن الطريق السوي، والمسلك القويم، وتشبه بالكفرة والمشركين، والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة في الأمور الباطنة، على وجه المسارقة والتدريج الخفي، والمشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن؛ فتكون محرمة، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية، وأزكى البشرية... ... ...
المصدر: http://www.alminbar.net(/3)
... ...
الصدقة حلية المال ... ...
مازن التويجري ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- قدوم الأشعريين على رسول الله، وسؤاله الصحابة معونتهم والصدقة عليهم. 2- تسابق الصديق والفاروق في الإنفاق. 3- أحاديث في فضل الإنفاق في سبيل الله. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد:
بينما الصحابة جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، كأنه البدر، بل أبهى، أحاطت به نجوم السماء، ينهلون من فيض خُلقه وعلمه, قد سعدوا، وحق لهم ذلك، فكيف لا يسعد من تكحلت عيناه برؤية خير البشر، وتشنفنت أذناه بسماع خطاب أفضل الأنبياء والمرسلين؟! كيف لا يسعد من يجلس بين يدي إمام الأئمة وقدوة الخليقة؟! كيف لا يسعد من يستقي تعاليم الإسلام من معينه الصافي، ومنهله العذب؟!
بينما هم على هذه الحال ـ وما أطيبها من حال! ـ إذ دخل عليهم قوم حفاة عراة، مجتابي النمار أو العباء، فعباءة أحدهم لا تكاد تستر بعض جسده، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، بهم من الفاقة ما لا يعلمه إلا الله، قد تناوشهم العوز والحاجة، دفعهم الجوع والفقر حتى ساقتهم أقدامهم إلى أكرم الخلق، وأرحم الناس بالناس، جاءوا إلى من عاش هَمَّ أمته هماً واحداً ضاقت معه نفسه, حتى ما عادت تنشغل بغير الإسلام وأهل الإسلام، جاءوا وقد أحسنوا المجيء، وأفلحوا في الاختيار. كيف لا؟ وقد قصدوا من يلهج إلى مولاه سبحانه أن يرزقه حب المساكين فامتلأ قلبه بحبهم، فغدا أبا المساكين، وملاذ الفقراء والمُعْوزِين، فلما رآهم صلوات ربي وسلامه عليه تَمَعَّر وجهه، ثم دخل بيته وخرج مضطرب الحال منشغل التفكير، مهموماً مغموماً، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: (( اأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1], ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]. تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره ـ حتى قال: ـ ولو بشق تمرة)) قال جرير: (فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة).
هنا انفرجت أساريره عليه السلام، وزال همه وانزاح غمه، وهو يرى أبناء أمته يشعرون بحاجة إخوانهم، ويهتمون لهمهم ويرسمون في صورة رائعة شعور الجسد الواحد والأمة الواحدة بأشجار الإخاء وزهور المحبة، فقال عليه الصلاة والسلام مبيناً قاعدة مهمة في هذا الدين تدل على سموه وعلوه وعظمته ويسره: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)) رواه مسلم[1].
إنها الصدقة شعار المتقين، ولواء الصالحين المصلحين, زكاة للنفوس، ونماء في المال، وطهرة للبدن، مرضاة للرب، بها تدفع عن الأمة البلايا والرزايا، تطهّر القلوب من أدران التعلق بهذه الدنيا وأوضارها وشهواتها وملذاتها.
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة:103].
وفي أعظم مضمار سباق شهدته الدنيا, قال عمر رضي الله عنه يوماً: لأسبقن أبا بكر اليوم، فخرج بنصف ماله.
((يا عمر ما تركتَ لأهلك؟))
تركتُ لهم مثله.
فجاء الصديق بماله كله.
((يا أبا بكر ما تركتَ لأهلك؟))
تركتُ لهم الله ورسوله[2].
إنه عمق الإيمان، وصدق اليقين بالله، وإخلاص التوكل عليه، والشعور بجسد الأمة الواحد.
وإلا ما الذي يدفع الصديق أن يخرج بماله كله, وعمر بنصف ماله؟!
روى الترمذي ـ وقال: حسن صحيح ـ وأحمد وبعضه في مسلم, عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ثلاثة أُقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه ـ قال: ـ ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عز وجل بها عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر.
وأحدثكم حديثاً فاحفظوه ـ قال: ـ إنما الدنيا لأربعة نفر:
عبد رزقه الله عز وجل مالاً وعلماً, فهو يتقي فيه ربه, ويصل فيه رحمه, ويعلم لله عز وجل فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل.
وعبد رزقه الله عز وجل علماً ولم يرزقه مالاً, فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت به بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء.(/1)
وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً, فهو يخبط في ماله بغير علم, لا يتقي فيه ربه عز وجل ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل.
وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً, فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان, فهو بنيته, فوزرهما فيه سواء))[3].
وهكذا يبقى أهل البذل والإنفاق هم الموفقون بأفضل المنازل وأعلاها، ويبقى الممسكون المتخاذلون البخلاء على نفوسهم وذواتهم بأخبث المنازل.
يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276].
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه))[4].
ولهما عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه، فيربيها كما يربي أحدكم فَلُوَّهُ أو قَلُوصَهُ حتى تكون مثل الجبل أو أعظم))[5].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله))[6].
ومع هذه المدنية الزائفة وتعلق القلوب بها، ولهث الناس وراء الدنيا وانشغالهم بها، تعلو القلوب غشاوة، وتلفها غبرة، فيستحكم الشيطان على النفوس، ليلقي بوساوسه كلما هم المسلم بالصدقة: [أنت أحوج إلى جمع المال, والأيام تتقلب, وأنت اليوم غني وغداً فقير, فأمسك المال ليوم تحتاجه فيه، ثم أنت صاحب المال، أنت الذي جمعته بكدك وعرق جبينك، فلماذا يستحوذ عليه ذلك الفقير بلا عناء أو تعب؟] فتنطلي تلكم الخدع والوساوس على المسكين؛ ليرد ماله في جيبه, ويمضي لا يلوي على شيء.
أو ما درى أحدنا أن المال مال الله؟! وكم من غني ما عرف حق الله في ماله، أمسى معدماً فقيراً! وارقبوا الناس من حولكم, فأحوالهم صور وعبر, تشهد على أن الصدقة ثمرة للمال وزيادة.
روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء, ونحن ننظر إلى أُحد, فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر)) قال: قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((ما أحب أن أحداً ذاك عندي ذهب، أمسي ثالثة عندي منه دينار، إلا ديناراً أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا ـ فحثا بين يديه ـ وهكذا ـ عن يمينه ـ وهكذا ـ عن شماله ـ))[7].
وفي مسلم كذلك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفد ما عنده قال: ((ما يكن عندي من خير, فلن أدخره عنكم))[8].
قال عمر رضي الله عنه: (إن الأعمال تباهت فقالت الصدقة: أنا أفضلكم).
وكم دعينا إلى الصدقة في مشروع إغاثي أو دعوي أو نصرة لإخواننا هنا أو هناك، فيجلس أحدنا يقلب الأعذار، فقراء البلد أحوج، وما أدري أتصل أم لا؟
ومنا من يرمي سائلاً أو غيره بالكذب وعدم الحاجة والاحتيال، ولاشك أن التثبت في وضع الصدقة في محلها مهم وهو من الدين، ولكن الأمْر الأمَرّ أن تكون تلك الأعذار حاجزةً لنا عن التصدق والبذل، فكلما رأى سائلاً تجنبه، وكلما ألقي عليه باب من أبواب البذل تعلل وتهرب، فتمضي الأيام وتتعاقب الشهور وتتوالى السنون, ولم يخرج ولو شيئاً يسيراً في سبيل الله.
أليس هذا هو الحرمان؟ بلى ورب الكعبة.
قال يحيى بن معاذ: "ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا من الصدقة".
وقال الشعبي: "مَن لم يرَ نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته, فقد أبطل صدقته، وضرب بها وجهه".
فأنت المحتاج إلى صدقتك, كيف لا؟ وأنت في ظلها يوم القيامة كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، إذاً فاختر لنفسك اليوم ما تستظل بها غداً، ولقد بلغ مِنْ تعلقنا بهذه الدنيا أن لا نفكر بالصدقة إلا بعد فراقها. والوصية لاشك خير, ولكن أين هذا يوم كان صحيحاً معافاً؟
روى ابن ماجه ـ وأصله في الصحيحين ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نبئني يا رسول الله عن مالي, كيف أتصدق فيه؟ قال: ((نعم والله لتنبأن، أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش وتخاف الفقر، ولا تُمْهِل حتى إذا بلغت نفسك هاهنا قلت: ما لي لفلان ومالي لفلان. وهو لهم وإن كرهت))[9].
قال عبد العزيز بن عمير: "الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه".
وقال ابن أبي الجعد: "إن الصدقة تدفع سبعين باباً من السوء".
واسمع إلى هذا المثل العجيب الذي قصه الله سبحانه في كتابه عن صاحب الجنة وأبنائه, حين كان يؤدي حق الله فيها ويتصدق شكراً لله على ما وهبه, فلما مات كان من خبر أبنائه ما قص الله.(/2)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُواْ إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ قَالُواْ سُبْحَانَ رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُواْ ياوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبّنَا راغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [ن:17-33].
[1] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الزكاة – باب الحث على الصدقة ... حديث (1017).
[2] حسن، أخرجه أبو داود: كتاب الزكاة – باب في الرخصة في ذلك، حديث (1678)، والترمذي: كتاب المناقب – باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما، حديث (2675) وقال: حسن صحيح. والدارمي: كتاب الزكاة – باب الرجل يتصدق بجميع ما عنده، حديث (1660)، وصححه الحاكم (1/414)، وذكره الضياء في المختارة (80، 81). وذكره الحافظ في الفتح (3/295)، وحسنه الألباني. صحيح سنن أبي داود (1472)، ومشكاة المصابيح (6021).
[3] صحيح، مسند أحمد (4/231)، سنن الترمذي: كتاب الزهد – باب ما جاء مثل الدنيا ... حديث (2325) وقال: حسن صحيح، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير (868)، ورمز له السيوطي بالحسن في الجامع الصغير (3450)، وصححه الألباني، صحيح الترغيب (16).
[4] صحيح، أخرجه البخاري في كتاب الأذان – باب من جلس في المسجد .. حديث (660)، ومسلم في كتاب الزكاة – باب فضل إخفاء الصدقة، حديث (1031).
[5] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الزكاة – باب الصدقة من كسب طيب، حديث (1410)، صحيح مسلم: واللفظ له، كتاب الزكاة – باب قبول الصدقة .. حديث (1014).
[6] صحيح، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب استحباب العفو والتواضع، حديث (2588).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب: الزكاة – باب الترغيب في الصدقة، حديث (94)، وأخرجه أيضاً البخاري: كتاب الاستقراض – باب أداء الدين، حديث (2388).
[8] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الزكاة – باب فضل التعفف والصبر، حديث (1053)، وأخرجه أيضاً البخاري: كتاب الزكاة – باب الاستعفاف عن المسألة، حديث (1469).
[9] صحيح، سنن ابن ماجه: كتاب الوصايا – باب النهي عن الإمساك في الحياة .. حديث (2697)، وأخرجه البخاري في كتاب الزكاة – باب فضل صدقة الشحيح الصحيح، حديث (1419)، ومسلم في كتاب الزكاة – باب بيان أن أفضل الصدقة .. حديث (1032). ... ...
... ...
... ...
... ...(/3)
... ... ...
الصلاة الصلاة ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- أهمية الصلاة وفضلها وكفر تاركها 2- وجوب صلاة الجماعة وفضلها واهتمام السلف بها ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
إن دين الإسلام الذي أكرم الله به هذه الأمة وأتمه لها ورضية لها دينا، ورتب عليه من حسن الجزاء وعظيم المثوبة ما تتمناه، الأنفس وتلذ به الأعين، هذا الدين قد بني على أسس وقواعد متينة لا ينجو من بلغته من أليم العقاب وشدة العذاب، ويحظى بما يترتب على الإتيان بها من عزة واحترام في الدنيا ولذة وسيادة في الآخرة، لا ينال المسلم هذه الأمور حتى يأتي بهذه الأسس والقواعد موفورة كاملة. ومن بين هذه الأسس التي بنى عليها الإسلام: الصلاة، الصلاة التي هي عمود هذا الدين وأهم أركانه بعد الشهادتين. الصلاة التي ملأت فضائلها أسماع العالمين بما أعد للمحافظين عليها. قال صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في إثر صلاة لا لغو بينهما، كتاب في عليين)) رواه أبو داود بإسناد حسن، وقال عليه الصلاة والسلام: ((الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)) رواه الطبراني في الأوسط وهو حسن. وقال مرة عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه: ((أكثِر من السجود، فإنه ليس من مسلم يسجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله بها درجة في الجنة، وحط عن بها خطيئة)) رواه الإمام أحمد بسند صحيح – بكل سجدة ترفع درجة في الجنة ويحط عنك بها خطيئة، وما بين الدرجة والدرجة في الجنة كما بين السماء والأرض، بل وإن من فضائل هذه الصلاة ما قاله عليه الصلاة والسلام: ((لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)) رواه الإمام أحمد بسند صحيح، والمقصود صلاة الفجر والعصر.
أيها الاخوة المؤمنون: وكثير من الناس لا يلقون لفضل الصلاة بالاً ولو لركعتين، مر مرّة عليه لصلاة والسلام على قبر دفن صاحبه حديثا، فقال لأصحابه: ((ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون، يزيدهما هذا في عمله – وأشار عليه الصلاة والسلام إلى صاحب القبر – أحب إليه من بقية دنياكم)) رواه الطبراني في الأوسط بسند صحيح.
نعم – أيها الاخوة المؤمنون – إن بعض الموتى يودون لو يخرجوا من قبورهم فيصلوا ركعتين، فإنهم يرون أنها خير من الدنيا وما فيها. فهل يتعظ بهذا متعظ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا قام يصلي أتى بذنوبه كلها، فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه)) رواه الطبراني بسند صحيح – بكل ركوع وسجود تتهاوى وتتساقط آثامك وجرائرك العظيمة أمام معاول: وقوموا لله قانتين وقد ورد الأمر بالمحافظة على صلاة الجماعة وإبداء هذه الصلاة المكتوبة في المساجد. قال تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين وقال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة وتمام المحافظة التي أمر الله بها وكمال الإقامة التي يريدها الله لا يحصلان إلا بأداء الصلوات في جماعة، لقوله تعالى: واركعوا مع الراكعين .
أيها الاخوة المؤمنون: إن الأحاديث والآيات التي فيها إيجاب صلاة الجماعة على المؤمن كثيرة، وتلك التي فيها الترهيب من ترك الجماعة كذلك، كقوله عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم)) رواه البخاري ومسلم، وعند الإمام أحمد بلفظ: ((لولا ما في البيوت من النساء والصبيان لأحرقتها عليهم)) لو كان عليه الصلاة والسلام حياً لهمّ بإحراق مدن ومجتمعات كثيرة لا يعرف أهلها المحافظة على صلاة الجماعة ولا يشهدونها مع المسلمين.
فجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
منابركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالي
أيها الاخوة المؤمنون: إن الصلاة هي الفيصل والبرزخ بين الكفر والإيمان، فمن أداها وحافظ عليها كان هو المؤمن، ومن تركها وتهاون بها كان هو الكافر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر)). إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، من تركها فعليه لعنة الله، من تركها خرج من دين الله، من تركها انقطع عنه حبل الله، من تركها خرج من ذمة الله، من تركها أحل دمه وماله وعرضه، تارك الصلاة عدو لله عدو لرسول الله، عدو لأولياء الله، تارك الصلاة مغضوب عليه في السماء، ومغضوب عليه في الأرض، تارك الصلاة لا يؤاكل، ولا يشارب، ولا يجالس، ولا يرافق، ولا يؤتمن. تارك الصلاة خرج من الملة، وتبرأ من عهد الله، ونقص ميثاق الله، إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.(/1)
أيها الاخوة المؤمنون: لما وقر تعظيم الصلاة وأمر الله في قلوب الصحابة هانت أمامهم كل الصعاب في سبيل المحافظة على صلاة الجماعة من بعدت بيوتهم عن المسجد النبوي فيأتون يسعون إليها، يمرضون فيؤتي بهم، يهادى الرجل منهم بين الرجلين حتى يقام في الصف، الأعمى منهم يسابق البصير على الصف الأول، وليس فيهم أعمى رضوان الله عليهم. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن - يعنى في المسجد - فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفع بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، وفي رواية: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان الرجل ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة). رواه مسلم ولم يرخص عليه الصلاة والسلام للأعمى عن حضورها. والدليل ما روى مسلم عن أبى هريرة قال: أتى ابن أم مكتوم فقال يا رسول الله: إنى رجل ضرير البصر، بعيد الدار، ولي قائد لا يرافقني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي قال: ((هل تسمع النداء، قال: نعم، قال لا أجد لك رخصة))، وفي رواية: ((أتسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، قال نعم فقال: فحيّ هلا. وبوب العلماء على هذا الحديث بقولهم)) باب إقرار العميان بشهود صلاة الجماعة، وقد اجتمع في ابن مكتوم ستة أعذار: الأول: كونه ضرير البصر. الثاني: عدم وجود قائد يرافقه. الثالث: بعد داره عن المسجد. الرابع: وجود نخل وشجر بينه وبين المسجد. الخامس: وجود الهوام والسباع الكثيرة بالمدينة. السادس: كبر سنه ورق عظمه. مع هذا كله إلاّ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص له، ولهذا بوب عليه ابن المنذر بقوله: ذكر إيجاب صلاة الجماعة على العميان وإن بعدت منازلهم عن المسجد.
وهذا أبى بن كعب رضي الله عنه يقول: كان رجل من الأنصار لا أعلم أحداً أبعد من المسجد منه، كانت لا تخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال صلى الله عليه وسلم لما سمع ذلك منه: ((قد جمع الله لك ذلك كله))، وفي رواية أن أُبياً رضي الله عنه لما رأى هذا الأنصاري يكابد المشاق حتى يأتي إلى صلاة الجماعة، قال أبي: فتوجعت له، فقلت: يافلان! لو إنك اشتريت حماراً يقيك الرمضاء وهوام الأرض؟ قال: أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم! قال أبيّ لما سمع ذلك منه، فحملت به حملاً – يعني أنه استفظع هذه الكلمة من هذا الأنصاري وعظمت في سمع أبىّ، فأتى أبىّ رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الأنصاري، فقال الأنصاري: رجوت أجر الأثر والممشى، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ان لك ما احتسبت)) رواه مسلم. بيته بعيد عن المسجد وآفات في الطريق تعترضه في كل صلاة، ومع هذا يحافظ عليها ويدأب في العمل لها. عظم أمر الله في قلبه، فأحب الصلاة فلمّا أحبها هان في سبيلها كل شيء فماذا يقول المسلم اليوم الذي يحتج بُبعد بيته عن المسجد، والمتأمل في أحوال الصحابة يجد عجباً في تعظيمهم للصلاة، كان تميم الداري إذا دخل وقت الصلاة قام اليها بالأشواق. قال رضي الله عنه ما دخل عليّ وقت صلاة من الصلوات إلا وأنا لها بالأشواق، يشتاق إلى الصلاة وينتظر دخول وقتها. ونقلوا هذه السمات الإيمانية إلى التابعين: فكان الربيع بن خثيم يقاد به إلى الصلاة وبه مرض الفالج، فقيل له: قد رخص لك قال: إنى أسمع حيّ على الصلاة. فإن استطعتم أن تأتوها ولوحبوا.
أيها الاخوة المؤمنون: والعلاقة بين الاهتمام بصلاة الجماعة والمحافظة عليها وبين الخشوع فيها وإحسانها فيها كبيرة جداً، فمن كان محافظا على صلاة الجماعة مبكراً إليها، مسابق إلى الصفوف الأولى منها كان على جانب كبير من الإقبال على الله وانشراح الصدر فيها والتنعم والتلذذ بها، ومن كان متأخراً عنها، يقدم رجلا ويؤخر الأخرى، كلما غدا أو راح إلى المسجد فإنه على جانب كبير من الوسوسة فيها وعدم التنعم بها. وهذا أمر مجرب معروف وسير الصالحين والطالحين تدل عليه.
صلى أبو زرعة الرازي عشرين سنة وفي محرابه كتابة فسئل عن الكتابة في المحراب فقال: قد كرهه قوم ممن مضى. فقال السائلون له: هو ذا في محرابك – محرابك فيه كتابة ما علمت بها؟ قال: سبحان الله، رجل يدخل على الله ويدري ما بين يديه؟ بقي أن تعرف أن أبا زرعة الرازي لم تفته صلاة الجماعة عشرين سنة.(/2)
وقال أبو عبد الرحمن الأسدي: قلت لسعيد بن عبد العزيز ما هذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة؟ فقال: يا ابن اخي وما سؤالك عن هذا؟ قلت: لعل الله أن ينفعني به. فقال: ما قمت إلى الصلاة إلا مثلت لي جهنم. وكان سعيد بن عبد العزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى. وسعيد بن المسيب لم تفته التكبيرة الأولى مدة خمسين سنة، وما نظر إلى قفا رجل منذ خمسين سنة، يعنى لمحافظته على الصف الأول. وهذا كله لأنهم عظموا الصلاة وأدركوا منزلتها، بينما الكثيرون اليوم لم يدركوا منزلتها ولم يتلقوا أمر الله بها بالتعظيم والتوقير. وكان العلامة ابن خفيف به مرض الخاصرة، فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة، فكان إذا نودي بالصلاة يحمل على ظهر رجل ويحضر به إلى المسجد فقيل له: لو خففت على نفسك ؟! فاستعظم هذا الكلام منهم، وقال إن الله يقول: يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً أَوَ في حضور صلاة الجماعة مشقة لا يمكن أدائها؟ ثم التفت إليهم وهو يعاني من مرضه – فقال: إذا سمعتم حي على الصلاة، ولم تروني في الصف، فاطلبوني في المقبرة[1].
و أهل المحافظة على صلاة الجماعة هم أقرب الناس في يوم المزيد إلى ربهم سبحانه وتعالى. قال ابن القيم:
أو ما سمعت بشأنهم يوم المزيد وأنه يوم عظيم الشان
هو يوم جمعتنا ويوم زيارة الرحمن وقت صلاتنا وأذان
والسابقون إلى الصلاة هم الألى فازوا بذلك السبق بالإحسان
سبق بسبق والمؤخر ههنا متأخر في ذلك الميدان
من سبق إلى صلاة الجماعة كان سابقاً في ذلك اليوم يوم المزيد لمقابلة ربه ورؤيته، ومن تأخر عن الجماعة تأخر في ذلك الميدان، و الجزاء من جنس العمل.
والأقربون إلى الإمام فهمُ أولو الزلفي هناك فهنا هنا قربان
قرب بقرب والمباعد مثله بعد ببعد حكمة الديان
ولهم منابر لؤلؤ وزبرجد ومنابر الياقوت والقيعان
هذا وأدناهم وما فيهم دنِي من فوق ذاك المسك كالكثبان
وقد وردت بعض الاثار الدالة على أن قرب المؤمنين من ربهم يوم القيامة على حسب استباقهم إلى الصلاة وشهودهم للجماعة. الجزاء من جنس العمل، فمن تقرب إلى ربه ومولاه وسارع في تنفيذ أوامره كان محظياً عنده في يوم تطاير الصحف ووضع الموزاين. أين أنت من هؤلاء ؟! سبقوا وتأخرت ونافسوا ولهوت، وتقدموا فأجلت.
نزلوا بمكة من قبائل نوفل ونزلت بالبيداء أبعد منزل
وتقلبوا فرحين تحت ظلالهم وطرحت بالصحراء غير مظلل
وسقوا من الصافي المعتق ربهم وسقيت دمعةَ والهٍ متململ
ياقسمة قسمت ولم يعلم بها وقضية ثبتت لأمر الأول
هل فيك للملك المهمين نظرة فتزيل من داء البعاد المعضل
ما معنى الإيمان الذي يدعيه رجال ثم هم لا يحضرون الصلاة في الجماعة، ما معنى الإيمان وما قيمة الصلاة في حياتهم ثم إذا تكلمت مع أحد منهم زعم بأنك تتهمه بالنفاق، إن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يتهمون المتخلف عن الجماعة بالنفاق، يقول ابن مسعود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. فأي دين لهؤلاء الذي لا يعمرون المساجد، وأي إسلام لمن يسمعون النداء ثم لا يجيبون، قال الله تعالى: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون . قال بعض أهل العلم. هم الذي لا يحضرون الصلاة في الجماعة. أين الأجيال، أين شباب الأمة، أين الرجال، والمساجد خاوية تشكوا إلى الله تعالى. إذا كان هذا حالنا مع الصلاة وهي عمود الإسلام، فكيف بباقي شرائع الدين، كيف ترتقي أمة لا تحسن المعاملة مع الله، كيف تفلح أمة لا تقدس شعائر الله، كيف تكون صادقة في الحرب أو في التعليم أو في التصنيع أو في الحضارة، أو في الإدارة وهي لا تحسن الاتصال بربها في صلاة فرضها الله عليها.
نسأل الله جل وتعالى أن يحسن أحوالنا، وأن نعظم شعائر ربنا. . .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذه القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] النزهة 1181/3 ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:(/3)
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا)). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملكا ينادى عند كل صلاة، يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها)). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يبعث مناد عند حضرة كل صلاة فيقول: يا بني آدم قوموا فأطفئوا عنكم ما أوقدتم على أنفسكم. فيقومون، فتسقط خطاياهم من أعينهم، ويصلون فيغفر لهم ما بينهما، ثم توقدون فيما بين ذلك فإذا كان عند الصلاة الأولى نادى، يا بني آدم قوموا فأطفئوا ما أوقدتم على أنفسكم، فيقومون فيتطهرون ويصلون الظهر، فيغفر لهم ما بينهما، فإذا حضرت العصر فمثل ذلك فإذ حضرت المغرب فمثل ذلك، فإذ حضرت العتمة فمثل ذلك، فينامون وقد غفر لهم، فمدلج في خير، ومدلج في شر)). كم تأخذ صلاة الجماعة من أوقاتنا، في مقابل ما نضيعه في الأكل والشرب والنوم، والمرح، إنها دقائق معدودة، لكن بها يرتفع المؤمنون ويسقط الفجرة والمنافقون، بها يعرف أولياء الرحمن من أولياء الشيطان، بها يتميز المؤمن من المنافق يقول عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)) والحديث واضح وصريح كما سمعتم أمر من الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام بأن يقاتل هذا الإنسان، حتى يسجد لله فيوم يتهاون الإنسان بالصلاة، أويترك الصلاة أو يتنكر للصلاة، أولا يتعرف على بيت الله يصبح هذا الإنسان لا قداسة له، ولا حرمة له، ولا مكانة ولا وزن، هذا الإنسان حين يترك الصلاة يكون دمه رخيصاً، يسفك دمه، وتهان كرامته، ويقطع رأسه بالسيف، قال الله تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً .
أيها المسلمون: إنه لا عذر لأحد في ترك الصلاة مع الجماعة، كان سعيد بن المسيب إمام التابعين في عصره، كان يأتي في ظلام الليل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بعض إخوانه، خذ سراجا لينير لك الطريق في ظلام الليل، فقال يكفيني نور الله وصدق الله العظيم: ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور . وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)). وهل في القيامة ظلمة، وهل في القيامة ليل؟ نعم والله إنه ليل وأي ليل، وإنها لظلمة وأية ظلمة، يجعلها الله لأعداء المساجد، ولتاركي المساجد ولواضعي العثرات في طريق أهل المساجد، ظلمة يجعلها الله لأولئك الذين انحرفوا عن بيوت الله، وللذين حرفوا بيوت الله، تظلم عليهم طرقاتهم وسبلهم يقولون للمؤمنين يوم القيامة أنظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً كان الصحابة رضي الله عنهم، حتى وهم في المعارك إذا تلاقت الصفوف والتحمت الأبدان وأشرعت الرماح، وتكسرت السيوف، وتنزّلت الرؤوس من على الأكتاف في هذه الحال لم يكونوا يدعون صلاة الجماعة، تصلي طائفة وتقف الأخرى في وجه العدو.
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقى الأرض جما احمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
إنها الصلاة، إنها حياة القلوب، إنها الميثاق إنها العهد بين الإنسان وبين ربه، ويوم يتركها المرء أو يتهاون بها، يدركه الخذلان وتناله اللعنة، وينقطع عنه مدد السماء.
أيها المسلمون: إن من أسباب السعادة، وحفظ الله لنا، ودوام رغد العيش الذي نعيشه، أن نحافظ على عهد الله في الصلاة، وأن نتواصى بها، وأن نأمر بها أبناءنا وأن نعمر مساجدنا بحضورنا، فهل من مجيب؟ وهل من مسارع إلى الصلاة حيث ينادى بهن؟ وهل من حريص على تلكم الشعيرة العظيمة؟ إنها الحياة ولا حياة بغير صلاة، إنها رغد العيش ولا رغد في العيش، بغير صلاة، إنه دوام الأمن والاستقرار ولا أمن ولا استقرار بغير صلاة، إنه التوفيق من رب العالمين في كل شيء، ولا توفيق ولا تسديد بغير صلاة. فالله الله أيها المسلمون في الصلاة، من حافظ عليها، حفظه الله، ومن ضيعها ضيعه الله، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون . فالصلاة الصلاة عباد الله، في أول وقتها بخشوعها، بخضوعها، بأركانها، بواجباتها بسننها، وفي جماعتها، علّ الله أن يحفظنا ويرعانا إذا نحن حافظنا عليها وعظمناها.
فالزم يديك بحبل الله معتصما فإنه الركن إن خانتك أركان ... ... ...
... ... ...(/4)
... ... ...
... ... ...
الصلاة الصلاة ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- أهمية الصلاة وفضلها وكفر تاركها 2- وجوب صلاة الجماعة وفضلها واهتمام السلف بها ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
إن دين الإسلام الذي أكرم الله به هذه الأمة وأتمه لها ورضية لها دينا، ورتب عليه من حسن الجزاء وعظيم المثوبة ما تتمناه، الأنفس وتلذ به الأعين، هذا الدين قد بني على أسس وقواعد متينة لا ينجو من بلغته من أليم العقاب وشدة العذاب، ويحظى بما يترتب على الإتيان بها من عزة واحترام في الدنيا ولذة وسيادة في الآخرة، لا ينال المسلم هذه الأمور حتى يأتي بهذه الأسس والقواعد موفورة كاملة. ومن بين هذه الأسس التي بنى عليها الإسلام: الصلاة، الصلاة التي هي عمود هذا الدين وأهم أركانه بعد الشهادتين. الصلاة التي ملأت فضائلها أسماع العالمين بما أعد للمحافظين عليها. قال صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في إثر صلاة لا لغو بينهما، كتاب في عليين)) رواه أبو داود بإسناد حسن، وقال عليه الصلاة والسلام: ((الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)) رواه الطبراني في الأوسط وهو حسن. وقال مرة عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه: ((أكثِر من السجود، فإنه ليس من مسلم يسجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله بها درجة في الجنة، وحط عن بها خطيئة)) رواه الإمام أحمد بسند صحيح – بكل سجدة ترفع درجة في الجنة ويحط عنك بها خطيئة، وما بين الدرجة والدرجة في الجنة كما بين السماء والأرض، بل وإن من فضائل هذه الصلاة ما قاله عليه الصلاة والسلام: ((لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)) رواه الإمام أحمد بسند صحيح، والمقصود صلاة الفجر والعصر.
أيها الاخوة المؤمنون: وكثير من الناس لا يلقون لفضل الصلاة بالاً ولو لركعتين، مر مرّة عليه لصلاة والسلام على قبر دفن صاحبه حديثا، فقال لأصحابه: ((ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون، يزيدهما هذا في عمله – وأشار عليه الصلاة والسلام إلى صاحب القبر – أحب إليه من بقية دنياكم)) رواه الطبراني في الأوسط بسند صحيح.
نعم – أيها الاخوة المؤمنون – إن بعض الموتى يودون لو يخرجوا من قبورهم فيصلوا ركعتين، فإنهم يرون أنها خير من الدنيا وما فيها. فهل يتعظ بهذا متعظ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا قام يصلي أتى بذنوبه كلها، فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه)) رواه الطبراني بسند صحيح – بكل ركوع وسجود تتهاوى وتتساقط آثامك وجرائرك العظيمة أمام معاول: وقوموا لله قانتين وقد ورد الأمر بالمحافظة على صلاة الجماعة وإبداء هذه الصلاة المكتوبة في المساجد. قال تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين وقال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة وتمام المحافظة التي أمر الله بها وكمال الإقامة التي يريدها الله لا يحصلان إلا بأداء الصلوات في جماعة، لقوله تعالى: واركعوا مع الراكعين .
أيها الاخوة المؤمنون: إن الأحاديث والآيات التي فيها إيجاب صلاة الجماعة على المؤمن كثيرة، وتلك التي فيها الترهيب من ترك الجماعة كذلك، كقوله عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم)) رواه البخاري ومسلم، وعند الإمام أحمد بلفظ: ((لولا ما في البيوت من النساء والصبيان لأحرقتها عليهم)) لو كان عليه الصلاة والسلام حياً لهمّ بإحراق مدن ومجتمعات كثيرة لا يعرف أهلها المحافظة على صلاة الجماعة ولا يشهدونها مع المسلمين.
فجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
منابركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالي
أيها الاخوة المؤمنون: إن الصلاة هي الفيصل والبرزخ بين الكفر والإيمان، فمن أداها وحافظ عليها كان هو المؤمن، ومن تركها وتهاون بها كان هو الكافر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر)). إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، من تركها فعليه لعنة الله، من تركها خرج من دين الله، من تركها انقطع عنه حبل الله، من تركها خرج من ذمة الله، من تركها أحل دمه وماله وعرضه، تارك الصلاة عدو لله عدو لرسول الله، عدو لأولياء الله، تارك الصلاة مغضوب عليه في السماء، ومغضوب عليه في الأرض، تارك الصلاة لا يؤاكل، ولا يشارب، ولا يجالس، ولا يرافق، ولا يؤتمن. تارك الصلاة خرج من الملة، وتبرأ من عهد الله، ونقص ميثاق الله، إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.(/5)
أيها الاخوة المؤمنون: لما وقر تعظيم الصلاة وأمر الله في قلوب الصحابة هانت أمامهم كل الصعاب في سبيل المحافظة على صلاة الجماعة من بعدت بيوتهم عن المسجد النبوي فيأتون يسعون إليها، يمرضون فيؤتي بهم، يهادى الرجل منهم بين الرجلين حتى يقام في الصف، الأعمى منهم يسابق البصير على الصف الأول، وليس فيهم أعمى رضوان الله عليهم. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن - يعنى في المسجد - فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفع بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، وفي رواية: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان الرجل ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة). رواه مسلم ولم يرخص عليه الصلاة والسلام للأعمى عن حضورها. والدليل ما روى مسلم عن أبى هريرة قال: أتى ابن أم مكتوم فقال يا رسول الله: إنى رجل ضرير البصر، بعيد الدار، ولي قائد لا يرافقني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي قال: ((هل تسمع النداء، قال: نعم، قال لا أجد لك رخصة))، وفي رواية: ((أتسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، قال نعم فقال: فحيّ هلا. وبوب العلماء على هذا الحديث بقولهم)) باب إقرار العميان بشهود صلاة الجماعة، وقد اجتمع في ابن مكتوم ستة أعذار: الأول: كونه ضرير البصر. الثاني: عدم وجود قائد يرافقه. الثالث: بعد داره عن المسجد. الرابع: وجود نخل وشجر بينه وبين المسجد. الخامس: وجود الهوام والسباع الكثيرة بالمدينة. السادس: كبر سنه ورق عظمه. مع هذا كله إلاّ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص له، ولهذا بوب عليه ابن المنذر بقوله: ذكر إيجاب صلاة الجماعة على العميان وإن بعدت منازلهم عن المسجد.
وهذا أبى بن كعب رضي الله عنه يقول: كان رجل من الأنصار لا أعلم أحداً أبعد من المسجد منه، كانت لا تخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال صلى الله عليه وسلم لما سمع ذلك منه: ((قد جمع الله لك ذلك كله))، وفي رواية أن أُبياً رضي الله عنه لما رأى هذا الأنصاري يكابد المشاق حتى يأتي إلى صلاة الجماعة، قال أبي: فتوجعت له، فقلت: يافلان! لو إنك اشتريت حماراً يقيك الرمضاء وهوام الأرض؟ قال: أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم! قال أبيّ لما سمع ذلك منه، فحملت به حملاً – يعني أنه استفظع هذه الكلمة من هذا الأنصاري وعظمت في سمع أبىّ، فأتى أبىّ رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الأنصاري، فقال الأنصاري: رجوت أجر الأثر والممشى، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ان لك ما احتسبت)) رواه مسلم. بيته بعيد عن المسجد وآفات في الطريق تعترضه في كل صلاة، ومع هذا يحافظ عليها ويدأب في العمل لها. عظم أمر الله في قلبه، فأحب الصلاة فلمّا أحبها هان في سبيلها كل شيء فماذا يقول المسلم اليوم الذي يحتج بُبعد بيته عن المسجد، والمتأمل في أحوال الصحابة يجد عجباً في تعظيمهم للصلاة، كان تميم الداري إذا دخل وقت الصلاة قام اليها بالأشواق. قال رضي الله عنه ما دخل عليّ وقت صلاة من الصلوات إلا وأنا لها بالأشواق، يشتاق إلى الصلاة وينتظر دخول وقتها. ونقلوا هذه السمات الإيمانية إلى التابعين: فكان الربيع بن خثيم يقاد به إلى الصلاة وبه مرض الفالج، فقيل له: قد رخص لك قال: إنى أسمع حيّ على الصلاة. فإن استطعتم أن تأتوها ولوحبوا.
أيها الاخوة المؤمنون: والعلاقة بين الاهتمام بصلاة الجماعة والمحافظة عليها وبين الخشوع فيها وإحسانها فيها كبيرة جداً، فمن كان محافظا على صلاة الجماعة مبكراً إليها، مسابق إلى الصفوف الأولى منها كان على جانب كبير من الإقبال على الله وانشراح الصدر فيها والتنعم والتلذذ بها، ومن كان متأخراً عنها، يقدم رجلا ويؤخر الأخرى، كلما غدا أو راح إلى المسجد فإنه على جانب كبير من الوسوسة فيها وعدم التنعم بها. وهذا أمر مجرب معروف وسير الصالحين والطالحين تدل عليه.
صلى أبو زرعة الرازي عشرين سنة وفي محرابه كتابة فسئل عن الكتابة في المحراب فقال: قد كرهه قوم ممن مضى. فقال السائلون له: هو ذا في محرابك – محرابك فيه كتابة ما علمت بها؟ قال: سبحان الله، رجل يدخل على الله ويدري ما بين يديه؟ بقي أن تعرف أن أبا زرعة الرازي لم تفته صلاة الجماعة عشرين سنة.(/6)
وقال أبو عبد الرحمن الأسدي: قلت لسعيد بن عبد العزيز ما هذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة؟ فقال: يا ابن اخي وما سؤالك عن هذا؟ قلت: لعل الله أن ينفعني به. فقال: ما قمت إلى الصلاة إلا مثلت لي جهنم. وكان سعيد بن عبد العزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى. وسعيد بن المسيب لم تفته التكبيرة الأولى مدة خمسين سنة، وما نظر إلى قفا رجل منذ خمسين سنة، يعنى لمحافظته على الصف الأول. وهذا كله لأنهم عظموا الصلاة وأدركوا منزلتها، بينما الكثيرون اليوم لم يدركوا منزلتها ولم يتلقوا أمر الله بها بالتعظيم والتوقير. وكان العلامة ابن خفيف به مرض الخاصرة، فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة، فكان إذا نودي بالصلاة يحمل على ظهر رجل ويحضر به إلى المسجد فقيل له: لو خففت على نفسك ؟! فاستعظم هذا الكلام منهم، وقال إن الله يقول: يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً أَوَ في حضور صلاة الجماعة مشقة لا يمكن أدائها؟ ثم التفت إليهم وهو يعاني من مرضه – فقال: إذا سمعتم حي على الصلاة، ولم تروني في الصف، فاطلبوني في المقبرة[1].
و أهل المحافظة على صلاة الجماعة هم أقرب الناس في يوم المزيد إلى ربهم سبحانه وتعالى. قال ابن القيم:
أو ما سمعت بشأنهم يوم المزيد وأنه يوم عظيم الشان
هو يوم جمعتنا ويوم زيارة الرحمن وقت صلاتنا وأذان
والسابقون إلى الصلاة هم الألى فازوا بذلك السبق بالإحسان
سبق بسبق والمؤخر ههنا متأخر في ذلك الميدان
من سبق إلى صلاة الجماعة كان سابقاً في ذلك اليوم يوم المزيد لمقابلة ربه ورؤيته، ومن تأخر عن الجماعة تأخر في ذلك الميدان، و الجزاء من جنس العمل.
والأقربون إلى الإمام فهمُ أولو الزلفي هناك فهنا هنا قربان
قرب بقرب والمباعد مثله بعد ببعد حكمة الديان
ولهم منابر لؤلؤ وزبرجد ومنابر الياقوت والقيعان
هذا وأدناهم وما فيهم دنِي من فوق ذاك المسك كالكثبان
وقد وردت بعض الاثار الدالة على أن قرب المؤمنين من ربهم يوم القيامة على حسب استباقهم إلى الصلاة وشهودهم للجماعة. الجزاء من جنس العمل، فمن تقرب إلى ربه ومولاه وسارع في تنفيذ أوامره كان محظياً عنده في يوم تطاير الصحف ووضع الموزاين. أين أنت من هؤلاء ؟! سبقوا وتأخرت ونافسوا ولهوت، وتقدموا فأجلت.
نزلوا بمكة من قبائل نوفل ونزلت بالبيداء أبعد منزل
وتقلبوا فرحين تحت ظلالهم وطرحت بالصحراء غير مظلل
وسقوا من الصافي المعتق ربهم وسقيت دمعةَ والهٍ متململ
ياقسمة قسمت ولم يعلم بها وقضية ثبتت لأمر الأول
هل فيك للملك المهمين نظرة فتزيل من داء البعاد المعضل
ما معنى الإيمان الذي يدعيه رجال ثم هم لا يحضرون الصلاة في الجماعة، ما معنى الإيمان وما قيمة الصلاة في حياتهم ثم إذا تكلمت مع أحد منهم زعم بأنك تتهمه بالنفاق، إن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يتهمون المتخلف عن الجماعة بالنفاق، يقول ابن مسعود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. فأي دين لهؤلاء الذي لا يعمرون المساجد، وأي إسلام لمن يسمعون النداء ثم لا يجيبون، قال الله تعالى: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون . قال بعض أهل العلم. هم الذي لا يحضرون الصلاة في الجماعة. أين الأجيال، أين شباب الأمة، أين الرجال، والمساجد خاوية تشكوا إلى الله تعالى. إذا كان هذا حالنا مع الصلاة وهي عمود الإسلام، فكيف بباقي شرائع الدين، كيف ترتقي أمة لا تحسن المعاملة مع الله، كيف تفلح أمة لا تقدس شعائر الله، كيف تكون صادقة في الحرب أو في التعليم أو في التصنيع أو في الحضارة، أو في الإدارة وهي لا تحسن الاتصال بربها في صلاة فرضها الله عليها.
نسأل الله جل وتعالى أن يحسن أحوالنا، وأن نعظم شعائر ربنا. . .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذه القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] النزهة 1181/3 ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:(/7)
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا)). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملكا ينادى عند كل صلاة، يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها)). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يبعث مناد عند حضرة كل صلاة فيقول: يا بني آدم قوموا فأطفئوا عنكم ما أوقدتم على أنفسكم. فيقومون، فتسقط خطاياهم من أعينهم، ويصلون فيغفر لهم ما بينهما، ثم توقدون فيما بين ذلك فإذا كان عند الصلاة الأولى نادى، يا بني آدم قوموا فأطفئوا ما أوقدتم على أنفسكم، فيقومون فيتطهرون ويصلون الظهر، فيغفر لهم ما بينهما، فإذا حضرت العصر فمثل ذلك فإذ حضرت المغرب فمثل ذلك، فإذ حضرت العتمة فمثل ذلك، فينامون وقد غفر لهم، فمدلج في خير، ومدلج في شر)). كم تأخذ صلاة الجماعة من أوقاتنا، في مقابل ما نضيعه في الأكل والشرب والنوم، والمرح، إنها دقائق معدودة، لكن بها يرتفع المؤمنون ويسقط الفجرة والمنافقون، بها يعرف أولياء الرحمن من أولياء الشيطان، بها يتميز المؤمن من المنافق يقول عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)) والحديث واضح وصريح كما سمعتم أمر من الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام بأن يقاتل هذا الإنسان، حتى يسجد لله فيوم يتهاون الإنسان بالصلاة، أويترك الصلاة أو يتنكر للصلاة، أولا يتعرف على بيت الله يصبح هذا الإنسان لا قداسة له، ولا حرمة له، ولا مكانة ولا وزن، هذا الإنسان حين يترك الصلاة يكون دمه رخيصاً، يسفك دمه، وتهان كرامته، ويقطع رأسه بالسيف، قال الله تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً .
أيها المسلمون: إنه لا عذر لأحد في ترك الصلاة مع الجماعة، كان سعيد بن المسيب إمام التابعين في عصره، كان يأتي في ظلام الليل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بعض إخوانه، خذ سراجا لينير لك الطريق في ظلام الليل، فقال يكفيني نور الله وصدق الله العظيم: ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور . وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)). وهل في القيامة ظلمة، وهل في القيامة ليل؟ نعم والله إنه ليل وأي ليل، وإنها لظلمة وأية ظلمة، يجعلها الله لأعداء المساجد، ولتاركي المساجد ولواضعي العثرات في طريق أهل المساجد، ظلمة يجعلها الله لأولئك الذين انحرفوا عن بيوت الله، وللذين حرفوا بيوت الله، تظلم عليهم طرقاتهم وسبلهم يقولون للمؤمنين يوم القيامة أنظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً كان الصحابة رضي الله عنهم، حتى وهم في المعارك إذا تلاقت الصفوف والتحمت الأبدان وأشرعت الرماح، وتكسرت السيوف، وتنزّلت الرؤوس من على الأكتاف في هذه الحال لم يكونوا يدعون صلاة الجماعة، تصلي طائفة وتقف الأخرى في وجه العدو.
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقى الأرض جما احمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
إنها الصلاة، إنها حياة القلوب، إنها الميثاق إنها العهد بين الإنسان وبين ربه، ويوم يتركها المرء أو يتهاون بها، يدركه الخذلان وتناله اللعنة، وينقطع عنه مدد السماء.
أيها المسلمون: إن من أسباب السعادة، وحفظ الله لنا، ودوام رغد العيش الذي نعيشه، أن نحافظ على عهد الله في الصلاة، وأن نتواصى بها، وأن نأمر بها أبناءنا وأن نعمر مساجدنا بحضورنا، فهل من مجيب؟ وهل من مسارع إلى الصلاة حيث ينادى بهن؟ وهل من حريص على تلكم الشعيرة العظيمة؟ إنها الحياة ولا حياة بغير صلاة، إنها رغد العيش ولا رغد في العيش، بغير صلاة، إنه دوام الأمن والاستقرار ولا أمن ولا استقرار بغير صلاة، إنه التوفيق من رب العالمين في كل شيء، ولا توفيق ولا تسديد بغير صلاة. فالله الله أيها المسلمون في الصلاة، من حافظ عليها، حفظه الله، ومن ضيعها ضيعه الله، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون . فالصلاة الصلاة عباد الله، في أول وقتها بخشوعها، بخضوعها، بأركانها، بواجباتها بسننها، وفي جماعتها، علّ الله أن يحفظنا ويرعانا إذا نحن حافظنا عليها وعظمناها.
فالزم يديك بحبل الله معتصما فإنه الركن إن خانتك أركان ... ... ...
... ... ...(/8)
... ... ...(/9)
الصلاة بين السواري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الصلاة بين السواري مسألة تكلم عليها العلماء، فقالوا: يجوز للإمام والمنفرد الصلاة بين السواري، ويكره ذلك للمؤتم لما فيها من قطع الصف، إلا لضرورة، لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل الكعبة صلى بين الساريتين)1.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: (كنا ننهى عن الصلاة بين السواري ونطرد عنها طرداً)2.
وعن معاوية بن قرة عن أبيه -رضي الله عنه- قال: (كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونطرد عنها طرداً)3
وعن عبد الحميد بن محمود قال: صليت مع أنس بن مالك يوم الجمعة فدُفعنا إلى السواري فتقدمنا وتأخرنا، فقال أنس: (كنا نتقي هذا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)4.
واختلف السلف في الصلاة بين السواري فكرهه أنس بن مالك لورود النهي بذلك رواه الحاكم وصححه، وقال ابن مسعود: "لا تصفوا بين الأساطين وأتموا الصفوف"، وأجازه الحسن وابن سيرين، وكان سعيد بن جبير، وإبراهيم التيمي، وسويد بن غفلة، يؤمون قومهم بين الأساطين، وهو قول الكوفيين، وقال مالك في "المدونة": "لا بأس بالصلاة بينهما لضيق المسجد". وقال ابن حبيب: "ليس النهي عن تقطيع الصفوف إذ ضاق المسجد، وإنما نهى عنه إذا كان المسجد واسعاً"5.
وقد بوب البخاري في "صحيحه" باب الصلاة بين السواري في غير جماعة، قال الحافظ ابن حجر: (قوله: "باب الصلاة بين السواري في غير جماعه" إنما قيدها بغير الجماعة لأن ذلك يقطع الصفوف، وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوب، وقال الرافعي في "شرح المسند": احتج البخاري بهذا الحديث -أي حديث بن عمر عن بلال- على أنه لا بأس بالصلاة بين الساريتين إذا لم يكن في جماعة، وأشار إلى أن الأولى للمنفرد أن يصلي إلى السارية، ومع هذه الأولوية فلا كراهة في الوقوف بينهما أي للمنفرد، وأما في الجماعة فالوقوف بين الساريتين كالصلاة إلى السارية انتهى كلامه، وفيه نظر؛ لورود النهي الخاص عن الصلاة بين السواري؛ كما رواه الحاكم من حديث أنس بإسناد صحيح، وهو في السنن الثلاثة وحسنه الترمذي، قال المحب الطبري: "كره قوم الصف بين السواري للنهي الوارد عن ذلك، ومحل الكراهة عند عدم الضيق، والحكمة فيه إما لانقطاع الصف، أو لأنه موضع النعال". انتهى. وقال القرطبي: "روي في سبب كراهة ذلك أنه مصلى الجن المؤمنين")6.
وقال ابن قدامة -رحمه الله-: (ولا يكره للإمام أن يقف بين السواري، ويكره للمأمومين؛ لأنها تقطع صفوفهم، وكرهه ابن مسعود والنخعي وروي عن حذيفة وابن عباس، ورخص فيه ابن سيرين ومالك وأصحاب الرأي وابن المنذر؛ لأنه لا دليل على المنع منه.
ولنا ما روي عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: "كنا ننهي أن نصف بين السواري على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونطرد عنها طرداً". رواه ابن ماجه. ولأنها تقطع الصف، فإن كان الصف صغيراً قدر ما بين الساريتين لم يكره؛ لأنه لا ينقطع بها)7.
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- عن حكم الصلاة بين الأعمدة والسواري، فأجاب: (إذا كان لحاجة فلا بأس، وإن لم يكن لحاجة فإنه مكروه؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يتقون ذلك)8.
وسئل كذلك عن حكم قطع الصف بأعمدة المسجد إذا كان مزدحماً بالمصلين؟ فأجاب بقوله: (لا ريب أن الأفضل في الصفوف أن تكون متراصة غير متباعدة, هذا هو السنة.
وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتراص, وسد الخلل. وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يتقون الصفوف بين السواري -أي بين الأعمدة- لما في ذلك من فصل الصف عن بعض. ولكن إذا دعت الحاجة إليه كما في السؤال بأن يكون المسجد مزدحماً بالمصلين, فإنه لا حرج في هذه الحال أن يصطفوا بين الأعمدة؛ لأن الأمور العارضة لها أحكام خاصة, وللضرورات والحاجات أحكام تليق بها)9.
نسأل الله أن يوفقنا للكل خير، يصرف عنا كل شر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - متفق عليه.
2 - رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، الحاكم وصححه، وقال الألباني: "إسناده حسن" (3/29) رقم (1567).
3 - رواه ابن ماجه، وقال الألباني: "حسن صحيح" (821).
4 - رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1/131) رقم (625).
5 - عمدة القاري (4/286).
6 - الفتح (1/578).
7 - المغني (2/47).
8 - مجموع فتاوى ورسائل ابن العثيمين السؤال رقم (389).
9 - مجموع فتاوى ورسائل ابن العثيمين السؤال رقم (1063).(/1)
الصلاة خلف المذياع أو التلفاز
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
مسألة حكم الصلاة خلف المذياع أو التلفاز من المسائل الحادثة في هذا العصر، ومعلوم أن السرعة التي حققتها هذه الوسائل في نقل الكلام والصور سرعة مذهلة خلال ثوان معدودة، فأنت ترى أو تسمع إمام الحرم المكي أو المدني أو أي إمام مسجد في العالم وهو يصلي وتنقل صلاته عبر الهواء مباشرة، وكأنك في البلد نفسه!. ولكن مع هذه المشاهدة القريبة ومع سماع الصوت القريب، فهل يجوز لإنسان أن يصلي خلف المذياع أو التلفاز وهو في بيته أو سوقه أو في أي مكان؟!
معلوم أن نصوص الكتاب والسنة قد دلت على وجوب أداء الصلاة جماعة كما في قوله -تعالى-: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ..) (النساء:102)، فإذا كان الله -تعالى- يأمر بالقيام إلى صلاة الخوف جماعة مع ما يكون فيه المقاتلون من خوف المباغتة، والاستعداد لعدوهم، فإن ذلك يدل على وجوب الجماعة.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) رواه البخاري ومسلم.
وقد أتى عبد الله ابن أم مكتوم -رضي الله عنه- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: (هل تسمع النداء بالصلاة؟) فقال: نعم، قال: (فأجب).1
فإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يرخص لهذا الرجل الأعمى أن يصلي في بيته وهو يسمع النداء، فإن ذلك يدل على وجوب أدائها جماعة في المسجد.
ومع هذا الإيجاب فقد ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيان فضل المشي إلى المساجد والإتيان لإقامة الصلاة فيها، فقال: (من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله؛ ليقضي فريضة من فرائض الله؛ كانت خطوتاه أحدهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة) رواه مسلم.
فهذه بعض الأدلة التي تدل على وجوب صلاة الجماعة وفضلها، ومن المعلوم أن الصلاة خلف المذياع أو التلفاز لا تتفق مع ما سبق لأن من وجبت عليه يؤديها خارج المسجد، وفيه استهانة بهذه الشعيرة العظيمة، وفتور عن امتثال أوامر الشريعة، وصدود وعزوف عما يضاعف به الحسنات، ويرفع به الدرجات، وتغفر به السيئات، وما كان كذلك فلا يجوز فعله، فمن صلى في بيته مقتد بالإمام عن طريق المذياع والتلفاز فصلاته غير صحيحة. وزيادة على ذلك: أن هذا أمر محدث، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم.2
وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بعدم صحة صلاة من صلى خلف المذياع أو التلفاز..
وهذا نص السؤال الموجه إلى اللجنة الدائمة:
ماحكم الصلاة مع الراديو أو آلة من الآلات المتصلة بالإذاعة التي يسمعونها من الراديو، وهم في أبعد مكان؟
فكان جواب اللجنة هو: إن نصوص الكتاب والسنة قد دلت على وجوب أداء الصلوات الخمس في جماعة... ثم شرعت بذكر الأدلة الدالة على وجوب صلاة الجماعة في المسجد.. إلى أن قالت الفتوى: ... إلى غير ذلك مما في معنى هذه الأحاديث، فإنها تدل على أنه ليس المقصود الأمر بمطلق أداء الصلاة جماعة فقط، بل الأمر بأدائها جماعة في المسجد إقامة لهذه الشعيرة في بيوت الله، وتنزهاً عن صفات المنافقين في التخلف عنها، ورجاء المثوبة والأجر، والمغفرة من الذنوب، ورفع الدرجات بما يمشيه إلى بيت الله -تعالى- من الخطوات، وتعرضاً لدعوات الملائكة له بالرحمة والمغفرة مادام في مصلاه لا يمنعه من انصرافه منها إلا انتظاره للصلاة. ومن صلى في بيته أو مزرعته أو متجره جماعة مع إمام المسجد على صوت المذياع -مثلاً- وتخلف عن شهود الجماعة في بيت الله دل ذلك على فتوره عن امتثاله أوامر الشريعة، وصدوده وعزوف نفسه عما يضاعف له به الحسنات، ويرفعه الله به إلى أعلى الدرجات، ويغفر له به السيئات، وخالف الأوامر الدالة على وجوب أدائها في المساجد، واستحق الوعيد الذي تُوعِّد به المتخلفون عن شهود الجماعة في المساجد.(/1)
ثم إنه قد تقع صلاته على أحوال لا تصح معها صلاته، عند جماعة من الفقهاء، مثل كونه منفرداً خلف الصف مع إمكان دخوله في صف لو كان بالمسجد، وكونه أَمَام الإمام، وقد يعرض مالا يمكنه معه الاقتداء بالإمام كخلل في جهاز الاستقبال أو الإرسال، أو انقطع التيار الكهربائي، وهو في أمن من هذا؛ لو صلى في مكان يرى فيه الإمام والمأمومين.
بهذا نرى أنه لا يجوز أن يصلي في بيته منفرداً أو في جماعة مستقلة عن جماعة المسجد أو مقتدٍ بإمام المسجد عن طريق الإذاعة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم).3
وسئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- السؤال التالي: بعض الناس المجاورين للحرم يصلون بمتابعة المذياع أو عن طريق سماع الصوت مباشرة، فيصلون في محلاتهم، أو في الطرق، وعلى الأرصفة، فما حكم صلاتهم؟
فأجاب بقوله: صلاتهم لا تصح، والواجب عليهم أن يصلوا في المسجد فإن صلوا في أماكنهم بناء على سماع المذياع، أو على صوت مكبر الصوت (الميكروفون) فإن صلاتهم لا تصح؛ لأن من المقصود في صلاة الجماعة أن يجتمع الناس في مكان واحد؛ ليعرف بعضهم بعضاً، فيتآلفون ويتعلم بعضهم من بعض).4
هذا والحمد لله رب العالين.
-----------------
1- رواه مسلم، ولم يذكر عبد الله ابن أم مكتوم، بل ذكر: جاء رجل.. وصرح أبو داود والترمذي بذكر اسم هذا الرجل وهو ابن أم مكتوم -رضي الله عنه-.
2- أحكام الإمامة والائتمام، للمنيف ص389. بتصرف.
3- الفتوى رقم (1759).
4- مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين.(/2)
الصلاة عماد الدين
إعداد/ صلاح نجيب الدق
الحمد لله الذي فرض الصلاة على عباده رحمة بهم وإحسانًا، وأجزل لهم
ثوابها، فكانت بالفعل خمسًا وبالثواب خمسين فضلاً منه وامتنانًا، والصلاة
والسلام على من لا نبي بعده، ثم أما بعد:
فإن للصلاة في الإسلام، بعد التوحيد
منزلة رفيعة، لا تدانيها منزلة أي عبادة أخرى، لذا أردت أن أُذكر نفسي وإخواني
الكرام بتعظيم قدر الصلاة، فأقول وبالله التوفيق:
1- الصلاة أول فريضة بعد
التوحيد: قال اللَّه تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله
مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا
الزكاة وذلك دين القيمة [البينة: 5].
روى الشيخان عن ابن عباس
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قومًا من أهل
الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول
اللَّه، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن اللَّه قد فرض عليهم خمس صلوات في كل
يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن اللَّه قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من
أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق
دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين اللَّه حجاب».
[البخاري 4347، ومسلم 19]
2- افتراض الصلاة على الأمم السابقة:
قال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند
بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة [إبراهيم: 37]، وقال جل
شأنه عن موسى وهارون عليهما السلام: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن
تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة
وأقيموا الصلاة [يونس: 87]، وقال اللَّه تعالى عن عيسى عليه السلام:
قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا (30)
وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة
والزكاة ما دمت حيا [مريم: 30، 31]، وقال سبحانه وتعالى عن
إسماعيل عليه السلام: واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان
صادق الوعد وكان رسولا نبيا (54) وكان يأمر أهله
بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا [مريم: 54، 55].
3- افتراض اللَّه الصلاة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة:
مما يدل على تعظيم قدر الصلاة في الإسلام أن اللَّه تعالى قد افترضها على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة وبدون
واسطة من الملائكة الكرام، وذلك حينما عُرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى في
السماء السابعة.
روى الشيخان عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يتحدث عن رحلة
الإسراء والمعراج: ففرض اللَّه على أمتي خمسين صلاة. [البخاري 349، ومسلم 162]،
ثم خففها اللَّه برحمته إلى أن صارت خمسًا في العمل وخمسين في الثواب.
4- الصلاةُ أحد أركان الإسلام:
روى الشيخان عن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن
محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان». [البخاري
8، ومسلم 16]
وروى الترمذي عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك برأس
الأمر وعموده وذروة سنامه ؟» قلت: بلى يا رسول اللَّه، قال: «رأس الأمر
الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد». [حديث صحيح: صحيح الترمذي
2110]
5- الصلاة أول ما يُحاسب اللَّه عليه العبد من الأعمال يوم القيامة:
روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول ما يُحاسَب به العبد يوم القيامة
من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من
الفريضة شيئًا قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي مِنْ تطوع، فيُكملُ بها
ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك». [حديث صحيح: صحيح الترمذي 337]
6- الصلاة أفضل الأعمال عند اللَّه بعد التوحيد:
روى الشيخان عن عبد اللَّه بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ العمل أحبَّ إلى اللَّه ؟ قال:
«الصلاة على وقتها». قال: ثم أي ؟ قال: بر الوالدين. قال: ثم أيّ. قال: «الجهاد
في سبيل الله».
[البخاري حديث 527، ومسلم حديث 85]
7- الصلاة قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم:
روى النسائي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حُبب إليِّ من الدنيا: النساء والطيب،
وجُعل قرة عيني في الصلاة».
[حسن صحيح: صحيح النسائي للألباني 3949]
8- المحافظة على الصلاة آخر وصية للنبي صلى الله عليه وسلم:
روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه قال: «كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة الصلاة، واتقوا اللَّه فيما
ملكت أيمانكم».
[صحيح: صحيح أبي داود 4295]
9- الأمر بتعليم الأطفال
الصلاة:مما يدل على منزلة الصلاة في الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الآباء بتعليم
أبنائهم الصغار الصلاة مع أمرهم بالمحافظة على أدائها منذ طفولتهم، مع ضربهم(/1)
على تركها تهاونًا ضربًا غير مؤذٍ، مع أنهم غير مُكلفين، وذلك حتى يعتادوا على
أداء الصلاة في باقي مراحل حياتهم.
روى أبو داود عن عبد اللَّه بن عمرو بن
العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم
عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع».
[حسن صحيح: صحيح أبي داود 466]
10- الصلاة صُلة بين العبد وربه:
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ناقصة) ثلاثًا، غير تمام، فقيل
لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: قال اللَّه تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل،
فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال اللَّه تعالى: حمدني عبدي، وإذا
قال: الرحمن الرحيم، قال اللَّه تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم
الدين، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين
عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم
غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل». [مسلم 395]
روى
البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بُصاقًا في جدار القبلة فحكه ثم أقبل
على الناس فقال: إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبل وجهه، فإن اللَّه قِبَل وجهه
إذا صلى». [البخاري 406]
11- جميع أعمال الصلاة توحيد وتعظيم لله تعالى:
قال محمد بن نصر المروزي رحمه اللَّه: لا عمل بعد توحيد اللَّه أفضل من الصلاة لله،
لأنه افتتحها بالتوحيد والتعظيم لله بالتكبير ثم الثناء على اللَّه وهي قراءة
الفاتحة، وهي حمد لله وثناء عليه وتمجيد له، ودعاء، وكذلك التسبيح في الركوع
والسجود والتكبيرات عند كل خفض ورفع، كل ذلك توحيد لله وتعظيم له، وختمها
بالشهادة له بالتوحيد ولرسوله بالرسالة، وركوعها وسجودها خشوعٌ له، وتواضع،
ورفع اليدين عند الافتتاح والركوع ورفع الرأس، تعظيم له، وإجلال له، ووضع
اليمين على الشمال بالانتصاب لله، تذلل له وإذعانٌ بالعبودية.
[تعظيم قدر الصلاة للمروزي ج1 ص268]
12- مَدْح اللَّه للمحافظين على الصلاة:
ومما يدل على المنزلة العالية للصلاة في الإسلام أن اللَّه تعالى عندما مَدَحَ عباده
المؤمنين، بدأ بذكر الصلاة قبل أي عمل آخر، قال سبحانه: قد أفلح
المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون [المؤمنون: 1،
2]، ثم ذكر سبحانه باقي الأعمال وختمها بذكر المحافظة على الصلاة، فقال جلّ
شأنه: والذين هم على صلواتهم يحافظون (9) أولئك هم
الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون
[المؤمنون: 9- 11].
وقال سبحانه مادحًا أهل الصلاة: إن الإنسان خلق
هلوعا (19) إذا مسه الشر جزوعا (20) وإذا مسه الخير
منوعا (21) إلا المصلين (22) الذين هم على صلاتهم
دائمون [المعارج: 19- 23].
13- التحذير الشديد لمن تهاون بالصلاة:
إن منزلة الصلاة في الإسلام رفيعة، ويدل على ذلك ما جاء في القرآن والسنة من
التحذير الشديد من إضاعتها والتهاون في أدائها، قال تعالى: فخلف من
بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف
يلقون غيا [مريم: 59]، روى ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز: «لم تكن
إضاعتهم تركها ولكن أضاعوا الوقت». [تفسير الطبري ج16 ص98]، وقال سبحانه:
فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون (5)
الذين هم يراءون (6) ويمنعون الماعون [الماعون: 4- 6].
روى
مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك
الصلاة. [مسلم 82]
14- الوصية بالاستعانة بالصلاة على جميع أمور الدنيا
والآخرة:قال المروزي - رحمه اللَّه - أمر اللَّه عباده أن يفزعوا إلى الصلاة
ويستعينوا بها على كل أمر من أمور دنياهم وآخرتهم، ولم يخص الاستعانة بها شيئًا
دون شيء، فقال: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها
لكبيرة إلا على الخاشعين [البقرة: 45]، وهم المنكسرة قلوبهم
إجلالاً لله ورهبة منه، فشهد لمن حقت عليه أن يقيمها له، إنه لمن الخاشعين.
[تعظيم قدر الصلاة للمروزي ج1 ص218]
روى أبو داود عن حذيفة بن اليمان قال: «كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى».
[حديث حسن: صحيح أبي داود 1171]
15- الصلاة تؤدى بالقلب مع جميع الجوارح:
قال المروزي - رحمه اللَّه - من الدليل على عظم
قدر الصلاة وفضلها على سائر الأعمال أن كل فريضة افترضها اللَّه، إنما افترضها
على بعض الجوارح دون بعض، ثم لم يأمر بإشغال القلب بها إلا الصلاة، فإنه أمر أن
تقام بجميع الجوارح، وذلك أن ينتصب العبد ببدنه كله ويشغل قلبه بها ليعلم ما
يتلو وما يقول فيها، ولم يفعل ذلك بشيء من الفرائض، لم يمنع أن يشتغل العبد في
شيء من الفرائض بعمل سواه إلا الصلاة وحدها، فإن الصائم له أن يلتفت وينام(/2)
ويتكلم بغير ذكر الصوم، ويعمل بجوارحه ويشغلها فيما أحب من منافع الدنيا
ولذاتها مما أُحلَّ له، والمقاتل في سبيل اللَّه له أن يلتفت ويتكلم، والحاج في
قضاء مناسكه قد أبيح له أن يتكلم كذلك فيما بين ذلك وينام ويشتغل بما أحبَّ من
منافع الدنيا المباحة له، وله أن يتكلم في الطواف وكذلك إعطاء الزكاة وجميع
الطاعات له أن يعمل فيها ويتفكر في غيرها. [تعظيم قدر الصلاة للمروزي ج1 ص171:
172]
16- الصلاةُ تشتمل على معظم أنواع العبادات:
تشتمل الصلاة على الاعتقادات
القلبية كالانقياد والإخلاص والمحبة والخشوع والمراقبة لله تعالى، وتشتمل على
أقوال اللسان من الشهادتين وتلاوة القرآن والتسبيح وسائر أنواع الذكر، وتشتمل
الصلاة أيضًا على عمل الجوارح من الركوع والسجود والقيام والرفع والخفض وغير
ذلك، وتضمن الصلاة أيضًا كثيرًا من الشرائط والفضائل منها: الطهارة الحسية من
الأحداث والأنجاس، والطهارة المعنوية من الإشراك والفحشاء والمنكر، وغير ذلك
مما لم يجتمع في غيرها من العبادات. [معارج القبول ج2 ص42]
17- الصلاة تميز بين المؤمنين والمنافقين في الدنيا والآخرة:
أما في الدنيا فإن الصلاة ثقيلة على
المنافقين، قال سبحانه إن المنافقين يخادعون الله وهو
خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون
الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا
[النساء: 142]
روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر
والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا». [البخاري 657، ومسلم
252]
وأما في الآخرة فإن المنافقين لا يستطيعون السجود إذا أمروا بذلك، قال
تعالى: يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا
يستطيعون (42) خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد
كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون [القلم: 42، 43].
روى
البخاري عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد
له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاءً وسمعة، فيذهب ليسجد،
فيعود ظهره طبقًا واحدًا». [حديث 4919]
18- النار لا تحرق آثار السجود:
قال المروزي رحمه اللَّه: من فضل الصلاة على سائر الأعمال أن من دخل النار من
المؤمنين لم يجدوا شيئًا من الأعمال التي عملوها بجوارحهم تمنع شيئًا من
أجسامهم من الاحتراق إلا السجود لله في الدنيا، فإن النار لا تصيب مواضع السجود
من المصلين خاصة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
[تعظيم قدر الصلاة ج1 ص292]
روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فرغ اللَّه من القضاء بين العباد
وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار
من كان لا يشرك بالله شيئًا، ممن أراد اللَّه أن يرحمه، ممن يشهد أن لا إله إلا
اللَّه، فيعرفونهم في النار بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود،
حرم اللَّه على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار وقد امتحشوا
(احترقوا) فيُصبُّ عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته كما تنبت الحبة في حميل
السيل».
[البخاري 7437، ومسلم 182]
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/3)
الصلاة والرياضة والبدن
بين كل فترة وأخرى تخرج علينا الأبحاث الحديثة تبين فائدة الصلاة الروحية والبدنية للإنسان، ويبين الباحث عدنان الطرشة في كتابه الصلاة والرياضة والبدن أن المسلم المحافظ على أداء الصلوات، يمارس فيها من الحركات البدنية المتكررة ما مجموعها يفوق مجموع الحركات التي يؤديها ممارس التمارين الرياضية - هذا إذا فرضنا أنه يمارس التمارين كل يوم - ولكن إذا علمنا أنَّ معدل ممارسته للتمارين هي ثلاث مرات في الأسبوع أو أقل عندها لا يبقى أي مجال للمقارنة، لأن المسلم لا يؤدي الصلاة مرة واحدة في اليوم بل خمس مرات.
وبعض الرياضات قد يمنع من ممارستها بعض الفئات من الناس: كبار السن، ومرضى القلب على سبيل المثال، بينما يستطيع هؤلاء أداء الصلاة لأن أداءها خال من أي خطورة، فحركاتها ليست عنيفة بل ناعمة وتؤدى ببطء وهدوء. كما أن الصلاة ممكنة الأداء لجميع مراحل النمو، ابتداء من مرحلة الطفولة وحتى آخر يوم في عمر المسلم، لأنها لا تتطلب قدرًا عاليًا من القدرات والاستعدادات أو المواهب الخاصة.
ويضيف الباحث: فإن الصلاة من أكثر الأنشطة البدنية أمانًا وبعدًا بالفرد عما قد تسببه ألعاب رياضية من إصابات، كما أن أداءها لا يحتاج إلى استشارة الطبيب كما هو الحال في التمارين الرياضية وبعض الرياضات الأخرى، فهي إذن بحق أفضل رياضة هوائية خفيفة تناسب جميع الناس.. إضافة إلى هدفها الأساسي وهو العبادة.
وكلنا يعلم الفوائد الأخرى للصلاة من النواحي الخُلقية والعقلية والاجتماعية والنفسية. كما أن لها قيمة تربوية في تعويد الفرد النظام والدقة، والمحافظة على المواعيد، والصدق والإخلاص، والتعاون والعمل مع الجماعة، خاصة أنها تؤدى بصورة جماعية وبتوقيت واحد.
لقد أخذ الأطباء في جميع بلدان العالم ينصحون الناس بممارسة الرياضة أو التمارين الرياضية للتعويض عن الحركة التي فيها حفظ الصحة والوقاية من الأمراض والتشوهات في القوام، وقد أخذ الناس فعلاً يخصصون أوقاتا لمزاولة الرياضة، وأخذ الناس في بلادنا يسعون وراء التمارين ويبحثون عنها ليحركوا بها أجسامهم، وبعضهم تارك للصلاة وغافل عن النعم والفوائد التي تتضمنها.
فالسعي وراء التمارين وتخصيص الأوقات لممارستها هو شيء جيد ومطلوب، ولا يستطيع أحد أن ينكر ما للتمارين الرياضية من فوائد بدنية، خاصة إذا مارسها الإنسان يوميًا، فهي تقوي العضلات، وتزيد من مرونة المفاصل، وتنشط الدورة الدموية،
وتحسِّن عمل القلب، وتكافح السمنة، وتخفض الكولسترول وغيره من شحوم الدم المؤذية، وقد ثبت أن الذين يمارسون الرياضة والتمارين الرياضية لديهم مناعة ضد الأمراض أكثر من الذين لا يمارسون أي نشاط رياضي ويقضون معظم أوقاتهم جلوسًا.
والغربيون - من غير المسلمين - بحاجة إليها لأنها ملجأهم الوحيد، وليس لديهم صلاة مثل صلاتنا، ونحن إذا نظرنا إلى ظاهر الصلاة وجدنا حركات وتمارين لأجزاء الجسم المختلفة، ومن الطبيعي أن يكون لهذه الحركات والتمارين - فوائد بدنية مثل ما للتمارين الرياضية من فوائد أتيت على ذكرها قبل قليل.(/1)
... ...
الصلاة ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- معنى الصلاة ووقت فرضيتها. 2- أحكام تارك الصلاة. 3- أهمية الصلاة. 4- دروس مستفادة من الصلاة. 5- بواعث الخشوع في الصلاة. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
قال الله تعالى: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء [إبراهيم:40]. دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام أن يجعله مقيم الصلاة على الوجه الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى، وأن يجعل ذريته متمسكين بهذه الطاعة الجليلة.
فما الصلاة؟ وما مكانتها؟ ولماذا؟ وما الدروس المستفادة منها؟ وما بواعث الخشوع في الصلاة ؟
أما الصلاة: فمعناها الدعاء لغة
وهي اصطلاحا: عبادة تحوي أقوالا وأفعالا مخصوصة تبدأ بالتكبير لله تعالى وتختم بالتسليم.
وينبغي أن تعلم:
أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء والمعراج خمسين ثم أنقصت حتى جعلت خمسا ثم نودي: ((يا محمد إنه لا يبدل القول لدي وإن لك بهذه الخمس خمسين))([1]).
إن المحافظ عليها على خير عظيم، وتاركها في جحيم مقيم، جاء في الحديث: ((من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة ويحشر مع فرعون وهامان وأبي بن خلف))([2]). ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى: أن (تارك الصلاة يحشر مع مثيله في الصد والامتناع فمن شغلته رئاسته عن الصلاة حشر مع فرعون، ومن شغلته وزارته ووظيفته حشر مع هامان، ومن شغلته تجارته وماله حشر مع أبي بن خلف).
وتارك الصلاة جحودا وإنكارا وسخرية كافر للحديث: ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة))([3]). وإذا كان الترك للعجز والكسل مع الاعتراف بفرضيتها فهو فاسق وعقوبته القتل للحديث: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله))([4]).
وذهب جمهور العلماء إلى أن تارك الصلاة واحدة يقتل ويضرب عنقه بالسيف، وقيل: يضرب بالخشب ويجب على الوالد أن يأمر ولده وأن يضربه إذا بلغ عشرا ولم يصل للحديث: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع))([5]).
والتارك للصلاة سنين ثم عاد تائبا لله تعالى، هل يجب عليه القضاء لما فات؟ رجح ابن تيميه رحمه الله، أن تارك الصلاة عمدا لا يشرع له قضاؤها ولا تصح منه بل يكثر من التطوع وفعل الخير وليتب ويستغفر.
لماذا الصلاة؟ وهل لابد من الصلاة؟ نعم: لابد منها:
1- لأنها دليل اعتراف العبد بعبوديته لله، وصورة شكر العبد ربه: ((كان عليه الصلاة والسلام يقوم الليل حتى تتفطر قدماه فتقول له عائشة رضي الله عنها: إن الله قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر، فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا))([6]).
والأنبياء معصومون عن إيقاع الذنوب، ولعلو قدر المصطفى كان ما يقع منه خلاف الأولى يعتبر ذنبا وهو مغفور له.
2- ولأنها الباب الذي تبث فيه شكواك وهمك، إذا أحاطت بك الخطوب، فخانك الصديق، وانقلب الحبيب عدوا، وعقّك الولد، وأنكرت جميلك الزوجة، فمالك الأمر هو الله فإذا ضاقت عليك الدنيا فقل: يا الله، وإذا ادلهمت الخطوب فقل: يا الله، وإذا مرضت فقل: يا الله: ((كان رسول الله إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة))([7]).
وصدق الله العظيم: ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون [هود:123].
3- ولأن الصلاة أمانة الله تعالى عندك، فإذا حفظتها حفظك الله وإذا ضيعتها ضيعك الله، ذكر الإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" حادثة عن الرازي: أن أعرابيا جاء المدينة وهو يركب ناقته فلما وصل المسجد ربط الناقة ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار والتعظيم لله، جل في علاه، فلما خرج لم يجد ناقته، فرفع يده وقال: اللهم إني أديت إليك أمانتك فأد إلي أمانتي فجاءته الناقة تسعى إليه.
4- ولأنها دليل حب العبد لربه، وتنشئ حبا من الله لعبده: أما أنها دليل حب، فهذه رابعة تناجي رب العزة وقت السحر فتقول: إلهي غارت النجوم، ونامت العيون، وأنت الحي القيوم، إلهي خلا كل حبيب بحبيبه وأنت حبيب المستأنسين وأنيس المستوحشين، إلهي إن طردتني عن بابك فباب من أرتجي؟ وإن قطعتني عن خدمتك فخدمة من أرتجي؟
وأما أنها تنشئ حبا للحديث: ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن إستعاذني لأعيذنه))([8]).(/1)
فهذا عمر بن الخطاب كان يخطب يوم الجمعة، فقال في خطبته: (يا سارية بن حصن الجبل، الجبل، من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم) فالتفت الناس إلى بعضهم ولم يفهموا مراد أمير المؤمنين، فلما قضى صلاته قال له علي : ما هذا الذي قلته؟ قال عمر: أسمعته، قال: نعم، أنا وكل من في المسجد، قال عمر: (لقد وقع في خلدي أن المشركين قد اختبئوا فوق الجبل وأن المسلمين يمرون، فإن عدلوا ظفروا، وإن جازوا الجبل هلكوا.. فخرج مني هذا الكلام).
وبعد شهر جاء البشير إلى المدينة فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم في تلك الساعة حين جازوا الجبل صوتا يشبه صوت عمر أمير المؤمنين يقول: يا سارية بن حصن الجبل، الجبل، فرفعنا رؤوسنا إذا العدو فوقه فأخذنا حذرنا وعدلنا عنه فنجونا([9]).
قال العلماء: الحديث: ((كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به . . الخ)). كناية عن حب الله لعبده الذي يحبه وتأييده له، وقيل: كنت حافظا لسمعه وجوارحه أن يستعملها في غير طاعة الله، انتهى.
5- يتربى صاحبها على الجرأة في الحق، فالصلاة، هي التي كان يجهر بها المصطفى متحديا الكفر وأهله، ومثيرا لغضبهم وحنقهم فهذا عقبة بن أبي معيط: يرى النبي يصلي في حجر الكعبة فوضع عقبة بن أبي معيط ثوبه حول عنق رسول الله فخنقه خنقا شديدا حتى أقبل أبو بكر ودفعه عن النبي ([10]).
