وحديث واضح هذا بدأ يذهب بل يكاد يكون ذهابه غالباً .. إن لم نعتبر بهذا فلنعتبر للأمر المادي الملموس ، ولننظر إلى المجتمعات التي تنكبت هذا الطريق سواء كانت إسلاميةً أو غير إسلامية ، أما غير الإسلامية فظاهرة عندهم من الأسماء اللقطاء ، وعندهم من الأمراض الفتاكة ، وعندهم من الجرائم التي تحسب أعدادها بالثوانِ في كل ثانية جريمة كذا وكذا .
وعندهم من الأمراض التي فعلت بمفاعيل ما تعلمونه ، وعندهم فوق ذلك من نقص النشء ما كتبوا فيه .. هناك كتاب اسمه [ موت الغرب ] يذكرون فيه إحصاءات أن عدد الموتى أكثر من عدد المواليد ، وأن استمرار هذه المعدلات يعني أن هذه الشعوب ستنتهي وستتلاشى عددياً وحسياً .
فإذا نظرنا هناك ننظر إلى ما بلغت به هذه الموجات من سعار الشهوات ، وانفلات الأخلاق ، حتى وصلت إلى الشذوذ الجنسي بل وصلت إلى شذوذٍ لا تقبله البهائم .
وهناك جمعيات ومواقع تتحدث ، وأقول هذا لأني أعلم أن الناس لا بد أن يعلموه - وبعضهم يعلموه - يتحدث وتتكلم عن ممارسة الجنس مع البهائم والحيوانات ، ولهم بطاقات وعضويات ولهم أشياء عجيبة .
وأقول هذا سيقع - وقد وقع - وقد سمعنا في بلاد المسلمين كم من مجموعات قبض عليها وهي على مثل هذه الصور
؟ وكم من صورٍ هنا وهناك وما خفي كان أعظم ؟ إن لم نعتبر بهذا المنهج الرباني وأن مخالفته تضرنا ، فلنعتذر بالحقائق المرّة .
ولنعتبر حتى بواقعنا بقدر ما أخللنا وقصرنا ، بقدر ما بدأت تزيد عندنا نسبة الطلاق ، وتزيد عندنا نسبة اللقطاء ، وتزيد عندنا نسبة انحراف الشباب ، ويزيد عندنا نسبة تخفف وتقلل النساء والشابات من حدادهن وعفتهن ، وبقدر ما زادت نسب الطلاق وكثرت مشكلات الزواج وأصبحت هذه القضية الاجتماعية مما يتنادى بها الناس الخيرون والمصلحون ؛ لكي يتداركوا خلله ، ويطفئوا نيرانه ، ويسدوا أبوابه ، وهو منذر بخطر عظيم ، وشر وبلاء مستطير ، نسأل الله عز وجل أن يقينا إياها .
النداءات :
نداء نختم به لجميع الناس " نداء لولاة الأمر وأصحاب المسئوليات " أن يعطوا هذا الجانب أهميته ، وأن يحفظوا على الأمة أخلاقها وحيائها ، وعفة لسانها ، ورجولة شبابها بكل ما يستطيعون .
وللعلماء والدعاة أن يذكروا ، وأن يعظوا ، وأن يبسطوا أنفسهم وأوقاتهم للناس ؛ ليحلوا المشكلات ، ويدرءوا الشبهات ، ويسدوا أبواب الشهوات ، ويسعوا إلى كل ما يمكن أن يكون نافعاً في هذا الدور .
وللآباء والأمهات أن يتقوا الله في أسرهم وفي أبنائهم ، وأن لا يكونوا هم حملة الخناجر التي يطعنون بها عفة أبناءهم وحياءهم وطهرهم ونقاءهم ، وأن لا يكونوا السبب في دياثةٍ تلمّ بهم أو بأبنائهم ، ولا في انحراف وفحش وقبح - والعياذ بالله - يلمّ بنسائهم وأعراضهم .
وللشباب والشابات أن يحذروا ؛ فإن العاقبة في الدنيا قبل الآخرة مُرّة ، وإن الثمرة أقسى وأشد في ضررها من كل شيء ؛ لأن هذه المعاني المعنوية أخطر من كل الأضرار المادية التي قد تحل بالناس .
وأخيراً وليس أخراً وأولاً وثانياً الإعلام والتعليم .
نسأل الله عز وجل أن يحفظ لنا هذا الحصن الحصين ، وأن يحصن أبنائنا وبناتنا للعفة والحياء والطهر والنقاء ، وأن يحفظ لأسرنا ودّها ومحبتها ووصلها ، وصلتها بكتاب ربها ، واهتدائها بهدي رسولها صلى الله عليه وسلم ، ونسأله عز وجل أن يصرف عنا الفتن والمحن والخنا والزنا والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وأن يسلم قلوبنا ونفوسنا وعقولنا من هذه الشهوات والشبهات .. إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه ، والحمد لله رب العالمين وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(/9)
... ...
الحرام ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- معنى الحرام. 2- التحليل والتحريم من خصائص ألوهية الله وربوبيته. 3- مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب. 4- الورع عن الشبهات. 5- آثار الحرام على الفرد. 6- أنواع المحرمات. 7- أسباب الوقوع في الحرام. 8- موقف المسلم من الحرام. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
يقول رب العزة سبحانه: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف:33].
اعلم أن الله ما أحل إلا طيبا وما حرم إلا خبيثا.
سئل أعرابي لماذا أسلمت؟ قال: لم أر شيئا من قول أو فعل يستحسنه العقل وتستطيبه الفطرة إلا وحث عليه الإسلام وأمر به وأحله رب العزة سبحانه، ولم أجد شيئا يستقبحه العقل وتستقذره الفطرة إلا ونهى الله عنه وحرمه على عباده.
فما الحرام؟ وما هي آثاره؟ وما هي أنواعه؟ ولماذا الوقوع في الحرام؟ وما موقف المسلم من الحرام؟
أما الحرام لغة: فكما عرفه الإمام الرازي في كتابه مختار الصحاح فقال: الحرام هو ضد الحلال وهو ما لا يحل انتهاكه.
وأما اصطلاحا فكما عرّفه علماء الأصول، فقالوا: هو ما طلب الشارع تركه على سبيل الإلزام والجزم بحيث يتعرض من خالف أمر الترك إلى عقوبة أخروية أي في الآخرة، أو إلى عقوبة دنيوية إن كان شرع الله مطبقا في الأرض.
وينبغي أن تعلم:
أولا: أن التحليل والتحريم من حق الله عز وجل وحده فلا يحل لأحد أبدا أن يحلل أو أن يحرم، فذلك من خصائص الربوبية لله عز وجل.
دخل عدي بن حاتم وكان نصرانيا على النبي عليه الصلاة والسلام، وسمعه يقرأ قول الله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله .
قال: يا رسول الله ما اتخذناهم أربابا، لم نسجد لهم، قال: ((ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال فأطعتموهم؟ قال: بلى، قال: فذلك عبادتكم إياهم))([1]).
فكل من أطعت في أمر فيه معصية لله عز و جل فقد جعلته ربا وإلها من دون الله عز وجل.
ثانيا: وينبغي أن تعلم أن السنة النبوية هي المتممة لكتاب الله عز وجل والشارحة لكتاب الله سبحانه ولا يمكن الاستغناء بالكتاب عن السنة كما يدعي من لا دين عنده، فالسنة متممة لكتاب الله عز وجل وشارحة له، وكلاهما من وحي الله عز وجل.
الكتاب: اللفظ والمعنى من الله تعالى.
والسنة: المعنى من الله واللفظ من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وصدق الله العظيم: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [النجم:3-4]. بل إن في السنة من الأحكام ما لم ترد في كتاب الله عز وجل، لذا قال تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [الحشر:7].
ثالثا: وينبغي أن تعلم أيضا أن ما أدى إلى الحرام فهو حرام، الزنى حرام، ورب العزة يقول: ولا تقربوا الزنى [الإسراء:32]. ولم يقل: ولا تفعلوا الزنى، أي ينبغي أن تبتعد عن السبل التي تؤدي إلى الزنى، النظرة الخائنة حرام، الخلوة الآثمة حرام، الصورة العارية حرام، اللمسة الآثمة حرام، فكل ما أدى إلى الحرام فهو حرام.
رابعا: وينبغي أن تعلم أيضا أن الحلال بيّن لا لبس فيه وأن الحرام واضح لا لبس فيه، وما اشتبه عليك أمره أهو من الحلال أم من الحرام فعليك أن تتقيه خشية الوقوع في الحرام.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((الحلال بيّن، الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه؟ ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام))([2]).
لذا يقول أحد السلف: كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام.
خامسا: وينبغي أن تعلم أيضا أن المحرم لا يجوز بيعه لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن الله إذا حرّم شيئا حرم ثمنه))([3]) فلا يجوز بيع الخنزير ولا بيع الخمر ولا بيع أوراق اليانصيب فكلها حرام لا يجوز للمسلم أن يبيعه ولا يجوز إهداؤه.
جاء رجل إلى النبي وذكر للنبي عليه الصلاة والسلام أن عنده خمرا، وأنه يعلم بتحريم الله عز وجل له فقال: يا رسول الله أفلا أكارم بها اليهود (أي أهديها إلى اليهود) فاليهود يشربون الخمر، فقال عليه الصلاة السلام: ((إن الذي حرمها حرم إهداءها))([4]).
وأما ما هو أثر الحرام؟ فإن للحرام آثارا:
أن العبد لا تقبل منه طاعة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((وأعلم أن اللقمة الحرام إذا وقعت في جوف أحدكم لا يتقبل عمله أربعين ليلة))([5]).
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((وإذا خرج الحاج حاجا بنفقة خبيثة (أي حرام) ووضع رجله في الغرز ونادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك زادك حرام وراحلتك حرام وحجتك مأزور غير مبرور))([6]). وترجع بالإثم ولا أجر لك.(/1)
من أثر الحرام أيضا أن المتصدق من الحرام لا أجر له بل يأثم على صدقته لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من جمع ما لا ثم تصدق منه فلا أجر له وإصره عليه))([7]). إصره عليه: أي إثمه عليه.
من أثر الحرام أيضا أن آكل الحرام لا يستجاب له دعاء.
سأل سعيد بن أبي وقاص النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله ادعُ الله أن أكون مستجاب الدعوة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا سعد أطب مطعمك تستجب دعوتك))([8]).
ومن أثر الحرام أيضا أن العبد لا يقوى على طاعة، يقول أحد السلف: من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى علم أم لم يعلم.
ومن أثر الحرام أيضا أن مآل هذا الجسد إلى النار.
لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به))([9]).
ذكر أن جنيد البغدادي رحمه الله جاء يوما إلى داره فرأى جارية جاره ترضع ولده، فانتزع ولده منها، وأدخل أصبعه في فيه (أي في فمه) وجعله يتقيأ كل الذي شربه، فلما سئل، قال: جاري يأكل الربا، يأكل الحرام، وجارية جاري تعمل عنده فهي تأكل الحرام، وجارية جاري ترضع ولدي فهي ترضع ولدي الحرام، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به))([10]).
وأما ما هي أنواع المحرمات؟
أولا: فمن المحرمات ما يتعلق بالمطعم، قال رب العزة سبحانه: حرمت عليكم الميتة وهو: ما مات حتف أنفه، والدم وهو: الدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ما ذكر عليه اسم غير الله عز وجل ثم ذكر أنواع الميتة فقال: والمنخنفة وهي: التي تموت خنقا والموقوذة وهي: التي تموت بسبب الضرب أي تُضرب حتى تموت والمتردية وهي: التي تسقط من شاهق فتموت، والنطيحة وهي: التي تنطحها غيرها فتموت ثم استثنى فقال: إلا ما ذكيتم [المائدة:3].
يقول علي بن أبي طالب : (فما أدركته من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وفيه حركة من رجل أو عين أو جسد، فذبحته فقد حل لك أكله. واستثنى النبي عليه الصلاة والسلام من الميتة ميتتان ومن الدم دمان، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد الطحال))([11]).
من حديث النبي عليه الصلاة والسلام: ((أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع)) كالقطة والكلب والأسد والنمر والسبع فكلها من ذوات الأنياب فلا يجوز أكلها ((وكل ذي مخلب من الطير))([12])، كالنسر والصقر والحدأة وما إلى ذلك فكلها محرمة في إسلامنا.
ثانيا: وأما من الأشربة فأولها الخمر وتلحق بها البيرة أيضا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام))([13])، ولعن النبي عليه الصلاة والسلام، كل من له صلة بالخمر لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها))([14]). فكل من له صلة بالخمر ملعون عن لسان النبي عليه الصلاة والسلام، ومن المشروبات أيضا المخدرات كالحبوب والحشيش والأفيون والكوكايين والهيروين.
ابن تيميه رحمه الله تعالى يقول: هذه الحشيشة يتناولها الفجار لطلب النشوة والطرب وفيها ذهول عن الواقع وخدر في الجسد وإتلاف للمال والبدن وعقوبتها عقوبة شارب الخمر (عقوبة شارب الخمر في إسلامنا أربعون جلدة).
ابن تيميه رحمه الله تعالى يذكر أن كل ما يخامر العقل فعقوبته عقوبة شارب الخمر، لأن عمر بن الخطاب وقف على منبر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فعرف الخمرة فقال: هو كل ما خامر العقل هو كل ما أذهل العقل عن الواقع.
ثالثا: ومن المحرمات أيضا ما يتعلق بالملبس والزينة، رفع النبي عليه الصلاة والسلام الذهب والحرير وقال: ((هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها))([15]). واستثنى النبي عليه الصلاة والسلام ما كان تحكمه الضرورة.
فقد أذن الرسول عليه الصلاة والسلام للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف أن يلبسا الحرير لحكة أصابتهما وأذن لصحابي أن يتخذ أنفا من ذهب لأنه قد ذهب أنفه في إحدى المعارك.
رابعا: من الزينة المحرمة على النساء:
((لعن النبي عليه الصلاة والسلام الواشمة (والوشم معروف وهو غرز الإبرة في الجسد أو البدن أو اليد أو الوجه ووضع الكحل في مكانه) والمستوشمة (وهي التي تطلب ذلك) والواشرة (وهي التي تقصر أسنانها وتحد فيما بينها حتى تبدوا صغيرة السن، والمستوشرة (وهي التي تطلب ذلك)، والنامصة (وهي التي ترقق حاجبها) والمتنمصة (وهي التي تطلب ذلك) )).
واستثنى العلماء إزالة الشعر الذي يكون في الوجه أو اليدين أو الرجلين لأن النص قيد الأمر في الحاجب فقط، والواصلة (وهي التي تصل شعرها بشعر غيرها سواء كان شعرا حقيقيا أو مستعارا كباروكة) والمستوصلة وهي التي تطلب ذلك))([16]).
ومن الحرام على النساء هو أن تتعطر لغير زوجها، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم فوجدوا ريحها فهي زانية))([17]).
خامسا: ومن المحرم أيضا فما يتعلق بالكسب:(/2)
الرشوة حرام لعن النبي عليه الصلاة والسلام: ((الراشي والمرتشي والرائش))، وهو الوسيط بين آخذ الرشوة ومعطيها، والمال المأخوذ مقابل إخراج الإقامة حرام.
وأفتت لجنة الأوقاف بأن ما يأخذ من مال على عمل إقامة حرام لأنها من العقود التعاونية فلا ينبغي أخذ المال عليها.
وخلو الرجل حرام، أو القفلية، والقفلية ما يدفعه المستأجر الجديد للمستأجر القديم لقاء إخلاء العين حرام وهذا مما استحدثناه من المعاملات المحرمة في واقعنا.
وأخيرا من المحرم ما يتعلق بمجال الغريزة، والمتعة حرام. سئل الإمام جعفر الصادق، ، عن المتعة، فقال: هي الزنا بعينه، لأنه لا طلاق فيها ولا عدة ولا ميراث ولا نسب، فهي الزنا بعينه، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((والله أعلمن أن رجلا تمتع وهو محصن إلا رجمته))([18]).
التبني حرام، وإذا كان بقصد الرعاية والاهتمام فالأجر عظيم: ((أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة))([19]). أما أن تلحق نسبه بنسبك فقد لعن النبي عليه الصلاة والسلام، من نسب إلى غير والديه.
وأما لماذا الوقوع في الحرام؟ فإن لذلك أسباب منها:
أولا: هو أن يفتقد العبد الحياء من الله تعالى بضعف إيمانه، وبضعف يقينه وبوجود النار يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرة حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن))([20]).
ثانيا: من أسباب الوقوع في الحرام: التقليد، والتقليد داء يصيب الأفراد كما يصيب الأمم، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو كان فيهم من أتى أمه لكان في أمتي من يفعل ذلك))([21]).
ثالثا: من أسباب الوقوع في الحرام هو الرغبة في الربح العاجل فلقد أصبحت أعراض الأمة وأخلاقها ودينها في مهب ريح التجار، والمجال فيها فسيح من أراد أن يتاجر بالحبوب أو الخمرة أو المخدرات فليفعل، بالأسلوب المشروع أو غير المشروع رغم الأنوف تدخل، وهذا مشاهد واضح موجود.
رابعا: من أسباب الوقوع في الحرام أيضا هو انعدام الرقابة في الأسرة.
وحادثة جرت في بلد مجاور لها الأثر العظيم على أهلها:
بيت من بيوت المترفين وفي بيوت المترفين لابد من كمال الترف أن يكون لكل غرفة تلفاز ولكل غرفة جهاز فيديو ويأتي الولد بشريط جنسي ويجلس في غرفته يشاهده، تطرق الباب عليه أخته فلا يمانع من دخولها فتدخل فيجلسان يشاهدان الفيلم الجنسي وتحضر الشياطين ويتبادلان النظرات ثم لابد من التطبيق فيقع على أخته فيزني بها ثم تحمل منه وإتماما للجريمة وبعد أن ولدت يتبنى الوالد بنت بنته، حرام في حرام ثم يفضح الأمر بعد ذلك.
انعدام الرقابة في الأسرة فالوالد مشغول ولابد من رفع الرصيد والأم مشغولة ولابد من تحضير لزيارة فلانة وعلانة وأن تحضر المجالس النسائية الفارغة، وأما تربية الولد فهي موكولة إلى البوذية أو النصرانية.
وأما ما هو موقف المسلم من الحرام ؟
أولا: فعلى الأمة أن تتربى وتربي على مخافة الله عز وجل: ألم يعلم بأن الله يرى [العلق:14]. ذكر أن عمر بن الخطاب مر على غلام يرعى غنمه قال: يا غلام بعني واحدة، فقال الغلام: هي ليست ملكي إنما هي لسيدي وأنا الوكيل عنها فقال له عمر بن الخطاب مختبرا: يا غلام بعني واحدة وخذ ثمنها وقل لسيدك الذئب أكلها. (يرسم له طريق الحرام مختبرا له) فقال الغلام: فأين الله (أين أكون من الله إن قلت هذا)؟ ويهتز عمر بن الخطاب للكلمة ويشتري العبد من سيده ويعتقه ويقول له: هذه كلمة أعتقتك في الدنيا أسأل الله تعالى أن يعتق بها رقبتك يوم القيامة.
ثانيا: ثم ينبغي أن تعلم أن الله تعالى قد جعل في الحلال ما يغني عن الحرام، النكاح بدل الزنى، التجارة بدل الربا، المشروبات اللذيذة التي لها الفائدة للبدن والروح بدل الخمرة.
ثالثا: ولابد أن تعلم أيضا كيف يكون حال صاحب المعصية يوم القيامة المتمتع بالحرام يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار (أمضى حياته في حرام) فيُغمس غمسة في النار فيقال له: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك خير قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت خيرا قط ولا مر بي خير قط))([22]).
ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة [الروم:55].
ثم اعلم أن الحرام تذهب لذته ولكن تبقى تبعاته ويبقى سواد الوجه عند الله يوم القيامة، وهذا أبو نواس عندما أمضى شطرا من حياته في ضياع ثم تاب وهو يقول:
ولقد نهزت مع الغوات بدلوهم وأسمت سرح اللهو حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرئ بشبابه فإذا عصارة كل ذا آثام
([1])مختصر ابن كثير مجلد 2 ص 137.
([2])رواه البخاري ومسلم.
([3])رواه أحمد وأبو داود.
([4])رواه الحميدي في مسنده.
([5])رواه الطبراني.
([6])رواه الطبراني والاصبهاني.
([7])رواه ابن خزيمة وابن حبان.
([8])رواه الطبراني.
([9])رواه الترمذي.
([10])رواه الترمذي.
([11])رواه أحمد.
([12])رواه الشيخان.
([13])رواه أحمد.
([14])رواه أبو داود والترمذي.(/3)
([15])رواه أحمد وابن ماجة.
([16])رواه مسلم.
([17])رواه حاكم.
([18])ابن ماجة بإسناد صحيح.
([19])البخاري.
([20])رواه البخاري ومسلم.
([21])أحمد وأبو داود.
([22])رواه مسلم. ... ...
... ...
... ...(/4)
( الحق والباطل )
عناصر الموضوع :
1. الحكمة من ضرب الأمثال
2. المثل المائي: إنزال الماء على الأرض
3. المثل الناري
الحق والباطل:
لقد ضرب الله عز وجل في القرآن الكريم الأمثال للناس لعلهم يتفكرون ويعتبرون، وجعل من الأمثلة القرآنية مجالاً للتربية العالية لكل إنسان يتقبل الهدى والعلم، ومن هذه الأمثلة مثالين في سورة الرعد، وقد تكلم الشيخ عن المثالين ومرادهما، ومجال التربية فيهما، وما يحمل كل مثل من العبر والعظات.
الحكمة من ضرب الأمثال:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد.. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. إخواني في الله: لقد ضرب الله عز وجل في القرآن الكريم الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ويتفكرون، ويعتبرون، وجعل في ضرب الأمثلة تربيةً قرانيةً عاليةً لكل إنسان يتقبل الهدى والعلم النافع.
المثل المائي: إنزال الماء على الأرض.
إن من هذه الأمثلة التي ضربها الله تعالى في محكم تنزيله، قوله عز وجل: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ [الرعد:17] فلما ضربها الله للتذكرة، وللاعتبار، وللتفكر، كان لزاماً على كل مسلم أن يتفكر ويعتبر بهذه الأمثال ويفهمها، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في تعليقه على هذا المثل القرآني، بعد أن بيَّن أن فيها مثلين مضروبين للحق والباطل، قال: "ومن لم يفقه هذين المثلين، ولم يتدبرهما، ويعرف ما يراد منهما، فليس من أهلهما". وكما قال بعض السلف الحريصين على فهم القرآن أمثالاً وحكماً وأحكاماً، وتشريعات وتوحيداً وقصصاً، قال هذا الرجل: كنت إذا قرأت مثلاً من القرآن، فلم أفهمه، بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] فأبكي، لأنني لست من العالمين الذين عرفوا هذه الأمثلة، وهذه الآية التي قرأناها نمرُّ بها كثيراً- أيها الإخوة- أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ [الرعد:17].
بيان وجه التشابه بين المطر والوحي في الإحياء:(/1)
لما كانت الأرض الميتة لها ما يحييها من الماء النازل من السماء، فإن الله عز وجل قد أنزل على القلوب الميتة ما يحييها، ويجعلها روحاً، ويكون لها بمثابة الروح: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52] فالله تعالى يقرن بين إنزال الوحي وبين نزول المطر من السماء في آيات كثيرة؛ لعموم التشابه بينهما، ولذلك إذا تمعنت في سورة الحديد، وجدت الله يقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16] ماذا قال الله بعد هذه الآية مباشرةً؟ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:17] جاء ذكر إنزال الغيث بعد ذكر إنزال الوحي مباشرةً؛ تنبيهاً على ما بينهما من أوجه التشابه في الإحياء وغيره، وكما قال الله عز وجل في سورة النحل: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل:64]، ثم قال بعدها مباشرة: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [النحل:65] فإنزال المطر مقترن بإنزال الوحي.
فائدة التعبير بالأودية:
أيها الإخوة! قال الله: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [الرعد:17] شبه القلوب بالأودية، لما نزل المطر من السماء؛ احتمل كل وادٍ من ماء المطر بحسب سعته وضيقه، فكذلك قلوب العباد عندما ينزل عليها الوحي من السماء، تأخذ منه وتتسع بحسب ضيقها وعظمها، فقلبٌ كبيرٌ يحتمل وحياً عظيماً كما يحتمل الوادي الكبير ماءً كثيراً، وقلبٌ صغيرٌ كوادٍ صغيرٍ احتمل من العلم شيئاً قليلاً كما احتمل من الماء ذاك الوادي الصغير، فاحتملت القلوب هذا العلم بقدرها كما سالت أودية بقدرها.
آنية الله في الأرض هي القلوب:(/2)
أيها الإخوة: يتفاوت الناس في استقرار العلم في صدورهم، وفي اتساع العلم، وفي اتساع القلوب لهذا العلم تفاوتاً يرتبط ارتباطاً مباشراً بالإيمان، واعلموا بأن الماء النازل من السماء لا يحتمله وادٍ واحد؛ لكثرته، وكذلك الوحي النازل من السماء لا يحتمله كله قلبٌ واحدٌ، وإنما تتفاوت القلوب، لا يحيطون بالله علماً، وهذا من أدلة عجز البشر، وعلى أنهم مهما وصلوا إليه من العلم في العلوم الشرعية، فإنهم لن يحيطوا بعلم الله أبداً، بل ولو حتى بما أنزله عليهم من القرآن، ولذلك لا بد أن نترفق في أخذ العلم، ولا بد أن نجاهد أنفسنا قليلاً قليلاً. وأمر القلوب في اتساعها للوحي والإيمان أمرٌ عظيم جداً، هذا القلب الذي يصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كالمضغة في صغره، والمضغة هي: الشيء اليسير، يستطيع أن يحوي في جنباته إيماناً عظيماً كبيراً جداً، فإن في بعض قلوب العباد- أيها الإخوة- من العلم والإيمان ما لو نزل على جبل، لتركه قاعاً صفصفاً متصدعاً من هذا العلم والإيمان. انظروا إلى عظمة الله في خلقه، خلق قلوب العباد صغيرة في الحجم الحسي، لكنها كبيرةٌ جداً في الحجم المعنوي، تسع علماً كثيراً، وإيماناً عظيماً، وتسع من المعرفة والعلم بالله أشياء كثيرة لمن كان له قلب صحيح أو ألقى السمع وهو شهيد. وكذلك- أيها الإخوة- يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبر بأن لله آنيةً في الأرض، والآنية جمع الإناء، فالله تعالى له آنية في الأرض، ما هي هذه الآنية؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي أخرجه الطبراني عن أبي عنبة رضي الله عنه وأرضاه: (إن لله تعالى آنيةً من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها) يملؤها الله نوراً وعلماً وإيماناً لمن كان له قلب ( وأحبها إليه ) أحب هذه الآنية، هذه القلوب (وأحبها إليه ألينها وأرقها) التي إذا سمعت آيات الله تتلى عليها، ترى جلود أصحابها تقشعر من خشية الله عز وجل، هذه الآنية التي يملؤها الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته ما يوصل إلى خشيته وعبادته. المطر عندما ينزل من السماء، فيغسل الأرض، ويتجمع في هذا الوادي يحمل معه في هذا الوادي الزبد -الغثاء- الذي يطفو على سطح الماء ويتجمع في هذا الوادي عالياً على الماء. هذا الزبد- أيها الإخوة- يكون رابياَ عالياً منتفخاً فوق الماء، ولما كانت الأودية ومجاري السيول فيها الغثاء ونحوه، كما يمر عليه السيل فيحتمله، فإن هذا الغثاء بعد فترة من الزمن يفرقه الوادي، ويقذفه إلى جنبيه، ويتعلق بالأشجار، وتتقاذفه الرياح، فتأخذه، ويظهر الماء في الوادي لمّاعاً صافياً يفيد الناس، فيستقون منه ويرعون، فكذلك العلم والإيمان إذا خالط القلوب، أثار ما فيها من الشهوات، عندما ينزل الماء على الأرض فيسيل، يجرف معه من هذه الأرض كل ما هب ودب من النافع وغير النافع حتى يصير زبداً عالياً فوق سطح الماء، هذا العلم عندما يدخل القلوب، وتخالط بشاشته، فإنه يثير ما في القلب من الشبهات والشهوات، يثيرها لا ليبقيها في القلب، وإنما يثيرها ينفض القلب نفضاً فيثير ما فيه من أمراض الشهوات والشبهات، يثيرها ليقلعها، ويذهب بها حتى يُنقي القلب من هذه الأدران والأخلاق الرديئة. وإذا ذهبت الشهوات والشبهات، يبقى القلب صافياً من كل ما علق به وكدّره، ويبقى هذا القلب فيه العلم والإيمان يفيد الناس تعليماً، ويفيد النفس خشيةً وعملاً وعبادةً وتطبيقاً، كما يفيد الماء الذي بقي في الوادي، فإنه ينبت الأشجار على جنبتي الوادي، ويستقي منه الناس، ويشربون، ويسقون أنعامهم بإذن الله. وكذلك هذا العلم إذا نزل في القلوب، ينبت الله به أشجار العبادة والخشية زهية قائمةً على أصولها في قلوب المؤمنين، وكذلك فإن هذا الماء يستقر في الوادي -عبَّر هنا بالوادي ولم يعبر بالنهر حتى يبين الاستقرار الحاصل للماء في هذا الوادي- كما يحصل به الاستقرار للعلم عندما ينزل في القلوب، فإنه يبقى فيها ثابتاً متكاثراً فيه البركة والنفع العظيم، واستقر العلم والإيمان في جذر القلوب، فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاءً ويزول شيئاً فشيئاً، ويبقى العلم والإيمان نافعاً، فكان عباد الله أعلاهم قدراً أكثرهم إحاطةً ووعياً بما أنزل الله تعالى. كان الوادي قبل أن ينزل الماء عليه جافاً منتناً متسخاً، فيه من أكدار الطبائع ما يجعل فيه من الشوائب أشياء كثيرة، فلما نزل الماء، غسل الأودية، ونظفها، وأزال الخشونة والجفاوة التي فيها، فكذلك قلوبنا تكون فيها من مخالطة الحياة المادية قسوةٌ كبيرةٌ، وفيها جفاءٌ كبيرٌ، وجفافٌ عظيم، فعندما ينزل عليها الوحي من السماء يطريها، وينعمها، ويصلحها، وينظفها، يجب أن يفعل الوحي بقلوبنا كما يفعل الماء النازل من السماء بأودية الأرض وطرقاتها.
الحكمة من تقديم ذكر الزبد على النفع:(/3)
أيها الإخوة: هذا الزبد الذي يزول ويتفرق وتنسفه الرياح، تقدم ذكره في الآية على ذكر ما ينفع الناس، فإن الله قال: فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ [الرعد:17]، ثم قال: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17] فقدم ذكر الزبد على ذكر ما ينفع الناس. من أسباب وحكم هذا التقديم: أن الزبد هو الذي يظهر للناس؛ فأنت إذا نظرت إلى الوادي الممتلئ بالماء، أول ما تنظر إليه عينك إلى الزبد، وقد تغفو العين ولا ترى الماء المتجمع في الوادي. أيها الإخوة: إن الباطل إذا علا في يوم من الأيام، فإن الناس أول ما ينظرون ويرون هو هذا الباطل، وقد يغفلون عن كون الماء النقي الصافي موجود تحته، فلا يرونه، ولكنه موجود، وقد يظنون بأن الماء غير موجود، كذلك يظنون بأن الحق قد مات، أو غاب، أو أنه غير موجود، وأن الباطل هو الذي استقر وعلا، وبقي، ولكن الحقيقة بخلاف ذلك، فإن من تحت هذا الزبد حقاً يتأجج، ينتظر الفرصة المواتية لكي يستعلي، وينتظر الأسباب التي يهيئها الله عز وجل لانقشاع الزبد الباطل؛ لكي يظهر الحق لامعاً نظيفاً على صفائه ونقائه الذي أراده الله. وفقنا الله وإياكم لأن نكون من أهل الحق، الصابرين عليه، وألا يجعلنا من المغترين بالباطل وانتفاشه، أسأل الله لي ولكم التوفيق والعلم النافع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المثل الناري:
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ هذا الوحي للناس، وأقام الحجة عليهم، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
بيان وجه الشبه بين المثل الناري والوحي:
أيها الإخوة: لما ضرب الله المثل المائي في الجزء الأول من الآية، أعقبه بذكر المثل الناري، والمثل المائي كان في إنزال الماء على الأرض، والمثل الناري في قوله تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ [الرعد: 17] الناس إذا أرادوا أن ينقوا المعادن التي يستخرجونها من الأرض من الشوائب؛ ليحصلوا على هذا الذهب الصافي، أو الفضة الصافية، أو النحاس والحديد الصافي، ماذا تراهم يفعلون؟ إنهم يأخذون هذا الخام من المعادن المختلطة، فيوقدون عليها النار إيقاداً شديداً، حتى تذهب الأخلاط، ويبقى المعدن النافع، فيجعلونه على كيفيات تناسبهم في حياتهم العامة. هذا هو المثل الثاني عندما تخالط قلوب العباد المحن والفتن، ويكتوي المؤمن بنارها، فإنها تنقيه، وتهذبه من الشوائب، وتجعل معدنه أصيلاً صافياً. إن في الابتلاءات والمحن والفتن نفعٌ عظيمٌ؛ لإخراج أخلاط الدعة والكسل والركون إلى الحياة الدنيا، والتراجع والجبن.. إخراج هذه الأخلاط من النفس يحتاج إلى صهرٍ بحرارةٍ عظيمةٍ من حرارات الفتن، والابتلاءات التي تمحص معادن الناس، والتي تزيل الأخلاق والطبائع الرديئة منهم، وتجعل الأخلاق الحسنة والطبائع الجيدة هي التي تبقى كما يبقى معدن الذهب الصافي بعد إيقاد النار تحت الأخلاط التي فيه. يقول الله تعالى: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ [الرعد:17] هذان المثلان: المثل المائي، والناري ضربا في القرآن للحق والباطل إذا اجتمعا، فإن الله يقول: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ [الرعد:17] يضربها للحق والباطل، يعني: أن الحق والباطل إذا اجتمعا، فإنه لا ثبات للباطل، ولا دوام له أبداً، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء، ولا مع الذهب ونحوه مما يسبك في النار، بل يذهب ويضمحل، فالباطل وإن علا في بعض الأحوال -كما يقول القرطبي رحمه الله- فإنه يضمحل كاضمحلال الذهب والخبث يضمحل ولا يبقى مطلقاً، ولو ظن الناس بأنه طويل العمر والأمد، فإنه لا بد من ذهابه حتى يأذن الله ويشاء، ويخرج الحق عالياً مرفرفاً فوق الأرض، معلناً للناس بأن دين الله موجود، وبأن شرعته باقية، وبأن الطائفة المنصورة موجودة إلى قيام الساعة.
بيان حكمة الله في مخاطبة الناس حسب أحوالهم:(/4)
انظروا إلى حكمة القرآن في ضرب الأمثلة، فإنه ضرب مثلين. أحدهما: يصلح لأهل البوادي وهو المطر والماء والوادي. والمثل الثاني: يصلح للمتقدمين من أهل الصناعات، هذا القرآن يفهمه كل أحد، فيه من النور ما يكفي بياناً لكل أحد، في آياته نورٌ لكل من أراد الوصول إلى الحق، ولا بد للدعاة إلى الله عز وجل من اقتفاء أثر القرآن وطريقته ومنهجه في ضرب الأمثلة للناس. ومن عموم الفوائد في هذه الآية- أيها الإخوة- قاعدة عظيمة: أن البقاء للأصلح، والأنفع، وأن البقاء للحق، فهذا الزبد لا ينفع شيئاً، ولكنه يذهب ويبقى الماء من تحته، وهذا الركام يذهب ويبقى الذهب خالصاً نقياً. كذلك يوجد في العالم كثيرٌ من الأمور والطوائف والمذاهب التي ما أنزل الله بها من سلطان، لا تنفع الناس بل تضرهم، لكن ليعلم العالم كله بأن البقاء للأصلح.. البقاء لدين الله تعالى، مهما تعالت الجاهلية وانتفشت، فإن دين الله عامٌ منتصرٌ، وكثيرٌ من الناس لا يفقهون هذه القضايا، ويظنون الظنون السيئة بالله عز وجل، ويتساءلون: ترى متى ينقشع الظلام! ومتى يبزغ نور الفجر من جديد؟ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]. فالأصلح لا بد له من البقاء والاستمرارية؛ لأن الله قد أذن بهذا وأمر بهذا أمراً كونياً قدرياً لا بد أن يحصل، وهو أمرٌ شرعي كذلك يحبه الله تعالى، يحب الله أن يبقى الإسلام، ويحب الله أن يبقى ما هو الأصلح للناس، لذلك كان لزاماً على كل مسلم موحد أن يفكر جدياً أن يلبس لبوس الإسلام النافع ظاهراً وباطناً؛ حتى ينفع الله به ويبقى وإن لم يبق الجسد، فإن المنهج باقٍ، والناس يتوالدون، والله يحمل في طيات أجيال بني البشر ما يجعل منهم في المستقبل رواداً للحق.. قاضين به.. مقيمين لشرعة الله عز وجل. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك. اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على دينك ووحيك وشرعتك. اللهم واجعلنا من أهل الحق ورواده، ومن القائمين به شرعةً ومنهاجاً. اللهم وأبعدنا عن الباطل وأهل السوء. اللهم واكتب النصر للحق والسنة، اللهم وانصر أهل السنة على أهل البدعة، واجمع المسلمين على الحق وعقيدة التوحيد الصافية يا رب العالمين. اللهم وثبت الأمن والاستقرار في ربوع بلدنا هذا، وبلاد المسلمين يا رب العالمين. اللهم من أراد دينك ووحيك وسنة نبيك، وبلاد المسلمين بسوء، فاردد كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره يا رب العالمين. عباد الله: إن الله يأمر بالدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(/5)
الحق والباطل
تعريف الحق في اللغة :
جاء في لسان العرب : الحق نقيض الباطل. وحق الأمر صار حقاً وثبت. وفي التنزيل العزيز قوله تعالى : ( قال الذين حق عليهم القول) أي ثبت. ومما تقدم يعلم أن (الحق) في اللغة يقوم على معنى الثبوت والوجوب والصحة. فالحق هو الثابت الواجب والصحيح.
تعريف الباطل في اللغة :
في المعجم الوسيط : بطل الشيء : فسد وسقط حكمه. وأبطل الشيء جعله باطلاً. وفي مفردات غريب القرآن : الباطل نقيض الحق وهو ما لا ثبات له عند الفحص عنه ، قال تعالى : (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دون الباطل).
الحق والباطل في الاصطلاح :
لم يعن الفقهاء في تعريف الحق في الاصطلاح فكأنهم اكتفوا بمعناه اللغوي فاستعملوه على هذا الأساس فأطلقوه في أبحاثهم الفقهية على كل ما هو ثابت وواجب بحكم الشرع وبالتالي لا يكون صحيحاً ولا يترتب عليه ما يترتب على ما هو ثابت وصحيح شرعاً.
معنى التدافع :
جاء في لسان العرب : الدفع الإزالة بقوة. والمدافعة: المزاحمة. والاندفاع المضي في الأمر. وجاء في المعجم الوسيط : دفع الشيء إذا نحاه وأزاله بقوة. وفي القرآن الكريم: ( ولولا دفع الله الناس بغضهم ببعض لفسدت الأرض). ودفع القول: رده بالحجة. ودفع فلاناً إلى كذا: اضطره. دافع عنه: حامى عنه وانتصر له ، ودافع : زاحمه. ويقال هو سيد قومه غير مدافع : أي غير مزاحم وتدافع القوم : دفع بعضهم بعضاً.
المقصود بالحق والباطل والتدافع بينهما:
نريد بالحق في بحثنا ما هو ثابت وصحيح وواجب فعله أو بقاؤه من اعتقاد أو قول أول فعل بحكم الشرع. ونريد بالباطل نقيض الحق أي ما لا ثبات له ولا اعتبار ولا يوصف بالصحة ويستوجب الترك ولا يستحق البقاء، بل يستوجب القلع والإزالة وكل ذلك بحكم الشرع. وعلى هذا فالحق يشمل كل ما أمر الله ، والباطل يشمل كل ما نهى الله عنه. ونريد ( بالتدافع بين الحق والباطل) تنحية أحدهما للآخر أو إزالته ومحوه بالقوة عند الاقتضاء.
التدافع بين الحق والباطل تدافع بين أصحابهما:
والتدافع بين الحق والباطل في حقيقته تدافع بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل أي بين المؤمنين وبين غيرهم ، لأنهم هم الذين يحملون معاني الحق أو معاني الباطل ويسعون إلى إظهار هذه المعاني في الخارج وإقامة شؤون الحياة على أساسها فيحصل التعارض والتزاحم والتدافع بين الفريقين بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل أي بين المؤمنين وبين غيرهم.
حتمية التدافع بين الحق والباطل:
والتدافع بين الحق والباطل أي بين أصحابهما أمر لا بد منه وحتمي لأنهما ضدان ، والضدان لا يجتمعان ، ولأن تطبيق أحدهما يستلزم مزاحمة الآخر وطرده ودفعه وإزالته،أو في الأقل إضعافه ومنعه من أن يكون له تأثير في واقع الحياة. فلا يتصور إذن أن يعيش الحق بالباطل في سلم من دون غلبة أحدهما على الآخر إلا لعلى كضعف أصحابهما أو جهلهم بمعاني الحق والباطل ومقتضيات ولوازم هذه المعاني أن ضعف تأثير هذه المعاني فيهم.
للباطل قوة تطغيه :
قلنا إن كلمة ( تدافع) تعني في اللغة الإزالة بقوة ، فتدافع الحق والباطل أي تدافع أصحابهما يكون بقوة حيث يسعى كان من أهل الحق والباطل إلى تنحية الآخر عن مكانه ومركزه والغلبة عليه. فأهل الباطل لا يكفيهم بقاؤهم على باطلهم وإنما يسعون إلى محق أهله وإزالة هذا الحق بالقوة وصد الناس عنه ببذل المال وبالقتال وبكل ما يرون فيه قوة وقدرة لتحقيق ما يريدون.
وهذا هو شأن الباطل وقوته ، تطغيه هذه القوة فتدفعه إلى إزالة الحق وأهله ولو بالقوة. قال تعالى : (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون). وقال تعالى : ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا). وقتال الكفرة للمؤمنين قتال لنصرة باطلهم فهو في سبيل الطاغوت ، قال تعالى : (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت).
لا بد للحق من قوة تحميه :
وإذا كان الأمر كما ذكرنا من شأن الباطل وقوته التي تطغيه وأهله فلا بد للحق من قوة تحميه من طغيان الباطل وأهله، وتمكن أهل الحق من محق الباطل والغلبة على أهله. ولهذا أمر الله تعالى أهل الحق بإعداد القوة لإرهاب أهل الباطل ومنعهم من التحرش بأهل الحق ، قال تعالى : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).(/1)
وأمر الله تعالى أهل الحق بالجهاد في سبيل الله بالمال وبالنفس وبكل ما يمكن الجهاد به لمحق الباطل وأهله لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى ، والآيات في الجهاد بأنواعه ومنه القتال ، آيات كثيرة منها:( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيء وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون). وقال تعالى : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله).
سنة الله في تدافع الحق والباطل :
قضت سنة الله تعالى في تدافع الحق والباطل أن الغلبة للحق وأهله ، وأن الاندحار والمحق للباطل وأهله ، قال تعالى : (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته).قال الزمخشري في تفسير هذه الآية : ( ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق بكلماته أي بوحيه أو بقضائه كقوله تعالى : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق). وجاء في تفسير الرازي بشأن قوله تعالى : ( (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته) أي ومن عادة الله إبطال الباطل وتقرير الحق).
وقال تعالى : (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) ، وجاء في تفسيرها : (وهذه قاعدة عامة مبينة لسنة الله في تنازع الحق والباطل والصلاح والفساد ويدخل فيه سحر سحرة فرعون فإنه باطل وفساد ، أي لا يجعل عمل المفسدين صالحاً). وقال الزمخشري في تفسيرها : (لا يثبته ولا يديمه ولكن يسلط عليه الدمار) ، وقال الآلوسي في تفسيرها : ( والمراد بعدم إصلاح ذلك عدم إثباته أو عدم تقويته بالتأييد الإلهي أي أنه سبحانه لا يثبت عمل المفسدين ولا يديمه بل يزيله ويمحقه أو لا يقويه ولا يؤيده ، بل يظهر بطلانه ويجعله معدوماً).
سنة الله في نصر المؤمنين لا تتخلف :
إن سنة الله تعالى في نصر المؤمنين لا تتخلف أبداً لأنها إخبار من الله تعالى ، والله أصدق القائلين. أذكر فيما يلي بعض النصوص من القرآن الكريم الدالة على ذلك.
النصوص في سنة الله تعالى في نصر المؤمنين :
أ- قال تعالى : (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً). قال القرطبي في قوله تعالى : (سنة الله التي قد خلت من قبل) يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر أوليائه على أعدائه. قال ابن كثير في تفسيرها : (أي هذه سنة الله تعالى وعادته في خلقه : ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلا نصر الله الإيمان على الكفر فرفع الحق ووضع الباطل كما فعل الله تعالى يوم بدر).
ب- قال تعالى : ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله). وجاء في تفسيرها : ( ولا مبدل لكلمات الله) أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين كما قال تعالى : (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون).
ج- قال تعالى : (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون). وجاء في تفسير الزمخشري في هذه الآيات: الكلمة: قول تعالى: (إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون). والمراد الوعد بعلوهم على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا وعلوهم عليهم في الآخرة.
د- قال تعالى : ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) وجاء في تفسيرها :(أي قد حكم الله وكتب في كتابه الأول وقدره الذي لا يخالف ولا يمانع ولا يبدل بأن النصر له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة).
هـ- وقال تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد). قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ( وهذه سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقر أعينهم ممن آذاهم. وقال السدي: لم يبعث الله عز وجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه ، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلونهم فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا ، قال السدي : فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها). ومعنى ذلك أن المؤمنين وهم أهل الحق هم المنصورون وإن قتلهم أهل الباطل وانتصروا عليهم في الظاهر إلا أن العاقبة والغلبة للمؤمنين ولو بعد حين ، حيث يأتي من يعاقب المبطلين ويقتلهم جزاء ما فعلوه بأهل الحق ، وهذا علامة على اندحار أهل الباطل وغلبة أهل الحق عليهم.
و- وقال تعالى : (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين). وجاء في تفسيرها : فيها مزيد تشريف وتكرمة للمؤمنين حيث جعلوا مستحقين على الله تعالى أن ينصرهم ، وإشعار بأن الانتقام لأجلهم. وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل من بعد الرسل من الأمة.
قد يتأخر نصر المؤمنين لنصر أكبر :(/2)
ومما يجب أن يعرف أن نصر المؤمنين حسب سنة الله في نصرهم قد يتأخر لأن الله تعالى يريد لهم النصر الأكبر والأكمل والأعظم والأدوم والأكثر تأثيراً في واقع الحياة وفي عموم الناس بعد أن يتهيأ في المؤمنين القاعدة اللازمة لاستحقاقهم هذا النصر الأكبر واستقبالهم له ، ويدل على ذلك أن نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المؤمنين ، لم يحصل هذا النصر في يوم وليلة ولا في سنة واحدة ، وإنما تأخر فلم يحصل إلا بعد مضي أكثر مدة نبوته صلى الله عليه وسلم ، فقد حصل هذا النصر بالغلبة والانتصار على قريش وبفتح مكة وذلك في سنة ثمان للهجرة ، أي قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بسنتين ، وقد دخل بسبب هذا النصر الناس في دين الله أفواجاً ، وأنزل فيه تعالى سورة : ( إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً) وجاء في تفسيرها : والمعنى : نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على العرب أو على قريش وفتح مكة. وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان للهجرة ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب. وكانت تدخل في الإسلام بعد فتح مكة جماعات كثيفة من الناس فكانت القبيلة تدخل في الإسلام بأسرها بعدما كانوا يدخلون في الإسلام واحداً واحداً أو اثنين اثنين.
قد يسبق نصر المؤمنين أذى من العدو وغلبة له :
إن نصر الله تعالى للمؤمنين حسب سنته تعالى في نصرهم لا يأتي عادة دون جهد عظيم يبذلونه وتضحية يقدمونها في مدافعتهم لأهل الباطل مما قد يترتب عليه عادة أذى شديد يلحقهم من أهل الباطل وغلبة لهؤلاء المبطلين على المؤمنين. وهذا لا يتعارض مع سنة الله في نصر المؤمنين ، لأن الأمور بخواتيمها وعاقبتها. والعاقبة دائماً للمؤمنين في نصرهم على أهل الباطل. ولله الحكمة فيما يصيب المؤمنين من أذى قبل بلوغهم النصر الحاسم على أهل الباطل وعلى هذا دل القرآن الكريم وأشار إليه المفسرون ، قال تعالى : (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين).
بين الله تعالى أن المؤمنين الذين يصيبهم قرح أي جراحات بسبب القتال يجب أن لا يضعف ذلك همتهم واجتهادهم في جهاد العدو ، لأنه كما أصابهم قرح فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك ، وعدوهم لم يفتروا لما أصابهم من القرح من محاربتكم مع كونهم مبطلين وسوء عاقبتهم ، فأنتم أيها المؤمنون أهل الحق أولى أن لا تضعفوا ولا تفتروا عن مجاهدة ومحاربة هؤلاء الأعداء المبطلين.
وقوله تعالى : (وتلك الأيام نداولها بين الناس) أي ونديل عليكم الأعداء تارة وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة ، ومن هذه الحكمة : ليعلم الله الذين آمنوا (ومنها) ليتخذ منكم شهداء بأن يقتلوا في جهادهم لأهل الباطل. (ومنها) ليمحص الله الذين آمنوا (ومنها) ليمحق الكافرين. فعل ذلك من وجوه الحكمة كالسبب والعلة في تلك المداولة أي في غلبة العدو.
فالأيام في الآية الكريمة أوقات الظفر والفوز ، ومداولتها بين المؤمنين وأعدائهم أي تحويل الظفر والغلبة بينهم مرة للمؤمنين ومرة لأعدائهم ، فهذه المداولة سنة من سنن الله في تدافع أهل الحق مع أهل الباطل ، فلا عجب أن تكون الدولة مرة للمبطل ومرة للمحق ، لأن المضمون والمؤكد لصاحب الحق أن تكون العاقبة له ، والأعمال بالخواتيم. ولكن يجب أن يعرف بأن المداولة في الواقع مبنية على أعمال الفريقين فلا تكون الغلبة لمن عرف أسبابها ورعاها حق رعايتها ، فإذا كانت المداولة في النصر والغلبة بين الفريقين منوطة بالأعمال التي تفضي إليها كالاجتماع والثبات وصحة النظر وقوة العزيمة وأخذ الأهبة وإعداد ما يستطاع من القوة ، فعلى المؤمنين أن يقوموا بهذه الأعمال ونحوها من مستلزمات الغلبة والنصر حتى تكون المداولة لهم لا لعدوهم.
وقال تعالى : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون). وجاء في تفسيرها: الكلمة هي قوله تعالى : (إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) والمراد : الوعد بعلوهم على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا وعلوهم عليهم في الآخرة. ولا يلزم من انهزامهم في بعض المشاهد أن يكون نقضاً للغلبة وللنصر ، فإن الغلبة كانت لهم ولمن بعدهم في العاقبة.(/3)
وقال تعالى : (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد). قال الزمخشري في تفسيرها : إن الله تعالى يغلبهم في الدارين جميعاً بالحجة والظفر على مخالفيهم وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحاناً من الله تعالى فالعاقبة لهم. وقال الآلوسي رحمه الله في تفسيرها: إننا ننصر رسلنا وأبتاعهم في الحياة الدنيا بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة ، ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق للكفرة من صورة الغلبة امتحاناً إذ العبرة إنما هي بالعواقب وغالب الأمر.
السنن الإلهية لعبدالكريم زيدان ، ص43(/4)
الحكمة من صلاة الجماعة
الحمد لله على نعمة الإسلام، وعلى نعمة القرآن، وعلى نعمة الصلاة مع الإمام، والصلاة والسلام على خير الأنام، محمد وعلى آله وأصحابه الكرام.
أما بعد:
فإن حكمة الله-عزوجل-بالغةٌ في كل شيء، فما من شيء خلقه أو شرعه أو أمر به إلا وله فيه حكمة، فإما أن تكون هذه الحكمة ظاهرة للناس أو أنه-سبحانه وتعالى-أخفاها عليهم لحكمة، وإن من أعظم شيء في شرعه-سبحانه وتعالى-هي الصلاة، فقد جاء هذا الدين لينظم حياة المسلم أيما تنظيم، ويربطها بخالقها في معظم أوقاته إن لم نقل كلها، فهاهي صلاة الفجر من أول بدء اليوم الجديد إذ بالشارع الحكيم قد أمر عباده أن يبدؤه بالاتصال به-عزوجل-، ثم لا يتركهم فترة ليست بالطويلة إلا ويأمرهم أن يأتوا بالصلاة الأخرى ألا وهي صلاة الظهر، وهكذا العصر, والمغرب, والعشاء، كل هذا لكي لا يكون المسلم بعيداً غافلاً عن ربه وخالقه، بل لا بد أن يكون على اتصال دائمٍ مع خالقه ومولاه؛ لكي يهذَّب نفسه مع باريها وخالقها، ولكي تطلب حاجتها منه سبحانه، وكذلك دفع ما نزل بها من مصائب وكربات، فيا لها من حكمة حيرت العقلاء في معرفتها، سبحانك ربي سبحانك.
قد يستغرب من هذا العنوان الذي كتبناه بهذه الصيغة، وإنما هي محاولة لإظهار بعض من هذه الحكمة وما خفي علينا أكثر وأكثر. بل لا يستطيع أن يدعي أحد أنه علم الحكمة كاملة من أي عمل أمر الله به أو نهى عنه, وإنما هي محاولة لإظهار مع يستطاع الوصول إلى معرفته، ثم يترك مالا يستطاع الوصول إليه إلى حكمة الله في إخفائه، وإننا في هذا المبحث القصير سنذكر ما نستطيع عليه من إظهار الحكمة في صلاة الجماعة, وهي من أعظم شرائع الدين أي(الصلاة) بل هي عمودة. ولا يثبت الإسلام لأحد إلا بها.
من فضل الله تعالى على عباده أنه جعل الثواب الجزيل على أداء الصلاة في الجماعة. فقال الله-تعالى-:{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ}(43) سورة البقرة.
قال ابن كثير-رحمه الله-: "أمرهم أن يركعوا مع الرّاكعين من أمّة محمد-صلى الله عليه وسلم-يقول: كونوا معهم ومنهم"(1).
وأما عن فضلها وأنها أبلغ في الجزاء والثواب من صلاة الفرد أو الفذ, فقد وردة في ذلك أحاديث صحيحة, ففي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)(2).
وفي رواية أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي-صلى الله عليه وسلم-يقول:(صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة)(3), وعند مسلم من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(صلاة الجماعة تعدل خمساً وعشرين من صلاة الفذ)(4). هذه وغيرها من الأحاديث التي رواها أهل السنن وغيرهم في فضل صلاة الجماعة, وإننا في هذا المبحث ليس معرض كلامنا على فضل صلاة الجماعة, وإنما أشرنا إليها من باب الفائدة, وأما حديثنا هنا فهو عن الحكمة من صلاة الجماعة, وهي أي (الحكمة) عبارة عن حكم وفوائد تعود على المسلم في حياته وآخرته, فمن هذه الحكم والفوائد ما يلي:
1- أن الله جعل في صلاة الجماعة تعارف الإخوة والأَحبَّة في الله على بعضهم، وتوثيق أواصر المحبَّة بينهم، والتي لا يتيسّر الإيمان إلا بها، فإنّه لا سبيل للإيمان ولا إلى الجنّة إلاّ بالمحبة في الله تعالى. اسمع إن شئت قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ، لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا أولا أَدلّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السّلام بينكم(5) راجع: " الصلاة وأثرها في زيادة الإيمان وتهذيب النفس ص 24.
2- أن الله-عزوجل-أراد لمن أدرك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً متصلة أن يكون عبداً بريئاً من النفاق والنَّار، وذلك لما رواه أنس–رضي الله عنه-عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم–أنه قال: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة، يدُرِك التكبيرة الأولى، كُتبت له براءتان: براءةٌ من النار، وبراءةٌ من النّفاق)(6).
3- أن الله جعل في ذلك اجتماع شمل المسلمين, وتأليف قلوبهم على الخير والصلاح, فعندما يلتقون كل يوم خمس مرات في بيت من بيوت الله- عزوجل-, يحصل لهم الاجتماع ولمِّ الشمل وتوحيد الصف.
4- أن لله جعل في ذلك تكافل المسلمين وتعاونهم فيما بينهم, عندما يأتون إلى المساجد فيعرف الفقير والمحتاج، فَيُنْظَرُ في أمرهم، ثم يعطون من الصدقة والزكاة.
5- أن الله جعل في ذلك إظهار شعائر الدين وقوته، وأن المسلمين لا زالوا محافظين على أداء شعائر دينهم, وأن هذه الفريضة لن يتركها المسلمون إلا في آخر زمانهم, حيث جاء من حديث أبي أمامة الباهلي-رضي الله عنه-أنه قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (لتنتقض عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة)(7) .(/1)
6- أن الله جعل في ذلك سبباً لتوحيد المسلمين، حيث يجتمع في الصف الواحد الأبيض والأسود، والعربي والعجمي، والكبير والصغير, جنباً إلى جنب في مسجد واحد، وراء إمام واحد، في وقت، متوجهين إلى قبلة واحدة, واتجاه واحد, أليس في هذا من الحكمة على توحيد المسلمين. بلى والله إنها حكمة بالغة.
7- أن الله جعل في ذلك إغاظة أعداء الله عندما ينظرون إلى بيوت الله وهي مليئة بالمصلين فإنهم يغتاضون لهذا؛ لأن المسلمين لا يزالون في قوة وفي منعة ماداموا محافظين على هذه الصلاة في المساجد, ولهذا فإنه قال أحد الغربيين إنه لا يستطيع المسلمون أن ينتصروا على الكفار إلا بعد أن يكون عددهم في صلاة الفجر، كعددهم في صلاة الجمعة, وهذا دليل على أنهم يغتاضون عندما يرون المسلمون يقبلون على بيوت الله في جميع الصلوات المكتوبة، وهذه حكمة بالغة.
8- أن الله جعل فيها أي (صلاة الجماعة), تهذيب للنفس وتربيتها، حيث يحصل لها من زيادة الإيمان عندما تسمع قراءة القرآن من الإمام، وكذلك أحاديث رسول-صلى الله عليه وسلم-عندما تُلقى الكلمات, والمحاضرات, والندوات في المساجد, فيذَّكر العبد نفسه بالله والآخرة, وكذلك حقارة الدنيا، فيهذَّب نفسه ويربيها على الخير والصلاة والتقوى، وغيرها من أمور البر.
9- أن الله-سبحانه وتعالى-جعل في صلاة الجماعة سبباً لمحو الخطايا ورفع الدرجات، فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟) قالوا " بلى، يا رسول الله". قال:(إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلك الرباط)(8) .
10- بيان قوت المسلمين وضعفهم في إيمانهم، إذ لا يتردد على المساجد إلى المسلمون الذين رسخ في قلوبهم الإيمان فهم أقويا، وأما من تغيب عن المساجد فإنه-والله المستعان-قد دخل في قلبه شيء من النفاق والضعف. حيث يدل على هذا المعنى قول الصاحبي الجليل عبد الله بن مسعود إذ يقول:"وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق"(9). والحديث المتفق عليه يشهد لهذا القول فقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم-:(إن أثقل الصلوات على المنافقين صلاة الفجر والعشاء, ولو علموا ما فيهما لأتوهما ولو حبوا)(10).
وفي الأخير نسأل من الله-عزوجل-أن يوفقنا لأداء الصلاة في جماعة, وأن يعز الإسلام, وأن ينصر المسلمين إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - تفسير ابن كثير (1/85).
2 - البخاري، الفتح، رقم(619)،كتاب الجماعة والإمامة، باب فضل صلاة الجماعة.
3 - البخاري، الفتح، رقم(619)، كتاب الجماعة والإمامة، باب فضل صلاة الجماعة.
4 - صحيح مسلم، (1/450)(649)، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها.
5 - صحيح مسلم،(1/74)(54)،كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
6 - رواه الترمذي وهو من صحيح الجامع برقم (6241).
7 -رواه ابن حبان(15/111)، والحاكم (4/104) وقال إسناده صحيح ولم يخرجاه، وأحمد(5/251).
8 - صحيح مسلم(1/219)(251)، كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره.
9 - أخرجه مسلم (654).
10 - البخاري، الفتح، رقم(626)، كتاب الجماعة والإمامة، باب فضل صلاة العشاء في الجماعة.(/2)
الحكمة من كسوف الشمس ... ...
عبدالرحمن عبدالعزيز السديس ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) , العبرة في الآيات الكونية – التدبر في خلق السماوات والأرض يُذكِّر الإنسان بقرب أجله – خطر عدم تدبر الآيات والاعتبار بها – الكسوف وما فيه من عبرة , وماذا يجب عند حدوثه – ثمرة التخويف بالآيات : المبادرة إلى التوبة والعمل الصالح – حال المؤمن والكافر عند الموت وفي القبر – التحذير من بعض الذنوب والمعاصي - الإخبار بزمن الكسوف ليس من علم الغيب – نظرة الإعلام إلى الكسوف وسبب ذلك ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد:(/1)
فيا عباد الله إن الله عز وجل يري عباده في الآفاق ما من شأنه أن يذكرهم إن كانوا يؤمنون: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط ثم يلفت نظرنا إلى آياته في السماوات وفي الأرض لنتذكر بذلك قرب النهاية فنستعد للرحيل ونترك التسويف ونعلم قصر الدنيا مهما طالت وقرب الآخرة بانتهاء الأجل أو بقيام الساعة وإذا مات الإنسان فقد قامت قيامته حيث لا عمل ولا استدراك إنما هو الحساب في دار البرزخ ثم دار القرار: أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون ثم ينعى على من لم يتعظ بالآيات المبثوثة بالآفاق في قوله جل وعلا: من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون وفي السورة الأخرى يقول جل وعلا: قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ثم ينعى على من لم يتعظ بهذه الآيات بقوله: وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ثم يحذر سبحانه من أخذه الشديد بقوله جل وعلا بعدها مباشرة: فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننجِِ المؤمنين فكم لله من حكم في خلق السماوات والأرض ولكن كما قال: حكمة بالغة فما تغن النذر كم نذارة أرسلها الله على ألسنة رسله وكم نذارة بثها سبحانه في الآفاق ولكن كما قال جل وعلا: فما تغن النذر وإن من آخر النذر التي شهدناها جميعا كسوف الشمس أمس الأول فهل خفنا أم هل تبنا أم هل راجعنا حياتنا لنقيمها على ما يرضي ربنا سبحانه أناشدكم الله يا عباد الله هل اختلفت حياتنا قبل الكسوف عنها بعد الكسوف هل حسنا أحوالنا وراجعنا ربنا سبحانه وأقلعنا عن ذنوبنا صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بهما عباده فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة والدعاء والاستغفار))[1] فهل استجبنا لتخويف ربنا لنا فخفنا ثم أدلجنا وقد صح عنه صلى لله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ((من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا وإن سلعة الله غالية ألا وإن سلعة الله الجنة))[2] أم صح علينا قول الله سبحانه – نعوذ بالله أن نكون كذلك -: فما تغن النذر إن إنسانا من البشر حين يتوعد ويزبد ويرعد ويهدد ويحدد يحسب له الناس ألف حساب ويصبح تهديده وتحديده حديث مجالسهم ومجال شوراهم وميدان اقتراحاتهم ونصائحهم فمن الذي خوفنا بالخسوف العظيم؟ ألا إنه رب العالمين ألا إنه إله الأولين والآخرين إلا إنه من يقول للشيء كن فيكون ومن بيده ملكوت السماوات والأرض وهو يجير ولا يجار عليه لا تخفى عليه منا خافيه يعلم سرنا كما يعلم علانيتنا: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ألا إنه من يضع السماوات يوم القيامة على إصبع والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أنا الجبار أين الجبارون أين المتكبرون أين ملوك الأرض؟[3] ألا إنه من عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو: ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يعلم السر وأخفى سنعرض عليه يوم القيامة كما قال: يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية وإن من استجابتنا لتخويف ربنا لنا أن نخاف فنعمل صالحا ونحذر طالحا ونستغفر ونتوب من سائر الذنوب وندعو ونذكر ولا نطغى ونفجر ونتصدق كثيرا ونخشى سعيرا حتى يثبتنا الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة كما قال سبحانه: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء في الحياة الدنيا أي في القبر حين ترد الروح إلى الميت حين ترد روح الميت إلى جسده وإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه مدبرين فيأتيه ملكان شديدا الإنتهار فينتهرانه ويجلسانه فيقولان له من ربك ما دينك ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ما علمك فأما المؤمن فيقول ربي الله ديني الإسلام نبيي محمد صلى الله عليه وسلم قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فذلك حين يقول الله جل وعلا: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وأما الفاجر فيقول ها ها لا أدري سمعت الناس يقولون ذاك فيقال لا دريت ولا تليت[4] فلنأخذ للأمر أهميته ولنستعد لفتنة القبر بالاستعاذة منها كما أمرنا بذلك صلى الله عليه وسلم حين وقع الكسوف فقال: ((تعوذوا بالله من عذاب القبر))[5]،(/2)
وعلمنا الاستعاذة منه دبر كل صلاة نقول: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وعذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال))[6]، وإن من الموبقات التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم لما وقع الكسوف الزنا حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً))[7]، فلنحذر الزنا وأسبابه يا عباد الله ولنغلق أبوابه فما من أحد بأغير من الله فلنحذر سخطه ونبتعد عن كل ما يقرب من الزنا امتثالا لأمره سبحانه: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً ونغض أبصارنا عن النظر إلى ما حرم الله كما أدبنا ربنا بذلك في قوله: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن متى يتعظ من لم يتعظ بنذر الله ومتى يرعوي عن غيه من غفل قلبه فهو لاه لاه أننتظر الفاجعة: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون صح عنه صلى الله عليه وسلم حين وقع الكسوف أنه قال: ((ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريبا من فتنة الدجال))[8] نعوذ بالله من فتنة القبر نعوذ بالله من فتنة المحيا والممات نعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال لا أحد أحلم من الله وهو القائل: لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد لا أحد أصبر من الله وهو القائل: ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى من بارز الله بالمعاصي فهو الخاسر: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه))[9].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (1044)، صحيح مسلم (901).
[2] سنن الترمذي (2450).
[3] صحيح البخاري (7414)، صحيح مسلم (2786).
[4] سنن أبي داود (4753).
[5] صحيح مسلم (2867).
[6] صحيح البخاري (833)، صحيح مسلم (588).
[7] صحيح البخاري (1044)، صحيح مسلم (901).
[8] صحيح البخاري (86).
[9] صحيح مسلم (2577). ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد فيا عباد الله.(/3)
ننبه بهذه المناسبة إلى أمور قد تخفى على كثير من الناس فمنها أن الإخبار بزمن الكسوف قبل حدوثه ليس من علم الغيب بل هو من العلوم العادية التي قد يتعلمها البشر قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: أجرى الله العادة أن الشمس لا تكسف إلا وقت الإستسرار وأن القمر لا يخسف إلا وقت الإبدار ووقت إبداره هي الليالي البيض التي يستحب صيام أيامها ليلة الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فالقمر لا يخسف إلا في هذه الليالي والهلال يستسر آخر الشهر ليلة تسعة وعشرين وليلة ثلاثين والشمس لا تكسف إلا وقت إستسرار الهلال وللشمس والقمر ليالي معتادة من عرفها عرف الكسوف والخسوف وقال رحمه الله عليه: أما العلم بالعادة في الكسوف والخسوف فإنما يعرفه من يعرف حساب جريان الشمس والقمر وليس خبر الحاسب بذلك من علم الغيب بل هو مثل العلم بأوقات الفصول وقال رحمه الله: ولكن إذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك يعني على الإخبار بزمن الكسوف فلا يكادون يخطئون ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علم شرعي فإن صلاة الكسوف والخسوف لا تصلى إلا إذا شاهدنا ذلك وقال: إذا استعد الإنسان ذلك الوقت - يعني الذي أخبر به أهل الحساب - لرؤية ذلك كان ذلك من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته الأمر الثاني أن ما شغلتنا به الصحف من الحديث حول هذا الموضوع إنما يدل على إفلاسها من القيم حتى إنها اشتغلت بالأشياء التافهة وتركت الأمر العظيم الذي نبه له صلى الله عليه وسلم إن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما حصل الكسوف خاف حتى ظن أنها الساعة كما تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها[1] وصحفنا اليوم تسخر من ذلك وكذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخطأ بردائه حتى أخذ بعض درع زوجاته ليذهب ويصلي بالناس به حتى أرسل له ثوبه مع بعض الناس من شدة ذهوله صلى الله عليه وسلم من هذه الآية التي يقول الله جل وعلا: وما نرسل بالآيات إلا تخويفا [2]، أما صحفنا اليوم وكثير من هذا الغثاء الذي شحنت به الأسواق تتحدث عن عرس فلكي بين الشمس والقمر عرس فلكي وثم يعلمون الناس أحسن طريقة لرؤية هذا الكسوف هذا الحدث الكوني كيف تستمتع برؤية هذا الحدث ثم يبينون للناس صور الأطفال الأوربيين وغيرهم في شتى بقاع الأرض الكافرة يرسمون لهم صورهم وهم يلبسون النظارات السوداء أو غيرها لينظروا إلى الكسوف ما لنا ولهم هؤلاء قوم ممن قال الله عز وجل فيهم: إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ، هؤلاء شر من الكلب والخنزير وصحفنا بعض صحفنا اليوم تجعلهم كالمثل الأعلى للناس ترسم صورهم وصور كلابهم وهم يلبسونها النظارات وربما تحدثت أيضا بعض الصحف عن سهرة بالنهار تقام في هذا البلد أو ذاك واشغلت الناس بعدد الناس الذين سيتعرضون للعمى أربعة ملايين أو أربعه مليون فاشتغلوا بعمى البصر وتركوا الحديث عن عمى البصائر الذي عليه عامة أهل الأرض اليوم كما قال جل وعلا: وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ، وقال سبحانه: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون فلو اشتغلنا ولو اشتغلت صحفنا بتعليم الناس أمر دينهم وحثهم على التوبة والاستغفار وتبديل أحوالهم إلى أحسن الأحوال لكان خيراً لهم وأقوم
[1] صحيح مسلم (912)، وهو عن أبي موسى ولم أجد هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنهم أجمعين.
[2] صحيح مسلم (906). ... ...
... ...
... ...(/4)
الحكمة من مشروعية الصيام
المقدمة:
الحمد لله الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنَّ الله ارتضى من الأديان دين الإسلام، وبين ما يحل وما يحرم فعله في الإسلام، وجعل بناءه يقوم على قواعد خمس عظام، وجعل صيام رمضان أحد مبانيه العظام؛ قال العلامة حافظ حكمي-رحمه الله-:
فقد أَتى الإسلام مبنى على *** خمس فحقق وادر ما قد نُقلا
أولها الركن الأساس الأعظم *** وهو الصراط المستقيم الأقوم
ركن الشهادتين فاثبت واعتصم *** بالعروة الوثقى التي لا تنفصم
وثانياً إقامة الصلاة *** وثالثاً تأدية الزكاة
والرابع الصيام فاسمع واتبع *** والخامس الحج على من يستطع
وقد كان الصيام مشروعاً على من سبقنا من الأمم، وفرض علينا- أمة الإسلام- صيام شهر رمضان، تزكية للنفوس، وتحقيقاً للتقوى، وتنقية للنفس من الأخلاط الرديئة، والأخلاق الرذيلة؛ قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة: 183 .
وغير ذلك من الفوائد الدينية والدنيوية. وهو مع ذلك –سبحانه- قد يسر صيامه للعباد، فجعله شهراً واحداً في السنة؛ فقال تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}؛ ورخص الفطر فيه لأهل الأعذار، فله الحمد على نعمة الإسلام، والله نسأل أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. آمين.
الآيات:
قال الله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ () أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ()} سورة البقرة183-184.
شرح الآيات:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} سبق الكلام على أمثالها في دروس سابقة، بما يغنى عن إعادته هنا. قوله: {كتب عليكم الصيام} أي فُرض؛ والذي فَرضه هو الله -سبحانه وتعالى-؛ و{الصيام} نائب فاعل مرفوع؛ وهو في اللغة الإمساك؛ ومنه قوله –تعالى-: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} يعني إمساكاً عن الكلام بدليل قولها: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} سورة مريم(26)؛ وأما في الشرع: فإنَّه التعبد لله بترك المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. قوله: {كما كتب}؛ "ما" مصدرية؛ والكاف حرف جر؛ وتفيد التشبيه؛ وهو تشبيه للكتابة بالكتابة، وليس المكتوب بالمكتوب. قوله: {على الذين من قبلكم} أي من الأمم السابقة؛ فيعم اليهود والنصارى وغيرهم؛ ولكنه لا يلزم أن يكون كصيامنا في الوقت والمدة. ثم ختمت الآية بذكر الحكمة التي لأجلها شرع الله الصيام؛ فقال: {لعلكم تتقون}؛ "لعل" للتعليل؛ ففيها بيان الحكمة من فرض الصوم؛ أي تتقون الله-عز وجل-؛ هذه هي الحكمة الشرعية التعبدية للصوم؛ وما جاء سوى ذلك من مصالح بدنية، أو مصالح اجتماعية، فإنها تبع.
قوله: {أياماً} مفعول لقوله: {الصيام}؛ لأنَّ الصيام مصدر يعمل عمل فعله -أي كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات؛ و{أياماً} نكرة؛ فتفيد القلة، والكثرة، والعظمة، وتفيد الهون؛ وذلك بحسب السياق؛ فلما قرنت هنا بقوله: {معدودات} أفادت القلة؛ يعني: هذا الصيام ليس أشهراً؛ ليس سنوات؛ ليس أسابيع؛ ولكنه أيام معدودات قليلة؛ و{معدودات} من صيغ جمع القلة؛ يعني: أياماً قليلة. ثم شرع -سبحانه- في بيان صيام أهل الأعذار؛ فبدأ بذكر المريض؛ فقال تعالى: {فمن كان منكم مريضاً}؛ يعني مرضاً يشق به الصوم؛ أو يتأخر به البرء؛ أو يفوت به العلاج.. والمريض له ثلاث حالات: الأولى: أن لا يضره الصوم، ولا يشق عليه؛ فلا رخصة له في الفطر. الثانية: أن يشق عليه، ولا يضره؛ فالصوم في حقه مكروه؛ لأنه لا ينبغي العدول عن رخصة الله. الثالثة: أن يضره الصوم؛ فالصوم في حقه محرم؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء (29).
ثم ذكر المسافر؛ فقال تعالى: {أو على سفر} أي السفر المبيح للفطر؛ والحكمة في التعبير بقوله: {على سفر}-والله أعلم- أن المسافر قد يقيم في بلد أثناء سفره عدة أيام، ويباح له الفطر؛ لأنه على سفر، وليست نيته الإقامة، كما حصل للرسول-صلى الله عليه وسلم- في غزوة الفتح فإنه أقام في مكة تسعة عشر يوماً وهو يقصر الصلاة1، وأفطر حتى انسلخ الشهر2. والمسافر باعتبار صومه في سفره له حالات ثلاث:(/1)
الحالة الأولى: أن لا يكون فيه مشقة إطلاقاً؛ يعني: ليس فيه مشقة تزيد على صوم الحضر؛ ففي هذه الحال الصوم أفضل؛ وإن أفطر فلا حرج؛ ودليله أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم في السفر؛ كما في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرّ؛ وما فينا صائم إلاَّ ما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن رواحة3؛ ولأن الصوم في السفر أسرع في إبراء ذمته؛ ولأنه أسهل عليه غالباً لكون الناس مشاركين له، وثقلِ القضاء غالباً؛ ولأنه يصادف شهر الصوم- وهو رمضان.
الحال الثانية: أن يشق عليه الصوم مشقة غير شديدة؛ فهنا الأفضل الفطر؛ والدليل عليه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في سفر، فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظُلل عليه، فسأل عنه، فقالوا: صائم؛ فقال –صلى الله عليه وسلم-: (ليس من البر الصيام في السفر)4. فنفى النبي -صلى الله عليه وسلم- البر عن الصوم في السفر.
الحال الثالثة: أن يشق الصوم على المسافر مشقة شديدة؛ فهنا يتعين الفطر؛ ودليله: ما ثبت في الصحيح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان في سفر، فشُكي إليه أن الناس قد شق عليهم الصيام وإنهم ينتظرون ما يفعل؛ فدعا بماء بعد العصر، فشربه، والناس ينظرون؛ ثم جيء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقيل له: إن بعض الناس قد صام فقال-صلى الله عليه وسلم-: (أولئك العصاة! أولئك العصاة!)5؛ والمعصية لا تكون إلا في فعل محرم؛ أو ترك واجب. ثم بين أن من أفطر في رمضان لعذر شرعي، فإنَّ عليه القضاء بعد رمضان، فقال تعالى: {فعدة من أيام أخر} أي أيام مغايرة.(/2)
وأما من أفطر في رمضان لكبر، وعجز عن الصيام؛ فإن عليه الإطعام عن كل يوم مداً، فقال: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين}؛ قال معاذ -رضي الله عنه-: كان في ابتداء الأمر من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع-رضي الله عنه- أنه قال: لما نزلت: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} كان من أراد أن يفطر يفادي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها. وروي أيضاً من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر-رضي الله عنه- قال: هي منسوخة. وقال السُدي عن مرة عن عبد الله-رضي الله عنه- قال: لما نزلت هذه الآية: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} قال: يقول: {وعلى الذين يطيقونه} أي يتجشمونه. قال عبد الله: فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً، {فمن تطوع} يقول: أطعم مسكيناً آخر: {فهو خير له وأن تصوموا خير لكم} فكانوا كذلك حتى نسختها؛ {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. وعند البخاري أيضاً عن عطاء أنه سمع ابن عباس-رضي الله عنه-: يقرأ: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين}؛ قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرآة الكبيرة يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً. وعنه أيضاً قال: نزلت هذه الآية: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً. وعن ابن أبي ليلى-رحمه الله- قال: دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل، فقال: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً، ثم نسخت الأولى إلى الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر. قال الحافظ ابن كثير-رحمه الله- بعد أن سرد الأحاديث والآثار السابقة: فحاصل الأمر أنّ النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه؛ بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}؛ وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه؛ لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة؟ فيه قولان للعلماء: أحدهما لا يجب عليه إطعام؛ لأنه ضعيف عنه لسنِّه فلم يجب عليه فدية كالصبي؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهو أحد قولي الشافعي. والثاني وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ: {وعلى الذين يطيقونه} أي يتجشمونه؛ كما قاله ابن مسعود وغيره هو اختيار البخاري فإنه قال: وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاماً أو عامين عن كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر. وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده... عن أيوب بن أبي تميمة قال: ضعف أنس عن الصوم فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكيناً فأطعمهم...ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ففيهما خلاف كثير بين العلماء؛ فمنهم من قال: يفطران ويفديان ويقضيان، وقيل: يفديان فقط ولا قضاء، وقيل: يجب القضاء بلا فدية، وقيل: يفطران ولا فدية ولا قضاء..و لله الحمد والمنة6.
قوله: {طعام مسكين} أي عليهم لكل يوم طعام مسكين؛ وليس المعنى طعام مسكين لكل شهر؛ بل لكل يوم؛ ويدل لذلك القراءة الثانية في الآية: {طعام مساكين} بالجمع؛ فكما أن الأيام التي عليه جمع، فكذلك المساكين الذين يطعَمون لا بد أن يكونوا جمعاً. وقوله: {طعام مسكين}؛ المراد بالمسكين من لا يجد شيئاً يكفيه لمدة سنة؛ فيدخل في هذا التعريف الفقير؛ فإذا مر بك المسكين فهو شامل للفقير؛ وإذا مر بك الفقير فإنه شامل للمسكين؛ أما إذا جمعا فقد قال أهل العلم: إن بينهما فرقاً: فالفقير أشد حاجة من المسكين؛ الفقير هو الذي لا يجد نصف كفاية سنة؛ وأما المسكين فيجد النصف فأكثر دون الكفاية لمدة سنة. وقوله: {فمن تطوع خيراً}؛ {تطوع} فعل الشرط؛ وجوابه جملة: {فهو خير له}؛ أي فمن فعل الطاعة يقصد بها الخير فهو خير له؛ ومعلوم أنَّ الفعل لا يكون طاعة إلا إذا كان موافقاً لمرضاة الله -عز وجل- بأن يكون خالصاً لوجهه موافقاً لشريعته؛ فإن لم يكن خالصاً لم يكن طاعة، ولا يقبل؛ وإن كان خالصاً على غير الشريعة لم يكن طاعة، ولا يقبل؛ لأن الأول شرك؛ والثاني بدعة. قوله: {فهو خير له}؛ {خير} اسم دال على مجرد الخيرية بدون مفضل، ومفضل عليه، والمراد أن من تطوع بالفدية فهو خير له. قوله: {وأن تصوموا خير لكم} المراد بالخير هنا التفضيل؛ يعني أن تصوموا خير لكم من الفدية. قوله: {إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم من ذوي العلم فافهموا.
بعض فوائد الآيات:
1. أهمية الصيام؛ لأنِّ الله -تعالى- صدره بالنداء؛ وأنه من مقتضيات الإيمان؛ لأنه وجه الخطاب إلى المؤمنين؛ وأنّ تركه مخل بالإيمان.(/3)
2. وجوب صيام رمضان؛ {كتب}، وأنه ركن من أركان الإسلام، وفي الحديث: (بني الإسلام على خمس-: وذكر منها:-(وصوم رمضان)7.
3. أن الصيام كان مفروضاً على من قبلنا من الأمم؛ {كما كتب على الذين من قبلكم}.
4. أن الله يشرع الشرائع والأحكام لحِكَمٍ؛ قد نعلمها وقد لا نعلمها، فقد شرع الصيام وأوجبه على عباده لحِكَم عديدة، وفوائد عظيمة في الدنيا والآخرة، ومن هذه الفوائد؛ أن الصيام وسيلة وسبب لتحقيق التقوى؛ {لعلكم تتقون}.
5. أن الصوم أيامه قليلة؛ {أياماً معدودات}. وهذا من رحمة الله -عز وجل بعباده-؛ حيث فرض على عباده أيماً قليلة يصومونها.
6. أن المشقة تجلب التيسير؛ {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر}؛ وذلك أنَّ المرض والسفر مظنَّة المشقة.
7. جواز الفطر للمرض؛ ولكن هل المراد مطلق المرض، وإن لم يكن في الصوم مشقة عليه؛ أو المراد المرض الذي يشق معه الصوم، أو يتأخر معه البرء؟ الظاهر الثاني؛ وهو مذهب الجمهور؛ لأنَّه لا وجه لإباحة الفطر بمرض لا يشق معه الصوم، أو لا يتأخر معه البرء.
8. جواز الفطر في السفر؛ لقوله: {أو على سفر فعدة من أيام أخر}؛ وللمسافر باعتبار صومه في سفره حالات ثلاث سبق ذكرها في الشرح.
9. أن السفر الذي يباح فيه الفطر غير مقيد بزمن، ولا مسافة؛ لإطلاق السفر في الآية؛ وعلى هذا يرجع فيه إلى العرف؛ فما عده الناس سفراً فهو سفر، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنَّ تحديده بزمن، أو مسافة يحتاج إلى دليل.
10. حكمة الله-سبحانه وتعالى- في التدرج بالتشريع، حيث كان الصيام أول الأمر يخير فيه الإنسان بين أن يصوم ويطعم؛ ثم تعين الصيام كما يدل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-.
11. أنََّ من عجز عن الصيام عجزاً لا يرجى زواله فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً؛ ووجه الدلالة أن الله -سبحانه وتعالى- جعل الإطعام عديلاً للصيام حين التخيير بينهما؛ فإذا تعذر الصيام وجب عديله؛ ولهذا ذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- أنََّ هذه الآية في الشيخ الكبير، والمرآة الكبيرة لا يطيقان الصيام، فيطعمان عن كل يوم مسكين8.
12. أنه يرجع في الإطعام في كيفيته ونوعه إلى العرف؛ لأن الله –تعالى- أطلق ذلك؛ والحكم المطلق إذا لم يكن له حقيقة شرعية يرجع فيه إلى العرف.
13. أن طاعة الله- تعالى- كلها خير؛ {فمن تطوع خيراً فهو خير له}، وأن معصيته كلها شر.
14. أن الأعمال الصالحة تتفاضل؛ {وأن تصوموا خير لكم}؛ وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛ فينبني على ذلك أن الناس يتفاضلون في الأعمال؛ وهو ما دل عليه الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والواقع؛ قال الله –تعالى-: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} سورة الحديد(10)، وقال تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} سورة النساء (95-96)؛ والنصوص في هذا كثيرة.
15. التنبيه على فضل العلم، وحملته؛ {إن كنتم تعلمون} 9. والأدلة في فضل العلم وأهله كثيرة جداً. والله أعلى وأعلم.
________________________________________
1 - الحديث أخرجه البخاري.
2 - انظر: البخاري ومسلماً.
3 - أخرجه البخاري ومسلم.
4 - أخرجه البخاري ومسلم.
5 - أخرجه مسلم.
6 - تفسير ابن كثير(1/200- 201).
7 - أخرجه البخاري ومسلم.
8 - أخرجه البخاري.
9- راجع : " جامع البيان في تأويل القرآن" لمحمد بن جرير الطبري(2/169- 190). ط: درا الإعلام - دار ابن حزم. الطبعة الأولى(1423هـ - 2002م). و" الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي(2/272- 290). الطبعة الثانية. "تفسير القرآن العظيم " للحافظ ابن كثير(1/199- 201). ط: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1424هـ- 2004م). و" فتح القدير" للشوكاني(1/277- 280). المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. مكة المكرمة. الطبعة الثانية. و" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لابن سعدي(1/143- 144). طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة. (148هـ). و" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" لأبي بكر الجزائري(1/160- 162). الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف(1414هـ). و" تفسير ابن عثيمين" المجلد الثاني.(/4)
الحلقات القرآنية .. نشأتها وتطورها
إعداد/ د. نصر سعيد
كلية القرآن الكريم ـ طنطا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «..ما اجتمع قوم في بيت من بيوت اللَّه تعالى يتلون كتاب اللَّه ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكَرَهم اللَّه فيمن عنده». [رواه مسلم 2699]
الحلقة القرآنية هي: اجتماع في بيت من بيوت اللَّه، أو في أي مكانٍ طاهرٍ مرضي، لتدارس القرآن الكريم مدة من الزمن.
نشأة الحلقات القرآنية وانتشارها
حلقة القرآن في غار حراء:
لعلَّ أول حلقة قرآنية تشَرِّف الكون بانعقادها كانت حين بزغ أول شعاع من أنوار الإسلام، لتُعقد هناك أوَّل حلقة قرآنية في الأرض: الحلقة «النور» بين الأمينين: أمين أهل السماء جبريل عليه السلام، وأمين أهل الأرض محمد صلى الله عليه وسلم ، ولتعلن بدء السنة الأولى من البعثة النبوية الكريمة.
روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث - وهو التعبد - فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود لمثلها، حتى جاء الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلتُ: ما أنا بقارئ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلتُ: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده».
إذن فقد كانت «اقرأ» هي أول كلمة افتتح بها ذلك اللقاء المبارك بين الأمينين، وكان «غار حراء» هو أول الأمكنة تشرفًا بذلك اللقاء، ثم تعددت أماكن اللقاء بعد ذلك، وتنوعت أزمنته وأشكاله، خلال ثلاث وعشرين سنة، هي مدة نزول الوحي.
فكان الصحابة يأخذون دَوْرَ النبي صلى الله عليه وسلم في الاتصالات للوحي، ويأخذ صلى الله عليه وسلم دور جبريل في تلقينهم ما نزل من عند اللَّه سبحانه، وكانت دارُ الأرقم بن أبي الأرقم من أُولى الأماكن التي تشرفت بهذا الفضل. [سيرة ابن هشام 1/253]
وانتشر النور بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطفقوا يتلقون القرآن من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يكتبونه في الصحف، ويحفظونه في الصدور، فكان من كُتَّاب الوحي: معاوية، وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، وكان من حُفاظ الصدور: ابن مسعود رضي الله عنه الذي حدَّث عن نفسه فقال: «أخذت من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سُورة لا ينازعني فيها أحد». [البخاري 5000]
حلقات القرآن بالمدينة:
أمَّا في المرحلة المدنية - وفي المدينة المنورة: طيبة الطيبة - فقد كان انتشار هذا النور أوسع، فأهلها هم الأنصار الذين فتحوا قلوبهم للذكر والتنزيل، وأسلموا أرواحهم فداءً له.
ولقد كان أول سفير للنبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم إليها: مصعب بن عمير رضي الله عنه، فقد اختاره صلى الله عليه وسلم مبعوثًا إليها قُبيلَ هجرته، يفقِّهُ أهلها في دين اللَّه، ويعقد فيها أولى الحلقات القرآنية مع أسعد بن زُرارة الخرزجي رضي الله عنه تاليًا على الناس ما معه من كتاب ربِّه، حَتَّى سمِّيَ عند أهلها بالمقرئ.
وزاد هذا النور انتشارًا بقدومه صلى الله عليه وسلم إليها، حيث تولى بنفسه مهمَّة الإقراء والتعليم لكتاب اللَّه تعالى، فقد روى أنس رضي الله عنه قال: «أقبل أبو طلحة رضي الله عنه يومًا فإذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم قائم يُقرئ أصحاب الصُّفَّة، على بطنه فصيلٌ من حجر يُقيم به صلبه من الجوع».
كما أثار توجيه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت اللَّه، يتلون كتاب اللَّه...» الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: «بلغوا عني ولو آية». هِمَمَ الصحابة وشَحَذَ عزائمهم في المسارعة إلى اكتساب هذا الخير ونشره، فطفقوا يعقدون حلقات القرآن الكريم، ويقرأ بعضهم على بعض، ويعلِّم بعضهم بعضًا آياتِ اللَّه سبحانه، حتى أن الأكبر منهم سنًا وسابقة ليعرض القرآن على مَن هو أصغر منهم، فقد رُوي عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - قال: «كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف ذات ليلة ونحن بمنى». [البخاري: 7323](/1)
وامتلأ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلقات الإقراء، يفتتحها النبي صلى الله عليه وسلم ويشرف على اختيار جِلَّة أصحابه لتوليها، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان أنصاريًا، قال: «كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل مِنا يعلمه القرآن، فدفع إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فكنت أُقرئه القرآن».