وأما الدروس المستفادة منها فهي أن:
الصلاة صورة للمجتمع الإسلامي الذي يدعونا رب العزة أن نجعله واقعا وحقيقة.
استدل بها الأصحاب رضوان الله عليهم على أن أولى الناس بالخلافة بعد رسول الله أبو بكر وقد أمر المصطفى قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى أبا بكر أن يصلي بالناس وقالوا: من رضيه رسول الله لديننا رضيناه لدنيانا فعلم الأصحاب أن الخلافة مبنية على الكفاءة والدين كإمامة المسلمين للصلاة للحديث: ((يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة))([11]). فليس في إسلامنا إقليمية ولا عرقية للحديث: ((اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله))([12]).
وتعلم الأصحاب من الصلاة أن الإمام ومن يصلي وراءه إنما يخضعون لمنهج واحد في قراءتهم وركوعهم وسجودهم، فكذا الأمة ومن يتولى أمرها إنما يخضعون لمنهج واحدا من عند الله تعالى يحكم الحاكم والمحكوم معا فليس من صلاحية الحاكم أن يعبث بأعراض الأمة وأموالها ويظنها ملكا خالصا له، سيدي عمر بن الخطاب، وقد جاءته تجارة من اليمن تحمل الأقمشة فأعطى كل واحد قطعة، فلما صعد أمير المؤمنين المنبر بدت عليه قطعتان فلما قال: أيها الناس اسمعوا أطيعوا، قام إليه أعرابي، وقال: لا سمع ولا طاعة، قال: لم؟ قال: أعطيت كل واحد منا قطعة وعليك قطعتان، فنادى عمر في المسجد: أين ولدي عبد الله؟ فقام وقال: لبيك يا أبتي، قال: أو ليست الثانية لك وقد أهديتها لي، فقال ولده: بلى، فقال الأعرابي: الآن نسمع ونطيع. أي بعد أن علمنا أن أميرنا ليس بخائن ولا سارق ولم يخالف منهج الله تعالى، فمن حق الأمة في إسلامنا وفي المجتمع المسلم أن ترد الحاكم إلى المنهج كما أنا في صلاتنا نذكر الإمام إذا سها بقولنا: سبحان الله. فنذكره بالله بعد إذ غفل عنه بأمر الدنيا فسها.
وتعلم الأصحاب من الصلاة قوله : ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة))([13]). فمن كان منشغلا بسنة فعليه أن يدعها ويلتزم بالفرض مع الإمام. تعلم الأصحاب أن في شرع الله فرائض وسننا فلا تهدر الفرائض وتقام السنن، والمنكرات أنواع، فهناك المنكر الأكبر وهناك المنكر الأصغر وحفظ الطاقات وضمها لنصرة دين الله تعالى أولى من تضييعها في فروع لا تقدم ولا تؤخر في نصرة دين الله سبحانه.
وتعلم الأصحاب من صلاة الجماعة ما ينبغي أن يكون عليه الصف المسلم من التضامن والوحدة وسد الخلل، فلا يدعوا للشيطان مكانا بينهم للحديث: ((أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله))([14]). ولا ينبغي للمسلم أن يشذ عنه فقد روي: ((أن النبي رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد))([15]). إلا أن يكون مضطرا لقول ابن القيم رحمه الله: (غاية الاصطفاف الوجوب وهو يسقط للضرورة) وفي الأحاديث إشارات كريمة لطبيعة الصف المسلم وما ينبغي أن يكون عليه من التراص والتضامن، واللين، وعدم السماح للشيطان أن يعبث بوحدة الصف المسلم، وأن يكون كل مسلم حريصا على وصل الصف لا قطعه وألا يرى رأيا يخالف فيه إجماع المسلمين إلا أن يكون مضطرا لعموم الفتنة التي أحاطت ولا بد لذلك من أدلة شرعية تبيح للمسلم مثل هذا الانفراد، وإلا فلا.
وأما بواعث الخشوع في الصلاة فهي:(/2)
فلابد أن تعقل ما تقرأ فمن هديه أن حذيفة بن اليمان صلى مع النبي فيصف قراءته فيقول: ((إذا مر بآية تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ))([16]) يقول الإمام النووي: (يسن لكل من قرأ في الصلاة إذا قرأ آية عذاب يقول: اللهم إني أسألك العافية وإذا مر بآية تنزيه لله قال: سبحان الله كقوله تعالى: سبح اسم ربك الأعلى ، فيقول: سبحان ربي الأعلى. وإذا قرأ: أليس الله بأحكم الحاكمين قال: بلى وإني على ذلك من الشاهدين([17]).
ولابد أن نستحضر وقفتنا بين يدي الله عز وجل يقول الحسن: الصلاة من الآخرة. وكان إذا قام إلى الصلاة تغير لونه فيسأل عن ذلك فيقول: إني أريد القيام بين يدي الملك الجبار، ثم يقول: إلهي عبدك ببابك، يا محسن أتاك المسيء، وقد أمرت المحسن أن يتجاوز عن المسيء، فأنت المحسن وأنا المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بكريم ما عندك يا كريم. فليس للعبد نصيب من صلاته إلا بقدر ما خشع فيها للحديث: ((إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها وإلا عشرها))([18]).
ولابد من البعد عن مكروهات الصلاة، من العبث بالثوب أو البدن، فالصلاة تبطل من كثرة الحركة التي يظن الناظر أن فاعلها ليس في صلاة، أو يقوم إلى الصلاة مع مدافعة الأخبثين، أو كان بحضرة طعام جاء في الحديث: ((لا يصلي أحد بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان))([19]) ومر عمر بن الخطاب على رجل يعبث بلحيته، وهو في الصلاة فقال: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه)، والخشوع هو السكون أو رفع البصر إلى السماء في الصلاة للحديث: ((لينتهن أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم))([20]).
([1])أحمد والنسائي.
([2])أحمد والطبراني.
([3])أحمد ومسلم.
([4])رواه البخاري ومسلم.
([5])رواه أحمد وأبو داود.
([6])متفق عليه.
([7])رواه أحمد وأبو داود.
([8])رواه البخاري.
([9])قبسات من حياة الرسول ص 45.
([10])رواه البخاري.
([11])رواه أحمد ومسلم.
([12])رواه البخاري.
([13])رواه أحمد ومسلم.
([14])رواه أبو داود.
([15])رواه أبو داود.
([16])رواه مسلم.
([17])فقه السنة مجلد 1 ص 134.
([18])أخرجه أبو داود والنسائي.
([19])أحمد ومسلم.
([20])أحمد ومسلم. ... ...
... ...(/3)
الصمود وعداء اليهود
خطبة فضيلة الشيخ / عبد الرحمن السديس - إمام وخطيب المسجد الحرام
الصمود وعداء اليهود
خطبة الجمعة 6/2/1423هـ الموافق 19/4/2002م
الحمد لله المحمود بجميع المحامد تعظيماً وتشريفاُ وثناءً، المتصف بصفة الكمال عزةً وقوةً وكبرياءً، به نصول، وبه نجول، وبه نأمل دفع الكروب شدة وبلاءً، ودرء الخطوب ضنكاً ولأواءً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اختص المسجد الأقصى بالفضائل معراجاً وإسراءً، وحذرنا من كيد اليهود ووصفهم بأنهم أشد الناس للمؤمنين عداءً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل هذه الأمة جهاداً وفداءً، وأعظمها قدوةً واصطفاءا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ضربوا أروع الأمثلة صفاءً ووفاءً وطهراً ونقاءً، والتابعين ومن تبعهم وسار على نهجهم اهتداءً واقتداءً واقتفاءً، صلاة لا تطاولها أرضٌ أرضاً ولا سماءُ سماءُ، وسلم تسليما يزيده بهجةً وبهاءً ونوراً وضياءً وبركةً وثناءً.
أما بعد : فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى، تضرعوا بها شدةً ورخاءً، سراء وضراء، واعمروا بها أوقاتكم صباحاً ومساءً، فبها تُدفع المحن والبلايا، والفتن والرزايا، وبها تبوّأا الجنان عاقبةً وجزاءً.
أيها المسلمون:
في ذروة تداعيات الأحداث في الأمة، وفي ظل التهاب الأوضاع في المنطقة، بل وفي خضم تفجر القضايا في العالم ووسط هذا الصمت العالمي والتخاذل الدولي، والغليان في الشارع الإسلامي، لا بد من وقفة حازمة نستقرئ فيها التاريخ، ونتأمل في سنن الله الكونية والشرعية لنقوّم من خلالها مسيرة الأمة، ونقف طويلا مع الذات للمحاسبة الدقيقة والمراجعة الشاملة بمصداقية وشفافية، ثم الأخذ بزمام المبادرات للعمل الجاد لتحقيق مصالح الأمة أفراداً ومجتمعات، حفاظاً على المكتسبات وتوطيداً للأمجاد والحضارات، قبل أن يجرفها تيار المتغيرات وتضمحل في أتون المستجدات.
معاشر المسلمين :
وللتفاعل الإيجابي مع الحدث وللعيش مع القضية عن كثب، أستسمحكم - يرعاكم الله، أن أنتقل بكم نقلة شعورية من هنا حيث المسجد الحرام حيث تعيشون الأمن والأمان إلى هناك وما أدراك ما هناك حيث المسجد الأقصى المبارك وما يعيشه في هذه الأيام من أوضاع مأساوية، وما نكأته الأحداث الأخيرة من جراحات دموية لا يسع الغيورين على أحوال أمتهم السكوت عليها والتغاضي عنها (ولله الأمر من قبل ومن بعد) ولعل ذلك الإسراء المشاعري يؤكد الارتباط الشرعي والتاريخي الوثيق بين هذين المسجدين الشريفين (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله).
إخوة العقيدة :
لم يبرز التاريخ قضية تتجلى فيها ثوابتنا الشرعية وحقوقنا التاريخية وأمجادنا الحضارية كما برزت فيها الأحقاد الدولية وظهرت فيها المتناقضات العالمية وانكشفت فيها حرب المصطلحات وتعرّى فيها بريق الشعارات وسقط القناع عن التلاعب فيها بالوثائق والقرارات كقضية المسلمين الأولى قضية فلسطين المسلمة المجاهدة الصامدة والقدس المقدسة والأقصى المبارك، حيث تشابكت حلقات الكيد في سلاسل المؤامرة لتمثل منظومة شمطاء من العداء المعلن والمكر المبطّن في تآمر رهيب من القوى العالمية كان من أبرز إفرازاته الخطيرة انخداع كثير من بني جلدتنا بخطط أعدائنا ويتجلى ذلك في إقصاء قضية فلسطين والقدس والأقصى من دائرتها الشرعية ومنظمتها الإسلامية إلى متاهات ومستنقعات من الشعارات القومية والإقليمية والنعرات الحزبية والطائفية، وذلك لعمر الحق بتر لها عن قوتها المحركة وطاقتها الدافعة المؤثرة حتى تاهت القضية في دهاليز الشعارات والتواء المسارات وظلام المفاوضات ودياجير المساومات وأنفاق المراوغات في معايير منتكسة، وموازين منعكسة، ومكاييل مزدوجة، تسوّي بين أصحاب الحقوق المشروعة والادعاءات الممنوعة حتى خُيّل لبعض المنهزمين أن القضية غامضة شائكة لغياب التأصيل العقدي والشرعي لهذه القضية، أولسنا أمة لها مصادرها الشرعية وثوابتها العقدية وحقوقها التاريخية.
إخوة الإيمان:
ماذا يؤكد قرآننا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ماذا تقرر عقيدتنا؟ ماذا يدون تاريخنا عن القضية وأطرافها مما يؤكد بجلاء أن الصراع بيننا وبين اليهود صراع عقيدة وهوية ووجود. ألم نقرأ قول الحق تبارك وتعالى (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) وقوله سبحانه (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).(/1)
اقرءوا التاريخ لتدركوا أن يهود الأمس سلفا سيئا ويهود اليوم خلف أسوأ، كفّار النعم، محرّفوا الكلم، عُبّاد العجل، قتلة الأنبياء، مكذّبوا الرسالات، خصوم الدعوات، شذّاذ الآفاق، حثالة البشرية (من لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل)، هؤلاء هم اليهود، سلسلة متصلة من اللؤم والمكر والعناد والبغي والشر والفساد (ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين) حلقات من الغدر والكيد والخسة والدناءة، تطاولوا على مقام الربوبية والألوهية (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، لقد رموا الرسل بالعظائم، واتهموهم بالشناعات والجرائم، آذوا موسى، وكفروا بعيسى، وقتلوا زكريا ويحيى، وحاولوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم، عملوا له السحر، ودسوا له السم بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون).
أمة الإسلام:
فاليوم تواجه الأمة الصراع على أشده مع أعداء الأمس واليوم والغد، مع أحفاد بني قريظة والنضير وقينقاع عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، فهل يعي بني قومنا حقيقة أمة الغضب والضلال بعد أن تفاقم شرهم، وتطاير شرارهم، وطفح بالعدوان كيلهم، فالصراع أخذ يتفجر ويتعاظم، والاستغلال والأطماع تزداد وتتفاقم، والتمادي بالاستخفاف بالعرب والمسلمين ومقدساتهم بلغ أوج خطورته من جرذان العالم نقضة العهود والمواثيق، من عشش الغدر والتخريب والمكر في عقولهم، وسرى الظلم والطغيان في عروقهم فأبوا إلا الصلف والرعونة والفساد والأذى، فاستحقوا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لما جنحت الأمة للسلم تحقيقا للمصالح الكبرى ودرءا للمفاسد العظمى لم يجنحوا لها ولا عجب فهو سلام مع جهة لا يرضيها إلا تصفية الخصم، واستلاب أرضه، وتشريد أهله، والعبث باقتصاده، وإلغاء كرامته، وانتقاص سيادته، وتقطيع أوصاله، وتناثر أشلائه، ألا فلتعلم الأمة أن هؤلاء القوم قوم تاريخهم مفضوح، وسجلهم بالسواد مكلوء، ولن يرضوا إلا بتحقيق أطماعهم – لا بلغهم الله مرادهم، يريدون إقامة دولة إسرائيل الكبرى وأن تكون القدس عاصمة لهم، كما يطمحون ويطمعون إلى هدم المسجد الأقصى وبناء هيكلهم المزعوم على أساسه، يريدون إبادة دولة التوحيد والقرآن وإشادة دولة التوراة والتلمود على أنقاضها عليهم من الله ما يستحقون، فعلى مبادرات السلام السلام مع قوم هذا ديدنهم عبر التاريخ، وتلك أطماعهم ومؤامراتهم، ولعل ما شهدته الساحة الفلسطينية هذه الأيام من مشاهد مرعبة ومآسي مروعة حيث المجازر والمجنزرات والقذائف والدبابات، جثث وجماجم، حصار وتشريد، تقتيل ودمار في حرب إبادة بشعة وانتهاك صارم للقيم الإنسانية وممارسة إرهاب الدولة الذي تقوم به الصهيونية العالمية مما لم ينسه التاريخ بل يسجله بمداد قاتمة تسطره دماء الأبرياء الذين رويت الأرض بمسك دمائهم من إخواننا وأخواتنا على أرض فلسطين المجاهدة، عشرات المساجد دمرت، ومئات البيوت هدمت، وآلاف الأنفس أزهقت، كم من نساء أُهينت، وأطفال يُتّمت، ومقابر جماعية أُقيمت، فإلى متى الذل والمهانة، والضعف والهزيمة والاستسلام؟ أما آن لهذا الهوان أن ينتهي، وللضعف والذل أن ينقضي، وليل الليل الطويل أن ينجلي، فهل تفيق أمتنا من ثُباتها؟
نداء حار إلى قادة المسلمين أن أدركوا فلسطين قبل أن تضيع، واعملوا على إنقاذ الأقصى قبل أن يُستقصى، إن من يشن هذه الحرب الضروس ومن يقف وراءها انطلاقا من فلسفة الإبادة العنصرية لن يفلت من قبضة الجبار جل جلاله، كما لم يسلم من غضب الشعوب وسخط التاريخ، إنها مأساة يعجز اللسان عن تصويرها ويخفق الجنان عند عرض أحداثها, يعيَ البيان عن ذكر مآسيها ويقصر الوصف عن بيان أبعادها وخطورتها، مأساة بكل المقاييس ومعضلة بكل المعايير، ليس لها من دون الله كاشفة، فرحماك ربنا رحماك، واللهم سلم سلم.
إن هذه الكارثة من أوضح الدلائل على سجيّة القوم وما يكنونه لأمتنا ومقدساتنا ، إنه لأمر تبكي له العيون دم، يقتل الأبرياء العزل على أيدي سفاحي الصهاينة، ورثة النازية والفاشية، فأي حق لهم في فلسطين الأرض العربية الإسلامية التاريخية إلى قيام الساعة التي تبوأت منذ فجر التاريخ مكانتها المرموقة لدى المسلمين بل هي جزء من ثوابتهم وأمانة في أعناقهم، ولن يفرطوا بشبر من أرضها بإذن الله ما دام فيهم عرق ينبض، وإن الحق الذي يدعيه يهود في فلسطين خرافة لا سند لها، وصلافة لا مبرر لها، لقد مضى أكثر من خمسة عقود من الزمان على قضية المسلمين الكبرى والمأساة تتجدد يوما بعد يوم فأين المسلمون؟
إني أنادي والرياح عصيبة والأرض جمر والديار ضرام
يا ألف مليون ألا من سامع هل من مجيب أيها الأقوام(/2)
قد بحّ صوتي من نداك أمتي هلا فتىً شاك السلاح همام
لقد نكأت الأوضاع المستجدة الجراح، فأين منا خالد والمثنى وصلاح، يا ويح أمتنا ما ذا أصابها أيطيب لنا عيش ويهدأ لنا بال ويرقأ لنا دمع ومقدساتنا تئن وقدسنا تستنجد وفلسطيننا تنادي والأقصى يصرخ قائلا
كل المساجد طُهّرت وأنا على شرفي أدنّس
كل ذلك يحدث على مسمع من العالم ومرأى، وكأن المسلمين لا بواكي لهم، أين العالم بهيئاته ومنظماته، أين مجلس أمنهم وهيئة أممهم، أين هم من بكاء الثكالى، وصراخ اليتامى، وأنين الأرامل، واغتصاب الأرض، وتدنيس العرض، فسلام الله على جنين الصمود، ونابلس الشموخ، أين شعارات ومنظمات حقوق الإنسان الزائفة، ماذا يريد الضمير العالمي، وأين هي المقاطعات السياسية والاقتصادية على مجرمي الحرب والمستهترين بالأعراف الدولية والقرارات العالمية.
فيا صناع القرار، يا قادة العالم، يا أصحاب الرأي، يا من تدعون محاربة الإرهاب ماذا تسمون ما فعله هؤلاء المجرمون بالمسلمين في فلسطين، وسيرجع إليك الطرف خاسئا وهو حسير حينما يتهمون أصحاب الحق المشروع المقاومين للظلم والبغي والاحتلال بالإرهابيين، فهل تطلعات أكثر من مليار من المسلمين في الحفاظ على مقدساتهم تعد وحشية وإرهاب (سبحانك هذا بهتان عظيم).
أيها الإخوة المرابطون على أرض فلسطين المجاهدة الصامدة أرض العز والشموخ والفداء والتضحية والجهاد والإباء، يا أهلنا في الأرض المباركة فلسطين، يا أحبتنا في أرض الإسراء والمعراج، عذرا إن وجدتم في كثير من أبناء أمتكم التخاذل والتثاقل، لكم أرّقنا أنّ أقصانا أسيراً بأيدي الطغاة البغاة العتاة، فما يُذكر الأقصى - أقر الله الأعين بفك أسره وقرب تحريره، إلا وتعتصر قلوبنا حسرة وأسى على ما جرى له ويجري مما فطّر الأكباد وأدمى القلوب، وصبراً أيها المرابطون لقد سطرت انتفاضتكم المباركة بأحرف العز والنصر والشرف ملحمة من أروع النماذج في التاريخ المعاصر، لقد أعدتم الأمل في النفوس فثقوا بنصر الله لكم متى نصرتم دينه (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) قلوبنا معكم، والله ناصركم، والمال نبذله فواصلوا دربكم واستنهضوا الهمما.
هنيئا لكم تقديم الأرواح رخيصة في سبيل الله، ودعاؤنا أن يتقبل الله قتلاكم شهداء، وأن يكتب لمرضاكم عاجل الشفاء، وأن يحيينا وإياكم حياة السعداء، لا تيئسوا من روح الله، فالنصر قادم بإذن الله (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)، (ألا إن نصر الله قريب).
الله أكبر : هذه بوارق النصر تلوح، ورائحته تفوح، تتوجها انتفاضة جهادية باسلة لا تزال هي الورقة الرابحة، وشمعة الأمل المضيئة في أيدي المخلصين من أبناء هذه الأمة، حيث لم تفلح سياسة لي الذراع وألوان الصلف والتعسف، إنها أرواح تتهادى لنصرة دين الله وإعلاء لكلمة الله، وما أكثر النماذج الحية في أمتنا المعطاء التي أنجبت الأبطال والشهداء، ولئن كان سياق العاطفة يغلب في طرح هذه القضية المؤرقة فأي عاطفة يجمل بها أن تجمد وتتبلد في أوضاع ملتهبة وأحداث متفجرة غير أن عاطفتنا لا ينبغي أن تطغى على عقولنا وحكمتنا فتخرج بها عن الضوابط الشرعية والأنظمة المرعية في كفاح موهوم أو غوغائية مثيرة لا بد من الجد في مسالك الإصلاح والاستيقاظ من الغفلة والتغفيل وبث الوعي العميق والتحصيل الوثيق بخطى مؤصلة ومنهجية مدروسة تواجه دسائس اليهود بكل حزم وحكمة.
أمة الجهاد والفداء:
إن من واجب المسلمين الوقوف مع إخوانهم في العقيدة في فلسطين وغيرها ودعمهم ماديا ومعنويا بالإنفاق في سبيل الله، فالجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس في كثير من آي الكتاب وسنة النبي الأواب كما لا يخفى على أولي الألباب (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) وقال صلى الله عليه وسلم (جاهدوا المشركين بألسنتكم وأموالكم وأنفسكم).
والمسلم الحق لا يتردد في البذل والعطاء في مواطن الجهاد والفداء (هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).
أيها الأحبة في الله:(/3)
ألا وإن مما يبعث على التفاؤل هذا التفاعل الإسلامي والتعاطف الإيماني والترابط الأخوي الشعبي لأمتنا الإسلامية مع إخوانهم المسلمين هناك، وقد تابع الغيورون بكل تقدير وإعجاب ما أسفرت عنه حملة التبرعات المباركة لدعم انتفاضة الأقصى مع ما يؤمل من بذل المزيد من نصرة الحق وأهله وردع الظلم وأهله، فهنيئا لهذه البلاد المباركة مبادراتها الإيجابية العملية البناءة، ولا غرو فلها القدح المعلى والدور المجلى في نصرة قضايا المسلمين ووقوفها معهم لا سيما عند الكوارث، تشد أزرهم، وتضمد جراحهم، انطلاقا من واجبها الإسلامي كونها قبلة المسلمين ومحط أنظارهم، ولقد كانت قضية فلسطين إحدى ثوابت سياستها الخارجية في مؤازرة شتى قضايا أمتنا الإسلامية جعلها الله في موازينها وزادها من الخير والهدى والتوفيق بمنه وكرمه، والدعوة موجهة إلى المسلمين جميعا في دعم هذه الحملات الخيرية المباركة لنكون يدا واحدة تسبق أفعالنا أقوالنا في نصرة الإسلام والمسلمين والدفاع عن مقدساتنا وعدم التفريط بأي من ثوابتنا العقدية والشرعية وحقوقنا التاريخية مهما كلفنا ذلك من ثمن، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والذلة والصغار على أعداء الإسلام والمسلمين من اليهود والوثنيين وسائر المفسدين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الأحد الواحد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو المستعان على ما نرى ونشاهد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد عظم البلاء وقل المساعد، وحسبنا الله ونعم الوكيل وقد عظم الخطب والكرب زائد.
وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله أفضل أسوة وأكرم مجاهد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي المكارم والمحامد، وصحبه السادة الأماجد، والتابعين ومن تبعهم بأحسن السبل وأصح العقائد، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة في الله: لعل اللبنة الأولى في مواجهة هذا الصراع مع العدو الصهيوني الغاشم هي العودة إلى الذات، إصلاح بناء الأمة من الداخل، اعتصامها بحبل الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والوقوف صفا واحدا أمام العدو المتربص والتفطن للعدو من الصديق في الوقت الذي تواجه فيه الأمة ألوانا من التحديات يتولى كبرها والتخطيط لها حكام صهيون وأذنابهم وأفراخهم في حروب معلنة وخفية حتى بلغوا مبلغا خطيرا أنجبت هذه المخططات نوابت في بلاد المسلمين ترفض الشريعة وتعبث بالأخلاق والقيم، سُخرت أقلام وأفلام ووسائل إعلام لخدمة هذه المخططات الآثمة وفي الأمة من لا يزال سادرا في غيه وضلاله يثبط ويخذل ولا تمثل عند مقدسات الأمة شيئا، لا تثير فيه عاطفة إسلامية، يرى الأقصى كأي مبنى آخر في وجه علماني كالح، وآخرون في الأمة أشتات متناثرون لعبت فيهم الفرقة والخلافات والأهواء واكتوت قلوبهم بالحسد والبغضاء والتباغض والشحناء، وأشغل كثير منهم بالبدع والمحدثات ولربما تشاءموا من بعض الشهور والأيام وذوي العاهات والأسقام، إنها دعوة للأمة إلى أنه لا يسترد مجد ولا يطلب نصر إلا بالسير على خطى سلف هذه الأمة فلن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها وإن التفريط في الثوابت ودخول النقص على الأفراد والمجتمعات في عقيدتها وقيمها وأخلاقها وفضائلها سبب لحلول الهزائم في الأمم والانتكاسات في الشعوب والمجتمعات، فلن يحرر الأقصى إلا بالقيام بما أمر الله به ووصى، ولن تسترد المقدسات إلا برعاية العقيدة والشريعة والمكرمات في محافظة على سياج الفضائل ومجانبة للشرور والرذائل، في محافظة على قيم أبناء المسلمين وفتياتهم ومجانبتهم دسائس اليهود ومسالك الشر والفساد والسفور والتبرج والاختلاط، والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأن يهيئ لهم من أمرهم رشدا، إنه جواد كريم.
ألا قد بلغت اللهم فاشهد، ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبي الرحمة والملحمة، من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أمركم بذلك المولى اللطيف الخبير ووصى (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين...
أيها المسلمون إني داع فأمّنوا، أمّنوا من كل قلوبكم، فالدعاء باب من أعظم أبواب النصر علّ هذه الدعوات توافق من السماء بابا مفتوحا فيستجاب لكم(/4)
لا إله إلا الله الحليم العظيم، لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
سبحانك ربنا ، عز جارك، وجل ثناؤكن وتقدست أسماءك، سبحان وبحمدك ، لا يّهزم جندك، ولا يّخلف وعدك، لا إله إلا أنت، لا إله إلا الله نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، اللهم منك الفرج، وإليك المشتكى، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بك
اللهم إنك تعلم ما حل بإخواننا في فلسطين، اللهم إنك ترى مكانهم، وتسمع كلامهم، وتعلم حالهم، ولا يخفى عليك شيء من أمورهم، اللهم إنا نشكو إليك أنفسا أزهقت ، ودماء أريقت، ومساجد هدمت، وبيوتا دمرت، ونساء أيمت، وأطفالا يتمت، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جياع فأطعمهم، مظلومون فانصرهم، مظلومون فانصرهم، مظلومون فانصرهم.
اللهم إن إخواننا في فلسطين يشكون إليك ضعف قوتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس، أنت ربنا وربهم، إلى من تكلهم، إلى بعيد يتجهمهم أم إلى عدو ملكته أمرهم إن لم يكن بك عليهم غضب فلا يبالون غير أن عافيتك هي أوسع لهم، نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بنا وبهم غضبك أو أن ينزل علينا وعليهم سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك
اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، فإنهم لا يعجزونك، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف، اللهم أهلكم بالسنين، وأخرجهم من المسجد الأقصى أذلة صاغرين، اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، واجعلهم لغيرهم عبرة وآية، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين(/5)
الصياد الماهر
د. علي بن عمر بادحدح
المحتويات :
• المقدمة والتوطئة .
• فضل الدعوة .
• الحرص على الدعوة .
• فهم السلف لأهمية الدعوة .
• أساسيات فقه الدعوة .
• أسس الداعية وعدته .
• الدعوة وحالة المدعو .
• الاهتمام بالمدعو بعد دعوته .
الصياد الماهر
المقدمة والتوطئة
وأول ما نبدأ به من الحديث ما يتعلق بالصياد، ووصفه، وكيف يكون ماهراً، ثم شأننا وهذا الصياد ، ثم بعد ذلك حينما نربط أمرنا، نمضي قدما لننتفع بما نحتاج في أمر مهم من أمور حياتنا، وفي مهمة عظيمة من المهمات المنوطة بنا ، والتي لا بد لنا أن نعرفها ، وأن يتبصر بها كل أحد ، وهي أن يعرف الجميع كيف يكون الصياد ماهراً.
ونعني أولا بالصياد: المحترف الذي يكتسب من هذه الصنعة، والذي يتفرغ لها، ويبرع فيها، وينتج منها، وليس هو ذلك عابر السبيل، الذي ربما اقتنص طيراً وكيفما اتفق معه الحال، فأما الماهر فهذا الذي نعنيه.
أولا: ما علم الناس ولا يعرفون صياداً يصيد وهو قابع في قعر داره .. وهو جالس في بيته، وإنما لا بد له أن يخرج إلى مكان الصيد حتى يصطاد،
وثانياً: أنه لا يمكن أن يخرج غفلاً من عدته ، ليس معه إلا يدين خاويتين، بل لا بد له من عدة يأخذها معه حتى يصطاد بها، ونحن نعرف أيضا أنه يحتاج إلى تفقد عدته ليطمئن إلى صلاحيتها للصيد، من بعد ذلك فإننا نعرف أنه يختار لكل نوع عدته التي تخصه، فهو يعد الشباك لصيد البحر، والسهام لصيد البر، والبندقية لصيد الطير، وكل عدة لا تنفع إلا لصيد معين. فهو إذا لا بد أن يحدد العدة لحسب الصيد الذي ينطلق إليه ويرغب فيه.
وكذلك نعلم أنه كلما هيأ عدته وكثر أسبابها ؛ فإن ذلك يعود عليه بغنيمة أوفر في الصيد، فالذي عنده شبكة صغيرة لا يصيد مثل الذي عنده شبكة كبيرة، والذي عنده ذخيرة قليلة لا يصيد مثل الذي عنده ذخيرة طويلة - ولاشك - في أن للعدة وتهيئتها أثر بالغ في عظم الصيد وكثرته.
ثم نمضي مع هذا الصياد بعد أن هيأ عدته وكثرها وجعلها مناسبة لصيده ، ثم خرج من داره ؛ فإنه قطعاً- ولا شك - سينطلق لمكان مناسب يخرج منه ويرجع إليه بصيد واحد، فلن يذهب - مثلا - إلى المياه الضحلة التي ليست فيها سمك ، ولن يذهب إلى أرض فضاء ليست فيها طير، لأنه حينئذ لن يكون صياداً ماهراً! بل لن يكون صياداً بالكلية، فعليه إذاً أن يختار المكان المناسب ، وهذا المكان هو الذي تتوفر فيه أعداد كثيرة مما سوف يصيد ، وتتوفر فيه أسباب من النجاح وفيرة ، ثم إذا وصل إلى ذلك المكان لا شك أنه يحتاج:
أولا: أن يفحص المنطقة ، وأن يدرس الموقع دراسة جيدة ، حتى يحدد لنفسه المكان المناسب الذي يتهيأ فيه لصيده ، فإذا كان الأمر يحتاج إلى تخفٍ تخفى عن الوحوش التي تشكل خطراً عليه ، وكذلك من الغزلان التي بمجرد رؤيته تفر منه، وإذا كان الأمر يحتاج إلى مكانٍ رحبٍ لينطلق ويعدو - فلا شك - أنه سيختار ذلك الموقع ، فإذاً مجرد وصوله إليه لا يكفي ذلك ، بل يحتاج إلى دراسة ذلك الموقع وتفحصه، ومن بعد ذلك يتفاعل معه الموقع ، ويقرر المكمن الذي يكمن فيه لصيده. ثم نرى الصياد من بعد ذلك متربصاً كامناً، متحلياً بالصبر موصوفاً بطول النَفَس، لا يكمن فقط خمس دقائق ، إن وجد صيداً وإلا رجع . هذا إذا كان هاوياً .. نعم ! أما إذا كان ذلك الصيد مصدر رزقه ؛ فإنه- لا شك - سوف يمكث مهما طال الزمن ، ومهما امتد الوقت، ومن بعد ذلك نجده إذا ظفر بصيد يجتهد اجتهاداً كبيراً في إصابته، ولا يتعجل ويرمي طلقته كيفما اتفق، بل يتهيأ، فيضبط شبكته ويضبط منظار بندقيته ، لماذا ؟
لأنه إذا اخطأ في الضربة الأولى التي يقتنص منها، فحينئذ يوفر على نفسه ووقته، ويوفر عدته، ويوفر جهده ، فإذا به يحرص كل الحرص على عدم تنفير الصيد وهذه حاسة مهمة، فالصياد تراه يسير على أطراف قدميه ، ويتوقى إحداث أصوات تنفر الصيد، بل هو يبالغ في الإحسان في الطعم الذي يقدمه حتى لا ينفر منه الصيد ، وهذه سمة أساسية في الصياد ، أما إن تحرك حركة طائشة ؛ فإنه ينفر صيده ، وإذا استخدم طعاماً فاسداً كذلك ينفر صيده ، وهذا لا يكون بحال ماهراً ولا صياداً، ثم إننا نجد بعد ذلك أن طويل النفس لا يدبّ إلى نفسه اليأس، بل إذا فاته الصيد كمن مره أخرى ، وإذا كان الموقع غير مناسب، انتقل إلى غيره ، لماذا؟
لأنه لا بد له من الصيد، فهولا يستغني عن الموقع لأنه مصدر رزقه.
ثم أيضا نجده لا ينصرف عن مهمته لعوارض أخرى، فلا يصرفه مثلا: جمال المنظر في البحر، وزرقته ، والشمس ولون غروبها ، فيتأمل في ذلك المنظر الجميل، ويضع بندقيته بجانب خضرة الأشجار، وخرير المياه، إن فعل ذلك فهو- بلا شك - قد توجه وجهة أخرى، ونسي المهمة التي خرج لأجلها، وبالتالي فهو قطعاً سيضيع الثمرة التي خرج ليقطفها، وآخر الأمر، فإننا نجد ذلك الصياد إذا وفر بصيده انتفع به من كل الوجوه ، فإذا بلحمه يؤكل ، وإذا بجلده يدبغ ليباع أو لينتفع به انتفاعاً كاملاً .(/1)
هذه صورة لهذا الصياد فما صلتنا به، وهل سنتحدث عن صيد اللؤلؤ، أو عن صيد السمك، أو عن صيد الطيور، أو عن أي صيد مما يصاد ؟
ليس ذلك مقصدنا وغايتنا، وإنما هي المقدمة والتوطئة لما نريد أن ننبه عليه ، وأن نتأمل فيه ، ونربط الربط الذي ينقلنا إلى قلب الموضوع ولبّه.
وسنمضي مع بعض أقوال عبد القادر الجيلاني - وهو يبين لنا صفات المسلم الكامل الزاهد البصير - فيقول لنا في وصفه: " الزاهد الكامل في زهده لا يبالي في الخلق، لا يهرب منهم بل يطلبهم " ويقول: " المبتدئ يهرب من الفساق والعصاة، والمنتهي يطلبه ، كيف لا يطلبهم وكل دوائهم عنده " ثم يأتي إلى موقع الذي سينقلنا إلى ربط بين القضيتين، فيقول: " من كملت معرفته لله - عز وجل - صار دالاً عليه، ويصيّر الشبكة ويصطاد بها الخلق من بحر الدنيا " .
هذا حديثنا عنك أيها العالم .. عنك أيها الداعية .. عنك أيها الواعظ الذي تكلم العلماء في أنك تكون كما قال بعضهم: يصطادون الخلق بشباك الحق، فأنت صياد لكنك تصيد الناس من الفسق إلى الطاعة ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ومن الغفلة إلى التذكّر.
فهذه هي مهمتك في هذه الحياة ، ولا يمكن أو لا نرضى لك إلا أن تكون صياداً ماهراً، وكما سرنا مع ذلك الصياد في وصفه ، ورأينا كيف تحققت له صفة المهارة ، ويكفي أن يحظى في آخر الأمر بالثمرة التي يرجوها.
وكذلك نمضي معك فأنت الصياد صاحب المنهج ، وأنت تسير على ذات الخطى التي أخذ بها ذلك الصياد الذي أسلفنا ذكره.
فضل الدعوة
وغني عن القول أننا لا نحتاج إلى إفاضة عن فضل ذلك الصيد - يعني فضل الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى- وهذا أمر يطول الحديث فيه، وحسبنا منه تذكره، لأننا لسنا في مقام الإفاضة فيه والله - جل وعلا - يثني على هؤلاء الدعاة الذين يتهيئون لصيد الخلق إلى حياض الحق فيقول - سبحانه وتعالى - : { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين}، فتلك مرتبة عالية يبينها النبي - صلّى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كما في البخاري: ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )، وكذلك بينها لنا حديث ابن مسعود عند مسلم: ( من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله)، فيدفعك ذلك إلى أن تعرف هذا الأمر، وأن تعرف كذلك عظمة الثواب الذي يتصل فلا ينقطع، ويدوم في الحياة وبعد الممات، كما في حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - في الصحيح عن النبي - صلّى الله عليه وسلم - : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث .... ) و ذكر منها : (علم ينتفع به). وهذا العلم هو ذلك التوريث للدعوة والسيرة الحسنة ، والقدوة الكاملة.
الحرص على الدعوة
فالذي تكون المسالة بالنسبة له هواية عارضة، أو قضية ثانوية، أو عملا يشغل به فضول أوقاته ، فهذا قطعاً ليس هو الذي نركز عليه في حديثنا، وليس هو الذي يعبر عنه قول الله - سبحانه وتعالى-: { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } ، أو ذلك الذي أمضى كل عمره وهو في هذا الشأن، وهذا الطريق متمثلا قول الله :{ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } .
ولكن الذي نعنيه هنا ، هو ذلك المسلم الذي يرى الدعوة مهمته ، ويعلم وجوب الدعوة لنصوص كثير متضافرة .
وتأمل ذلك الحرص الفريد العجيب، الذي مثله لنا رسولنا – صلى الله عليه وسلم - حينما جعل مهمته وغايته في الحياة هي هداية الناس ودعوتهم إلى طريق الله سبحانه وتعالى، حتى خاطبه القران من شدة حرصه، فقال - جل وعلا- : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين }، وقال : { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين } وقال : { ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون } وذكر من حالته - عليه الصلاة والسلام- : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } أي لعلك مرهقاً نفسك ، ومتلفاً جسدك ، وأنت تبتغ القوم ، وتمضي في أثرهم ، وهم يعرضون عنك ، تريد لهم الخير وهم يبتعدون عنك .
و هذا الحرص من منطلق الفهم الصحيح لعظمة الرسالة ولخيرتها ، فالذي يعرف هذا الخير، ينبغي أن تكون نفسه بتأثرها بذلك الخير تحب الخير للآخرين ، كما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم - : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
والنفس التي ترى النور تأسى وتحزن على الذين يعيشون في الظلام يتخبطون فيه ، ويقعون في المنزلقات مرة بعد مرة ، و لذلك قال النبي - عليه الصلاة والسلام -:( إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها فجعل ينزعهن ويغلبنه ،فيقتحمن فيها ، فأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وهم يقتحمون فيها ).(/2)
فإذا لا بد أن تعرف أنه لا بد لك أن تكون حريصاً غاية الحرص على هداية الخلق ، وأن تعرف أن هذه المهمة واجبة وأن هذه الرسالة عظيمة وأنه يبتغي أن يستفرغ لها الجهد، والفكر، حتى تؤتي ثمارها كما كان على ذلك الرسول - عليه الصلاة والسلام .
فهم السلف لأهمية الدعوة
ذكرنا أن الصياد لا يقبع في بيته بل يخرج ويتجه إلى الصيد .
وتأمل، هذه المقولات وهذه الأمثلة، التي تنفي عن جلوسك في بيتك وقعودك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأخرك عن إرشاد الخلق، وخروجك إليهم لتبصرهم بما هم عليه من الخطأ وما يقعون فيه من الزلل، فهذا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه - أحد المبشرين بالجنة- يقول: " إن أقل العيب على المرء أن يجلس في داره " وما أقوى هذه الكلمة،وما فيها قوة وشدة،.
ثم استمع إلى عطاء بن أبى رباح وهو يقول: " لئن أرى في بيتي شيطانا خير من أرى وسادة لأنها تدعو إلى النوم " .
فانظر إلى فقه القوم كيف دفعوا الكسل، وكيف أرادوا ألا تركن أنفسهم إلى الدنيا؟ وألا يظلوا منكمشين عن الناس، يحبسون العلم في صدورهم، و الحكمة في ألسنتهم، ما كان ذلك دأبهم ، بل كان أحدهم يرى أن وسادة النوم -التي تدعو إلى الكسل وإلى التثاقل وإلى عدم الخروج للدعوة - كان يراها أشد عليه من الشيطان الذي يخطر بينه وبين نفسه.
ثم تأمل أيضا تلك المقالة من أبي حامد الغزالي - رحمه الله تعالى - وهو يقول : " اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً في هذا الزمان عن منكر، من حيث التقاعد عن إرشاد الناس، وتعليمهم، وحملهم على المعروف، ما دمت قاعداً في بيتك فلا بد أن يلحقك نوع قصور، وبعض إثم، لأنك ما خرجت لتعريف الناس، ثم من بعد ذلك تعرف حالهم ، وتصحح نهجهم ، وتمضي من بعد ذلك مع فعل النبي - عليه الصلاة والسلام - منذ أن بزغ نور الإسلام في أول صلة بين الأرض والسماء من قول : { اقرأ } الأولى التي نزل بها جبريل - عليه السلام - على النبي - عليه الصلاة والسلام- ثم جاءت {أنذر عشيرتك الأقربين } وجاء من قبلها: { يا أيها المدثر * قم فأنذر } .
و ما يقوم القاعد، وما يقوم النائم ، وما يقوم الذي لا يفارق داره ، ولا يخرج من بلده ، فذلك ما قام للإنذار، ولا تحرك للدعوة والرسول - عليه الصلاة والسلام - حينما نزل قول الله - عز وجل -: { وأنذر عشيرتك الأقربين }، خرج من بيته ورقى على الصفا، وجعل ينادي الناس: يا بني فهر، يا بني عبد مناف، يا بني عدي، وجعل ينادي قريشا بطنا بطنا، ثم يقول لهم عليه الصلاة والسلام: ( أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي، قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب اليم، فقال أبو لهب: تبا لك ألهذا جمعتنا ؟!! ،
وعند احمد عن رجل من بني مالك من بني كنانة، قال: رأيت الرسول – صلى الله عليه وسلم - بسوق ذي المجاز يتخللها، فيقول:( يا أيها الناس، قولوا لا اله إلا الله تفلحوا) وأبو لهب في إثره يحثوا عليه التراب، ويقول : لا يغوينكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم، وتتركوا اللات والعزى.
فتأمل هذا النص وهو يقول: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بسوق ذي المجاز يتخللها، يعني يأتي إلى المواسم والى الأسواق، ويخرج إلى الناس ويلقاهم في مجامعهم، ويغشاهم في مجالسهم، وهذه أول خطوة في الصيد، وأول خطوة في طريق الدعوة، و روى أيضا البخاري برواية انس -رضي الله عنه - أن الصحابة من الأنصار جاءوا للنبي – صلى الله عليه سلم - وقالوا: لو أتيت عبد الله بن أبى سلول - رأس المنافقين- لتدعوه لعله يؤمن، فما استعلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: انطلقوا بنا إليه، وانطلق - عليه الصلاة والسلام - يركب حماره، وانطلق المسلمون معه يمشون، فلما بلغ عند ذلك المنافق قال -عليه لعنه الله - : " إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك " فرد عليه بعض الصحابة رداً غليظاً يكافئ قوله.
و شاهد الحال أن النبي - صلى لله عليه وسلم - انطلق إلى أهل النفاق.
وهكذا خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وتحرك ولاقى القوم من قريش في أسواقهم ، ولاقى القوم اليهود في مدارسهم ، ولاقى القوم المنافقين في تجمعاتهم، وخرج في كل حدب وصوب، وخرج إلى الطائف لما وجد البيئة المكانية غير ملائمة، أراد أن يشق للدعوة طريقا في موضع آخر، ثم لقي ما لقي من الصد والإعراض، وجاءه ملك الجبال، كما في الصحيح قال:" لو شئت أطبقت عليهم الأخشبين لفعلت "، فقال: ( لا ! لعل الله يخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ورسوله ).
فانظر عظيم الحرص على هداية الخلق، وانظر عظيم التعلق بالدعوة وعدم اليأس، وانظر إلى عظيم الصبر، وسعه الصدر، وطول النفس، عنده– صلى الله عليه وسلم -(/3)
ثم نرى أيضا ذلك نهج الصحابة - رضوان الله عليهم -، نهج اتباع محمد - عليه الصلاة والسلام - فالأمثلة في ذلك كثيرة ؛ فعمر - رضي الله عنه - ما فتحت بلد من البلدان، إلا و أخرج إليها علماً من أعلام الصحابة - رضوان الله عليهم - فبعث إلى الشام معاذ بن جبل ، وعباده بن الصامت ، وأبا الدرداء، وبعث إلى الكوفة عبد الله بن مسعود.
و لم يكن هذا شأن الصحابة فحسب ؛ بل شأن من جاء بعدهم وسار على نهجهم، فهذا سفيان الثوري- أمير المؤمنين في الحديث- رحمه الله يقول: " والله لو لم يأتوا لأتيتهم في بيوتهم -يعني أصحاب الحديث- " فهو لا ينتظر الناس حتى يأتوا إليه ليأخذوا العلم منه، ولذلك شاهد تشبيه النبي - عليه الصلاة والسلام - الذي شبه الداعية بأن مثله كمثل الغيث أصاب أرضاً وتنوعت هذه الأراضي الذي جاءها ذلك الغيث، فمنها ماهي قيعان سبخة لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، ومنها ما تمسك الماء ولكن لا تنبت الكلأ، ومنها من تمسك الماء وتنبت الكلأ . وتأمل في قصه مالك بن دينار والتي ذكرها ابن الجوزي ، وهو يبين لنا عظيم الفطنة والحركة ، في مسالة اصطياده الناس، يذكر أنه جاءه رجل لص إلي بيته ليسرق، فإذا بالبيت ليس فيه ما يستدعي السرقة وبصر به مالك فقال: يا هذا فاتك حظك من الدنيا؟ قال: نعم قال: فهل لك في شيء من الآخرة ، قال فماذا قال: توضأ فصل ركعتين، ثم ما لبث أن أخذه صلاة الفجر، فقال له بعض الناس من هذا؟ قال: جاء ليسرقنا فسرقناه. فهذه الروح التي بها ينطلق الداعية، وينطلق بها الصياد الذي يصيد الخلق إلى طريق الحق.
وذلك كما قال الشاعر:
إني رأيت وقوف الماء يفسده **** فان ساح طاب وان لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الأرض ما احترست **** والسهم لولا فراق القوس لم يصب
أساسيات فقه الدعوة
الذي يبقى في مكانه لا يحصل له شيء ، ولذلك كان فقه القوم من أهل البصيرة، يعتمد على أن الإنسان لا بد له أن يغشى مجامع الناس وأن يخالطهم، أما العزلة والانحسار وعدم الاحتكاك فهذا ذم ليس بعده ذم .
و كذلك المتأخرون ينبهون على ذلك، فهذا الرافعي الأديب - وهو قريب العهد - يقول عن الذي انعزل الناس: " يحسب انه قد فر من الرذائل إلى فضائله، ولكن قراره في مجاهدة الرذيلة هو في نفسه لكل فضائله " وماذا تكون العفة والأمانة، والصدق والوفاء، والبر والإحسان، إذا كانت فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل، أيزعم أحد أن الصدق فضيلة لإنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار مع من يصدق ؟ وكيف نعرف صدقه وهو لم يدخل مع الناس فيخبرهم، أو يعاشرهم فيعرفون حاله .
فقال موضحا ذلك: " وأيم الله إن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعا لهو الخالي من الفضائل جميعا " .
و لذلك لا بد من الفهم للمبدأ الأول والأساس الأول، هو أنه لا بد لك أن تخرج، ولا بد لك أن تخالط، ولا بد أن تعاشر، ويكون غرضك وهدفك لذلك هو أن لا بد لك أن تصلح، ولا بد أن توجه، ولا بد أن ترشد، ولذلك يقول ابن القيم عن بعض السلف أنه كان يقول : " يا له من دين لو أن له رجالاً "، فهذا الدين يحتاج إلى رجال ينقلوه إلى الناس ولذلك قال تعالى: { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم }، فهم رجال رجولة كاملة ، ولذلك أثر عن بعض السلف انه جاء إليه بعض الناس فقالوا له نريدك في تحويجة فقال: "التمسوا لها رجيلاً " أي أنه لا يرضى أن يكون صاحب الأمر البسيط والهيّن.
و لذلك إن كنت تريد أن تكون على ذلك القدر الذي قال الله فيه : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن }، فينبغي أن تكون رجلاً لا رجيلاً، وهذا أول المبدأ ، مبدأ خروج الصياد .
ثم من بعد ذلك لا بد له أن يستحضر عدته، وهل ترانا في هذا الحديث نحيط بعدة الداعية ، فهذا أمر يطول، ولكن أسسها يمكن أن تذكر في إيجاز من خلال أسس محدودة يندرج تحتها كثير من الفروع والتفصيلات:
أسس الداعية وعدته
أولها: الإيمان الصادق العميق
ذلك الإيمان يظهر جليا في ثلاثة أبعاد :
1- إيمان لا يتزعزع أن الأجل بيد الله.
2- إيمان بأن الرزق بيد الله.
3- إيمان وإحساس بمراقبه الله - سبحانه وتعالى -.
هذا هو الإيمان المتحرك ، الإيمان المؤثر، وليس فقط الإيمان النظري أو الجدلي ، الذي يحفظ من الكتب والمقالات، ويعرف من المعضلات والمشكلات، ثم لا تجد له رقة في القلب، ولا قوة في الحق، ولا صبراً على الإيذاء، وتلك صفات الذين قال الله فيهم: { يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشيه} .
ثانيا : التقوى
وهي أعظم عدة للداعية، لماذا ؟
لأن فيها حياة القلوب، فلا تفتر ولا تسكن، وفيها نور البصيرة فلا تتأثر بالشبهات، وهذه التقوى تحتاج إلى عهد وميثاق ، قال تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها }، وتحتاج إلى مراقبه الله - سبحانه وتعالى- ، وتحتاج إلي محاسبة كاشفة ، وتحتاج إلى مجاهدة دائمة موصولة.
ثالثاً: العلم والفقه في الدين(/4)
والفقه أوسع دائرة من مجرد العلم الذي ينصرف الذهن فيه إلى ما يحفظ في كتاب الله، أو ما يعرف من سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أو ما يعرف من أحكام؛ فإن الفقه في الدين هو نوع من أنواع العلم والبصيرة ، وهذه مسالة مهمة، وعدة من العدد اللازمة لهذا الداعية.
ليس العلم فقط بكثرة المحفوظ ، وإنما بحسن الفهم، ولذلك لما دعا النبي – صلى الله عليه وسلم - لابن عباس قال: ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل )، فالفقه في الدين بصر في المقاصد ، ومعرفة بالأولويات، وترتيب للأهميات، وإدراك لواقع الحال، ومعرفة لأثر المتغيرات، وتنبه لاختلاف الأشخاص والنفوس، كل ذلك نوع من الفقه والبصر في الدين.
والله - سبحانه وتعالى - أحاط بكل شيء علماً ، ثم منّ على رسوله – صلى الله عليه وسلم - ، بمنة العلم فقال - جل وعلا -: { و أنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم } .
ولذلك قال قائل السلف : "ماذا أدرك من فاته العلم وماذا فاته من أدرك العلم "، وقد قال بعض المفسرين قال لقمان لابنه: "جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحي القلوب بنور الحكمة ، كما يحيي الأرض بوابل السماء" .
و العلم مقدم على العمل ، بل هو مفتاح العمل، قال تعالى: { فأعلم أنه لا اله إلا الله واستغفر لذنبك }
و هذا العلم يشمل مسائل كثيرة نوجزها:
1- أن يتعلم المسلم مما يحتاج إليه ويجهله من أمور الإيمان ، وأحكام العبادات والمعاملات، بحسب حاجته ، وهذا العلم هو فرض عين.
2- الاستزادة في العلم فوق هذا القدر، فلا تحرم نفسك أنوار القرآن، ولا الوقوف على معانيه، ولا تحرم نفسك هدي النبي - صلّى الله عليه وسلم - ، والوقوف على سيرته، ولا تحرم نفسك مما نقل، ومما خلّد التاريخ في آثار المتقدمين في أنواع العلوم المختلفة.
فهذا العلم وهذه الاستزادة كلما زاد كانت العدة كبيرة البصر بالواقع والعلم به، وهذه المسالة مهمة، فقد جد في حياة الأمة كثير من الفتن، وكثير من المذاهب الروائية، وكثير من المفاسد التي لا بد من تمام الفقه والبصر، والبصيرة التي لا يكون الداعية ملماً بها، ولا يعيش ذلك العصر الذي يقرأ كتبه، بل يستنزل الكتب ليطبقها، ويتفاعل بها مع الواقع حتى يمكن أن ينتفع بها.
رابعاً : الالتزام والقدوة
لا بد أن يكون في أعظم العدة، التزامك بما تدعو إليه، وكونك قدوة للناس فيما تحثهم وتحضهم عليه ، وشاهد على هذا قوله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }، ونعلم من ذلك حادثة أمر النبي – صلى الله عله وسلم - يوم صلح الحديبية أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم، وأن يحلوا إحرامهم، لأنه قد عقد الصلح ويعزم الرجوع، فشق ذلك على الصحابة - رضوان الله عليهم - فدخل النبي - عليه الصلاة والسلام - على أم سلمة مغضباً، فقال: ( هلك الناس ) فقالت: وما ذلك يا رسول الله، قال: (أمرتهم فلم يأتمروا ) قالت: يا رسول الله إن الناس قد دخل عليهم في ذلك الأمر شيء عظيم ، ثم أشارت عليه بأن يأمر الحلاق فيأتي ويحلق له ثم يحل إحرامه ويذبح هديه وإن هو فعل ذلك فعلوا مثله ...
فكان ذلك التقدم بالفعل والتطبيق أقوى في التأثير من مجرد القول وهذا هو شأن الإنسان الداعية، الذي ينبغي أن يكون على هذا الأمر ولذلك قال الشافعي رحمه ال له: " من وعظ أخاه بفعله كان هادياً" . وكما يقال: لسان الحال ابلغ من لسان المقال.
خامساً : الربانية
فإن الداعية ما لم يكن موصولا بالله، متميزا في هذا الشأن، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن ينجح في مهمته ما لم يمرغ جبهته بالسجود، وما لم يعود عينيه دمعة الخشوع، وما لم يستحضر قلبه في تلاوة القران، وما لم يطيل في رفع الأكف دعاءً لله - سبحانه وتعالى - وما لم يعود نفسه الإنفاق في سبيل الله ، وما لم يكن دائما رطب اللسان بذكر الله ، ما لم يكن متميزا بهذه الصفات فلا شك أنه - مهما كان في ظاهر سلوكه – يحتاج إلى تلك الصلة بالناس حتى يلقى ذلك العمل الاستمرارية التي يرجوها له .
هذه هي الجملة الموجزة فيما يتصل بعدة ذلك الداعية.
الدعوة وحالة المدعو
أما ما يتعلق بالعدة فلا بد أن تكون مناسبة للصيد فالشبك للبحر، والسهم للبر، والبندقية للطير، وليس كل عدة يرمي بها، وهكذا تأتى إلى العامي وتحدثه في أصول الفقه، وهذا نوع من التخبط ، كأن تأتى إلى البحر وتصطاد سمكة ببندقيته، وكذلك المدخل إلى النفوس ، ودليلنا في ذلك ما قاله العباس- رضي الله عنه - يوم فتح مكة: يا رسول الله أن أبا سفيان رجل يحب العز، ويدخل الرسول عليه الصلاة والسلام على صفوان بن أمية -قصه إسلامه-.
و كذلك مسلمة الفتح؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم- أعطاهم وأعطاهم تأليفاً لقلوبهم، وكذا كل إنسان له مدخل، وله مناسبة معينة، لذا نوع النبي – صلى الله عليه وسلم- لكل في مسالة الوصية. وتنوعت الإجابات المناسبة على حسب الأحوال.(/5)
فلا بد أن تعرف ذلك الصيد ، وما هي العدة المناسبة له، فان كان من المحبين للعلم فمدخله العلم، وإن كان من المحبين للعلاقات الاجتماعية فهو كذلك، وبعض الناس عندما لا يدركون هذه الحقيقة وهذه الغاية يتعثرون في النجاح، فتراهم ليس عندهم إلا عدة واحدة يريدون أن يصيدوا بها كل الصيد، وهذا في غالب الأحيان ينفر الصيد.
و على سبيل المثال لما رأى النبي - عليه الصلاة والسلام - نجابة ابن عباس قال: ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، ولما رأى حرص ابن عمر على العبادة قال:( نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) ولما رأى في أبى بصير شكيمة الحرب قال: ( ويح أمه مسعر حرب لو كان له رجال)
و كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يوجه كل على حسب حاله، وعليه جاء الصحابة كل يتميز بشيء، فأُبيّ أقرءوهم، ومعاذ أعلمهم بالحلال والحرام، وزيد أفرضهم .. وهكذا.
و الذي يأتي بالمفتاح المضبوط يفتح القفل مباشرة لا يحتاج إلى شدة أو غيرها.
و من هذه العدة انتهاز الفرص، فقد مرّ النبي - عليه الصلاة والسلام - بجدي أسك ميت ثم قال لأصحابه: (من يشتري هذا بدرهمين؟ ) فسكتوا، فقال:( من يشتري هذا بدرهم؟ ) فقالوا: يا رسول الله لو أنه كان حياً لما رأينا فيه حاجة، فقال- عليه الصلاة والسلام - : ( لهوان الدنيا على الله أهون من هذا عليكم). فالنبي - صلى الله عليه وسلم- انتهز هذه الفرصة وهذه المناسبة فرمى رميته ، لأنه ليس في كل مرة تتاح الفرصة ، ويكون الصيد في موضع مناسب، وفي ظرف مهيأ، وأنت تغفل عنه فيهرب الصيد وتندم على ذلك.
و كذلك لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم- تلك المرأه وهي تبحث عن ولدها قال: ( أو ترون هذه ملقيه بولدها في النار) قالوا : هي أرحم به من ذلك، فقال - عليه الصلاة والسلام: ( والله إن الله لأرحم بكم من هذه بولدها)، وقس على ذلك من الوقائع والحوادث الكثيرة.
و لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم- معاذاً إلى اليمن، لقنه وقال له:( إنك تأتي قوما من أهل الكتاب –فهنا يختلف الحال فهم، ليسوا مثل غيرهم في الجاهليين- فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا اله إلا الله ؛ فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة …) -ثم حذره من بعد ذلك من الأساليب التي تنفر الصيد- فقال: ( وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم ؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)
إذن النبي - صلى الله عليه وسلم- أعطاه العدة التي يحتاجها باعتبار اختلاف الحال ، ثم أعطاه التدرج الذي يحتاج إليه، ثم حذره من الأمور التي يفقد بها صيده وتتعطل بها مهمته .
فكذلك الداعية إذا ذهب لدرس أو لعظة، أو لقوم عندهم بصر بأمر، فلا بد أن يتجهز لذلك من التحضير المسبق، ويراجع معلوماته، ويتهيأ بما يحتاج إليه المقام.
و كلما زادت عدته وذخيرته، كلما كان صيده أكبر، ثم لا بد له من أن يفحص المنطقة، ويحدد الموقع، وهذا المقصود به أن يعرف أحوال الناس، هل هم قوم قد غلب عليهم الانحراف في الاعتقاد ؟ أم في السلوك؟ أم هم قوم غلبت عليهم الغفلة، ونوع من الهمم الضعيفة؟.
فلا بد للداعية عندما يخرج إلى الناس أن يعرف عنهم كل ما يحتاجون إليه من أفعالهم، وأفكارهم، والعوامل التي تؤثر في هذا المجتمع، فلا يمكن أن تأتى إلي قوم أو إلي مجتمع وأنت لا تعرف طبيعة الأفكار التي يعتقدونها، و لا العلم الذي يدرسونه، ولا الأعراف الاجتماعية المتحكمة فيهم، فالمجتمع القبلي غير المجتمع الحضري. ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يدرس كل ذلك ويعرف التفاوت بين الناس في شأن القبائل، وأعيان الناس، وفي شأن العادات المترسخة فيهم.
و سياسة التدرج في التشريع كانت موافقة ومتناسبة مع أحوال الناس ، ودليل ذلك قول عائشة - رضي الله عنها- قالت: " إن أول ما نزلت آيات الإيمان والجنة والنار، فلما تاب الناس نزلت لا تشربوا الخمر ...لا تقربوا الزنا "
ثم إن الصياد الماهر يتربص ويحتاج إلي الصمت، وكذلك هذا الداعية لا بد له أن يتربص، وأن يتأنى، وأن يكن، حتى يرى الفرصة المناسبة.
و لذلك تأمل في هذا نصيحة من عائشة رضي الله عنها لقاضي أهل مكة عندما قالت له: " ثلاثة لتبايعني عليها، أو لا نجيزنك " قالت له : اجتنب السجع في الدعاء فرسول الله لم يكون يفعل ذلك ولا أصحابه، ولا تحل الناس ولا تحدثهم في الجمعة إلا مرة واحدة، فإن زدت فاثنتين، فإن زدت فثلاث" ثم قالت له: "ولا ألفينك تأتى القوم في حديث منقطع عليهم، ولكن إذا فرغوا وأقبلوا عليك فحدثهم "(/6)
وهكذا فإنك ترى بعض الناس يأتي إلى الزواج ويحدث الناس عن الموت، أو العكس ويخلط الأمور، فلكل مقام مقال، أو تكون عنده قضية معينة، فيحاول أن ينهي كل شيء في المجلس الواحد. إذن لا بد من التأني والتربص، والتحلي بالصبر، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم - أسوتنا في ذلك، وكذلك في المواقف العمرية فقد كان - رضي الله عنه- يستعجل ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام ببصيرته النافذة يرى غير ذلك ، فيرجع الأمر مرة بعد مرة ، وبعد ذلك تظهر حكمة النبي - صلّى الله عليه وسلم - .
فلذلك لا بد للداعية من الصبر والأناة، والتحلي بالصبر وعدم الاستعجال في قطف الثمرة، وهذا يحتاج إلي:
1- أن يدقق التصويب، وأن يستفرغ الجهد في الإصابة، لئلا ينتج عن الخطأ نوع من تنفير الصيد، الأمر الذي يجعله يحتاج إلي وقت آخر، وهذا أمر مهم، فتنفير الصيد خطأ يحصل في أسلوب التعامل مع المدعو، فلا بد للداعية أن يحسن اختيار الطعم مهما كان غالي الثمن، ولا بد أن يقدم الإنسان الصورة التي يستميل إليها القلوب والتي يرغب فيها المدعو ترغيبا حسنا، فان كان المدعو يتألف بالمال فليكن طعمه المال، وأن يتألف بحسن الكلام وفصيح البلاغة فليكن كذلك، فقد كان يشجّع حسان - رضي الله عنه - فيقول له: (اهجهم وروح القدس معك) ويقول أيضاً عنه وعن غيره من الشعراء الذين نافحوا عن الإسلام-: ( والله لكأنكم تنضحونهم بالنبل )، فلا بد أيضا أن يقدم الأمر الذي يحتاج إليه، والذي يناسب ذلك الإنسان .
2- البعد عن الخطأ القاتل، الذي يكون فيه تنفير الصيد بحركة معينه، أو صوت معين، ربما ينفر به الصيد، ومنه يكون فقدان هذا الصيد الذي قد يعود أو قد لا يعود.
والنبي - صلّى الله عليه وسلم - كثيراً ما كان ينبه أصحابه إلى عدم تنفير المدعو، فهذا الأعرابي الذي بال في المسجد، فقام الصحابة ينهوه عن ذلك فقال - عليه الصلاة والسلام: ( لا تزرموا على الأعرابي بولته ) فلما فرغ قال لأصحابه: اهريقوا على بوله دلوا من ماء، ثم قال النبي - صلّى الله عليه وسلم - : للأعرابي ( إن هذه المساجد بيوت الله لا تصلح لبول أو غيره )
3- و كذلك الصياد الذي يصرفه عن الصيد منظر جميل، فكذلك الداعية لا تتعلق عيونه في أموال الناس، ومدحهم ،و بحسن منظرهم، أو صورهم، أو يرى تجمع الناس حوله فيفرح بذلك وينتقل بهذا عن مهمته الأساسية، وهنا مكمن الخطورة، والمنزلق والوخيم، لماذا؟
لأنه يكون أول قصده، ثم من بعد ذلك تحيط به ظروف فتراه ينشغل بها مرة بعد الأخرى، وما علم أنه إنما أراد من الناس دعوتهم إلى الله - سبحانه وتعالى- وأنه لا يبتغي الأجر إلا من الله . و لذلك جاء القران على ألسنة الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلم -: { قل ما أسألكم عليه من اجر إن أجري إلا على الله } .
وقد روى ابن القيم عن ابن مسعود –رضي الله عنه- أنه رأى مجموعة يمشون خلفه فقال لهم: ما شأنكم ؟ فقالوا: نحب أن نمشي معك فقال : لا إنما هو ذلة للتابع وفتنة للمتبوع .
و روي عن الإمام البخاري -رحمه الله عليه- أنه كان يقول: " قد استوى عندي المادح والذام" . إن مدحه الناس أو ذموه ما صرفه ذلك عن مهمته، ولا يحمله المدح بأن يفرح، ولا أن ينصرف إليه.
الاهتمام بالمدعو بعد دعوته
و نقول في آخر الأمر أن الصياد الماهر ينتفع بصيده، فلا يهمله ويتركه هملا، وإنما ينتفع به بكل وجه من الوجوه، وهكذا الذي بذرت في قلبه بذرة الخير، ووضع في نفسه حب الالتزام لا بد له أن يرعى هذه البذرة حتى تنمو، وتستوي على سوقها وحتى تؤتي ثمارها، وحتى يكون من بعد هذا الذي تأثر صياد آخر فيكثر الصيد، ويعظم الأثر.
و عليه لا بد أن ترشده في كل شأن من الشؤون، إن كان يتقن أمرا فلا بد أن ينتقل من دور الأخذ إلي دور العطاء، ومن دور الطلب إلى دور الإرشاد.
بعض الناس يذكر الناس ويعظهم، وربما يرشدهم ويربيهم، ثم لا يوجههم، لأن يكونوا دعاة خير، وأن ينقلوا ما فهموه من العلم وما بصروا به من الحق، ويأخذ وبأيدهم في هذا الطريق ، فإذا انقطع عنهم انقطعوا ورجعوا إلي حالتهم الأولى، كان كالذي بذر بذراً وكان معه ماء، فهو يسقي الماء ويسير، لا يقف عندها حتى تنمو وحتى يزيل عنها الآفات والعوارض، إذن لا بد من هذا الانتفاع لمن يستجيب للدعوة ويتأثر بها، وهكذا كان فعل النبي - صلّى الله عليه وسلم - فما دخل أحد في دين الله، إلا عهد به إلي أصحابه يعلمونه القران والدين، حتى إذا تمكن في دين الله حمل الرسالة السماوية، فهذا قائد ، وهذا سفير، وذاك معلم .... وهكذا.(/7)
و آخر الأمر الذي نلفت النظر إليه هو : أن الداعية مثل الصياد الماهر في أمر مهم، هو إن الصياد لا يستغني بقوته ولا يكتفي فقط بفطنته، ولا يستخدم حاسة واحدة فقط من حواسه بل تراه يستخدم حاسة النظر، ويستخدم حاسة السمع ويستخدم حاسة الشم، والعقل والتفكير، ويحتاج إلي القوة الفردية في الشجاعة والإقدام، والقوه الجسدية لمصارعة الصيد وغير ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة للداعية، فهو تحتاج إلي قوة الإيمان، والقوة النفسية، والقوة البدنية، ليجاهد في سبيل الله.
ويحتاج إلي القوة العقلية ليكون صاحب بصر وحكمه في سياسة الأمور والتخلص من المواقف المحرجة، ويحتاج إلي النظر، وإلي السمع، وإلي كل ما وهبه الله تعالى لتسخيره للدعوة.
و جماع القول الذي نحب أن نشير إليه وأن نختم به هو أنه لا بد أن نعرف أن الأمر ليس على سبيل التهاون، وليس على سبيل الاحتياط ، وليس على سبيل الهامشية في حياة الإنسان المسلم، بل هو كما قال تعالى: - في شان تحمل الرسالة وتحمل المهمة- :{ يا يحيى خذ الكتاب بقوة}، وقال للنبي – صلّى الله عليه وسلم - : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً }
و أمر به النبي – صلى الله عليه وسلم - : { وأنذر عشيرتك الأقربين } ووصف المؤمنون بأنهم : { بعضهم من بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}
و لم يكن الأمر شيئا عارضاً، وإنما هي مهمة لا بد أن تكون ثابتة، وأصيلة، وراسخة، ودائمة، ومستمرة، يفرغ لها الجهد كله، والطاقات كلها، ليكون حينئذ هذا الإنسان الداعية صياداً ماهراً، وكلنا ينبغي أن يكون ذلك الرجل.
فلا تفقد في بيتك لأنك ستخلد إلي النوم، وتتعلم فن التثاؤب كما قال بعض الدعاة ، ولا شك أنك لعلمك إذا كانت صاحب علم وتأثير، سوف يكون لك أثر في الحكمة والبصيرة .
و هذا أمر لا بد أن يتعاون الجميع عليه، لأنه من أعظم البر والتقوى كما قال تعالى: { وتعاونوا على البر والتقوى }
و الله نسأل أن يوفق الدعاة إلي دينه، وأن يسدد خطاهم وأن يجمع كلمتهم ، وأن يلهمهم الرشد والصواب، وأن يوفقهم إلى ما يحب ويرضى .(/8)
الصيام وتقوى الله
1570
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
ملخص الخطبة
1- الحكمة من مشروعية الصيام. 2- معنى التقوى ودرجات المتقين. 3- وصية الرسول ثم السلف الصالح بتقوى الله. 5- من صفات المنافقين الإسرار بالمعاصي.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فلقد قال الله تبارك وتعالى في مبدأ آيات الصيام مبينًا أكبر وأعظم حكمه وأهدافه: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.
ولئن كانت للصيام فوائد وحكم بدنية واجتماعية إلا أن أكبر وأعظم حكمه على الإطلاق تقوى الله عز وجل.
وتقوى الله تبارك وتعالى هي وصيته للأولين والآخرين. قال الله تبارك وتعالى في سورة النساء في الآية الحادية والثلاثين بعد المائة في وصيته للأولين والآخرين بتقواه: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله.
فما هي التقوى؟ التقوى: هي أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه, وتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه منه بفعل الطاعات واجتناب المعاصي, قال الله تبارك وتعالى في سورة المدثر: هو أهل التقوى وأهل المغفرة, هو أهل أن يُجل ويُخشى ويُعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه, وقال في سورة آل عمران: ويحذركم الله نفسه, وقال في سورة الحشر: يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد, وقال: واتقوا الله الذي إليه تُحشرون, هكذا قال في سورة المائدة: واتقوا الله الذي إليه تحشرون مرجعكم ومآبكم إليه سبحانه, فاتقوه.
وأحيانًا تضاف التقوى إلى العقاب ومكانه وزمانه: أمّا مكان العقاب فهو النار, وأما زمانه فهو يوم القيامة, ففي تقوى العقاب ومكانه يقول الله تبارك وتعالى: واتقوا النار التي أعُدت للكافرين, ويقول في موضع آخر: فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة, وفي زمان العقاب الذي هو يوم القيامة يقول في آخر آية نزلت من القرآن على الصحيح ـ وهي آخر عهد الأرض بالسماء في الآيات والقرآن المنزّل ما هي؟ ـ واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
فالتقوى الكاملة هي أن يتقي العبد المحرمات والشبهات, وربما دخل فيها فعل المندوبات وترك المكروهات, وهذه أعلى درجاتها, أعلى درجات التقوى أن تجمع فيها بين فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات, وأن تقبل على المستحبات والمندوبات, لا تترك شيئًا مستحبًا, وأن تترك المكروهات.
لكن كثيراً من الناس يتساهلون تساهلاً شديدًا في أمور ينظرون إليها على أنها من المكروهات, يسألون عن الأشياء التي تعِنُ لهم وتعرض لهم فإن قيل: إنه مكروه تساهلوا في شأنه وفي أمره, وقالوا: المكروه لا يوجب عقابًا, بل يوجب الحرمان من الثواب, ما هذا الزهد في طاعة الله تبارك وتعالى وفي ثنائه ومغفرته ورحمته وإحسانه, يقبل الناس على الأشياء لأنها لا توجب عقوبة فقط, توجب الحرمان من الثواب, ويقولون ليس هذا الأمر محرمًا إنما هو مكروه فحسب, ليس هذا من تقوى الله عز وجل, بل إن الفقهاء أحيانًا يعبرون عن المحرمات بلفظ أكرهه, وبلفظ مكروه, فالكراهة ليست بالأمر الذي يُستهان به يا عباد الله, ولماذا تفعلون ما يكرهه ربكم وخالقكم وموجدكم, وفي حق البشر الذين تجلونهم وتعظمونهم لا تفعلون إلا ما يدخل أعظم المسرات على قلوبهم؟ لماذا؟! لماذا تجعلون الله أهون الناظرين إليكم؟!
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "يُنادى يوم القيامة أين المتقون؟ فيقومون في كنف الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر, قالوا له: من المتقون؟ قال: قومٌ اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله بالعبادة".
وقال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: "ليس تقوى الله بصيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك, ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله, فمن رزق بعد ذلك خيرًا فهو خير إلى خير".
ليس تقوى الله أن يصوم العبد نهاره ويقوم ليله، ويخلط فيما بين ذلك, يُقبل على المعاصي والمحرمات ثم هو قبلها وبعدها يصوم ويقوم, إنما تقوى الله تبارك وتعالى ترك ما حرم الله وأداء ما افترض.
وقال طلق بن حبيب: "التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله, وأن تترك ما حرم الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
وقال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: "لا زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام", لم يرتكبوا مثلنا المحرمات ويستبيحونها ويبررون لها بالمبررات, ويطلبون الفتاوى التي تؤيد ارتكابهم لها, ويبحثون عنها بحثًا, فإن لم يجدوها برروا ذلك بأن الله غفور رحيم، ونسوا أنه كذلك شديد العقاب.
ثم يا عباد الله من كلام السلف الصالح في حق التقوى كذلك ما قاله ميمون بن مهران: "المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه".(/1)
وروى الترمذي بسند حسن عن عطية السعدي أن رسول الله قال: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس)), لا يبلغ أن يكون من المتقين حتى يترك الأشياء التي لا بأس فيها ولا حرج عليها خوفًا مما به البأس, يترك الشبهات, ويترك ما قد يتسبب له في ارتكاب محرم أو تستشرف نفسه بعده لارتكاب منهي, وقال النبي ـ فيما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه وهو حديث صحيح متفق عليه ـ: ((فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه)), وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: "اتقوا الله حق تقاته, أن يطاع فلا يعصى, ويذكر فلا يُنسى, وأن يشكر فلا يُكفر", وشكر الله تبارك وتعالى يدخل فيه القيام بجميع الطاعات, وذكره فلا يُنسى بأن يذكر المرء نفسه وقلبه أوامر الله تبارك وتعالى فيمتثلها في حركاته وسكناته وكلماته, لا تغيب عنه أوامر الله حتى وهو يضحك, حتى وهو في حال مع أهله, حتى وهو في نومه, في يقظته, يرغم نفسه أوامر الله فيمتثلها, والنواهي فيجتنبها.
وقال ابن المعتمد:
خَلّ الذنوب صغيرها وكبيرها
واصنع كماشي فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
لا تحقرن ذنبًا تستصغره؛ إن الجبال من الحصى, ذنب على ذنب تصير كبيرة, تحيط بالعبد. وتلمّ به فيصدق عليه قوله تعالى في سورة البقرة: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
ثم على المرء أن يعلم ما الذي يتقيه لكي يكون متقيًا؛ ولذلك روى معروف الكرخي عن بكر بن خُنيس أنه قال: كيف يكون متقيًا من لم يدر ما يتقيه, وقال معروف: إذا كنت لا تُحسن تتقي أكلت الربا, وإذا كنت لا تُحسن تتقي لقيتك امرأة فلم تغض بصرك, أو كما قال معروف.
وتقوى الله عز وجل كما عرفنا هي وصيته لخلقه جميعًا, ووصية رسوله لأمته قال لهم يوم النحر في حجة الوداع: ((عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة)) وقال له أبو ذر ـ كما هو في حديث طويل عند ابن حبان ـ: أوصني يا رسول الله, قال: ((عليك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله)), وروى أحمد أن أبا سعيد الخدري قال كذلك: أوصني يا رسول الله, فقال: ((عليك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء, وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام)) ـ وفي رواية ـ ((عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير)).
وقال له يزيد بن سلمة ـ كما عند الترمذي ـ: يا رسول الله, إني سمعت منك حديثًا كثيرًا أخاف أن ينسينيه أوله آخره, فحدثني بكلمة تكون جماعًا, قال: ((اتق الله فيما تعلم)).
ولم يزل السلف الصالح يتواصون بتقوى الله عز وجل, فلقد كان في خطبة أبي بكر رضي الله عنه ـ بعد أن ولي على المسلمين ـ كان يحمد الله ويثني عليه ثم يقول: "أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله, وأن تثنوا على الله بما هو أهله, وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة ـ لا تكونوا راغبين فحسب, لا تقولوا غفورٌ رحيم, لا تنسوا أن عنده نارًا وجحيمًا ونكالاً وعذابًا أليمًا ـ وأن تجمعوا الإلحاح بالمسألة، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين, ولما حضرته الوفاة دعا عمر ليوصيه فقال له أول ما قال: "اتق الله يا عمر".
وكتب عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله: "عليك بتقوى الله فإن من اتقاه وقاه, ومن أقرضه جزاه, ومن شكره زاده", وقال علي بن أبي طالب لرجل استعمله على سرية: "عليك بتقوى الله الذي لابد لك من لقائه, ولا منتهى لك دونه, وهو يملك الدنيا والآخرة".
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أخ له: "عليك بتقوى الله التي لا يُقبل غيرها, ولا يُرحم إلا أهلها, ولا يُثاب إلا عليها, فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل, جعلنا الله وإياك من المتقين".
وقيل ليونس بن عبيد: أوصنا, فقال: "عليكم بتقوى الله والإحسان؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون", وقيل لأحد التابعين عند موته: أوصنا, فقال: "عليكم بخاتمة سورة النحل إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون, وقال شعبة: كنت إذا أردت الخروج قلت للحاكم ـ أي ابن عتيبه ـ: ألك حاجة؟ فكان يقول له: أوصيك بما أوصى به النبي معاذ بن جبل: ((اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, وأشهد إن لا إله إلا الله وليّ الصالحين, وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين, اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
ثم إن تقوى الله في السر أيها الأخوة الكرام علامة كمال الإيمان, علامة السعاة, فلقد كان من دعاء النبي أن يقول: ((أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)), وقال لأبي ذر رضي الله عنه: ((عليك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته)), تقوى الله في السر علامة كمال الإيمان عند الاختفاء والاستتار من الناس؛ حيث يتذكر الله تبارك وتعالى وقُربه واطلاعه فيتقي, فهذا من علامة كمال الإيمان, وكان السلف يقول بعضهم لبعض: "زهدنا الله وإياكم في الحرام زهد من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه من خشيته".
وقال الشافعي ـ رحمه الله ـ: "أعَدّ الأشياء ثلاثة: الجود من قلة, والورع في الخلوة, وكلمة الحق عند من يرجى أو يُخاف", وقال أبو الجلد: "أوحى الله إلى نبي من أنبيائه: قل لقومك ما بالكم تسترون المعاصي من خلقي وتظهرونها لي, إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون, وإن كنتم ترون أنّي أراكم فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم".
هذه خلة من خلال النفاق, إذا أخفى الإنسان المعاصي من الناس وبارز بها ربه تبارك وتعالى في خلوته صدقت عليه الآية من سورة النساء يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطًا, ولهذا قيل لوهب بن الورد: أوصنا, فقال: "عليك بتقوى الله, اتق الله وخف الله على قدر قدرته عليك, واستح منه على قدر قربه منك, واتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك".
والله تبارك وتعالى يجازي بذرات الأعمال في الدنيا والآخرة, ولهذا فإن من استتر من الناس ولم يستحِ من الله عز وجل يُلقي له البغض في قلوب المؤمنين كما قال أبو الدرداء: "ليتقي أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر؛ يخلو بمعصية الله فيُلقي الله له البغض في قلوب المؤمنين.
ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله يُنشد:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ
وقال ابن السّماك:
يا مدمن الذنب أما تستحي والله في الخلوة ثانيك
غرّك من ربك إمهاله وسِتره طول مساويك
وقال سليمان التيمي: "إن العبد ليصيب الذنب فيُسِّر به فيُصبح وعليه مذلته. مذلة الذنب تُرى عليه، ما أسر عبد سريرةً إلا ألبسه الله عز وجل ردائها علانية, فإن أسرّ التقوى ظهرت التقوى عليه وظهر أثرها, وإن أسرّ المعصية ظهر أثرها عليه مهما أبدى للناس من خشوع وخضوع وإنابة.
ولهذا أوصى بعض السلف أخاه فقال له: عليك بتقوى الله، فإنها من أكرم ما أسررت, وأزين ما أظهرت, وأفضل ما ادخرت. أعاننا الله وإياك عليها, وأوجب لنا وإياك ثوابها.
فاستفيدوا عباد الله: أعظم حِكَم الصيام ألا وهي تقوى الله تبارك وتعالى تفوزوا وتفلحوا, وتنتهي المعاصي التي ضجت منها الأرض والسماء، وأوشك الناس جميعًا أن يؤخذوا بعقوباتها. اتقوا الله تعالى في سر أمركم وعلانيته فإنه لابد لكم من لقاه، ولا منتهى لكم دونه وهو يملك الدنيا والآخرة.
وقبل أن أغادر مكاني هذا يطيب لي أن أنبه على ما تدعو إليه جمعية تحفيظ القرآن الكريم أولياء الأمور جميعًا إلى أن يهتموا بإرشاد أبنائهم وتوجيههم إلى مقارّ هذه الجمعيات لكي يقبلوا على كتاب الله عز وجل تلاوةً وتدبرًا, ولكي يكونوا من العلماء العاملين بكتاب الله عز وجل, هذه دعوة طيبة عظيمة من هذه الجمعية ففيها تعاهد لكتاب الله وتعاهد لأبناء المسلمين حتى لا يشبوا وينشئوا وهم لا يستطيعو أن يقيموا حروف كتاب الله بينما هم مجيدون في إقامة حروف أخرى غير كتاب الله تبارك وتعالى, فأقبلوا على القرآن الكريم تعلمًا وتلاوة وتدبرًا تفوزوا وتفلحوا ويقال لكم يوم القيامة ((اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرأها)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(/3)
الصيام وتقوى الله
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الحكمة من مشروعية الصيام. 2- معنى التقوى ودرجات المتقين. 3- وصية الرسول ثم السلف الصالح بتقوى الله. 5- من صفات المنافقين الإسرار بالمعاصي.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فلقد قال الله تبارك وتعالى في مبدأ آيات الصيام مبينًا أكبر وأعظم حكمه وأهدافه: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.
ولئن كانت للصيام فوائد وحكم بدنية واجتماعية إلا أن أكبر وأعظم حكمه على الإطلاق تقوى الله عز وجل.
وتقوى الله تبارك وتعالى هي وصيته للأولين والآخرين. قال الله تبارك وتعالى في سورة النساء في الآية الحادية والثلاثين بعد المائة في وصيته للأولين والآخرين بتقواه: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله.
فما هي التقوى؟ التقوى: هي أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه, وتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه منه بفعل الطاعات واجتناب المعاصي, قال الله تبارك وتعالى في سورة المدثر: هو أهل التقوى وأهل المغفرة, هو أهل أن يُجل ويُخشى ويُعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه, وقال في سورة آل عمران: ويحذركم الله نفسه, وقال في سورة الحشر: يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد, وقال: واتقوا الله الذي إليه تُحشرون, هكذا قال في سورة المائدة: واتقوا الله الذي إليه تحشرون مرجعكم ومآبكم إليه سبحانه, فاتقوه.
وأحيانًا تضاف التقوى إلى العقاب ومكانه وزمانه: أمّا مكان العقاب فهو النار, وأما زمانه فهو يوم القيامة, ففي تقوى العقاب ومكانه يقول الله تبارك وتعالى: واتقوا النار التي أعُدت للكافرين, ويقول في موضع آخر: فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة, وفي زمان العقاب الذي هو يوم القيامة يقول في آخر آية نزلت من القرآن على الصحيح ـ وهي آخر عهد الأرض بالسماء في الآيات والقرآن المنزّل ما هي؟ ـ واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
فالتقوى الكاملة هي أن يتقي العبد المحرمات والشبهات, وربما دخل فيها فعل المندوبات وترك المكروهات, وهذه أعلى درجاتها, أعلى درجات التقوى أن تجمع فيها بين فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات, وأن تقبل على المستحبات والمندوبات, لا تترك شيئًا مستحبًا, وأن تترك المكروهات.
لكن كثيراً من الناس يتساهلون تساهلاً شديدًا في أمور ينظرون إليها على أنها من المكروهات, يسألون عن الأشياء التي تعِنُ لهم وتعرض لهم فإن قيل: إنه مكروه تساهلوا في شأنه وفي أمره, وقالوا: المكروه لا يوجب عقابًا, بل يوجب الحرمان من الثواب, ما هذا الزهد في طاعة الله تبارك وتعالى وفي ثنائه ومغفرته ورحمته وإحسانه, يقبل الناس على الأشياء لأنها لا توجب عقوبة فقط, توجب الحرمان من الثواب, ويقولون ليس هذا الأمر محرمًا إنما هو مكروه فحسب, ليس هذا من تقوى الله عز وجل, بل إن الفقهاء أحيانًا يعبرون عن المحرمات بلفظ أكرهه, وبلفظ مكروه, فالكراهة ليست بالأمر الذي يُستهان به يا عباد الله, ولماذا تفعلون ما يكرهه ربكم وخالقكم وموجدكم, وفي حق البشر الذين تجلونهم وتعظمونهم لا تفعلون إلا ما يدخل أعظم المسرات على قلوبهم؟ لماذا؟! لماذا تجعلون الله أهون الناظرين إليكم؟!
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "يُنادى يوم القيامة أين المتقون؟ فيقومون في كنف الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر, قالوا له: من المتقون؟ قال: قومٌ اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله بالعبادة".
وقال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: "ليس تقوى الله بصيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك, ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله, فمن رزق بعد ذلك خيرًا فهو خير إلى خير".
ليس تقوى الله أن يصوم العبد نهاره ويقوم ليله، ويخلط فيما بين ذلك, يُقبل على المعاصي والمحرمات ثم هو قبلها وبعدها يصوم ويقوم, إنما تقوى الله تبارك وتعالى ترك ما حرم الله وأداء ما افترض.
وقال طلق بن حبيب: "التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله, وأن تترك ما حرم الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
وقال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: "لا زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام", لم يرتكبوا مثلنا المحرمات ويستبيحونها ويبررون لها بالمبررات, ويطلبون الفتاوى التي تؤيد ارتكابهم لها, ويبحثون عنها بحثًا, فإن لم يجدوها برروا ذلك بأن الله غفور رحيم، ونسوا أنه كذلك شديد العقاب.
ثم يا عباد الله من كلام السلف الصالح في حق التقوى كذلك ما قاله ميمون بن مهران: "المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه".(/1)
وروى الترمذي بسند حسن عن عطية السعدي أن رسول الله قال: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس)), لا يبلغ أن يكون من المتقين حتى يترك الأشياء التي لا بأس فيها ولا حرج عليها خوفًا مما به البأس, يترك الشبهات, ويترك ما قد يتسبب له في ارتكاب محرم أو تستشرف نفسه بعده لارتكاب منهي, وقال النبي ـ فيما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه وهو حديث صحيح متفق عليه ـ: ((فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه)), وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: "اتقوا الله حق تقاته, أن يطاع فلا يعصى, ويذكر فلا يُنسى, وأن يشكر فلا يُكفر", وشكر الله تبارك وتعالى يدخل فيه القيام بجميع الطاعات, وذكره فلا يُنسى بأن يذكر المرء نفسه وقلبه أوامر الله تبارك وتعالى فيمتثلها في حركاته وسكناته وكلماته, لا تغيب عنه أوامر الله حتى وهو يضحك, حتى وهو في حال مع أهله, حتى وهو في نومه, في يقظته, يرغم نفسه أوامر الله فيمتثلها, والنواهي فيجتنبها.
وقال ابن المعتمد:
خَلّ الذنوب صغيرها وكبيرها
واصنع كماشي فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
لا تحقرن ذنبًا تستصغره؛ إن الجبال من الحصى, ذنب على ذنب تصير كبيرة, تحيط بالعبد. وتلمّ به فيصدق عليه قوله تعالى في سورة البقرة: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
ثم على المرء أن يعلم ما الذي يتقيه لكي يكون متقيًا؛ ولذلك روى معروف الكرخي عن بكر بن خُنيس أنه قال: كيف يكون متقيًا من لم يدر ما يتقيه, وقال معروف: إذا كنت لا تُحسن تتقي أكلت الربا, وإذا كنت لا تُحسن تتقي لقيتك امرأة فلم تغض بصرك, أو كما قال معروف.
وتقوى الله عز وجل كما عرفنا هي وصيته لخلقه جميعًا, ووصية رسوله لأمته قال لهم يوم النحر في حجة الوداع: ((عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة)) وقال له أبو ذر ـ كما هو في حديث طويل عند ابن حبان ـ: أوصني يا رسول الله, قال: ((عليك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله)), وروى أحمد أن أبا سعيد الخدري قال كذلك: أوصني يا رسول الله, فقال: ((عليك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء, وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام)) ـ وفي رواية ـ ((عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير)).
وقال له يزيد بن سلمة ـ كما عند الترمذي ـ: يا رسول الله, إني سمعت منك حديثًا كثيرًا أخاف أن ينسينيه أوله آخره, فحدثني بكلمة تكون جماعًا, قال: ((اتق الله فيما تعلم)).
ولم يزل السلف الصالح يتواصون بتقوى الله عز وجل, فلقد كان في خطبة أبي بكر رضي الله عنه ـ بعد أن ولي على المسلمين ـ كان يحمد الله ويثني عليه ثم يقول: "أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله, وأن تثنوا على الله بما هو أهله, وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة ـ لا تكونوا راغبين فحسب, لا تقولوا غفورٌ رحيم, لا تنسوا أن عنده نارًا وجحيمًا ونكالاً وعذابًا أليمًا ـ وأن تجمعوا الإلحاح بالمسألة، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين, ولما حضرته الوفاة دعا عمر ليوصيه فقال له أول ما قال: "اتق الله يا عمر".
وكتب عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله: "عليك بتقوى الله فإن من اتقاه وقاه, ومن أقرضه جزاه, ومن شكره زاده", وقال علي بن أبي طالب لرجل استعمله على سرية: "عليك بتقوى الله الذي لابد لك من لقائه, ولا منتهى لك دونه, وهو يملك الدنيا والآخرة".
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أخ له: "عليك بتقوى الله التي لا يُقبل غيرها, ولا يُرحم إلا أهلها, ولا يُثاب إلا عليها, فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل, جعلنا الله وإياك من المتقين".
وقيل ليونس بن عبيد: أوصنا, فقال: "عليكم بتقوى الله والإحسان؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون", وقيل لأحد التابعين عند موته: أوصنا, فقال: "عليكم بخاتمة سورة النحل إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون, وقال شعبة: كنت إذا أردت الخروج قلت للحاكم ـ أي ابن عتيبه ـ: ألك حاجة؟ فكان يقول له: أوصيك بما أوصى به النبي معاذ بن جبل: ((اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, وأشهد إن لا إله إلا الله وليّ الصالحين, وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين, اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
ثم إن تقوى الله في السر أيها الأخوة الكرام علامة كمال الإيمان, علامة السعاة, فلقد كان من دعاء النبي أن يقول: ((أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)), وقال لأبي ذر رضي الله عنه: ((عليك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته)), تقوى الله في السر علامة كمال الإيمان عند الاختفاء والاستتار من الناس؛ حيث يتذكر الله تبارك وتعالى وقُربه واطلاعه فيتقي, فهذا من علامة كمال الإيمان, وكان السلف يقول بعضهم لبعض: "زهدنا الله وإياكم في الحرام زهد من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه من خشيته".
وقال الشافعي ـ رحمه الله ـ: "أعَدّ الأشياء ثلاثة: الجود من قلة, والورع في الخلوة, وكلمة الحق عند من يرجى أو يُخاف", وقال أبو الجلد: "أوحى الله إلى نبي من أنبيائه: قل لقومك ما بالكم تسترون المعاصي من خلقي وتظهرونها لي, إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون, وإن كنتم ترون أنّي أراكم فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم".
هذه خلة من خلال النفاق, إذا أخفى الإنسان المعاصي من الناس وبارز بها ربه تبارك وتعالى في خلوته صدقت عليه الآية من سورة النساء يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطًا, ولهذا قيل لوهب بن الورد: أوصنا, فقال: "عليك بتقوى الله, اتق الله وخف الله على قدر قدرته عليك, واستح منه على قدر قربه منك, واتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك".
والله تبارك وتعالى يجازي بذرات الأعمال في الدنيا والآخرة, ولهذا فإن من استتر من الناس ولم يستحِ من الله عز وجل يُلقي له البغض في قلوب المؤمنين كما قال أبو الدرداء: "ليتقي أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر؛ يخلو بمعصية الله فيُلقي الله له البغض في قلوب المؤمنين.
ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله يُنشد:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ
وقال ابن السّماك:
يا مدمن الذنب أما تستحي والله في الخلوة ثانيك
غرّك من ربك إمهاله وسِتره طول مساويك
وقال سليمان التيمي: "إن العبد ليصيب الذنب فيُسِّر به فيُصبح وعليه مذلته. مذلة الذنب تُرى عليه، ما أسر عبد سريرةً إلا ألبسه الله عز وجل ردائها علانية, فإن أسرّ التقوى ظهرت التقوى عليه وظهر أثرها, وإن أسرّ المعصية ظهر أثرها عليه مهما أبدى للناس من خشوع وخضوع وإنابة.
ولهذا أوصى بعض السلف أخاه فقال له: عليك بتقوى الله، فإنها من أكرم ما أسررت, وأزين ما أظهرت, وأفضل ما ادخرت. أعاننا الله وإياك عليها, وأوجب لنا وإياك ثوابها.
فاستفيدوا عباد الله: أعظم حِكَم الصيام ألا وهي تقوى الله تبارك وتعالى تفوزوا وتفلحوا, وتنتهي المعاصي التي ضجت منها الأرض والسماء، وأوشك الناس جميعًا أن يؤخذوا بعقوباتها. اتقوا الله تعالى في سر أمركم وعلانيته فإنه لابد لكم من لقاه، ولا منتهى لكم دونه وهو يملك الدنيا والآخرة.
وقبل أن أغادر مكاني هذا يطيب لي أن أنبه على ما تدعو إليه جمعية تحفيظ القرآن الكريم أولياء الأمور جميعًا إلى أن يهتموا بإرشاد أبنائهم وتوجيههم إلى مقارّ هذه الجمعيات لكي يقبلوا على كتاب الله عز وجل تلاوةً وتدبرًا, ولكي يكونوا من العلماء العاملين بكتاب الله عز وجل, هذه دعوة طيبة عظيمة من هذه الجمعية ففيها تعاهد لكتاب الله وتعاهد لأبناء المسلمين حتى لا يشبوا وينشئوا وهم لا يستطيعو أن يقيموا حروف كتاب الله بينما هم مجيدون في إقامة حروف أخرى غير كتاب الله تبارك وتعالى, فأقبلوا على القرآن الكريم تعلمًا وتلاوة وتدبرًا تفوزوا وتفلحوا ويقال لكم يوم القيامة ((اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرأها)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(/3)
... ...
الصيام ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- معنى الصوم. 2- دليل فرضيته. 3- الصيام عند الأمم السابقة. 4- فضائل شهر رمضان. 5- لماذا شرع الله الصوم. 6- كيف تقضي ليالي ونهار رمضان. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة:183]. أيام قلائل إذا قيست بالعام كله.
فرض الله تعالى صيامها وجعل صيامها سببا إلى التقوى.
فما الصوم؟ وما فضائل رمضان؟ ولماذا الصوم؟ وكيف تقضى أيام رمضان؟ وما موقف المسلم منه؟
أما الصوم: فهو الإمساك، قال تعالى: إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا [مريم:26]. والمراد به الامتناع عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية .
والصيام ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب قوله تعالى: كتب عليكم الصيام أي فرض عليكم، أما السنة فقوله : ((بني الإسلام على خمس شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا))([1])، والإجماع منعقد على ذلك من لدن رسول الله إلى قيام الساعة ومنكره كافر، يقول الذهبي رحمه الله: ((الذي يفطر في رمضان من غير عذر شر من الزاني ومدمن الخمر، بل ويشك في إسلامه ))([2]).
والصيام قديم قدم البشرية على الأرض كما قال تعالى: كما كتب على الذين من قبلكم [قال قتادة: كان الصيام زمن نوح ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخه الله بشهر رمضان، وأخبر القرآن أن موسى عليه السلام صام أربعين يوما استعدادا للقائه بربه سبحانه قال تعالى: وواعدنا موسى ثلاثين لليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة [الأعراف:143]. وفي الإنجيل أن عيسى صام أربعين يوما، وداود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما، أما أمة محمد فقد خصها الله بشهر رمضان.
وأما ما هي فضائل رمضان:
فيه ليلة القدر: وهي الليلة التي أنزل الله فيها القرآن وهي ليلة خير من ألف شهر قال تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر [القدر:1-3]. وذكر النبي رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله: ليلة القدر خير من ألف شهر . (التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر)([3]). وألف شهر تعدل ثلاثة وثمانين سنة يختزلها الله تعالى لأمة محمد في ليلة واحدة، فأي عطاء وكرم منه سبحانه.
مضاعفة الحسنات: للحديث: ((من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه))([4]).
الأجر عظيم: للحديث: يقول الله عز وجل: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به))([5]).
قال الخطابي: (سبب إضافة الصيام إلى الله تعالى (قيل) إضافة تشريف كقوله تعالى (ناقة الله) مع أن العالم كله لله تعالى: وفيه بيان عظيم فضل الصوم والحث عليه وقوله (وأنا أجزي به) بيان عظم فضله وكثرة ثوابه لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه اقتضى عظم قدر الجزاء وسعة العطاء)([6]).
دعاء مستجاب: للحديث: ((ثلاثة لا ترد دعوته: الصائم حين يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين))([7]).
وللحديث: ((إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد))([8]).
وعد بالفرح في الآخرة: للحديث: ((للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه))([9]).
باب في الجنة خاص بالصائمين: للحديث: ((إن في الجنة بابا يقال له: الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد))([10]).
قال الشرقاوي: الريان نقيض العطشان مشتق من الري مناسب لحال الصائمين للحديث: ((من دخل شرب، ومن شرب لا يظمأ أبدا))([11]).
تنشط فيه بواعث الخير: للحديث: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين))([12]). ((وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر))([13]).
مكفر للخطايا والذنوب: للحديث: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر))([14]).
وللحديث: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ))([15]).
وأما لماذا الصوم؟(/1)
فتلك شبهة يثيرها ضعاف القلوب والعقول يقولون: لماذا الصوم؟ ولماذا نعذب الجسد بالجوع؟ حتى قال أحدهم: إن الصوم يعطل اقتصاد البلاد: ونقول لهؤلاء ابتداء: الصوم عبادة وطاعة، أمرنا الخالق سبحانه بها، فالله ربنا ونحن عبيده وكفى بالله حكيما فيما شرع وقضى، وإن من الأحكام ما أبان رب العزة عن حكمة تشريعه كتحريم الخمر والميسر قال تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [المائدة:91]. وهناك أحكام لا تظهر حكمة التشريع إلا مع تقدم العلوم كتحريم لحم الخنزير حيث علمنا قبل قرن فقط أن في الخنزير الدودة الشريطية، والبيوض المتكيسة مع الأثر لآكله من فقدانه الغيرة كحال الخنزير، وأحكام يجتهد العبد في الاستنباط والبحث عن حكمة التشريع فإن أدرك شيئا فلله الحمد والمنة وإلا فكفى بالله حكيماً فيما حكم كعدد ركعات الصلاة في كل وقت، أو الطواف سبعا، أو مواضع الإسرار والجهر في الصلاة وهكذا، ثم نقول لهم: إن في واقعنا أنواعا من الصيام تافهة في مضمونها إذا قيست بأهداف الصيام في إسلامنا، ومع هذا نجد من يحترمها ويقرها مثال ذلك الصيام السياسي: وهو أن يمتنع أصحاب حق عن الطعام حتى تبلغ أصواتهم أسماع الآخرين، فينظروا في قضيتهم، وهناك الصيام الجمالي وهو أن يمتنع الرجل أو المرأة عن الطعام حتى يزيل تلك الترهلات التي تشوه منظره وقد يكون قاسيا وهو ما يعرف ((بالرجيم)) وهناك الصيام الصحي وهو أن ينصح الطبيب المريض بأن يحترز في طعامه، وأن يصوم أياما حتى تستريح أجهزة الجسم من الإجهاد والعنت وتسترد عافيتها بعد طول عمل، ويلبي المريض نداء الطبيب حرصا على صحته، ويلبي طالب الجمال نداء الجسد لينال الرشاقة، ويلبي صاحب الحق الذي يعتقده نداء الواجب، أليس رب العزة الذي يدعونا إلى الصيام أولى بالإجابة من كل أحد؟ اللهم نعم، اللهم لبيك، اللهم سمعا وطاعة لك.
ومما يهدف إليه الصوم:
تربية الإنسان على الخلق الكريم: فالذي يحبس نفسه عن الحلال حياء من الله تعالى، واستشعارا لرقابته سبحانه، أيعقل أن تتجرأ نفسه على الحرام؟ جاء في الحديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن))([16]). فدل على أن العبد عند ارتكابه لهذه المعاصي إنما كان في حال حيواني فقد فيه الحياء والتعظيم لنظر الحق جل وعلا. لذا قال تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة:177]. والتقوى لا تقوم شريعة، ولا يفلح قانون على إيجادها إلا الشريعة التي أنزل ربنا جل وعلا وهذا ما يفسر لنا ندرة الجريمة على عهد الرسول والخلفاء، ومعظمها كان مصحوبا باعتراف الجاني نفسه طائعا مختارا، ثم قل لي بربك الذي يتحرج ويمتنع عن المطعم والمشرب الحلال، ويمتنع عن إتيان أهله بالحلال تعظيما لأمر الله في الصيام هل تجرؤ نفسه على فعل الحرام من سرقة أو زنا؟ وهو قد تربى في مدرسة الصيام على ترك الحلال فهو عن الحرام أبعد.
استعلاء وجهاد: فالمسلم حين يصوم إنما يحقق معنى الاستعلاء على ضرورات الأرض طاعة وتعظيما لله فلا يستذله مال، ولا سلطان، ولا شهوة، وقال العلماء: ((الصوم المتصل الدائم غايته فناء الذات والنوع أي الذرية وهذا يعني أن المسلم يعد نفسه ويعاهد الله تعالى أن يفني ذاته ونوعه في سبيله سبحانه وعلى هذا ترى الأصحاب والسلف فتحوا الأرض جهادا رافعين راية لا إله إلا الله محمداً رسول الله، أما الجيوش التي تعيش في بؤر الفساد والامتهان والاستعباد والمظاهر الجوفاء، الجيوش الورقية التي لا تثبت في معركة فيها شرف وكرامة، إنما تثبت في المعارك التي تكون ضد العزل ممن يقولون لا إله إلا الله وفي المعارك التي لا شرف فيها ولا كرامة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
التكافل: قوام الحياة بالطعام والشراب، أراد الله تعالى أن نعيش أياما معدودة نستشعر ما يلقاه إخوة لنا طوال السنة بل السنين من جوع ومرض وبسبب جهادهم كأفغانستان وفلسطين والفلبين وغيرهما، فيكون باعث غيرة وإحساس. لما للأخوة الإسلامية من حق وواجب للحديث: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر الحمى))([17])، ولكن في أمتنا لا نسمع إلا ما يندى له جبين الشريف، فلان يتبرع بعشرين ألف دينار لفريق كرة عابث، وآخر يتبرع لعاهرة بما لو أنفقته على شعب لأسعدهم، ولكنها البلادة والتخبط في مال الله بغير الحق: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [الشعراء:227].
وأما كيف نقضي أيام رمضان؟ فهناك أعمال قولية وأخرى فعلية؟
فإن للصيام ركنين لا يصح الصيام إلا بهما: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
النية للحديث: ((من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له))([18]). وهي عمل قلبي، فمن تسحر الليل قاصدا الصيام فهو ناوٍ.(/2)
وأما الأعمال القولية:
قراءة القرآن: ((فإن جبريل عليه السلام كان يلقي الرسول في كل ليلة يدارسه القرآن))([19])، والقرآن شافع لأصحابه كالصيام للحديث: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان))([20]).
الدعاء: للحديث: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، والمظلوم))([21])، وللحديث: ((إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد))([22]). وكان عبد الله بن العباس يقول: ((اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي)).
الذكر للحديث: ((ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله، من ذكر الله عز وجل))([23]).
وأما الأعمال الفعلية:
قيام الليل: للحديث: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))([24]). وفي العشر الأواخر بالخصوص للحديث: ((قالت عائشة: إن النبي كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله وشد المئزر))([25]). وشد المئزر كناية عن التشمير للطاعة وقيل: عن تركه الجماع وتفرغه للعبادة.
الجود والتصدق: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فالرسول أجود بالخير من الريح المرسلة))([26]). والريح المرسلة أي في الإسراع والعموم.
كف الجوارح عن المعاصي للحديث: ((ليس الصيام عن الأكل والشرب، إنما الصيام عن اللغو، والرفث، فإن سابك أحد، أو جهل عليك، فقل: إني صائم، إني صائم ))([27]).
وأما موقف المسلم من رمضان:
الاجتهاد في تلاوة القرآن: وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال وكان قتادة يختم في كل سبع دائما، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمه يقرؤها في غير الصلاة، وقال سفيان الثوري: (إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناما للزمان والمكان وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة وعليه يدل عمل غيرهم)([28]).
وتحري ليلة القدر: وهي في الوتر من العشر الأواخر للحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله : ((إذا دخل العشر شد مئزره وأيقظ أهله ))([29]).
وكان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره([30]).
وقيام ليلة القدر يحصل بساعة، قيل: بإحياء معظم الليل، وقيل: بأن يصلي الصبح في جماعة وقال الشافعي: (من شهد العشاء والصبح ليلة القدر أخذ بحظه منها)([31]). ولكن الأحسن الاجتهاد وبذل الوسع ما أمكن فقد ((كان رسول الله يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين))([32]). والمعول عليه هو القبول للحديث: ((رب قائم حظه من قيامه السهر))([33])، فكم من قائم محروم وكم من نائم مرحوم لكن العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات والمبادرة إلى اغتنام العمل فعسى أن تستدرك به ما فات من ضياع العمر.
الرجاء والسؤال والدعاء أن يتقبل الله سبحانه صيام الشهر وقيامه وتلاوته وذكره واستغفاره، فلقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، يقول علي : كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: إنما يتقبل الله من المتقين [المائدة:27]. قال بعض السلف: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان ثم يدعون ستة أشهر أن يتقبله منهم، وكان علي يقول: يا ليت شعري من هذا المقبول منا فنهنيه، ومن هذا المحروم منا فنعزيه.
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وأن لا يردنا محرومين ولا خائبين ولا منكسرين إنه جواد رحيم كريم.
([1])متفق علبه.
([2])فقه السنة مجلد 1 ص 384.
([3])أخرجه ابن أبي حاتم.
([4])ابن خزيمة والبيهقي وابن حبان.
([5])البخاري ومسلم.
([6])الترغيب والترهيب ج2 ص 79.
([7])أحمد والترمذي.
([8])البيهقي.
([9])مسلم.
([10])البخاري ومسلم.
([11])النسائي وابن خزيمة.
([12])البخاري ومسلم.
([13])الترمذي.
([14])مسلم.
([15])البخاري ومسلم.
([16])رواه البخاري ومسلم.
([17])متفق عليه.
([18])رواه أحمد وأصحاب السنن.
([19])رواه البخاري.
([20])رواه أحمد بسند صحيح.
([21])رواه الترمذي بسند حسن.
([22])ابن ماجة.
([23])رواه أحمد.
([24])متفق عليه.
([25])متفق عليه.
([26])رواه البخاري.
([27])رواه ابن خزيمة.
([28])بغية الإنسان في وظائف رمضان ابن رجب الحنبلي ص 34 – 35.
([29])البخاري ومسلم.
([30])مسلم.
([31])بغية الإنسان ص 56.
([32])البخاري.
([33])البيهقي. ... ...
... ...(/3)
الصيف ضيّعت اللبن
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
" الصيف ضيعت اللبن " مَثَلٌ عربي شهير يضرب لمن ضيّع الفرصة ، وفوّت الغنيمة ، وترك المجال الرحب الواسع ، ولم يكن له من ذكاء عقله ومن شرف نفسه ومن قوة عمله ما يجعله محصلا لمكاسب دنياه ومدخرا لمآثر أخراه .
مثلٌ يضرب بامرأة تزوجت رجلاً شهماً كريماً ، يغدق عليها طعاماً وشراباً ولبناً سائغاً للشاربين مع حسن معاملة وإجلال وإكرام ، لكنها لم تقابل ذلك باعترافها بالنعمة وشكرها لها وانتفاعها منها ، وحرصها عليها وقابلت ذلك بإعراض وتضييع ، وبجحود وإنكار ، فكانت العاقبة أن طلّقها ثم تزوجها غيره ، لم تجد عنده يداً مبسوطة بالكرم ، ولا وجهاً مشرقاً بالسرور ، ولا معاملة محفوفة بالإعزاز والإكرام ، فتندمت وتحسّرت على ما فات عليها وما ضاع منها ، لكنها لم تنحو باللائمة على غيرها ، وإنما خاطبت نفسها تذكّرها تفريطها ، وتبيّن لها سوء تدبيرها ، فقالت : " الصيف ضيعت اللبن " ، ومضى مثلاً لكل من أضاع الفرصة وفرط في الغنيمة .
وها نحن اليوم نبدأ موسم الصيف ، وما أدراك ما موسم الصيف ! ملايين الملايين من الأوقات التي تحسب في خانة الفراغات ، والتي تصنف فيما يعرف بالعطلة ، وهي : " اسم في لفظه ومعناه ، واشتقاقه اللغوي مأخوذ من العطالة والعطل ، وهو الخلو من الزينة في أصل اللغة ، وهو هنا خلو عن العمل الجاد والانتفاع المثمر " ، والاستغلال الهادف للطاقات المختلفة المتنوعة كلها من وقت ممتد ، وعقل مفكر ، وقوة وصحة وعافية وفرص وأبواب من الخير مشرّعة ، ثم قد ينتهي الزمان وينقضي الصيف بأيامه وأسابيعه وأشهره وسعته التي ليس فيها كثير من العمل المطلوب المكلف به ، وحينئذ تعود مرة أخرى التسويفات .. إذا جاء الصيف سأفعل ، وإذا كانت الإجازة سأنجز ، وإذا تخليت عن بعض الأعباء والهمات سأفرغ لغيرها ، ويمضي الإنسان بذلك دن أن يدرك أن ما يضيعه إنما هو جزء حقيقي مهم من عمره وحياته ، وأنه يبدد من رصيده ، ويفني من كنوزه ما قد يكون أقل القليل منه موضع ندامة وحسرة شديدة وأكيدة وعظيمة في وقت لا ينفع فيه الندم .
ولعلنا نذكر أمرين مهمين قبل حديثنا عن الصيف :
الأمر الأول: في المنهج الإسلامي الفراغ فرصة للعمل
ويخطئ من يظن غير ذلك ، ويعتقد أن الفراغ فرصة للنوم والكسل ، ولعلنا نكتفي بالآية التي نتلوها كثيرا ونسمعها في صلواتنا كثيراً :
{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ الشرح:7،8 ] .
وقبل أن أذكر ما ذكره المفسرون من الصحابة والتابعين وغيرهم ندرك جميعا بمعرفتنا للغة العرب المعنى العام : إذا فرغت وانتهيت وصارت عندك فسحة من الوقت وشيء من الراحة فأي شيء تصنع؟ فانصب ، وكلنا يعلم أن النصب هو التعب والمقصود به الجد والعمل الذي يجدد مرة أخرى الإنجاز ويحقق الخير بإذنه سبحانه وتعالى .
لنستمع - أيها الأخوة - إلى القلوب المؤمنة والأفهام المسلمة والنفوس الحية والهمم العالية كيف فسرت ؟ وكيف فقهت هذه الآيات من كتاب الله سبحانه وتعالى ..
عن ابن مسعود رضي الله عنه : " إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل " .
وعن ابن عباس : " إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء " .
وأما الحسن وزيد بن أسلم فروي عنهما قولهما : " إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب إلى عبادة ربك " .
وعن مجاهد إمام التابعين من المفسرين: " إذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك " .
وعن الجنيد: " إذا فرغت من أمر الخلق فانصب في عبادة الحق " .
هل رأيتم في مجموع هذه الأقوال قولاً يقول: إذا فرغت فنم ؟ إذا فرغت فالهوا والعب ؟ إذا فرغت فضيع الأوقات وانحر الساعات؟ هل سمعنا شيئا من ذلك ؟
والذي نقلته لكم نقلته من نحو ثمانية أو تسعة تفاسير من أمهات كتب التفسير ، ولو رجعتم إلى عشرات أخرى غيرها لم تضفروا إلا بمثل هذه المعاني الشريفة العظيمة التي ترجمها القاسمي - المفسّر المتأخر المعاصر - ليجعل لها إطاراً واسعاً ومعنىً شاملاً حين قال : " إذا فرغت من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك فانصب إلى عمل وخذ في عمل آخر واتعب فيه ؛ فإن الراحة إنما تكون بعد التعب والنصب " .(/1)
هذا فقه الإيمان ، وهذه دلالة القرآن ، وهذه نفوس أسلافنا وأفكارهم وعقولهم وهكذا ينبغي أن نفقه الأسس السليمة لا أن نسمح للمفاهيم المغلوطة أن تروج ، فمع آخر يوم من انتهاء الاختبارات تسمع الطلبة والطالبات وهم يتوعدون بالنوم الطويل واللعب الكثير والسهو واللهو والغفلة ، ويرون ذلك هو الميدان الصحيح ، وهو العمل المطلوب ليس في يوم أو يومين ! بل في أشهر معدودات متواليات ، وليس هم الذين يقولون ذلك بل أسرهم وآباؤهم وأمهاتهم يوافقونهم في مثل هذا في الجملة ، فهم يرون ألا يكلموهم وأن لا يوقظوهم من نومهم وسباتهم ، وأن لا يثربوا عليهم في لهوهم وفراغهم وغير ذلك ، بل ليس هؤلاء فحسب بل المجتمع في مجمله كأنما يقول لهم ذلك ، وكأنما يؤكد لهم أن الرسالة المطلوبة هي مثل هذا اللغو واللهو والفراغ غير المجدي .
وقاعدة أخرى - أيها الأخوة الأحبة - المسؤولية حقيقة كلية في المنهج الإسلامي
ليست هناك مسؤولية في زمان دون زمان .. لن يكون الحساب يوم القيامة على أيام الدراسة والعمل والقلم مرفوع عن أيام الإجازة أو العطل من قال هذا ؟ ومن يتوهم هذا ؛ فإنه لاشك على خطر عظيم ، والمسؤولية كذلك لا ترتفع عن مكان دون مكان ليست هي في مكة المكرمة أو المدينة ، فإذا كان في غيرها أو في خارج هذه البلاد أصبح الأمر آخر ، وأصبح التصرف مختلفاً وأصبح القول غير القول وغير ذلك ما نعلم كثيرا منه، إنها قضية واضحة كذلك:
{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء: من الآية 36 ] .
ليست هناك حدود في الزمان أو المكان تخرج عن دائرة هذه المسؤولية:
{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ قّ:18 ] .
{ قول منكرة } ومنونةٌ ؛ لتدل على العموم في سائر الأوقات وفي سائر الأحوال في الرضا والغضب أنت مسؤول عن قولك في العمل والإجازة أنت مسؤول عن فعلك في بلادك وفي خارجها أنت محاسب على أفعالك ، والأمر في ذلك يطول والفقه الإيماني يدعو إلى أن يكون المرء المؤمن عاقلاً ، وأن يعمل مثلما يعمل التاجر ، فالتجار -كما نعلم - في مواسمهم يشمرون عن ساعد الجد ، ويفتقون العقول عن الأفكار والحيل والأساليب المناسبة لمزيد من الأرباح في هذه المواسم ، وتجدهم يزيدون في الأوقات ويغتنمون الفرص في الإقبال وإتاحة الإمكانات والطاقات .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه المشهور يقول : ( اغتنم خمسا قبل خمس )
استمعوا إليها لتروا أن معظمها متعلق بالزمان والوقت: ( حياتك قل موتك .. شبابك قبل هرمك .. فراغك قبل شغلك .. صحتك قبل سقمك ) .
انظروا إلى الأوائل كلها متعلقة بالزمن ..كلها مربوطة بما يتيسر من هذا الزمان الممتد .
وهنا نستحضر الحديث العظيم عند الإمام البخاري في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
) نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ) .
امتداد في الزمن ، وقوة في البدن ، وتكاليف تنزلت بها الآيات وشهدت بها ووجهت إليها الأحاديث وأمة مهيضة الجناح متأخرة عن ركب الأمم يحدق بها الأعداء من كل مكان وتحيط بها المكائد في كل وجه وصوب ، ثم بعد ذلك ملايين من الأبناء والبنات والأسر من هنا وهناك ضائعون في فلك لا نهاية له .. سائرون في طرق لا تفضي إلى خير ولا إلى علم ولا إلى عمل ولا إلى تقدم أو نحو ذلك إنها قضية خطيرة .
يحسبون - أيها الأخوة - في مقاييس الإنجاز والعمل في الدول والشركات الدقائق والساعات ، ويقولون : إذا حصل أمر من الأمور وتعطلت الأجهزة أو تعطل العمل لأمر أو لآخر لمدة ساعة فيقولون: إن هذه الساعة من عدد كذا من الموظفين أصبحت تشكل كذا من الساعات الإنتاجية وتقدر بكذا من الملايين ، وتقدر بكذا وكذا ، وأما نحن فنضربها ونحسبها ثم نهبها للفراغ ونهدرها في الهباء وننحرها بلا نفع ولا فائدة .
إنها المسؤولية المناطة بنا جميعاً أنا وأنت وهذا وذاك .. إن الشباب والشابات والأبناء والبنات جزء عظيم من المسؤولية مناط بآبائهم وأمهاتهم ، وسبل التربية والتوجيه وسبل اغتنام الأوقات وغير ذلك مما نعلمه ، إضافة إلى مسؤولية المجتمع في كل دوائره المختلفة .
ولعلي أقف هنا وقفات سريعة وليس مقامنا مقام تفصيل فيما ينبغي عمله أو فيما ننكره ونحذر منه ولكها ومضات مهمة :(/2)
هناك أرباح وخسائر ، وهناك رابحون وخاسرون متى يتضح ذلك ؟ بعد نهاية الموسم وفي آخره ، لكن هل ننتظر حتى يأتي آخر الموسم ونرى هل ربحنا أم خسرنا ؟ أم نتنبه في أوله وبدايته حتى نأخذ الأسباب ونهيأ العدة ، ونجتهد في أن نخرج من الموسم بأكبر ربح ممكن ، بدلاً من أن تكون الخسائر فادحة وليتها خسائر في جانب المادة فحسب .. إهدار للأوقات أو إهلاك للأموال أو غير ذلك ، بل كثيرة هي الخسائر الفادحة من الإيمان الذي يضعف والحياء الذي يذبل ، والهم التي تخور والعزائم التي تفتر ، واللهو الذي يتمكن من النفوس ، والعبث الذي يضيع العقول ، والغفلة التي لا تنهض عزماً ولا تقيم أملاً ولا تحيي عملاً في هذه الأمة .
أبواب الخير الكثيرة الخيرة مشرّعة ، واغتنموا لكم ولأبنائكم هذه الفرص من الوقت المتاح :
أولا: في ميدان القرآن الكريم
المساجد التي تمتلئ بحلق التحفيظ ، وكثير من الطلاب وأسرهم يقولون: ليس هناك وقت متاح في أوقات الدراسة ! وإذا ذهبوا إلى المساجد فستضيع الأوقات عليهم عن الدراسة ، وسيتأخرون فيها ، فلنقبل منهم ذلك في أوقات الدراسة فماذا يقولون اليوم ؟ وإضافة إلى ذلك الأبواب مشرّعة في أنماط مختلفة متعلقة بالقرآن ، فهناك الدورات القرآنية التي تتيح الفرص لتعلم القراءة والتجويد والتلاوة ، ولحفظ الجديد ولمراجعة وتمكين المحفوظ القديم ونحو ذلك من الأمور الخيّرة ، إضافة إلى المسابقات القرآنية والمنافسات القرآنية العظيمة .. أبواب من الخير لو أننا أحسنا توجيه أبنائنا إليها ورغبناهم فيها لوجدنا تحقق موعود الله عز وجل :
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [ القمر:17].
إنه يسيرٌ وإنه محبوبٌ لا ينبغي أن نقول : " إنها إجازة فكيف نثقل عليهم بذلك " سبحان الله ! هل في كتاب الله من ثقل على النفوس ؟ هل فيه من همٍّ أو غمٍّ على القلوب ؟ أ ليس هو الذي تنشرح به الصدور ؟ أ ليس هو الذي تطمئن به القلوب ؟ أ ليس هو الذي تلتذ به الأسماع ؟ أ ليس هو الذي تترطب به الألسنة ؟ أ ليس هو الذي تعم به الخيرات والبركات ؟ أ ليس هو الذي يبصر وينير العقول ويرشدها ؟ أ ليس هو الذي يفتق الطاقات ويجعل المقبل عليه ذكياً فطناً ، فضلاً عن كونه زكياً نقياً طاهراً ؟
لماذا نحرم أبناءنا ؟ لماذا نقصّر في حقهم ؟ ونفرّط في توجيههم إلى الخير الذي لهم ؟ ولا نقول ليرتبطوا بالحلق أو بالقرآن ليلهم ونهارهم ، فلا يكون عندهم فرصة لشيءٍ من راحة ، ولو قضوا ذلك في كتاب الله لما كان قليلاً .
وباب آخر وهو : باب القراءة
القراءة المجني عليها لا يعرف أبناؤنا كثيراً من كتاب ربهم ، ولا من سنة نبيهم ، ولا من سيرة مصطفاهم ، ولا من صفحات تاريخهم ، ولا من علوم شريعتهم ، ولا من حقائق واقعهم ، ولذلك تجد الطلاب وقد صاروا اليوم كأنما عقولهم ورؤوسهم فارغة حتى ما يقرؤونه في مدارسهم يقرؤونه ليفرغّوه على أوراق الاختبارات ، ثم يحاولون بكل جهد أن ينسخوه من عقولهم ، وأن ينظفوها حتى لا يبقى فيها أي أثر من آثار تلك المعلومات والقراءات والفرصة سانحة والوقت متسع والمنهج لو أراد الآباء والأمهات ومؤسسات المجتمع والحكومة أن تبسط ميادين المنتزهات فحسب أين هي المكتبات ؟ أين هي المسابقات ؟ أين هي القراءات ؟ أين هي المجالات التي ينبغي أن يأخذ بها أبناؤنا ؟
وأستحضر هنا خبراً تافهاً سخيفاً ، لكنه أخذ حظاً وافراً في وسائل الإعلام كلها قصة ابتكرتها امرأة إنجليزية قصة خرافية عن شخصية خيالية ، وجعلت لها اسماً ثم أصدرت لها كتاباً فتلقاه القوم - وهم يقرؤون ويحبون أي شيء بالقبول العظيم - حتى توالت الأجزاء ، وجنت هذه المرأة من هذه القصة ستمائة مليون جنيه إسترليني - كما يقولون - وعندما نزل الجزء الأخير نشر في الصحف أن المكتبات في بعض الدول الكبيرة المشهورة في بلاد الغرب سوف تداوم أربعاً وعشرين ساعة حتى تلبي احتياجات الناس من الإقبال على هذا الكتاب .
قد نقول سخافة وقد نقول ضياع لكنهم يقرؤون وربما نجد سوق الكتاب وهو يشكو الحزن الأليم حتى إن ما يطبع باللغة العربية في العام الواحد لا يبلغ إلا خمس ما يطبع في بريطانيا وحدها فقط ويصدق حينئذ فينا قول أعدائنا إننا أمة لا نقرأ .
أنتم - معاشر الآباء - فضلاً عن الشباب أليس في فرص الإجازات ميدان لنقرأ في السيرة .. لنقرأ في تاريخنا .. لنقرأ ما ينفعنا لنعرف ما يجري حولنا وهذه قضية أخرى مهمة .
والثالثة : ميدان الترفيه
وهو أيضاً يمكن أن يكون نافعاً ومفيداً ، لقد كان لهو السابقين من أسلافنا لهوٌ بالخيل ، وكان نور الدين زنكي القائد العادل المقاتل المجاهد العظيم كان لعبه بالكرة على الخيل يعطفها يمنة ويسرة يقول:" ما أريد بها إلا الاستعداد للجهاد " .(/3)
وكم هي فرص الترفيه التي يمكن أن تكون نافعة ومفيدة ، والمراكز الصيفية - بحمد الله - تقدّم كثيراً من هذا النافع المفيد المثمر الذي يدخل السرور ويغيّر النفس ، ومع ذلك يكسب المهارة الجديدة والمعلومة الجديدة والمعرفة الجديدة ، إضافة إلى أجواء من الأخوة والتعاون وغير ذلك .
والعمل ميدان أيضاً لاغتنام الوقت والاستفادة من الطاقات :
العمل للشباب والشابات في صور مختلفة ولو كان عملاً ذاتياً ربما لا يكون له العائد المالي لكنه له عائد تربوي ونفسي .
والسفر وما أدراك ما السفر ؟ وله في جانب السلبيات باب واسع ، لكنه كذلك يمكن أن يكون نافعاً ومفيداً إذا لم يكن في البلاد التي يعظم فسادها ، ويكثر شرها وهي بلاد أعدائنا التي ننفق فيها أموالنا وغير ذلك من الأمور التي نعرفها .
وأبواب الخير في هذا كثيرة مشرّعة ، المهم أن نعرف أن الفراغ فرصة للعمل ، وأن المسؤولية لا يستثنى منها شيء .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه ، ولاشك - أيها الأخوة الأحبة - أن هناك صوراً محزنة ، ومظاهر مؤسفة ، وأحوالاً مخزية نراها في هذه الفترة من الصيف ، قد تحدّث إلي بالأمس غيور ، ظلّ يتابع الاتصال وهو يركز على وجوه النقد التي تصاحب كثيراً من ممارسات الصيف ، فآثرت أن يكون حديثنا الأول هو حديث الإيجاب وحديث القواعد المؤسسة ، وحديث الآيات البينة الواضحة ، وحديث هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان النموذج الأمثل في اغتنام الأوقات ، والذي كان مضرب المثل الحقيقي في حياة كل مسلم ومؤمن .
لكننا لابد كذلك أن ننبه إلى هذه السلبيات ؛ لأنها لا تقع إلا منا نحن إما مباشرة وإما بطرق غير مباشرة ، وهذه مآس كثيرة وهذه مشكلات عديدة :
أولها: مشكلات السهر والعبث
أكثر الشباب والشابات - بل وكثير من الأسر - عندما يأتي هذا الصيف لا يذوقون النوم في ليله أبدا ويسهرون الليل ينحرون أوقاته حتى الصباح ، فإذا جاء الصباح قتلوه نوماً وقتلوه كسلاً وقتلوه سلبية ، وهذا أمر ظاهر ومشاهد ولو أردت أن تجرب أن تتصل بأي بيت في صباح أي يوم لما وجدت لك مجيباً ، ونرى ذلك بآثاره السلبية ، فالشباب يصنعون - كما تعلمون - من التجمّعات في الأماكن السكنية وفي أماكن المنتزهات ويصنعون ما هو معلوم من الأذية والمعاكسات والمغازلات وغير ذلك من الأمور المعلومة ومآس أخرى في مخازي الأسواق والمنتزهات ولعلنا هنا نتوجه إلى النساء والفتيات فإن الخروج المسف المكثر المتأخر إلى ما بعد منتصف الليل في هذه الأماكن مع قصد في التميّع والتكسّر ، وعدم مراعاة لأحكام الحجاب وآداب الحياء ومراعاة الواقع الاجتماعي والأسري والتربوي ؛ فإن هذا نعلم منه الكثير ، وترى اليوم الأسواق وهي تعج بروادها كأنما كانوا في مجاعة فخرجوا يتطلبون قوتهم ، أو كانوا قد عريت أجسامهم فخرجوا يشترون أكسية وأحذية أو نحو ذلك ، ولاحرمة في التسوّق ، ولا غضاضة في قضاء الحوائج ، لكنها بهذه الصورة والهيئة التي تكثر عند الناس حتى تكون كأنها جدول أعمال له في كل يوم ساعات أو له في كل أسبوع أيام والمسألة بقضاء الحاجة تنقضي في أوقات يسيرة لمن كان يطلب حاجته ويعرفها دون هذا العبث والنزهة التي تتدثر بدثار التسوق ونحو ذلك .
ومآسٍ أخرى في السياحة والأسفار :
ليس أولها ما يصنعه كثير من النساء من نزع الحجاب مع أول درجات سلم الطائرة كأنما هناك مكان ليس فيه حكم لشرع الله أو كأنما هناك مكان يخلو ويخرج عن علم الله المحيط الشامل القائل - جل وعلا - في وصف علمه وشموله :
{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [ غافر:19 ] .
وهذه صور كثيرة نحن مسؤولون عنها .. قد نكون من أهلها وقد يكون بعض معارفنا أو جيراننا أو أقاربنا من أهلها ، وقد يكون غيرهم من أهلها ، ونحن نملك أن نقول كلمة ننصح بها أو نقدم رسالة نذكّر بها ، وأن نحذر مما يستهدفنا ونحن نمر في بلادنا وعلى مستوى أمتنا بأعظم هجمة شرسة تريد استئصال إسلامنا من جذوره ، ونسخ تاريخنا من أصوله ، وفوق ذلك كذلك نجد أننا نمرّ بأشد الظروف التي تكاد فيها أوضاع أمتننا في داخلها تموج بكثيرٍ من المتغيرات والاضطرابات ، فهل يحسن بنا مع ذلك كله أن نبقى على غفلتنا ، وأن نبقى على السر الأعظم في سبب بلائنا ونكباتنا ومصائبنا والسبب الأساس في تسلط أعدائنا وهو مخالفتنا لأمر الله وتنكبنا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .. { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } [ الروم: من الآية 41 ] .(/4)
فالله الله في أبنائكم وبناتكم ، والله الله في أوقاتكم وأيامكم ولياليكم وساعاتكم ، والله الله في قلوبكم ونفوسكم ، والله الله في الفرص العظيمة والأبواب المشرعة من الخير ، لعل الله - سبحانه وتعالى - أن يعوّضنا كثيراً مما فرطنا فيه ، وأن يجعل هذه الأوقات المتاحة فرصة لننجز عملا نخدم به أنفسنا نعلي به إيماننا نعظم به أجورنا ننصر به أمتنا نقوي به مجتمعنا .(/5)
الصيف ضيّعت اللبن
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
" الصيف ضيعت اللبن " مَثَلٌ عربي شهير يضرب لمن ضيّع الفرصة ، وفوّت الغنيمة ، وترك المجال الرحب الواسع ، ولم يكن له من ذكاء عقله ومن شرف نفسه ومن قوة عمله ما يجعله محصلا لمكاسب دنياه ومدخرا لمآثر أخراه .
مثلٌ يضرب بامرأة تزوجت رجلاً شهماً كريماً ، يغدق عليها طعاماً وشراباً ولبناً سائغاً للشاربين مع حسن معاملة وإجلال وإكرام ، لكنها لم تقابل ذلك باعترافها بالنعمة وشكرها لها وانتفاعها منها ، وحرصها عليها وقابلت ذلك بإعراض وتضييع ، وبجحود وإنكار ، فكانت العاقبة أن طلّقها ثم تزوجها غيره ، لم تجد عنده يداً مبسوطة بالكرم ، ولا وجهاً مشرقاً بالسرور ، ولا معاملة محفوفة بالإعزاز والإكرام ، فتندمت وتحسّرت على ما فات عليها وما ضاع منها ، لكنها لم تنحو باللائمة على غيرها ، وإنما خاطبت نفسها تذكّرها تفريطها ، وتبيّن لها سوء تدبيرها ، فقالت : " الصيف ضيعت اللبن " ، ومضى مثلاً لكل من أضاع الفرصة وفرط في الغنيمة .
وها نحن اليوم نبدأ موسم الصيف ، وما أدراك ما موسم الصيف ! ملايين الملايين من الأوقات التي تحسب في خانة الفراغات ، والتي تصنف فيما يعرف بالعطلة ، وهي : " اسم في لفظه ومعناه ، واشتقاقه اللغوي مأخوذ من العطالة والعطل ، وهو الخلو من الزينة في أصل اللغة ، وهو هنا خلو عن العمل الجاد والانتفاع المثمر " ، والاستغلال الهادف للطاقات المختلفة المتنوعة كلها من وقت ممتد ، وعقل مفكر ، وقوة وصحة وعافية وفرص وأبواب من الخير مشرّعة ، ثم قد ينتهي الزمان وينقضي الصيف بأيامه وأسابيعه وأشهره وسعته التي ليس فيها كثير من العمل المطلوب المكلف به ، وحينئذ تعود مرة أخرى التسويفات .. إذا جاء الصيف سأفعل ، وإذا كانت الإجازة سأنجز ، وإذا تخليت عن بعض الأعباء والهمات سأفرغ لغيرها ، ويمضي الإنسان بذلك دن أن يدرك أن ما يضيعه إنما هو جزء حقيقي مهم من عمره وحياته ، وأنه يبدد من رصيده ، ويفني من كنوزه ما قد يكون أقل القليل منه موضع ندامة وحسرة شديدة وأكيدة وعظيمة في وقت لا ينفع فيه الندم .
ولعلنا نذكر أمرين مهمين قبل حديثنا عن الصيف :
الأمر الأول: في المنهج الإسلامي الفراغ فرصة للعمل
ويخطئ من يظن غير ذلك ، ويعتقد أن الفراغ فرصة للنوم والكسل ، ولعلنا نكتفي بالآية التي نتلوها كثيرا ونسمعها في صلواتنا كثيراً :
{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ الشرح:7،8 ] .
وقبل أن أذكر ما ذكره المفسرون من الصحابة والتابعين وغيرهم ندرك جميعا بمعرفتنا للغة العرب المعنى العام : إذا فرغت وانتهيت وصارت عندك فسحة من الوقت وشيء من الراحة فأي شيء تصنع؟ فانصب ، وكلنا يعلم أن النصب هو التعب والمقصود به الجد والعمل الذي يجدد مرة أخرى الإنجاز ويحقق الخير بإذنه سبحانه وتعالى .
لنستمع - أيها الأخوة - إلى القلوب المؤمنة والأفهام المسلمة والنفوس الحية والهمم العالية كيف فسرت ؟ وكيف فقهت هذه الآيات من كتاب الله سبحانه وتعالى ..
عن ابن مسعود رضي الله عنه : " إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل " .
وعن ابن عباس : " إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء " .
وأما الحسن وزيد بن أسلم فروي عنهما قولهما : " إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب إلى عبادة ربك " .
وعن مجاهد إمام التابعين من المفسرين: " إذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك " .
وعن الجنيد: " إذا فرغت من أمر الخلق فانصب في عبادة الحق " .
هل رأيتم في مجموع هذه الأقوال قولاً يقول: إذا فرغت فنم ؟ إذا فرغت فالهوا والعب ؟ إذا فرغت فضيع الأوقات وانحر الساعات؟ هل سمعنا شيئا من ذلك ؟
والذي نقلته لكم نقلته من نحو ثمانية أو تسعة تفاسير من أمهات كتب التفسير ، ولو رجعتم إلى عشرات أخرى غيرها لم تضفروا إلا بمثل هذه المعاني الشريفة العظيمة التي ترجمها القاسمي - المفسّر المتأخر المعاصر - ليجعل لها إطاراً واسعاً ومعنىً شاملاً حين قال : " إذا فرغت من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك فانصب إلى عمل وخذ في عمل آخر واتعب فيه ؛ فإن الراحة إنما تكون بعد التعب والنصب " .(/1)
هذا فقه الإيمان ، وهذه دلالة القرآن ، وهذه نفوس أسلافنا وأفكارهم وعقولهم وهكذا ينبغي أن نفقه الأسس السليمة لا أن نسمح للمفاهيم المغلوطة أن تروج ، فمع آخر يوم من انتهاء الاختبارات تسمع الطلبة والطالبات وهم يتوعدون بالنوم الطويل واللعب الكثير والسهو واللهو والغفلة ، ويرون ذلك هو الميدان الصحيح ، وهو العمل المطلوب ليس في يوم أو يومين ! بل في أشهر معدودات متواليات ، وليس هم الذين يقولون ذلك بل أسرهم وآباؤهم وأمهاتهم يوافقونهم في مثل هذا في الجملة ، فهم يرون ألا يكلموهم وأن لا يوقظوهم من نومهم وسباتهم ، وأن لا يثربوا عليهم في لهوهم وفراغهم وغير ذلك ، بل ليس هؤلاء فحسب بل المجتمع في مجمله كأنما يقول لهم ذلك ، وكأنما يؤكد لهم أن الرسالة المطلوبة هي مثل هذا اللغو واللهو والفراغ غير المجدي .
وقاعدة أخرى - أيها الأخوة الأحبة - المسؤولية حقيقة كلية في المنهج الإسلامي
ليست هناك مسؤولية في زمان دون زمان .. لن يكون الحساب يوم القيامة على أيام الدراسة والعمل والقلم مرفوع عن أيام الإجازة أو العطل من قال هذا ؟ ومن يتوهم هذا ؛ فإنه لاشك على خطر عظيم ، والمسؤولية كذلك لا ترتفع عن مكان دون مكان ليست هي في مكة المكرمة أو المدينة ، فإذا كان في غيرها أو في خارج هذه البلاد أصبح الأمر آخر ، وأصبح التصرف مختلفاً وأصبح القول غير القول وغير ذلك ما نعلم كثيرا منه، إنها قضية واضحة كذلك:
{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء: من الآية 36 ] .
ليست هناك حدود في الزمان أو المكان تخرج عن دائرة هذه المسؤولية:
{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ قّ:18 ] .
{ قول منكرة } ومنونةٌ ؛ لتدل على العموم في سائر الأوقات وفي سائر الأحوال في الرضا والغضب أنت مسؤول عن قولك في العمل والإجازة أنت مسؤول عن فعلك في بلادك وفي خارجها أنت محاسب على أفعالك ، والأمر في ذلك يطول والفقه الإيماني يدعو إلى أن يكون المرء المؤمن عاقلاً ، وأن يعمل مثلما يعمل التاجر ، فالتجار -كما نعلم - في مواسمهم يشمرون عن ساعد الجد ، ويفتقون العقول عن الأفكار والحيل والأساليب المناسبة لمزيد من الأرباح في هذه المواسم ، وتجدهم يزيدون في الأوقات ويغتنمون الفرص في الإقبال وإتاحة الإمكانات والطاقات .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه المشهور يقول : (اغتنم خمسا قبل خمس )
استمعوا إليها لتروا أن معظمها متعلق بالزمان والوقت: ( حياتك قل موتك .. شبابك قبل هرمك .. فراغك قبل شغلك .. صحتك قبل سقمك ) .
انظروا إلى الأوائل كلها متعلقة بالزمن ..كلها مربوطة بما يتيسر من هذا الزمان الممتد .
وهنا نستحضر الحديث العظيم عند الإمام البخاري في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
) نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ) .
امتداد في الزمن ، وقوة في البدن ، وتكاليف تنزلت بها الآيات وشهدت بها ووجهت إليها الأحاديث وأمة مهيضة الجناح متأخرة عن ركب الأمم يحدق بها الأعداء من كل مكان وتحيط بها المكائد في كل وجه وصوب ، ثم بعد ذلك ملايين من الأبناء والبنات والأسر من هنا وهناك ضائعون في فلك لا نهاية له .. سائرون في طرق لا تفضي إلى خير ولا إلى علم ولا إلى عمل ولا إلى تقدم أو نحو ذلك إنها قضية خطيرة .
يحسبون - أيها الأخوة - في مقاييس الإنجاز والعمل في الدول والشركات الدقائق والساعات ، ويقولون : إذا حصل أمر من الأمور وتعطلت الأجهزة أو تعطل العمل لأمر أو لآخر لمدة ساعة فيقولون: إن هذه الساعة من عدد كذا من الموظفين أصبحت تشكل كذا من الساعات الإنتاجية وتقدر بكذا من الملايين ، وتقدر بكذا وكذا ، وأما نحن فنضربها ونحسبها ثم نهبها للفراغ ونهدرها في الهباء وننحرها بلا نفع ولا فائدة .
إنها المسؤولية المناطة بنا جميعاً أنا وأنت وهذا وذاك .. إن الشباب والشابات والأبناء والبنات جزء عظيم من المسؤولية مناط بآبائهم وأمهاتهم ، وسبل التربية والتوجيه وسبل اغتنام الأوقات وغير ذلك مما نعلمه ، إضافة إلى مسؤولية المجتمع في كل دوائره المختلفة .
ولعلي أقف هنا وقفات سريعة وليس مقامنا مقام تفصيل فيما ينبغي عمله أو فيما ننكره ونحذر منه ولكها ومضات مهمة :(/2)
هناك أرباح وخسائر ، وهناك رابحون وخاسرون متى يتضح ذلك ؟ بعد نهاية الموسم وفي آخره ، لكن هل ننتظر حتى يأتي آخر الموسم ونرى هل ربحنا أم خسرنا ؟ أم نتنبه في أوله وبدايته حتى نأخذ الأسباب ونهيأ العدة ، ونجتهد في أن نخرج من الموسم بأكبر ربح ممكن ، بدلاً من أن تكون الخسائر فادحة وليتها خسائر في جانب المادة فحسب .. إهدار للأوقات أو إهلاك للأموال أو غير ذلك ، بل كثيرة هي الخسائر الفادحة من الإيمان الذي يضعف والحياء الذي يذبل ، والهم التي تخور والعزائم التي تفتر ، واللهو الذي يتمكن من النفوس ، والعبث الذي يضيع العقول ، والغفلة التي لا تنهض عزماً ولا تقيم أملاً ولا تحيي عملاً في هذه الأمة .
أبواب الخير الكثيرة الخيرة مشرّعة ، واغتنموا لكم ولأبنائكم هذه الفرص من الوقت المتاح :
أولا: في ميدان القرآن الكريم
المساجد التي تمتلئ بحلق التحفيظ ، وكثير من الطلاب وأسرهم يقولون: ليس هناك وقت متاح في أوقات الدراسة ! وإذا ذهبوا إلى المساجد فستضيع الأوقات عليهم عن الدراسة ، وسيتأخرون فيها ، فلنقبل منهم ذلك في أوقات الدراسة فماذا يقولون اليوم ؟ وإضافة إلى ذلك الأبواب مشرّعة في أنماط مختلفة متعلقة بالقرآن ، فهناك الدورات القرآنية التي تتيح الفرص لتعلم القراءة والتجويد والتلاوة ، ولحفظ الجديد ولمراجعة وتمكين المحفوظ القديم ونحو ذلك من الأمور الخيّرة ، إضافة إلى المسابقات القرآنية والمنافسات القرآنية العظيمة .. أبواب من الخير لو أننا أحسنا توجيه أبنائنا إليها ورغبناهم فيها لوجدنا تحقق موعود الله عز وجل :
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [ القمر:17].
إنه يسيرٌ وإنه محبوبٌ لا ينبغي أن نقول : " إنها إجازة فكيف نثقل عليهم بذلك " سبحان الله ! هل في كتاب الله من ثقل على النفوس ؟ هل فيه من همٍّ أو غمٍّ على القلوب ؟ أ ليس هو الذي تنشرح به الصدور ؟ أ ليس هو الذي تطمئن به القلوب ؟ أ ليس هو الذي تلتذ به الأسماع ؟ أ ليس هو الذي تترطب به الألسنة ؟ أ ليس هو الذي تعم به الخيرات والبركات ؟ أ ليس هو الذي يبصر وينير العقول ويرشدها ؟ أ ليس هو الذي يفتق الطاقات ويجعل المقبل عليه ذكياً فطناً ، فضلاً عن كونه زكياً نقياً طاهراً ؟
لماذا نحرم أبناءنا ؟ لماذا نقصّر في حقهم ؟ ونفرّط في توجيههم إلى الخير الذي لهم ؟ ولا نقول ليرتبطوا بالحلق أو بالقرآن ليلهم ونهارهم ، فلا يكون عندهم فرصة لشيءٍ من راحة ، ولو قضوا ذلك في كتاب الله لما كان قليلاً .
وباب آخر وهو : باب القراءة
القراءة المجني عليها لا يعرف أبناؤنا كثيراً من كتاب ربهم ، ولا من سنة نبيهم ، ولا من سيرة مصطفاهم ، ولا من صفحات تاريخهم ، ولا من علوم شريعتهم ، ولا من حقائق واقعهم ، ولذلك تجد الطلاب وقد صاروا اليوم كأنما عقولهم ورؤوسهم فارغة حتى ما يقرؤونه في مدارسهم يقرؤونه ليفرغّوه على أوراق الاختبارات ، ثم يحاولون بكل جهد أن ينسخوه من عقولهم ، وأن ينظفوها حتى لا يبقى فيها أي أثر من آثار تلك المعلومات والقراءات والفرصة سانحة والوقت متسع والمنهج لو أراد الآباء والأمهات ومؤسسات المجتمع والحكومة أن تبسط ميادين المنتزهات فحسب أين هي المكتبات ؟ أين هي المسابقات ؟ أين هي القراءات ؟ أين هي المجالات التي ينبغي أن يأخذ بها أبناؤنا ؟
وأستحضر هنا خبراً تافهاً سخيفاً ، لكنه أخذ حظاً وافراً في وسائل الإعلام كلها قصة ابتكرتها امرأة إنجليزية قصة خرافية عن شخصية خيالية ، وجعلت لها اسماً ثم أصدرت لها كتاباً فتلقاه القوم - وهم يقرؤون ويحبون أي شيء بالقبول العظيم - حتى توالت الأجزاء ، وجنت هذه المرأة من هذه القصة ستمائة مليون جنيه إسترليني - كما يقولون - وعندما نزل الجزء الأخير نشر في الصحف أن المكتبات في بعض الدول الكبيرة المشهورة في بلاد الغرب سوف تداوم أربعاً وعشرين ساعة حتى تلبي احتياجات الناس من الإقبال على هذا الكتاب .
قد نقول سخافة وقد نقول ضياع لكنهم يقرؤون وربما نجد سوق الكتاب وهو يشكو الحزن الأليم حتى إن ما يطبع باللغة العربية في العام الواحد لا يبلغ إلا خمس ما يطبع في بريطانيا وحدها فقط ويصدق حينئذ فينا قول أعدائنا إننا أمة لا نقرأ .
أنتم - معاشر الآباء - فضلاً عن الشباب أليس في فرص الإجازات ميدان لنقرأ في السيرة .. لنقرأ في تاريخنا .. لنقرأ ما ينفعنا لنعرف ما يجري حولنا وهذه قضية أخرى مهمة .
والثالثة : ميدان الترفيه
وهو أيضاً يمكن أن يكون نافعاً ومفيداً ، لقد كان لهو السابقين من أسلافنا لهوٌ بالخيل ، وكان نور الدين زنكي القائد العادل المقاتل المجاهد العظيم كان لعبه بالكرة على الخيل يعطفها يمنة ويسرة يقول:" ما أريد بها إلا الاستعداد للجهاد " .(/3)
وكم هي فرص الترفيه التي يمكن أن تكون نافعة ومفيدة ، والمراكز الصيفية - بحمد الله - تقدّم كثيراً من هذا النافع المفيد المثمر الذي يدخل السرور ويغيّر النفس ، ومع ذلك يكسب المهارة الجديدة والمعلومة الجديدة والمعرفة الجديدة ، إضافة إلى أجواء من الأخوة والتعاون وغير ذلك .
والعمل ميدان أيضاً لاغتنام الوقت والاستفادة من الطاقات :
العمل للشباب والشابات في صور مختلفة ولو كان عملاً ذاتياً ربما لا يكون له العائد المالي لكنه له عائد تربوي ونفسي .
والسفر وما أدراك ما السفر ؟ وله في جانب السلبيات باب واسع ، لكنه كذلك يمكن أن يكون نافعاً ومفيداً إذا لم يكن في البلاد التي يعظم فسادها ، ويكثر شرها وهي بلاد أعدائنا التي ننفق فيها أموالنا وغير ذلك من الأمور التي نعرفها .
وأبواب الخير في هذا كثيرة مشرّعة ، المهم أن نعرف أن الفراغ فرصة للعمل ، وأن المسؤولية لا يستثنى منها شيء .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه ، ولاشك - أيها الأخوة الأحبة - أن هناك صوراً محزنة ، ومظاهر مؤسفة ، وأحوالاً مخزية نراها في هذه الفترة من الصيف ، قد تحدّث إلي بالأمس غيور ، ظلّ يتابع الاتصال وهو يركز على وجوه النقد التي تصاحب كثيراً من ممارسات الصيف ، فآثرت أن يكون حديثنا الأول هو حديث الإيجاب وحديث القواعد المؤسسة ، وحديث الآيات البينة الواضحة ، وحديث هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان النموذج الأمثل في اغتنام الأوقات ، والذي كان مضرب المثل الحقيقي في حياة كل مسلم ومؤمن .
لكننا لابد كذلك أن ننبه إلى هذه السلبيات ؛ لأنها لا تقع إلا منا نحن إما مباشرة وإما بطرق غير مباشرة ، وهذه مآس كثيرة وهذه مشكلات عديدة :
أولها: مشكلات السهر والعبث
أكثر الشباب والشابات - بل وكثير من الأسر - عندما يأتي هذا الصيف لا يذوقون النوم في ليله أبدا ويسهرون الليل ينحرون أوقاته حتى الصباح ، فإذا جاء الصباح قتلوه نوماً وقتلوه كسلاً وقتلوه سلبية ، وهذا أمر ظاهر ومشاهد ولو أردت أن تجرب أن تتصل بأي بيت في صباح أي يوم لما وجدت لك مجيباً ، ونرى ذلك بآثاره السلبية ، فالشباب يصنعون - كما تعلمون - من التجمّعات في الأماكن السكنية وفي أماكن المنتزهات ويصنعون ما هو معلوم من الأذية والمعاكسات والمغازلات وغير ذلك من الأمور المعلومة ومآس أخرى في مخازي الأسواق والمنتزهات ولعلنا هنا نتوجه إلى النساء والفتيات فإن الخروج المسف المكثر المتأخر إلى ما بعد منتصف الليل في هذه الأماكن مع قصد في التميّع والتكسّر ، وعدم مراعاة لأحكام الحجاب وآداب الحياء ومراعاة الواقع الاجتماعي والأسري والتربوي ؛ فإن هذا نعلم منه الكثير ، وترى اليوم الأسواق وهي تعج بروادها كأنما كانوا في مجاعة فخرجوا يتطلبون قوتهم ، أو كانوا قد عريت أجسامهم فخرجوا يشترون أكسية وأحذية أو نحو ذلك ، ولاحرمة في التسوّق ، ولا غضاضة في قضاء الحوائج ، لكنها بهذه الصورة والهيئة التي تكثر عند الناس حتى تكون كأنها جدول أعمال له في كل يوم ساعات أو له في كل أسبوع أيام والمسألة بقضاء الحاجة تنقضي في أوقات يسيرة لمن كان يطلب حاجته ويعرفها دون هذا العبث والنزهة التي تتدثر بدثار التسوق ونحو ذلك .
ومآسٍ أخرى في السياحة والأسفار :
ليس أولها ما يصنعه كثير من النساء من نزع الحجاب مع أول درجات سلم الطائرة كأنما هناك مكان ليس فيه حكم لشرع الله أو كأنما هناك مكان يخلو ويخرج عن علم الله المحيط الشامل القائل - جل وعلا - في وصف علمه وشموله :
{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [ غافر:19 ] .
وهذه صور كثيرة نحن مسؤولون عنها .. قد نكون من أهلها وقد يكون بعض معارفنا أو جيراننا أو أقاربنا من أهلها ، وقد يكون غيرهم من أهلها ، ونحن نملك أن نقول كلمة ننصح بها أو نقدم رسالة نذكّر بها ، وأن نحذر مما يستهدفنا ونحن نمر في بلادنا وعلى مستوى أمتنا بأعظم هجمة شرسة تريد استئصال إسلامنا من جذوره ، ونسخ تاريخنا من أصوله ، وفوق ذلك كذلك نجد أننا نمرّ بأشد الظروف التي تكاد فيها أوضاع أمتننا في داخلها تموج بكثيرٍ من المتغيرات والاضطرابات ، فهل يحسن بنا مع ذلك كله أن نبقى على غفلتنا ، وأن نبقى على السر الأعظم في سبب بلائنا ونكباتنا ومصائبنا والسبب الأساس في تسلط أعدائنا وهو مخالفتنا لأمر الله وتنكبنا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .. { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } [ الروم: من الآية 41 ] .(/4)
فالله الله في أبنائكم وبناتكم ، والله الله في أوقاتكم وأيامكم ولياليكم وساعاتكم ، والله الله في قلوبكم ونفوسكم ، والله الله في الفرص العظيمة والأبواب المشرعة من الخير ، لعل الله - سبحانه وتعالى - أن يعوّضنا كثيراً مما فرطنا فيه ، وأن يجعل هذه الأوقات المتاحة فرصة لننجز عملا نخدم به أنفسنا نعلي به إيماننا نعظم به أجورنا ننصر به أمتنا نقوي به مجتمعنا .
إسلاميات
...(/5)
... ...
الطاعة ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- معنى الطاعة. 2- طاعة الصديق النبي وانفاذه جيش أسامة. 3- عصيان رسول الله يوم أحد. 4- الطاعة العمياء. 5- طاعة المرأة زوجها. 6- طاعة الوالدين. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون [آل عمران:132].
إن لله سننا في الأمم والأفراد فيما يتصل بهلاكهم أو عافيتهم، فمن شاء أن يرحم سواء كان أمة أو فردا فعليه بطاعة الله ورسوله .
فما الطاعة؟ ولمن تكون؟ وما أنواعها؟ وما موقف المسلم منها ؟
أما الطاعة: فهي ضد المعصية ومعناها الانقياد والاستسلام والخضوع .
وأما لمن تكون؟
فالأصل أن تكون الطاعة لله وللرسول قال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [الأحزاب:36].
وطاعة الرسول هي طاعة الله تعالى قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران:31]. ذلك لأن القرآن وحي الله إلى رسوله لفظا ومعنى، والحديث هو وحي الله إلى رسوله معنى واللفظ لرسول الله وصدق الله العظيم: وما ينطق عن الهوى % إن هو إلا وحي يوحى [النجم:3-4].
طاعة الله والرسول فيها الخير والبركة والسداد والنصر، عندما ارتدت القبائل عن الإسلام بعد وفاة الرسول ، وقد عقد اللواء لأسامة بن زيد أن يتوجه إلى الشام قبل وفاته، وقف الصحابة معارضين إصرار أبي بكر على بعث جيش أسامة خوفا على المدينة أن تستباح من قبل المرتدين إذا خرج الجيش فقال أبو بكر : (والله لو جرت الكلاب بأقدام أمهات المؤمنين ما حللت لواء عقده رسول الله ) الله أكبر كلمات تكتب بماء الذهب!! ولا يعلم أجرها إلا الله، وألقى الله الرعب في قلوب المرتدين حيث قالوا: ما كان ليبعث جيش أسامة لأطراف الشام إلا وله في المدينة من يدافع عنها. قس هذا الوفاء السامق، والاتباع المطلق، بمن يتحذلق بما هو تافه إذا ما قيس بالوضع الأمني الذي كانت تعيشه المدينة في ذلك الوقت فيجدون لأنفسهم الحق في الخروج على أمر الله ورسوله بإحداث صور من الانحراف تحت ستار المصلحة، والقياس الفاسد .
ومعصية الله والرسول فيها الانكسار والهزيمة والخذلان، وعندما أمر رسول الله الرماة في غزوة أحد أن يحفظوا ويلزموا أماكنهم ولو رأوا الطير تتخطف المسلمين، وينتصر المسلمون في أول المعركة ويتنادى الرماة: الغنائم الغنائم، فيتركوا موقعهم، وبحركة التفاف يقوم بها خالد بن الوليد وكان كافرا، فينفرط عقد المسلمين وكان درسا عمليا يتناسب مع عظم الحقيقة التي أراد الله لأمة الحق أن تتربى عليها أن الطاعة لله والرسول فيها النصر، وأن المعصية لله والرسول فيها الهزيمة، ولو انتصر المسلمون على ما فعلوه، لما كانت لهم بعد ذلك طاعة حيث يقولون: عصينا فانتصرنا وصدق الله العظيم: إن تنصروا الله ينصركم [محمد:7].
وأما أنواعها؟ فينبغي أن نعلم أن للطاعة مفهومان:
مفهوم جاهلي: لا نعرفه في إسلامنا وهي الطاعة العمياء، بلا ضوابط ولا أصول نعود إليها من كتاب وسنة وإجماع وقياس، وهذا المفهوم للطاعة مرفوض.
مفهوم إسلامي: وهي الطاعة المبصرة، الواعية، المدركة، التي يحكمها الضوابط الشرعية لا الأهواء، والأصول لا آراء الرجال وصدق الله العظيم: قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني [يوسف:108].
1- طاعة ولي الأمر: ولها ضوابط في إسلامنا:
أ- أن يكون حريصا على أمر الله وإقامة منهجه، ولا عبرة للون أو الجنسية للحديث: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله))([1]).
ب- الطاعة في المعصية لا تجوز: بعث رسول الله سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، فلما خرجوا وجد عليهم في شيء فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبا، ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، فرجعوا إلى رسول الله فأخبروه فقال لهم: ((لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا إنما الطاعة في المعروف))([2]).
ج- الأمة تقوم بواجب التقويم لإعوجاج ولي الأمر: ورحم الله أبا بكر الصديق في أول خطبة له بعد توليه خلافة المسلمين فهو يقول: (إني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني) ويقوم أعرابي يقول لعمر : (والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا) فليس إسلامنا أفيونا للشعوب، ولا إلجاماً لها عن قولة الحق، وفينا رسول الله يقول: ((أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر))([3]).
عدل: أي حق، جائر: أي ظالم.
2- طاعة المرأة زوجها: ولها ضوابط في إسلامنا:(/1)
أن الطاعة في المعروف: وينبغي على المرأة المسلمة أن تعلم أن الزوج المسلم بابها إلى الجنة للحديث: ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة))([4]) فلا تمتنع عنه إذا دعاها إلى الفراش للحديث: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى الفراش فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح))([5])، لما في الامتناع من فتح لأبواب الغواية ووساوس الشيطان، ولا تخرج إلا بإذنه للحديث: ((إن المرأة إذا خرجت من بيتها وزوجها كاره لعنها كل ملك في السماء وكل شيء مرت عليه غير الجن والإنس حتى ترجع))([6])، ((ولا تصوم تطوعا إلا بإذنه ولا تأذن في بيته (بدخول أحد أو بتصدق أو بيع شيء وهكذا) إلا بإذنه))([7]).