وقد افتتح رضي الله عنه حلقة للقرآن الكريم بين أهل الصُّفَّة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال في ذلك: «علمتُ ناسًا من أهل الصُّفَّة الكتابة والقرآن».
ويكفي دليلاً على سعة انتشار حلقات القرآن الكريم، وكثرة حفَّاظه من الصحابة في المدينة: إرسال النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة من هجرته المباركة سبعين من الصحابة - على الصحيح - كانوا يسمَّون بالقراء، إلى خارج المدينة لنشر القرآن وتعليمه، فقُتِلوا رضوان اللَّه عليهم عن آخرهم ببئر «معونة»، وقنت النبي صلى الله عليه وسلم قبل الركوع شهرًا يدعو على مَن قتلهم، ثم تركه لمَّا جاءوا تائبين مسلمين. [رواه البخاري 2999]
وقد أورد البخاري في صحيحه - بثلاث رواياتٍ - سبعة من الحفَّاظ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم هم: عبد اللَّه بن مسعود، وسالم - مولى أبي حذيفة - ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد بن السكن، وأبو الدرداء، رضي اللَّه عنهم جميعًا.
وهذا الحصر عن الإمام البخاري للسبعة المذكورين آنفًا، لا يلزم منه أن سواهم لم يحفظ القرآن الكريم ولم يجمعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، لا سيما وأنَّ الصحابة كُثرٌ، وقد تفرقوا في البلاد وحفظ بعضهم عن بعض. قال الإمام ابن حجر - رحمه اللَّه -: ولا يلزم من ذلك ألا يكون أحد في ذلك الوقت شاركهم في حفظ القرآن، بل كان الذين يحفظون مثل الذين حفظوه وأزيد، منهم جماعة من الصحابة.
وقال القرطبي: «وقد قُتل يوم اليمامة زمن الصدِّيق - فيما قيل - سبعمائة من القراء».
[تفسير القرطبي 1/73]
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العناية بالقرآن حفظًا وعلمًا وتعليمًا وعملاً لعلنا نكون من أهل الله وخاصته. آمين.
والحمد لله رب العالمين.(/2)
الحياء هو الحياة
إعداد/ صلاح عبد الخالق
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي
المصطفى، وبعد:
الحياء ملك الأخلاق الحميدة وسلطان الأخلاق الرشيدة، وسيد
الأخلاق المجيدة، وله ثمار عديدة، وحسنات فريدة، فهو مفتاح لكل خير وسعادة،
ومغلاق لكل شر وتعاسة، مفتاح لكل الطاعات، مغلاق لكل المعاصي والموبقات، مغلاق
للنار، مفتاح للجنات.
تعريف الحياء:
قال الحافظ ابن حجر: الحياء: خلق يبعث
صاحبه على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. [فتح الباري:
1/68]
علاقة الحياء بالحياة:
قال ابن القيم رحمه اللَّه: الحياء مشتق من
الحياة، والغيث يسمى حيًا - بالقصر - لأن به حياة الأرض والنبات والدواب وكذلك
سميت بالحياة حياة الدنيا والآخرة، فمن لا حياء فيه فهو ميت في الدنيا شقي في
الآخرة. [الداء والدواء: 96]
النظرة اللغوية لمعنى الحياء تشير إلى بعد آخر
هو العلاقة اللفظية الواضحة بين الحياء والحيا والحياة ؟ إذ الحياء مدد للفضائل
والقيم كما أن الحيا هو المطر يحيي الأرض وينشر الخير والخصب، وإذا كانت الحياة
تعني الحيوية والعطاء والنمو والتأثير فإن الحياء يعني ذلك كله بالنسبة للمنهج
الأخلاقي في كل أعراف البشر.
من فضائل الحياء:
للحياء فوائد حميدة، وفضائل
عديدة وثمار مديدة منها:
1 ـ الحياء مفتاح كل خير:
في الصحيحين: عن عمران بن
حصين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الحياء لا يأتي إلا بخير».
يقول ابن حجر رحمه
اللَّه: إذا صار الحياء عادة وتخلق به صاحبه يكون سببًا يجلب الخير إليه فيكون
منه الخير بالذات والسبب.
[فتح الباري: 539/10]
الحياء أصل كل خير وذهابه ذهاب
الخير أجمعه. [الداء والدواء 96]
2ـ الحياء مغلاق لكل شر:
في صحيح البخاري
(6120) عن أبي مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة
الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت».
قال الخطابي: الحكمة في التعبير بلفظ
الأمر دون الخبر في الحديث أن الذي يكف الإنسان عن مواقعة الشر هو الحياء فإذا
تركه صار كالمأمور بارتكاب كل شر. [فتح الباري: 10/540]
قال ابن القيم: خُلق
الحياء من أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا بل هو خاصة
الإنسانية، فمن لا حياء فيه فليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما
الظاهرة كما أنه ليس معه من الخير شيء. [مفتاح دار السعادة 227]
إن الحياء في
حقيقته شجاعة تملأ القلب فتمسك بتلابيب النفس حتى لا تنغمس في شهواتها وتتورط
في هواها وتنطلق تتعدى الحدود وتحطم القيود.
نلاحظ هنا: أن الحياء الحقيقي هو
الذي يغلق أمامك كل أبواب الشر ويفتح لك أبواب الخير.
3 ـ الحياء مفتاح لكل
الطاعات:
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا اللَّه، وأدناها
إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان».
وقد سمى الحياء من الإيمان؛
لكونه باعثًا على فعل الطاعة وحاجزًا عن فعل المعصية فإن قيل لِمَ أُفرد بالذكر
هنا ؟ أجيب بأنه - الحياء - كالداعي إلى باقي الشُّعَب - أي شعب الإيمان.
[الفتح: 1/68]
معنى ذلك أن الحياء الحقيقي يحفزك على فعل باقي شعب الإيمان
الكثيرة وكافة الطاعات.
4 ـ الحياء مفتاح محبة اللَّه تعالى:
عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن اللَّه تعالى إذا أنعم على عبد يحب أن يرى أثر
النعمة عليه ويكره البؤس والتباؤس ويبغض السائل الملحف ويحب الحيي العفيف
المتعفف».
[صحيح الجامع 1711]
فاللَّه تعالى يحب الحياء وبالتالي يحب أهل
الحياء ومن أحبه اللَّه تعالى صار سعيدًا في كل حياته وعند مماته وفي قبره ويوم
لقاء اللَّه تعالى.
5 ـ الحياء من مفاتيح الزينة والبهاء:
عن أنس رضي الله عنه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا
زانه». [رواه الترمذي (1974) وصححه الألباني]
وقال القرطبي: من الحياء ما
يحمل صاحبه على الوقار بأن يُوقر غيره ويتوقر هو في نفسه.
[الفتح 10/538]
6 ـ
الحياء من مفاتيح الأمن يوم القيامة:
في صحيح البخاري (660) عن أبي هريرة رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام
العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في
اللَّه اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني
أخاف اللَّه، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر اللَّه
خاليًا ففاضت عيناه».
نلاحظ في هذا الحديث أن قوة الحياء الحقيقية متوافرة
فيهم أجمعين، ويأتي منهم هذا الرجل العجيب الذي تعرض لفتنة عظيمة ألا وهي فتنة
النساء وما أدراك ما فتنة النساء؟! امرأة كاملة الأوصاف من مال وجمال ومنصب(/1)
تدعوه إلى الزنى، ومن العجب أنها مع الجمال والمنصب هي التي تدعوه إلى الفاحشة،
ولكن قوة الحياء من اللَّه تعالى تمنعه، ويقول: إني أخاف اللَّه، فكان الجزاء
من جنس العمل فأظله اللَّه في ظل عرشه يوم الفزع الأكبر.
قال القرطبي: قوله:
«إني أخاف اللَّه إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من اللَّه تعالى ويقين وتقوى».
[فتح
الباري 2/660]
7 ـ الحياء من مفاتيح الجنة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة».
[رواه الترمذي (2009)
وصححه الألباني]
نماذج من أهل الحياء:
1 ـ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم :
لقد كان
لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله
واليوم الآخر وذكر الله كثيرا [الأحزاب: 21].
في الصحيحين
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في
خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه.
العذراء: هي المرأة التي لم
تتزوج وهي شديدة الحياء لأنها لم تتزوج وتعاشر الرجال فتجدها حيية في خدرها
(سترها)، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أشد حياء منها. [شرح رياض الصالحين]
2 ـ نبي اللَّه
موسى عليه السلام:
في كتاب اللَّه عز وجل نرى هذا الموقف: فسقى لهما
ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي
من خير فقير (24) فجاءته إحداهما تمشي على استحياء
قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا
فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من
القوم الظالمين (25) قالت إحداهما يا أبت استأجره
إن خير من استأجرت القوي الأمين [القصص: 24- 26].
قال
ابن عباس رضي الله عنهما: سار موسى عليه السلام من مصر إلى مدين ليس له طعام
إلا البقل وورق الشجر وكان حافيًا فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه وجلس في
الظل وهو صفوة اللَّه من خلقه، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع وإن خضرة البقل
لترى من داخل جوفه وإنه لمحتاج إلى شق تمرة. [تفسير ابن كثير: 3/397]
فوجد
امرأتين فأحسن إليهما وسقى لهما الغنم وجلس يستريح في الظل يدعو اللَّه قائلاً:
رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير. فكانت إجابة
الدعاء سريعة، يقول تعالى: فجاءته إحداهما تمشي على
استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت
لنا، تمشي على استحياء مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة
النظيفة حين تلقى الرجال على استحياء، في غير ما تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا
إغواء، جاءته لتنهى إليه دعوة في أقصر لفظ وأخصره يحكيه القرآن بقوله: إن
أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا.
هذا الحياء علم
المرأة طاعة اللَّه تعالى، وعلمت عن موسى عليه السلام الأمانة، ولذلك قالت
المرأة لأبيها: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت
القوي الأمين [القصص: 26].
كيف نكتسب الحياء ؟
الحياء موجود في فطرة
الإنسان ويحتاج إلى أن ننميه في أقوالنا وأفعالنا، وذلك عن طريق:
جامع أوصاف
الحياء:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «استحيوا من اللَّه
تعالى حق الحياء، قال: قلنا يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله، قال: ليس ذلك،
ولكن الاستحياء من اللَّه حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، البطن وما حوى،
ولتذكر الموت والبِلَى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد
استحيا من اللَّه حق الحياء».
[صحيح سنن الترمذي وحسنه]
فالحياء من اللَّه
تعالى أن تحفظ الرأس وما وعى: يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات،
وحفظ البطن وما حوى: يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرم اللَّه ويتضمن
أيضًا حفظ البطن من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب، ومن أعظم ما يجب
حفظه من نواهي اللَّه عز وجل اللسان والفرج. [جامع العلوم والحكم 206]
حياء
يرفضه الإسلام:
هناك صور يرفضها الإسلام لأنها ليست من الحياء في شيء، منها على
سبيل المثال:
1 ـ الحياء في طلب العلم:
في صحيح مسلم عن سعيد بن المسيب أن أبا
موسى قال لعائشة رضي الله عنها: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي منك.
فقالت: سل ولا تستحي فإنما أنا أمك، فسألها عن الرجل يغشى ولا ينزل، فقالت عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنه إذا أصاب الختان الختان فقد وجب الغسل». قال مجاهد: لا يتعلم
العلم مستحي ولا مستكبر، وقالت عائشة رضي اللَّه عنها: نعم النساء نساء
الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.
[فتح الباري: 1/229]
2 ـ الحياء
من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن اللَّه ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك
إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن اللَّه عبدًا حجته قال: يا رب رجوتك وفرقت
من الناس». [رواه ابن ماجه وصححه الألباني]
معنى فرقت: خفت من الناس.
فإذا
رأيت مسلمًا يفعل منكرًا فلا يجوز أن تتركه يلقي بنفسه في النار بحجة أننا
نستحي أن ننكر عليه.(/2)
3 ـ الحياء من تَرْك مصافحة الأجنبية:
أن يصافح الرجل
المرأة الأجنبية زعمًا منه أنه استحيا منها لأنها مدت يدها لتصافحه!
قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : «لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل
له». [صححه الألباني في صحيح الجامع: 5045]
4 ـ خروج المرأة سافرة:
خروج المرأة
سافرة متبرجة كاشفة جسدها للأجانب فإذا نظر إليها رجل احمر وجهها وحاولت أن
تستر جسدها، هذا ليس من الحياء في شيء، وإنما الحياء أن تلبس حجابها وتستر
جسدها.
والله ولي التوفيق.(/3)
الحياة الدنيوية لصفوة خلق الله محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه
عبدالرحمن بن عبدالخالق
كانت الحياة الدنيوية لأشرف الرسل، وأكرم خلق الله، وخير البرية محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه، مثالاً وبرهاناً أن الله لا يختار الدنيا لأوليائه وأحبابه، وإنما يختار لهم الآخرة {وللآخرة خير لك من الدنيا}.
وكانت كذلك سلسلة متواصلة من الاختبارات والابتلاءات.
فقبل الرسالة نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في أسرة فقيرة فقد مات أبوه قبل أن يولد، ولم يترك له من الميراث إلا أمة هي أم أيمن رضي الله عنها.
وقد عانت أمه حتى وجدت مرضعاً له، وبقي في كفالة جده عبدالمطلب ثم لم تلبث والدته حتى توفيت وهو طفل صغير، ثم تبعها جده عبدالمطلب، فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى كفالة عمه أبي طالب، الذي كان فقيراً، كثير الأولاد، وهكذا نشأ النبي يتيماً فقيراً قد من الله عليه بالمأوى عند جده، ثم عمه. قال تعالى {ألم يجدك يتيماً فآوى}.
وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام أجيراً في رعي غنم الأثرياء من أهل مكة فقال: [رعيت الغنم على قراريط لبعض أهل مكة]، والقيراط عمله صغيرة في قيمة الفلس.
ولما شب لم يكن له مال ليتاجر فيه كأهل مكة الذين كانت التجارة هي عملهم الأساس. فإن مكة ليست ببلد زرع، وإنما عيش أهلها على التجارة واستجلاب البضائع، والبيع في أسواق الحج.. وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالتجارة مرات قليلة في مال خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. وكان أهل مكة يقارضون بأموالهم. (والقراض أن يعطي رب المال ماله للعامل ليتاجر فيه ثم يكون الربح بينهما وإذا وقعت الخسارة وقعت في المال وخسر العامل عمله)، وهذه المعاملة التي كان أهل الجاهلية يتعاملون بها جاء الإسلام وأقرها، فهي صورة من صورة الشركة في الإسلام.
ولم يتوغل النبي في التجارة، ولا كانت هماً له.
وبعد أن تزوج من خديجة رضي الله عنها، انصرف إلى العزلة والتعبد، فكان يأخذ زاده من طعام وشراب، ويخرج خارج مكة، وقد اختار جبل حراء الذي وجد كهفاً (مغارة) في أعلاه سكنها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يمكث فيها الليالي ذوات العدد حتى إذا فنى الطعام الذي معه، ونفذ الماء رجع إلى مكة مرة ثانية، ثم يكون من شأنه أن يتزود من الطعام والشراب لأيام أخرى يقضيها وحده في غار حراء.
ووجد صلى الله عليه وسلم في هذه الخلوة راحته وسعادته واطمئنان قلبه، وحببت إليه هذه الخلوة والابتعاد عن الناس، ومن كان في مثل هذه الحال فإن الدنيا لا تكون له على بال.
وكان هذا إعداداً من الله له ليحمل بعد ذلك ما لا تستطيع حمله الجبال.
وأتاه الوحي من الله، وحمله الله سبحانه وتعالى رسالته إلى العالمين، وأمره بإبلاغ دينه إلى الناس كافة في الأرض كلها.
وهذه الرسالة تبديل كامل لما عليه الأمم كلها من العقائد والنظم والتشريع والآداب والأخلاق، وفيها إكفار أهل الأرض كلهم: اليهود والنصارى والعرب المشركين والمجوس، وتسفيه لأحلامهم وحكم عليهم بالنار والعذاب والخسران هم ومن مضى من آبائهم إن ظلوا على ما هم عليه من الدين والخلق والسلوك والتشريع..
ومع ضخامة هذه المهمة وثقلها، وتكاليفها الباهظة فإن الله سبحانه وتعالى لم يضع تحت يد النبي صلى الله عليه وسلم كنزاً من المال ينفق منه، ولا وسيلة معجزة خارقة للعادة تحمله هنا وهناك ليبلغ رسالة ربه، بل ولم يرفع عنه السعي الواجب ليكسب عيشه وعيش أولاده، وكان صلى الله عليه وسلم قد رزق بولدين القاسم وعبدالله ماتا سريعاً، وبأربعة من البنات هن زينب،ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، عليهن السلام جميعاً ظللن في كنفه. والبنت ليست كاسبة.
وكان على النبي صلى الله عليه وسلم الذي حمل هذه الأمانة العظمى أن يسعى فيها وأن يجد ويجتهد، فانتهى بذلك عهد السكون والخلوة والسلامة من الناس والبعد عن شرورهم..
يوم الطائف!! وما لقي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم من ماله في هذا الوقت دابة يركبها، ولو حماراً يحمله إلى مكان بعيد عن مكة ليبلغ رسالة ربه، ولما أراد الذهاب إلى الطائف لم يجد إلا قدميه، وعندما رآه أهل الطائف وهم أهل الغنى والثراء، وقد أتاهم من مكة ماشياً، وليس معه أحد.. لا صديق، ولا مرافق، ولا خادم، يقوم بخدمته.. ثم يقول لهم بعد ذلك [أنا رسول رب العالمين]!!، استنكروا هذا جداً، ولم تتقبل عقولهم المريضة، ونفوسهم الخسيسة أن يكون هذا الذي أمامهم وهو على تلك الحال من الضعف والفقر هو رسول الله حقاً وصدقاً، إذ كيف يكون رسول الله خالق الكون الذي يكلفه بالبلاغ للناس جميعاً، ولا يضع له ولو ردابة في الخدمة ليبلغ عليها رسالة ربه!!(/1)
وكان من شأنهم ما قصه النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قائلة: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: [لقيت من قومك ما لقيت!! وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذا عرضت نفسي على ابن عبدياليل بن عبدكلال، فلم يجبني إلى ما أردت -فانطلقت وأنا مهموم- على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب -وهو المسمى بقرن المنازل- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم!! فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد، ذلك!! فما شئت؟! إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين - أي لفعلت، (والأخشبان هما جبلا مكة، أبو قبيس والذي يقابله وهو قعيقعان) - قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئاً].(متفق عليه) .
النبي صلى الله عليه وسلم يستدين ثمن الراحلة التي يهاجر عليها إلى المدينة:
ولما أذن الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة بعد أن أجمعت قريش أمرها على قتله، رأت أن هذا هو السبب الوحيد الذي يمكن أن يوقف دعوته، وأن نفيه خارج مكة أو حبسه فيها، لن يمنع من انتشار دعوته في مكة وخارجها.. أقول لما عزم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج مكة وأذن الله له في الخروج منها لم يكن يملك راحلة يركبها، وهو رسول رب العالمين، الذي له ملك السموات والأرضين، ولما عرض النبي صلى الله عليه وسلم أمر الهجرة على الصديق أبي بكر رضي الله عنه، فرح أبو بكر بذلك فرحاً شديداً، وكان يعلم أنه لا بقاء له والرسول صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أن اشتد على المسلمين الأذى وهاجر عامتهم إلى الحبشة، ولم يبق إلا من له عهد مع قريش أو عصبة قوية تحميه، وكان أبو بكر قد اشترى راحلتين من ماله، وكان تاجراً ميسوراً فعرض على النبي صلى الله عليه وسلم إحداهما ليهاجر عليها فقبلها النبي بثمنها.
الصديق يرتب أمر الهجرة خطة ومالاً:
ورتب أبو بكر شأن الهجرة كله، الرواحل، والزاد، ودليل الطريق (عبدالله بن أريقط) وكان غلاماً للصديق، والاختفاء في نواحي مكة حتى يخف الطلب ويأمن الطريق، وكيفية وصول الزاد إليهما، ومعرفة أخبار قريش مدة الاختفاء حتى يخف الطلب، فقد كان رأس أبي بكر مطلوباً مع رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قريش جعلت مائة من الإبل لمن أتاها بالنبي أو صاحبه حياً أو ميتاً.
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على الصديق الذي لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الأرض كلهم ناصر بعد الله إلا هو، الذي رافقه في هجرته جاعلاً حياته مع حياة النبي صلى الله عليه وسلم وروحه دون روحه. قال تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذي كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا...} الآية
وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لا يحمل مالاً ولا متاعاً، والراحلة التي حملته كانت من مال الصديق ديناً على النبي صلى الله عليه وسلم، وحق للنبي صلى الله عليه وسلم قبل موته أن يذكر الصديق مشيداً بمنزلته وفضله فيقول: [إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن] (متفق عليه) .
النبي صلى الله عليه وسلم ينزل المدينة بلا مال أو متاع:
ويسكن النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وينزل أولاً ضيفاً على أبي أيوب الأنصاري، ثم يعرض شراء أرض المسجد وكانت خربة فيها قبور لبعض المشركين، وبقايا نخل لا يثمر، فيقول أصحاب الأرض: والله لا نقبل ثمنها إلا من الله!!
فيكون وقفهم هذا أعظم وقف في الإسلام (المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم) ويشتري النبي بجوار المسجد أرضاً يقيم فيها حجرات لزوجاته. كانت الحجرة لا تسعه قائماً يصلي، وتسع امرأته. قالت أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها: (كنت أنام في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي من الليل فإذا أراد أن يسجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما). (متفق عليه) وهذا من ضيق المكان.
فهل تتصور الآن غرفة لا تسع مصل ونائم!!
أنس بن مالك أعظم هدية في الإسلام:
ولما سكن الرسول بيته جاءته أم سليم الأنصارية الصحابة العابدة الفقيهة الحصيفة كاملة الدين والعقل فأهدت له ابنها، وقالت: يا رسول الله هذا خادمك أنس!!، فكان أنس بن مالك رضي الله عنه خادم النبي صلى الله عليه وسلم لعشر سنين!! لم يعرف خادم في الدنيا أشرف ولا أجل ولا أعظم منه فشرف الخادم بشرف المخدوم، وهل أجل وأعظم وأشرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو قدر لنا أن نرى خادم رسول الله لخدمناه لخدمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
منزل بلا أثاث أو رياش:(/2)
وعاش النبي صلى الله عليه وسلم في منزل لا يعرف الأثاث ولا الرياش، فلم يكن فيه بساط قط، ولا كان يستر حيطانه من الطين شيء من الأصباغ بل ولا تسويه بالملاط.
ولما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم الطائي وهو ملك طيء وسيدهم وحبرهم، وقد علق صليباً من الذهب في صدره، واستضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم ما يقدم لضيفه ليجلس عليه إلا وسادة واحدة من ليف وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لضيفه ليجلس عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض!! .
منزل بلا مطبخ ولا نار!!
ولم يعرف بيت النبي صلى الله عليه وسلم مطبخاً قط، ولا كان فيه فرن قط، وكان يمر شهران كاملان ولا يوقد في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم نار قط، وكان يعيشون الشهر والشهرين على الماء والتمر فقط.. قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كنا نتراءى الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلة في شهرين، ولا يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار!! قيل: فما كان طعامكم. قالت: الأسودان: التمر والماء!!!
ولم يكن يجد آل محمد صلى الله عليه وسلم التمر في كل أوقاتهم، بل كان رسول الله يمضي عليه اليوم واليومين وهو لا يجد من الدقل (التمر الردئ) ما يملأ به بطنه.
ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبز الأبيض النقي قط، وسأل عروة بن الزبير رضي الله عنه خالته عائشة رضي الله عنها هل أكل رسول الله خبز النقي؟ فقالت: ما دخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً قط، ولا رأى رسول الله منخلاً قط.. قال: فكيف كنتم تأكلون الشعير؟ قالت: كنا نطحنه ثم نذريه (مع الهواء) ثم نثريه ونعجنه!! ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشبع من خبز الشعير هذا يومين متتالين حتى لقي الله عز وجل!!
قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتالين حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت تمر الأيام على أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجدون ما يأكلونه لا تمراً ولا شعيراً إلا الماء.
ولقد جاء للنبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أنا ضيفك اليوم!! فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى تسع زوجات عنده، ترد كل واحدة منهن (والله ما عندنا ما يأكله ذو كبير!! والمعنى من طعام يمكن أن يأكله إنسان أو حيوان) فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أخذه إلى المسجد عارضاً ضيافته على من يضيفه من المسلمين فقال: [من يضيف ضيف رسول الله!!]
وأقول: الله أكبر!! رسول رب العالمين، ومن له خزائن السموات والأراضين لا يوجد في بيته خبزة من شعير أو كف من تمر يقدمه لضيفه!!
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد الذي أرسلته رحمة للعالمين وسيداً للبشر أجمعين، وأعليت ذكره في الأولين والآخرين، واحشرني تحت لوائه يوم الدين.
وعاش النبي صلى الله عليه وسلم حياته لم يجلس في طعامه على خوان قط، ولا أكل في (سكرجة) قط (السكرجة: هي الصحون الصغيرة) ولم يعرف لا هو ولا أصحابه المناديل التي يجفف بها الأيدي بعد الطعام قط.
هذه ثياب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
وكان عامة أصحابه لا يجد أحدهم إزاراً ورداءاً معاً، بل عامتهم من كان له إزار لم يكن له رداء، ومن كان له رداء لم يكن له إزار!!
وكان يستحيون من رقة حالهم إذا جلسوا أو مشوا أن تظهر عوراتهم!!
وكان يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلوا وليس لإحدهم إلا الإزار أن يخالف بين طرفيه ويربطه في رقبته على عاتقيه!! حتى لا يسقط إزاره وهو يصلي!!
وفي عهد التابعين رأى أحدهم جابر بن عبدالله الأنصاري يصلي في إزار قد عقده من قبل قفاه!! وثيابه موضوعة على المشجب فقال له: تصلي في إزار واحد؟! فقال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك!! وأينا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
واختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيش حياته كلها متخففاً من الدنيا، مقبلاً على الآخرة، ولما فتحت له الفتوح، وكان له الخمس من مال بني النضير وخمس الخمس من خيبر، والخمس من فدك وكلها أراض ترد غلات كبيرة جعل كل ذلك في سبيل الله، وجاءته نساؤه يطلبن التوسعة في النفقة، فأنزل الله سبحانه وتعالى عليه {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً}
ولما نزلت هذه الآية على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم أن هذا الخيار قد يصعب على بعض زوجاته، وكان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة رضي الله عنها، وكانت في وقت نزول هذه الآية طفلة صغيرة لم تكمل الحادية عشرة من عمرها.
فبدأ النبي بها صلى الله عليه وسلم وقال لها: [يا عائشة إني عارض عليك أمراً فلا تستعجلي فيه حتى تستأمري أبويك!!](/3)
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن أبويها لا يمكن أن ينصحا لها بفراق النبي صلى الله عليه وسلم!! فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليها الآية وفيها تخيير بين الحياة مع النبي مع التقشف والتخفف من الدنيا، وترك التوسع فيها، وبين الطلاق. قالت: يا رسول الله أفيك أستأمر أبوي!! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة!!
الله أكبر... ما أعظم هذا!! هذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فتاة لم تبلغ الحادية عشرة من عمرها... أي فقه وفهم ورجاحة عقل ودين كانت تحمله هذه الحِصَان الرازن الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها. ثم قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: ولكن يا رسول الله لا تخبر أحداً من زوجاتك بالذي اخترته!!
ومرة ثانية أقول الله أكبر... عائشة أم المؤمنين التي اختارت الله ورسوله والدار الآخرة وآثرت الحياة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع الزهد والتقشف والتقلل من الدنيا يظهر فيها كذلك معاني الأنثى الكاملة، والزوجة الغيور المحبة لزوجها التي تريد أن تستأثر به (وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ، وترجو أن يسقط في الاختبار غيرها من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم!!
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: [لا تسألني واحدة منهن عما اخترتيه إلا قلت لها!!]
نعم المعلم أنت يا رسول الله!! فقد كنت كاملاً في كل نواحيك!! :
فأنت خير زوج لأزواجك، وخير صديق لأصدقائك، وخير صاحب لأصحابك، وخير شريك لشركائك، وخير جار لجيرانك، وفي النهاية خير رسول لأمته. فصلى الله عليك وعلى آلك وأزواجك الطيبين الطاهرين الذين صحبوك في هذه الحياة الدنيا على أتم صحبة، فكانت زوجاتك الطيبات الطاهرات خير النساء، ومن أجل ذلك جعلهن الله أمهات لكل مؤمن بمنزلة الأم الرؤوم الحنون. كما كنت يا رسول الله أباً لكل مؤمن بمنزلة الوالد الرؤوف الرحيم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهن}
وفارقرسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا يوم فارقها وهو في ثوبه الخشن، ومنزله المتواضع، عيشه الكفاف، ولم يترك ديناراً ولا درهماً بل مات وهو مدين بثمن ثلاثين صاعاً من شعير طعاماً لأهل بيته كان قد اشتراها من يهودي ورهنه النبي درعه!!
وأخرجت عائشة رضي الله عنها للناس رداءاً وكساءاً غليظاً فقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين!!
فسلام الله عليك ورحمته وبركاته عليك يا رسول الله في العالمين.
*********
موقع الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق
http://www.salafi.net/articles/article11.html(/4)
الحياة الطيبة للشيخ نبيل العوضي
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته الى يوم الدين أما بعد جمعنا الله واياكم تحت ظله يوم لا ظل الا ظله واسأل الله العلي القدير أن يجمعنا واياكم في مستقر رحمته وغفر الله للمقدم ما قال..
الحياة الطيبة كل منا يريد ان يعيشها مللنا الهموم مللنا الغموم مللنا التعاسة مللنا الهون نريد ان نعيش حياة هي الحياة الطيبة الحياة التي من لم يدخلها لا يدخل جنة الاخرة نريد ان نعيش في الارض سعداء لان السعداء هم اهل السعادة في الاخرة (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها) ان في الارض وفي الدنيا جنة ان في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الاخرة أي حياة طيبة هذه؟ واي حياة تريد؟
سمعت برجل اسمه ابراهيم ابن ادهم فقير زاهد عابد لايملك في يومه ولا ليلته الا كسرة خبز يأكلها يوم من الايام كان في نهر دجلة من اهل بغداد كان يمشي في دجلة وبيده كسرة الخبز ومعه بعض اخوانه في الله يتمتعون ويمرحون وهو العابد الزاهد فوضع كسرة الخبز في النهر ثم اخذ ياكلها ثم قال لاصحابه والله والله اننا في عيش لو علم به الملوك وابناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف أي عيش هذا (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى) رجالكم نسائكم صغاركم كباركم أغنيائكم مرضاكم أصحائكم كلكم (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)
بعض الناس يظن السعادة ان يحصل على مليون او يسكن قصرا فارها وثريا بعض الناس يظن السعادة ان يركب تلك السيارة الفخمة الجديدة او يظن السعادة ان يتمتع فيزور دول العالم كما شاء ويتجول في الارض كما شاء ويذهب الى البلاد كما شاء وبعض الناس اسوأ من هذا يظن ان السعادة في الذنوب وفي المعاصي بأن يعاشر من يشاء ويفعل ما يشاء ويرى ما يشاء ويفعل ما يشاء مسكين ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة) نعم يعيش لكن أي حياة (فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى )
سمعت بأحد السعداء اسمه سعيد بن جبير اسم على مسمى سعيد وهو سعيد يوم من الايام بحث عنه الحجاج الظالم الثقفي قال: أرسلوا الى سعيد سمعنا أنه يتكلم فينا تابعي جليل فجاءه الرسول قال :يا سعيد الحجاج يريدك، قال: نمشي على بركة الله قال: ياسعيد اذهب الى أي طريق اهرب فإنني اعلم انه قاتلك _سيقتلك ياسعيد_ قال: ان تركتك فان الحجاج سيعلم انك قبضت علي وتخلفت عنك فسيقتلك ولكن خذني اليه يعني اموت ولا تموت انت
فدخل سعيد بن جبير على الحجاج فقال :له الحجاج من أنت؟ قال: أنا سعيد بن جبير قال: بل شقي بن كسير، قال: أنا كما سمتني أمي_ أي أنا سعيد بن جبير انظر الى الجرأة انظر الى الرجل الذي يعيش في الجنة وهو على الأرض_ قال :بل أنا كما سمتني أمي، قال: شقيت أنت وأمك، قال :الأمر ليس إليك، قال: إني سألك فأجبني ماذا تقول في؟ قال: أنت ظالم تنتهك الحرمات وتقتل بالظنة أي بالشبهة تقتل الناس قال: وماذ تقول في الخليفة؟ قال: هو أظلم منك وأشد جرما منك إنما أنت خطيئة من خطاياه ، قال: سأقتلك، قال :افعل ما تفعل ،قال :سأدخلك نارا تلظى، قال: لو علمت أن الأمر بيديك لعبدتك من دون الله لكن الأمر ليس إليك ،قال :أيه السياف ائت بالنطع والسيف اضرب عنقه فإذا بسعيد بن جبير يتوجهه الى القبلة فيقول قبل ان يقتل ( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) شوف الراحة شوف الطمأنينة شوف الحياة الطيبة رجل يقتل ويقرأ القرآن رجل السيف على رأسه ويتلذذ بالقرآن ويستحضر القرآن هذا أعظم ( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض وما أنا من المشركين )
قال :الحجاج اصرفوا وجهه عن القبلة حولوا وجهه عن القبلة فحولوا وجهه فقال (فأينما تولوا فثم وجه الله ) قال اجعلوا وجهه الى الأرض فقال ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى )
قال: الحجاج تبا لك ما أحضرك للقرآن كلما جعل له شيئا جاءه بآية من القرآن فقال للسياف اضرب عنقه فقتل لكنه مات قتل ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون )
يقولون:الحجاج منذ أن قتل سعيد بن جبير أخذ يتألم أخذ يتعذب لاينام الليل يتقلب على الفراش يقول أحد أصحابه يأتيني بالليل يمسك رجلي وهو يقول أدركني ابن جبير أدركني ابن جبير فمات الحجاج بعد أيام قليلة بعد أن مات رآه أحد أصحابه في المنام قال ماذا فعل الله بك يا حجاج؟ قال قتلني بكل مسلم قتلته قتلة وقتلني بسعيد بن جبير 70 قتلة ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)
اسمع الى السعداء لتعرف ماهي الحياة الطيبة؟ تظن أخي الحبيب أن الحياة الطيبة بسكنى القصور أو معاشرة النساء أو بلعب المباريات أو بقضاء الأوقات على الأفلام والمسلسلات أو تظن الحياة الطيبة بسماع الأغاني أو العشق أو الغرام أو الحب لا وربي الحياة الطيبة أن تصلي ركعتين آخر الليل فتدمع عيناك وتخر العين لله عز وجل(/1)
سمعت برابعة العدوية يقول أحدالناس دخلت عليها لأسلم عليها يوما من الأيام يقول طرقت الباب ودخلت فوجدتها ساجدة تتعبد ربها يقول فانتظرت يقول فرفعت رأسها فوجدت موضع السجود قد انتقع بالدموع والماء يقول من كثرت الدموع اتجاه السجود موضع السجود يقول كله قد تبلل من كثرت البكاء يقول فخففت صلاتها علمت ان رجلا دخل يقول فلما انتهت من صلاتها قالت: يابني (كبيرة) يابني ألك حاجة؟ تريد شيئا؟ يقول فقلت لها :لا والله ياأماه جئت أسلم عليك فقط يقول فبكت أمامي ثم قالت: اللهم سترك اللهم سترك اللهم اعفو عنا اللهم اعفو عنا يقول فخرجت وتركتني ( من عمل صالحا) تقول تبكي تعيسة لا والله سعيدة .. تبكي .. مهمومة؟
يا اخي الحبيب هي اسعد الناس واكثر الناس انشراحا للصدر من يبكي من خشية الله ومن تدمع عيناه ومن يسجد آخر الليل ومن يقوم يصلي والناس نيام هؤلاء أسعد الناس في الأرض وان كانوا أفقر الناس (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)
سمعت بشاب اسمه عتبة الغلام شاب صغير يقولون كان يصلي في الليل فيبكي دوما كشير البكاء يوم من الايام كان ياكل كسرة خبز يابسة ياكلها ثم قال لاصحابه قال ياقوم كسرة وملح في هذه الدنيا حتى نهنأ في الدار الاخرة يا أخي الحبيب مهما جوعت فان كسرة الخبز تسد الجوع مهما حصل لك فان شربة ماء تسد الظمأ إذن لم تطمع الى ما هو أكثر ولم يتحرق القلب على ملذات الدنيا وملهياتها اسمع الى ما يقول الشاعر وتأمل حال الناس
رغيف خبز يابس تأكله في زاوية
وكوز ماء بارد تشربه من صافيه
ومصحف تقرأه مستندا لسارية
هو النعيم كله والعفو ثم العافية
كل النعيم كسرة خبز وشربة ماء وتقرأ القرآن فقد حزت على الدنيا بحذافيرها من بات آمنا في سربه معافا في جسده يأتيه قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها ( وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) عجيب أمر بعض الناس عنده بيت يسكن فيه عنده سيارة يركبها عنده خادم يخدمه عنده قوت أيام طويلة عنده زوجة عنده أولاد ويقول نصبر على قدر الله ونرضى على ما كتبه الله علينا ونسأل الله العفو والعافية غيرنا غيرنا يعيش ونحن لا نعيش انظر الى كفر نعمة الله عز وجل انت ملك من الملوك
قيل لأحد السلف عندي خادم وعندي مركب وعندي بيت وعندي طعام هل حصلت على النعم؟ قال أنت ملك من الملوك اسمع الى ما يقول أحدهم
آنست بوحدتي ولزمت بيتي
تريد حياة طيبة اسمع النصيحة تريد أن تشعر براحة والناس هذه الأيام خصوصا هذه الأيام يحسون بالهزيمة والهوان والذل والحزن لاتحزن يا عبدالله تريد ان تشعر بانشراح صدر اليوم ابدأ اجلس ساعة في المسجد لوحدك افتح المصحف اقرأ القرآن بتدبر انسى الدنيا بما فيها اشغالك ملذاتها تلفاز الأخبار السياسة أحوال الأمم اترك هذا كله وراء ظهرك جرب ساعة إما بعد الفجر أو قبل الفجر الليلة أو غدا بين المغرب والعشاء أو بعد العصر أو قبل الغروب اجلس ساعة في بيت من بيوت الله وأنسى الدنيا بأمتها اقرأ القرآن ولتدمع العين واخشع من ذكر الله وسبح واستغفر ثم سل نفسك هل وجدت طيب الحياة أو لم تجدها يقول أحدهم
آنست بوحدتي ولزمت بيتي
فدام لي الهنا ونمى لي السرور
وأدبني الزمان فلا أبالي
أسار الجيش أم ركب الأمير
وبعض الناس يدخل أنفاه في كل شئ همه الشاغل مجالس اللغو ساعات تضيع من عمره في أي شئ تضيع في اللغو تضيع في الدنيا تضيع في أمور تافهه لا ينتفع بها ولا ينتفع بها لم يا أخي الحبيب ثم يسأل يا شيخ صدري ضاق نفسي مهمومه أصابني الغم أصابني الهم على قلبي الران أنت السبب يا عبد الله
سمعت بمغن المغني الأول عند العرب حصل على الملايين سكن القصور رغب بلقائه الملوك والرؤساء تعرف من هو ربما أدركتموه الهالك عبد الحليم حافظ هذا الذي لازال الناس الى اليوم يذكرونه ولازالت نسأل الله العفو و العافية لازال الميزان يجري عليه بسيئات الناس الذين يستمعون غنائه وموسيقاه هذا الرجل يكلم بالهاتف والمكالمة مسجلة يكلم أحد الممثلين يقول له: يا فلان اني سائلك سؤالا فأجبني بصراحة؟ مغن مع ممثل قال: تفضل ،قال :هل شعرت في حياتك يوما بالسعادة هل أحسست بالراحة يوما من الأيام هل تحس بالطمأنينة ؟ فأجاب الممثل تريد الصراحة؟ قال: نعم، قال: والله أنا أضحك وأضحك الناس وأمتع الناس لكن في حياتي وأشعرت بالسعادة ، فرد المغني حافظ قال: والله أنا منذ سنوات من عمري ما أحسست بالسعادة أبدا(/2)
يحدثني أحد المغنين يوما يقول لي: يا شيخ أحد الملحنين عفوا المشهورين عندنا يقول لي يا شيخ والله النوم لا انامه الا بحبة منومة يقول والذي نفسي بيده يقسم يقول والله أولادي لا أشتهي الجلوس معهم بيتي كرهته حياتي مللت منها قلت له يا فلان أنت فقير قال عندي أموال لا أعرف عدها ولا أعرف حسابها لو أردت أن أسكن القصور يقول أسافر بطائرات خاصة وأجلس مع من شئت وأفعل ما شئت ولكن نفسي ضاقت علي الارض بما رحبت ( فلا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا) نعم لا تغرنك القصور ولا سيارتهم ولا أموالهم ولا قصورهم ولا فراشهم ولا نسائهم يا عبد الله اسمع للحديث ( لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ) ( والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما)
تعرف من اسعد الناس اهل الذكر تريد الحياة الطيبة لا يزال لسانك رطبا بذكر الله كان اسعد الناس عليه الصلاة والسلام ينام على حصير وحشو فراشه ليف وكان يربط حجرين على بطنه من شدة الجوع وكان يبكي يقول بلال دخلت عليه ليلة استئذنه بصلاة الفجر يا رسول الله الصلاة صلاة الفجر يقول فوجدته جالسا يبكي بأمي هو وأمي أتظن أنه كان تعيسا أتظن أنه خرج من الدنيا ولم يشعر بالسعادة كان أسعد انسان وشرح الله صدره وعاش أجمل حياة تعرف أي حياة ( الذين ءامنوا وتطمئن فلوبهم ) رموا على رأسه سلا الجزور ضربوه فشجوا وجهه وكسروا رباعيته رموه بالحجارة أدموا عقبيه حاصره في الشعب جاع فربط الحجر تبعوه الى المدينة آذوا بناته آذوا زوجاته قذفوا زوجته عائشة فعلوا فيه ما فعلوا ومع هذا كان أسعد الناس على وجه الأرض ( أما ترضى ياعمر أن تكون لهم الدنيا وتكون لنا الآخرة)
اتصلت علي شابة ليست المرة الأولى والذي نفسي بيده مرات كثيرة يتصلون علي اناس والغريب انهم يعيشون معنا في بلاد المسلمين تعرف ماذا يريدون ؟ يريدون فتوى في أي شئ ؟ تريد أن تعرف أي شئ؟ يريدون فتوى أن يقتلوا أنفسهم وينتحروا وأنا أقنعهم أن الأمر حرام وان من انتحر مصيره جهنم خالدا فيها والانسان يتقي الله وليذكر ربه تعرف لم لأنهم يعيشون في عذاب أي عذاب نفسي هم وغم وقلق أنصحهم بالاستغفار أنصحهم بالصلاة أنصحهم بالقرآن والله من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا اسمع ما يقول الله (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) طيب لو مات النبي (وماكان الله معذبهم وهم يستغفرون )
تعرف فساد الكون من أي شئ خراب الكون من أي شئ وفساد العالم من أي شئ وهذه الفتن والكوارث والحروب والمآسي تعرف من أي شئ من الذنوب من المعاصي ذنوب الناس ومعاصي الناس هم سبب الكوارث اليوم على الارض ( مانزل بلاء الا بذنب وما رفع الا بتوبة ) ويا عبدالله لا تغرنك الدنيا عش الليلة أجمل حياة نصيحة قاطع الليلة الفضائيات من أول ما بدأت الأزمة كنت أنصح الناس أقول لهم :يا قوم صرنا نسمع الأخبار ونتتبع القنوات الفضائية أكثر من قراءة القرآن أليس هذا بصحيح ؟
أغلب الشباب قالوا: نعم ، قلت: اتقوا الله في أنفسكم تريدون التحليلات السياسية في القرآن تريدون ماذا سيحصل للناس؟ في القرآن لا بأس بتتبع بعض الأخبار لكن تصبح همنا الشاغل ويصبح بعض الشباب يسهر على القنوات الفضائية الأخبار وينام عن صلاة الفجر ونريد النصر ونريد العزة ونريد الغلبة لهذه الأمة اذا كان خيار الناس ينامون عن صلاة الفجر أي أمة هذه واي عزة لهذه الامة ولهذا قال الرب ( قل هو من عند أنفسكم ) العيب فيكم والخراب موجود بينكم والضعف نحن سببه لا ننظر الى غيرنا وننسى أنفسنا كما قال الشافعي
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير جرم
ولو نطق الزمان بنا لهجانا
اعرابي انظر الى النفوس الطيبة النفوس الزكية اعرابي سئل ما طعامكم ؟ ايش تاكلون ؟ الان لو سألتك ماذا تتغدى؟ وما عشائك وما افطارك ؟ كل مل لذ وطاب أليس كذلك ناكل الذ الطعام ونشعر بالهموم ليش لم ؟ نذهب الى احلى والذ المطاعم ناكل ما نشتهي ونشرب ما نشتهي والهم يراودنا والقلق يتبعنا وضيق الصدر يشتكي منه الناس لم؟ تعرف لم يا عبد الله اسمع للاعرابي اسمع للقناعة قيل ما طعامكم قال الشعير نحن ناكل الشعير فقالوا له وهل في الشعير لذة الشعير تأكلون هذا طعام هل فيه لذة ؟ قال شعير مع العافية ألذ الطعام صحة مع الشعير هذا ألذ الطعام
وسئل الأحنف يوما وقد روي يأكل خبزا يابسا وزيت وماء أخي الحبيب هؤلاء صالحون وانظر لطعامهم فقيل له أما لك أيها الأحنف غير هذا الطعام ؟ما عندك غيره ؟ فقال :رحمه الله وهل هناك طعام خير من هذا؟ في طعام أحسن من هذا ؟ خبز من العراق وزيت من الشام وماء من الفرات وعافية فوق هذا وتريدون خيرا من هذا
خبز وماء وزيت وكسوة وبويت
في صحة هي عندي أجل ما قد رأيت(/3)
نعم القنوع لايبالي لايفكر بالقصور لا يهتم بالملايين الحمد لله عايشين غدا العلم عند الله ورزقه على الله اذا جاء الغد وكنا أحياء يصير خير لا لا تفكر كيف سأعيش بعد خمس سنوات وماذا سأفعل بعد 20 سنة وماذا سأكل بعد 50 سنة وأولادي وأحفادي كيف سيعيشون وهل تضمن الحياة أنت وأولادك وأحفادك يا عبد الله صار الناس تعيش هم المستقبل وحزن الماضي وقلق في الحاضر كل هذا سبب لهم تعاسة ( يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ) تعرف انك غني يا عبد الله عندك ثروة لا تقدر بثمن تريد أن أخبرك أي ثروة عندك لو عرض عليك أن يسلب عقلك وتعطي آلاف المليارات من الدنانير من الريالات فقط نعمة العقل نسلبها وتعطى ألاف الملايين من الأموال هل تقبل ؟ لا أظن عاقلا يقبل لو قيل لك عيناك تسلبان وتعطى جبالا من الذهب تقبل ؟ لا أظنك ... تملك أنت ألاف الملايين وعندك أغلى من جبال الذهب لو قيل لك نعطيك الأرض بما ملئت يا قوت ودرر وذهب وفضة نعطيك الأرض بما ملئت بشرط واحد نقطع لسانك نأخذ لسانك منك لا تتكلم أتقبل يا عبدالله؟ أرأيت النعم التي عندك ( يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ) سمعت بثابت البناني أحد العباد الزهاد ثابت البناني رحمه الله كان بكاء كان كثير ابكاء يقول عن نفسه يوما كابدت الصلاة 20 سنة ، 20 سنة أصارع نفسي في الصلاة اخشع فيها أتلذذ بها يقول ثم تنعمت بها 20 سنة أخرى وجعلت قرة عيني في الصلاة
شفت أحوال الناس في الأزمة الماضية هذه الأيام منهم من اضطرب ومنهم من هلع ومنهم من جزع منهم من يأس منهم من أصابه الوهن والقنوط إلا صنف واحد من الناس تعرف من هم أهل الله ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ) الا صنف تعرف من هم ( إلا المصلين )
سمعت ببكر بن عبد الله المزني شوف السعداء شوف الذين عاشوا حياة طيبة كان من بكائه جيرانه يسمعون بكائه بكر بن عبد الله معروف بكاء ودعاء وخضوع وخشوع وصلاة يقول أحد الناس نمت بعد وفاة رجل اسمه عصام الجحدري بعد وفاته بسنتين نمت يقول فرأيت بالمنام تلك الليلة بعد سنتين من وفاة عصام يقول فرأيت بالمنام عصام الجحدري فقلت له سبحان الله ألم تمت؟ في المنام هذا قال نعم نحن أموات فقلت له ماذا صنع الله بكم ؟ ايش حصل لكم بعد الموت فقال له إنا والله في روضة من رياض الجنة تحن الآن في روضة من رياض الجنة ثم قال أنا ونفر من أصحابي في القبر أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها عند بكر بن عبد الله المزني كل أسبوع فقلت له تجتمعون بأجسادكم قال لا نحن أموات لكن أرواحنا تجتمع عند بكر بن عبد الله المزني
أرأيت الى الصالحين (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)
أخي الحبيب دعك من الناس قلل من مجالس اللغو اترك بعض أمور الدنيا اترك المباح ابدأ من اليوم ضع لنفسك جدولا خمس صلوات لا يؤذن المؤذن الا وأنا في المسجد تستطيع؟ تستطيع أن تفعلها سعيد بن المسيب بكت ابنته قبل الموت قال يا بنية لم تبكين قالت أبكي عليك قال والله منذ 40 سنة ما أذن المؤذن في مسجد النبي الا وأنا في المسجد تستطيعه يا عبد الله ( الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) تستطيع يا أخي الحبيب أن تجرب كل ليلة قبل الفجر ركعتين من اليلة ابدأ كل ليلة قبل الفجر ركعتين وأوتر جرب يا عبد الله مرة أو مرتين ما تريد السعادة ما تريد الراحة ما تريد اللذة لذة الحياة لذة العيش ما تريد؟ الحياة قصيرة ما تريد أن تعيش هذه الحياة القصيرة بسعادة وانشراح ولذة جرب اجلس قبل غروب الشمس في المسجد وسبح واذكر الله عبد الله بن المبارك كان يفعلها كان يجلس كل ليلة قبل غروب الشمس من العصر الى الغروب يجلس في المسجد لا يكلم أحدا هذه مصيبتنا حتى وان جلسنا في المسجد بعد الفجر نتسامر في الدنيا حتى وان مكثنا في المسجد نتحدث في الدنيا اترك الدنيا يا عبد الله الى متى ؟؟ يمرض القلب بذكر الدنيا الى متى؟ حتى ونحن في بيت الله نتذكر الدنيا يقول عبد الله بن المبارك كان يفعل هذا ولهذا عبد الله بن المبارك ليلة من الليالي لما انطفأ السراج وأشعلوا السراج وجدوه قد أخضلت لحيته بالبكاء قالوا لم تبكي رحمك الله؟؟ قال والله تذكرت القبر وظلمته ( الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب )
حفصة بنت سيرين 30 سنة امرأة ليست رجل30 سنة ما خرجت من مصلاها الا لحاجة أو نوم تصدق هذا؟؟ أنا ما أقولك 30 سنة أنا أقولك جرب 40 يوما تدرك تكبيرة الاحرام وانظر ما الذي سيحصل جرب 40 يوما لا تفوتنك تكبيرة الاحرام
جرب أخي الحبيب رابط بين الصلوات(/4)
خرج النبي يوم من الايام بعد صلاة العصر صلى الصحابة فخرج عليه الصلاة والسلام فجاء قبيل الغروب فقال للصحابة ما الذي أجلسكم ؟؟ يعني بعد العصر جالسين الى المغرب في المسجد الصحابة يجلسون على أي شئ يجلسون يمزحون يجلسون يتذاكرون الدنيا لا يا أخي الحبيب جلوسهم ذكر عبادة صلاة قرآن تسبيح استغفار يقول فقال لهم النبي ما الذي أجلسكم ؟؟ قالوا يا رسول الله صلينا فريضة وننتظر الأخرى الله أكبر ثم تسألني تقول يا شيخ أنا ملتحي ومقصر الازار وأحافظ على السنن لكني ما أشعر بانشراح الصدر قل سل نفسك سل نفسك يا عبد الله ضيعنا هذه العبادات الخلوات ضاعت آخر الليل ضاع المكث في المسجد انتهى الا من رحم ربي حتى صار المكث في المسجد كالسجن عند بعض الناس أما البرنامج يجلسه أو موعد مع بعض الأخوة أو يقضي بعض أمور الدنيا في المسجد أما أن تجلس لوحدك في المصلى
كما كان الامام علي رضي الله عنه يقبض على لحيته يقولون فرأيناه في المصلى يبكي ويقول يا دنيا يا دنيا غري غيري طلقتك ثلاث طلقتك ثلاث فجاء النبي الى الصحابة ما الذي أجلسكم ؟؟ قالوا يا رسول الله صلينا فريضة وننتظر الأخرى قال ءالله ما أجلسكم الا هذا ؟؟ قالوا ءالله ما أجلسنا الا هذا يستحلفهم النبي ويقسمون مرة ثانية المرة الثالثة يستحلفهم النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة يقسمون فقال لهم النبي أشهدكم أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة يقول انظروا لعبادي _أين هم اليوم_ انظروا لعبادي قضوا فريضة وهم ينتظرون الأخرى ( في بيوت أذن الله ) أين موطن السعادة أين موطن الحياة الطيبة أين مركز الطمأنينة ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال )
والله لو كان المسجد متواضعا لو كان المسجد ليس فيه شئ من أمور الدنيا لا سجاد جميل ولا زخارف وهو أفضل ولا بعض ملذات الدنيا وملهياتها اجلس فيه وجرب يوم من الايام لوحدك وافتح المصحف وارفع يديك وسبح واستغفر ثم انظر ما الذي سيحصل بعد هذا ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله )
سبحان ربي كلنا نحفظ حديث ( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان الى الرحمن _نحفظها أليس كذلك_ سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) كم مرة ذكرت هذا الذكر اليوم ثم تسألني لم يضيق الصدر لم تكثر الهموم هل هللت اليوم 100 مرة هل قلت (لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير) قلتها 100 مرة
تريد انشراح الصدر لا يزال اللسان رطبا بذكر الله ( ولذكر الله أكبر) تب من الذنوب تخلص من السيئات يوم من الايام
يقول عبد الواحد بن زيد يقول مشيت يوما مع عتبة الغلام و عتبة الغلام له شأن خاص هذا ترجمته لوحده شئ عجب يقول مشيت يوما من الايام في ليلة باردة شديدة البودة مع عتبة الغلام يقول فإذا هو رأيته يعرق جسمه أصابه العرق واليلة باردة فنظرت ما بال الغلام ما بال عتبة الجو بارد والعرق يتصبب فسكت لكن العرق يزداد والوجه يتغير يقول فسألته قلت ياعتبة ما الذي حدث؟ مالذي جرى؟؟ ياعتبة مالك تعرق والجو بارد يقول فلم يجبني فلم يجبني يقول فأصررت عليه وأقسمت عليه أن يجيبني فقال عتبة قال ولا تخبر أحدا قال لن أخبر أحدا في حياتك قال تصدقني قال نعم قال والله والله لقد تذكرت ذنبا في هذا المكان (ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) تذكر تلك الليلة تريد الحياة الطيبة تخلص من الذنوب تخلص منها اندم ، اندم على كل ليلة رايت فيها منظرا في التلفاز حرمه الرب ولو كان بحجة أخبار بحجة برنامج يا شيخ نريد أن نتابع بعض الأمور فينظر الى النساء ويستمع الى موسيقى ويفعل ويفعل تذكر يا عبدالله هذا الذي يأتيك بالهم هذا الذي يصيبك بالغم هذا الذي بسبه ضاق صدرك تذكر ليلة نمت فيها ولم تستيقظ لصلاة الفجر تذكر تذكر يا عبد الله يوما جلست منزلا فزل اللسان واغتبت فلان أو فلانة تذكر يا عبد الله الله من كرمه من رحمته يخاطب النصارى الذين شتموا الرب جل وعلا النصارى الذين شتموا الله ونسبوا لله الولد وكفروا بالله جل وعلا يخاطبه الرب فيقول(أفلا يتوبون الى الله ويستغفرونه) الله أكبر أي رحمة أي رحمة من الله يدعو النصارى الى التوبة أرأيت الذين أحرقوا أهل الايمان وفتنوهم نسائهم رجالهم أطفالهم شيوخهم كل من ءامن بالله أحرقوه بالنار وهم يضحكون ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) أحرقوهم بالنار تعرف ماذا دعاهم الله إليه دعاهم الرب جلا وعلا الى التوبة (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ) تب الليلة تخلص تخلص نظرتك الى تلك الافلام والمسلسلات هي سبب الهم والغم محادثتك مع فلانة او محادثة فلانة لهذا الشاب هي سبب الهم والغم مجلس الغيبة والنميمة هي سبب الهم والغم تركك للصلاة وتأخرك عنها هي سبب الهم والغم والظلم(/5)
كما قيل ياربي حمدا ليس غيرك يحمد
يامن له كل الخلائق تصمد
الصالحون لباب عفوك أقبلوا
عافوا بحبك نومهم فتهجدوا
نعم قلها يارب يارب تب علي ( وعجلت إليك ربي لترضى )
تريد يا أخي الحبيب حياة سعيدة حياة طيبة لتدمع العين من خشية الله جرب مرة من المرات تبكي يقولون ثابت ابناني جاءه طبيب فقال له وقد أصابه العمش عشيت عينه فقال له يا ثابت عينك ستذهب ستصير أعمى قال له عالجني أنت طبيب قال أعالجك بشرط واحد قال ما هو الشرط قال أن تكف العين عن البكاء قال سبب العمى البكاء يا ثابت فقال ثابت اذن دعني وشأني وما خير عيني ان لم تبكي من خشية الله وما فائدة عيني ان لم تبكي من خشية الله
سمعت بابن سيرين محمد ابن سيرين جيرانه نسمع كل ليلة بكائه واذا أصبح الصباح نسمع ضحكه بكى من خشية الله فقذف الله السرور في قلبه انظروا الاخلاص بكائهم بينهم وبين أنفسهم هكذا كان عمر على وجهه خطان أسودان من البكاء ( ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا )لا تظن أن أولئك المغنين والمطربين والممثلين واللاعبين الذين هجروا القرآن وتركوا الذكر وصدوا عن طاعة الله وهم يضحكون ويتمتعون ويلهون مع النساء مع الشرب مع السهرات مع الملاهي الليلية لا تظن أنهم سعداء أتعس الناس على وجه الأرض والله الذي لا اله الا هو رأيتم الصور في المعرض الذين قتلوا أو ماتوا وهم يتعاطون المخدر هل علمت شوف التعاسة شوف النكد شوف الهم شوف الغم أوصلهم الى أي حياة هل تصدق في رمضان الماضي رمضان المنصرم في ليلة السابع والعشرين من رمضان وهي أرجى ما تكون ليلة القدر ليلة السابع والعشرين من رمضان والناس يبكون والناس يقرأون القرآن والناس سدعون ( اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا ) والمسجد ملئت والناس تبكي والنس تستغيث أتعلم أن هناك شابا في رمضان الماضي كان في هذه الليلة ماذا يصنع ؟ كان يتعاطى المخدرات ولم يصلي لله ركعة في رمضان كله تعرف ماذا حصل شوف الاستدراج أمهله جل وعلا إلى ليلة القدر ربما يتوب ربما يستغفر ربما يرجع لكنه لم يرجع في ليلة القدر وهو يتعاطى المخدر قبض الله عز وجل روحه أي حياة يلقى الله عز وجل بها يوم القيامة يرى حاله ويرى جهنم أمامه ( يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي )
وفي نفس رمضان الماضي يحدثني شاهد عيان أثق به يقسم لي يقول والله يا شيخ كنت أصلي في الحرم النبوي في رمضان الماضي كنت أصلي في الحرم النبوي يقول والله ليس بيني وبين هذا الرجل الا أفراد معدودين يقول سقط في الصلاة في قيام الليل في ليلة 27 من رمضان يقول ذهبنا إليه حملناه فإذا هو قد فارق الحياة الدنيا أرأيت (فلنحيينه حياة طيبة) أخي الحبيب فكر أي حياة تريد أن تعيشها هل تريد أن تعيش فقط حالك حال الناس همه شغله أجمع الأموال أجمع الأرصدة أتزوج النساء أنجب الأولاد أسكن القصور فقط هذا همه
اسمع لمحمد بن واسع تعلم من هو محمد بن واسع هذا رجل صالح من العباد من البكائين ليس مثلنا أناس كانوا يبكون من خشية الله قبل موته تكاثر عليه الزوار يقول أحد أصحابه يقول دخلت فرأيت زواره قبل موته_ كثرة الذين عادوه عند الموت_ زاره قبل الموت فإذا منهم القائم ومنهم الجالس والناس تدعوا له والناس يبكون عليه يقول فجئت إليه فقلت له: يا فلان أبشر أبشر الناس تثني عليك خيرا الناس يدعون لك بالخير الناس يبكون عليك فبكى محمد بن واسع وهو يحتضر تعرف ماذا قال ؟؟ قال يافلان ما يغني عني هؤلاء ؟؟ إذا أخذ بناصيتي وقدمي يوم القيامة ثم ألقيت بالنار ما يغني عني هؤلاء ؟؟ ثم قرأ قول الله ( يعرف المجرمون ) شوف اتهام النفس (يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام ) تريد أن تعيش سعيدا ارضى بماقسم الله لك ان كنت مريضا ان كنت فقيرا ان كنت عقيما ان كنت عليك دين ان كنت قد أصابك هم وغم أرضى بما قسم الله لك تعش سعيدا يا عبد الله ( ما أصاب من مصيبة فبإذن الله ومن يؤمن بالله ) يرضى بقدر يرضى بما قسم الله له (ما أصاب من مصيبة فبإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) يشرح الله صدره و يرضى بما قسم الله له اصبر يا عبد الله على قدر الله بعض الناس يعيش حياة التعاسة يعيش وفي قلبه حقد على الناس يتذكر فلان أخطأ علي فلان تكلم علي فلان أخذ مالي فلان أخذ حقي ينام على فراشه ويتقلب على الفراش حقدا وغما وغلا على عباد الله المسلمين تريد أن تعيش سعيدا حياة طيبة انسى كل انسان أخطأ عليك
عالم من العلماء جاءوا اليه فقالوا يا فلان أيها العالم فلان يسبك ؟؟ شوف بعض النمامين لم تقول هذا الكلام اتركه00دعه قالوا للعالم فلان يسبك؟؟ فقال العالم وابتسم قال هذه أعراض تصدقنا بها منذ زمن ونحن قد عفونا عن كل من سبنا ليس من اليوم شوف النفس الطيبة شوف الحياة الهنيئة شوف الرجل السعيد لا يبالي بمن سبه أو شتمه00(/6)
عبد الله بن الزبير كان عنده مزرعة تعرفون عبد الله بن الزبير الزبير حواري رسول الله وهذا عبد الله بن الزبير كانت عنده مزرعة وعند مزرعته مزرعة أخرى لمعاوية بن أبي سفيان فدخل بعض عمال معاوية على مزرعة عبد الله بن الزبير
بغير إذن فغضب عبد الله بن الزبير بغير إذني فأرسل رسالة شديدة الى معاوية يا معاوية عمالك دخلوا مزرعتي فعنف بالكلام قليلا فقالوا لمعاوية ماذا ستفعل ؟؟هل سترسل له خطابا أشد؟؟هل ستعاقبه؟؟ يكلم الخليفة بهذا الأسلوب تعرف ماذا قال معاوية قال لا والله انظروا ماذا سأكتب له ، كتب له : يابن حواري رسول الله وابن ذات النطاقين فلان بن فلان عليك سلام الله ورحمته وبركاته اذا جاءك كتابي هذا فاعلم يا عبد الله أن العمال الذين دخلوا الى مزرعتك هم ملكك من اليوم ودوابي التي دخلت الى مزرعتك هي ملكك من اليوم ومزرعتي التي هي بقرب مزرعتك هي ملك لك منذ هذه اللحظة ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ) حياة سعيدة ليش تهتم لم تغتم فلان يسبني فلان يتكلم علي فلان يغشني فلان يأكل حقي يا عبد الله (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )
هذه طبيعة البشر البشر فيهم الظلم فيهم الجفاء فيهم القسوة فيهم الإعتداء فيهم كل هذا يا عبد الله البشر وصل شتمهم الى الله جل وعلا (يشتمني ابن ءادم وما ينبغي له ذلك ) البشر شتموا الرسل كما قال الرب جل وعلا ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا )
علي بن الحسين سمعت بزين العابدين يا حبذا لو تجعل لهذا الرجل محاضرة كاملة زين العابدين علي بن الحسين والله كلما أقرأ عنه قصصا هذا إنسان يعني حاله حال الناس أو ما الصفات التي يحملها حقا إنه من آل بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام ذرية بعضها من بعض تربية أبيه سيد شباب أهل الجنة علي بن الحسين جاءه رجل يوم من الأيام خرج من المسجد فجاءه رجل يسبه فثار الناس عليه فقال علي بن الحسين قال تعال تعال منع الناس قال دعوه دعوه قال: تعال، قال: ماذا تريد؟؟ الآن هو يسب علي بن الحسين قال : ماذا تريد؟؟ قال : يافلان ماستر عنك من أمرنا أكثر مما ذكرت _ عندنا من العيوب أكثر مما ذكرت _ ثم قال له : ألك حاجة نعينك عليها ؟؟ تريد شيئا؟ _ترى احنا مستعدين _ قال فأمر له بخميصة ألقاها عليه _ثيابا_ ثم أمر له بألف من الدراهم فقال الرجل أشهد بالله إنك من أولاد رسول الله ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم )
عبد الله سلم للقدر ، أكثر من ذكر الله عش سعيد عش مطمئنا دع الناس يتقاتلون على الدنيا ويكفيك جزء منها تتبلغ بها الى الله جل وعلا وحديث أن الصالحين لا يضحكون كلا لا بل الصالحين يضحكون بل ويمرحون بل ويلعبون بل يحصلون على زينة الحياة ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق )
كان النبي عليه الصلاة والسلام يضحك الصحابة عنده ويبتسم وكان يلعب مع أبنائه الحسن والحسين وكان يحمل الأطفال ويداعب بعضهم وكان يزور طفلا يسمى أبا عمير يقول له يا أبا عمير ما صنع النغير ؟؟ وكان يسابق زوجته عائشة وكان يحملها على كتفه تنظر الى أهل الحبشة يلعبون لكن اذا حل الليل واذا قام في الصلاة له خنين وبكاء كأزيز المرجل من البكاء
كان أصحابه يضحكون ويلعبون ويتبادحون بالبطيخ ويتسابقون ويفعلون كل شئ من المباح لكنهم اذا حقت الحقائق كانوا هم الرجال لكنهم اذا نادى الجهاد بهم هبوا الى الموت يستجدون رؤياه لكنهم آخر الليل رهبان بكائون خاشعون لكنهم اذا أذن المؤذن لا يعرفون شيئا عن الدنيا
عبد الله الطاعم الشاكر كالصائم الصابر
خذ من الدنيا بلغة تبلغك الى الله عز وجل والى الدار الآخرة وكن مطمئن النفس قرير العين 00ارضى بما قسم الله لك ، لا تحمل الغل والحقد في قلبك على المسلمين
الله الله بالخلوات ، اكثروا من قراءة القرآن اكثروا من الأذكار أذكار الصباح وأذكار المساء الأذكار المطلقة اكثر من الذكر يا عبد الله ، أكثر من قيام الليل أكثر من صيام النهار
تريد حياة مطمئنة (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)
أسأل الله جل وعلا أن نعيش هذه الحياة أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم
..................................................................
.............................
الصوت الإسلامي ...(/7)
الحياة الطيبة ؟
فضيلة الشيخ: محمد مختار الشنقيطي
.............................................
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي الصالحين والصالحات.
واشهد أن لا إله إلا الله وحده فاطر الأرض والسماوات.
و أشهد أن سيدنا ونبينا محمد رسوله المصطفى والمجتبى لخير الرسالات.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم تتفطر فيه الأرض والسماوات.
أما بعد …. فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وفي بداية هذا الحديث أسأل الله العظيم أن يجزي الأخوة الفضلاء الذين تسببوا في هذا اللقاء بخير وأفضل ما يكون به الأجر والجزاء.
وأسأله تعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعا مرحوما وأن يوفقنا فيه إلى القول السديد والعمل الصالح الرشيد.
أيها الأحبة في الله:
الحديثُ عن الحياةَ الطيبة هو الحديثُ الذي ينبغي أن يعيشه كلُ وحدٍ منا.
الحياةُ إما للإنسان وإما عليه، تمرُ ساعتُها ولحظٌاتها وأيامُها وأعوامُها تمرُ على الإنسان فتقودُه إلى المحبةِ والرضوان حتى يكونَ من أهل الفوز والجنان.
أو تمرُ عليه فتقوده إلى النيران والى غضب الواحدِ الديان.
الحياة إما أن تضحكك ساعةً لتبكيك دهرا، وإما أن تبكيك ساعة لتضحكك دهرا.
الحياة إما نعمةٌ للإنسان أو نقمةٌ عليه.
هذه الحياةُ التي عاشها الأولون، وعاشها الأباء والأجداد، وعاشها السابقون فصاروا إلى الله عز وجل بما كانوا يفعلون.
الحياةُ معناها كلُ لحظةٍ تعيشُها وكلُ ساعةٍ تقضيها، ونحن في هذه اللحظة نعيشُ حياةً إما لنا وإما علينا.
فالرجلُ الموفقُ السعيد من نظر في هذه الحياة وعرف حقها وقدرها فهي والله حياةُ طالما أبكت أناسً فما جفت دموعهم، وطالما أضحكت أناسً فما رُدت عليهم ضحكاتِهم ولا سرورُهم:
الحياة أحبتي في الله جعلها الله ابتلاء واختبارا، وامتحاناً تظهر فيه حقائقُ العباد ففائزٌ برحمةِ الله سعيد، ومحرومٌ من رضوانُ الله شقيٌ طريد.
كلُ ساعةٍ تعيشُها إما أن يكونَ اللهُ راضٍ عنك في هذه الساعةِ التي عشتها، وإما العكس والعياذُ بالله.
فإما أن تقربَك من الله وإما أن تبعدَك من الله، وقد تعيشُ لحظةً واحدةً من لحظاتِ حبِ وطاعةِ الله تُغفرُ بها سيئاتُ الحياة، وتُغفرُ بها ذنوبُ العُمر.
وقد تعيشُ لحظةُ واحدةٍ تتنكبُ فيها عن صراط الله وتبتعدُ فيها عن طاعة الله تكونُ سبباً في شقاء الإنسانِ حياتَهُ كلَها (نسأل الله السلامةَ والعافية).
وهذه الحياة فيها داعيان:
داع إلى رحمة الله وداع إلى رضوان الله وداع إلى محبة الله.
وأما الداعي الثاني فهو داع إلى ضدِ ذلك.
شهوةُ أمارةُ بالسوء، أو نزوة داعية إلى خاتمة سوء، والإنسانُ قد يعيشُ لحظةً من حياته يبكي فيها بكاء الندم على التفريطِ في جنبِ ربه يبدلُ الله في ذلك البكاءِ سيئاتهِ حسنات.
وكم من أناسٍ أذنبوا وكم من أناس أساءوا وكم من أناس ابتعدوا وطالما اغتربوا عن ربهم فكانوا بعيدين عن رحمةِ الله غريبين عن رضوانِ الله وجاءتهم تلك الساعةُ واللحظة وهي التي نعنيها بالحياة الطيبة لكي تراقَ منهم دمعةُ الندم، ولكي يلتهب في القلب داعِ الألم فيحسُ الإنسانُ انه قد طالت عن الله غربتُه، وقد طالت عن الله غيبته لكي يقولَ إني تائبٌ إلى الله منيبٌ إلى رحمة الله ورضوانه.
وهذه الساعة هي الساعة التي هي مفتاحُ السعادةِ للإنسان ساعةُ الندم.
وكما يقولُ العلماء إن الإنسان قد يذنبُ ذنوباً كثيرة ولكن إذا صدق ندمه وصدقت توبتُه بدل الله سيئاتهِ حسنات فأصبحت حياته طيبةً بطيب ذلك الندم وبصدق ما يجده في نفسهِ من الشجى والألم.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحي في قلوبِنا هذا الداعي إلى رحمته وهذا الألم الذي نحسه من التفريط في جنبه.
أحبتي في الله كلُ واحدٍ منا نريُده أن يسأل سؤلا أن نفسَه عن الليل والنهار.
كم يسهرُ من الليالي، وكم يقضي من الساعات ؟
كم ضحكَ في هذه الحياة وهل هذه الضحكة ترضي الله عز وجل.
وكم تمتعَ في هذه الحياة وهل هذه المتعة ترضي الله عز وجل عنه؟
وكم سهر وهل هذا السهرُ يرضي الله عنك؟ وكم، وكم؟
سؤالُ يسأل فيه نفسَه.
وقد يبادرُ الإنسان ولماذا أسأل هذا السؤال؟
نعم تسألُ هذا السؤال لأنه ما من طرفةِ عين ولا لحظةٍ تعيشها إلا وأنت تتقلبُ في نعمةِ الله، فمن الحياءِ مع الله والخجلِ مع الله أن يستشعرَ الإنسانُ عظيمَ نعمةِ الله عليه من الحياة.
ومن الخجل أن نحس أننا نطعمُ طعام الله، وأن نستقي من شراب خلقه الله، وأننا نستظلُ بسقفه، وأننا نمشي على فراشِه، وأننا نتقلبُ في رحمته فما الذي نقدمه في جنبه؟
يسأل الإنسانُ نفسه.
يقولُ الأطباء إن في قلب الإنسان مادة لو زادت واحد في المائة أو نقصت واحد في المائة مات في لحظة، فأي لطف وأي رحمة وأي عطف وأي حنان من الله يتقلب فيه الإنسان.
يسأل الإنسان نفسه عن رحمة الله فقط
إذا أصبح الإنسان وسمعُه معه وبصره معه وقوته معه فمن الذي حفظَ له سمعَه ؟
ومن الذي حفظَ له بصره ؟
ومن حفظ له عقلَه ؟(/1)
ومن الذي حفظ له روحه؟
يسأل نفسه من الذي حفظ هذه الأشياء؟
من الذي يمتعُه بالصحة والعافية؟
الناس المرضى على الأسرة البيضاء يتأوهون ويتألمون،
والله يتحبب إلينا بهذه النعم،يتحبب إلينا بالصحة،بالعافية.
بالأمن، بالسلامة كلُ ذلك فقط لكي نعيشَ هذه الحياة الطيبة.
الله سبحانه وتعالى يريدُ من عبده أمرين:
الأمر الأول فعلُ فرائضه.
والأمر الثاني تركُ نواهيه وزواجره.
ومن قال أن القرب من الله عز وجل فيه الحياة الأليمة أو فيه الضيقَ فقد أخطاء الظن بالله، والله إذا ما طابت الحياةُ بالقرب من الله فلن تطيب بشيٍ سواه.
وإذا ما طابت بفعل فرائضِ الله وترك محارم الله فوالله لا تطيبَ بشيٍ سواه.
ويجرب الإنسانُ مُتع الحياةِ كلِها فإنه ولله لن يجد أطيب من متعة العبوديةِ لله بفعل فرائضه وترك محارم الله.
أنت مأمور بأمرين إما أن يأتيك الأمرُ أفعل أو لا تفعل.
إذا جئت تفعل أي شيء في هذه الحياة أسأل نفسك هل اللهُ عز وجل أذنَ لك بفعل هذا الشيء، أي شيء تفعله، فالأجساد ملك لله، والقلوب ملك لله، والأرواح ملك لله.
فينبغي للإنسان إذا أراد أن يتقدم أو يتأخر يسأل نفسه هل الله راض عنه إذا تقدم فليتقدم.
أو الله غير راض عنه فليتأخر، فوالله ما تأخر إنسانُ ولا تقدم وهو يرجو رحمةَ الله إلا أسعدَه الله.
ولذلك السعادة الحقيقة والحياة الطيبة تكون بالقرب من الله.
القرب ممن؟
من ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، الأمر أمرُه والخلق خلقه، والتدبير تدبيره.
ولذلك تجد الإنسان المعرض دائما في قلق وفي تعب.
تجد الشخص يتمتع بكل الشهوات، ولكن والله تجد ألذ الناس بالشهوات أكثرهم آلاما نفسية.
وأكثرُهم قلقا نفسيا، وأكثرُهم ضجرا بالحياة.
واذهب وابحث عن أغنى الناس تجده اتعس الناس في الحياة، لماذا؟
لأن اللهَ جعل راحة الأرواح بالقرب منه.
وجعل لذة الحياة بالقرب منه.
وجعل اُنس الحياة في الأنس به سبحانه .
والصلاة الواحدة يفعلَها الإنسان من فرائض الله بمجردِ ما ينتهي من ركوعه وسجوده وعبوديته إلى ربه، بمجرد ما يخرج من مسجده، يحس براحة نفسية والله لو بذل لها أموال الدنيا ما استطاع إليها سبيلا.
الحياة الطيبة في القرب من الله، الحياة الهنيئة في القرب من الله.
إذا كان ما طابت الحياة بالقرب من الله فبمن تطيب؟
وهناك ثلاثُ عوائقٍ تمنعك من القرب من الله:
أولها الشهوة، الشهوة التي تحول بينَك وبين القرب من الله.
ثانيها سوء الظنِ بالله.
ثالثها الشيطان الذي أخذ على نفسَه العهد أن يبعدك من الله عز وجل.
فأما الشهوة فهي لذةُ ساعةٍ وألم دهر، الشهوة، شهوة اللهو واللعب الذي وصف الله عز وجل هذه الحياة الدنيا أنها لهو ولعب.
ولكن كم من أجسادٍ لهت ولعبت الآن تتقلب في عذاب القبور.
وكم من أجسادٍ لهت ولعبت ترى الآن الضنكَ في ضيقِ القبور.
وكم من أناس الآن تضيقُ عليهم اللحود وتضيق عليهم القبور يتمنون لحظةً واحدةً من ذكر الله، وطاعة الله.
ما تعرف قيمةَ هذه الحياة، ولا تعرف قيمة هذه الشهوة التي دعت إلى معصية الله إلا إذا أردت فراقَ هذه الحياة، ولن تجد ندما أصدقُ من ندم الإنسان إذا ودع هذه الحياة.
وسيعرفَ الإنسان قيمة الشهوة التي هي أو العوائق إذا فارق الحياة، وبمجردِ ما تأتي لحظة الفراق يبكي بكاء الندم ويقول الإنسان ولو كان صالحاً:
(ربي أرجعوني لعلي اعملُ صالحا في ما تركت).
يتمنى ولو كان صالحا أن يرجع لكي يزداد من صحيفة العمل.
ولا يغتر الإنسان ويقول إن هذه الساعة بعيده لأنه شباب.
لا والله كم من حوادث أخذت أناس في عز الشباب وزهرة الشباب وشدة النشوة واكتمال العمر.
فلذلك ينبغي للإنسان أن يعرف قيمة هذه الشهوة.
والله عز وجل ما حرمنا من الشهوات ولا منعنا من اللذة بل جعل للشهوة موضعا معينا ومكانا أمينا سليما نقيا، جعل لها مكانا لا يأذن لك أن تضع الشهوة في غير هذا المكان.
ثم الأمر الثاني من العوائق سوء الضن بالله، بعض الناس إذا قلت له أقبل على الله يقول لك:
يا أخي لماذا تضيق علي؟
يا أخي الحياة، دعني أتمتع بالحياة، دعني أسهر، وأتمتع بسهري، وأذهب وآتي وأتمتع بذهابي دون قيود أو حدود.
يحس أن الحياة الظنكة والأليمة إذا اقترب من الله.
و والله ثم والله نشهدُ لله انه لا أطيبَ من القربِ من الله.
ومن أراد أن يجرب لذة القربِ من الله فليزدد من طاعة الله عز وجل، ليزدد من الصالحات، ويزدد من الأعمال التي تحبب الله عز وجل فيه وتدعوه إلى مرضاة الله حتى يحس ساعتها بلذة العبودية لله تبارك وتعالى.
أما الأمر الثالث الذي يعيق الإنسان عن طاعة الله ومحبة الله فهو الشيطانُ الرجيم وهذا الشيطانُ على نوعين شياطينُ إنس وشياطين جن.
فمن أراد القرب من الله فعليه أن يفرَ من شياطينُ الإنسِ وشياطين الجن.(/2)
أما شياطينُ الإنس فهم الذينَ يزهدون في طاعة الله وييئسون الإنسان ويقنطونه من رحمة الله فينبغي للإنسان أن لا يصغيَ إليهم، وليعلم أن صديقه الصادق في محبته ومودته وخلته هو الذي يصدقه ويهدي إليه عيوبه ويدعوه إلى محبة ربه وذل العبودية لخالقه.
وأما شيطان الجن فهيَ الوساوس التي يقذفها في قلب الإنسان، ويقولُ له انتظر فلا زال في العمر بقية ولا تعجل، تمتع بهذه الحياة، تمتع بشهواتها واسهر ما شئت من الليالي وافعل ما شئت من لذات هذه الحياة، فإن الحياةَ طويلة ولا يزال يمْنيه ولا يزال يسليه حتى يسلمه إلى عاقبة الردى نسأل الله أن يعصمنا وإياكم من ذلك.
إخواني في الله، الحياة الطيبة هي متمثلة في ضد هذه الثلاثة الأمور.
أما داعي الشيطان فيستبدله الإنسان بداعي الرحمن.
وأما شياطين الإنس فستبدلهم بدعاة الخير من الصالحين وعباد الله المتقين.
وأما سوء الظن بالله فيبدله بحسن الظن بالله عز وجل.
أما إبدال داعي الشيطان بداعي الرحمن، فاعرض نفسك على كتاب الله عز وجل، وأجعل لك كل يومٍ جلسةً مع القرآن، لا يحس الشاب أن هذا القرآن نزل لغيره.
والله إنك ممن يخاطب بالقرآن شئت أم أبيت اقتربت أو بعدت.
كل إنسان يوم القيامة سيأتي هذا القرآن حجة له أو حجة عليه، لا يقول الإنسان أن هذا القرآن لغيري، القرآن لك وأنت مخاطب به ولو كنت من أبعد الناس عن طاعة الله، مخاطب بهذا القرآن، وسيكون هذا القرآن حجة لك أو حجة عليك، واستبدال هذا الداعي وهو كتاب الله عز وجل فيه طمأنينة القلوب انشراح الصدور، والله تعالى يقول في كتابه:
(ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
تعرض نفسك على كتاب الله فتعيش في رحمة الله إذ يخاطبك الله عز وجل، وتعرض نفسك على داعي الله عز وجل بتحقيق ما أمر الله به في القرآن، وترك ما نهى الله عز وجل في كتابه.
و أما إبدال دعاة السوء بدعاة الخير، فالجلوس مع الصالحين وغشيان حلق الذكر التي لا يشقى بهم جليس.
زيارة الصالحين والأنس بالصالحين.
وحب الصالحين خير للإنسان في الدنيا و الآخرة، والله هم القوم ونعم القوم.
ما جلس إنسان مع رجل صالح إلا ووجد منه خيرا، لا يدعوه إلا لصلاح دينه ودنياه وأخرته.
وأما قرين السوء فعلى العكس، فهو الذي يدعو إلى محارم الله.
ولو سأل الإنسان نفسه عن أي معصية فعلها وجد ورائها جليس سوء، ووجد ورائها شيطان الإنس الذي حبب إليها وسهل في الوصول إليها.
فيستبدل الإنسان الأشرار بالأخيار، ويقول للأخيار أريد الجلوس معكم.
أريد الأنس بكم، يزورهم، ويجلس معهم.
ولذلك ورد أن الرجل يأتي إلى مجلس من مجالس الذكر، فيجلس مع الصالحين جلسة واحدة قد تكون هذه الجلسة سببا في نجاتك من النار
ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم):
( أن الله إذا أنزل أهل الجنةَ الجنة وتمتعوا بما هم فيه من النعيم قالوا يا ربنا كيف نتنعم في الجنة وإخواننا يعذبون).
إخوانهم من ؟ أناس كانوا معهم ولكن كانت عندهم سيئات.
مثلا رجل كان مع الصالحين ولكن عنده سيئات يشرب الخمر، يزني أو يفعل أي شيء من المحرمات نسأل الله السلامة والعافية.
فشاء الله لما جاء يوم القيامة ما تاب من هذه الأشياء فيدخل النار، فإذا دخل ذلك الرجل الصالح الذي كان يجلس معه الجنة يقول يا رب كيف أتنعم في نعيم الجنة وأخي يعذب فيأذن الله بالشفاعة، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم):
(فلا يزال الرجل يشفع حتى يشفع للرجل الذي جلس معه لحظة واحدة في ذكر الله عز وجل).
لحظة واحدة في ذكر الله عز وجل توجب للإنسان الشفاعة، فهذه من خيرات الجلوس مع الصالحين.
ومن خيرات الجلوس مع الصالحين أن القلوب تنشرح والصدور تنشرح وتطمئن بذكر الله عز وجل.
ولذلك تجد الإنسان إذا جلس مع الصالحين يقوم ونفسه معلقة بالسماء، معلقة بطاعة الله، يريد أن يفعل أي خير يقربه إلى الله.
والله ما جلس الإنسان مع صالح موفق إلا دله على الله، وهذا والله هو الصديق الذي تقوم من عنده وحالك أصلح من حالك إذ جلست.
بعض الناس مبارك إذا جلست معه تقوم من عنده وقلبك معلق بالله، وقلبك وروحك تريد رضوان الله، ما تريد إلا شيء يدلك على الله.
وبعض الناس إذا جلست معه تريد فقط خصلة من خصال الخير تقربك إلى الله.
ومجلس واحد من ذكر الله عز وجل قد يجعل الإنسان يغير حياته كلها إذا صدق في عبوديته لله وتأثر بما يقال له من أوامر الله ونواهيه.
فالمقصود أن الجلوس مع الصالحين يعتبر من أهم الأسباب التي تدل الإنسان على ربه.
والجليس الصالح هو الذي إذا نسيت الله ذكرك.
وإذا ذكرت الله أعانك.
والكلمة الطيبة من الرجل الطيب تطيب بها القلوب والنصيحة الصالحة من الرجل الصالح يصله الله بها الأحوال.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم مجالس الصالحين.
وقد بين النبي (صلى الله عليه وسلم) أن مجالس الصالحين تغشاها الملائكة وهي حلق الذكر التي تحفها الملائكة إلى السماء، ويطيب بها وقت الإنسان، وتطيب بها حياته.(/3)
وأما استبدال سوءُ الظن بحُسنِ الظن فهذا أمر مهم جدا لكل إنسان، فاللهَ تعالى فوق ما تظنَ من الرحمة، إن تقربت منه شبرا تقرب منك ذراعا، إن تقربت منه ذراعا تقرب منك باعا، إن أتيته تمشيِ أتاك يهرول.
كل واحد ينبغي أن يكون عنده شعور يعلم أنه لا أرحم به من الله عز وجل.
ولله لو أن الإنسان حملَ ذنوبَ هذه الحياةَ كلها، وجاء في لحظة واحدة تائبا إلى الله منكسرا بين يدي الله يرجُو رحمة الله، والله ما يخيبه الله من رحمته، ولا يقنطه من روحه سبحانه وتعالى.
فهو اكرم من سؤل وأعظم من رجي وأمل.
وفي قصص التائبين عبر، فإن الإنسان قد يتوب من ذنوب الحياة ويجعل الله عز وجل توبته في لحظة واحدة موجبة لغفران حياته كلها.
ولذلك أصدق شاهد بعض الناس، بعض الحجاج يقدم على الله في هذه البلاد الطيبة، يمكن سبعين سنة ما يعرف الله عز وجل، في معاصي وفي ذنوب وفي سيئات، يأتي إلى الله في آخر عمره تائبا منيبا، الدمعة ما تتملكها عينه.
قبل أسبوعين تقريبا كنت مع رجل من كبار أهل المدينة، فيقول لي أنه في حج هذه السنة حصلت عبرة، يقول:
(كان هناك أحد أصدقائنا رجل كنا نخشى الجلوس من كثر معاصية، وكثرة ما يفعل والعياذ بالله من المعاصي.
يقول فشاء الله عز وجل في أخر حياته قبل الحج أن ابتلاه بمرض، فدخل المستشفى فأجريت له عملية.
فخرج من المستشفى منهوك القوى، يعني في آخر حياته بحالة لا يعلمها إلا الله عز وجل.
يقول فجلس فترة النقاهة بعد العملية وهذا قبل الحج تقريبا بشهر، فارتاحت نفسه واطمأنت نفسه.
فشاء الله عز وجل مع المرض -وماله في الإفاقة من المرض إلا أيام قليلة واقتربت أيام الحج- فإذا به يصيح على أبنائه (وهو رجل ثري في نعمة وفي جاه)، يصيح على أبنائه ويقول أريد الحج.
قالوا يا أبانا أنت ضعيف ومريض وأنت لا تستطيع أن تحج مع العملية.
قال أريد الحج.
فما كان من أبنائه إلا أن أعانوه على الحج، وكانت معه امرأته فشاء الله عز وجل أنه قدم إلى جده.
ومضى في اليوم السابع يريد الحج، وفي طريقه إلى مكة إذا به يتأوه من قلبه، فلما تألم من قلبه.
تحكي عنه زوجته وتقول جلس يقول لا إله إلا الله يكررها.
تقول امرأته ماذا بك يا فلان؟ قال لها الموت.
ثم قال لا إله إلا الله وسقط ميتا في ساعته.
فهذا إن دل على شيء يدل على سعة رحمة الله، رجل حياته كلها بعيدا عن الله، ما انتقم الله عز وجل منه، الله قادر وهو جالس على المعصية أن بخسف به الأرض.
والله لو أذن الله لأرض أن تنتقم من العاصي والله لخسفت به في لحظة واحدة.
الله مالك الملك، له العزة وله الكمال وله الجلال، كل شيء في هذا الكون تحت أمره وتحت قهره وتحت ملكه.
سبحان الله يعصيه الإنسان ويفعل المعصية ومع ذلك أولا يعطيه الصحة ويمكنه من لذة المعصية، وهو قادر أن يسلبه الروح في لحظة واحدة، حتى إذا فعل المعصية يأتي ويستره فسبحانه ما أحلمه.
يفعل المعصية عافية وصحة وستر، ثم مع ذلك يدعوك.
يدعو الإنسان ويقول له هلم إلى رحمتي.
هلم إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
يا عبدي ما أريد منك إلا لسان طيب وعمل طيب، ما أريد منك غير هذا.
كذاب من يقول أن القرب من الله فيه ضيق، لا والله ما يريد الله منك إلا كلام طيب وفعل طيب وعقيدة ترضيه، فقط ثلاث أشياء.
قلب صالح نقي من الشوائب.
لسان طيب تقول به الكلام الطيب.
وجوارح تسخرها في الشيء الطيب.
ما فيه غير هذا أبدا.
بدل ما كان الواحد يسب الناس ويحتقر الناس ويتكلم على الناس، يتكلم الكلام الطيب، يحترم الناس.
بدل ما كان يفعل الأمور التي لا تليق بأتفه الناس إذا به يحترم نفسه فيفعل الأفعال التي تليق به كمسلم يؤمن بلقاء الله عز وجل.
ما فيه غير هذا، ما عندنا في الطاعة والحياة الطيبة إلا هذه الثلاث الأشياء.
صلاح العقيدة.
صلاح القول.
صلاح العمل.
من فعل هذه الثلاث الأشياء عصمه الله عز وجل إلى لقائه، وأوجب له حبه ورضائه:
(من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
إذا أتيت الثلاث الأشياء هذه أقسم الله أنه يحييك الحياة الطيبة.
ولذلك لن تجد إنسان يطيع الله ويخاف، وجرب.
الخوف لا يأتي إلا من معصية الله، فهذا الرجل حياته بعيدة عن الله، والله يقسم لي الرجل كبير سن وأعرفه في المدينة رجل في آخر حياته، حتى والله لما يقص لي القصة والله دمعته على عينه.
يقول لي سبحان الله في آخر حياته، ما أحلم الله وما الطف الله يختم له هذه الخاتمة الحسنة.
على أي شيء يدل هذا؟ يدل على رحمة الله.
فليس هناك داع لسوء الظن بالله، والشيطان يأتي الإنسان ويقول له أنت فعلت وفعلت وفعلتَ والله ما يغفر لك.
فبمجرد ما يفعل الإنسان المعاصي ولو عظمت ويقول:
اللهم إني تائب إليك، إذا بالله عز وجل يبدل تلك المعاصي حسنات.
قال تعالى:( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيم).(/4)
هذا الكلام الذي نقوله لنا جميعا، ليس لأناس دون أناس، الكلام لنا جميعا لأن المفروض أن المؤمن في كل لحظة أن يكون قريب من الله، وليس أحد هناك إلا وهو يعصي، وليس هناك أحد إلا وهو يذنب.
فنحن مطالبون بهذه الثلاث الأشياء التي توجب الحياة الطيبة.
ومن ثمرا الحياة الطيبة أنك إذا أقبلت على الله هناك خصلة عجيبة، خصلة كريمة، لو خسر ما خسرت.
لو خسرت الأصحاب، وخسرت الليالي الطيبة، هناك شيء ما تخسره وهو الله جل جلاله.
والله، وما هو الله ؟
إذا أقبلت على الله وفعلت هذه الثلاثة أشياء وضمنت لله عز وجل:
عقيدة صالحة.
وقول طيب.
وعمل طيب.
ما ترفع كف وتقول يا رب إلا أجاب الله دعوتك.
ولا قلت أسألك إلا أجاب الله سؤالك.
ولذلك ورد في الحديث أن العبد إذا كان صالحا وأفعاله صالحة وأقواله طيبة وأعماله صالحة طيبة أصبح معروفا في السماء لأن العمل الصالح يصعد إلى الله عز وجل.
فإذا صعدت منك الكلمات الطيبة دائما:
لا إله إلا الله، أستغفر الله، تذكر الله، الكلام طيب.
تحسن إلى الناس، تفعل الأعمال الصالحة، إذا بالأعمال الصالحة تصعد، فإذا بكثرة الأعمال الصالحة يحبك بها الملائكة، ويجعل الله حب الملأ الأعلى لك في السماوات.
فإذا جاء كرب من الكروب، جاءتك مشكلة، جاءك شيء تخافه فقلت يا رب، قالت الملائكة في السماء صوت معروف من عبد معروف، هذا الصوت معروف من عبد معروف. من هو؟
المطيع لله، عبد بلغ به أنه إذا دعا الله يجيب الله دعائه، ماذا ينقصه في هذه الحياة؟ ما الذي ينقصه؟
إذا أصبحت في لحظة بعبوديتك الخالصة وطاعتك الصادقة إذا قلت يا رب أجاب الله دعائك.
أي مقام أصبحت؟ أي منزلة وأي شرف أصبحت فيه؟
فهذا هو العز وهذا هو الجاه؟
وهذه هي الحياة الطيبة التي ينبغي لكل إنسان أن يفكر فيها، وأن يجتهد في تحصيلها.
فأكرر أن الضيق كل الضيق في معصية الله.
والسعة كل السعة في طاعة الله والقرب من الله عز وجل.
ونسأل الله بعزته وجلاله وأسمائه الحسنى أن يرزقنا هذه الحياة الطيبة.
وأما الخصلة الثانية التي يجنيها صاحب الحياة الطيبة فهي خصلة الاستقامة.
وهذه الخصلة ثمرتها أن أصحابها إذا شاء الله ما من إنسان إلا سيخرج من هذه الدنيا قريبا أو بعيدا، وما أحد يضمن أن يقوم من هذا المجلس، والله ما نضمن.،فلابد من لحظة وهي لحظة الفراق.
فمن ثمرات الاستقامة الطيبة والعمل الصالح أن الإنسان إذا الإنسان إذا حانت ساعة قيامته ودنت ساعة فراقه لهذه الحياة، كانت أطيب ساعة عنده ساعة لقاء الله عز وجل.
الناس عند الموت تخاف إلا صاحب الحياة الطيبة إذا جاءه الموت يحس أنه في حنين وشوق إلى الله عز وجل.
ولذلك تجد أصحاب الحياة الطيبة إذا دنت منهم سكرات الموت تجدهم سبحان الله في انشراح نفس وطمأنينة وراحة بال، وبعضهم يسلم الروح وهو يتبسم.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل ممن حسنت خاتمته وكان من الذين قيل لهم:
(ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
(ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون).
نسأل الله العظيم أن يجعل أسعد لحظة لنا في هذه الحياة لحظة فراقها ولحظة الخروج من الدنيا.
هذه من الثمرات التي يجنيها الإنسان.
وينبغي للإنسان أن يجتهد قدر استطاعته في الثلاث الأمور الثلاث الأمور التي ذكرنها:
صلاح الباطن.
صلاح الظاهر.
وصلاح القول والعمل.
لا تتكلم إلا وأنت تعرف أن الله يرضى عن كلامك.
ولا تعمل إلا وأنت تعلم أن الله يرضى عن عملك.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
تم بحمد الله.(/5)
الحيض
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}سورة آل عمران: 102.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} سورة النساء: 1.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} سورة الأحزاب: 70 -71.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: قال ابن نجيم: معرفة مسائل الحيض من أعظم المهمات، لما يترتب عليها ما لا يحصى من الأحكام، كالطهارة، والصلاة، وقراءة القرآن، والصوم، والاعتكاف، والحج، والبلوغ والوطء، والطلاق، والعدة، والإستبراء وغير ذلك من الأحكام, ولذا كان من أعظم الواجبات1.
وترجع صعوبة دراسة الحيض لأمور منها:- الأول: كون الحيض مما يختص بالنساء، ويتعذر على الفقيه من الرجال الوقوف على طبيعة الحيض بالحس والمشاهدة.
الثاني: تكلف الفقهاء في تقعيد قواعد مرجوحة لا دليل عليها، ثم رد مسائل الحيض المختلفة إلى تلك القواعد المرجوحة، مما زاد الموضوع تشعباً وتعقيداً. قال الشوكاني رحمه الله:- وقد أطال المصنفون في الفقه الكلام في المستحاضة، واضطربت أقوالهم اضطراباً يبعد فهمه على أذكياء الطلبة، فما ظنك بالنساء والموصوفات بالعي في البيان، والنقص في الأديان، وبالغوا في التعسير حتى جاءوا بمسألة المتحيرة فتحيروا والأحاديث الصحيحة قد قضت بعدم وجودها.2
الثالث: التطور العلمي وما صاحبه من عبث بعض النساء بفترات الدورة الشهرية أو تأخير الحمل مما قد يسبب اضطراباً في عادتها الشهرية الأمر الذي يحير أحياناً طالب العلم في شأنها، ويصّعب مسألة ردها إلى كلام أهل العلم.
الرابع: عدم تحكيم السنن الواردة في الحيض، ومعارضتها بأقوال الرجال والتكلف في صرفها عن ظاهرها.
الخامس: قلة الكتب الطبية المتخصصة من الأطباء الموثوق بهم، والتي يستعين بها الفقيه على فهم طبيعة الحيض، وتنزيل الأحكام الشرعية بناء على فهمها.
فما هو الحيض ؟ وما هي أحكامه؟
تعريف الحيض لغة:
جاء في اللسان: حاضت المرأة تحيض حيضاً، ومحيضاً فهي حائض، والمحيض يكون اسماً ويكون مصدراً. وقال المبرد: سمي الحيض حيضاً من قولهم: حاض السيل إذا فاض. وجمع الحائض: حوائض وحيض. والحيض بالكسر الاسم. وقيل: الدم نفسه ومن ذلك ما جاء في حديث أم سلمة (ليست حيضتك في يدك).
وويقال تحيضت المرأة: إذا تركت الصلاة أيام حيضها. وتحيضت المرأة: إذا قعدت أيام حيضتها تنتظر انقطاعه أي الدم3، وحاضت، بلغت سن المحيض.
تعريف الحيض اصطلاحاً:
اختلف الفقهاء في تعريف الحيض، لاختلافهم في اشتراط بعض الأوصاف.
تعريف الحنفية: الحيض دم ينفضه رحم امرأة مسلمة عن غير داء وصفر.
وعرفه المالكية بأنه: الدم الخارج من فرج المرأة، التي يمكن حملها عادة، من غير ولادة ولا مرض ولا زيادة على الأمد.
وعرفه الشافعية بأنه: الخارج من فرج المرأة على سبيل الصحة، من غير سبب الولادة في أوقات معلومة.
وعرفه الحنابلة بأنه: دم طبيعة وجبلة، يرخيه الرحم، يعتاد أنثى إذا بلغت في أوقات معلومة. وهذا التعريف يكاد أن يكون أكمل التعريفات.
أسماء الحيض:
وهذا الدم المعتاد الذي يخرج من المرأة له أسماء كثيرة منها: الأول: الحيض وهو أشهرها.
الثاني: الطمث، والمرأة طامث. قال الفراء: الطمث الدم. وكذلك قيل: إ ذا افتض الرجل البكر قد طمثها أي أدماها. قال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} سورة الرحمن: 56.
الثالث: العراك. وفي حديث جابر عند مسلم أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد، وأقبلت عائشة رضي الله عنها بعمرة، حتى إذا كنا بسرف عركت.. الحديث.
والعَراك الحيض، ونساء عوارك أي حيض.
الرابع: الضحك، والمرأة ضاحك واستدل بقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ}هود:71. أي حاضت. وهو ضعيف, وقيل: ضحكت تعجباً من أنها وزوجها إبراهيم يخدمان ضيفانهم بأنفسهم تكرمة لهم، وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون.4
الخامس: الإكبار وفي هذا المعنى خلاف شديد، وقد استدل بعضهم بقول الشاعر:(/1)
نأتي النساء على أطهارهن ولا نأتي النساء إذا أكبرن إكباراً
السادس: الإعصار، قال في اللسان: المعصر: التي بلغت عصر شبابها وقيل: أول ما أدركت وحاضت.
السابع: النفاس، وفيه حديث أم سلمة في البخاري قالت: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعة في خميصة إذ حضت، فانسللت فأخذت ثياب حيضتي. قال: أنفست؟ قلت: نعم. فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة. قال الخطابي: أصل هذه الكلمة من النفس وهو الدم.
والحيض دليل على بلوغ المرأة والدليل على ذلك من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار). رواه أحمد وكذلك الإجماع. قال الحافظ في الفتح: وأجمع العلماء على أن الحيض بلوغ في حق النساء..5
السن التي تحيض فيها المرأة:-
اختلف العلماء في الزمن الذي تحيض فيه المرأة. فقيل: لا حيض قبل تسع سنين، وهو المعتمد عند الحنفية واختاره بعض المالكية والمشهور من مذهب الشافعية والحنابلة.
وقيل: يمكن أن تحيض البنت وعمرها ست سنوات، وقيل أدنى سن تحيض به المرأة سبع سنين.
وقيل اثنتا عشرة سنة، وقيل: لا حد لأدنى سن تحيض فيه المرأة وهو رأي ابن تيمية وصاحب الإنصاف من الحنابلة.
وهو الصحيح6 كما قال العثيمين رحمه الله، ودليل هذا القول هو: عدم الدليل المقتضي للتحديد، فلا يوجد دليل من الكتاب، ولا من السنة على القول بالتحديد، فمتى وجد الدم الذي يمكن أن يحكم له بأنه حيض في لونه، ورائحته وثخونته، فهو حيض، ولو كان التحديد شرعاً، بحيث لا يعتبر الدم قبله، ولا بعده حيضاً، لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة.
قال شيخ الإسلام في الفتاوى: لا حد لأقل سن تحيض فيه المرأة ولا لأكثره، فمتى رأت الأنثى الحيض فهي حائض، وإن كانت دون تسع سنين، أو فوق خمسين، وذلك لأن أحكام الحيض علقها الله سبحانه وتعالى على وجوده، ولم يحدد الله سبحانه وتعالى ولا رسوله سناً معيناً، فوجب الرجوع فيه إلى الوجود الذي علق عليه الأحكام، وتحديده بسن معين يحتاج إلى دليل من الكتاب أو السنة ولا دليل في ذلك. ا.هـ.
وكما اختلف العلماء في السن الذي تحيض فيه المرأة، اختلفوا كذلك في منتهى سن الحيض: فقيل: لا حيض بعد خمسين وهو المشهور من مذهب الحنابلة. وقيل: منتهى الحيض خمس وخمسون سنة، وهو قول أكثر الحنفية. وقيل: لا حيض بعد ستين سنة، وقيل لا حد منتهاه وهو الراجح وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، كما تقدم.
مسألة: أقل الحيض وأكثره:
اختلف العلماء في أقل الحيض. فقيل: أقل الحيض ثلاثة أيام بلياليهن. وقيل: أقل مدة الحيض ثلاثة أيام بليلتيها المتخللتين. وقيل: لا حد لأقله ولو دفعة واحدة، وهذا مذهب مالك وهو الراجح. وقيل: أقله يوم وليلة. وهو المشهور من مذهب الحنابلة. وعليه جماهير الشافعية. وقيل: أقله يوم, وهو رواية عن الشافعي.
وقد استدل أصحاب كل قول بأدلة منها الموضوع والضعيف، ومنها: الظني الذي لا يقاوم أدلة المخالف. وأما دليل من قال: لا حد لأقله فاستدلوا بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}البقرة: 222. فإذا وجد الأذى وجد الحيض سواء كان أكثر من يوم وليلة أو أقل، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وقد أمر الله باعتزال النساء في المحيض، ولم يحده بحده، بل علق على وجوده، فيجب اعتزالها ولو كان الدم أقل من يوم وليلة. وكذلك فإن القول بالتحديد يحتاج إلى دليل، وما دام لم يثبت في هذا دليل فلا يجوز القول به.
قال ابن القيم: ولم يأت عن الله ولا عن رسوله، ولا عن الصحابة تحديد أقل الحيض بحد أبداً.
ولا في القياس ما يقتضه ا.هـ. والذين قالوا: بأن أقله يوم وليلة معترفون بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة في هذا شيء، وإنما حكموا العادة.
ومما يستدل لأصحاب القول بعدم تحديد أقل الحيض, القياس على النفاس، فكما أن النفاس لا حد لأقله، فكذلك الحيض، والحيض والنفاس أحكامهما متشابهة.
خلاف العلماء في أكثر الحيض:
اختلف العلماء كذلك في أكثر الحيض إلى أقوال:-
فقيل: أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة. وقيل: أكثر الحيض عشرة أيام وهو مذهب الحنفية.
وقيل: أكثره سبعة عشر يوماً، وقيل: لا حد لأكثر ه.7
والكلام في هذا كالكلام في أقل الحيض.
وكما اختلف أهل العلم في أقل الحيض وأكثره اختلفوا كذلك في أقل الطهر.
فقيل: أقل الطهر خمسة عشر يوماً وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية ورواية عن أحمد.
وقيل: أقله ثلاثة عشر يوماً وهو المشهور من مذهب الحنابلة، وقيل: أقله بين الحيضتين تسعة عشر يوماً. وقيل: أقله خمسة أيام، وقيل: أقله ثمانية أيام. وقيل: عشرة أيام. وقيل: لا حد لأقل الطهر. وهو اختيار ابن تيمية وهو الراجح؛ لأن القول بالتحديد لا يجوز إلا بدليل، ولا دليل على التحديد.
وأما أكثر الطهر فأجمعوا على أن أكثر الطهر لا حد له.(/2)
قال النووي في المجموع: أكثر الطهر لا حد له، ودليلها الإجماع، ومن الاستقراء أن ذلك موجود ومشاهد.8
انتهى الدرس الأول ويليه الدرس الثاني إن شاء الله تعالى...
والحمد لله رب العالمين..
________________________________________
1 البحر الرائق(1/199).
2- نيل الأوطار (1/335).
3- يراجع لسان العرب لابن منظور مادة حيض(7/142).
4- تفسير الطبري (7/70).
5- فتح الباري (5/610).
6 - انظر الشرح الممتع 1/475
7- انظر مجموع الفتاوى (19/237).
8- المجموع (2/409).(/3)
الخشية سبيل النجاة
1672
أعمال القلوب
مازن التويجري
الرياض
16/9/1420
جامع حي النزهة
ملخص الخطبة
1- قصة الغامدية التائبة. 2- خشية النبي صلى الله عليه وسلم. 3- لا تنظر إلى صغر المعصية. 4- أهل الخشية هم الفائزون. 5- خشية يوسف عليه السلام. 6- صور من خشية الصالحين.
الخطبة الأولى
أما بعد: انظروها من ورائكم, تقطع ردهات الزمن, وتمخر عباب التاريخ, تخوض غماره, بسفينتها العظيمة, لتحجز قبل تلك البواخر مرسى.
كأني بها وقد أقبلت على رسول الله بخطىً ثابتة, وفؤادِ يرجف وجلاً وخشية, رمت بكل مقاييس البشر وموازينهم, تناست العار والفضيحة, لم تخشى الناس, أو عيون الناس, وماذا يقول الناس؟ أقبلت تطلب الموت, نعم تطلب الموت, فالموت يهون إن كان معه المغفرة والصفح, يهون إن كان بعده الرضا والقبول, يهون إن كان فيه إطفاء لحرقة الألم, ولسع المعصية, وتأنيب الضمير (يا رسول الله أصبت حدًا فطهرني) عندها يشيح النبي عنها بوجهه, فتقبل عليه وتقول: يا رسول الله أصبت حدًا فطهرني, أُراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك, فوالله إني حبلى من الزنا, فقال: ((اذهبي حتى تضعيه)) فولت والفرح يملأ قلبها, والسرور يخالط نفسها أن نجت من موت محقق؟ وردها رسول الله, كلا, بل لم يزل الهم يعترك في فؤادها وسياط الخوف تعلو هامة تفكيرها.
ويمر الشهر والشهر, والآلام تلد الآلام, فتأتي بوليدها تحمله: ها أنا ذا وضعته فطهرني يا رسول الله, فيقول البر الرحيم: ((اذهبي حتى ترضعيه فتفطميه)).
فعادت بابنها الرضيع, فلو رأيتها ووليدها بين يديها, والناس يرقبونها عجبًا وإكبارًا, والشيطان يسول لها ويزين أن تلك فرصتك, وقد قمت بما عليك, والنبي ردك مرارًا, وترجع به, وحولين كاملين, كلما ألقمته ثديها, أو ضمته إلى صدرها زاد تعلقها به وتعلقه بها, وحبها له, فهي أم, وللأم أسرار وأخبار.
وتدور السنة تعقبها سنة, وتأتي به في يده خبزة يأكلها, يا رسول الله قد فطمته فطهرني, عجبًا لها ولحالها! أي إيمانٍ هذا الذي تحمله, ما هذا الإصرار والعزم, ثلاث سنين تزيد أو تنقص, والأيام تتعاقب, والشهور تتوالى, وفي كل لحظة لها مع الألم قصة, وفي عالم المواجع رواية, فيدفع النبي الصبي إلى رجل من المسلمين, ويؤمر بها فتدفن إلى صدرها ثم ترجم, فيطيش دم من رأسها على خالد بن الوليد, فسبها على مسمع من النبي , فقال عليه الصلاة والسلام: ((والله لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه))[1].
إنه الخوف من الله, إنها خشية الله ترتقي بالنفوس فلا ترى لها قرارًا إلا بجوار الرحمن في جنة الرضوان.
إنها الخشية لم تزل بتلك المؤمنة حين وقعت في حبائل الشيطان, واستجابت له في لحظة ضعف, نعم أذنبت, ولكنها قامت من ذنبها بقلبٍ يملأه الإيمان, ونفسٍ لسعتها حرارة المعصية, نعم أذنبت ولكن قام في قلبها مقام التعظيم لمن عصت, فتحشرجت في صدرها سؤالات, كيف أعصيه وهو المنعم الخالق! كيف أعصيه وهو الرازق الواهب؟ كيف أعصيه وقد نهاني؟ كيف أعصيه وقد كساني وآواني؟! فلم تقنع إلا بالتطهير وإن كان طريقه إزهاق النفس وذهاب الحياة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد [ق: 31 ـ 35].
قال الحسن: "إن الرجل ليذنب الذنب فما ينساه, وما يزال متخوفًا منه حتى يدخل الجنة" رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه لهواته, إنما كان يتبسم قالت: وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرف ذلك في وجهه, فقالت: يا رسول الله, أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر, وأراك إذا رأيته عَرفتُ في وجهك الكراهية؟ فقال: ((يا عائشة, ما يُؤمنني أن يكون فيه عذاب, قد عُذب قوم بالريح, وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا )) [الأحقاف: 24] [2].
في مصنف ابن أبي شيبة عن العباس العِّميِّ رحمه الله قال: "بلغني أن داود عليه السلام قال: سبحانك تعاليت فوق عرشك, وجعلت خشيتك على من في السموات والأرض, فأقرب خلقك إليك أشدهم لك خشية, وما علم من لم يخشك؟ وما حكمة من لم يطع أمرك؟".
إن الخشية الحقة, والخوف المحمود هو الحامل على العمل, الذي لا يزال يدفع بصاحبه إلى الطاعة, وينفره من المعصية.
الخشية الحقة هي التي تربي القلب حتى لا يفرق بين معصية وأخرى, فلا ينظر إلى صغر المعصية، ولكن ينظر إلى عظمة من عصى, قال الله سبحانه ـ يحصر المنتفعين بالذكرى ـ: طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى [طه: 1 ـ 3]. يسئلونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها [النازعات: 41 ـ 45], وقال سبحانه: فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى [الأعلى: 8 ـ 9].(/1)
إن المنتفعين بالذكرى, المستفيدين من النذارة والبشارة هم أهل الخشية والمراقبة, قال جل ذكره: إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير .
وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم [يس: 10 ـ 11].
أهل الخشية هم السعداء في الدنيا, الفائزون في الآخرة ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون , إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنها ذلك لمن خشي ربه [البينة: 6 ـ 7].
روى الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة [المؤمنون: 60] قالت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: ((لا يا بنت الصديق, ولكنهم الذي يصومون, ويصلون, ويتصدقون, وهم يخافون ألا تقبل منهم, أولئك الذي يسارعون في الخيرات [المؤمنون:61])) [3].
وفي يوم حضره الشيطان, وغابت فيه خشية الله ومراقبته أجمع أخوة يوسف على رميه في غياهب البئر, وكان ما كان من أمر السيارة, وبيع العبيد وهو الحر الأبي, وبعد كل ما لاقى من الآلام والمتاعب وهو بعدُ فتح يافع دخل بيت العزيز غلامًا يخدم, وقد بلغ من الجمال مبلغًا حتى أوتي شطر الحسن, لم تصبر معه امرأة العزيز المفرطة في البهاء والجمال, حتى تجملت وتزينت وغلقت الأبواب، فأقبلت تدعو وتغري هيت لك, هيت لك, قد ملكت جمالاً تغريه به, ومنصبًا وجاهًا يحفظه من العقوبة, فهي امرأة العزيز, وكان الطلب منها, بعد أن غلقت الأبواب، وهو في نفسه غريب بعيد عن أهله ووطنه, والغريب قد يقدم بما لا يقدم عليه أهل الديار, وهو شاب قد فطر على الميل إلى الأنثى بما ركب الله فيه من شهوة, فتصور كل هذا, والمكان يعلوه السكون, لا يُسمع فيه إلا نداء الإثم والفجور, هيت لك, هيت لك.
حينها أقبل يوسف قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون [يوسف: 23] عندها هرب يوسف عليه السلام, هرب إلى الله, فرّ إلى الله, يمم الباب خشية من الله, فمدت يدها تجر قميصه.
ودارت الأيام وعظم الإغراء, وقُدِّم عليه السلام بين يدي نساء عِلية القوم فقُطعت الأيدي, وأعجمت الألسن قلن حاشا لله ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم [يوسف: 31].
في هذه الأثناء نطقت صاحبة الشأن وأعلنت أمرها, وجددت عزمها قالت فذلكن الذين لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما أمره ليسجنن وليكونًا من الصاغرين [يوسف: 32] أبعد الحرمان, وفراق الأهل والأوطان, وألم الرق والعبودية يكون السجن؟ قلها, تكلم, تخلص بكلمة, استعطفها, اعرض أمرك على العزيز, قص خبرك, اهرب وانجُ بنفسك, كلا, كلا, قال رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه [يوسف: 33], السجن, نعم, ولمَ لا يكون إذا كان دون العهر والفاحشة والرذيلة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)) [4].
قال مسروق ـ رحمه الله ـ: "كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله, وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله". وقال إبراهيم بن سفيان: "إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهواتِ منه وطرد الدنيا عنه".
راود رجل امرأة في ظلمة الليل, فقال: لا يرانا من أحد إلا هذا الكوكب. فقالت: وأين مكوكبها؟ فوجل وأقلع.
واليوم عاثت الدنيا بأهلها فأضحى المخلوق يخشى المخلوق دون الخالق, يرجو المربوب دون الرب سبحانه, فعجبًا لمن يخشى الناس, ويخاف الناس, وعيون الناس, وألسنة الناس, وعقاب الناس, فأعماله للخلق, وسؤاله للخلق, يعطي ليرضي فلان, ويمنع ليحظى بقرب فلان, يحب للدنيا, ويبغض للدنيا, خاب وخسر, ما قام في قلبه الوجل من ربه, ولا عرف الله حق المعرفة وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [الزمر: 67].
قال عمر بن عبد العزيز: "من خاف الله أخاف الله منه كل شيء, ومن لم يخف الله خاف من كل شيء" فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية [النساء: 77], أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين [التوبة: 13]. إنما يعمر مساجد الله من أمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وأتى الزكاة ولم يخشى إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين [التوبة: 18].(/2)
إن هذه العبادة العظيمة, إن مفهوم الخشية والمراقبة غاب في قاموس كثير من الناس إلا من رحم ربك, غاب في تعاملنا مع ربنا, في تعاملنا في أنفسنا, في تعاملنا مع الناس في أقوالنا, في أفعالنا, في بيعنا وشرائنا, في تربيتنا لأبنائنا, في أدائنا في وظائفنا, في تعاملنا مع الأجراء والخدم, في حياتنا كلها, والموفق من وفقه الله.
بالخوف والخشية تصلح أمور العباد, بل يصلح الكون كله, قال أبو حفص: "الخوف سراج في القلب يبصر به ما فيه من الخير والشر".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار, وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء, وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون [البقرة: 74], لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [الحشر: 21].
فكم من البشر وفي الحجارة والجبال والأشجار والحيوان خير منه, وقديمًا قيل: "من كان بالله أعرف كان له أخوف", ولهذا يتمايز المؤمن من غيره, ويظهر الصادق في خشيته ممن يدّعي ويتزين, يظهر أهل الخشية الحقة في وقت الخلوات وساعات الوحدة والعزلة عن الخلق, فكثير أولئك الذين يتصدقون أمام الناس ولكنهم في السر قليل, كثير الذين يتورعون عن ظلم الناس أمام الناس وهم في السر أظلم الخلق, كثيرٌ هم أولئك الذين يقومون بالطاعات ويهجرون المعاصي في حضرة الخلق, وإذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.
إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير [الملك: 12].
[1] رواه مسلم ح (1695).
[2] الحديث رواه البخاري ح (4829)، مسلم ح (899).
[3] الحديث رواه الترمذي ح (3175)، وابن ماجه (4198).
[4] رواه البخاري ح (660)، ومسلم ح (1031).
الخطبة الثانية
في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله ليلة من الفراش, فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد (أي في السجود) وهما منصوبتان وهو يقول: ((اللهم أعوذ برضاك من سخطك, وبمعافاتك من عقوبتك, وأعوذ بك منك, لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك))[1].
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إني لأنقلب إلى أهلي, فآخذ التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها, ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها))[2].
قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: "لقد مضى بين يديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم", وقال رحمه الله: "عملوا والله بالطاعات, واجتهدوا فيها, وخافوا أن ترد عليهم, إن المؤمن جميع إيمانًا وخشية, والمنافق جمع إساءة وأمنًا".
روى الترمذي ـ وقال: حسن صحيح ـ والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع, ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)) [3].
وروى الترمذي وابن ماجه وحسنه النووي عن أنس رضي الله عنه أن النبي دخل على شاب وهو في الموت فقال: ((كيف تجدك؟)) قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي, فقال رسول الله : ((لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو, وأمنه مما يخاف)) [4].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو نادى مناد من السماء: أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلاً واحدًا لخفت أن أكون أنا هو".
وروى البيهقي بسنده عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: "كنا جلوسًا مع رسول الله تحت شجرة فهاجت الريح, فوقع ما كان فيها من ورق نخِر, وبقي ما كان من ورق أخضر, فقال رسول الله : ((ما مثل هذه الشجرة؟)) فقال القوم: الله ورسوله أعلم, فقال: ((مثل المؤمن إذا اقشعر من خشية الله عز وجل وقعت عنه ذنوبه وبقيت له حسناته)) [5].
[1] رواه مسلم ح (486).
[2] رواه البخاري (3433).
[3] رواه الترمذي ح (1633)، والنسائي ح (3108)، وأحمد (10182).
[4] رواه الترمذي ح (983)، وابن ماجه ح (4361).
[5] رواه أبو يعلى في مسنده، وأشار الهيثمي على تضعيفه (10/310).(/3)
... ... ...
الخصلتان الحبيبتان ... ... ...
سليمان حمدالعودة ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة 2- الحلم صفة الأنبياء 4- صفة الرفق والأناة 5- تبلد الأحاسيس ليس من الحلم والأناة ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه واعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه، وتخلقوا بالأخلاق الفاضلة، وجاهدوا أنفسكم على الاتصاف بالصفات الحميدة فإنها سبيل إلى التقوى وطريق موصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
إخوة الإسلام: وتضطرب على الدوام أمور الحياة، وتكثر في هذه الدار المنغصات والمكدرات، ويصور الشاعر طرفا من هذه المعاناة حين يقول لبيد بن ربيعة العامري:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع وتبقى الديار بعدنا والمصانع
فلا جزع إن فرق الدهر بيننا فكل امرئ يوما له الدهر فاجع
وما الناس إلا كالديار وأهلها بها يوم حلوها وتغدو بلاقع
ويمضون ارسالا وتخلف بعدهم كما ضم إحدى الراحتين الأصابع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وما المرء إلا مضمرات من التقى وما المال إلا عاريات ودائع
أليس ورائى إن تراخت منيتي لزوم العصا تحني عليها الأصابع
.. القصيدة (1)
وأبلغ من ذلك قوله تعالى: لقد خلقنا الإنسان في كبد [البلد: 4 ]. وقوله جل ذكره: وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [آل عمران: 185] .
وأمام هذه الحقيقة الماثلة يحتاج المسلم – بل العامل – إلى نوع من التعامل يجنيه مزالق الطريق، ويجاوزه العقبات، وإلى نمط من الأخلاق يخفف عنه الصدمات ويسري عنه حين الشدائد والأزمات، ويرشد الإسلام – فيما يرشد – إلى الخروج من المأزق بالتزام الهدوء وعدم العجلة والطيش في التصرفات، ويهدي النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس ((إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة (4))).
وما أعز هاتين الخصلتين في الناس، وما أشد الحاجة إليها، أما الحلم فهو العقل، وأما الأناة فهى التثبت وترك العجلة (5).
والحلم أفضل من كظم الغيظ، لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم أى تكلف الحلم، ولا يحتاج إلى كظم الغيظ أي من هاج غيظه، ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادا، فلا يهيج الغيظ، وإن هاج فلن يكون في كظمه تعب، وهو الحلم الطبيعى.
وكذلك تدرب النفس على الحلم بالتحلم، كما حكاه الغزالي يرحمه الله(6).
معاشر المسلمين: ويكفى الحلم عزة ورفعة وعلو شأن أنه من أسماء الله وصفاته.
قال تعالى: واعلموا أن الله غفور حليم [ البقرة: 235 ].
ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم [ آل عمران: 155 ].
وصية من الله والله عليم حليم .[النساء: 12].
والحلم حلية أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، والخليل عليه السلام يصفه ربه بالحلم ويقول: إن إبراهيم لأواه حليم [التوبة :114]. إن إبراهيم لحليم أواه منيب [هود:75].
ويبشره ربه كذلك بابن حليم، ويكون الحلم من صفات إسماعيل عليه السلام. قال تعالى: فبشرناه بغلام حليم [الصافات :101].
ويوصف شعيب عليه السلام بالحلم والرشد من قومه، وإن كان على سبيل التهكم والاستهزاء منهم، قال تعالى: إنك لأنت الحليم الرشيد [هود:87].
لكنه كذلك وإن رغمت أنوف الملأ ويكفيه حلما وعلما أن يقول لهم: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب [هود:88].
أما صفوة الخلق وخيرة المرسلين، فيزكيه ربه بكمال الأخلاق ويقول: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4].
ويجمع الله به القلوب بعد فرقتها، ويجمع به شمل النفوس بعد شرودها وضياعها، ويقول له ربه: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر [آل عمران :159].
أيها المسلمون: ويوصي الله بالحلم والرفق ومجاهدة النفس عليهما وبين آثارهما، ويقول تعالى: ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [فصلت :24-25].
قال ابن كثير رحمه الله: أى وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس .. ويقول جل ذكره: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى:43].
ويعلق الإمام الطبري على الآية بقوله: ولمن صبر على إساءة من أساء إليه، وغفر للمسيء إليه جرمه، فلم ينتصر منه، وهو على الانتصار منه قادر ابتغاء وجه الله عز وجل وثوابه، إن ذلك لمن عزم الأمور، ندب الله إليها عباده، وعزم عليهم العمل به.(/1)
إخوة الإسلام: ونتيجة جهل الإنسان وضعفه، فقد يبدو له أحياناً أن أسلوب الشدة هو أقصر الطرق للوصول إلى هدفه، وأن ممارسة العنف قد تعجل له حصول النتائج التى يرنو إليها .. وليس الأمر كذلك فما يحصل بالحلم والرفق والأناة خير في الآخرة والأولى، كذلك يهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته ويقول: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه(4))). بل يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم أن الرفق والأناة سبب لكل خير، ويقول: ((إن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه، ولا ينزع من شئ إلا شانه)).
ويحذر عليه الصلاة والسلام من فقد الرفق بفقد الخير كله وهو القائل: ((من يحرم الرفق يحرم الخير(1))). ومن ثم قيل:(الرفق في الأمور كالمسك في العطور(2)). وقديماً قيل: الحلم سيد الأخلاق.
وما فتئ العارفون يتمثلون الحلم في حياتهم، والأناة في تصرفاتهم، ويهدون بها غيرهم، وقد ورد أن رجلاً سبّ ابن عباس رضى الله عنهما، فلما فرغ قال: يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى(3).
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . هو الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت كاذباً فغفر الله لك، وإن كنت صادقاً فغفر الله لى(4).
وما أجمل ما قال الشافعي رحمه الله:
يخاطبنى السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا(5)
أخوة الإيمان: وإذا كانت الحاجة تدعو الحلم والأناة في كل حال في هذه الحياة الدنيا، فهي في زمن الشدائد والفتن أحرى وأولى، ففيها تطيش العقول، وتضطرب القلوب، وتختل المواقف، ولا يسعف المرء إلا التثبت والأناة والحلم والرفق في المدلهمات، لكن ذلك محتاج إلى صبر ومصابرة، وتغليب حظوظ الآخرة على الدنيا، ويضرب ابن عمر رضى الله عنهما أروع الأمثلة في هدوئه وأناتة ورفقه وحلمه في الفتنة ويقول: ( دخلت على حفصة، ونسواتها تنطف – أى ذوائبها تقطر – قلت: قد كان من الناس ما ترين، فلم يجعل لى من الأمر شىء، قالت: الحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فنحن أحق به ومن أبيه، قال حبيب بن مسلم لابن عمر: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عنى غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان، قال حبيب: (حفظت وعصمت(1)).
وسواء وقعت هذه الحادثة حين تفرق الحكمان في (صفين) فلم يتفقوا على أمير المؤمنين، أم كانت في زمن معاوية حين أراد أن يجعل ولاية العهد لابنه يزيد، فهي تصور أناة ابن عمر ورغبته في تسكين الأمور وعدم إثارة الفتن بين المسلمين، والحرص على جمع الكلمة، وهو ما وافقه عليه الصحابي حبيب بن مسلمة حين قال: حفظت وعصمت.
وكذلك ينبغى أن تكون الأناة والرفق والحلم منهجا للمسلم في كل حال، وتتحتم أكثر حين تكون الفتن والفرقة والخلاف، فتلك خير وسيلة لمراغمة الشيطان وجمع كلمة المسلمين، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، ومن يحرم الرفق يحرم الخير كله.
أقول ما تسمعون....
(1) أنظر مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق لابن حزم ص 83 ، 84 حاشية .
(4) الحديث رواه مسلم وغيره ( صحيح مسلم 1 / 48 ح 25 ) .
(5) كما ذكر لك الإمام النووى رحمه الله ( شرح مسلم 1 / 189 ) .
(6) الإحياء 9 / 1657.
(4) رواه مسلم ح 2593 ، 4 / 204 .
(1) روى الحديثين الإمام مسلم في صحيحه 4 / 2003 ، 2004 .
(2) الأخلاق الضائعة للعنبرى / ص 32 .
(3) إحياء علوم الدين 9 / 1661 .
(4) الإحياء 9 / 1661 .
(5) الأخلاق الضائعة / العنبرى / 34 .
(1) الحديث أخرجه البخارى وغيره ( انظر الفتح 7 / 403 ). ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله رب العالمين قدر أرزاق العباد، وقسم أخلاقهم، والمغبوط حقا من وفقه الله علما وحلما، قال علي رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعم حلمك، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى(1).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعطى الدنيا من أحب ومن لم يحب، ولكن لا يعطى الدين إلا من أحب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، علم الأمة بسلوكه القولي والفعلي العلم والحلم والرفق والأناة، والخير كل الخير في اتباع سنته واقتفاء أثره.(/2)
أيها المسلمون: ولم يكن الأناة والرفق وتسكين الأمور في الفتن سلوكا خاصا بابن عمر رضي الله عنهم، بل كان ذلك ديدن الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضى الله عنهم، وهذا سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه وهو أحد المبشرين بالجنة، ثبت عنه أنه قال لابنه حين حثه في القيام ببعض الأمور في الفتنة قال لابنه: (يا هذا! أتريد أن أكون رأسا في الفتنة، لا والله (2)).
بل وصل الأمر بسعد رضى الله عنه إلى أن أعتزل الناس حين وقعت الفتنة.
ولا شك أن سعدا وابن عمر وغيرهما من الصحابة رضوان الله عليهم تعلموا سلوك الأناة والرفق والنظر في الأمور من محمد صلى الله عليه وسلم الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه، وزكاه في محكم تنزيله لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [التوبة :128].
ومحمد صلى الله عليه وسلم لأناته وحسن تقديره لم يتعجل في تغيير بناء الكعبة، وهو القائل لعائشة رضي الله عنها: ((لولا حدثان قومك بكفر لهدمت الكعبة، ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين(4))).
والبخاري رحمه الله بوب على هذا الحديث بابا عظيما فقال: (باب من ترك بعض الأخبار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه فيقعوا في أشد منه).
معاشر المسلمين: وهل علمتم أن الحلم والأناة سبب للحفظ والبقاء، حتى وإن كان المحفوظ فاسقا أو كافرا؟
تأملوا في هذا الحديث الذى رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه، وقد جاء فيه أن المستورد القرشي رضى الله عنه – وعنده عمرو بن العاص رضى الله عنه – ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس! قال له عمرو: أبصر ما تقول، قال المستورد: ومالي أنا لا أقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمرو: إن كان كذلك فلأن في الروم خصالا أربعا، وعد منها: أنهم أحلم الناس عند الفتنة، وإنهم أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة)) … وعد بقية الخصال الأربع.
قال أهل العلم: هذا كلام من عمرو بن العاص رضي الله عنه، لا يريد أن يثني على الروم والنصارى الكفرة .. كلا، ولكن ليبين للمسلمين أن بقاء الروم وكونهم أنهم أكثر الناس إلى أن تقوم الساعة، لأنهم عند وقوع الفتن أحلم الناس فهم لا يحملون ولا يعجلون ولا يغضبون، فيقوا أنفسهم ويقوا أصحابهم القتل (1).
ومن العجب أن يتساهل المسلمون فيما نص عليه دينهم ويتشبث بها من حرفت كتبهم ونسخت أديانهم؟
أيها المؤمنون، وتشتد الحاجة للحلم كذلك حين تستأثر المشاعر، فتحتاج إلى التهدئة والتسكين، وحين تشعر النفوس بالضيم، فتتطلع إلى الانتصار وحين يشيع المنكر، فترتفع أسهم الغيرة لدين الله.
لكنها يجب أن تضبط بميزان الشرع وأن تحكم بالعقل، وأن تحلى بالحلم، وأن تجمل بالرفق ( وما كان الرفق في شىء إلا وزانه ).
وعلى مسلمي اليوم أن يتذكروا أن الاستفزاز قديم، وأن العاقبة للمتقين إن هم صبروا وصابروا ورابطوا واتقوا رب العالمين.
واقرؤوا القرآن الكريم وستجدون فيما أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: وإن كانوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلاً سُنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلاً [الإسراء:76-77].
وقال تعالى – في معرض الحديث عن صراع الحق والباطل بين موسى عليه السلام وفرعون – فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعاً وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً [الإسراء :103-104].
أخوة الإسلام: ولا يعني الحلم والأناة تبلد الإحساس عن مصائب المسلمين، ولا موت المشاعر عن واقعهم المهين، ففئة تقتل أو تهجر – كما يحصل اليوم على أرض البوسنة والشيشان وغيرها – وربما مات الكثير من فقد الطعام والشراب، وفئة تؤذى أو تنفى أو تسجن أو تعذب كما في بلاد كثيرة من بلاد المسلمين.
وليس من الحلم والأناة إضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتكاسل في الدعوى إلى الله بالحسنى، ولا القعود عن نصرة المظلومين، ومحبة المؤمنين، والبراءة من الكافرين، وبغض المنافقين، ولكن الحلم والأناة تريث وتعقل في الحركات، وتأن وعدم عجلة في التصرفات، ونظر محمود في العواقب، وتقدير وتغليب للمصالح والمفاسد، إنه كبح جماح، النفس والهوى، واستشارة لذوي العلم والفضل والنهى، بالحلم والأناة يسود العلماء، وبالحلم والأناة والرفق يصلح شأن الولاة والأمراء. ((اللهم من ولى من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتى شيئا فرفق بهم فارفق به)).
كذلك قال المصطفى صلى الله عليه وسلم(3).
وتأملوا في عظيم هذه الحكمة التى أسداها واحد من سادات الحكماء ومن يضرب بحلمه وسؤدده المثل.
إنه الأحنف بن قيس رحمه الله، الذي يقال أنه كلم مصعب بن الزبير في محبوسين، وقال: أصلح الله الأمير إن كانوا حبسوا في باطل فالعدل يسعهم، وإن كانوا حبسوا في حق فالعفو يسعهم.(/3)
وهو القائل: لا ينبغى للأمير الغضب، لأن الغضب في القدرة لقاح السيف والندامة(4).
وبالحلم والرفق والأناة ينبغى أن يربى الأباء والأمهات البنين والبنات، وأن يكون جزءا مهما من وظيفة المربين، وأسلوبا عمليا للمعلمين، ونهجا متبعا للقادة والمسؤولين، اللهم هيء للمسلمين من أمرهم رشدا، وارزقهم الحلم والأناة والرفق في الأمور كلها.
(1) الإحياء 9 / 1660 .
(2) صالح آل الشيخ ، الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن ، ص 41.
(4) إخرجه البخارى في صحيحه .
(1) الضوابط الشرعية …. آل الشيخ / 17 ، 18 .
(3) رواه مسلم ( 1828 ) رياض الصالحين / 298 .
(4) سير أعلام النبلاء 4 / 94 . ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
الخطيب وعلاقة التأثير والتأثر
كمال الدين رحموني
لقد خاطب الله ـ سبحانه ـ المؤمنين في كتابه العزيز آمراً إياهم بالاستجابة لنداء الجمعة، ناهياً إياهم عن البيع والتجارة، وعلق الخير كله على تحقيق هذه الاستجابة، فقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللََّّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9 - 10] ، بعد ذلك عاتب المنشغلين بالدنيا بقوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11].
إن الأمر بالسعي إلى الجمعة ـ وهي المقصودة بذكر الله على قول بعض المفسرين - والنهي عن البيع في الآية، فيه دليل صريح على أن القرآن الكريم يجزم أن هناك علاقة طبيعية بين البيع والتجارة وبين الجمعة، هذه العلاقة التي يُعتَبَر البيئة الاجتماعي المجال الخصب الذي تتجاذب فيه هذه العلاقة بين التجارة وذكر الله، أو بين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة، ومن ثم يتبين أن المنهج القرآني يراعي المجال أو البيئة الذي يعتبر المسجد والخطيب ضمن مكوناته البارزة في المجتمع الإسلامي. ومما يزيد الأمر بياناً في الاحتفاء بالبيئة، تحذير القرآن الكريم من أن يغدو البيئة عاملاً سلبياً، فينقلب إلى أداة استهواء وركون في حياة الناس، يستبدلون بالأدنى الذي هو خير، فقال الله ـ عز وجل ـ: {وَإذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. وتحذير القرآن من الانشغال بالتجارة يوم الجمعة هو إقرار ضمني بتأثير البيئة؛ ذلك أن التجارة تمثل جانباً مهماً من جوانب هذا البيئة، ولذلك سعى القرآن إلى إحداث التوازن المطلوب بين مطالب الدنيا التي تتحقق في البيئة، وبين مطالب الآخرة فقال ـ تعالى ـ: {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللََّّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله بعد انقضاء صلاة الجمعة يعزز الاقتناع بأهمية الأرض ـ البيئة ـ في حياة الناس في مستواها الإيجابي، كما أن الاستغراق في طلب الدنيا والافتتان بها يكرس سلبية هذا البيئة وآثارها الوخيمة على الناس.
وإذا كان القرآن يتنزل في كثير من الأحيان استجابة لعوارض تعرض، أو حوادث تحدث في واقع الناس ومحيطهم، فإن منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعوي يشهد على استحضار البيئة العام باعتباره عاملاً أساسياً في التبليغ والدعوة والتوجيه، ولذلك كانت الخطبة ـ إلى جانب القرآن الكريم ـ أداة متميزة في تحقيق التواصل مع شرائح المجتمع، وخير دليل على حضور البيئة الاجتماعي في منهجه -صلى الله عليه وسلم-، أن كثيراً من خطبه كانت استجابة لمعاناة أو انشغالات مصدرها البيئة العام؛ فقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأتيه الناس يشكون القحط والجفاف، فيقوم فيهم خطيباً يستسقي ربه، ويُهرَع إليه آخرون يشكون الفاقة والمخمصة، فيقوم في الناس خطيباً حاثّاً إياهم على البذل والإنفاق والتصدُّق، ويأتيه أحدهم يزعم أن له حقاً في المال الذي كُلِّف بجبايته، فيقوم -صلى الله عليه وسلم- في الناس خطيباً مفنداً للزعم، دافعاً للوهم، إلى غيرها من المواقف النبوية الكريمة التي تؤكد هذا الارتباط الوثيق بين الخطبة والبيئة، انطلاقاً من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- القولية والفعلية. إذن نستطيع القول: إن الإسلام قد احتفى بالبيئة من خلال استهدافه الإنسان نفسه داخل هذا البيئة، وبذلك يتحقق المبدأ الأول في مقاربة موضوع البيئة.
أما ثاني المبادئ، فيتمثل في البيئة ذاته من حيث اتساعه، وحجم التعقيدات التي يفرزها العصر، ونوعية هذا البيئة، ومن ثم تتضاعف قيمة البيئة، وتزداد أهميته بالنسبة للرسالة التي يضطلع بها خطيب الجمعة؛ حيث إن الوعي بحقيقة تطور هذا البيئة يعد أولوية بالغة، وحاجة ماسة لإحداث التأثير المطلوب، وتربية مكونات هذا البيئة وفق الرؤية الإسلامية الشاملة التي تقيم فعل المجتمع انطلاقاً من ثابت الإسلام في إطار الواقع والعصر، وكل عمل إصلاحي يستهدف الإنسان والمجتمع لا يستحضر هذين البعدين أو يكتفي بأحدهما فإنه يبقى محدود الأثر، ضئيل النتائج أحياناً، أو مكرساً لمحيط مريض أحياناً أخرى.(/1)
إن كلمة «البيئة» تحمل دلالة الزمان والمكان، ولعل الكلمة نفسها في الدلالة اللغوية تفيد هذا المفهوم وتضيف إليه معنى مجازياً آخر. يقول الراغب الأصفهاني في مفرداته: «حوط: الحائط الذي يحوط بالمكان. والإحاطة تقال على وجهين: أحدهما: في الأجسام... أو تستعمل في الحفظ...»؛ فالبيئة هو مجال مكاني محدد يتراوح بين الامتداد والانحسار، لكننا لا نكتفي بهذا المفهوم اللغوي للمحيط فقط، وإنما نعني به كل ما يحيط بالإنسان زماناً ومكاناً، حاضراً ومستقبلاً، كما نستعير له ردائف رائجة في العصر الحديث، مثل الواقع والبيئة والمجال.
ولما اقتضت مشيئة الله أن يخلق الناس من أصل واحد فتختلف أجناسهم وتتباين لغاتهم، وتمتد في الأرض بلدانهم، ناسب أن يتعدد البيئة الذي يضمهم؛ فمنه البيئة المحلي، والقطري، والعالمي.
إن الوعي بهذه الأبعاد الثلاثة لدى الخطيب شيء لازم؛ لأن مسيرة الإنسان المستهدَف بالتغيير والإصلاح في محيط ما، يتعذر عزلها وتحديدها في إطار ضيق، ولذا نأمل أن تراوح رسالة الخطيب الدعوية بين هذه الأبعاد الثلاثة لتحقيق التكامل المطلوب؛ فمظاهر الخلل التي تعتري محيطاً محلياً ما، لا يمكن ـ إطلاقاً ـ عزلها عن العوامل القطرية أو العالمية، ولنضرب مثالاً على ذلك:
إن الخطيب صاحب الصلة الوثيقة بالبيئة المحلي حين يلحظ مظاهر الانحراف في جانب من جوانب الأسرة المسلمة (عقوق أو إهمال الأبناء أو انحلال المرأة أو غيرها) ـ وهو يسعى للتنبيه وإصلاح الخلل ـ لا يمكنه منهجياً أن يعالج هذا الخلل مجرداً من السياق العالمي العام الذي أفرز هذا الاختلال ويحصره في حيزه الأسري أو المجتمعي الضيق، وإنما ينبغي أن يربط النتائج بالأسباب الظاهرة التي قد تعود إلى الأسرة نفسها: جهلاً، أو تقصيراً، أو إهمالاً، دون أن يغفل العوامل الخارجية التي تتحمل نصيباً من المسؤولية في إحداث هذا الانحراف، وتسعى لحمايته من أجل الكيد للأسرة المسلمة من خلال وسائل الإعلام وبرامج التعليم ونمط الاقتصاد وغيرها من الوسائل. من هنا تتضح ملامح العلاقة الوطيدة بين أبعاد البيئة الثلاثة، والأمثلة كثيرة يضيق المقام باستعراضها.
إننا نقصد بالبيئة المحلي ذلك الفضاء الذي يُعتَبَر الخطيب جزءاً منه، قد يضيق وقد يتسع، قد يكون جهة بأقاليمها، أو مدينة بأحيائها، أو قرية بشعابها وأوديتها، وهو أيضاً محيط بشري يضم الفرد: ذكراً وأنثى، ويستوعب الجماعة: أُسَراً ومؤسسات وهيئات، هذا البيئة المحلي يصبح قطرياً وطنياً كلما تكاملت وتضامَّت هذه البيئةات المحلية، وكلما اتسعت المساحة الجغرافية كلما تمدد البيئة ليصبح عالمياً يضم العالم الإسلامي وغيره. ولعل البيئة الذي يهم الخطيب بشكل إجرائي هو محيطه المحلي الذي هو بمثابة المحرار الذي يقيس به الخطيب مستوى الصلاح والضلال في المجتمع، كما يقيس من خلاله درجات الالتزام الإسلامي الصحيح لدى الناس، وسيلته في ذلك الوعظ والإرشاد والخطابة؛ ويذلك تتأسس العلاقة بين الخطيب ومحيطه وفق نسق تبادلي أساسه التأثير والتأثر.
إن الخطيب الحاذق هو الذي يتعامل مع البيئة بنظرة شمولية متوازنة تتأسس على ما يلي:
1 ـ التشخيص الميداني:
إن تشخيص واقع البيئة، وتوصيف مظاهر الخلل فيه وتلمُّس درجات هذا الخلل كفيل بأن يذلل جملة من الصعوبات أمام الخطيب؛ ذلك أن الإدراك الواعي لمواطن الانحراف تفيد الخطيب في الإلمام بحقيقة التحديات والعقبات التي هو مدعو لتجاوزها: فهل البيئة يعاني خللاً في جانب العقيدة أو العبادة أو الأخلاق؟ وما حجم هذا الانحراف وما أسبابه؟ وما الوسائل التي ترسِّخ هذا الانحراف في البيئة؟ وهل هذه الوسائل موضوعية أم ذاتية في البيئة، أو خارجية؟
أسئلة تُعَدُّ الإجابة عنها عاملاً مهماً من عوامل التأثير الإيجابي، أي أن الخطيب مدعو لمراعاة ما يُعرف عند العلماء بفقه الأولويات أو بفقه مراتب الأعمال بتعبير بعض الدعاة المعاصرين. ويُعنى بفقه الأوليات «أن يضع الداعية ـ والخطيب ـ كل شيء في مرتبته بالعدل سواء كانت أحكاماً فقهية ـ إذا كان الخطيب فقيهاً ـ ثم يقدم الأوْلى فالأوْلى بناء على معايير شرعية صحيحة ينير سبيلها نور الوحي ونور العقل، فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح على الراجح، ولا المفضول على الفاضل أو الأفضل... بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم بلا طغيان ولا إخسار...» في فقه الأولويات ص 9. وما يقال في المأمورات يقال في المنهيات، وإن لكل محيط أولوياته الآنية التي تتطلب من الخطيب أن يفقهها ويعمل على جعلها محاور للمعالجة في خطبه.
2 ـ تعرُّف الجمهور:(/2)
إن الخطيب يجد نفسه أمام جمهور من الناس تختلف نوعياتهم، وتتعدد مشاربهم، وتتفاوت مسؤولياتهم ومؤهلاتهم؛ فمنهم الأمي والمتعلم والمثقف، ومنهم الرجال والنساء والشباب؛ ولذلك فإن دراسة البيئة تقتضي من الخطيب معرفة هذا الجمهور عن قرب، ومراعاة مستوياته المختلفة حتى يتيسر له أن يخاطب الناس على قدر عقولهم لتحقيق الهدف والقصد. إن معرفة الجمهور المستهدف عن قرب لا تتحقق بعفوية وتلقائية فحسب، وحتى إذا حصلت هذه العلاقة العفوية، فإنها لا تعتبر مقياساً في الحكم، وإنما نقصد المعرفة المبنية على أسس علمية وخلقية تسهل للخطيب السبيل لتعرف جمهوره حقيقة لا توهماً، وذلك ما لا يتأتى إلا إذا حرص الخطيب على بناء علاقة متميزة مع جمهوره، يطبعها الود والاحترام المتبادل، وحب الخير لهذا الجمهور، والإحساس بمعاناته، والسعي في مصالحه، وتذليل الصعاب أمامه، والصبر على أذاه، والتجاوز عن خطئه، والعفو عن زلاته، كل ذلك لا محالة، يكسب الخطيب ثقة في نفوس الناس، ويقوي آصرة التواصل والالتحام بينه وبين محيطه، وبذلك يكون لتوجيه الخطيب وقع في نفوس سامعيه، تظهر ثماره الإيمانية بمرور الزمن، ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة والمثل الطيب؛ فلقد كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يسع الناس بخُلُقه قبل أن يسعهم بدعوته، وذلك هو المنهج الذي ينبغي للخطيب أن يسلكه في التعامل مع الناس بعيداً عن الانحياز أو الانعزال، ساعياً إلى الانفتاح على جميع مكونات البيئة.
3 ـ القدوة الحسنة:
وهي حجر الزاوية وقطب الرحى في مهام الخطيب، وإذا فُقِدَ هذا العامل ضاع الجهد وشحت الثمار وتعطل سبيل الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ لأن مصداقية الخطيب تظهر على محك الواقع والبيئة؛ فالخطبة قبل أن تعني الجمهور، فهي تعني الخطيب أولاً، ولذلك ينظر الناس ـ في العادة ـ إلى الخطيب باعتباره رمزاً للاستقامة وحسن الامتثال، وتلك هي الصورة التي يراها البيئة في الخطيب ويريد أن تبقى ملازمة له باعتباره المَعِين الذي ينهل منه الناس معرفتهم بالإسلام ويتعلمون منه أمور دينهم، ولذلك ما وجدنا أبلغ الخطباء ـ عليه السلام ـ يأمر بشيء إلا كان أسرع الناس إليه، ولا ينهى عن شيء إلا كان أبعد الناس عنه؛ وذلك هو القبس الذي ينير طريق الخطباء العاملين، الذين يسعون لتزكية القول بالعمل الصالح. إن مطلب القدوة الحسنة ليس شرطاً قاصراً على الخطيب وحده؛ لأنه يصيب ويخطئ كسائر الناس، وإنما تزداد الحاجة إلى هذا المطلب بالنسبة للخطيب، باعتبار موقع الإمامة الذي يدعوه إلى تحقيق الانسجام بين القول والفعل. إن عمل الخطيب وسلوكه يخلِّف أثراً في البيئة أكثر مما يتركه القول والوعظ والإرشاد؛ ذلك لأن أكثر الناس في البيئة يقتفي أثر الخطيب. وإذا كان الخطيب معنياً بتمثُّل القدوة الحسنة في نفسه، فهي في أهله وأسرته أشد إلحاحاً؛ فأسرة الخطيب هي محيطه الصغير داخل البيئة العام الذي يستهدفه الخطيب بالتربية والتوجيه.
4 ـ أهمية البيئة في اختيار الموضوع:
إن اختيار موضوع الخطبة له أهمية بالغة، فهو عامل حاسم إذا راعى الخطيب الأسس الشرعية، وفقه الواقع الذي أتينا على ذكر بعض تجلياته؛ فتشخيص البيئة ودراسة الواقع يتيح أمام الخطيب فرص الوقوف على أهم مظاهر الاختلال وعواملها، ومن ثَم يجعله يركز في خطبه على حفز البيئة على الانتباه إلى هذه المظاهر والعمل على تجاوز أسبابها، وسيلته في ذلك، الأسلوب المؤثر الذي يقع في النفس موقع الماء العذب من التربة الخصبة، معززاً خطبه بالحجج القاطعة والأدلة الناصعة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومنهج الأنبياء عليهم السلام، وسيرة السلف الصالح، واستخلاص العبر من تجارب الأمم. وإن معرفة الخطيب بفقه الأولويات تجعله موفقاً في اختيار موضوع الخطبة من حيث التقديم والتأثير، حسب ما يناسب البيئة؛ فالخطيب بمثابة الطبيب الذي لا يصف العلاج حتى يتعرف مواطن الداء وأعراضه، ويتفهم نفسية المريض.
إن التركيز على عوامل الخلل في البيئة لا يعني خلوَّ هذا الأخير من مظاهر الصلاح إطلاقاً؛ ولذلك فإن منطق العدل والقسط يقتضي أن يثمِّن الخطيب عناصر الصلاح ـ وإن قلَّت ـ ويدفع الناس نحو تنميتها والالتزام بها.
وبهذه المقومات الضرورية يستطيع الخطيب أن يجد لخطابه آذاناً صاغية وقلوباً واعية تتفاعل مع رسالة الخطابة التي تستهدف الإنسان المسلم عقيدة وفكراً وخلقاً؛ والحمد لله رب العالمين(/3)
الخطُواتُ العمليةُ للثباتِ علي التوبةِ
فِي كُلِ يومٍ نسمعُ أن فلاناً أو فُلانةً قد أفاقُوا مِن غفلتِهِمِ وسُباتِهِم
وعادُوا إلي الطرِيقِ المُستقِيمِ وتابُوا إلي الله.
يفرحُ القلبُ ونحمِدُ المولَي عز وجل علَي أن هداهُم وندعُوا لهُم
بالمغفرةِ و بالثباتِ ودوامِ التوبةِ.
وفجأةٌ وبدونِ أيِ سابِقِ إنذارٍ, نرَي الكثِيِر مِنهُم قد تقهقرُوا وعادُوا أدراجهُم
لِما كانُوا عليهِ, وكأن لم يتذوقُوا طعمِ التوبةِ ويخطُوا أولَي خطواتُهُم
فِي طريقِ الإستقامةِ والهِدايةِ.
فما كانَت توبتُهُم هذِهِ إلا توبةً عابِرةٌ ومؤقتةً
تعُوُدُ أسبابِهَا إلي تأثُرٍ بِإحساسٍ مؤقتٍ بالخوفِ مِن المولي عز وجل
وفِي مُقابِلِ ذلِك تابُوا وأنابُوا واستغفرُوا لذنبِهِم.
وعادةً هذَا التأثُرِ أو الإحساسُ المُؤقتِ بالتوبةِ يكونُ نِتاجُ عدةِ أمورٍ
منهَا علي سبِيلُ المثالِ:
1- موتُ أو فقدانِ قريبٍ أو عزِيزٍ.
2- مرضُ يُلِمُ بالإنسانِ ذاتهُ أو بعزِيِزٍ عليهِ.
3- قرأة بعضُ الكتُبِ أو المقالاتِ المؤثِرةُ, أو حتَي الإستماعُ لتلاوةٍ
أو لمحاضرةٍ أو سماعُ قصةٍ مؤثِرةٍ, وكلُ ماشابهَ ذلِك.
4- التأثُرِ بافتضاحِ أمرٍ لذاتِ الإنسانُ أو لغيرِهِ.
5- حالاتُ الإكتئابِ والضِيقِ التِي تُصِيبُ البعضِ فيشعُرُ معهَا أنهُ
قد كرِهَ كُلُ شىءٍ وبعُدَ عن كُل شيءٍ.
6- أن يطلُب الطرفُ الأخرُ مِن شرِيكِهِ, الإلتزامُ بأمرٍ مُعينٍ مِن أمورِ الدِين
ويضعهُ شرطاً للإرتِباطِ أو حتَي لإستِمرارِ الحياةُ والمعِيشةُ بينِهِما.
والكثِيِرُ مِن المُسبِباتِ والأحوالِ التِي يتعرضُ لهَا الإنسانُ فِي حياتِهِ
والتِي قد تدفعُهُ إلي التوبةِ إلي الله.
ونحنُ هُنا لا ننفِي أبداً أن البعضُ أرادَ اللهُ لهم شيئاً مما ذكرنَا
فكانتَ هذِهِ هِي الأسبابُ التِي سببهَا المولي عز وجل للتوبةِ النصُوحِ
ولكِننا هُنَا نتحدثُ عن فئةٍ مُعينةٍ
وهُم مَن تزولُ توبتهُم بزوالِ المُسبِبِ ويعُودُون أدراجهُم كما كانَوا
هذَا إن لم يعُدوا مُكابِريِنَ مُعانِديِنَ مُصرِيِنَ علي المعصِيةِ أكثرُ مٍن ذِي قبلٍ
وبالطبعِ, لا يستطِيِعُ أياً مِنا أن يُنكِرُ, أن مَن وضعَ قدمهُ فِي طريقِ التوبةِ
أياً كانَ السببُ الذِي قدرهُ اللهُ تعَالَي, هُوَ يكُونُ بذلِكَ قَد بذَرَ أولَ بذرةٍ طيِبةٍ
تُثمِرُ جناتٍ وحدائِقَ غناءٍ تُؤتِي أكُلُهَا كُلِ حينٍ بإذنِ ربِهَا
إلا أنَ مَن ضعُفة هِمتُهُ ومُقاومتُهُ وهزمهُ شيطانُهُ, نسِيَ أن
هذِهِ البذرةُ تحتاجُ إلي أرضٍ خصبةٍ وإلي شمسٍ وماءٍ وهواءٍ, تحتاجُ إلي تعبٍ
وحُبٍ وعناءٍ حتَي تُزهِرُ وتُثمِرُ ثُمَ تجنِي ما طابَ لكَ مِن أطايِبِهَا وقُطوفِهَا
وهذَا كلهُ لا يتأتَي إلا بإحاطةِ هذِهِ التوبةُ بالسياجُ والدرعُ الواقِي
الذِي تُحِيطُ بهِ تلكَ البذرةُ الولِيدةُِ, حتَي تغدُوا قويةً صلبةً كالقلعةً الحصِينةً
لا تُكسَر ولا تُقتحمُ ولا تُهزمُ, بإذن الله.
وإليكَ أيُهَا التائِبُ هذَا السياجُ الواقِي وأهمُ الوسائِلُ العملِيةُ
التِي تُحافِظُ بِهَا علي بذرةِ توبتِكَ وتثبتُ بِهَا عليَ الخيرِ الذِي أنتَ فيهِ, بإذنِ الله.
1- أجعَل لنفسِكَ وِرداً مِن القرءانِ الكرِيِم يومِياً وبشكلٍ مُستمِرٍ
وهروِل إلي كتابِ اللهِ, فِي أيِ وقتٍ شعرتُ فيهِ بالضِيِقِ أو بالرغبةِ فِي العودةِ
إلي المعصِيةِ أو حتَي بِمجردِ حنِيِنٍ وسعادةُ اعترتكَ إن استرجِعتَ ذكرَاهَا.
2- أجعَل لنفسِكَ وِرداً مِن الأذكارِ اليوميةِ
وخصِص وقتَاً لذلِك ولا تتنازلُ عنهَا ولا تتهاونُ فيهَا مهمَا كانتِ الظرُوُف
وكذلِك اجعلُ لسانُكَ دائِماً رطِباً بذكرِ الله وأكثِر مِن الإستغفارِ
والتهلِيلِ والتكبِيِر والحمدِ, وكُلِ ماشابهَ ذلِك.
3- المُحافظةُ علي الصلواتِ الخمسةِ والخشوعِ فيهَا
والاستزادةُ بِما استطَعتَ وما قدَرَ اللهُ لكَ مِن السُننِ والنوافِل.
5- الدعاءُ والتذلُلُ للمولي عز وجل
بالقبُوُلِ والمغفِرةِ والثباتِ حتَي المماتِ علي التوبةِ والهِدايةُ.
6- هجرُ وتغيِرُ المكانِ الذِيِ كُنتَ تعصِي الله تعَالَي فيهِ
وبالطبعِ فإن هذَا يتوقفُ علي نوعِ المعصِيةِ التِيِ كُنتَ فِيِهَا
وكذلِكَ الهجرُ والإبتِعادُ عَن كُل مَن كانَ يُشارِكُكَ هذِهِ المعصِيةُ أو حتَي يُشجِعُكَ عليهَا
وأقذِف بعِيداً وبكُلِ ما أوتِيتَ مِن قوةٍ, كلِ وسيِلةٍ أعانتكَ علي المعصيةِ
وعلَي التمادِي فِي الرذِيلةِ.
7- البحثُ الدؤبُ عن الصحبةِ والرفقةِ الصالِحةَ
والتِي تصدُقُكَ القولُ وتشدُ مِن أزرِك, وتأخذُ بيدِكَ وتكُونُ لكَ هادِياً ودلِيِلاً
ونُوراً يُضِيِء لكَ الدربَ والطرِيِقَ, بإذنِ الله.
8- شغلُ أوقاتِ الفراغِ بِكُلِ ما يُفَقِِهُكَ ويُرغِبُكَ فِي التمسُكِ بأوامرِ ونواهِي الدِيِنِ
ويُعمِقُ إحساسُكَ بجمَالِ ورفعةِ دينٌ هُو نعمةٌ مِن المولَي عز وجلَ علينَا
وبهِ كنَا خيرُ أمةٍ أخرِجت للناسِ
دينٌ ليسَ فِيِهِ حِرمانٌ ولا محروُمٌ(/1)
فالمولي عز وجل لَم يُحرِمُ علينَا الشهواتِ, وزينتةَ التِي أخرجَ لعبادِهِ
والطيباتُ مِن الرزقِ, ولكِنهُ كَرمنَا وأكرمنَا فأرادَ سبحانهُ وتعَالَي
أن نحيَا فِي عزةٍ وكرامةٍ ولا يكونُ هذَا إلا فِي حلالٍ وبِحلالٍ.
ولا تنسَي أن يكُونَ طرِيِقُكَ فِي التفقُهِ هُوَ المصادِرِ الموثوقةِ
التِي تستسقِي منهَا الحقُ والصِدقُ, فلا تتخبطُ وتختلُطُ عليكَ الأمورُ
وهذَا الذِي نراهُ يحدُثُ للكثِيِرِ فِي هذَا الزمانِ.
لا تنسَي أيضاً الإستزادةُ مِن سِيرةِ المُصطفَي صلي اللهُ عليهِ وسلم
وكذلِكَ قصِصِ التائِبِيِن والعابدِيِن والصالِحِيِن , فكُلُ هذَا يُعطِيِك الحافِزُ
والطاقةُ التِي تشحذُ الهِمةُ, بإذنِ الله.
9- لا تنسَي نصِيبُكَ مِن الدنيا
وروِح عن قلبِك ونفسِكَ بمُمارسةِ الهواياتِ التِي هِي فِي حُدودِ ما أحلَ اللهُ ولَم يُحرِم
وتفاعلُ معَ عائلتُكَ وأصدقائُكَ الأخيارُ, ولا تُشدِدُ علي نفسُكَ حتَي لا يُشدِدُ الله عليكَ
ولا تعتقدُ أن التوبةُ والإلتزامُ يعنِي التجهُم والعزلةُ ورفضِ الناسِ والحياةِ والعلمِ
بل أدِي رسالتُكَ فِي الحياةِ وكُن مُطمئِناً سعِيداً واستمتِع بكلِ ما أحل اللهُ لكَ.
10- أصبِر علَي التمحيصِ والإبتلاءِ والأذَي أياً كانَ
فاللهُ تعَالَي يختبرُ التائِبِيِن, ليعلمَ الذِيِنَ صدقُوا ويعلمُ الكاذبِيِن, سبحانهُ مَن لا تغِيِبُ
عنهُ غائبةٌ فِي السمواتِ والأرضِ ومَن يعلمُ خائِنةَ الأعيُنِ وما تُخفِي الصُدُورِ
واحذَر الفتِن والمُغرياتِ التِي ستُعرضُ عليكَ, بل وأنهَا ستأتِيكَ علَي طبقٍ مِن ذهبٍ
ولربمَا كُنتَ فِي زمنِ المعصِيةِ أنتَ الباحِثُ عنهَا.
وأخيِراً إياكَ أن تقُولَ:
أعودُ ولكِن ليسَ كَمَا كُنتَ بَل بمعصِيةٍ صغِيرةٍ
فأولُ الغيثِ قطرةٌ ومعظمُ النارِ مِن مُستصغرِ الشررِ
فجاهِد نفسُكَ الأمارةُ بالسوءِ ولجِمُهَا واكبَح جِماحُهَا وأغلِقِ أبوابَ الماضِي
ومزِق صفحاتهُ واحرِقهَا وقدِمُهَا للرِيِحِ تطِيِرُ بِهَا وتنثُرُهَا بعِيداً عنكَ
وضُمَ بذرةُ توبتِكَ إلي صدرِكَ وقلبِكَ الطاهِرُ النقِي واحتضَنهَا
كمَا احتضنكَ أمُكَ, وجِلةٌ فرِحةٌ خافِقٌ قلبُهَا لولِيِدِهَا
وتذكِر دائِماً بأنَ الأخِرةُ خيرٌ وأبقَي وأنَ العاقبةُ للمُتقِيِن
وأختِمُ معكَ أخِي التائِبُ بقولِ المولَي عز وجَل
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) السجدة
سبحانك اللهم وبِحمدِك * أشهدُ أن لا إله إلا أنت * أستغفِرُك وأتُوُبُ إليك
بقلم أختكم
إيمان غازى فتيحى(/2)
... ...
الخيانة ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- الإعلام السبق بنقض العهد. 2- الأمر بالوفاء والتحذير من الخيانة. 3- من أنواع الخيانة خيانة الدين والعقيدة. 4- خيانة العرض. 5- خيانة الشخصية. 6- لماذا يقع الناس في الخيانة. 7- أثر الخيانة. 8- موقف المسلم من الخيانة. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
قال الله تعالى: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم علىسواء إن الله لا يحب الخائنين [الأنفال:58].
مادة في القانون الدولي الإسلامي العام: إنه إذا خشي الحاكم المسلم خيانة قوم للعهد الذي بينهم وبينه، أعلمهم بأنه قد نقض العهد حتى يكونوا على علم بالحرب قبل وقوعها، لأن الله لا يحب الخائنين .
فما الخيانة؟ ولماذا؟ وما أثر الخيانة؟ وما أنواعها؟
الخيانة: الغدر ونقض العهد .
والخيانة من سمات النفاق للحديث: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان))([1]).
وأشد الناس فضيحة يوم القيامة هم الخائنون، للحديث: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان))([2]).
وما القرآن إلا عهود ومواثيق بين الله وعباده وقد دعانا رب العزة إلى الوفاء فقال: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [المائدة:1].
وأما أنواع الخيانة :
خيانة العقيدة: وعقيدتنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وللعقيدة نواقض كما أن للوضوء نواقض، ونواقض العقيدة أن تستحل ما حرّم الله أو أن تنكر أمراً أمر الله به قال تعالى: ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين [التحريم:10]. والخيانة هنا هي خيانة الدين لا الفاحشة قال ابن كثير :إن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء. قال ابن عباس: كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء. وصلة الزوجية لم تنفع ولو كانت مع نبي للحديث: ((يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت فإني لن أغني عنك من الله شيئا، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه))([3])، قال تعالى: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [المؤمنون:101].
خيانة الأعراض: وقد حرم الله الزنا وعن مقاربته ومخالطة أسبابه فقال: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [الإسراء:32].
وللحديث: ((ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة يضعها رجل في رحم لا يحل له))([4])جاء فتى إلى النبي فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه فقال: رسول الله: ((ادنُ ثم قال له: أتحبه لأمك؟ قال :لا، والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أتحبه لأبنتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم قال: أتحبه لأختك قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال: أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. فوضع رسول الله يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه. قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء))([5]). ومن الخيانة في الأعراض النظرة الحرام قال تعالى: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور قال ابن عباس: هذا الرجل يدخل على أهل بيت وفيهم امرأة حسناء فإذا غفلوا نظر إليها وإذا فطنوا غض بصره. والديوث محروم من الجنة وهو الذي يرى الخبث في أهله ويسكت للحديث: ((لا يدخل الجنة ديوث))([6])، والمسلم يتقي الله في اختياره للزوجة حتى لا تكون باب هم وحزن وقلق للحديث: ((إياكم وخضراء الدمن. قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله ؟، قال: حسنة المظهر سيئة المنبت))([7]).
خيانة الشخصية: قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون [الأنفال:27]. يقول عروة بن الزبير: أي لا تظهروا لرسول الله من الحق ما يرضى به منكم ثم تخالفوه في السر إلى غيره فإن في ذلك هلاككم، وللحديث: ((لأعلمن أقواما يأتون يوم القيامة بأعمال كجبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا أما أنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلو بمحارم الله انتهكوها))([8]). وخيانة الشخصية الإسلامية تتضح في أكثر من صورة منها:(/1)
أن يكيف دين الله لنفسه ولا يكيف نفسه لدين الله للحديث: ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: من ليس عنده دينار ولا درهم. قال: لا المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وحج ويأتي وقد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته أخذت من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار))([9]) .
خيانة الإخوة: فقد قال تعالى: أشداء على الكفار رحماء بينهم [الفتح:29]. فنكون على عكس هذه الصورة قوتنا على إخواننا ومحبتنا لأعدائنا، وخيانة في المشاعر: للحديث: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)) فتراه يحزن ويتألم إن فقد درهما ولكنه لا يحزن أبدا ولا يتأثر على مصائب المسلمين في العالم .
خيانة الكسب: والمسلم الحق يحرص على الحلال في مطعمه ومشربه فلا غش ولا خداع، ولا كذب وفي رواية: ((إن رسول الله مر على صبرة طعام (أي كومة) فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غشنا فليس منا))([10]).
خيانة الوطن: وذلك بأن يكون مطية لأعداء الله في تنفيذ مخططاتهم وما فيها من دمار للبلاد والعباد، أو دليلا لهم على عوراتها، والعرب قبل الإسلام كانت ترى في خيانة الوطن جرما يستحق صاحبه فيه الرجم وقد جاء في سيرة ابن هشام رحمه الله أن أبرهة بنى كنيسة وأراد أن يصرف العرب إليها فذهب إليها رجل من العرب وأحدث أي تغوط وبال فعزم أبرهة على هدم الكعبة وسير لذلك جيشا وخرج معه بالفيل حتى وصل الطائف فخرج إليه مسعود بن متعب فقال له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ونحن نبعث معك من يدلك فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة وفي الطريق مات أبو رغال فرجمت العرب قبره. فهو قبره الذي يرجم الناس بالمغمس([11]).
وكذا إبن العلقمي لعنه الله وقد كان دليلا لهولاكو على عورات بغداد وتدمير دولة الإسلام فلعنة الله على الخائنين في كل زمان ومكان.
خيانة الذمة والعهد :وذلك بالغدر فيمن دخل في جوارك أو بلدك وتذكر لنا كتب السيرة موقفا للنجاشي رحمه الله، وقد اشتد الأذى بأصحاب رسول الله قال لهم :لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه. فخرج ثلاثة وثمانون رجلا. فأرسلت قريش من يأتي بهم وهما عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل وأعطوا كل قسيس هدية ولما دخلوا على النجاشي وقدما الهدايا فقبلها منهما ثم قالا: أيها الملك إنه قد أوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت فقال لهم النجاشي: لا والله لا أسلمهم وقد جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي. ولما علم وفد قريش أن الهدية لم تفعل فعلها قالا: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما: فأرسل إليهم الملك وسألهم فقرأ جعفر بن أبي طالب سورة مريم: ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وبكى النجاشي وقال: إن هذا والذي جاء به عيسى عليه السلام يخرج من مشكاة واحدة. ثم أمر فردت الهدايا فخرجا مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به([12]) .
هذا موقف سيبقى مثلا كريما يحتذى به في الوفاء والرجولة وأما مواقف الغدر والتعاون على إيذاء المؤمنين وإخراجهم من مأمنهم فمثل هذه المواقف الخانعة المهينة لأعداء الله سيجد أصحابها مقت الله وعذابه في يوم ليس لهم من دون الله عاصم.
وأما لماذا الخيانة؟
أن يكون العبد عبدا للدرهم والدينار والنساء والمناصب ومثل هذه له ثمن فيسهل على أعداء الله شراؤه وللحديث: ((تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة))([13]) أي هلك من كانت عبوديته لغير الله سبحانه كالمال والكساء وكلها إلى فناء.
أن يكون قد فقد الحياء من الله ومن الناس وللحديث: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت))([14]) .
وأما أثر الخيانة:
لا يأمن أحد أحدا حيث تترحل الثقة والمودة الصادقة فيما بين الناس فيحذر كلُ أحد كلَ أحد وقد جاء في الآثار: ((لا تقوم الساعة حتى لا يأمن المرء فيه جليسه)) .
ينقطع المعروف فيما بين الناس مخافة الغدر والخيانة ومن قصص العرب أن رجلا كانت عنده فرس معروفه بأصالتها، سمع به رجل فأراد أن يسرقها منه واحتال لذلك بأن أظهر نفسه بمظهر المنقطع في الطريق عند مرور صاحب الفرس فلما رآه نزل إليه وسقاه ثم حمله وأركبه فرسه فلما تمكن منه أناخ بها جانبا وقال له: الفرس فرسي وقد نجحت خطتي وحيلتي.
فقال له صاحب الفرس: لي طلب عندك، قال: وما هو؟ قال: إذا سألك أحد كيف حصلت على الفرس؟ فلا تقل له: احتلت بحلية كذا وكذا ولكن قل: صاحب الفرس أهداها لي .
فقال الرجل لماذا؟
فقال صاحب الفرس: حتى لا ينقطع المعروف بين الناس فإذا مر قوم برجل منقطع حقيقة يقولون: لا تساعدوه لأن فلانا قد ساعد فلانا فغدر به.(/2)
فنزل الرجل عن الفرس وسلمها لصاحبها واعتذر إليه ومضى.
وأما موقف المسلم من الخيانة:
أن تربى القلوب على مخافة الله وخشيته: مر عمر يتفقد رعيته ليلا فيسمع امرأة تقول لابنة لها: اخلطي الماء باللبن، فقالت البنت: لقد نهانا عمر عن ذلك فقالت أمها: وما يدري عمر: قالت البنت: إن كان عمر غائبا فإن ربه حاضر. تقع هذه الكلمة في قلبه فيجمع ولده ويعزم على أحدهم أن يتزوج هذه الفتاة فيتزوجها ولده عاصم فيكون من ولده عمر بن عبد العزيز الذي ملأ الدنيا عدلا.
أن نجتنب المعاصي من مبدئها ولا ندعها حتى تستفحل فيصعب درؤها كما يقول ابن القيم رحمه الله: المعاصي مبدؤها خاطرة فإن لم تدفعها صارت وسوسة فإن لم تدفعها صارت فكرة فإن لم تدفعها صارت إرادة فإن لم تدفعها صارت عزما فإن لم تدفعها صارت عملا. ((إياكم ومحقرات الذنوب، قالوا: وما محقرات الذنوب؟ قال: أرأيتم لو أن قوما أرادوا أن يشعلوا نارا فجاء هذا بعود، وهذا بعود، وهذا بعود، فاجتمعت فأصبحت نارا عظيمة))([15]).
يقول ابن القيم رحمه الله :
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
وأن تعلم أن البقاء في هذه الدنيا قليل للحديث: ((أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين))([16])، فما قيمتها أمام: خالدين فيها أبدا والدنيا ساعة فاجعلها طاعة فلم الخيانة ولم الكذب.
تأمل معي قول الشاعر في وصف الدنيا وقصر نعيمها :
أذان المرء حين الطفل يأتي
وتأخير الصلاة إلى الممات
دليل أن محياه يسير
كما بين الأذان إلى الصلاة
أي الأذان في أذن الصبي عند الولادة، والصلاة على الميت عند موته دليل أن مكوثه هو ما بين الأذان إلى الصلاة، فما أحقرها من دنيا، وما أهونها، نسأل الله الصدق، آمين.
([1])متفق عليه .
([2])متفق عليه .
([3])متفق عليه .
([4])ابن أبي الدنيا .
([5])موارد الظمآن ص 157.
([6])رواه أحمد والنسائي .
([7])رواه الدار قطني .
([8])رواه ابن ماجة .
([9])رواه مسلم .
([10])رواه مسلم .
([11])تهذيب سيرة ابن هشام ص 16.
([12])تهذيب سيرة هشام ص 72 – 77 بتصرف .
([13])رواه البخاري .
([14])رواه البخاري .
([15])رواه أحمد والطبراني .
([16])رواه الترمذي . ... ...
... ...
... ...
... ...(/3)
الخِطْبَة في النكاح
1965
النكاح, قضايا الأسرة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
سعيد الجندول
ملخص الخطبة
1- الفرق بين الخِطبة والخُطبة. 2- الحث على نكاح ذات الدين. 3- التحذير من تقديم الجمال أو المال أو النسب على الدين. 4- الصدق في وصف الخاطب والمخطوبة. 5- خطبة الرجل على خطبة أخيه حرام. 6- البحث عن الكفء من الرجال وتزويجه. 7- آداب الخطبة. 8- منكرات تحصيل في الخطبة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فهناك أمور تسبق الزواج قد يخفى على بعض المسلمين حكم الإسلام فيها أو قد يتهاونون فيها ويعيشون بين الإفراط والتفريط بين عادات الكفار والتشبه بهم وبين العادات التي ورثوها عن الآباء والأجداد.
والخِطبة بكسر الخاء خِطبة الرجل للمرأة لينكحها، وقد شرعها الله قبل الارتباط بعقد الزوجية، ليتعرف كل من الزوجين على صاحبه، كما قال تعالى: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ [البقرة:235].
أما الخُطبة، بضم الخاء فهي حمد الله تعالى والثناء عليه والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الكلام بعدها سواء كان قليلاً أو كثيراً، ومنها خُطبة الجمعة والعيدين وخطبة الاستسقاء وخطبة الحاجة والخطبة التي تسبق عقد الزواج عند الخِطْبة التي يتقدم بها الرجل إلى أولياء المخطوبة وغير ذلك من أنواع الخطب.
ويتفاوت المسلمون في هدفهم وغرضهم من الزواج وخاصة في هذه الأيام سواء كان الرجال أو النساء، مع أن ذلك وغيره قد حُدِّد في الإسلام وضبط بضوابط لو طبقت بعد الرضا والتسليم لعم الرخاء والأمن وصلح المجتمع بإذن الله.
أما بالنسبة للرجل فعند ما يريد اختيار الزوجة فعليه أن يبحث عن ذات الدين والخلق ويظفر بها وإن كانت دميمة أو ليست على درجة من الجمال أو مما يسعى إليه معظم الناس اليوم بالنسبة للمال أو الحسب والنسب أو الجمال، فكل هذه المطالب سريعة الزوال لأدنى وأتفه الأسباب وإن كان لا بأس بتلك المطالب مجتمعة أو بأحدها، فهي خير إلى خير ولكن التركيز على غير الدين مما هو ذاهب لا محالة، وقد تكون له عواقبه ونتائجه الوخيمة، أما الدين فهو الدعامة الراسخة الكفيلة بإذن الله بإرساء دعامات الأسرة المسلمة ورسوخ قواعدها وهذا المطلب ثبتت خيريته وفضله في القرآن الكريم، وفي الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
نعم إن هذه الأمور الأربعة هي التي تدفع الرجل إلى الزواج من المرأة وقد تكون مجتمعة فيها وقد يجتمع فيها أمران أو ثلاثة أو واحد، وقد يكون غير ذلك، وما نسمعه من سنوات وخاصة في هذه الأيام أن الذي يقدم على الزواج من الشباب لا يريد إلا المرأة الحسناء على حد تعبيره أي الجميلة بمعنى أصح ولا يهمه الدين، وقد يتجه بعضهم إلى الرغبة في المال وقد يسعى آخرون إلى الحسب والنسب والجمال، وهذه الأمور ليست محرمة لكنها أهداف ومطالب قصيرة الأمد والأجل تنتهي وتتوقف في أي لحظة من اللحظات القريبة أو البعيدة، ولكن الدين قليل من يبحث عنه مع أن السعادة فيه في الدنيا والآخرة، فالمرأة الصالحة أرض طيبة للأولاد، والأولاد الصالحون من خير الأعمال الصالحة التي ينقطع عمل ابن آدم منها بعد موته وتبقى بعده، يصله ثوابها بإذن الله بعد الممات، والمرأة الصالحة إن نظرت إليها سرتك بكلامها ومنطقها وحسن معاشرتها وإن لم تكن جميلة فجمال خلقها يغطي النقص في جمال خلقتها، وإن اجتمع الأمران فالحمد لله وذلك خير على خير، وإن غبت عنها حفظتك في مالك وولدك وعرضها، وإن أمرتها أطاعتك، فهي خير متاع الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) [رواه مسلم].(/1)
وقد ورد: ((لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الإيمان، ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل)). وكما أن الدين مطلوب من المرأة عند البحث عنها من قبل الرجل فكذلك هو مطلوب أن يوجد في الرجل المتقدم للزواج من النساء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)). وفي رواية ((عريض)) بدل ((كبير))، و((فزوجوه)) بدل ((فأنكحوه))، ولننظر إلى دقة اللفظ في الحديث من حيث الدين والخلق، فالمعلوم أن الخلق من الدين، والدين يشمل ذلك، ولكن قد يكون الشخص صاحب دين وصلاح ولكنه فيه من الطباع والصفات والأخلاق أمور غير مرغوب فيها لدى المرأة وخاصة التي سوف تعيش معه وتعاشره، مثل: البخل والشح والجبن والغلظة والفظاظة وضرب النساء وغير ذلك من الطباع والأخلاق التي قد لا تحتملها المرأة ولا ترضاها في الزوج الذي تريده، ولذلك جاء في الحديث: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)).