أما الطاعة في المعصية فلا تجوز: فإذا ابتليت المرأة المسلمة بزوج خليع يأمرها بخلع الحجاب أو ترك الصلاة أو حضور المجالس المختلطة أو عدم الذهاب لأداء فريضة الحج فطاعة الزوج معصية لله تعالى، وفي كتب الفقه: (يستحب للمرأة أن تستأذن زوجها في الخروج إلى الحج الفرض، فإن أذن لها خرجت وإن لم يأذن لها خرجت بغير إذنه، لأنه ليس للرجل منع امرأته من حج الفريضة لأنها عبادة وجبت عليها ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما لها أن تصلي أول الوقت، وليس له منعها وأما حج التطوع أو صيام التطوع فله منعها منه لأن حقه مقدم على التطوع والنافلة)([8]).
ومن التربية المعوجة التي أثمرتها أمهات لاهيات وآباء منشغلون بكل شيء إلا تربية أبنائهم، أثمرت لنا جيلا من النساء لا يصلحن أن يكن زوجات فضلا على أن يكن أمهات، إلا من رحم ربي، فالبنت تتعلم كل شيء إلا شيئا واحدا وهو تعظيم حق الزوج، وانقلبت الموازين وأصبح الرجل هو الذي ينبغي أن يحرص على رضى الزوجة وتلبية طلبها، وأصبحت البنت لا تفكر بأن تخدم زوجها وأن تقوم على رعايته بل تفكر أو يفكر أهلها في فرض الشروط من وجود الخادمة والمربية، يضاف إلى ذلك فساد في الدين أثمرت القسوة و انعدمت الأنوثة والأمومة فلا تكاد تحس بلمسة حنان أو كلمة استحسان حتى أصبحت نسبة الطلاق تصل إلى 40 ولا تتجاوز الحياة الزوجة غالبا الخمس سنين وأصبحت البيوتات جحيما لا يطاق .
عندما جاء وفد النساء إلى النبي يطلبن الجهاد والإذن في دخول ساحات المعارك لنيل الأجر العظيم الذي أعده الله للمجاهدين: قال لهم النبي : ((طاعة المرأة زوجها يعدل ذلك وقليل منكن فاعله))([9]).
3- طاعة الوالدين: ولها ضوابط:
بأن تكون مقيدة بطاعة الله ورسوله، سعد بن أبي وقاص كان من أبر الناس بأمه، أسلم فأقسمت أمه ألا تذوق طعاما ولا شرابا ولا تستظل بظل حتى يرجع فذهب سعد إلى رسول الله وذكر له قسم أمه وبره بها فأنزل الله تعالى قوله: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا [لقمان:15]. فذهب سعد إلى أمه وقال: يا أماه لو كانت لك مائة روح تخرج الواحدة بعد الأخرى ما رجعت عن ديني فلما رأت عزمه رجعت عن قسمها([10]) .
وطاعة الوالدين مقدمة على طاعة الزوجة: للحديث: ((عن عائشة قالت: سألت رسول الله : أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها؟ قلت: فأي الناس أعظم حقا على الرجل؟ قال: أمه))([11]).
ج- ومن علامات الساعة إغضاب الوالدين لأجل زوجة أو صديق للحديث: ((إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، وذكر: وأطاع الرجل زوجته وعق أمه، وأدنى صديقه وأجفى أباه))([12]).
وأما موقف المسلم من الطاعة:
أن نعلم أن الأصحاب تربوا على مبدأ التلقي للتنفيذ يقول ابن مسعود: (ما كنا نحفظ إلا الخمس والعشر آيات لا نتجاوزها حتى نعمل بها).
طاعتنا مطلقة مهما تغيرت الأحوال وتبدلت الظروف وعلى ذلك بايع الأصحاب رسول الله يقول عبادة بن الصامت: ((بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا))([13]). وللحديث: ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره))([14]).
والطاعة في إسلامنا مبصرة وليست عمياء وعند الفتن أسقط الأشخاص وارجع إلى الأصول يقول عمر : تعرف إلى الرجال بالحق ولا تتعرف إلى الحق بالرجال.
([1])رواه البخاري .
([2])رواه أحمد .
([3])رواه أبو داود والترمذي .
([4])رواه الترمذي وقال : حديث حسن .
([5])متفق عليه .
([6])رواه الطبراني في الأوسط .
([7])رواه البخاري .
([8])فقه السنة ج1 ص 536 بزيادة وتوضيح .
([9])رواه البزار .
([10])مختصر ابن كثير ج3 ص65 .
([11])رواه البزار والحاكم وإسناد البزار حسن .
([12])رواه الترمذي .
([13])رواه البخاري .
([14])أخرجه مسلم . ... ...
... ...
... ...
... ...(/2)
الطريق إلى إعلاء الهمم
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
المحتويات :
• معرفة المعاني والمقاصد وهو التعريف .
• معرفة المنافع والفوائد وهو الترغيب .
• معرفة الوسائل والطرائق وهو التعليم .
• معرفة المزالق والعوائق وهو التحذير .
ومن هنا من هذه العناصر الأربعة الرئيسة نستطيع أن نعرّف الهمة ،وأن نتعلّق بها ونرغب فيها ، وأن نعرف طريقها ووسائلها ، وأن نحذر من عوائقها وقواطعها ، نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يرزقنا الهمم الصالحة النافعة العالية ، وأن يجعل همنا وهممنا متعلقة به وبمرضاته سبحانه وتعالى.
أولاً : معرفة المعاني والمقاصد
الهمة : " مشتقة من الهم ، والهم هم ما يُهم به من أمر ليُفعل " .
قال أهل اللغة الهمة هي الباعث على الفعل وتُوصف بعلو وسفول أي فيقال همة عالية وهمة سافلة .
وفي بعض القواميس الهمة بالكسر هي أول العزم وقد تُلق وتُخص بالعزم القوي فيقال همة عالية أي قوية .
ونرى أيضاً التعريف الذي يُوضح الصلة بين الهم والهمة وما يتعلق أيضاً بالعزم فيما ذكره ابن القيم - رحمه الله - حيث قال : " الهمة فعلة من الهم " .
وهو مبدأ الإرادة أي الهم مبدأ الإرادة ولكن خصوها أي الهمة بنهاية الإرادة فالهم مبدأها والهمة نهايتها والجامع بينهما أنهما أي الهم والهمة أمر نفسي يبعث على العمل فأوله وبدايته هم ونهايته أي التي تكون أعلى مراتبه وأسمى مقاصده هي الهمة .
ومن هنا نعرف أن الهم هو الابتداء وأن الهمة هي الانتهاء ومن هذه التعاريف اللغوية نقف على عدة أمور لابد من معرفتها :
أولها : أن الهمة أمر قلبيّ نفسيّ
هي أمرٌ في النفس والقلب ليست شيئاً ملموساً محسوساً وإنما الملموس هو آثارها وفعلها وما تدعو إليه وما تحض عليه.
والثاني : هو أن هذه الهمة هي المحرك والدافع للقوة
لأننا نعلم أنه ما من عمل يظهر في الوجود ويقع في الواقع إلا ويسبقه تفكير بالعقل وعزم وهمة في القلب ثم حينئذٍ يكون الواقع ما من عمل إلا ولابد من سابق تفكير ومشاعر نفس وقلب تتعلق به إما إقداماً عليه وإما إحجاماً عنه ولو تفكر الناس لوجدوا أن كل أعمالهم كذلك .
كل عمل من الأعمال لا يخرج ولا ينفك عن فكر العقل وهم القلب .
الأمر الثالث : أن هذه الهمة تتحول في الواقع بعد أن تكون أمراً قلبياً نفسياً وتكون سبباً من أسباب القوة تتحرك إلى فعل وعمل دائب مستمر يترقى في معارج الكمال ويسمو إلى ذُرى المعاني ويجمح بصاحبه إلى ألا ينتهي إلى حدٍ دون الكمال الذي ينشده بقدر الطاقة البشرية .
ونعود مرة أخرى في المعاني إلى التعريفات المعنوية أو الاصطلاحية التي ذُكرت عن بعض أهل العلم .
فقال بعضهم وهو الجورجاني في التعريفات : " الهمة توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق لحصول الكمال له أو لغيره " .
توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية في أي مجال إلى جانب الحق لأي غرض لحصول الكمال له أو لغيره .
وسنرى في تحليل التعاريف ما يفيدنا أيضاً .
وقال بعضهم في علو الهمة على وجه الخصوص هي : " استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور " .
وهو كلام نفيس على وجازته يحمل المعاني العظيمة ، هي استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور أي كل أمور هو دون الكمال ودون النهاية يكون صغيراً عند صاحب الهمة العالية يتجاوزه إلى غيره وينتهي منه ليبحث عن ما وراءه ويصعد فيه ليرقى إلى ما فوقه وهذا معنى عظيم .
وقيل أيضاً في هذا المعنى : " خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن في العلم والعمل " .
أي أن النفس ينقدح فيها من هذه الهمة ما يدفعها إلى رغبة حصول الكمال في العلم والعمل معاً.
وقال صاحب المنازل شيخ الإسلام الهروي - رحمه الله - في هذا المعنى عن الهمة : " هي ما يملك الانبعاث للمقصود صِرفاً لا يتمالك صاحبها ولا يلتفت عنها " .
ما يملك الانبعاث للمقصود صِرفاً أي هو الأمر الذي يستولي على صاحبه استيلاءً عظيماً كاستيلاء المالك على المملوك ويكون صِرفاً خالصاً .
أي أنه يكون شعورٌ قلبيّ وتحرك نفسيّ يتملك صاحبه ويسيطر عليه ويكون له صِرفاً خالصاً لأي شيء قال لا يتمالك صاحبها يعني لا يستطيع صاحبه أن يملك نفسه إلا أن يمضيه وأن يعمله بمعنى أنه لا يقدر على المهلة والتأخير ولا يتمالك صبره بل يغلبه حتى يُوفده في الواقع ولا يلتفت عنها أي لا يلتفت عن هذه الهمة إلى ما سواها من الأمور .
وإذا وقفنا أيضاً مع هذه المعاني لنرى أهم دلالاتها نجد أنها :
أولاً : تؤكد على ما سبق بأن الهمة أمرٌ نفسي قلبي .
والمعنى الثاني المهم : معنى التركيز فنحن رأينا في كل التعريفات الأول توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية يعني تركيز كل القوى في الهمة والعزم في أمر من الأمور العظيمة وفي معالي الأمور بوجهٍ عام .
وأيضاً نرى ذلك في قول الهروي ما يملك الانبعاث للمقصود صِرفاً .
وأيضاً معنى ثالث :هو أن هذه الهمة متفاعلة متحركة ؛ لأننا نرى أنها تملك صاحبها وتحثه وتحضه .(/1)
والأمر الرابع : وهو الأهم هنا هو أن هذا التحرك لا يرضى إلا بالأعلى والأتم والأكمل كما رأينا في كل التعريفات إلى جانب الحق لحصول الكمال له أو لغيره .
وأخيراً المعنى الخامس المهم : أن يستصغر ما سواها ولا يلتفت إليه .
كما قال الهروي - رحمه الله - ولا يلتفت عنها لا يلتفت عن مراد همته ؛ فإن كان همته في الطاعة وفي معالي الأمور فإنه لا يلتفت إلى الصغائر ولا تشغله ولا يفكر فيها ولا تأخذ شيئاً من وقته ولا يبذل لها شيئاً من جهده مطلقاً .
إذا عرفنا المعنى اللغوي وعرفنا المعنى الاصطلاحي وبعض ما يُلحظ من ذلك .
بقي أن نعرف أن الهمة مولودة مع الإنسان فكل إنسان عنده همة ؛ لأن كل إنسان له قلب ونفس وعنده أشواق وآمال ولديه طموحات .
لكن ما الذي يفرق بين الناس كسائر الأمور كل الناس لهم عقول فما بال الناس بعضهم حفظة وبعضهم بلداء وبعضهم أذكياء وبعضهم أغبياء ؟ إن الذي ينشط أي طاقة من طاقاتهم ويحرص على رعايتها ويعمل على تنميتها تزداد عنده والذي يغفل عنها ويهملها لا يكون كذلك .
كلنا لنا أبدان ولنا عضلات وقوى ألا نرى بعضنا مترهلاً متكاسلاً لا يستطيع أن يرقى درجتين ولا أن يمشي خطوتين وبعضهم كما يُقال جسمه رياضي ماذا صنع إنه حرص على تقوية هذه الطاقة وتنميتها .
يقول ابن الجوزي رحمه الله : " وقد عُرف بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي وإنما تقصر فيه تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات تفتر أو تقتر ، فإذا حُثت سارت فمتى رأيت في نفسك عجزاً فسل المنعم ، أو كسلاً فسل الموفق فلن تنال خيراً إلا بطاعته فمن الذي أقبل عليه ولم يرد كل مراد " .
هذا أمر مهم ؛ لأن بعض الناس يقول من أين سآتي بالهمة العالية ؟ فتش عنها بين جنبيك ابحث عنها في أعماق نفسك إنها في قلبك إنها أمر لا تستجلبه من خارجك بل تستنطقه وتستحثه من داخلك .
وكما قال القائل : " المرء حيث يجعل نفسه إن رفعها ارتفعت وإن قصّر بها اتضعت " .
فأنت إن نشطت همتك ارتفعت وإن فكرت في السفاسف وانشغلت بالتوافه ؛ فإن همتك تدنو وتسفل .
وهذا أمر مُشاهَد ومن هنا كان بين الناس تفاوت في الهمم كما ذكر ابن القيم رحمه الله قال: " ولله الهمم ما أعجب شأنها وما أشد تفاوتها فهمم متعلقة بالعرش وهمم حائمة حول الأنتان والحُش ".
همم متعلقة بالعرش بطاعة الله - عز وجل - والأنتان والحُش أجلكم الله مكان قضاء الحاجات فبعضها سامية وبعضها دانية وبعضها عالية وبعضها سافلة من هذا التفاوت .
والذي يتأمل يجد هذا ويعرفه ولعلي أذكر للتوضيح مثالاً عارضاً رُوي عن عبدالله بن قيس أبي أمية الغفاري أنه قال : " كنا في غزاة فحضر عدوهم فصيحَ فيهم أي بما يكون من هذا فصيحَ بالناس فهم يثوبون إلى مصافهم قال فإذا رجلٌ أمامي آخر أو أول خيري عند آخر خيره وأنا أسمعه فإذا به يُخاطب نفسه ويقول أي نفسي ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلتي لي أهلك وعيالك فأطعت ورجعت والله لأعرضنك اليوم على الله أخذك أو تركك ، فقلت : لأرمقنه اليوم فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في حُماتهم ثم إن الناس حملوا فكان في أوائلهم ثم حمل العدو فانكشفوا وكان في حُماتهم ، قال : والله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعاً فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة " .
هذا يبيّن لنا التفاوت مرة استجاب لضعف نفسه وانشغاله بأهله وركونه إلى دنياه فسفلت همته ومرة رقّاها وشجعها فعلت همته .
كما قال أيضاً صاحب المدارج ابن القيم قال : " علو الهمة ألا تقف دون الله ولا تتعوض عنه بشيءٍ سواه ولا ترضى بغيره بدلاً منه ولا تبيع النفس حضها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيءٍ من الحظوظ الخسيسة الفانية " .
فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور ، لا يرضى بمساقطهم ، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليه ؛ فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان ؛ فإن الآفات قواطع وجواذب وهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه وإنما تجتذب من المكان السافل فعلو همة المرء عنوان فلاحه وسفول همته عنوان حرمانه نسأل الله - سبحانه وتعالى - السلامة .
إذن عرفنا أن الهمة موجودة وأنها تترقى وأنها تتسفل وأن لذلك مراتب ومنازل بقدر ما يُعامل الإنسان نفسه وبقدر ما يسعى إلى الحرص على ذلك .
وبقي أيضاً أن نعرف مفتاح المعرفة للمعاني والمقاصد والكشف عن هذه الحقائق ، إنه يتلخص في أمرين ذكرهما ابن القيم أيضاً رحمه الله قال : " كمال الإنسان مداره على أصلين معرفة الحق من الباطل وإيثار الحق على الباطل " .
معرفة الحق على الباطل أي بالعلم وإيثار الحق على الباطل أي بالعزم والعمل ؛ فإنه كما قال الله عز وجل :
{ واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أُولي الأيدي والأبصار } .
قال فالأيدي القوة في تنفيذ الحق وكمال تنفيذه ، والأبصار البصائر في الدين .(/2)
فلابد من علم يُبصّر ، ولابد من همة تُنفذ ، فنحن إذا فقدنا الهمة فقد فقدنا شطر أسباب النجاح .. فكم من الناس يعرفون الأمور والأحكام يعرفون الصلاة وفرضيتها ، ويعرفون الجماعة وأهميتها .. لكنه يسمع الآذان ويعرف الحق فتسفل به همته وليس عنده همة تنبعث ، لذلك فلا يقع العمل منه على مراد العلم وهذا مما ينبغي الانتباه إليه لأن مراتب السعادة والنجاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين أو من إحداهما .
إما ألا يكون له علماً بها فلا يتحرك الذي لا يعرف أن هذا الأمر واجب لا ينبعث له إذا لم يعرف أن هذا العمل فيه فائدة لا يذهب إليه إما ألا يكون له علماً بها فلا يتحرك طلبها ، أو يكون عالماً بها ولا تنهض همته إليها ، فلا تزال نفسه وهمته في حضيض طبعه محبوسة ، وقلبه عن الكمال مطروداً منكوساً نسأل الله عز وجل السلامة .
وإذا عرفنا ذلك عرفنا أن الناس يتفاوتون في الهمم ولهم أقسام بهذه الاعتبارات إما عرفٌ بالحق وهمته ضعيفة وإما عرفٌ بالحق وهمته عالية فهو الذي ينال المرتبة العليا وإما جاهلٌ بالحق وهمته عالية ، فهي تنصرف إلى الباطل كما سنرى وإما جاهلٌ بالحق وليست له همة فهذا شأنه أدنى من البهائم أجلّنا وأجلّكم الله .
فهذا أمر معرفة المعاني والمقاصد .
وأما الجانب الثاني : فهو معرفة المنافع والفوائد :
حتى نرغب في الهمة العالية فلننظر إلى ما نجنيه منها وإلى ما نحصل عليه في دنيانا وأخرانا من وراءها فإن ذلك فيه خيرٌ كثير وفضلٌ عميم بإذن الله سبحانه وتعالى .
والفوائد شتى نذكر منها أطرافاً وقد يكون وراء ذلك من الفوائد الكثير والكثير منها :
أولاً : التقدم والمثوبة
صاحب الهمة العالية يتقدم غيره وينال من الأجر والثواب حتى وإن قصّر في العمل ما لا يناله غيره .
قال المصطفى صلى الله عليه وسلم :( من هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ) .
فهو همَّ هم صدقٍ وإنما حيل بينه وبين العمل لعارض وعذر مشروع فنال بهمته ما لا يناله غيره .
وفي الصحيح عند البخاري أيضاً عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من سأل الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ) .. عنده همة عالية طارت به إلى المعارك ، وخاضت به في ميادين الوغى وأراد الله سبحانه وتعالى له أن يموت على فراشه كما مات ابن الوليد سيف الله ورسوله وهو يقول كما نعلم في مقالته المشهورة أنه قال : " خضت كذا وكذا من المعارك ولقيت الموت في كذا وكذا من المظان وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء " .
والمتخلفون والمخلفون في غزوة تبوك منهم الفئة الذين جاءوا إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وقد احترقت قلوبهم شوقاً إلى الجهاد وقد غلت نفوسهم طموحاً إلى التضحية والقتال وبذل الأموال والأرواح في سبيل الله وجاءوا وفي جوانحهم هذا العزم وذاك المضاء وتلك الهمة العالية فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام : ( لا أجد ما أحملكم عليه ) .. ليس هناك دابة ورواحل ، وليس هناك زاد وتجهيز فما قالوا الحمد لله صُرف عنا العناء وذهب عنا الشقاء وجانبنا البلاء ! بل كما قال الله عز وجل : { تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقوه } .
يبكون بكاء الإنسان الذي فاته أغلى شيء كان يحبه وأعظم شيء كان يتمناه ، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام : ( إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم بالأجر حبسهم العذر ) .
نالوا وهم قعود الأجر الذي ناله السائرون لأنهم صدقوا في همتهم وعزمهم فكيف من يمضي همته وعزمه بالعمل .
هذه أمثلة لمن كانت له همة ولم يتيسر له العمل كما ورد أيضاً في سنن الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
( ما من امرئٍ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نومٌ - أي لتعب أو عارض - إلا كُتب له أجر صلاته وكان نومه صدقة عليه ) .
فضلٌ من الله عز وجل وأيضاً بيان لعظمة أهمية تلك النية .
والتقدم والسبق إلى الله - سبحانه وتعالى - إنما هو كما قال أهل العلم بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل وإن ساواه بعمله فاق عليه بعمله .
فهذه فائدة عظيمة .. وكما قلت كيف بمن عمل العمل هذا إن عرض له عارض فمنعه عذرٌ نال هذا الأجر وتلك المنزلة فكيف بمن أنفذ العمل .
الفائدة الثانية : فائدة عظيمة وهي التعلق بالمعالي والوصول إلى الذُرى
فإن صاحب الهمة العالية ما تزال همته تنخسه ، وما تزال تحثه حتى لا تُبقي له وقتاً ولا راحة إلا في السعي إلى المراد الأعظم من الكمال الذي يطمح إليه بهذه الهمة العالية .(/3)
السبب الذي يجعل كثيرٌ من الناس يطلبون الأدنى من الأمور ويقصدون ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعا إنما هو فساد العلم أو ضعف الهمة ، فكم نرى كثيراً من الناس وهو على هذا النهج ، حتى إن كثيراً من الناس أعظم ما يشغله هو الصغائر والتوافه وأكثر ما يستنفذ جهده ويضيّع فيه وقته هو هذه الأمور لِما ؟ لأنه ليست له همة عالية فيفوته حينئذٍ المراتب العالية .
انظر إلى الكسول من الطلاب - على سبيل المثال - ماذا يقصد ؟ ما مراده ؟ ما أعلى مطلوبه ؟ هو النجاح .. إن وجد درجة النجاح فرح بها فرحاً عظيماً فهو حينئذٍ يقنع بهذا ولا يطلب غيره ، أما عالي الهمة فإنه يطلب أن يحصل على الدرجة الكاملة ؛ فإن فاتته نصف درجة حزن عليها حزناً عظيماً وعزم على ألا يفرط في ذلك في مرة قادمة .
فمن أعظم فوائد هذه الهمة العالية التي تجعلنا نتعلق بها أن صاحبها دائماً ينال كما يقولون المكاسب والمغانم والمراتب العالية والأوسمة والشرف لأنه باستمرار يسعى إلى ذلك ويطمح إليه كما سنذكر في أمثلة كثيرة مما سيأتي ذكره .
فائدة أيضاً ثالثة : وهي مهمة جداً وهي العزم والجزم
كثيرٌ من الناس أكثر عيوبهم وأعظم ما يفوت عليه المصالح والمنافع هو التردد يفكر في الأمر فيخشى وتتردد عزيمته وتتردى همته ومن يستطيع ذلك وكيف سأصنع هذا وكيف سأصل إلى تلك المرتبة فإذا به يقدم رجلاً ويؤخر أخرى وربما فاتت الفرصة وربما تردد ورجع ففاته ذلك.
أما صاحب الهمة العالية ؛ فإنه صاحب عزم وجزم لا يتردد وذلك أمره بيّن ظاهر والله عز وجل بيّنه لنا حثنا عليه كما قال سبحانه وتعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } .
إذا هممت بالأمر من الخير والمعالي من الأمور فما بالك تتردد ! وما بالك ترجع أو تنكص .. إذا عزمت فتوكل على الله .
والله - جل وعلا - وصف أهل الإيمان فقال :{ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق } .
ليس هناك نكوص بعد التقدم ولا رجوع بعد السبق ، فقال الله - جل وعلا - أيضاً : { من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم أُحد كان يرى البقاء في المدينة ، فجاء بعض الشباب وبعض من لم يشهد بدراً من الذين تحمسوا يريدون الأجر والمثوبة ، فأشاروا ورغبوا وألحوا في الخروج فعزم النبي صلى الله عليه وسلم واتخذ أهبته ولبس عدته وارتدى لامته فقالوا : يا رسول الله كأنا استكرهناك فافعل ما بدا لك ! قال : ( ما كان لنبيٍ إذا لبس لئمته آن يرجع حتى يلقى عدوه فيحكم الله عز وجل بينه وبين عدوه ) .
ولو أنه - عليه الصلاة والسلام - رجع لكان ذلك أعظم التردد الذي يثير البلبلة والاضطراب ويكون فيه ما يكون .
ولعل من أعظم أمثلة الهمة العالية التي تبيّن لنا هذه الفائدة موقف الصديق أبو بكر - رضي الله عنه - الذي هو من أعلى أعلى أهل الإيمان علواً في مرتبة الإيمان وأعظمهم في اليقين حتى لُقب بالصديق - رضي الله عنه - نعلم أنه بعد وفاة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -كان هناك أمران عظيمان واجها أبا بكر رضي الله عنه :
أولهما وأخطرهما : ردة المرتدين إما عن الإسلام بالكلية أو امتناع عن أداء الزكاة .
والثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبيل وفاته كان قد جهز جيشاً وعقد لأسامة بن زيد اللواء فرأى بعض المسلمين أن الأمر خطير وأن الحالة والظروف عصيبة وأن إمضاء الجيش قد يكون فيه وله تبعات ، وأن هؤلاء المرتدين كُثر والصحابة في المدينة وما حولها من مكة كلٌ وليست عندهم تلك القدرة أو القوة ، التي ربما يواجهون بها كل ذلك فجاء عمر إلى الصديق - رضي الله عنه - يقول له في شأن أسامة إن بعض الأنصار قالوا : " أرجأ بعث أسامة " .
وقال له أيضاً في شأن حرب المرتدين : تألف الناس وأرفق بهم ! .
فماذا قال أبي بكر عالي الهمة - رضي الله عنه - ضرب على صدر عمر ويقول له : " رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك ، أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام يا عمر إنه قد انقطع الوحي وتمّ الدين أو يُنتقص الدين وأنا حي " .
وأنفذ جيش أسامة من وقته وسيّر أحد عشرة لواءً وجيشاً لقتال المرتدين فلم ينتهي العام بل قبل نهايته حتى استتب الأمر بعزم أبي بكر وحزمه وجزمه رضي الله عنه .
وهكذا تفعل الهمة العالية صاحبها لا يضيع الفرصة ولا يرتبك في المواطن العصيبة ولا يتردد أو يختل فكره أو يتشوش تدبيره عندما تحيط به المخاطر لأن له من همته عزيمة ماضية وحزم يبت الأمور ولا يرجئها .
وكبير الهمة كما قيل يتحسر على ساعة مرت به في الدنيا لا لأنه كان يعصي الله فيها وإنما لأنه لم يعمرها بطاعة الله سبحانه وتعالى .(/4)
ومن الأمثلة على ذلك أمثلة كثيرة كما فعل عمر بن عبد العزيز - رحمه الله ورضي الله عنه - كان المتوقع أو المنطقي أن ينظر الخليفة عمر - رضي الله عنه - إلى الأوضاع التي تغيرت بسبب كثير مما سلف قبله من الخلفاء وما انتقض من أمر الأمة بوجود الخوارج وغير ذلك وكان الأمر عظيماً والفرق متسعاً ومع ذلك قادته همته إلى أن يحسم الأمور وأن يعزم ورغم أنه لم يمضي إلا نحو من عامين في خلافته إلا أنها كانت الفترة التي استتب فيها الأمن وازداد الرخاء وعظم العلم وانتشرت البركة وكان فيها ما فيها من الخير الذي نعرفه .
الفائدة الرابعة : العزة والأنفة
فإن صاحب الهمة عزيز لا يرضى بالذل والذل هو أرذل الصفات وأقبحها هذا الإنسان خلقه الله عز وجل حتى في خلقته :
{ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } .
إنه المخلوق المنتصب قامة المرتفع جبهة الذي لا يذل إن كان على المنهج الحق إلا لله لا يطأطأ رقبته ولا يحني جبهته ولا يثني صلبه إلا في طاعة الله والخضوع والصلاة له .
أما إذا خلا القلب من الإيمان وخوى من العزيمة والهمة ؛ فإنه يكون ذليلاً لأي شيء يُذله الدرهم والدينار ويُذله الخوف على الحياة ويُذله طلبه للرفعة والجاه وكم نرى من الناس يمرغون وجوههم ويُذهبون ماءها وراء هذه اللعاعات من الدنيا والتفاهات من مطالبها .
فذاك يبيع شرفه ويضيع مكانته وربما يعق نسبه لأجل مكانة أو منصب وهكذا وهذا كما نرى .
وأما أصحاب الهمم العالية فيأنفون حتى من المهمات الحسنة إن كانت صغيرة حتى إن كان هناك عملٌ صالحٌ لكنه صغير فإنهم يرون أن عزتهم وأنفتهم وطموحهم وهمتهم تطلب ما هو أعلى.
وكما نعلم قيل لبعض ذوي الهمم العالية جاءه رجل وقال لي : عندك حويجة ! فقال له : " اطلب لها رجيلاً " ، إن كانت حاجتك صغيرة فاذهب صغير يقضيها لك وأما أنا فلا أنظر إلا إلى معالي الأمور وكبارها .
وقيل لبعض العلماء لي سؤال صغير قال اطلب له رجل صغير .
ولا يعني ذلك أن لا يُجاب عن السؤال ولكن نحن نلفت النظر إلى ما يُنظر إليه بل إن الإنسان ليعجب من المواقف التي ينتبه إليها بعض الناس .
جاءهم في رجل من الكرام قومٌ قالوا : جئناك في حاجة لا ترزأك - يعني لا تُنقص منك شيء - فقال : " هلاّ طلبتم لها سفاسف الناس " .
وعن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب أنه جاءته امرأة فسألته مالاً فأعطاها شيئاً عظيماً فقيل له : إنها لا تعرفك وكان يرضيها اليسير ! قال : " إن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي " .
وتُروى هذه المنقبة أيضاً عن يزيد المهلبي الذي كان من الأمراء المشهورين بالكرم إذ مرّ ببادية من الأعراب فسألوه فأعطاهم شيئاً كثيراً فقيل له : إنهم لا يعرفونك ! قال : ولكني أعرف نفسي .
ومن لطائف ما يُذكر في ذلك أن رجل رأى ابن المبارك يعضُّ يد خادمه فقال له : أتعض يد خادمك ؟! قال : كم آمره ألا يعد الدراهم على السّؤال وأقول له أحث حثواً ولا سمعني .
يعد وأقول له لا تعد خذ وأعطي فكان يعض يده حتى يستجيب لأمره بألا يعد .
وهذا يدلنا على أن صاحب الهمة العالية كما قلنا عنده من أنفته ما لا يجعله يرضى بالقليل والدون حتى من صالح الأعمال .
والشافعي رحمه الله يقول :
عليّ ثياب لو يُباع جميعها **** بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفسٌ لو تُقاس بها **** نفوس الورى كانت أعز وأكثرا
وما ضر نصل السيف إخلاق غمده **** إذا كان غضباً حيث وجهته فرى
وهكذا ينبغي أن يكون أصحاب الهمم العالية وهذا أمرٌ كثيف ويجعل المرء لا يقبل الذل .
جاء في ترجمة الخطيب البغدادي - رحمه الله - أنه دخل عليه بعض العلوية ومعه دنانير فقال للخطيب : فلان يُسلم عليك ويقول اصرف هذا في بعض مهماتك "يعطيه شيئاً من المال" فقال لا حاجة لي فيه وقطّب وجهه ، فقال له الرجل : كأنك تستقله ونفض ما معه على سجادة الخطيب ؛ ليُريه أنه مالٌ كثير فقال هذه ثلاثمائة دينار فقام الخطيب - رحمه الله - محمّر الوجه وأخذ طريقه وخرج وسحب سجادته ، وظلّ الرجل يلتقط الدنانير ويجمعها من وراءه .
قال أحد تلاميذ الخطيب وهذا يبيّن لنا أثر الهمة العالية قال : ما أنسى عز خروج الخطيب وذل ذاك العلوي الذي يجلس في الأرض يلتقط الدنانير وذاك قد مضى لحاله .
كما قال القائل والأبيات منسوبة للشافعي أيضاً :
يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا **** رجل عن موضع الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ***** ومن أكرمته عزة النفس أُكرما
وهذا أمر كما قلنا مهم والأمثلة عليه كثيرة لعلنا نذكر أيضاً بعضاً منها لأهميتها .(/5)
سعيد الحلبي شيخ من أهل وعلماء الشام كان في الدرس يجلس ماداً رجله لكبر سنه ودخل عليه جبار الشام إذ ذاك إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا وهذا عهدٌ قريب منا ليس ببعيد فظلّ في درسه ولم يلتفت إليه ورجله ممدودة نحوه فامتعض هذا الرجل ، وكتم أمره ، ولما خرج بعث إليه بصرة من المال فيها ذهب فردّها الشيخ وقال للرسول : " قل للباشا إن الذي يمد رجليه لا يمد يديه " .
وهذا أمرٌ عظيم وانظر إلى أعظم من ذلك في سيرة الصحابي الجليل خبيب ابن عدي رضي الله عنه خبيب الذي جيء به ليُصلب ويُقتل والأمر محسومٌ والموت رأي العين أمامه قيل له: أتحب أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - يكون مكانك وتكون آمناً في أهلك وولدك ؟! فقال : والله ما أحب أن محمداً آمنٌ في بيته وأهله يُشاك بشوكة وأنا في مكاني هذا .
وهكذا يكون أهل الهمم العالية .
وخامس فوائد الهمة التي تجعل المرء يتعلق بها ويرغب فيها : حصوله على مراتب المدح والنفع والثناء
عند أهل الحق والخير وعند الله - سبحانه وتعالى - لأننا نجد أن أصحاب الهمم العالية إنما هم المذكورون بالخير والثناء وإنما هم أصحاب المراتب العالية والشرف الرفيع عند الله سبحانه وتعالى الله - جل وعلا - يقول :{ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } .
فأصحاب الهمم العالية أولهم هم الرسل والأنبياء فإن كنت ذا همة فأنت لاحقٌ بهم وسائرٌ في طريقهم ومنتسبٌ إليهم وآخذ من شرفهم ومستنير بنورهم فما أعظم هذا وما أجله ومنتفعٌ بإذن الله سبحانه وتعالى بسيرتهم .
واستمع إلى القرآن وهو يقص علينا قصة أصحاب موسى :{ لما دعاهم ليدخلوا الأرض المقدسة قالوا يا موسى إن فيها قومٌ جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } .
فما فائدة دخولهم بعد خروج أولئك ؟ لكن انظر :
{ قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهم ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } .
رجلان اثنان قالا هذه المقالة سطر الله - عز وجل - ثناءهما ومدح موقفهما بآيات تتلى إلى قيام الساعة .
وما قصة مؤمن آل فرعون وثناء القرآن عليه وقصة الرجل الذي جاء يسعى في قصة سورة ياسين عنا ببعيد ! وهذا كله من الثناء .
والله - عز وجل - يدعونا فيقول :{ سارعوا إلى مغفرة من ربكم } .
وقال في شأن أهل الخير والصلاح :{ يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } .
وبيّن الله - عز وجل - أنه لا استواء في المقام والرفعة والمدح والثناء عند الله وعند خيار الناس بين من هو صاحب همة عالية وعمل صالح وبين غيره : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } .
هم مؤمنون لكنهم قاعدون ذوو همم دانية سافلة :{ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } .
فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلٌ وعد الله الحسنى وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما .
والمثوبة والأجر فيما يؤدي إليه العمل الصالح الناشئ عن الهمة العالية أيضاً فيه من الفوائد ما نعلق قلوبنا بالهمة العالية .
استمع إلى بعض النصوص التي خُصصت لذوي الهمم العالية : ( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا ) .
إذن الأمور والأعمال التي فيها الفضائل والأجر العظيم من ينالها ؟ أصحاب الهمم العالية من الذي يأتي في الصف الأول من الذي يُبكر إلى الصلاة من الذي يمشي بالليل إلى الفجر وصلاة الفجر يُقال لصاحب القرآن يوم القيامة : ( اقرأ وارقى ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها ) .
ومن يزيد من الخير إلا صاحب الهمة العالية .
وأما صاحب الهمة الوضيعة فإن يقول تكفي الفاتحة وسورة من ثلاث آيات تصح بها الصلاة الحمد لله .
نعم هذه مراتب دانية لكننا نقول إن أعظم المثوبة وأكبر الأجر لا يكون إلا ممن يكون صاحب همة فيكون صاحب سبق .
في الحديث أيضاً : ( احضروا الذكر وادنوا من الإمام فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها ) أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي والإمام أحمد .
كلما قرب كلما سبق كلما كان أعظم في الأجر وأبلغ في المثوبة وكلما تأخر ودنى كلما كان متأخر حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها .
حتى الهمة في الدعاء إذا كان الرجل همة سأل ما يكون له به أعظم المثوبة والأجر .. ( إذا سأل أحدكم فليُكثر ؛ فإنما يسأل ربه ) وفي لفظٍ آخر :( إذا تمنى أحدكم فليستكثر فإنما يسأل ربه عز وجل ) .
وفي حديث العرباض : ( إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس الأعلى في الجنة ) .
وهذا أمره واضح وبيّن .
وسادس الفوائد التي نود أن نوجز فيها أيضاً : الطموح والشموخ(/6)
الذي دائماً يبقى مع الإنسان ليجعله لا يفكر إلا في الأمر الذي يكون له مبلغٌ عظيم فكل ما فكر فيه وسأل عنه انشغل به وسعى إليه فكان له بذلك نفع عظيم .
نضرب لذلك أمثلة سريعة أبو هريرة رضي الله عنه صحابيٌ جليل يقول : إنكم تقولون : إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون : ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبو هريرة ، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفق بالأسواق ، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني ، فأشهد إذا غابوا ، وأحفظ إذا نسوا ، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم ، وكنت امرأ مسكيناً من مساكين الصفة ، أعي حين ينسون ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه : إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ، ثم يجمع إليه ثوبه ، إلا وعى ما أقول . فبسطت نمرة علي ، حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته جمعتها إلى صدري ، فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك من شيء
وهنا لما كان عنده طموحٌ سأل عما فيه خيره في الدنيا والآخرة ، ونحن نعلم ما في قصة ربيعة ابن كعب لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم : سلني ما شئت ! قال : أسألك مرافقتك في الجنة .
زمن أعظم الفوائد التي نختم بها : أن الذي ينظر إلى الهمة يجد أنها تسوقه إلى أمرين عظيمين : الاستشعار بالمسئولية ، والمبادرة بالعمل .
الهمة من أعظم فوائدها أنها تجعل الإنسان يدرك حجم المسئولية ويعتبر نفسه كأنما هو الوحيد المسئول عنها فإذا كان كذلك كان هو السابق والمبادر للعمل .
كم نرى كثيراً من الأخطاء كم نرى كثيراً من صور التخلف ماذا يقول الناس يقول الواحد ماذا سأعمل ولست أنا المسئول وهذا أمر العلماء وهذا أمر الأمراء وهذا أمر كذا فما يزال يبرر لنفسه .
أما صاحب الهمة فيقول هذا هو الخلل وأنا لها إذا القوم قالوا من فتن خلت أني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد .
وأحد الدعاة كان مريضاً بالقلب ومطلوبٌ منه الراحة وأنى له أن يرتاح وهو يحمل هموم الأمة ويرى أن واجبه ينبغي ألا يبقي معه ولا له شيئاً من الوقت والجهد إلا في هذه المهمات العظيمة فجاء الطبيب يعاتبه :
كيف تصنع هذا وأنت مريضٌ بالقلب كأنما تبغي الهلاك ! فقال رحمه الله : كلا ! رويدك يا طبيب وقد سألت أما استراح هل يستريح الحر يوقد صدره العبء الرزاح .
فإن من في قلبه ذلك لا يمكن أن يرتاح والهمة تدفع إلى الحركة كما قال القائل :
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن **** ساح طاب وإن لم يجري لم يطبِ
والأُسد لولا فراق الأرض ما افترست **** والسهم لولا فراق القوس لم يصبِ
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة **** لملّها الناس من عُجم ومن عربِ .
وكما حث من يحث فقال :
كن مشعلاً في جنح ليلٍ حالكٍ **** يهدي الأنام إلى الهدى ويبينُ
وانشط لدينك لا تكن متكاسلاً **** واعمل على تحريك ما هو ساكنُ .
هناك أمور ساكنة لا يحرك فيها أحدٌ شيئاً لا يحركها إلا صاحب الهمة ولا يكون المؤمن العامر القلب إلا متحركاً محركاً .
أما المتباطئ الذي يعد بالالتحاق بعد ما تظهر بوادر النجاح يقول انتظروا حتى إذا تقدم الناس كلهم فكر هو أن يلحق وأن يشارك مع الناس هذا ليس بصاحب همة عالية ولم ينال تلك المنقبة العظيمة .
في الحديث كما نعلم ، وهو حديث سعد بن سهل رضي الله عنه قال : استيقظ الناس على صوت صارخٍ أي في المدينة سمعوا صوتاً فخرجوا ، وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سبقهم على فرس عُري لأبي طلحة قد استجدى الخبر ورجع وهو يقول لهم : لن تراعوا لن تراعوا .
هذا هو المقدام - عليه الصلاة والسلام - همته هو صاحب المسئولية الأولى وهو صاحب المبادرة الأولى أما الذي ينتظر حتى يكون بعد أن يتقدم الناس فهذا كما قال القائل :
" إنما يعد وعد الضعاف صاحب الحر من يثور على الظلم وقد ثارت لِحقها الأقوام " .. " إنما الحر من يسير إلى الظلم فيصميه والأنام نيام " .
الوقت الذي الناس في غفلة وفي ترف العمل هكذا يقع منه هذا .
وثامناً وأخيراً : الاستمرار والثبات
فهو إذا عمل عملاً لا يتركه وإذا نال منقبة لا يدنو عنها وإذا حاز خيراً لا يُفرط فيه أما أحياناً بعض الناس تأتيه همة مرة من المرات ثم يترك بعد ذلك ويرجع إلى الوراء أما صاحب الهمة ؛ فإنه يستمر حتى وإن وجد صعوبة .
عمر بن عبد العزيز - رحمه الله ورضي الله عنه - يقول : " لو كان كل بدعة يميتها الله على يدي ، وكل سنة ينقشها أو يحيها الله على يدي ببضعة من لحمي - يعني تُقطع - حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان ذلك في الله يسيرا " .
الهمة هي التي تدفع إلى الثبات والصبر والاستمرار حتى آخر الطريق .(/7)
قصة جالوت كان معه قومٌ كثيرون ثم جاء الابتلاء الأول : { من شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني } . فشرب منه أكثرهم إلا القليل ، ثم مضوا وبعد ذلك ماذا حصل قال : { لا طاقة لنا بجالوت وجنوده } .
ما بقي إلا القليل وهكذا من الذي يستمر إلى آخر الطريق هو صاحب الهمة العالية وهذه بعض الفوائد .
الجانب الثالث أيها الأحبة الكرام : معرفة الوسائل والطرائق
كيف نصل إلى هذه الهمة لنجني هذه الفوائد والأمر عظيم والأبواب كثيرة ؟
أولها: الإخلاص والصدق
الإخلاص لله - عز وجل - والصدق في التوجه له والرغبة في أن يكون ذلك لمرضاة الله لا للشرف عند الناس لماذا ؟ لأنه إذا أراد الشرف عند الناس ربما يكون الشرف عندهم في وقت من الأوقات أن يكون صاحب مال فسينصرف إلى المال وربما يكون أحياناً أن يكون لاعباً محترفاً أو فناناً متميزاً - كما يقولون - ما الذي سيجعله إذا كان لا قصد له إلا وجه الله - سبحانه وتعالى - والإخلاص هذا هو الذي سيقوده إلى الطريق الصحيح .
وإن قال الناس عنه إنه درويش أو إنه مغفل أو إنه ساذج يعلم أنه ما دام في طريق الله ومخلص لله وصادق في توجهه إلى الله فهو الذي يعينه بإذن الله على أن يأخذ بالأسباب .
قال ابن القيم رحمه الله : " لقاح الهمة العالية النية الصالحة لقاح الهمة العالية النية الصحيحة فإذا اجتمعا يعني الهمة العالية والنية الخالصة إذا اجتمعا بلغا بالعبد غاية المراد ونسيان النظر إلى الخلق يحث على الأخذ بمعالي الأمور لأن الناقد بصير " ، كما قال ابن القيم رحمه الله .
والله - جل وعلا - يقول : { فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم } .
والطريق الثاني مهم جداً وهو : مطالعة النصوص الشرعية وتدبرها القرآن والسنة
انظر إلى نصوص كثيرة فيها معاني كثيرة تدلنا وتحثنا وتشجعنا وتقودنا إلى ذلك انظر إلى القوة والعزم والمضاء والعلو في شأن الأخذ بالدين والتوجه إلى الله - عز وجل - يقول الحق جل وعلا: { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما أتيناكم بقوة } .
ليس بكسل ولا بتراخي ولا بهمة دانية ولا بتردد وتأخر بل بقوة ، والله سبحانه وتعالى أيضاً يقول : { يا يحي خذ الكتاب بقوة } .
وأيضاً :{ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظُلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما أتيناكم بقوة } .
والله سبحانه وتعالى يقول :{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } .
من تأمل في هذا لا شك أن هذا يحثه ويحضه ويعينه إلى أن يمضي في طريق الهمة العالية ويحرص عليها .
والحق - جل وعلا - في القرآن يخاطب المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول :{ فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب } .
قال ابن مسعود : " إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل " .
وقال ابن عباس : " إذا فرغت من الصلاة فانصب إلى الدعاء " .
وقال مجاهد : " إذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل أخرتك " .
وقال علي ابن أبي طلحة : " إذا صح بدنك فاجعل صحتك نصباً في العبادة " .
وقال ابن كثير : " إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة وقم إليها نشيطاً فارغ البال وأخلص لربك النية والرغبة " .
إذن ليس هناك فراغ إذا فرغت فانصب يعني عند الفراغ المطلوب غاية التعب إذن فكيف يكون في غير وقت الفراغ لا شك أنه يكون أكثر وأكثر ، والله - جل وعلا - يقول : { والذين يُمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نُضيع أجر المصلحين } .
صيغة { يُمسّكون } تصوير على القوة والحرص والعزم والجزم والهمة في الأخذ بالكتاب ، وإقامة الصلاة ليس أمر رِخواً وإنما أمر جد وعزم ، والله سبحانه وتعالى يقول : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار *ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب } .
تأمل هذا المعنى لترى من هو المرشح لهذه المعالي والمعاني : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } .
هذه الصفات والمناقب عندما نقرأها في القرآن ننتبه إلى هذه المعاني نتدبر قوله جل وعلا:{ ولربك فاصبر } .
وقوله :{ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } ، و { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً } .
إلى غير ذلك .
والأحاديث أيضاً كثيرة عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها ) ، حديث صحيح رواه الطبراني في الكبير وغيره أيضاً .
وفي حديث النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح ومشهور :( نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس : الصحة والفراغ ) .
وحديثه : ( المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير ) .(/8)
والأحاديث - كما قلت - أيضاً كثيرة والنصوص عظيمة ومن أهم الأمور التي تقود إلى الأخذ بهذه الهمة العالية .
والثالث : مطالعة السير وأخبار أهل الصلاح وذويهم
فإنها من أكثر الأسباب المعينة على الهمة العالية والمُفضية إليها والمؤدية إلى طريقها فإنها تشعل في القلب نار الحماسة وتذكي فيها العزيمة والجد بحيث لا يتوانى ولا يتكاسل ولا يتأخر وقد قال ابن الجوزي رحمه الله إن النظر في سير القوم حياة للقلوب وإعلاء للهمم .
ونعلم أن من سير الصحابة والتابعين والسلف الصالح - رضوان الله عليهم - ما لو تدبره وتعلق به المرء لكان خيراً له وسبباً من الأسباب التي تعينه بإذن الله عز وجل .
والرابع: التركيز في المعالي والبذل لها
فإن كثيرٌ من الناس يشتت فكره ويوزع همومه وتعرض له العوارض التي سيأتي ذكر بعضها فلا ينصرف همه إلى شيء عظيم وإلى مقصدٍ واضح وإلى هدفٍ سامي فلا يكون حينئذٍ له أثر وقد قلنا : إن الهمة مولودة مع الإنسان وأن كل الناس لهم همم لكننا نرى أن بعض الناس هممهم تنصرف إلى غير الخير من أين ذلك ؛ لأنهم لا يركزون في الأمر الصحيح أو المطلوب وحتى علماء النفس والذين يتحدثون عن ملكات الإنسان يقولون ذلك .
إن الفرق بين العباقرة وغيرهم من الناس العاديين ليس مرجعه إلى صفة أو موهبة فطرية للعقل بل إلى الموضوعات والغايات التي يوجهون إليها هممهم وإلى التركيز الذي يسعهم أن يبلغوا هذه المنازل .
نحن مثلاً نرى من علماء الحديث من يقولون أنه كان يحفظ كذا وكذا ألفاً من الحديث أو يعرفوا عن رجال الحديث ورواتهم كذا وكذا ألفاً وبعض الناس يقول كيف هذا أي عقل يستوعب هذا .
فنحن نقول انظر إلى ما يحفظه كثيرٌ من الناس أو ما نحفظه نحن بمجموع ما عندنا كم يحفظ كثيرٌ من الناس من أسماء المغنيين والمغنيات والفنانين والفنانات واللاعبين واللاعبات ، وأسماء المجلات وأسماء الاسطوانات ، وكذا تجد أنه كمٌ هائل ربما يعدل شيئاً من ذلك .
لكنه كان في غير الطريق الصحيح وكان مشتتاً مفرقاً في أودية شتى ولم يُركز في جانب واحد ولذلك قال بعضهم أيضاً إن العقل الإنساني يُصبح أداة مدهشة إذا رُكز تركيزاً قوياً حاداً وهذا أمرٌ واضح .
مثلٌ يسير .. الإمام البخاري - رحمه الله - كان جُل اهتمامه وتركيزه في الحديث وبلغ فيه مبلغاً عظيماً حتى لُقّب بأمير المؤمنين في الحديث .
انظر إلى عظمة التركيز في قصة واحدة قالها بعض أصحابه قال : نمت مع البخاري ليلة وإذا بي أُحصي له ستة عشرة مرة يقوم فينظر في أوراقه فيدون شيئاً أو يُطالع شيئاً .
لماذا فكره مرّكز وهمه منحصر في ذلك إذا نام حتى إذا استيقظ تذكر شيئاً فقام .
أبو عبيد القاسم بن سلاّم - رحمه الله - له قصة طريفة أيضاً ذكرها مؤلف وفيات الأعيان يقول :
كان يفكر في المسألة ولا يصل فيها إلى حل فجاء لينام وغلبته عيناه ، ثم إذا به يستيقظ وظل طول ليله يفكر حتى الصبح ولكنه وصل فيها إلى نتيجة ، قال : فما رأيت ليلة أبرك عندي منها ".
إذا شغله شيء لا يلتفت إليه وحتى في مجال آخر .
زين العابدين - رحمه الله - كان يصلي في بيته واشتعلت النار في البيت ، وجعل بعض الناس يصيح : يا ابن رسول الله النار .. النار ! فما شعر إلا بعد أن أطُفئت النار وخلصت الصلاة ، قالوا : أما شعرت ؟! قال : ألهاني عن النار النار الأخرى .
وعروة بن الزبير نعرف قصته لما سرى الداء إلى رِجله قالوا : نسقيك شيئاً من الخمر فنقطعها حتى لا تشعر ! قال : لا ! ما كنت لأستعين بمعصية الله ، ولكن إذا دخلت في الصلاة فافعلوا ما شئتم ، فقطعوها وغمسوها في الزيت المغلي حتى يلتئم جرحها .. وفي بعض الروايات التاريخية أن الوليد وهو الخليفة قال وإني لأشم رائحة الشواء وهو في صلاته حتى أُغمي عليه رضي الله عنه ورحمه الله .
هكذا يكون التركيز وهذه قضية بشرية انظر إلى الذين يركزون في بعض الأمور والأعمال أو المهمات الذي يلتفتون إليها بعض الناس من العباقرة ، حتى في العلم تجده لا يعرف كيف يلبس الملابس ! ولا يعرف كيف يأكل الطعام ! ينشغل بشيء حتى إن الإمام مسلم - رحمه الله - وقصة وفاته فيها عبرة كانت عنده مسألة من الحديث فدخل إلى بيته ورجع - بعد أن راجعه بعض الناس في الدرس - يبحث فقال لأهله : لا يدخل أحد عليّ ، فقالوا : أُهدينا تمراً ، قال : قربوه لي ، فجعل يأكل ويقرأ ، يأكل ويطالع وهو لا ينتبه حتى أكل التمر كله ، قالوا: فمرض بسبب ذلك فكان منه موته بقدر الله سبحانه وتعالى .
والأمر في هذا يطول .
خامساً : اغتنام الفرص واستغلال الطاقات
فإن بعض الناس يقول : لا أُنجز الشيء حتى أتفرغ له ! وينسى أن القليل من الكثير كثير مثلاً أمر يحتاج إلى ساعتين من الزمان ، ربما لا تجد ساعتين متصلتين ! فما يزال يؤجل ويسوف .. لن تأتيه الساعتين إلا بعد عامين ، وربما الله أعلم بعد كم ! لكن هاتين الساعتين ربما جعلها دقائق خمس من هنا وخمس من هنا يقضي فيها هذا العمل أكثر منه .(/9)
وتجارب هذا كثيرة أحد علماء الهند عزم أن يتعلم اللغة الإنجليزية ، وكان الإنجليز يحتلون الهند ، وكان هو يعيش معهم ، فعزم ألا يفوته يوم حتى يتعلم عشر كلمات من اللغة الإنجليزية وظل على ذلك - كما أظن إذا لم أنسى - سبع أو تسع سنوات ، فصار ضليعاً في اللغة وصار يترجم منها إلى غيرها ومن غيرها إليها وهو لم يذهب إلى مدرسة ولا إلى معهد .
والسرخسي الإمام - رحمه الله - وُضع في الجب في البئر من بعض الظلمة ، وكان هذا يكفيه أن هذا عائقٌ له عن أن يبذل عملاً أو أن يستطيع استغلال الوقت .. ظل يُملي طلابه المسائل والعلوم حتى أملى كتابه [ المبسوط ] ، وهو كتاب عظيم وهو في قاع الجب وطلبته من أعلى يكتبون ما قالوا حتى يخرج .
وهذا من روائع أمثلة أسلافنا رضوان الله عليهم .
وفي هذا السياق أيضاً نذكر أن ابن القيم ألفّ كتابه العظيم [ زاد المعاد ] وهو في السفر في أثناء السفر والانتقال من بلد إلى بلد .. ألفّ هذا الكتاب العظيم من ذاكرته دون كتاب ولا مرجع .
وابن تيميه - رحمه الله - وهو محبوس كانت تُرسل إليه الفتاوى ويكتب ويرسل لأصحابها ..
ما قالوا هذه ظروف حتى تنتهي ! وإنما يغتنمون لأن صاحب الهمة لا يفوّت .
بل حتى بعض الغربيين يقول : " إن كثيراً من العباقرة والذين نالوا مراتب عالية كانوا يستغلون الجذاذات من الأوقات التي يكنسها الناس في المهملات فنالوا بذلك أعلى المراتب " .
سادس الوسائل ولابد منه : العمل والكدح
لا يمكن أن تنال المعالي بالراحة والسكون بل كما قال الفاروق رضي الله عنه : " طلب الراحة للرجال غفلة " .
وقيل لابن الجوزي : هل يسوغ لي أن ألهو وأرفه عن نفسي بشيءٍ من المباحات ؟ قال : عند نفسك من الواجبات ما يشغلها .
فلابد من كدح كما قال القائل :
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها **** تنال إلا على جسرٍ من التعب .
وقيل لأبي موسى الأشعري - وهو من الصحابة رضوان الله عليهم - وقد كان يكثر من العبادة حتى أصبح - كما قالوا - كعود الخِلال يعني من شدة نحوله ، فقيل له : لو أجممت نفسك ! فقال : هيهات ! إنما يسبق الخيل المضمرة .
يعني النحيفة هي التي تسبق خفيفة يمكن أن تنطلق إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى وكم رأينا من العلماء والفضلاء والعبّاد رأينا كم يكدون ويعملون ويحتملون من العناء والمشقة شيئاً كثيرا وسيدهم ومقدمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه فيقال له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! فيقول : أفلا أكون عبداً شكورا .
ويقول الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله : " كبير الهمة دوماً في علاء وهو أبداً في نصب لا ينقضي وتعب لا يفرغ ؛ لأن من علت همته وكبرت طلب العلوم كلها ، ولم تقتصر همته على بعضها وطلب من كل علم نهايته ، وهذا لا يحتمله البدن ، ثم يرى أن المراد العمل فيجتهد في قيام الليل وصيام النهار ، والجمع بين ذلك وبين العلم صعب ، ثم يرى ترك الدنيا ويحتاج إلى ما لابد منه ويحب الإيثار ولا يقدر على البخل ويتقاضاه الكرم والبذل وتمنعه عزة النفس من الكسب من وجوه التبذل ؛ فإن جرى على طبعه أي من الكرم احتاج وافتقر وتأثر بدنه وعائلته وإن أمسك فطبعه يأبى ذلك ولكن تعب عالي الهمة راحة في المعنى وراحة قصير الهمة تعب إن كان ثمّ فهم " .
وهكذا فالإمام أحمد رحمه الله لما كان في الحبس وسينقل إلى الخلافة ونُقل بعد ذلك وعُذب جاءه أحمد ابن داود الواسطي يقول وهو يروي الرواية يقول :
دخلت على أحمد الحبس قبل الضرب فقلت له في بعض كلامي : يا أبا عبدالله عليك عيال وأنت معذور كأني أُسهل عليه الإجابة ، فقال لي رحمه الله : " إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد فقد استرحت " .
أما من الأنباري رحمه الله لما جاء إلى الإمام أحمد قال : يا هذا إنك رأس الناس وإمامهم فإن أجبت أجابوا وإن امتنعت امتنعوا فانظر ما تفعل ! فجعل ابن حنبل يبكي رحمه الله ويقول : أعد عليّ ما شاء الله .. أعد عليّ وهو يعيد عليه ثلاثة .
وفي بعض السير أيضاً أن إعرابياً جاءه وهو موثق ومحمول ليُنقل إلى دار الخلافة قال:
يا هذا إن الرجل إن لم يقتلك ؛ فإنك تموت ، قال الإمام أحمد : فثبتني الله بقولة الأعرابي ما شاء الله أن يثبتني .
والأسباب كثيرة منها أيضاً
سابعاً : قِصر الأمل وذكر الموت
فإن الذي يقصر أمله يرى أن الوقت أقل من أن يُسوّف، وأن المسألة أعجل من أن ينشغل عن المقصد الأعظم والمهمة الأكبر .
ومن هنا نعرف أقوال السلف وأحوالهم في هذا الباب والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) .
وابن عمر يفقه من النبي عليه الصلاة والسلام فيقول : " إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح " .
وأما المفرطون فقد قيل فيهم بسطوا الآمال فأضاعوا آمالهم ولو نصبوا الآجال وطردوا الآمال خفّت عليهم الأعمال بإذن الله عز وجل .
ثامناً : صحبة ذوي الهمم العالية(/10)
الذين كلما كنت معهم لا تسمع إلا عملاً ولا ترى إلا بذلاً ولا تقف إلا على منجزات أما غير ذلك مما سنراه من العوائق تقرأ كتاباً يقول ما شاء الله قرأت كتاب مائة صفحة ماذا عندك من طاقة وكذا ماذا ستُذهب نظرك ستضيع نفسك ستُمرض بدنك .
أما إذا كنت مع ذوي الهمة تقول قرأت مائة صفحة يقول ماذا أنت تلعب ماذا مائة صفحة ماذا تصنع بها .
الشيخ الطنطاوي - رحمه الله - كان يقول : إنه كان في اليوم والليلة يقرأ أكثر من عشرة ساعات ما بين قراءة وكتابة ، ويُخبر أنه كتب من الصفحات في الجرائد والمجلات والكتب ما لو قُسم على عمره لكان قابلاً للقسمة رحمه الله .
وأحد الأساتذة سمعته في محاضرة يقول لابد أن تقرءوا على الأقل في كل يوم عشر ساعات وكان هو يقرأ ذلك فيما أعرفه عنه ومنه .
وهذا يحث الإنسان ويحضه كثيراً وكما قلنا الطرق والوسائل كثيرة .
ننتقل إلى النقطة الأخيرة : عن العوائق
لأنها مهمة أيضاً وأهم العوائق :
الوهن : حب الدنيا وكراهية الموت
الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم : ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن . قالوا : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت .
{ يا أيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى أرض } .
والله سبحانه وتعالى قال : { إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلا } .
والذي يتأمل يجد أن حب الدنيا والركون إليها هو أعظم ما قعد بالهمم ، وأعظم ما قطع العزائم وأعظم ما شغل عن المعالي ، وأكثر الناس اليوم مشغولٌ بلقمة يأكلها ، أو بيتٍ يسكنه ، أو سيارة يركبها ، فدارت الهمم والأفكار حول هذه الأمور .
وكما قال القائل :" إن حب الدنيا وكراهية الموت صنوان لا يفترقان وإن الهمة العالية لا تسكن القلب الجبان " .
والله - عز وجل - قال في شأن اليهود ذم وقدح لهم وبياناً لسفولهم ودنوهم : { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } .
وحرصه على الحياة يجعله لا ينظر إلا إليها ولا يحرص إلا عليها :
أضحت تشجعني هند فقلت لها **** إن الشجاعة مقرون بها العطبُ
لا والذي حجت الأنصار كعبته **** ما يشتهي الموت عندي من له أربُ
للحرب قومٌ أضل الله سعيهم لأنه بالنسبة له يخاف على حياته يقول :
للحرب قومٌ أضل الله سعيهم **** إذا دعتهم إلى ساحاتها وثبُ
ولست منهم ولا أهوى فعالهم **** لا القتل يعجبني منهم ولا السلبُ .
يريد أن يرتاح ويبقى في حياته يأكل يشرب كما يحب وكما يرغب ، فهذا لا شك أنه لن تكون له همة عالية بحال من الأحوال .
والأمر الثاني : الأماني
الأمنيات والأحلام والخيالات التي لا يسندها عمل وكثيرٌ من الناس سأفعل وأريد وكذا وليس عنده أدنى شيء يدل على أنه يسعى لتحقيق هذه الأمنيات .
وبعض الناس يفرح بالأماني يتمنى أنه إن شاء الله بعد عام سيفعل كذا وأنه خلال عشرة أعوام سيُجز كذا وكلها كما قيل يبني الرجاء على شفيرٍ هارٍ .
وبعضهم يفرح كما قلت بالأمنيات كما قال القائل :
إذا تمنيت بت الليل مغتبطاً **** إن المنى رأس أموال المفاليس
ومن العوائق أيضاً : اليأس من الواقع
وهذا يعرض لكثير من الناس اليأس من الواقع يقول لك : ماذا ستصنع ؟ حتى لو كنت صاحب همة حتى لو كنت تريد أن تفعل ؟ ماذا تغير في الواقع ؟ المسلمون متفرقون والعلم قليل والجهل كثير والبدعة فاشية والسنة غريبة .. ماذا سنصنع ؟ كل واشرب ونام وأعبد ربك بما تستطيع وانتهى الأمر .
هذا اليأس هو الذي استبد بكثير من الناس واستبد بهم العجز لأجله وهذا خطير .. وإنما المؤمن على ثقة من ربه ، وعلى أمل في وعده ، وهو قبل ذلك كله يؤدي واجبه ، ويحاول أن يبرئ ذمته وليكن ما يكون والله عز وجل هو الذي يقضي ما يقضي ويقدّر ما يقدّر ..
ليست مهمتنا أن نحصل على النتائج ولكن مهمتنا وواجبنا أن نؤدي المهمات ، وأن نقوم بالواجبات ، وأن نسعى إلى أعلى وأسمى الغايات ، ثم بعد ذلك يقضي الله سبحانه وتعالى ما يشاء .
والذي ينتظر ذلك لا يمكن أن يتحرك لا هو ولا غيره ، وكل واقع سيئ لو نظرت إلى تغييره لرأيت أن الذي غيره إنما هو الهمة العالية وأصحابها الذين يبدءون بالقليل فيعظم مع الزمان ويتسابقون إلى الخير فيكثر بهم الخير ؛ حتى يغلب الشر بإذن الله سبحانه وتعالى .
وفي يوم أُحد لما شاع مقتل النبي صلى الله عليه وسلم دبّ اليأس إلى بعض الصحابة كما في بعض الروايات وقعدوا وقالوا : إذا قُتل - عليه الصلاة والسلام - فعلاما الحياة بعده ؟ فمرّ بهم بعضهم وقالوا : إذا مات رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فموتوا على ما مات عليه ، فاستنهضوا الهمم ، وأحيوا العزائم ، فانطلق الصحابة وأحاطوا بالنبي - عليه الصلاة والسلام - ووقفوا وقفتهم العظيمة حتى انسحبت قريش وقنعوا بالنصر بما نالوه من هذه الجولة .
فإذن اليأس هذا أمره خطير .
ومن العوارض - أيها الأحبة الكرام - والعوائق : التقليد والتبعية(/11)
التي جعلت الناس يفكرون في كثير من الأمور وينشغلون بها ؛ ليُشابهوا فلان أو فلان ، أو ليكونوا - كما يقولون - حسب العُرف الجاري ؛ فإن كان عُرف الناس أن يتباهوا بالمظاهر حرصوا عليه وانشغلوا به ، وكدحوا لأجله ، وإن كان كلام الناس عن التفيهق أو الاتباع للشرق أو للغرب فكم ترى من ذلك كثيرٌ وكثير من المظاهر الفارغة ، وهذا يربي قطة ! وذاك يربي كلباً ! وهذا يصنع كذا .. وينشغلون بمثل هذه الأمور الرديئة .
ومن أعظم العوائق : استشعار الندرة والضعف عند التفرد
لأنه ما إذا صنع شيئاً وبدأت همته تطالبه ، يقول : لماذا أنا وحدي والناس كلهم لا يفعلون ذلك ؟!
فإن بعض الناس يقعده هذا التفرد عن العمل وعن المُضي مع الهمة العالية .
والسلف - رضوان الله عليهم - كانوا يحذرون من هذا وينبهون فقال سفيان رحمه الله : " اسلكوا سبل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهلها " .
إذا كنت على الحق ولو كنت وحدك فأنت الذي ينبغي أن تبقى على ما أنت عليه ، وأن يتبعك الناس لا أن ترجع عما أنت عليه .
وسمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقول : " اللهم اجعلني من الأقلين فتعجب عمر من هذا الدعاء قال يا عبدالله وما الأقلون ؟! قال سمعت الله يقول :{ وما آمن معه إلا قليل } ، وقال : { وقليل من عبادي الشكور } ، فقال عمر رضي الله عنه : كل الناس أفقه من عمر .
يعني ما انتبه عمر لهذا المعنى رضي الله عنه .
وقال سلمان الداراني : " لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وإن كنت وحدي " .
فالوحدة والتفرد يعني أحياناً تقعد الإنسان عن مقتضى الهمة .
والله عز وجل قال : { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفا } .
قال بعض أهل التفسير : كان وحده على التوحيد وقومه كلهم على الشرك .
وهكذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند مبدأ الدعوة .. كان الوحيد الذي يعرف الإسلام والإيمان ، ثم كان معه نفر قليل .. ما قالوا نحن قلة في وسط كثرة فماذا نصنع ! وإنما مضوا إلى أمرهم .
ومن الأمور العائقة : انشغال الناس بكثرة من الأمور العارضة والتافهة
من التي غلبت على الناس في أمورٌ اجتماعية .
فإذا ذهب ليزور إنسان ويسلّم عليه تظل هذه الزيارة في السلام والكلام والتحيات والمباركات ثلاث ساعات أو أربع ساعات ، ويذهب ليأكل الطعام فإذا بوجبة الطعام تأخذ ثلاث ساعات ! وكل هذا من ضياع الأوقات وتفويت مبتغى ومتعلق الهمة العالية .
ومن أشد ذلك : صحبة البطّالين المتقاعسين
إذا أردت أن تفعل شيئاً يقول لك : يا أخي ولماذا التعب ؟ سبحان الله بعض الناس يحب النكد ! لماذا يا أخي تسهر الليل ؟! سبحان الله ! لماذا يا أخي تكدح من أول النهار ؟ يا أخي نام وارتاح .. إن لبدنك عليك حقاً - نصائح تأتيك - إن لبدنك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً .. وتأتيك أمور والبيئة المحيطة يا أخي لماذا كل الناس في بيوتهم وأنت خارج بيتك ؟ لماذا كل الناس يفعلون كذا وأنت لا تفعل كذا .. هذا التثبيط خطيرٌ جداً .
وكما قال المنامي في فيض القضيض : " والنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقاً مناسبة لخُلق المنظور إليه ومن المشاهَد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفا فما الظن بالنفوس البشرية " .
وهذا شيءٌ كثير وعظيم .
ومن ذلك طبعاً : مخالفة البيئة يتبع لذلك وخاصة الزوجة والأبناء
والله عز وجل قال : { إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فأحذروهم ... } .. { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } .
وهذه أمور كثيرة .
ومن العوائق الخطيرة : العشق والحب
الذي أثاره الناس في هذه الأيام ، فتجد العقول سارحة ، والأوقات مقضية ، والأجسام ناحلة ، والأموال مبذولة ، والوسائل مطروقة كلها لأجل الحب والغرام والعشق والهيام ، وهذا في تاريخ الناس كثير وإلى يوم الناس هذا .
وكما ذكر أيضاً عن ابن القيم في روضة المحبين قال : " العشق من أغراض البطّالين ، وأمراض الفارغين ، ينحل الأشباح النحول ، وينحل الأرواح بالذبول ، فالدمع هاطل ، والرأي عاطل ، والحسرات تتتابع ، والزفرات تتتابع ن والأنفاس لا تمتد ، والوسواس يشتد ، والعيون طول الليل ساهرة ، والقلوب نسيت الآخرة " .
وهذا نراه ويسري بين بعض الناس والشباب على وجه الخصوص .
ونعرف أقوال الشعّار والعشاق :
أتاني منكِ سبك لي فسُبي **** أليس جرى بفيكِ اسمي فحسبي .
ما دام اسمي يجري على لسانك حتى ولو بالسب ؛ فإنه عنده وعند هذا العاشق محبوب .
وقال الثاني منهم :
لو كان لي قلبان عشت بواحدٍ **** وتركت قلباً في هواكِ يُعذب .
إلى آخر ما يقول هؤلاء .
والمجنون له قصص كثيرة منها ما ذكر أنه مرّ بزوج ليلى وهو يصلي ، وهو يصطلي بجمرٍ عنده جمر موقده فقال له أبيات جاء فيها : بربك هل ضممت إليك ليلى ؟ فقال : نعم ، فقبض الجمر الذي بين يديه وهو لا يشعر حتى ذابت يده من شدة حرارة النار نسأل الله عز وجل السلامة .
حتى قال القائل منهم :
إذا صليت يممت نحوها بوجهي **** وإن كان المُصلي وراءيا .(/12)
إلى غير ما يقال في هذا وهو من الأمور الواضحة الظاهرة والأمر في هذا الموضوع أحبتي الكرام عظيم .
ونحن نعلم أن من أدوى الأدواء ، وأقسى وأشد العلل وأفتك الأمراض في أهل الإسلام والإيمان اليوم ضعف الهمم ، وخور العزائم ، ودناءة الاهتمامات ، وسفالة الانشغالات التي صرفت عن معالي الأمور وشغلت عما يؤدي إلى الأخذ بالعمل والجد والبذل .
فنسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يحيي الإيمان في قلوبنا ، وأن يُعلي الهمم في نفوسنا ، وأن يشحذ عزائمنا ، وأن يمضي على طريق الحق أعمالنا ، وأن يُذكي إلى مرضاة الله - عز وجل - آمالنا ، وأن يحسن خاتمتنا ، وأن يُجري الخير على أيدينا .. إنه وليُّ ذلك والقادر عليه .(/13)
الطريق إلى الثقة بالنفس
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
وهذا موضوع مهم وتشتد الحاجة إليه، في مثل أيامنا هذه التي تكالب فيها كل أعداء الإسلام على هذه الأمة من كل حدب وصوب؛ حتى وهن الإيمان في القلوب وضعف اليقين في النفوس، ووجد عند بعض ولاة أمور المسلمين هزيمة في نفوسهم ، وفي حقائق إيمانهم ، وفي محاسن إسلامهم ، وفي مآثر أمتهم ، وفي مكامن قوتهم ، وفي مجالات قدرتهم، ولعلنا لا نريد أن نستبق القول بالحديث عن أهمية الموضوع ومعرفته .
النفس ما هيتها وما يتعلق بها
النفس هي عالم العجائب والغرائب، النفس البشرية من معجزات الخالق سبحانه وتعالى، فلا أحد يعرف ذاتها كما قال جل وعلا : { ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } .
ولا أحد يعرف - مع كل الإمكانيات - طبيعة تأثرها وتأثيرها، فهي مجمع لكثير من الأمور المتعارضة المتناقضة، النفس تحب وتكره وتسعد وتترح وتفرح وتحزن، النفس تُقبل وتُدبر النفس يكون فيها انطلاق واندفاع، كما يكون فيها إحجام وتردد .. النفس مجتمع لكثير من الأمور والمشاعر التي لا نستطيع ضبطها ، ولا معرفة كثير من أسرارها، وقطعاً إذا جهلنا ذلك لا نعرف كيف نسوسها ولا كيف نقودها ؟ ومن لم يرجع إلى تعريف الله - عز وجل - لها وتبصيره بحقائق هذه النفس، وتعليمه بكيفية تغليب خيرها على شرها، وبرها على فجورها، فإنه يستسلم لهذه النفس بما قد يكون فيها من الأدواء والأمراض، وما يكون فيها من الحيرة والاضطراب .
من عجائب النفس كلام نفيس ذكره ابن القيم - رحمه الله - يذكر هنا تنوع هذه النفس وتنوع صفاتها فيقول في ذلك : " في النفس كِبر إبليس ، وحسد قابيل ، وعتو عاد ، وطغيان ثمود ، وجرأة النمرود، واستطالة فرعون ، وغرور قارون ، ووقاحة هامان، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السبت وتمرد الوليد وجهل أبي جهل" .
ثم ينتقل إلى صفات النفس التي تشابه فيها أنواع وألوان من الحيوانات منها : "وفيها من أخلاق البهائم : حرص الغراب ، وشره الكلب، ورعونة الطاووس ، ودناءة الجعل ، وعقوق الضب ، وحقد الجمل ، ووثوب الفهد ، وصولة الأسد ، وفسق الفأرة ، وخبث الحية ، وعبث القرد ، وجمع النملة ، ومكر الثعلب ، وخفة الفراش، ولؤم الضبع " كل هذا في نفوسنا!
ذلك ما يتمه لنا ابن القيم فيقول : "غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك، فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند، ولا تصلح سلعته لعقد { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } ، فما اشترى الله إلا سلعة هذبها الإيمان فخرج من طبعها إلى بلد سكانها التائبون العابدون" .
هذه النفس فيها الكثير والكثير من العلل حقد وعجب وحسد وبغي وهوى .. كلها أمراض وعلل فتاكة، تقعد بصاحبها وتسلمه إلى ما تؤدي إليه هذه الأمراض من الأضرار والمخاطر، إلا أن يتداركها بمعرفة الله - عز وجل - أولاً ، واستقامته على أمره ثانياً ، واستعانة به ثالثاً، وهذه النفس سياستها صعبة، وقيادتها شاقة، وأمر تهذيبها لا ينتهي إلى حدّ ، ولا يتوقف عند زمان بعينه، ولا يمكن أن يصل فيها المرء إلى مرتبة ثم يتمكن منها ويستمر عليها، بل كما قال الله جل وعلا : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } .
جهاد مستمر ، وتهذيب متواصل ، وقيادة دائمة ، وعسى أن ننجو من هذه المخاطر العظيمة، شبه ابن القيم رحمه الله هذه النفس ووصف صعوبتها ولزوم الصبر والجهاد في سياستها ، فقال :
"النفس جبل عظيم شاق، في طريق السير إلى الله، وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل، لا يمكن أن تمضي إلى مرضات الله إلا من خلال قدرتك على الرقي والقيادة الصحيحة، بنفسك فلا بد أن ينتهي إليه أي إلى هذا الجبل، ولكن منهم من هو شاق عليه، ومنهم من هو يسير عليه، وإنه يسيرٌ على من يسّره الله له ، والشيطان فوق ذلك الجبل يحذر الناس من صعودها، دع نفسك وهواها لا يمكن أن تغالبها استسلم لمرادها لا يمكن أن تقاومها، والشيطان يقول لك ذلك.. امض معها ، اعطها شهواتها ، اطلق لها اللعب والأخذ والنهل من رغباتها ، الشيطان فوق ذلك الجبل يحذر الناس صعوده وارتفاعه ويخوفهم منها، فيتفق مشقة الصعود وقعود ذلك ا لمخوف على قُلته، وضعف عزيمة السائر ونيته، فيتولد من ذلك الإنقطاع والرجوع والمعصوم من عصمه الله، فإذا قطع السائر هذا الجبل ، واستطاع أن يقاوم ويجاهد نفسه وبلغ قُلته انقلبت تلك المخاوف كلهن أمان، وحينئذ يسهل السير عليه، وتزول عنه عوارض الطريق ، فبين العبد وبين السعادة والفلاح قوة وعزيمة وصبر ساعة، وثبات قلب والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " .
هذه النفس عجيبة وقيادتها صعبة ولذلك فالثقة تحتاج إلى جهد جهيد وعمل شاق، ونفوسنا كما بين الله لنا تنقسم إلى أنواع معرفتها معلومة ولكن نمهِّد لما يأتي
أصناف النفوس
1 ـ النفس المطمئنة(/1)
فمن النفوس النفس المطمئنة وصفها الله بقوله : { يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية* فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي } .
تلك صفتها وهذه عاقبتها .
2 ـ النفس اللوامة
وقال الله في وصفها والقسم بها : { ولا أقسم بالنفس اللوامة } ، فيها خير وشر تلوم على الشر وتعود بصاحبها ثم تُسْلمه مرة أخرى بهواها إلى غير مراد الله عز وجل، فهو يتقلب بين خيرها وشرها لم يستطع تغليب الخير على ا لشر .
3 ـ النفس الأمارة بالسوء
النفس الأمارة بالسوء قد استوليت عليها شهواتها، وتمكنت منها ملذاتها، وسيطرت على قيادتها موطن السوء فيها، وهي التي قال جل وعلا في صفتها : { وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء } ، وأمَّارة صيغة مبالغة .
المعالم الرئيسة في جهاد النفس
كما لخصها ابن القيم رحمه الله
المرحلة الأولى : جهاد تعلم الهدى
أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق ؛ فإن هذه ا لنفس خالقها الله عز وجل، ولا يمكن أن تستقر ولا يمكن استخراج ما فيها من الخير، إلا بإيمانها وتعلقها بخالقها .
المرحلة الثانية : جهاد العمل
أن يجاهدها على العمل بهذا العلم الذي علمه، فإن النفس لا تنال الثمرة بمجرد الفكر والنظر، قد أقول : إن فعل الخير هو المطلوب، وإن فعل الخير هو المرغوب، وإن فعل الخير هو الذي تكون عاقبته كذلك، كلنا يعرف ذلك نظراً وعقلاً لكن لا يدخل إلى نفوسنا من أثر ذلك إلا نزرٌ يسير، لكننا إن فعلنا الخير انعكس ذلك على نفوسنا، دخل الضياء فبدد ظلمتها، ودخلت السكينة فبددت حيرتها، ودخل اليقين فبدد شكها، وهكذا العمل هو الذي يثمر .
المرحلة الثالثة : جهاد الدعوة
أن يجاهد على الدعوة عليه ؛ فإن من ذاق عرف، ومن عرف أراد ان يبصر وأن يرشد إلى ما لقي من لذة هذه الاستقامة على أمر الله عز وجل، وأخيراً أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى .
هذه المقدمة عرفنا فيها النفس بطبيعتها المتقلبة ومشقة قيادها وتنوع أصنافها، والأمور الجامعة في سلاسة قيادتها .