ولا بد للخاطب إذا كان غير الزوج نفسه أو الوسيط المسؤول عن حال المتقدم للمرأة أن يكون أميناً صادقاً واضحاً فيما ينقله عن الرجل الذي يتقدم لخطبة أي امرأة، لأن غالبية من يتم سؤالهم عن حال أي متقدم للزواج وخاصة بعض الناس الذين تأخذهم الحمية لزواج صاحبهم حتى يوقعوا تلك المسكينة فغالبيتهم إلى الغش والتدليس والكذب أقرب منهم إلى الصدق والأمانة، وخاصة من أقربائه أو زملائه في العمل لأنه يطلب منهم تزكيته وذكره بما ليس فيه من الأخلاق والمعاملة الحسنة حتى يظفر بتلك المرأة.
فليتق الله كل مسلم ويعطي ما يعرفه من معلومات حقيقية سواء كانت إيجابية أو سلبية لا ما يظنه أو يكون مبنياً على التخمين أو يختلف سواء في صالح الخاطب أو ضده، فلا بد أن يكون أميناً صادقاً ناصحاً، ولا حرج عليه فيما يذكره من حقائق عنه للأمانة وليس ذلك من باب الغيبة إلا أن يكون قاصداً للغيبة متنقصاً لأخيه المسلم.
جاء في الحديث أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أبا الجهم ومعاوية خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه)) [متفق عليه]. وفي رواية لمسلم: ((وأما أبو الجهم فضراب للنساء)). وهو تفسير لرواية: ((لا يضع العصا عن عاتقه)). وقيل معناه: كثير الأسفار. فعلى المسلم أن لا يزكي أحداً إلا بما يعلم من حاله وواقعه فعلاً، ولا يشهد إلا بما يعرفه حقيقة لا ظناً أو تخميناً، وإذا لم يخالط الشخص ويتعامل معه في تجارة أو عمل أو سفر أو غير ذلك فليبتعد عن تزكيته أو مدحه بما يظهر منه لأنه قد يكون تصنعاً عند غالب الناس فيما يظهر منهم، والله أعلم بالحقائق، فلا يشهد إلا بما يعلم، فعلى ولي أمر المرأة أن يتقي الله تعالى في حسن اختيار الزوج الصالح صاحب الدين لموليته وألا يجبرها على زوج لا تريده في الوقت نفسه لأنها هي التي سوف تعيش معه ولها حق الرفض أو الموافقة، لأن بعض الأولياء يرغمون المرأة على الزواج ممن لا تريد، وهذا فيه من المحاذير العظيمة والعواقب الوخيمة ما الله به عليم، فعلى الولي أن يستشير المرأة التي يتولى أمر تزويجها سواء كانت بنتاً أو أختاً أو أماً أو غير ذلك ممن كانت له ولاية عليها. سواء كانت بكراً أم ثيباً على خلاف في البكر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال: أن تسكت)) [رواه البخاري]. وفي رواية: ((إذنها صِماتها)).(/2)
ومن الأمور الواجب معرفة الحكم فيها عند الخطبة / حرمة خطبة الرجل على خطبة أخيه المسلم إذا علم بذلك، أما إذا لم يعلم فلا حرج عليه لأن الشخص يأتي لخطبة المرأة وهو لا يعلم غالباً هل هي مخطوبة أم لا؟ وخاصة في المدن، أما في القرى والهجر فإذا خطبت المرأة فإنه ينتشر الخبر ويعلم بذلك مجتمعها الذي تعيش فيه، أما الخاطب من بعيد فلا يعلم غالباً إلا بالسؤال، لأن في إقدام الخاطب الثاني إذا علم ذلك إفساداً على الخاطب الأول وإيقاعاً للعداوة بين الناس وإيغاراً للصدور وإثارة للفتن، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك في أحاديث صحيحة منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يبيع على بيع أخيه إلا بإذنه)). قوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر)). ومن حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك)). فعلم من ذلك تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه، فكيف بمن يتكلم في الخاطب الأول بما ليس فيه ويلصق به من العيوب ما الله به عليم ليفسد هذا الزواج ويظفر هو بتلك الزوجة ويمدح نفسه ويظهر بمظاهر زائفة لا شك أن التحريم أشد، وبهذه المناسبة فإن بعض المفسدين لأي أمر من الأمور بينهم وبين الخاطب يسعون لإلصاق التهم به والعيوب وسبّه والتكلم في عرضه، بل البهتان والافتراء عليه لكي يفسدوا ذلك الزواج لمرض في نفوسهم، فهذا للأسف منتشر في مجتمعات المسلمين، ولا يكاد يصدق أحد وجوده بين المسلمين وما ذلك إلا لضعف الإيمان والنفاق نعوذ بالله من ذلك، وقد يفسد بعضهم عند العقد أو الدخول بالمرأة أو قبل أو بعد بأشياء تباعد بين الناس.
وأما عن سعي الرجل لاختيار الزوج الصالح لموليته فلا حرج في ذلك ولا غضاضة بل هو من كمال الاختيار وحسنه، فقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك وفي الأحاديث الصحيحة، فورد في القرآن أن شعيباً _ عندما وصفت له بنته موسى عليه السلام وهي لا تعرفه من قبل، ولكنها وصفته بالقوة والأمانة، وكذلك أخبره هو عن قصته عندما سأله عن ذلك فقد عرض عليه وخيره من الزواج بإحدى ابنتيه، وعلم موسى أيضاً عليه السلام من صلاح أبيهما ومن صلاحهما وخاصة من تلك التي جاءت تمشي على استحياء، والحياء مطلوب من المرأة، وعرف أيضاً قبل ذلك ابتعاد البنتين بعيداً عن الذين يسقون وعدم اختلاطهما بالرجال وانتظارهما انتهاء أولئك الرجال لتردا الماء وتسقيا الماشية _ فعملهما ذلك كان له أثر أيضاً في نفس موسى عليه السلام إلى جانب الأسباب الدينية الأخرى، قال تعالى مخبراً عن ذلك: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَجَرْتَ الْقَوِىُّ الامِينُ قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:25-27]. وقال تعالى: وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]. قال تعالى: وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]. وفي الحديث الصحيح ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة، وكان من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فتوفي بالمدينة، فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري، فلبث ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يُرجع إلي شيئاً، وكنت أوجد عليه مني على عثمان _أي أن عمر غضب عليه أكثر من غضبه على عثمان رضي الله عنهم جميعاً، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لقد وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً، قال عمر: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أنني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبلتها.(/3)
والروايات عن السلف الصالح في هذا الباب كثيرة ولكن المقام لا يسمح بذكرها وتكفي الإشارة إلى ذلك لمن أراد الاقتداء ولا حرج في ذلك ولا غضاضة، بل إن البحث عن الرجل الصالح للبنت سواء بالتصريح أو التلميح أو إرسال أحد بأي طريقة للدلالة على إقدام ذلك الرجل على خطبة تلك البنت من وليها فذلك أمر حسن، وكما أن الرجل يبحث لابنه عن امرأة صالحة فإن للبنت حقاً أيضاً في اختيار الزوج الصالح سواء تقدم هو بنفسه أو يبحث عنه بأي طريقة تحفظ للجميع كرامتهم وتخدم مصالحهم.
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه أحمده سبحانه وتعالى وأشكره وأؤمن به وأتوكل عليه وأثني عليه الخير كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد:
فإن واقع المسلمين بالنسبة لنظر الخاطب إلى مخطوبته بين الإفراط والتفريط، كما هو واقعهم في كثير من الأمور أيضاً، مع أن الخير كله في اتباع منهج الإسلام، ففي بعض البلاد يخلو الشاب بالشابة ويتنقلون من مكان إلى آخر في الجامعات وقاعات الدرس والأسواق والمتنزهات والملاهي وغيرها تقليداً منهم وتشبهاً بالكفار وابتعاداً عن روح الإسلام ومعانيه السامية، وفي بعض البلاد لا يعرف الزوج زوجته إلا ليلة الزواج، يحرّمون عليه النظر إليها حتى بعد العقد، وليس ذلك تحفظاً منهم وتمسكاً بالدين والحجاب فقد تكشف على من لا يحل له النظر إليها من أبناء العم والخال والعشيرة إنما هو التمسك بالعادات الجاهلية، وقليل من يعمل بالإسلام وتعاليمه، فالمشروع أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا اتفق هو وأهل الزوجة على الأمور المبدئية ولم يبق إلا النظر وعرفوا صدقه وإقدامه على الزواج فإنه يباح له النظر إليها للأحاديث الواردة المبيحة للنظر للمخطوبة، وذلك بعد الاتفاق على جميع الشروط بينهم والسؤال الذي يريدونه جميعهم وبعد معرفتهم لمطالبه من أوصاف المرأة إن كانت موجودة في ابنتهم أو لا، لئلا تكون البنت سلعة ينظر إليها كل من يتقدم سواء كان صادقاً أو كاذباً ولئلا تحصل أمور أخرى لا تحمد عقباها، وخاصة في نقل الأوصاف بين مرضى النفوس وضعيفي الإيمان _ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)). وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: ((إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته وإن كانت لا تعلم)) وقال صلى الله عليه وسلم للمغيرة وقد خطب امرأة: ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)). وقال صلى الله عليه وسلم لرجل أتاه فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار: ((أنظرت إليها؟ قال لا. قال: فاذهب وانظر إليها فإن في الأعين الأنصار شيئاً)). قيل: عمش، وقيل: صغر، وقيل: زرقة.
فالمشروع أن يرى الخاطب بنفسه مخطوبته لأنه سوف تكون العشرة بينهما مستمرة بإذن الله، فلا تبنى على غرر ولا غش ولا خداع، وليس كما يفعله بعض الناس من نظر الأم أو إحدى القريبات فلسن هن اللائي سوف يتزوجن المرأة أو يعشن معها، ولكل إنسان نظرته وإن كان ذلك أفضل في البداية لوصفها للخاطب ليقدم أو يحجم ثم هو ينظر إليها بعد الإتفاق فيما بينهم وبعد السؤال، والغريب في أمر الناس اليوم أنهم لا ينكرون على أحد يريد شراء سلعة مهما قل ثمنها وإن كانت معيبة عندما لا تعجبه ويتركها فترى أحدهم يقلب البضاعة من أعلاها إلى أسفلها ليأخذ رغبته وما يريد، ويقلب في الأغنام والبهائم ويتجول يمنة ويسرة في السوق ليحصل على طلبه وفي السيارات والمعارض والأراضي والعقارات وقد يبيعها بعد ساعة، فلا أحد ينكر عليه ذلك وهو أمر مباح، ولكن عندما يريد امرأة تشاركه حياته وتكون أرضاً طيبة لأولاده يعيش معها حياة طويلة لا يُمكَّن من ذلك بحكم العادات والتقاليد، أو يكون على العكس من ذلك حيث يقدم بعضهم صورة المرأة ليراها الرجل، وهذا أمر محرم لما له من عواقب سيئة وخطيرة على المرأة خاصة إذا سلمت الصورة للخاطب أو أحد أقربائه، والمرأة لا تتصور في هذا البلد إلى الآن والحمد لله ولم تلجئها الضرورة إلى ذلك ما دامت داخل هذه البلاد وهذا من فضل الله علينا إلا في حالات الضرورة المعروفة مع أن دعاة الشر يطالبون بذلك من عشرات السنين ولن يملّوا حتى تتحقق مآربهم مع سعيهم الدؤوب وتهاون أهل الخير وتساهلهم في الأمور حتى يتسع الخرق على الراقع وعندها تتفاقم الأمور وتكثر الشرور، فكيف يبيحون تقديم صورة البنت مع حرمة ذلك التصوير ويحرمون المباح والحلال وهو النظر مباشرة إلى المرأة. ومن الأمور المبتدعة التي لم ينزل الله بها من سلطان وقد جاء النهي عنها بالتصريح أو التلميح في القرآن أو السنة أو هما معاً عدة أمور أكتفي بالإشارة إليها لضيق الوقت.(/4)
خاتم الخِطبة وخاصة من الذهب، فالذهب محرم على الرجال سواء في الخِطبة أو غير ذلك من الأحوال، وكذلك التكاليف الباهظة التي قد يستأجر لها أبو الزوجة أو الزوج قصور الأفراح ليتم العقد بين الزوجين وقد تصل التكاليف إلى عشرات الآلاف من الريالات بل مئات الآلاف، وهذه التكاليف في العقد من ضمن العقبات والمعوقات التي وقفت سداً وحاجزاً في طريق زواج الشباب وعدم تيسير الزواج وتسهيله، مع أن العقد يتم بحضور شاهدين والولي والزوج أو وكيله ويعقد بالإيجاب والقبول بعد الرضا وتسمية المهر حتى ولو لم يوجد كأس من الماء، فضلاً عما يفعل في هذا الزمان، حتى لو لم يوجد عاقد للنكاح، لأن المأذون الرسمي ليس شرطاً في صحة عقد النكاح وإنما هو لأمور تنظيمية رسمية تثبت ذلك العقد رسمياً ولا بد منه في هذا الزمن نظراً لما يترتب على عدم الإثبات الرسمي من محاذير وعواقب سيئة، ومع أنه يوجد نماذج طيبة وقدوة حسنة لا يعملون تلك الأعمال ولا يقدمون عليها ويمقتونها ولكن العادات الدخيلة أو المتأصلة في النفوس والمنتشرة بين الناس تجعلهم لا يقلعون عنها، مع أن الخير في الابتعاد عنها.
ومن الأمور المحرمة تصوير المرأة والرجل معاً أو مع مجموعة من النساء ودخول العريس على النساء ونظره إليهن ونظرهن إليه من غير المحارم وعمل ما يسمى بالنَّصَّة وغير ذلك من عادات جاهلية هذا القرن والتي انتشرت في مجتمعات المسلمين دون وعي وتفكير في العواقب. فهل بعد هذا نستيقظ من غفلتنا ونسأل عن أمور ديننا ونتبع منهج نبينا وسلفنا الصالح أم أننا نستمر في الغي ونوجد المبررات والتعليلات الباردة والحجج والواهية ونتشبه بأعداء ديننا ونرضى بالدنية في ديننا.(/5)
الخِطْبَة
1965
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
سعيد الجندول
ملخص الخطبة
1- الفرق بين الخِطبة والخُطبة. 2- الحث على نكاح ذات الدين. 3- التحذير من تقديم الجمال أو المال أو النسب على الدين. 4- الصدق في وصف الخاطب والمخطوبة. 5- خطبة الرجل على خطبة أخيه حرام. 6- البحث عن الكفء من الرجال وتزويجه. 7- آداب الخطبة. 8- منكرات تحصيل في الخطبة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فهناك أمور تسبق الزواج قد يخفى على بعض المسلمين حكم الإسلام فيها أو قد يتهاونون فيها ويعيشون بين الإفراط والتفريط بين عادات الكفار والتشبه بهم وبين العادات التي ورثوها عن الآباء والأجداد.
والخِطبة بكسر الخاء خِطبة الرجل للمرأة لينكحها، وقد شرعها الله قبل الارتباط بعقد الزوجية، ليتعرف كل من الزوجين على صاحبه، كما قال تعالى: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ [البقرة:235].
أما الخُطبة، بضم الخاء فهي حمد الله تعالى والثناء عليه والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الكلام بعدها سواء كان قليلاً أو كثيراً، ومنها خُطبة الجمعة والعيدين وخطبة الاستسقاء وخطبة الحاجة والخطبة التي تسبق عقد الزواج عند الخِطْبة التي يتقدم بها الرجل إلى أولياء المخطوبة وغير ذلك من أنواع الخطب.
ويتفاوت المسلمون في هدفهم وغرضهم من الزواج وخاصة في هذه الأيام سواء كان الرجال أو النساء، مع أن ذلك وغيره قد حُدِّد في الإسلام وضبط بضوابط لو طبقت بعد الرضا والتسليم لعم الرخاء والأمن وصلح المجتمع بإذن الله.
أما بالنسبة للرجل فعند ما يريد اختيار الزوجة فعليه أن يبحث عن ذات الدين والخلق ويظفر بها وإن كانت دميمة أو ليست على درجة من الجمال أو مما يسعى إليه معظم الناس اليوم بالنسبة للمال أو الحسب والنسب أو الجمال، فكل هذه المطالب سريعة الزوال لأدنى وأتفه الأسباب وإن كان لا بأس بتلك المطالب مجتمعة أو بأحدها، فهي خير إلى خير ولكن التركيز على غير الدين مما هو ذاهب لا محالة، وقد تكون له عواقبه ونتائجه الوخيمة، أما الدين فهو الدعامة الراسخة الكفيلة بإذن الله بإرساء دعامات الأسرة المسلمة ورسوخ قواعدها وهذا المطلب ثبتت خيريته وفضله في القرآن الكريم، وفي الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
نعم إن هذه الأمور الأربعة هي التي تدفع الرجل إلى الزواج من المرأة وقد تكون مجتمعة فيها وقد يجتمع فيها أمران أو ثلاثة أو واحد، وقد يكون غير ذلك، وما نسمعه من سنوات وخاصة في هذه الأيام أن الذي يقدم على الزواج من الشباب لا يريد إلا المرأة الحسناء على حد تعبيره أي الجميلة بمعنى أصح ولا يهمه الدين، وقد يتجه بعضهم إلى الرغبة في المال وقد يسعى آخرون إلى الحسب والنسب والجمال، وهذه الأمور ليست محرمة لكنها أهداف ومطالب قصيرة الأمد والأجل تنتهي وتتوقف في أي لحظة من اللحظات القريبة أو البعيدة، ولكن الدين قليل من يبحث عنه مع أن السعادة فيه في الدنيا والآخرة، فالمرأة الصالحة أرض طيبة للأولاد، والأولاد الصالحون من خير الأعمال الصالحة التي ينقطع عمل ابن آدم منها بعد موته وتبقى بعده، يصله ثوابها بإذن الله بعد الممات، والمرأة الصالحة إن نظرت إليها سرتك بكلامها ومنطقها وحسن معاشرتها وإن لم تكن جميلة فجمال خلقها يغطي النقص في جمال خلقتها، وإن اجتمع الأمران فالحمد لله وذلك خير على خير، وإن غبت عنها حفظتك في مالك وولدك وعرضها، وإن أمرتها أطاعتك، فهي خير متاع الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) [رواه مسلم].(/1)
وقد ورد: ((لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الإيمان، ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل)). وكما أن الدين مطلوب من المرأة عند البحث عنها من قبل الرجل فكذلك هو مطلوب أن يوجد في الرجل المتقدم للزواج من النساء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)). وفي رواية ((عريض)) بدل ((كبير))، و((فزوجوه)) بدل ((فأنكحوه))، ولننظر إلى دقة اللفظ في الحديث من حيث الدين والخلق، فالمعلوم أن الخلق من الدين، والدين يشمل ذلك، ولكن قد يكون الشخص صاحب دين وصلاح ولكنه فيه من الطباع والصفات والأخلاق أمور غير مرغوب فيها لدى المرأة وخاصة التي سوف تعيش معه وتعاشره، مثل: البخل والشح والجبن والغلظة والفظاظة وضرب النساء وغير ذلك من الطباع والأخلاق التي قد لا تحتملها المرأة ولا ترضاها في الزوج الذي تريده، ولذلك جاء في الحديث: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)).
ولا بد للخاطب إذا كان غير الزوج نفسه أو الوسيط المسؤول عن حال المتقدم للمرأة أن يكون أميناً صادقاً واضحاً فيما ينقله عن الرجل الذي يتقدم لخطبة أي امرأة، لأن غالبية من يتم سؤالهم عن حال أي متقدم للزواج وخاصة بعض الناس الذين تأخذهم الحمية لزواج صاحبهم حتى يوقعوا تلك المسكينة فغالبيتهم إلى الغش والتدليس والكذب أقرب منهم إلى الصدق والأمانة، وخاصة من أقربائه أو زملائه في العمل لأنه يطلب منهم تزكيته وذكره بما ليس فيه من الأخلاق والمعاملة الحسنة حتى يظفر بتلك المرأة.
فليتق الله كل مسلم ويعطي ما يعرفه من معلومات حقيقية سواء كانت إيجابية أو سلبية لا ما يظنه أو يكون مبنياً على التخمين أو يختلف سواء في صالح الخاطب أو ضده، فلا بد أن يكون أميناً صادقاً ناصحاً، ولا حرج عليه فيما يذكره من حقائق عنه للأمانة وليس ذلك من باب الغيبة إلا أن يكون قاصداً للغيبة متنقصاً لأخيه المسلم.
جاء في الحديث أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أبا الجهم ومعاوية خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه)) [متفق عليه]. وفي رواية لمسلم: ((وأما أبو الجهم فضراب للنساء)). وهو تفسير لرواية: ((لا يضع العصا عن عاتقه)). وقيل معناه: كثير الأسفار. فعلى المسلم أن لا يزكي أحداً إلا بما يعلم من حاله وواقعه فعلاً، ولا يشهد إلا بما يعرفه حقيقة لا ظناً أو تخميناً، وإذا لم يخالط الشخص ويتعامل معه في تجارة أو عمل أو سفر أو غير ذلك فليبتعد عن تزكيته أو مدحه بما يظهر منه لأنه قد يكون تصنعاً عند غالب الناس فيما يظهر منهم، والله أعلم بالحقائق، فلا يشهد إلا بما يعلم، فعلى ولي أمر المرأة أن يتقي الله تعالى في حسن اختيار الزوج الصالح صاحب الدين لموليته وألا يجبرها على زوج لا تريده في الوقت نفسه لأنها هي التي سوف تعيش معه ولها حق الرفض أو الموافقة، لأن بعض الأولياء يرغمون المرأة على الزواج ممن لا تريد، وهذا فيه من المحاذير العظيمة والعواقب الوخيمة ما الله به عليم، فعلى الولي أن يستشير المرأة التي يتولى أمر تزويجها سواء كانت بنتاً أو أختاً أو أماً أو غير ذلك ممن كانت له ولاية عليها. سواء كانت بكراً أم ثيباً على خلاف في البكر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال: أن تسكت)) [رواه البخاري]. وفي رواية: ((إذنها صِماتها)).(/2)
ومن الأمور الواجب معرفة الحكم فيها عند الخطبة / حرمة خطبة الرجل على خطبة أخيه المسلم إذا علم بذلك، أما إذا لم يعلم فلا حرج عليه لأن الشخص يأتي لخطبة المرأة وهو لا يعلم غالباً هل هي مخطوبة أم لا؟ وخاصة في المدن، أما في القرى والهجر فإذا خطبت المرأة فإنه ينتشر الخبر ويعلم بذلك مجتمعها الذي تعيش فيه، أما الخاطب من بعيد فلا يعلم غالباً إلا بالسؤال، لأن في إقدام الخاطب الثاني إذا علم ذلك إفساداً على الخاطب الأول وإيقاعاً للعداوة بين الناس وإيغاراً للصدور وإثارة للفتن، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك في أحاديث صحيحة منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يبيع على بيع أخيه إلا بإذنه)). قوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر)). ومن حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك)). فعلم من ذلك تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه، فكيف بمن يتكلم في الخاطب الأول بما ليس فيه ويلصق به من العيوب ما الله به عليم ليفسد هذا الزواج ويظفر هو بتلك الزوجة ويمدح نفسه ويظهر بمظاهر زائفة لا شك أن التحريم أشد، وبهذه المناسبة فإن بعض المفسدين لأي أمر من الأمور بينهم وبين الخاطب يسعون لإلصاق التهم به والعيوب وسبّه والتكلم في عرضه، بل البهتان والافتراء عليه لكي يفسدوا ذلك الزواج لمرض في نفوسهم، فهذا للأسف منتشر في مجتمعات المسلمين، ولا يكاد يصدق أحد وجوده بين المسلمين وما ذلك إلا لضعف الإيمان والنفاق نعوذ بالله من ذلك، وقد يفسد بعضهم عند العقد أو الدخول بالمرأة أو قبل أو بعد بأشياء تباعد بين الناس.
وأما عن سعي الرجل لاختيار الزوج الصالح لموليته فلا حرج في ذلك ولا غضاضة بل هو من كمال الاختيار وحسنه، فقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك وفي الأحاديث الصحيحة، فورد في القرآن أن شعيباً _ عندما وصفت له بنته موسى عليه السلام وهي لا تعرفه من قبل، ولكنها وصفته بالقوة والأمانة، وكذلك أخبره هو عن قصته عندما سأله عن ذلك فقد عرض عليه وخيره من الزواج بإحدى ابنتيه، وعلم موسى أيضاً عليه السلام من صلاح أبيهما ومن صلاحهما وخاصة من تلك التي جاءت تمشي على استحياء، والحياء مطلوب من المرأة، وعرف أيضاً قبل ذلك ابتعاد البنتين بعيداً عن الذين يسقون وعدم اختلاطهما بالرجال وانتظارهما انتهاء أولئك الرجال لتردا الماء وتسقيا الماشية _ فعملهما ذلك كان له أثر أيضاً في نفس موسى عليه السلام إلى جانب الأسباب الدينية الأخرى، قال تعالى مخبراً عن ذلك: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَجَرْتَ الْقَوِىُّ الامِينُ قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:25-27]. وقال تعالى: وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]. قال تعالى: وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]. وفي الحديث الصحيح ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة، وكان من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فتوفي بالمدينة، فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري، فلبث ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يُرجع إلي شيئاً، وكنت أوجد عليه مني على عثمان _أي أن عمر غضب عليه أكثر من غضبه على عثمان رضي الله عنهم جميعاً، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لقد وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً، قال عمر: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أنني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبلتها.(/3)
والروايات عن السلف الصالح في هذا الباب كثيرة ولكن المقام لا يسمح بذكرها وتكفي الإشارة إلى ذلك لمن أراد الاقتداء ولا حرج في ذلك ولا غضاضة، بل إن البحث عن الرجل الصالح للبنت سواء بالتصريح أو التلميح أو إرسال أحد بأي طريقة للدلالة على إقدام ذلك الرجل على خطبة تلك البنت من وليها فذلك أمر حسن، وكما أن الرجل يبحث لابنه عن امرأة صالحة فإن للبنت حقاً أيضاً في اختيار الزوج الصالح سواء تقدم هو بنفسه أو يبحث عنه بأي طريقة تحفظ للجميع كرامتهم وتخدم مصالحهم.
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه أحمده سبحانه وتعالى وأشكره وأؤمن به وأتوكل عليه وأثني عليه الخير كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد:
فإن واقع المسلمين بالنسبة لنظر الخاطب إلى مخطوبته بين الإفراط والتفريط، كما هو واقعهم في كثير من الأمور أيضاً، مع أن الخير كله في اتباع منهج الإسلام، ففي بعض البلاد يخلو الشاب بالشابة ويتنقلون من مكان إلى آخر في الجامعات وقاعات الدرس والأسواق والمتنزهات والملاهي وغيرها تقليداً منهم وتشبهاً بالكفار وابتعاداً عن روح الإسلام ومعانيه السامية، وفي بعض البلاد لا يعرف الزوج زوجته إلا ليلة الزواج، يحرّمون عليه النظر إليها حتى بعد العقد، وليس ذلك تحفظاً منهم وتمسكاً بالدين والحجاب فقد تكشف على من لا يحل له النظر إليها من أبناء العم والخال والعشيرة إنما هو التمسك بالعادات الجاهلية، وقليل من يعمل بالإسلام وتعاليمه، فالمشروع أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا اتفق هو وأهل الزوجة على الأمور المبدئية ولم يبق إلا النظر وعرفوا صدقه وإقدامه على الزواج فإنه يباح له النظر إليها للأحاديث الواردة المبيحة للنظر للمخطوبة، وذلك بعد الاتفاق على جميع الشروط بينهم والسؤال الذي يريدونه جميعهم وبعد معرفتهم لمطالبه من أوصاف المرأة إن كانت موجودة في ابنتهم أو لا، لئلا تكون البنت سلعة ينظر إليها كل من يتقدم سواء كان صادقاً أو كاذباً ولئلا تحصل أمور أخرى لا تحمد عقباها، وخاصة في نقل الأوصاف بين مرضى النفوس وضعيفي الإيمان _ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)). وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: ((إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته وإن كانت لا تعلم)) وقال صلى الله عليه وسلم للمغيرة وقد خطب امرأة: ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)). وقال صلى الله عليه وسلم لرجل أتاه فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار: ((أنظرت إليها؟ قال لا. قال: فاذهب وانظر إليها فإن في الأعين الأنصار شيئاً)). قيل: عمش، وقيل: صغر، وقيل: زرقة.
فالمشروع أن يرى الخاطب بنفسه مخطوبته لأنه سوف تكون العشرة بينهما مستمرة بإذن الله، فلا تبنى على غرر ولا غش ولا خداع، وليس كما يفعله بعض الناس من نظر الأم أو إحدى القريبات فلسن هن اللائي سوف يتزوجن المرأة أو يعشن معها، ولكل إنسان نظرته وإن كان ذلك أفضل في البداية لوصفها للخاطب ليقدم أو يحجم ثم هو ينظر إليها بعد الإتفاق فيما بينهم وبعد السؤال، والغريب في أمر الناس اليوم أنهم لا ينكرون على أحد يريد شراء سلعة مهما قل ثمنها وإن كانت معيبة عندما لا تعجبه ويتركها فترى أحدهم يقلب البضاعة من أعلاها إلى أسفلها ليأخذ رغبته وما يريد، ويقلب في الأغنام والبهائم ويتجول يمنة ويسرة في السوق ليحصل على طلبه وفي السيارات والمعارض والأراضي والعقارات وقد يبيعها بعد ساعة، فلا أحد ينكر عليه ذلك وهو أمر مباح، ولكن عندما يريد امرأة تشاركه حياته وتكون أرضاً طيبة لأولاده يعيش معها حياة طويلة لا يُمكَّن من ذلك بحكم العادات والتقاليد، أو يكون على العكس من ذلك حيث يقدم بعضهم صورة المرأة ليراها الرجل، وهذا أمر محرم لما له من عواقب سيئة وخطيرة على المرأة خاصة إذا سلمت الصورة للخاطب أو أحد أقربائه، والمرأة لا تتصور في هذا البلد إلى الآن والحمد لله ولم تلجئها الضرورة إلى ذلك ما دامت داخل هذه البلاد وهذا من فضل الله علينا إلا في حالات الضرورة المعروفة مع أن دعاة الشر يطالبون بذلك من عشرات السنين ولن يملّوا حتى تتحقق مآربهم مع سعيهم الدؤوب وتهاون أهل الخير وتساهلهم في الأمور حتى يتسع الخرق على الراقع وعندها تتفاقم الأمور وتكثر الشرور، فكيف يبيحون تقديم صورة البنت مع حرمة ذلك التصوير ويحرمون المباح والحلال وهو النظر مباشرة إلى المرأة. ومن الأمور المبتدعة التي لم ينزل الله بها من سلطان وقد جاء النهي عنها بالتصريح أو التلميح في القرآن أو السنة أو هما معاً عدة أمور أكتفي بالإشارة إليها لضيق الوقت.(/4)
خاتم الخِطبة وخاصة من الذهب، فالذهب محرم على الرجال سواء في الخِطبة أو غير ذلك من الأحوال، وكذلك التكاليف الباهظة التي قد يستأجر لها أبو الزوجة أو الزوج قصور الأفراح ليتم العقد بين الزوجين وقد تصل التكاليف إلى عشرات الآلاف من الريالات بل مئات الآلاف، وهذه التكاليف في العقد من ضمن العقبات والمعوقات التي وقفت سداً وحاجزاً في طريق زواج الشباب وعدم تيسير الزواج وتسهيله، مع أن العقد يتم بحضور شاهدين والولي والزوج أو وكيله ويعقد بالإيجاب والقبول بعد الرضا وتسمية المهر حتى ولو لم يوجد كأس من الماء، فضلاً عما يفعل في هذا الزمان، حتى لو لم يوجد عاقد للنكاح، لأن المأذون الرسمي ليس شرطاً في صحة عقد النكاح وإنما هو لأمور تنظيمية رسمية تثبت ذلك العقد رسمياً ولا بد منه في هذا الزمن نظراً لما يترتب على عدم الإثبات الرسمي من محاذير وعواقب سيئة، ومع أنه يوجد نماذج طيبة وقدوة حسنة لا يعملون تلك الأعمال ولا يقدمون عليها ويمقتونها ولكن العادات الدخيلة أو المتأصلة في النفوس والمنتشرة بين الناس تجعلهم لا يقلعون عنها، مع أن الخير في الابتعاد عنها.
ومن الأمور المحرمة تصوير المرأة والرجل معاً أو مع مجموعة من النساء ودخول العريس على النساء ونظره إليهن ونظرهن إليه من غير المحارم وعمل ما يسمى بالنَّصَّة وغير ذلك من عادات جاهلية هذا القرن والتي انتشرت في مجتمعات المسلمين دون وعي وتفكير في العواقب. فهل بعد هذا نستيقظ من غفلتنا ونسأل عن أمور ديننا ونتبع منهج نبينا وسلفنا الصالح أم أننا نستمر في الغي ونوجد المبررات والتعليلات الباردة والحجج والواهية ونتشبه بأعداء ديننا ونرضى بالدنية في ديننا.(/5)
الدجال
1966
الإيمان
أشراط الساعة, اليوم الآخر
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
سعيد الجندول
ملخص الخطبة
1- فتنة الدجال أعظم الفتن. 2- صفة الدجال ومكان خروجه وزمانه. 3- خروج الدجال. 4- العصمة من فتنة الدجال.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإذا نزل بالناس أمر غير مألوف لديهم كالحروب مثلاً التي تبدل أمنهم خوفاً، فإنها تجعل الناس يذهبون كل مذهب في تفكيرهم واعتقادهم، بما فيهم كثير من المسلمين، حيث ينساقون في تفكيرهم مع أولئك القوم وينظرون للأمور نظرة سطحية لا تستند إلى كتاب أو سنة بل قد يتيهون مع التائهين ويتخبطون في الأمر الواقع وفي أمور الغيب مع المتخبطين وتشرد أذهانهم ويسبح بهم خيالهم يمنة ويسرة حتى إذا كلّوا وملّوا ناموا ثم عادوا من جديد،مثلهم في ذلك كغيرهم من الناس سواء بسواء.
ولكن عباد الله المؤمنين المتقين يَزِنُونَ الأمور بميزان الشرع و يعودون إلى رب العزة و الجلال منيبين إليه ضارعين متأملين فيما ورد في كتاب ربهم وفي سنة نبيهم محمد صلى الله عليه و سلم ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، ولتزكوا نفوسهم ويذهب الران الذي قد يعلو قلوبهم فينظرون إلى الموت وما وراءه في دار البرزخ وفي الآخرة من النعيم والعذاب،ويسارعون في الخيرات ويتداركون ما بقي من أعمارهم،فلا تمر ساعة إلا ويستفيدون منها ويقدّمون لأنفسهم ما يرفعهم به الله عز وجل ويسألون الله المزيد من فضله،فما تزيدهم الفتن والبلايا والمحن إلا تمحيصاً وصقلاً كما يُصْقَلُ النحاس والحديد والفضة بالنار، فيخرج منها نقياً صافياً أفضل وأنقى مما كان عليه قبل ذلك. ولا أستطرد كثيراً فاللبيب بالإشارة يفهم. ولكن عوداً على بدء مع علامات الساعة وأشراطها لننظر فيما يجب اعتقاده من أمور الغيب وليكون تطلعنا ونظرتنا واستعدادنا للآخرة التي ليس بين أحدنا وبينها إلا الموت، وما أقربه وأسرعه !!.
فالذي أخبر به النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة وأماراتها حق يجب على كل مسلم ومسلمة اعتقاده، وقد ذكر عليه الصلاة والسلام أشراطاً كثيرة للساعة منها ما مضى، ومنها ما هو حاضر، ومنها ما هو مستقبل، وقد سبق ذكر بعض ذلك، وأبلغ ما يكون من أشراطها وأعظمه فتنة هي فتنة المسيح الدجال الذي لو ظهر فينا هذا الزمان لكان كثير من المسلمين من أتباعه لضعف عقولهم وسذاجة تفكيرهم وسرعة تصديقهم لما يقال ويشاع ويذاع، فعندما يقال أي خبر، صدقاً كان أو كذباً، تجد سرعة انتشاره في المجتمع والتصديق به دون وعي أو تفكير أو تمحيص وروية، ويسري سريان النار في الهشيم،هذا في مجتمع الرجال، فما بالنا بالنساء ناقصات العقل والدين ؛ كثير من المسلمين تجده كالريشة في مهب الريح تعصف بها يميناً وشمالاً وتنقلها من مكان إلى آخر.
فالمؤمن لابد أن يكون راسخاً في إيمانه وعقيدته وعمله وتفكيره سائراً على كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم عاملاً بهما داعياً إليهما محتكماً إليهما راضياً بهما وبما فيهما، فلو قدّر أن ظهر الدجال في هذا الزمان لما زاده إلا إيماناً وثباتاً، وما أكثر الدجالين في هذا الزمان،أما الدجال الحقيقي فنسأل الله أن يعيذنا منه وألا يدركنا زمانه فهو بعيد بإذن الله ونموت وتموت بعدنا أجيال إذا شاء الله وهو لم يخرج، وذلك في علم الله عز وجل، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان ينذر ويحذر الصحابة رضي الله عنهم من الدجال وكأنه في طرف المدينة وقد مرّ على ذلك ألف وأربعمائة سنة ولم تُسْتَكمل العلامات الصغرى أو الوسطى، والدجال من العلامات الكبرى الأخيرة التي تسبق نزول عيسى عليه السلام. ولكن لابد من التذكير به وبشيء من علاماته وأوصافه وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن من علامات خروج الدجال ذهول الناس عن ذكره وعدم تفكيرهم فيه وكذلك لا يتكلم عنه خطباء المساجد، وهذا ما نشاهده اليوم واقعاً في مجتمعات المسلمين كما أخبر بذلك الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: (( لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر )). مجمع الزوائد.
فالدجال: رجل من بني آدم له صفات كثيرة جاءت بها الأحاديث لتعريف الناس به وتحذيرهم من شره حتى إذا خرج عرفه المؤمنون فلا يفتنون به، بل يكونون على علم بصفاته التي أخبر بها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وتلك الصفات تميزه عن غيره من الناس فلا يغتر به إلا الجاهل الذي سبقت عليه الشقاوة، نسأل الله عز وجل العفو والعافية والوقاية من شره وفتنته.
فمن صفاته أنه رجل شاب أحمر، قصير،أفحج، جعد الرأس، أجلى الجبهة، عريض النحر، ممسوح العين اليمنى، وليست بارزة ولا غائرة، كأنها عنبة طافية، وعينه اليسرى عليها ظفرة غليظة، أي لحمة نابتة فوق مقدمة العين عند المآقي، مكتوب بين عينيه كافر يقرؤها كل مسلم كاتب أوغيركاتب، ومن صفاته أنه عقيم لا يولد له.(/1)
وهذه الصفات وردت في عدة أحاديث منها ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( بينا أنا نائم أطوف بالكعبة فإذا رجل آدم سبط الشعر ينطف -أو يهراق رأسه ماء،قلت:من هذا؟قالوا ابن مريم، ثم ذهبت ألتفت فإذا رجل جسيم أحمر جعد الرأس أعور العين كأن عينه عنبة طافية قالوا: هذا الدجال، أقرب الناس به شبهاً ابن قطن رجل من خزاعة )).البخاري ومسلم.
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن مسيح الدجال رجل قصير أفحج، جعد، أعور، مطموس العين ليس بناتئة ولا جحراء فإن ألبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور)).أبو داود.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( وأما مسيح الضلالة فإنه أعور العين أجلى الجبهة عريض النحر فيه دفأ )) أي إنحناء.رواه أحمد. ومن حديث أنس وحذيفة: (( وإن بين عينيه مكتوب كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب)).البخاري ومسلم.
وأما عن مكان خروج الدجال فمن جهة المشرق من خراسان من يهودية أصبهان،ويخرج معه ويتبعه سبعون ألفاً من يهود أصبهان كما ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان )).الترمذي. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يخرج الدجال من يهودية أصبهان معه سبعون ألفاً من اليهود )). أحمد.
وأما أتباعه فهم اليهود والعجم والترك وأخلاط من الناس غالبهم من الأعراب والنساء. قال رسول الله صلى عليه وسلم: (( يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة)).مسلم. وفي رواية للإمام أحمد (( سبعون ألفاً عليهم التيجان )). وورد في حديث أبي أمامة الطويل قوله صلى الله عليه وسلم: (( وأن من فتنته - أي الدجال - أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه فيقولان: يا بني اتبعه فإنه ربك )) [ابن ماجة].
وأما أتباعه من النساء فيكنّ أكثر من الأعراب وغيرهم لسرعة تأثرهن وغلبة الجهل عليهن ونقصان عقولهن ودينهن، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ينزل الدجال في هذه السبخة بمرِّ قناةٍ - وادٍ بالمدينة_ فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل يرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافة أن تخرج إليه ))أحمد.
والدجال لا يدخل مكة ولا المدينة كما جاء في الحديث الصحيح أن الدجال قال: ((فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان علي كلتاهما كلما أردت أن أدخل واحدة – أو واحداً منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتاً يصدني عنها وأن على كل ثقب ملائكة يحرسونها)). مسلم.
ففتنة الدجال فتنة عظيمة نسأل الله أن يعيذنا منها وأن لا يدركنا زمانه، فالتعوذ منه أمر مطلوب في آخر الصلاة بعد التشهد كما ورد في الأحاديث الصحيحة،ويستطيع من يدركه زمانه أن يحفظ عشر آيات من سورة الكهف ويقرأها عليه فتعصمه من شره وفتنته بإذن الله عز وجل.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول: (( اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال )). البخاري. وقد وردت عدة أحاديث بهذا المعنى.
وفي حديث النواس بن سمعان الطويل وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف)) مسلم.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال)) مسلم. أي من فتنته هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءايَاتِ رَبّكَ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَاتِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158].
الخطبة الثانية
الحمد لله يسر لنا الأسباب المانعة من الافتتان والضلال، ووضح لنا الفتن، وبين لنا الأسباب التي نتحصن بها أعظم بيان أحمده عز وجل وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه(/2)
أما بعد: فإن المؤمنين لا يفتنهم الدجال ولا غيره، بل يزدادون إيماناً مع إيمانهم، فالدجال رجل من بني آدم لا يرد عن نفسه قدرًا ولا يجلب لها نفعاً ولا يدفع عنها ضراً،حتى إن خلقته التي منها عور عينه والظفرة التي على الأخرى لا يستطيع تغييرها،وكذلك عقمه،وغير ذلك من الصفات، وإنما جعل الله تلك الآيات التي معه فتنة للناس ليضل من ضل عن بينة ويزداد المؤمنون إيماناً.
وأذكر الحديث التالي وفيه بعض الكلمات التي ضُبِطَتْ في كتب الحديث والشروحات على حالات أذكرها كما وردت عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفّض فيه ورفع _ أي في صوته _ حتى ظنناه في طائفة النخل،فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: ((ما شأنكم ؟)) قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفّضت فيه ورفّعت حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: ((غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم،وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط عينه طافئة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارجٌ خلةً بين الشام والعراق فعاثٍَ يميناً وعاثٍَ شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا، قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض ؟ قال: أربعون يوماً، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم)) قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال: ((لا، أقدروا له قدره)) قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض ؟ قال: ((كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذراً وأسبغه ضروعاً وأمدّه خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيءٍ من أموالهم ويمرّ بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل من المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين _ أي لابس ثوبين مصبوغين بورس ثم زعفران _ واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطّر وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسِهِ إلا مات، ونَفَسُهُ ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لدٍّ فيقتله، ثم يأتي عيسى ابنَ مريمَ قومٌ قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان ـ أي لاقدرة ولا طاقة ـ لأحد بقتالهم فحرّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها ويمرّ آخرهم، فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماءٌ ويُحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فَرْسَى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً لا يكنّ منه بيت مدرٍ ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردّي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها، ويُبارك في الرِّسْل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس،فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة)).رواه الإمام مسلم رحمه الله.(/3)
الدعاء وآدابه
...
عبد العظيم بدوي الخلفي
... ...
1092
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب
ملخص المادة العلمية
تعريف الدعاء وأمر الله تعالى به.فائدة الدعاء في أنه ينفع مما نزل من البلاء ومما لم ينزل.آداب الدعاء.آفات الدعاء التي تمنع قبوله.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء)).
الدعاء هو الابتهال إلى الله تعالى بالسؤال رغبة فيما عنده من الخير.
ولقد أمر الله تعالى عباده أن يدعوه ويتضرعوا إليه، ووعدهم أن يستجيب لهم ويحقق لهم سؤالهم.
قال تعالى: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم [غافر:60].
وقال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان [البقرة:186].
وقال النبي : ((قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)).
وقال : ((قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل)).
ولقد توعد الله الذين يستنكفون عن دعائه فقال تعالى: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين [غافر:60].
وقال النبي : ((من لم يسأل الله يغضب عليه)).
ولقد أخذ بعضهم هذا المعنى ونظم منه أبياتا فقال:
لا تسأل بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
فإن قال أحد: وما فائدة الدعاء؟ أليس كل شيء بقضاء ؟
فالجواب: أن النبي أخبرنا أن الدعاء ينفع مما نزل من البلاء ومما لم ينزل منه.
أما نفعه مما نزل: فإن الله تعالى قال: وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين [الأنبياء:83-84].
وقال تعالى: وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين [الأنبياء:89-90].
ولقد أنكر الله على أقوام ابتلاهم ليدعوه ويتضرعوا إليه فأنساهم الشيطان ذلك فحقت عليهم كلمة العذاب.
قال تعالى: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [الأنعام:42-45].
فالواجب على الناس أن ينتبهوا لسنن الله فيهم، فقد يبتلون ليسمع الله دعاءهم وتضرعهم، فإن الله يحب أن يسأل ويدعى، فمن غفل عن ذكر الله في الشدة كان عن ذكره في الرخاء أغفل، وأولئك هم الخاسرون.
أما كون الدعاء ينفع مما لم ينزل فقد دل عليه قوله تعالى: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [يونس:98].
ولذا قال النبي : ((لا يرد القضاء إلا الدعاء)).
وقوله : ((فعليكم عباد الله بالدعاء)) أي: الزموا الدعاء واجتهدوا فيه ألحوا وداوموا عليه، لأن به يحاز الثواب، ويحصل ما هو الصواب، وكفى بك شرفا أن تدعوه فيجيبك، ويختار لك ما هو الأصلح في العاجل والآجل.
وإنما خص عباد الله بالذكر زيادة في الحث، وإيماء إلى أن الدعاء هو العبادة، كما صح بذلك الحديث عنه .
فأكثروا رحمكم الله من الدعاء والسؤال، واسألوا الله من فضله [النساء:32].
و((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شسع نعله إذا انقطع)).
واعلموا أن للدعاء آدابا، منها:
1- اختيار الأوقات الشريفة: كشهر رمضان، ويوم عرفة، ويوم الجمعة، فـ ((إن في يوم الجمعة لساعة، لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه )). وكوقت السحر، فـ ((إن الله تعالى ينزل كل ليلة في الثلث الأخير من الليل إلى سماء الدنيا فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)). وقد أثنى الله تعالى على المستغفرين بالأسحار. وقيل إن يعقوب عليه السلام لما قال لأبنائه سوف استغفر لكم ربي إنما أخّر الاستغفار لوقت السحر.
2- أن يغتنم الأحوال الشريفة: كحال انتظار الصلاة، فإن ((الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد)). وكحال السجود، فـ ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجدا)). وقال : ((وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم)). وكحال الوجل ورقة القلب، فعن أبي الدرداء أنه سئل عن الوجل المذكور في قوله تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [الأنفال:2].
فقال: الوجل في القلب كاحتراق السعفة، أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى.
قال: إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك، فإن الدعاء يستجاب عند ذلك.
3- أن يقدم التوبة والاستغفار بين يدي الدعاء.(/1)
4- أن يستقبل القبلة، فقد خرج النبي يستسقي فاستقبل القبلة ودعا.
5- أن يرفع يديه بالدعاء، ((فإن الله تعالى حي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردّهما صفرا)).
6- أن يبدأ بحمد الله وتمجيده والثناء عليه، كما أرشدنا إلى ذلك ربنا سبحانه في سورة الفاتحة، حيث بدأ بالحمد والثناء والتمجيد، ثم أتبعه بالدعاء والسؤال.
7- أن يصلي على النبي ، فقد سمع النبي رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله تعالى ولم يصلّ على النبي ، فقال: ((عجل هذا)). ثم دعاه فقال له: ((إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه عز وجل والثناء عليه، ثم يصلي على النبي ، ثم يدعو بعد بما شاء)).
8- أن يدعو الله تعالى بربوبيته، يا رب! يا رب، فهذا هو هدى الصالحين في الدعاء: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار [البقرة:201].
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب [آل عمران:8].
9- أن يجزم المسألة ولا يعلّق على المشيئة، لقوله : ((لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليجزم المسألة فإنه لا مكره له)).
10- أن يوقن بالإجابة: لأن الله وعد بها، وهو سبحانه لا يخلف وعده ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)). وكان عمر يقول: إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه، لأن الله تعالى: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه [السجدة:5].
فإذا أراد أن يجيبك ألهمك أن تدعوه، فتدعوه فيجيبك، كما قال تعالى: ثم تاب عليهم ليتوبوا [التوبة:118].
تاب عليهم في القضاء ليتوبوا في الواقع فيتوب عليهم ويغفر لهم.
11- التضرع والخشوع والرغبة، فإن الله تعالى قال: ادعوا ربكم تضرعا وخفية [الأعراف:55].
وأثنى على آل زكريا فقال: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين [الأنبياء:90].
12- الإلحاح في الدعاء والسؤال، فعن ابن مسعود قال: ((كان النبي إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سأل ثلاثا)).
13- التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى كما أمر بذلك فقال: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [الأعراف:180].
وسمع النبي رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد .
فقال : ((لقد سأل الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)).
14- التوسل إلى الله تعالى بصالح الأعمال:
عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول: ((انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليه الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم)).
فقال رجل منهم: ((اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب الشجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه، وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلّي بين وبين نفسها، ففعلت، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء، وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب. فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدّ إلي أجري. فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي! فقلت: لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)).
15- أن يختم بالصلاة على النبي ، لقول عمر : الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك .
فإذا أخذ الداعي نفسه بهذه الآداب، فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد، إلا إذا كانت هناك آفات تمنع قبوله.
ومن الآفات التي تمنع قبول الدعاء:
1- غفلة القلب، وعدم إقباله على الله تعالى وجمعيته عليه وقت الدعاء: قال النبي : ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه)).(/2)
2- أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء: قال : ((لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)).
3- المعاصي: فالمعاصي تمنع قبول الدعاء، ولذا قال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي.
ومن أعظم المعاصي:
أ- أكل الحرام: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون . ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمدّ يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!)).
ب- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: عن حذيفة عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)).
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب
... ... ...(/3)
الدعاء وفوائده
- - -
الرقاق والأخلاق والآداب?
الدعاء والذكر?
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
- - - - - - - - -
جامع السلام
ملخص الخطبة?
- - ?فضل الدعاء. 2- فوائد الدعاء. 3- موانع قبول الدعاء -
الخطبة الأولى?
أما بعد :
فاتقوا الله تعالى أيها الناس واعلموا أن الدعاء أعظم أنواع العبادة، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي قال: ((الدعاء هو العبادة ))، ثم قرأ: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [سورة غافر:60]. رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم[1]، وقد أمر الله بدعائه في آيات كثيرة، ووعد بالإجابة وأثنى على أنبياءه ورسله، فقال: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ [سورة الأنبياء:90].
وأخبر سبحانه، أنه قريب، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فقال سبحانه لنبيه : وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة :186].
وأمر سبحانه بدعائه، والتضرع إليه، لا سيما عند الشدائد ،والكربات، وأخبر أنه لا يجيب المضطر، ولا يكشف الضر إلا هو، فقال: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء [سورة النمل: 62].
وذم الذين يعرضون عن دعائه عند نزول المصائب، وحدوث البأساء، والضراء، فقال: وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [سورة الأعراف:94]. وقال تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ - فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:42،43].
وهذا من رحمته وكرمه سبحانه، فهو مع غناه عن خلقه، يأمرهم بدعائه ،لأنهم هم المحتاجون إليه، قال تعالى: ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ [سورة فاطر :15]. وقال تعالى :وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء [سورة محمد: 38]. وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاتسغفروني أغفر لكم)) رواه مسلم[2].
فادعوا الله عباد الله، واعلموا أن لاستجابة الدعاء شروطا لابد من توفرها، فقد وعد الله سبحانه أن يستجيب لمن دعاه، والله لا يخلف وعده، ولكن تكون موانع القبول من قبل العبد.
فمن موانع إجابة الدعوة:
أن يكون العبد مضيعا لفرائض الله، مرتكبا لمحارمه ومعاصيه،تعالى: ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [سورة يونس:91].
إخوة الإيمان، ومن أعظم موانع الدعاء أكل الحرام وشرب الحرام ولبس الحرام، فقد ذكر النبي : ((الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)) رواه مسلم[3]، فقد أشار النبي إلى أن التمتع بالحرام أكلا، وشربا، ولبسا، وتغذية أعظم مانع من قبول الدعاء وفي الحديث: ((أطب مطمعك تكن مجاب الدعوة))[4]، فقد ذكر عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله في كتاب الزهد قال: " أصاب بني إسرائيل برء، فخرجوا مخرجا فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إليَّ أكفا قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام الآن إذا اشتد غضبي عليكم لن تزدادوا مني إلا بعدا ".
فتنبهوا لأنفسكم أيها الناس وانظروا في مكاسبكم، ومآكلكم، ومشاربكم، وما تغذون به أجسامكم، ليستجيب الله دعاءكم وتضرعكم.(/1)
ومن موانع قبول الدعاء عدم الإخلاص فيه لله، لأن الله تعالى يقول: فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ [سورة غافر:14]، وقال تعالى: فلا تدعوا مع الله أحدا [سورة الجن:18]. فالذين يدعون معه غيره من الأصنام وأصحاب القبور والأضرحة والأولياء والصالحين، كما يفعل عباد القبور اليوم من الاستغاثة بالأموات، هؤلاء لا يستجيب الله دعاءهم إذا دعوا فهذا قد ابتعد عن الله وقطع الصلة بينه وبينه، فهو حريٌّ إذا وقع في شدة، ودعا أن لا يستجاب له، وفي الحديث أن النبي قال: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة))[5] يعني أن العبد إذا اتقى الله، وحفظ حدوده، ورعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرف بذلك إلى الله، وصار بينه ويبن ربه معرفة خاصة، فيعرفه ربه في الشدة ويراعي له تعرفه إليه بالرخاء فينجيه من الشدائد وفي الحديث: ((وما تقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) رواه البخاري[6].
فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه، عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته، كما قال تعالى عن نبيه يونس عليه الصلاة والسلام لما التقمه الحوت : فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [سورة الصافات: 144]. أي لولا ما تقدم له من العمل الصالح في الرخاء وقيل: لولا أنه كان من المصلين قبل ذلك للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [سورة الصافات:144]. أي لصار له بطن الحوت قبرا إلى يوم القيامة، قال بعض السلف: " اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله فلما وقع في بطن الحوت، قال الله تعالى: فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [سورة الصافات :144]. وإن فرعون كان طاغيا ناسيا لذكر الله حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت [يونس :90]. فقال لأنهم لم يخلصوا، وكذلك الذين يتوسلون في دعائهم بالأموات، فيقولون نسألك بفلان، أو بجاهه، هؤلاء لا يستجاب لهم دعاء عند الله، لأن دعاءهم مبتدع غير مشروع، فالله لم يشرع لنا الدعوات بواسطة أحد ولا بجاهه، وإنما أمرنا أن ندعو مباشرة من غير واسطة أحد، قال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } [سورة البقرة:186]، وقال تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم [سورة غافر:60]. فاحذروا من الأدعية الشركية والأدعية المبتدعة التي تروج اليوم .
4. ومن موانع قبول الدعاء أن يدعو الإنسان وقلبه غافل، فقد روى الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة ، عن النبي قال: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه ))[7].
5. ومن موانع قبول الدعاء ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن حذيفة بن اليمان عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث عليكم عذابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)) رواه الترمذي[8]، وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله : ((الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض)) [9] وقال : ((الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء )). رواه الحاكم أيضا وهو حسن[10].
فاتقوا الله عباد الله وألحوا على ربكم في الدعاء فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إن الله يحب الملحين في الدعاء)) [11].
فالدعاء هو أعظم أنواع العبادة ،لأنه يدل على التواضع لله، والافتقار إلى الله، ولين القلب والرغبة فيما عنده، والخوف منه تعالى، وترك الدعاء يدل على الكبر وقسوة القلب والإعراض عن الله، وهو سبب دخول النار، يقول الله تعالى: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ،[غافر 60] كما أن دعاء الله سبب لدخول الجنة قال تعالى: وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمنَّ الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم ، فادعوا الله أيها المسلمون وأكثروا من دعائه مخلصين له الدين، وإن الدعاء أكبر ما يكون في أيام الفتن والمحن، التي يفتن فيها عباد الله في دينهم، وعقيدتهم، وعلمائهم، ودعاتهم .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدينولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين .[الأعراف55/56]
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا -
- - -
[1] صحيح، سنن أبي داود (1479)، سنن الترمذي (3247) وقال: صحيح، مستدرك الحاكم (1/491) وصححه ووافقه الذهبي.
[2] صحيح مسلم (2577).
[3] المصدر السابق (1015).(/2)
[4] قال الهيثمي في المجمع (10/291): رواه الطبراني في الصغير، وفيه من لم أعرفهم. قلت: لم أجده في الصغير وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1071).
[5] أخرجه أحمد (1/307)، قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (2804): إسناده صحيح.
[6] صحيح البخاري (6502).
[7]مستدرك الحاكم (1/493) وقال: حديث مستقيم. وتعقبه الذهبي فقال: صالح متروك. وذكر الألباني أن للحديث شاهدًا يتقوى به، وبهذا فهو حسن. السلسلة الصحيحة (594). وأخرجه الترمذي أيضًا في سننه (3479) وقال: غريب
[8] إسناده حسن، سنن الترمذي (2169).
[9] المستدرك (1/ 492) وصححه ولم يتعقبه الذهبي ! وفي إسناده محمد بن الحسن التل. ضعفه الذهبي نفسه في ميزان الاعتدال (3/512) وذكر أن الحديث من مناكيره، وفيه انقطاع. على أن محمد بن الحسن هذا ليس محمد بن الحسن التل، وإنما هو محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، وقد ذكره الذهبي في الميزان (3/514)، وذكر في ترجمته هذا الحديث، ونقل عن يحيى بن معين تضعيف محمد هذا. وانظر السلسلة الضعيفة (179).
[10] المستدرك (1/492)، وحسنه الألباني لغيره. صحيح الترغيب (1634).
[11] أخرجه الطبراني في "الدعاء" رقم (20)، قال المحقق: إسناده ضعيف من أجل تدليس بقية بن الوليد. وكذا قال الحافظ في الفتح (11/95): رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية. ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (637)(/3)
الدعاء.. فضله وحقيقته وأدبه وثمرته
139
الدعاء والذكر
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
ملخص الخطبة
1- حق الداعي على الله عز وجل ومنزلته 2- عدم تعليق الدعاء بالمشيئة 3- قصر المسألة إلى الله دون سائر خلقه 4- أوقات مستحبّة للدعاء
الخطبة الأولى
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله ربكم وأطيعوه، واشكروا له ولا تكفروه، وأثنوا عليه بما هو أهله وادعوه، فإنه ـ سبحانه ـ قد أمركم بإخلاص الدعاء، ووعدكم عليه بكريم العطاء وصرف البلاء، وأرشدكم إلى أن الدعاء من أعظم الأسباب التي ينال بها الخير ويتقى به المكروه في الدنيا والأخرى، فقال ـ جل ذكره ـ في تنزيله وذكره: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر:60]. وقال ـ سبحانه ـ: هُوَ الْحَىُّ لاَ اله إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ [غافر:65].
عباد الله، اطلبوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء، وسلوا الله العفو والعافية واليقين في الآخرة والأولى، وسلوه ـ تبارك وتعالى ـ أن يستر عوراتكم، وأن يؤمن روعاتكم، وأن يؤتيكم في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة؛ فإن ذلك من جوامع الدعاء، واستجابته من جزيل العطاء وسابغ النعماء، ومن دعا ربه فاستجاب له ورأى ما يسره فليقل: الحمد لله الذي بنعمته وعزته وجلاله تتم الصالحات. ومن أبطأ عنه مطلوبه ومراده أو رأى ما يكره فليقل: الحمد لله على كل حال[1]؛ فإن ذلكم هو هدي نبيكم محمد في تلك الأحوال.
أيها المسلمون، أكثروا من الدعاء، فليس شيء أكرم على الله ـ عز وجل ـ من الدعاء، ومن لم يدع الله ـ عز وجل ـ غضب عليه، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي قال: ((إن الله حيي كريم إذا رفع العبد إليه يديه يستحي أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً))[2]. وفي صحيح الحاكم وغيره بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله قال: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بإحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)) [3].
أيها المسلمون، من يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له، ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له، ومن سره أن يستجيب الله له حال الشدة والضيق فليكثر من الدعاء حال الرخاء، وليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، وليلح في الدعاء ؛ ففي المتفق عليه عن أبي هريرة عن النبي قال: ((يستجيب الله لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل))، قالوا: وما الاستعجال يا رسول الله؟ قال: ((يقول: قد دعوتك يا رب، قد دعوتك يا رب فلا أراك تستجيب لي، فيتحسر عند ذلك فيدع الدعاء)) [4].
وفيهما عنه أيضا قال: قال رسول الله : ((لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارزقني إن شئت. ليعزم مسألته ؛ فإنه يفعل ما يشاء لا مكره له)) [5]، وفي صحيح مسلم عنه أيضا أن رسول الله قال: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)) [6].
فينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء، وأن يكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما، وقد روي عن الإمام ابن عيينة ـ رحمه الله ـ قال: لا يمنعن أحدكم الدعاء ما يعلم من نفسه ـ يعني التقصير ـ فإن الله قد أجاب شر خلقه وهو إبليس حين قال: قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36].
أيها المؤمنون، ليكن فزع أحدكم في الدقيق والجليل من حاجاته ورغباته إلى الله، ولا يلتفت في شيء منها بقلبه إلى أحد سواه؛ فإن الله ـ تعالى ـ قال: وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ [النساء:32]. وقال: فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن:18].
وفي الترمذي بسند حسن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل)) [7]، وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ثوبان قال: قال رسول الله : ((من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا وأتكفل له الجنة؟)) فقلت: أنا. فكان لا يسأل الناس شيئا[8].(/1)
وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله تسعة ـ أو ثمانية أو سبعة ـ فقال: ((ألا تبايعون رسول الله ؟)) وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ((ألا تبايعون رسول الله؟)) فبسطنا أيدينا وقلنا : قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: ((على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا ـ وأسر كلمة خفيفة ـ ولا تسألوا الناس شيئاً، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه)) [9].
عباد الله، اجتهدوا في الدعاء، وأكثروا من الثناء، وعظموا الرجاء، وتحلوا بآداب الدعاء، فإن خزائن الله ملأى، ويديه سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، وفي الحديث القدسي الصحيح يقول الله ـ تعالى ـ: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي شيئاً)) [10]. في التنزيل: ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين [الأعراف:55-56].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من خاصة أوليائه وأحبابه، الذين يحل عليهم رضوانه ويمنحهم جزيل ثوابه، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرج ابن ماجه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحب قال : ((الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات))، وإذا رأى ما يكره قال: ((الحمد لله على كل حال)) وهو حديث حسن.
[2] أخرجه أحمد (5/438)ـ وأبو داود ح (1488) والترمذي ح (3556) وقال: حسن غريب، وابن ماجه ح (3865).
[3] مستدرك الحاكم (1/493) وقال : صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وأخرجه الترمذي بنحوه ح (3381).
[4] صحيح البخاري بنحوه ح (6340) ، صحيح مسلم ح (2735) واللفظ له.
[5] صحيح البخاري ح (6339) ، صحيح مسلم ح (2679).
[6] صحيح مسلم ح (2679).
[7] سنن الترمذي ح (2326) ، وقال : حسن غريب ، وهو صحيح إلا أن قوله : ((برزق . . )) انظر السلسلة الصحيحة للألباني (2787).
[8] سنن أبي داود ح (1643) ، وصحح المنذري إسناده في "الترغيب" ح (1200).
[9] صحيح مسلم ح (1043).
[10] أخرجه مسلم ح (2577).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين والناصح المبين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، وعاملوه معاملة من يعتقد أنه يسمع ويرى، وادعوه واذكروه في سائر أحوالكم تفوزوا بخيري الدنيا والأخرى، ولا تعرضوا عن الدعاء فتحشروا مع من استكبر وأبى، بل ادعوا الله مخلصين له الدين راغبين راهبين، وبآداب الوحيين مستمسكين؛ فإن سؤال الله الحاجات دقيقها وجليلها كبيرها وصغيرها توحيد وعبادة، وإن عدم الاحتياج إلى الله والإعراض عنه كفر وإباء؛ يوصل صاحبه النار وبئس مهاده، وإن الالتفات بالحاجات إلى غير رب الأرض والسماوات شرك برب العالمين؛ يخرج صاحبه من الدين، ويحرمه إذا مات عليه مغفرة ورحمة أرحم الراحمين، ويحرم عليه الجنة ويجعله خالدا في النار، وذلك هو الخسران المبين.
عباد الله، اعلموا أن دعاء المؤمن لا يرد، غير أنه قد تقتضي حكمة الله تأخير الإجابة، أو يعوض عنه بما هو أولى له مما دعا به عاجلا وآجلا، وذلك من رحمة الله بعباده. فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه فإنه متعبد بالدعاء، كما هو متعبد في التسليم والتفويض للقدر والقضاء، ومن جملة آداب الدعاء تحري الأحوال والأوقات الفاضلة كالسجود، وعند الأذان وبين الأذان والإقامة وآخر الليل، ومنها أن يكون على طهارة إذا تيسر، ومنها استقبال القبلة، ورفع اليدين، وتقديم التوبة، والاعتراف بالذنب، والإخلاص، وسبقه بما تيسر من الصدقة، وترك أكل الحرام، وافتتاح الدعاء بالحمد والثناء، والصلاة على خير المرسلين وخاتم الأنبياء، وسؤال الله بأسمائه الحسنى، والدعاء بجوامع الدعاء.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(/2)
الدعاء ...
مازن التويجري ...
...
...
ملخص الخطبة ...
1- الدعاء سلاح المؤمن. 2- الدعاء سلاح الأنبياء ، وبه هلك أعداؤهم. 3- أوقات إجابة الدعاء. 4- أحوال أحرى بإجابة الدعاء. 5- آداب الدعاء. 6- منزلة الدعاء عند الله. ...
...
الخطبة الأولى ...
...
يتقلب الناس في دنياهم بين أيام الفرح والسرور, وأيام الشدة والبلاء, وتمر بهم سنين ينعمون فيها بطيب العيش, ورغد المعيشة, وتعصف بهم أخرى عجاف, يتجرعون فيها الغصص أو يكتوون بنار البُعد والحرمان.
وفي كلا الحالين لا يزال المؤمن بخير ما تعلق قلبه بربه ومولاه, وثمة عبادة هي صلة العبد بربه, وهي أنس قلبه, وراحة نفسه.
في زمان الحضارة والتقدم, في كل يوم يسمع العالم باختراع جديد, أو اكتشاف فريد في عالم الأسلحة, على تراب الأرض, أو في فضاء السماء الرحب, أو وسط أمواج البحر, وإن السلاح هو عتاد الأمم الذي تقاتل به أعداءها, فمقياس القوة والضعف في عُرف العالم اليوم بما تملك تلك الأمة أو الدولة من أسلحة أو عتاد.
ولكن ثمة سلاح لا تصنعه مصانع الغرب أو الشرق, إنه أقوى من كل سلاح مهما بلغت قوته ودقته, والعجيب في هذا السلاح أنه عزيز لا يملكه إلا صنف واحد من الناس, لا يملكه إلا أنتم, نعم, أنتم أيها المؤمنون الموحدون, إنه سلاح رباني, سلاح الأنبياء والأتقياء على مرّ العصور.
سلاح نجى الله به نوحًا عليه السلام فأغرق قومه بالطوفان, ونجى الله به موسى عليه السلام من الطاغية فرعون, نجى الله به صالحًا, وأهلك ثمود, وأذل عادًا وأظهر هودَ عليه السلام, وأعز محمدًا في مواطن كثيرة.
سلاح حارب به رسول الله وأصحابه أعتى قوتين في ذلك الوقت: قوة الفرس, وقوة الروم, فانقلبوا صاغرين مبهورين، كيف استطاع أولئك العرب العزَّل أن يتفوقوا عليهم وهم من هم, في القوة والمنعة, ولا يزال ذلكم السلاح هو سيف الصالحين المخبتين مع تعاقب الأزمان وتغير الأحوال.
تلكم العبادة وذلك السلاح هو الدعاء.
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((الدعاء هو العبادة)) ثم قرأ: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين [غافر: 60] [1].
وليعلم أن للدعاء أدابًا عظيمة حريٌ بمن جمعها أن يستجاب له, فمنها:
أولاً: أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة من السنة, ورمضان من الشهور, ويوم الجمعة من الأسبوع, ووقت السحر من ساعات الليل, وبين الآذان والإقامة وغيرها.
روى الترمذي وأبو داود وأحمد في مسنده ـ وحسنه ابن حجر ـ أن أنسًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الدعاء لا يرد بين الآذان والإقامة)) [2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه قال: وهي ساعة خفيفة)) رواه البخاري ومسلم[3].
ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له, ومن يسألني فأعطيه, ومن يستغفرني فأغفر له)) [4].
ثانيًا: أن يغتنم الأحوال الشريفة كحال الزحف, وعند نزول الغيث, وعند إفطار الصائم, وحالة السجود, وفي حال السفر.
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء)) [5].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ـ في حديث طويل وفيه ـ قال عليه الصلاة والسلام: ((فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل, وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمِنٌ أن يستجاب لكم)) [6] رواه مسلم, أي حقيق وجدير أن يستجاب لكم.
وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة الوالد, ودعوة المسافر, ودعوة المظلوم)) [7].
وأخرج الترمذي وحسنه وابن ماجه والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاث لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر, والإمام العادل, ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)) [8].
ثالثًا: أن يدعو مستقبلاً القبلة رافعًا يديه مع خفض الصوت بين المخافتة والجهر, وأن لا يتكلف السجع في الدعاء, فإنَّ حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع, والتكلف لا يناسب, قال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [البقرة: 186].
ذكر ابن حجر عن بعض الصحابة في معنى قوله تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً [الإسراء: 110] أي لا ترفع صوتك في دعائك فتذكر ذنوبك فتُعير بها.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما كما عند البخاري: "فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه, فإني عهدت رسول الله وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب[9]".(/1)
رابعًا: الإخلاص في الدعاء والتضرع والخشوع والرغبة والرهبة, وأن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاؤه فيه.
قال تعالى: إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدًا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة: 14 ـ 16].
أخرج الترمذي والحاكم وقال: حديث مستقيم الإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة, واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه)) [10].
وروى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة, ولا يقولن اللهم: إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له)) [11].
قال ابن بطال: ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة, ولا يقنط من الرحمة, فإنه يدعو كريمًا, وقديمًا قيل: ادعوا بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والإنطلاق.
خامسًا: أن يلح في الدعاء ويكون ثلاثًا ولا يستبطئ الإجابة, قال تعالى: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض [النمل: 62].
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل, يقول: دعوت فلم يستجب لي)) [12].
قال الداودي ـ رحمه الله ـ : على الداعي أن يجتهد ويلح ولا يقل: إن شئت، كالمستثني, ولكن دعاء البائس الفقير.
سادسًا: أن يفتتح الدعاء ويختمه بذكر الله تعالى والصلاة على النبي ثم يبدأ بالسؤال.
قال سبحانه: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [الأعراف: 180].
أخرج النسائي وابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله جالسًا يعني ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد وتشهد دعا فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت, المنان, بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام, يا حي يا قيوم إني أسألك, فقال النبي لأصحابه: ((تدرون بم دعا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: ((والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)) [13].
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل ((اللهم لك الحمد, أنت نور السموات والأرض, ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض, ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن, وأنت الحق ووعدك الحق, وقولك الحق, ولقاؤك حق, والجنة حق، والنار حق, والساعة حق, اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت, وإليك أنبت, وبك خاصمت, وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت, وأسررت وأعلنت, أنت إلهي لا إله إلا أنت)) [14].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك )[15].
قال أبو سليمان الداراني ـ رحمه الله ـ: من أراد أن يسأل الله حاجة, فليبدأ بالصلاة على النبي ثم يسأل حاجته ثم يختم بالصلاة على النبي فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما.
سابعًا: التوبة ورد المظالم والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة, وهو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة تحري أكل الحلال, كما قال الغزالي رحمه الله.
أخرج الطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء)) [16].
قال الأوزاعي ـ رحمه الله ـ : خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد, فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: (يا معشر من حضر: ألستم مقرين بالإساءة؟, قالوا: بلى, فقال: اللهم إنا سمعناك تقول: ما على المحسنين من سبيل [التوبة: 91]. وقد أقررنا بالإساءة فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا, اللهم اغفر لنا, وارحمنا واسقنا), فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسُقوا.
وقال سفيان الثوري: "بلغني أن بني إسرائيل قحطوا سبع سنين حتى أكلوا الميتة من المزابل وأكلوا الأطفال, وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال يبكون ويتضرعون فأوحى الله إلى أنبيائهم عليهم السلام: لو مشيتم إليَّ بأقدامكم حتى تَحْفَى ركبكم وتبلغ أيديكم عنان السماء وتكل ألسنتكم من الدعاء فإني لا أجيب لكم داعيًا, ولا أرحم لك باكيًا حتى تردوا المظالم إلى أهلها, ففعلوا فمطروا من يومهم". والتوجيه النبوي يقول: ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) [17].
[1] الحديث رواه الترمذي ح (2969)، وأبو داود ح (1479)، وابن ماجه ح (3828).
[2] رواه الترمذي ح (212)، وأبو داود ح (521)، وأحمد ح (22174).
[3] رواه البخاري ح (935)، ومسلم ح (852).
[4] رواه البخاري ح (6321)، ومسلم ح (758).
[5] رواه مسلم ح (482).
[6] رواه مسلم ح (479).
[7] رواه أبو داود ح (1536) وابن ماجه ح (3862) والترمذي ح (1905) وأحمد ح (8375).(/2)
[8] رواه الترمذي ح (3598)، وأحمد ح (9450)، وابن ماجه (1752).
[9] رواه البخاري ح (1737).
[10] رواه الترمذي ح (3479) والحاكم ح (1817) وأحمد (6617) قال الهيثمي: وإسناده حسن (10/148).
[11] رواه البخاري ح (6338).
[12] رواه البخاري ح (6340)، ومسلم (2735).
[13] رواه الترمذي ح (3544)، والنسائي ح (1300)، وابن ماجه ح (3857).
[14] رواه البخاري ح (1120)، ومسلم ح (769).
[15] رواه الترمذي ح (486).
[16] رواه الترمذي ح (3382) بإسناد ضعيف والحاكم ح (1997) وصححه، ووفقه الذهبي.
[17] رواه الطبراني في معجمه الصغير، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم (10/290). ...
...
الخطبة الثانية ...
أيها المؤمنون:
الدعاء من أعظم العبادات, فيه يتجلى الإخلاص والخشوع, ويظهر صدق الإيمان, وتتمحص القلوب, وهو المقياس الحقيقي للتوحيد, ففي كلامٍ لشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إذا أردت أن تعرف صدق توحيدك فانظر في دعائك.
أخرج الطبراني وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أعجز الناس من عجز عن الدعاء, وأبخل الناس من يبخل بالسلام...)) [1].
وأنت أيها المبارك مأجور في دعائك, موعود بالإجابة.
أخرج الترمذي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه بدعوة أن يردهما صفرًا ليس فيهما شيء)) [2].
وخرج الترمذي ـ وقال: حسن صحيح غريب ـ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها, أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)) فقال رجل من القوم: إذا نكثر قال: ((الله أكثر)) [3]. فبكلٍ أنت غانم رابح, مأجور مشكور.
والدعاء كريم على الله, عظيمٌ قدره عنده سبحانه, أخرج الترمذي والبخاري في الأدب المفرد والطبراني والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء)) [4].
واسمع إلى النداء الرباني, فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي, يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي, يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) [5].
الله أكبر, ولا إله إلا الله, إذن فابشروا وأقبلوا، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة, انطرحوا بين يديه, وارفعوا حاجاتكم برداء الذل والمسكنة, ومرغوا الأنوف والجباه, واهتفوا باسمه فثم السعادة والأمان.
أعوذ بالله من الشيطان الرحيم: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الله النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمت الله قريب من المحسنين [الأعراف: 54 ـ 56].
[1] ذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه الطبراني في الأوسط... ورجاله رجال الصحيح غير مسروق بن المرزبان، وهو ثقة (8/30).
[2] رواه الترمذي ح (3556)، وأبو داود ح (1488)، وابن ماجه (3865) والحاكم بنحوه (1830) ووافقه الذهبي على تصحيحه.
[3] رواه الترمذي ح (3573)، وأحمد ح (10749)، والحاكم ح (1816).
[4] رواه الترمذي ح (3370) ورواه الحاكم ح (1801) ووافقه الذهبي على تصحيحه، والبخاري في الأدب المفرد ح (712) وحسنه الألباني.
[5] رواه الترمذي ح (3540). ...
...
...
المصدر:موقع المنبر(/3)
الدعاء ...
مازن التويجري ...
...
...
ملخص الخطبة ...
1- الدعاء سلاح المؤمن. 2- الدعاء سلاح الأنبياء ، وبه هلك أعداؤهم. 3- أوقات إجابة الدعاء. 4- أحوال أحرى بإجابة الدعاء. 5- آداب الدعاء. 6- منزلة الدعاء عند الله. ...
...
الخطبة الأولى ...
...
يتقلب الناس في دنياهم بين أيام الفرح والسرور, وأيام الشدة والبلاء, وتمر بهم سنين ينعمون فيها بطيب العيش, ورغد المعيشة, وتعصف بهم أخرى عجاف, يتجرعون فيها الغصص أو يكتوون بنار البُعد والحرمان.
وفي كلا الحالين لا يزال المؤمن بخير ما تعلق قلبه بربه ومولاه, وثمة عبادة هي صلة العبد بربه, وهي أنس قلبه, وراحة نفسه.
في زمان الحضارة والتقدم, في كل يوم يسمع العالم باختراع جديد, أو اكتشاف فريد في عالم الأسلحة, على تراب الأرض, أو في فضاء السماء الرحب, أو وسط أمواج البحر, وإن السلاح هو عتاد الأمم الذي تقاتل به أعداءها, فمقياس القوة والضعف في عُرف العالم اليوم بما تملك تلك الأمة أو الدولة من أسلحة أو عتاد.
ولكن ثمة سلاح لا تصنعه مصانع الغرب أو الشرق, إنه أقوى من كل سلاح مهما بلغت قوته ودقته, والعجيب في هذا السلاح أنه عزيز لا يملكه إلا صنف واحد من الناس, لا يملكه إلا أنتم, نعم, أنتم أيها المؤمنون الموحدون, إنه سلاح رباني, سلاح الأنبياء والأتقياء على مرّ العصور.
سلاح نجى الله به نوحًا عليه السلام فأغرق قومه بالطوفان, ونجى الله به موسى عليه السلام من الطاغية فرعون, نجى الله به صالحًا, وأهلك ثمود, وأذل عادًا وأظهر هودَ عليه السلام, وأعز محمدًا في مواطن كثيرة.
سلاح حارب به رسول الله وأصحابه أعتى قوتين في ذلك الوقت: قوة الفرس, وقوة الروم, فانقلبوا صاغرين مبهورين، كيف استطاع أولئك العرب العزَّل أن يتفوقوا عليهم وهم من هم, في القوة والمنعة, ولا يزال ذلكم السلاح هو سيف الصالحين المخبتين مع تعاقب الأزمان وتغير الأحوال.
تلكم العبادة وذلك السلاح هو الدعاء.
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((الدعاء هو العبادة)) ثم قرأ: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين [غافر: 60] [1].
وليعلم أن للدعاء أدابًا عظيمة حريٌ بمن جمعها أن يستجاب له, فمنها:
أولاً: أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة من السنة, ورمضان من الشهور, ويوم الجمعة من الأسبوع, ووقت السحر من ساعات الليل, وبين الآذان والإقامة وغيرها.
روى الترمذي وأبو داود وأحمد في مسنده ـ وحسنه ابن حجر ـ أن أنسًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الدعاء لا يرد بين الآذان والإقامة)) [2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه قال: وهي ساعة خفيفة)) رواه البخاري ومسلم[3].
ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له, ومن يسألني فأعطيه, ومن يستغفرني فأغفر له)) [4].
ثانيًا: أن يغتنم الأحوال الشريفة كحال الزحف, وعند نزول الغيث, وعند إفطار الصائم, وحالة السجود, وفي حال السفر.
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء)) [5].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ـ في حديث طويل وفيه ـ قال عليه الصلاة والسلام: ((فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل, وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمِنٌ أن يستجاب لكم)) [6] رواه مسلم, أي حقيق وجدير أن يستجاب لكم.
وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة الوالد, ودعوة المسافر, ودعوة المظلوم)) [7].
وأخرج الترمذي وحسنه وابن ماجه والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاث لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر, والإمام العادل, ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)) [8].
ثالثًا: أن يدعو مستقبلاً القبلة رافعًا يديه مع خفض الصوت بين المخافتة والجهر, وأن لا يتكلف السجع في الدعاء, فإنَّ حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع, والتكلف لا يناسب, قال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [البقرة: 186].
ذكر ابن حجر عن بعض الصحابة في معنى قوله تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً [الإسراء: 110] أي لا ترفع صوتك في دعائك فتذكر ذنوبك فتُعير بها.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما كما عند البخاري: "فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه, فإني عهدت رسول الله وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب[9]".(/1)
رابعًا: الإخلاص في الدعاء والتضرع والخشوع والرغبة والرهبة, وأن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاؤه فيه.
قال تعالى: إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدًا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة: 14 ـ 16].
أخرج الترمذي والحاكم وقال: حديث مستقيم الإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة, واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه)) [10].
وروى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة, ولا يقولن اللهم: إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له)) [11].
قال ابن بطال: ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة, ولا يقنط من الرحمة, فإنه يدعو كريمًا, وقديمًا قيل: ادعوا بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والإنطلاق.
خامسًا: أن يلح في الدعاء ويكون ثلاثًا ولا يستبطئ الإجابة, قال تعالى: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض [النمل: 62].
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل, يقول: دعوت فلم يستجب لي)) [12].
قال الداودي ـ رحمه الله ـ : على الداعي أن يجتهد ويلح ولا يقل: إن شئت، كالمستثني, ولكن دعاء البائس الفقير.
سادسًا: أن يفتتح الدعاء ويختمه بذكر الله تعالى والصلاة على النبي ثم يبدأ بالسؤال.
قال سبحانه: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [الأعراف: 180].
أخرج النسائي وابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله جالسًا يعني ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد وتشهد دعا فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت, المنان, بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام, يا حي يا قيوم إني أسألك, فقال النبي لأصحابه: ((تدرون بم دعا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: ((والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)) [13].
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل ((اللهم لك الحمد, أنت نور السموات والأرض, ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض, ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن, وأنت الحق ووعدك الحق, وقولك الحق, ولقاؤك حق, والجنة حق، والنار حق, والساعة حق, اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت, وإليك أنبت, وبك خاصمت, وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت, وأسررت وأعلنت, أنت إلهي لا إله إلا أنت)) [14].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك )[15].
قال أبو سليمان الداراني ـ رحمه الله ـ: من أراد أن يسأل الله حاجة, فليبدأ بالصلاة على النبي ثم يسأل حاجته ثم يختم بالصلاة على النبي فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما.
سابعًا: التوبة ورد المظالم والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة, وهو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة تحري أكل الحلال, كما قال الغزالي رحمه الله.
أخرج الطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء)) [16].
قال الأوزاعي ـ رحمه الله ـ : خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد, فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: (يا معشر من حضر: ألستم مقرين بالإساءة؟, قالوا: بلى, فقال: اللهم إنا سمعناك تقول: ما على المحسنين من سبيل [التوبة: 91]. وقد أقررنا بالإساءة فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا, اللهم اغفر لنا, وارحمنا واسقنا), فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسُقوا.
وقال سفيان الثوري: "بلغني أن بني إسرائيل قحطوا سبع سنين حتى أكلوا الميتة من المزابل وأكلوا الأطفال, وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال يبكون ويتضرعون فأوحى الله إلى أنبيائهم عليهم السلام: لو مشيتم إليَّ بأقدامكم حتى تَحْفَى ركبكم وتبلغ أيديكم عنان السماء وتكل ألسنتكم من الدعاء فإني لا أجيب لكم داعيًا, ولا أرحم لك باكيًا حتى تردوا المظالم إلى أهلها, ففعلوا فمطروا من يومهم". والتوجيه النبوي يقول: ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) [17].
[1] الحديث رواه الترمذي ح (2969)، وأبو داود ح (1479)، وابن ماجه ح (3828).
[2] رواه الترمذي ح (212)، وأبو داود ح (521)، وأحمد ح (22174).
[3] رواه البخاري ح (935)، ومسلم ح (852).
[4] رواه البخاري ح (6321)، ومسلم ح (758).
[5] رواه مسلم ح (482).
[6] رواه مسلم ح (479).
[7] رواه أبو داود ح (1536) وابن ماجه ح (3862) والترمذي ح (1905) وأحمد ح (8375).(/2)
[8] رواه الترمذي ح (3598)، وأحمد ح (9450)، وابن ماجه (1752).
[9] رواه البخاري ح (1737).
[10] رواه الترمذي ح (3479) والحاكم ح (1817) وأحمد (6617) قال الهيثمي: وإسناده حسن (10/148).
[11] رواه البخاري ح (6338).
[12] رواه البخاري ح (6340)، ومسلم (2735).
[13] رواه الترمذي ح (3544)، والنسائي ح (1300)، وابن ماجه ح (3857).
[14] رواه البخاري ح (1120)، ومسلم ح (769).
[15] رواه الترمذي ح (486).
[16] رواه الترمذي ح (3382) بإسناد ضعيف والحاكم ح (1997) وصححه، ووفقه الذهبي.
[17] رواه الطبراني في معجمه الصغير، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم (10/290). ...
...
الخطبة الثانية ...
أيها المؤمنون:
الدعاء من أعظم العبادات, فيه يتجلى الإخلاص والخشوع, ويظهر صدق الإيمان, وتتمحص القلوب, وهو المقياس الحقيقي للتوحيد, ففي كلامٍ لشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إذا أردت أن تعرف صدق توحيدك فانظر في دعائك.
أخرج الطبراني وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أعجز الناس من عجز عن الدعاء, وأبخل الناس من يبخل بالسلام...)) [1].
وأنت أيها المبارك مأجور في دعائك, موعود بالإجابة.
أخرج الترمذي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه بدعوة أن يردهما صفرًا ليس فيهما شيء)) [2].
وخرج الترمذي ـ وقال: حسن صحيح غريب ـ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها, أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)) فقال رجل من القوم: إذا نكثر قال: ((الله أكثر)) [3]. فبكلٍ أنت غانم رابح, مأجور مشكور.
والدعاء كريم على الله, عظيمٌ قدره عنده سبحانه, أخرج الترمذي والبخاري في الأدب المفرد والطبراني والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء)) [4].
واسمع إلى النداء الرباني, فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي, يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي, يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) [5].
الله أكبر, ولا إله إلا الله, إذن فابشروا وأقبلوا، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة, انطرحوا بين يديه, وارفعوا حاجاتكم برداء الذل والمسكنة, ومرغوا الأنوف والجباه, واهتفوا باسمه فثم السعادة والأمان.
أعوذ بالله من الشيطان الرحيم: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الله النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمت الله قريب من المحسنين [الأعراف: 54 ـ 56].
[1] ذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه الطبراني في الأوسط... ورجاله رجال الصحيح غير مسروق بن المرزبان، وهو ثقة (8/30).
[2] رواه الترمذي ح (3556)، وأبو داود ح (1488)، وابن ماجه (3865) والحاكم بنحوه (1830) ووافقه الذهبي على تصحيحه.
[3] رواه الترمذي ح (3573)، وأحمد ح (10749)، والحاكم ح (1816).
[4] رواه الترمذي ح (3370) ورواه الحاكم ح (1801) ووافقه الذهبي على تصحيحه، والبخاري في الأدب المفرد ح (712) وحسنه الألباني.
[5] رواه الترمذي ح (3540). ...
...
...
المصدر:موقع المنبر(/3)
الدعاء
1673
الدعاء والذكر
مازن التويجري
الرياض
16/12/1419
جامع حي النزهة
ملخص الخطبة
1- الدعاء سلاح المؤمن. 2- الدعاء سلاح الأنبياء ، وبه هلك أعداؤهم. 3- أوقات إجابة الدعاء. 4- أحوال أحرى بإجابة الدعاء. 5- آداب الدعاء. 6- منزلة الدعاء عند الله.
الخطبة الأولى
يتقلب الناس في دنياهم بين أيام الفرح والسرور, وأيام الشدة والبلاء, وتمر بهم سنين ينعمون فيها بطيب العيش, ورغد المعيشة, وتعصف بهم أخرى عجاف, يتجرعون فيها الغصص أو يكتوون بنار البُعد والحرمان.
وفي كلا الحالين لا يزال المؤمن بخير ما تعلق قلبه بربه ومولاه, وثمة عبادة هي صلة العبد بربه, وهي أنس قلبه, وراحة نفسه.
في زمان الحضارة والتقدم, في كل يوم يسمع العالم باختراع جديد, أو اكتشاف فريد في عالم الأسلحة, على تراب الأرض, أو في فضاء السماء الرحب, أو وسط أمواج البحر, وإن السلاح هو عتاد الأمم الذي تقاتل به أعداءها, فمقياس القوة والضعف في عُرف العالم اليوم بما تملك تلك الأمة أو الدولة من أسلحة أو عتاد.
ولكن ثمة سلاح لا تصنعه مصانع الغرب أو الشرق, إنه أقوى من كل سلاح مهما بلغت قوته ودقته, والعجيب في هذا السلاح أنه عزيز لا يملكه إلا صنف واحد من الناس, لا يملكه إلا أنتم, نعم, أنتم أيها المؤمنون الموحدون, إنه سلاح رباني, سلاح الأنبياء والأتقياء على مرّ العصور.
سلاح نجى الله به نوحًا عليه السلام فأغرق قومه بالطوفان, ونجى الله به موسى عليه السلام من الطاغية فرعون, نجى الله به صالحًا, وأهلك ثمود, وأذل عادًا وأظهر هودَ عليه السلام, وأعز محمدًا في مواطن كثيرة.
سلاح حارب به رسول الله وأصحابه أعتى قوتين في ذلك الوقت: قوة الفرس, وقوة الروم, فانقلبوا صاغرين مبهورين، كيف استطاع أولئك العرب العزَّل أن يتفوقوا عليهم وهم من هم, في القوة والمنعة, ولا يزال ذلكم السلاح هو سيف الصالحين المخبتين مع تعاقب الأزمان وتغير الأحوال.
تلكم العبادة وذلك السلاح هو الدعاء.
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((الدعاء هو العبادة)) ثم قرأ: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين [غافر: 60] [1].
وليعلم أن للدعاء أدابًا عظيمة حريٌ بمن جمعها أن يستجاب له, فمنها:
أولاً: أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة من السنة, ورمضان من الشهور, ويوم الجمعة من الأسبوع, ووقت السحر من ساعات الليل, وبين الآذان والإقامة وغيرها.
روى الترمذي وأبو داود وأحمد في مسنده ـ وحسنه ابن حجر ـ أن أنسًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الدعاء لا يرد بين الآذان والإقامة)) [2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه قال: وهي ساعة خفيفة)) رواه البخاري ومسلم[3].
ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له, ومن يسألني فأعطيه, ومن يستغفرني فأغفر له)) [4].
ثانيًا: أن يغتنم الأحوال الشريفة كحال الزحف, وعند نزول الغيث, وعند إفطار الصائم, وحالة السجود, وفي حال السفر.
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء)) [5].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ـ في حديث طويل وفيه ـ قال عليه الصلاة والسلام: ((فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل, وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمِنٌ أن يستجاب لكم)) [6] رواه مسلم, أي حقيق وجدير أن يستجاب لكم.
وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة الوالد, ودعوة المسافر, ودعوة المظلوم)) [7].
وأخرج الترمذي وحسنه وابن ماجه والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاث لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر, والإمام العادل, ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)) [8].
ثالثًا: أن يدعو مستقبلاً القبلة رافعًا يديه مع خفض الصوت بين المخافتة والجهر, وأن لا يتكلف السجع في الدعاء, فإنَّ حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع, والتكلف لا يناسب, قال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [البقرة: 186].
ذكر ابن حجر عن بعض الصحابة في معنى قوله تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً [الإسراء: 110] أي لا ترفع صوتك في دعائك فتذكر ذنوبك فتُعير بها.(/1)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما كما عند البخاري: "فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه, فإني عهدت رسول الله وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب[9]".
رابعًا: الإخلاص في الدعاء والتضرع والخشوع والرغبة والرهبة, وأن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاؤه فيه.
قال تعالى: إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدًا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة: 14 ـ 16].
أخرج الترمذي والحاكم وقال: حديث مستقيم الإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة, واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه)) [10].
وروى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة, ولا يقولن اللهم: إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له)) [11].
قال ابن بطال: ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة, ولا يقنط من الرحمة, فإنه يدعو كريمًا, وقديمًا قيل: ادعوا بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والإنطلاق.
خامسًا: أن يلح في الدعاء ويكون ثلاثًا ولا يستبطئ الإجابة, قال تعالى: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض [النمل: 62].
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل, يقول: دعوت فلم يستجب لي)) [12].
قال الداودي ـ رحمه الله ـ : على الداعي أن يجتهد ويلح ولا يقل: إن شئت، كالمستثني, ولكن دعاء البائس الفقير.
سادسًا: أن يفتتح الدعاء ويختمه بذكر الله تعالى والصلاة على النبي ثم يبدأ بالسؤال.
قال سبحانه: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [الأعراف: 180].
أخرج النسائي وابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله جالسًا يعني ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد وتشهد دعا فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت, المنان, بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام, يا حي يا قيوم إني أسألك, فقال النبي لأصحابه: ((تدرون بم دعا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: ((والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)) [13].
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل ((اللهم لك الحمد, أنت نور السموات والأرض, ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض, ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن, وأنت الحق ووعدك الحق, وقولك الحق, ولقاؤك حق, والجنة حق، والنار حق, والساعة حق, اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت, وإليك أنبت, وبك خاصمت, وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت, وأسررت وأعلنت, أنت إلهي لا إله إلا أنت)) [14].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك )[15].
قال أبو سليمان الداراني ـ رحمه الله ـ: من أراد أن يسأل الله حاجة, فليبدأ بالصلاة على النبي ثم يسأل حاجته ثم يختم بالصلاة على النبي فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما.
سابعًا: التوبة ورد المظالم والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة, وهو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة تحري أكل الحلال, كما قال الغزالي رحمه الله.
أخرج الطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء)) [16].
قال الأوزاعي ـ رحمه الله ـ : خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد, فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: (يا معشر من حضر: ألستم مقرين بالإساءة؟, قالوا: بلى, فقال: اللهم إنا سمعناك تقول: ما على المحسنين من سبيل [التوبة: 91]. وقد أقررنا بالإساءة فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا, اللهم اغفر لنا, وارحمنا واسقنا), فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسُقوا.
وقال سفيان الثوري: "بلغني أن بني إسرائيل قحطوا سبع سنين حتى أكلوا الميتة من المزابل وأكلوا الأطفال, وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال يبكون ويتضرعون فأوحى الله إلى أنبيائهم عليهم السلام: لو مشيتم إليَّ بأقدامكم حتى تَحْفَى ركبكم وتبلغ أيديكم عنان السماء وتكل ألسنتكم من الدعاء فإني لا أجيب لكم داعيًا, ولا أرحم لك باكيًا حتى تردوا المظالم إلى أهلها, ففعلوا فمطروا من يومهم". والتوجيه النبوي يقول: ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) [17].
[1] الحديث رواه الترمذي ح (2969)، وأبو داود ح (1479)، وابن ماجه ح (3828).
[2] رواه الترمذي ح (212)، وأبو داود ح (521)، وأحمد ح (22174).
[3] رواه البخاري ح (935)، ومسلم ح (852).(/2)
[4] رواه البخاري ح (6321)، ومسلم ح (758).
[5] رواه مسلم ح (482).
[6] رواه مسلم ح (479).
[7] رواه أبو داود ح (1536) وابن ماجه ح (3862) والترمذي ح (1905) وأحمد ح (8375).
[8] رواه الترمذي ح (3598)، وأحمد ح (9450)، وابن ماجه (1752).
[9] رواه البخاري ح (1737).
[10] رواه الترمذي ح (3479) والحاكم ح (1817) وأحمد (6617) قال الهيثمي: وإسناده حسن (10/148).
[11] رواه البخاري ح (6338).
[12] رواه البخاري ح (6340)، ومسلم (2735).
[13] رواه الترمذي ح (3544)، والنسائي ح (1300)، وابن ماجه ح (3857).
[14] رواه البخاري ح (1120)، ومسلم ح (769).
[15] رواه الترمذي ح (486).
[16] رواه الترمذي ح (3382) بإسناد ضعيف والحاكم ح (1997) وصححه، ووفقه الذهبي.
[17] رواه الطبراني في معجمه الصغير، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم (10/290).
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون:
الدعاء من أعظم العبادات, فيه يتجلى الإخلاص والخشوع, ويظهر صدق الإيمان, وتتمحص القلوب, وهو المقياس الحقيقي للتوحيد, ففي كلامٍ لشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إذا أردت أن تعرف صدق توحيدك فانظر في دعائك.
أخرج الطبراني وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أعجز الناس من عجز عن الدعاء, وأبخل الناس من يبخل بالسلام...)) [1].
وأنت أيها المبارك مأجور في دعائك, موعود بالإجابة.
أخرج الترمذي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه بدعوة أن يردهما صفرًا ليس فيهما شيء)) [2].
وخرج الترمذي ـ وقال: حسن صحيح غريب ـ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها, أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)) فقال رجل من القوم: إذا نكثر قال: ((الله أكثر)) [3]. فبكلٍ أنت غانم رابح, مأجور مشكور.
والدعاء كريم على الله, عظيمٌ قدره عنده سبحانه, أخرج الترمذي والبخاري في الأدب المفرد والطبراني والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء)) [4].
واسمع إلى النداء الرباني, فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي, يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي, يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) [5].
الله أكبر, ولا إله إلا الله, إذن فابشروا وأقبلوا، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة, انطرحوا بين يديه, وارفعوا حاجاتكم برداء الذل والمسكنة, ومرغوا الأنوف والجباه, واهتفوا باسمه فثم السعادة والأمان.
أعوذ بالله من الشيطان الرحيم: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمت الله قريب من المحسنين [الأعراف: 54 ـ 56].
[1] ذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه الطبراني في الأوسط... ورجاله رجال الصحيح غير مسروق بن المرزبان، وهو ثقة (8/30).
[2] رواه الترمذي ح (3556)، وأبو داود ح (1488)، وابن ماجه (3865) والحاكم بنحوه (1830) ووافقه الذهبي على تصحيحه.
[3] رواه الترمذي ح (3573)، وأحمد ح (10749)، والحاكم ح (1816).
[4] رواه الترمذي ح (3370) ورواه الحاكم ح (1801) ووافقه الذهبي على تصحيحه، والبخاري في الأدب المفرد ح (712) وحسنه الألباني.
[5] رواه الترمذي ح (3540).(/3)
... الدعاء
هشام برغش ...
1579
تعريف الدعاء:
أولاً: لغة:
الدعاء: مصدر الفعل دعا, قال ابن منظور: "دعا الرجل دعوًا ودعاءً: ناداه. والاسم: الدعوة. ودعوت فلانًا: أي صِحت به واستدعيته. (لسان العرب)
وقال: "دَعَاه دعاء ودعوى, حكاه سيبويه في المصادر التي آخرها ألف التأنيث" (السابق).
"والدعاء واحد الأدعية, وأصله دعاو؛ لأنه من دعوت, إلا أن الواو لما جاءت متطرّفة بعد الألف هُمزت.
وتقول للمرأة: أنت تدعين, وفيه لغة ثانية: أنت تدعُوين, وفيه لغة ثالثة: أنت تَدْعُين؛ بإشمام العين الضمة, والجماعة أنْتُنَّ تدعون مثل الرجال سواء" (السابق).
ثانيًا: شرعًا: عرف بعدة تعريفات:
1. "هو الرغبة إلى الله عز وجل" (لسان العرب).
2. وقال الخطابي: "ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه ـ عز وجل ـ العناية واستمداده إياه المعونة
وحقيقته: إظهار الافتقار إليه, والتبرؤ من الحول والقوة, وهما سمة العبودية, واستحضار الذلة البشرية, وفيه معنى الثناء على الله عز وجل وإضافة الجود والكرم إليه". شأن الدعاء للخطابي (ص4).
3. وقال ابن القيم: "هو طلب ما ينفع الداعي, وطلب كشف ما يضره أو دفعه" بدائع الفوائد( 3/2).
4. وقيل: هو: "الابتهال إلى الله تعالى بالسؤال, والرغبة فيما عنده من الخير, والتضرع إليه في تحقيق المطلوب, والنجاة من المرهوب" الدعاء لعبد الله الخضري (ص 10).
أنواع الدعاء والعلاقة بينها:
يمكن اعتبار الدعاء الوارد في القرآن نوعين:
1 ـ دعاء المسألة.
2 ـ دعاء العبادة.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله : "كل ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء, والنهي عن دعاء غير الله, والثناء على الداعين يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة, وهذه قاعدة نافعة؛ فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة ـ دعاء المسألة فقط, ولا يظنون دخول جميع العبادات في الدعاء, وهذا خطأ جرهم إلى ما هو شر منه...." (القواعد الحسان للسعدي ص 154, 155 ـ بدائع الفوائد لابن القيم 3/3).
دعاء المسألة: هو أن يطلب الداعي ما ينفعه وما يكشف ضره (بدائع الفوائد 3/2).
أو هو ما تضمن مسألة أو طلبًا؛ كأن يقول الداعي: أعطني, أكرمني, وهكذا... وهذا النوع على ثلاثة أضرب:
1 ـ سؤال الله ودعاؤه: كأن يقول: اللهم ارحمني؛ فهذا من عبادة الله.
2 ـ سؤال غير الله فيما لا يقدر عليه المسئول: كأن يطلب من ميت أو غائب أن يطعمه أو ينصره أو يغيثه... فهذا شرك أكبر.
3 ـ سؤال غير الله فيما يقدر عليه المسئول: كأن يطلب من حي قادر حاضر أن يطعمه أو يعينه فهذا جائز.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :"وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه. وأما المخلوق الغائب والميت فلا يطلب منه شيء" (التوسل والوسيلة ص 165).
وأما دعاء العبادة: فيشمل جميع القربات الظاهرة والباطنة؛ لأن المتعبد لله طالب وداع بلسان مقاله, ولسان حاله ربَّه قبول تلك العبادة, والإثابة عليها؛ فهو العبادة بمعناها الشامل.
وصرف هذا النوع لغير الله شرك أكبر.
تلازم نوعي الدعاء: وذلك أن الله عز وجل يُدعى لجلب النفع ودفع الضر (دعاء المسألة), ويدعى خوفًا ورجاء (دعاء العبادة), فكل منهما مستلزم الآخر متضمن له.
الآيات في الأمر بالدعاء والحث عليه:
قوله تعالى: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين [غافر: 60].
قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ في الآية: "والآية الكريمة دلت على أن الدعاء من العبادة؛ فإنه سبحانه وتعالى أمر عباده أن يدعوه ثم قال: إن الذين يستكبرون عن عبادتي فأفاد ذلك أن الدعاء عبادة, وأن ترك دعاء الرب سبحانه استكبار, ولا أقبح من هذا الاستكبار..." (تحفة الذاكرين ص 28).
وقال ابن كثير: "هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه أنه ندب عبادة إلى دعائه, وتكفل لهم بالإجابة..." (تفسير القرآن العظيم 7/142).
وقال: "وقوله: إن الذين يستكبرون عن عبادتي ؛ أي عن دعائي وتوحيدي سيدخلون جهنم داخرين أي صاغرين حقيرين" (السابق 7/144).
قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان [البقرة: 186].
قال ابن القيم في الآية: "يتناول نوعي الدعاء [1], وبكل منهما فسرت الآية؛
قيل: أعطيه إذا سألني, وقيل: أثيبه إذا عبدني, والقولان متلازمان" (بدائع الفوائد 3/3).
قوله تعالى: قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم [الفرقان: 77].
قال ابن القيم: "قيل: لولا دعاؤكم إياه, وقيل: دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافًا إلى المفعول, وعلى الأول: مضافًا إلى الفاعل, وهو الأرجح من القولين, وعلى هذا فالمراد به نوعا الدعاء, وهو في دعاء العبادة أظهر؛ أي ما يعبأ بكم ربي لولا أنكم تعبدونه, وعبادته تستلزم مسألته؛ فالنوعان داخلان فيه" (بدائع الفوائد 3/3).(/1)
وقال ابن كثير: "أي لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه, ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلاً, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم يقول: لولا إيمانكم" (ابن كثير 6/143).
قوله تعالى: ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين [الأعراف: 55].
قال ابن كثير: "أرشد تعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم, فقال تعالى: ادعوا ربكم تضرعًا وخفية معناه: تذللاً واستكانة, و(خفية) كما قال: واذكر ربك في نفسك [الأعراف: 205]..." (ابن كثير 3/423).
الآيات في فضل الدعاء والثناء على أهله:
قوله تعالى في الثناء على نبيه وعبده زكريا وأهله: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا... [الأنبياء: 90].
قال القرطبي: "أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء وحال الشدة, وقيل: المعنى: يدعون وقت تعبدهم وهم بحال رغبة ورجاء ورهبة وخوف؛ لأن الرغبة والرهبة متلازمان..." (الجامع لأحكام القرآن 11/336).
قوله تعالى في وصف أهل الإيمان الذين ينتفعون بالقرآن: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطعمًا... [السجدة: 16].
قال ابن كثير: "أي خوفًا من وبال عقابه, وطمعًا في جزيل ثوابه".
قوله تعالى في وصف عباد الرحمن: والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غرامًا... إلى قوله: والذين يقولون: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا... [الفرقان: 65 ـ 77].
قوله تعالى في وصف أولي الألباب: الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض إلى قوله تعالى: فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم... [آل عمران: 190 ـ 195].
النصوص من السنة:
في فضائل الدعاء وأهميته:
قوله : ((الدعاء هو العبادة)) ثم قرأ: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم... .
رواه الترمذي (2969) في التفسير, وقال: حسن صحيح, وأبو داود (1479) في الصلاة, وابن ماجه (3828) في الدعاء من حديث النعمان بن بشير, وقال الألباني في صحيح الجامع (3407): صحيح.
قال في تحفة الأحوذي: "أي هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة؛ لدلالته على الإقبال على الله, والإعراض عما سواه بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه" (تحفة الأحوذي 8/247).
وقال الطيبي ـ رحمه الله ـ: "يمكن أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي, وهو غاية التذلل والافتقار والاستكانة, وما شرعت العبادة إلا للخضوع للباري, وإظهار الافتقار إليه, وينصر هذا التأويل ما بعد الآية المتلوة إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين حيث عبر عن عدم الافتقار والتذلل بالاستكبار, ووضع عبادتي موضع دعائي, وجعل جزاء ذلك الاستكبار الهوان والصغار" (عون المعبود 4/247).
قوله : ((ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء)).
رواه أحمد في المسند (2/ 362), والترمذي (3370) الدعوات, وابن ماجه (3829) في الدعاء, والبخاري في الأدب المفرد (712) وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (549) من حديث أبي هريرة.
قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ في الحديث: "قيل: وجه ذلك أنه يدل على قدرة الله تعالى وعجز الداعي.
والأولى أن يقال: إن الدعاء لما كان هو العبادة, وكان مخ العبادة كما تقدم ـ كان أكرم على الله من هذه الحيثية؛ لأن العبادة هي التي خلق الله سبحانه الخلق لها كما قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبون [الذاريات: 56]" (تحفة الذاكرين ص 3).
وقال في تحفة الأحوذي: "لأن فيه إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته" (التحفة 9/218).
قوله : ((من لم يسأل الله يغضب عليه)).
رواه أحمد (2/442), والترمذي (3373), وابن ماجه (3827) في الدعاء, وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (512) من حديث أبي هريرة.
قال في تحفة الأحوذي: "لأن ترك السؤال تكبر واستغناء وهذا لا يجوز للعبد...".
وقال الطيبي: "وذلك لأن الله يحب أن يسأل من فضله فمن لم يسأل الله يبغضه, والمبغوض مغضوب عليه لا محالة" (تحفة الأحوذي 9/221).
وقال الشوكاني: "في الحديث دليل على أن الدعاء من العبد لربه من أهم الواجبات, وأعظم المفروضات؛ لأن تجنب ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبه" (تحفة الذاكرين ص 31 بتصرف يسير).
• قوله : ((ولا يرد القدر إلا الدعاء)).
أخرجه أحمد (5/277)، والترمذي (139) في القدر، وابن ماجه (90) في المقدمة، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7687).
قال الشوكاني رحمه الله عن الحديث : (( فيه دليل على أنه سبحانه يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، وقد وردت بهذا أحاديث كثيرة)). (تحفة الذاكرين ص29).
وقال : ((والحاصل أن الدعاء من قدر الله عز وجل ؛ فقد يقضي على عبده قضاء مقيداً بأن لا يدعوه، فإذا دعاه اندفع عنه)) (السابق ص30).
وقال في تحفة الأحوذي في شرح الحديث:(/2)
((القضاء هو الأمر المقدر، وتأويل الحديث أنه إن أراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه به ويتوقاه فإذا وُفق للدعاء دفعه الله عنه، فتسميته قضاء مجاز على حسب ما يعتقده المتوقي عنه..)). (تحفة الأحوذي).
وقال ابن القيم : ((والصواب، أن هذا المقدور قدر بأسباب ومن أسبابه الدعاء فلم يقدر مجرداً عن سببه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال..)) (الجواب الكافي ص16).
• قوله : (( لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة)).
ومعنى يعتلجان: يتصارعان ويتدافعان.
[أخرجه الطبراني في الدعاء (2/800) (33)، والأوسط (2519)، والحاكم (1/492) من حديث عائشة وقال: هذا صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بأن في سنده زكريا بن منظور الأنصاري مجمع على ضعفه.
وأخرجه أحمد (5/234) والطبراني في الكبير (20/103) (201) من حديث معاذ بنحوه.
وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7739)].
• قوله : ((من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئاً يعطى أحب إليه من أن يسأل العافية، إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء)).
[أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر (3548) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3409)].
قال في تحفة الأحوذي : (( قوله : (من فتح له منكم باب الدعاء) أي بأن وفق لأن يدعو الله كثيراً مع وجود شرائطه وحصول آدابه (فتحت له أبواب الرحمة) يعني أنه يجاب لمسئوله تارة ويدفع عنه مِثله من السوء أخرى كما في بعض الروايات: ((فتحت له أبواب الإجابة)) وفي بعضها: (( فتحت له أبواب الجنة . . )).
وقال في قوله: ((إن الدعاء ينفع مما نزل)) أي من بلاء نزل بالرفع إن كان معلقاً، وبالصبر إن كان محكماً ؛ فيسهل عليه تحمل ما نزل به فيُصَبِّره عليه أو يُرضيه به حتى لا يكون في نزوله متمنياً خلاف ما كان بل يتلذذ بالبلاء كما يتلذذ أهل الدنيا بالنعماء.
(ومما لم ينزل) أي بأن يصرفه عنه ويدفعه منه، أو يمدّه قبل النزول بتأييد من يخف معه أعباء ذلك إذا نزل به.
(فعليكم عباد الله بالدعاء) أي إذا كان هذا شأن الدعاء.
((فالزموا يا عباد الله الدعاء..)) (التحفة 9/374).
في شروط الدعاء وآدابه:
• قوله لابن عباس: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)).
رواه أحمد (1/293، 307)، والترمذي (2511) في صفة القيامة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7957).
- قال ابن رجب: ((. . هذا منزع من قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة . . )).
وقال : ((واعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين, لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضر ونيل المطلوب وجلب المنافع ودرء المضار، [و]لا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة..". جامع العلوم والحكم ص 180، 181.
• قوله : ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول : دعوت فلم يستجب لي)).
رواه البخاري (6340) في الدعوات، ومسلم (2735) في الذكر والدعاء من حديث أبي هريرة.
• وقوله : ((لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل.
قيل : يا رسول الله، ما الاستعجال؟
قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء)).
رواه مسلم (2736) في الذكر والدعاء من حديث أبي هريرة أيضاً.
ومعنى : يستحسر : ينقطع.
قال ابن حجر: ((وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أن يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار)) الفتح (11/141).
وقال ابن القيم رحمه الله : ((ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء أن يتعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله)) (الجواب الكافي ص 10).
• قوله : ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)).
أخرجه الترمذي (3479) في الدعوات من حديث أبي هريرة، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (245).
• قوله : ((يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني)).
رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675) من حديث؟؟؟
قال الإمام الشوكاني رحمه الله في الحديث: ((فيه ترغيب من الله لعباده بتحسين ظنونهم، وأنه يعاملهم على حسبها؛ فمن ظن به خيراً أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميع تفضلاته ونثر عليه محاسن كراماته وسوابغ عطياته، ومن لم يكن في ظنه هكذا لم يكن الله تعالى له هكذا..)) التحفة (ص 12).(/3)
• قوله : ((واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب لاه)).
أخرجه الترمذي (3476) في الدعوات، والحاكم (1/494)، والطبراني في الدعاء (62) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (245).
قال النووي رحمه الله : (( واعلم أن مقصود الدعاء هو حضور القلب كما سبق بيانه، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر والعلم به أوضح من أن يذكر)) الأذكار ص 356.
• قوله في حديث أبي أمامة الباهلي لما قيل له: يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)).
رواه الترمذي (3499) في الدعوات والنسائي في عمل اليوم والليلة (108)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2782).
قال ابن القيم رحمه الله : "(دبر الصلاة) يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا – يعني ابن تيمية – يرجح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه فقال: دبر كل شيء منه, كدبر الحيوان)). (زاد المعاد (1/305)).
وقال الشيخ ابن عثيمين : (( الدبر هو آخر كل شيء منه، أو هو ما بعد آخره)).
ورجّح حفظه الله أن الدعاء دبر الصلوات المكتوبة أنه قبل السلام، وقال : ((ما ورد من الدعاء مقيداً بدبر فهو قبل السلام)).
وما ورد من الذكر مقيداً بدبر فهو بعد الصلاة ؛ لقوله تعالى: فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم [النساء:103].
من إملاءات الشيخ في درس زاد المعاد نقلاً عن كتاب الدعاء للشيخ الحَمد.
• قوله : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)).
رواه مسلم (3009) في الزهد، وأبو داود (1532) من حديث جابر.
قال في عون المعبود: (( (لا تدعوا) أي دعاء سوء (على أنفسكم) أي بالهلاك ومثله (ولا تدعوا على أولادكم) أي بالعمى ونحوه (ولا تدعوا على أموالكم) أي من العبيد والإماء بالموت وغيره (لا توافقوا) نهي للداعي، وعلة النهي أي لا تدعوا على من ذكر لئلا توافقوا (من الله ساعة نيل) عطاء (فيها عطاء فيستجيب لكم) أي لئلا تصادفوا ساعة إجابة ونيل فتستجاب دعوتكم السوء..)). عون المعبود.
• قوله : ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، فتدعونه فلا يستجاب لكم)).
رواه الترمذي في الفتن (2169) وقال : هذا حديث حسن، وأحمد (5/288) والبغوي في شرح السنة (4514) من حديث حذيفة، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7070).
قال أهل العلم: ((لذا يمكن الجزم بأن ترك القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مانع من موانع إجابة الدعاء، فعلى كل مسلم يرغب بصدق أن يكون مستجاب الدعوة القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب طاقته وجهده)) (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لصالح الدرويش ص 34).
قوله : ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)).
رواه مسلم (1015) في الزكاة، والترمذي (2982) في التفسير.
قال ابن رجب رحمه الله : ((هذا الكلام أشار فيه إلى آداب الدعاء وإلى الأسباب التي تقتضي إجابته وإلى ما يمنع من إجابته)).
فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة:
أحدها: إطالة السفر، والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء كما في حديث أبي هريرة عن النبي قال: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده)) [2].
ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء ؛ لأنه مظنة حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان وتحمل المشاق، والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء.
والثاني: حصول التبذل في اللباس والهيئة بالشعث والإغبار، وهو أيضاً من المقتضيات لإجابة الدعاء كما في الحديث المشهور عن النبي : ((رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)).
ولما خرج النبي للاستسقاء خرج متبذلاً متواضعاً متضرعاً.
الثالث: مد يديه إلى السماء، وهو من آداب الدعاء التي يرجى بسببها إجابته، وفي حديث سلمان عن النبي : ((إن الله حي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين)) [3].
والرابع: الإلحاح على الله عز وجل بتكرير ذكر ربوبيته، وهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء. . ومن تأمل الأدعية المذكورة في القرآن وجدها غالباً تفتتح باسم الرب ؛ كقوله تعالى: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.. ، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.. . وقوله: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.. . ومثل هذا في القرآن كثير.
وأما ما يمنع إجابة الدعاء: فقد أشار إلى أنه التوسع في الحرام أكلاً وشرباً ولبساً وتغذيةً [4].
وروى عكرمة بن عمار : حدثنا الأصفر قال : قيل لسعد بن أبي وقاص: تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله قال: ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيؤها؟ ومن أين خرجت؟.(/4)
وعن وهب بن منبه قال : من سره أن يستجيب الله دعوته فليطيب طعمته.
وقوله : ((فأنى يستجاب لذلك)) معناه: كيف يستجاب له؟! فهو استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد، وليس صريحاً في استحالة الاستجابة ومنعها بالكلية ؛ فيؤخذ من هذا أن التوسع في الحرام والتغذي به من جملة موانع الإجابة، وقد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه، وقد يكون ارتكاب المحرمات الفعلية مانعاً من الإجابة أيضاً، وكذلك ترك الواجبات.
وعن عمر بن الخطاب قال : بالورع عما حرم الله يقبل الله الدعاء والتسبيح.
وعن أبي ذر قال : يكفي مع البر من الدعاء مثل ما يكفي الطعام من الملح.
وقال محمد بن واسع: (يكفي من الدعاء مع الورع اليسير). [جامع العلوم والحكم بتصرف يسير 98-101].
• عن فضالة بن عبيد قال : بينما رسول الله قاعد إذ دخل رجل فصلى فقال: اللهم اغفر لي وارحمني.
فقال رسول الله : ((عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله، وصلَّ علي ثم ادعه)).
ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله، وصلى على النبي فقال له النبي : ((أيها المصلي ادع تُجب)).
رواه الترمذي (3476) في الدعوات، وأبو داود(1481) في الصلاة، والنسائي في السهو (1284) وقال الألباني في صحيح الجامع (3988): صحيح.
• وقال : ((كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي )).
أخرجه الطبراني في الأوسط كما في المجمع (10/160) عن علي، وأخرجه الديلمي في الفردوس (4791) من حديث أنس، وأخرجه الترمذي (486) في الصلاة موقوفاً عن عمر، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4523).
قال السندي في شرح قوله : (( عجلت أيها المصلي )) : (وفيه إشارة إلى أن حق السائل أن يتقرب إلى المسئول منه قبل طلب الحاجة بما يوجب الزلفى عنده ويتوسل له بشفيع له بين يديه ليكون أطمع في الإسعاف وأحق بالإجابة، فمن عرض السؤال قبل تقديم الوسيلة فقد استعجل).
• قوله : ((لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة؛ فإنه لا مستكره له)).
رواه البخاري (6339) في الدعوات، باب ليعزم المسألة، ومسلم (2678) في الذكر والدعاء، باب العزم بالدعاء.
قال الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله في شرحه على الحديث : (( بخلاف العبد ؛ فإنه قد يعطي السائل مسألته لحاجته إليه، أو لخوفه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره، فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسؤول، مخافة أن يعطيه وهو كاره بخلاف رب العالمين ؛ فإنه تعالى لا يليق به ذلك لكمال غناه عن جميع خلقه وكمال جوده وكرمه، وكلهم فقير إليه، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين وعطاؤه كلام . . فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة فإنه لا يعطي عبده شيئاً عن كراهة ولا عن عظم مسألة..)). (فتح المجيد ص 471 بتصرف يسير).
• قوله : ((من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرب فليكثر من الدعاء في الرخاء)).
أخرجه الترمذي في الدعوات (3382) والحاكم (1/544)، والطبراني في الدعاء (44، 45) من حديث أبي هريرة وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6290).
قال في تحفة الأحوذي : ((لأن من شيمة المؤمن أن يُريِّش السهم قبل أن يرمي ويلتجئ إلى الله قبل الاضطرار)).
وقال سلمان الفارسي: إذا كان الرجل دعاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى قالت الملائكة: صوت معروف فشفعوا له، وإذا كان ليس بدعاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى، قالت الملائكة: صوت ليس بمعروف فلا يشفعون له. (جامع العلوم ص179، 180).
وقال مضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى : فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون وإن فرعون كان طاغياً ناسياً لذكر الله، فلما أدركه الغرق، قال: آمنت، فقال الله تعالى: آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين . (جامع العلوم ص 179).
جملة من هديه في الدعاء:
• الدعاء ثلاثاً: فعن مسلم من حديث ابن مسعود الطويل وفيه: ((وكان إذا دَعا دعا ثلاثاً)). (مسلم (1794) في الجهاد والهجرة).
• ... استقبال القبلة: فعند البخاري: ((استقبل رسول الله الكعبة فدعا على قريش)) البخاري (3960) في المغازي.
• ... رفع الأيدي في الدعاء فعند البخاري ومسلم من حديث أبي موسى: ((دعا النبي ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه)).
البخاري (4323) في المغازي، ومسلم (2498) في فضائل الصحابة.
• أن يبدأ بنفسه : فعن أبي بن كعب أن رسول الله كان إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه.
رواه الترمذي (3385) في الدعوات، وأبو داود (3984) في القراءات، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4723).
من أقوال السلف في الدعاء:
1- روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن همّ الدعاء. فإذا ألهمت الدعاء، فإن الإجابة معه. (الدعاء لحسين العوايشة ص 53)(/5)
2- روي عن أبي ذر أنه قال : يكفي من الدعاء البر كما يكفي الطعام من الملح. ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (1/593).
3- روي عن مُورِّقٍ أنه قال : ما وجدت للمؤمن مثلاً إلا رجلاً في البحر على خشبة فهو يدعو: يا رب يا رب لعل الله عز وجل أن ينجيه. ذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى بإسناده إلى مورق (7/161).
4- روي عن القاسم بن عبد أنه قال : قلت لأنس بن مالك : يا أبا حمزة ادع الله لنا. قال : الدعاء يرفعه العمل الصالح. (الدعاء للعوايشة ص 53).
5- روي عن ابن مسعود أنه قال : إن الله لا يقبل من مسمع ولا مراء ولا لاعب، ولا داع، إلا داعياً دعاء ثبتاً من قلبه. (السابق ص 53).
6- روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما من عبد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب حتى تعجل له في الدنيا أو تؤخر له في الآخرة إذا لم يعجل أو يقنط. (الدعاء للعوايشة ص 53)
7- روي عن عبد الله بن أبي صالح أنه قال : دخل علي طاووس يعودني فقلت له: ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن. فقال: ادع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/289).
ملحقات الخطبة:
• بعض الأشعار:
ثم ننساه عند كشف الكروب ... ... نحن ندعو الإله في كل كرب
قد سددنا طريقها بالذنوب ... ... كيف نرجو إجابة لدعاء
علي فما ينفكّ أن يتفرجا
أصاب له في دعوة الله مخرجاً ... ... وإني لأدعو الله والأمر ضيق
ورب فتىً ضاقت عليه وجوهه
وما تدري بما صنع الدعاء
له أمد وللأمد انقضاء ... ... أتهزأ بالدعاء وتزدريه
سهام الليل لا تخطي ولكن
طي الحوادث محبوب ومكروه
وربما ساءني ما كنت أرجوه ... ... تجري الأمور على حكم القضاء وفي
رُبما سرني ما كنت أحذره
• أحاديث ضعيفة وموضوعة في الدعاء:
1- ((إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور)).
قال ابن تيمية عنه: ((فهذا الحديث كذب مفترى على النبي بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة)) (التوسل والوسيلة ص 174).
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: ((وهذا الكلام دعوة إلى الشرك بالله عز وجل فإن الاستعانة بأصحاب القبور والاستغاثة بهم من أعظم أنواع الشرك بإجماع أهل العلم والإيمان..)).
2- ((إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي ؛ فإن جاهي عند الله عظيم)).
قال ابن تيمية رحمه الله عنه: ((وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث)) (التوسل ص 174).
وقال الألباني رحمه الله: ((لا أصل له)).
وقال : ((الأحاديث الواردة في التوسل به تنقسم إلى قسمين: صحيح، وضعيف.
أما الصحيح، فلا دليل فيه البتة على المدعى مثل توسلهم به لا بجاهه ولا بذاته ، ولما كان التوسل بدعائه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى غير ممكن كان بالتالي التوسل به بعد وفاته غير ممكن وغير جائز..)) السلسلة الضعيفة (22).
3- ((حسبي من سؤالي علمه بحالي)).
قال الألباني: ((لا أصل له، وأورده بعضهم من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو من الإسرائيليات، ولا أصل له في المرفوع)).
وقال ابن تيمية: (وأما قوله: ((حسبي من سؤالي علمه بحالي)) فكلام باطل خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء من دعائهم لله، ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤلهم له صلاح الدنيا والآخرة). الفتاوى (8/539).
4- ((لما اقترف آدم الخطيئة قال : يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي . . الحديث)).
رواه الحاكم في المستدرك (2/615) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: بل موضوع. وقال ابن تيمية عنه: ((ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه؟ فإنه قد قال في كتاب "المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم" : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه. .)) قاعدة جليلة ص98، 99.
وقال الألباني : ((وجملة القول أن الحديث لا أصل له عنه ، فلا جرم أن حكم عليه بالبطلان الحافظان الجليلان الذهبي والعسقلاني..)).الضعيفة (1/40) (25).
5- ((الدعاء مخ العبادة)):
رواه الترمذي من حديث أنس (3371) وضعفه، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي (3611) ويغني عنه حديث ((الدعاء هو العبادة)) وهو صحيح.
________________________________________(/6)
الدعاء
أولاً: تعريف الدعاء وحقيقته.
ثانياً: نوعا الدعاء والعلاقة بينهما.
ثالثاً: فضل الدعاء.
رابعاً: بين الدعاء والذكر.
خامساً: حكم الدعاء وفائدته.
سادساً: شروط الدعاء وواجباته.
سابعاً: آداب الدعاء ومستحباته.
ثامناً: أخطاء في الدعاء وما يكره فيه.
تاسعاً: من أقوال السلف في الدعاء.
عاشراً: ملحقات البحث.
أولاً: تعريف الدعاء وحقيقته:
الدعاء لغة:
كلمة الدعاء في الأصل مصدر من قولك: دعوتُ الشيء أدعوه دعاءً، وهو أن تُميل الشيءَ إليك بصوت وكلام يكون منك.
قال ابن منظور: "دعا الرجلَ دعوًا ودعاءً: ناداه. والاسم: الدعوة. ودعوت فلانًا: أي صِحت به واستدعيته".
وأصله دعاوٌ؛ لأنه من دعوت, إلا أن الواو لما جاءت متطرّفة بعد الألف هُمزت.
ثمّ أقيم هذا المصدر مقام الاسم ـ أي: أطلق على واحد الأدعية ـ، كما أقيم مصدر العدل مقامَ الاسم في قولهم: رجلٌ عدلٌ، ونظير هذا كثير.
الدعاء شرعًا:
عرِّف بعدة تعريفات:
فقال الخطابي: "معنى الدعاء استدعاءُ العبدِ ربَّه عزَّ وجلَّ العنايةَ، واستمدادُه منه المعونةَ. وحقيقته: إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتبرُّؤ من الحول والقوّة، وهو سمةُ العبودية، واستشعارُ الذلَّة البشريَّة، وفيه معنى الثناء على الله عزَّ وجلَّ، وإضافة الجود والكرم إليه".
وقال ابن منظور: "هو الرغبة إلى الله عز وجل".
معاني الدعاء في القرآن الكريم:
ورد الدعاء في القرآن الكريم على وجوه، منها:
1- العبادة، كما في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:194].
2- الطلب والسؤال من الله سبحانه، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، وقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
3- الاستغاثة، كما في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40، 41]، وقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23].
4- النداء، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:52]، وقوله تعالى: {إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25].
5- توحيد الله وتمجيده والثناء عليه، كما في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَانَ} [الإسراء:110].
6- الحثّ على الشيء، كما في قوله تعالى: {قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} [يوسف:33]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} [يونس:25].
7- رفعة القدر، كما في قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الآخِرَةِ} [غافر:43].
8- القول، كما في قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا إِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5].
9- سؤال الاستفهام، كما في قوله تعالى:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ} [البقرة:68].
10- التسمية، كما في قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63]، وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَانَ أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَاء الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، قال ابن القيم: "ليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب، بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب، فعلى هذا المعنى يصح أن يكون في {تَدْعُواْ} معنى (تُسَمُّوا) فتأمله، والمعنى: أيا ما تسمّوا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم".
11- وقيل: ورد بمعنى العذاب، كما في قوله تعالى: {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج:17]، قال المبرد: "تدعو أي: تعذِّب"، وقال غيره: "تناديهم واحدا واحدا بأسمائهم"، قال السمعاني: "وهو الأظهر".
انظر: مقاييس اللغة (2/279).
لسان العرب مادة (د ع و).
لسان العرب مادة (د ع و).
شأن الدعاء (ص3).
شأن الدعاء (ص4).
لسان العرب مادة (د ع و).
انظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصبهاني (ص315-316)، وفتح الباري لابن حجر (11/94)، ولسان العرب مادة (د ع و)، وكتاب الدعاء لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص8-10).
بدائع الفوائد (3/5).
تفسير السمعاني (6/47).
ثانياً: نوعا الدعاء والعلاقة بينهما:(/1)
الدعاء الذي حثَّ الله عليه في كتابه، ووعد المخلصين فيه بجزيل ثوابه، نوعان: دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
أما دعاء المسألة فهو: طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره ودفعه.
وأما دعاء العبادة فهو: التقرب إلى الله بجميع أنواع العبادة، الظاهرة والباطنة، من الأقوال والأعمال، والنيات والتروك، التي تملأ القلوب بعظمة الله وجلاله.
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: "كل ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء, والنهي عن دعاء غير الله, والثناء على الداعين، يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة, وهذه قاعدة نافعة؛ فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة دعاءُ المسألة فقط, ولا يظنون دخول جميع العبادات في الدعاء, وهذا خطأ جرهم إلى ما هو شر منه".
العلاقة بين النوعين:
دعاء المسألة ودعاء العبادة متلازمان؛ وذلك من وجهين:
الأول: من جهة الداعي؛ فإن دعاءه بنوعيه مبني على الخوف والرجاء.
قال ابن تيمية: "وكل سائل راغب وراهب، فهو عابد للمسؤول، وكل عابد له فهو أيضا راغب وراهب، يرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل عابد سائل، وكل سائل عابد، فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، ولكن إذا جمع بينهما فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال. والعابد الذي يريد وجه الله والنظر إليه، هو أيضا راج خائف راغب راهب، يرغب في حصول مراده، ويرهب من فواته، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَبا} [الأنبياء:90]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16]، ولا يتصور أن يخلو داع لله ـ دعاء عبادة أو دعاء مسألة ـ من الرغب والرهب، من الخوف والطمع".
والثاني: من جهة المدعو؛ فإنه لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر.
قال ابن القيم: "كل من يملك الضر والنفع، فإنه هو المعبود حقا، والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرا ولا نفعا، وذلك كثير في القرآن، كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} [يونس:18]، وقوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} [يونس:106]، وقوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76]، وقوله تعالى: {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ * أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:66]، وقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ * إِذْ قَالَ لأِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِين * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:69-73]، وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حياةً وَلاَ نُشُوراً} [الفرقان:3]، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيراً} [الفرقان:55]، فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر، القاصر والمتعدي، فلا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم، وهذا في القرآن كثير، بيد أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر، فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعى خوفا ورجاء دعاء العبادة، فعلم أن النوعين متلازمان، فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة".
انظر: النبوات (ص136).
انظر: مجموع الفتاوى (15/10)، بدائع الفوائد (3/2).
انظر: تصحيح الدعاء (ص17).
القواعد الحسان (ص154- 155).
مجموع الفتاوى (10/239-240).
بدائع الفوائد (3/2-3).
ثالثاً: فضل الدعاء:
لقد ورد في فصل الدعاء وأهميته آيات كريمة وأحاديث نبوية كثيرة، فمن فضائله العظيمة التي دلَّ عليها الكتاب والسنة:
1- أن الله تعالى أثنى على أنبيائه به، فقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، فأثنى سبحانه عليهم بهذه الأوصاف الثلاثة: المسارعة في الخيرات، ودعاؤه رغبة ورهبة، والخشوع له، وبيَّن أنها هي السبب في تمكينهم ونصرتهم وإظهارهم على أعدائهم، ولو كان شيء أبلغ في الثناء عليهم من هذه الأوصاف لذكره سبحانه وتعالى.(/2)
2- أنَّه سنَّة الأنبياء والمرسلين، ودأب الأولياء والصالحين، ووظيفة المؤمنين المتواضعين، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِئَايَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16-17]، وهو صفة من صفات عباد الرحمن، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:65-77]، وهو ميزة أولي الألباب، قال تعالى: {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لأوْلِى الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} إلى قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} [آل عمران:190-195].
3- أنه شأن من شؤون الملائكة الكرام، قال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى:5]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7-9].
4- أنه من أفضل العبادات، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} [غافر:60]، وعن النعمان بن بشير قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة))، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ...}.
قال الخطابي: "معناه أنه معظم العبادة، وأفضل العبادة، كقولهم: الناس بنو تميم، والمال الإبل، يريدون أنهم أفضل الناس أو أكثرهم عددا أو ما أشبه ذلك، وأن الإبل أفضل أنواع الأموال وأنبلها".
قال المباركفوري: "أي هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة؛ لدلالته على الإقبال على الله, والإعراض عما سواه، بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه".
5- أن الله تعالى سماه دينا فقال سبحانه: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ} [الأعراف:29].
6- أنه أكرم شيء على الله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء)).
قال الشوكاني: "قيل: وجه ذلك أنه يدل على قدرة الله تعالى وعجز الداعي، والأولى أن يقال: إن الدعاء لما كان هو العبادة, وكان مخ العبادة كما تقدم، كان أكرم على الله من هذه الحيثية؛ لأن العبادة هي التي خلق الله سبحانه الخلق لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]".
7- أنَّ الله تعالى أمر به وحثَّ عليه، وكذلك رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء:32]، وقال: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال: {فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14]، وقال: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} إلى قوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف:55-56]، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسألِ اللهَ يغضبْ عليه)).
8- أنَّ أهل الجنَّة به علَّلوا نجاتهم من عذاب النار فقالوا: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 27-28].(/3)
9- أنَّ الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجالسَ ويلازمَ أهلَ الدعاء، وأن لا يعدُوَهم إلى غيرهم بالنظر فضلا عمَّا هو فوقه، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
10- أنَّ الله تعالى نهى عن الإساءة إلى أهل الدعاء، تشريفا وتكريما لهم فقال: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52].
11- أن الله تعالى قريب من أهل الدعاء، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، وقد جاء في سبب نزولها أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
قال ابن القيم: "وهذا القرب من الداعي قرب خاص، ليس قربا عاما من كل أحد، فهو قريب من داعيه، وقريب من عابده، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه، بل هو قرب خاص من الداعي والعابد".
12- أنَّ من لزم الدعاء فلن يدركه الشقاء، قال الله تعالى عن زكريَّا: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً} [مريم: 4]، وقال عن خليله إبراهيم: {عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا} [مريم: 48].
13- أنَّه من صفات أهل الجنة في الجنة، قال تعالى: {دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
14- أنَّ الدعاء كلَّه خير، فعن أبي سعيد رفعه: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلاَّ أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمَّا أن يُعجِّل له دعوته، وإمَّا أن يدَّخرها له في الآخرة، وإمَّا أن يصرف عنه من السوء مثلها)).
قال ابن حجر: "كلّ داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه".
15- أنَّ الله تعالى وعد بإجابة الدعاء فقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقال: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء} [النمل: 62]، وقال: {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
16- أنه مفتاح أبواب الرحمة، وسبب لرفع البلاء قبل نزوله وبعد نزوله، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فُتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئا يُعطى أحب إليه من أن يسأل العافية، إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء))، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء ليلقى البلاء، فيعتلجان إلى يوم القيامة)).
قال المباركفوري: "قوله: ((من فتح له منكم باب الدعاء)) أي: بأن وفق لأن يدعو الله كثيراً مع وجود شرائطه، وحصول آدابه، ((فتحت له أبواب الرحمة)) يعني أنه يجاب لمسئوله تارة، ويدفع عنه مِثله من السوء أخرى، كما في بعض الروايات: ((فتحت له أبواب الإجابة)) وفي بعضها: (( فتحت له أبواب الجنة))".
وقال في قوله: ((إن الدعاء ينفع مما نزل)): "أي من بلاء نزل بالرفع إن كان معلقاً، وبالصبر إن كان محكماً؛ فيسهل عليه تحمل ما نزل به فيُصَبِّره عليه أو يُرضيه به، حتى لا يكون في نزوله متمنياً خلاف ما كان، بل يتلذذ بالبلاء كما يتلذذ أهل الدنيا بالنعماء، ((ومما لم ينزل)) أي: بأن يصرفه عنه ويدفعه منه، أو يمدّه قبل النزول بتأييد من يخف معه أعباء ذلك إذا نزل به، ((فعليكم عباد الله بالدعاء)) أي: إذا كان هذا شأن الدعاء فالزموا يا عباد الله الدعاء".
17- أنه سبب لدفع العذاب، ومانع من موانع العقاب، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
قال ابن تيمية: "الذنوب تزول عقوباتها بأسباب... وتزول أيضا بدعاء المؤمنين، كالصلاة عليه، وشفاعة الشفيع المطاع لمن شفع فيه".
18- أنه من أعظم ما يزيد في الإيمان، ويقوي حلاوته في القلب.(/4)
قال ابن تيمية: "من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده، فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون أحدا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه وحلاوة الإيمان وذوق طعمه والبراءة من الشرك، ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف أو الجدب أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة، فإن ذلك لذَّات بدنية ونعم دنيوية، قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن، وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، أو يستحضر تفصيله بال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه، ولهذا قال بعض السلف: يا ابن آدم، لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك، وقال بعض الشيوخ: إنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه، فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي، خشيةَ أن تنصرف نفسي عن ذلك، لأن النفس لا تريد إلا حظها، فإذا قضي انصرفت، وفي بعض الإسرائيليات: يا ابن آدم، البلاء يجمع بيني وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك".
19- أنه يرد القضاء، فعن ثوبان مولى رسول الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ولا يرد القدر إلا الدعاء)).
قال الشوكاني: "فيه دليل على أنه سبحانه يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، وقد وردت بهذا أحاديث كثيرة".
وقال: "والحاصل أن الدعاء من قدر الله عز وجل؛ فقد يقضي على عبده قضاء مقيداً بأن لا يدعوه، فإذا دعاه اندفع عنه".
وقال المباركفوري: "القضاء هو الأمر المقدر، وتأويل الحديث أنه إن أراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه به ويتوقاه، فإذا وُفق للدعاء دفعه الله عنه، فتسميته قضاء مجاز على حسب ما يعتقده المتوقي عنه".
وقال ابن القيم: "والصواب أن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجرداً عن سببه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال".
20- أنه دليل على توحيد الله تعالى وإثبات ربوبيته وأسمائه وصفاته، قال ابن عقيل: "قد ندب الله تعالى إلى الدعاء وفيه معان: الوجود والغنى والسمع والكرم والرحمة والقدرة، فإن من ليس كذلك لا يدعى".
أخرجه أحمد (4/267)، والترمذي (2969)، وأبو داود (1479)، وابن ماجه (3829)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (890) والحاكم (1/490، 491)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الجامع (3407).
شأن الدعاء (ص5).
تحفة الأحوذي (8/247).
أخرجه أحمد (2/362)، والترمذي (3370)، وابن ماجه (3829)، وقال الترمذي: حسن غريب، وصححه ابن حبان (870)، والحاكم (1/490)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد(549).
تحفة الذاكرين (ص30).
أخرجه أحمد (2/442)، والترمذي (3373)، وابن ماجه (3827)، وصححه الحاكم (1/491)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (512).
انظر: تفسير الطبري (2/158).
بدائع الفوائد (3/8).
أخرجه أحمد (3/18)، والبخاري في الأدب المفرد (710)، وصححه الحاكم (1/493)، وهو في صحيح الأدب المفرد(547).
الفتح (11/95).
أخرجه الترمذي (3548) وضعفه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3409).
أخرجه الطبراني في الدعاء (33)، وصححه الحاكم (1/492)، وتعقبه الذهبي بأن في سنده من هو مجمع على ضعفه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7739).
تحفة الأحوذي (9/374).
مجموع الفتاوى (10/330).
مجموع الفتاوى (10/333-334).
أخرجه أحمد (5/277)، والترمذي في القدر (2139)، وابن ماجه في المقدمة (90)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7687).
تحفة الذاكرين (ص29).
تحفة الذاكرين (ص30).
تحفة الأحوذي (6/289).
الجواب الكافي (ص16).
انظر: الآداب الشرعية (2/280).
رابعاً: بين الدعاء والذكر:
لقد ذكر العلماء من محدثين وغيرهم الأذكار في كتب الدعاء، كما أدرجوا الأدعية في كتب الأذكار، فما هي حقيقة العلاقة بين الذكر والدعاء؟
العلاقة بينهما:
قال ابن القيم: "إن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه، متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الدعاء الحمد لله))، فسمى الحمد لله دعاء، وهو ثناء محض، لأن الحمد يتضمن الحب والثناء، والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب، فالحامد طالب لمحبوبه، فهو أحق أن يسمى داعيا من السائل الطالب من ربه حاجة ما... وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها، فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب، وهو طلب المحب، فهو دعاء حقيقة، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه، والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه".(/5)
أيها أفضل: قراءة القرآن أم الذكر أم الدعاء؟
سئل ابن تيمية عمن يحفظ القرآن أيما أفضل له: تلاوة القرآن أم الذكر؟
فأجاب: "الحمد لله، جواب هذه المسألة ونحوها مبني على أصلين: فالأصل الأول أن جنس تلاوة القرآن أفضل من جنس الأذكار، كما أن جنس الذكر أفضل من جنس الدعاء، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن النبي أنه قال: ((أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر))، وفي الترمذي عن أبي سعيد عنه أنه قال: ((من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين))، وكما في الحديث الذي في السنن في الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمني ما يجزئني في صلاتي، قال: ((قل: سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر))، ولهذا كانت القراءة في الصلاة واجبة، فإن الأئمة لا تعدل عنها إلى الذكر إلا عند العجز، والبدل دون المبدل منه، وأيضا فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبرى دون الذكر والدعاء، وما لم يشرع إلا على الحال الأكمل فهو أفضل، كما أن الصلاة لما اشترط لها الطهارتان كانت أفضل من مجرد القراءة، كما قال النبي: ((استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة))، ولهذا نص العلماء على أن أفضل تطوع البدن الصلاة، أيضا فما يكتب فيه القرآن لا يمسه إلا طاهر، وقد حكي إجماع العلماء على أن القراءة أفضل، لكن طائفة من الشيوخ رجحوا الذكر، ومنهم من زعم أنه أرجح في حق المنتهي المجتهد، كما ذكر ذلك أبو حامد في كتبه، ومنهم من قال: هو أرجح في حق المبتدئ السالك، وهذا أقرب إلى الصواب.
وتحقيق ذلك يذكر في الأصل الثاني، وهو أن العمل المفضول قد يقترن به ما يصيره أفضل من ذلك، وهو نوعان:
أحدهما ما هو مشروع لجميع الناس، والثاني ما يختلف باختلاف أحوال الناس.
أما الأول: فمثل أن يقترن إما بزمان أو بمكان أو عمل يكون أفضل، مثل ما بعد الفجر والعصر ونحوهما من أوقات النهي عن الصلاة، فإن القراءة والذكر والدعاء أفضل في هذا الزمان، وكذلك الأمكنة التي نهي عن الصلاة فيها كالحمام وأعطان الإبل والمقبرة، فالذكر والدعاء فيها أفضل، وكذلك الجنب الذكر في حقه أفضل، والمحدث القراءة والذكر في حقه أفضل، فإذا كره الأفضل في حال حصول مفسدة كان المفضول هناك أفضل، بل هو المشروع، وكذلك حال الركوع والسجود فإنه قد صح عن النبي أنه قال: ((نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم))، وقد اتفق العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود، وتنازعوا في بطلان الصلاة بذلك على قولين، هما وجهان في مذهب الإمام أحمد، وذلك تشريفا للقرآن، وتعظيما له أن لا يقرأ في حال الخضوع والذل، كما كره أن يقرأ مع الجنازة، وكما كره أكثر العلماء قراءته في الحمام، وما بعد التشهد هو حال الدعاء المشروع بفعل النبي وأمره، والدعاء فيه أفضل، بل هو المشروع دون القراءة والذكر، وكذلك الطواف، وبعرفة ومزدلفة وعند رمي الجمار، المشروع هناك هو الذكر والدعاء، وقد تنازع العلماء في القراءة في الطواف، هل تكره أم لا تكره؟ على قولين مشهورين.
والنوع الثاني: أن يكون العبد عاجزا عن العمل الأفضل، إما عاجزا عن أصله كمن لا يحفظ القرآن ولا يستطيع حفظه، كالأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم، أو عاجزا عن فعله على وجه الكمال، مع قدرته على فعل المفضول على وجه الكمال، ومن هنا قال من قال: إن الذكر أفضل من القرآن، فإن الواحد من هؤلاء قد يخبر عن حاله، وأكثر السالكين بل العارفين منهم إنما يخبر أحدهم عما ذاقه ووجده، لا يذكر أمرا عاما للخلق، إذ المعرفة تقتضي أمورا معينة جزئية، والعلم يتناول أمرا عاما كليا، فالواحد من هؤلاء يجد في الذكر من اجتماع قلبه وقوة إيمانه، واندفاع الوسواس عنه، ومزيد السكينة والنور والهدى، ما لا يجده في قراءة القرآن، بل إذا قرأ القرآن لا يفهمه، أو لا يحضر قلبه وفهمه، ويلعب عليه الوسواس والفكر، كما أن من الناس من يجتمع قلبه في قراءة القرآن وفهمه وتدبره ما لا يجتمع في الصلاة، بل يكون في الصلاة بخلاف ذلك، وليس كل ما كان أفضل يشرع لكل أحد، بل كل واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له، فمن الناس من تكون الصدقة أفضل له من الصيام، وبالعكس وإن كان جنس الصدقة أفضل، ومن الناس من يكون الحج أفضل له من الجهاد كالنساء، وكمن يعجز عن الجهاد، وإن كان جنس الجهاد أفضل، قال النبي: ((الحج جهاد كل ضعيف))، ونظائر هذا متعددة.(/6)
إذا عرف هذان الأصلان عرف بهما جواب هذه المسائل، إذا عرف هذا فيقال: الأذكار المشروعة في أوقات معينة، مثل ما يقال عند جواب المؤذن، هو أفضل من القراءة في تلك الحال، وكذلك ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقال عند الصباح والمساء، وإتيان المضجع، هو مقدم على غيره، وأما إذا قام من الليل فالقراءة له أفضل إن أطاقها، وإلا فليعمل ما يطيق، والصلاة أفضل منهما، ولهذا نقلهم عند نسخ وجوب قيام الليل إلى القراءة، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ} [المدثر:20] الآية، والله أعلم".
بدائع الفوائد (3/9-10).
مجموع الفتاوى (23/56-60).
خامساً: حكم الدعاء وفائدته:
وجوب الدعاء والدليل على ذلك:
قال أهل السنَّة والجماعة: الدعاء واجبٌ، ولا يستجاب منه إلاّ ما وافق القضاء. فقد أمر الله تعالى به، وحضَّ عليه، فقال سبحانه: {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، وقال: {قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77]، والآيات في الباب كثيرةٍ، ولمَّا ذكر الله تعالى جملةَ ما أمر به ذكر من بين ذلك الدعاء فقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29].
قال الخطابي: "فأما من ذهب إلى إبطال الدعاء، فمذهبه فاسد... ومن أبطل الدعاء فقد أنكر القرآن ورده، ولا خفاء بفساد قوله، وسقوط مذهبه".
قال الشوكاني: "إنه سبحانه وتعالى أمر عباده أن يدعوه، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} [غافر:60]، فأفاد ذلك أن الدعاء عبادة, وأن ترك دعاء الرب سبحانه استكبار, ولا أقبح من هذا الاستكبار".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)).
قال المناوي: "لأن تارك السؤال إما قانط وإما متكبر، وكل واحد من الأمرين موجب الغضب"، ثم نقل عن ابن القيم قوله: "هذا يدل على أن رضاه في مسألته وطاعته، وإذا رضي الرب تعالى فكل خير في رضاه، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه... فهو تعالى يغضب على من لم يسأله، كما أن الآدمي يغضب على من يسأله".
وقال المباركفوري: "لأن ترك السؤال تكبر واستغناء وهذا لا يجوز للعبد"، ونقل عن الطيبي قوله: "وذلك لأن الله يحب أن يسأل من فضله، فمن لم يسأل الله يبغضه, والمبغوض مغضوب عليه لا محالة".
وقال الشوكاني: "في الحديث دليل على أن الدعاء من العبد لربه من أهم الواجبات, وأعظم المفروضات؛ لأن تجنب ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبه".
فإن قال قائلٌ: ما فائدة الدعاء وقد سبق القضاء؟
فالجواب: أنَّ الله تعالى شرع الدعاءَ لتكون المعاملة فيه على معنى الترجِّي والتعلُّق بالطمع، الباعثَين على الطلب، دون اليقين الذي يقع معه طُمأنينةُ النفس، فيُفضي بصاحبه إلى ترك العمل، والإخلادِ إلى دعةِ العطلة. فإنَّ الأمرَ الدائرَ بين الظفرِ بالمطلوب،ِ وبين مخافة فوته، يحرِّك على السعيِ له والدأب فيه، واليقينُ يُسكِّن النفسَ ويريحها، كما أنَّ اليأس يُبلِّدُها ويطفئُها، والله يريد من العبد أن يكونَ معلَّقا بين الرجاءِ والخوف اللذَين هما قطبا العبودية، وليستخرج منه بذلك الوظائف المضروبة عليه، التي هي سمة كل عبد، ونصبة كل مربوب مدبر.
قال ابن تيمية: "الناس قد اختلفوا في الدعاء المستعقب لقضاء الحاجات، فزعم قوم من المبطلين، متفلسفة ومتصوفة، أنه لا فائدة فيه أصلا، فإن المشيئة الإلهية والأسباب العلوية، إما أن تكون قد اقتضت وجود المطلوب، وحينئذ فلا حاجة إلى الدعاء، أو لا تكون اقتضته، وحينئذ فلا ينفع الدعاء.
وقال قوم ممن تكلم في العلم: بل الدعاء علامة ودلالة على حصول المطلوب، وجعلوا ارتباطه بالمطلوب ارتباط الدليل بالمدلول، لا ارتباط السبب بالمسبب، بمنزلة الخبر الصادق والعلم السابق.
والصواب ما عليه الجمهور من أن الدعاء سبب لحصول الخير المطلوب أو غيره، كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة، وسواء سمي سببا أو جزءا من السبب أو شرطا، فالمقصود هنا واحد، فإذا أراد الله بعبد خيرا ألهمه دعاءه والاستعانة به، وجعل استعانته ودعاءه سببا للخير الذي قضاه له".
وقال ابن القيم: "وفي هذا المقام غلط طائفتان من الناس:(/7)
طائفة ظنت أن القدر السابق يجعل الدعاء عديم الفائدة، قالوا: فإن المطلوب إن كان قد قدر فلا بد من وصوله دعا العبد أو لم يدع، وإن لم يكن قد قدر فلا سبيل إلى حصوله دعا أو لم يدع. ولما رأوا الكتاب والسنة والآثار قد تظاهرت بالدعاء وفضله، والحث عليه وطلبه، قالوا: هو عبودية محضة، لا تأثير له في المطلوب ألبتة، وإنما تعبدنا به الله، وله أن يتعبد عباده بما شاء كيف شاء.
والطائفة الثانية ظنت أن بنفس الدعاء والطلب ينال المطلوب، وأنه موجب لحصوله، حتى كأنه سبب مستقل، وربما انضاف إلى ذلك شهودهم أن هذا السبب منهم وبهم، وأنهم هم الذين فعلوه، وأن نفوسهم هي التي فعلته وأحدثته، وإن علموا أن الله خالق أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم وإراداتهم، فربما غاب عنهم شهود كون ذلك بالله ومن الله، لا بهم ولا منهم، وأنه هو الذي حركهم للدعاء، وقذفه في قلب العبد، وأجراه على لسانه.
فهاتان الطائفتان غالطتان أقبح غلط، وهما محجوبتان عن الله:
فالأولى محجوبة عن رؤية حكمته في الأسباب، ونصبها لإقامة العبودية، وتعلق الشرع والقدر بها، فحجابها كثيف عن معرفة حكمة الله سبحانه وتعالى في شرعه وأمره وقدره.
والثانية محجوبة عن رؤية مننه وفضله، وتفرده بالربوبية والتدبير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حول للعبد ولا قوة له، بل ولا للعالم أجمع إلا به سبحانه، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ومشيئته.
وقول الطائفة الأولى: إن المطلوب إن قدر لا بد من حصوله، وإنه إن لم يقدر فلا مطمع في حصوله، جوابه أن يقال: بقي قسم ثالث لم تذكروه، وهو أنه قدِّر بسببه، فإن وجد سببه وجد ما رتب عليه، وإن لم يوجد سببه لم يوجد، ومن أسباب المطلوب الدعاء والطلب اللذان إذا وجدا وجد ما رتب عليهما، كما أن من أسباب الولد الجماع، ومن أسباب الزرع البذر، ونحو ذلك. وهذا القسم الثالث هو الحق.
ويقال للطائفة الثانية: لا موجب إلا مشيئة الله تعالى، وليس ههنا سبب مستقل غيرها، فهو الذي جعل السبب سببا، وهو الذي رتب على السبب حصول المسبب، ولو شاء لأوجده بغير ذلك السبب، وإذا شاء منع سببية السبب، وقطع عنه اقتضاء أثره، وإذا شاء أقام له مانعا يمنعه عن اقتضاء أثره مع بقاء قوته فيه، وإذا شاء رتب عليه ضد مقتضاه وموجبه، فالأسباب طوع مشيئته سبحانه وقدرته، وتحت تصرفه وتدبيره، يقلبها كيف شاء".
شأن الدعاء (ص8-9).
تحفة الذاكرين (ص 28).
أخرجه أحمد (2/442)، والترمذي (3373)، وابن ماجه (3827)، وصححه الحاكم (1/491)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (512).
فيض القدير (3/12).
تحفة الأحوذي (9/221).
تحفة الذاكرين (ص31) بتصرف يسير.
انظر: شأن الدعاء (ص9-10).
اقتضاء الصراط المستقيم (2/705).
مدارج السالكين (3/108-110).
سادساً: شروط الدعاء وواجباته:
لا يكون الدعاء مقبولا عند الله تعالى إلا إذا توفرت فيه وفي الداعي جملة من الشروط، نذكرها فيما يلي:
1- الإخلاص فيه فلا يدعو إلا الله سبحانه، فإن الدعاء عبادة من العبادات، بل هو من أشرف الطاعات وأفضلِ القربات، ولا يقبل الله من ذلك إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم، قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18]، وقال تعالى: {فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14]، و عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)).
قال ابن رجب: "هذا منزع من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة".
وقال: "واعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين, لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضر ونيل المطلوب، وجلب المنافع ودرء المضار، [و]لا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة".
2- الصبر وعدم الاستعجال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي)).
وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل)). قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: ((يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء)).
ومعنى يستحسر: ينقطع.
قال ابن حجر: "وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أن يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار".
وقال ابن القيم: "ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء أن يتعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله".(/8)
3- الدعاء بالخير، وعدم سؤال الشر أو طلب شيء غير مشروع، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)).
4- حسن الظن بالله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه))، وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني)).
قال الشوكاني: "فيه ترغيب من الله لعباده بتحسين ظنونهم، وأنه يعاملهم على حسبها؛ فمن ظن به خيراً أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميع تفضلاته، ونثر عليه محاسن كراماته وسوابغ عطياته، ومن لم يكن في ظنه هكذا لم يكن الله تعالى له هكذا".
5- حضور القلب، وتدبر معاني ما يقول، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما تقدم: ((واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه)).
قال النووي: "واعلم أن مقصود الدعاء هو حضور القلب كما سبق بيانه، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر والعلم به أوضح من أن يذكر".
6- طيب المأكل والمشرب والملبس، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً... ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!)).
قال ابن رجب: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((فأنى يستجاب لذلك؟!)) معناه: كيف يستجاب له؟! فهو استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد، وليس صريحاً في استحالة الاستجابة ومنعها بالكلية؛ فيؤخذ من هذا أن التوسع في الحرام والتغذي به من جملة موانع الإجابة، وقد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه، وقد يكون ارتكاب المحرمات الفعلية مانعاً من الإجابة أيضاً، وكذلك ترك الواجبات".
روى عكرمة بن عمار: حدثنا الأصفر قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيؤها؟ ومن أين خرجت؟.
7- عدم الاعتداء في الدعاء، والاعتداء هو كل سؤال يناقض حكمة الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به، قال الله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، فمن ذلك:
أن يسأل الله تعالى ما لا يليق به من منازل الأنبياء.
أو يتنطع في السؤال بذكر تفاصيل يغني عنها العموم.
أو يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات.
أو يسأل ما لا يفعله الله، مثل أن يسأله تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو أن يسأله أن يطلعه على غيبه، أو يسأله أن يجله من المعصومين، أو يسأله أن يهب له ولدا من غير زوجة ولا أمة.
أو يرفع صوته بالدعاء، قال ابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت بالدعاء.
أو يدعو مع الله تعالى غيره، قال ابن القيم: "أخبر تعالى أنه لا يحب أهل العدوان، وهم الذين يدعون معه غيره، فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا".
أو أن يدعو غير متضرع، بل دعاء مدل، كالمستغني بما عنده، المدل على ربه به، قال ابن القيم: "هذا من أعظم الاعتداء، المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته، فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد".
8- أن لا يشغله الدعاء عن أمر واجب أو فريضة حاضرة، كإكرام ضيف، أو إغاثة ملهوف، أو نصرة مظلوم، أو صلاة، أو غير ذلك.
9- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، فتدعونه فلا يستجاب لكم)).
قال أهل العلم: "لذا يمكن الجزم بأن ترك القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مانع من موانع إجابة الدعاء، فعلى كل مسلم يرغب بصدق أن يكون مستجاب الدعوة القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب طاقته وجهده".
رواه أحمد (1/293، 307)، والترمذي (2511)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7957).
جامع العلوم والحكم (ص180، 181).
رواه البخاري في الدعوات (6340)، ومسلم في الذكر والدعاء (2735).
رواه مسلم في الذكر والدعاء (2735).
الفتح (11/141).
الجواب الكافي (ص 10).
أخرجه الترمذي (3479)، والحاكم (1/294)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (245).
رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675).
تحفة الذاكرين (ص12).
الأذكار (ص356).
رواه مسلم (1015) في الزكاة، والترمذي (2982) في التفسير.
جامع العلوم والحكم (1/275).
جامع العلوم والحكم (1/275).
بدائع الفوائد (3/13).(/9)
رواه الترمذي في الفتن (2169) وحسنه، وأحمد (5/288)، والبغوي في شرح السنة (4514)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7070).
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لصالح الدرويش (ص 34).
سابعاً: آداب الدعاء ومستحباته:
للدعاء آداب ومستحبات ينبغي مراعاتها، من ذلك:
1- اختيار أحسن الألفاظ وأنبلها وأجمعها للمعاني وأبينها، ولا أحسن مما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة، فإن الأدعية القرآنية والأدعية النبوية أولى ما يدعى به بعد تفهمها وتدبرها؛ لأنها أكثر بركة، ولأنها جامعة للخير كله، في أشرف الألفاظ وأفضل العبارات وألطفها، ولأن الغلط يعرض كثيرا في الأدعية التي يختارها الناس، لاختلاف معارفهم، وتباين مذاهبهم في الاعتقاد والانتحال.
قال الطبراني مبينا سبب تأليفه كتاب الدعاء: "هذا الكتاب ألفته جامعا لأدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حداني على ذلك أني رأيت كثيرا من الناس قد تمسكوا بأدعية سجع، وأدعية وضعت على عدد الأيام مما ألفها الوراقون، لا تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن أحد من التابعين بإحسان، مع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكراهية للسجع في الدعاء، والتعدي فيه، فألفت هذا الكتاب بالأسانيد المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقال القاضي عياض: "أذن الله في دعائه، وعلَّم الدعاء في كتابه لخليقته، وعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه صلى الله عليه وسلم، وقد احتال الشيطان للناس في هذا المقام، فقيَّض لهم قوم سوء، يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأشد ما في الإحالة أنهم ينسبونها إلى الأنبياء والصالحين، فيقولون: دعاء نوح، دعاء يونس، دعاء أبي بكر، فاتقوا الله في أنفسكم، لا تشغلوا من الحديث إلا بالصحيح".
وقال الغزالي: "والأولى أن لا يجاوز الدعوات المأثورة، فإنه قد يعتدي في دعائه، فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته، فما كل أحد يحسن الدعاء".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية المشروعة التي جاء بها الكتاب والسنة، فإنَّ ذلك لا ريب في فضله وحسنه، وأنَّه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقا".
2- الطهارة من الخبث والحدث، وذلك بأن يكون متوضئا متطيبا، وأن يستاك لأن الفم هو وسيلة الدعاء، فينبغي أن يكون طاهرا طيبا، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من حنين دعا بماء، فتوضأ ثم رفع يديه، فقال: ((اللهم اغفر لعبيد بن عامر))، قال: ورأيت بياض إبطيه.
3- استقبال القبلة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فدعا على نفر من قريش))، وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: ((خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلى يستسقي، فدعا واستسقى، ثم استقبل القبلة، وقلب رداءه)).
4- أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة: كعشية عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، وخاصة العشر الأواخر منه، وبالأخص ليلة القدر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل، وبين الأذان والإقامة.
قال الله تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول عز وجل: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)).
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)).
5- أن يغتنم الحالات الفاضلة: كالسجود، ودبر الصلوات، والصيام، وعند اللقاء، وعند نزول الغيث.
قال ابن القيم: "((دبر الصلاة)) يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا – يعني ابن تيمية – يرجح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه فقال: دبر كل شيء منه, كدبر الحيوان".
وقال الشيخ ابن عثيمين: "الدبر هو آخر كل شيء منه، أو هو ما بعد آخره".
ورجّح رحمه الله أن الدعاء دبر الصلوات المكتوبة يكون قبل السلام، وقال: "ما ورد من الدعاء مقيداً بدبر فهو قبل السلام، وما ورد من الذكر مقيداً بدبر فهو بعد الصلاة؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103]".
6- أن يستغلَّ حالات الضرورة والانكسار، وساعات الضيق والشدة: كالسفر، والمرض، وكونه مظلوما.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده)).(/10)
قال ابن رجب: "والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء...ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ لأنه مظنة حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان وتحمل المشاق، والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء".
7- رفع اليدين وبسط الكفَّين، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((دعا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه))، وعن سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين)).
ويشرع هذا الرفع في الدعاء المطلق، أما الأدعية الخاصة فإنه لا ترفع الأيدي إلا فيما رفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم منها، وما لم يثبت رفعه فيه فالسنة فيه عدم الرفع، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
8- إظهار الفقر والمسكنة، والاعتراف بالذلة والعبودية، والإقرار بالذنب والتقصير، وتقديم التوبة والاستغفار، قال الله تعالى عن دعاء يونس عليه السلام: {فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، وقال عن دعاء آدم وحواء عليهما السلام: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وقال عن موسى عليه السلام: {رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، وقال عن أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
وفي دعاء سيد الاستغفار: ((اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
وفي الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يقوله في صلاته: ((اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)).
9- التضرُّع والخشوع، والرغبة والرهبة، قال الله تعالى في معرض الثناء على أنبيائه: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، قال القرطبي: "أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء وحال الشدة, وقيل: المعنى: يدعون وقت تعبدهم، وهم بحال رغبة ورجاء، ورهبة وخوف؛ لأن الرغبة والرهبة متلازمان".
وقال تعالى في وصف أهل الإيمان: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعا} [السجدة: 16]، قال ابن كثير: "أي خوفًا من وبال عقابه, وطمعًا في جزيل ثوابه".
10- الإعراب ومجانبة اللحن ما أمكن إلى ذلك.
11- افتتاحه بالحمد والثناء على الله عزَّ وجلَّ بما هو أهله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فعن فضالة بن عبيد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد إذ دخل رجل فصلى فقال: اللهم اغفر لي وارحمني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله، وصلَّ علي ثم ادعه)). ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيها المصلي ادع تُجب)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم)).
قال السندي: "وفيه إشارة إلى أن حق السائل أن يتقرب إلى المسئول منه قبل طلب الحاجة بما يوجب الزلفى عنده، ويتوسل له بشفيع له بين يديه، ليكون أطمع في الإسعاف وأحق بالإجابة، فمن عرض السؤال قبل تقديم الوسيلة فقد استعجل".
12- التوسُّل إليه سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، قال تعالى: {وَللَّهِ الأسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
13- التوسُّل إليه سبحانه بالأعمال الصالحة التي يحبها، قال الله تعالى عن دعاء عباده المتقين: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16]، وقال سبحانه: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران:193]، ومن ذلك توسل أصحاب الغار بأعمالهم الصالحة، فتوسل أحدهم ببره بوالديه، وتوسل الثاني بأمانته، وتوسل الثالث بعفته وإعراضه عن الزنا خوفا من الله بعد تمكنه منه.
14- الإلحاح عليه سبحانه فيه بتكرير ذكر ربوبيته، وهو أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء، فإن الإلحاح يدل على صدق الرغبة، والله تعالى يحب الملحين في الدعاء، ومن ذلك تكرير الدعاء، فعن ابن مسعود يصف دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((وكان إذا دَعا دعا ثلاثاً)).(/11)
15- الجزم في الدعاء والعزم في المسألة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)).
قال الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ: "بخلاف العبد؛ فإنه قد يعطي السائل مسألته لحاجته إليه، أو لخوفه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره، فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسؤول، مخافة أن يعطيه وهو كاره، بخلاف رب العالمين؛ فإنه تعالى لا يليق به ذلك لكمال غناه عن جميع خلقه، وكمال جوده وكرمه، وكلهم فقير إليه، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين، وعطاؤه كلام...فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة، فإنه لا يعطي عبده شيئاً عن كراهة، ولا عن عظم مسألة".
16- الإكثار من دعاء الله تعالى في الرخاء، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة...))، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرب فليكثر من الدعاء في الرخاء)).
قال المباركفوري: "لأن من شيمة المؤمن أن يُريِّش السهم قبل أن يرمي، ويلتجئ إلى الله قبل الاضطرار".
وقال سلمان الفارسي: إذا كان الرجل دعَّاء في السراء، فنزلت به ضراء، فدعا الله تعالى، قالت الملائكة: صوت معروف، فشفعوا له، وإذا كان ليس بدعَّاء في السراء، فنزلت به ضراء، فدعا الله تعالى، قالت الملائكة: صوت ليس بمعروف، فلا يشفعون له.
وقال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143، 144]، وإن فرعون كان طاغياً ناسياً لذكر الله، فلما أدركه الغرق، قال: آمنت، فقال الله تعالى: {ءالئَانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91].
17- أن يبدأ الداعي بنفسه، ثم يدعو لإخوانه المسلمين، وأن يخص الوالدين، وأهل الفضل من العلماء والصالحين، ومن في صلاحه صلاح المسلمين، فعن أبي بن كعب رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه)).
وأرشد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، وقال تعالى عن دعاء نوح عليه السلام: {رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِوالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28]، وأثنى الله تعالى على قوم كان من دعائهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ} [الحشر:10].
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة)).
18- إخفاؤه والإسرار به، فذلك أعظم إيمانا، وأفضل أدبا وتعظيما، وأبلغ في التضرع والخشوع، وأشد إخلاصا، وأبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء، وأدل على قرب صاحبه من الله، وأدعى إلى دوام الطلب والسؤال، وأبعد عن القواطع والمشوشات والمضعفات، وأسلم من أذى الحاسدين.
قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، وإن الله ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً} [مريم:3].
19- التواضع والتبذل في اللباس والهيئة، بالشعث والاغبرار، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)).
ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء خرج متبذلاً متواضعاً متضرعاً.
20- التأمين بعده، فهو كالخاتم له.
21- ملازمة الطلب، وعدم اليأس من الإجابة.
مقدمة كتاب الدعاء للطبراني.
انظر: شرح الأذكار لابن علان (1/17).
إحياء علوم الدين (1/554).
مجموع الفتاوى (1/336) - القاعدة الجليلة -.
أخرجه البخاري (4323)، ومسلم (2498).
أخرجه البخاري في المغازي (3960).
أخرجه البخاري (6343)، ومسلم (894).
أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758).
أخرجه الترمذي في الدعوات (3499)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (108)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2782).
زاد المعاد (1/305).
من إملاءات الشيخ في درس زاد المعاد نقلاً عن كتاب الدعاء للشيخ الحَمد.(/12)
أخرجه أبو داود (1536)، والترمذي (1905)، وابن ماجه (3862) واللفظ له، وأحمد (2/258)، وصححه ابن حبان (2699)، وله شاهد من حديث عقبة بن عامر عند أحمد (4/154)، وروي مثله عن ابن مسعود رضي الله عنه من قوله.
جامع العلوم والحكم (1/269).
أخرجه البخاري في المغازي (4323)، ومسلم في فضائل الصحابة (2498).
رواه أبو داود في الصلاة (1488)، والترمذي في الدعوات ( 3556)، وابن ماجه في الدعاء (3865)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1757).
أخرجه البخاري (6306)، والترمذي (3393) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
أخرجه البخاري (834) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
الجامع لأحكام القرآن (11/336).
تفيسر ابن كثير (6/365).
رواه الترمذي في الدعوات (3476)، وأبو داود في الصلاة (1481)، والنسائي في السهو (1284)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3988).
أخرجه الطبراني في الأوسط كما في المجمع (10/160) من حديث علي، وأخرجه الديلمي في الفردوس (4791) من حديث أنس، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4523)، وأخرجه الترمذي في الصلاة (486) موقوفاً عن عمر.
حاشية على سنن النسائي (4/44-45).
أخرجه البخاري (3465)، ومسلم (2743) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
أخرجه مسلم في الجهاد والهجرة (1794).
رواه البخاري في الدعوات: باب ليعزم المسألة (6339)، ومسلم في الذكر والدعاء: باب العزم بالدعاء (2679) واللفظ له.
فتح المجيد (ص 471) بتصرف يسير.
أخرجه أحمد (1/293)، والترمذي (2516)، وأبو يعلى (2556)، وقال الترمذي: "حسن صحيح".
أخرجه الترمذي في الدعوات (3382)، والطبراني في الدعاء (44، 45)، وصححه الحاكم (1/544)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6290).
تحفة الأحوذي (9/229).
جامع العلوم والحكم (1/475).
جامع العلوم والحكم (1/475).
رواه الترمذي في الدعوات (3385)، وأبو داود في القراءات (3984)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4723).
قال في مجمع الزوائد (10/210): "رواه الطبراني وإسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6026).
انظر: بدائع الفوائد (3/6-9).
أخرجه مسلم (2622)، وابن حبان (6483).
ثامناً: أخطاء في الدعاء وما يكره فيه:
1- الدعاء على الأهل والمال والنفس، فعن جابر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)).
قال في عون المعبود: "((لا تدعوا)) أي دعاء سوء ((على أنفسكم)) أي بالهلاك، ومثله ((ولا تدعوا على أولادكم)) أي بالعمى ونحوه، ((ولا تدعوا على أموالكم)) أي من العبيد والإماء بالموت وغيره، ((لا توافقوا)) نهي للداعي، وعلة النهي أي لا تدعوا على من ذكر لئلا توافقوا ((من الله ساعة نيل)) أي عطاء ((فيها عطاء فيستجيب لكم)) أي لئلا تصادفوا ساعة إجابة ونيل فتستجاب دعوتكم السوء".
2- رفع الصوت بالدعاء، قال ابن مفلح: "يكره رفع الصوت بالدعاء مطلقا، قال المروزي سمعت أبا عبد الله يقول: ينبغي أن يسرَّ دعاءه لقوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110]، قال: هذا الدعاء".
3- الدعاء الجماعي، قال مُهنَّا: سألت أبا عبد الله عن الرجل يجلس إلى القوم، فيدعو هذا ويدعو هذا، ويقولون له: ادع أنت، فقال: لا أدري ما هذا؟.
4- تكلّف السجع فيه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعلون إلا ذلك. يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب.
قال الغزالي: "واعلم أنَّ المراد بالسجع هو المتكلف من الكلام، فإن ذلك لا يلائم الضراعة والذلة، وإلا ففي الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات متوازنة لكنها غير متكلفة... فليقتصر على المأثور من الدعوات، أو ليلتمس بلسان التضرع والخشوع من غير سجع وتكلف".
5- اشتماله على توسلات شركية أو بدعية، كالتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بذاته الشريفة، أو بغيره من الأنبياء والملائكة والصالحين.
6- الاعتداء فيه، كالدعاء بتعجيل العقوبة، أو الدعاء بالممتنع عادة أو عقلاً أو شرعًا، أو الدعاء في أمر قد فرغ منه، أو الدعاء بالإثم وقطيعة الرحم.
7- الاستثناء فيه، أي تعليق الدعاء بمشيئة الله تعالى، مثل أن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، لما في ذلك من شائبة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه، ولما في ذلك أيضا من الإشعار بأنَّ لله مكرها له، تعالى الله عن ذلك.
رواه مسلم (3009) في الزهد، وأبو داود (1532).
عون المعبود (2/274-275).
الآداب الشرعية (2/272).
انظر: الآداب الشرعية (2/102).
أخرجه البخاري (6337).
إحياء علوم الدين (1/555).
تاسعاً: من أقوال السلف في الدعاء:(/13)
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن همّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه.
وعنه رضي الله عنه قال: بالورع عما حرم الله يقبل الله الدعاء والتسبيح.
وعن عبد الله بن مسعود قال: إن الله لا يقبل إلا الناخلة من الدعاء، إن الله تعالى لا يقبل من مسمِّع، ولا مراء، ولا لاعب، ولا لاه، إلا من دعا ثبتَ القلب.
وعن أبي الدرداء قال: ادع الله في يوم سرائك، لعله يستجيب لك في يوم ضرائك.
وعن الحسن أن أبا الدرداء كان يقول: جِدوا بالدعاء، فإنه من يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له.
وعن حذيفة قال: ليأتينَّ على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا بدعاء كدعاء الغريِق.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دعوة المسلم مستجابة ما لم يدع بظلم أو قطيعة رحم أو يقول: قد دعوت فلم أجب.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: يكفي من الدعاء مع البر، كما يكفي الطعام من الملح.
وعن محمد بن واسع قال: يكفي من الدعاء مع الورع اليسير، كما يكفي القدر من الملح.
وعن طاووس قال: يكفي الصدق من الدعاء، كما يكفي الطعام من الملح.
وعن عبد الله بن أبي صالح قال: دخل علي طاووس يعودني فقلت له: ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن، فقال: ادع لنفسك، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
وعن أبي بكر الشبلي في قوله تعالى: {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] قال: ادعوني بلا غفلة، أستجب لكم بلا مهلة.
وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول: إلهي أسألك تذللا، فأعطني تفضلا.
ويقول: كيف أمتنع بالذنب من الدعاء، ولا أراك تمتنع بالذنب من العطاء.
ويقول: لا تستبطئن الإجابة إذا دعوت، وقد سددت طرقها بالذنوب.
وعن غالب القطان، أن بكر بن عبد الله المزني عاد مريضا، فقال المريض لبكر: ادع الله عز وجل لي، فقال: ادع لنفسك، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
عن الحسن في قوله عز وجل: {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، قال: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله عز وجل أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.
وعنه قال: كانوا يجتهدون في الدعاء ولا تسمع إلا همسا.
وعن حبيب أبي محمد قال: الترياق المجرب الدعاء.
وعن داود بن شابور قال: قال رجل لطاووس: ادع لنا، فقال: ما أجد لقلبي خشية فأدعو لك.
وعن سعيد بن المسيب قال: إن الرجل ليُرفع بدعاء ولده من بعده.
وعن إبراهيم التيمي قال: كان يقال: إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء فقد وجب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على رجاء.
وعن النخعي قال: كان يقال: إذا دعوت فابدأ بنفسك، فإنك لا تدري في أي دعاء يستجاب لك.
وعن وهب بن منبه قال: مثل الذي يدعو بغير عمل، مثل الذي يرمي بغير وتر.
وعنه قال: من سره أن يستجيب الله دعوته فليطب طعمته.
وعن محمد بن حامد قال: قلت لأبي بكر الوراق: علمني شيئا يقربني إلى الله تعالى ويقربني من الناس، فقال: أما الذي يقربك إلى الله فمسألته، وأما الذي يقربك من الناس فترك مسألتهم.
وعن الأوزاعي قال: أفضل الدعاء الإلحاح على الله عز وجل والتضرع إليه.
وعن مُورِّقٍ العجلي قال: ما وجدت للمؤمن مثلا إلا كمثل رجل في البحر على خشبة، فهو يدعو: يا رب، يا رب، لعل الله عز وجل أن ينجيه.
وعن هلال بن يساف قال: بلغني أن العبد المسلم إذا دعا ربه فلم يستجب له كتبت له حسنة.
وعن السري السقطي قال: كن مثل الصبي، إذا اشتهى على أبويه شهوة فلم يمكناه، فقعد يبكي عليها، فكن أنت مثله، فإذا سألت ربك فلم يعطكه، فاقعد فابك عليه.
وعن ابن عيينة قال: لا تتركوا الدعاء، ولا يمنعكم منه ما تعلمون من أنفسكم، فقد استجاب الله لإبليس وهو شر الخلق، قال: {قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ N قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} [الحجر:36، 37].