الثقة بالنفس
معنى الثقة :
الثقة لغة : الثقة مشتقة من الفعل الثلاثي وثق، وهي كلمة تدل على العقل والإحكام، يعني على الضبط والقوة والتمكن، ووثقت الشيء أحكمته، والميثاق هو العهد المحكم، والمواثقة هي المعاهدة، بمعنى أن الثقة هي إحكام الأمر والاطمئنان إليه، وضبطه بحيث يمكن الانتفاع به والاستفادة منه، والاعتماد عليه والبناء عليه، أما الأمر الذي لا يكون محكماً ؛فإنك لا تستطيع أن تعتمد عليه، إذا أردت أن تصعد على مكان؛ فإنك أولاً تريد أن ترى هل هذا المكان ثابت وصلب، حتى تضع قدمك وتستطيع أن ترتقي، أما إذا كان بناء هشَّاً أو خشباً متهالكاً تضع قدمك تعتمد عليه ترتفع فإذا به يهوي بك، فالثقة معناها : " إحكام الأمر بحيث يعتمد عليه وبحيث يمكن الاستفادة منه والبناء عليه " ، ولذلك يقولون : " الوثيقة بالأمر هي إحكامه والأخذ بالثقة في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( واخلع وثائق أفئدتهم ) ، أي العقود والعهود التي تكون في النفوس، والله - عز وجل - قال في كتابه : { وميثاقه الذي واثقكم به } .
والثقة عندما تقول وثقت بشيء أي ائتمنته ، فإذا ائتمنت إنسان، ماذا يكون تصرفك معه؟ تكون مطمئناً إليه تستطيع أن تأتمنه على سرك، تستطيع أن تستعين به في عملك، تستطيع أن تستنجد به في خطبك لأنك تثق به، أما إذا لم يكون عندك ثقة به فإنك إذا وقعت بك ملمة ؛ فإنك لا تستنجد به ؛ لأنك لا تكاد تطمئن إلى إجابته، ولا إلى نصرته، ولا إلى علاقته وأخوته ونحو ذلك .
ثم النفس تعرفها صعب جداً، وقد اختلف أهل العلم وعلماء النفس والفلسفة في تعريفها، وبالجملة تدور هذه المعاني قبل أن ندخل فيها بين النفس والروح والعقل، وهل هما شيء واحد أم هي أشياء مختلفة ومتفرقة .
معنى النفس لغة : " مشتقة في اللغة من النفَس، وهو الريح الذي يخرج "، سمي ذلك ؛ لأن النفس هي الروح أي الحياة، وهو ذلك ذلك النفس والريح الذي نأخذه من الهواء ونخرجه كما نعرف والذي يعتبر توقفه توقف الحياة، ولذا قالوا في تعريفها النفس هي الروح، ولذلك تطلق النفس على الإنسان كله، كما ذكر ابن عباس لكل إنسان نفسان، نفس هي العقل الذي يميز به، والأخرى هي نفس الروح التي بها الحياة ؛ فإن أراد أن يبين أن النفس تطلق على الحياة، وهي وجود الحركة والقوة الفاعلة، والنفس وهي القدرة الفاعلة والمتحركة، ثم النفس وهي القوة العاقلة والمدركة وكلاهما يطلق عليه نفس .
الثقة بالنفس اصطلاحاً : أن يكون هناك إحكام لأمرها واعتماد عليها استناداً إلى ذلك الإحكام .
والإحكام معناه حينئذٍ : أن يكون الإنسان قد عرف المنهج الذي يسوس به نفسه، ثم طبق هذا المنهج ثم استمر عليه؛ لأن الرجل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستنصحه ويقول له : قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك ! قال له : ( قل آمنت بالله ثم استقم ) .(/2)
فجعل له معرفة الاعتقاد والصلة بالله ، ثم العمل بذلك والاستمرار عليه ، وهو الذي يدل عليه الاستقامة .
قبل أن ندخل إلى موضوع أهمية الثقة بالنفس، نريد أن نشير إلى معنى مهم، الثقة بالنفس تعني وجودها، وانعدام الثقة بالنفس تعني زوالها، ما معنى ذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ما يأتي في آخر الزمان : تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، فقال بعض الصحابة : أمِن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : لا ! أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، ولينزعن من قلوب عدوكم المهابة منكم . فلما سئل عن الوهن بين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقته وهو : " حب الدنيا وكراهية الموت " .
هذا الحديث يعطينا مؤشراً مهماً هو الذي نريد أن نجعله تقدمة لأمر أهمية الثقة بالنفس.
ما هو غثاء السيل ؟ هو الزبد الأبيض الرابي الطافي فوق الماء . هل فيه فائدة ؟ هل ينتظره الناس للانتفاع به ؟ هل يبقى ويدوم ؟ معنى ذلك أن هناك من ا لناس من لا قيمة له ولا نفع منه، ولا أثر منه ، وبالتالي فالحقيقة أنه لا وجود له، وهذا تماماً مثل الأصفار التي في يسار الأرقام هل تزيد في القيمة شيئاً ؟ نحن إذا أضفنا الواحد إلى الواحد صار اثنان ، وإذا أضفنا الكسور أيضاً الربع إلى الربع يصبح نصفاً، لكن إذا أضفنا الصفر إلى مئات من الأصفار أو إلى عدد لا نهائي من الأصفار ما هي النتيجة ؟ هي الصفر مرة أخرى !
ما أريد أن أقول من هذا الكلام : إن في أبنائنا وفي واقع حياتنا من الأعداد الغفيرة المسلمة، من يعدون أصفاراً كأنما لا وجود لهم في هذه الحياة، هؤلاء في غالب الأحوال فقدوا ثقتهم في أنفسهم، وأصبحوا يشككون في كل قدرة يمكن أن يعتمد عليها، وفي كل أثر يمكن أن يبقى لهم في هذه الحياة، وفي كل نجدة أو هبة أو نخوة يمكن أن يتقدم إليها ويكون لهم بها أثر ونفع وفائدة .
مقومات الأهمية في البيئة و المجتمع
1 ـ القوة والفعالية
بدون الثقة بالنفس يكون هناك الضعف الشديد، والسلبية الكبيرة التي تقعد الناس كما قلت عن أن يكون لهم أثر في الحياة، ماذا يكون همه، همه أن يأكل ويشرب وأن ينام ويلعب، فإذا حصر همه في أمور خارجة عن ما يمكن أن ينفع به نفسه أو أن يتعدى نفعه إلى غيره فيكون في الأصل فاقدة أو ضعيفة الثقة بالنفس، أمة الإسلام في عصرنا الحاضر ربما نقول أنها فقدت كثير من أسباب القوة والفعالية، لكن عندها أمران مهمان يمكن أن تعود بهما إلى قوتها وفعاليتها، وأن تستثمر الكثير من القوة التي عطلتها ؛ لأن بعضكم يقول إن لدى الأمة الإسلامية ثروات عظيمة وكبرى، وأن عندها مواقع جغرافية مهمة وعندها وعندها، لكننا كلنا جميعاً نرى تكاد تكون خالية من كل هذه القوى، لأنها ليست لديها فاعلية وليس لها أثر ما قيمة وجودها، ما قيمة أن يكون عندي ملايين في جيبي، ثم لا أنفق منها ريالاً أصنع بها طعاماً أو أصنع به شيئاً مما أحتاجه إليه .
أولاً : المنهج الرباني المعصوم وهي نعمة الله للأمة التي ينبغي أن تشكرها .
ثانياً : الطاقة البشرية الكبيرة
عندنا بشر إذا استطعنا أن نعيد إليهم الثقة بأنفسهم أن نعمق الإيمان في قلوبهم، أن نغرس اليقين في نفوسهم، أن نعطيهم قوة يستمدونها من قوة الله عز وجل ؛ فإننا حينئذ سنحول هذه الأمة إلى طاقة فاعلة وقدرة هائلة لا يمكن أن يقف معها وأمامها شيء بإذن الله - عز وجل- لكن إذا كان أفراد هذه الأمة أفراداً ضائعين تائهين لا يثق أحدهم في أن ينطق بكلمة، ولا أن يحرك ساكناً فأي شيء يمكن أن ننتظر من هذه النفوس أو من أولئك الأشخاص، الأهمية .
2 ـ الثبات والمواجهة(/3)
إن الثقة بالنفس تعطي صاحبها قدرة على الثبات في مواجهة الأعاصير والأحداث، ونحن في زمن يسمونه كما تسمعون عصر العولمة في زمن توجهت كل السهام والقوى والأساليب لكي تمسخ هوية المسلم، فلا يعود له طعم ولا لون ولا رائحة كما يقال، لا يعرف له نسباً ينتسب إليه، ولا تاريخاً ينتمي إليه ولا يمكن إلا أن يكون ذلك البناء المفرغ عندما يكون هناك بناء ليس فيه نوافذ وليس فيه أبواب، الريح تدخله وتخرج منه، والأشياء تدخله وتخرج منه، تعبث وتعيث فيه كما تشاء، وهذا هو حال بعض المسلمين، الذين أصيبوا بالهزيمة النفسية، حتى صاروا لا يرون في دينهم عظمة، ولا يرون في رسولهم ونبيهم عليه أفضل الصلاة والتسليم مزيّة ولا خصيصة، ولا يرون في تاريخهم فخراً ولا عزاً ولا يرون في أنفسهم شيئاًَ يذكر، لأنهم يقولون ماذا نقول القوة العسكرية عند أعداءنا التقدم الصناعي عند أعداءنا التحرك الديبلوماسي عندهم وعندهم وعندهم وكذا وكذا ويعظَّمون أعداءهم وليس عندهم من الثقة بأنفسهم ما يجعلهم يقفون ويقولون نحن عندنا ما هو أعظم من ذلك، لكننا عندنا قصوراً ولكننا نحتاج كذا وكذا، لذلك نقول من وثق بنفسه ومن أخذ هذه الثقة حق أخذها فإنه حتى وإن خلت يديه من كل أسباب المقاومة المادية، فإنه يبقى قوياً شامخاً وسأذكر فيما بعد أمثلة يسيرة على ذلك .
3 ـ الإملاك والتقدم
الثقة بالنفس تجعلك تمتلك ما تريد وتتقدم إلى ما تريد، عندهم العلم ما بالنا لا نمتلكه ولا نتقدم فنأخذه، ما بالنا لا نستطيع أن ننقلع ! ما بالنا نظل مطأطأين رؤوسنا ننتظر غيرنا ان يحل مشكلاتنا وأن يصنع لنا مركباتنا وأن يعد لنا كل أسباب حياتنا ! ونحن لا نتقدم لأن هناك هزيمة نفسية، لأن هناك عدم ثقة بالنفس، يقولون كيف يمكن أن يكون عندنا المصانع والقوة والذرية، مستحيل لماذا لأنهم كسروا وحطموا في أنفسهم الثقة والقوة التي يعتزون بها في أنفسهم فلن يستطيعوا حينئذ أن يتقدموا ولا يستطيعون من باب أولى أن يمتلكوا ولا أن يغيروا .
لعلي وأنا أتحدث إليكم أذكر هذه المعاني الثلاثة أعيد إليها أمثلة من سير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن وقائع وأمثلة الحياة بعمومها، عندما نقول القوة والفعالية فيما ذكرناه من أول عناصر الأهمية، ماذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامهم وإيمانهم، قوم جاهليون يعبدون الأصنام من تمر ثم يأكلونها، قوم جاهليون عندهم عصبيات وعنجيهات وطبقيات وقوميات ، ليس لهم ذكر في التاريخ، ليس عندهم أمل ولا طموح ، يخافون من أعداءهم القوى الكبرى تسيطر عليهم بل أذيالهم من الغساسنة والمناذرة يسيِّرونهم كيف يشاءوا، ثم جاء الإسلام والإيمان غيَّر أولئك الناس ووثقوا بأنفسهم بعد إيمانهم بربهم، عرفوا أن عندهم من القوة والقدرة ما يستطيعون أن يكونون سادة الدنيا كلها، مع أنهم كانوا في الصحراء القاحلة، مع أنهم لم يكن عندهم أي شيء من أسباب المادة والقوة، ولكنهم بعد إيمانهم بالله وثقوا بأنفسهم فقال قائلهم وهو ربعي بن عامر مقالته المشهورة المعروفة : " جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة " .
ماذا كان عندهم لم يكن عندهم شيء إلا إيمانهم بالله - عز وجل - وثقتهم بأنفسهم المعتمدة على منهج الله سبحانه وتعالى ، وعندما نقول الثبات والمواجهة أمام هذه الهجمات الشرسة، وأمام هذا التضليل العظيم وأمام المسخ الفكري والغزو الذي يحيط بالأمة وأبنائها وشبابها على وجه الخصوص، قد وقع ذلك في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، لكن ثقة النفس والبناء المحكم لها هو الذي صد تلك الهجمات .
الولاء المسجور
كعب بن مالك - رضي الله عنه - تعرفون أنه من أحد المخلفين الثلاثة الذين تخلفوا عن تبوك وعاقبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يقاطعهم الناس فلا يكلمونهم، في شدة تلك المقاطعة وبعد مُضِيَّ ليال متوالية، جاء إلى كعب بن مالك رجل من رسول من الدولة العظمى، يسأل عن كعب بن مالك فيشير الناس إليه ، فإذا به يسلمه خطاباً وإذا فيه : " قد علمنا أن صاحبك قلاك فالحق بنا نواسك ولم يجعلك الله بأرض هوان " . أي إذا قاطعوك وهجروك فتعال إلينا وأقبل إلينا سوف نعطيك ونجعلك وتكون عندنا كذا وكذا، أليست هذه إغراءات ؟ أليست هذه مضللات ؟ فماذا قال ؟ وماذا فعل كعب بن مالك ؟ قال : " فعلمت أنها الفتنة " .. هذه هي الفتنة وهو بإيمانه وثقته بربه أعلى وأرسخ من أن تناله هذه الأمور .. قال : فأخذتها وسجرتها في التنور، الغزو موجود في كل وقت، لكن إن صادف نفوساً خربة وقلوباً ميتة تمكن منها، وإن صادف نفوساً حية وقلوباً واثقة رد على أعقابه خاسئا خاسراً .(/4)
وعندما نقول : الامتلاك والتقدم، كيف كان لأولئك الأصحاب ومن جاء بعدهم، كيف صنعت أمة الإسلام يوم انفتحت على حضارة فارس وحضارة الروم، واليونان، هل انبهروا بها هل ذلوا لها هل استسلموا لكل ما تعطيه إياهم، كلا لقد أخذوا منها خيرها وتركوا شرها، بل امتكلوا كل قدراتها وقواتها الأرضية والمادية، بل استطاعوا هم الذين يملكون أزمتها ويطورون مساراتها ويزيدون في علومها حتى صارت حضارة الإسلام والمسلمين هي التي تنير الكون كله ولا تزال كثير من أسباب التقدم الحاضر مردها إلى كثير من علوم المسلمين واجتهاداتهم، حتى غير المسلمين يمكن إذا أخذوا بالثقة بالنفس أن ينالوا شيئاً كثيراً من حظوظ الدنيا .
محركات وطنية
أذكر هنا قصة لرجل ياباني مشهور اُبتعث من اليابان إلى ألمانيا ؛ ليدرس علم الميكانيكا والمحركات، وهو يريد أن ينقل لبلده وان يقوِّي بلده، وأن يعزز من أحوال أمته، قال فذهبت فدرَّسوني الكتب والنظريات، قال وأنا أريد أن امتلك القدرة ، وأن أعرف كيف أتعامل مع هذه المحركات وأصنعها، قال فضللت حيران حتى سمعت عن معرض للمحركات الإيطالية فأخذت كل ما معي من المال وذهبت واشتريت محركاً مستعملاً وذهبت به إلى بيتي ووضعته في غرفتي أنظر إليه على أنه أعظم شيء في الوجود، ثم شرعت في تفكيكه، وقلت إذا فككته قطعة قطعة ثم استطعت إعادته ؛ فإن ذلك يعني أني سوف امتلك المعرفة اللازمة للتعامل مع هذه المحركات . قال : وكنت أفتح المحركات وأفككها ثم أرسم كل قطعة رسماً دقيقاً يوماً كاملاً من أوله إلى آخره، لم يكن لي فيه من الطعام إلا وجبة واحدة، ثم أعدت تركيبه فلما أعدته وشغلته فاشتغل فرحت فرحاً أعظم من كل شيء في حياتي، ثم يقول واصلت ذلك، وأخبرت رئيس بعثتي قال : قد بدأت الطريق، سأعطيك محركاً عاطلاً فأصلحه، قال : فأخذته ففككته ثم وجدت فيه ثلاث قطع بالية، فقمت بنفسي وصنعتها ورسمتها، وأصلحت هذا المحرك، قال : ثم قال لي لا بد الآن أن تصنع لنا محركاً كاملاً من صنع يدك، فتركت الدراسة وإكمال الدكتوراه ، وذهبت إلى مصنع للصلب ولبست لبس العمال وبقيت تحت إمرة واحد منهم، أساعده وأعاونه تسع سنوات، حتى استطعت أن أتقن هذه الصناعة، ثم سمع بي " ميكادو " إمبراطور اليابان ، فأرسل لي مالاً فقال فاشتريت عدداً كاملة لمصنع، ثم انتقلت إلى اليابان فقيل لي : إن الإمبراطور يريد أن يراك، فقلت له لا ألقاه حتى أصنع المحركات في اليابان . فقال : وبعد تسع سنوات كاملة، أخذت عشر محركات، وذهبت إلى الإمبراطور وقلت له هذه محركات يابانية من أولها إلى آخرها .
هذه تجربة إنسانية، فيها قوة وثقة بالنفس فيها مواجهة وامتلاك وتقدم، ثم نعود إلى هذه الجوانب الثلاثة في أهمية الثقة بالنفس في محيط الإنسان .
مقوِّمات الأهمية في الإنسان ذاته
1 ـ السكينة والاستقرار
الواثق بنفسه مطمئن ليس عنده تردد، وليس عنده تبديد لجهده ووقته، الذي ليس عنده ثقة بالنفس يبدأ بعمل ثم يتردد فيتركه ويبدأ في غيره، ثم ينقضه فيضيع وقته ويبدد جهده، وكثيراً ما يمشي في قضية ويتوقف عاجزاً فيصيبه من ا لإحباط ما يصيبه، أما الواثق بنفسه المعتمد على ربه؛ فإن نفسه مطمئنة وساكنة وعنده وضوح في رؤيته، يستطيع به أن يسير إلى ما يريد .
2 ـ الفائدة والانتفاع
فمن وثق بنفسه استطاع أن ينجز شيئاً بنفسه الذي يثق بنفسه، فيقول أريد أن أنال وظيفة معينة حتى اكتسب منها رزقاً معيَّناً أستطيع به أن أعيش في حياتي ونحو ذلك، يتقدم إلى هذا ويعمل ويثق بنفسه ويصل، أما الضعيف فيقول : ماذا أستطيع أن أعمل ؟ لا يمكن أن أنال وظيفة .. لا يمكن أن أتخرّج .. لا يمكن أن أفعل .. لا يمكن أن أصنع ، فلا يستطيع أن ينجز شيئاً فضلاً عن أن يفيد الآخرين .
3 ـ القدوة والتأثير
الواثق بنفسه لا يكتفي بأنه قد حصَّل السكينة والاستقرار، ولا أنه حقق لنفسه الفائدة والانتفاع بل ينتصب قدوة لغيره ومؤثِّراً في غيره، يحفِّز الناس ويقودهم إلى أن يتحركوا وأن يبذلوا وأن يعملوا .
الطريق إلى الثقة بالنفس
وهذه كما قلت ومضات سريعة، والممارسة هي المحك الحقيقي والتدريب العملي الذي نحتاج إليه بعد المعرفة النظرية :
الخطوة الأولى : الإيمان والمبدأ
أعظم شيء يسيطر على المبدأ هي المبادئ والعقائد، حتى ولو كانت منحرفة، نحن نعرف ونعلم أن هناك أناساً على غير العقيدة الإسلامية والإيمان الصحيح، لكنهم يبذلون أموالهم فداءً لتلك العقائد الباطلة، لأن أي اعتقاد ينعقد عليه القلب وتنطوي عليه النفس، يجعل في صاحبه من القوة في التشبث به والدفاع عنه والتضحية لأجله، ما لا يمكن أن يكون مع غيره، وانظر إلى واقع العالم اليوم تجد كثيراً من الفئات التي تضحي وتبذل وتزهق أرواحها وذلك لأجل فكرتها ومذهبها، نحن نقول : إن إيماننا بالله - عز وجل - هو الإيمان الحق ، وإسلامنا له - سبحانه وتعالى - هو الدين الحق .. يعطينا أعظم أسباب القوة والثقة بالنفس من وجوه متعددة .(/5)
بواعث الإيمان المقوية للثقة بالنفس
أ - الوضوح والثبات
أعظم شيء يعين على النفس على الثقة ويغرس فيها هذا المبدأ هو الوضوح في الرؤية والثبات والإستقرار لها ونحن في الإيمان قد أكرمنا الله بذلك، نعرف الغاية التي لأجلها خلقنا، ونعرف الطريق الذي يوصلنا إلى تلك الغاية، ليس عندنا حيرة ولا اضطراب ولا شك ولا تردد في مثل هذه المسألة وهذا يكسبنا ثقة عظيمة في نفوسنا ؛ لأننا نعرف حقيقة هذه الحياة وحقيقة ما فيها وحقيقة ما يأتي بعدها، ليس عندنا ذلك التخبط الذي يقوله القائل :
جئت لا أدري من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
ولماذا لست أدري لست ادري ؟
هذه الحيرة والتخبط ليست عندنا بفضل الله عز وجل، ثم يعطينا الإيمان والمبدأ الإسلامي .
ب ـ هي التوازن والاعتدال
الإيمان والإسلام يعطينا نظرة صحيحة متوازنة لكل شيء في هذه الحياة، ومن أهم هذه النقاط في التوازن، بين الدنيا والآخرة، نحن لا نغرق في دنيانا، ولكننا لا ننساها، ونحن لا ننقطع لأخرانا، ولكننا أيضاً لا نغفل عنها، الله - عز وجل - يقول : { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك } .
بينت لنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الدنيا وحقيقة نظرتنا إليها، وحقيقة تعاملنا معها، فلا نميل ميلاً إلى الدنيا، ولا نميل ميلة ننقطع بها عنها، فكلا طرف الأمور ذميم، وقد بيَّن لنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منه أصحابه - رضوان الله عليهم - ترك الدنيا كلها بحلالها وبما أقر الله عز وجل فيها من ا لطيبات، هو أمر مرفوض في شريعتنا، كما نعرف من قصة النفر الثلاثة الذين عزموا على ترك الدنيا : فقال أحدهم : أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر : وأما أنا فلا أنام الدهر، وقال الثالث : وأما أنا فلا اتزوج النساء ، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أما أنا فأصوم وأفطر ، وأنام وأصلي ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني )
هذا التوازن يعطينا ثقة في نفوسنا واستقراراً فيها يفيدنا ويعيننا، لسنا كالذين يسيرون وراء الدنيا، ليس لهم هَمٌّ غيرها، فيكون حالهم كالذي يشرب من ماء البحر .. ماء البحر مالح كلما ازددت شرباً منه كلما زدت عطشاً ، وهؤلاء تنظرون إليهم الذين يجرون وراء الدنيا من ا لماديين والغربيين ونحوهم، يغذُّون الخُطى وراءها ، ثم لا يجدون فيها إلا ذلك السراب، الذي يسيرون وراءه ويسيرون وراءه، حتى إذا وصلوا إليه لم يجدوه شيئاً ورأوا سراباً آخر وانتقلوا إليه، فيظلون يدورون كما يدور الحمار في الرحى، دون أن يجدوا شيئاً فيه بلغة لهم أو يفيء إلى نفوسهم الثقة واليقين، وإن كانت عندهم بعض مظاهر النجاح الدنيوي لبعض ما أخذوا من أسباب هذه الحياة.
ج ـ التحفيز والانطلاق
الإيمان شعلة حياة وشعلة قوة وجذوة حماسة هي التي تدفع الإنسان لكي يعمل ولكي يواجه، ولكي يثري هذه الحياة، إيماننا بالله سبحانه وتعالى يجعلنا واثقون بنصره يجعلنا واثقون بأن وراء هذه الحياة الدنيا مثوبة وأجراً أو عقاباً أو عذاباً والعياذ بالله، هو الذي يجعلنا ننطلق نريد أن نحصل شيئاً لدنياناً وشيئاً لما وراء دنياناً، أما الذي يفقد هذا المبدأ وهذا الاعتقاد ؛ فإنه لا يجد شيئاً يولد له الطاقة ولا يعطيه القوة ولا يبث في نفسه العزيمة ولا يصب في عروقه القوة التي ينطلق بها إلى كثير وكثير مما يحتاجه في هذه الحياة، كيف انطلق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحياة كيف انطلق المسلمون في صورة رائعة، كان يحدوهم فيها الإيمان ويشدهم إليها كل ما ورد في هذا الإيمان من الآمال والطموحات في هذه الدنيا وفيما وراء هذه الدنيا .
د ـ الأمل والتفاؤل
كثيرة هي الأمور التي تعارض ما نريد، كثيرة هي المصائب التي تحل بنا، كثيرة هي العقبات التي تقطع طريقنا، هل يستسلم لها المؤمن، هل يضعف أمامها، هل يتصدع بنيان نفسه، إن إيمانه بقضاء الله وقدره يجعله قوياً يجعله ينظر إلى ما وراء ذلك، ألم نرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محاصر يوم الخندق وقد أصابه وأصاب أصحابه شدة الخوف وشدة الجوع وهو في هذه المحنة يقول لأصحابه : " لكأني أنظر إلى قصور بصرى وقصور الشام، والله ليبلغنَّ ملك أمَّتي إلى تلك البقاع، ويوم خرج مهاجراً طريداً والناس يحيطون به وقريش تبحث عنه " .
ويبشّر سراقة بن مالك - وهو يطارده طلباً للجائزة من قريش في هجرته عليه الصلاة والسلام - يبشره النبي صلى الله عليه وسلم بسواري كسرى ، فيكون ذلك كذلك بعد أعوام ليست بطويلة المدى .
إن المؤمن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ) .(/6)
وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث في وصيته لابن عباس : ( استعن بالله ولا تعجز واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) .
إن إيماننا يجعلنا دائماً أقوياء في مواجهة الصعاب، وننظر إلى أن وراءها فرجاً ؛ لأننا نوقن بأن مع العسر يسراً ، وأن مع العسر يسراً ، وكما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لن يغلب عسرٌ يسرين، هذه المعاني كلها في إيماننا فضلاً عن السكينة والطمأنينة التي نرجوها .
الخطوة الثانية : العبادة والمرجع
عبادتنا لله وصلتنا به ورجوعنا إليه بمثابة التزود بالطاقة، قد يكون عندك من الإيمان طاقة انطلاق، ولكنها تحتاج إلى تجديد تحتاج إلى بث وبعث، تحتاج إلى قوة ومواصلة، تحتاج إلى مواصلة ودوام، ذلك كله يتجدد ويقوى معنا بعبادتنا لله ورجوعنا إليه، ولذلك نفقه حينئذ التوجيه الرباني في قوله سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة }
وكان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، يلجأ الى الله - سبحانه وتعالى - ينفرج الهم ويزاح الكرب، وتعود الثقة إلى النفس، وتنزل الطمأنينة إلى القلب، ومن هنا ؛ فإن العبادة مصدر قوة لثقة النفس في وجوه عدة .
بواعث العبادة في تقوية الثقة
1 ـ القوة والالتجاء
القوة بالاستمداد من الله والالتجاء إليه، ولذلك الصلاة مأمور بها في كل الأحوال، حتى عند اصطفاف الصفوف وخوض المعارك، صلاة للخوف بصفة خاصة، لكنها لا تنقطع أبداً لماذا حتى يبقى هذا الإستمداد الذي يبث في نفوس المؤمنين قوتهم ويقينهم وقدرتهم على أن يكونوا واثقين بأنفسهم وقادرين عل مواجهة في هذه الحياة .
2 ـ البذل والعطاء
لأن العبادات كما نعلم في تنوعها تعود الإنسان على البذل والعطاء مع اليقين والإيمان، فنحن عندنا زكاة وعندنا فقة وعندنا صدقة وعندنا بر وعندنا إحسان، وعندنا صلة رحم، كل هذه العبادات على أن نعطي الآخرين، ولم نعطي أحداً إلا إذا وجد في نفوسنا ما نعطيه، لا يمكن أن تعطي الناس حتى ولو لم يكن لديك مال يمكن أن تعطيه من إبتسامة نفسك ومن مواساة قلبك، ومن مشاركة نفسك، هذا البذل والعطاء الذي نكتسبه من العبادات يعوِّدنا على أمور كثيرة، منها ثقتنا وإيماننا بالله، الذي ينفق ماله ماذا يقول يستحضر قول الله سبحانه وتعالى في معنى هذه الصدقة والنفقة { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } .
هي قرض عند الله - عز وجل - يستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما نقص مال من صدقة ) .
يستحضر قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإنه يأخذ صدقة أحدكم بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه ، حتى تكون صدقة أحدكم مثل جبل أحد ) .
هذا الإنفاق والبذل يعطينا قوة أن ننفق وأنه سيأتينا غيره، أن ننفق وأن نعمل لتحصيل غيره، يعطينا تفاعلاً مع الحياة، السلبيون الذين لا يعطون غيرهم، يفقدون كثيراً من مشاعر تعزيز الثقة بالنفس، لأنهم دائماً يفكرون بالقوة التي بين أيديهم دون أن يكون لهم قدرة على تقبُّل فقْد بعضها، من عنده الملايين يرى أنه لو نقصت قليل سوف تحصل مشكلة، ولا يستطيع مواجهة الأمور لماذا لأنه لم يتعود على أن ينفق ويبذل، لم يتعود من عبادته على مثل هذا الأمر الذي يعطي الآخرين ولكنه يعوض بأمر الله وبتعويض الله، ثم يعوض بجهد وتفاعل مع هذه الحياة، وهذا معنى مهم في العبادات .
3 ـ الإرادة والطاقة
العبادة قوة إرادة تمتنع بالصوم عن الطعام والشراب والشهوة، تمتنع عن الراحة فتذهب إلى البلاد المقدسة، وتطوف وتسعى وتجهد وتتعب وتنفق مالك جهد وطاقة وإرادة قوية وعزيمة ماضية، تستيقظ من عز نومك ومن عمق راحتك لتقوم إلى عبادة ربك، إن العبادة تعطيك من ثقة النفس أمراً مهماً وعظيماً جداً .
4 ـ التنظيم والدقة
العبادات تعطينا معلماً ومنبعاً مهما من منابع الثقة وسيأتينا الحديث عنه، وهو التنظيم والدقة كل شيء في وقته وكل شيء بحسمه وكل شيء بإرادته وكل شيء بالقوة اللازمة له، وكل شيء بالنفس المتعلقة به، يصوغ ذلك كله من العبادات قوة تعطينا زاداً عظيماً في الثقة بالنفس .
الخطوة الثالثة : العلم والمعرفة
نحن نعرف أن العلم مهمٌ جداً ، سواء كان علماً دنيوياً أو علماً أخروياً وإن كانت تلك القسمة ليست حدية في دين الإسلام، لكننا نقول العلم والمعرفة هو الذي يعزز الثقة بالنفس، عندما نعرف هذه المعاني التي تحدثنا عنها، عندما نقرأ القرآن فنعرف ا لنفس وأصنافها ونعرف فجورها وتقواها ونعرف ونتعلم ونكتسب شيئاً عظيماً جداً أهم هذه الجوانب لتعزيز الثقة بالنفس من العلم والمعرفة .
العوامل المعرفية لتقوية الثقة
1 ـ الأمل والتطلع(/7)
إن العلم يجعلنا نعرف الأجر والثواب في الأعمال ، يجعلنا نعرف الغايات والآمال من هذه الأعمال، يجعلنا نعرف كثيراً من المعاني ، يجعلنا نقوى في عطاءنا وحركتنا ، وبالتالي في ثقتنا بأنفسنا .
2 ـ الفهم والاستيعاب
عندما نستوعب الحقائق ونعرفها، فلا نعود متشككين وتختلف نظرتنا إلى الأمور، كثير من الناس للجهل الكبير الذي فيهم يتشككون في حقائق الإسلام ويضطربون في أمور كثيرة، بل يختلف الأمر عندهم في الحقائق الكبرى والأشياء التي ربما تتعلق بأنفسهم، وكثيراً ما ترى الجاهل وهو يتشكك حتى في أموره، ربما لو شككته في اسمه لقال : أنت أعلم به مني، هذا سلاح مهم سلاح العلم والمعرفة، يواجه به كثيراً من هذه الجوانب .
3 ـ العقبات والمشكلات
العلم يجعلنا نعرف العقبات ونعرف كيفية تجاوزها، ونعرف المشكلات ونعرف طرق حلها، وهذا مهمٌ جداً لا يمكن أن نسير مغمضي الأعين مصمّي الآذان ونقول : أن نواجه الحياة وأن تكون عندنا ثقة بأنفسنا ، وأن نكون قادرين على أن نؤثر في هذه الحياة وأن نغير فيها، ولذلك لا بد لنا من العلم والمعرفة وهي التي سكبها النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفوس أصحابه، فتغيرت أحوالهم وصار الواحد ينظر إلى الأمور نظرة مختلفة عن غيره، ويرى فيها ما لا يراها غيره .
الخطوة الرابعة : الإعداد والتنظيم
كثيرة هي الأمور التي قد تتوفر لنا بالإيمان وقد نتزود منها من العبادة وقد ينفعنا فيها العلم والمعرفة لكننا لا نحسن ترتيبها ولا تنظيمها ولا نهيئ الأمر ولا نعد له عدته، فيكون من ذلك تبديد للوقت وتضييع للجهد واستنفاذ للطاقة، وهذه هي إحدى أكبر مشكلات المسلمين وأمة الإسلام اليوم أنها تسير خبط عشواء الناس يخططون والمسلمون يتخبطون، الناس ينظمون والمسلمون في فوضى عارمة، هذا ليس هو ديننا بل كما قلت عباداتنا وإسلامنا يعلمنا على الإعداد والتهيئة والتنظيم وجعل كل شيء في وقته وفي مكانه المحدد ليس هناك أمر عبث، وليس هناك أمر بلا تخطيط .
وحسبنا أن نذكر هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إيمانه بربه عظيماً وكانت عبادته وافرة، وكان كل اعتماده وتوكله كاملاً وتاماً لكنه أعد إعداداً محكماً ونظم تنظيماً دقيقاً وأحكم الأمر إحكاماً في غاية الروعة، اتجه جنوباً ولم يتجه شمالاً ودخل غاراً ولم يكن في مكان مكشوف، وجعل ابن أبي بكر يأتيه بالأخبار حتى يعرف الأمور، واسماء تأتي بالطعام حتى لا ينقطع الزاد، والراعي يمر حتى يعف الآثار، والدليل لا يأتيه إلا بعد ثلاثة أيام، خطة دقيقة محكمة تعزز الثقة بالنفس، الطالب الآن إذا ذاكر مذاكرة جيدة كيف يدخل إلى الاختبار يدخل وعنده من الثقة والطمأنينة الشيء الكثير، نعم كل طالب يؤمن بالله ويتوكل على الله ومعتمد على الله لكنه إذا توكل على الله كما يقول ولم يذاكر، كيف يكون حاله عند دخول الاختبار يكون خائفاً مضطرباً جزعاً، هل لأنه فاقد للإيمان أو معدوم التوكل على الله، لكنه لم يأخذ الأسباب ولم يعد العدة، والله - عز وجل - قال : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } .
كيف نواجه أعداءنا ؟ وكيف نستطيع أن نَكُوّن قوة في نفوسنا وثقة بها ؟ إذا لم نأخذ بهذا الأمر ونجتهد في تحصيله، وله طرق كثيرة ووسائل عديدة، يمكن أن نحرص عليها .
الخطوة الخامسة : التعود والتدريب
فإن الإعداد والتنظيم لا يحتاج أن يكون مرة واحدة أو فلتة عابرة، أو غلطة نادرة، بل لا بد أن نعوِّد أنفسنا في كثير من الأمور، لعلي أذكر لكم بعض الأمثلة التي تبين المقصود من هذا، إذا أردنا من أحدهم أن يتحدث في جمع من الناس، أو أن يخطب بهم خطبة وهو لم يسبق له ذلك، في أول أمر كيف تكون ثقته في نفسه، قد يكون أعد إعداداً جيداً، وقرأ والغالب أنه يصنع ذلك، ربما ليتحدث نصف ساعة قد يكون قد قرأ وأعد نفسه عشر ساعات أو أكثر، ثم يأتي ويواجه الناس، كل استعداده جيد وسيكون أداءه جيداً ولكن لأول مرة ماذا سيكون شعوره عنده شيء من الخوف وقليل من الاضطراب وبعض الارتباك، لسانه قد يلتجلج عرقه يتصبب عينه زائغة هذا أمر طبعي ليس غريباً .
لكن بعد أن يعيد هذه التجربة مرة ثانية وبعد أن يكررها ثالثة، وبعد أن تكون هذه المرة العاشرة أو أكثر من ذلك، سوف يصبح عنده هذا الأمر هيناً سهلاً، إذا أردت أن تثق بنفسك فكرِّر الأمر وتعوَّد عليه، وتدرَّب عليه سوف يصبح هذا الأمر سهلاً ميسوراً لا تفكر فيه، كيف كان يفكر في الخطبة الأولى، كأنما جبل فوق رأسه، لكن بعد أن تدرَّب وتعوَّد، إذا دُعِيَ إلى خطبة في أي وقت، بدون إعداد يمكن أن يتقدم، لأنه أحكم الأمر وتعوَّده وأصبح مَلَكة له ودُرْبة ومهارة فيه وتمكَّن منه، ولذلك لا بد لنا أن نحرص أمر التعود والتدرب على كثير مما نحتاج إليه .
الأمور الحياتية تحتاج منا إلى مثل هذا الأمر .. لنضرب أمثلة على ذلك :(/8)
فيما يتعلق بحياة الناس وأعمالهم، كثيرة هي الأعمال المختلفة في واقع الناس، المحاسبة على سبيل المثال لها نظام ترتيب معين، يبدأ فيه ا لمحاسب يخل ويخطأ يعود مرة أخرى، ثم بعد ذلك ينتظم على نظام معين .
التدريب هو تجربة ثم جاءت بعدها تجربة أخرى ثم تجربة بعدها، مجموع التجارب أوصل إلى الصواب في عدد من النقاط فجعلت هذه النقاط كأنما هي جدول أو منهج، يقال لك إذا أردت أن تنجح في كذا فافعل هذه الخطوات ( أولاً - ثانياً – ثالثاً ) ؛ لأنها جربت وعرف جوانب الخطأ والصواب فيها، ولذلك كل عمل من أعمالنا إذا أردنا أن نقوِّم ثقتنا بالنجاح فيه، فينبغي أن نحوِّله إلى تجربة نافعة متكاملة، نصوغها في صيغة خطوات أو في صورة منهج واحد ثم نسير عليها، القراءة بعض الناس ليس عنده ثقة في أنه يستطيع أن يقرأ - على سبيل المثال- الكتاب .. يملُّ فيقرأ الكتاب ثم يتركه .. يقرأ الكتاب قليلاً ثم يذهب إلى غيره، فكما قلنا إذا أعدَّ ونظَّم ثم تعوَّد وتدرَّب وأخذ بعض المهارات، هو بنفسه قد يأتي ويعلِّم الناس كيف يستطيع أحدهم أن يكون قارئاً جيداً، كيف يستطيع أن ينتفع من قراءته كيف كيف إلى آخر ذلك .
الخطوة السادسة : العمل والإنجاز
ولعلها هي خلاصة مهمة، بل هي جوهر الأمر كله، وهي العمل والإنجاز، العمل هو الذي يعطي الثقة بالنفس، الإنجاز هو الذي يعزز القوة بالقدرة على تحقيق الشيء، لأن كل ما سبق أمور إلى حد ما فيها جزء نظري، وفيها جزء يشترك فيه الناس، لكن من الذي يحقق من الذي يتقدم فيترجم التعوُّد والتدريب، أو يهيئ الإعداد والتنظيم، ويستحضر العلم والمعرفة، ويعتمد على العبادة والرجوع إلى الله عز وجل، ويستند أول شيء إلى الإيمان بالله عز وجل إذا خرج وعمل، فإن العمل هو الذي يؤدي به إلى العمل، الطالب في مدرسته، يدرس المرحلة الأولى فينجح، ينتقل إلى المرحلة الثانية فينجح ثم يُنْهي المرحلة الابتدائية وينتقل إلى المرحلة المتوسطة، متى تجده متحركاً كلما انتقل من مرحلة إلى أخرى زادته طاقة وأعطته ثقة بنفسه، الذي يتخرج من الجامعة، وعنده تقدير جيد أو مرتفع أو ممتاز تتوق نفسه إلى أن يواصل الدراسة، ما الذي جعله يؤمِّل في ذلك أو يندفع له أو يجد عنده قدرة عليه، أنه حقق مرحلة سابقة بقدرة جيدة وامتياز وجودة، فساعده ذلك في أن يعزز الثقة بنفسه فيخطو خطوة أخرى .
مشكلتنا أننا لا ننجز نريد أن نكون قرَّاء ولم ننهي كتاباً واحداً، نريد أن نكون خطباء ولم نخطب خطبة واحدة، نريد أن نكون منفقين ولم نبذل شيئاً من المال، البذل والعمل والإنجاز هو الذي يترجم هذه النظريات والأفكار إلى واقع، وهو الذي يجعلنا نستطيع أن نصل إلى نتيجة وثمرة.
كما أشرت العمل والإنجاز هو الذي يحقق الثمرة وهو الذي يبث في النفس الثقة، ويعطيها الحماسة، ويعطيها القوة لمواصلة الاستمرار في طريقها لتحقيق مرادها، وبلوغ أهدافها، وتاريخ أمتنا في هذا يؤكد لنا من خلال صفحات الأئمة والقادة والعظماء في أمتنا، إنما كانت مآثرهم مبنية على أعمالهم وإنجازاتهم، وكان تلك الأعمال التي يعملونها والإنجازات التي وفِّقوا إليها، هي التي جعلتهم يواصلون ويكثرون ويعظم رصيدهم من العمل والإنجاز حتى القادة والفاتحون كانوا يجاهدون ويفتحون أرضاً ينتصرون في معركة، فيعطيهم ذلك ثقة بالله يزيدهم حماسة يمضون في طريقهم وهكذا، فإن النفوس بطبيعتها تتأثر بما تحقق من إنجاز، أو بما يقع لها من إخفاق، وإن كان الإخفاق عند المؤمن ينزله بإيمانه بقضاء الله وقدره، وينظر فيه إلى نظر ابتلاء الله عز وجل، واحتساب الأجر عنده، فيتغير من أمر قد يكون ضاراً إلى أمر قد يكون نافعاً ، لكننا نقول : ما من شك أن الإنجاز وأن العمل الذي يثمر يعطي لصاحبه دفعة قوية، وطاقة يستمر بها .
...(/9)
الطريق إلى الشخصية المؤثرة
د. علي بن عمر بادحدح
المحتويات :
• المحطة الأولى : التميز الإيماني والتفوق الروحاني .
• المحطة الثانية : الزاد العلمي والرصيد الثقافي .
• المحطة الثالثة : رجاحة العقل وحسن الأسلوب .
• المحطة الرابعة : رحابة الصدر وسعة الخلق .
• المحطة الخامسة : الجرأة الواعية والثبات الراسخ .
• المحطة السادسة : الاستمرار والابتكار .
• المحطة السابعة : الاستغناء والعطاء .
• المحطة الثامنة : التدرج والمراعاة .
الطريق إلى الشخصية المؤثرة
المقدمة
نحمد الله - جل وعلا - أن هيأ هذا اللقاء الذي نصل به ما سلف لنا من لقاءات في سلسلة الدروس العامة التي نسأل الله - جل وعلا - أن ينفعنا بها وأن يجعلها في موازين حسناتنا ، وأن يجعلها عوناً لنا على طاعته ، إنه - سبحانه وتعإلى - ولي ذلك والقادر عليه .
ونحن كثيراً ما نسمع في أوساطنا أن فلاناً من الناس له قبول إذا تكلم وله استجابة إذا وجَّه وأرشد ، وكثيراً ما نسمع ما يتناقله الناس فيقولون إن فلاناً لكلامه أثر السحر في النفوس أو أنه يستطيع أن يغير في الأفكار ويقوِّم في السلوك ونحو ذلك ، فيقولون حينئذ أن فلاناً مؤثراً أو أن له شخصية مؤثرة ولا شك أن هذا التأثير مهم جداً ينبغي أن نعلم ابتدائاً أن التأثير نوعان :
الأول : إيجابي .
والثاني سلبي .
وحديثنا إنما هو عن التأثير الإيجابي ، ونعني به ما يحتاج الناس إليه من تعليم لجاهل أو توضيح وتبيين لمخطأ أو ردع لعاصي أو نحو ذلك مما يوجه به الناس إلى طريق الخير والاصلاح بإذن الله - عز وجل - ونحن إذاً نتحدث عن التوجيه والتعليم والدعوة والإرشاد وكيف يمكن أن تكون مؤثراً كما نحب وكما نرغب أن نراه في واقع حياتنا ، وابتداءً فإن عناصر التأثير يمكن جمعها في ثلاثة أمور أساسية :
أولاً : الميل العاطفي والقبول النفسي .
ثانياً : الإقناع العقلي والحجة العلمية .
ثالثاً : القدوة الحية والنموذج المتحرك .
العنصر الأول : الميل العاطفي والقبول النفسي
إن الناس لا يقبلون الا ممن أحبوه ومالوا إليه وانسوا به، فلذلك لا بد من هذا الميل النفسي والقبول العاطفي الذي هو المدخل الرئيس الذي يقع به القبول والتلقي والإستجابة والتأثير ، ولكن المحبة والميل وحده لا يكفي ، فقد يكون المرء محباً لآخر ، ولكنه لا يستجيب له ؛ لأنه لم يقتنع بما وجهه إليه أو لم يرى الحق فيما نبهه عليه .
العنصر الثاني : الاقناع العقلي والحجة العملية
لا بد أن يضم إلى العاطفه العقل ، ومن هنا نحتاج أيضاً إلى الإقناع العقلي والحجاج العلمي، وهذا امر مهم جداً لأن الحجة والبرهان لهما سلطان أيما سلطان ، وأيضاً ينبغي أن نعرف أن الأمران متلازمان ، فلو كان هناك ميل بلا إقناع لا تحصل الاستجابه ولو كان هناك إقناع وإقامة حجة لكان هناك نفرة ونوع من الانقباض، فكذلك لا يحصل هذا .
العنصر الثالث : القدوة الحية والنموذج المتحرك
ثم يأتي العامل الثالث وهو القدوة الحية والنموذج المتحرك فهو عامل يدعم العاملين الاولين فهو يزيد العاطفه والميل تأججاً ويزيد إحكام القناعة العقلية ويجمع بهذه الأطراف فيقع حينئذ التأثير المطلوب ونعلم أثر القوة ونشير في ذلك إلى قول ابن القيم في فوائده رحمه الله عليه قال
" علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم ، فكلما قالت أقوالهم للناس هلموا قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم ، فلو كان ما دعوا إليه حقاً كان أول المستجيب له أي ؟ هم، فهم في الصورة أدلاّء وفي الحقيقه قطاع طرق "
ثم - أيها الإخوة - نحن جميعاً نحرص على حصول هذا التأثير ؛ لأن كثيراً من الناس يشكون بأن هناك خطباً ومحاضرات ودروساً وأمر بمعروف ونهياً عن منكر ، ويرون أن التأثر والإستجابة دون هذا كله وأقل منه ، فنحن نحرص على هذا التأثير ووقعه على النحو المطلوب لأمور كثيرة .
من فوائد التأثير
الأثر الأول : حصول الأجر والمثوبة
لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم )
وقال عليه الصلاة والسلام :
( من دل على خيرٍ فله مثل أجر فاعله )
ويقع هذا الأجر عندما يقع الإمتثال الفعلي والإستجابة العملية .
الأثر الثاني : سبب لنزول الرحمة
وكذلك - أيها الإخوة - لأن انتشار الخير في الصورة العملية بالاستجابة والتأثر هو سبب من أسباب تنزل رحمة الله ورضي الله - سبحانه وتعإلى - على هذه الأمة التي ربما سارت وقتاً طويلاً في غير مرضاته سبحانه وتعإلى .
الأثر الثالث : مغالبة وتحجيم
مغالبة لأهل الباطل وتحجيماً لآثار الفساد، فالباطل صيته عالي ووسائله كثيرة وحججه متنوعة وأساليبه متباينة، وما يزال يفعل في العقول العواطف فعله، وإذا لم يحصل في ذلك ما يقابله من الحق والخير فان الامر يكون في أعظم صور الخطوره التي تحتاج إلى أن ننتبه لها.
من أضرار عدم حصول التأثير
الضرر الأول : منع إنتشار المفاهيم الخاطئة(/1)
ثم من جهة أخرى عندما لا يحصل التأثير نجد هناك بعض المفاهيم الخاطئة، وبعض الناس على سبيل المثال يحكمون بفساد الناس والمجتمعات على وجه القطع والعموم، فإذا به أحدهم يقول هؤلاء لا خير فيهم وهؤلاء لا يستجيبون، لماذا ؟ يقول : لأنني وعظتهم وأثبت لهم وأقمت الحجة عليهم ، ثم مع ذلك لم يستجيبوا، نقول قد يكون فيك الخطأ لا فيهم، وفي أسلوبك لا في تقبلهم، ومن هنا ندرك خطورة عدم حصول الأثر لأنه يفضي ببعض الناس إلى قول خاطيء ، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم : ( من قال هلك الناس هو أهلكهم ) .
أي أشعرهم هلاكاً أو أهلكَهم أي حكم عليهم بالهلاك من غير بينّة .
الضرر الثاني : الإحباط واليأس
هذا الذي يدعو ويذكِّر ولا يتصور بعض التصورات المطلوبة ، فلا يقع حينئذٍ له استجابه يقع في نفسه إحباط ربما تسلل إلى قلبه اليأس فقنِط من الناس واعتزلهم ، حينئذٍ تقل الأصوات الداعية إلى الخير وتضعف الأعمال التي تدعو إلى الإصلاح لماذا ؟ لأن فاعليها أو القائمين بها توقفوا من أثر عدم رد الفعل وقد يكون هناك خطأ عندهم ، هذه المقدمة أحببت أن أجعلها بين يدي لب هذا الموضوع في المحطات التي نقف فيها للوصول في هذا الطريق إلى الشخصية المؤثرة ، وهناك ثمان محطات أذكرها ثم أذكر ما تيسر مما عددته فيها :
المحطة الأولى : التميز الإيماني والتفوق الروحاني .
المحطة الثانية : الزاد العلمي والرصيد الثقافي .
المحطة الثالثة : رجاحة العقل وحسن الأسلوب .
المحطة الرابعة : رحابة الصدر وسعة الخلق .
المحطة الخامسة : الجرأة الواعية والثبات الراسخ .
المحطة السادسة : الاستمرار والابتكار .
المحطة السابعة : الاستغناء والعطاء .
المحطة الثامنة : التدرج والمراعاة .
ونقف عند كل واحدة من هذه المحطات على هذه الطريق علّ الله عز وجل أن يبصرنا بعيوب أنفسنا وأن يرزقنا أخذ الأسباب التي تجعل لأقوالنا وتوجيهاتنا قبولاً ، فيحصل لنا وللناس الخير لأننا لا نريد أن نأمر بالخير فلا يستجاب فيقع بيننا وبين الناس نفرة أو يقع بيننا وبينهم تنابز بالألقاب والأحكام ، وإنما هدف المؤمن الحق أن يجذب الناس معه إلى ما رأى من خير وصلاح بإذنه - سبحانه وتعإلى - .
المحطة الأولى : التميز الايماني والتفوق الروحاني
لا بد أن ندرك - أيها الأحبة - أننا عندما نتحدث عن إصلاح إسلامي وعن دعوة إيمانية، فلا بد أن ندرك أن أول أساسياتها حسن الصلة بالله عز وجل .
فلكي تكون شخصيتك شخصية مؤثرة ؛ لابد أن تكون عظيم الإيمان بالله ، شديد الخوف منه ، صادق التوكل عليه ، دائم المراقبة له ، كثير الإنابة إليه، لسانك رطباً بذكر الله، عقلك تفكر في ملكوت الله، قلبك مستحظر للقاء الله ، مجتهد في الطاعات مسابق إلى الخيرات، قائمٌ بالليل، صائمٌ بالنهار، متحرٍّ للإخلاص وحسن الظن بالله عز وجل، فإن جمعت بعض هذه الأوصاف أو أكثرها فذلك هو سر القبول الأول، فقد ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل ، فقال يا جبريل : إني أحب فلاناً فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ) .
إن القبول - أيها الإخوة - ليس بوضوح البرهان ولا بفصاحة اللسان ، وإنما بسر الأسرار وهو الإخلاص لله - عز وجل - والعبودية له سبحانه وتعإلى ؛ فإن سلفنا الصالح لما أخلصوا لله ، ولما أخضعوا رقابهم لله ، ولما ملئت قلوبهم من خشيه الله ، كان سمتهم يذكِّر بالآخرة ، وكان رؤية الواحد منهم موعظة مؤثرة ، وكان أحدهم ربما لا يتكلم الا بالكلمات الوجيزة ، فإذا بها تفتح مغاليق القلوب وترد إلى سواء الطريق ، وإذا بها تكسر الحواجز التي تحول بين الناس وبين التأثر والإقبال على الخير .
وقد وصف ابن مسعود - رضي الله عنه - صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( من كان مستناً فليستن بمن كان قد مات ؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئكم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أبر هذه الأمة قلوباً ، وأقلّها تكلفاً ، وإن الواحد منهم ليقول الكلمة يهدي الله بها الفئام من الناس ) . أي الجماعات الكثيرة .
إنها كلمات تخرج من أعماق القلوب قد مزجت بمرارة الإخلاص ... قد خلطت بقصد النية الصالحة لله - عز وجل - وبرغبة الخير للناس ، فلذلك تؤتي ثمارها .
ونحن نعلم أن الصحابة - رضوان الله عليهم - والسلف ما أثرت عنهم المقالات الطويلة ولا الخطب الطويلة ، وإنما كانت كلماتهم موجزة ، لكنها كانت في الوقت نفسه مؤثرة ، وهذا هو السر العظيم الذي يلقيه الله - عز وجل - لكل من كان له عابداً .. سئل الحسن : ما بال أهل الليل على وجوههم نور ؟ فقال : " خلوا إلى ربهم فألبسهم من نوره " .(/2)
وهكذا - أيها الأحبة - ينبغي أن يعلم الدعاة والمصلحون أن أساس القبول إنما هو في هذا المجال الأساسي والركن الركين ، ولذلك إن تحقق المرء بهذا ؛ فإنه قد حاز عنوان الفلاح وشمس الصلاح ، وحاز أيضاً مفتاح النجاح ؛ لأنه تحقق في معنى العبودية لله - عز وجل - .
وهي - أي العبودية - جالبة التوفيق ، فإذا الداعية – حينئذ - مسدَّد ، إن عمل أجاد ، وإن حكم أصاب ، وإن تكلّم أفاد ، ومثل هذا هو الذي ذكره سلف الأمة في الصالحين المصلحين الذين تذكرك بالله رؤيتهم .
ولا بد أن ندرك أهمية هذا الأمر ، وأن نعرف ما كان عليه هدى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن العظيم ، وليس هذا مجال البسط ، فنحن نعلم من ذلك الكثير الكثير ، وأنتم تعلمون أيضاً ، ولكننا نورد الأمثلة والتي إنما هي للإشارة إلى ما وراءها من غيرها .. فقد كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ، فتقول له عائشه رضي الله عنها : لم تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! فيقول : أفلا أكون عبداً شكوراً .
ونعلم قول عائشة رضي الله عنه في وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - في العشر الأواخر إذا دخلت شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله .
وكان - صلى الله عليه وسلم - أعظم المؤمنين خشية ، وهو القائل : ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ) .
وهو الذي كان يخرج في ظلمات الليل من المدينه يزور أهل البقيع يودعهم وداع المفارق ، ويدعو لهم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - أرفع الناس قدراً في التعلق بالله ، وترفعاً عن الدنيا ، وقد قال لأبي ذر - رضي الله عنه - متمثلا فيما ينبغي أن يكون عليه ارتباط العبد بالله ، والبعد عن التعلق بالدنيا : " والله ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً تمضي عليه ثلاثة أيام وعندي مئة دينار الا شيء أرصده لدين الا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا " .
وجويرية بنت الحارث أم المؤمنين - رضي الله عنها - تقول : ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً ، أي من أعمال الخير .
وهذا كله يدلنا على أن القبول ينبغي أن يؤسس على تميز في هذا الجانب الإيماني المهم .
المحطة الثانية : الزاد العلمي والرصيد الثقافي
فإن أثر الإيمان في النفس من صلاح وخشية ، لا بد أن يعضده عند التأثير كما قلت الجانب الآخر وهو الحجة والبرهان والدليل والتعليم والإرشاد المبني على العلم بكتاب الله وبسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يشفي علة كل سائل ، ويروي غلة كل ظمآن بما كان عنده إجابة عن التساؤلات وحلول للمشكلات ، وهو عدتك التي تعلم بها الناس وتبين لهم أحكام الشرع وتبحرهم بحقائق الواقع ، وتكتسب به القدرة على الإقناع وتفنيد الشبهات، فإن عند الناس كثيراً من الأقوال الخاطئة والمفاهيم الخاطئة تحتاج إلى العلم الذي يُدحض بنور القران والسنة ظلمات الجهل والشك الذي يحيط بالناس .
فلذلك وبهذا العلم أيضاً تكون متفنناً في العرض ومبتدعاً في التوعية والتعليم ، وهذا العلم رصيد لا بد منه وزاد لا يمكن الإستغناء عنه ، وهو أحد المعالم المهمة التي تكسب الداعية تأثيراً في الناس ؛ لأن الناس - كما قلت - تمر بهم العوارض فيحتاجون إلى حكم الله عز وجل فيسئلون فيجدون الجواب الشرعي الصحيح الذي يجعلهم يتعلقون بهذا الداعية أكثر ، ويتعلقون بتصوره تعلقاً أكبر وتجعلهم يستفيدون من هذا العلم ويشعرون بحاجتهم إليه فيقبلون بمزيد من الإقبال عليه حتى يستفيدوا وينتفعوا .
وصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بيّن النبي - عليه الصلاة والسلام - تميُّزهم في كثير من العلوم حتى يبين أن هذا التميز له أثره ، فقد خص ابن عباس - رضي الله عنه - بدعوته العظيمة لما قال له النبي - عليه الصلاة والسلام - بعد ان ضمه إلى صدره : ( اللهم علمه الكتاب ) .
ونحن نعلم الحديث المشهور : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) .
فالفقه في الدين خيرٌ كله، ومن خيريته أنه يكون له أثره في تعليم الناس وإرشادهم ، وكذلك نعلم من الصحابة علم الحلال والحرام عند معاذ بن جبل ، والقراءة والتلاوة عند أبي بن كعب ، والفرائض والمواريث عند زيد بن ثابت ، والقضاء والحكم عند علي بن أبي طالب ، وغير ذلك مما اشتهر به الصحابه - رضوان الله عليهم - وقد قال القائل في وصفهم :
" قد كان أحدهم مثل الإخاذ يرتوي منه الرجل والرجلان ـ يعني مجرى الماء الصغير ـ ومنهم من هو أكثر من ذلك ومنهم كالغدير يقبل عليه القوم ثم يصدرون عنه وهو ما يزال ثراً يعطى منهم ابن عباس رضي الله عنه " .
وهذا كما قلت أمر واضح و التمثيل له لا يحتاج إلى مزيد مقال .
المحطة الثالثة : رجاحة العقل وحسن الأسلوب(/3)
وهذا من أوسع الأبواب وأهمها رجاحة العقل فلا سذاجة تضيع بها معاني الريادة ، فلا يمكن أن يكون المؤثر ساذجاً ليس عنده ذلك الاتزان والاتصاف برجاحة العقل ولا غضب يشوِّه صورة القدوة ولا طيش ولا خفة تطمس معالم الهيئة ، ولنا أمثلة كثيرة في من سلف من علماء هذه الأمة الذين وضعوا لنا نماذج في مواقفهم من خلال ما كانوا يتصفون به من رجاحة عقل وحسن أسلوب ، وصاحب العقل هو المقدم في الترجيح عند اختلاف الآراء وهو المحلل والمدلل إذا فقد أملاك الناس للتصورات ، وهو الذي يحسن ترتيب الأولويات واختيار الأوقات واستغلال الفرص والمناسبات وحسن التخلص من المشكلات والقدرة على التكيف مع الأزمات.
كل ذلك مفتاحه رجاحة العقل وحسن الأسلوب، ولذلك فهذا أثره في قوة الحجة العقلية والذكاء المتوقد الذي أذكر بعض أمثلته كما ذكر شارح الطحاوية وغيره أيضاً، أن أبا حنيفة - رحمه الله كان يجادل قوماً من الملاحدة فقال لهم : ما تقولون في رجل يقول لكم اني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملؤة من الأثقال قد احتوتها في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة وهي من بينها أي من بين هذه الأمواج تجري مستوية ليس لها ملاح يجري بها ، ولا متعهد يدفعها ، فهل يجوز ذلك في العقل ، قالوا لا يقول بذلك عاقل ، فقال : يا سبحان الله ان لم يجد في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهِّود ولا مُجري فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ ! فبهت القوم ، أي بهذه الإقناع العقلي والحجة البينة .
وقديماً قال الأعرابي :
" البعرة تدل على البعير والأثر يدل المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج أفلا تدل على اللطيف الخبير ؟! " .
إن الذكاء والفطنة - لا شك - أنه من أعظم ما يلفت النظر ، ويسلب العقول ، ويقنع المستمع بهذا كله ، ثم من رجاحة العقل حسن الأسلوب .
نماذج من الأساليب الحسنة
1 ـ أسلوب المقارنة
لأن هذا الأسلوب يبين الشيء ونقيضه، فبتدو حسنات المحسن وسيئات المسيء ، وحينئذ يعرف الإنسان ما هو فيه من خطأ ، وما يترتب عليه من آثار وخيمة ، ويعرف ما فاته من خير ، وما فاته فيما يترتب عليه من آثار حسنة ، ولذلك كان هذا من نهج القرآن ، كما في قوله تعإلى : { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } .
هذا في النور والحياة وذاك في الظلمة والممات ، وكذلك يقول الله جل وعلا : { أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خيٌر أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نا رجهنم } .
ولذلك لا بد أن ندرك خيرات الإصلاح ، وأن نعرف ويلات الفساد ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - استخدم هذا الأسلوب في المثل الذي بينّه لنا لما قال : ( مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ) .
حتى كما يقول القائل وبضدها تتميز الأشياء ، وقال - عليه الصلاة والسلام - في حديث أبي موسى المتفق عليه : ( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت ) .
ويقول الله - جل وعلا - في محكم كتابه : { من عمل صالحاً من ذكر أو انثى فلنحيينه حياة طيبة } .
في مقابل ذلك يقول الله جل وعلا : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامه أعمى } .
عندما نخاطب الناس بالدعوة إلى الخير علِّمهم أن الخير خيرٌ لهم في دنياهم وخيرٌ لهم في أخراهم ، وإنهم يجدون بذلك طمأنينة القلب وسعادة النفس والبركة في الأوقات والزيادة في الأموال ؛ فإن الله - عز وجل - قد جعل آثار في هذه الحياة الدنيا .. { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً ـ يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً ) .
ولذلك عندما تدعو الإنسان الذي قد أسرف على نفسه في المعاصي ، وفُتن بأهل الشهوات أو بأهل الكفر ؛ فإنك تدعوه إلى شيء من المقارنة عند مؤمن سكنت نفسه وتعلق قلبه بالله فلا يتشتت ولا يتشكك ، عند مؤمن تعلق قلبه بالآخرة فليس خارجاً في أودية الدنيا يجري وراءها ويلهث كما يلهث الكلب ، عند مؤمن قد عف نفسه وابتعد عن الآثام والشهوات المحرمة فعصمه الله - عز وجل - بإذنه من الأمراض والأدواء والأسقام ، عند مؤمن عف نفسه عن أهوال الناس وعن الأموال المحرمة تبارك الله له في ماله وفي ولده وفي رزقه ، وانظر في المقابل بعد ذلك إلى قوم هو أي هذا المتسمع؟ ربما فتن بهم أو فعل بعض أفعالهم انظر إلى ما عندهم من حيرة أو قلق وإلى ما في مجتمعاتهم من تفسخ وانحلال وإلى ما شاع في بيئاتهم من عدوان وإجرام وإلى ما وقع في نفوسهم من انطماس لمعاني الإنسانية وانهيار معاني الأسرة ، هذه المقارنة - لا شك - أنها أسلوب يدل على رجاحة العقل ويقضي بالمرء أن يفكر في معالي الأمور .
2 ـ التقرير(/4)
وكذلك أسلوب آخر وهو أسلوب التقرير وهو من الأساليب المهمة التي تدل على الفطنة والذكاء ورجاحة العقل، الله - جل وعلا – يقول : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ـ أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون ـ أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون } ، إلى آخر الآيات حتى قال جل وعلا : { أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون } .
هذا التقرير خُلقوا من غير شيء كلهم يقولون لا، خلقوا السماوات والارض كلهم يقرون بلا، إذاً بهذه المقرَّرات والمسلَّمات نصل إلى إثبات ما وراءها مما كان ينكره الناس أو لا يعرفون حقيقته أو يجهلون مزيته ، ولذلك أيضاً يقص الله علينا خبر إبراهيم الخليل - عليه السلام - داعية من الرسل والأنبياء يميِّز بالحصافة ورجاحة العقل ، فالله سبحانه وتعإلى يقص علينا خبره بقوله : { واتل عليهم نبأ ابراهيم * إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون* قال افرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدوٌ لي الا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين )
إلى آخر الايات، فاستخدام ما هو مقرَّر عندهم ، قررهم هل يسمعونكم إذ تدعون ؟ فيجيبون : لا ! ، هل ينفعونكم أو يضرون ؟ سيجيبون : لا ! ، إذاً ما دمتم قد عرفتم ذلك فاعرفوا ما وراءه من الحق ، ولذلك استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأسلوب ، فكان أعظم أسلوب في الإقناع العقلي والإشباع العاطفي في الوقت نفسه .
جاء رجل إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال : يا رسول الله إن امرأتي جاءت بهذا أي بغلام أسود - كأنه ينكر أن يكون منه - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل لك من إبل ؟ قال : نعم ، قال : ما لونها ؟ قال : حمرٌ يا رسول الله ، قال : فهل فيها من أورق ؟ قال : نعم قال : فكيف جاء هذا الأورق من هذه الإبل الحمر ؟ قال : يا رسول الله لعله نزعه عرق ، قال : فلعله .
أي فلعل هذا أيضاً نزعه عرق .
قرره بشيء يعرفه وبحقيقة يدركها ثم اثبت له ما وراء ذلك ، فسلم واقتنع ورضي ، وزال من نفسه ذلك الشك ومحيت تلك الريبة .
وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الامام أحمد - في قصة الشاب من الأنصار الذي جاء إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - يستئذنه في الزنا ، وما أعظم هذا عندما تتصور أن هذا جاء إلى رسول الله يستئذنه في ارتكاب الفاحشه ، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ما نهره ولا قال هذه شهوات آثمة ولا ولا ، وإنما قال له بأسلوب هين لين : أترضاه لأمك ؟ قال : لا، قال : ولا الناس يرضونه لأمهاتهم ، أترضاه لإبنتك ؟ أترضاه لأختك ؟ أترضاه لخالتك ؟ في كل ذلك يقول : لا ، ثم ضرب النبي - عليه الصلاة والسلام - على صدره ودعا له أن يطهر الله قلبه ، فشفاه الله من هذا ببركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام .
وبهذا الأسلوب التقريري الذي يقيم الحجة على الإنسان من غير ما مراوغة ، وكذلك استخدام الصحابة بل نساء الصحابة هذا الأسلوب ، وفي ذلك مثلٌ عظيمٌ في قصة أم سليم - رضي الله عنها- لما كان ابنها مريضاً ثم توفاه الله - عز وجل - فجاء زوجها فتصنعت له وتحسنت حتى غشيها ، ثم بعد ذلك ، قالت له أرأيت قوماً أخذوا من قوم عارية ثم جاء أصحابها فطلبوها فيهم أيردونها لهم ؟ قال : نعم، قالت : فإن الله قد استرد عاريته فاحتسب ابنك ، فمهدت بهذا التقريب وبهذا الأسلوب . فإذاً لا بد أن يكون هناك هذه الأساليب .
3 ـ التسليم والإبطال
أسلوب التسليم والإبطال تسلم بالأمر الذي لا يسلم لا لشيء ولا لكونه حقاً ، ولكن لأن لا تخرج إلى مهاترات جانبية ، وقضايا هامشية ، ونزاعات فرعية ، وتترك الجوهر الذي ينبغي أن تصل إليه ؛ فإن أهل الباطل يأتونك بأمور عارضة ، وبقايا صغيرة حتى تنصرف عن إثبات الأصل الأصيل والركن الركين لا بد أن تفطن أن الأصول هي التي إذا قررت قادت الناس إلى قبول الفروع وهكذا ، لذلك تجد في قصة إبراهيم الخليل - عليه السلام - لما قال الله عز وجل : { ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربيَ الذي يحيي ويميت قال أنا أحي وأميت } .
ما توقف إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - عند هذا وقال كيف تحي وتميت ورد وهذا ليس بإحياء ، لم يحصل ذلك منه بل تجاوز هذه النقطة وسار معه حتى تنقطع به حجته ، قال : أنا أحي وأميت ، { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } .
والأمر ليس للمعاندة وإنما انظر إلى أر هذه المناظرة في الناس الذين يسمعون وينظرون ويبصرون ، وكذلك في قصة موسى عليه السلام التي ذكر الله عز وجل في صورة الشعراء كلما جاء فرعون بمخرج قص موسى في طريقه في اثبات الربوبية والألوهية لله وإبطالها عن فرعون : { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } .(/5)
ما رد عن فريته أو ادعاءه أو اتهامه له بالجنون ، بل كلما انصرف إلى صارف ما زال موسى - عليه السلام - يقرر هذه الحقيقة وهذا من رجاحة العقل ، أما ضعيف العقل فكلما قيل له أمر رد عليه ، وكلما فتحت له قضية ناقشها وهذا يجعله يفوه ويدور ويضيع في هذه الحلقات المفرغة ، ويقول بعد ذلك : إن الناس لم يستجيبوا وهو الذي شوَّش على نفسه وشوش على غيره ، ولم يحصل من وراء ذلك شيء .
4 ـ الإسرار لا الإشهار
وهذا أسلوب اتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكره سلف الأمة فقال قائلهم وهو الفضيل بن عياض رحمه الله عليه : " مؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويفضح " .
فلا شك أن العاقل اللبيب لا يمكن ان يتوقع من الناس ان يقبلوا منه وهو يشهر لهم ويفضحهم على رؤوس الاشهاد ، إن النتيجة شبه الحتمية في مثل هذا الموقف Hن ذلك المخطئ سيصر على خطأه ، بل سيجاهر به ، بل سيحارب وينافح ليبقى عليه ، والأمر لو كان على غير ذلك لكان له أثره كما قال الشافعي رحمة الله عليه : " من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه " .
وكذلك فعل الصحابة - رضوان الله عليهم - لما طلب بعضهم من أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن يكلم عثمان في بعض الأمور ، ثم قالوا له ألا تكلمه ، فرد عليهم رداً فيه درساً وعبرة قال : " ألا ترون أن لا أكلمه الا أن أسمعكم " .
هل لا بد أن أنصحه أمامكم ؟ هل لا بد ان أعلن بأنني اليوم أنصح فلاناً أو سأعظ فلاناً ؟ ، ذاك بيني وبين الله وسرٌ بيني وبينه ليكون أدعى إلى القبول .
5 ـ التلميح دون التصريح
وهو نهج النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يقول : ( ما بال أقوام يفعلون كذا ) يكني ويعرض حتى لا يحدد الأشخاص وما فائدة التحديد إن الناس يريدون أن يعرفوا الأمر وبطلانه ودليل ذلك البطلان ؛ فإن فعله زيد أو عبيد فقد عرفوا الحكم وعرفوا الدليل ، وهذه المعرفة تغنيهم عن الفاعل لهذا الأمر في أكثر الأحوال ، وفي بعضها حالات معينه قد يكون هناك ما يستدعي ذلك ، لكن الأشهر والأكثر هو أن هذا النهج هو الذي كان نهج النبي عليه الصلاة والسلام على غرار قول القائل : " إياك أعني واسمعي يا جارة " ، فالمقصود هو المنكر بغض النظر عن فاعله ، ومن خلال هذا التعريض والإسرار يمكن أن يعرف الباطل من طريق لا يحصل به غضب المخطئ ولا تعصبه لفعله ولا إصراره عليه ، والتصريح في أكثر الأحوال يهتك حجاب الهيبة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج على الأحرار .
ولذلك من لطائف ما ذكر ابن حجر - رحمه الله عليه - في ما أورده من الأحاديث في تعليقه على أحاديث كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة في آخر كتاب البخاري :
أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله الصحابة فأكثروا الاسئلة ، فرقى المنبر فقال : سلوني سلوني وهو يتكلم تكلُّم المغضِب ، فقام رجل من القوم فقال يا رسول الله : أين مدخلي، فقال : النار )
علق ابن حجر قال ولم يعرف له اسم قال : " ولعلهم ستروا عليه، وهذا رضي حكم النبي - عليه الصلاة والسلام - بأنه من أهل النار ومع ذلك ستروا عليه ولم يشهروا به " .
فكيف قد وقع في خطأ ، أو زلت به قدم ، أو وقعت له غفلة ؟ كيف يمكن أن نشهر به أو أن نحكم عليه أو أن نصمه عياذاً بالله بفسق أو بتبديع أو بكفر من غير حجة ولا بينة ومن غير أخذ طريق الإصلاح الذي دلنا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك أيضاً نعرف من هذا حوادث كثيرة .
6 ـ أسلوب الرفق لا العنف
ورد في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها : ( ما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع منه الا شانه ) ، أو كما في معنى الحديث .
ونعلم جميعاً قصة الأعرابي الذي بال في المسجد فأراد الصحابة أن ينهروه ، فقال النبي : لا تزربوه ، وفي رواية : لا تقطعوا على الأعرابي بولته ، وهذا تعليم من النبي - عليه الصلاة والسلام - لضبط الصحابة ، وكبح جماحهم ، ولإعطائهم صفة الإتزان ، ثم لما قضى الإعرابي قال للصحابه ولم يقل للاعرابي : اهريقوا على بول الأعرابي ذنوباً من الماء ، هم الذين يغسلون بولته حتى يعلمهم كيف تكون التؤده وحسن التصرف ، ثم قال له : إن هذه المساجد بيوت الله لا تصلح أو لا يصح فيها شيئاً من الأذى .
وهكذا نجد بعض الناس عندهم حمية زائفة تجده يريد أن يقول .. يريد أن ينهي عن المنكر أو يأمر بمعروف أو أن يبين غيرته أو أن يؤثر في الناس ، فكلما وقع خطأ صغير هاج وماج وأرغى وأزبد وأقام الدنيا ولم يقعدها ، وليس الأمر كذلك ولا أثر في غالب الأحوال من وراء ذلك، وبعض الناس غيرته مدفوعة فإذا وقع أمر وأراد أن يتلطف جاءه من يقول له ويحك ألا ترى هذه المنكرات ، وأنت أصم أخرس أو أنت كذا ، يقول : أريد أن أقول بالحسنى أريد أن أسر بالنصيحة فيأتيه من يقول : أنت متميّع أنت متكاسل .. أنت متهاون .. فما يزال يدفع حتى يخرج عن هذا الاتزان والأسلوب ونحو ذلك .(/6)
أيضاً هناك إستدلالات خاطئة تقع في هذا، فعندما يكون امرؤ يعني يأخذ بهذه الأساليب ورجاحة العقل ويلتمس الطرق الناجعة المؤثرة ، يستدل بعض الناس على أنه لم يقم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد قلنا ما قال أسامة أترون أني لا أكلمه الا ان أعلمكم ؛ فإن هذا أمر يحتاج إلى هذه الإرشادات أو الإلماحات التي ذكرتها .
المحطة الرابعة : رحابة الصدر وسعة الخلق
وذلك ليستوعب الداعية الناجح من حوله من الناس ؛ فإنه كما أثر : ( لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن تسعونهم بأخلاقكم ) .
ولا بد أن تعرف أن للناس مطالب كثيرة وتساؤلات عديدة تحتاج منك إلى الإحتمال وكما قيل الإحتمال قبر المعايب،وسعة الأخلاق هي التي تربط الناس وتؤثر فيهم،وقد جاء من ذلك من هديه عليه الصلاة والسلام وإرشاداته الكثيرة مما يصعب حصره ويصعب حتى ذكر بعضه وإنما نذكر في عجالات سريعة .
فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مثالاً لهذا الأمر في رحابة صدره وسعة خلقه ، فهذا أنس يخبرنا أنه خدم النبي - عليه الصلاة والسلام - عشر سنين ، وطبيعة الخدمة والخادم أن يُؤمر وان يُنهى وأن يُعاتب وأن يُلام وأن يُعاقب وأن يُزجر، قال : " فما قال لي قط أفٍ قط ـ طوال عشر سنين - وما قال لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله هلاّ فعلته " .
فتأمل كيف كان يوجهه ؟ وبأي أسلوب كان يأمر ؟ إنه أسلوب العظة المؤثرة من غير ما هذه الزوايا الحادة والأوامر الصارمة ، وبذلك الأسلوب العظيم الذي كان له - صلى الله عليه وسلم - وفي الصحيح عن أنس : أن أعرابياً جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وعليه بردٌ نجراني غليظ الحاشية فجذبه أي جذب الأعرابي النبي - عليه الصلاة والسلام - من برده حتى أثرت حاشية البرد في النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول له : مر لي بعطاء ، يعني يريد أن يأخذ عطاء أو استجداء ويأتي بهذا الأسلوب فماذا فعل النبي - عليه الصلاة والسلام - ؟ تبسم في وجهه وأعطاه .
لو أن أحدنا وقع له هذا لما كان منه الا أن أحاط يده ، وربما رد عليه رداً يجعله أكثر نفوراً ، وهكذا ينبغي أن نجد من آثار هذه الرحابة والسعة في التأثر والشفقة ، الداعية الناصح الواعظ لا بد أن يكون شفيقاً يتقطع قلبه حزناً على معصية العاملين وإعراض المعرضين ، لا يفرح كما يظن بعض الناس : " هؤلاء عصاه زجرتهم فلم يتعظوا أهلكهم الله " ، و كما يقول بعض النا س أيضاً باللهجة العامية : " في ستين داهية " ونحو ذلك .
كل هذا لا يمتثل هذه المعلم المهم في جذب الناس .
والله – سبحانه وتعالى – قد خاطب النبي - عليه الصلاة والسلام - ووصفه في القرآن فقال : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } ، أي مهلك نفسك ومقطعها لا لشيء إلا لأنك تريد هداية الناس ، وقال جل وعلا : { فلا تذهب نفسك حسرات عليهم } ، نهاه الله لما رأى شدة حزنه وإشفاقه على أولئك .
وفي الحديث الصحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : " كأني انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكى نبياً من الانبياء ضربه قومه فأدموا وجهه ويقول وهو يمسح الدم عن وجهه : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " .
هذه هي الشخصية التي تستوعب الناس .. تستقطبهم تجذبهم كما يجذب المغناطيس برادة الحديد، ولذلك أيضاً نجد الشفقة في حديثه عليه الصلاة والسلام : ( لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ) .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل يحب أن يعمل به خشية أن يفرض على الناس .
فما بالنا نجد بعض الناس يحنث ويشدد على الناس ، ويلزمهم بما لا يلزمهم أو بما لم يُلزمهم به الشرع !! هذا أسلوب يدلنا على رحمة في القلب وشفقة في النفس تجعل المرء الناجح محباً ومشفقاً على المنصوح فيقع لذلك أثره العظيم المهم .
ولذلك أيضاً نذكر المثل الذي ورد في حديث جابر قال : غزونا مع النبي - عليه الصلاة والسلام - غزاة قِبَل نجد ، ثم جئنا إلى وادٍ كثير العضاة فنزلنا فيه أي من شدة التعب ، وجعل الناس يستظلون بالشجر ، واستظل رسول الله بشجرة فنمنا نومة فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا وعنده أعرابي ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : إن هذا الرجل اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده نصله ، فقال من يمنعك مني، فقلت : الله ثلاثاً فسقط السيف من يده ، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم .
كل هذا يدل على النفسية التي ينبغي أن نتصف بها إذا أردنا أن نؤثِّر في الناس ، لا بد أن ندرك ذلك ،وقد قال بعض السلف في وصف بعض العلماء والأئمة ، وهو أبو إسحاق الشيرازي قال :
" صحبته فشاهدت من حسن أخلاقه ولطافته وزهده ما حبّب اليّ لزوم صحبته فصحبته إلى أن مات " .(/7)
والناس يلتفون حول من يعين محتاجهم ويغيث ملهوفهم - كما سنذكر أيضاً - فهذا المعلم مهم جداً .. سعة الصدر .. تقبّل الأخطاء .. تجاوز عن التسرُّع ، ولا تكون سريع الغضب تموج في محاجَّتك ، وإنما ينبغي أن نقف على هذا المعلم الذي أشرت إليه .