وقال بعض العباد: إنه لتكون لي حاجة إلى الله، فأسأله إياها، فيفتح علي من مناجاته ومعرفته والتذلل له والتملق بين يديه، ما أحب معه أن يؤخر عني قضاءها، وتدوم لي تلك الحال.
وقال بعض العارفين: ادع بلسان الذلة والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق.
ذكره في اقتضاء الصراط المستقيم (2/706).
جامع العلوم والحكم (1/276).
شعب الإيمان (2/50-51).
أخرجه أحمد في الزهد (ص135)، وأبو نعيم في الحلية (1/225)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/52).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/24)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/52).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/24)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/40).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/133).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/40).
شعب الإيمان (2/53-54).
شعب الإيمان (2/54).
صفة الصفوة لابن الجوزي (2/289).
شعب الإيمان (2/54).
شعب الإيمان (2/54).
أخرجه الطبراني في الدعاء (1137).
أخرجه الطبري في تفسيره (2/94)، والطبراني في الدعاء (9).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/109).
مجابو الدعوة لابن أبي الدنيا (ص121).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/142).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/119).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/24).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/33).(/14)
أخرجه ابن أبي شيبة (7/39)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/53).
جامع العلوم والحكم (1/275).
طبقات الصوفية للسلمي (ص224)، شعب الإيمان (2/35).
شعب الإيمان (2/38).
الطبقات الكبرى لابن سعد (7/161)، شعب الإيمان (2/39).
شعب الإيمان (2/49).
شعب الإيمان (2/53).
شعب الإيمان (2/53).
مدارج السالكين (2/229).
الإحياء (1/554).
عاشراً: ملحقات البحث:
أبيات شعرية مناسبة:
نحن ندعو الإلهَ في كلِّ كربٍ ثم ننساه عندَ كشفِ الكروبِ
******
كيف نرجو إجابةً لدعاءٍ قد سدَدنا طريقَها بالذنوب
******
وإني لأدعو اللهَ والأمرُ ضيِّق عليَّ فما ينفكُّ أن ينفرجا
ورُبَّ فتىً ضاقت عليه وجوهُه أصابَ له في دعوة الله مخرجاً
******
وقال الشافعي:
أتهزأ بالدعاءِ وتزدَريهِ وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهامُ الليلِ لا تخطي ولكن لها أمدٌ وللأمدِ انقضاءُ
******
تجري الأمورُ على حكمِ القضاء وفي طيِّ الحوادثِ محبوبٌ ومكروه
رُبما سرَّني ما كنتُ أحذرُه وربما ساءني ما كنت أرجُوه
******
لا تسألن بُنيَّ آدم حاجةً وسلِ الذي أبوابُه لا تحجَب
اللهُ يغضبُ إن تركتَ سؤالَه وبُنَيُّ آدمَ حين يُسأل يغضَب
******
وقال الشافعي:
ورُبَّ ظلومٍ قد كُفيتَ بحربه فأوقعه المقدور أيَّ وقوعِ
فما كان لي الإسلام إلا تعبّدا وأدعية لا تتَّقَى بدروعِ
وحسبُك أن ينجوَ الظلومُ وخلفَه سهامُ دعاءٍ من قسيِّ ركوعِ
مُريَّشةً بالهدب من كل ساهرٍ منهلةً أطرافها بدموع
******
أحاديث ضعيفة وموضوعة في الدعاء:
1- ((إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور)).
قال ابن تيمية: "فهذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة".
وقال الشيخ ابن باز: "وهذا الكلام دعوة إلى الشرك بالله عز وجل، فإن الاستعانة بأصحاب القبور والاستغاثة بهم من أعظم أنواع الشرك بإجماع أهل العلم والإيمان".
2- ((إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم)).
قال ابن تيمية: "وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث".
وقال الألباني: "لا أصل له".
وقال: "الأحاديث الواردة في التوسل به صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين: صحيح، وضعيف. أما الصحيح، فلا دليل فيه ألبتة على المدعى، مثل توسلهم به صلى الله عليه وسلم لا بجاهه ولا بذاته صلى الله عليه وسلم، ولما كان التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى غير ممكن، كان بالتالي التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته غير ممكن وغير جائز".
3- ((حسبي من سؤالي علمه بحالي)).
قال الألباني: "لا أصل له، وأورده بعضهم من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو من الإسرائيليات، ولا أصل له في المرفوع".
وقال ابن تيمية: "وأما قوله: ((حسبي من سؤالي علمه بحالي)) فكلام باطل خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء من دعائهم لله، ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة".
4- ((لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي...)) الحديث.
رواه الحاكم في المستدرك (2/615) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر، وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: "بل موضوع".
وقال ابن تيمية: "ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه قد قال في كتاب المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه".
وقال الألباني: "وجملة القول أن الحديث لا أصل له عنه صلى الله عليه وسلم، فلا جرم أن حكم عليه بالبطلان الحافظان الجليلان الذهبي والعسقلاني".
5- ((الدعاء مخ العبادة)).
رواه الترمذي من حديث أنس (3371) وضعفه، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي (3611)، ويغني عنه حديث: ((الدعاء هو العبادة))، وهو صحيح.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
عيون الأخبار (2/278).
ديوان الشافعي (ص23).
شعب الإيمان (2/35).
ديوان الشافعي (ص81).
القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة (ص 174).
القاعدة الجليلة (ص 174).
السلسلة الضعيفة (22).
السلسلة الضعيفة (1/74).
مجموع الفتاوى (8/539).
القاعدة الجليلة (ص98، 99).
الضعيفة (1/40).(/15)
... ...
الدعوة ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- ترك الدعوة موجب للهلاك. 2- العمل الدعوي الجماعي ودليل مشروعيته. 3- منزلة الداعية. 4- صفات الداعية. 5- أدب الدعاة عند الاختلاف. 6- أسباب الاختلاف. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
يقول الله تعالى: قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين [يوسف:108].
الدعوة إلى الله تعالى فرض على كل متبع للمصطفى سواء كان ذكرا أم أنثى كل بحسب حاله.
فما الدعوة؟ وكيف تؤدى؟ وما مكانة الداعية وصفته؟ وما آداب الدعاة عند الاختلاف؟ وما أسباب الاختلاف؟
أما الدعوة: فهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وترك الدعوة موجب للعنة، قال تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون [المائدة:79].
ترك الدعوة موجب لمنع إجابة الدعاء للحديث: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم))([1]).
ترك الدعوة موجب للعذاب الأليم للحديث: ((إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب))([2]).
أما كيف تؤدى؟ فالدعوة تؤدى على نحوين:
فردية: للحديث: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))([3]).
جماعية: ولها دلائل من الكتاب: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . ومن السنة: ((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم))([4]) والقاعدة الفقهية: ((ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)). ثم إن الواقع الجاهلي لا يستقيم بجهد فردي بل لابد من تلاقي الجهود والطاقات لاختصار عامل الزمن وقطع المراحل دون تبديد للطاقات والحفاظ على القلوب من تغيرها مع طول المدة.
وأما مكانة الداعية وصفته:
1- فالداعية إلى الله تعالى من أعظم الناس أجرا للحديث: ((فو الله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم))([5]).
2- والداعية من أكرم الناس قولا وأحسنه قال تعالى: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين [فصلت:23].
3- والداعية من أعظم الناس غيرة على دينه فليس في إيمانه بلادة ولا خمود بل هو إيمان متأجج فيه اللوعة وفيه الحرقة ولن تقر عينه بشيء من متاع حتى يرى كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، يقول الفضيل بن عياض: ((إن قلوب الأبرار لتغلي بأعمال البر وإن قلوب الفجار لتغلي بأعمال الفجور، والله يرى همومكم فانظروا رحمكم الله ما همومكم)).
4- والداعية من أبرأ الناس ذمة يوم القيامة والحساب، حيث بلغ الأمانة وأدى الرسالة ونصح وبلغ ورغب ورهب لأحد عليه حجة قال تعالى: وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون [الأعراف:164].
5- والداعية من أحق الناس بكرامة الله له فذات مرة احتاج المسلمون إلى نصب معسكرهم في إحدى غابات أفريقيا التي كانت تموج بالسباع والحشرات السامة، فوصل عقبة بن نافع قائد الجيش إلى ناحية ببعض أصحاب رسول الله ، فشكى إليه الجند كثرة الهوام والسباع فصعد ربوة ونادى: (أيتها السباع أيتها الحشرات، أيتها الهوام، نحن أصحاب رسول الله جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد فارحلوا، فإنا نازلون وما هي إلا لحظات قليلة إذ تم انتشار هذا الخبر في أوساط هذه الحيوانات، فارتحلت كلها وهي تحمل أولادها)([6]).
6- والداعية من أعرف الناس بمقام الأنبياء والرسل، وبتقدير جهادهم، لأنه يقف موقفهم، ويحس بمعاناتهم من خلال إعراض المعرضين، وسخرية الساخرين، كما أنه يكون أكثر إدراكا لقصص الأنبياء في القرآن الكريم، وأكثر تأثرا بآيات الرجاء والتصبر والاحتساب.
7- والداعية هو الذي يعرف مواطن الداء، ويتقن فن إعطاء الدواء، فليس بالفظ قال تعالى: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك [آل عمران:159]. وليس بالساذج الذي ما يفسده أعظم مما يصلحه بسوء أدبه وجافئه أو أن يضخم جانبا على حساب آخر قال تعالى: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون [البقرة:85].(/1)
8- الداعية هو الذي يؤثر ولا يتأثر، يؤثر في الناس بصدقه وإخلاصه وخلقه وعلمه وثباته ولا يتأثر بالمفاهيم الجاهلية التي يتعامل بها الناس أو يحتكمون إليها من إقليمية بغيضة وتعلق بالأشخاص، وموازين معوجة وصدق الله العظيم: ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون [التوبة:85]. قال العلماء: تأمل كيف أن الله تعالى نهى المؤمن عن الإعجاب لأن الإعجاب هو تكريم لهم، وتكريمهم لا يجوز للحديث: ((لا تقولوا للمنافق سيدا، فإنه إن يكن سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل))([7]).
وفي شرح الحديث تحريم وصف المنافق بأوصاف الاحترام والتقدير، وأن وصفه بذلك يستدعي غضب الله عز وجل لأنه تعظيم لعدوه الخارج عن طاعته المستحق للإهانة والتحقير([8]).
9- الداعية هو الذي يحب الخير للناس كل الناس، ويعيش هموم المسلمين وأفراحهم، فهو عالمي الهم، عالمي الفرح يقول ابن عباس : إن فيّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح ولعلي لا أقاضي إليه أبدا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين موجودة في كل مجلة أو صحيفة أو كلمة، وهو من أبعد الناس عن أداء دور فعلي جاد، لمعاجلة أو تخفيف مصائب الآخرين الذين يحيطون به وهذا دليل بلادة وانحراف، بلادة في الحس، وانحراف في الفهم.
وأما أدب الدعاة عند الاختلاف: فالناس يختلفون في نظرتهم إلى أي أمر فكل يراه من ناحية، فكان اختلاف الأقوال، وارد وهذا أمر قديم ولا ينكره منصف عارف، ولكن الذي ننكره هو اختلاف القلوب بسبب اختلاف الأقوال.
وما ينبغي أن يعلمه كل داعية إلى الله تعالى على وجه الخصوص هو:
جواز تعدد الصواب: الرجلان اللذان فقدا الماء فتيمما وصليا ثم وجداه فقام أحدهما فتوضأ وأعاد واكتفى الآخر بالصلاة الأولى، فلما عادا إلى الرسول قال للذي أعاد: ((لك الأجر مرتين، وقال للآخر أصبت السنة))([9]).
إن هناك منكرا أصغر ومنكرا أكبر: وكل منكر أصغر إنما يستمد وجوده من المنكر الأكبر.
إنا دعاة لا قضاة: فالحكم على الناس بالكفر أو الإيمان من غير بينة أو إقرار أو أداء لواجب الدعوة مخالف لعقيدتنا يقول الإمام الطحاوي رحمه الله: ((ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)).
أن نستشعر خطر العدو المشترك فالكفر ملة واحدة بل يد واحدة، اليهودية تلتقي مع الصليبية مع الشيوعية ضد إسلامنا والله تعالى يدعونا أن نتخذ من الكفار قدوة في موالاة بضعهم لبعض قال تعالى: والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير [الأنفال:73]. أما المنازعات والمهاترات التي تقطع حبائل المودة فهذه لن تزيدنا إلا ضياعا إلى ضياع وذلا إلى ذل.
وأما أسباب الاختلاف: فكثيرة منها:
سوء التقدير والموازنة بين الأصول والفروع: دخل الإمام البنا ورأى المصلين يتنازعون في صلاة والتراويح منهم المصر على صلاة عشرين للأثر الثابت عن عمر ومنهم المصر على صلاتها ثماني لفعل المصطفى ولما كان هذا الباب باب تطوع والزيادة فيه جائزة كما نص على ذلك الشوكاني في كتابه، نيل الأوطار، قال لهم الإمام البنا أرى أن تصلوا العشاء ثم تغلقوا المسجد وكل يصلي في بيته ما شاء، فقالوا له: ولم؟ قال: لأن صلاة التراويح كلها سنة وأخوتكم فريضة فلا تهدر الفريضة لأجل السنة.
فقدان العالمية: إسلامنا لا يعرف الإقليميات ولا الانتساب إلى الطيب ولا اختلاف الألسن والألوان وإنما هو دعوة عالمية لكل البشر قال تعالى: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [الأعراف:158].
فقدان الشمولية: إسلامنا كل لا يتجزأ ولا يحل لأحد مهما كان له من علم أو دراية أن يقدم أو يؤخر أو يضخم جانبا على حساب جانب آخر قال تعالى: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا [البقرة:85].
الأهواء: ومداخل الشيطان إلى قلب العبد لا يقف حائلا دونها إلا التقوى فإهمال المتقادم في وجوده فيما نحث عليه المبتدئ من صلاة وصيام وذكر واستغفار ومجاهدة للحديث: ((إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس وإذا نسي التقم قلبه))([10]). وللحديث: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم([11])- فضيقوا مجاريه بالجوع))([12]). وبغير هذه الرياض الروحية، يعرض العبد قلبه لسهام الشيطان، بل يزيده لجاجة وإضلالا، بتلبيسه حيث يوحي إليه بالقياس الفاسد ومعارضة النصوص بتأويلات ساقطة وحذلقة لا يقرها عاقل وصدق الله العظيم: وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا [الجاثية:9]. والحديث: ((إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم))([13]).
([1])رواه أحمد والترمذي وابن ماجة .
([2])النسائي .
([3])رواه مسلم .
([4])أصول الدعوة 446 .
([5])متفق عليه.(/2)
([6])أسباب سعادة المسلمين للكاندهلوي بتصرف ص 59.
([7])رواه أبو داود بإسناد صحيح .
([8])نزهة المتقين مجلد 2 ص 1176 .
([9])رواه أبو داود والنسائي.
([10])أخرجه الحافظ الموصلي.
([11])متفق عليه.
([12])الزيادة رواها ابن أبي الدنيا.
([13])رواه مسلم. ... ...
... ...
... ...
... ...(/3)
الدفاع عن الحبيب صلى الله عليه وسلم
يحيى بن موسى الزهراني
</TD
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه خير ثواباً ، وخير أملاً ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، لا يزال ربنا براً رحيماً ، عفواً كريماًً ، بعباده خبيراً بصيراً ، من يهده الله فلن تجد له مضللاً أبداً ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً ، فرداً صمداً ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أحسن الناس خلقاً وخلقاً ، وعبادة وورعاً ، وزهداً وتقوىً ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير ألٍ وأفضل صحباً ، وسلم تسليماً مديداً كثيراً . . . أما بعد :
فأكرم الله البشرية ، بمحمد صلى الله عليه وسلم ، حيث أخرجها الله من الظلمات إلى النور ، ومن الذل إلى العز ، ومن المهانة إلى الكرامة ، ومن الجهل إلى العلم ، أبطل عادات الوثنية ، وقضى على معالم الشركية ، وغير الكرة الأرضية ، من ظلم وجور ، واستعباد وتكبر ، إلى عدل ومساواة ، وتواضع وتسامح ومساماة ، أنقذ الله به الناس من النار ، إلى الجنة دار القرار ، فأليس لهذا النبي الكريم علينا حقوقاً نقوم بها ، ومساعٍ نشكره عليها ، وعرضاً نذب عنه ، وقولاً ندافع به ، وهو القائل صلى الله عليه وسلم : " من ردّ عن عِرْض أخيه المسلم ، كان حقاً على الله عز وجل أن يردّ عنه نار جهنم " [ أخرجه أحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن أبي الدنيا ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه ] ، فإذا كان هذا في حق بقية الناس ، فكيف بحق النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي ظهرت للناس معجزاته ، وبانت لمتبعيه محبته وشفقته ورأفته ، وتبين للمسلمين رحمته وعطفه ، فحري بكل مسلم ، بل واجب على كل مسلم ومسلمة ، أن يدافع عنه ، ويذب عن عرضه المصون ، وينافح ويناضل أهل المجون ، بل ويقاتل من أجل حقوقه إذا انتهكت ، وسيرته إذا انتقصت ، وصورته إذا تشوهت ، كل بما آتاه الله من الاستطاعة .
فمن كان يحب محمداً صلى الله عليه وسلم ، فليحب من يحب المصطفى ، ويبغض من أبغض الحبيب المجتبى ، فعلى ذلك يجب بغض الكفار الذين أساءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقطع دابرهم ، والانتقام منهم ، مع ما أعده الله لهم من العذاب والوبال ، قال الله تعالى : { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ التوبة61 ] .
وقال سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } [ الأحزاب57 ] .
فيجب على كل مسلم أن يرفع راية الجهاد للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولهم في ذلك قدوة ، وحكم من أحكام المصطفى :
أخرج أبو داود وصححه الألباني من حديث ابنُ عَبّاسٍ رضي الله عنهما : أنّ أعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمّ وَلَدٍ تَشْتِمُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَعُ فِيهِ ، فَيَنْهَاهَا فَلا تَنْتَهِي ، وَيَزْجُرُهَا فَلاَ تَنْزَجِرُ ، قالَ : فَلَمّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النّبيّ صلى الله عليه وسلم وَتَشْتِمُهُ ، فَأَخَذَ المِغْوَلَ فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا ، وَاتّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا ، فَوَقَعَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ ، فَلَطَخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدّمِ ، فَلَمّا أصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِلنّبيّ صلى الله عليه وسلم فَجَمَعَ النّاسَ فَقَالَ : أنْشُدُ الله رَجُلاَ فَعَل مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقّ ، إلاّ قامَ ، قالَ : فَقَامَ الأعْمَى يَتَخَطّى النّاسَ ، وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ حَتّى قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ الله ! أنَا صَاحِبُهَا ، كَانَتْ تَشْتِمُكَ ، وَتَقَعُ فِيكَ ، فَأَنْهَاها فَلاَ تَنْتَهِي ، وَأَزْجُرُهَا فَلاَ تَنْزَجِرُ ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلَ اللّؤْلُؤَتَيْنِ ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً ، فَلَمّا كَانَ الْبَارِحَةَ ، جَعَلَتْ تَشْتِمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ ، فَأَخَذْتُ المِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا وَاتّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتّى قَتَلْتُهَا ، فَقَالَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : " ألاَ اشْهَدُوا إنّ دَمَهَا هَدْرٌ ".(/1)
وعن جابرِ بنِ عبدِ الله رضيَ اللهُ عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَن لكعبِ بنِ الأشرف ، فإنه قد آذَى اللهَ ورسولَه ؟ قال محمدُ بنُ مَسلمةَ : أتحب أن أقتلَهُ يا رسولَ الله ؟ قال : نعم ، قال فأتاهُ فقال : إن هذا ـ يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم ـ قد عَنّانا وسألنا الصدَقة ، قال : وأيضاً واللهِ لتَمَلُّنَّهُ ، قال : فإنا اتَبعناه فنكرَهُ أن نَدَعَه حتى ننظُرَ إلى ما يَصيرُ أمرُه ، قال : فلم يَزَل يكلِّمهُ حتى استَمكنَ منه فقتله " [ أخرجه البخاري ، وهو في الصحيحين بأطول من ذلك ] .
ومثل هذا الحديث كثير ، تدل على وجوب قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا خلاف بين العلماء في وجوب قتل من سبه صلى الله عليه وسلم .
أيها المسلمون : محبة النبي صلى الله عليه وسلم دين ندين الله به ، وسبه ردة وكفر ، ومن انتقصه أو آذاه أو لمزه أو غمزه فدمه هدر .
سب النبي صلى الله عليه وسلم منكر ، ولابد للمنكر أن يُنكر ، أخرج ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ، قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم " .
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " .
فإن لم ننكر المنكر ، فإننا نخشى العقوبة من الله ، لاسيما من يستطيع إزالة المنكر من ولاة الأمر ، والعلماء ، وكتاب الصحف ، والأئمة وغيرهم ، وهل هناك منكر أعظم من سب النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي هو ركن من أركان الإيمان ، فهو داخل في الإيمان بالرسل ، ومن أنكر نبياً أو سبه فهو كافر مرتد ، يجب قتله بدون استتابة ، وهاهي الحجة قد قامت على أفراد الأمة ليبينوا مدى حبهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم ، وهاهي الفرصة قد سنحت ، لنري الله من أنفسنا خيراً ، فقد تجرأت صحف دولة الدنمارك على سب النبي صلى الله عليه وسلم ، والاستهزاء به ، والتنقص من قدره ، وقد ذهبت وفود سفراء الدول العربية والإسلامية إلى رئيس الدولة الذي أبى مقابلة الوفد متذرعاً ، بأن عمل الصحيفة يكفله القانون تحت حرية التعبير والرأي .
فيا أمة المليار مسلم ويزيدون ، ماذا تنتظرون ! وقد أهين نبيكم صلى الله عليه وسلم ، من قبل دولة كافرة ، يرعاها اللوبي الصهيوني ، تدعي كذباً وزوراً أنها تكفل حرية الأديان ، وتدعي التحضر والتمدن في البلدان ، والرقي بالمعايير الغربية ، وهي تضمر العداء والكراهية للإسلام وأهله سراً وعلانية ، قال تعالى : " قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ? قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ا?يَاتِ? إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ " [ آل عمران 118 ] .
--------------------------------------------
لقد تجرأت الصحف الكافرة ، ووسائل الإعلام الفاجرة في التعدي على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، إما بتعليق قذر ، أو برسم كاريكاتير وقح ، أو من خلال فلم متسخ ، يقطر منه سم العداء ، ويظهر من خلاله قالب الحقد الدفين ، لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، يشوهون صورته ، ويدنسون حياته ، ويسيئون لفطرته ودينه الذي جاء به ، قاتلهم الله أنى يؤفكون ، وتعالى رسول الله عما يقولون .(/2)
رموه بالإرهاب وهو منه براء ، كيف يرمون الحبيب الرحيم ، بصفة إبليس اللعين ، وسيرته عليه الصلاة والسلام كلها شفقة ورحمة حتى بالكفار ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللّهِ ، وعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ. فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ. فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً. نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللّهِ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ. مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللّهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ . فَضَحِكَ. ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ " [ أخرجه مسلم ] ، عن ابن عمر قال : " وُجِدَتْ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةٌ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَنَهَىَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ " [ أخرجه الجماعة إلاَّ النسائي ] . وعن رياح بن ربيع : " أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ الَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَمَرَّ رِيَاحٌ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ مِمَّا أَصَابَتِ الْمُقَدِّمَةُ، فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا يَعْنِي وَهُمْ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ خَلْقِهَا حَتَّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَأَفْرَجُوا عَنْهَا، فَوَقَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ، فَقَالَ لأَحَدِهِمْ: الْحَقْ خَالِداً فَقُلْ لَهُ لاَ تَقْتُلُوا ذُرِّيَةً وَلاَ عَسِيفاً " [ أخرجه أحمد وأبو داود ] .
قال الخطابي رحمه الله في معالم السنن : " في الحديث دليل على أن المرأة إذا قاتلت قتلت ، ألا ترى أنه جعل العلة في تحريم قتلها لأنها لا تقاتل ، فإذا قاتلت دل على جواز قتلها " .
وعن أَبي بردة عن أَبي موسى قال : لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حُنَيْنٍ ، بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس ، فلقي دريد بن الصّمة ، فقتل دريد ـ وهو رجل كبير فاق المائة سنة ـ وهزم الله أصحابه .
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار : " فالنهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل الشيوخ في دار الحرب ، ثابت في الشيوخ الذين لا معونة لهم على شيء من أمر الحرب ، من قتال ولا رَأْي ، وحديث دريد على الشيوخ الذين لهم معونة في الحرب ، كما كان لدريد ، فلا بأس بقتلهم وإن لم يكونوا يقاتلون لأن تلك المعونة التي تكون منهم أشد من كثير من القتال ، ولعل القتال لا يلتئم لمن يقاتل إلا بها ، فإذا كان ذلك كذلك ، قتلوا " .
وعن أنس : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ : انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، لاَ تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً ، وَلاَ طِفْلاً صَغِيراً ، وَلاَ امْرَأَةً ، وَلاَ تُغْلُوا ، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ ، وَأَصْلِحُوا ، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " [ أخرجه أبو داود ] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ : " اخْرُجُوا بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ، لاَ تَغْدِرُوا ، وَلاَ تَغُلُّوا ، وَلاَ تُمَثِّلُوا ، وَلاَ تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ ، وَلاَ أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ " .
وعن ابن كعب بن مالك عن عمه : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَ إِلَى ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ بِخَيْبَرَ نَهَى عَنْ قِتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ " [ نيل الأوطار ] .
قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد : " أجمع العلماء على القول بهذا الحديث ، ولم يختلفوا في شيء منه ، فلا يجوز عندهم الغلول ولا الغدر ولا المثلة ولا قتل الأطفال في دار الحرب " .(/3)
ومن تأمل تلكم النصوص الشرعية ، ودقق النظر ، وأمعن البصر ، وتأصل وتبصر ، وترك التعصب ، ليدرك رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته ، وحتى الكفار غير الحربيين ، بل حرم التعرض لهم بأي أذى ، وتوعد المسلم بشديد العقوبة إذا ما سولت له نفسه ، وقتل بريئاً من الكفار المعاهدين والمستأمنين ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو رضيَ اللهُ عنهما ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " مَن قَتلَ مُعاهِداً لم يرحْ رائحةَ الجنة ، وإِنَّ ريحَها توجَدُ من مَسيرةِ أربعين عاماً " [ أخرجه البخاري ] ، وصلى الله عليه وسلم : " ألاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِداً ، أوْ انْتَقَصَهُ ، أوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ ، أوْ أخَذَ مِنْهُ شَيْئاً بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ ، فَأنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " [ أخرجه أبو داود وغيره ، وصححه الألباني برقم 2655 في صحيح الجامع ] .
فأي إرهاب دعا إليه عليه الصلاة والسلام ، وهو الرحيم الشفيق الرؤوف بالناس ، قال تعالى : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة128 ] .
لقد تشدقت أفواه الكفار وتشققت ، جراء سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعليهم من الله ما يستحقون من العقوبة ، والنكال والبلاء والفتن والمحن ، وأذاقهم الله سوء العذاب ، وبؤس العقاب .
وهذا شيء من رحمته صلى الله عليه وسلم بالكفار ، وتحذيره من قتلهم من غير سبب ، فهل بعد ذلك يتشدقون بسبه والاستهزاء به ، ولكن ليس بعد الكفر ذنب ، فاللهم ألبسهم لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ، ودمر اقتصادهم ، وأهلكهم بالقحط والسنين ، وأرنا فيهم عجائب قدرتك ، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين ، ياذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم .
--------------------------------------------
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرةَ رضيَ اللّه عنه قال: قبَّلَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم الحسنَ بن عليٍّ وعندَهُ الأقرعُ بن حابس التميميُّ جالساً فقال الأقرعُ : إنَّ لي عشرةً من الوَلَدِ ما قبَّلتُ منهم أحداً ، فنظر إليهِ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ثم قال : " من لا يَرحمُ لا يُرحَم " .
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ ، لاَ يَرْحَمْهُ اللّهُ " [ متفق عليه ] .
بل جاء في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو قال : قرأت في التوراة صفة محمد : " محمد رسول الله عبدي ورسولي ، سميته المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب بالأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر " .(/4)
فهذا شيء يسير من كثير من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ببني الإنسان ، مسلمهم وكافرهم ، فأين العنف وأين الشدة والتطرف التي زعم الكفار أنه دعا إليها ، فليأتوا بصدق على دعوتهم ، وبينة على زعمهم ، ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً ، فأذاقهم الله عذاباً وبيلاً ، إن الإرهاب والإرعاب هو ما تفعله دول الكفر بمواطنيها ، وما تقترفه من انتهاك لحقوق الإنسان في كل بلد إسلامي ، واستهانة بالجسد البشري ، والحق الإنساني ، ولقد أوردت وسائل الإعلام المختلفة على مدى سنوات عديدة ، ما يحصل للمسلمين العزل على أيدي الكفرة ، من قتل وذبح وتمثيل وتقطيع وتشويه واغتصاب وتعذيب وأذية ، ووالله لا ينكر ذلك حتى الكفار أنفسهم ، وما لقيه المسلمون في كوسوفا والبوسنة والهرسك على أيدي الصرب لهو أعظم دليل ، ثم تبعه ما حصل للشيشان على أيدي الروس ، وما يحصل للمسلمين في الفلبين والنيجر ونيجيريا وإندونيسيا لهو أمر فظيع غليظ ، مقابر جماعية ، واغتيالات عدوانية ، وتعصبات دينية وطائفية ، وما تبثه وسائل الإعلام اليوم من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان في أفغانستان ، والعراق ، وفلسطين ، لهو أمر تدمع له المقل ، وتموت له القلوب ، كل ذلك حقداً دفيناً على الإسلام وأهله ، ألا وإن ما ينادي إليه الغرب الكافر من تحرر من قيود الشريعة الإسلامية ، كنبذ الحجاب ، وخلع الجلباب ، وقتل الحياء ، وخروج المرأة كاسية عارية ، ودعوة إلى الدعارة ، وشرب الخمور ، وتغيير المناهج ، وانتشار الفضائيات بسعر زهيد ، في مقابل إدخال مشاهد المجون والرقص ، ومناظر الغناء والمسلسلات الفاضحة ، والبرامج الفاسدة ، لهو ضربة قاسية في عقر دار المسلمين ، كل ذلك لإبعاد الناس عن دينهم ، حتى تصبح الحرية العامة المطلقة هي شعار سكان الكرة الأرضية ، فإن حصل ذلك ، ولن يحصل بحول الله وقوته ، فهناك سيغضب الله على أهل الأرض كلهم ، ويلعنهم ، وينزل بأسه بهم ، وعقوبته عليهم ، فوالله ليس بينهم وبين الله واسطة ولا رحم ، إلا الخوف منه سبحانه ، وتقواه ظاهراً وباطناً ، واسمعوا قول الله عز وجل لما عذب قوم لوط على فعلتهم الشنيعة الفظيعة وأنزل بهم عقوبة رادعة ، قال سبحانه : { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [ هود83 ] ، وقال سبحانه : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود102 ] ، فعلى جميع المسلمين أن يعودوا إلى دينهم ، وينفضوا عن رؤوسهم غبار تقليد الكفار ، واتباع الفجار ، فذلك طريق الفلاح والفوز برضى الله عز وجل .
ومن اقتفى أثر الكفار ومسلكهم ، ورضي بخطئهم فهو الطريق الممهد إلى جنهم وبئس المصير ، فاتقوا الله أيها المسلمون ، وتمسكوا بدينكم ، واتبعوا سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ، تفوزون ، وتتغلبون وتنتصرون على أعدائكم من شياطين الإنس والجن ، قال ربكم جل شأنه : { إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ آل عمران160 ] ، ولن تنصروا الله عز وجل بالقتال معه سبحانه صفاً واحداً ، بل تنصرون الله بنصر دينه ، والتمسك بكتابه ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهجر المعاصي ، وترك الذنوب ، والبعد عن الآثام ، وتطهير القلوب من أدرانها ، والبيوت من فسادها ، والأحياء من سفهائها ، فإن فعلتم ذلك فقد نصرتم الله ، وحُق لكم نصر الله ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ محمد7 ] .
--------------------------------------------
ووالله لقد ظهرت شفقته صلى الله عليه وسلم حتى بالحيوان والطير ، فضلاً عن بني الإنسان ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كنَّا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم في سَفَرٍ ، فانطلَقَ لحاجتِه ، فرأينا حُمَّرةً معَها فرْخانِ ، فأخذْنا فرخَيها ، فجاءَتِ الحُمَّرةُ ، فجعلتْ تُفَرَّشُ ، فجاءَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقالَ : " مَنْ فجَّعَ هذِه بوَلدِها ؟ رُدُّوا ولدَها إِليها " ، ورأى قريةَ نمْلٍ قد حرَّقْناها ، قال : " مَنْ حرَّقَ هذِه ؟ " ، فقُلنا : نحنُ ، قال : " إِنَّه لا ينبغي أنْ يُعذِّبَ بالنَّارِ إِلاَّ ربُّ النَّارِ " [ أخرجه أبو داود وصحح إسناده النووي في رياض الصالحين ] .
وعن شَدَّادِ بنِ أوسٍ رضي الله عنه قال : ثِنْتَانِ حَفِظْتُهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحسانَ على كُلِّ شَيْءٍ ، فإذا قَتَلْتُمْ فَأْحْسِنُوا القِتْلَةَ ، وإذا ذَبَحْتُمْ ، فأَحْسِنُوا الذَّبحَ ، ولْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ، ولْيُرِحْ ذَبِيحْتَهُ " [ أخرجه مسلم ] .(/5)
ودخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار ، فإذا جمل فلما رأى النبيّ حن إليه وذرفت عيناه ، فأتاه النبيّ فمسح ذفرته فسكن فقال : " مَنْ رَبُّ هاذا الْجَمَلِ ؟ لِمَنْ هاذا الْجَمَلِ ؟ " فجاء فتى من الأنصار ، فقال : هو لي يا رسول الله ، فقال : " أَلا تَتقي الله في هاذِهِ البَهيمَةِ الّتي مَلَّكَكَ الله إِيّاها ، فَإِنَّهُ شَكا لي أَنَّكَ تُجيعُهُ وَتُدْئِبُهُ " [ أخرجه أبو داود وغيره وصححه الحاكم ] .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ اتَّخَذَ شَيْئاً فِيهِ الرُّوحُ غَرَضاً " [ متفق عليه ] .
وعن أنس رضي الله عنه : أَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ ، فَإِذَا قَوْمٌ قَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا فَقَالَ : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُصَبَّرَ الْبَهَائِمِ " [ متفق عليه ] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لاَ تَتَّخِذُوا شَيْئاً فِيهِ الرُّوحُ غَرَضاً " [ أخرجه الجماعة إلاَّ البخاري ] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ " [ أخرجه أبو داود والترمذي ] .
وعن جابر رضي الله عنه قال : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ وَعَنْ وَسْمِ الْوَجْهِ " [ أخرجه مسلم ] .
وفي لفظ : " مُرَّ عَلَيْهِ بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ : " لَعَنَ اللَّهُ الَّذِي وَسَمَهُ " [ أخرجه مسلم ] .
وفي لفظ : " مُرَّ عَلَيْهِ بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ : أَمَا بَلَغَكُمْ أَنِّي لَعَنْتُ مَنْ وَسَمَ الْبَهِيمَةَ فِي وَجْهِهَا ، أَوْ ضَرَبَهَا فِي وَجْهِهَا ؟ وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ " [ أخرجه أبو داود ] .
قال النووي: قال العلماء: صبر البهائم أن تحبس وهي حية لتقتل بالرمي ونحوه وهو معنى: لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً، أي لا تتخذوا الحيوان الحي غرضاً ترمون إليه كالغرض من الجلود وغيرها. وهذا النهي للتحريم، ويدل على ذلك ما ورد من لعن مَنْ فعل ذلك كما في حديث ابن عمرو لأن الأصل في تعذيب الحيوان وإتلاف نفسه وإضاعة المال التحريم .
وهذا شيء من رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان والطير ، فأين منظمات الرفق بالحيوان عما يحصل للحيوانات في أسبانيا وغيرها من دول الكفر ، من تعذيب وقتل للحيوان وهو حي ، كمصارعة الثيران ، وضربها بالسيوف ، والتحريش بين بعض الطيور للمضاربة كمصارعة الديوك وغيرها ، واتخاذ بعض الحيوان والطير غرضاً للتنافس على الرمي وإطلاق الرصاص ، أين منظمة الرفق بالحيوان ، عن الصعق الكهربائي للحيوانات ، وضربها بالهراوات على رأسها حتى الممات ، وتعذيبها لإزهاق أرواحها ، أم أن ذبح المسلمين للأضاحي ، وتقربهم إلى الله بذبح الهدي في الحج هي الشغل الشاغل لمنظمات الرفق بالحيوان ، فهذه شعيرة من شعائر الله ، وسنة من سنن الأنبياء والمرسلين ، ولن يتخلى عنها المسلمون طال الزمن أم قصر ، رضي الكفار أم أزبدوا وأرعدوا ، لأنها أمر من الله جل وعلا القائل في محكم التنزيل : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } [ الحج 36، 37 ] ، وقال سبحانه : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر2 ] .
--------------------------------------------
ومن تواضع النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه ركب البعير والبغلة ، ونام على الحصير حتى أثر في جسده الطاهر صلى الله عليه وسلم ، وكان يداعب الأطفال ويسلم عليهم ، ويقضي حاجة الفقراء ويسد خلتهم ، ويتفقد أحوالهم بنفسه ، وكان يمشي مع الجارية ليحقق لها مرادها مما تبتغيه من الناس من الحقوق وغيرها .(/6)
عن أنس أن رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : يا سيدنا ، وابن سيدنا ، ويا خيرنا ، وابن خيرنا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " يا أيُّها النَّاسُ قُولُوا بِقولِكُمْ ، ولا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ ، أنا محمدٌ بنُ عَبْدِ الله وَرَسُولُ الله ، والله ما أحِبُّ أنْ تَرْفَعُوني فَوْقَ ما رَفَعَنِي الله عَزَّ وَجَلَّ " [ أخرجه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم ] ، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنه قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره أي خشية اتخاذه مسجداً .
وفي الموطأ قوله صلى الله عليه وسلّم : " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " .
وفي المسند وغيره ، أن معاذ بن جبل رضي الله عنه لما رجع من الشام ، سجد للنبي صلى الله عليه وسلّم فقال : ما هذا يا معاذ ؟ فقال : يا رسول الله ! رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم ، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم ، فقال : كذبوا يا معاذ ! لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، من عظم حقه عليها ، يا معاذ ! أرأيت إن مررت بقبري أكنت ساجداً ؟ قال : لا ، قال : لا تفعل هذا " ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
بل قد ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه : أنه صلى الله عليه وسلّم صلى بأصحابه قاعداً من مرض كان به ، فصلوا قياماً ، فأمرهم بالجلوس ، وقال: " لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضاً " ، وقال : " من سره أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار " .
وعن أنَسٍ رضيَ اللَّهُ عنه قال : " كان غُلامٌ يهوديٌّ يَخدُمُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فمَرِضَ، فأتاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعودُهُ ، فقعَد عندَ رأسهِ فقال لهُ : أسلِمْ ، فنظَرَ إلى أبيهِ وهوَ عندَهُ ، فقال له : أطِعُ أبا القاسِم صلى الله عليه وسلم ، فأسلمَ ، فخَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول : " الحمدُ للّهِ الذي أنقَذَهُ منَ النار " [ أخرجه البخاري ] .
وفي صحيح البخارِيّ عن أسماء قالت: قَدِمتْ أمّي وهي مشركة في عهد قريش ومدّتهم إذ عاهدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمّي قَدِمت وهي راغبة أفأصِلُها؟ قال: «نعم صِليِ أمَّكِ». وروي أيضاً عن أسماء قالت: أتتني أميّ راغبة في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ قال: «نعم». قال ابن عُيينة: فأنزل الله عز وجل فيها: { لا يَنْهَـ?ـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُو?ا إِلَيْهِمْ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ الممتحنة 8 ] .
وهذا الحديث ، وتلك الآية من أعظم المعجزات النبوية ، والتحديات الربانية ، على رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته وتواضعه حتى للكفار ، وعدم قتالهم إذا كانوا مسالمين غير مقاتلين ، بل وإعطائهم من مال المسلمين إذا كانوا فقراء ، هذا هو محمد صلى الله عليه وسلم ، قائد أعظم أمة في التأريخ ، شيخ المجاهدين ، لم يعرف التأريخ نبياً أرسى معالم المحبة ، ونشر الألفة بين الناس مثل محمد صلى الله عليه وسلم .
فلماذا يتبجح الغرب الكافر ، بسبه صلى الله عليه وسلم ، وتشويه صورته ، وتعتيم حقيقته ، وتضليل الرأي العام في بلدانهم عن اتِّباعه صلى الله عليه وسلم ، بينما مدحه وأثنى عليه من هو خير منهم في قرون سبقت ، وأزمنة مضت ، فهو لا يغدر ، ولا يسرق ، ولا ينهب ، ولا يغتال ، ولا يأمر بذلك كله .
بينما الغرب الكافر اليوم يأسر المسلمين ويسجنهم ويعذبهم ، دون أدنى تهمة توجه لهم ، كما يحصل في سجون جوانتناموا ، وفي سجون الكفار ، فأي رحمة هذه ، وأي حقد وغل على المسلمين هذا ؟ قال تعالى : " قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ " [ آل عمران 119 ] .(/7)
وعن أبي هريرة رضيَ اللَّهً عنه قال : بَعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبلَ نجدٍ، فجاءت برجل من بني حنيفةَ يقال له ثُمامة بن أُثال، فرَبطوهُ بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندَك يا ثمامة؟ فقال: عندي خيرٌ يا محمدُ، إن تَقتلني تَقتلْ ذا دم، وإن تُنعِم تنعم على شاكر، وإن كُنْتَ تريدُ المالَ فسلْ منه ما شئتَ. فتُرِكَ حتى كان الغَد ثم قال لهُ: ما عندَك يا ثمامة؟ فقال: ما قلتُ لك: إن تُنعِم تنعم على شاكر. فتركه حتى كان بعدَ الغدِ فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك. فقال: أطلقوا ثمامة. فانطلَقَ إلى نخلٍ قريبٍ من المسجدِ فاغتسلَ، ثم دخل المسجدَ فقال: أشهد أن لا إلهَ إلاّ الله، وأشهد أنَّ محمداً رسول الله. يا محمد، واللَّهِ ما كان على الأرض وجهٌ أبغضَ إليَّ من وَجهك، فقد أصبحَ وَجهكَ أحبَّ الوجوهِ إليّ. واللَّهِ ما كان من دِينٍ أبغضَ إليَّ من دِينك، فأصبح دينك أحبَّ الدِّين إليَّ. واللَّهِ ما كان من بلد أبغضَ إليَّ من بلدك، فأصبحَ بلدكَ أحبَّ البلاد إليّ. وإن خَيلَكَ أخذتني، وأنا أُريد العمرةَ، فماذا ترى؟ فبشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمَرَه أن يَعتمر. فلما قدِمَ مكة قال له قائل: صَبوت؟ قال: لا والله، ولكن أسلمت مع محمد رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ولا واللَّهِ لا يأتيكم من اليمامَةِ حَبةُ حِنطة حتى يأذَن فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم " [ متفق عليه ] ، فهذا أسير كافر ، لكن لما لم يكن من أهل الحرب ، أكرمه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمر بإطعامه ، فلما كان اليوم الثالث أسلم طواعية ، لما رآه من حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ، وطيب معاملته ، وتواضعه مع المسلم والكافر .
وهذا غيض من فيض من تواضعه الجم صلى الله عليه وسلم .
فأين دول الكفر ، عن تواضعه صلى الله عليه وسلم للمسلم والكافر ، وهي تقتل الناس معصومي الدماء ، وتنتهك الأعراض ، وتعتدي على المقدرات ، ولا ترضخ لقوانين الأمم المتحدة ، ولا لمجلس الأمن ، وتدعي الديمقراطية والتحررية ، وهي أبعد ما تكون عن ذلك ، ثم تأتي عبر صحفها بتزوير الوثائق ، وقلب الحقائق ، وتشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتصويره على أنه إرهابي ، ويدعو إلى قتل الأبرياء ، وتعذيب السجناء ، وهو صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الانتقام ممن أساء إليه ، وعفى عنهم وصفح ورحم وتجاوز ، فأفيقوا أيها الناس ، أيها البشر ، في كل بقعة من بقاع العالم ، فقد جاءكم النذير عن صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، فما عليكم إلا أن تقرءوا سيرته ، لتعرفوا حقيقته الناصعة البياض ، فهو أرحم بالناس من أنفسهم .
--------------------------------------------
أيها المسلمون في كل مكان ، لقد تكالبت علينا دول الكفر ، وتداعت علينا الأمم ، فلنصحو ولنستيقظ فقد سمع لنومنا شخير ، ولنفسنا زفير ، لقد أصابتنا التخمة من كثرة الأكل ، والكسل من كثرة النوم ، فها قد حان الأوان لنفيق من نومنا ، ونستيقظ من رقدتنا ، لندافع عن ديننا ، ونناضل عن نبينا صلى الله عليه وسلم ، وألا يكون حب الدنيا هو كل شيء في حياتنا ، فوالله ما انتصر الإسلام في أوج عصره ، وبداية صدره ، إلا برجال باعوا الدنيا ، وطلقوها طلاقاً بائناً لا رجعة فيه ، هناك ترأسوا الكرة الأرضة شرقها وغربها ، شمالها وجنوبها ، ونحن اليوم أهمتنا الأسهم والسندات ، والاشتراك في البنوك والشركات ، وشراء العقار وبناء المنازل ، تركنا تعلم الدين ، وركنا إلى الدنيا ، فأخذت لب قلوبنا ، وزهرة حياتنا ، فحان الأوان لنقف صفاً واحداً ، ويداً واحدة ، عن حياض الدين منافحين ، وعن نبيه صلى الله عليه وسلم مدافعين ، وإلا فقد صدق فينا حديث ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " يوشك الأمم أن تَداعَى عليكم ، كما تَداعى الأكلةُ إِلى قصعتها " ، فقال قائل : ومن قلةٍ نحن يومئذ ؟ قال : " بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غُثاء كغثاءِ السَّيل ، ولينزعنَّ الله من صدورِ عدوكم المهابة منكم ، وليقذفنَّ في قلوبكم الوَهن " ، قال قائل : يا رسول الله ! وما الوهن ؟ قال : " حبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموت " [ أخرجه أبو داود وغيره وصحح الألباني في صحيح الجامع برقم 958 ] .
فأين الهمم ، أم ماتت العزائم والشيم ؟ أروا الله من أنفسكم خيراً ، واعملوا صالحاً ، فقد اقتحم العدو بلدانكم ، وخرب دياركم ، فما أنتم فاعلون ؟(/8)
ووالله لولا ضعف الهمة ، وقلة العزيمة ، لما تجرأ كفار الدنمارك وغيرهم على سب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا وجهوا له التهم ، وألصقوا به الجرائم ، ولكن ضعف القلوب ، وجبن النفوس ، التي جبنت عن الدفاع عن نبيها صلى الله عليه وسلم ، والاتكالية البحتة ، وعدم معرفة فضله صلى الله عليه وسلم على أمته ، وحقه على متبعيه وما جاء به ، كل ذلك صب في خزانة اللامبالاة ، وعدم الشعور بالواجب تجاه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقوموا بواجبكم نحو نبيكم ، واحذروا سخط الله عليكم ، وإنزال عقابه بكم .
--------------------------------------------
لقد أجلب الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيلهم ورجلهم ، يسومونه سوء التشويه ، ويصفونه صلى الله عليه وسلم بكل شائنة ، يحاولون تنفير الناس منه ، وإبعادهم عنه ، فأين الدفاع عن نبي الرحمة والهدى ، أين الدفاع عمن أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور ، ومن العمى إلى الهدى ، ومن طمس البصيرة ، إلى نور السريرة ، فهيا بنا يا أمة المليار مسلم ويزيدون ، فكلٌ منا على ثغر ، فلننكر ذلك التعدي على الحبيب المصطفى ، ولتتمعر الوجوه ، ويعلوها القتر ، فقد طفح الكيل ، وبلغ السيل الزبى ، من بجاحة الكفار ، بالاستهتار بسيد الأخيار ، صادق الأخبار ، صلى الله عليه وسلم ، فلقد أخذ علينا الميثاق في ذلك ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يُؤمِنُ أَحَدَكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " [ أخرجه مسلم ] ، وعنه رضيَ الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجدَ حَلاوةَ الإيمان : أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما ، وأَن يُحب المرء لا يحبه إلاّ لله ، وأن يكرَهُ أَن يعودَ في الكفر كما يكرهَ أن يُقذَفَ في النار " [ أخرجه البخاري ] .
فلنكن مثل فاروق الأمة ، عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عندما قال عبدَ اللّه بن هشام : " كُنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو آخذٌ بيد عمرَ بن الخطاب ، فقال له عمر : يا رسولَ اللّه ، لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " لا والذي نفسي بيده ، حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك " ، فقال له عمر : فإنه الآن واللّهِ لأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسي ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " الآنَ يا عمرُ " [ أخرجه البخاري ] .
فانشروا ما صح من أقوال الرسول الكريم ، أظهروا حسن سيرته العطرة ، وطيب نفسه الطاهرة ، بين أهليكم ، وفي مساجدكم ، ومقر أعمالكم ، بينوا الخطر الداهم الذي دهم الأمة ، وأصابها في نبيها صلى الله عليه وسلم ، لما تعرض للسب والشتم والوقيعة في عرضه ونفسه ممن شنوا عليه حرباً لا هوادة فيها ، فارموهم بسهام لا رحمة فيها ، اقذفوا الأعداء بحمم من نار ، وصبوا عليهم الحميم الحار ، على الكفار الدنمركيين ، فقد تجرأت هذه الدولة الكافرة ، وعبر صحفها وكتابها ، ووسائل إعلامها ، على انتقاص النبي صلى الله عليه وسلم ، فلتقاطع هذه الدولة الكافرة الفاجرة ، زيارة وسياسة وتجارة ، ويجب على المسلم أن لا يكون له بها أية صلة ، إلا صلة السيف والقتل والدمار ، والانتقام للنبي المختار ، كما يجب مقاطعة منتجات هذه الدولة مقاطعة تامة ، حتى لو اعتذرت وعادت للحق ، فمن سب النبي صلى الله عليه وسلم فلا توبة له ، وهو كافر زنديق ، مهدور الدم ، لا حرمة لنفسه ، ولا عصمة لروحه .
وهذه دعوة صادقة لكل الصحف ، وأجهزة التلفزة ، بل كل وسائل الإعلام في بلاد الإسلام ، دعوة للاستنفار للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بكل ما أوتيتم من قوة في الصدع بالحق وإظهاره ، والذود عنه وبيانه ، فأنتم أعظم شأناً وانتشاراً ، وأكثر أمانة وحرية ، فقد أنيطت بكم أمانة الكلمة ، والدفاع عن دينكم ، فالمسؤولية اليوم مسؤوليتكم ، بنشر كل صحيح عن نبي الهدى والرحمة ، ودفع العلماء وطلبة العلم للكتابة لكم عن هذا الموضوع المهم والخطير ، لتنشروه عبر الصحافة والأثير ، وجميع الفضائيات ، وتوعية الجاليات المسلمة في بلاد الكفر ، بإظهار حقيقة النبي صلى الله عليه وسلم البيضاء النقية ، وإزالة الغشاوة عن سنته الصحيحة ، وسيرته الطيبة ، فأنتم على ثغر ، فالله الله أيها الصحفيون ، ورؤساء التحرير ، في بلاد الإسلام ، أنشدكم الله إلا وقفتم سداً منيعاً في وجه أعداء الله ، وأعداء رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم ، شدوا عليهم الوطأة ، وأقيموا عليهم الحجة ، فيما افتروه بحقه صلى الله عليه وسلم من الأكاذيب ، والاختلاقات الباطلة ، والرسوم المهينة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم .(/9)
وأنتم أيها الشعراء الأفذاذ ، كونوا كحسان بن ثابت شاعر الإسلام الأول ، الذي صدع بالحق ، وذم الكفار وثبط هممهم ، وكسر شوكتهم ، وأعلى راية الإسلام ، فأيده الله بجبريل عليه السلام ، عنِ البَراءِ رضيَ الله عنه قال : " قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لحسّانَ : " اهْجُهُمْ ـ أو هاجِهِم ـ وجبريل معك " [ متفق عليه ] ، وعن عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِحَسَّانٍ : " إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لاَ يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ ، مَا نَافَحْتَ عَنِ اللّهِ وَرَسُولِهِ " [ أخرجه مسلم ] .
وأنتم أيها الخطباء ، يا من أخذتم من معين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستقيتم من خطبه ، وشربتم من حوض سيرته وسنته ، فلا قول يقبل منكم على منابركم إلا بدليل وقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يؤيد ما تقولون ، ويصدق ما تتفوهون ، فانصروا رسولكم صلى الله عليه وسلم ، واحموا عرضه ، وذبوا عنه .
وأنتم أيها المسلمون في كل مكان ، دافعوا عن نبيكم وحبيبكم وخليلكم صلى الله عليه وسلم ، فقد أهانه الأعداء ، ووسموه بالقبائح ، واتهموه بالنقائص ، وألحقوا به المعائب ، ووصفوه بالمثالب ، فجاء اليوم الذي تبينون فيه حبكم لرسولكم وقدوتكم ومثلكم الأعلى والأسمى ، ليميز الله الخبيث من الطيب .
--------------------------------------------
أيها المسلمون ، يا أمة المليار مسلم : أظهروا للكفار الغضب والزمجرة ، أقيموا المسيرات السلمية التي تبين مدى غيظكم على عدوكم ، عندما انتهك حرمة نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فليكن الحديث في كل ضيافة وزيارة موصولاً للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وما يحيكه الأعداء لنبي الأمة .
وأنتم أيها الأئمة في مساجدكم عليكم معول كبير ، وأمل منقطع النظير ، فأنتم أولى الناس بالدفاع عنه صلى الله عليه وسلم ، لأنه إمام الأئمة ، وقدوتهم وأسوتهم الحسنة ، فيجب عليكم أن تبنوا للناس أبعاد القضية ، وانعكاسات الجريمة النكراء ، حتى يأخذ الناس حذرهم من الأعداء ، ويقاطعون منتجاتهم ، وصناعاتهم ، ليبوءوا بالخسارة الفادحة اقتصادياً ومادياً .
ويجب على الحكام والرؤساء الوقوف في وجه تيار الكفر المناهض للإسلام وأهله ، وألا يجد الكفار منهم وجهاً حسناً ، أو رضاً بما صنعوا ، بل يجب عليهم الدفاع عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وهو الحاكم الأول لدولة الإسلام ، ومؤسسها ومنشؤها ، وهو الذي بين لهم سبيل النجاة من النار ، والطريق إلى الجنة والنجاة من عذاب الله تعالى ، فواجب عليهم أن يقوموا بحقه صلى الله عليه وسلم عليهم ، من الذب عنه ، والدفاع عن سنته ، ولو حصل قتال أو مقاطعة ، أو سحب للسفراء ، فلا يخادعوا الله فيقولون خلاف ما يفعلون ، فهو المقت من الله تعالى ، قال سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ " [ الصف 2،3 ] .
وأوصي جميع المسلمين أن يحذروا كل الحذر من أن يتعرضوا لأي نبي من أنبياء الله تعالى بالاستهزاء أو الازدراء ، أو السب أو الشتم أو الانتقاص ، مقابل سب النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن فعل ذلك بأنبياء الله ، فهو كافر مرتد ، يجب قتله ، فهم ونبينا محمد صلى الله وسلم عليه وعليهم سواء ، وهذا إجماع بين العلماء قاطبة ، بل تعرضوا لدولهم الكافرة ، وما هم عليه من الضلال والفساد والانحلال و الكذب والافتراء .
فلعنة الله على الكافرين ، الذين أعلنوا الحرب على المسلمين ، في سب نبيهم صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين ، ما تركوا من طريقة إلا واتبعوها ، ولا وسيلة إلا استخدموها ، للنيل من النبي صلى الله عليه وسلم ، صوروه بصور لا تليق ، وشبهوه بأوصاف لا تطاق ، فعليهم لعائن الله المتتابعة ، وأنزل بهم بأسه ورجزه الذي لا يرد عن القوم الكافرين ، اللهم شل أركانهم ، وأيبس أطرافهم ، وكسر أقلامهم ، وأخرس ألسنتهم ، وأعم أبصارهم ، وصم آذانهم ، وأرنا فيهم عجائب قدرتك ، وشدة بأسك ، يا قوي يا عزيز ، يا جبار السموات والأرض ، اللهم نكس رؤوسهم ، واجعل الخوف لباسهم ، اللهم لا تقم لهم في الأرض ، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية ، اللهم سلط عليهم الكوارث المدمرة ، والأعاصير المهلكة ، اللهم أهلكهم بالزلال والبراكين والفيضانات ، اللهم سلط عليهم الأمراض المستعصية ، والأوبئة المضنية ، اللهم أرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل وأهلك زروعهم ومحاصيلهم ، اللهم عليك برؤسائهم وكتابهم وصحافتهم ، اللهم أرنا فيهم يوماً أسوداً ، كيوم فرعون وهامان وقارون ، إن سميع مجيب الدعوات ، الله لا تردنا خائبين ، يا رب العالمين .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ،وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .(/10)
الدنيا جميلة براقة
يحيى الزهراني
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، أهل هو أن يعبد، وأهل هو أن يحمد، وأهل هو أن يشكر، فله الحمد كله، وله الشكر كله، وإليه يرجع الأمر كله علانيته وسره، وأشهد أن لا إله إلا الله، خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا إلى الخير، محمد بن عبدالله صلوات ربي وسلامه عليه ما أظلم ليل وأشرق النهار، وعلى آله وصحابته الأبرار.. أما بعد:
فيقول الله تعإلى: { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت:64]، وقال تعإلى: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس:24].
ولقد مرّ النبي بالسوق والناس كنفيه ( عن جانبيه ) فمر بجدي أسك (صغير الأذن) ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: « أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟ » قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ ثم قال: « أتحبون أنه لكم؟ » قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً، إنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال: « فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم » [رواه مسلم].
فها هي الدنيا في كامل زينتها، وأبهى حلتها، وأجمل بهجتها تعرض نفسها لخاطبيها ومشتريها، وحق لها ذلك: لكثرة الغافلين واللاهين والعابثين، وإقبال الخاطبين والمشترين، فكم نشاهد اليوم من تهافت كثير من الناس على هذه الدنيا الفانية، وزهدهم في الآخرة الباقية، وما ذاك إلا لبعدهم عن معرفة الحقيقة، والبعد عن منهج الله تعإلى والخوف منه سبحانه.
تهافتوا وتنافسوا وتصارعوا من أجل الدنيا وبهرجتها، واشرأبت نفوسهم بحب الدنيا والركون إليها، فتاقت لها قلوبهم، وهَوَتَ إليها أفئدتهم، فأصبحت محط أنظارهم على اختلاف أجناسهم وطباعهم، رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فكانت الويلات والنقمات هنا وهناك.
أصبح الكثير من الناس لا يحب ولا يكره إلا من أجل الدنيا، أما الله الواحد القهار فلا يوالون ولا يعادون فيه أبداً، وهذا هو الجهل العظيم والخطب الجسيم، نسوا الله فنسيهم وأنساهم أنفسهم، تركوا الآخرة والعمل لها، وركنوا إلى الدنيا وعمارتها، عندما سلّ علي سيفه لقتل عدوه، بصق ذلك العدو في وجه علي، فما كان منه إلا أن أعاد سيفه، فلما قيل له في ذلك، قال: ( خشيت أن أنتقم لنفسي ).
فلله در أولئك الرجال الذين عرفوا لماذا خلقوا، ومن أجل أي شيء وجدوا. فأين ذكور اليوم من رجال الأمس؟ أولئك الرجال الذين رغبوا فيما عند الله والدار الآخرة، تركوا الدنيا في كامل زينتها وأبهى حلتها، وأقبلوا على ربهم -سبحانه- راجين مغفرته ورضوانه، تركوا الفاني وأقبلوا على الباقي، أتعلم لماذا؟ لأنهم عرفوا الحق من الباطل، عرفوا ما ينفعهم وما يضرهم.
قال تعإلى: { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } [الأحزاب:23]، أولئك الذين اعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله الذين عرفوا الله حق معرفته، فلم يخشوا أحداً إلا الله، والله أحق أن يخشى، صدقوا مع الله فصدقهم الله عز وجل، إذا عملوا فلله، وإذا أحبوا فلله، وإذا أبغضوا ففي الله، أعمالهم وأقوالهم خالصة لله دون سواه.(/1)
أمّا من ركنوا إلى الدنيا وأحبوا أهلها، وزهدوا في الآخرة وبقائها فأولئك محبتهم وعداؤهم وولاؤهم من أجل الدنيا، وأهلها، ومناصبها، وما يحصلون عليه من كراس ومراتب ودرجات، فكانت المفاجآت أن حلّت بهم النكبات، ودارت عليهم الدائرات، وجعل الله بأسهم بينهم شديداً، فإذا اجتمعوا أظهروا خلاف ما يبطنون، وإذا تفرّقوا أكل بعضهم بعضاً، قال الله تعإلى: { الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ } [الزخرف:67]، وما حصل كل ذلك إلا لبعدهم عن منهج الله القويم، وانحرافهم عن صراطه المستقيم، فضلّوا وغووا وركنوا إلى ما لم يؤمروا به، فاتبعوا الهوى والشهوات، وحصلت بينهم المنافسات على المناصب الكاذبات. فلا إله إلا رب الأرض والسموات، كل من أولئك يريد البقاء له وله وحده، وكأنه لم يخلق إلا للبقاء والخلود في هذه الدنيا وعمارتها، والله تعإلى يقول في محكم التنزيل: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران:185]، ويقول تعإلى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ.كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء:34-35]، وقال تعإلى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56]، هذه هي والله الغاية السامية التي من أجلها خلق الله الخلق، خلقهم من أجل العبادة، عبادته وحده، لا شريك له في ذلك فهو سبحانه المستحق للعبادة دون سواه، فهل عقل ذلك كثير من الناس؟ وكل ما عدا العبادة فهو وسيلة لا غاية، وعجبا لمن بدّل الغاية إلى وسيلة والوسيلة إلى غاية، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد انعكست المفاهيم، وانتكست الفطر عند أولئك الناس، فاستحقوا قول الله تعإلى: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [الفرقان:44]، وقال صلى الله عليه وسلم: « الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً ». رواه الترمذي وهو حديث حسن. وقال عليه الصلاة والسلام: « لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ». رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.(/2)
فهذه هي حقيقة الدنيا التي يطلبها ويخطب ودّها كثير من الناس كما وصفها النبي، فهي مبغوضة، ساقطة لا تساوي ولا تعدل عند الله جناح بعوضة، وكم يساوي جناح البعوضة في موازين الناس؟ أم لعله يسمن أو يغني من جوع؟ فكل ما يبعد عن طاعة الله تعإلى ملعون مبغوض عنده سبحانه. قال تعإلى: { اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } [الحديد:20]، يحذر المولى عز وجل عباده من الانجراف في مزالق الحياة الغادرة وعدم الإخبات اليها أو الإذعان اليها أو اتخاذها وطناً وسكناً وأنها غادرة ماكرة، ما لجأ إليها أحد أو رجاها من دون الله إلا خذلته، وتخلت عنه؛ فهي حقيرة عند الله عز وجل كحقارة المَيتة عند الناس، وإنما جعلها الله فتنة للعباد؛ ليرى الصابر والشاكر، والمغتنم لأوقاته لما فيه رضا ربه سبحانه، ممن عكف عليها وأقام وأناب إليها ومن قضى أيامه ولياليه من أجلها، فلا يستوي الفريقان عند الله أبداً، قال تعإلى:{ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } [الشورى:7] وقال تعإلى:{ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِير.وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ.وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ.وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ } [فاطر:19-22]، الأعمى هو من ضل عن منهج الله تعإلى وركن إلى الدنيا واطمأن، لأنه عاش في هذه الدنيا أعمى وفي الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ولذا قال الله عز وجل: { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج:46]، وذلك لإعراضه عن ذكر الله تعإلى فالأحياء هم المؤمنون والأموات هم الكفار، فالحياة حياة إيمان والموت موت كفر والعياذ بالله. قال تعإلى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى.قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً.قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى.وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [طه:124-127]، وأما من باع الدنيا واشترى الآخرة فهو البصير المبصر العارف تمام المعرفة لم خلق، وهذا حق معلوم لا ينكره إلا جاهل أو فاقد عقل. قال صلى الله عليه وسلم: « أبشروا وأمّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوا، فتهلككم كما أهلكتهم ». متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: « إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء ». رواه مسلم. وهذا تحذير آخر من نبي الرحمة والهدى لأمته من عدم الركون إلى الدنيا أو الاستئناس بها، وعدم الانخراط في سلك اللاهين المحبين لها ولزخرفها وزينتها، والحذر كل الحذر من الانجراف وراء مغريات الحياة الزائفة، وعدم الاهتمام بها أصلاً إلا لمن ابتغى بها وجه الله تعالى والدار الآخرة.(/3)
ولكن ومع كل هذه التحذيرات من رب الأرض والسموات ومن نبي الهدى والرحمات، لا تجد إلا قلوباً ميتة، وعقولاً مسلوبة، لشغوف أهلها بحب الدنيا وبهرجتها الزائفة الزائلة، خربوا آخرتهم الباقية وعمّروا دنياهم الفانية، تنافس كثير من الناس من أجل الدنيا، وتقاطعوا وتدابروا من أجلها، فضاعت حقوق بعضهم بين بعض. فكم من ضعفاء ومساكين ضاع حقهم من أجل أن يأكله غني مستكف، وكم من صاحب حق ذهب حقه أدراج الرياح من أجل محاباة المسؤول لخصمه، وكم وكم نرى من خصومات وتعديات من أجل الصراع للبقاء على وجه هذه البسيطة التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، قال تعإلى: { يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ }[فاطر:5]، لقد أصبحت الدنيا، وعمارتها، والعيش فيها، وجمع الأموال، والأولاد، والأزواج، والكسب الحرام هي الشغل الشاغل الذي ملأ قلوب الكثير من الناس اليوم، بل أصبحت الدنيا هي همهم الأول الذي خلقوا من أجله في اعتقادهم الفاسد الباطل، فانتشرت بينهم أمراض القلوب وأدواءه فها هو الحسد، والحقد والكذب، والبغضاء، وها هي الغيبة، والنميمة، والكراهية، والشحناء، سادت بين أولئك الناس، بسبب حبهم للدنيا وشهواتها وزينتها وزخرفها، فأصبح العداء والولاء من أجل الدنيا، والحب والبغضاء من أجل الفناء. فلا همّ لأولئك الأشرار إلا إزالة هذا عن منصبه ووضع ذاك، ونقل هذا والمجيء بالآخر؛ لأن هذا من شيعته، وذاك من عدوه كما يزعم، وهذا قريبه ومن أبناء جلدته، وذاك غريب لايمتّ له بصلة، قال تعإلى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات:10]، وقال تعإلى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات:13]، فلا تفاضل بين العباد إلا بالتقوى التي هي أساس الإيمان بالله، فلا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، ولا أسود على أبيض إلا بالتقوى، أما من أجل القرابة، والجماعة، والقبيلة فهذه أمور جاهلية أتى الإسلام فقضى عليها، فلا تفاخر بالأنساب والأحساب؛ فالناس سواسية عند الله عز وجل، كما أخبر بذلك النبي حيث قال: « إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ». رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: « اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت ». رواه مسلم، وإني أتساءل أين أولئك الذين يتفاخرون بأنسابهم وأحسابهم؟ وقد سمع النبي قرع نعلي بلال بن رباح في الجنة، ذلك العبد الحبشي الذي أكرمه الله بالإسلام. فمدار النظر وضابطه عند الله تعإلى هي القلوب والأعمال، فإذا صلح القلب صلحت النية وكانت خالصة لله في كل أمورها، وبذلك سيصلح الجسد كله بإذن مولاه سبحانه، أما فساد القلب وموته فيتوقف عليه فساد الجسد كله، فلا ينكر منكراً، ولا يعرف إلا حب الدنيا وزينتها والصراع من أجلها، وهذا وللأسف الشديد هو ديدن كثير من الناس اليوم، وكل ذلك من دعوى الجاهلية والنبي يقول: « ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية » متفق عليه.
لقد أنسى الناس حب الدنيا والتشاغل بها طاعة الله عز وجل والخوف منه، ألا يعقل أولئك قول النبي: « ما لي وللدنيا؟ ما أنا إلا كراكب، استظل تحت شجرة ثم راح وتركها »
». رواه الترمذي، وهو حسن صحيح، وقال صلى الله عليه وسلم: « ليس الغنى من كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس ». متفق عليه، وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: « لتؤدنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء ». رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: « إن الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته » ثم قرأ: { وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود:102]. متفق عليه.
وهذه هي النتيجة الحتمية لكل ظالم، ولا مناص عنها ولا مفر منها، والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، وما ربك بظلام للعبيد ـحاشا وكلاـ ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
فيا ليت شعري لو أنّ الناس تركوا الخلق للخالق سبحانه واتقوا الله جل وعلا حق التقوى، ورضي كل منهم بما قسم الله له في هذه الحياة، ولم ينظر بعضهم إلى ما وصل إليه غيره من النعم والخيرات التي امتنّ الله بها على عباده.
ويا ليت شعري لو أنّ الناس لم ينظروا إلى ما منّ الله به على غيرهم، فيحسدوهم، ويحقدوا عليهم، ويطمعوا بما في أيديهم لعاش الناس إخوة متحابين متعاونين على البرّ والتقوى، متناهين عن الإثم والعدوان، آمرين بالمعروف، متناهين عن المنكر.
قال تعإلى: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [الكهف:46].(/4)
وكان الواجب على المؤمن تجاه الدنيا ودناءتها ألا ينظر إلى من هو فوقه وأعلى منه منزلة، بل ينظر إلى من هو دونه، حتى لا يزدري نعمة الله عليه فيقع في الإثم والمعصية، أمّا في أمور الدين والآخرة ففي ذلك فليتنافس المتنافسون بلا حقد، ولا حسد، ولا كراهية، ولا تقاطع، ولا تدابر. فلو ترك الناس بعضهم بعضا بما أنعم الله على كل منهم لساد الحب، والفرح، والإخاء، ولعم الأمن والسلام، والرخاء لأن: { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الجمعة:4]، ولكن لما لم يدخل الإيمان قلوب الكثير منهم استساغوا ذلك الفضل من الله على بعضهم البعض، بل تجرّعوا الغصص والآهات، وطغت عليهم الحضارة المادية الزائفة بكل ما تعنيه الكلمة من معان، فأصبح الصراع والقتال من أجل متاع الدنيا الزائل، فإلى الله المهرب والملتجأ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فلنتق الله عباد الله، ولنعلم أننا ما خلقنا وما وجدنا على هذه البسيطة إلا لعبادة الواحد الديان الذي له ملك السموات والأرض، وبيده خزائن كل شيء، وعلينا أن نتسابق ونتسارع إلى جنة الخلد وملك لا يبلى، جنة عرضها كعرض السموات والأرض، أعدها الله للمتقين الذين آمنوا بالله ورسله، قال صلى الله عليه وسلم: « من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إنّ سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ». رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، فأين المشمّرون؟ وأين المشترون؟ وأين المتقون؟.
عن أنس أن النبي قال: « اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ». متفق عليه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ». رواه مسلم.
ودونك يا من أحببت الدنيا وزينتها، وركنت إليها، وقاتلت من أجلها، واهتممت بالمناصب والشياخة، والكراسي والرياسة، أقول: دونك هذا الحديث الذي يرويه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة، فيقال له: يا بن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط ». رواه مسلم.
وأكرر كلمة قلتها سابقاً، أقول عندما جاء الإسلام أسّس أسساً، وأقام دعائم قوية ومتينة يعتمد عليها المسلم بعد الله تعإلى في دنياه وأخراه؛ حتى تستقيم حياته على وفق ما جاءت به الشريعة الإسلامية الغراء، وبذلك تم هدم كل عادات وتقاليد الجاهلية الجهلاء والظلمة الدهماء، حرّم الإسلام التفاخر بالأنساب، والأحساب، ومنع التمييز العنصري، وهدم العصبية القبليّة ونهى عن التحزب والعصبيات، وبيّن الدين الحنيف أنّ ذلك من نتن الحياة الدنيا، وعفانتها، وخستها، وعندما تحدث الصحابة رضوان الله عليهم في ذلك نهاهم النبي عن الحزبيات والعنصرية وقال: « دعوها، فإنها منتنة » وصدق عليه الصلاة والسلام؛ فما تلك الأمور إلا دليل على سفاهة من يتفاخر بها، أو يعتمد عليها، ويعمل من أجلها، والمصيبة العظمى والطامة الكبرى عندما تجد بعض من يدّعون الصلاح والاستقامة، وأنهم من أهل الخير والدين والقوامة، وتراهم يسارعون إلى نتن الدنيا وجيفتها من أجل العصبيات والقبليات، ومن أجل الحصول على رقعة ومكانة دنيوية، فيقدّمون هذا ويؤخرون ذاك من أجل عرض من أعراضها، ويحقدون على من يتولى مكانة أو يمكن الله له في الأرض ضاربين بالدين، وأوامره، ونواهيه، عرض الحائط، لا يأخذون من الدين إلا ما ينفعهم ويحقق مطالبهم، باعوا دينهم بعرض من الدنيا.
فأقول لتلك الفئة من الناس: { وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور:31]، واقنعوا بما آتاكم الله وارضوا به، وافرحوا واغتبطوا بما تفضل الله به على بعض عباده، واعلموا أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده بعلمه وحكمته سبحانه، وطهّروا قلوبكم وألسنتكم من أقذار الدنيا وأوساخها؛ فإنها منتنة!
فيا بشرى من اشترى الآخرة بالدنيا، ويا حسرة من اشترى الدنيا بالآخرة.
قال تعإلى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل عمران:14].(/5)
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين الخائفين الوجلين، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا،، ولا إلى النار مصيرنا، اللهم اجعلنا نخشاك حق خشيتك، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، الله حبب المؤمنين إلى قلوبنا، واجعلنا إخوة متحابين فيك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم طهر قلوبنا وألسنتنا من كل فاحشة ورذيلة يا حيّ يا قيّوم، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على النذير البشير والسراج المنير نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/6)
الدنيا دار ابتلاء واختبار
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد , والصلاة و السلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد أفضل مَن لله سجد ,وخير مَن الله عبد وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه بلا انقطاع ولا عدد وبعد :
فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذه الدنيا واستخلف فيها البشر فجعلها دار اختبار وابتلاء وتمحيص حتى يميز الخبيث من الطيب ويفصل الصالح عن الطالح ويجزي المحسن ويعاقب المسيء فقال جل جلاله ((تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور)) فكان الابتلاء سنة من سنن الله سبحانه وتعالى يبتلي بها المسلم والكافر على حد سواء غير أن النتيجة مختلفة قطعا فكل من المسلم والكافر يتعرض للنعمة وللمصيبة وكل منهما يتأذى من المصيبة في الدنيا ويستفيد من نعم الله في الأرض إلا أن المؤمن يحصد من الثمرات في الآخرة ما لا يحصده غيره من البشر فقال صلى الله عليه وسلم (( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن إصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ))
عباد الله :
إن الله سبحانه وتعالى يبتلي العبد بالنعم كما يبتليه بالمصائب على حد سواء ولا يحسبن أحد أن المصائب والابتلاء بها دليل غضب أو سخط من الله سبحانه وتعالى أو أن كثرة النعم والخيرات هي دليل محبة الله سبحانه وتعالى بل قد يكون الأمر خلاف ذلك لأن الله جل الله جلاله يحب أن يسمع شكوى عبده المؤمن وأنينه بين يدي الله تعالى هذا وإن الابتلاءات من أوسع الأبواب التي يكفر الله تعالى بها الخطايا عن العبد المؤمن الصابر فهذا حبيبنا صلى الله عليه وسلم يقول (( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئته )) ويقول صلى الله عليه وسلم (( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه )) كان من الصالحين فهو تنبيه من الله تعالى لخطأ ما أو تحذير لخلل وقع عند ذلك العبد أو تلك الأمة فإن من المصائب ما هو للتحذير والتنبيه عند التقصير واسمع إذا شئت قول الله تعالى (( فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان لهم ما كانوا يعملون )) .
وإذا لم يكن عند العبد خلل ولا زلل فهي دليل محبة الله تعالى إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الناس أشد بلاء ؟ قال (( الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه فان كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وان كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة )) ومن هنا أخوة الإسلام فإنك تجد أصحاب الحق وأصحاب الدين من أكثر الناس ابتلاء في أيامنا هذه فهم المطاردون من العدو الصهيوني والأنظمة والحكومات الظالمة يضيق عليهم بأرزاقهم ويفصلون من وظائفهم وتملأ السجون بهم ويبعدون من بلدانهم ويتحكم في مصيرهم القاصي والداني حتى تجد أتفه الناس يزايدون عليهم ، فتصادر حرياتهم وتعلق لهم المشانق ويصب عليهم العذاب صبا ولا يستغرب أحد هذه السنة من الله تعالى فإننا في حياتنا الدنيا نعلم أن امتحان طلاب الجامعة أصعب ممن دونهم فكيف بامتحان الآخرة ! أيعقل أن يكون امتحان الأنبياء والصالحين كامتحان عوام الناس من المسلمين فهل من المقبول أن نكرم أصحاب الدرجات العليا في دراستهم فنسهل عليهم امتحاناتهم الأكاديمية ولله المثل الأعلى .
أيها المسلمون إذا كان الابتلاء بالمصائب سنة من سنن الله فلا يعني ذلك أن تكون الأمة مستسلمة لهذه المصائب فلا يخرج أحد علينا ويقول لنا إن الحرب الصليبية التوراتية على الأمة الإسلامية هي ابتلاء لا بد من الصبر عليه حتى نؤجر بل إن بعض الإبتلاءات إنما هي تسليط من الله على الأمة لذنوبها وبعدها عن منهجه ويجب إزالة المعصية حتى تزول المصيبة ألم نسمع قول الله تعالى (( فأهلكناهم بذنوبهم )) ألم تسمع قول الله تعالى (( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا )) ففي مثل هذه الحالات لا بد من مقاومة الأسباب التي أنزلت البلاء على الأمة بأسرها حتى حق عليها عقاب الله وتعذيبه كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في حال تركها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسلطن الله عليكم عدوا من غيركم ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب
أيها المسلمون :(/1)
إن الذي ينظر إلى حال الأمة وابتلاءاتها في أيامنا هذه يعتقد جازما أن الذين يتحكمون في مقدرات الأمة ومصيرها إنما هم مفرطون بحقوق الله مضيعون للأمانة التي بين أيديهم وما موالاة الكافرين ومحاصرة المجاهدين ومتابعتهم والتسابق للتضييق عليهم إلا مثالا بسيطا على ضلال وبعد هؤلاء القوم الذين باعوا أنفسهم للشيطان وأوليائه وابتعدوا عن الله وجنوده وما الله بغافل عما يفعل الظالمون.
عباد الله : من حسنات المصائب والابتلاءات أنها تبين لك الناس وتكشف كل واحد على حقيقته فإن البشر ما لم تكن شدة يبقى معظمهم مستور لا تعلم حقيقته حتى إذا جاءت الشدة والابتلاء ظهر الناس على معادنهم فمنهم من يظهر معدنه ذهبا ومنهم ما لا يساوي معدنه الحديد الصدىء فالإنسان أخوة الإسلام يعرف أصدقاءه الحقيقيين ويمحص أعداءه الظاهرين بالمصيبة فبظهر فيها المؤمن من المنافق والخبيث من الطيب والصادق من الكاذب وبهذا أخبر الله تعالى فقال (( ما كان الله لينذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى
يميز الله الخبيث من الطيب ))
ورحم الله من قال:ـ
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بِريقي
وما شكري لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي
أخوة الإسلام :
ولما كانت المصائب حتمية الوقوع على البشر إذ قال الله تعالى (( ولنبلونكم بشيء من الخوف الجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) إلا أن هذا الأمر لا ينفي أبدا أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر إذ أن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة ولو كان لما سقى منها كافر شربة ماء وصدق الله تعالى إذ قال (( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنياوالآخرةعند ربك للمتقين )) فالله الله على الذين تقع الدنيا في أيديهم ولا تقع في قلوبهم. الله الله على من باعوا نفسه وماله وولده لله فقام مجاهدا بنفسه وماله ، نذر نفسه للدفاع عن الأمة ومقدساتها رغم الكيد الذي يحيط به من أعدائه ورغم الخذلان الذي يطوقه من أبناء جلدته ورغم الحصار الذي يضربه عليه أهله وعشيرته إلا أن هدفه لله وسيره لله ما نظروا وراءه وما التفت حوله فكان له ما كان من أجر أو كرامة وكان لمن دونه ما كان من ذل أو مهانة .
عباد الله :
إن تعامل العباد مع المصائب بعد وقوعها على حالات وانراع فإما أن يخسر العبد آخرته بعد سقوطه في امتحان الدنيا وإما أن يصبر على مصيبته فيؤجر ومن من يرضى بها فيغنم والأفضل من ذلك كله من يشكر على المصيبة إذ أنها تهيئ له بابا من أبواب الأجر والثواب حتى وإن كان ظاهرها الأذى والمشقة .
وأخيرا أخوة الإسلام !:
إن مما يعين على النجاح في إمتحان الابتلاء في الدنيا العلم أن عدم الصبر وعدم الرضا لن يرد شيئا من المصيبة بل إن المصيبة ستقع وسيخسر معها الذي لا يصبر أجره في الآخرة وعون الله له في الدنيا كما أن الله سبحانه وتعالى مهما بلغت مصيبة العبد التي ينزلها عليه فإن فيها لطف منه جل جلاله وكما قال ذلك الصحابي الذي بترت ساقه ومات أحد أبنائه مرة واحدة فقال الحمد لله فإن أخذ طرفا فقد أبقى أطرافا وإن أخذ ولدا فقد أبقى أولادا فانظر يا عبد الله إلى نعم الله التي حولك حتى وإن وقعت بك المصيبة فإن الله لطيف بك ويمن معك . فاللهم يا ذا المن والعطاء أسبغ علينا نعمك في الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير والحمد لله رب العالمين .(/2)
الدين وأهداف الحياة الثلاثة
* محمد الأديب
للانسانية في معترك هذه الحياة أهداف ثلاثة، هي: الحق، والخير، والجمال، وكل واحدة منها ضروري ما دمنا نريد السعادة وننشد الكمال. الذي يكون الانسان انساناً.
ولقد مضى على الانسان قرون كان فيها فريسة الجهل، يعبد الشمس والقمر والنجوم، بل يعبد الأحجار والأشجار والحيوان، ولا يتمتع بلذة المعرفة، وإدراك الحقائق، ولا تتصل روحه، ولا يسمو عقله إلى خالق هذا الكون العجيب، ولا تفكيره إلا إلى ما بين يديه كأنه واحد من هذه الحيوانات التي تعج بها الأرض لا يمتاز عنها كثيراً.
وكان الانسان محروماً من إدراكه الجمال، والتمتع بلذاته، فالقانون قانون القوة، كما هو الشأن بين وحوش الغاب، وليس للأخلاق موازين ولا للفضائل مقاييس، ولا للشرف قيمة، ولا للحياة مثل تحتذي أو تراد.
وما لهذا خلق الانسان، ولا بهذا استحق خلافة الله في الأرض، ولا لهذا استحق بنو آدم على سائر ما خلق الله، فلم يكن بد من (هداية السماء) تكفله وتهذبه، وتقرب له السبيل، وترسم له الصراط المستقيم، وتخرجه من الظلمات إلى النور، وبذلك كانت الرسالات الإلهية التي تطورت وتركزت وكملت وانتهت إلى رسالة محمد (رص).
ترى ماذا كان يتطور إليه الانسان لو لم يمد بهداية السماء! لا شك انه سيعرض بعض صور الواقع الصحيح، وبعض نواحي الخير. ويدرك بعض أسرار الجمال. ولكن إلى أي حد؟ وبعد كم من القرون والدهور؟
إن الهداية الإلهية قد عجلت بتهذيب الانسان وتطهيره. وإن المبادئ التي اشتملت عليها الشرائع عامة. كانت بمثابة بذور غرست فانبتت. وما زالت تنبت وتؤثر في الغذاء الفكري للانسان تأثيراً عميقاً، سواء أحسن الانسان بذلك، أم لم يحسن.
قد يظن الانسان انه وصل إلى ما وصل إليه من الرقى بعقله، وإن لم تكن الأديان لكان العقل ديناً وهادياً، ولكن ما هي مقاييس العقل؟ وهل كان العقل (إذا لم يلقح بهذه اللقحات السماوية) يمضي قدماً في الطريق المستقيم؟ لا يضل ولا يشقى؟ كلا ثم كلا!!. ألا ترى الأمم البدائية أو المنعزلة؟ تقيم الدهور في عزلتها، وهي ما هي عليه في أفكارها وعاداتها وتقاليدها؟ ونظرها إلى الأشياء، وإدراكها للمعاني دون أن تتطور؟ ودون أن تثبت فيها نابتة من عقله، أو إثارة من علم؟ إلا إذا جاءها ذلك من خارجها، كأن يتصل بها قوم آخرون، أو يرحل عنها بعض أبنائها ثم يعود إليها، أو نحو ذلك، ويومئذ تبدأ في تفكير جديد وتنظر إلى ما هي فيه، فتعرضه على العقل وتناقشه، وتختلف فيه خلافاً شديداً وينتهي أمرها بأن تأخذ منه، وتدع وتعدل فيه وتقوم، فربما تطورت وتطور التفكير العقلي فيها، وتطورت أساليب حياتها على نحو جديد، وما ذلك إلا لأن اللقاح فعل فعله وأثر آثاره، وإن لم يدرك الانسان في أثناء هذا التفاعل انه حاصل واقع، ماض في سبيله، موف على غايته!.
هكذا تقاس الحالة البشرية عامة، لو لم تمد بهداية السماء، إنها تكون في غيابة الجهل، ولو أنها تتحرر من هذا الجهل شيئاً بعد شيء، عن طريق الصدفة، أو التفكير العقلي، فإن ذلك يحتاج إلى أ؛قاب، وربما انقضى عمر الانسان على هذه الأرض دون أن يصل إلى الغاية الحمدية التي أرادها الله له؟.
ولنتأمل الآية الكريمة: (هل أتى على الانسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا).
فهي تشير إلى الحقب المتطاولة التي مرت بالانسان وهو في طور الخمول، وغمرة الجهالة، حتى جاز أن توصف بهذا الوصف البليغ، فينفي عنه انه شيء في هذا الوجود يستحق الذكر!.
والانسان هو عماد هذه الأرض، وهو خليفة الله فيها، وهو أكرم مَن فيها على الله، فاذا وصف من هذا شأنه، بأنه لم يكن شيئاً مذكوراً، فلابد أن يكون هذا الوصف تعبيراً عن حالة من الخمول، والضعف والتفاهة.
ثم تذكر الآية بعد ذلك خلق الانسان وأصله، والغاية من هذا الخلق، وما ركب فيه من استعداد فطري له أدوات ظاهرة من الحواس كالسمع والبصر، وتردف الآية ذلاك بنعمة الله عليه في الهداية إلى السبيل والارشاد إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، وبذر بذور المعرفة والعلم في محيطه، ينتفع بها مَن ينتفع، ويزوّر عنها مَن يزوّر، ليهلك مَن هلك عن بينة، ويحيا مَن حيى عن بينة: (إما شاكراً وإما كفوراً) ذلك بأنه لا يوصف بالشكر، ولا بالكفران إلا من علم.
من هنا يجب أن يعترف الانسان، وأن يكون خاشعاً في هذا الاعتراف بالهداية الإلهية كما هو خاضع خاشع في اعترافه بالخلق والتكوين ويجب أن لا يغره عقله، ولا تسول له علومه ومعارفه أمراً، مهما بلغ منها، فيتردد بالاعتراف بأنه محدود، وبأنه موضع فضل إلهي، وفيض رباني، بهما قوامه. وبهما عقله وبهما سموه عن كل ما خلق الله في هذا الوجود ولولاهما ما كان، ولولاهما ما صار شيئاً مذكورا!!.(/1)
ومن هنا رأينا الأمم الحديثة يعتنق كل منها فكرة، ويجعلها مذهباً له في الحياة، ويحاول حمل الناس عليها تارة بالقوة، وتارة بالدعاية.
فهذه نازية، وهذه فاشية، وهذه اشتراكية، وهذه شيوعية، وهذه ديمقراطية، وهكذا. وكل هذه أوضاع إنسانية متأثرة بما يتأثر به الانسان عادة، وليس أصحابها وواضعوها من الملائكة المقربين، ولا من القديسين المنزهين عن الأغراض والنزعات، ولذلك اختلفت، وتعاركوا عليها واحتاجوا إلى القوة في حمايتها، فلما تخلت القوة عن بعضها انهار وأصبح في عداد الذكريات التاريخية، ولو كان حقاً وخيراً لبقى وصار الجميع إليه متفاهمين.
(فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
فأين هذه النظم من نظم الإله السميع العليم، المنزه عن النواقص والأخطاء، الذي ينظر إلى عباده جميعاً نظرة العدل والرحمة والمساواة؟
وبعد هذا فقد وضح من كل ما ذكرنا بأن العقل وحده غير كاف (حتى في عهود الحضارة والرقى الفكري) للأخذ بيد الانسانية وتحقيق أهدافها من (الحق، والخير، والجمال) وانه لابد من الهداية الإلهية لتوسيع آفاق هذا العقل، ولكفالة استقامته، وضبط تفكيره، والحد من طغيانه.
فالهداية الإلهية أو التدين هو الشعور بالخشوع والقدسية والتعلق نحو الله (المعبود).
ويرافق هذا الشعور مجموعة من المعتقدات والأفعال الفردية والاجتماعية.
وان هذا الشعور يستولي على النفس ظاهرها وباطنها، وعليه فالاستقرار النفسي للكثيرين من البشر يستوجب أن يكونوا متدينين.
والتدين أمر فطري عند الانسان كما تقدم.