المحطة الخامسة : الجرأة الواعية والثبات الراسخ
الناس - أيها الإخوة - في الملمات يجمحون ويتقدم الداعية الناصح الواعظ ، تتقدم به جرأته في الحق مصحوبة بحكمته في التعرف ، فإذا هو حينئذ محط الأبصار ومتعلق القلوب ، يصفه الناس بالشجاعة والإقدام ، وعندما تحل المصائب وتقع الأزمات ينفرط عقد الناس ويتخاذل كثيرون فيثبت حينئذ هذا الداعية الناصح المتصل بالله - عز وجل - ويكون ثباته بمثابة استقطاب للناس ، وتأثير فيهم وردعهم عن نكوصهم وتثبيتهم على إيمانهم، ولذلك هذا أمر مهم جداً أن يكون الداعية أو هذا الناصح متميزاً بهذه الجرأه لكنها جرأة وليست جرأة متهورة ولذلك ثباته لا يعتريه تلون ولا تراجع .
فانظر على سيبل المثال في سيرة المصطفى - عليه الصلاة والسلام- ما ورد في حديث أنس أن الناس فزعوا يوماً في المدينة على صوت صارخ في الليل، ماذا يصنع الناس في مثل هذا الموقف كل واحد يتلصص بالنظر فينظر هل تحرك غيره فاذا رأى أن هذا تحرك وهذا تحرك وهذا ينتظر هذا وهذا ينتظر هذا، فتجمعوا ليزيل بعضهم خوف بعض ، أما أن يتقدم أحدهم فهذا غالباً ما يكون متصفاً به المقدام منهم، قال : " سمع الناس صوت صارخ قال : فخرجنا ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم راجع من قبل الصوت على فرس عرِيِّ لأبي طلحة ـ أي من غير سرج - وهو يقول للناس : لن تراعوا ، لن تراعوا " .
يوم حنين يوم هاج الناس وماجوا وارتد أولهم على آخرهم وانفرط العقد ، كان النبي - عليه الصلاة والسلام - على بغلة ـ والبغلة لا تجري ولا تسرع وليس مناسبة للفرار - فثبت النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو يقول : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ، ونادى العباس : هلموا هلموا فكان ثباته هو بؤرة التجمع .
وعلي يقول : " كنا إذا حمي الوطيس واحمرَّت الحُدق نتِّقي برسول الله - صلى الله عليه وسلم-" ، في المقدمة وليس في المؤخرة .
وعائشة - رضي الله عنها - بينت لنا مثل هذه الأوصاف في مواضع شتى ، ويحتاج الناس إلى هذه الجرأة عند المواقف الحاسمة والملمات العصيبة .
وانظر - رعاك الله - إلى موقف ابي بكر - رضي الله عنه- عندما مات المصطفى - صلى الله عليه وسلم- فطاشت العقول لهول المصيبة ، حتى قال عمر : من قال أن محمداً قد مات ضربته بسيفي هذا ، والله ما مات رسول الله وإنما ذهب إلى لقاء ربه كما فعل موسى عليه الصلاة والسلام ، وذُهل الناس واضطربوا ، فجاء أبو بكر - رضي الله عنه- طود إيمان شامخ وصاحب يقين راسخ ، فقال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " ، وقرأ : { وما محمدٌ الا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } ، قال عمر رضي الله عنه : والله لكأني ما سمعتها إلا يومئذ .
فقد كان أبو بكر أعظم حباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة أجمعين ، وكان أشدهم قرباً له ، ولكنه كان في الوقت نفسه أعظمهم إيماناً فكان هذا الموقف الذي يحكيه بعض الصحابة في وصفه قائلاً : " كنا عند موت الرسول - عليه الصلاة والسلام - كغنم في ليلة مطيرة شاتية ، حتى جمعنا الله بأبي بكر رضي الله عنه " .
ونعلم قصة الفتنة والمحنة وخلق القرآن وما حصل فيها من فتنة الناس ، ومن موت بعض العلماء ، ومن إجابة بعضهم وغير ذلك ، حتى ثبت الإمام أحمد - رحمة الله عليه- حتى قال القائلون : " أبو بكر يوم الردة وأحمد يوم المحنة " .
ثبت وحده ويُروى أن بعض أصحابه جاء له يدعوه إلى التخلص يا أبا عبد الله إن لك أبناء وإن لك كذا، وإن في الرخصة مندوحة، فقال له : " إن كان هذا عقلك فقد استرحت " .
وثبت - رحمة الله عليه- وهنا جاء الاستقطاب ، وهكذا كانت شخصيات الأئمة والعلماء والدعاة والمصلحين ، هذا ابن تيمية - رحمة الله عليه ورضي الله عنه - أيضاً، وقف هذا الموقف الشجاع الجريء في موقفه في تحريض المؤمنين على قتال التتار ومجاهدتهم، ولما حلّت به بعض النكبات والمصائب قال : " ما يفعل أعدائي بي ؟ أنا جنتي في صدري ، إن سجني خلوة ونفي سياحة وقتلي شهادة " .
هذه الجرأة الواعية والثبات الراسخ لا شك أنه في مثل هذه المواقف قد بلغت القلوب الحناجر وانحدجت الأبصار وذهلت العقول، أما الانسان الذي يريد للناس أن يتأثروا به وهو على غير هذه المراتب العليا والصفات المثلى فذلك أمر بعيد، الأمر في هذا طويل والأمثلة كثيرة وهذه الأمثلة في الحقيقة لها أثر عظيم في تذكير الناس بالقدوات وتأثيرهم عند الملمات .(/8)
في أحد لما حصل ما حصل مر بعض الصحابة بأنصاري يتشحط في دمه يتخبط في دمه على وشك الموت، قال هذا الصحابي للأنصاري أما شهدت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات ، في هذا الموقف ماذا عساه أن يقول وهو في عداد الأموات تقريباً ؟ قال : " إن كان محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات فقد بلّغ فموتوا على مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
جرأة وثبات في المواقف العصيبة، وهكذا كما قلت أمثلة كعبد الله بن حذافه السهمي وأمثلة أخرى كثيرة يطول ذكرها .
المحطة السادسة : الإستمرار والإبتكار
تريد أن تؤثر في الناس بمجرد أن تعقد لهم أسبوعاً تعظهم فيه .. لا نثقل عليهم في المحاضرات والدروس في الصباح والمساء ، ثم نقول أو يقول القائل لم يستجيبوا أو نحني عليهم باللائمة هؤلاء قوم لا يسمعون لا يستجيبون لا ينتفعون ، ليست المسالة موعظة واحدة وحسب وإنما استمرار : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } ، وتنويع في الأساليب : { إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً } ، وقد قال الله - عز وجل - في قصة نوح : { ثم إني أعلنت وأسررت لهم إسراراً } ، نوّع في أساليب الدعوة ، وغيَّر وابتكر واستمر ألف سنة إلا خمسين عاماً ، أما أن نريد التأثير في الناس ونحن نقتصد من أوقاتنا ، ومن بعض جهودنا النذر اليسير ، ثم نقول ليس هناك تأثير هذا - لا شك - أنه أمر ليس مقبول ، لذلك العمل المنقطع يتبدد أثره والعمل المتكرر على نفس المنوال يبعث الملل ويُفقد الحماس ، أما تنويع الأساليب فهو باعث على التشويق ، ودليل على الإثراء ، وفيه تحريك للنفس وتنويع الأساليب والمداخل .
بعض الناس له مدخل بالدرس العلمي ، ويعظهم بالموعظة الإيمانية ويعظهم بالتربية السلوكية ، ويعظهم كذا ويعظهم كذا فلا بد من هذا كله ، فانظر إلى أثر الإستمرار الذي يقع به التغير .
وأضرب مثلاً لما سبق أن أشرت إليه، الإمام أحمد لما ثبت في المحنة ، بعد ذلك في فترة من الفترات منع أن يشهد مع الناس الصلاة وأن يتحدث إليهم، لم ينقطع لم يعتكف لم يترك بعد ذلك الإستمرار وإنما استمر حتى سبحان الله خليفة وبعده خليفة حتى أذن الله عز وجل أن يبارك في أثر جهده بهذا الإستمرار، وجاء بعد ذلك المتوكل واستجاب للسنة ومكَّن للإمام أحمد من أن يغيّر ما كان في الباطل ، وكانت بعد ذلك الصورة المغايرة لما كان قبل ذلك من الإعراض عن هدي الرسول - عليه الصلاة والسلام - وسنته .
وهكذا ينبغي أن ننوع كما نوّع النبي - عليه الصلاة والسلام - فقد ضرب الأمثال ، وقصّ القصص ، وصور بالأساليب الإيضاحية كما خط خطاً مستقيماً وعلى جانبيه خطوطاً مائلة ونوَّع في الأمثلة .كما في حديث الجدي الأسك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من يشتري هذا بدرهمين ؟ ثم قال : من يشتريه بدرهم ؟ قالوا : يا رسول الله والله لو كان دون ذلك لما اشتريناه ، فقال : لهوان الدنيا على الله أهون من هذا على أحدكم .
وهكذا نجد التنويع في أساليب كلام النبي - عليه الصلاة والسلام - ونجد الإبتكار فيها ، وكذلك نحن نمت إلى عصر تنوعت فيه الظروف واختلفت فيه مجريات الحياه فينبغي أن ننوع ، وأن نستمر مع هذا التجديد الذي يحصل به الكثير من الفوائد التي نحتاج إليها .
المحطة السابعة : الإستغناء والعطاء
أن تستغني عما في أيدي الناس وتعطيهم مما عندك هذا هو أحد مفاتيح التأثير العظمى ، ونعلم أن القصص القرآني في دعوة الأنبياء قد جاء فيه قول الرسل والأنبياء في أن دعواهم لا يرجون من وراءها مالاً ولا أجراً منهم ، فقال الله - عز وجل - على لسان الأنبياء في ذلك قولاً واحداً : { وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري الا على رب العالمين } .
إذا علم الناس أنك تنظر إلى أموالهم أو أنك تنظر إلى شفاعتهم أو أنك تنظر لبناءهم ؛ فإنهم في الغالب لا يقبلون منك ولا يتأثرون بك ، لا بد أن تكون عندك غنية بالله - عز وجل- وغنية في عطاء الله عز وجل عما يتعلق بأيدي الناس، وقد كان النبي - عليه الصلاة والسلام - ما سئل شيئاً الا أعطاه اعط الناس من وقتك واعطهم من بسط وجهك واعطهم من ثاقب رأيك، واعطهم من سعيك في حلول مشكلاتهم واعطهم حتى من أموالك ومن بذلك وإحسانك ؛ فإن هذا لا شك أنه يؤسر القلوب، هذا صفوان بن أمية يقول : " ما كان أحدٌ أبغض اليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يعطيني ويعطيني حتى ما أحد أحب لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وقد ورد في الصحيح من حديث أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام : ( ما سئل شيئاً الا أعطاه )
وجاء أعرابي فسئله فأعطاه النبي - عليه الصلاة والسلام - غنماً بين جبيلين ، فذهب الأعرابي إلى قومه، فقال : يا قوم اسلموا فإن محمداً يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر .(/9)
وقد جعل الله - عز وجل - سهماً وقسماً من أقسام أموال الزكاة للمؤلفة قلوبهم ، وبعض الناس إذا جئت تتئلف الناس قال لم هذه الدنية في البيت ولم هذا التميع ، سبحان الله ! هذا من نهل هذا الدين مع أن الشدة لها موضعها والحزم له موضعه ، لكن لا بد أن ندرك هذه الآثار كما أخبرنا الله - عز وجل - في قصص الرسل والأنبياء .
المحطة الثامنة والأخيرة : التدرج والمراعاة
بعض الناس يريد أن يكون الأمر على قول القائل :
ما بين غمضة عين وانتباهتها **** يبدل الله من حال إلى حال
يريد أن يعظ الناس بالموعظة في الصباح فلا يأتي الظهر الا وقد استجابوا عن بكرة أبيهم ، لا بد أن يكون هناك أسلوب في التدرج وإذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع .
لا بد أن يكون هناك مراعاة لأحوال الناس لعقولهم لمداركهم لظروفهم لبيئاتهم.. " حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله " .
وفي حديثه لعائشة - رضي الله عنها - قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( لولا أن قومك حديثوا عهد ـ قال عروة أي بكفر - لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باباً يدخل منه الناس وباباً يخرجون منه ) .
إذا ترك النبي عليه الصلاة والسلام ذلك لماذا ؟ لمراعاة أحوال الناس حتى لا يسبق عندهم هذا الفعل فيبقى عندهم إعراضاً أو مواجهة له أو عدم قبول له أو نفرة منه فلا بد من هذه المراعاة .
ومن هذه المراعاة تلمُّس حاجات الناس وعدم المشقة عليهم ، لما علم النبي - عليه الصلاة والسلام - بقصة معاذ كان يصلي مع النبي - عليه الصلاة والسلا -م ثم يذهب فيصلي بقومه ، فقال أحد الناس له حاجه فخرج من الصلاة مما يطول بهم معاذ ، فقام النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو مغضَب : ( إن منكم منفِّرين فإذا صلى أحدكم بالناس فليوجز فإذا صلى وحده فليطوِّل )
( وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الطفل فيوجز في صلاته )
لا تشقُّوا على الناس وتفتنهم وتريدوا بعد ذلك أن يتأثروا بك ويستجيبوا لك ، ولذلك كان النبي - عليه الصلاة والسلام - كما قال عبد الله ابن مسعود : " يتخولنا بالموعظه مخافة السآمة علينا " .
هذا أيضاً من مراعاة حال الناس في أوقاتهم، يأتي بعض الناس يُلقي الموعظة الطويلة في الوقت الشديد على الناس من حيث إرهاق يعانون منه أو تعب أو ارتباطهم بأعمالهم أو نحو ذلك ، ومن هذه المراعاة أيضاً - كما قلت - النظر إلى عقول الناس وإدراكهم للأمور ، وكما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه : " ما أنت بمحدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " .
لا بد من مراعاة ظروف الزمان والمكان، النبي - عليه الصلاة والسلام - لما بعث معاذ قال له :
( إنك تأتي قوماً أهل كتاب ) .
ظروفهم بيئتهم خلفيتهم مختلفة فأعطاه أسلوباً معيناً وتدرجاً معيناً ، وكذلك إجابات النبي - عليه الصلاة والسلام - للسائلين تدل على مراعاة الحالة ، يأتي أحدهم ويقول أوصني يقول : لا تغضب ، الآخر يقول : أوصني ، يقول : لا يزال لسانك رطباً بذكر الله ، أحدهم يسئل أي العمل أفضل فيجيبه بإجابة والثاني يجيبه بإجابة وما من شيء الا أنه راعى حال هذا السائل فوقع الأثر ، وقد صح في مسند الإمام أحمد : أن رجلاً جاء يسأل النبي - عليه الصلاة والسلام - عن القبلة للصائم فمنعه ، ثم جاء آخر فأجاز له ، فلما سُئل عن ذلك ، قال : " ذاك شاب لا يملك إربه وهذا شيخٌ ليس له إرب " ، فهذا فرق وتفريق بين أحوال الناس وكذلك تنويع الذي أشرت إليه أيضاً فيه مراعاة للناس .
كان ابن عباس يفسِّر القرآن فإذا رأى أنه قد طال الأمر بهم، قال احمضوا بالشعر فيُأتي بالشعر فيغير هذا .
ومن أيضاً هذا التدرج والمراعاة، ترتيب الأولويات فلا تأتي للناس بالأمور التي ليست لها أولوية فتشغلهم بها بل تدرَّج في هذا، وكذلك مراعاة الظرف حتى لا يسبق الفهم شيءٌ خاطئ فالنبي عليه الصلاة والسلام أتاه حكيم بن حزام فسأله فأعطاه ثم أتاه فسأله فأعطاه، ثم قال له : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلو من أعطيه من غير استشراف بورك له فيه ومن سأله باستشراف نفسه لم يبارك له فيه )
لو أن النبي عليه الصلاة والسلام، قال له هذا القول من أول مرة لظن أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لا يريد أن يعطيه ، لكنه أعطاه ثم أعطاه ثم بين له ذلك ، فعرف أن هذه نصيحة لا تتعلق بذلك الأمر، نعم فهذه المراعاة مطلوبة ومتنوعة - كما قلت - في الوقت ، في اختيار الموضوع المناسب ونحو ذلك ، فكما قال بعضهم تمثيلاً على هذا أي على عدم الأخذ بالمراعاة أن يأتي الانسان أو المتحدث أي قوم عندهم مجاعة فيعظهم بالزهد في الدنيا، ويأتي آخر إلى قوم عندهم ثراء ونعمة فيحدثهم عن التحدث بنعمة الله وحب الله لإظهار النعمة التي أنعم بها على عبده ، وهذا لا شك أنه من غير المراعاة المطلوبة لهذه الأحوال .(/10)
وكما قلت – أيضاً - المراعاة يدخل فيها ترتيب الأولويات والتدرج هذا سيما لمن يوجه باستمرار كخطيب الجمعة أو الذي يلقي الدروس أو يرتبط بأهل حيه وجيرانه أنه يأخذهم شيئاً فشيئاً للأمور المهمة العظيمة فيعينهم عليها ويشجعهم ويرغبهم فيها ثم ماوراءها مرتِّباً هذه الاولويات بحسب احتياج الناس وبحسب ما ينبغي أن يأخذهم به فيما يراه من مصلحتهم ، وكذلك هذا الأمر كان معروفاً معهوداً ، وكان هو الذي يتواصى به الصحابه - رضوان الله عليهم - بل قد ورد في مسند الإمام أحمد أن عائشة - رضي الله عنها - قد جاءت إلى قاضي أهل مكه وحذرته ونبهته إلى عدم الأخذ بمثل هذا، وقالت له : " إياك وإملال الناس وتقنيطهم "
بمعنى عدم مراعاة أحوالهم بأن يقنطهم من رحمة الله أو نحو ذلك من الأمور .
فهذه كما قلت بعض المحطات في الطريق إلى الشخصية المؤثرة ، بل إن التميز الإيماني وتثنيةً بالزاد العلمي وتثليثاً برجاحة العقل ومروراً برحابة الصدر واستكمالاً بالجرأة الواعية وتتميماً بالإستمرار والإبتكار .
وقبل الختام أيضاً بالإستغناء والعطاء وختماً بالتدرج والمراعاة ، وأحسب أن في هذه المحطات بعض المعالم المهمة التي لو أخذنا بها وأخذ بها كل باغ للخير وناصح للناس فإن القبول بإذن الله عز وجل سيكون له عند الناس وهذا سيجعل التأثير العملي الإيجابي في واقع الحياة ملموساً ملحوظاً وله أثره الذي قد أشرت إليه .
نسأل الله - عز وجل - أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى وأن يجري الخير على أيدينا وأن يجري الحق على ألسنتنا وأن يجعلنا ممن يستمعون الحق فيتبعون أحسنه ويستمعون الباطل فيبتعدون عنه ، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، ونسأله - سبحانه وتعالى -مزيد التوفيق والسداد بعون الله - عز وجل - والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(/11)
الطريق إلى مكة
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
حديثنا اليوم عن الطريق إلى مكة .. وإن شئت فقل الطريق إلى الوحدة والقوة ، ومن ثَمّ فهو الطريق إلى النصر والعزة .
في هذه الأيام المباركة وهذه المواسم العظيمة موسم الحج الأكبر ومجمع الإيمان الأعظم ومشهد التوحيد الأسمى الذي تعز الدنيا كلها أن تعبر بأعظم المعاني وأجمعها وأجملها في صورةِ عملية كما تتمثل في أمة الإسلام في الحج إلى بيت الله الحرام .
وإنها لخواطر تستحق التأمل ، وفيها من معاني الإيمان ومن دروس التربية ، ومن معالم تغير الواقع شيء لو فطنت له الأمة لحازت خيراً كثيراً ونالت شرفاً عظيماً منذ دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام : { رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } .
{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } .. هكذا أفئدة أي جماعات وزرافات من الناس ، قال ابن كثيرٍ رحمة الله عليه : " لو قال الله عز وجل : فاجعل أفئدة الناس ؛ لأتت إليه جموع الناس حتى من اليهود والنصارى والمشركين والوثنيين " .
ولكن جاء قوله : { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } .
أي من المسلمين من بين بقية الناس أجمعين .
وعجباً هذا الأمر والمشهد المتكبد في كل عامٍ عبر قرونٍ متطاولة ومتعاقبة .. ها هم اليوم حجاج بيت الله الحرام من تحت ركام الشيوعية ، يأتون من وسط أوحال قذارة الحضارة الغربية يتطهرون ويقبلون من وسط أدغال الفقر والظلم والظلام في أفريقيا السوداء .. ينبعثون ويقبلون من أرض البرد والصقيع من أرض الحر والفقر من كل مكان من كل حدبِ وصوب من كل لغةِ ولون من كل حالةِ ووضع من كل صورةِ وهيئة يفدون إلى هذه البقاع المقدسة والأماكن الطاهرة .
ما الذي بعث هؤلاء ؟ ما الذي أقض مضاجعهم وحرك مضيهم ليتوجهوا إلى بيت الله الحرام إلى الأرض التي قال فيها الخليل عليه السلام :
{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } .
في حرّها في صحراءها ولهيبها ولفحها في كونها أرضاَ قاحلةَ جرداء ما الذي يبعث هذه القلوب ، ويحرّك هذه الأجساد ؟
إنها القوة العظمى التي تؤثر في الإنسان ، ولا يمكن لقوةٍ أخرى - سواء كانت قوة إغراء أو قوة ترهيب أو قوة إضرار ، أو قوة اختيار - أن تؤثر هذا التأثير ..
إنها قوة الإسلام والدين والإيمان .
إنه الأمر الذي يحرك كوامل النفوس ، ويداعب ويناجي خواطر وخفقات القلوب .
ما الذي يحرك هذه النفوس ؟
إنه نداء الإيمان إنه دين الإسلام .
وهذا الأمر هو الذي يتجسد جلياً واضحاً في واقع الأمة اليوم ؛ لأنها بفضلٍ من الله سبحانه وتعالى بعد أن زالت غشاوة الدنيا وبريقها ، وبعد أن تهاوت مبادئها الأرضية بخسرانه ، وبيان عوارها أصبحت الأمة في كثير من أفرادها ، وفي كثير من ديارها لا تتحرك إلا باسم الله ، ولا تتقدم إلا استجابة لأمر الله ، ولا تتراجع إلا ابتعاداً عن الابتداء والتجاوز لحرمات الله سبحانه وتعالى .
ولماذا كان لهذا الدين هذه القوة التأثيرية العجيبة ؟
لأن هذا الدين لا يتعامل مع الأشكال والظواهر ، وإنما ينفذ إلى أعماق القلوب ، وإنما يغير من أغوار النفوس ، وإنما يشكل الإنسان صياغة جديدة .. فإذا به حينئذ ينقلب كياناً آخر ، وإنساناً آخر يصوغه كتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأحكام هذه الشريعة الغراء ، فحينئذ تجده يدور في فلك واحد هو فلك هذا الإسلام .
ولذلك فإن هذا المعنى العظيم حينما يتجسد في هذه الصورة ينبغي أن يثير الأمة لكي تعتصم بهذا الدين ولتجعله محور حركتها وقطب رحاها .
وإذا تأملنا أيضاً ؛ فإننا نجد هؤلاء الذين يأتون من كل مكان من شرق الأرض وغربها ، يتجاوزون حدوداً كثيرة ، ويخرجون من بيئاتٍ كفرية ، ويأتون من أوضاع حتى في ديار الإسلام تخالف شرع الله سبحانه وتعالى .. لماذا ؟
يأتون ليحققوا أمراً من أوامر الله .. ليحققوا استجابةً لأمر الله سبحانه وتعالى ، فإذا المسلم في حقيقته يستعلي ويتجاوز ويترفع ويأبى أن يلم بحال من أحوال الكفر ، أو أن يقع في صورة من صور عصيان لأمر الله سبحانه وتعالى ، ويطوي الفيافي ، ويتجاوز العقبات ؛ ليعلن استجابته لله جل وعلا : ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ) فإذاً لا بد للأمة أيضاً أن تحقق في قلوبها ونفوسها ، في ولائها وبرائها ، في بغضها ومحبتها أن تحقق التجاوز لكل أمرٍ يخالف أمر الله ، وأن تحقق هذا التجاوز سعياً إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى .
إن هذا المعنى العظيم إذا تحقق به الإنسان المسلم فإن مجموع الأمة يستعلي حينئذِ عن كل مبدأ ، وعن كل أمرٍ يخالف شرع الله سبحانه وتعالى .(/1)
ومتى ما أحجمت النفوس ، ومتى ما اعتصمت القلوب بأمر الله ؛ فإن كل قوى الأرض لا تستطيع أن تغير الواقع ، ولا أن تظهر في مجتمع المسلمين صورة الكفر أو الانحراف ، ولكنها النفوس المريضة تضعف وتستجيب لنداء الشيطان ، ولكنها العقول الضعيفة تأتي عليها الشبهة فتهوي في مهاوي الشرك أو مبادئ الكفر والضلال .
فإذا شعرت الأمة بهذا المعنى أن هذا الحج إنما تجاوز لكل مخالفة عقدية أو عبادية أو سلوكية ، أو أخلاقية تخالف أمر الله ، وأنها في هذا التجاوز تمضي بعزم وقوة وصورة عملية ، وليس ادعاءً لفظياً فحسب ؛ حينئذٍ يمكن للأمة أن يتغير من واقعها شيءٌ كثير ، وإن حال الأمة اليوم ينبغي أن لا يُفسّر دائماً بأنه كيد الأعداء ، وأنه مؤامرات المتآمرين ، وأنه الفساد الذي يقدمه أهل الباطل وإنما أيضاَ مع كل هذا ضعف النفوس واستجابتها لهذه الإغراءات .
أما إذا اعتصمت واستعلت ؛ فإن الله غز وجل قال : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } .
إن مملكة القلب والنفس لا يستطيع أي بشرٍ مهما أوتي من قوة إغراءٍ أو ترهيب أن يؤثّر فيها حقيقة ، وإنما هي ضعف النفوس
قد تملك سوطاً يكويني = = وتحز القلب بسكيني
لكن سلطانك لن يرقى = = لذرى إيماني ويقيني
إن الأمة اليوم وهي تنبعث من كل مكان تحقق الأمر الذي يقض مضاجع الأعداء وهي أن هذه الجموع المتكاثرة رغم اختلافاتها المتعددة تتحرك حركةَ واحدة عندما يدوي نداء الدين وعندما يأتي نداء رب العالمين وعندما تعلوا وترفع راية الإسلام وتنزل أو تظهر أحكامه وشرائعه .
وكذلك في هذه الصورة يأتي التجاوز لكل مخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى
روت جموع المؤمنين قلوبها = = بالنفر نحو منى لترضي ربها
وعلت هتافات الحجيج إلى السماء == كل يلبي ربه متولها
نزلوا الخيام لباسهم متوحد == هجروا ملذات الحياة وزورها
شعث الرؤوس ثيابهم مغبرة == لكن قلوبهم تضيء من البها
وتزينت عرفات لليوم الذي = = تحيا به جنباتها وهضابها
تفد الجموع بقطها وقبيطها = = ترجو الإله الحق غفر ذنوبها
رباه إني قد أتيت مرابعاً == تهف القلوب من الدنا لرحابه
رباه هل أحظى لديك لحدة = = تمحوا بها ذنبي وتدنيني بها
هذا لسان حال كل موحد متوجهِ إلى حج بيت الله الحرام .
ثم تأمل أيضاً معنى عظيم ؛ وهو معنى البذل والتضحية
كم من أولئك ممن خلف وراءه أهله وأبناءه ، وهم ربما في بعض أو في أمس الحاجة إليه ، وربما بعضهم في مرض أو في نوع خوف وعدم أمن ، لكنها التضحية شوقاً لاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى .
كم منهم من كانت عنده ألوان من الحاجات المادية ، فقدّم أمر الله سبحانه وتعالى ليبذل فيه ماله ، ولينفق فيه عرق جبينه سعياً لمرضاة الله سبحانه وتعالى .
فإن البذل والتضحية العظمى لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى ، والأمة فيما مضى في تاريخها ضربت أروع الأمثلة حينما هاجر المهاجرون خلّفوا وراءهم أهلهم وديارهم وأموالهم ، وخرجوا من كل دنياهم لكنهم خرجوا إلى جنان الإيمان الوارفة خرجوا إلى حياة الإسلام العظيمة .. خرجوا إلى دولة التوحيد التي لا يصيب فيها المؤمن غم ولا هم ولا عناء .. خرجوا إلى هذه الصورة التي يريد المسلمون اليوم أن يخرجوا من كل الدنيا ليحظوا بقليل من الوقت ، أو بيسيرٍ من اللحظات تظللهم راية الإسلام ، وتحكمهم شريعته وتقام أحكامه في مجتمعهم .
كم من المسلمين يغادرون ديارهم التي علت فيها رايات الكفر ، أو التي ظهرت فيها آيات الفسق لأنهم يريدون أن يتنسموا نسيم الطهارة يريدون أن يسمعوا دوي الآذان الذي يتردد في الآفاق يريدون أن يشاهدوا تطبيق الإسلام في أرض الواقع في دولة إسلامية متكاملة ، في مجتمع إسلامي طاهرٍ نظيف .
ولذلك إذا كانوا يضحون ويبذلون لأجل أيامٍ قلائل في رحاب البقاع المقدسة ؛ ليستجيبوا لأمر الله ، ليشهدوا توحد الأمة ليشهدوا عظمة الدين .. فما أحراهم أن يبذلوا وان يضحوا ليقيموا دولة الإسلام ومجتمع المسلمين في كل مكان !
إن معنى البذل والتضحية في هذا الأمر المحدود إنما هو درسٌ من هذا الإسلام العظيم ليبذلوا المؤمنون وليضحوا في سبيل إقامة شرع الله سبحانه وتعالى .
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصهيب الرومي رضي الله عنه : ( ربح البيع أبا يحيى ) .
ما خسر من كسب في دين الله وما خسر من حاز رضوان الله وما خسر من فقد الدنيا بما فيها من أجل لحظة من لحظات الطاعة والقرب من الله فكيف من أجل إقامة شرع الله سبحانه وتعالى .
إن الأمة اليوم وهي تضطهد في كل ديارها وهي تحاط بالمؤامرات والكيد من كل جوانبها ينبغي أن تستحضر ضرورة البذل والتضحية لأجل الله سبحانه وتعالى ولأجل دين الله عز وجل .(/2)
تأمل إذاً هذه المعاني كلها .. تأملها حينما ترى المسلم ليؤكد رغم أنه خرج من داره باذلاً ماله ، مضحيّاً بجهده وبوقته رغم ذلك يقف وقفةً يجدد فيها الإعلان ويعلن فيها الراية أنه صادق في توجّهه لله سبحانه وتعالى .. أنه مستحضرٌ أن أمر الله مقدّم على كل أمر أنه متفاعلُ من أعماق قلبه ، وأبوار نفسه ، مشتاقٌ للاستجابة لأمر الله ، مقبلٌ على الطاعة إقبالاً بكل جوارحه وجوامحه .. وهذه وقفة الإحرام عند المواقيت ليعلم أنه مقبلٌ على أمرٍ عظيم ليخلّف الدنيا وراءه .. ليتجرد منها تجرداً كاملاً ، يخلع ملابسه فيخلع معها كل معنى من معاني الدنيا ، وكل زينة من زينتها وكل بهرجِ من بهارجها ، ويعلن أنه لا يتزين وأنه لا يتحلى وأنه لا يشرف وأنه لا يتميز إلا بأمر الله سبحانه وتعالى .
وكم هو عظيمُ هذا المعنى الذي خفي في حياة كثير من المسلمين فصارت الدنيا بارتباطهم بها وبتحديهم وتزينهم بها وبتميزهم حتى في واقع حياتهم لأجلها أراد الله عز وجل أن يبين هذا المعنى لأمة الإسلام في هذه الشعيرة العظيمة ثم يأتي قول الله سبحانه وتعالى في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام :
{ وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍ عميق } .
وهو النداء الخالد ليس من عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، بل من آلاف وآلاف وآلاف من السنوات منذ عهد الخليل : { وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) .
والمعنى الذي ينبغي أن يستحضره المسلم أن إبراهيم أذن بأمر الله فاستجابت الجموع على مدى هذه الدهور المتعاقبة بأمر الله سبحانه وتعالى بفضل الله سبحانه وتعالى ، وإنما جعل المرء سبباً من الأسباب التي يتحقق بها قضاء الله وقدره .. كما قال عز وجل في قصة عيسى عليه السلام : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي } .
قد ألهمهم الله فلما دعا عيسى استجابوا له ، وهذا المعنى ينبغي أن يؤذن كل مسلمِ في جنبات الأرض داعياَ إلى الله سبحانه وتعالى فتستجيبوا الجموع إثر الجموع ، وشاهد الواقع ظاهر في هذا التأثير ؛ فإنه ما من كلمة حق ترفع ، وما من حكم للإسلام يذكر ، وما من موعظة إلا ولها استجابة في قلب إلا ولها تغير في سلوك - إن عاجلاً أو آجلاً - ولكن الألسن قد خرست ، ولكن الحق ظل حبيساً في قلوب أصحابه : إما جبن عن أن يذكروه ، وإما ركنوا إلى الدنيا وانشغلوا بها ، أو كانت لهم أسباب أخرى واهنةُ واهية ، فعس أذان الإسلام في الدنيا ، وقلّ سمعه في آذان الناس ، وقلّ طرحهم أمام عقولهم وأفكارهم ؛ ولو طرح فإنه مؤذنُ بأن يكتسح كل الملل والمحل التي فيها تحريف والتي فيها تغير والتي فيها فسادُ وحقدُ وبغض لأنه دين الفطرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولد يولد إلا على الفطرة ولكن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) .
إن معنى أذان إبراهيم دعوة لكل مسلم أن يكون داعيةَ لله عز وجل أن يؤذن كما أذن بلالُ رضي الله عنه يوم فتح مكة فعل بلالُ الحبشي سطح الكعبة ودوى بالأذان معلناَ منذ ذلك الحين أن هذه الديار ، وأن هذه الجزيرة لا يعلوا فيها إلا أذان الله ، ولا يبقى فيها إلا دين الله ، ولا يصح أن يجتمع - كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم - فيها دينان ، ولذلك شعار المسلم أنه ينفعل بوحي الله ويستجيب لأمر الله ولا يكتفي بأن يطبق في ذات نفسه بل يعلي ويعلن ويدعوا إلى هذا الدين ..
وأصغي إلى وحي السماء يهزني = = وينساب في الأحشاء كالنبع صافيا
فأغسل قلبي في مناهل طهره = = وأروي به من كان طمأن صابيا
وللحق في صدري ركائز دولة = = أشيد لها صرحاً على الأرض عاليا
أهينوا بإسلامي وأبذل دونه = = حياتي واسخوا في علاي بماليا
يحرك أطرافي رضاه ومقولي = = ينادي به بين البسيطة داعيا
وأرهق سمعي في إطاعة خالقي = = فيخفق قلبي للإله مناجيا
ترجع أعماقي نداء محمد = = وصوت بلال بالمآذن عاليا
وصيحات سعد في الحروب وخالد = = وأمجاد أسلافي تدوي ورائيا
وأرفع في لج الحوادث هامتي = = ولو كان في رفع الرؤوس مماتيا
تلاشت حدود الأرض عندي وإنما = = بلادي وقومي حيث يدعي إلاهيا
حينما يتحقق المسلم بكمال الإيمان لا يرضى إلى أن يكون داعياَ لله سبحانه وتعالى وهو معناَ عظيمُ في هذه الشعيرة : { وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍ عميق } .
وإن من أعظم مواسم التقوى موسم الحج الأكبر التي تهفوا وتصفوا القلوب فيه لطاعة الله سبحانه وتعالى .(/3)
إن الدروس والمعاني التي ينبغي أن تستقى ، وأن تنتفع بها الأمة كثيرة وكثيرة جداً .. ولكن ما ذكرت من هذه الدروس ربما لا يكون ظاهراً جليا ؛ لأن الناس ربما ينصرفون إلى الظواهر ، وينشغلون بها وتلجأهم الظروف إلى أن يكون مع الشكليات ؛ فإذا به لابد أن يستخرج الجواز ، وأن يأخذ التأشيرة ، وأن يجمع المال ، وأن يسجّل الاسم ، ويهيب في هذه الدوامة ، وينسى أن يتوجه بقلبه لله سبحانه وتعالى ، وينسى المعاني التي أشرنا إليها .. لا بد لتنتفع الأمة من هذا الموسم العظيم الذي جعله الله عز وجل إرغاماً للكافرين وإذلالاً لهم ، وإغاظةً لقلوبهم ؛ لأنهم يرون فيه صورة تعجز الدنيا - كما أشرت - أن تمثلها في أقل القليل من عددها أو في أقل القليل من صورها ومعانيها .
ألسنا نرى أن هذا الموسم يمثل اجتماع الطاقات في الأمة المسلمة ؟ أليس يأتي إلى هذا المكان الطاهر ، وإلى تلك البقاع المقدسة الفقراء والأغنياء ؟ أليس يأتي إليه العامة والعلماء ؟ أليس يأتي إليه البسطاء والحكماء ؟ أليس يأتي إليه الضعفاء والأقوياء والأغنياء والفقراء ؟
إنها صورةُ كلهم يجتمعون في موطن واحدِ بأمر اله عز وجل ليدللوا أو ليتعلموا أن لا بد للأمة من تكامل في قواها أن يفيض العالم على الجاهل والغني على الفقير والحكيم على الذي لا حكمة له أن الأمة يجتمع مال بعض أبناءها مع عقول أبناء لها آخرين مع قوى أخرى .. إن الأمة وحدة واحدة ؛ ولذلك تنصهر كل الفوارق وتذوب ، وتبقى صورة الوحدة للأمة المسلمة أعظم صورة تشرق في مشهد عرفات وفي ربوع منى وفي ظلال بيت الله الحرام .
وكم هو عظيم معنى الطواف الذي يجعل الأمة كلها تدور وتطوف نحو محورٍ واحد ، كلها بكل قواها ، بكل طاقاتها ، بكل مشاعرها ، بكل ما في قلوبها ونفوسها من آمالٍ وطموحات ، بكل ما تلاقيه من صعوبات ومشقات .. إنها تطوف حول بيت الله الحرام .. إنها أمة واحدة ، وإن قطب الرحى هو دينها هو مقدساتها هو عقيدتها هو هذا الأمر الذي به عزتها وقوتها ووحدتها ..
وهذه المعاني كلها تغيب أيضاً من المسلمين أو من بعض المسلمين حينما لا يتلقون العلم والتبصرة ، وحينما يخوضون في ظل الواقع مع زحام شديد أو مع اختلافات في الرأي موزعة أو مع غير ذلك من الصور التي لا يتحقق بها من هذا الموسم العظيم هذه الدروس الكبرى !
أيها الأحبة الكرام :
إن هذه الدروس وغيرها في شعائر الله وفي فرائض الله هي مما ينبغي أن يكون من أسباب التغير العظمى في واقع حياة الأمة ، وهو كذلك في سالف التاريخ وفي حاضر الواقع أيضاً ؛ فإننا نرى في كل عامٍ تغيّراً ، وإننا نرى في كل فترةٍ من الزمن إيجابيات تتصاعد ، وصوراً من الخير يسوقها الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة ، ونحن في هذا الموسم العظيم يجب أن نتذكر هذه المعاني ، ويجب أن نهيئ أنفسنا ؛ سواءً كان الإنسان ضمن وفد الحجيج أو لم يكن ؛ فإن هذه المعاني ليس بالضرورة مرتبطةً بمن يحج دون غيره وإن كانت في حق الحاج أعظم .
ولنا مع الحج جولةُ أخرى .. ولكن الطريق إلى مكة هو الطريق إلى القوة والوحدة ، والطريق إلى مكة هو طريق النصر والعزة .(/4)
الطالبة المثالية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد : فإن للطالبة المثالية صفات تميزها وتجعلها جديرة باستحقاق الرفعة والأخلاق الطيبة بين أقرانها .. وفي أسرتها .. وبين الناس أجمعين .
وهذه الصفات تتمثل جميعها في حسن تدبيرها لشؤونها الشخصية وواجباتها المدرسية ، ومعاملتها مع أسرتها في بيتها .. ومع جلساتها ورفيقاتها .. ومع معلماتها في مؤسسة التعليم .
والنجاح الدراسي مرهون في النهاية .. بامتلاك الطالبة لتلك الصفات وبحسب مثالية سلوكها وسدادها في الأمور يكون تفوقها سلوكياً ودراسياً .
فكيف تكتسب الطالبة تلك المثالية ؟
أولا : حسن الخلق
أختي الطالبة : إن سر النجاح في العلاقات الاجتماعية يُختزل في مفهوم واحد هو : حسن الخلق .. فهو مبدأ عام إذا اكتسبته في نفسك استطعت امتلاك القلوب .. كل القلوب سواء وسطك الأسري .. أو الدراسي .. أو بين الرفيقات والأخوات .
والطالبة المثالية الجميلة أخلاقها .. تتقن اكتساب الآخرين .. لأنها بخلقها الحسن تراعي حقوقهم فلا تهضمها .. وتراعي مشاعرهم فلا تخدشها .. بل تكون هيأتها وطلتها ولمستها وهمستها وحركاتها وسكناتها مقبولة محببة إلى النفوس .. ترتاح لها .. وتطمئن بها .. كيف لا وخلقها الحسن قد كساها حلة من الخصال الجميلة التي يتنافس الناس في اكتسابها .. ويعير الآخرون بحرمانها .
فالطالبة المثالية بتلك الصفات مصدر بهجة وارتياح ولذلك كان جزاء الخلق الحسن عظيماً عند الله .. كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق " وثقل حسن الخلق في الميزان يوم القيامة دليل على أنه من أنفع الإحسان الذي يبذله صاحبه للناس .. فهو لهم أنفع من المال ونحوه .
أخيه .. إن سدادك في معاملة الناس سيوجب لك احتراماً عظيماً ينعكس طاقة وحيوية على نفسك مما يجعلك مؤهلة للنجاح بشكل كبير .
التحلي بالآداب
والأدب من مهمات الأمور الضرورية للطالبة الجادة ، فهو يجعلها أكثر قدرة على التواصل مع الناس ، لاسيما معاملاتها ، ورفيقاتها في الطلب ، فإن أدب الكلام والصحبة والنظر والتعامل عامة يجعل الأخت المسلمة مقبولة في وسطها التعليمي .. لأنه عنوان العقل .
كما قا الشاعر :
وقد يصلح التأديب من كان عاقلاً وإن لم يكن له عقل فلن ينفع الأدب
وقد قيل : العقل أمير ، والأدب وزير ، فإن لم يكن وزير ضعف الأمير ، وإن لم يكن أمير بطل الوزير .
والآداب التي ينبغي للأخت الطالبة التحلي بها هي من صميم الخلق الحسن .. فهي تشمل مراعاتها لحقوق رفيقاتها في المجالس والاجتماعات ، لا تغتاب ، ولا تهمز ، ولا تحقر ، ولا تمشي بالنميمة ، ولا تتدخل فيما لا يعنيها ، تخاطب لكن بوقار .. وتجادل لكن بالحسنى ، وتتحدث لكن دونما بذاءه وفحش ، فترحم الصغيرة ، وتوقر الكبيرة .. وتحفظ الأسرار .. فهي بأدبها الجم محط ثقة للجميع .
ثانياً : الالتزام بالدين
فهو مفتاح الخير كله .. وهو العنوان لكل طالبة مثالية ناجحة ! ليس في الدنيا فقط ، وإنّما في الآخرة أيضاً .
أخيه .. هبي أنك حظيت بنجاح هائل .. وحصلت على الشهادات العليا والمناصب العظمى .. ودقت لتفوقك الطبول والهتافات .. فما عساه ينفعك ذلك يوم العرض على الله إن لم تكوني مستقيمة على دينك ( يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم ) ، والقلب السليم لا يحتاج إلى شهادات ونجاح .. وإنما هو القلب الخاشع الخاضع لأمر الله ، المطمئن بذكره المستسلم لربه .
أي نجاح يذكر يوم توضع الصحف وتوزن الأعمال ؟! ( فمن يعمل مثال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً سره ) .
أختي الطالبة : تذكري أنك أمام اختبارين اثنين :
الأول : هو اختبار الحياه : وهو الذي ذكره الله جلّ وعلاه في كتابه فقال : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ) وهذا الاختبار اختبار دائم ما دامت الحياة ، فبدايته مع البلوغ ونهايته مع غرغرة الموت ، وأمّا مادته وموضوعه فهو العبادة .. قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) .
وأما نتيجته فتظهر يوم الدين ، يوم توضع الموازين ، فلا تغفلي عن هذا الامتحان فإنه أحق بالجد والاهتمام ، لأن سعادتك الأبدية ، ونجاتك من العذاب مرهونان بالنجاح فيه .
الثاني : امتحان دراسي : قوامه المراجعة والحفظ والمطالعة ، وهو أهون وأسهل وأيسر وأقل من امتحان العبودية الطويل .
ولأنك في امتحانين اثنين ، فإن الحكمة والعقل يستلزمان منك العمل الدؤوب للنجاح فيما بعد !(/1)
فإمّا شرط النجاح الأخروي .. فهو ملازمتك للتقوى واستقامتك على الدين .. في عقيدتكِ وعبادتكِ ومعاملاتكِ .. ولذلك سمى الله جلّ وعلا الجنة دار المتقين .. فقال : ( ولنعم دار المتقين ) .
فكيف تفرط طالبة عاقلة في استقامه تنال بها نزلاً خالداً في الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر !!
كيف لا تعير لآخرتها اهتماماً بينما يحترق قلبها لواجب دراسي مؤقت ؟!
قال عمر بن عبد العزيز في خطبته : " إن الدنيا ليست بدار قراركم ، كتب الله عليها الفناء ، وكتب على أهلها منها الظعن ، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " .
فالتزمي أخيه بما أمرك الله به من صلاة وحجاب وحياء .. واعملي لآخرتك مثلما تعملين لدنياك .. وتعلمي من التقوى ما يكون لك زاداً في المعاد ، وتذكري أن حملك لهم امتحان الحياة هو أولى لك من حمل هموم دراسية .
واعلمي أيضاً أن الله جلّ وعلا قد وعدك بالكفاية من هم الدراسة ووعدك بالتوفيق والنجاح إن أنت حسبت لمعادك هماً .. واتقيت الله رجاء لقائه .
قال تعالى : ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً ) ، فهذا اليسر عام في الدراسة وغيرها ..
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : " من جعل الهموم هماً واحداً : هم المعاد . كفاه الله سائر الهموم ، ومن تشتت به الهموم من هموم الدنيا ، لم يبال الله في أي أوديتها هلك " .
التظيم والاجتهاد
أختي الطالبة : هنالك طريقان للنجاح الدراسي لا غنى لكل مريدة للنجاح عنهما :
التنظيم : وهو منهج ينبغي أن تسلكه الطالبة في حياتها عامة ، وفي مشروعها الدراسي خاصة .
والتنظيم في الحياة الدراسية يشمل ثلاث أمور :
الأمر الأول : تنظيم الأفكار .
الأمر الثاني : تنظيم الوقت .
الأمر الثالث : تنظيم العمل .
1. تنظيم الأفكار : والمقصود به التمييز بين الأهم منها والمهم ، وترتيبها بحسب الأولويات ، فالطالبة الحكيمة هي التي تنظر إلى واجباتها المدرسية بحسب أهميتها في التخصص ، فالمواد العلمية في التخصص العلمي ذات شأن مقارنة بالمواد الأدبية ، والعكس يصح إذا ما كانت الطالبة ذات تخصص أدبي .. فكلما كانت الأخت الطالبة أكثر إحاطة بالأهم في دراستها وتمييزه عمن دونه كانت جديرة بالتوفيق .. لأن تقديرها للواجبات الأساسية يدفعها بالضرورة لبذل تركيز أكثر .. وإعطاء تلك الواجبات حقها من الوقت والجهد .
2. تنظيم الوقت : وهو شرط لازم للنجاح على كل حال .. وبحسب تقدير الطالبة لوقتها يكون نجاحها ، والطالبة المثالية هي التي تملك تصوراً واضحاً عن خريطة وقتها اليومي .. كما تملك تصوراً دقيقاً من الواجبات التي عليها .. ولذلك فهي تعمل جاهدة على تخصيص القدر الكافي من الوقت لكل واجب أساسي في دراستها .. طبعاً هذا يتطلب منها شيئين :
الأول : هو التنظيم اليومي المسبق لأفكارها ، فهي لا تعجز عن كتابة مسؤولياتها اليومية في ورقة خاصة ، وتعد نفسها أن لا تغرب عليها الشمس إلا وقد أنجزت مسؤولياتها بنجاح ، سواء كانت مراجعة أم كتابة أن حفظاً أم مدارسة أم غير ذلك من صور أداء المسؤوليات الدراسية .
الثاني : هو تحديد الفراغات الزمنية اللازمة لكل واجب بجسب حجمة ومتطلباته ، والإصرار على ذلك التحديد هو ما يجعل الطالبة المثالية الطموحة تقتل الفراغات الزمنية مهما كان شأنها كي تستثمرها في اجتهادها ما لم يتعارض ذلك مع واجباتها الدينية كالصلاة مثلاً .
وهذا كله يستلزم من الأخت المسلمة امتلاك جدول زمني يحمل في خاناته فراغات زمنية ثابتة للواجبات الدراسية الثابتة .
3. تنظيم العمل : وهو يمثل القوة العملية التنفيذية في منهج التنظيم ويمكن أن نسميه بمنهج الدراسة .. أو منهج أداء الواجبات المدرسية .
فكثير من الطالبات ينظمن أفكارهن ، ويجددن الأولى في مسؤولياتهن ، وكذلك ينظمن أوقاتهن بشكل دقيق ، لكن طريقة تعاطيهن مع الواجبات تكون سلبية إلى حد كبير مما يشكل فجوة في عملية التنظيم برمتها .
ولذا أختي الطالبة فعملية تنظيم العمل تقتضي أموراً أساسية هي :
1. التفرغ التام قبل البدء في أداء الواجبات : سواء حفظاً أو درساً أو نحو ذلك ، لأن الانشغال الذهني يؤثر سلبياً على عملية التركيز .
2. التركيز : في عملية الحفظ أودراسة التمارين وحلها تكون الطالبة في أشد الحاجة إلى التركيز الشديد والاقتناع التام ليتم الحفظ أو الفهم بنجاح ، وذلك لأن الفهم والحفظ نوعان : سطحي وآخر مركز .. فالحفظ أو الفهم السطحي فامحدود من حيث مدة بقائه .. بينمها الحفظ المركز المعمق يبقى طويلاً في الذاكرة لكنه يحتاج إلى نقطة أخرى وهي :(/2)
3. مداومة على المراجعة : فلا يتم الانتقال إلى درس جديد بعد هضم الدرس السابق ، لاسيما في التخصصات العلمية التي تكون فيها الدروس أكثر ترابطاً بحيث يستلزم فهم الجديد منها فهم القديم .. وحتى في التخصصات الشرعية والأدبية يشكل تهميش المراجعة هدراً للأوقات ، ويولد تراكمات في الأفكار والمسؤوليات .
4. تحديد الوسائل الأنسب للفهم .. وهناك وسائل متعددة كالشريط والكمبيوتر وامواقع التعلمية المجانية على الانترنت .. والطابية المثالية هي التي تستعين بأحسن الوسائل لتسريع فهمها ولإتقان دروسها . فتشتري الكتاب الأنسب للتمارين المدعمة للفهم .. وحتى إذا ما فشلت في فهم أو استيعاب المعلومات فإنها لا تتردد في الاستفسار عنها عن طريق رفيقاتها .. أو أساتذتها .
الاجتهاد : فإذا كان التنظيم هو عملية ترتيب وضبط للأفكار والوقت ، فإن الاجتهاد يمثل الطاقة الفاعلة في التنفيذ .. إذ هو قوة معنوية داخلية تتفجر طموحاً فلا تجد الطالبة الجادة معه راحتها إلا إذا أنجزت ما تطح إليه .. والاجتهاد شرط النجاح .. وما نال من نال .. ولا كسب من كسب .. بالخمول والكسل ، لأن الحياة التي خلقها الله مجبولة على المدافعة والمكابدة .. أي يكابد أمور الدنيا والآخرة ..
ولأجل هذا فإن الطالبة المثالية تدرك أن عليها أن تشقى بالحفظ والتفتيش والمطالعة والمراجعة ، وأن تبذل جهداً وطاقة لتنال شرف النجاح وتدرك أن ذلك يتطلب منها التخلص من العادات السيئة ، وكبح الشهوات ، ومدافعة الرغبات ، ومغالبة النفس والصعاب .
ومن الاجتهاد أن تنكب الطالبة على دروسها تحضيراً وحفظاً وفهماً .. أولاً بأول .. وأن توسع مداركها وتثري ثقافتها بكل الوسائل الممكنة لاسيما في مجال تخصصها .
طلب العون من الله
فإنه سبحانه قد وعد من توكل عليه بالكفاية .. ومن استعان به بالعون والنصر .. ومن سأله بالعطاء .. ومن اضطر واستغاثه بالفرج .. والله لا يخلف الميعاد .
قال تعالى : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) ، أي : كافيه من كل شيء . وقال سبحانه : ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكن إن اللذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) ، ولهذا فإن الطالبة المثالية لا ترى لنفسها قوة ولا حولاً إلا باعتمادها على الله ، فهو سبحانه الغني وكل عباده إليه فقراء .. وفي كل شيء فقراء ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإذا أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان "
اتقاء الشبهات وعدم الانقياد للشهوات
فالشبهات والشهوات المحيطة بالأخت الطالبة تعد من أخطر معوقات النجاح ، بل هي أخطر عوامل الانحراف ، ومنها :
1. الرفقة السيئة : فإن الطباع نقالة .. والصاحب ساحب .. والمرء على دين خليله .. فإن لم تنظر الأخت المسلمة في حقيقة رفقتها .. وتختار من يجالسها ، فربما تزل بها الأقدام مع رفقة سيئة في متاهات الظلام .. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " .
2. الإعجاب : وهو محبة زائفة شاذه تتجلى في ميل الفتاة إلى الأخرى ميلاً منحرفاً مشوباً برغبات فاسدة ، وهو على ندرته يعد شراً مستطيراً .. يهدد العقيدة ، كما يهدد السمعنة ، ولذلك فإن الطالبة المثالية هي التي تضبط عواطفها ولا تدع في قلبها فرجة الشيطان ينفث فيها خطرات الإعجاب الزائغ ، بل محبتها لأخواتها لا تكون إلا لله ، ورفقتها تكون على منهج الله ، وذلك كما يقيها شرور المعصية وعقوبتها ، يقيها أيضاً سموم الألسن ونظرات الأعين .
3. التبرج : وهو من العادات المحرمة الدخيلة ، وسموه زوراً بالحضارة ، وألصقوه عمداً بتحرير المرأة ، وهو أحط من أن ينال شرف الأسماء ، لأنه من الكبائر الموعود أهلها بالنار ، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : " صنفان من أهل النار لم أرهما بعد " وذكر منهما : " ونساء كاسيات عاريات مائلات .. " فاعتن أخيه بحجابك ، فإنه وقاية لك من ذئاب الطرقات ، ونجاة لك من النار بعد الممات .
وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم ..
المصدر :
الطالبة المثالية ، إعداد : القسم العلمي بدار ابن خزيمة(/3)
الطلاق السني والطلاق البدعي
إعداد/ زكريا حسيني
أولا: الطلاق في الحيض
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فسأل عمرُ بن الخطاب رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ».
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في تسعة مواضع بالأرقام (4908- 5251- 5252- 5253- 5258- 5264- 5332- 5333- 7160)، وأخرجه الإمام مسلم في الصحيح برقم (1471/1 - 14)، وأخرجه أبو داود في الطلاق برقم (2179)، والترمذي في الطلاق برقمي (1175- 1176)، والنسائي في الطلاق بالأرقام (من 3418 إلى 3429)، وابن ماجه في الطلاق برقم (2019)، ومالك في الموطأ كما في الاستذكار برقم (1176) حـ18 ص8، ومن طريقه أخرجه الشافعي في «الأم» وفي «المسند»، وأحمد (2/63)، والدارمي (2/160)، والبيهقي.
شرح الحديث:
قال الحافظ ابن حجر: وقد قسم الفقهاء الطلاق إلى سني وبدعي، وإلى قسم ثالث لا وصف له، فالأول: ما تقدم من أنه «يطلقها طاهرًا من غير جماع»، والثاني: أن يطلق في الحيض أو في طهر جامعها فيه ولم يتبين أمرها أَحَمَلَتْ أم لا، ومنهم من أضاف له أن يزيد على طلقة، (أي أن يطلق طلقتين أو ثلاثًا في وقت واحد ومجلس واحد)، ومنهم من أضاف الخلع، والثالث: تطليق الصغيرة والآيسة والحامل التي قربت ولادتها، وكذا إذا وقع السؤال منها (أي طلبت الطلاق) بشرط أن تكون عالمة بالأمر، وكذا إذا وقع الخلع بسؤالها وقلنا إنه طلاق.
قال رحمه الله تعالى: ويستثنى من تحريم طلاق الحائض صور، منها: ما لو كانت حاملاً ورأت الدم وقلنا: الحامل تحيض، فلا يكون طلاقها بدعيًا ولا سيما إن وقع بقرب الولادة، ومنها إذا طلق الحاكم على المولى واتفق وقوع ذلك في الحيض، وكذا في صورة الحكمين إذا تعين ذلك طريقًا لرفع الشقاق وكذلك الخلع، والله أعلم.
قوله: «أنه طلق امرأته»: وفي مسلم من رواية الليث عن نافع: «أن ابن عمر طلق امرأة له»، وعنده من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر «طلقت امرأتي» قال النووي: اسمها آمنة بنت غِفَارٍ. وقيل غير ذلك.
وقوله: «وهي حائض». وفي رواية ابن أصبغ: «أنه طلق امرأته وهي في دمها حائض»، وعند البيهقي: «أنه طلق امرأته في حيضها». أي طلقها في الحيض.
قوله: «على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم » كذا في رواية مالك عند البخاري، ومثله عند مسلم من رواية أبي الزبير، قال الحافظ في الفتح: وأكثر الرواة لم يذكروا ذلك استغناءً بما في الخبر أن عمر سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستلزم أن ذلك وقع في عهده، وعند مسلم في رواية الليث زيادة «تطليقة واحدة»، قال مسلم في آخره: «وجَوَّد الليث في قوله: «تطليقة واحدة». اهـ.
وكذلك روى مسلم عن محمد بن سيرين قال: مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثًا وهي حائض، فأُمِرَ أن يراجعها، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث (أي وجهه) حتى لقيت أبا غلاَّبٍ يونسَ بن جبير الباهلي، وكان ذا ثبت، فحدثني أنه سأل ابن عمر، فحدثه أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، فأمر أن يُرْجِعَها. قال: قلت: أفَحُسِبَتْ عليه ؟ قال: فمه، أوَ إن عجز واستحمق؟.
وأخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق الشعبي قال: «طلق ابن عمر امرأته وهي حائض واحدة»، ومن طريق عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر أنه «طلق امرأته تطليقة وهي حائض».(/1)
قوله: «فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك». وفي رواية ابن أبي ذئب عن نافع «فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك». أخرجه الدارقطني، وكذا ساقه المصنف من رواية قتادة، وعند مسلم من رواية يونس بن عبيد، وكذا في رواية طاووس، وكذا في رواية الشعبي، وزاد فيه الزهري كما في كتاب التفسير عن سالم أن ابن عمر أخبره.. فتغيَّظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الحافظ في الفتح: ولم أَرَ هذه الزيادة في رواية غير سالم، وهو أَجَلُّ من روى الحديث عن ابن عمر، وفيه إشعار بأن الطلاق في الحيض كان تقدم النهي عنه، وإلا لم يقع التغيظ على أمر لم يسبق النهي عنه. ولا يعكر على ذلك مبادرة عمر بالسؤال عن ذلك لاحتمال أن يكون عرف حكم الطلاق في الحيض وأنه منهي عنه ولم يعرف ماذا يصنع من وقع له ذلك. قال ابن العربي: سؤال عمر يحتمل أنهم لم يروا قبلها مثلها فسأل ليعلم، ويحتمل أن يكون لما رأى في القرآن قوله تعالى: ««فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ»»، وقوله تعالى: ««يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ»» أراد أن يعلم أن هذا قرءٌ أم لا؟ ويحتمل أن يكون سمع من النبي صلى الله عليه وسلم النهي فجاء ليسأل عن الحكم بعد ذلك، وقال ابن دقيق العيد: وتغيظ النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إما لأن المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهرًا فكان مقتضى الحال التثبت (أي التريُّث) في ذلك، أو لأنه كان ينبغي مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا عزم عليه.
قوله صلى الله عليه وسلم : «مره فليراجعها» قال ابن دقيق العيد: يتعلق به مسألة أصولية، وهي: أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك أم لا؟ ثم نقل ابن حجر في الفتح المسألة عن ابن الحاجب والخلاف في ذلك، وملخص المسألة كما أنهاها الحافظ في الفتح كما يلي:
تنقسم المسألة إلى صورتين:
1- إذا أمر الشارع مكلفًا أن يأمر غيره من المكلفين بأمر، كان الأمر بالأمر بالشيء أمرًا به، ويكون دور المأمور الأول مجرد التبليغ، ويجب على من يأمره امتثال الأمر، فإن لم يمتثله كان عاصيًا.
ومن أمثلة ذلك:
أ- قول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وأصحابه: «مروهم بصلاة كذا في حين كذا..».
ب- قول النبي صلى الله عليه وسلم لرسول ابنته: «مرها فلتصبر ولتحتسب». ونظائره كثيرة.
2- وإذا أمر الشارع مكلفًا أن يأمر غير مكلف بأمر فلا يكون ذلك أمرًا للمأمور الثاني. فإن امتثله فحسن، وإن لم يمتثله فلا حرج عليه، ومثله إذا كان الآمر غير الشارع.
ومن أمثلته:
قول النبي صلى الله عليه وسلم : «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين».
هل المراجعة واجبة؟
قال الحافظ: واختلف في وجوب المراجعة، فذهب إلى وجوبها مالك وهو رواية عن أحمد، وذهب الجمهور إلى أنها مستحبة، وهو المشهور عن أحمد، واحتج الجمهور بأن ابتداء النكاح لا يجب فاستدامته كذلك لا تجب، قال: لكن صحح صاحب الهداية من الحنفية أنها واجبة، قال: والحجة لمن قال بالوجوب ورود الأمر بها، ولأن الطلاق لما كان محرمًا في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة، قال: فلو تمادى الذي طلق في الحيض حتى طهرت (فهل يجبر على الرجعة؟) قال مالك وأكثر أصحابه يجبر على الرجعة أيضًا، وقال أشهب منهم - أي من المالكية- إذا طهرت انتهى الأمر بالرجعة، واتفقوا على أنها إذا انقضت عدتها فلا رجعة حينئذ، وكذا لو طلقها في طهر قد مسها فيه لا يؤمر بمراجعتها، كذا نقله ابن بطال وغيره. لكن الخلاف فيه ثابت قد حكاه بعض الشافعية، واتفقوا على أنه لو طلق قبل الدخول وهي حائض لم يؤمر بالمراجعة إلا ما نقل عن زفر فطرد الباب.
قوله صلى الله عليه وسلم : «ثم ليمسكها» أي يستمر بها في عصمته.
قوله صلى الله عليه وسلم : «حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر» كذا في معظم الروايات، وفي رواية محمد بن عبد الرحمن عن سالم بلفظ: «مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً»، قال الحافظ في الفتح: وقد اختلف في الحكمة في ذلك.
قيل: الحكمة فيه أن لا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فإذا أمسكها زمانًا يحل له فيه طلاقها ظهرت فائدة الرجعة، لأنه قد يطول مقامه معها، فقد يجامعها فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها فيمسكها.
وقيل: إن الطهر الذي يلي الحيض الذي طلقها فيه كقرء واحد، فلو طلقها فيه لكان كمن طلق في الحيض، وهو ممنوع من الطلاق في الحيض، فلزم أن يتأخر إلى الطهر الثاني.
كذلك اختلف العلماء في جواز تطليقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها؛ والحق أنه مأمور بإمساكها في هذا الطهر، ممنوع من طلاقها فيه فكيف يباح له أن يطلق فيه؟(/2)
قوله صلى الله عليه وسلم : «ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس». وفي رواية أيوب: «ثم يطلقها قبل أن يمسها». وفي رواية عبيد الله بن عمر: «فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها أو يمسكها». ونحوه في رواية الليث، وفي رواية الزهري عن سالم: «فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها». وهذه الروايات يفسر بعضها بعضًا، وفي رواية محمد بن عبد الرحمن عن سالم: «ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً»، وتمسك بهذه الزيادة من استثنى من تحريم الطلاق في طهر جامع فيه ما إذا ظهر الحمل فإنه لا يحرم.
والحكمة فيه أنه إذا ظهر الحمل فقد أقدم على ذلك على بصيرة فلا يندم على الطلاق، وأيضًا فإن زمن الحمل زمن الرغبة في الوطء فإقدامه على الطلاق فيه يدل على عدم رغبته فيها.
ثم قال الحافظ: والحاصل أن الأحكام المترتبة على الحيض نوعان؛ الأول: يشرع بانقطاع الدم كصحة الغسل والصوم وتَرَتُّبِ الصلاة في الذمة، والثاني لا يشرع إلا بالغسل كصحة الصلاة والطواف وجواز اللبث في المسجد، فهل الطلاق من النوع الأول فيصح بمجرد انقطاع الدم؟ أو الثاني فلا يصح إلا بعد الغسل؟ قولان للعلماء.
المراد بالأقراء
قوله: «فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء» أي أذن الله أن تطلق لها النساء، وهذا بيان لمراد الآية وهي قوله تعالى: ««يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ»» قال الحافظ: واستدل به - أي بهذا الحديث- من ذهب إلى أن الأقراء الأطهار، وذلك للأمر بطلاقها في الطُّهر، وقوله: ««فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ»» أي وقت ابتداء عدتهن، وقد جعل الله للمطلقة تربص ثلاثة قروء، فلما نهى عن الطلاق في الحيض، وبيّن أن الطلاق في الطهر هو الطلاق المأذون فيه علم أن الأقراء هي الأطهار. قاله ابن عبدالبر.
هل يقع الطلاق في الحيض؟
قال الإمام ابن القيم: الخلاف في وقوع الطلاق المحرم لم يزل ثابتًا بين السلف والخلف. أي بين علماء الأمة منذ عهد السلف إلى يومنا هذا.
وقد اختلف علماء المسلمين في هذه المسألة على قولين مشهورين؛ الأول: يقع الطلاق في الحيض وهو قول جمهور الفقهاء، قال ابن عبد البر: وعلى هذا فقهاء الأمصار، وجمهور علماء المسلمين وإن كان الطلاق عندهم جميعهم في الحيض مكروهًا بدعةً غير سنةٍ، وقد استدل الجمهور لوقوع الطلاق بأدلة منها:
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن عبد الله ابنه: «مره فليراجعها...» فهذا أمر بالرجعة قالوا: والرجعة لا تكون إلا عن طلاق معتبر.
2- في رواية أنس بن سيرين لهذا الحديث قال أنس بن سيرين لابن عمر: تُحْتُسَبُ؟ قال ابن عمر: فمه؟
قالوا: أي اسكت فإنها تحتسب. لأن «مه» اسم فعل أمر بمعنى اكفف، أو تكون استفهامية، فيكون استفهامًا إنكاريًا. أي فماذا تكون إن لم تحتسب.
3- وفي رواية لمسلم: قال: قلت لابن عمر: أفيحسب بها؟ قال: ما يمنعه ؟ أرأيت إن عجز واستحمق؟
4- وفي رواية لأحمد في المسند قال: قلت لابن عمر: أفتحتسب طلاقها ذلك طلاقًا؟ قال: نعم، أرأيت إن عجز واستحمق؟
5- كذلك مما استدلوا به من حديث النظر: ما قرره ابن عبد البر وغير واحد من أهل العلم: قال ابن عبد البر: ألا ترى أن الله عز وجل قال في المطلقات: ««وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ»» [البقرة: 228]، يعني في العدة، وهذا لا يستقيم أن يكون مثله في الزوجات غير المطلقات.
القول الثاني: عدم وقوع الطلاق في الحيض، وممن قال بذلك أبو محمد بن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية ونقله عنه تلميذه ابن القيم وناقش قول الجمهور، وانتصر للقول بعدم وقوع الطلاق في الحيض، وقد استدلوا بأدلة، منها:
1- ما رواه أبو داود بالسند الصحيح الثابت أن أبا الزبير سمع عبد الرحمن بن أيمن يسأل ابن عمر، قال أبو الزبير: وأنا أسمع: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا ؟ فقال: طلَّق ابن عمر امْرأته حائضًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، قال عبد الله: فردها (أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) عليَّ ولم يَرَهَا شيئًا.
2- ما رواه ابن وهب عن جرير بن حازم عن الأعمش أنَّ ابن مسعود رضي الله عنه قال: من طلق كما أمره الله فقد بين الله له، ومن خالف فإنا لا نطيق خلافه.
3- وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضًا: من أتى الأمر على وجهه فقد بين الله تعالى له، وإلا فوالله ما لنا طاقة بكل ما تحدثون.
4- ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد». وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». قالوا: وهذا صريح أن الطلاق المحرَّم الذي ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم مردود باطل. فكيف يقال: إنه صحيح لازم نافذ ؟ فأين هذا من الحكم برده؟(/3)
5- واحتجوا أيضًا من حيث النظر؛ بأن النكاح المتيقن لا يزول إلا بيقين مثله من كتاب أو سنة أو إجماع متيقن، فإذا وجد واحد من هذه الثلاثة رفع به حكم النكاح، ولا سبيل إلى ذلك.
6- واحتجوا أيضًا بأن الطلاق لو كان يقع في الحيض فلماذا رده الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وما الفرق حينئذ بينه وبين الطلاق في الطهر ؟
7 ـ واحتجوا أيضا بقول ابن عمر: «أرأيت» فإنه لو ثبت لدى ابن عمر رضي الله عنهما أنه احتسبها طلقة ما رد السائل إلى الرأي بقوله: «أرأيت» فإن ابن عمر كان أبعد الناس عن الرأي، بل كان أعظم الناس تمسكا بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبعد، فإنك - أخي المسلم - ترى اجتهاد الفريقين.
ولقد أطال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (زاد المعاد) في إيراد أقوال كل من الفريقين وأدلتهما ومناقشة كل فريق لأدلة الآخر، والغرض من ذلك كله بيان اجتهاد فقهاء الأمة لأمر الله ورسوله، وتحري الحق والصواب حتى تكون الفتوى موافقة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله وما ورد عن السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة الهدى رحمهم الله جميعًا ورضي عنهم، وألحقنا بهم.
وإذا كانت الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، فإن أحوال الأمة في أمس الحاجة لمثل هذه الاجتهادات، ففي السعة تكون الفتوى على قول الجمهور في مثل هذه المسألة، وإذا ضاقت السبل، وانسدت المخارج أمام المفتي في قضية من قضايا هذا الطلاق، فلا بأس أن يفتي بالقول الآخر وسيكون له فيه سلف، فيكون الميزان حينئذ- كما قال بعض العلماء- قول الجمهور بمثابة العزيمة، وقول ابن حزم ومن معه من قبيل الرخصة، والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(/4)
الطلاق السُّني والطلاق البدعي
زكريا حسيني
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، نحمده تعالى ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره،
ونصلي ونسلم على خير خلق اللَّه محمد بن عبد اللَّه صلاة وسلامًا دائمين إلى
يوم الدين، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين، وبعد:
عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: كان الطلاق على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب رضي
الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه
عليهم! فأمضاه عليهم».
هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الطلاق
باب طلاق الثلاث برقم (1472/15، 16، 17)، ورواه الإمام أحمد في المسند برقم
(2875)، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه بالأرقام (11336، 11337، 11338)، وأخرجه
النسائي برقم (3435) في كتاب الطلاق باب «طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول
بالزوجة»، وأبو داود برقم (2200) في كتاب الطلاق باب «نسخ المراجعة بعد
التطليقات الثلاث»، وكذا أخرجه الطبراني والدارقطني والبيهقي.
شرح ألفاظ الحديث
قوله: «كانت لهم فيه أناة» أي مهلة، وبقية استمتاع لانتظار
المراجعة.
وقوله: «تتابع الناس في الطلاق» جاء في بعض روايات الحديث: «فلما كان
في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق» تتابع بتاءين بعدهما ألف وبعد الألف باء، أي
أكثروا من إيقاع الطلاق الثلاث، وقال الإمام النووي في شرح مسلم: «هو بالياء
رواية الجمهور، وضبطه بعضهم بالباء الموحدة وهما بمعنى (أي بمعنى واحد)، قال:
لكن بالمثناة يستعمل في الشر وبالموحدة يستعمل في الخير والشر، فالمثناة هنا
أجود.
اختلاف الفقهاء في العمل بهذا الحديث
القول الأول:قول جمهور فقهاء الأمة
وهو وقوع الطلاق الثلاث في «فم واحد» أي بلفظ: (أنت طالق ثلاثًا)، أو في مجلس
واحد، أي بلفظ: (أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق)، وحجتهم في ذلك ما استدلوا به
وأورده ابن عبد البر في كتاب الاستذكار على النحو التالي:
1- عن مالك أنه بلغه
أن رجلاً قال لعبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما: إني طلقت امرأتي مائة
تطليقة، فماذا ترى عليَّ ؟ فقال له ابن عباس: طلقتْ منك لثلاث، وسبع وتسعون
اتخذت بها آيات اللَّه هُزُوًا. (قال محقق الاستذكار: وأخرجه عبد الرزاق في
المصنف، والبيهقي في السنن، وانظر المحلَّى).
2- عن مالك أنه بلغه أن رجلاً جاء
إلى عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات،
فقال ابن مسعود: فماذا قيل لك ؟ قال: قيل لي إنها قد بانت مني، فقال ابن مسعود:
صدقوا؛ من طلق كما أمره اللَّه فقد بين اللَّه له، ومن لَبَسَ على نفسِهِ
لَبْسًا جعلنا لَبْسَهُ مُلْصقًا به، لا تَلْبسُوا على أنفسكم ونتحمله عنكم، هو
كما يقولون. (انظر تخريج الأثر السابق فإن هذا مثله).
3- أورد ابن عبد البر ما
رواه ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده عن ابن عباس؛ أتاه رجل فقال: إن عمي طلق
امرأته ثلاثًا، فقال: إن عمك عصى اللَّه، فأندمه اللَّه ولم يجعل له مخرجًا.
4- وأورد عنه أيضًا بسنده عن أنس قال: كان عمر إذا أُتِيَ برجل يطلق امرأته ثلاثًا
في مجلس واحد أوجعه ضربًا، وفرق بينهما.
5- وأورد عنه أيضًا بسنده إلى عمران بن
حصين أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثًا في مجلس، قال: عصى ربه وحرمت عليه.
6- وكذا أورد عن ابن عمر قال: من طلق امرأته ثلاثًا فقد عصى ربه، وبانت منه
امرأته، ثم قال أبو عمر بن عبد البر: لا أعلم لهؤلاء الصحابة مخالفًا إلا ما
خلا ذكره عن ابن عباس وهو شيء لم يروه عنه إلا طاووس، وسائر أصحابه رووه عنه
خلافه.
7- ثم أورد ما رواه عبد الرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة بسنديهما عن ابن
عباس رضي اللَّه عنهما: أنه سئل عن رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء، قال: يكفيه
من ذلك رأس الجوزاء (أي ثلاث).
ثم قال أبو عمر: فهذا سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء
وعمرو بن دينار وغيرهم يروون عن ابن عباس في طلاق الثلاث المجتمعات، أنهن
لازمات واقعات، قال: وذلك دليل واضح على وَهْي رواية طاووس عنه، وضعفها حين روى
عنه في طلاق الثلاث المجتمعات أنها كانت تعد واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي
بكر وصدرٍ من خلافة عمر، ثم قال: ما كان لابن عباس ليخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم
والخليفتين إلى رأي نفسه، ورواية طاووس وهم وغلط، لم يعرج عليها أحد من فقهاء
الأمصار بالحجاز والعراق والمغرب والمشرق والشام.
وممن قال بذلك؛ أي أن الطلاق
الثلاث بكلمة واحدة تلزم موقعها، ولا تحل له امرأته حتى تنكح زوجًا غيره الأئمة
الأربعة، وأصحابهم والثوري وابن أبي ليلى والأوزاعي والليث بن سعد وعثمان
البَتّي وإسحاق بن راهويه وغيرهم.
قال ابن عبد البر: وما أعلم أحدًا من أهل
السنة قال بغير ذلك إلا الحجاج بن أرطأة، ومحمد بن إسحاق، وكلاهما ليس بفقيه
ولا حجة فيما قاله.(/1)
القول الثاني: (عدم وقوع الطلاق الثلاث) حكاه ابن حزم، قال
ابن القيم في زاد المعاد: حكي للإمام أحمد فأنكره، وقال: هو قول الرافضة، قال
ابن عبد البر: ولم يقل به من أهل السنة إلا الحجاج بن أرطأة.
وهو أنها لا تقع
شيئًا، بل ترد لأنها بدعة محرمة، والبدعة مردودة لقوله صلى الله عليه وسلم : «من عمل عملاً ليس
عليه أمرنا فهو رد». ثم قال ابن القيم: وقد اعترف أبو محمد بن حزم بأنها لو
كانت بدعة محرمة لوجب أن ترد وتبطل.
القول الثالث:أنه يقع به طلقة واحدة
رجعية، قال ابن القيم: وهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما، ذكره أبو داود
عنه، قال الإمام أحمد: وهذا مذهب ابن إسحاق: يقول: خالف السنة فيرد إلى السنة،
وهو قول طاووس وعكرمة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أيد ابن القيم
هذا القول وانتصر له، وذهب إليه الشوكاني.
واحتج القائلون بهذا القول بالنص
والقياس، فأما النص فأحاديث منها:
1- حديث ابن عباس الذي معنا والذي رواه عنه
طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر ؟ قال: نعم، وقد سبق تخريجه في
صدر المقال.
2- ما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طلق عبدُ يزيدَ
- أبو ركانة وإخوته- أمّ ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما
يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة - لشعرة أخذتها من رأسها، ففرق بيني وبينه،
فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حَمِيَّة، فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: «ألا ترون أن
فلانًا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلانًا منه كذا وكذا ؟ قالوا: نعم، قال
النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: «طلقها» ففعل، ثم قال: «راجع امرأتك أمَّ ركانة وإخوته»،
فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول اللَّه، قال: «قد علمت، راجعها» وتلا: يا
أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن
لعدتهن.
[هذا لفظ أبي داود]
3- وعند أحمد في المسند: «طلق ركانة بن
عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، قال:
فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف طلقتها؟» فقال: طلقتها ثلاثًا، فقال: «في مجلس واحد؟»
قال: نعم، قال: «فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت». قال: فراجعها، فكان ابن عباس
يرى أنما الطلاق عند كل طهر.
4- ما أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد رضي
الله عنه قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام
غضبان ثم قال: «أيلعب بكتاب اللَّه وأنا بين أظهركم!!» حتى قام رجل وقال: يا
رسول اللَّه، ألا أقتله ؟
قال الشيخ أحمد شاكر: نقل الشوكاني عن ابن كثير أنه
قال: «إسناده جيد». وقال ابن حجر في «بلوغ المرام»: «رواته موثقون»، وقال في
فتح الباري: «ورجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له
منه سماع».
وأما القياس: فإنهم قالوا: قد تقدم أن جمع الثلاث محرم وبدعة،
والبدعة مردودة؛ لأنها ليست على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا: وسائر ما تقدم في بيان
التحريم يدل على عدم وقوعها جملة، قالوا: ولو لم يكن معنا إلا قوله تعالى:
فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [التوبة: 6]، وقوله
تعالى: ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات
بالله [النور: 8]، قالوا: وكذلك كل ما يعتبر له التكرار من حلف أو إقرار
أو شهادة أو تسبيح أو تحميد أو تكبير، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«تحلفون خمسين يمينًا، وتستحقون دم صاحبكم».