وان الدراسات العديدة في علم النفس دلت دلالة واضحة وبرهنت على أن الاستعداد للتدين موجود فطرياً في كل فرد من الأفراد.
والحاجة إلى الدين من الأمور الطبيعية لضمان السعادة البشرية واستقرارها، وتعيين اتجاه للحياة.
ومما لا شك فيه ان الناس قد يختلفون في درجة الاستعداد للتدين فمنهم مَن له المزيد منه عن غيره.
ففكرة التطور في المعتقدات من الأمور المسلم بها فعلاً.
وان عبادة الله الواحد الأحد معناها تحرر البشرية من كل عبودية مادية، أو فردية.
فلا يعبد الانسان مخلوقاً مثله، ولا ما أوجده بنفسه، بل يعبد الله الواحد له وحده لا شريك له في ملكه، ولا شك ان هذا هو من أسمى وأرقى مراتب ودرجات النشوء والارتقاء في العبادة عند الانسان.
فالدين على ما تقدم خابط اجتماعي.
فهو من الناحية الايجابية يوجه المتدين الصادق نحو عمل الخير والمحبة والرحمة والأخوة الانسانية.
وأما من الناحية السلبية فهو يمنع الفرد من ارتكاب المعاصي والجرائم.
فالذي يخاف الله، أو الذي يحب الله، ويؤمن به وباليوم الآخر، لا يعمل الشرور ويجتنب الآثام.. الخ.
فالدافع الديني الصادق هو منبع فياض للفضيلة وعمل الخير.
والدين هو منبع الفضيلة بمعناها السامي، أي بدافع حب الخير والحق والجمال والمحبة والرحمة.
وان عمل الخير لا شك انه وجد قبل الأديان ولكنه كان بدافع الغريزة. غريزة حب البقاء.
فالانسان المتحضر في يومنا هذا لا يقل احتياجاً إلى الدين عن الانسان القديم، بالرغم من تقدم العلوم المادية، والمخترعات، واختراق الفضاء.
فالانسان اليوم إنما يشعر في قلق روحي واجتماعي لا حد له، قد يؤدي به إلى الانتحار الاجتماعي ما لم يتزود بالإيمان وما يرافقه من حب الخير والحق والحرية والجمال.. الخ.
ولهذا أخذ كبار العلماء والفلاسفة في عصرنا هذا يؤكدون على حاجة البشر اليوم إلى دين يتدين به.
فالتجدد والعصرية لا تستوجبان ترك الفضيلة أو ترك العبادة، أو عدم الخضوع للنواميس الإلهية في توجيه مصير الانسان.
فالذين تركوا الدين وراء ظهورهم وصاروا يؤلهون المادة واعتمدوا على الارهاب وخضعوا للحزب وقاداته، ألم يرجعوا بالبشرية والانسانية إلى العهود الفرعونية؟
فإن أساس الدين: الصدق والأخلاق.
ولنعلم ان الإيمان لا يمكن أن يفرض على الانسان فرضاً.
بل إنما الإيمان منحة من الله وهداية منه تعالى.
فمن لم يهتد بهدى الله فلا فائدة ترتجى من سوقه إلى الإيمان.
فالمؤمن بالله في هذا العصر والذي يشعر الفرد فيه بأنه في عالم مملوء بالتقلبات، والمصاعب، والمصائب لا يمكنه أن يشعر بطمأنينة نفسية، أو استقرار باطني ما لم يكن مؤمناً بالله حقاً.
فالفرد المتدين لا يشعر بغربة ولا وحشة في هذا الكون، بل يشعر بأنه من أهل هذا البيت.
وهو إنما وجحد ليساهم في تنفيذ إرادة الله العظمى وحكمته العليا.
والمؤمن يكون سعيداً، شجاعاً، مقداماً، مهما اعتراه من مصائب، ومصاعب.
فهو بعكس من الحد بالله والذي يستولي عليه اليأس والقنوط.
فالمؤمن مملوء بالطمأنينة والاستقرار بخلاف الملحد الذي يعلن الإفلاس الروحي أمام النكبات.
وذلك لأنه لا يعرف الملحد للحياة قيمة ولا معنى خارج وجوده الحيواني.
وعليه نلاحظ نفس الحالات العصبية في هذا الزمان بين مَن تضعف فيهم الروح الدينية، الأمر الذي قد يؤدي إلى الجريمة والانتحار!.(/2)
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله * ألا بذكر الله تطمئن القلوب * الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب.(/3)
الدين.. ضرورته وفوائده للهيئة الاجتماعية
* محمد الأديب
الدين هو أعظم وأكبر ناموس في حفظ نظام العالم، وأنفذ وازع ورادع للنفوس عن حرصها وجشعها الى حب التغلب والتفوق واستيفاء الحظوظ من الشهوات الحيوانية والقوى الغضبية.
وهو الخضوع لقوة مدبرة للعالم، أزلية مدركة حكيمة عادلة. فضلاً عن كونه من أول الفطريات، وأجلى الوجدانيات والبديهيات. ويمكن أن نقول: بأن الدين هو الراحة الكبرى، والنعمة العظمى، ومن أعظم لوازم الإنسانية وأهم ما يجب للطباع البشرية.
ويستحيل بدون الدين قمع شرور البشر، وقطع بذورها من نفوسهم عامة وخاصة، إلا برهبة الدين، وتسليط سيطرته عليها، إذ إن أعظم مصلح يقوم في العالم، وأكبر مدبر ينهض لخدمة المجتمع البشري لا يكون لولا الدين، إلا أكبر أهوج خائر مضيع لحقوق شهواته من غير فائدة تعود إليه ولا عائدة ترجع بالعوض عليه، إذ ما الغاية في تحمل ذلك العناء، ورفض تلك اللذات، والصبر على شظف العيش، والرزوح تحت أغلال البلاء، مع علمه بأنه سيفنى ويذهب متلاشياً في عرصات العدم المحض والفناء المؤبد.
ولو أن جميع العالمين إلى آخر الأبد صلوا وسلموا عليه بكرة وعشياً وسبحوا وقدسوا بحمده غدواً ورواحاً لم يصل إليه من النفع ذرة وكان هذا واستبداله باللعن والذم سواء.
فهل تحمله تلك المشاق إلا الحمق والخور وضعف الرأي وسوء التدبير وعدم النظر لنفسه!!.
فان الدين من أرأف المسلمين، وأشفق الواعظين، وأبلغ المغزّين لهذا الانسان البائس، المحفوفة حياته بكل عناء، وشقاء ومصيبة وبلاء، مهما ساعدته العناية، وتمهدت له الأسباب، وتربع على عرش الملك فضلاً على البائسين والمساكين الذين يرزحون تحت مجهدات الفقر والفاقة والبؤس والمسكنة.
إن الدين سلوة، ولولا حسن عزائه، وطلب النفس بحسن الثقة به وان الاستلام له داعية كل فضيلة، لكان جديراً بالانسان، وحرياً به من أوائل عمره، لأن كل انسان لو عمل الاحصائيات المدققة، وقاس ما يناله في هذه الدنيا من التعب والمصائب والأخطار الماضية والمستقبلة، لما يحضى به من النعيم واللذة والهناء والراحة، لوجد هاتيك الى هذه أضعافاً مضاعفة الأعداد نسبة الملايين الى الآحاد!!.
وأي عاقل يا ترى!! يرضى لنفسه بهذه الخطة، ويختار التواطئ لهذه المنزلة!!
وما ألم الموت إلا لحظة، تمر عليه أمثالها في الحياة. أما بارقة الأمل والرجاء، فقد أوشكت أن تظهر خلابتها للعيون، ويبدو جهام غيمها للنفوس وتنقشع غشاوتها عن الأبصار.
هل من ملك لا يأسف على الماضي من عمره؟ ولا يبكي على فقد شبابه وريعان صباه؟
فماذا يا ترى!! ستكون حالة العامة من الرعايا؟
وكم ذك لنا التاريخ من رجال بلغوا من العظمة والملك أن سجد الناس أمامهم وعبدوهم دون خالقهم. فما كان مصيرهم؟
ألم يدسوا في حفائر الأرض؟
ألم يستنزلوا عن مشرفات القصور إلى مظلمات القبور؟ وطاشت بهم أهواء الفخفخة، والرفعة الخادعة، ثم أهوت بهم كما تهوي الزوابع بعاليات الشجر الى وهدة الحضيض.
أما لولا العناية الإلهية تلطف بالعباد، وتوله أفكارهم بالشواغل المادية عن التوغل والامعان في هذه الخواطر الراهنة، لتركوا عمارة الدين وسكنوا مغارات الجبال، ولعجوا عجيج الوحوش في الفلوات، ولانقطع النسل، وبطل العمل، وعادت الأرض الى شكلها الأول.
فمن المسكن للوعة هذا الانسان؟
ومَن الذي يبرد غلته؟
وكيف يكف مَن غرب جماحه، وهيجان أشجانه، وجزعه من كل الحياة ولذائذها، والدنيا ونعيمها؟!
تلك اللذائذ التي ما من واحدة منها إلا وهي محفوفة بالمكاره والعناء والكدر والبلاء!!
أم كيف يهدأ هذا الانسان، والحوادث والصروف كل آن تهدده بكل خطر وكل رزية، وهو لا يعرف بأي حجر يرمى؟ وبأي عثرة يعثر؟ وفي أي بقعة يموتظ وأين يقبر؟
فان المهدئ لكل هذه اللوعات، والمسكن لهذه الخطوب، والمعقل الحصين لتلكا لمحرمات والغرور، والمؤمل المشجع له على الصبر ومكافحة الحياة، والعمل فيها ما هو إلا الدين، وليس سواه وهو الذي أمر الناس: (ان اعملوا لدنياكم كأنكم تعيشون أبداً، واعملوا لآخرتكم كأنكم تموتون غداً).
فهذا هو الدين، وهو ذلك النظام الاجتماعي العام الذي انقذ في جميع أدواره، وفي زمن جميع أنبيائه ورسله ومبشريه الانسان من حالة الحيونة والتوحش الى حالة الانسانية البشرية، ومن محط الجهل الى شاطئ العلم والمعارف وأخذ في كل حين وآخر يجدد لباس المدنية فينزع القديم ويلبس الجديد، وفي كل انقلاب أوجد لنفسه روحية جديدة في ترك العادات القبيحة السالفة، وأخذ يعيش في عاداته وأساليبه الحاضرة، وظن بنفسه ملة حية، وقوماً كاملة الصفات، لأن من مقتضيات وجود الدين والتربية في كل قوم هي ايجاد روح جديد في هيكلهم الاجتماعي وتبديل أفكارهم، وتطهير قلوبهم، وتوسيع أدمغتهم، حتى يزيل عنهم كل قديم سقيم، ويقوّم فيهم الآداب والمدنية الجديدة.(/1)
فالتدين بالدين إذاً من ضروريات الانسان، ومن صفاته التي لا تنفك عنه، إذ لا يمكن له بدونه الحياة بالرفاه والعيش بالسلام والطمأنينة والراحة. لأن البشر مخلوق غرز في طبعه أن يعيش مع بني نوعه فيعمل كل فرد (على قاعدة توزيع العمل) ما يحتاج إليه هو وسائر أفراد البشر في حياته وحفظ نوعه.
وبما أن العقل غير كافل لحفظ النظام، واقامة العدل، وإن كان سبب السعادة، ومنبع الفضيلة، لأنا نرى كثيراً من العقلاء يسارعون الى ارتكاب المنكرات والرذائل التي يستقبحها العقل اتباعاً لشهواتهم، وتطلباً لرغباتهم، كما ان ارشاد العقال أمته، ونصحه لهم لا يؤثر في تحسين حالهم وان أقام لهم من الأدلة العقلية على قبح ما يفعلون ألف دليل.
بل كم رأينا في صفحات التاريخ ما قاساه العقلاء من أممهم وما لاقوه جزاء ارشادهم من قتل ونفي وتعذيب، لذلك كان من الأمور المسلمة ان الشارع للأحكام الموجبة لحفظ نظام هذا النوع، والمؤمنة لحقوق أفرادهم يجب أن يكون ذاتاً تنقاد النفوس لارادته، وتذعن القلوب قبل الأجسام لأوامره بسبب امتيازه على بني نوعه بصفاته العالية، وتأييده بما يملك النفوس من الآيات الباهرة، فتصبح العقول محاطة بما لا مخلص لها من الاذعان له.
ذلك هو الذي يأتي مبلغاً عن الله أحكاماً وأوامر، وهو ما يقال له (الرسول) وتلك الأحكام والأوامر التي يقصد منها ارشاد البشر إلى معرفة الله تعالى وعبادته، وإلى اتصافهم بالصفات الفاضلة والأخلاق الكاملة كالصدق، العدل، الوفاء، العفة، الحلم، الصبر، الى غير ذلك من الصفات التي يحكم العقل بحسنها، وعلو المتصف بها والتي يقال لها (الدين).
فاذا عرف الانسان الخالق عزوجل حق المعرفة وعظمه، وقف عند الحدود التي حددها له.
فلا يظلم أحداً ولا يتجاوز على حق أحد ولا يرتكب ذنباً من الذنوب التي يعد فعلها خسارة على الله تعالى بتعدي حدود وانتهاك حرماته.
اذا تهذبت نفس الانسان، حتى بلغ الكمال، وتقومت أخلاقه، احترمه الناس واستمعوا لقوله ولا يخفى ما في ذلك من التضامن واتحاد الكلمة.
وإذا أضفنا إلى ذلك ما يأمر به الدين، من اقامة العدل، وعدم التجاوز مع الأمر باتحاد الكلمة وعدم الشقاق والتنابذ ومحو الحقد والحسد نعلم مقدار ما يحصل بسبب ذلك من التآلف والتودد اللذين بهما تنتظم أ؛وال الناس ويكمل هناؤهم.(/2)
الدَّعوةُ السِّريَّة
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى..
أمَّا بعدُ:
عندما أنزل اللهُ على رسولِهِ محمد - صلى الله عليه وسلم- الوحي في غار حراء ، آمن به مَنْ آمن سِرَّاً خَوْفاً مِنْ مُجرمي قريش، وهذه المرحلة من حياة المسلمين في مكة هي التي يُطْلِقُ عليها المُؤرِّخُون: الدعوة السرية، حيث ظل رسول الله يدعو الناس الذين يتوسم فيهم الخير والرأفة إلى الدين الجديد سراً، ودامت تلك المرحلة ثلاث سنوات، فلمَّا أنشأ الرسول قاعدة صلبة من الرجال المؤمنين، الذين كانوا اللبنة الأولى لهذا الدين أذن الله لرسوله أن يجهرَ بما يُؤمر به من الحقِّ والهدى.
قال المباركفوريُّ: وكان من الطبيعي أن يعرض الرسول- صلى الله عليه وسلم- الإسلام أولاً على ألصق الناس به من أهل بيته، وأصدقائه، فدعاهم إلى الإسلام، ودعا إليه كل من توسم فيه الخير ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الحق والخير، ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح، فأجابه من هؤلاء - الذين لم تُخالجهم ريبة قط في عظمة الرسول-صلى الله عليه وسلم-وجلالة نفسه وصدق خبره- جَمْعٌ عُرِفوا في التاريخ الإسلامي بالسابقين الأولين، وفي مقدمتهم زوجة النبي-صلى الله عليه وسلم- أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، ومولاه زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وابن عمه علي بن أبي طالب-وكان صبيًا يعيش في كفالة الرسول-صلى الله عليه وسلم-، وصديقه الحميم أبو بكر الصديق ، أسلم هؤلاء في أول يوم من الدعوة .
ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلًا مُآلفاً محبباً سهلًا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعوته عثمان بن عفان الأموي، والزبير بن العوام الأسدي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص الزهريان، وطلحة بن عبيد الله التيمي . فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس هم الرعيل الأول وطليعة الإسلام .
ثم تلا هؤلاء أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح من بني الحارث بن فهر، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وامرأته أم سلمة، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون الجُمَحِيّ، وأخواه قدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث ابن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد العدوي، وامرأته فاطمة بنت الخطاب العدوية أخت عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت التميمي، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عُمَيْس، وخالد بن سعيد بن العاص الأموي، وامرأته أمينة بنت خلف، ثم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص، وحاطب بن الحارث الجمحي، وامرأته فاطمة بنت المُجَلِّل، وأخوه الخطاب بن الحارث، وامرأته فُكَيْهَة بنت يسار، وأخوه معمر ابن الحارث، والمطلب بن أزهر الزهري، وامرأته رملة بنت أبي عوف، ونعيم بن عبد الله بن النحام العدوي، وهؤلاء كلهم قرشيون من بطون وأفخاذ شتى من قريش .
ومن السابقين الأولين إلى الإسلام من غير قريش : عبد الله بن مسعود الهذلي، ومسعود بن ربيعة القاري، وعبد الله بن جحش الأسدي، وأخوه أبو أحمد بن جحش، وبلال بن رباح الحبشي، وصُهَيْب بن سِنان الرومي، وعمار بن ياسر العنسي، وأبوه ياسر، وأمه سمية، وعامر بن فُهيرة .
وممن سبق إلى الإسلام من النساء غير من تقدم ذكرهن : أم أيمن بركة الحبشية، وأم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية زوج العباس بن عبد المطلب، وأسماء بنت أبي بكر الصديق-رضي الله عنهم- .
هؤلاء معروفون بالسابقين الأولين، ويظهر بعد التتبع والاستقراء أن عدد الموصوفين بالسبق إلى الإسلام وصل إلى مائة وثلاثين رجلًا وامرأة، ولكن لا يُعرف بالضبط أنهم كلهم أسلموا قبل الجهر بالدعوة، أو تأخر إسلام بعضهم إلى الجهر بها .
ومن أوائل ما نزل من الأحكام الأمر بالصلاة، قال ابن حجر : كان-صلى الله عليه وسلم-قبل الإسراء يصلي قطعًا وكذلك أصحابه، ولكن اختُلف: هل فرض شيء قبل الصلوات الخمس من الصلوات أم لا ؟ فقيل : إن الفرض كانت صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها . انتهى. وروى الحارث بن أبي أسامة من طريق ابن لَهِيعَة موصولًا عن زيد ابن حارثة : أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في أول ما أوحى إليه أتاه جبريل، فعلمه الوضوء، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه، وقد رواه ابن ماجه1 بمعناه، وروي نحوه عن البراء بن عازب وابن عباس، وفي حديث ابن عباس : وكان ذلك من أول الفريضة .
وقد ذكر ابن هشام أن النبي-صلى الله عليه وسلم-وأصحابه كانوا إذا حضرت الصلاة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، وقد رأى أبو طالب النبي-صلى الله عليه وسلم-وعليّا يصليان مرة، فكلمهما في ذلك، ولما عرف جلية الأمر أمرهما بالثبات .(/1)
تلك هي العبادة التي أمر بها المؤمنون، ولا تعرف لهم عبادات وأوامر ونواه أخرى غير ما يتعلق بالصلاة، وإنما كان الوحي يبين لهم جوانب شتى من التوحيد، ويرغبهم في تزكية النفوس، ويحثهم على مكارم الأخلاق، ويصف لهم الجنة والنار كأنهما رأي عين، ويعظهم بمواعظ بليغة تشرح الصدور، وتغذى الأرواح، وتحدو بهم إلى جو آخر غير الذي كان فيه المجتمع البشرى آنذاك .2
وعن تلك الحال التي عاشها المسلمون نذكر بعض النصوص التي يحكيها من عايش تلك الفترة:
عن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: (رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر) رواه البخاري.
قال الذهبي: ولم يذكر علياً؛ لأنه كان صغيراً ابن عشر سنين.3
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ:(كُنْتُ - وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ- أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلالَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ، فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَاراً، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُسْتَخْفِيًا جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: (أَنَا نَبِيٌّ) فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ؟ قَالَ: (أَرْسَلَنِي اللَّهُ)، فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: (أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأَرْحَامِ وَكَسْرِ الأَوْثَانِ وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ) قُلْتُ لَهُ: فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: (حُرٌّ وَعَبْدٌ)، قَالَ: وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي مُتَّبِعُكَ، قَالَ: (إِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَلا تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسِ؟ وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنِي)، قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى أَهْلِي وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ وَكُنْتُ فِي أَهْلِي، فَجَعَلْتُ أَتَخَبَّرُ الأَخْبَارَ وَأَسْأَلُ النَّاسَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيَّ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ؟ فَقَالُوا: النَّاسُ إِلَيْهِ سِرَاعٌ، وَقَدْ أَرَادَ قَوْمُهُ قَتْلَهُ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: (نَعَمْ، أَنْتَ الَّذِي لَقِيتَنِي بِمَكَّةَ)، قَالَ: فَقُلْتُ: بَلَى فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ وَأَجْهَلُهُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلاةِ، قَالَ: (صَلِّ صَلاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ).
قَالَ: فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَالْوُضُوءَ حَدِّثْنِي عَنْهُ، قَالَ:(مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ إِلا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ وَفِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ، ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِلا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ إِلا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ إِلا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِلا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ).(/2)
فَحَدَّثَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا أُمَامَةَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-فَقَالَ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ:يَا عَمْرَو بْنَ عَبَسَةَ، انْظُرْ مَا تَقُولُ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ يُعْطَى هَذَا الرَّجُلُ؟ فَقَالَ عَمْرٌو: يَا أَبَا أُمَامَةَ لَقَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَاقْتَرَبَ أَجَلِي، وَمَا بِي حَاجَةٌ أَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَلا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ مَا حَدَّثْتُ بِهِ أَبَداً، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ)(4).
قال عمرو بن عبسة: (لقد رأيتني وأنا رُبْع الإسلام)(5).
وهذا حديث جليل القدر ذكر طرفاً من سيرة المسلمين في مكة، وذكرته بكامله هنا لما ورد فيه من فضل هذا الصحابي الجليل وحسن إسلامه في تلك الفترة الحرجة، وكذا ما ورد فيه من فضائل أخرى.
وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: (لقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام) رواه البخاري.
لقد عاش المسلمون تلك المرحلة الأولى من حياتهم وهم يخشون من اطلاع قريش على أمرهم؛لأن ذلك سيُؤدِّي إلى مُواجهة الملأ من قريش لتلك الدعوة الناشئة التي تخالف واقعهم المشين تمام المخالفة، ولا تتفق معه إلا بمجرد ما كان عليه من بعض الأخلاق النادرة.. أما صُلْب العلاقات والنظرة إلى الآلهة واحتقار المرأة وإهانتها وإنكار الحياة الآخرة، فكان ذلك ديدنهم منذ دهر طويل! فإذا ما عرف القوم أن هذا الدين الجديد يقضي على كل ذلك، فكيف يكون شأن حامليه؟ لاشك أنهم سيعانون البلاء والنكد، وهذا ما تحقق بعد أن أذن الله لرسوله بالصدع بالحق، وبعد أن عرف المشركون من أسلم من الرجال والنساء جميعاً فأذاقوهم سوء العذاب.. فرضي الله عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الطيبين الطاهرين الذين سارعوا إلى الإسلام من أول وهلة، ورضي الله عن جميع الصحابة الذين أسلموا من بعدهم.
ولعل في هذه المرحلة من الدروس والعبر ما يفيدنا في هذا الزمن:
1. مشروعية الدعوة السرية في حال تكالب الكفر وأهله؛ وذلك إذا خشي المسلمون على أنفسهم ودينهم من الكفار؛ لأن المسلم إذا أظهر دينه الحق في بيئة كافرة أو ملحدة -كما كان الحال في البلاد التي تحكمها الأنظمة الإلحادية كالشيوعية في الاتحاد السوفيتي سابقاً أو الدول المجاورة لروسيا الآن- فلا شك أن الأذى سيصيبه.. فهذه الدول لا تمانع من التدين الزائف، ذلك التدين الذي لا يرفع من قيمة النفس شيئاً، بل هو خليط من عبادة القبور والذبح لها، وموالاة الكفار، وترك الصلاة، ثم يدعي أولئك أنهم مسلمون، أما أن يظهر المسلم الدين الذي كان عليه الصحابة من التوحيد الخالص، والتربية الصالحة، والدعوة إلى تحيكم شرع الله، ونبذ الطاغوت، فإن ذلك يكلف ثمناً باهظاً من الأموال، والأنفس، والدماء؛ لهذا يحسن في هذه الحال وفي مثل تلك الأنظمة الإلحادية أن تُمارَس تربية الشباب وتثقيفهم بحقائق الدين بطريقة سرية؛ حتى يتمكن الدعاة هناك من بناء قاعدة صلبة تحمل هذا الدين..
2. أن يبدأ المسلم بتربية نفسه وتزكيتها، ثم يدعو أهل بيته وأقاربه ويحثهم على التمسك بتعاليم الإسلام، إذ لا يحسن به أن يدعو الناس وأهلُه في الجهل والشرك والخرافة يغرقون، ولهذا قال -تعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } سورة التحريم:6.
2.فبدأ بالنفس ثم ثنى بالأهل، وهذا ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول أمره، حيث أسلمت على يديه زوجه خديجة، ثم أقاربه كعلي بن أبي طالب وغيره.(/3)
3. أن يعتمد الداعي إلى الله -بعد الله- على من الذين يتوسَّمُ فيهم الخير؛ ليكونوا له أعواناً وأنصاراً على حمل الدعوة فيما بعد، ولهذا سأل الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أكرم الناس؟ قل: (أتقاهم) فقالوا ليس عن هذا نسألك، قال: (فيوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله) فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: (فعن معادن العرب تسألوني؟) قالوا: نعم، قال: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقُهُوا) متفق عليه. فالأخيار في زمن الجاهلية هم الأخيار إذا أسلموا؛ لأن الخير أمر مغروس في الفطر، فإذا ما اجتمع نور الفطرة مع نور الوحي كوَّن ذلك شعلة قوية من الإيمان، لهذا نجد الأخيار في الجاهلية كأبي بكر وعلي وخديجة وورقة بن نوفل وغيرهم كانوا أول من أسلم واستبشر بنور محمد-صلى الله عليه وسلم-، فكانوا خياراً في الجاهلية وخياراً في الإسلام. وهذا الأمر محسوس في الواقع؛ فإنك تجد الرجل كريماً مؤدباً رحيماً وهو في بيئة جاهلة فإذا ما هداه الله للحق كان من أفضل الدعاة، فينبغي على الدعاة أن يستغلوا نور الفطرة في قلوب الأخيار الذين لم يمتزج نور الوحي مع النور الفطرة في قلوبهم بعد، فإذا ما امتزج ذلك النور مع بعضه صار صاحبه شعلة من نور تضيء للناس الطريق إلى الجنة.
4. فضيلة السابقين إلى الإسلام الذين أثنى عليهم الله بقوله: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } سورة التوبة: 100. وأن حبهم إيمان، وبغضهم نفاق، ألا ما أتعس أقواماً أبغضوا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وأول من أسلم معه، وهاجر معه، وأوذي معه!.
5. على الداعي إلى الله في البيئات الجاهلية التي ينتشر فيها الشرك والخرافة أن يُعلِّم الناس أساسيات الدين، أمور التوحيد أولاً، وكذا يربيهم على مكارم الأخلاق، والتعلق بالله، فليس من اللائق ولا من الحكمة أن يفتح لهم كتاباً في الفقه وهم لم يعرفوا الله حق معرفته! كما أنه ليس من اللائق دعوة النساء إلى تغطية الوجه والكفين وهن لا يصلين، أو يذهبن ليذبحن عند القبور والأنصاب وينذرن لها من دون الله.
6. أن الصلاة أعظم أركان الدين بعد الشهادتين وهي عمود الإسلام، فهي أول العبادات فرضاً، وهي أجل العبادات قربة من الله، وهي آخر ما ينقض من عرى الدين، وهي أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة، فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله، فويل لمن ضيع الصلاة! ماذا لحقه من الوزر؟ وماذا بقي له من الأجر؟
نسأل الله أن ينفعنا بما كتبناه وقلناه وسمعناه وقرأناه، إنه ولي ذلك والقادر عليه..
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد ، وعلى آل محمد وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
________________________________________
1- برقم (462) كتاب الطهارة وسننها. ورواه أحمد في مسنده برقم (17026).
2- الرحيق المختوم للمباركفوري.
3- السيرة النبوية ص79 تحقيق حسام الدين القدسي. دار ومكتبة الهلال، بيروت.
4- انظر صحيح مسلم رقم الحديث (832) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إسلام عمرو بن عبسة.
5- رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.(/4)
الذكر
1674
الدعاء والذكر
مازن التويجري
الرياض
17/11/1419
جامع حي النزهة
ملخص الخطبة
1- فوائد الذكر. 2- النصوص الشرعية تمدح الذاكرين. 3- فوائد أخرى لذكر الله. 4- الكائنات تسبح الله.
الخطبة الأولى
أما بعد:
بينما الناس في غفلتهم راقدون, في غيهم سادرون, قد شغلتهم الدنيا وملذاتها, وألهتهم الأموال والمناصب, في زمن طغت فيه الحضارة والمدنية, فأغرت البشر لينساقوا خلفها لاهثين, قد تعلقت قلوبٌ بالشهوات وتربعت على كثير من العقول الشبهات... مع هذا وغيره كان لابد من وقفة تأمل ومراجعة وحديث حساب وتذكير, يرجع فيه المسلم لنفسه, يناقشها وينظر في صلاحها.
وما أصيب القلب بداء أعظم من الغفلة عن أخراه, وإخلاد إلى الدنيا وحلاوتها المُرة, فتمر عليه الليالي والأيام وهو مريض لا يعلم أنه مريض, عليل لا يدري ما علته, بل ميت وإن نبض قلبه بروح الحياة, حتى يعلوه الران, وتسكن أرجاءه الظلمة, فيبدو في أعين الناس سعيدًا, والسعادة عنه بمعزل, مسرورًا وقد عان الحزن في حياته, تعلو محياه الضحكات والبسمات, وقلبه يتفطر حرقة وألمًا, ويتقطع همًا وغمًا, فللقلوب صدأ لا يجلوه إلا ذكر الله, ولها أقفال مفتاحها لهج اللسان بحمده, وإدامة العبد لشكره, فالذكر جنة الله في أرضه, من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة, وهو إنقاذ للنفس من أوصابها وأتعابها, بل هو طريق ميّسر مختصر إلى كل فوز وفلاح, طالع دواوين الوحي لترى فوائد الذكر, وجرب مع الأيام بلسمه لتنال الشفاء.
إذا مرضنا تداوينا بذكركمُ ونترك الذكر أحيانًا فننتكس
بذكره سبحانه تنقشع سحب الخوف, والفزع, والهم والحزن, بذكره تنزاح جبال الكرب والغم والأسى.
ولا عجب أن يرتاح الذاكرون, ولكن العجب العجاب كيف يعيش الغافلون الساهون عن ذكره أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون [النحل: 21].
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في مدارج السالكين: "والذكر منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل, ومن مُنعه عُزل, وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا, وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا, وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق, وماؤهم الذي يطفئون به نار الحريق, ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب, والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علاّم الغيوب هو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون.
يدع القلب الحزين ضاحكًا مسرورًا, ويوصل الذاكر إلى المذكور، بل يدع الذاكر مذكورًا, به يزول الوقر عن الأسماع, والبكم عن الألسن, وتنقشع الظلمة عن الأبصار, زين الله به ألسنة الذاكرين, كما زين بالنور أبصار المبصرين, فاللسان الغافل كالعين العمياء, والأذن الصماء, واليد الشلاء, وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده, ما لم يغلقه العبد بغفلته, ولقد امتدح الله عباده المؤمنين أولو العقول والألباب إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لأيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار [آل عمران: 190 ـ 191].
وهم أصحاب القلوب الرقيقة الرحيمة فلهم شهادة الله بالإيمان الحق إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقًا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم [الأنفال: 2 ـ 4].
أخرج مالك في الموطأ والترمذي والحاكم وصححه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي : ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم, وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من إنفاق الذهب والوِرق, وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى, قال: ((ذكر الله تعالى)) [1].
آه, ما أشد الغفلة والإعراض عن خير العمل, وأزكاه عند الرب, وأرفعه في الدرجات وخير من إنفاق الذهب والفضة, بل وخير من الجهاد في سبيل الله, إنها الخسارة العظيمة, والغبن والهزيمة يوم يَحرم المرء نفسه هذا الفضل العظيم.
أخرج الترمذي والحاكم وصححه, ووافقه الذهبي عن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله, إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به قال: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله)) [2].
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: "الذكر للقلب مثل الماء للسمك, فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء".
وللذكر فوائد عظيمة, يضيق المقام عن إحصائها, بل يعجز العقل عن إدراكها, ولكن حسبنا شيئًا من ثماره, وفوائده كما عدّها ابن القيم في الوابل الصيب:
منها: أنه يورث الذاكر القرب من الله, فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قربه منه.(/1)
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي, وأنا معه حين يذكرني, إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم, وإن تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا, وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا, وإن أتاني يمشي أتيته هروله)) [3].
ومنها: أنه يورثه حياة القلب وهو قوته, فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته.
روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر به مثل الحي والميت)) [4].
ومن فوائده أنه مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله تعالى العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)) [5].
ومنها: أن دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده, قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإنه له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى .
ومنها: أنه لما كان الذكر متيسرًا للعبد في جميع الأوقات والأحوال, فإن الذاكر وهو مستلقٍ على فراشه يسبق في الفضل والخير القائم الغافل.
روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وهو على كل شيء قدير, وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر, ولا حول ولا قوة إلا بالله, ثم قال: "رب اغفر لي" أو قال: "ثم دعا استجيب له, فإن عزم فتوضأ, ثم صلى قبلت صلاته)) [6].
ومنها: أن الله يباهي بالذاكرين ملائكته.
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد, فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم, وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله أقل عنه حديثًا مني, وإن رسول الله خرج على حلقة من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله, ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذاك)) قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك, قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم, ولكنه أتاني جبريل, فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة)) [7].
ومنها: أنه سبب تنزيل السكينة, وغشيان الرحمة, وحفوف الملائكة بحلقات الذكر, ومجالس الذكر مجالس الملائكة, ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين, فليتخير العبد أعجبهما إليه وأولاهما به, فهو مع أهله في الدنيا والآخرة.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي عليه السلام أنه قال: ((لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة, وغشيتهم الرحمة, ونزلت عليهم السكينة, وذكرهم الله فيمن عنده)) [8].
ومنها: أنه يورثه المراقبة حتى يدخله باب الإحسان, فيعبد الله كأنه يراه, ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان, كما لا سبيل للقاعد في الوصول إلى البيت.
ومنها: أنه يورثه الهيبة لربه عز وجل وإجلاله لشدة استيلائه على قلبه, وحضوره مع الله تعالى بخلاف الغافل, فإن حجاب الهيبة رقيق في قلبه.
والواقع يشهد من خلال تجرأ العباد على معصية الله, بل والمجاهرة بها على رؤوس الأشهاد.
ومنها: أن الذاكرون هم السابقون يوم القيامة.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله يسير في طريق مكة, فمر على جبل يقال له جمدان فقال: ((سيروا, هذا جمدان, سبق المفردون)) قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات)) [9].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الجبل لينادي الجبل باسمه, يا فلان هل مربك أحدٌ ذكر الله عز وجل, فإذا قال نعم: استبشر).
ومنها: أنه يحط الخطايا ويذهبها.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب, وكتبت له مائة حسنة, ومحيت عنه مائة سيئة, وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي, ولم يأتِ أحدٌ أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك, ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه, ولو كانت مثل زبد البحر)) [10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين نبينا محمد, صلى الله وسلم عليه وآله وصحبه أجمعين.
[1] رواه الترمذي ح (3377)، وابن ماجه ح (3790)، الموطأ ح (490) وأحمد ح (22195).
[2] رواه الترمذي ح (3375) وابن ماجه ح (3793) وأحمد ح (17227).(/2)
[3] رواه البخاري ح (7405)، ومسلم ح (2675).
[4] رواه البخاري ح 6407)، ومسلم ح (779).
[5] رواه البخاري ح (660)، ومسلم ح (1031).
[6] رواه البخاري ح (1154).
[7] رواه مسلم ح (2701).
[8] رواه مسلم ح (2700).
[9] رواه مسلم ح (2676).
[10] رواه مسلم ح (2691).
الخطبة الثانية
ومن فوائد الذكر أنه سدٌ بين العبد وبين جهنم ـ والعياذ بالله ـ, فإذا كان ذكرًا دائمًا محكمًا, كان سدًا محكمًا لا منفذ فيه, وإلا فبحسبه, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((خذوا جنتكم)) أي ما تستترون به وتتقون به, قالوا: يا رسول الله, أمن عدو حاضر؟ قال: ((لا, ولكن جنتكم من النار, قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر, فإنهن يأتين يوم القيامة معقبات مجنبات, وهنَّ الباقيات الصالحات)) [1].
ومنها: أنه يزيل الهم والغم عن القلب ويجلب له الفرح والسرور والبسط.
قال تعالى: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [الرعد: 28].
ومن فوائده أنه ينبه القلب من نومه, ويوقظه من سنته.
قال تعالى: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا [الكهف: 24].
ومنها: أنه غراس الجنة.
أخرج الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد, أقرئ أمتك مني السلام, وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة, عذبة الماء, وأنها قيعان, وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)) [2].
ولقد عدَّ ابن القيم أكثر من سبعين فائدة للذكر في كتابه "الوابل الصيب من الكلم الطيب", فهي حقيقة بإطلاعك.
ويكفي من فوائده أنه يورث ذكر الله تعالى للذاكر.
قال تعالى: فاذكروني أذكركم [البقرة: 152] قال ابن القيم: "ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفًا".
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب [النور: 36 ـ 38].
واسمع يا رعاك الله إلى هذا الحديث العظيم, روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الفقراء إلى النبي فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم, يصلون كما نصلي, ويصومون كما نصوم, ولهم فضلٌ من أموالٍ يحجون بها ويعتمرون, ويجاهدون ويتصدقون قال: ((ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم, وكنتم خَيْرَ مَنْ أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله, تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين)) [3].
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "لكل شيء جلاء, وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل".
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "ما عَمِل العبد عملاً أنجى له من عذاب الله, من ذكر الله".
وإن حكم الله بيّنٌ واضح في الغافلين الساهين ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون [الزخرف: 36 ـ 37] ومن أعرض عن ذكري فإنه له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [طه: 124 ـ 126].
فكم من لسان ناطق يحسن الحديث في كل شيء إلا في ذكر الله وما ولاه, وكم من قلوب تنبض بالحياة وهو خاوية على عروشها, قد علاها غبار الغفلة, وعشعشت في زواياها عناكب الران والقسوة, وكم من أجساد تدب على الأرض وهي إلى الموات أقرب, تتقرب إلى كل أحد, وتبتعد عن ربها وخالقها, تذكر كل مخلوق وتنسى الخالق سبحانه, تخطب ود العباد, وهي تسعى جهدها في إسخاط رب العباد.
الكون من حوله يسبح, الطير في الهواء, والحوت في الماء, النملة في جحرها, الدواب والشجر, الجبال والحجر, الهواء والماء, الأرض والسماء وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم , ويبقى هو أسير الغفلة والهوى, صريعَ الجهل والنسيان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون [النور: 41].
[1] رواه الحاكم ح (1985) ووافقه الذهبي على تصحيحه، ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة.
[2] رواه الترمذي ح (3462).
[3] رواه البخاري ح (843)، ومسلم ح (595).(/3)
... ...
الذكر ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- معاني الذكر. 2- الكون يسبح الله. 3- المحبة بين الله وخلقه. 4- فضائل الذكر. 5- مواطن الذكر. 6- موقف العبد من الذكر. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
يقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [الأحزاب:42]. وفضائل الذكر كثيرة.
فما الذكر؟، وما فضائله؟، وما مواطن ذكر العبد لربه؟، وما موقف المسلم منه؟
أما الذكر: فللذكر معنيان:
أ- عام: كل ما يتقرب به العبد لربه فهو ذكر لله عز وجل، فجوارح العبد لم تتحرك للطاعة إلا وذكر الله تعالى قد ساقها.
ب- خاص: هو ما يجري على اللسان والقلب من تسبيح وتنزيه وحمد وثناء على الله عز وجل.
وينبغي أن تعلم :
1- أن الوجود كله ذاكر لله مسبح له، قال تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [الإسراء:44].
أ- الجماد: قول النبي : ((هذا جمدان (اسم جبل) سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرت))([1]).
ب- الحيوان: قول النبي : ((فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله منه))([2]).
ج- الطير: قال تعالى: ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير [سبأ:10]. أوّبي: أي سبحي، والتأويب الترجيع فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها.
2-أن الصلة بين الله وأوليائه صلة ود ومحبة: قال تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا [مريم:96] وقال تعالى: والذين آمنوا أشد حبا لله [البقرة:165].
وقال تعالى: يحبهم ويحبونه [المائدة:54].
والمحب الصادق في حبه لا يحتاج إلى من يذكره بحبيبه وإلا فهي دعوى تحتاج إلى دليل ودليلها هو الذكر الدائم الممزوج بالفرح واللذة التي لا يعلمها إلا من ذاقها. يقول أحد السلف: لو يعلم أبناء الملوك ما نحن فيه من لذة لقاتلونا عليها.
وكيف لا يذكر العبد ربه وهو سبحانه:
مصدر كل نعمة: قال تعالى: وما بكم من نعمة فمن الله [النحل:53].
وقال تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [إبراهيم:34].
والقلب إنما ينخلع إلى الله وحده عند المصيبة: قال تعالى: ثم إذا مسّكم الضر فإليه تجئرون [النحل:53].
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من خزائن ملكه في قول كن يا من إليه المشتكى والمفزع
وأما فضائل الذكر: فإن للذكر فضائل كثيرة منها :
لا طمأنينة للقلب إلا به، قال تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب [الرعد:28].
يستدرك العبد بالذكر تقصيره للحديث: ((أن رجلا قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبروني بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطبا بذكر الله))([3]).
3- مطردة للشيطان ووساوسه: للحديث: ((إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس، وإن نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس))([4]).
4- مغفرة للذنوب: فعن أنس : ((أن رسول الله أخذ غصنا فنفضه فلم ينتفض ثم نفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فانتفض، فقال رسول الله : إن سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها))([5]).
5- غراس وبناء: عن ابن مسعود ، قال: قال رسول الله : ((لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسرى بي، فقال يا محمد: أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان (أي مستوية منبسطة) وأن غراسها سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر))([6]).
6- الحصن الحصين من الآفات والأمراض والشرور: للحديث: ((من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، لم يصبه ذلك البلاء))([7]).
7- معية الله ورحمته وتوفيقه لذاكره سبحانه: للحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي وأن معه إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم))([8]).
8- سبب للنجاة من عذاب الله: للحديث: ((ما عمل آدمي قط أنجى له من عذاب الله من ذكر عز وجل))([9]).
وأما مواطن ذكر العبد لربه: فالأصل أن ذكر الله عز وجل في كل حين يكون للحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله يذكر الله عز وجل على كل أحيانه))([10]) والذي نريد أن نؤكد جانب الذكر فيه، هي المواطن العملية التي تغفل فيها القلوب، ومن هذه المواطن:
1- عند النعمة: قال تعالى: وبنعمة الله هم يكفرون [النحل:72]. قال ابن كثير: أي يسترونها ويضيفونها إلى غير الله تعالى.
كحال قارون عندما نسب النعمة إليه، قال تعالى عنه إنما أوتيته على علم عندي [القصص:78]. فكانت عاقبته: فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [القصص:81].(/1)
ثم تأمل موقف نبي الله سليمان عليه السلام وقد رأى عظيم فضل الله عليه وما سخره له، قال تعالى: فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر [النمل:40].
وذكر العبد لربه عند النعمة يكون بألا يرد سائلا ولا ينهر يتيما، قال تعالى: فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث [الضحى:8-11].
2- وعند القوة: فلا تتعاظم في نفسك وأنت الضعيف أولك نطفة قذرة وآخرك جيفة مذرة، وأنت ما بينهما تحمل العذرة.
تذكر قدرة الله عليك إذا دعتك نفسك إلى الظلم فذكر الله تعالى تثاب عليه وتأمل في موقف رسول الله يوم فتح مكة وكلمة من رسول الله تطيح برؤوس الذين آذوه وقتلوا أصحابه وصدوا عن سبيل الله سنين طوال ولم يتركوا وسيلة أو أسلوبا إلا واستخدموه، ((وقف المصطفى ونادى في أهل مكة: ما تظنون أني فاعل بكم، قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فأنتم الطلقاء))([11]).
ورأى النبي أبا مسعود وهو يضرب غلاما له، فقال: ((يا أبا مسعود اتق من هو أقدر عليك منك عليه، يقول أبو مسعود: فالتفت فإذا رسول الله غاضب، فقلت: هو حر لوجه الله يا رسول الله، فقال: عليه الصلاة والسلام: والله لو لم تقلها لمستك النار))([12]).
3- وعند المصيبة: فلا تنسينك أنك عبد مملوك لمالك هو الله جل جلاله وأنه سبحانه حكيم، فعليك بلزوم الأدب عند المصيبة في:
أ- عقلك: بأن تحسن الظن بربك: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:216].
ب- في لسانك: فلا تنطق إلا بالحمد والإقرار بأنك ملك لله سبحانه وأن المرجع إليه لا إلى سواه: الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون [البقرة:156].
ج- وفي جوارحك: فلا شق ولا لطم: ((ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية))([13]).
فلزوم العبد الأدب عند المصيبة ذكر لله عز وجل.
4- عند الشهوة: فلا تطغى شهواتك على دينك وعقلك، فلا تستطيع كبح جماح نفسك عن الحرام للحديث: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ...، - ومنهم - رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله))([14]).
فإذا ملك العبد زمام نفسه فقد ذكر ربه فهذا يوسف عليه السلام وقد اجتمعت الدواعي الكثيرة لإتيانه الفاحشة فقال: معاذ الله [يوسف:23].
5- وعند بيعك وشرائك: فلا يقودك جشعك إلى الحرام وعدم المبالاة بمشروعية كسبك أو حرمته للحديث: ((كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به))([15]).
فحذرك ألا يدخل جوفك الحرام هو ذكر لله عز وجل تثاب عليه.
وأما موقف العبد من الذكر:
فإن للذكر آدابا ينبغي على العبد أن يلتزم بها عند الذكر ومن ذلك:
انتهاء الجوارح عن الفواحش: ذلك لأن المقصود من الذكر تزكية الأنفس وتطهير القلوب وإيقاظ الضمائر قال تعالى: وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر [العنكبوت:45].
وسأل مكحول ابن عمر عن قوله تعالى: فاذكروني أذكركم [البقرة:152]. فكيف بالزاني والفاسق إذا ذكر ربه؟ فقال ابن عمر : إن الزاني والفاسق إذا ذكر ربه ذكره الله بلعنته حتى يسكت.
وعائشة رضي الله عنها تقول: (رب قاري للقرآن والقرآن يلعنه) فإذا ذكر آية فيها اللعنة على الكافرين أو الظالمين أو الكاذبين وهو كذلك فقد لعن نفسه.
الخشوع والتأديب: قال تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [الأنفال:2]. حيث يستشعر عظمة رب العزة والجلال الذي بيده ملكوت كل شيء، والذي يقول للشيء كن فيكون، خالق الخلق أجمعين، يستشعر تقصيره وتفريطه وغفلته وذنوبه وهو العبد الحقير للحديث: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... - ومنهم- ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه بالدموع))([16]).
انخفاض الصوت مخافة وطعما: قال تعالى: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين [الأعراف:205].
حيث يستشعر العبد قرب ربه منه، وسماعه سبحانه، وعلمه فهو سبحانه: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [غافر:19].
فإنما هي مناجاة، وخفقات قلوب، ممزوجة بدموع الانكسار والندم.
لزوم المأثور فإنه أنفع وأبلغ: فأدعية وأذكار المصطفى إنما هي مفاتيح لخزائن رحمه الله، والإتيان بالمفتاح المناسب للباب المعلوم أيسر في حصول المراد.
([1])رواه مسلم .
([2])رواه أحمد .
([3])رواه الترمذي وقال حديث حسن .
([4])الحافظ أبو يعلى / تفسير ابن كثير مجلد 4 ص58 .
([5])رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح .
([6])رواه الترمذي والطبراني في الأوسط .
([7])رواه الترمذي وقال حديث حسن .
([8])رواه البخاري ومسلم .
([9])رواه أحمد .
([10])مسلم أبو داود والترمذي .
([11])تهذيب سيرة ابن هشام 292.
([12])رواه مسلم وأبو داود والترمذي .
([13])البخاري .
([14])متفق عليه .
([15])الترمذي .
([16])متفق عليه . ... ...
... ...
... ...
... ...(/2)
الذهن البشري والبحث عن الدين
نشأ الإنسان وفي ذاكرته السؤال ذو الحضور الدائم ألا وهو من خلقني ومن خلق هذا الكون ويأتيه الجواب من خلال فطرته إنه الخالق العظيم إنه الله تبارك وتعالى.
ويرتبط الدين في طبيعة الحال بالخلق حتى لتكاد أفئدة البشر تنتابها نغمات رحمانية صابةً أنفاسها على الإعجاب بما ترى العيون من عظمة الكون وشمولية مخلوقاته المميزة لصالح الخالق لكل شيء الله سبحانه وتعالى. ومع تزامن معرفة الله بالفطرة الإنسانية النقية يفكر المرء كنوع من الرد على حُسن خلقه هو التفتيش عما لله العلي القدير من إثبات للوجود ويأتيه الجواب الشافي أن الباري عز وعلا.. يُشعر الناس بخلقه من خلال لمس إبداعاته بهذه الحياة حتى صار تعاقب الأزمان في أكثر المجتمعات تخلفاً أو ابتعاداً عن الله تشعر أن لله وجود مخلد حتى قيل عن إيمان وثقة عالية بأن الله موجود في كل مكان.
إن الإنسان لم يكن بمعزل عن كونه أحد أهم المخلوقات رقياً على الأرض ولذا يلاحظ على الآباء والأمهات بقدر ما يهيئاه لطفلهما القادم من مستلزمات استقباله على أكمل وجه فإن جواب الأم على سؤال طفلها الذي لا بد وأن يثيره أمامها كيف خلقت؟! وحين يعرف الجواب: إن خالقه هو الله. الملموسة آثاره ومعجزاته في الكون الفسيح لكنه غير معروف بذاته المقدسة ومن الطبيعي جداً أن يكّون كل هذا دافعاً جامحاً في النفس للإيمان بالدين باعتباره الطريق الذي رسمه الله تبارك وتعالى لبني البشر.
وهكذا يلاحظ أن الدين يعيش حياً في الضمائر باعتباره في النهاية هو رسالة هداية للناس ولا تباين للتفسيرات الأخرى بهذا الصدد عن كون العبادة لوحدانية الله سبحانه وتعالى هي مسألة يمكن تصنيفها ضمن باب العبودية لله فقط إذ لا عبودية لغير الله سبحانه جلّت أسماؤه الحسنى.
والدين اليوم في هذا العالم المتأزم تتجه إليه القلوب وتعمل به الانتهاجات مرضاة للخالق العظيم ولذا فإن أقوى شعور راسخ في الذهن البشري هو (الدين) والمقصود هنا هو دين الإسلام فحسب.
والدين اليوم هو أقوى قوة في العالم لن تستطيع أي قوة مناوئة أن تنهيه لا بجرة قلم ولا بكلمة ميكرفون ولا برمية حجر حيث يتعمق في رحلته داخل خلجات الإنسان السوية والأمل مع إشراقة يوم جديد يزداد عند المؤمنين إلى كون العالم سائر إلى نهايته ولا يحده شيء من ذلك أكثر من الدين باعتباره المجال الوحيد الممكن أن يبقى في صعود دائم داخل كل نفس بشرية لأن الذي يقف وراء حماية هذا الدين العظيم هو الله سبحانه ذو الاسم الأعظم.
وقصة الدين في الذهن البشرية هي قصة حكاية الإنسان في كل تاريخه إذ لهذا الدين دواء لم تمحى عن الذاكرة فقد بلغ من بين الناس المميزين بالدين السماوي زهاء (124) ألف نبي وكلهم كانوا يشيرون إلى كونهم مسلمين(/1)
الذين هم في صلاتهم خاشعون(الخشوع في الصلاة)
20
الصلاة, خصال الإيمان
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
تفاضل العبادات بتفاضل ما في القلوب من الإيمان ولوازمه – أولى صفات المؤمنين الخشوع في الصلاة – التحذير من التقصير في شأن الصلاة والإخلال بحقها – تعريف الخشوع وبيان لوازمه , وتفاوت مراتبه – أثر الخشوع في الصلاة في راحة النفس – الخشوع المذموم - الأمور المعينة على الخشوع
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعبدوه حق عبادته، وأخلصوا له، تقربوا إليه خوفاً وطمعاً.
أيها المسلمون، العبادات والقربات تتفاضل عند الله بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة والخشية والخشوع والإنابة.
والعابد حقاً والمتقرب لربه صدقاً، هو الذي تحقق في قلبه صدق الإمتثال للأوامر على وجهها، وابتعد عن المخالفات بجميع وجوهها، يجمع بين الإخلاص والحب والخوف وحسن الطاعة.
ومن أجل تبين هذا التفاضل وإدراك هذا التمايز، هذه وقفة مع أعظم فرائض الإسلام بعد الشهادتين؛ مع الصلاة عماد الدين.
صفات المؤمنين المفلحين مبدوءة بها، واستحقاقية ميراث الفردوس مختتمة بالمحافظة عليها: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزكاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:1-11]. وفي استعراض آخر من كتاب الله للمكرمين من أهل الجنة تأتي المداومة على الصلاة في أول الصفات، وتأتي المحافظة عليها في خاتمتها إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ [المعارج:19-35].
أيها الإخوة، إنه ثناء على هؤلاء المصلين ما بعده ثناء، وإغراء ما بعده إغراء، لكن هذه الصلاة التي أقاموها صلاة خاصة، ذات صفات خاصة، صلاة تامة كاملة، صلاة خاشعة في هيئة دائمة، ومحافظة شاملة.
إنها صفات وعناصر إذا حصل خللٌ فيها أو نقصٌ؛ فقد حصل في صلاة العبد نقصٌ بقدر ذلك القصور، بل قد يتحول الوعد إلى وعيد، وينقلب رجاء الثواب إلى عرضة للعقاب، اقرءوا إن شئتم: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]. واقرءوا في صفات المنافقين: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]. ... وَلاَ يَأْتُونَ الصلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى.. [التوبة:54].
أيها الإخوة: إن روح الصلاة ولبها هو الخشوع وحضور القلب، حتى قال بعض أهل العلم: صلاة بلا خشوع ولا حضور جثة هامدة بلا روح.
إن الخشوع ـ أيها الأحبة ـ حالة في القلب تنبع من أعماقه مهابةً لله وتوقيراً، وتواضعاً في النفس وتذللاً. لينٌ في القلب، ورقة تورث انكساراً وحرقة.
وإذا خشع القلب خشع السمع والبصر، والوجه والجبين، وسائر الأعضاء والحواس. إذا سكن القلب وخشع، خشعت الجوارح والحركات، حتى الصوت والكلام: وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً [طه:108].
وقد كان من ذكر النبي في ركوعه: ((خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي وعصبي)) [1]، وفي رواية لأحمد: ((وما استقلَّت به قدمي لله رب العالمين))[2].
وحينما رأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة قال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
ويبين علي رضي الله عنه خشوع الصلاة فيقول: هو خشوع القلب، ولا تلتفت في صلاتك، وتلين كنفك للمرء المسلم. يعني: حتى وأنت تسوي الصفوف مع إخوانك، ينبغي أن يعلوَك الخشوع.
ويصف الحسن رحمه الله حال السلف بقوله: كان الخشوع في قلوبهم، فغضوا له البصر في الصلاة.
عباد الله، إن القلب إذا خشع، سكنت خواطره، وترفعت عن الإرادات الدنيئة همته، وتجرد عن اتباع الهوى مسلكه، ينكسر ويخضع لله، ويزول ما فيه من التعاظم والترفع والتعالي والتكبر.
الخشوع سكون واستكانة، وعزوف عن التوجه إلى العصيان والمخالفة. والخاشعون والخاشعات هم الذين ذللوا أنفسهم، وكسروا حدتها، وعودوها أن تطمئنَّ إلى أمر الله وذكره، وتطلب حسن العاقبة، ووعد الآخرة، ولا تغتر بما تزينه الشهوات الحاضرة، والملذات العابرة.(/1)
إذا خشع قلب المصلي استشعر الوقوف بين يدي خالقه، وعظمت عنده مناجاته، فمن قدَرَ الأمر حق قدره، واستقرَّ في جنانه عظمة الله وجلاله، وامتلأ بالخوف قلبه، خشع في صلاته، وأقبل عليها، ولم يشتغل بسواها، وسكنت جوارحه فيها، واستحق المديح القرآني قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1،2].
رُوي عن مجاهد – رحمه الله – في قوله تعالى: وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]. قال: القنوت: الركون والخشوع، وغض البصر، وخفض الجناح. قال: وكان العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن عزَّ وجلَّ عن أن يشد نظره، أو يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا ما دام في الصلاة.
بالخشوع الحق، يكون المصلون مخبتين لربهم، منكسرين لعظمته خاضعين لكبريائه، خاشعين لجلاله: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ [الأنبياء:90].
ولتعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الخشوع يتفاوت في القلوب بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، وبحسب مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع. وبمقدار هذا التفاوت يكون تفاضل الناس، في القبول والثواب، وفي رفع الدرجات، وحط السيئات. عن عبد الله الصنابحي – رضي الله عنه – قال: أشهد أني سمعت رسول الله يقول: ((خمس صلوات افترضهن الله تعالى، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن؛ كان له على الله عهدٌ أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه))[3].
وفي خبر آخر عنه أخرجه مسلم وغيره قال: ((ما من امرئٍ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فأحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله))[4].
وعن عثمان رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((... من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه بشيء؛ غفر له ما تقدم من ذنبه))[5].
الصلاة الخاشعة هي الراحة الدائمة للنفوس المطمئنة الواثقة بوعد ربها المؤمنة بلقائه.
أين هذا من نفوس استحوذ عليها الهوى والشيطان؟! فلا ترى من صلاتها إلا أجساداً تهوي إلى الأرض خفضاً ورفعاً. أما قلوبها فخاوية، وأرواحها فبالدنيا متعلقة، ونفوسها بالأموال والأهلين مشغولة.
لما سمع بعض السلف قوله تعالى: لاَ تَقْرَبُواْ الصلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ [النساء:43]. قال: كم من مصل لم يشرب خمراً.. هو في صلاته لا يعلم ما يقول، وقد أسكرته الدنيا بهمومها.
أيها الإخوة، وهناك نوع من الخشوع حذر منه السلف، وأنذروا وسموه: خشوع النفاق. فقالوا: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قالوا: أن ترى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع. ولقد نظر عمر رضي الله عنه إلى شاب قد نكس رأسه فقال له: يا هذا، ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر خشوعاً على ما في قلبه فإنما هو نفاق على نفاق.
وقال الحسن: إن أقواماً جعلوا التواضع في لباسهم، والكبر في قلوبهم، ولبسوا مداعج الصوف ـ أي: الصوف الأسود ـ واللهِ لأَحدُهم أشدُّ كبراً بمدرعته من صاحب السرير بسريره، وصاحب الديباج في ديباجه.
فاتقوا الله – رحمكم الله- واحفظوا صلاتكم، وحافظوا عليها، واستعيذوا بالله من قلب لا يخشع، فقد كان من دعاء نبيكم محمد : ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها))[6].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45، 46].
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل... حديث (771).
[2] إسناده صحيح على شرط الشيخين، مسند أحمد (1/119)، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة كتاب الصلاة – باب الدليل على ضد قول من زعم أن المصلي إذا دعى... حديث (607)، وابن حبان: كتاب الصلاة – باب صفة الصلاة – ذكر الإباحة للمرء أن يفوض الأشياء كلها... (1901).
[3] صحيح، أخرجه أحمد (5/317)، وأبو داود: كتاب الصلاة – باب في المحافظة على وقت الصلوات، حديث (425)، وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها – باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس... حديث (1401). وصححه ابن حبان: كتاب الصلاة – باب فضل الصلوات الخمس – ذكر البيان بأن الحق... حديث (1732)، وحسن إسناده الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (8/32)، وصححه الألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم رقم (967).
[4] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الطهارة - باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، حديث (228).
[5] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الوضوء – باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، حديث (160). ومسلم: كتاب الطهارة – باب صفة الوضوء وكماله، حديث (226).(/2)
[6] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء... باب التعوّذ من شر ما عمل... حديث (2722).
الخطبة الثانية
الحمد لله المتفرد بالعظمة والجلال، المتفضل على خلقه بجزيل النوال. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وهو الكبير المتعال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى الحق، والمنقذ بإذن ربه من الضلال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآلٍ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد:
أيها المسلمون، يذكر أهل العلم وجوهاً عدة، يتبين فيها حضور القلب، ويتحقق فيها حال الخشوع، وحقيقة التعبد.
من هذه الوجوه: الإجتهاد في تفريغ القلب للعبادة، والإنصراف عما سواها، ويقوى ذلك ويضعف بحسب قوة الإيمان بالله واليوم الآخر، والوعد والوعيد. ومنها: التفهم والتدبر لما تشتمل عليه الصلاة من قراءة وذكر ومناجاة؛ لأن حضور القلب والتخشع والسكون من غير فهم للمعاني لا يحقق المقصود.
ومنها: الإجتهاد بدفع الخواطر النفسية، والبعد عن الصوارف الشاغلة. وهذه الصوارف والشواغل عند أهل العلم نوعان: صوارف ظاهرة وهي ما يشغل السمع والبصر، وهذه تعالَج باقتراب المصلي من سترته وقبلته ونظره إلى موضع سجوده، والابتعاد عن المواقع المزخرفة والمنقوشة، والنبي لما صلى في خميصة[1] لها أعلام وخطوط نزعها وقال: ((إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي)) متفق عليه من حديث عائشة[2].
والنوع الثاني: صوراف باطنة من تشعب الفكر في هموم الدنيا وانشغال الذهن بأودية الحياة، ومعالجة ذلك بشدة والتفكر والتدبر لما يَقرأ ويَذكر ويُناجي. ومما يعين على حضور القلب، وصدق التخشع؛ تعظيم المولى جل وعلا في القلب، وهيبته في النفس، ولا يكون ذلك إلا بالمعرفة الحقة بالله عزَّ شأنه، ومعرفة حقارة النفس وقلة حيلتها، وحينئذٍ تتولد الاستكانة والخشوع والذل والإنابة.
أمرٌ آخر – أيها الإخوة – يحسن التنبيه إليه، وهو دال على نوع من الإنصراف والتشاغل، مع ما جاء من عظم الوعيد عليه، وخطر التهاون فيه، ذلكم هو مسابقة الإمام في الصلاة، فما جعل الإمام إلا ليؤتم به، فلا تتقدموا عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)) متفق عليه من حديث أبي هريرة[3]. وفي رواية: ((أو صورة كلب))[4]. وانظروا إلى حال الصحابة رضوان الله عليهم مع نبيهم وإمامهم محمد ، يقول البراء بن عازب: كان خلف النبي فكان إذا انحط من قيامه للسجود، لا يحني أحد منا ظهره حتى يضع رسول الله جبهته على الأرض ويكبر، وكان يستوي قائماً وهم لا يزالون سجوداً بعد. ورأى ابن مسعود – رضي الله عنه – رجلاً يسابق إمامه فقال له: لا وحدك صليت، ولا أنت بإمامك اقتديت.
فاتقوا الله – رحمكم الله - وأحسنوا صلاتكم، وأتموا ركوعها وسجودها، وحافظوا على أذكارها، وحسن المناجاة فيها، رزقنا الله وإياكم الفقه في الدين وحسن العمل.
[1] الخميصة: كساء مربع له علمان، انظر فتح الباري (1/576).
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الصلاة – باب إذا صلى في ثوب له أعلام... حديث (373)، صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام، حديث (556).
[3] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأذان – باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام، حديث (691)، صحيح مسلم: كتاب الصلاة – تحريم سبق الإمام بركوع... حديث (427).
[4] إسناده حسن، أخرجه ابن أبي شيبة: كتاب صلاة التطوع والإمامة – باب من قال: ائتم بالإمام (2/225)، والطبراني في الكبير (9173)، وابن حبان: كتاب الصلاة – باب ما يُكره للمصلي وما لا يُكره – ذكر الزجر عن استعمال هذا الفعل الذي ذكرناه حذر أن يحول رأسه رأس كلب، حديث (2283). قال الهيثمي: رواه الطبراني فيالكبير بأسانيد منها إسناد رجاله ثقات. مجمع الزوائد (2/79).(/3)
الرجل الصفر
فضيلة الشيخ إبراهيم لدويّش
بسم الله الرحمن الرحيم
الأصل أن يكون عنوان هذا اللقاء الخائفون كما هو معلن، ونظرا لعدم اكتمال الموضوع ولبعض الظروف فإن هذا الموضوع سيكون بمشيئة الله بعنوان آخر وهو " الرجل الصفر ".
وأعني بالرجل الصفر ذلك الرجل الذي يتصفُ بالسلبية ودنو الهمة، ذلك الداء الخطير الذي أصاب الكثير من المسلمين وخاصة الشباب والفتيات، و كم أن هناك رجلا صفر، أيضا هناك امرأة صفر.
وكل ما قيل في هذا الموضوع يشمل الرجال والنساء معاً، إلا في ما يختص به الرجال من مجال، ولذلك على النساء أن ينتبهن وأن يتابعن مثل هذا الموضوع فإنها تشارك الرجل في كل كلمة تقال فيه.
إنك إن بحثت عن شبابنا كأمة إسلامية وجدتهم وللأسف على الأرصفة وفي الاستراحات وفي الصيد والرحلات وعلى المدرجات الرياضية وخلف الشاشات، أقول حتى الصالحين أيضا أو بعض الصالحين هم كذلك وللأسف، ابتلوا بمثل هذه الأمور، فبدل أن يكونوا مشاعل هداية ودلال خير فإذا بالتيار يجرفهم ويزعزع التزامهم وصلاحهم:
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ……فإن أُطعمت تاقت وإلا تسلتي
وكانت على الآمال نفسي عزيزة ……. فلما رأت عزمي على الترك ولتي
وإذا بحثت عن فتياتنا ومهج قلوبنا فإذا بهن في الأسواق خلف الخرق والأقمشة، أو خلف سماعات الهاتف يمزقن الفضيلة، أو مع مجلات وروايات تنشر الرذيلة، أو أمام الشاشات والأفلام حتى أصبحن بلا هوية وبلا هدف وبلا مبدأ ولا عزيمة ولا همة، شهوات في شهوات، ولذات في لذات وآهات وزفرات وحسرات -إلا ماء الله من النخبة القليلة-.
وإني لأعجب أيها الأخوة، ألم يمل أولئك هذه الحياة؟ ألم يسألوا أنفسهم هب أننا حصلنا على كل ما نريد، ثم ماذا؟ ألم يسألوا أنفسهم هذا السؤال؟ ثم ماذا في النهاية؟ الموت والحساب والعذاب والقبر والصراط والنار.
إذا غمرت في شرفٍ مروم ……. فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير …….. كطعم الموت في أمر عظيم
إن الموت نهاية الجميع، لكن شتان بين من مات في أمر حقير، وبين من مات في أمر عظيم، شتان بين من يموت وهو على طاعة الله، وبين من يموت وهو على معصية الله، شتان بين من يموت وهو يحمل هم الإسلام ويحترق قلبه لصلاح المسلمين، وبين من يموت وهو يحمل هم شهوات الدنيا وملذاتها.
ألم يأن لشبابنا ولفتياتنا أن يعلموا حقيقة الحياة، والغاية التي من أجلها خلقوا؟
ألم يأن للران أن ينقشع عن القلوب، قبل أن يجمدها هادم اللذات؟
أعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها، اللهم أحيي قلوب المسلمين، اللهم أحيي قلوب شبابنا وفتياتنا، اللهم أحيي قلوب الشباب الصالحين، اللهم ردها إليك ردا جميلا، الهم أنفعها وأنفع بها يا حي يا قيوم.
أيعقل أن يصل الأمر بمسلم أو بمسلمة يحمل في قلبه لا إله ألا الله أن يصل بهم الأمر إلى هذا الحد من الغفلة والضياع والحيرة والتردد؟
أيها الأخ الحبيب أيتها الأخت الغالية، إن للا إله إلا الله نورا في القلب فهل انطفاء هذا النور؟
أسمع لكلام أبن القيم الجميل يوم أن قال ( أعلم أن أشعة لا إله الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور ويتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وأخر كالسراج الضعيف، ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علما وعملا ومعرفة وحالا، وكلما عظم نور هذه الكلمة وأشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبة ولا شهوة ولا ذنبا إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده، الذي لم يشك بالله شيئا، فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سُرق منه، استنقذه من سارقه أو حصل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبدا مع لصوص الجن ولإنس ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
فأقول إلى كل من أبتلي بهذا الداء أو بشيء منه، أقصد السلبية ودنو الهمة، إلا
كل من ابتلي بهذا الداء أو بشيء منه أهدي هذه الكلمات وهذه التوجيهات، سائلا المولى عز وجل أن ينفع بها الجميع، وأن يجعلها خالصة لوجهه، مع علمي أن الهمم والعزائم تتفاوت فلا نريد من أحد إلا ما يقدر عليه ويستطيع، لك على شرط أن يعلم أن بيده الكثير وأنه قادر على خير وفير متى ما علم أنه يحمل لا إله إلا الله في قلبه، وأنه على المبدأ الحق وأن الله معه يحفظه ويرعاه وأن الجنة موعده إن توفاه، فإن عاش عاشَ عزيزا وإن مات ماتَ شهيدا، عندها أقول:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم…….وتأتي على قدر الكرام المكارم(/1)
وتعظم في عين الصغير صغارها …… وتصغر في عين العظيم العظائم
ولقد جعلت لهذا الداء مظاهرا وأسبابا وعلاجا على اختصار شديد وتقصير أكيد، فما هو إلا وجهة نظر واجتهاد بشر يعتريه الصواب والخطاء.
أسأل الله عز وجل أن يغفر لي الخطاء وأن يلهمني الصواب، فما أردت إلا الإصلاح وما توفيقي إلا بالله.
ومن أهم مظاهر السلبية ودنو الهمة،
من أهم صفات ذلك الرجل الصفر أو المرأة الصفر
- الخمول والكسل:
الرجل الصفر أو المرأة الصفر لا يكلف نفسه القيام بشيء، حتى في مصالحه الشخصية بل ربما في ضروريات حياته كالدراسة أو لوظيفة أو حتى بيته وطلباته، فماذا نقول إذا مع حاله مع العبادات والطاعات من قيام ليل وصلاة وتر ومن السنن الرواتب ومن صيام النفل وقراءة القرآن وغيرها من العبادات والنوافل، بل أنظر لحاله مع الفرائض والتثاقل فيها حتى أصبحت حاله شبيهة بحال المنافقين الذين قال الله عنهم ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا )، ولا يأتون الصلاة إلا كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون، فكيف بقضايا المسلمين؟ كيف حاله مع قضايا المسلمين والاهتمام بها؟ وكيف يحمل هم هذا الدين والدعوة إلى الله عز وجل؟
( اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، ومن الجبن والبخل ) هكذا كان صلى الله عليه وسلم يردد هذا الدعاء علاجا لهذه الظاهرة.
- الرضاء بالدون مع القدرة على ما هو أحسن:
مظهر ثاني من مظاهر الرجل الصفر، قال ابن الجوزي في صيد الخاطر ( من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دنئ)
ولم أرى في عيوب الناس عيبا ……. كنقص القادرين على التمام.
والله أيها الأحبة أني على ثقة أن في شبابنا وفتياتنا ورجالنا ونسائنا خيرا كثير، وأن في وسعهم وطاقاتهم الكثير الكثير، ولكن السلبية تلك الداء العضال -أعاذنا الله وإياكم منه-، إن الله يربي المؤمنين على التطلع إلى أعلا المقامات، فيقول سبحانه على لسانهم ( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) انظر (واجعلنا للمتقين إماما) لم يقل سبحانه واجعلنا من المتقين ولكنها تربية على الهمة العالية والعزيمة الصادقة (واجعلنا للمتقين إماما) إن الله عز وجل يريد منك أيها الأخ الحبيب، ويريد منك أيتها المسلمة أن تكون ذا همة عالية، لا أن تكون من المتقين فقط، بل أن تكون إماما للمتقين، وأن تكوني إمامة للمتقيات.
هكذا يريد الله عز وجل أن يربي هذه النفوس، وأسمع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول ( إذا سألتم الله الجنة فأسلوه الفردوس الأعلى) لماذا هذا الأمر؟ لأن المسلم صاحب مبدأ، وهو على الحق فإن عاش عاشَ عزيزا، وإن مات ماتَ شهيدا، والله معه مؤيدا وحافظا، والجنة مستقره وموعده.
إذا فهو يملك جميع المقومات لأن يكون سيدا على وجه هذه الأرض، لأن يكون إماما للمتقين، فما الذي يردك أيها الأخ الحبيب؟ ما الذي يردك وأنت على عزة حيا كنت أو ميت؟ هكذا يربي الله ، وهكذا يربي محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته أن يسألوا الله الفردوس الأعلى.
إن أقصى همة أحدنا إذا ذكرت الجنة أن يسأل الله الجنة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يربي فينا التطلع إلى أعلا المقامات، وعدم الرضاء بالأمور الدنية، ولذلك ( إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى ).
- التقيد بروتين الحياة وعدم التطلع للجديد:
من مظاهر الرجل الصفر التقيد بروتين الحياة وعدم التطلع للجديد، اعتاد بعض المسلمين على نمط معين من الحياة درج عليه فتثقل عليه المشاركة، ويصعب عليه العمل وكلما حدث بأمر جاء الرد من سلبا، حتى أصبح المسكين لا قيمة له ولا ينظر إليه، ولا يسمع لكلمته، ربما مع سعة علمه وعلو مركزه.
رضي بالدون ورضي برتابة الحياة حتى ملها هو بنفسه، وأصبح يعيش في هامش الحياة لا معنى له. فكيف تريد من الآخرين أن يحترموك أو يستجيبوا لك أو حتى يسمعوا كلمتك مع ما أوتيت من علم ومع ما أوتيت من مركز مرموق، فإن الناس ينظرون إلى علو همتك، وينظرون إلى صدق كلمتك وينظرون إلى عملك يا أيها الأخ الحبيب.
إن بعض الناس إذا مات لا يبكيه أهله ومدينته فقط، بل تبكيه الأمة بكاملها، لأن الأمة فقدته، لم يفقده أهله لوحدهم، ولم تفقده مدينته لوحدها، بل فقدته الأمة بكاملها، كل الأمة تبكي عليه، من أجل أي شيء هذا؟ لأن الرجل، كان رجلا ممتازا كان رجلا معطاء كان رجلا عاملا نشيطا.
وبعض الناس إذا مات بكاه أهله أياما، وربما قالوا في قرارة أنفسهم ( الحمد لله الذي أراحنا منه ) فهو كل عليهم، بل ربما ضاقت به نفسه الذي بين جنبيه بهمومها وغمومها وقلقها ومرضها ونفسيتها، نفسه ربما ضاقت عليه. لماذا؟ لأنه لا هم له إلا في شهواته وملذاته فضاقت عليه نفسه، وضاق به أهله، وضاق به أهل مدينته. كم من رجل وكم من امرأة يتعوذ الناس من شره ومن شرها؟
لعمرك ما الرزية فقد مال …… ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد فذ……. يموت بموته خلق كثيرُ(/2)
وشتان بين هذا وذاك، فإن من الناس من همته في الثرى أي في التراب، وإن من الناس من همته في الثريا، ولذلك كان إبراهيم ابن أدهم رحمه الله يردد هذه الأبيات الجميلة، اسمع لهما أيها المحب، وأسمعي لها أيتها الغالية،
كان يقول رحمه الله:
إذا ما مات ذو علم وتقوى………فقد ثلمت من الإسلام ثلمة
وموت الحاكم العدل المولى…….بحكم الأرض منقصة ونقمة
وموت فتى كثير الجود محل……فإن بقائه خصب ونعمة
وموت العابد القوام ليل……..يناجي ربه في كل ظلمة
وموت الفارس الضرغام هدم……..تشهد له بالنصر عزمة
فحسبك خمسة يبكى عليهم……..وباقي الناس تخفيف ورحمة
وباقي الخلق همج رعاع……..وفي إيجادهم لله حكمة
أترضى أن تكون من التخفيف والرحمة؟ أترضين أيتها الأخت المسلمة الغالية أن تكوني من الهمج الرعاع؟ والله لا نرضى نحن لمسلم أن يكون تخفيف ورحمة، فضلا على أن يكون من الهمج الرعاع.
كيف يرضى مسلم عاقل أن يقتله روتين الحياة ورتابتها؟ كيف يرضى مسلم عاقل أن تذهب الأيام والليالي والشهور والسنون وهو على حاله بدون تطور ولا تقدم؟
اسأل نفسك كم عمرك، كم بلغت من العمر الآن؟ عشرون سنة، ثلاثون سنة، أربعون سنة؟ أسألك بالله هل أنت راضي عن نفسك أيها الحبيب؟ ماذا قدمت خلال هذه السنوات؟ هل أنت في تطور أم أنك مازلت على حالك، وعلى ما أنت فيه منذ سنوات طويلة؟ إن المسلم العاقل صاحب المبدأ، وصاحب اليقين لا يهدئ له بال ولا يقر له قرار حتى يقدم ما في وسعه، وحتى يتقدم، وحتى يكون غده أفضل من يومه.
أسمع لأبن الجوزي وهو يقول رحمه الله تعالى ( ولله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالغون في كل علم ويجتهدون في كل عمل، ويثابرون على كل فضيلة، فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة وهم لها سابقون، وأكمل أحوالهم إعراضهم عن أعمالهم فهم يحتقرونها مع التمام، ويعتذرون من التقصير، ومنهم من يزيد على هذا فيتشاغل بالشكر على التوفيق لذلك، ومنهم من لا يرى ما عمل أصلا لأنه يرى عمله ونفسه لسيده.
وبالعكس من المذكور عن أرباب الاجتهاد حال أهل الكسل والشره والشهوات، فلإن ارتدوا بعاجل الراحة لقد أوجبت ما يزيدوا على كل تعب من الأسف والحسرة، ومن تلمس صبر يوسف عليه السلام، وعجلة ماعز - أي في التوبة- بان له الفرق وفهم الربح من الخسران، ولقد تأملت نيل الدر من البحر فرأيته بعد معاناة الشدائد، ومن تفكر في ما ذكرته مثلا بانت له أمثال، فالموفق من إذا تلمح قصر الموسم المعمول فيه، وامتداد زمان الجزاء الذي لا آخر له، إنتهب - أي حرص - حتى اللحظة، وزاحم على كل فضيلة، فإنها إذا فاتت فلا وجه لاستدراكها، أوليس في الحديث يقال للرجل ( اقرأ و ارتق فمنزلك عند آخر آية تقرأها)، فلو أن الفكر عمل في هذا حق العمل حفظ القرآن عاجلا) انتهى كلامه.
- الاستجابة للنفس الأمارة:
من مظاهر الرجل الصفر الاستجابة للنفس الأمارة، الاستجابة لشهواتها ولذاتها بل وتمكينها قيادة العقل وتغييبه حتى لم يعد للنفس اللوامة مكانا، فمات الشعور بالذنب، ومات الشعور بالتقصير، لذلك ظن الكثير من المسلمين أنه على خير، بل ربما لم يرد على خاطره أنه مقصر، فبمجرد قيامه بأصول الدين وبمجرد محافظته على الصلوات، بل ربما والتزامه في الظاهر ظن في نفسه خيرا عظيما، راء نفسه فظن فيها خيرا كثيرا، ولكن ما كيفية هذا القي، وما حقيقة هذا الالتزام؟ وهل قبل الله منه أم لا؟ بل لماذا نسي مئات بل آلاف من الصغائر التي تجمعت عليه من الذنوب والمعاصي؟
ففي حديث سهل ابن سعد رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، إن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه) عند أحمد بسن حسن.
فأعجبتنا أنفسنا فرضينا بما نحن عليه، وأعلنا الاكتفاء وعدم المزيد فكانت النتيجة، السلبية ودنو الهمة وعدم التطلع لما هو أفضل وما هو أحسن، وربما نظر أحدنا إلى من هو دونه في العبادات فأعجبته نفسه، وتقاعس عن الكثير من أبواب الخير، وأسمع لشعر هذا " الكناس " وعزته:
قال الأصمعي ( مررت بكناس (كناس يكنس الشوارع) في البصرة ينشد:
فإياك والسكنى بأرض مذلة……تعد مسيء فيه إن كنت محسن
ونفسك أكرمها وإن ضاق مسكن…….عليك بها فاطلب لنفسك مسكن
هذا الذي يقول الكناس، يقول الأصمعي فقلت له والله لن يبقى بعد هذا مذلة، وأي مذلة بعد الكنس؟ فقال الكناس، والله لكنس آلف مرة أحسن من القيام على باب مثلك.) هكذا يجب أن تكون عزة المسلم أيا كان ذلك العمل الذي يقوم به مادام أنه يقوم به لله عز وجل.
- كثرت الجلسات والدوريات:(/3)
ومن المظاهر أيضا كثرة الجلسات والدوريات وضياع الأوقات وهذا من اخطر المظاهر التي ظهرت وانتشرت أخيرا، فإنك تبحث عن شبابنا ورجالنا وربما عن فتياتنا ونسائنا فتجدهم مساء كل يوم ربما في الاستراحات والدوريات وعلى الأرصفة وعلى الشاطئ، وليس الخطر في الاجتماعات ذاتها، بل في كثرة الكلام دون عمل يفيد الأمة، وينفع الأجيال، وكثرة الجدال والمراء، هذا إن سلمت الجلسات من الغيبة والنميمة والجرح والثلب وتنقص الآخرين، وسلمت الجلسات من وسائل اللهو المحرم، وإلا فعندها فإن الطامة أعظم.
وإنك لتتألم أشد الألم وأنت تعلم أن في تلك الجلسات أعداد هائلة من أصحاب الطاقات والمواهب والعقول والأفكار يلتقون في الأسبوع مرة واحدة على الأقل، أي في السنة ما يقرب من ثمان وأربعين لقاء، واللقاء الواحد لا يقل عن خمس ساعات، ربما تزيد أو تقل فما هي النتيجة؟ بماذا خرجوا بعد هذه الاجتماعات الطويلة؟ وماذا قدموا لأنفسهم؟ وماذا قدموا لعقيدتهم؟ وما هي حصيلة العلم التي كسبوها من هذه الجلسات؟ والموضوع يحتاج بلا شك إلى دراسة وتأمل وتوجيه مفيد لاستغلال مثل هذه الجلسات ومثل هذه الدوريات والاجتماعات؟ لكن هذه إشارة سريعة لنعلم حجم السلبية في مجتمعنا المسلم، وبالتالي حجم الخسارة لكثير من طاقاتنا ومواهبنا وعقولنا وأفكارنا، بل لأوقاتنا وأعمارنا، فقد نمى إلى علمي أن هناك شبابا لهم جلسات ودوريات في كل يوم، حتى أصبحت همه وشغله الشاغل، فلماذا هذا التنصل من الواجبات؟ ولماذا هذا الهروب من الواقع؟ أيعقل أنهم لا يعلمون أنهم مسؤولون عن هذا الواقع المرير للأمة الإسلامية؟ أيعقل أيها الأحبة أن هذه الأعداد الغفيرة التي تجلس على الأرصفة وفي المجالس وفي الدوريات وفي الاستراحات وغيرها أنهم لا يعلمون أنهم مسؤولون أمام الله عز وجل عن هذا الواقع المرير عن حال الأمة الإسلامية؟
قد يقول قائل منهم، ماذا نقدم؟ ماذا نستطيع أن نقدم؟ أقول والله إن باستطاعتك الكثير لو فكرت أنت وأصحابك أن تستغلوا هذه الجلسات أولا لنفع أنفسكم، وثانيا لأولادكم وأهليكم، ثم بعد ذلك لنفع أمتكم.
إن من فكر وجد وإن من حرص وحمل الهم عرف كيف يعمل، أما الجلوس في المجالس وعلى الأرصفة والاستراحات والكلام والقيل والقال فيما لا ينفع، فإن هذا ضياع للأعمار والأوقات والطاقات والمواهب والأفكار والعقول.
والله أن كل فرد منا عليه حجم من المسؤولية مهما كان:
لا تلم كفي إذا السيف نبأ……….صح مني العزم أبا
مرحبا بالخطب يبلوني إذا………كانت العلياء فيه السبب
- التهرب من كل عمل جدي:
مظهر سادس من مظاهر السلبية القاتلة في صورها المتعددة التهرب من كل عمل جدي، وعدم الاستعداد للالتزام بأي شيء، خداع النفس بالانشغال وهو فارغ، كم من الناس إذا كلف بأمر قال أنا مشغول، وحقيقة أمره أنه غير مشغول، أو أنه مشغول بمثل تلك الجلسات ومثل تلك اللقاءات. أو الانشغال في شهوات النفس وملذاتها، أو التسويف والتأجيل وتأخير الأعمال والغفلة والنسيان المستمر لما كلف به، والأخطر من هذا كله النقد المستمر لكل عمل إيجابي، وتضخيم الأخطاء، كل ذلك تبرير لعجزه وسلبيته القاتلة.
بعض الناس لا يعمل، ويا ليته لا يعمل فقط بل جعل نفسه راصدا لأعمال إخوانه مرة بالنقد، ومرة بالجرح ومرة بالتثبيط والتخذيل والتنصل من المشاركة والعمل، فكلما طلبناه في مكان، قال لنا مشغول، وكلما كلفناه في مشاركة قال لا أستطيع، بل كلما حدثناه بأمر كان لنا مهبطا ومخذلا.
ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه……….فمن كان أسعى كان بالمجد اجدرا
وبالهمة العلياء ترقى إلى العلا………فمن كان أعلا همة كان أظهرا
ولم يتأخر من أراد تقدما………..ولم يتقدم من أراد تأخرا
إذا فلكل شيء سبب، فإذا أردت أن تجعل نفسك في مكانها فلتتخذ ما ترضاه أنت لها.
- تعطيل العقل:
وتعطيل العقل موضوعه يطول - ولعلكم تسمعونه قريبا إن شاء الله بدرس خاص بهذا العنوان "تعطيل العقل"،
مظهر سابع من مظاهر السلبية تعطيل العقل وعدم التفكير، إن فكر كثير من المسلمين والمسلمات واستخدم عقله فإذا هو يفكر فيما يحبه ويشتهيه كالرحلات والصيد والجلسات والملذات، وكأنها الهدف الذي خُلق لها، فهبطت اهتماماته وسفلت غاياته، فلا قاضيا المسلمين تشغله، ولا مصائبهم تحزنه، ولا شؤونهم تعنيه، وإن حدث شيء من ذلك فعاطفة سرعان ما تبرد ثم تزول.
نرى كثيرا من الشباب والفتيات وكثير من المسلمين أصحاب عقول وأفكار فعطلوها حتى أصبحوا أصفارا على الشمال، فإما تقليد وإما تبعية للآخرين عمياء، وإما سكر للعقل بشهواته حتى وإن كانت مباحة، هذا كلام للجميع للرجال والنساء ملتزمين أو غير ملتزمين، فلكل حظ ونصيب من تعطيل عقله، ولعلي اقف هنا مشيرا إلى أن تحرص على أن تسمع ذلك الموضوع بعنوان "تعطيل العقل".
- عقدة المستحيل:(/4)
مظهر ثامن من مظاهر الرجل الصفر أو المرأة الصفر عقدة المستحيل ولا أستطيع ولا اقدر مظهر من مظاهر السلبية ودنو الهمة، كم من المرات نضع بأنفسنا العقبات والعراقيل أمام كثير من مشاريعنا؟ نحن بأنفسنا نصنع العقبات ونصنع العراقيل، والواقع يشهد بهذا، فلماذا عذر المستحيل وعذر عدم الاستطاعة وعد القدرة هي الورقة التي نلوح بها دائما؟ فنغلق نحن بأيدينا الأبواب في وجوهنا، والله يا أيها الأخوة لو فكرنا وحاولنا لوجدنا أن كثيرا من العقبات والعراقيل التي تقف أمامنا إنما هي عراقيل وعقبات وهمية، وما هي إلا حيل نفسية، فكر جيدا وأرجع لنفسك وحاسبها وستجد أننا بأنفسنا نعيق أنفسنا عن العمل، فكل أمر بمقدور البشر أن يفعله لا يمكن أبدا أن يكون مستحيلا.
كل أمر بمقدورك أنت أيها الإنسان أن تفعله لا يمكن أن يكون مستحيلا أبدا
سؤل نابليون كيف استطعت أن تولد الثقة في أفراد جيشك؟ فأجاب:
كنت أرد بثلاث على ثلاث، من قال لا اقدر قلت له حاول، ومن قال لا أعرف، قلت له تعلم، ومن قال مستحيل، قلت له جرب.
هكذا إذا، فأقول لك لا تيئس، اجعل هذه الكلمة شعارا لك لكل عمل تقوم به، فلكل مجتهد نصيب، وإن من أدمن قرع الباب ولد.
كن رابط الجأش وأرفع راية الأمل………وسر إلى الله في جد بلا هزل
وإن شعرت بنقص فيك تعرفه……….فغذي روحك بالقرآن وأكتمل
وحارب النفس وامنعها غوايتها……..فالنفس تهدى الذي يدعو إلى الزلل
قال ابن الجوزي فصل نشدان الكمال - أي طلب الكمال- وقال فيه ( فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات لرأيت من اقبح النقائص رضاه بالأرض، فلو كانت النبوة تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية، ولو كانت تحصل بالاجتهاد رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض، غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن، أو تصور مثلا أن يكون خليفة لم يحسن به أن يقتنع بإمارة، ولو صح له أن يكون ملكا لم يرضى أن يكون بشرا، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل) انتهى كلامه رحمه الله.
- التثبيط والتيئيس للآخرين:
فإن الرجل الصفر لا يكتفي كما أسلفت بعدم المشاركة، بل أصبح قاطع طريق وعونا للشيطان وحزبه، فتجده يخلق الأعذار والأسباب، وربما ألبسها الصبغة الشرعية لتبريره لعجزه وعدم مشاركته، وصد الأحمر النحوي بقوله:
لنا صاحب مولع بالخلاف………كثير الخطاء قليل الصواب
ألج لجاجا من الخنفساء………وأزهى إذا ما مشى من غراب
فليس لديه الشجاعة للاعتراف بالخطاء والتقصير، وليس لديه الاستعداد للعمل والمشاركة، ولكنه على أتم الاستعداد للنقد والتجريح، والثلب والتقبيح.