قال ابن القيم رحمه اللَّه تعالى
في إعلام الموقعين (ج3 ص33): وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاع مراته
كلها جملة واحدة كاللعان، فإنه لو قال: «أشهد بالله أربع شهادات إني لمن
الصادقين»، كان مرة واحدة، ولو حلف في القسامة وقال: «أقسم بالله خمسين يمينًا
أن هذا قاتله»، كان ذلك يمينًا واحدة، ولو قال المقر بالزنا: «أنا أقر أربع
مرات أني زنيت»، كان مرة واحدة؛ فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إلا إقرارًا
واحدًا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «من قال في يومه: سبحان اللَّه وبحمده مائة مرة حُطت عنه
خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر». فلو قال: «سبحان اللَّه وبحمده مائة مرة» لم
يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة، وكذلك قوله: «من سبح اللَّه دبر كل
صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمده ثلاثًا وثلاثين، وكبره ثلاثًا وثلاثين». الحديث، لا
يكون عاملاً به حتى يقول ذلك مرة بعد مرة، ولا يجمع الكل بلفظ واحد، وكذلك قوله
تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت
أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات،
وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «الاستئذان ثلاث مرات، فإن أذن لك وإلا فارجع»، لو قال
الرجل ثلاث مرات هكذا كانت مرة واحدة، حتى يستأذن مرة بعد مرة. وهذا كما أنه في(/2)
الأقوال والألفاظ، فكذلك هو في الأفعال سواء؛ كقوله تعالى: سنعذبهم
مرتين، إنما هو مرة بعد مرة، إلى أن قال: وهذه النصوص المذكورة وقوله
تعالى: الطلاق مرتان كلها من باب واحد ومن مشكاة واحدة، والأحاديث
المذكورة تفسر المراد من قوله: الطلاق مرتان فهذا كتاب اللَّه وهذه
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه لغة العرب، وهذا عرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
والصحابة كلهم معه في عصره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب؛ فلو عدهم
العاد بأسمائهم واحدًا واحدًا لوجد أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة، إما بفتوى
وإما بإقرار عليها، ولو فرض فيهم من لم يكن يرى ذلك فإنه لم يكن منكرًا للفتوى
به، بل كانوا ما بين مفتٍ ومقر بفتيا وساكت غير منكر.
القول الرابع: يقع الثلاث
على المدخول بها، وتقع واحدة على غير المدخول بها، وذاهب إلى هذا الحسن البصري
وإسحاق بن راهويه، وقد استدل أصحاب هذا القول برواية طاووس عن أبي الصهباء أنه
قال لابن عباس رضي اللَّه عنهما: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا
قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة
عمر ؟ قال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها
جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما أن رأى
عمر الناس قد تتابعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم. رواه أبو داود.
والجمهور لم
يفرق بين المدخول بها وغير المدخول، وهذا الحديث فيه التنصيص على غير المدخول
بها، وهو مخالف لعامة الروايات للحديث نفسه، بالإضافة إلى أنه يرويه أيوب عن
قوم مجهولين عن طاووس، فلا حجة فيه.
هذا، ولقد كتب العلامة الشيخ أحمد شاكر
بحثًا في نظام الطلاق في الإسلام، وأفاض في الكلام حول وقوع الطلاق الثلاث،
وقرر أن الخلاف بين التابعين فمن بعدهم في ذلك ونحوه إنما هو في تكرار الطلاق:
قال رحمه اللَّه تعالى: أعني أن يطلق الرجل امرأته مرة ثم يطلقها أخرى ثم
ثالثة، وأعني أيضًا: أن موضوع الخلاف هو: هل المعتدة يلحقها الطلاق ؟ أي إذا
طلقها المرة الأولى فصارت معتدة، ثم طلقها الثانية في العدة؛ فهل تكون طلقة
واقعة ويكون قد طلقها طلقتين ؟ فإذا ألحق بهما الثالثة وهي لا تزال في عدتها
الأولى؛ هل تكون طلقة واقعة أيضًا ويكون قد أوقع جميع الطلقات التي له عليها
وأبانها وبت طلاقها؟ أو أن المعتدة لا يلحقها طلاق ؟ فإذا طلقها الطلقة الأولى
كانت مطلقة منه، وهي في عدتها، لا يملك عليها إلا ما أذن به اللَّه: إمساك
بمعروف أو تسريح بإحسان إن ندم على الفراق راجعها فأمسكها،
وإن أصر على الطلاق فليدعها حتى تنقضي عدتها ثم يسرحها بإحسان من غير مُضارة،
ثم هو بالنسبة إليها بعد ذلك إن رغب في عودتها حكمه حكم غيره من الرجال: خاطِبٌ
من الخُطَّاب، ثم قال رحمه اللَّه: هذا هو موضع الخلاف على التحقيق، وأما كلمة:
«أنت طالق ثلاثًا» ونحوها فإنما هي محال، وإنما هي تلاعب بالألفاظ، بل هي تلاعب
بالعقول والأفهام !! ولا يعقل أن تكون موضع خلاف بين الأئمة من التابعين فمن
بعدهم.
ولقد أطال الشيخ أحمد شاكر رحمه اللَّه في تقرير ما ذهب إليه، فساق
الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وقال بعد سردها والحديث عنها: وليس المقصود
من الطلاق اللهو واللعب حتى يزعم الرجل لنفسه أنه يملك الطلاق كما يشاء، وكيف
شاء ومتى شاء، وأنه إن شاء أبان المرأة بتة، وإن شاء جعلها معتدة يملك عليها
الرجعة، كلا، ثم كلا، بل تشريع منظم دقيق من لدن حكيم عليم، شرعه لعباده رحمة
بهم، وعلاجًا شافيًا لما يكون في الأسرة بين الزوجين من شقاق وضرار، ورسم
قواعده وحد حدوده بميزان العدالة الصحيحة التامة، ونهى عن تجاوزها، وتوعد على
ذلك، ولهذا تجد في آيات الطلاق تكرار ذكر حدود اللَّه، والنهي عن تعديها وعن
المضارة: تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود
الله فأولئك هم الظالمون، وتلك حدود الله
يبينها لقوم يعلمون، ولا تمسكوهن ضرارا
لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا
آيات الله هزوا، واعلموا أن الله يعلم ما في
أنفسكم فاحذروه.
وبعد هذا العرض لأقوال العلماء في وقوع الطلاق
الثلاث؛ يقول الرجل لامرأته: «أنت طالق ثلاثًا»، أو بقوله: «أنت طالق، أنت
طالق، أنت طالق»، نرى أن القول الراجح في هذه المسألة هو قول الجمهور، وهذا لا
يمنع الحاكم أو القاضي أن يأخذ بالقول المرجوح وهو القول الثالث الذي ذهب إليه
شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وقال به بعض العلماء مثل الشوكاني، ونرى أن
المحصلة النهائية لكلام العلامة أحمد شاكر توافق ما قال به هؤلاء، ولا ينبغي أن
يشنع على من يأخذ بهذا ولا أن يعد مبتدعًا كما يحلو لبعض من كتب في الطلاق إذ
أن القول الفقهي وإن كان مرجوحًا فله وجه من الصحة، ولا مانع من الأخذ به في(/3)
بعض الأحوال والأماكن والأزمان، ولقد وضع ابن القيم هذه المسألة تحت عنوان:
تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، من كتابه إعلام الموقعين، كما أن زماننا هذا
قد تهاون الناس فيه بالطلاق - وذلك لجهل كثير من المسلمين بأحكام دينهم -
فيوقعون أنفسهم في الحرج، وربما شتت أُسرٌ، وتقطعت روابط بسبب التعجل في
الطلاق، فإن كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قد رأى تأديب
الناس بإيقاع الطلاق الثلاث عليهم وإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم، فإنما كان
يؤدب أناسًا رأى فيهم أن في إلزامهم ما ألزموا به أنفسهم زجرًا لهم ومانعًا من
التعجل في أمر جعل اللَّه لهم فيه فسحة، فلكل زمان أهله وحكامه الذين يوقعون
بأهل زمانهم ما يناسبهم.
فنسأل اللَّه تعالى أن يلهم عامة المسلمين رشدهم وأن
يوفق علماءهم وأمراءهم لما فيه صالح العباد والبلاد، وأن يرزقنا والمسلمين
العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى اللَّه وسلم وبارك
على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.(/4)
الطهارة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
إن من أهم الأمور التي يجب الاعتناء بها في حياة العبد هي: معرفة الطريق الذي يوصله إلى الله، ثم سلوكه والثبات عليه حتى الممات.. ولما كانت الغاية من خلق الإنسان هي عبادة الله –تعالى- وطاعته، وكانت هي الطريق الموصل إليه.. وكان من أنواعها الصلاة وهي الصلة الوثيقة بين الله وعبده.. لزم على الإنسان المسلم أن يعرف ما يصلح هذه الصلاة وما يفسدها، وما الذي تتم به هذه العبادة الجليلة، من شروط تشرط لها وأحكام تخصها، وإننا بإذن الله تعالى سنتحدث عن أعظم شرط من شروط الصلاة، وهو الشرط الذي يذكره الفقهاء دائماً في أول كتبهم الفقهية – ألا وهو الطهارة – لأن الصلاة لا تتم إلا بطهارة كاملة: طهارة الماء، والمكان، والبدن..
الطهارة:
لما كان الماء هو الأصل الذي يتم به الوضوء ورفع الحدث عن العبد لتصح صلاته ونحوها، كان لا بد من معرفة الماء الذي يرفع الحدث، ويزيل الخبث..
أنواع المياه:
أولاً: الماء الطاهر المطهر: الطاهر في نفسه المطهر لغيره؛ لأن عنصر الماء ومادته الأصل فيها أنها طاهرة لقوله –تعالى-: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً طَهُورًا} سورة الفرقان: 48. وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الماء طهور لا ينجسه شيء)1 ، وهذا الماء يسمى الماء المطلق، أي الذي لم يخالطه غيره من أي شيء كان سواء في لونه أو طعمه أو رائحته.
وأما المطهر: فهو الذي يطهر غيره، فهو طاهر في نفسه مطهر لغيره، يرفع به الحدث، ويزيل النجاسة، فاجتمع فيه الوصفان: طاهر الذات والمادة.. ومطهر للنجاسات ورافع للحدث.
وقد أجمع العلماء على أن ذلك الماء يرفع الحدث، وتزال به النجاسة.
ثانياً: الماء الطاهر غير المطهر: وهو الماء الذي خالطه شيء من الطاهر أو ألحق إلى اسمه وصف لازم بالإضافة أو بغيرها كقولنا: ماء الورد؛ لأنه أضيف إليه الورد، فخرج بهذا التقييد عن كونه مطلقاً. وحكم هذا الماء أنه: طاهر في نفسه فيجوز شربه واستخدامه في كل شيء.. إن غلب ذلك الوصف أو التقييد، ولكنه لا يرفع الحدث، ويزيل النجس، لأن إزالة النجس لا يشترط فيها كون المزيل ماء مطلقاً أو باقياً على أصل خلقته، وإنما يكفي أن يزال بأي شيء طاهر، أيا كان ذلك الشيء. قال شيخ الإسلام قدس الله روحه "وأما إزالة النجاسة بغير الماء ففيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد أحدها: المنع كقول الشافعي وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمدوالثاني: الجواز كقول أبي حنيفة وهو القول الثاني في مذهب ملك وأحمد والقول الثالث: في مذهب أحمد أن ذلك يجوز للحاجة كما في طهارة فم الهرة بريقها وطهارة أفواه الصبيان بأرياقهم ونحو ذلك والسنة قد جاءت بالأمر بالماء في قوله لأسماء "حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء" وقوله في آنية المجوس "إرحضوها ثم اغسلوها بالماء" وقوله في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد "صبوا على بوله ذنوبا من ماء" فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة ولم يأمر أمراً عاماً بأن تزال كل نجاسة بالماء وقد أذن في إزالتها بغير الماء في مواضع منها الاستجمار بالحجارة ومنها قوله في النعلين ثم " ليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور " ومنها قوله في الذيل " يطهره ما بعده" ومنها أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله ثم لم يكونوا يغسلون ذلك ومنها قوله في الهر " إنها من الطوافين عليكم والطوافات " مع أن الهر في العادة يأكل الفأر ولم يكن هناك قناة ترد عليها تطهر بها أفواهها بالماء بل طهورها ريقها ومنها أن الخمر المنقلبة بنفسها تطهر باتفاق المسلمين وإذا كان كذلك فالراجح في هذه المسألة أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان زال حكمها فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة لما في ذلك من فساد الأموال كما لا يجوز الاستنجاء بها"2
وعليه فالماء الذي خالطه زعفران، أو صابون، أو عجين، إذا خرج عن إطلاقه بحيث لا يتناوله اسم الماء المطلق، فهو طاهر في نفسه مزيل للنجس غير رافع للحدث. فإن خالطه ذلك وبقي على إطلاقه.. فهو رافع لهما معاً. وقد خالف في ذلك أبو حنيفة، وذهب إلى أن ما خالط الماء من شيء طاهر فإن الطهارة تصح به، حتى لو تغير اسم الماء المطلق، ما عدا الماء الذي طبخ به.
ثالثاً: الماء النجس: هو الماء الذي تغير أحد أوصافه الثلاثة – الرائحة أو الطعم أو اللون- بنجاسة واقعة فيه.. فهذا الماء لا يجوز استعماله ما دام على حالته تلك، سواء في رفع الحدث أو إزالة النجس، وقد اتفق العلماء على ذلك؛ إلا أن الخلاف حصل في كمية هذا الماء الذي وقعت فيه النجاسة.. هل كل ماء وقعت فيه النجاسة ولم تغير أحد الأوصاف الثلاثة نجس أم لا؟ اختلف الفقهاء في ذلك فقالت طائفة:(/1)
1. هو طاهر سواء كان قليلاً أو كثيراً، وهذا قول مالك في رواية عنه، وبه قال أهل الظاهر، واختاره شيخ الإسلام رحمة عليه..
2. فرَّق فريق من العلماء بين القليل والكثير، فقالوا: إن كان الماء قليلاً تنجس بمجرد وقوع هذه النجاسة فيه، وإن كان كثيراً لم ينجس. وأصحاب هذا القول اختلفوا ما هو حد القليل من الكثير؟
- ذهب أبو حنيفة إلى أن الحد في هذا: هو أن يكون الماء من الكثرة بحيث إذا حركه آدمي في أحد طرفيه، لم تصل الحركة إلى الطرف الثاني منه.
- وقال الشافعي: الحد في الكثير: قلتان من قلال هجر. وتساوي خمسائة رطل بغدادي(3). وفي المذاهب تفريعات ليس هذا مقا م ذكرها.
وسبب اختلافهم في ذلك هو تعارض ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك.. غير أن أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن تتعارض، ولكن قد يتوهم التعارض، لعلة في الفهم أو غيرها، ولهذا يقول العلماء: تعارض ظواهر النصوص، فإنه يفهم من ظواهر النصوص أنها متعارضة، والأصل القطع بعدم تعارضها في ذاتها، لأن الأفهام متفاوتة والمدارك مختلفة.
والحاصل أن المسألة قوية التجاذب بين العلماء، وأفضل ما ذهب إليه فيها: أن الماء إذا وقعت فيه النجاسة وغيرته فهو نجس، وإن لم يتغير فهو طاهر سواء كان قليلاً أو كثيراً؛ لأن العلة في التنجيس هو تغير الماء بأحد الأوصاف الثلاثة، ولهذا جاء في الحديث: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه).
والزيادة هذه -وإن كانت ضعيفة- أعني: إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه، فقد اتفق العلماء على مضمونها، والعمل بها وهي أن الماء إذا تغير بأحد الأوصاف المتقدمة فهو نجس، وقد ذهب إلى هذا القول ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية(4) ومن المعاصرين الشيخ ابن عثيمين رحمه الله(5).
ثالثاً حكم الماء المستعمل:
الماء المستعمل في طهارة: هو الماء الذي استخدمه العبد في رفع الحدث الأصغر، وهو ما يرفع بالوضوء والأكبر وهو ما يرفع بالغسل، فهل هذا الماء الذي تم الوضوء به، أو الغسل به يعد صالحاً لرفع الحدث أو إزالة النجاسة؟!.
اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال ذكر الشوكاني منها في النيل وغيره قولين فقال: القول الأول: أن ذلك غير مطهر ولا رافع للحدث، وهو مذهب أحمد بن حنبل، والليث والأوزاعي والشافعي في رواية عنه، ومالك في رواية عنه، وأبي حنيفة في رواية عنه، واستدلوا بأدلة منها: النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة...
والقول الثاني: أنه طاهر مطهر: وعزاه الشوكاني فيما نقله عن ابن حزم إلى عطاء والثوري وأبو ثور وجميع أهل الظاهر. ونقله غير ابن حزم عن الحسن البصري والزهري والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة في إحدى الروايات عن الثلاثة المتأخرين.
القول الثالث: شذ أبو يوسف – صاحب الإمام أبي حنيفة- فقال: إنه نجس6.
والذي يقتضيه النظر ومن خلال الأحاديث الكثيرة أن حكمه حكم الماء المتغير بشيء من الطاهرات فهو طاهر مطهر كما مر، والدليل:
ما روى أبو داوود والترمذي عن الربيع بنت معوذ: ( أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح برأسه من فضل ماء كان بيده) 7، فإن فضل الماء الذي بيده الشريفة يعد ماءً مستعملاً.
وورد أن الصحابة كانوا يأخذون من زيادة وضوئه -صلى الله عليه وسلم- الذي يتساقط، وكادوا يقتتلون عليه للتمسح به. كما روى ذلك البخاري في صحيحه.
وهذا القول رجحه الشوكاني-رحمه الله- وهو مذهب من تقدم ذكرهم من العلماء. وذهب إليه ابن عثيمين -رحمه الله-فقال: والصواب أنه لا يكره؛ لأن الكراهة حكم شرعي يفتقر إلى دليل...).(8)
رابعاً الماء المشمس:
وهو الماء الذي وضع في الشمس ليسخن ثم يتوضأ به؛ نتيجة لشدة البرد.. فهذا الماء كره الشافعية الطهارة به.. ورجح النووي أنه لا يكره مطلقاً حيث قال: والراجح من حيث الدليل أنه لا يكره مطلقاً، وهو مذهب أكثر العلماء، وليس للكراهة دليل يعتمد، وإذا قلنا بالكراهة فهي كراهة تنزيه لا تمنع صحة الطهارة...).(9) وغير الشافعية كالحنابلة وغيرهم ذهبوا إلى عدم الكراهية؛ لعدم ورود الدليل.
أسأل الله العلي القدير أن ينفع بهذه الدروس كاتبها وقارئها ومعلمها للناس إنه سميع مجيب..
________________________________________
1- رواه أحمد وصححه، وأبو داوود، والترمذي وحسنه، والنسائي وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري . وصححه الألباني.
2 - المجموع: 21/474
3- وهي تساوي: 191 كجم تقريباً.
4- مجموع الفتاوى (21/73، 24).
5- الشرح الممتع (1/32-34). ط/ مؤسسة آسام.
6 - انظر: ( بداية المجتهد).
7 - قال الألباني: إسناده حسن
8- الشرح الممتع 1/29.
9- روضة الطالبين 1/120. ط/ دار الكتب العلمية.(/2)
الطيب والخبيث 2
1623
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
ملخص الخطبة
1. الفرق في الجزاء بين الطيب والخبيث.2. النهي عن العجب بالخبيث وما يصور عنه من خبيث القول والفعل.3. الخبيث والطيب لا يستويان.4. كثرة الخبيث وقلة الطيب.5. صور من المفارقة بين الطيب والخبيث.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله: يقول الله جل وعلا وتبارك وتعالى وتقدس وتعاظم: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون [المائدة:100]. فهذا بيان من الله جل وعلا، وحكم منه أنه لا يستوي عنده الخبيث والطيب، بل لا يستوي الطيب والخبيث مطلقًا، فالطيب مفضل، الطيب في أعلى الدرجات، والخبيث في أسفل سافلين في أسفل الدرجات، الخبيث من الأقوال يدنيه الله جل وعلا في جهنم، والطيب من الأقوال يرفعه الله جل وعلا في الجنة في دار كرامته، الطيب من الأعمال يحبه الله جل وعلا، فإن الله طيبٌ لا يحب إلا طيبًا، إن الله جل جلاله طيب يحب الطيب من القول ويحب الطيب من العمل ويضاعفه لأصحابه ، الله جل وعلا يحب الطيبين من الناس، ويبغض الخبيثين من الناس، الله جل وعلا يرفع الطيب من المال ويبارك لأصحابه فيه، ويخفض الخبيث من المال ويجعله وبالاً على أصحابه.
فهذه أنحاء أربعة يكون فيها الطيب والخبث، طيب في الأقوال وطيب في الأفعال والأعمال، وطيب في الناس، وطيب في الأموال، وما يقابلها: خبث في الأقوال وخبث في الأعمال وخبث في الناس وخبث في الأموال.
وعلى هذا فلنعلم أن قول الله جل وعلا: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث [المائدة:100] نهي لنا أن نُعجب بالخبيث، نهي لنا أن نُعجب بالكثير إذا لم يكن طيبًا، فالله جل وعلا أمر ونهى، أمر أن نكون طيبين في أقوالنا وأعمالنا وذواتنا وأموالنا، ونهانا أن نكون من الخبيثين في أقوالنا وأعمالنا وفي ذواتنا، وفي أموالنا.
فانظر رحمك الله هل يستوي الذي طاب لسانه وطاب قيلُه وقوله، فهو لا يقول إلا القول الطيب، إذا حضرت مجلسه وجدته طيبًا مطيبًا إنما يذكر القول الحسن الذي فيه إرشاد للخير، أو الذي فيه صلة أو الذي فيه إصلاح بين الناس لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس[النساء:114].
من الناس من أقواله طيبة، طيب في لسانه، لا ينطق إلا بكلام طيب حسن يُسر به سامعه، ويقربه إلى مولاه ويباعده من نزغات الشياطين، فهل يستوي من طاب لسانه مع ذلك الرجل الآخر أو تلك المرأة الأخرى الذي إذا تكلم ـ أعني الرجل ـ إذا تكلم تكلم بخبيث من القول، بغيبة، أو نميمة، أو بتفريق بين الناس، أو بنقل القالة فيما بينهم ليظهر قدر فلان من إخوانه المسلمين على الآخر، إذا تكلم فإنما يتكلم بالخبيث، يرشد إلى منكر أو يحبب إلى قبيح هل يستويان مثلاً أفلا تذكرون[هود:24].
لا يستوي اللسان الطيب واللسان الخبيث ولو قل كلامه مَنْ لسانه طيب، فهو أزكى عند الله جل وعلا، وإن ظنه الناس في عيٍّ من القول وعدم إفصاح وإنما ينطق بالحق وما يقربه إلى ربه جل وعلا، قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ في وصيته له: ((وكُفَّ عليك هذا)) قال: يا رسول الله: أو إنا مؤاخذون بما نقول؟ قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم))[1].
أيضًا أيها المؤمنون لا يستوي ذو الطيب من الأعمال، ذو الطيب من الأفعال، وذاك ذو الخبث في الأعمال وذو الخبث في الأفعال، هذا الطيب في عمله إذا رأيته رأيت عمله طيبًا، رأيت عمله حسنًا، رأيت عمله يحبب إلى الله ويحبب الله فيه الناس، فهو لا يسعى إلا بعمله يسر به من رآه، طيبٌ في عمله مؤدٍ لأمانته، مؤدٍ لأمانته العظمى في حق الله جل وعلا بأداء فرائض الله وأداء الواجبات التي أوجبها رب الأرض والسموات، إذا عمل فإنما يعمل على وصف الشرع، فهو طيب في أعماله، راع لأمانته في وظيفته، إذا استرعي على مال حفظه، إذا استرعي على أيتام حفظهم وحفظ أموالهم، إذا استرعي على ولده حفظهم وحفظ تربيتهم، فهو طيب في عمله، طيب في فعله، والله جل وعلا طيب يحب الطيبين، والجنة دار للطيبين.
هل يستوي هذا وذاك الآخر الخبيث في عمله، والخبيث في فعله، تراه لم يرع أمانة الله مفرطاً في واجبات الله، لم يؤد الصلوات وخان الأمانة، لم يؤد زكاة المال، إذا استرعي على عمل خان، إذا استرعي على مال أكله، إذا استرعي على وظيفة ارتشى وغش وخان، وهذا عمله خبيث وعمله موبق له، إذا رأيت هؤلاء كثيرين، والطيبون قليلون الذين يرعون أمانتهم، فتذكر قول الله جل وعلا: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث.(/1)
بعض الناس إذا رأى الأكثرين تسارعوا في الخبيث من الأقوال والخبيث من الأعمال، يقول: الناس كلهم كذلك فيحمله ذلك الظن على أن لا يكون طيبًا في قوله وفي عمله وفعله، وهذا من مداخل الشيطان على القلوب، وربك جل وعلا يقول: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث.
كذلك الطيب من الناس لا يستوي مع الخبيث من الناس، المؤمن التقي الموحد لله الذي أخلص قوله وعمله لله، فليس في قلبه عمل لغير الله، إنما هو مخلص لله، مخلص في قوله، مخلص في توجهاته لله، طاب ذاتًا وقلبًا فليس في قلبه إلا محبة الله، ليس في قلبه إلى محبة رسول الله . يبغض الشرك وأهله والبدع وأهلها، يبغض ذلك متقربًا بذلك إلى الله، ويجاهد في ذلك، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
هل يستوي هو والآخر الذي لا يحب السنة وأهلها، الذي لا يرفع رأسه بأعظم واجب ألا وهو توحيد الله، يتساهل في ذلك إما في نفسه أو في من حوله، أو في دعوته، كل ذلك لا يستوي عند الله قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث.
إذا كثر أولئك فلنتعزَّ بقول الله جل وعلا: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين[يوسف:103]، وقال جل وعلا ـ في وصف من آمن مع نوح ـ: وما آمن معه إلا قليل[هود:40].
فالطيب هو الذي يباركه الله جل وعلا، ويرفعه وينميه ويزكيه؛ لأن الله جل وعلا طيب لا يحب إلا طيبًا.
كذلك الطيب من المال والخبيث من المال لا يستويان؛ فالطيب في الأموال وإن قلَ فمآله إلى بركة، مآله إلى خير، بعض الناس تضيق عليه سبل الكسب فلا يحب إلا قليلاً طيبًا، فليفرح بذلك الطيب القليل؛ لأن معه بركة الله جل وعلا؛ لأن معه أن يكون نماء جسده ونماء دمه ونماء جسد أولاده من مال طيب يحبه الله، فإذا رفع ذلك الذي تحرى المال الطيب يديه إلى الله كان حريًا بأن تقبل دعوته وكان حريًا بأن يجيبه الله جل وعلا.
وكذلك لا يستوي هذا الرجل وذلك الآخر الذي تراه في عز وفي مال وفير يتنوع في الملابس ويتنوع في المراكب، وهي ليست من مال حلال، إنما هي إما من رشوة، وإما من ربا، وإما من غش وإما من خيانة لأموال المسلمين فلا يستوون عند الله، لا يستوون أبدًا، فذلك وإن كثر ماله فإنما هو مال خبيث وباله عليه في هذه الدنيا وفي الآخرة، وإذا غذي فيه جسده فإنه متوعد بأن لا يجيب الله دعوته، ثبت في صحيح مسلم أن النبي ذكر الرجل الذي يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، قال عليه الصلاة والسلام: ((ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك))[2]، إن الله جل جلاله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال جل جلاله: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا[المؤمنون:51].
نعم أيها المؤمنون: لا يستوي الخبيث والطيب لا في القول ولا في العمل، ولا في الذوات ولا في المال، ولكن الشأن كل الشأن من يروم ربه جل وعلا من يخلص لربه، من يروم جنة الله، من يروم دار الخلد ودار الكرامة ودار الطيبين، فيصبر على ألا يقول إلا طيبًا ولا يعمل إلا طيبًا، ولا يكسب إلا طيبًا فإن ذلك يحتاج إلى صبر وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب[الزمر:10]، وأسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى أن يجعلني وإياكم من الذين طابت أقوالهم وأعمالهم وطابوا ذاتًا ونفسًا، اللهم اجعلنا وذرارينا ومن نحب من الطيبين المطيبين الذين رضيت أقوالهم ورضيت أعمالهم.
واسمع قول الله جل وعلا بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
---
[1] صحيح أخرجه أحمد (5/231) ، والترمذي ح (2616) وقال : حديث حسن صحيح ، وابن ماجه ح (3973) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
[2] صحيح مسلم ح (1015) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حق حمده، أثني عليه الخير كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بتقوى الله عز وجل فإن بالتقوى فخاركم وسعادتكم ورفعتكم في هذه الدنيا وفي الدار الآخرة.(/2)
أيها المؤمنون: لا يستوي الطيبون من الذرية، لا يستوي الطيبون من الأولاد وأولئك الخبثاء من الأولاد، تجد الطيب من الأولاد بارًا بوالديه، قريبًا من والديه، يسعى في خدمتهما، يسعى في إرضائهما، ممتثلاً في ذلك أمر الله جل وعلا حيث قال: وقل لهما قولاً كريمًاواخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا[الإسراء:24].
لا يذكر من القول إلا القول الكريم الذي هو أحسن الأقوال لا يجابه والده ولا أمه وكل منهما له أعظم الحق، أعظم حق البشر للبشر، فإذا كان كذلك كان المؤمن الطيب ساعيًا في أحسن القول ساعيًا في أحسن العمل، أولئك هم الطيبون من الأولاد، الطيبون من الذرية الذين يرومون إرضاء والديهم بأنواع ما يرضونهم به مما هو في طاعة الله جل وعلا، هل يستوون مع أولئك الذين خبثت ذواتهم بأن وُكّلوا إلى أنفسهم وتسلط الشيطان عليهم ولم يتوبوا إلى الله فتجدهم عاقين بوالديهم عاقين بأمهاتهم، يدخلون البيوت ولا يقولون إلا أشر القول، ويخرجون وهم لا يعينون والديهم، لا في أمر صغير ولا كبير، تبعتهم على والديهم كبيرة، إذا تكلموا تكلموا بالخنا يفرطون في واجبات الله، لا يؤدون الصلاة، وآباؤهم وأمهاتهم قلوبهم في حسرةٍ على أولئك وعلى تلك الذرية، أولئك عليهم أن يتخلصوا من ذلك الخبث الذي جعله الشيطان في أنفسهم وأن يكونوا طيبين مع آبائهم، طيبين مع أمهاتهم، أعظم الطيب، ابتغاء لوجه الله جل وعلا ثم إرضاءً لوالديهم، وكما تدين تدان.
كذلك بعض الآباء طيب في معاملته مع أولاده، إذا عملوا أمرًا يقره الشرع ساعدهم على ذلك، وحبب إليهم ذلك، وآخرون ليسوا كذلك، بل هم في وجه مطيعين من أبنائهم يبعدونهم عن الطاعة ويحببون إليهم بطريقٍ ظاهرٍ أو بطريقٍ خفيٍ يحببون إليهم أن يبتعدوا عن الطاعة، وأولئك عليهم أن يخافوا الله جل وعلا من سوء الخاتمة وبأن يحشروا مع الذين لا يسر العبد أن يحشر معهم.
ذلك أيها المؤمنون أمر عظيم يجب علينا أن نتنبه له، وأن نكون آباءً كنا أو أولادًا، أن نكون طيبين ساعين في ذلك بكل ما نستطيع، اللهم واجعلنا كذلك وباعد بينا وبين كل أمر لا تحبه ولا ترضاه.
عباد الله: إن الله جل جلاله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته فقال قولاً كريمًا: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا[الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.(/3)
الظلم وعواقبه الوخيمة
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلى على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المجاهدين، وقائد الغزّ الميامين محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أما بعد:
فيقول الله سبحانه وتعالى {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}،وقال صلى الله عليه وسلم {اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة}
إن الظلم سبب لخراب الديار، وسبب لهلاك الأمم والشعوب، وهو سبب لحياة الضنك التي يشكو منها الناس، والظلم سبب للعذاب الأليم في الآخرة، فهو ظلمات بعضها فوق بعض، يبدأ مع الظالم في الدنيا، ثم يعذبّه في قبره، وبعدها يفسد عليه آخرته فيوبقه في النار والعياذ بالله.
ومن هنا، جاء الإسلام محذّراًَ من الظلم آمراً بالعدل في كل الأمور، وفي جميع نواحي الحياة، وهدّد الظالمين وتوعدهم، وأمر بالوقوف إلى جانب المظلوم والدفاع عنه حتى ينكشف الظلم عنه ويرتفع .
والظلم عباد الله بفروعه الكثيرة يكاد ينحصر في نوعين رئيسين، ألا وهما:
وضع الشيء في غير مكانه .
والتصرف في ملك الغير دون رضاه.
لذلك جاء الإسلم دبن عدل محّرماً للظلم بكل صوره وفروعه، حتى إن الله سبحانه وتعالى قال في الحديث القدسي : ((يا عبادي إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا))، وقال الله سبحانه وتعالى {ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً} .
فمن الظلم الذي هو وضع الشيء في غير مكانه، ألاّ يكون الكفؤ المناسب في المكان الذي يليق به ويستحقه، لأنه ليس من نسب معيّن، أو من جماعة معيّنة، أو من عشيرة معيّنة، فيوضع الرجل غير المناسب في المكان الذي لا يناسبه ظلماً وزوراً، فيتصرّف بقوت الناس ومصيرهم وفق هواه، فيكون عندها ضالاً مضلاً. ولا يقتصر هذا على الدول فقط، بل إن بعض المؤسسات، والحركات غالباً ما يكون فيها رجلاً غير مناسب وفي غير مكانه.
وإن هذا الظلم لما يتحقق ينتج عنه النوع الآخر من الظلم، وهو التصرّف في ملك الغير، لأن الأول أصلاً ليس بالكفاءه التي تؤهله أن يكون في مكانه، فيتصرّف في ملك وحقوق الآخرين ظلماً أو جهلاً أو تسلّطاً .
وهذا الذي عدّه النبي صلى الله عليه وسلم علامة من علامات الساعة، فقد سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله متى الساعة ... فقال إذا ضيّعت الأمانة، فانتظر الساعة، فقال الأعرابي: وكيف إضاعتها؟ فقال صلى الله عليه وسلم إذا وسُّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة))، ومن هنا بتنا نجد في الأمة من يتصّرف بمقدراتها وشعوبها وحياتها وهو أصلاً ليس أهلاً لذلك ولا يمثّل الأمة في شيء.
عباد الله: لما كان الظلم حتمي الوقوع لأن طبائع الناس وتكوينهم تدعو لذلك، حذّر النبي صلى الله عليه وسلم منه أشد تحذير وفي أكثر من موضع، حتى لا يصبح الظلم خلقاً عاماً وعنواناً للأمة فيحق عليها الهلاك والعذاب، فقال صلى الله عليه وسلم: (( إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة))، وهدد الله تعالى الظالمين فقال: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار)).
وقال الله تعالى {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً}، وهدا كله في الدنيا أما في الآخرة فالنار بانتظار الظالمين، يقول الله تعالى: {إنا اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاًَ}.
عباد الله: إن الإسلام يأمر المسلم أن يكون صاحب موقف واضح لا لبس فيه من الظالمين ومن نصرة المظلوم، وحث على الدفاع عن المظلومين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ عندما أرسله إلى اليمن: (( اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).
وقال صلى الله عليه وسلم، ((دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً وفجوره على نفسه))، فإذا كان الأمر كذلك فلا بد من الحذر من الظلم، وأن نقف مع أنفسنا وقفة مراجعة ونسأل أنفسنا، هل نحن من الظالمين أم المظلومين؟ ما هو حالنا في بيتنا؟ وفي وظيفتنا؟ وفي الموقع الذي نكون فيه.
أيها المسلمون هل سمعتم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام، يقول الله سبحانه عز وجل: وعزتي وجلالي لانصرنك ولو بعد حين)). فبالله عليكم ماذا سنجيب الله تعالى حينما نسأل عن دمار أهلنا في فلسطين، وما تراه من ظلم على إخواننا في العراق، وما نشاهده عن أفغانستان والشيشان وكشمير وغيرها من الجروح النازفة للمسلمين دون أدنى مسؤولية من الكثيرين منا تجاه الظلم الواقع على إخواننا أولئك؟!
فلا يحسبن البعض أنه إذا لم يكن ظالماً بيده فقد نجا، بل إن الساكت على الظلم الذي لا يأخذ على يد الظالم يشاركه في ظلمه، بل إن عذاب الله نازل معه، فقد قال الله تعالى {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وكل منا يعلم أنه لما نزل جبريل بالعذاب على القرية وكان فيها عبد صالح قال الله تعالى له به فابدأ .(/1)
قال صلى الله عليه وسلم ((أُمر بعبد من عباد الله يضرب في قبره مئة جلدة، فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع وأفاق قال على ما جلدتموني؟ قال إنك صليب صلاة بغير طهور وحررت على مظلوم فلم تنصره)).
أيها المسلمون: هلاّ نظرنا إلى حال أمتنا الإسلامية من أدناها إلى أقصاها ومن مشرقها إلى مغربها، فبالله عليكم هل هذا الحال يرضي منصفاً؟! ... وهل الهوان الذي تعيشه الأمة إلاّ بسبب الظلم والظالمين، الذين باتوا يتصرفون في كل صغيرة وكبيرة ويتحدثون باسم الأمة وهم الذين يحاربونها في قوتها وعملها ودينها، حتى تصبح الأمة قطيعاً من الأغنام يقاد دون نقاش أو إبداء رأي أو جدال فلماذا شرع الله تعالى الجهاد في سبيله ؟!... أليس لإزالة العوائق من وجه الدعوة؟.. وحتى لا يقف بين الناس ودينهم وخالقهم حائل؟!.. وهل الجهاد أصلاً إلاّ لإزالة الظالمين الصادين عن دين الله المرهبين لعباد الله؟! وهؤلاء هم الذين لعنهم الله تعالى في كتابه فقال {ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً}.
أخوة الإسلام: إذا زيّن الشيطان للمرء ظلمه لغيره، وحسب أنه في منأئً عن الحساب، فإنه جاهل بسنن الله تعالى وبحقيقة الأمر، لأن الله تعالى بمهل ولا يهمل، فقد قال صلى الله عليه وسلم ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم تلا قول الله تعالى {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد}، فالعدل العدل إخواني في الله، وعليكم بالجهر بالحق ونصرة المظلوم ولو كان الأمر مّراً، وبالهجمة الهمجية التي ترون في أيامنا هذه من العصابة المجرمة الظالمة الحاقدة على الجهاد والمجاهدين ومحاولة التضييق عليهم بأيد عميلة ومأجورة عوضاً عن إمكاناتهم الكبيرة، التي نعتقد أن الله تعالى أكبر منها ومنهم. فما هذه الهجمة إلا عنواناً للظلم والظالمين وعليك أخي التبرؤ منها بكل وسيلة متاحة، وألا تنجرّ وراء الذين هانت عليهم أنفسهم فتقازموا وصغروا حتى أصبحوا عصاة لينة في يد أعداء الأمة .
فلا بد لهؤلاء المنافقين المتخاذلين ومن خلفهم أن يسمعوا الصوت الحقيقي للأمة الرافض للظلم والذل والهوان، وإن تنازل المتنازلون وطأطأ رؤوسهم المنهزمون، وليعلم كل مسلم منا أن لك جولات مع الحق وإن كان للباطل جولته في هذه الأيام، فالأيام دول والله تعالى يبتلي العباد حتى يميز الخبيث من الطيب .
فيا أخي في الله :
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم يرجع عقباه إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
عباد الله : النبي صلى الله عليه وسلم أوصى ألا يظلم المسلم أخاه ولا يتركه للظالم ويسمله له كما أنه لا يخدله بالدفاع عنه وتبني حقه، فقال صلى الله عليه وسلم ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله))، فإن ابتعد المسلمون عن هذا النهج وحادوا عن الطريق الذي رسمه الله تعالى لهم فإن الله تعالى يذهب هؤلاء الناس ويأتي بالقوم الذي يحبهم ويحبونه.
{وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}
ولنأخذ من فرعون وقومه العبرة، فإن فرعون لما سار قومه على هواه وتابعوه على ظلمه وصفهم الله تعالى بالفسق وأصبح يستعبدهم فقال الله تعالى {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم} .
ولكن لما ظهر رجل مؤمن منهم ودافع عن المظلومين من أتباع موسى ودعوته ودافع عن حق موسى وكان يكتم إيمانه كانت العاقبة للمتقين .
فلا نسلم إخواننا الظالمين، ولا بد من العمل بالمتاح لرفع الظلم عنهم حتى ولو بالدعاء في جوف الليل إن لم يمكن سواه وعندها فقد قد يتبرأ المرء من الظلم والظالمين.
عباد الله لا بد من رجعة حقيقة لديننا، وهبة نصرة للمستضعفين من إخواننا المجاهدين في فلسطين خاصة وغيرها عامة، علّ الله تعالى يرفع عنا الذل والهوان الذي نعيشه، فاللهم إنا نبرأ إليك من الظلم والظالمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(/2)
الظلم
أولاً: تعريف وبيان:
1- تعريف الظلم لغة.
2- تعريف الظلم شرعا.
ثانياً: الله تعالى حرم الظلم على نفسه.
ثالثاً: الإنسان مطبوع على الظلم.
رابعاً: تحريم الظلم والتحذير منه.
خامساً: أنواع الظلم.
سادساً: من يقع الظلم في حقهم.
سابعاً: أنواع الظلمة.
ثامناً: أعظم الظلم.
تاسعاً: أضرار الظلم.
1- الظلم ظلمات يوم القيامة.
2- الظلم سبب هلاك الأمم.
3- قبول دعوة المظلوم في الظالم.
4- اللعن للظالمين.
5- إملاء الله للظالم حتى يأخذه.
6- حال الظالمين في الآخرة.
7- حرمان الفلاح.
8- حرمان الهداية والتوفيق.
9- حرمان حب الله تعالى.
10- حلول المصائب في الدنيا والعذاب في القبر.
11- العذاب الأليم.
12- خذلان الظالم عند الله تعالى.
عاشراً: نصرة المظلوم.
حادي عشر: الانتصار من الظلم والدعاء على الظالم.
ثاني عشر: العفو عن الظالم.
ثالث عشر: التوبة من الظلم والتحلل من المظالم.
رابع عشر: اقتصاص المظالم في الآخرة قبل دخول الجنة
أولاً: تعريف وبيان:
1- تعريف الظلم لغة:
قال ابن فارس: "الظاء واللام والميم أصلان صحيحان، أحدهما: خلاف الضياء والنور، والآخر: وضع الشيء غير موضعه تعدّياً".
وقال الجوهري: "ظلمه يظلمه ظلماً ومظلمة، وأصله وضع الشيء في غير موضعه".
2- تعريف الظلم شرعا:
الظلم: التصرّف في حقّ الغير بغير حقّ، أو مجاوزة الحق.
وقيل: الظلم عبارة عن التعدّي عن الحق إلى الباطل، وهو الجور.
وقيل: وضع الشيء بغير محله بنقص أو زيادة أو عدول عن زمنه.
وقيل: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والتصرف في حقّ الغير، ومجاوزة حدّ الشارع.
مقاييس اللغة (3/468، 469).
الصحاح (5/1977).
جامع العلوم والحكم (211).
التعريفات للجرجاني (48).
التوقيف على مهمات التعاريف (231).
الكليات (594).
ثانياً: الله تعالى حرم الظلم على نفسه:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40].
وقال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ} [آل عمران:108].
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)) الحديث.
قال الطحاوي في عقيدته: "يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً".
قال الشارح ابن أبي العز: "الذي دلّ عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد يقتضي قولاً وسَطاً بين قولي القدرية والجبرية، فليس ما كان من بني آدم ظلماً وقبيحاً يكون منه ظلماً وقبيحاً كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم، فإنّ ذلك تمثيل لله بخلقه، وقياس له عليهم، وهو الربّ الغني القادر، وهم العباد الفقراء المقهورون. وليس الظلم عبارة عن الممتنِع الذي لا يدخل تحت القدرة، كما يقوله من يقوله من المتكلّمين وغيرهم، يقولون: إنّه يمتنع أن يكون في الممكن المقدور ظلم، بل كلّ ما كان ممكناً فهو منه لو فعله عدلٌ، إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهيّ، والله ليس كذلك، فإنّ قوله تعالى: {فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} [طه:112]، وقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، و {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخر:76]... يدلّ على نقيض هذا القول، ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)) فهذا يدلّ على شيئين:
أحدهما: أنه حرّم على نفسه الظلم، والممتنع لا يوصف بذلك.
الثاني: أنّه أخبر أنه حرّمه على نفسه، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا يبطل احتجاجَهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهيّ والله ليس كذلك، فيقال لهم: هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، وإنما كتب على نفسه وحرم على نفسه ما هو قادر عليه، لا ما هو ممتنع عليه".
أخرجه مسلم في البر والصلة (2577).
شرح العقيدة الطحاوية (659-660).
ثالثاً: الإنسان مطبوع على الظلم:
قال تعالى: {إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
وقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
قال ابن القيم: "الإنسان خُلق في الأصل ظلوماً جهولاً، ولا ينفك عن الجهل والظلم إلا بأن يعلّمه الله ما ينفعه، ويلهِمه رشدَه، فمن أراد به خيراً علّمه ما ينفعه فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علمه فخرج به عن الظلم، ومن لم يرد به خيراً أبقاه على أصل الخلقة.
فأصل كلّ خير هو العلم والعدل، وأصلّ كل شرّ هو الجهل والظلم.
وقد جعل الله سبحانه للعدل المأمور به حدًّا، فمن تجاوزه كان ظالماً معتدِياً، وله من الذمّ والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه".
إغاثة اللهفان (2/136، 137) باختصار، انظر: موسوعة نضرة النعيم (10/4925).(/1)
رابعاً: تحريم الظلم والتحذير منه:
في حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا...)).
قال النووي: "((فلا تظالموا)) هو بفتح التاء أي: لا تتظالموا، والمراد لا يظلم بعضكم بعضاً، وهذا توكيد لقوله تعالى: ((يا عبادي))، ((وجعلته بينكم محرماً)) وزيادة تغليظ في تحريمه".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه...)) الحديث.
قال الحافظ: "قوله: ((لا يظلمه)) هو خبر بمعنى الأمر، فإن ظلم المسلم للمسلم حرام".
قال أبو الليث السمرقندي: "ليس شيء من الذنوب أعظم من الظلم، لأن الذنب إذا كان بينك وبين الله تعالى فإنّ الله تعالى كريم يتجاوز عنك، فإذا كان الذنب بينك وبين العباد فلا حيلة لك سوى رضا الخصم، فينبغي للظالم أن يتوب من الظلم ويتحلّل من المظلوم في الدنيا، فإذا لم يقدر عليه فينبغي أن يستغفر له، ويدعو له فإنه يُرجى أن يحلّله بذلك".
أخرجه مسلم في البر والصلة (2577).
شرح صحيح مسلم (16/132).
أخرجه البخاري في المظالم، باب: لا يظلم المسلم المسلم (2442)، ومسلم في البر والصلة (2580).
فتح الباري (5/117).
تنبيه الغافلين (377).
خامساً: أنواع الظلم:
الظلم ثلاثة أنواع:
الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق، ولذلك قال: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، وإياه قصد بقوله: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
والثاني: ظلم بينه وبين الناس، وإياه قصد بقوله: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ} إلى قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40]، وبقوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى:42].
والثالث: ظلم بينه وبين نفسه، وإياه قصد بقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ} [فاطر:32]، وقوله: {ظَلَمْتُ نَفْسِى} [النمل:44].
وكل هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس، فإن الإنسان أولَ ما يهمّ بالظلم فقد ظلم نفسه.
المفردات في غريب ألفاظ القرآن (315، 316). انظر: نضرة النعيم (10/4873).
سادساً: من يقع الظلم في حقّهم:
الذين يقع في حقّهم الظلم خمسة:
الأول: ربّ العزة سبحانه، وذلك حين يشرَك به، إذ يقتضي العدل معرفة توحيده وأحكامه.
الثاني: قوى النفس، ويكون ذلك بعدم إنصاف العقل من الهوى، ويقتضي العدل أن يجعل الإنسان هواه مستسلِماً لعقله، وقد قيل: أعدل الناس من أنصف عقله من هواه.
الثالث: أسلاف الإنسان، ويكون ذلك بترك وصاياهم وعدَم الدعاء لهم.
الرابع: من يعاملهم الإنسان من الأحياء، ويكون ذلك بالتقصير في أداء الحقوق، وعدم الإنصاف في المعاملات من بيع وشراء وجميع المعاوضات والإجارات.
الخامس: عامّة الناس إذا تولى الحكمَ بينهم، ويكون ذلك بالجور وعدم النصفة، وذلك في شأن الولاة والقضاة ومن إليهم.
نضرة النعيم (10/4873).
سابعاً: أنواع الظلمة:
قال الراغب الأصفهاني: "وقد قال بعضهم: الظالم ثلاثة:
الظالم الأعظم: وهو الذي لا يدخل تحت شريعة الله تعالى، وإياه عنى بقوله تعالى: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
والأوسط: وهو الذي لا يلتزِم حكمَ السلطان.
والأصغر: هو الذي يتعطّل عن المكاسب والأعمال، فيأخذ منافعَ الناس ولا يعطيهم منفعةً، ومن خرج عن تعاطي العدل بالطبع وبالخلق والتصنّع والرياء والرغبة والرهبة فقد انسلخ عن الإنسانية، ومتى صار أهل كلّ صقع على ذلك فتهارشوا وتغالبوا وأكل قويّهم ضعيفَهم ولم يبق فيهم أثر قبول لمن يمنعهم ويصدّهم عن الفساد فقد تقدّم أن عادة الله سبحانه في أمثالهم إهلاكُهم وإفناؤهم واستئصالهم عن آخرهم".
الذريعة إلى مكارم الشريعة (357-358).
ثامناً: أعظم الظلم:
قال تعالى: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسَه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم)).(/2)
قال ابن تيمية: "وهذا التوحيد الذي هو أصل الدين، وهو أعظم العدل، وضده وهو الشرك أعظم الظلم... وقد جاء عن غير واحد من السلف، وروي مرفوعاً: (الظلم ثلاثة دواوين: فديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يعبأ الله به شيئاً. فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئاً فهو الشرك، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، فإن الله لا بد أن ينصف المظلوم من الظالم. وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه) أي: مغفرة هذا الضرب ممكنة بدون رضا الخلق، فإن شاء عذّب هذا الظالم لنفسه، وإن شاء غفر له".
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: قول الله عز وجل: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} (3360)، ومسلم في الإيمان (124) واللفظ له.
مجموع الفتاوى (18/161-162).
تاسعاً: أضرار الظلم وعواقبه:
1- الظلم ظلمات يوم القيامة:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الظلم ظلمات يوم القيامة)).
قال القاضي عياض: "قيل: ظاهره أنه ظلمات على صاحبه حتى لا يهتدي يوم القيامة سبيلاً حيث يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم. وقد تكون الظلمات هنا الشدائد، وقد تكون الظلمات ها هنا عبارة عن الاتكال بالعقوبات عليه، وقابل بهذه اللفظة قوله: ((الظلم)) لمجانسة الكلام".
وقال ابن الجوزي: "وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب، لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلمات الظلم الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئاً".
2- الظلم سبب هلاك الأمم:
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ} [يونس:13].
قال ابن سعدي: "يخبر تعالى أنه أهلك الأمم الماضية بظلمهم وكفرهم، بعدما جاءتهم البينات على أيدي الرسل تبين الحق فلم ينقادوا لها ولم يؤمنوا، فأحل بهم عقابه الذي لا يرد عن كل مجرم متجرئ على محارم الله، وهذه سننه في جميع الأمم".
3- قبول دعوة المظلوم على الظالم:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الولد على ولده)).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استعمل مولى له ـ يدعى هنيء ـ على الحمى، فقال: (يا هنيء، اضمم جناحك عن المسلمين، واتق دعوة المسلمين، فإن دعوة المظلوم مستجابة).
قال ابن عثيمين: "فيه دليل على أن دعوة المظلوم مستجابة لقوله: ((فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).
وفيه دليل على أنه يجب على الإنسان أن يتقي الظلم ويخاف من دعوة المظلوم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك".
4- اللعن للظالمين:
قال تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
قال ميمون بن مهران: إن الرجل يقرأ القرآن وهو يلعن نفسه، قيل له: وكيف يلعن نفسه؟! قال: يقول: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} وهو ظالم.
5- إملاء الله للظالم حتى يأخذه:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ: {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ} [هود:102].
قال القرطبي: "يملي: يطيل في مدّته، ويصحّ بدنه، ويكثر ماله وولده ليكثر ظلمُه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران:128]، وهذا كما فعل الله بالظلمة من الأمم السالفة والقرون الخالية، حتى إذا عمّ ظلمهم وتكامل جرمهم أخذهم الله أخذة رابية، فلا ترى لهم من باقية، وذلك سنة الله في كلّ جبار عنيد".
6- حال الظالمين في الآخرة:
قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم:42، 43].(/3)
قال ابن كثير: "يقول الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ} يا محمد {غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} أي: لا تسحبنه إذا أنظرهم وأجّلهم أنه غافلٌ عنهم مهمِل لهم لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصِي ذلك عليهم ويعدّه عليهم عداً، {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ} أي: من شدّة الأهوال يوم القيامة. ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر فقال: {مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين، {مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: رافعي رؤوسهم، {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي: أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحلّ بهم، عياذاً بالله العظيم من ذلك، ولهذا قال: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} أي: وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف".
7- حرمان الفلاح:
قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21].
قال ابن سعدي: "فكلّ ظالم وإن تمتّع في الدنيا بما تمتّع به فنهايته فيه الاضمحلال والتلف".
8- حرمان الهداية والتوفيق:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].
وطلب هداية التوفيق من الأدعية التي أوجبها الله علينا في أعظم مقام نقف فيه بين يدي الله عز وجل، وهو في الصلاة، حيث نقول في كل ركعة: {اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. فالظلم ـ أعاذنا الله منه ـ يكون سبباً لحرمان هداية التوفيق، وهذا يستلزم البعد عن مقامات الظلم حتى يستجيب الله دعاءنا في صلاتنا.
9- حرمان حبّ الله تعالى:
قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40].
قال ابن سعدي: "أي: الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم".
10- حلول المصائب في الدنيا والعذاب في القبر:
قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الطور:47].
قال ابن سعدي: "لما ذكر الله عذاب الظالمين في القيامة أخبر أن لهم عذاباً دون عذاب يوم القيامة، وذلك شامل لعذاب الدنيا بالقتل والسبي والإخراج من الديار، ولعذاب البرزخ والقبر".
11- العذاب الأليم:
قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:42].
قال ابن سعدي: "أي: إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ}، وهذا شامل للظلم والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجع للقلوب والأبدان، بحسب ظلمهم وبغيهم".
12- خذلان الظالم عند الله تعالى:
قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18].
قال ابن عثيمين: "أي: أنه يوم القيامة لا يجد الظالم حميماً، أي: صديقاً ينجيه من عذاب الله، ولا يجد شفيعاً يشفع له فيطاع، لأنه منبوذ بظلمه وغشمه وعدوانه".
وقال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة:270].
قال ابن عثيمين: "يعني: لا يجدون أنصاراً ينصرونهم ويخرجونهم من عذاب الله سبحانه".
أخرجه البخاري في المظالم (2447)، ومسلم في البر والصلة (2579).
إكمال المعلم (8/48).
فتح الباري (5/121).
تيسير الكريم الرحمن (359).
أخرجه البخاري في المظالم، باب: الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم (2448)، ومسلم في الإيمان (19) مطولاً.
أخرجه أحمد في المسند (2/523)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء بظهر الغيب (1536)، والترمذي في الدعوات، باب: ما ذكر في دعوة المسافر (3448)، وابن ماجه في الدعاء، باب: دعوة الوالد ودعوة المظلوم (3862)، وحسنه الترمذي، والألباني في السلسلة الصحيحة (596).
أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع، باب: ما يتقى من دعوة المظلوم (1890)، والبخاري في الجهاد، باب: إذا أسلم قوم في دار الحرب (3059).
شرح رياض الصالحين (4/623).
تنبيه الغافلين (377).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك...} الآية (4686)، ومسلم في البر والصلة (2583).
المفهم (6/557).
تفسير القرآن العظيم (2/561).
تيسير الكريم الرحمن (274).
الظلم ظلمات يوم القيامة لناظم سلطان (ص 29).
تيسير الكريم الرحمن (760).
تيسير الكريم الرحمن (818).
تيسير الكريم الرحمن (760).
شرح رياض الصالحين (4/597).
شرح رياض الصالحين (4/597).
عشراً: نصرة المظلوم:
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً))، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟! قال: ((تأخذ فوق يديه)).(/4)
قال الحافظ: "قوله: ((تأخذ فوق يده)) كنى به عن كفّه عن الظلم بالفعل إن لم يكفّ بالقول، وعبّر بالفوقية إشارة إلى الأخذ بالاستعلاء والقوة".
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانها عن سبع، فذكر عيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وردَّ السلام ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإبرار المقسم.
قال الحافظ: "قوله: (باب نصر المظلوم) هو فرض كفاية، وهو عام في المظلومين وكذلك في الناصرين، ويتعين أحياناً على من له القدرة عليه وحده إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشدّ من مفسدة المنكَر، فلو علم أو غلب على ظنه أنه لا يفيد سقط الوجوب وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور، فلو تساوت المفسدتان تخيّر، وشرط الناصر أن يكون عالماً بكون الفعل ظلماً. ويقع النصر مع وقوع الظلم وهو حينئذ حقيقة، وقد يقع قبل وقوعه كمن أنقذ إنساناً من يد إنسان طالبه بمال ظلماً وهدّده إن لم يبذله، وقد يقع بعده وهو كثير".
أخرجه البخاري في المظالم، باب: أعن أخاك ظلماً أو مظلوماً (2444).
فتح الباري (5/118).
أخرجه البخاري في المظالم، باب: نصر المظلوم (2445)، ومسلم في اللباس والزينة (2066).
فتح الباري (5/119).
حادي عشر: الانتصار من الظلم والدعاء على الظالم:
قال تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء:148].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا يحبّ الله أن يدعوَ أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} وإن صبر فهو خير له).
قال ابن سعدي: "يخبر تعالى أنه لا يحبّ الجهر بالسوء من القول، أي: يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه، {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} أي: فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه، ويشتكي منه، ويجهر بالسوء لمن جهر له به، من غير أن يكذب عليه، ولا يزيد على مظلمته، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمة".
وقال تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ} [الشورى:41].
قال ابن سعدي: "أي: انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه، {فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ} أي: لا حرج عليهم في ذلك".
جامع البيان (4/339).
تيسير الكريم الرحمن (175).
تيسير الكريم الرحمن (706).
ثاني عشر: العفو عن الظالم:
قال تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} [النساء:149].
قال ابن جرير: "يعني بذلك: أن الله لم يزل ذا عفو على عباده، مع قدرته على عقابهم على معصيتهم إياه، فاعفوا أنتم أيضاً ـ أيها الناس ـ عمن أتى إليكم ظلماً، ولا تجهروا له بالسوء من القول وإن قدرتم على الإساءة إليه، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته على عقابكم، وأنتم تعصونه وتخالفون أمره".
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:39، 40].
قال إبراهيم النخعي: "كانوا يكرهون أن يُستذلّوا، فإذا قدروا عفوا".
قال ابن كثير في تفسير الآية: "فشرع العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو".
وقال ابن سعدي: "وشرط الله في العفو والإصلاح صلاحهما لحال الجاني ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق بالعفو عنه وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأموراً به. وفي جعل أجر العافي على الله تهييج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه فليعف عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل".
جامع البيان (4/343).
صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب: الانتصار من الظالم (5/119) مع الفتح.
تفسير القرآن العظيم (4/128).
تيسير الكريم الرحمن (706).
ثالث عشر: التوبة من الظلم والتحلل من المظالم:
قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء:110].
قال ابن سعدي: "أي: من تجرأ على المعاصي واقتحم على الإثم، ثم استغفر الله استغفاراً تاماً يستلزم الإقلاع والعزم على أن لا يعود، فهذا قد وعده مَن لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة، فيغفر له ما صدر منه من الذنب، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة ويوفقه فيما يستقبله من عمره... ويفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس، وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم".(/5)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).
قال الملا علي القاري: "قوله: ((قبل أن لا يكون دينار ولا درهم)) هو تعبير عن يوم القيامة، وفي التعبير به تنبيه على أنه يجب عليه أن يتحلل منه ولو ببذل الدينار والدرهم في بذل مظلمته، لأن أخذ الدينار والدرهم اليوم على التحلل أهون من أخذ الحسنات أو وضع السيئات على تقدير عدم التحلل".
تيسير الكريم الرحمن (200-201).
أخرجه البخاري في المظالم، باب: من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له (2449).
مرقاة المفاتيح (8/849).
رابع عشر: اقتصاص المظالم في الآخرة قبل دخول الجنة:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا خلص المؤمنون من النار حُبسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيتقصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نقّوا وهذِّبوا أذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدلّ بمسكنه كان في الدنيا)).
قال الحافظ: "قوله: ((فيتقاصّون)) بتشديد المهملة: يتفاعلون من القصاص، والمراد به تتبّع ما بينهم من المظالم وإسقاط بعضها ببعض".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
أخرجه البخاري في المظالم، باب: قصاص المظالم (2440).
فتح الباري (5/115).(/6)
العادات السيئة والعنوسة
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عادات سيئة تؤدي إلى عنوسة النساء. 2- الترغيب في نكاح المطلقة والأرملة. 3- أدب البحث عن الخاطب.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن الناس بجهلهم وخضوعهم إلى عادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان وضعوا العوائق والحواجز في طريق الزواج حتى غدا صعباً وشاقاً على الكثيرين.
ومن هذه العادات: عدم أخذ رأي البنت عند الزواج إما لأن الوالد مستبد ظالم، وإما لأنه قد أُغْرِيَ بمبلغ كثير من المال قد يجعله يزوج ابنته رغماً عنها، بغرض حصوله على هذا المال.
وهذا الأمر بالطبع مخالف لأوامر الشرع ولأن الرسول قال: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر. ولا تنكح البكر حتى تُستأذن، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها قال: أن تسكت)).
وعن خنساء بنت خذام: أنّ أباها زوَّجها بدون إذنها - وهي ثيب - فأتت رسول الله فرد نكاحها. [أخرجه الجماعة].
هذا ليس من حق الأب أو المولى أن يزوج ابنته إلا برضاها، والشرع معها في ذلك.
ومن العادات القبيحة: عدم تزويج الأخت الصغرى إلا بعد أن تتزوج البنت الكبرى. ولا ندري من أين أتى الناس بهذه الأفكار العقيمة. ولنفرض أن الكبرى لم يأتها نصيبها بُعد، فما ذنب الصغرى، لكن بعض الناس يريد أن يعطل زواج الصغرى حتى تتزوج الكبرى. ثم نفاجأ بعد فترة بأن الاثنتين قد كبرتا معاً عن سن الزواج، ولو سُهِّل الأمر ويُسِّر لزُوِّجت الصغيرة والكبيرة، ولكنه الجهل وإلا فإننا نرى عندما عرض الشيخ الصالح على موسى عليه السلام الزواج بإحدى بنتيه لم يقل له: أزوجك الكبرى؟ ولم يشترط موسى الصغرى. وبهذا تحدث القرآن: قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ [القصص:26]. (إحدى ابنتي هاتين)، (إحدى ابنتي هاتين) فانظروا إلى الفهم العميق السليم.
ومن العادات والتقاليد المنكرة بل من البدع الشنيعة: تركُ بعض الناس لصلاة الاستخارة الشرعية واستبدالها بأخرى منكرة لاتمت إلى الدين والشرع بصلة؟ والغريب أن هذه العادة قد تسببت في تأخير زواج كثير من البنات. فما هذه التقاليد التي يتمسك بها بعض الناس؟
لكنها طقوس فرعونية جهنمية لهدم الأسرة وعرقلة زواج الشباب.فمتى يصحو البعض من هذه التقاليد الجاهلية؟
من يريد أن يستمر في أمر الزواج بل في كل أمر من الأمور فعليه أن يلتزم بصلاة الاستخارة الشرعية كما علَّمنا إيِّاها رسول الله .
فعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: ((إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك،وأسألك من فضلك العظيم:فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري. أو قال: عاجل أمري وآجله فاقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله. فاصرفه عنه، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به)) [رواه البخاري وأبو داود والترمذي].
هذه هي الاستخارة الشرعية، وغيرها إنما هو شعوذة ودجل.
ومن العادات القبيحة: الامتناع عن الزواج بالأرامل والمطلقات: وهذا شيء جدير بالاهتمام. فهناك من المسلمات ومنهن شابات. بعضهن توفي أزواجهن، وبعضهن انفصلن عن أزواجهن لأسباب مختلفة فإذا حصل لهن ذلك. هل يكتب عليهن أن يجلسن في بيوتهن حتى الموت؟ مع أنهن لديهن الاستعداد للزواج وبأقل تكاليف ممكنة. فلماذا لا يفكر الشباب بالزواج من أمثال هؤلاء البنات تنفيذاً لأمر الله – سبحانه وتعالى- القائل: وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور:32].
ويكفي أن نعلم أن سيد الخلق نبينا محمداً قد تزوج وهو في عنفوان شبابه، وفي سن الخامسة والعشرين قد تزوج بأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وهي أرملة، بل وهي تكبره بعشر سنوات على الأقل؟ وقد كان زواجاً ناجحاً بكل المقاييس كما يعلم الجميع.
لهذا فما الذي يمنع الشباب من اتباع هذا المنهج العظيم.
ومن هذه العادات الفاسدة تأخير بعض الشباب للزواج بدعوى عدم وقوع الحب وحصوله حتى الآن.(/1)
وهذا خطأ كبير، وساهمت في نشره بين الشباب الأفلام والمسلسلات الخبيثة التي تعلم الناس بأنه لابد من وقوع الحب بين الطرفين قبل الزواج، وأن هذا مهم جداً. وهذا خطأ كبير لأن الحب الحقيقي لا يأتي إلا بعد الزواج والواقع يشهد على هذا:فقد يحدث أن يحصل الزواج نتيجة حب عاطفي جارف، لا يلبث أن يفقد بعد الزواج بأشهر قليلة، وما يلبث أن يكتشف الزوجان أن بينهما فرقاً كبيراً في الأخلاق أو المزاج،أو الثقافة أو الميول من أجل هذا يقول سبحانه وتعالى: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
ويتضح لنا هنا أن الله جعل حصول الحب والمودة بعد الزواج وليس قبله فقال: وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً لهذا فليحذر الشباب ذكوراً كانوا أو إناثاً من التورط والانخداع بهذه الأفكار الهدامة.
ومن العادات التي تعوق حصول الزواج:أن بعض الناس قد يخفض من مهر البنت، وقد يجعله إلى أدنى مستوى لكن هناك مهر آخر يقدم للزوجة، وهو نفقات كثيرة يعجز عن حملها الخاطب المسكين.
ولو كان الأمر يقتصر على الأشياء الضرورية لقلنا حسن.ولكن المشكلة هي في الأمور التافهة ومنها هدايا الخطبة والشبكة، وهدايا المواسم والمناسبات: وحفلة العرس. وما فيها من لهو محرم. وهدايا الصبحية، ونفقات الحفلات والمهنئين والإسراف في شراء الأقمشة والذهب والجواهر، والمبالغة في تأثيث بيت الزوجية، وغير ذلك. فلا يجد الخاطب من أهل الزوجة إلا كلمة هات حتى يصل معهم الأمر إلى الاشتراط عليه لإحضار بعض الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان مثل: لابد من أن يكون فستان الزواج أبيضاً ومثل عربة المِلْكَة، وعلب الحلوى، وغير ذلك ثم يختمونها بإقامة الحفلات في أرقى الأماكن مثل الفنادق الكبرى وغيرها. وقد يصاحبها ارتكاب المعاصي، من اختلاط وبلاوي وغيرها.
والسؤال هو: لماذا كل هذه التكاليف وما المقصود منها؟ هل المقصود هو إرضاء الناس؟
أولاً: العمل من أجل الناس هو رياء، والرياء تعرفون حكمه في الإسلام.
ثانياً: الناس لن يرضوا مهما حصل، ولابد من أن يبحثوا عن العيوب، بل وقد يختلقونها لأنه ثبت أن الناس لا يعجبهم شيء أبداً. أما إذا كان القصد هو إرضاء الله، فالله يكره هذا الإسراف وهذا البذخ، لأنه يقول: وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]. ويقول: وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:26-27]. لهذا نقول اتقوا الله أيها الناس. ولم هذا كله؟ وماذا يفعل الشاب المسكين صاحب الدخل المحدود؟ والراتب المقطوع؟ ماذا يفعل؟ إذا لم نسهل له الحلال فماذا سيفعل؟ هل يتجه إلى الحرام؟ فنكون قد ساهمنا في إفساده وإفساد بنات المسلمين.
إن الإسلام لم يشرع في نفقات العقد والزفاف، سوى المهر للمرأة والوليمة لحفلة العرس، وإكرام الضيف بما يناسب الحال.أما ما عداها من الهدايا والنفقات فهي ليست فرضاً واجباً وليست من شروط العقد والنكاح في شيء أبداً.
ومن العادات التي تعيق الزواج: هو ترك المجال للنساء في التصرف بأمور الخطبة والزواج. ولا شك أن المرأة بما جبلت عليه من الفعال وعاطفة، وبما تحبه من المظاهر والمفاخرة والرياء وحب الظهور أمام الناس، لا يمكن أن يتحقق على يديها خطبة أو زواج إلا إذا كانت رشيدة عاقلة مؤمنة تزن الأمور بميزان الشرع والدين.لهذا كم سمعنا عن أمهات يؤخرن زواج أبنائهن سنوات طويلة بدعوى عدم وجود الفتاة المناسبة حتى الآن، وبعضهن قد يفسدن زواج بناتهن لأن الواحدة منهن تدعي أن ابنتها ليست أقل من بنت فلان أو أن حفل زواج ابنتها يجب أن يكون أفضل حفل زواج في البلد، مما سبب إفساد الكثير من حالات الزواج.
لهذا على الرجل إذا رأى مثل هذا الانحراف عليه أن يتدخل ويحسم الأمور، لأن الله أعطاه حق القوامة كما قال: الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء:34].
أخيرا: من العادات التي تعرقل الزواج: رفض البعض للخاطب أن يرى خطيبته، والعجيب أن هذه الفتاة قد تخرج متبرجة ويراها القاصي والداني. فإن أراد الخاطب أن يراها الرؤية الشرعية التي أمر بها الرسول قائلاً: ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعو إلى نكاحها فليفعل)) [رواه أبو داود].
فإن أراد الخاطب أن يراها الرؤية الشرعية التي أمر بها رفض أباها عليه ومنعها منه، وللعلم فمن ظنّ أن في هذه الرؤية الشرعية عاراً، أو أن فيها عيباً أو عملاً لا يليق، فقد قبَّح ما استحسنه رسول الله ورفض ما أمر به، وظن أنه أغير منه على الشرف والأخلاق، ومن فعل ذلك فربما خرج من دين الإسلام.(/2)
فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65].
والغريب أن هناك من الناس من هو عكس ذلك تماماً:صنف تأثر بأخلاق الغرب وبأفكار الأفلام والمسلسلات. وظن بأن المخطوبة لا تعرف أخلاق الخاطب ولا تتعرف عليه، إلا إذا خرجت معه، وتنزهت معه، وربما سافرتِ معه، وبالطبع شابان وفي سن الشباب ويخليان ببعضهما البعض، فماذا ستكون النتيجة، النتيجة هي الزنا، وهذه هي نتيجة الخلوة المحرمة. لهذا يقول : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)).
ويقول: ((لا يخول رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان)).
الخطبة الثانية
من العادات التي تعرقل الزواج اليوم عضل الأولياء (وعضل الولي للمرأة منعها من الزواج ظلما). قال تعالى: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [البقرة:232]. ويقول: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19].
والعضل والإعضال من العادات الجاهلية التي بقيت في بعض المجتمعات الإسلامية،والتي تسببت في حرمان كثير من البنات بالتمتع بالحياة الزوجية بسبب أسباب تافهة مثل الاعتراض على النسب فلا تتزوج القبيلية من الحضري، ولا الشريفة من غير الأشراف. وكذلك بحجة المحافظة على العرق. فلا تتزوج العربية من العجمي، أو بحجة المحافظة على المال:فلا تتزوج الغنية إلا من غني، وهذا التعصب الأعمى مازال موجوداً بين بعض الأسر إلى الآن. والغريب أن هذا القانون الوضعي يسري على النساء فقط دون الرجال. لأن الرجال لهم الحق في الزواج ممن يريدون.
هل هذا إسلام؟ الله سبحانه يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]. ورسوله يقول: ((إن الله قد أذهب عنكم عبيّة الجاهلية (فخرها وتكبرها) وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب)) [رواه أبو داود] ولكن بعض الناس يرفض حكم الله ويريد أن يحكم بقوانين الجاهلية أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
ومن الإعضال أن يمنع الولي ابنته المطلقة طلاقاً رجعياً من الرجوع إلى زوجها بحجة جرح الكرامة أو الإهانة، وقد حدث على عهد الرسول : ((أن معقل بن يسار قال: زوجت أختاً لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأخدمتك وأكرمتك، فطلقها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبدا، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه)) فنزل قول الله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذَا تَراضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]. فقلت: الآن أفعل يا رسول الله: قال فزوجها إياه.
ومن الإعضال: الحجر على البنت بدعوى حجزها لابن العم أو الخال، بحجة أنه أولى بها من الغريب، حتى لو لم يكن كفواً لها. وهذا ظلم عظيم للمرأة. يقول سماحة الشيخ ابن باز: "ومن المسائل المنكرة في هذا ما يتعاطاه الكثير من البادية وبعض الحاضرة من حجز ابنة العم ومنعها من التزوج بغيره، وهذا منكر عظيم وسنة جاهلية وظلم للنساء، وقد وقع بسببه فتن كثيرة وشرور عظيمة من شحناء وقطيعة رحم وسفك دم وغير ذلك ونريد أن ننبه هنا إلى ما يحدث من البعض مما يسمى بزواج الشغار وهو أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك أو أختك،على أن أزوجك ابنتي وأختي، وليس بينهما صداق أي مهر.
وهذا الزواج وللعلم زواج باطل لقوله : ((لا شغار في الإسلام)) وقال ابن عمر: (نهى رسول الله عن الشغار) وفعلاً فمن أعطى الولي الحق بأن يزوج وليته بدون مهر، من اعطاه الحق في ذلك. نسأل الله السلامة والعافية.
أيها الناس: ارجعوا إلى الدين الحق والإسلام الصحيح. وانبذوا هذه العادات والتقاليد وإن كنتم تعبدون الله فطبقوا أوامر الله وأوامر رسوله . وإن كنتم تعبدون العادات والتقاليد فليس هناك إلا الدمار في الدنيا والآخرة. وإذا أردتم لبناتكم السعادة.وللأخلاق أمنوا الحصانة، فسهلوا أمور الزواج.بل وابحثوا عن الخاطب المسلم والزوج الصالح. وهذا ليس عيباً أبداً. فهذا العمل هو سنة عمرية بدأها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عندما عرض ابنته أم المؤمنين حفصة على أبي بكر وعلي عثمان رضي الله عنهما. اللذين اعتذرا ثم تزوجها الرسول .(/3)
ولا تقولوا لقد عرض عمر ابنته على أبي بكر وعثمان اللذين ليس لهما مثيل اليوم من الرجال فنقول نعم إذا كان ليس هناك من الرجال من هم في مقام أبي بكر وعثمان، فإن بنات اليوم أيضاً ليس فيهن من هي في مقام أم المؤمنين حفصة. فالحال سواءً. وعلينا الحذر من المستقبل فقد تواتر في الأنباء بأن بعض البنات صرن يذهبن إلى المحاكم مباشرة ويطلبن أن يتزوجن فوراً ويشكين من ظلم آبائهن لهن من يرغب من الآباء أن يقف في مثل هذا الموقف، بل من يرغب من الآباء أن يقف أمام الله وابنته تشكي وتتظلم منه، وتطلب من الله أن ينصفها منه. من يرغب في هذا. ولا تظنوا أن حدوث هذا الأمر بعيد - فقد حدثت بعض الحوادث التي تدل على ذلك فهل يعتبر الآباء، هل يتعظوا، وهل يُسَّهِلوا أمور الزواج. نرجو ذلك ونتمناه.(/4)
العاطفة والدعوة
د. علي بن عمر بادحدح
المحتويات :
• أهمية العاطفة .
• الآثار الإيجابية للعواطف .
• علاقة العاطفة بالممارسات الدعوية .
• أسباب التعلق الزائد .
• الأسباب الدافعة للحماسة .
• الأسباب المؤدية إلى جنوح عاطفة الغيرة .
العاطفة والدعوة
وهذا الموضوع من الموضوعات التي رأيت أن كثيراً من شباب الصحوة ، وأجيال الدعوة يتحدثون عن بعض ظواهره ، ويسألون عن بعض مشكلاته وعوارضه ، فأحببت أن أطرقه طرقاً يحيط بأصوله من الناحية النظرية والفكرية ، ويلمّ كذلك بمشكلاته من الناحية التطبيقية العملية.
أهمية العاطفة :
وهي تتضح من خلال أمرين اثنين ؛
الوجه الأول منهما : أن العاطفة فطرة بشرية ، والله - سبحانه وتعالى - هو الذي خلق الإنسان ، وهو العليم به كما قال - جلا وعلا – : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير }، وكما قال - سبحانه وتعالى - : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } ؛ فإنه - جلا وعلا - قد خلق الإنسان قبضة من طين ، ونفخة من روح ، وجعل له عقلاً يفكر ، وعاطفةً تؤثر ، وبيّن عقله وعاطفته ، أنزل له شرعاً يوجه العقل ، لئلا يشذ ، ويحكم العاطفة لئلا تند ، وبالتالي فإن طبيعة الإنسان وخصيصته البشرية أن العاطفة جزء أساسي فيه ، بل جزء مميز له ؛ فإن الإنسان في حقيقة الأمر مجموعة من العواطف ، وكتلة من المشاعر ، عنده حب متدفق ، وقد يعتريه أحياناً بغض لا حد لمنتهاه في الانتصار للنفس ، أو تدبير الكيد لذلك المبغض ، وكذلك عنده راحة وطمأنينة ، ويعتريه قلق وهم ، وأحياناً يكون في صورة من الأنس والانشراح ، وأحياناً يكون في وقت من التبرم والضيق وكل هذا نوع من صور العاطفة في نفس الإنسان ، والحق أن الإنسان بلا عاطفة ، كجثة هامدة ، لأن العضلات والجوارح والمفاصل – المكونة للجسم البشري - ليست هي التي تعبر عن كنه الإنسان ، بقدر ما يعبر عنه قلبه وعاطفته ، ولذلك نعرف اليوم ما يسمى بالرجل الآلي ، أو قد يطلقون على الكمبيوتر العقل الإلكتروني فهذا إن تجاوزنا على أنه عقل مفكر ، لكننا بهذه التسمية - على إقرارنا لها - لا نصف هذه الأشياء بأن لها عاطفة ! هي عقل صرف إن تجاوزنا عن حقيقة العقل الذي يفكر ويغيّر ، وليس هو مقيداً تقيداً كاملاً ، لكن ليس له عاطفة ، فالإنسان بلا عاطفة كما نسمع في تعبيراتنا كأنه حجر ، أو كأن قلبه من صخر لا يتأثر ، يرى الفواجع فلا يهتز له جفن ، ولا يخفق له قلب ، يرى المباهج والمناظر الجميلة ، فلا تفتّر شفتيه عن الابتسامة ، ولا تجد في عينيه بريق سعادة , إن هذا في حقيقة الأمر كتلة من صخر ، أو أسمنت ليس فيه أية مشاعر ، ولذلك قال بعض الأدباء - مع التجاوز عن بعض ما في هذه الكلمة- : " من لم يطربه خرير المياه في الأنهار ، وتغريد الأطيار ، وحفيف الأشجار ، فليبك على نفسه فإنه حمار – أكرمكم الله – منعدم المشاعر والأحاسيس .
إذاً العاطفة أصلاً هي جزء رئيسي من تكوين الإنسان ، وفطرة وجبلة مما جبله الله - عز وجل - عليها.
الوجه الثاني :
أن العاطفة فريضة إسلامية ؛ ذلك أن الإيمان مهيمن ، لا يقبل أنصاف الحلول ،لا يقبل منك أن تنطق باللسان ، وليس هذا في حد ذاته كافياً في وصف الإيمان ، قد بين الله - جلا وعلا - في شأن أهل النفاق الذين يقولون آمنا بألسنتهم وأفواههم ، ولم تؤمن قلوبهم ، ولا يكتفي منك أيضاً بمجرد الامتثال بالحركات والأعمال ؛ فإن ذلك قد كان دأب المنافقين أيضاً { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً } ؛ فإن الإيمان شرطه أن يستولي على القلب ، وأن يضرب أوتاده في أعماق النفس ، ولا يرضى إلا أن يكون حاكماً على كل إحساس ، وعلى كل شعور ، وعلى كل خفقة قلب ، وعلى كل خطرة قلب ، وعلى كل خلجة نفس، لابد أن تحكم بهذا الإيمان ؛ لأن الإيمان يغيّر الإنسان من داخله ، فيغيّر مشاعره ، ولذلك قال النبي - عليه الصلاة والسلام - : ( إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله )، فليس لك أن تحب كما شئت ،أو أن تبغض كما شئت ، أو أن توافق هوى نفسك ،أو طبيعة ظرفك أو أسلوب تربيتك ، بل إذا تغلغل الإيمان في قلبك وجّه هذه العواطف ، ولذلك قال - سبحانه وتعالى – : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين أمنوا أشد حبا لله }، فهذا الحب المرتبط بالله - عز وجل - ، والمحبة المتصلة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومحبة الأخوة الإيمانية بين أهل الإسلام كلها أمور إسلامية إيمانية من أخص خصائص هذا الدين ، ومن أعظم أركان هذا الإيمان ، لا يمكن أن نتصور إيماناً أو إسلاماً بدونها ، أو بدون تحققها الكامل .(/1)
ولذلك يعلم العبد المؤمن أن هذه الحقيقة ينبغي أن لا تغيب عن باله مطلقاً ، ونصوص الكتاب والسنة في أمر المحبة لله - عز وجل - ، والمحبة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - كثيرة في هذا الباب ، ليس هذا مقام الاستطراد في ذكرها وسردها ، وإذا عرفنا أن العاطفة في أصلها فطرة بشرية ، وفريضة إسلامية ، فلنذكر الآثار الإيجابية للعواطف ليس على سبيل التفصيل في واقعات الأعيان وإنما في الجملة .
الآثار الإيجابية للعواطف
1- قوة التأثير :
إن الكلمة وحدها مهما كان لها من شواهد وأدلة ، ومهما كان لها من وصف وتنسيق ، لا تؤدي قوتها ما لم يكن وراءها قلب متحرق ، ونفس متحمسة ، تشعر الإنسان بنبض هذه المشاعر في كل حرف من هذه الحروف ؛ فإذا كانت الكلمة حماسية ؛ فإذا بها كأنها لهب يتفجر ، وإذا كانت الكلمة وعظية كأنها غيث يصيب أرض جدباء فيحيها من جديد ، ويورق منها ما اضمحل ، أو ما كان قد غابت عنه مياه الحياة وصورها ؛ فإذا تأملت من بعض المواقف والعبر من سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - تجد هذه الصورة بيّنة واضحة ، قد وصف - عليه الصلاة والسلام - أنه إذا خطب كأنه منذر جيش . يحمّر وجهه - عليه الصلاة والسلام - ويظهر أثر انفعاله بهذه الكلمات ، وكما في حديث العرباض ابن سارية - رضي الله عنه – قال : ( وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا... )
إذاً لم يكن تأثير تلك الكلمات بمجرد العلم ؛ فإن كثيراً من العلم إذا فقد العاطفة ، لا يؤدي أي تأثير ، وإلا لكان اتصال الإنسان بالكتب كافياً في أن يقوّم سلوكه، وفي أن يوقظ حماسه وهمته نحو الخير والصلاح ، وكذلك انظر إلى الموقف الذي كان في يوم حنين لما قسّم النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنائم بين مسلمة الفتح والمؤلفة قلوبهم ، ولم يقسم للأنصار - رضوان الله عليهم - فوجدوا في نفوسهم موجدة ؛ لذلك جاء النبي - صلى الله عليه وسلم – إليهم، وقال : يا معشر الأنصار: ما مقالة بلغتني عنكم ، وموجدة وجدتموها في أنفسكم ، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ؟ ...) و في آخر الحديث قال الراوي:( حتى اخضلت لحاهم بالدموع )، إذاً للكلمة سر،ينبثق من العاطفة التي وراءها في القلب الذي يخفق بمعانيها قبل أن ينطق اللسان بكلماتها وحروفها.
2- البذل والتضحية :
إن من أعظم آثار العاطفة البذل والتضحية لمن خفق لك قلبه بالحب ؛ فإن أحببت الله - عز وجل - وأحببت رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأحببت هذا الدين ؛ فإنك تبذل وتضحي في سبيل هذا الذي أحببته ؛ ونحن نعلم أن العاطفة مشتركة ، فإذا وجهتها وجهة صحيحة ، نلت الأجر والخير ، وتدفقت عاطفتك في مجالها الصحيح ، وإلا فإن هذه العواطف أيضاً لها مسارب شيطانية ، أو شهوانية ، تسلك بها في غير ما أراد الله - عز وجل - لها ، فاستمع على سبيل المثال إلى خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وهو يقول: " ما ليلة تهدى إليّ فيها عروس أحب إلي من ليلة شديد بردها ، أصبّح فيها العدو فأقاتلهم في سبيل الله - عز وجل – ". إذاً هذه المحبة دفعته إلى أن يجد لذته في ذلك البذل ، وتلك التضحية ، وتحقيق قول الله - عز وجل – { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة }، إذاً هذا البذل هو الذي ظهر في حياة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وذاك أنس بن النضر - رضي الله عنه - يقول: " واهاً لريح الجنة إني لأجد ريحها دون أحد " . والصور في ذلك كثيرة ، والصور غير الإيمانية أيضاً كثيرة ، نقرأها في حياتنا وفي حياة البشرية عموماً ، ألم نسمع عن المحبين الذين بدلوا إيمانهم ، وتركوا وظائفهم ، واستهانوا بجاههم كله من أجل من يحبون .
3- الرضا والقبول :
من كل ما يأتي من المحبوب ؛ فإنك إن أحببت الله - سبحانه وتعالى - رضيت بقضائه وقدره ، وإن أحببت الله - عز وجل -رضيت بأن تطيع أمره ، وتجتنب نهيه ، وإن أحببت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلت منه كل هدي وإرشاد ، وإن أحببت إخوانك المسلمين أفسحت لهم في قلبك ، وأعطيتهم من خلاصة مهجتك ومشاعرك ولطفك ولينك وسماحتك ورفقك ، إذا تحقق ذلك قبلت منهم ، ورضيت منهم ما قد يقع من تقصير ، وأغضيت الطرف عن بعض هفواتهم ، وتجاوزت عن بعض ماصدر من كلماتهم وغير ذلك من الأمور . واستمع إلى قصة يوسف - عليه السلام -عندما قال : { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } ، لِما كان السجن محبوباً .. وهو الذي يقيد الحرية ، ولا تقبل به النفس البشرية ؟ لأن فيه العصمة عن ما حرم الله - عز وجل - ، ولأن فيه المهرب من المعاصي إلى الطاعات ، ومن الخلطة الفاسدة إلى الخلوة الصالحة مع الله - سبحانه وتعالى - ، لمّا كان الأمر كذلك قال : { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } .
4-الصبر والثبات :(/2)
فكم تجد من تغلل الحب في قلبه ، عنده من الصبر والثبات على أمره على ما أحب من دينه وإيمانه ، ما لا يمكن أن يتنازل عنه ، أو أن ينكص على عقبيه ، أو أن يرتدّ على أدباره بعد أن ذاق محبة الإيمان 0 وعرف حلاوة الإسلام ، وارتبط بإخوة الإيمان ، ولذلك كان بلال وكان خباب ، وكان أولئك القوم يلقون ما يلقون ، لا يصدهم ذلك عن دين الله ، ولو لم يكن لهم ذلك التعلق القلبي لما ثبتوا ، ولما كانت لهم هذه الصور من الصبر الجميل ، ثبتهم الله - عز وجل - به ، لأن القناعة الفكرية لا تكفي ، قد تكون مقتنع بأمر ما فكرياً ، لكنك إذا ضُيقت أو اضطهدت في سبيله من الممكن أن تغير فكرتك ، أو أن تتنازل عنها ، أو أن تساوم فيها ، لكن إذا خلصت الفكرة من العقل إلى القلب ، وامتزجت بالمشاعر ؛ فإنه من الصعب أن يكون هناك تنازل عنها ، بل صبر وثبات عليها .
5- الارتباط والتعلق :
وهذا من أظهر أثار العواطف ؛ فإنك إن أحببت الله ارتبطت به ، وتعلقت به وكذا في شأن النبي - عليه الصلاة والسلام - ، وإخوانك المؤمنين ، وشعائر هذا الدين ، والارتباط والتعلق أمره بيّن لا يخفى على أحد كما قال المحبون من قبل:
أمر على الديار ديار ليلى **** أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي **** ولكن حب من سكن الديارا
ولذلك وقفوا على الأطلال ، ووصفوا الخيام والجمال ، كل ذلك من أثر ذلك التعلق والارتباط ، وكما قال قائلهم أيضاً : ولو قيل لمجنون ليلى : تريد ليلى أم الدنيا وما في طواياها ؟ لقال غبار من تراب نعالها أحب لنفسي ، وأشفى لبلواها .
أي كل شيء يذكّر بذلك المحبوب ويصل به ، يكون أنس النفس ، وقرة العين ، وتأمل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( حبب إليّ من دنياكم الطيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة ) ؛ فإن الأول هو الفطرة البشرية التي جاء بها هذا الدين ، فليس هناك ترهل ولا تبتل ولا انقطاع عن ملذات الحياة العادية البشرية ، والثاني هو أن هناك محبة أسمى ، وهي التي يتحقق فيها الارتباط بالله - سبحانه وتعالى - فلذلك كان يقول - عليه الصلاة والسلام - :( أرحنا بها يا بلال )، العاطفة المتدفقة تريد كل شي يذكرها بالمحبوب ، وكل أمر يربطها به ، وكل سبب يعلقها به، ويجعلها لا تنساه مطلقاً ، ولذلك كان للذكر أثره في طمأنينة القلب ، وحلاوته في النفس ، لذلك من أحب شيء أكثر ترداده وذكره ، ولم ينسه مطلقاً ، حتى إذا رأى الرؤيا في منامه ، فإذا به يراها متعلقة بهذا الأمر إذا أصابه مرض ، وصار يهذي بما لا يعرف ، إذا بهذيانه لا يذكر المحب ، أو الحبيب الذي لا ينساه مطلقاً ، ولذلك تجد هذه الآثار واضحة قوية ، ولها كما قلت أمثلة في جانب الخير ، وفي جانب الشهوة العادية أو المتجاوزة للحد ، وإن كثير من العلماء من أمثال ابن القيم وغيره جعلوا بعض أبيات المحبة التي ذكرها العشاق في المعاني الإيمانية في الصلة بين العبد وربه ، واستشهدوا بهذه الأبيات في معاني المحبة الإيمانية ، بفروعها المختلفة ، ولذلك كل هذه الآثار لها شواهدها في حياة الصحابة - رضوان الله عليهم - وفي حياة صدر الأمة عندما كان عندهم بذل وتضحية في سبيل هذا الدين :
كنا نقدم للسيوف صدورنا **** لم نخش يوماً غاشماً جباراً
وكأن ظل السيف ظل حديقة **** خضراء تنبت حولها أزهاراً
لم نخش طاغوتا يحاربنا ولو **** نصب المنايا حولنا أسوارا
ندعو جهاراً لا إله سوى الذي **** صنع الوجود وقدر الأقدارا
ورؤوسنا يا ربِ فوق أكفنا **** نرجو ثوابك مغنما وجوارا
كان هذا الحب الإيماني نصرةً وتضحية وبذلاً لهذا الدين ، وكان هناك التعلق أيضاً كما جاء في الحديث عن ثوبان - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - رآه مرة ، وقد تغير فقال له :ما بك يا ثوبان ؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض ، ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدةً ، حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف ألا أراك لأنك ترفع مع النبيين وإني إن دخلت الجنة فأنا في منزلة أدنى من منزلتك ، وإن لم أدخل الجنة لن أراك أبداً ، فنزل قوله - جلا وعلا – { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفقاً }، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:( المرء مع من أحب )، هذا كله دليل وشاهد على صدق تلك المحبة الإيمانية، كما وقع من خبيب بن عدي ويذكر في بعض الروايات أنه عن زيد بن الدثنة - رضي الله عنهما - لما جئ به ليضرب عنقه ويصلب قيل له: أتحب أن يكون محمد مكانك ؟ قال : والله ما أحب أن محمد الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة ، وأنا جالس في أهلي . فقال أبو سفيان - وكان قبل ذلك على الكفر - ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.(/3)
هذه هي العاطفة الصادقة إذا سارت في المسارب الإيمانية ، والمناهج الإسلامية ، وعندما نعرف هذه الآثار ينبغي أن ندرك أن العاطفة ينبغي أن يكون لها توجه أو تأثر بأمرين اثنين : العقل ومن قبله الشرع ، فلابد أن نعرف أمر العاطفة أو العواطف بين الشرع والعقل إذاً :
أولاً : العاطفة لابد أن تكون مضبوطة بضابط الشرع فلا حب لمجرد الشكل والمظهر واللون ، أو لمجرد الإلفة والميل ، بل بموجب الأخوة الإيمانية وما سلف أن ذكرناه .
والعقل كذلك قد يحتاج أن يحكم العاطفة إذ العقل هو الذي يتلق الشرع ، ويقبل به ويسلم له ويعمل النظر في مراميه ومصالحه ومقاصده ، ويكون أرجى على تقدير المصلحة من العاطفة ، ولذلك لابد أن تحكم نزوات العواطف بنظرات العقول ، والعقل وحده لا يكون كافياً أيضاً في تيسير الأمور ،
وإذا أردنا أن نمثل فإننا نقول للعقل القيادة، وللعاطفة الحيوية ؛ فإنك لو تصورت قافلة فلابد أن يكون العقل هو قائدها ، ولكن لابد لها من حاد يحدو بها في الطريق ، ليزيل عنها أثر عناء السفر وليهيج عاطفتها على المسير
إذا نحن أدلجنا وكنت أمامنا **** كفى بالمطايا لذكراك حاديا
ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نعلم يجعل أنجشة يحدو بالإبل ، فإذا بها تتأثر بذلك الصوت الشجي ، وتسرع وتتحرك فيقول النبي - عليه الصلاة والسلام - عندما خاف من تأثير ذلك الصوت:( رفقاً بالقوارير يا أنجشة ).
هذا كله يعطينا أن الأمر متوازن فالعقل المتجرد عن العاطفة نتيجته قسوة وغلظة وعاطفة منفلتة عن ضابط العقل خفة وطيش كأنما هو طفل صغير تعطيه الأعطية فيضحك ، تمنعه عنها فيغضب ، وقد تكون الأعطية فيها حتفه، وقد يكون منعها فيه مصلحته ونفعه ،ولكنه لا يميز بعقله ولذلك يغلب على الطفل أنه مندفع مع عاطفته ببراءة كاملة ، وتغلب المرأة عاطفتها أيضاً في مواطن كثيرة فلا يكون عقلها أحكم لتلك العاطفة ولا أضبط لها ولذلك في مسألة هذه العاطفة والعقل يقول ابن القيم - رحمة الله عليه - : " إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له "، إذاً فهذا الجسم دولة ، وهناك حكومة للدولة ، وهناك انقلاب يقع بين العاطفة والعقل ، فيقول : " إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له "، أي عاد مستقل عن تأثير الهوى والعاطفة أما إذا خضع العقل لسلطان الهوى والعاطفة ؛ فإنه يعود أسيراً لها ، وتكون هي موجهة ومحكمة في مساره ، ولذلك تجد من يسمونه العاطفي ، يقولون عنه : إنسان عاطفي أي أنه ليس عنده إلا هذا القلب يخفق محبةً وميلاً وليناً وإلى آخره ، ليس عنده تلك القوة العقلية التي يبرز أثرها حتى تضبط مثل هذه الأمور.
علاقة العاطفة بالممارسات الدعوية
وأنتقل أيضاً إلى نقطة مهمة متعلقة بخصائص العواطف ، وهي قضية نمهد فيها لما يأتي من أمر الصلة المباشرة في صورة عملية بين العاطفة والممارسات الدعوية.
أول هذه الخصائص أن العاطفة موجهة ، بمعنى أنك لا تستطيع أن تقول إني أحب فلان أو أحب شيئاً ولكنني لن أتأثر ، أو لن تؤثر فيّ هذه العاطفة . طبيعة العاطفة أنها توجه ، أنها تدفع ، أنها تمنع ، فليست هي قاصرة لمجرد الصورة الانطباعية ، بل هي ذات تأثير موجه ومحرك.
الأمر الثاني وهو من أخطر هذه الخصائص ، أن العاطفة متأثرة تتأثر بالظروف بالزمان ، بالمكان ، بالأحوال ، بحال الشخص ، بحال الآخرين من حوله ، فقد ترى إنساناً متعلقاً بآخر متصلاً به ، محباً له ، ثم لا تلبث بعد حادثة أو ظرف ما ينقلب رأساً على عقب ، وينقلب الاتصال إلى انقطاع ، والمحبة إلى بغضاء ، وترى صورةً تتعجب وتقول متحققاً ، وتستذكر محققاً قول النبي - صلى الله عليه وسلم- : ( القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء )، ولذلك من الصعب ضبط هذه العواطف ، وتربيتها ليست قضيةً سهلة ، لأنها متقلبة متأثرة.
والأمر الثالث الناتج عن هذا التأثر التقلب أنك لا تستطيع أن تثق بعاطفةً بمجرد كونها عاطفة ، ما لم تضبط بالشرع والعقل لا يمكن أن تثق بعاطفة ، لأن العواطف بحكم هذه المؤثرات تتقلب ، فلا يكون للعاطفة استقرار ودوام ، إلا إذا بنيت على أساس عقلي ، واستندت إلى أحكام ونصوص وأدلة شرعية ، العاطفة التي لا تستند إلى شرع ، ولا تكون منضبطة بضابط عقل مستند إلى شرع ،لا يمكن أن تكون ثابتة ، بل طبيعتها التقلّب الذي لا يمكن معه أن تطمئن ، أو أن تتصل ، أو أن يكون عندك تلك العلاقات التي يبنى عليها كثير من الأعمال.
وأخيراً العاطفة مجهولة ، لا يعرف كنهها ، ولا يعرف تقديرها ، فلا يمكن أن تقول : إني أحب فلان بمقدار نصف كيلو ، والآخر مقدار كيلو ! لا يمكن أن تضبط المشاعر بموازيين محسوسة ، فهي أمر كما قد يعبّر عنه هلامي ، وهذه الجهالة هي سر أيضاً من خفائها وصعوبة التعامل معها ، فما لم يكن لنا رجوع إلى الأحكام الشرعية ؛ فإن أمر العاطفة يبقى ليس له ضابط ، أو كما يقولون : ليس له خطام ولا زمام .(/4)
ومن هنا جاء أمر خطير ، وهو استغلال العواطف من أثر معرفة تقلبها وتوجيهها ، يغزونا أعداؤنا ، أو يؤثرون على وجه الخصوص في شبابنا بهذه العواطف ، يلهبونها فتتحمس ، يغرونها فتتقدم ، ولذلك تجد التأثير السلبي ، والاستغلال الرخيص لهذه العواطف عبر الصورة المتحركة في التمثيلية ، أو الفيلم ، وعبر الكلمة المهيجة في المواقف العاطفية - كما يسمونها - ، أو في الأغاني العاطفية وغير ذلك ، وترى ذلك أيضاً في القصص الذي يسمونها أيضاً قصصاً عاطفية ، كل ذلك تجد له استلاب للعواطف الشبابية عموماً ، وعواطف الفتيات على وجه الخصوص ، فتجد بعض أولئك لا يتحرك إلا من خلال ذلك التأثير لهذه العواطف.
ثم تنتقل أيضاً إلى صور أخرى أكثر مباشرة في التأثير على العواطف ، من خلال ما يسمى بتحرير المرأة وتبرجها ، ومن خلال الأمر الأخطر وهو الاختلاط ، كل ذلك ما هوإلا استغلال لهذه العواطف ، ولذلك تجد كثيراً من هذه البيئات والشباب والشابات الذين تسلطت عليهم هذه العواطف ، وليس عندهم تربية إيمانية ، ولا توجيه إسلامي ، تجد أن هذه العاطفة ليست فقط تبعدهم عن الدين ، بل تدمر حتى حياتهم ، وتدمر مستقبلهم ، تضيع على سبيل المثال مستقبلهم الدراسي ، وتهدد مستقبلهم الوظيفي ، وتقوض بنيانهم الاجتماعي ، كل ذلك انجراف وراء تلك العواطف ، عندما أُشعِل سعار الإغراء بها ، وأصبح أولئك القوم أو كثير من المجتمعات تصبح وتمسي ، وهي تخاطب بنداء الغريزة ، وتهييج العواطف المتعلقة بالجنس والحب والغرام والهيام ، وهذا أيضاً مكمن خطر ينبغي أن نعرف أن له صلة بالدعوة ، معنى أن هذه العواطف لا بد أن نعرف كيف عالجها الإسلام وضبطها وأحكم توجيهها ؟ لأننا لا يمكن أن نعاتب الناس ، لا يمكن أن نقول أن هناك شباب ليس لهم إلا الحب والغرام ، ونعتب عليهم ونشجب منهم ذلك دون أن نعرف حقائق الأمور وطبيعة النفس البشرية الحب والمحبة والعاطفة أمر فطري وثق تماماً أن أهل العلم والإيمان قد تكلموا في ذلك بما يبين أن أصل هذا الأمر قد لا يكون للمرء فيه اختيار وقضية ما يسمى من الحب لأول نظرة أو عبر الكلمة هو أمر أيضاً فطري قد يقع في كثير من الصور والأحوال وذكر ذلك ابن القيم في بعض كتبه وفي كتاب أفرده لمثل هذه الأحوال.
أقول هذه كلها لابد أن نعرف أن لها أثاراً لابد أن نعرف أن للصورة الحسنة أثرها ، وللكلمة اللينة أثرها ، وأن نعرف أن لكل عمل أسلوب في التعامل له تأثيره ، فكيف يمكن أن تعتب دون أن تعالج ! لو نظرت إلى شأن هذه العاطفة على وجه الخصوص لرأيت أن هذا الدين العظيم قد منع الوسائل المفضية إلى إثارة الشهوة والغريزة وإلى تحريك هذه العاطفة ، دون أن يكون لها مسارها الصحيح فالنظر { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } ، { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن }، والسمع { فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض } والخلوة ( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، والشم ( أيما امرأة خرجت متعطرة ليجد الرجال ريحها فهي زانية ) وفي بعض الروايات تلعنها الملائكة حتى ترجع . كل ذلك معرفة بطبيعة النفس البشرية وأن هذا يؤثر فيها كما قال بشار :
يا قومي أذني لبعض الحي عاشقة **** والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وكثيرة هي الصور التي تؤثر في هذا الجانب ، ونحن ربما نعتب دون أن نعرف حقيقة هذه العواطف ، فكيف يمكن لنا أن نتعامل مع شباب في فورة شبابهم ؟ نريد أن ندعوهم ونوجههم دون أن نعرف الفطرة البشرية والمؤثرات التي فيها ، وأن نحكم التعامل معها ؛ فإن مجرد الإنكار لها والغضب منها أو الهجوم عليها ليس كافياًً في علاجها ، بل ربما كان مؤدياً إلى مزيد من استحكامها وقوة تأثيرها.
ولنعلم أيضاً في هذا الصدد أن العواطف هي حركة الحياة من ذلك :
أولاً أن العواطف باعث على الحركة والعمل، فالإنسان يحب الامتلاك ، يحب أن يكون مؤثراً ، وأن يكون له وجود في التغيير الفاعل في حركة الحياة من حوله ، ولولا مثل هذه العاطفة لكان الناس ميتين خامدين لا يتحركون إلى عمل ولا إلى منقبة ، بل يمكن أن تكون صورتهم كأنهم أموات في صورة أحياء ، والعاطفة هي التي توجد هذا الأمر ، ثم هناك أمر مهم آخر وهو أن العاطفة باعث عن العلاقة والصلة ، وأنظر إذا لم تكن هناك عاطفة لما كان هناك توجه من الرجل للمرأة في تكوين أسرة ، ولما وجدت تلك الشفقة والرحمة من الآباء والأمهات تجاه الأبناء ، ولما وجدت عاطفة التقدير والاحترام من الأبناء تجاه الآباء والأمهات ،ولما وجدت عواطف الصلات والمودة بين الناس التي تحكم الروابط بين المجتمع عموماً ، بغض النظر عن الناحية الإسلامية التي تزيدها قوة ورسوخا وإحكاماً وتمكناً ، وتعصمها من الخطأ والزلل الذي تقع فيه العواطف بمجردها أو بمفردها.
ثم أنتقل إلى لب الموضوع وهو الذي يتعلق بصور من العواطف وصلتها بالممارسات الدعوية وربما تنقلب العواطف إلى عواصف أو إلى قواصف في بعض الأحوال :(/5)
أولاً : عاطفة المحبة على وجه الخصوص للصلة بين الداعية والمدعو . نحن نعلم أن المحبة ابتداءً أمر إسلامي إيماني لابد أن يحب المرء أخاه ولا شك أنه إذا اتصل بآخر ليوجهه وينصحه ويدعوه إلى الخير ؛ فإنه سيكون له به ارتباط واتصال أكثر ، وهذا يعني أن تكون محبته له أعظم وأكبر ، وهذا أيضاً أمر مسلّم به .
ثانياً : هذه المحبة عندما تفيض في السلوك والتعامل مع المدعو يكون لها أعظم الأثر في استمالة قلبه ، وإقناع عقله ، وتأثره بالداعية واقتدائه به في كثير من أحواله وسلوكياته ،
ثالثاً : أن لهذه العاطفة وهذه المحبة ما يعين على أن تتقوم نفس المدعو تقويماً عاطفياً فتتهذب نفسه ، ويكنّ الخير للآخرين ، ويضمر المحبة ، ويلتمس العذر ، ويحسن الظن ، فهذه كلها من الآثار الإيجابية للتعامل الأخوي الذي تسوده المحبة الإيمانية والأخوة في الله - عز وجل - ، ولكن هناك ما قد نسميه تجاوزاً للحد ، أو زيادة عن القدر المطلوب ، وهذا لمسته في بعض الأسئلة التي يذكرها الشباب ، فيأتي أحدهم ويقول إن لي صلة بفلان من الناس ، أو بأخٍ لي ، أو بجار لأدعوه إلى الخير ، ولكنني أشعر أن هذه الصلة ليست هي الصلة المطلوبة في الأخوة في الله ..
أشعر أن هناك أمراً آخر ليس مندرجاً في هذا الإطار ، أو تحت هذا العنوان ، وقد يجد لهذا صور أذكر بعضها لكنني أحب أن أشير ابتداءً إلى أن وجود المحبة العاطفية البحتة مع الأخوة الإيمانية ليس أمراً معيباً ولا معترضاً عليه ؛ فإننا عندما نقول - على سبيل المثال - إن أصدق وأعظم وأكبر محبة للنبي - عليه الصلاة والسلام - اتباعه فيما أمر ، وفيما نهى عنه وزجر ، فلا يعني ذلك أن نتبعه ونحن متجردين من عاطفة الحب الصادقة ، ولسنا نتبعه - عليه الصلاة والسلام - لمجرد الأمر والنهي ، بل هذا أصدق أنواع الاتباع ويؤيده ويجعل له استمراريته وحيويته وقوته .
إن قلوبنا تخفق بالمحبة الخالصة العاطفية له - عليه الصلاة والسلام – لما له من عظيم الخلال ، وكريم السجايا ، والمنزلة العالية عند الله - عز وجل - ، والنعمة والفضل الذي أسداه لهذه الأمة ولكل فرد منها.
وكذلك عندما تريد من خلال هذه الأخوة أن توجه وأن تنصح ؛ فإنك لا يمكن أن تنفصم عن المحبة العادية الفطرية ، بل هي قرينة لهذا ، ولكن الصورة التي فيها بعض الخلل أو النقص أو التجاوز هي التي يذكرها بعض الشباب ، لها صور معينة أذكر بعض منها
أسباب التعلق الزائد
أولاً : عدم ضبط المحبة الفطرية ؛ فالمحبة الفطرية أمر طبعي لا اعتراض عليه ، ولكن عدم التيقظ قد يجعلها تزيد إلى أن تكون محبة عاطفية بحتة ، كمحبة المحبين والعشاق.
ثانياً : الخلطة الزائدة ، فبعض الناس أو بعض الشباب بحكم الدعوة ، لا يكاد يصبح صباحاً ، ولا يمسي مساءً ، إلا وهو مع هذا المدعو ، بحجة أن يقوّم سلوكه ، وأن يدعوه ، وقد ذكرت أن من الخطأ أن نكون مثل اللصقة التي لا تنفصم عن الجلد ، معه ليلاً ونهاراً .. صبحاً ومساءً ؛ فإذا غبنا عنه اتصلنا به ، لا أعيب الاتصال ، لكن اتصلنا به كأننا لا يمكن أن ننفصل عنه أو ننفصم منه هذا سبب من أسباب وجود العلاقة التي قد يكون فيها مأخذ.
ثالثاً : عدم وضوح الهدف وقوة التربية عند الداعية ؛ فإن هدفك من صلتك بكل إنسان هو هدف إسلامي ، ترجو فيه الأجر لنفسك ، والخير لغيرك ؛ فإن غاب عنك هذا الهدف تكون كحال الصياد الذي ذهب ليصيد في البحر ، وأخذ معه عدته ، وهو يعلم أن هذا مصدر رزقه ، لكنه عندما ذهب أعجبته زرقة البحر ، وانكسار الأمواج ، وانعكاس الشمس في غروبها ، وضلال الأشجار فجعل ينظر إلى هذه المناظر الجميلة ، ويأنس بها ، وربما يكتب الأشعار ، ويدبج المقالات ، ونسي الهدف الذي ذهب لأجله ، وهنا قد ينصرف الداعية لاسيما إذا كان في مقتبل العمر وأول الشباب إلى لطافة وظرف وحسن هيئة وتأنق عند المدعو ، فإذا به يعجب بهذا ، وينسى ذلك الهدف الذي كان أساس تلك الصلة ، ويلحق بذلك عدم قوة التربية في الداعية بمعنى أنه ليس عنده التربية التي تجعله يضبط عواطفه ، ويعرف كيف يقوم ويسوس الأمور.(/6)
رابعاً:النواحي المادية الصرفة وهذا أمر لابد أن نعرفه بوضوح وجلاء ؛ فإن بعض التعلق قد يكون لما عند ذلك المدعو من مال أو جاه ، أو كذلك لما عنده من هيئة حسنة ، ولا نعجب من ذلك ؛ فإن سلف الأمة قد تكلموا في مسائل قد نعجب منها ، أو يراها البعض بعيدة عن التصور ، وقد يظنها البعض منطوية على بعض التشدد ، وإنما هو معرفتهم الصحيحة بطبيعة النفس البشربة . عندما كان العلماء يتحدثون على سبيل المثال عن الاختلاط أو النظر للأمرد ، أو كيف يكون مجلسه و مكانه في مجلس العلم أو غير ذلك مما ورد عن بعض الآثار في شأن وتصرفات سلف الأمة وبعض العلماء ، يدل على أن الناحية المادية في الشكل والمعنى والمضمون لها أثرها ، فينبغي للمرء أن لا يغفل عن هذا ، وقد يسأل الشاب ويقول كيف أميز علاقتي بالمدعو حتى أعرف إن كانت في المسار أو خرجت عن الإطار ؟ فأقول هناك بعض الملامح لعلك إن سألت نفسك عنها وصارحت نفسك بها ، وجدت الحل الذي يجعلك تنتبه إن كنت قد وقعت في بعض الخطأ :
1- مدى لزوم استمرار الصلة . ما مدى ما في نفسك من لزوم استمرار الصلة ؟ هل أنت ترى من أنه لا بد ألا يمر يوم إلا وتراه ، وألا تمر ساعة إلا وتتصل به ، وألا يكون لك غرض في أن تذهب إلى مكان إلا وتصطحبه وترافقه ، إذا كان هذا متأصل وبقوة ، فاعلم أن هذا مظهر من المظاهر التي قد تعطي مؤشراً للتنبيه من الخطأ.
2- عدم النصح في الأخطاء ، وهذا معلم بارز عندما يخطئ هذا المدعو فالأصل أنك تنصحه . لا أقول لك أغلظ له في القول ، لا أقول لك كن عنيفاً معه ، لكن إذا لم تنصح لا تصريحاً ولا تلميحاً ولا بالحكمة ولا بالأسلوب الحسن ، بل كان همك أو ديدنك غض الطرف ، فاعلم أنك قد وافقته في هواه ، وأنك قد تغلغل بعض الحب في قلبك ، فلم تعد تريد أن تغضبه ، أو أن تكسر خاطره ، أو أن تجرح مشاعره ، أو تخالفه في رأي أو قول ، فإذا أردت أن تذهب للنزهة في مكان واختار هو مكاناً آخر قد يكون فيه ما فيه ؛ فإنك لا تعارضه في ذلك.
3- التبرير لكل خطأ أو لكل نقد قد تسمعه من غيرك . لا تكتفي بمجرد إقرارك بأخطائه ، بل يقولون لك : إن فلان فيه اعتداد بنفسه أو غرور فتقول:لا إن الله جميل يحب الجمال ، يقولون لك : إنه يفعل كذا وكذا ، فتقول : إن طبيعة بيئته أو ظرفه كذا وكذا إذاً فأنت هنا أيضاً تبرر أموراً كثيرة لا بأس أن تلتمس لأخيك الأعذار لكن كثرة التبرير ودوامه مؤشرٌ من هذه المؤشرات.
رابعاً : التأثر بالغيرة من الآخرين ؛ فإنك إن رأيته صحب فلان انقبضت نفسك وإن رأيته كان متأثراً أو معجباً أو مشيداً ومادحاً في فلان لعلمه أو لحسن بلاغته ، أو لقوة تأثيره أو كذا رأيت أن ذلك يشعرك ببعض الضيق أو التبرم ، فاعلم أن هذه المؤشرات والصور كلها دلالات على أن المسار قد خرج عن الإطار المطلوب فاضبط عاطفتك بضابط الشرع ، ونضمها وقومها بالعقل الذي تخطط فيه هذه الدعوة مع هذا المدعو فتحكم الأمر وتقول سأفعل معه كذا وسأعطيه كذا وسأسأله عن كذا وسأعالج فيه أمر كذا من خلال كذا وكذا ولا تترك الأمر هكذا عبثاً ومجالس فيها حك وكلام ينتج عنها مثل هذه المواقف.
الجانب الثاني أو العاطفة الثانية وهي ذات خطب عظيم وكبير وهي عاطفة الحماسة وقد سلف لنا في حديث الجمعة الماضية أيضاً في حديث الهجرة وواقع الدعوة كلام يمس هذا الجانب في إطاره العام ؛ فإن الحماس عاطفة طيبة ، وهي عاطفة الغيرة الإيمانية التي امتدحها النبي - صلى الله عليه وسلم – وقال : ( أتعجبون من غيرة سعد فوالله إني لأغير منه ) وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - لا يغضب لشيء إلا أن تنتهك محارم الله - عز وجل - فلا يقوم لغضبه قائم .
هذه العاطفة ؛ من النصرة للمسلمين والغيرة على هذا الدين ، والحمية ضد أعداء الإسلام والمسلمين ، عاطفة عظيمة جداً هي أساس من أساسيات وصور وقوة إيمان المسلم ، ولكن هذه الحماسة قد تندفع فتطغى ويأتي من وراءها كثير من الأمور والمخاطر ، وقد يقول قائل أيضاً في جانب آخر : لابد أن نضبط العاطفة الحماسية ولابد أن نقيدها ، ولابد أن نروضها ، ويبالغ في هذا حتى يئدها ويقتلها .
نحن لا نريد للجمرة أن تنطفئ ، لكننا نريد أن يبقى فيها بقية الجمر حتى إذا تدحرجت في الوقت المناسب أشعلت تلك الأوراق والأخشاب أو الهشيم أو الحصير الذي تلامسه فتشعله فيؤدي ذلك الاشتعال إلى المطلوب ، لكن تلك الحكمة التي يزعمها بعض الناس ، ويريدون أن يطفئوا بها جذوة الحماسة ، وأن يجعلوا أجيال الإسلام ، وشباب الدعوة راكنين إلى الدنيا ، مطمئنين إلى ملذاتها ، يشربون بارد الشراب ، ويأكلون طيب الطعام ، ولا تتغير نفوسهم غيرةً ولا غضباً ، ولا حميةً لدين الله ، لا في كلمة حماسية ، ولا في غيرةإيمانية ، ولا في إنكار منكر ، هذا ليس مطلوباً !(/7)
وفي الجانب الآخر ليس مطلوباً ذلك الاندفاع الذي يؤدي بالدعوة إلى المخاطر والمهاوي فيما يتعلق بمواجهة الأعداء ، أو بظروف الضغط والاضطهاد والتعذيب والمطاردة والملاحقة للدعوة والدعاة ؛ فإن للمسلم أمور كثيرة أولها : أنه منضبط بضابط الشرع فليس هو متصرف بردود الأفعال وليعلم ما قاله الصحابة في بيعة العقبة للنبي - عليه الصلاة والسلام - : لو شئت أن نميل على أهل الوادي لفعلنا . فقال : ( كلا ! فإنا لم نؤمر بذلك ) .
وليعلم كيف روض النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك العاطفة المتدفقة في عمر - رضي الله عنه - يوم الحديبية لما جاء وقال : يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ قال : بلى . قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟! عاطفة صادقة لم ينكرها - صلى الله عليه وسلم - ولم يعبها على عمر ، ولكنه قال : إني رسول الله وإنه لن يضيعني . فذهب إلى أبي بكر ليرى رجاحة العقل ، واستقرار النفس ، وقال له ماقاله للنبي - عليه الصلاة والسلام - فقال أبو بكر : الزم غرزه فإنه رسول الله ، ذلك هو الفرق بين رجاحة العقل وسكون النفس عند أبي بكر ، فلم تجمح به العاطفة ولو في إطارها المقبول ، وتلك العاطفة المتدفقة من عمر - رضي الله عنه - لم تنطلق من إسارها ، بل رجعت على أعقابها بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلا قد وقع في نفوس الصحابة يوم الحديبية ، ولست في صدد ذكر الأحداث ، ولكن لما جاء أبو جندل يرسف في قيوده ، والمسلمون على بعد خطوات منه ، وهو يستنجد بهم ويصرخ ، ويريد أن يلحق بهم ويخرج من هذا الاضطهاد ، وهم الذين خاضوا المعارك ، وضحوا بالشهداء ، ويرون هذا المنظر أمام أعينهم ، ولكنهم ينضبطون ويلتزمون حكم النبي - عليه الصلاة والسلام - ويقع في نفوسهم أيضاً أنهم عندما أمرهم - عليه الصلاة والسلام - أن يحلقوا رؤوسهم ، ويتحللوا من عمرتهم ، فلم يستجيبوا في أول الأمر ، لما كان قد خالط القلوب والنفوس من هم وغم وكرب وضيق ، فلما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشورة أم سلمة فحلق ، ابتدروا يحلقون حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً ، وحتى سالت دماء بعضهم - رضوان الله عليهم أجمعين - .
إذاً لابد من هذه العاطفة المتأججة في الشباب أن لا تستفز ، وأن نعلم أن أعداء الدعوة يريدون لها أن تستفز ، وأن تخرج عن إطارها ، ليشوهوا صورة الدعاة ، ويروا الناس أنهم متهورون ، وأن تصرفاتهم هوجاء ، وليست الحماسة المندفعة في التصرفات ، بل في الكلمات ، فأنت تسمع من الكلمات ما قد يكون أفتك وأخطر وأكثر هولاً من الأفعال ، لأن الكلمات فيها أحكام ، ولنا مع الكلمة جولة - إن شاء الله - كما سأذكر في آخر الحديث ما أسباب تلك الحماسة التي قد تندفع وتخرج عن الإطار :
الأسباب الدافعة للحماسة
أولاً : الدافع النفسي ؛ إذ في النفوس حمية وطبيعة لقطف الثمرة ، وتحقيق الفكرة إذا اقتنعت بفكرة ؛ فإنني أحب أن تتحقق الفكرة الآن قبل أي وقت آخر ، وهذا طبع بشري .
ثانياً : الحرارة الإيمانية ؛ الإيمان الذي يذكي حماسة القلب والنفس ويريد لها أن تندفع ولكن إذا تمعن فليعلم قول الله - عز وجل – { فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } ليس المسلم الذي يستجيب للعاطفة دون هذا الضبط أيضاً هناك واقع أعداء الدعوة الذين يحكمون قبضتهم على كثير من مقدرات المسلمين ، ليس في بلاد الكفر ، بل في بلاد الإسلام والمسلمين ، فأنت ترى القبضة محكمة في إطار الحكم والسياسة ، وفي إطار التربية والتعليم، وفي إطار الدعاية والإعلام ، فقلّ أن تجد في كثير من بلاد الإسلام نصرةً للدين والدعوة ، بل على العكس تجد في كثير من ممارساتها حرباً على الدين والدعوة ، وهذا يستفز المشاعر أيما استفزاز ، كيف نكون في بلد إسلامي وإذا بصحف في تلك البلاد أو مشاهد في إعلامها تعلن الكفر الصريح ، دون أن يسمح لمعترض أن يعترض ، أو لمنكر أن ينكر ، إن ذلك قد يكون أحياناً أكبر مما تحتمله بعض النفوس التي لم تروض ولم ترب التربية الكافية.
وأيضاً من الأسباب ؛ الجهل بأساليب الكيف الذي يخطط لها الأعداء ويمارسونها لهم أساليب ملتوية وخبيثة يريدون من خلالها الدعاة والشباب منهم على وجه الخصوص فيما لا تحمد عقباه.
ثالثاً : كثرة المنكرات التي تواجه الشباب في كثير من الوقائع العملية سماعاً ونظراً وقراءةً وفي كل الصور.
رابعاً : ضعف النفوس عن طول الطريق ؛ فإن الطاقات تختلف ، فلو تصورت الدعوة عبارة عن حمل ثقيل ، فهناك أصحاب أجسام قوية ، وعضلات فتية ، يمكن أن يحمل ويسير ما شاء الله له أن يسير ولا يتعب ، ومنهم من يمشي بعض خطوات أو قليل من الطريق ثم يقول : لابد أن أتخفف ، وأن أنطلق لأبلغ المراد من غير هذا الطريق.(/8)
خامساً : أمر في غاية الأهمية وهو :عدم وجود القدر الكافي من التخطيط الدعوي الذي يستوعب طاقات الشباب ، فلا يولد حماسة ، ولايجعلهم يبردون ويسكنون ، وتموت نفوسهم وهممهم ، كما أنه يجعلهم ينفسّون هذه الطاقة في ميادين عملية ، تحقق إيجابيات للدعوة ولهذا الدين ، ويدركون خلالها أن جولتهم مع الباطل يمكن أن تكون طويلة المدى ، وأن تحقق بعض النجاح في جانب ، ثم في آخر ، ثم في ثالث ، وإذا بالجولة بعد ذلك تتكامل انتصاراتها ، وتؤدي ثمرة من الثمار المرجوة .
سادساً : عدم الخبرة الكافية والتجربة والنظر في التجارب الواقعية في الحياة الإسلامية هناك في سيرة النبي - عليه الصلاة والسلام - دروس كثيرة ، وعبر لكن في الواقع الدعوي المعاصر دروس كثيرة لمجرد الحماس غير المتزن بضابط الشرع ، ولا بنظر المصلحة على الدعوة والدعاة ، ومن ذلك أيضاً الغفلة عن سنن الله - عز وجل - في طبيعة التدرج ، وطبيعة الصراع بين الحق والباطل ، وكما يقولون : ينتصر الباطل في جولة وجولة ، ولكن الجولة الأخيرة فينبغي أن يكون يقيننا أنها للحق وأن العاقبة للمتقين وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق لابد أن ندرك أن الأمر في ختامه لهذا الدين وأن النصر له والبشارات في ذلك معروفة مأثورة مذكورة ، فينبغي أن لا نخرج عن إطارها.
سابعاً : - وهو الذي أختم به - ؛ وهو سبب عدم الفقه في الدين ، علماً بالشرع وتنزيلاً له على الواقع ؛ فإن بعض الشباب يأخذ النص وينزله إنزالاً بعيداً عن ما فهمه أهل العلم بل ما فهمه الصحابة - رضوان الله عليهم - ومن جاء بعدهم من العلماء الذين عرفوا أن للأحكام تغيراً بتغير الظروف والأحوال والأشخاص ، وأن هناك مراتب للأحكام وهناك واجبات ، وهناك سنن ومندوبات ، وهناك محرمات ودونها مكروهات ، فلا ينبغي التسوية هكذا بين الأمور على عجلة دون روية ، وهذه أيضاً مشكلة من المشكلات.
والثالثة التي نختم بها حديثنا : مسألة الغيرة بعد المحبة ، وهذه للأسف أيضاً مشكلاتها كثيرة ، وأعني بالغيرة غيرة التنافس في ميادين الدعوة ؛ فإذا ببعض الدعاة يغار أو يغضب من إخوة له يحبون الخير ، ويسعون له ، ويسيرون في طريقه ، ويضربون الناس فيه ، لكن باجتهاد يخالف اجتهادهم ، فإذا رأى الناس أقبلوا عليهم دونه ، أو اقتنعوا بفكرتهم وأسلوبهم دونه ، إذا به تستعر في نفسه غيرة هي عاطفة في الأصل قد تكون محمودة إذا أخذناها على غرار قول الله - عز وجل - : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون }، وإذا أخذناها على أنها تكامل لا تصادم ، وتعاون لا تراشق ، وقد أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك بقوله: ( إن الشيطان يئيس أن يعبد في أرضكم هذه ولكن في التحريش بينكم )، فإذا بهذه الغيرة تتحول إلى نوع من البغضاء أو الشحناء ، وتؤدي إلى صور كثيرة نراها في صور من الواقع الدعوي ، لا تخطئها العين .
من هذه الصور : التنافر والبعد ؛ فنحن نعلم أن المسلم أخو المسلم ، وينبغي أن تربط بين المسلمين أخوة الإيمان ، فإذا كان أولئك المسلمون دعاة فأمر أخوتهم ومحبتهم ينبغي أن يكون آكد وأقوى ، فما بالنا نرى عوام الناس من كبار السن من آبائنا وإخواننا الكبار أو أجدادنا وأمهاتنا والعجائز في قلوبهم من الصفاء والنقاء والألفة والمحبة ما نفتقده بين شباب نذروا أنفسهم للدعوة ، أو نصبوا أنفسهم للدعوة ، أو رفعوا راية الدعوة ، أمر لا يمكن أن يكون مقبولاً في ميزان الشرع ولا في منطق العقل.
والصورة الثانية : مرحلة أخرى وهي التحذير والتشويه ؛ فلا يكتفي من أن ينفر منهم ، بل يحذر الآخرين منهم ، ويشوه صورتهم ، وهذا لا شك أنه فساد في الطوية ، واختلال في النية ، وسأذكر بعض الأسباب أيضاً التي تبين هذا ، لكن هو يشكل صورة لنفسية مريضة لم تتغذى بغذاء الإيمان ، ولم تتطهر بطهارة الإسلام .
والثالثة - وهي أخطر منهما - : تجاوز الحدود الشرعية في أمر ذلك التحذير أو النفرة أو التعامل عموماً ، فإذا به يستخدم التورية كما يزعم ليصرف الناس عن من يقولون : إنه على باطل ثم إذا بالتورية تغدو كذباً صريحاً ، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى إحكام الكيد ، وتدبير المؤامرات ، وتلمس العيب ، وتتبع الأخطاء ، وتجاوزات شرعية ، ليس لها آخر - كما يقولون - وأذكر في هذا الصدد الأسباب التي تؤدي إلى هذه الظاهرة :
الأسباب المؤدية إلى جنوح عاطفة الغيرة(/9)
أول هذه الأسباب التي تجنح بهذه العاطفة - أي عاطفة الغيرة - :ـ عدم قوة ورسوخ التربية الإيمانية إذ المؤمن الذي يتربى على خلال الإسلام ، وآداب هذا الدين ، يعلم أن آصرة الأخوة ، وأن أمر المحبة في الله - عز وجل - يقضي بألا يكون هناك هذا التنافر ، وتلك البغضاء ، وقد قال النبي - عليه الصلاة والسلام - : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ) وبدأ في هذا الحديث بقوله ( إن الظن أكذب الحديث) أي بمجرد الظن السيئ الذي تسيء إلى أخيك به ؛ فإن هذا الظن يورث في النفس نوعاً من النفرة ويزرع بذرة من بذور البغض ليس هذا محلها ولا مكانها .
الأمر الثاني : عدم استحضار طبيعة الواقع الدعوي انظر إلى المجتمعات الإسلامية كم ترى فيها من الملتزمين شرع الله ، كم ترى فيها من الدعاة ، كم ترى فيها من العلماء ، ترى قلة وأنت تريد أن تجعل هذه القلة بصنيعك أقل من القليل ، فتفرق صفها ، وتشيع الفرقة بينها وتشوه صورتها لينفر الناس عنها ومنها ، وإذا بك في حقيقة الأمر تسيء إلى الدعوة ، ولا تستحضر أمر المواجهة والكيد الذي يحاك ، ويوجه للدعوة والدعاة ، على اختلاف اجتهاداتهم وتصوراتهم ، إن واقع العصر اليوم يدلنا على أن المسلم يعادى ويكاد له ويضطهد لمجرد كونه مسلماً ولو كان مسلماً بالاسم فكيف إذا كان مسلماً يعرف إسلامه ، ويلتزم شرع الله - عز وجل - ويدعو إليه ويريد أن يحي موات هذه الأمة ، وأن يرفع راية الجهاد فيها ؛ فإذا كان هؤلاء الدعاة على هذا القدم ، فإنهم ألد الأعداء ، وأعظم الخصوم ، بالنسبة لمن يحاربون هذا الدين ، فإذا كنت أنت بهذه الغيرة المنحرفة تساهم في ضربهم أو تشويههم ؛ فإنك كأنما أخذت معول الأعداء لتريحهم من بعض العناء ، كماورد عن بعض السلف أنه سمع أحدهم يجرح أخاً له فقال: هل قاتلت الترك ؟ قال :لا ، قال: هل قاتلت الروم ؟ قال: لا ، قال: هل قاتلت الهند ؟ قال: لا ، قال :أفيسلم منك أهل الروم والترك والهند ولا يسلم منك أخوك المسلم ؟ عجباً لأولئك القوم ، لم يسلم المسلمون من ألسنتهم ، ولم يسلموا أيضاً من التخطيط الذي يبدعون فيه ويبذلون فيه جهدهم لحرب إخوانهم وهم ليس لهم في مواجهة الأعداء أي جهد يذكر ، وبالتالي فهم في هذا يساهمون في هذه الخطورة العظمى .
ثالثاً : الأمراض النفسية من الكبر أو حب الذات والأنا أو الغرور ؛ فإن بعضاً من أولئك فيه علل مستعصية ، وأمراض سرطانية تحتاج إلى استئصال ، وما لم تستأصل ؛ فإن نفسه تدفعه وتقوده وتدعوه إلى مثل ذلك السلوك ، ومن ذلك أيضاً - وهو سبب مشترك كما سبق أن أشرت - عدم الفقه أو العلم ، يقول : الحق أحق أن يتبع ، ويقول : لا بد أن أهجره في الله ، ويقول : لا بد أن يكون هناك مفاصلة ، عجباً كيف توقع الأمور في غير موقعها ، وتنزل النصوص في غير ما هي مخاطبة به أو منطبقة عليه ؛ فإنك تجد أن مجرد اختلافه مع أخيه في رأي واحد ، أو في مسألة واحدة ، تجعله يبدعه أو يفسقه ، ويرى أن من الواجب الشرعي أن يهجره ، بل من الواجب الشرعي أن يحاربه ، هذا فقه سقيم ، وجهل مركب - كما يقال - فهذه بعض تلك الأسباب لانحراف الغيرة عن واقعها الصحيح ، وبالجملة ؛ فإن هذا الانحراف العاطفي واقع في صفوف الدعوة وشبابها ، وإحكامه يكون بالتربية الإسلامية والعلم الشرعي ، والإدراك الواقعي ، والقيادة الراشدة ، وليعلم العلماء والدعاة والخطباء أن مسئوليتهم مضاعفة ، فينبغي ألا يكونوا سبباً في توسيع شقة الخلاف أو إذكاء نار التباغض أو التحاسد أو غير ذلك ، وينبغي أن يعلم كل مسموع الكلمة أن كلمته يطيرها عنه المطيرون ، وينقلها عنه الناقلون ، ويفهمها عنه الفاهمون وغير الفاهمين وهو في آخر الأمر يدرك مثل هذا ، لكنه للأسف لا يلقي له بالا ، فإذا كان هناك شباب صغار ؛ فإن لهم كبار ، ولو توقعنا أنهم أخطأوا ، فلنا أن نغض الطرف عنهم ، أو أن نعتذر لهم بجهلهم ، لكنهم إن رجعوا إلى من يستشيرونه أو يقتدون به ، فوافقهم على خطأهم ، أو شجعهم عليه ، عرفنا أن تركيبة عقولهم ، وأن صيغة تربيتهم مبنية على أساس خاطئ ، ويكون الأمر حينئذً أكبر وأخطر ، فالصغير أو الجاهل يغتفر منه ما لا يغتفر من غيره ، فهذه بعض المعالم والملامح المتعلقة بأمر العاطفة والدعوة ، وأسأل الله - عز وجل - أن يعصمنا من الزلل ، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل .(/10)
العبادة الصوفية في ميزان الشريعة
الحمد لله الذي اكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، والصلاة والسلام علي سيد المرسلين ونبي الأمة وبعد..
في سلسلة حديثنا عن الغلو وخطره على العقيدة والشريعة نعرض في هذا المقال للغلو في العبادة عند الصوفية، وقبل الشروع في المقصود نتناول أولا أسس العبادة وركائزها في الكتاب والسنة فنقول مستعينين بالله عز وجل:
إن العبادة التي شرعها الله سبحانه وتعالى تنبنى على أصول وأسس ثابتة تتلخص فيما يلي:
أولا: أنها توقيفية-بمعنى: أنه لا مجال للرأي فيها-بل لا بد أن يكون المشرع لها هو الله سبحانه وتعالى،كما قال تعالى لنبيه فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير {هود:112}، وقال تعالى: ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون {الجائية:18} وبيَّن ما ينبغي لنبيه نحو العبادة فقال: إن أتبع إلا ما يوحى إلي {الأحقاف:9}.
ثانيًا: لا بد أن تكون العبادة خالصة لله تعالى من شوائب الشرك كما قال الله تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا {الكهف:110}.
فإن خالط العبادة شئ من الشرك حبطت كما قال تعالى: ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون {الأنعام:88} وقال تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين × بل الله فاعبد وكن من الشاكرين {الزمر:65-66}.
ثالثًا: لا بد أن يكون القدوة في العبادة والمبيّن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة {الأحزاب:21} وكما قال تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا {الحشر:7}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وفى رواية: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "خذوا عني مناسككم"، إلى غير ذلك من النصوص.
رابعًا: أن العبادة محددة بمواقيت ومقادير لا يجوز تعديلها ولا تجاوزها.
كالصلاة مثلاْ، وقال تعالى: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا {النساء:103}.
وكالحج، قال تعالى: الحج أشهر معلومات {البقرة:197}.
وكالصيام قال تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه {البقرة:185}.
خامسًا: لابد أن تكون العبادة قائمة على محبة الله تعالى والذل له وخوفه ورجائه، وقال تعالى: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه {الإسراء:57} وقال تعالى عن أنبيائه: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين وقال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم *قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين
{آل العمران:31-32}.
فذكر سبحانه وتعالى علامات محبة الله وثمراتها:
أما علاماتها: فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته.
وأما ثمراتها: فنيل محبة الله سبحانه وتعالى ومغفرة الذنوب والرحمة منه سبحانه.
سادسًا: إن العبادة لا تسقط عن المكلف من بلوغه عاقلاْ إلى وفاته، قال تعالى: ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون {آل عمران:102} واعبد ربك حتى يأتيك اليقين {الحجر:99}.
وعندما نتعمق في تعاليم الصوفية وأقاويلهم المنقولة عنهم والمأثورة في كتبهم والحديثة نفسها نرى بونا شاسعاْ بينها وبين تعاليم القرأن والسنة، وكذلك لا نرى جذورها وبذورها فى سيرة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام البررة خيار خلق الله.
الخلل في منهج العبادة عند الصوفية
للصوفية-خصوصا المتأخرين منهم-منهج فى الدين والعبادة يخالف منهج السلف ويبتعد كثيراْ عن الكتاب والسنة، ذلك أنهم قد بنوا دينهم وعبادتهم على رسوم ورموز واصطلاحات اخترعوها، نذكر منها ما يلي:
1- التزام أذكار وأوراد مبتدعة:
من دين الصوفية التزام أذكار وأوراد يضعها لهم شيوخهم فيتقيدون بها ويتعبدون بتلاوتها، وربما فضلوا تلاوتها على تلاوة القرأن الكريم، ويسمونها ذكر الخاصة.
وأما الذكر الوارد فى الكتاب والسنة فيسمونه: ذكر العامة.فقول: لا اله إلا الله، عندهم هو ذكر العامة وما ذكر الخاصة فهو الاسم المفرد.. "الله" وذكر خاصة الخاصة "هُو".
وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية على مزاعم هؤلاء وشبهاتهم التي استندوا عليها فقال رحمه الله: ومن زعم أن هذا- أي: قول لا إله إلا الله ذكر العامة وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد وذكر خاصة الخاصة "هو": أي الاسم المضمر، هو ضال مضل.(/1)
واحتجاج بعضهم بقوله تعالى: قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون من أبين غلط هؤلاء بل من تحريفهم للكلم عن مواضعه، فإن الاسم "الله" مذكور فى الأمر بجواب الاستفهام فى الآية قبلها وهو قوله: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله {الأنعام 91}، أي الله هو الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى.
فالاسم "الله" مبتدأ خبره دل عليه الاستفهام كما فى نظائر ذلك تقول، من جارك؟ فيقول: زيد واما الاسم المفرد ظاهرًا ومضمرا فليس بكلام تام ولا جملة مفيدة ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهى ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة ولا شرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعطي القلب نفسه معرفة مفيدة ولا حالا نافعًا وإنما يعطيه تصورًا مطلقا لا يحكم فيه بنفى ولا إثبات إلى أن قال: وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر بالاسم المفرد وب "هو" فى نوع من الإلحاد وانواع من الاتحاد وما يذكر عن بعض الشيوخ فيما قال أخاف أن أموت بين النفى والإثبات حال لا يقتدي فيها بصاحبها فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء فيه إذ لو مات العبد فى هذه الحال لم يمت إلا على ماقصده ونواه، إذ الأعمال بالنيات وقد ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بتلقين الميت لا آله إلا الله وقال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" ولو كان ما ذكره محظورا لم يلقن الميت كلمة خافوا أن يموت فى أثنائها موتا غير محمود. بل كان ما اختاره من ذكر الاسم المفرد.
والذكر بالاسم المفرد ابعد عن السنة وأدخل فى البدعة وأقرب إلى إضلال الشيطان فإن من قال: "ياهو ياهو"، أو "هو هو" ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدا إلا إلى مايصوره قلبه والقلب قد يهتدى وقد يضل وقد صنف صاحب الفصوص كتابًا سماه "الهو".
وزعم بعضهم ان قوله: وما يعلم تأويله إلا الله {آل عمران:7} معناه وما يعلم تأويل هذا الاسم الذى هو "الهو " وهذا ما اتفق المسلمون، بل العقلاء على أنه من أبين الباطل، فقد يظن هذا من يظن من هؤلاء حتى قلت لبعض من قال شيئًا من ذلك لو كان هذا ما قلته لكُتِبتَ الآية "وما يعلم تأويل "هو" منفصلة أي كُتبت "هو " منفصلة عن كلمة تأويل.
كيفية الذكر الصوفي
في مناسك الذكر الصوفي يفرض علي الذاكرُ أن يستحضر شيخه، وأن يستمد منه عند الشروع فيه فيقول: مددك يا أستاذي وأن يرى أن استمداده منه، عين استمداده منه صلى الله عليه وسلم ، فإنه الواسطة إليه، وأن يستأذن شيخه بقلبه، فيقول: دستور يا أستاذي وأن يستأذن أصحاب الطريق والقدم، فيقول دستور يا أصحاب الطريق والقدم.
{رسالة منحة الأصحاب (ص86)}
يقول العلامة الشيخ عبد الرحمن الوكيل: وهكذا توجب الصوفية علي "الدرويش أن يتلطخ بهذه الوثنية قبل أن يذكر الله، وأن يستأذن كل هذه الأصنام، ليتقبل الله ذكره، ويغمره برضاه!! حجب صماء تمور حولها الدياجير، وقصف الأعاصير، تضعها الصوفية في طريق السالك. حتي لا يري شعاعة من نور!!.
وأما كيفية الذكر فهي "أن يهتز من فوق رأسه إلي أصل قدميه، وأن يبدأ ب "لا" يميناً، ويرجع ب "إله" فيتوسط، ويختم "إلا الله" يساراً قبلة القلب، فإن ذكر اسمه مفرداً ك "الله" و "هو" ضرب بذقنه علي صدره، وأن يذكر مع جماعة مع رفع الصوت، وينتع الكلمة من سرته إلي قلبه".
{رسالة منحة الأصحاب (ص86)}
هذه هي صورة الذكر الصوفي وما هكذا ذكر الرسول ربه، وما هكذا ذكر الصحابة من بعده ربهم، ما ذكروه باسمه المفرد، ولا ذكروه في ميل وتأوه، ما ذكروه بقيادة واحد منهم ينطق بالاسم مصفقاً، وينطقون به وراءه، وما ذكروه ولهم منشد، وما ذكروه وأصواتهم من ضجيجها تفزع الليل، وتصك جنباته، ما ذكروه بالنايات والطبول والدفوف. ولكنهم ذكروه كما علمهم رسوله صلى الله عليه وسلم أما من ذَكَرَ الله ذَكْر الصوفية، فهم مشركوا الجاهلية. قال تعالي: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية أو عبدة العجل في اليهودية.
{هذه هي الصوفية: عبد الرحمن الوكيل}
مثال من أوراد الذكر الصوفي
أخي القارئ: أسوق لك مثالاً واحدًا لتتضح لك الحقيقة وينكشف لك منهج القوم.
يقول ابن مشيش في صلاته المشهورة على الرسول صلى الله عليه وسلم : "اللهم إنه سرك الجامع الدال عليك وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك.. وزج بي في بحار الأحدية، وانشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس بها، واجعل الحجاب الأعظم حياة روحي وروحه، سر حقيقي وحقيقته جامع عوالمي، بتحقيق الحق الأول... واجمع بيني وبينك، وحل بيني وبين غيرك". {الحزب الكبير للدسوقي}
سبحانك هذا بهتان عظيم، وهل هذا ذكر ودعاء أم كذب وزور وافتراء.(/2)
وفي هذا الدعاء المذعوم من الكفر والضلال شيء عظيم لا يخفى على من عنده أي إلمام بشيء من علوم الدين فقوله "وزج بي في بحار الأحدية وانشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة" تصريح واضح لعقيدة ابن مشيش ومن على شاكلته من أهل وحدة الوجود الذين يسمون التوحيد أوحالا!!
والعجيب بعد كل هذا أنهم إذا سُئلوا من أين لكم بهذه الخرافات التي تسمونها أذكارًا؟ يقولون كما قال أبو الحسن الشاذلي عند ما سئل عن شيخه الذي أخذ عنه العلم فقال: أما فيما مضى فكان سيدي عبد السلام بن مشيش، "وأما الآن فأستقي من عشرة أبحر خمسة سماوية وخمسة أرضية، أما السماوية فجبريل وميكائيل وإسرافيل وعذرائيل والروح، وأما الأرضية فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والنبي".
{انظر الفكر الصوفي- الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق}
إنها خرافات وضلالات ما أنزل الله بها من سلطان تشوه جمال هذا الدين وتعكر صفوه وبهائه، وبهذه الصورة تنتشر العقائد الهدامة والمبادئ الفاسدة في صفوف الأمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فاللهم رحمتك بنا.
الأذكار النبوية المباركة
تأمل أخي القارئ في نور الوحي وجلاله من خلال جمال الذكر النبوي: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: "اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك". متفق عليه.
أرأيت إلى هذا الذكر النبوي الجامع؟ إنها ضراعة النبوة والعبودية الخاصة تفتحت لها أبواب السماء، ما فيه ذكر مفرد، ولا ضرب صدر بذقن ولا هزة الرأس إلى أخمص القدم، وما فيه التناوح بالرأس يمنة ويسرة، ولا نتع من سرة إلى قلب، ما فيه منشد ولا دف، ما فيه دائرة يقف في مركزها نُصُب يُرَقِّص الذاكرين بتصديته إنما فيه قلب مؤمن ضارع، ملأه حب الله خشية ورهبة وتقوى يتوجه إلى خالقه الأعظم، مالك الملك كله في إيمان صادق، وتوحيد خالص، فصلوات الله على محمد عبد الله ورسوله.
والله من وراء القصد، وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.(/3)
العبادة بين الصورة والحقيقة
هيثم الحداد
المهمة التي خلق الله البشر من أجلها هي عبادته وحده لاشريك له، قال الله (تعالى): ((وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ)) [ الذاريات: 56] لكن الله (جل وعلا) مستغن عن الخلق كلهم، ولاحاجة له (تبارك وتعالى) لعبادتهم كما جاء في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم مازاد ذلك في ملكي شيئاً)(1)، وقد قال الله (تبارك وتعالى): ((لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ)) [الحج: 37] لكن نفع العبادة حاصل لنا أولاً وأخيراً، ولهذا قال العلماء: إن مبنى الشريعة على تحصيل مصالح العباد في الدنيا والآخرة.
فعبادة الله (جل وعلا) هي المنهج الذي يحفظ لهذا الكون انتظامه وسيره دونما تخبط في أي ناحية من نواحي الحياة، وعلى أي مستوى من المستويات، وإن اختلال هذه العبادة اختلال لنظام هذا الكون، وبالتالي دخوله في دهاليز الضلال والانحطاط والفساد، على جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، قال الله (تعالى): ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ)) [الرعد: 41].
فأداء العبادة كما أمر الله بها هو سبيل سعادة هذه البشرية بأكملها.
فالعبادة هي الزمام الذي يكبح جماح النفس البشرية، أن تلغ في شهواتها، وهي السبيل الذي يحجز البشرية عن التمرد على شرع الله (تعالى)، فالخلل في أداء العبادة مؤذن بالخلل في الكون.
فأعظم مقاصد العبادة حصول التقوى التي هي الحاجز عن وقوع الإنسان في المعاصي، وهي كذلك المحرك الفعال لهذه النفس حتى تنطلق من قيود الأرض، فترفرف في علياء السماء، وتنطلق في أفعال الخير بشتى صوره.
فإذا كان مردود العبادة من التقوى والخشوع لله (عز وجل) ضعيفاً أو ميتاً، فإن الهدف الذي شرعت من أجله العبادة لم يتحقق وبالتالي: تكون العبادة وكأنها لم تؤدّ.
ولنتأمل هذه النصوص القرآنية والنبوية:
((فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [البقرة: 182]
((.. وَأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ..)) [العنكبوت: 45].
ويقول الرسول-صلى الله عليه وسلم-: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)(2).
فليس المقصود من العبادة مجرد الحركات الظاهرة التي تمارسها الجوارح دون أن تؤثر في الباطن، وإنما المقصود مع ذلك: عمل القلب، من الإخبات والتذلل والخضوع بين يدي الله (عز وجل)، وذلك روح العبادة ولبها.
إن الذي يؤدي العبادة ـ أي عبادة كانت ـ ولم يقم في قلبه أثناء ذلك مقام العبودية لله (عز وجل)، فكأنه ما أدى تلك العبادة وبمعنى آخر فقد أدى صورة العبادة لا حقيقتها.
فشرود القلب في مواطن العبادة هو من أعظم الآفات التي تعرض للإنسان في سيره لله (عز وجل)، لأن العبادة بقلب شارد غافل لاه، لاتترك الأثر المطلوب على النفس الإنسانية، فلا يحصل الإنسان بها على الأجر المطلوب.
ولذلك يقول الرسول: (إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها«(3).
ومع استمرار الغفلة، وشرود القلب في مواطن العبادة تصبح العبادة مجرد حركات ظاهرة، ليس لها أي أثر على قلب صاحبها، ومن ثم: ليس لها أي أثر على تصرفاته، فتصبح العبادة عادة.
وهذا ما يفسر لنا مانراه من سلوك بعض الناس المخالف لشرع الله في المعاملة وفي الخُلُق مع أنهم من المصلين ومن رواد المساجد، بل ربما من قارئي القرآن ومن صائمي هواجر الأيام، لذلك يلاحظ الفرق الكبير بين من يصلي ثم ينصرف من صلاته كما دخل فيها، وبين من إذا وقف استشعر أنه واقف بين يدي الله، فاستحضر نية التقرب إلى الله (عز وجل) عند شروعه في الصلاة، وقام وفي قلبه مقام العبودية لله (عز وجل)، وشعر بالانكسار بين يدي العزيز الجبار، ثم إذا قرأ القرآن أو تلاه أو ذكر الأذكار واطأ قلبه لسانه، فإذا قال مثلاً: ((اهدنا الصراط المستقيم))، فهو قد سأل الله أن يهديه الصراط المستقيم، وهكذا حتى ينصرف من صلاته، انظر إلى حال هذا الرجل وحال من دخل في صلاته وقلبه في مكان آخر، فالقرآن والأذكار تتردد على لسانه، دون أن تتجاوزه إلى عقله أو فكره.
وانظر إلى من إذا انصرف من صلاته قال: (استغفر الله) ثلاث مرات، وقلبه يطلب العفو والمغفرة من الله على ما حصل من تقصيره في هذه العبادة، وانشغال قلبه بغير الله فيها.(/1)
ولايقتصر الأمر على الصلاة، بل إنه عام في جميع العبادات أو أغلبها، انظر إلى الصيام.. تلك العبادة العظيمة التي يقول الله (عز وجل) فيها: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)(4).
إن كثيراً من الناس لايشعرون بأثر للصيام على نفوسهم، مع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر)(5) أي: غله وحقده، فالصوم يقطع أسباب التعبد لغير الله، ويورث الحرية من الرق للمشتبهات ؛ لأن المراد من الحرية أن يملك الأشياء ولا تملكه(6)، هل يفعل الصيام بنا هذا؟!، بل إن الله (عز وجل) قال: ((يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)) لأجل ((لعلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [البقرة: 183] فإذا لم يحدث الصيام للإنسان تلك التقوى، فإنه لم يحقق الغرض الذي شرعه الله من أجله، ولكن.. ما السبب في عدم إحداثه للتقوى في النفوس؟
الأسباب كثيرة، أعظمها: أن الصيام ـ وهو عبادة من العبادات ـ أصبح عند كثير من الناس مجرد عادة، يدخل الإنسان فيه دون أن يستحضر نية التقرب لله (عز وجل) بهذه العبادة، وفي أثناء الصوم ترى قلبه غافلاً لاهياً عن التذكر والتفكر في هذه العبادة العظيمة.
وفي المقابل: انظر إلى ذلك الرجل الذي قام من أجل السحور، تذكر أنه يأكل هذه الأكلة من أجل أن يتقوى على الصيام الذي يتقرب به إلى الله (عز وجل)، وفي أثناء صومه وكلما تذكر الطعام أو الشراب أو غيرهما من المحظورات، حدث نفسه وعالج قلبه بأنه إنما يفعل ذلك حبّا وتقرباً إلى الله، حتى يأتي يوم القيامة وقد وضع في ميزان أعماله صيام ذلك اليوم، ثم إذا أفطر فرح بهذا الإفطار وانتظر فرحه الآخر بهذا الصوم حين يلقى ربه (جل وعلا)، فقلبه أثناء الصوم ـ أو في أغلبه ـ منشغل بالتعبد لله (عز وجل)، فهذا هو الصيام الذي رتب الله عليه ذلك الأجر العظيم، وهذا هو الصيام الذي يعالج النفس والقلب من أمراضها وأدرانها.
ولنضرب مثالاً أخيراً، لنتفكر في عبادة الذكر، ذكر الله (عز وجل)، ثم لننظر إلى عظيم الجزاء والأجر الذي أعده الله للذاكرين الله كثيراً والذاكرات، ويكفي في التمثيل بهذا الأجر حديث أبي الدرداء عند الحاكم: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم...).
هذه هي قيمة الذكر الصادق والجزاء الكبير من الله (تعالى) للذاكرين، وليس الذكر هو الدعاوى الفارغة التي يؤديها المتصوفة من المكاء والتصدية والرقص ويزعمون أنها ذكر.
إذن: لابد أن الأمر ليس بهذه السهولة أو البساطة، لابد من أن تُحقّقَ معاني العبودية لله (عز وجل) في عبادة الذكر ربما أكثر منه في تلك العبادات الأخرى، ولايمكن أن يكون الذكر مجرد حركات سهلة باللسان ليس لها أي أثر على القلب ومن ثم على كيان صاحبها وواقعه.
إن الذي يقول (لا إله إلا الله) يرددها لسانه وقلبه مستحضراً للمعنى المراد من هذه الكلمة وهو الاقرار بالعبودية الخالصة لله وحده، الذي يقولها بهذه الصورة يحدث في قلبه وكيانه انخلاع من عبودية ما سوى الله، ثم تنجذب روحه إلى السماء، إلى الله (تبارك وتعالى) محبة واتباعاً.
هل يتصور أن من يحدث له ذلك يطيع ما سوى الله في صغيرة أو كبيرة، أم يتبع هواه أو شهوته، أم يقع في قلبه خوف أو وجل من تلك الآلهة المزعومة، أو أي حب لها، وهل يتصور أن من تتوق روحه إلى الله، فيملأ حب الله شغاف قلبه ويتغلغل في جوانحه، هل له أن يعصيه، أو يتوانى في طاعته والتقرب إليه والتذلل بين يديه، لايتُصور ذلك قطعا، فلأجل هذا كانت هذه الكلمة نجاة لصاحبها، إذا لم تصدر منه باللسان فقط بل صَاحَبَها حضور القلب وانقياد النفس، وذلك لايكون إلا بمعرفة معناها، ومن ثم تأتي شروطها الباقية، ومن هنا أيضا: كان من حقق كلمة التوحيد تحقيقاً كاملاً، يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، لأن من حققها بتلك الصورة، فإنه ـ ولاريب ـ يطيع ربه (جل وعلا) طاعة لا يمكن معها أن تتجاوز سيئاته حسناته، فمن ثم يدخل الجنة بتلك الصورة المذكورة في الحديث.
وتأمل قول الله (عز وجل): ((إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ)) مَنْ أولئك؟ ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلََى جُنُوبِهِمْ)) فلهذا كان من صفاتهم ((وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) فتكون النتيجة أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء وهو من أعلى وأجل صور العبادة، وقد ملأ خوف الله قلوبهم فشعروا بحاجتهم إلى مغفرة خالقهم وعفوه، فقالوا: ((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) [آل عمران: 190، 191].(/2)
فالذكر يكون بالقلب قبل أن يكون مجرد نطق باللسان، وذكر القلب هذا يحدث في القلب والنفس والعقل من أسرار العبودية وأحوالها ما يجعل القلب مراقباً لله (عز وجل) طيلة ذكره لله، وتلك أعلى مراتب العبودية، إنها مرتبة الإحسان، أي: أن تعبد الله كأنك تراه، والمحسن: المراقب لله في كل حين ووقت، في كل خاطرة وسانحة يبحث عن مرضاة الله في كل فعلة وقولة، بل في كل إرادة أو التفاتة تحدث من قلبه.
وبعد: فخلاصة ما تقدم بعبارة سريعة مختصرة: أن حقيقة الإيمان التي أُمرنا بها أن تتواطأ عبادة القلب مع عبادة الجوارح، فتتحقق عبودية القلب مع عبودية الجوارح، فنحسن العبادة باطناً كما نحسنها ظاهراً.
إذا تبينت أهمية ما تقدم، فلسائل أن يسأل ما هي الوسائل التي تقود إلى إحسان العبادة باطناً، أو بعبارة أخرى: كيف نبعث الروح في عبادتنا، ونجنبها الموت؟
الوسائل كثيرة ومتنوعة، ولكن حسبي أن أشير إلى بعضها:
1- حضور القلب قبل أو عند البدء بالعبادة: والفقهاء يتحدثون عن النية قبل الشروع في العمل ويعنون بها النية التي تميز العمل نفسه، كصلاة الظهر عن صلاة العصر، وصوم النافلة عن صوم الفرض.. وما إلى ذلك، ويتحدث أرباب التوحيد وأهل السلوك عن النية التي تميز المعمول له، وهو المقصود بهذه العبادة.
2- تحديث القلب وتذكيره بالتعبد لله (عز وجل): سواء أكان ذلك خارج العبادة أو حتى في أثنائها إن أمكن، وليس هذا مجال الحديث عن عبودية القلب لله رب العالمين، وكثير من الناس ـ بل ومن بعض طلاب العلم وغيرهم من أهل الخير ـ يغفلون عن هذا كثيراً، وهذا التحديث والتذكير نهر يمد القلب باللين والرقة والخشوع، فإذا شح ماؤه جف القلب ويبس ثم قسا، نعوذ بالله من ذلك.
3- التهيؤ للعبادة والاستعداد لها: والمثال الذي يوضح هذا وأثره: التبكير إلى المساجد لأداء الصلاة، وهذا التهيؤ المادي الجسدي يصاحبه ولا شك تهيؤ نفسي وروحي وقلبي، وفي حث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على التبكير إلى المساجد خير دليل على ذلك، والأحاديث كثيرة مشهورة.
ومن هنا نفهم كثرة ما ورد عن السلف الصالح في هذا الشأن، فهذا إبراهيم بن يزيد الفقيه عابد الكوفة يقول: (إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه)(7).
والتهيؤ يكون بحسب كل عبادة وما شرع فيها.
والحج كذلك له تهيؤ؛ فرد الأمانات والمظالم، والتخلص من الحقوق قبل الشروع في السفر كلها صور للاستعداد لهذه العبادة العظيمة، وكذلك تهيئة الزاد والراحلة والرفقة الصالحة.
والمتأمل في ذلك يجد الفرق شاسعاً بين من يؤدي العبادة دون استعداد بدني يصحبه تهيؤ قلبي ومن يأتي الصلاة مسرعاً حتى يدرك الركعة فيدخل في الصلاة ولم يسكن جسده من ذلك السعي، ولعل في نهي الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن السعي بعد الإقامة إشارة إلى ذلك، وإلى أن يتفاعل الإنسان روحيّاً ونفسيّاً مع هذه العبادة تكون الصلاة أوشكت على النهاية.
4- الابتعاد عما يشوش القلب أثناء العبادة: ففي الصلاة مثلاً: نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- المصلي أن يصلي إلى مايشغله أثناء الصلاة »فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي«(8).
ولهذا جاء النهي عن أن يصلي الإنسان في حضرة طعام أو وهو يدافع الأخبثين، كل هذا من أجل أن ينخلع القلب من علائق الدنيا وينجذب إلى حقيقة العبادة ويجتمع في قلب العبد وفكره ووجدانه الاتجاه إلى الله (تعالى)، ومثل هذه الأمور يمكن فعلها في عبادات أخرى. ليكون أدعى لانشغاله وتفرغه للعبادة، مما يؤدي لتفرغ قلب الإنسان للتوجه وللعبودية لله (عز وجل) أثناء الصوم.
5- المشاهد أن كثيراً من الناس يؤدي بعض العبادات بصورة تلقائية أقرب إلى الحركة الميكانيكية، فمثلا في الصلاة: ترى كثيراً منهم يدخل في صلاة النافلة فيقرأ دعاء الاستفتاح الذي يجري على لسانه، ومن ثم سورة الفاتحة، ثم تجري على لسانه إحدى السور الصغار التي يحفظها على ظهر القلب، وربما إذا سألته بعد صلاته ماذا قرأ، فإنه لا يذكر.
ولاتفكر الأغلبية العظمى من الناس مثلا في قراءة صيغة أخرى لدعاء الاستفتاح، أو في قراءة آيات أو سور من غير تلك السور التي تجري على ألسنتهم دون أن يتفكروا فيها أو يشعروا بها، مع أن السنة وردت بالتنويع في هذه الأذكار، فهناك عدة صيغ لدعاء الاستفتاح، والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ من القرآن كله في تطوعه.
وهكذا في أذكار الصباح والمساء وغيرها من الأذكار والعبادات الدورية التي وردت السنة بهيئات وصيغ متعددة لها.
إن التنويع في صفات العبادة بما يوافق السنة الصحيحة له أثر في طرد ما قد يطرأ على العبادة من صفة العادة والرتابة التي تضعف تأثير العبادة على القلب.
هذا والوسائل كثيرة ومتنوعة، لكن حسب الإنسان أن يضع هذه القضية نصب عينيه هدفاً منشوداً، وأن يحاسب نفسه فيما يتعلق بها، فكلما عمد إلى عبادة من العبادات عليه أن ينأى بعبادته أن تكون ميتة.(/3)