فإلى الله وحده نشكو أمثال هؤلاء، آلا فليتقي الله أولئك الأخوة الذين نصبوا أنفسهم مثبطين ومهبطين لإخوانهم، ونصبوا أنفسهم قاطعي طريق للأعمال الخيرية في كل مكان، ولذلك فنحن نقول لأمثالهم كن عونا لإخوانك، أو على الأقل أعمل ولو لوحدك فإن الهدف واحد والغاية واحدة، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فما أجمل الصمت، (فمن كان يؤمن بالله واليوم الأخر، فليقل خيرا أو ليصمت).
وإن المثبط لإخوانه أن يبوء بإثمه وإثم الآخرين، واذكّر هنا بقول الحق عز وجل ( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة، ومن أوزار الذين يظلونهم بغير علم، آلا ساء ما يزرون) فلينتبه وليحذر أولئك النفر.
- الضعف والفتور:
من مظاهر الرجل الصفر في مثل هذه الواقع الضعف والفتور أثناء أوقات العافية، أو في مراحل العمل الجاد، فإنك لا تكاد ترى للرجل لصفر نشاطا ولا تعرف عنه جدا،فإذا ما وقعت مصيبة أو وقعت فتنة أو كان الخلاف، رأيته وأصحابه ينشطون وحول الحرص على الدعوة يتحدثون، وفي التخطيط ومعرفة العمل هم يلهجون، وفي الناس يصنفون ويقسمون، وصدق الشاعر يوم أن قال:
وإخوان عهدتهم دروعا……….فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاما راميات………فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوب…….لقد صدقوا ولكن عن ودادي
ولكني أقول كما قال الأخر أيضا:
عداتي لهم فضل علي ومنة……..فلا أبعد الرحمن عني الأعادي
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ……….وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا(/5)
والوقائع والأحداث والفتن هي التي تميز بين أناس وأناس، فإن لكل من الحق والباطل رجال، كما أيضا أن الحق يحمله رجال وينافحون عنه، فكذلك الفتن لها رجال يحملونا ويدعون الناس لها، ويتحملون كبرها، ولكن بين حملة الحق والصابرين عليه، ودعاة الفتنة جمهور يتنازعهم الخير والشر، ومن هنا ينبغي الحذر من دعاة الفتن ومن يتأثر بهم من الرعاع، وضعاف النفوس وأتباع الهوى، وما أجمل ذلك القول لعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه الذي نقله الشاطبي في كتاب الاعتصام فقال - أي علي-( إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة، فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، أف لحامل حق لا بصيرة له، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطئ، وإن أخطئ لم يدري، شغوف بما لا يدري حقيقته …. إلى أخر كلامه رحمه الله)
هذه عشر مظاهر من مظاهر الرجل الصفر.
ثم إني أسوق إليك أيها الحب، أسوق إليك أيضا أسبابا للسلبية ودنو الهمة، لماذا الرجل الصفر أصبح رجلا صفرا؟
لماذا كثير من المسلمين والمسلمات أصبحوا فعلا أصفارا لا قيمة لهم على هامش الحياة؟ لا معنى لهم، لا قيمة لهم، لا يقدموا شيئا لأنفسهم فظلا أن يقدموا شيئا لعقيدتهم ودينهم وهدفهم ومبدئهم.
لماذا؟ أسمع إلى هذه الأسباب التي اجتهدت فيها وأسأل الله أن يوفقني للصواب.
أول هذه الأسباب الجهل والغفلة:
أو الغفلة عن الغاية التي من أجلها خُلق، فأقول لكل إنسان، ولكل إنسانه، ألست مسلما؟ أو لست مسلمة؟ ألم ترضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا؟ ألا تعلم أن الغاية التي من أجلها خُلقنا هي تحقيق العبودية لله عز وجل في الأرض؟ هذا هو الهدف الذي من أجله خلقنا. عبودية الله وتحقيق العبودية لله تعالى على هذه الأرض.
ألا تعلم أن العبادة هي الغاية التي من أجلها خلقنا أيها الحبيب. إن بعض الناس قد يجهل الهدف الذي من أجله خلق، وبعض الناس قد يعمل ولكنه يغفل وتغفله شهوات الدنيا ولذاتها عن ذلك الهدف.
ألا تعلم أن المعنى الصحيح لذلك الهدف الذي من أجله خلقنا وهي عبادة الله عز وجل كما عرفها أهل العلم، لا كما يريدها أعداء الله عز وجل.
إذا الغاية التي من أجلها خلقنا هي العبادة، هي عبادة الله ولكنها ليست العبادة فقط في المسجد، أو ليست الصلاة والصيام والحج والزكاة، لا وآلف لا.
وإنما العبادة التي يريدها الله عز وجل، العبادة بمفهومها الشامل، العبادة بمفهومها الكامل، العبادة التي عرفها أهل العلم يوم أن قالوا " أسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة "، هكذا يريد الله عز وجل أن تكون العبودية، يوم أن تكون العبودية في كل شأن من شؤون حياتك أيها المسلم.
تكون العبودية لله في مسجدك، وفي بيتك، وفي وظيفتك، وفي شارعك، وفي تجارتك، وفي كل مكان (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)
هكذا هي العبودية، هذا هو الهدف الذي من أجله خلقنا، وهكذا يريده الله عز وجل.
وعندها يعلم الإنسان أن كل حركة وكل سكنه وكل نفس، كل شيء يعمله يؤجر عليه إن أخلص النية لله فيه وهو عبادة لله عز وجل. حتى وأنت تجامع زوجتك، وأنت تجامع أهلك، ألم يقال صلى الله عليه وسلم (وفي بضع أحدكم صدقة).
حتى وأنت تمارس الرياضة، ألم يقل صلى الله عليه وسلم (وإن لجسمك عليك حق)؟ حتى وأنت تخرج مع إخوانك وأصدقائك، تخرج معهم للجلسات والاستراحات، فإنه لإدخال الراحة والاستجمام والانبساط إليهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم (تبسمك في وجه أخيك صدقة).
المهم أخلص النية في ذلك لله عز وجل، وأحتسب ذلك عند الله سبحانه وتعالى، المهم أن يكون ذلك العمل مرضي لله عز وجل، أن يكون الله سبحانه وتعالى راضي عن هذا العمل، إذا بعد ذلك أعمل ما شئت، وقل ما شئت بهذين الشرطين.
أن يكون خالصا لله، وأن يكون الله عز وجل راضي عنه. أعمل وتابع في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه هي العبادة.
آلا تعلم أن العبادة غاية الذل لله مع غاية الحب له. فأي حب لله هذا الذي أقعدك؟ أين البينة على هذه المحبة؟ فلو يعطى الناس بدعواهم لأدعى الخلي حرقة الشجي، فلا تقبل إذا الدعوى إلا ببينة (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)، فإذا غرست شجرت المحبة في القلب وسقيت بماء الإخلاص، ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، أثمرت أنواع الثمار وهذا ما نريده.
أسمع لأمنية ربيعة ابن كعب الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه قال (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي سل، فقلت أسألك مرافقتك في الجنة) أنظر للأمنية وأنظر للهمة) .(/6)
وفي لفظ عند أحمد في مسنده أن ربيعة قال (أنظرني يا رسول الله حتى أنظر في أمري، يقول ففكرت في نفسي فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وأن فيها رزقا سيكفيني ويأتيني، فقلت أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي، فإنه من الله عز وجل بالمنزل الذي هو به،
قال فأتيت رسول الله فقال لي، ما فعلت يا ربيعة؟
فقلت أسألك أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمرك بهذا يا ربيعة، وقد كان ربيعة شابا؟
قلت لا والذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد، ولكنك قلت سلني أعطك، وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به، ففكرت في أمري وعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة وأن لي فيها رزقا سيكفيني، فقلت اسأل رسول الله لآخرتي.
قال فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال إني فاعل فاعني على نفسك بكثرة السجود.). هذه هي أمنية ربيعة، وهذا هو الهدف الأول عند ربيعة رضي الله عنه وأرضاه.
إذا فالهدف يكون دائما في مخيلة كل مسلم، الهدف الذي من أجله خلقت هو الفيصل في كل أعمالك وأقوالك وأفعالك وتصرفاتك،لا بد أن يكون الهدف واضحا لك مسلم فهو الضابط له في أعماله، وهو الضابط لحبه وبغضه، لأكله وشربه، بشكله ولبسه، لذهابه ومجيئه، لقيامه وجلوسه، لزوجه وأولاده، لأصحابه وخلانه، لكل شؤون الحياة صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها.
أما إذا ضاع الهدف أو لم يتضح له فإن الإنسان يتخبط فمرة في ضياع، ومرة في هموم، ومرة في صلاح، ومرة في شقاء، وهكذا لا يدري من يرضي ذلك المسكين، حتى وإن كان له عقل وبصر، هكذا إذا ضاع الهدف من الإنسان.
إذا فأول أسباب السلبية ودنو الهمة هو ضياع الهدف، أو الجهل في الغاية التي من أجلها خلقت أيها الأخ الحبيب.
السبب الثاني صحبة ذوو العزائم الواهنة والهمم الدنيئة:
وهذا السبب من أكثر الأسباب تأثيرا، فالإنسان سريع التأثر بمن حوله، ولهذا كان التوجيه النبوي (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)، والحديث عند الترمذي في كتاب الزهد، وأحمد في الأدب وحسنه الألباني.
أقول إن هذا من أهم أسباب السلبية ودنو الهمة حتى وإن كان أصحابك من الصالحين، لا تعجب نعم حتى وإن كان أصحابك من الصالحين ومن أهل الخير فما داموا أصحاب همم ضعيفة وعزائم واهنة ولا يهمهم إلا مصالحهم الشخصية، والأنس والضحك وقضاء الأوقات بدون فائدة فلا خير فيهم، بل إن صلاحهم حجة عليهم يوم أن يقفوا بين يدي الله عز وجل، فعلى العاقل أن لا يغتر بصحبة الصالحين تاركا عيوب نفسه، بل هذه حيلة نفسية يجب التنبه لها.
قال عمر ابن عبد العزيز (إن لي نفسا تواقة، لقد رأيتني وأنا في المدينة غلاما مع الغلمان، ثم تاقت نفسي إلى العلم وإلى العربية والشعر فأصبت منه حاجتي وما كنت أريد، ثم تاقت نفسي وأنا في السلطان إلى اللبس والعيش والطيب فما علمت أن أحدا من أهل بيتي ولا غيرهم كان في مثل ما كنت فيه، ثم تاقت نفسي إلى الآخرة والعمل بالعدل فأنا أرجو ما تقت نفسي إليه من أمر آخرتي). أنتهي كلامه رحمه الله، هكذا تكون النفس المؤمنة كل ما رغبت بأمر استطاعت أن تحصل عليه، هكذا تكون النفوس مجاهدة صابرة متحملة، حتى تنال ما تريد.
فجاهد نفسك أيها الحبيب، وجاهدي نفسكي أيتها المسلمة، لا نستطيع أن نصل إلى ما يريده الله عز وجل من العزة والتمكين إلا بمجاهدة هذه النفوس. لنجاهد أنفسنا ولنقل لها:
ذريني أنل ما لا ينال من العلا……..فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
أتريدين إدراك المعالي رخيصة……… ولا بد دون الشهد من ابر النحل
ومن الأسباب أيضا نسيان الذنوب:
الغفلة عن الذنوب وقتل الشعور الخطأ، أو إن شئت فقل ضياع الوازع الديني أو النفس اللوامة، أو إن شئت فقل أيضا قلة الخوف من الله عز وجل سبب من الأسباب التي جعلت كثيرا من الناس صفرا، أصبح ذلك الرجل الصفر أسيرا لذنوبه، فهو لا يستطيع التخلص منها، فلا هي (أي الذنوب والمعاصي) دفعته إلى العمل الصالح والإكثار منه لعلها تكون سببا لمحوها وغفرانها، وهذا هو الأصل، الأصل في المسلم أنه إذا أذنب ووقع في السيئات أن يسارع ليعمل صالحا لعلها أن تمحو تلك الذنوب والسيئات، ولذلك قال الحق عز وجل ( إن الحسنات يذهبن السيئات)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، هذا هو الأصل، ولكن الرجل الصفر كان أسير لذنوبه فلا هي التي دفعته للعمل الصالح، ولا هي أيضا التي جعلته ينظر لنفسه، بل جعلت أسيرا مسكينا ضعيفا خامل النفس أسيرا لها.
الرجل الصفر أسير للمعاصي والذنوب، قيدته وكبلته، فإذا حدثته بالعمل والتحرك شكا لي ضعفه وكثرة ذنوبه، بل ربما ظن بعض الصالحين لكثرة ذنوبه بنفسه النفاق، حتى وإن تحرك وعمل قال أنا منافق، وهو ما زال على ذنوبه ومعاصيه، وهذه شبهة أحرقت علينا كثيرا من الطاقات والعقول والأفكار.(/7)
نرى كثيرا من الشباب صاحب معاصي وصاحب ذنوب، فإذا قلنا له أعمل، إذا قلنا له أكثر من النوافل، قال أنا أخشى أن أكون منافقا، لماذا؟ قال لأني آتي وأدخل المسجد وأصلي وأنا صاحب ذنوب ومعاصي كثيرة.
إذا فالحل في نظره أن يقعد عن العمل، الحل في نظره أن يبتعد عن الساحة وأن يبقى داخل قفص الشيطان وأوهامه مع الذنوب والمعاصي، وغفل هذا المسكين أن خير علاج لذنوب، وخير علاج للسيئات والتقصير هو العمل والتوبة والاستغفار، فإن أبى فإني أخشى عليه الانحراف، فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
ومن الأسباب أيضا الزهد في الأجر:
وعدم الاحتساب والغفلة عن أهمية الحسنة الواحدة، وهذا لا شك نتاج الغفلة عن الموت ونسيان الآخرة، وإلا فالمؤمن مجز على مثقال الذرة، إن المؤمن مجازا على مثقال الذرة، كما انه محاسب عليه أيضا (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).
إن قلب المؤمن والمؤمنة ذلك القلب الحي يرتعش لمثقال ذرة من خير أو شر، وفي الأرض قلوب لا تتحرك من الذنوب والمعاصي والعياذ بالله.
لماذا نعمل؟ لنسأل أنفسنا، اسأل نفسك أيها الحبيب، واسألي نفسك أيتها الغالية لماذا نعمل، ولماذا نتحرك؟
لماذا نحبس أنفسنا عن الشهوات مع أن الله عز وجل قد جبل هذه النفس على الشهوات وحبها؟
فلماذا إذا نحرمها من الشهوات؟
لماذا نحرم أنفسنا من الجلسات؟
لماذا نجاهد أنفسنا؟ لماذا تبح أصواتنا؟
لماذا نصرف أموالنا؟
لماذا نغض أبصارنا؟
لماذا نحفظ أسماعنا عن سماع الحرام والغناء وغيره؟
لماذا نمسك اللسان عن الكلام؟
لماذا نطعم الطعام؟
ولماذا نكثر الخيرات، ونكثر السلام؟
لماذا نحرص على القيام والصيام؟
لماذا كل هذا؟ الإجابة واحدة قول الحق عز وجل ( إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا).
يظن أصحاب الشهوات والمعاصي أنه ليس في أنفسنا توقا ولا شوقا إلى هذه الشهوات، بل والله إن في أنفس الصالحين شوقا إلى كثير من الشهوات، أيا كانت هذه الشهوات،
شهوة المال،
شهوة الفرج،
أو شهوة البطن أو غيرها من الشهوات،
لكن ما الذي يردنا وما الذي يمنعنا؟، إنه خوف الله عز وجل،
(إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا)
علنا أن نسمع النتيجة بفرح وسرور يوم أن يقول الحق عز وجل:
(فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نظرة وسرورا، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا، متكئين فيها على الأرائك، لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا، ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا، قواريرا من فضة قدروها تقديرا، ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا، عينا فيها تسمى سلسبيلا، ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا، وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملاكا كبيرا، عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا، إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا )،
جزاء على ما صبرتم،
جزاء على ما حبستم النفس عن شهواتها،
جزاء على ما تكلمتم ونصحتم وأنكرتم وأمرتم،
جزاء على ما بذلتم من أموالكم وفعلتم وتقدمتم وتحركتم،
جزاء على كل خير كان كلمة أو فعلا،
جزاء على كل شيء قدمتموه في هذه الدنيا.
(إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا).
سبب أخر الخوف والأوهام:
فالخوف أكل قلب الرجل الصفر، أكل قلوب الكثيرين وهم أحياء، نعم فهم يرون ما يجري لبعض الدعاة، ولأجل تعطلت الأعمال بزعمهم وتوقفت الدعوة، فهو يخاف على نفسه تارة، وعلى ولده وعلى عمله، وربما ظن أن كل الناس يراقبونه ويلاحقونه وهكذا تستمر الأوهام والتخيلات حتى وقع فريسة لها وقعد عن العمل، ونحن نقول نعم إن طريق الدعوة إلى الله مليء بالعقبات والأشواك، ولولا والله هذه العقبات وهذه المعوقات لشككنا في طريقنا، ولكن أن نعطل أعمالنا ونحسب كل صيحة علينا ونغلق كل الأبواب حتى وإن كانت مفتوحةً مفتوحة فلا، بل هي والله وسوسة شيطان، اسمع لقول الحق عز وحل ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أوليائه، فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين).
وإذا سمع المؤمن أقوال المثبطين الخائفين ذكر قول الحق مباشرة (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)، ورحم الله أصحاب تلك الهمم العالية يوم أن كانوا يطلبون الموت ويبحثون عنه في كل ساحة.(/8)
أخرج النسائي في كتاب الجنائز من حديث شداد ابن الهاد (أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمن به واتبعه، ثم قال أهاجر معك فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيا فقسم وقسم له، فأعطى النبي أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهره، فلما جاء دفعوه إليه فقال، ما هذا؟ قالوا قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلي النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم قسمته لك، فال الأعرابي ما على هذا اتبعتك،ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا بسهم وأشار إلى حلقه فأموت فأدخل الجنة،( الله أكبر هكذا كانوا يطلبون الموت رضي الله عنهم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلا ثم نهضوا لقتال العدو، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، أهوَ هو؟ قالوا نعم، قال صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، فكان في ما ظهر من صلاته -أي في دعائه- اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا، أنا شهيد على ذلك) والحديث صحيح عند الألباني.
وأقول أنظر أيضا إلى تأثير بنات المحدث الثقة عاصم ابن علي ابن عاصم أحد شيوخ الإمام أحمد ابن حنبل رضي الله عنهما وأرضاهما، ومن أقران شعبة ابن الحجاج، وكيف صب في محنة الإمام احمد وتقوى على الثبات عندما كتبت إليه بناته بتثبيته على الحق، أسمع ماذا قلنا البنات، اسمعي أيتها المرأة كيف تكون الصالحة معينة لزوجها الصالح، قالت البنيات ( إنه بلغنا أن هذا الرجل أخذ أحمد ابن حنبل فضربه على أن يقول القرآن مخلوق، فأتق الله ولا تجبه فو الله لأن يأتينا نعيك أحب إلينا أن يأتينا أنك أجبت) ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه.
فأي أثر ستبقيه هذه الكلمات في نفس عام ابن علي؟ إن هذه الكلمات لم تأتي من فراغ، بل من تربية جادة على الهمة العالية والغاية المنشودة.
فأين نحن من ذلك مع أزواجنا وأولادنا وبناتنا؟ إن همة بعضهم لا تتعدى شهوات الدنيا ولذاتها، فأي تربية؟ أي تربية هذه التي يعيشها المسلمون مع أولادهم وبناتهم وأنفسهم؟ والله المستعان، قال ابن القيم رحمة الله عليه:
وأحمل بعزم الصدق حملة مخلص……….متجرد لله غير جبان
وأثبت بصبرك تحت ألوية الهدى………..فإذا أصبت ففي رضاء الرحمان
والحق منصور وممتحن فلا…………….تعجب فهذي سنة الرحمن
لكنما العقبى لأهل الحق إن…………….فاتت هنا كانت لدى الدين
سبب سادس التردد والتذبذب الحيرة والارتياب:
هذا السبب جعل كثيرا من الناس سلبيا، وجعل كثيرا من الناس صفرا، فهو لا يدري من يرضي ولا يدري من يتبع، ولقلة علمه وضعفه أصبح الريشة في مهب الريح، تؤثر فيه الأقوال المزخرفة، وأقوال لمثل هذا وأشكاله إن منهج أهل السنة والجماعة وهدي السلف الصالح رضوان الله عليهم، واضح بيّن لا غموض فيه ولا تزلف لأحد، يشع في النفس راحة واطمئنانا، والالتزام به عامل مؤثر في الاستقرار والاستمرار، فعض عليه بالنواجذ، وانبذ أهل الهوى وجرح الناس ولمزهم، وعليك بالعمل الجاد، عليك بالعمل فإنه خير دليل على سلامة المنهج.
فإن الله يطالبنا بالعمل وليس بالجدال والمراء وتتبع الزلات والأخطاء، فأثبت بارك الله فيك، واترك التردد والجيرة وأكثر بل ردد دائما قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد)، فإذا حصل الثبات أولا والعزيمة ثانيا أفلح كل الفلاح، (فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين). إياك والتردد، فإذا عزمت على أمر فتوكل على الله:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة…….فإن فساد الرأي أن تتردد
سبب سابع عدم الثقة في النفس:
عدم الثقة في النفس والورع الكاذب الذي أصيب به عدد من المسلمين، فتجده يعتذر عن إلقاء كلمة لأنه لا يستطيع وهو قادر، لكنه الخزف من الفشل والتهيب من المواجهة وهكذا في كل أمر يعرض عليه، فتقتل الطاقات، وتمون المواهب ولا شك أنه مسؤول عنها أمام الله، فأعدا للسؤال جواب:
وإذا لم تستطع شيئا فدعه……..وجاوزه إلى ما تستطيع
أما أن تجلس وأما أن تقعد وأن تتسكع بين شهوات النفس ولذاتها فلن نرضاه لك أبدا، فمتى تتخلص من عقدة لا أستطيع ولا أقدر؟
وإذا قلنا له مثل ذلك قال (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، وأقول إن في وسعك الكثير، فحاول وجرب وإن لم تنجح، أليس في هذا معذرة إلى ربكم؟ وما علينا إلا البلاغ المبين. ثم إني أنبهك لأمر نغفل عنه كثيرا وهو مهم للغاية آلا وهو أن الأخيار والنبلاء والعلماء ما برزوا إلا بالشجاعة والثقة في النفس، وإلا فإن عند غيرهم بضاعة وكنوزا ولكنهم تخوفوا وجبنوا فما شعوا وما لعوا
حب السلامة يثني عزم صاحبه………عن المعالي ويغري المرء بالكسب
سبب ثامن وأخير أمراض القلب:(/9)
كالحسد وسوء الظن والغل فإذا أصيب القلب بهذه الأمراض انشغل بالخلق عن الخالق، وازدادت همومه وكثر كلامه فلا تسمعه إلا متنقصا للآخرين مغتابا لهم، لا هم له سوى الكلام والقيل والقال، بل هو يحزن لفرح أخيه ويفرح لحزنه.
وبلية البلايا أنه يرى أنه على حق وكل من خالفه فهو على باطل ( أفمن زين له سواء عمله فراءه حسن)، وربما عرف أنه أخطئ واكتشف الخلل ولكنها الشهوة الخفية -أعاذنا الله منها- في التصدر والتربع وحب الرئاسة أهلكته وأصمته -أعوذ بالله من ذلك -:
قبيح من الإنسان ينسى عيوبه…….ويذكر عيبا في أخيه قد اختفى
فلو كان ذا عقل لما عاب غيره……وفيه عيوب لو راءها بها اكتفى
وأقول هل أنت رجل صفر؟ وهل أنتي امرأة صفر أم لا؟
امتحان يسير لمعرفة النفس، أجب بينك وبين نفسك على هذه الأسئلة السريعة:
انظر لنفسك عند قراءة كتاب بل رسالة من الرسائل الصغيرة؟
انظر لنفسك عند حفظ شيء من القرآن والاستمرار عليه؟
انظر لنفسك عندما تريد الإنفاق أو التردد في المقدار؟
انظر لنفسك عند قيام الليل، بل عند المحافظة على الوتر؟
انظر لنفسك وتقصيرك في الدعوة إلى الله والشح في الوقت لها؟
انظر لنفسك عند طلب العلم، والمواصلة والاستمرار على ذلك؟
انظر لنفسك والشجاعة في إنكار المنكرات وتحمل الأذى في سبيل الله؟
انظر لنفسك والاشتياق إلى الجنة والسعي لتكون من أهلها؟
انظر لنفسك واهتمامها بالمسلمين وأحوالهم، وهل تحز لمصابهم، وضابط ذلك الدعاء لهم؟
انظر لنفسك في الأعمال الخيرية، والمشاريع الدعوية ومدى حرصك عليها والرغبة فيها.
أجب على نفسك بهذه الأسئلة السريعة وغيرها، حتى تعلم هل أنت رجل صفر، أم أنك رجل ممتاز، أجب على نفسك بصراحة، فإن أو العلاج أن تعرف الداء وأن تعرف أنك أخطأت، فأتهم النفس وقف معها وصارحها، عندها سينطلق الإنسان.
أخيرا: ما هو العلاج؟؟
وما هو الطريق؟، أقول العلاج يتلخص في هذه النقاط السريعة:
وضوح الهدف والغاية والمبدأ وقد أسلفت الحديث عن هذا.
ماضي وأعرف ما دربي وما هدفي……والموت يرقص لي في كل منعطف
وما أبالي به حتى احاذره………فخشيت الموت عندي ابرد الطرف
فرحم الله حرام ابن ملحان يوم أن عرف هدفه في الحياة، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع القرّاء إلى قبيلة من قبائل مشركي قريش، فكان يعرض عليهم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبلغهم الرسالة، فأشاروا إلى رجل منهم أن اطعنه من خلفه فطعنه بالرمح من ظهره حتى أنفذه من صدره، فإذا بحرام رضي الله عنه وأرضاه يلتفت إلى القاتل ويقول الله أكبر الله أكبر فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة. سبحان الله يا حرام إنك تغادر الدنيا وشهواتها، تغادر الزوجة والأطفال، فأي فوز هذا الذي فزت فيه؟
ولكنه يعلم رضي الله تعالى عنه لماذا يعيش، إن أسمى أمانيه أن يموت في سبيل الله، وإن أعظم أمانيه أن يصيبه أمرا في سبيل الله، إنه يقرأ في سبيل الله (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون).
ورحم الله خبيب ابن عدي يوم أن كان مصلوبا على جذع وكان المشركون يقول له (أترضى يا خبيب أن يكون رسول الله في مكانك الآن؟) فماذا قال رضي الله عنه؟ قال ( والله لا أرضى أن يكون محمدا بين أهله الآن تصيبه شوكه) ثم قال هذه الأبيات، وأسمع إلى الرجل الممتاز يوم أن يعرف الغاية التي من اجلها خلق:
قال:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا….قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقد جمعوا أبنائهم ونسائهم…….وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو كربتي بعد غربتي……وما جمّع الأحزاب لي حول مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي….لقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي
وقد خيروني الكفر والموت دونه…….وقد ذرفت عيناي من غير مجزعي
وما بي حذار الموت أني ميت…….ولكن حذار جحيم نار ملفعي
وذلك في ذات الإله وإن يشاء…….يبارك على أوصال شلو ممزعي
ولست أبالي حين أقتل مسلما……على أي جنب كان بالله مصرعي
الخوف من الله.
خير زاد لعلو الهمة، أحرص على خوف الله أملئ قلبك بخوف الله، راقب الله، اعلم أن الله يراك، استعن بالله سبحانه وتعالى واعلم أنه معين لك في كل أمر، اعلم أن الله مطلع عليك في كل حال وف كل مكان وفي كل مقام، فكر بهذه الأمور حتى يمتلئ قلبك تعظيما لله، فإن من كان بالله أعرف كان من الله أخوف.
مصاحبة أصحاب الهمم العالية.
إذا ما صحبت القوم فأصحب خيارهم….ولا تصحب الأرداء فتردى مع الردي
عن المرء لا تسال واسأل عن قرينه…..فكل قرين بالمقرن يقتدي
وقل لي من تصاحب أقول لك من أنت.
النظر في سير المجتهدين.
النظر في سير المجتهدين وفي سير السلف الصالح، وفي سير أصحاب الهمم والعزائم، اقرأ في السير والتراجم، فلا تترك فضيلة وقفت عليها ويمكن تحصيلها إلا حصلتها فإن القنوع بالفضائل حالة الأراذل، فكن رجلا رجله في الثرى وهام همته في الثريا.
التنافس على الخيرات.(/10)
والشعور بألم الفوات، اسأل نفسك بحق كم يفوتك من الحسنات؟ كم من الناس اهتدوا فكانوا في موازين الآخرين، لماذا لم يكونوا في موازين أعمالك أنت؟
اسأل نفسك لماذا لم يكونوا هؤلاء الذين اهتدوا في موازين أعمالك أنت؟ لماذا لا تكونوا أنت من مد يده بشريط أو مد يده بكتاب، أو لسانه بكلمة طيبة، أو عقله بفكرة أو طرح؟ فالله عز وجل يقول (فاستبقوا الخيرات)، ويقول( وفي ذلك فيتنافس المتنافسون). إن مجرد فكرة تقولها أيها الأخ وتطرحها في مجلس من المجالس يعمل بها، لك أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
من قال أن الوقف لله يجب أن يكون مالا أو عقارا؟ يمكن أن تطرح فكرة للمسلمين عامة فيعمل بها، فتكون هذه الفكرة وقف لله تعالى، أنت صاحب الوقف تؤجر عليها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فتش عن ما وراء الأكمة.
أي ربما كانت هناك أسباب أخرى خفية لسلبية بعض الناس، فربما كان فلانا شابا قويا جلدا نشيطا، صاحب مواهب وابتكارات لكنه صفر، لماذا؟ بسبب سوء التخطيط أو سوء التوجيه، فليتنبه لذلك المربون والموجهون، فقد يكون سببا رئيسيا في سلبية كثير من تلاميذه ومن تحت أيديهم.
وليس في هذا تبرئة للرجل الصفر فإن عليه الحرص والاجتهاد، ويجب عليه أن لا ينتظر الفرص بل يبحث عنها، وأن لا ينتظر الموجه، فإن وجد وإلا فالتجربة خير برهان، فليتوكل على الله ولينطلق.
وأخيرا أقول:
وإني لمشتاق إلى كل غاية……..من المجد يكبو دونها المتطاول
بذول لمال حين يبخل ذو النهى…..عفيف عن الفحشاء قرن حلاحل
والحلاحل هو السيد في عشيرته الأمير في مجلسه.
نعم أيها الأخوة في الله فوصيتي لنفسي ولكل مسلم ومسلمة يؤمن بالله واليوم الآخر أن لا تضيع عليه ساعات عمره إلا بنفع وفائدة، فأنت والله مسؤول أمام الله عز وجل أن تعمل ما بوسعك وأن لا تحتقر نفسك، إن تلك المرأة السوداء استطاعت أن تكسب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستطاعت أن تجعل التاريخ يسجل اسمها، اسأل نفسك لماذا حصلت على هذا وكيف؟ لأجل أنها عملت للإسلام عملاً هو قدرتها وهو وسعها، وهو عمل في ميزاننا اليوم عمل حقير، إنها كانت تقم المسجد. ما أحقر هذا العمل في ميزاننا اليوم ولكن ما أرفعه عند الله يوم القيامة يوم أن كان هو وسعها وهو قدرتها، فأين أنت أيها الحبيب؟ أين أنتي أيتها المسلمة؟ سجل أسمك في التاريخ، ليكن قلبك كبيرا يتسع لهموم الآخرين، ليكن همك حارا لإصلاح الجميع، أحسن النية وأجعلها سباقة فإنك تؤجر عليها، ولو لم يتيسر لك العمل.
فرق كبير بين قولك "رب اجعلني من الصالحين" وقولك "اللهم اجعلني من الصالحين المصلِحين".
فرق كبير بين قولك "اللهم انفعني" وقولك "اللهم انفعني وانفع بي " .
إذا كانت النفوس كبارا ….تعبت في مرادها الأجسام
ولكل جسم في النحول بلية….وبلاء جسمي من تفاوت همتي
متى يستيقظ الأخيار إن لم يستيقظوا الآن؟
متى يتحرك الصالحون إن لم يتحركوا الآن؟
متى يستيقظ المسلمون إن لم يستيقظوا الآن؟
أليس في قلوبنا غيرة؟ أليس فينا حياة؟ متى نشعر بالتحدي وأعداء الله عز وجل يشمتون بهذه العقيدة ليل نهار؟
جعلوا الباطل حقا، والحق باطل، وجعلوا الوضيع شريفا والشريف وضيعا،
كل المصائب قد تمر على الفتى……تهون غير شماتة الأعداء
اللهم إن بلغت اللهم فاشهد
ربي تقبل عملي ولا تخيب أملي
أصلح أموري كلها قبل حلول الأجل
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
عقدت هذه الجلسة، وهذا الموضوع في هذا اليوم الموافق
الجمعة العاشر من شهر الله المحرم في مسجد الأمير متعب في مدينة جده
نسأل الله أن يجزي الأخوة في مكتب الدعوة خيرا على حسن دعوتهم وحسن ظنهم، وأن يجزيكم أنتم خير الجزاء على استجابتكم للدعوة، وحضوركم
ونسأل الله أن لا يحرمكم الأجر، وأن لا نقوم من مجلسنا هذا إلا وقد قيل لنا جميعا (قوموا مغفورا لكم) هو ولي ذلك والقادر عليه.(/11)
الرجولة أمنية عمرية ... ... ...
ماجد عبد الرحمن الفريان ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1 ـ عمر يتمنى رجالاً كأبي عبيدة. 2 ـ نماذج من الرجولة الفريدة. 3 ـ المعنى الحقيقي للرجولة. 4 ـ مثالين للرجولة في الأمم السابقة. 5 ـ كيف تنمي عوامل الرجولة في شخصيات أولادنا. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد : فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى .
معاشر المسلمين، في دار من دور المدينة المباركة جلس عمر إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا ؛ فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهباً أنفقه في سبيل الله. ثم قال عمر: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر : ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله.
رحم الله عمر الملهم، لقد كان خبيراً بما تقوم به الحضارات الحقة، وتنهض به الرسالات الكبيرة، وتحيا به الأمم الهامدة.
إن الأمم والرسالات تحتاج إلى المعادن المذخورة، والثروات المنشورة، ولكنها تحتاج قبل ذلك إلى الرؤوس المفكرة التي تستغلها، والقلوب الكبيرة التي ترعاها والعزائم القوية التي تنفذها: إنها تحتاج إلى الرجال.
أيها المسلمون، لرجل أعز من كل معدن نفيس، وأغلى من كل جوهر ثمين، ولذلك كان وجودُه عزيزاً في دنيا الناس، حتى قال رسول الله : ((إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)) رواه البخاري.
الرجل الكفء الصالح هو عماد الرسالات، وروح النهضات،و ومحور الإصلاح. أعدَّ ما شئت من معامل السلاح والذخيرة، فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب، وضع ما شئت من مناهج للتعليم والتربية فلن يقوم المنهج إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه، وأنشئ ما شئت من لجان فلن تنجز مشروعاً إذا حُرمتَ الرجل الغيور!!
ذلك ما يقوله الواقع الذي لا ريب فيه.
إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم، وإنجاز المشروعات ليس في تكوين اللجان بقدر ما هو في حماسة القائمين عليها.
فلله ما أحكم عمر حين لم يتمن فضة ولا ذهباً، ولا لؤلؤاً ولا جوهراً، ولكنه تمنى رجالاً من الطراز الممتاز الذين تتفتح على أيديهم كنوز الأرض، وأبواب السماء.
معاشر المسلمين، إن رجلاً واحداً قد يساوي مائة، ورجلاً قد يوازي ألفاً، ورجلاً قد يزن شعباً بأسره، وقد قيل: رجل ذو همة يحيي أمة.
يعد بألف من رجال زمانه لكنه في الألمعية واحد
حاصر خالد بن الوليد ( الحيرة ) فطلب من أبي بكر مدداً، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل!
ولما طلب عمرو بن العاص المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في فتح مصر كتب إليه : (أما بعد : فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف : رجل منهم مقام الألف : الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد).
معاشر المسلمين، ولكن ما الرجل الذي نريد ؟
هل هو كل من طَرَّ شاربه، ونبتت لحيته من بني الإنسان؟ إذن فما أكثر الرجال!
إن الرجولة ليست بالسن المتقدمة، فكم من شيخ في سن السبعين وقلبه في سن السابعة، يفرح بالتافه، ويبكي على الحقير، ويتطلع إلى ما ليس له، ويقبض على ما في يده قبض الشحيح حتى لا يشركه غيره، فهو طفل صغير ... ولكنه ذو لحية وشارب.
وكم من غلام في مقتبل العمر، ولكنك ترى الرجولة المبكرة في قوله وعمله وتفكيره وخلقه.
مر عمر على ثلة من الصبيان يلعبون فهرولوا، وبقي صبي مفرد في مكانه، هو عبد الله بن الزبير، فسأله عمر: لِمَ لَمْ تعدُ مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين لم أقترف ذنباً فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقةً فأوسعها لك!
ودخل غلام عربي على خليفة أموي يتحدث باسم قومه، فقال له: ليتقدم من هو أسن منك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أولى منك بالخلافة.
أولئك لعمري هم الصغار الكبار، وفي دنيانا ما أكثر الكبار الصغار؟ وليست الرجولة ببسطة الجسم، وطولِ القامة، وقوةِ البنية، فقد قال الله عن طائفة من المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون:4] ومع هذا فهم كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون: 4] وفي الحديث الصحيح: (( يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة))، اقرءوا إن شئتم قوله تعالى: فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً [الكهف: 105].(/1)
كان عبد الله بن مسعود نحيفاً نحيلاً، فانكشفت ساقاه يوماً - وهما دقيقتان هزيلتان - فضحك بعض الصحابة: فقال الرسول : ((أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد)).
ليست الرجولة بالسن ولا بالجسم ولا بالمال ولا بالجاه، وإنما الرجولة قوة نفسية تحمل صاحبها على معالي الأمور، وتبعده عن سفسافها، قوةٌ تجعله كبيراً في صغره، غنياً في فقره، قوياً في ضعفه، قوةٌ تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه: يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو بيته، ودينه، وأمته.
الرجولة بإيجاز هي قوة الخُلُق وخُلُق القوة.
إن خير ما تقوم به دولة لشعبها، وأعظم ما يقوم عليه منهج تعليمي، وأفضل ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من صحافة وإذاعة،ومسجد ومدرسة، هو صناعة هذه الرجولة، وتربية هذا الطراز من الرجال.
ولن تترعرع الرجولة الفارعة، ويتربى الرجال الصالحون، إلا في ظلال العقائد الراسخة، والفضائل الثابتة، والمعايير الأصيلة، والتقاليد المرعية، والحقوق المكفولة. أما في ظلام الشك المحطم، والإلحاد الكافر والانحلال السافر، والحرمان القاتل، فلن توجد رجولة صحيحة، كما لا ينمو الغرس إذا حرم الماء والهواء والضياء.
ولم تر الدنيا الرجولة في أجلى صورها وأكمل معانيها كما رأتها في تلك النماذج الكريمة التي صنعها الإسلام على يد رسوله العظيم ، من رجال يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع، لا يغريهم الوعد، ولا يلينهم الوعيد، لا يغرهم النصر، ولا تحطمهم الهزيمة.
أما اليوم، وقد أفسد الاستعمار جو المسلمين بغازاته السامة الخانقة من إلحاد وإباحية، فقلما ترى إلا أشباه الرجال، ولا رجال.
تعجبنا وتؤلمنا كلمة لرجل درس تعاليم الإسلام السمحة الشاملة فقال في إعجاب مرير: " يا له من دين لو كان له رجال "!!
وهذا الدين الذي يشكو قلة الرجال يضم ما يزيد على ألف مليار مسلم، ينتسبون إليه، ويحسبون عليه، ولكنهم كما قال رسول الله ((غثاء كغثاء السيل)) أو كما قال الشاعر:
يثقلون الأرض من كثرتهم ثم لا يغنون في أمر جلل
ألف مليار مسلم كغثاء بشط يم
أيها المسلمون، وماذا يغني عن الإسلام رجال أهمتهم أنفسهم، وحكمتهم شهواتهم، وسيرتهم مصالحهم، فلا وثقوا بأنفسهم، ولا اعتمدوا على ربهم،رجال يجمعهم الطمع، ويفرقهم الخوف، أو كما قيل: يجمعهم مزمار وتفرقهم عصا!
أما والله لو ظفر الإسلام في كل ألف من أبنائه برجل واحد فيه خصائص الرجولة، لكان ذلك خيراً له وأجدى عليه من هذه الجماهير المكدسة التي لا يهابها عدو، ولا ينتصر بها صديق:
فليت لي بهمُ قوماً إذا ركبوا شنوا الإغارة فرساناً وركبانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
أيها المسلمون، إن الرجل الواحد قد ينقذ الموقف بمفرده بما حباه الله من الخصائص الإيمانية والمواقف الرجولية التي ربما عملها بمفرده، وفي القرآن الكريم في قصة موسى حين قتل القبطي،تجد قول الله تعالى: وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص:20]. وفي سورة يس في قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون تجد قوله تعالى: وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس: 20].
وفي سياق هاتين القصتين تجد أن النص يبرز كلمة (رجل) وهي تعني شخصاً مفرداً ، فهو رجل واحد ينقذ الموقف بخصائصه الذاتية والإيمانية ، ولا يستوحش من غربته بين أهله أو تفرده في طبقته ، فيحيط موسى علماً بالمؤامرة الدنيئة التي يحيكها القصر الفرعوني للقضاء عليه وعلى دعوته، ويقترح عليه الحل ، وهو الخروج من قريته والفرار بنفسه ، وفي قصة (يس) يعلن أمام الملأ نصرة المرسلين ويدعو إلى اتباعهم متحدياً بذلك رؤوس الضلالة صارخاً به في وجه الجمهور التابع .
معاشر المسلمين، وعلى رغم أهمية العمل الجماعي والعمل المؤسسي ، وأهمية التعاون على البر والتقوى ، والتناوب في أداء فروض من الكفايات ، إلا أن الواقع كثيراً ما يفتقر إلى الفردية خاصة في مثل فترات الضياع التي تمر بها الأمم وتوشك أن تأتي على وجودها وتميزها ، حيث لا يبقى ثَمَّ جهة مسؤولة بعينها عن اكتشاف المواهب أو عن تحديد الأدوار، وهذا هو الحال الذي يعيشه المسلمون الآن في كثير من بلادهم، هنا تبرز الحاجة إلى تكثيف المبادرات الفردية من الداعية والتي لا بد وأن تسد بعض النقص، وأن تتلاقى يوماً ما على خطة راشدة يكون فيها للمسلمين فرج ومخرج.
ليس هذا تقليلاً من أهمية تضافر الجهود وتكاتفها ، ولا تهويناً من شأن المبادرات الجماعية التي آتت وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ولكنه تأكيد على الدور الفردي المساهم في إيجادها وعلى الدور الفردي الذي لا يقف عندها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. ... ... ...
... ... ...(/2)
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد فيا عباد الله، فإنّ مما يعاني منه كثير من الناس ظهور الميوعة وآثار التّرف في شخصيات أولادهم، ولمعرفة حلِّ هذه المشكلة وتداركِ الأجيال القادمة التي تعقد الأمة عليهم خناصرها لابد من الإجابة عن السّؤال التالي : كيف ننمي عوامل الرّجولة في شخصيات أولادنا؟
إن موضوع هذا السؤال هو من المشكلات التّربوية الكبيرة في هذا العصر، وهناك عدد من الحلول الإسلامية والعوامل الشرعية لتنمية الرّجولة في شخصية الطّفل، ومن ذلك ما يلي :
التكنية: أي مناداة الصغير بأبي فلان أو الصغيرةِ بأمّ فلان، فهذا ينمّي الإحساس بالمسئولية، ويُشعر الطّفل بأنّه أكبر من سنّه فيزداد نضجه، ويرتقي بشعوره عن مستوى الطفولة المعتاد، ويحسّ بمشابهته للكبار، وقد كان النبي يكنّي الصّغار؛فعَنْ أَنَسٍ قَال :"كَانَ النَّبِيُّ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ : أَحسبُهُ فَطِيمًا وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ : ((يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟))! وهو طائر صغير كان يلعب به. رواه البخاري. وعَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ قالت : أُتِيَ النَّبِيُّ بثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ ( الخميصة ثوب من حرير ) فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، قَالَ : ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ . فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ ( وفيه إشارة إلى صغر سنّها ) فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ: (أَبْلِي وَأَخْلِقِي)، وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ فَقَالَ : (يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَاه)، وَسَنَاه بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنٌ [ رواه البخاري.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: أخذه للمجامع العامة وإجلاسُه مع الكبار؛وهذا مما يلقّح فهمه ويزيد في عقله، ويحمله على محاكاة الكبار، ويرفعه عن الاستغراق في اللهو واللعب، وكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يصحبون أولادهم إلى مجلس النبي ومن القصص في ذلك : ما جاء عن مُعَاوِيَةَ بن قُرَّة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ .. الحديث" رواه النسائي وصححه الألباني في أحكام الجنائز.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الأطفال: تحديثهم عن بطولات السابقين واللاحقين والمعارك الإسلامية وانتصارات المسلمين؛ لتعظم الشجاعة في نفوسهم، وهي من أهم صفات الرجولة، وكان للزبير بن العوام طفلان أشهد أحدهما بعضَ المعارك، وكان الآخر يلعب بآثار الجروح القديمة في كتف أبيه كما جاءت الرواية عن عروة بن الزبير ، وروى ابن المبارك في الجهاد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير "أنه كان مع أبيه يوم اليرموك , فلما انهزم المشركون حمل فجعل يجهز على جرحاهم" وقوله: " يُجهز " أي يُكمل قتل من وجده مجروحاً, وهذا مما يدل على قوة قلبه وشجاعته من صغره .
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: تعليمه الأدب مع الكبار،ومن جملة ذلك ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيّ قَالَ:يُسلِّمُ الصَّغِيرُ على الكبِير، والمارُّ على القاعِدِ، والقليلُ على الكثِيرِ"رواه البخاري.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: إعطاء الصغير قدره وقيمته في المجالس، ومما يوضّح ذلك الحديث التالي : عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيّ بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ فَقَالَ : يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ قَال: ((مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ)) رواه البخاري.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: تعليمهم الرياضات الرجولية؛كالرماية والسباحة وركوب الخيل وجاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ : كَتَبَ عُمَر إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنْ عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمْ الْعَوْمَ . [ رواه الإمام أحمد في أول مسند عمر بن الخطاب ] .
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: تجنيبه أسباب الميوعة والتخنث؛ فيمنعه وليّه من رقص كرقص النساء، وتمايل كتمايلهن، ومشطة كمشطتهن، ويمنعه من لبس الحرير والذّهب ونحو ذلك مما يخص النساء.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل:
تجنب إهانته خاصة أمام الآخرين وعدم احتقار أفكاره وتشجيعه على المشاركة إعطاؤه قدره وإشعاره بأهميته، وذلك يكون بأمور مثل :
إلقاء السّلام عليه، وقد جاء عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِم. رواه مسلم.(/3)
ومثل استشارته وأخذ رأيه، ,أيضاً توليته مسئوليات تناسب سنّه وقدراته وكذلك استكتامه الأسرار ، ويصلح مثالاً لذلك حديث أَنَسٍ قَالَ : أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّه وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ قَالَ : فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ، فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ : مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّه لِحَاجَةٍ . قَالَتْ : مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ : إِنَّهَا سِرٌّ . قَالَتْ : لا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ أَحَدًا ". رواه مسلم. وفي رواية عن أَنَس قال : انْتَهَى إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا غُلامٌ فِي الْغِلْمَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَرْسَلَنِي بِرِسَالَةٍ وَقَعَدَ فِي ظِلِّ جِدَار- أَوْ قَالَ إِلَى جِدَار - حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ". رواه أبو داود .
وعن ابْن عَبَّاسٍ قال : كُنْتُ غُلامًا أَسْعَى مَعَ الْغِلْمَانِ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِنَبِيِّ اللَّه خَلْفِي مُقْبِلاً فَقُلْتُ : مَا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ إِلا إِلَيَّ، قَالَ : فَسَعَيْتُ حَتَّى أَخْتَبِئَ وَرَاءَ بَابِ دَار، قَالَ : فَلَمْ أَشْعُرْ حَتَّى تَنَاوَلَنِي فَأَخَذَ بِقَفَايَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً ( ضربه بكفّه ضربة ملاطفة ومداعبة ) فَقَالَ : اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ. قَالَ : وَكَانَ كَاتِبَهُ فَسَعَيْتُ فَأَتَيْتُ مُعَاوِيَةَ فَقُلْتُ : أَجِبْ نَبِيَّ اللَّهِ فَإِنَّهُ عَلَى حَاجَةٍ" رواه الإمام أحمد في مسند بني هاشم .
وهناك وسائل أخرى لتنمية الرجولة لدى الأطفال منها :
· تعليمه الجرأة في مواضعها ويدخل في ذلك تدريبه على الخطابة .
· الاهتمام بالحشمة في ملابسه وتجنيبه الميوعة في الأزياء وقصّات الشّعر والحركات والمشي، وتجنيبه لبس الحرير الذي هو من طبائع النساء .
· إبعاده عن التّرف وحياة الدّعة والكسل والرّاحة والبطالة،وقد قال عمر : (اخشوشنوا فإنّ النِّعَم لا تدوم).
· تجنيبه مجالس اللهو والباطل والغناء والموسيقى؛ فإنها منافية للرّجولة ومناقضة لصفة الجِدّ .
هذه طائفة من الوسائل والسّبل التي تزيد الرّجولة وتنميها في نفوس الأطفال،ذكرها فضيلة الشيخ محمد المنجد حفظه الله في مطوية خاصة بذلك.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويعافُ فيه أهل المعصية ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر وتقال فيه كلمة الحق يا سميع الدعاء. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
... ...
الرجولة ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- معنى الرجولة. 2- سمات الرجولة. 3- انقلاب الموازين. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
يقول الحق جلا وعلا: من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا [الأحزاب:23].
إن بين الله وبين المؤمنين بيعة، مفادها قول الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ التوبة :111]. المشتري هو الله، والبائع فيها هو المؤمن، والسلعة هي الأنفس والأموال، والثمن هو الجنة.
الله تعالى يعلمنا أن الرجال من المؤمنين هم الذين يصدقون الله في بيعتهم، وليس كل المؤمنين رجال.
فمن هو الرجل؟ وما سمات الرجولة؟ وما أسباب ضياعها؟
الرجل: هو عكس المرأة أو ضدها .
ونعني بالرجل: هو الذي أخضع ذاته ونفسه لمنهج الله عز وجل، فهما وسلوكا.
قال العلماء: الزمن يحوي الليل والنهار، وجنس الإنسان يحوي الذكر والأنثى، ولكل منهما مهمته، فكما أن الليل للسكنى والهدوء والنهار للكدح والعمل، فالرجل بمنزلة النهار، والمرأة بمنزلة الليل.
لذا جمع بينهما رب العزة سبحانه فقال: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى [الليل :1-4].
ولا ينبغي أن يتمنى الرجل أن يكون امرأة، ولا المرأة أن تكون رجلا، وصدق الله العظيم: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض [النساء:32]. يقول ابن كثير: نزلت في نسوة قالوا: ليتنا كنا رجالا فنغزوا كما يغزون ونجاهد كما يجاهدون، جاءت امرأة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام تقول: يا رسول الله، إن الله كتب الجهاد على الرجال، فإن يصيبوا أجروا وإن قتلوا فهم أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن نقوم على شؤونهم فما لنا في ذلك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافا بحقه يعدل ذلك وقليل منكن يفعله))([1]).
سمات الرجولة:
1) الذكر الدائم لله عز وجل، الرجولة هو أن لا تشغلك الدنيا عن الآخرة، بنص قول الله تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار [النور:36].
كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يخطب على المنبر، فجاءت عير، فخرج الأصحاب ولم يبق إلا اثني عشر، فقال عليه الصلاة والسلام: ((والله لو تتابعتم فلم يبق منكم أحد، لسال بكم الوادي نارا))، وأنزل الله قوله تعالى: وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين [الجمعة:11].
2) أن تقدم طاعة الله على المال وعلى الولد، الله تعالى يقول: المال والبنون زينة الحياة والدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا [الكهف:46]. يقول عليه الصلاة والسلام: ((استكثروا من الباقيات الصالحات))، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: ((التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح ولا حول ولا قوة إلا بالله هي الباقيات الصالحات))([2]).
الإمام الآلوسي يقول في تفسير هذه الآية: الأموال والأولاد سريعا الزوال، وذكر الله ليس كذلك، والمال قد يكون وبالا على صاحبه لكثرة أصحاب الحقوق فيه، والولد قد يعق وقد يفسد ولا تنتفع به في الدنيا ولا في الآخرة([3]).
3) القوامة على الأسرة: قال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم [النساء:34]. ابن كثير يقول: القيم أي الرئيس، الذي يحكم أهله ويقوم اعوجاجهم إذا اعوجوا، وهو المسؤول عنهم يوم القيامة، ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته)).
ولا يقدح في رجولة الرجل أن يعين أهله، فعائشة رضي الله عنها سئلت عن فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام في بيته، قالت: ((كان يكون في مهنة أهله يشيل هذا ويحط هذا يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب شاته))([4])، وهو رسول الله .
ولا يقدح في رجولة الرجل أن يلاطفهن أو أن يمازحهن، تقول عائشة رضي الله عنها: سابقني رسول الله عليه الصلاة والسلام فسبقته، فلما حملت اللحم أي بدت علي السمنة، سابقني رسول الله عليه الصلاة والسلام فسبقني، فقال: ((هذه بتلك))([5]).
الذي يقدح في رجولة الرجل في مجال الأسرة هو:
انعدام غيرته على أهله:
أ – في أمر لباسها فلا يعنيه أن تخرج وأن تكشف عورتها للناس، والرسول عليه الصلاة والسلام أعلمنا أن من أهل النار: ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة (كسنام البعير) لا يردن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام))([6]).
ب- أو لا تعنيه الجلسات المختلطة، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((إياكم والدخول على النساء، قالوا: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)) ([7]) وتركهما منفردين.(/1)
يقدح في رجولة الرجل أيضا أن يلقي للزوجة الحبل على الغارب، تخرج متى تشاء، وتعود متى تشاء، ولا يعرف الوجهة التي خرجت إليها، أو أن تسافر بغير محرم، أو عدم وجود الصحبة الطيبة التي تحفظ لها دينها وعفتها في الطريق.
هذه الأمور وعدم انشغال الرجل بها يدل على فقدان الغيرة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((لا يدخل الجنة ديوث))([8]). والديوث هو الذي لا غيرة له على عرضه.
ج- أيضا الذي يقدح في رجولة الرجل هو أن يسلم قيادة أمره إلى أهله، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((إذا كان أمراؤكم فساقكم وأغنياؤكم شراركم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير من ظهرها))([9])، وفي الأثر: (تعس عبد الزوجة).
د- الذي يقدح في رجولة الرجل أن يقدم محبة أهله على محبة الله ورسوله، عبد الله بن أبي بكر تزوج امرأة يقال لها عاتكة، وكانت ذات حسب ونسب وجمال وأدب، خرج أبو بكر يوما إلى صلاة الجمعة فسمع عبد الله يناغي زوجته وتناغيه بما يكون بين الرجل وأهله، فلما عاد من صلاة الجمعة ورآهما على الحال الذي تركهما عليه قال: يا عبد الله ألم تصلّ معنا؟ قال: أأجمعتم؟ قال أبو بكر: لقد شغلتك عاتكة عن ربك طلقها. فطلقها، ومضت ستة أشهر علم بعدها أبو بكر ندم عبد الله وندم عاتكة أنهما انشغلا بما يكون بين الرجل وأهله عن طاعتهما لله عز وجل، ثم قال له: أرجعها. فأرجعها.
4) حسن الخلق، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((إن المؤمن ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم ))([10]).
5) التواضع، لا التكبر، جاء ضيف إلى عمر بن عبد العزيز ، فكاد السراج أن ينطفأ، فقال الضيف: يا أمير المؤمنين أقوم فأصلحه؟ فقال عمر بن عبد العزيز: ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه، قال: أوقظ الغلام؟ قال: إنها أول نومته، ثم قام عمر بن عبد العزيز وأصلح السراج ثم عاد، فقال الضيف: أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يصلح سراجه!! قال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز وعدت وأنا عمر بن عبد العزيز. أي لم ينقص هذا الأمر من قدري، بل ازداد قدرا عند الله عز وجل ومن تواضع لله رفعه.
6) الرجولة في العفو لا في الانتقام، مسطح بن أثاثة كان ممن تكلم في أمر عائشة في حادثة الإفك، وحادثة الإفك ملخصها: أن رسول الله كان إذا خرج في غزوة أقرع بين نسائه، فإذا خرجت القرعة على إحداهن يأخذها معه في سفره تخدمه، وخرجت القرعة على عائشة.
لما قفل الجيش وعاد، خرجت عائشة بعد أن نزل الجيش في مكان لبعض شأنها، فلما عادت إذا بالجيش قد ارتحل، فجلست في مكانها تنتظر، وكان هناك صحابي يقال له صفوان بن المعطل كان ينتظر آخر الجيش، فإذا كان الجيش قد نسي متاعا مثلا يأخذه معه، لما رأى عائشة رضي الله عنها – وكان قد رآها قبل فرض الحجاب – قال: أم المؤمنين. هنا فأناخ بجمله فركبت ولحق بالجيش، فلما وصل الجيش تفقدوا الهودج الذي فيه عائشة فلم يجدوها، فلم يمض وقت قليل إلا وصفوان بن المعطل جاء وهو يسوق الجمل وعليه عائشة، فتكلم رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول وطعن في عرض رسول الله عليه الصلاة والسلام أن هناك صلة ما بين عائشة وصفوان.
وممن وقع في هذا الأمر مسطح، وكان فقيرا وكان أبو بكر ينفق عليه وهو يطعن في بنت أبي بكر ، وبعد أن نزلت آيات البراءة في سورة النور، أقسم أبو بكر ألا ينفق على مسطح بعد ذلك أبدا. فأنزل الله تعالى قوله: ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ([11]) فقال أبو بكر : بلى يا رب نحب، أن تغفر لنا. فأعاد نفقته على مسطح.
أسباب ضياع الرجولة :
نضع سببا واحدا هو انقلاب المقاييس، ورسول الله عليه الصلاة والسلام أعلمنا بانقلاب المقاييس فقال: ((يأتي على الناس زمان، يصدق فيه الكاذب ويكذب فيه الصادق، ويؤتمن فيه الخائن ويخون فيه الأمين، ويكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع([12]) لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر))([13]) وقد جاء في الأثر: (لا تقوم الساعة حتى يعيّر الرجل بصلاته كما تعير الزانية بزناها).
فانقلاب الموازين في مجال الرجولة هو:
أ - أن تكون الاستطالة على الضعفاء مثلا: ((رأى رسول الله عليه الصلاة والسلام أبا مسعود يضرب عبدا له، فقال: ((اتق من هو أقدر عليك، منك عليه)) فالتفت فإذا هو رسول الله قد تملكه الغضب، فقال: هو حر لوجه الله يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: ((والله لو لم تقلها لمستك النار))([14]).
ب- أصبحت الرجولة في عدم الوفاء بالعهد، أو الالتزام بالشرط، أو إذا وجد مجالا يستطيع به أن يحقق ربحا فلا شرط ولا عهد ولا التزام، وأن هذه هي الرجولة، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((ينصب لكل غادر لواءً([15]) يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان))([16]).(/2)
ج- أو أن يكون الكذب هي الرجولة، للتخلص من المواقف المحرجة مثلا، لكن في إسلامنا الرجولة أن تكون صادقا، وتظهر العيب الذي كان، إن الرسول عليه الصلاة والسلام مر على رجل يبيع طعاما، فوضع أصبعه فيه فأصابه بلل، قال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟)) قال: أصابته السماء يا رسول الله. فقلبه فجعل الجيد فوق والرديء تحت فقال : ((ألا أظهرته، من غشنا فليس منا))([17]).
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إياكم وكثرة الحلف، فإنه منفق للسلعة منفق للبركة))([18]).
([1])البزار والطبراني .
([2])أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة ، مختصر ابن كثير مجلد 2ص 421 .
([3])روح المعاني مجلد 15ص286.
([4])الطبراني .
([5])أبو داود والنسائي .
([6])رواه مسلم .
([7])متفق عليه .
([8])رواه أحمد والنسائي .
([9])رواه الترمذي .
([10])رواه أبو داود .
([11])مختصر ابن كثير مجلد 2 ص 593آية 22من سورة النور.
([12])لكع بن لكع : أي لئيم ابن لئيم .
([13])رواه أحمد والحاكم .
([14])رواه مسلم .
([15])لواء : أي علم مرفوع .
([16])متفق عليه .
([17])رواه مسلم .
([18])رواه أبو داود . ... ...
... ...(/3)
الرحمة
الرحمة خلق حسن، حث عليه الشارع وأمرنا به، وذكر صوراً كثيرة من صور هذا الخلق، وجعله أصلاً، ثم استثنى منه بعض الصور سنعرض لها في مكانها إن شاء الله، ومن صور الرحمة:
l الرحمة بين المسلمين بشكل عام:
قال تعالى: ]واخفض جناحك للمؤمنين[ (الحجر) ومعلوم أن الخطاب الموجه له صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته ما لم يرد ما يخصصه.
وقال سبحانه: ]محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم[ (الفتح/48).
وقال عز من قائل: ]يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين[ (المائدة/54).
وفي الحديث المتفق عليه عن جرير بن عبد الله t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ».
وعند البخاري عن النعمان بن بشير يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين: في تراحمهم، وتوادهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضواً، تداعى له سائر جسده بالسهر والحمّى».
وعند مسلم عن عياض بن حمار t قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: «أَهْلُ الْجَنّةِ ثَلاَثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدّقٌ مُوَفّقٌ. وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلّ ذِي قُرْبَىَ، وَمُسْلِمٍ. وَعَفِيفٌ مُتَعَفّفٌ ذُو عِيَالٍ».
وعند البيهقي في السنن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرّحْمَنُ. ارْحَمُوا مَنْ في اْلأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السّماء».
وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر قال اشْتَكَىَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَىَ لَهُ. فَأَتَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَشِيّةٍ. فَقَالَ: "أَقَدْ قَضَىَ؟" قَالُوا: لاَ. يَا رَسُولَ اللّهِ فَبَكَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَلَمّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَكَوْا. فَقَالَ: «أَلاَ تَسْمَعُونَ؟ إِنّ اللّهَ لاَ يُعَذّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذّبُ بِهَذَا (وَأَشَارَ إِلَىَ لِسَانِهِ) أَوْ يَرْحَمُ».
وروى مسلم عن ابن عباس: «... فَلَمّا أَنْ أُصِيبَ عُمَرُ، دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ: وَاأَخَاهْ وَاصَاحِبَاهْ...».
وروى الترمذي وقال حسن صحيح عن عائشة «أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبّلَ عُثمانَ بنَ مَظُعُونٍ وهُوَ مَيّتٌ وهُوَ يَبْكي أَو قالَ عَيْنَاهُ تَذْرِفَان».
وعند الترمذي عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ قال قدم انس بن مالك فأتيته فقال من أنت؟ فقلت أنا واقد بن سعد بن معاذ قال فبكى وقال إنك لشبيه بسعد. هذا حديث حسن صحيح.
رحمة الراعي بالرعية:
قال تعالى: ]لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم[ (التوبة).
وقال سبحانه: ]ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه[ (الأنعام/52).
وقال عز وجل: ]واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا[ (الكهف/28).
وفي الحديث المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «نَهَاهُمُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُم».
وفي المتفق عليه عن مالك بن الحويرث: «أَتَيْنَا رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ. فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم رَحِيماً رَقِيقاً، فَظَنّ أَنّا قَدِ اشْتَقْنَا أَهْلَنَا. فَسَأَلَنَا عَنْ مَنْ تَرَكْنَا مِنْ أَهْلِنَا. فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ».
وفي البيهقي في السنن وقال مرسل حسن عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده «أن أبا أسيد الأنصاري رضي الله عنه قدم بسبي من البحرين فصفوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليهم فإذا امرأة تبكي فقال ما يبكيك قالت بيع ابني في عبس فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أسيد لتركبن فلتجيئن به كما بعت بالثمن فركب أبو أسيد فجاء به».
وفي البيهقي أيضا عن أبي عثمان النهدي قال «استعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً من بني أسد على عمل فجاء يأخذ عهده قال فأتى عمر رضي الله عنه ببعض ولده فقبله قال أتقبل هذا ما قبلت ولدا قط فقال عمر فأنت بالناس أقل رحمة هات عهدنا لا تعمل لي عملاً أبداً».(/1)
هذا بين المسلمين أما مع الكفار الحربيين فلا تراحم وإنما هي الغلظة والشدة لقوله تعالى: ]محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم[ (الفتح/48) وقوله تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين[ (التوبة) وقوله تعالى: ]يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير[ (التوبة/73 ـ التحريم/9).
الرحمة بالصغير:
في البخاري ومسلم: «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَبَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم الحسنَ بن عليّ رضي اللّه عنهما وعنده الأقرعُ بن حابس التميمي. فقال الأقرعُ: إن لي عَشَرَةً من الولد ما قبّلتُ منهم أحداً، فنظرَ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ"».
وعندهما عَنْ عَائِشَةَ: «قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ عَلَىَ رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم. فَقَالُوا: أَتُقَبّلُونَ صبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالُوا: لَكِنّا، وَاللّهِ مَا نُقَبّلُ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَ أَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللّهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرّحْمَةَ"».
وفي المتفق عليه أيضا عن أُسَامَةَ بْنِ زَيدٍ قَالَ: «أَرْسَلَتْ بِنْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِ أَنّ ابْناً لِي قُبِضَ فَأْتِنَا. فَأَرْسَلَ يَقْرَأُ السّلاَمَ وَيَقُولُ: إنّ لِلّهِ مَا أُخِذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلّ شَيْءٍ عِنْدَ اللّهِ بِأَجَلٍ مُسَمّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجالٌ، فَدُفِعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الصّبِيّ وَنَفَسُهُ تَقَعْقَعْ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَحْمَةٌ يَجْعَلُهَا اللّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإنّمَا يَرْحَمُ اللّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرّحْمَاءَ».
وفي المتفق عليه أيضاً عن أنس رضي الله عنه «أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهو يجود بنفسه، فجعلتْ عينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسولَ اللّه؟! فقال: "يا بْنَ عَوْفٍ! إِنَها رَحْمَةٌ" ثم أتبعها بأخرى فقال: "إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا، وَإنَّا بِفِرَاقِكَ يا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ».
وعند البخاري ومسلم من حديث أنس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يموت له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخله اللَّه الجنة بفضل رحمته إياهم».
وعند البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: كان رسول الله r يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الآخر، ثم يضمهما، ثم يقول: «اللهم ارحمهما فإني أرحمهما».
وعند مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. «قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعاً لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ. فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ. فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنّهُ لَيُدّخَنُ. وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْناً. فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبّلُهُ. ثُمّ يَرْجِعُ».
وعند الحاكم وقال على شرط مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «لَيْسَ مِنّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقّ كَبِيرِنَا».
وعند أحمد والترمذي وابن حبان عن بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر».
وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وصححه النووي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا».
الرحمة باليتيم والفقير والضعيف والمسكين:
قال تعالى: ]فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر[ (الضحى).
وقال سبحانه: ]أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم *ولا يحض على طعام المسكين[ (الماعون).
وعند البخاري ومسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا أمّ أحدُكُمُ الناس فَلْيُخَفّفْ، فإنّ فيهمُ الصغيرَ والكبيرَ والضعيفَ والمريضَ، فإذَا صَلّى وَحدَه، فليصلّ كَيفَ شَاء».(/2)
وعند مسلم عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم ، لِعُمَرَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَىَ أُمّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا. كَمَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ r يَزُورُهَا. فَلَمّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ. فَقَالاَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لاَ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنّ مَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ r. وَلَكِنْ أَبْكِي أَنّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السّمَاءِ. فَهَيّجَتْهُمَا عَلَىَ الْبُكَاءِ. فَجَعَلاَ يَبْكِيَانِ مَعَهَا.
وعند أبو داود بإسناد جيد عن أبي الدرداء عويمر رضي الله عنه قال سمعت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «ابغوني الضعفاء، فإنما تنصرون، وترزقون بضعفائكم».
الرحمة بالجاهل:
روى مسلم عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السّلَمِيّ، قَالَ: «بَيْنَا أَنَا أُصَلّي مَعَ رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم. إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ الله فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ. فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمّيَاهْ! مَا شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إِلَيّ. فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ علَىَ أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمّتُونَنِي، سَكَتّ، فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ r. فَبِأَبِي هُوَ وَأُمّي مَا رَأَيْتُ مُعَلّماً قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيماً مِنْهُ، فَوَالله مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي. قَالَ: "إِنّ هَذِهِ الصّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النّاسِ. إِنّمَا هُوَ التّسْبِيحُ وَالتّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآن"».
الرحمة بالأسير:
قال تعالى: ]ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً[ (الإنسان).
لمسلم عنِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كَانَتْ ثَقِيفُ حُلَفَاءَ لِبَنِي عُقَيْلٍ، فَأَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ، وَأَصَابُوا مَعَهُ الْعَضْبَاءَ، فَأَتَىَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْوَثَاقِ، قَالَ: يَا مُحَمّدُ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟" فَقَالَ: بِمَ أَخَذْتَنِي؟ وَبِمَ أَخَذْتَ سَابِقَةَ الْحَاجّ؟ فَقَالَ (إعْظَاماً لِذَلِكَ) "أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ" ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ يَا مُحَمّدُ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم رَحِيماً رَقِيقاً، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟" قَالَ: إنّي مُسْلِمٌ، قَالَ: "لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ، أَفْلَحْتَ كُلّ الْفَلاَحِ" ثُمّ انْصَرَفَ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ يَا مُحَمّدُ فَأَتَاهُ فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟" قَالَ: إنّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي، وَظَمْآنُ فَأَسْقِنِي، قَالَ: هَذِهِ حَاجَتُك» q
موقع مجلة الوعي
http://www.al-waie.org/home/issue/178/doc/178w04.doc(/3)
الرحمة في الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم خطبة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة لفضيلة الشيخ : صالح بن حميد
بتاريخ : 15- 1-1423هـ
والتي تحدث فيها فضيلته عن : الرحمة في الإسلام
الحمد لله وسع كل شي برحمته، وعم كل حي بنعمته، لا إله إلا هو خضعت الخلائق لعظمته، سبحانه يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، أحمده سبحانه وأشكره على توابع آلائه وجلائل منته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، خيرته من بريته، ومصطفاه لرسالته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعفرته والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجه طريقته، أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واعتبروا بمن مضى من قبلكم، عاجلهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون، هم السابقون وأنتم اللاحقون، سبقوكم بمضي الآجال، وأنتم على آثارهم تشتد بكم الرحال، أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ [الحج:46].
أيها المسلمون، الناس في حاجة إلى كَنَف رحيم، ورعاية حانية، وبشاشة سمحة، هم بحاجة إلى وُدٍّ يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم، ولا ينفر من ضعفهم، في حاجة إلى قلب كبير، يمنحهم ويعطيهم، ولا يتطلع إلى ما في أيديهم، يحمل همومهم، ولا يثقلهم بهمومه.
إن تبلُّد الحس يهوي بالإنسان إلى منزلة بهيمية أو أحطّ، الإنسانُ بغير قلب رحيم أشبه بالآلة الصماء، وهو بغير روح ودود أشبه بالحجر الصلب.
إن الإنسان لا يتميّز في إنسانيته إلا بقلبه وروحه، لا في أكوام لحمه وعظامه. بالروح والقلب يعش ويشعر، وينفعل ويتأثر، ويرحم ويتألم.
الرحمة -أيها الإخوة في الله- كمال في الطبيعة البشرية، تجعل المرء يرقّ لآلام الخلق، فيسعى لإزالتها، كما يسعى في مواساتهم، كما يأس لأخطائهم، فيتمنّى هدايتهم، ويتلمّس أعذارهم.
الرحمة صورة من كمال الفطرة وجمال الخلُق، تحمل صاحبها على البر، وتهبّ عليه في الأزمات نسيماً عليلاً تترطّب معه الحياة، وتأنس له الأفئدة.
في الحديث الصحيح: ((جعل الله الرحمة مائة جزء، أنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)).
وربنا سبحانه متصفٌ بالرحمة صفةً لا تشبه صفات المخلوقين، فهو أرحم الراحمين، وخير الراحمين، وسعت رحمته كل شيء، وعمّ بها كل حي، وملائكة الرحمة -وهي تدعو للمؤمنين- أثنت على ربها، وتقربت إليه بهذه الصفة العظيمة، رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7]، وفي الحديث القدسي: ((إن رحمتي تغلب غضبي)) مخرَّج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي التنزيل العزيز: وَقُل رَّبّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرحِمِينَ [المؤمنون:118]، فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ [يوسف:64].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم رسول الله بسبي، فإذا امرأةٌ من السبي تسعى قد تحلَّب ثديها، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألزقته بيطنها فأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ((أتُرون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟)) قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، قال: ((فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها)) أخرجه البخاري.
أيها المسلمون، ورحمة الله سببٌ واصل بين الله وبين عباده، بها أرسل رسله إليهم، وأنزل كتبه عليهم، وبها هداهم، وبها يسكنهم دار ثوابه، وبها يرزقهم ويعافيهم وينعم عليهم، فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينه وبينهم سبب الرحمة، ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57، 58].(/1)
الرحمة تحصل للمؤمنين المهتدين بحسب هُداهم، فكلما كان نصيب العبد من الهدى أتمّ كان حظه من الرحمة أوفر، فبرحمته سبحانه شرع لهم شرائع الأوامر والنواهي، بل برحمته جعل في الدنيا ما جعل من الأكدار حتى لا يركنوا إليها فيرغبوا عن نعيم الآخرة، وأرسل نبيه محمداً بالرحمة، فهو نبي الرحمة للعالمين أجمعين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، بعثه ربه فسكب في قلبه من العلم والحلم وفي خُلُقه من الإيناس والبر، وفي طبعه من السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والندى ما جعله أزكى عباد الرحمن رحمة، وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدراً، فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128].
والإسلام رسالة خير وسلام ورحمة للبشرية كلها، دعا إلى التراحم، وجعل الرحمة من دلائل كمال الإيمان، فالمسلم يلقى الناس وفي قلبه عطفٌ مدخور، وبرّ مكنون، يوسع لهم، ويخفف عنهم، ويواسيهم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي أنه قال: ((لن تؤمنوا حتى تراحموا))، قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم، قال: ((إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة)) رواه الطبراني ورجاله ثقات.
ليس المطلوب قصر الرحمة على من تعرف من قريب أو صديق، ولكنها رحمة عامة تسع العامة كلهم، وأحاديث رسول الله تُبرز هذه العموم في إسداء الرحمة، والحث على إفشائها وانتشارها. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) متفق عليه، وفي الحديث الآخر: ((من لا يرحم لا يُرحم))، يقول ابن بطال رحمه الله: "في هذا الحديث الحضّ على استعمال الرحمة للخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك فيها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والمساعدة في الحمل وترك التعدي بالضر".
عباد الله، ورحم الله تُستجلب بطاعته وطاعة رسوله محمد ، والاستقامة على أمر الإسلام، وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، كما تُستجلب بتقوى الله، وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحديد:28].
ومن جالبات رحمة الله إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، والعبد بذنوبه وتقصيره فقير إلى رحمة الله، لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46].
ومن أعظم ما تُستجلب به رحمة الله -عباد الله- الرحمة بعباده، ففي الحديث الصحيح: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) رواه أبو داود والترمذي.
ومن أجل هذا -رحمكم الله- فإن المؤمن قويَّ الإيمان يتميّز بقلب حيّ مرهف لين رحيم، يرقّ للضعيف، ويألم للحزين، ويحنّ على المسكين، ويمدّ يده إلى الملهوف، وينفر من الإيذاء، ويكره الجريمة، فهو مصدر خير وبر وسلام لما حوله ومن حوله.
أيها المسلمون، وإذا كان الأمر كذلك فإن من أولى الناس وأحقهم بالرحمة وأمنِّهم بها وأولاهم بها الوالدين، فببرهما تُستجلب الرحمة، وبالإحسان إليهما تكون السعادة، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24].
ثم من بعد ذلك الأولاد فلذات الأكباد، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما ثم يقول: ((اللهم ارحمهما، فإني ارحمهما)) أخرجه البخاري.
والشاهد أن في الناس أجلافاً تخلو قلوبهم من الرقة والحنوّ، في مسالكهم فظاظة، وفي ألفاظهم غلظة، قبَّل رسول الله الحسن والحسين رضي الله عنهما، وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد، ما قبّلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله وقال: ((من لا يَرحم لا يُرحم))، وفي رواية: ((أَوَ أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!)) مخرج في الصحيحين من حديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما.(/2)
ويرتبط بالوالدين والأولاد حق ذوي الأرحام، فالرحم مشتقة من الرحمة في مبناها، فحرِي أن تستقيم معها في معناها، وفي الحديث: ((الرحم شجنة من الرحمة، من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله))، ليس للمسلم أن يوصد قلبه وبيته دون أقاربه، أو يقطع علائقهم لا يسدي لهم عوناً، فلا يواسيهم في ألم، ولا يبادرهم في معروف.
إن الغلظة والجفاء والقطيعة والصدود في حق ذي الرحم تحرم العبد بركة الله وفضله، وتعرّضه لسخط الله ومقته، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((الرحم شجنة من الرحمة تقول: يا رب، إني قُطعت، يا رب، إني ظُلمت، يا رب، إني أُسيءَ إليّ، فيجيبها: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟!)) أخرجه أحمد.
ومن مواطن الرحمة إحسان معاملة الخدم، والترفق بهم فيما يكلّفون به من أعمال، والتجاوز عن هفواتهم، وليحذر المرء من سطوة التصرف، فيسخّرهم ويسخر منهم، فإن الله إذا ملك أحداً شيئاً فاستبد به وأساء سلبه ما ملك، ويُخشى عليه من سوء المنقلب. وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (خدمتُ رسول الله عشر سنين، فما قال لي: أفٍ قط، وما قال لي لشيء صنعتُه: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟) رواه مسلم، وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً خلفي: ((اعلم أبا مسعود))، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا فإذا هو رسول الله وإذا هو يقول: ((اعلم ـ أبا مسعود ـ أن الله أقدر عليك منك من هذا الغلام))، فقلت: يا رسول الله، هو حرّ لوجه الله، فقال: ((أما لو لم تفعل لفحتك النار))، وجاءه عليه الصلاة والسلام رجل يسأله: كم أعفو عن الخادم؟ فقال : ((كل يوم سبعين مرة)) أخرجه أبو داود.
وفي الناس أقوام شداد قساة ينتهزون بعض الخدم، فيوقعون بهم أنواع الأذى، وقد شدد الإسلام في ذلك وغلّظ، يقول رسول الله : ((من ضرب سوطاً ظلماً اقتُصَّ منه يوم القيامة)).
وممّن تتطلب حالتهم الرحمة المرضى وذوو العاهات والإعاقات، فهم يعيشون في الحياة بوسائل منقوصة، تعوق مسيرهم، وتحول دون تحقيق كل مقاصدهم، وتضيق بها صدورهم، وتحرج نفوسهم. فلقد قيّدتهم عللُهم، واجتمع عليهم حرّ الداء، مع مرّ الدواء، فيجب الترفق بهم، والحذر من الإساءة إليهم، أو الاستهانة بمتطلبات راحتهم، فإن القسوة معهم جرم عظيم، لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61].
أما الصغار والأطفال فإنهم محتاجون إلى عناية خاصة، ورحمة راحمة، فليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا، والنفوس ذات الفطر السليمة تتعلّق بالصغير حتى يكبر، والمريض حتى يُشفى، والغائب حتى يحضر، وفي الحديث: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا)) أخرجه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
أيها الإخوة المسلمون، وتعاليم الإسلام وآداب الدين في هذا الباب تتجاوز الإنسان الناطق إلى الحيوان الأعجم، فجنات عدن تفتح أبوابها لامرأة بغيّ سقت كلباً فغفر الله لها، ونار جهنم فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فإذا كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب، وفي المقابل، فإذا كان حبس هرة أوجب الناس، فكيف بحبس البرآء من البشر؟!
وتترقَّى تعاليم ديننا في الرحمة بالبهائم حتى في حال ذبحها، والمشروع من قتلها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)).
وبعد أيها الناس، فبالرحمة تجتمع القلوب، وبالرفق تتآلف النفوس، والقلب يتبلّد مع اللهو الطويل والمرح الدائم، لا يشعر بحاجة محتاج، ولا يحسّ بألم متألم، ولا يشاطر في يؤس بائس ولا حزن محزون، جاء رجل إلى النبي يشكو قسوة قلبه فقال له: ((أتحبّ أن يلين قلبك؟! أرحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلنْ قلبك))، والرحمة لا تُنزع إلا من شقي عياذا بالله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:22].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:(/3)
الحمد لله، يعلم مكنونات الصدور، ومخفيات الضمائر، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولى من وافر النعم، والفضل المتكاثر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول والآخر، والباطن والظاهر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده الله ورسوله المطهّر الطاهر، كريم الأصل، زكي المآثر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والمفاخر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وعلى درب الحق سائر.
أما بعد:
فيا عباد الله، الرحمة ليست حنانا لا عقل معه، وليست شفقة تتنكر للعدل والنظام، كلا، بل إنها خُلُق يرعى الحقوق كلَّها، قد تأخذ الرحمة صورةَ الحزم حين يؤخذ الصغير إلى المدرسة من أجل التربية وطلب العلم، فيُلزم بذلك إلزاماً، ويُكفّ عن اللعب كفاً، ولو تُرِكوا وما أرادوا لم يحسنوا صنعاً، ولم يبنوا مجداً.
والطبيب يمزّق اللحم ويهشم العظم ويبتر العضو، وما فعل ذلك ـ أحسن الله إليه ـ إلا رحمة بالمريض وعلاجه، ناهيكم بإقامة الحدود، والأخذ على أيدي السفهاء، وأطرهم على الحق أطراً، فهي الرحمة في مآلاتها، والحياة في كمالاتها، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ يأُولِي الالْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
والشفقة على المجرمين تخفي أشدّ أنواع القسوة على الجماعة، إنها تشجّع الشواذ على الإجرام، والشفقة على المجرمين سماها القرآن الكريم رأفة، ولم يسمها رحمة، فقال في عقاب الزناة والزواني: وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ [النور:2].
إن القسوة التي استنكرها الإسلام جفاف في النفس، لا ترتبط بتحقيق عدل، ولا بمسلك إنصاف، ولكنها شدةٌ وانحراف في دائرة مجردة وهوى مضل.
أيها المسلمون، وقد يستوقف المتأمل معنى الشدة على الكافرين في مقابل الرحمة بالمؤمنين في قول الله عز وجل: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، والحق أن الإسلام قد جاء بالرحمة العامة، لا يُستثنى منها إنسان ولا دابة ولا طير، بيد أن هناك من الناس والدواب من يكون مصدر خطر ومثار رُهب فيكون من رعاية مصلحة الجماعة كلها أن يُحبس شره ويُكف ضرره، بل إن الشدة معه رحمةً به وبغيره.
الإسلام رسالة خير وسلام ورحمة للبشرية كلها، بل للدنيا كلها، ولكن ذئاب البشر أبوا إلا اعتراض الرحمة المرسلة، ووضع العوائق في طريقها حتى لا تصل إلى الناس، فيهلكوا في أودية الحيرات والجهالة، فلم يك بدُّ من إزالة هذه العوائق، والإغلاظ لأصحابها، وينقطع تعرُّضهم وتحديهم تشملهم هذه الرحمة العامة، فليس في الرحمة قصور، ولكن القصور فيمن حرم نفسه متنزّلاتها، اقرؤوا قول الله عز وجل: وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامّىَّ [الأعراف:156، 157].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر و تواصوا بالمرحمة.
ثم صلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال في محكم تنزيله، وهو الصادق في قيله قولاً كريماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين...(/4)
الرد على النصارى في ادعاء بنبوة المسيح و ألوهيته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله ، ثم أما بعد :
إن ما أوردته أناجيل النصارى المحرفة على لسان المسيح – عليه السلام – من كونه ابن الله و أن الله حل فيه أو كون الله هو المسيح إلى غيرها من التهم والخزعبلات ، أقول : إن تلك العقائد هي مما ألصق بالسيد المسيح – عليه السلام – و هو منه بريء ، لمنافاته لعقيدة التوحيد التي جاء بها كغيره من الرسل ، إذ يستحيل أن يصف المسيح نفسه بأوصاف الله عز وجل من الأزلية و الأبدية و العلم المطلق بكل شيء والوجود في كل مكان .. إلى غير ذلك من الصفات والأفعال الخاصة بالله عز وجل
و لو فرض – جدلاً – أن شيئاً من هذه الأقوال قد جاء على لسان المسيح – عليه السلام – مما يتضمن وصفه لنفسه بالبنوة والألوهية ، فإن بالضرورة ليس بالمعنى الذي يقصده المسيحيون من هذه الألفاظ ، فإن هذه الألفاظ قد وردت في الأسفار الكتابية بمعان أخرى ذكرها ابن تيمية في معرض رده على المسيحيين الذين يحتجون على قولهم ببنوة المسيح لله تعالى و ألوهيته بما ورد في أناجيلهم من النصل على ذلك .
و كذلك فعل غيره من العلماء في إبطالهم لاستشهادات النصارى على عقيدتهم الباطلة هذه من الكتاب المقدس .
لو فرض ذلك لابد وأن يؤول لفظ البنوة و الألوهية في حق المسيح بما لا يتنافى مع العقيدة الصحيحة في الله والمسيح ككونه دالاً على تكريمه و قربه من الله ، أو دالاً على رئاسته الدينية و شرفه و كونه متكلماً باسمه ، حاكماً بحكمه ، عاملاً بوصاياه .. الخ ، لاسيما إذا علمنا أن أسفار العهد القديم كانت تطلق لفظ البنوة على إسرائيل و على داود و غيرهما كما كانت تطلق لفظ الألوهية على موسى – عليه السلام – وعلى غيره من قضاة بني إسرائيل بهده المعاني ، بذكر التأويلات الصحيحة لما ورد في الأناجيل من ألفاظ الأبوة والبنوة والألوهية .. الخ ، ليست إذاً بنوة المسيح وألوهيته – حتى لو فرضت صحة هذه النصوص – بنوة و ألوهية حقيقية ، بل مجازية يجب أن تؤول نصوصها بما لا يتضمن فساداً في العقيدة ، ولا مخالفة للتوحيد ، و لتتفق مع النصوص المحكمة في العقيدة .
زد على ذلك – على فرض صحة نقله – لابد وأن يفهم على ضوء بقية ما تضمنه الكتاب المقدس من خصائص البشرية للمسيح – عليه السلام – .
أما ما أسند إلى المسيح من أفعال الله – عز وجل – فهو نوع من التحريف الذي ألحقه المسيحيون بعقيدتهم التوحيدية الصحيحة ، و ما داموا قد انحرفوا و ألهوا المسيح ، فمن الطبيعي أن يضيفوا إليه أفعال الألوهية ، وإذا كان تأليههم المسيح اعتقاد باطل ، فإن إضافتهم إليه أعمال الألوهية يعد أمراً باطلاً هو الآخر ، فإن مقتضى استحالة الألوهية في حق المسيح هو استحالة أفعالها في حقه كذلك .
والذي يتمعن فيما يستدلون به هنا من نصوص ، يجد أنها لا تتضمن في الحقيقة وصف المسيح لنفسه بالأزلية – كما يزعمون – بل أقصى ما فيها تقدير الله لنبوته ، و تمجيده له في قدره السابق ، قبل أن يخلق الخلائق ، و هذا أمر وارد في حق كل نبي من الأنبياء .
أما المعجزات : كمعجزة إحياء الموتى ، فلم يفعلها المسيح باعتباره إليهاً قادراً على كل شيء ، وإنما فعلها بالقدرة التي منحها الله له ، و بعد أن تضرع إلى الله الذي أرسله طالباً تأييده ، و ليس في هذا ما يدل على ألوهيته و لكنه يدل على نبوته ، وتأييد الله له بهذه المعجزات .
أما ما يزعمونه من جلوس المسيح على يمين الرب ، لدينونة الخلائق ، فذلك أمر باطل ، دفعهم إليه غلوهم في حق المسيح ، فالله هو مالك يوم الدين ، و هو المتفرد بحساب الخلائق في ذلك اليوم . و لو فرض وأن تعميد الناس إنما يكون باسمه مع اسم الله و روح القدس – مما تضمنه إنجيل متى – فهذا ليس على سبيل المشاركة في الألوهية ، و إنما على سبيل البركة باعتباره نبي الله .
و بديهي أن عيسى – عليه السلام – لا يمكن أن يرد على لسانه إقراره لـ ( توما ) في وصفه له بالألوهية ، و هو النبي الداعي إلى التوحيد ، و سوف يجيب ربه يوم القيامة – إذا سأله عن تأليه الناس له – قائلاً : {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي و ربكم }[المائدة/117] .
و غاية القول : إن ما يستشهد به النصارى على عقيدتهم في المسيح – عليه السلام – إما أن تكون شواهد مكذوبة النسبة إلى المسيح – عليه السلام – أو محرفة في نقلها و ترجمتها ، أو تكون متضمنة لألفاظ مؤولة لا ينبغي فهمها إلا في ضوء استعمال الكتب المقدسة لها ، و على ضوء بقية النصوص الأخرى التي تتضمن النص على بشرية المسيح – عليه السلام – و غيره من الأنبياء .
و سوف يتضح بجلاء بطلان ما يستشهد به النصارى على عقيدتهم في المسيح بعد أن نعرض فيما يأتي إبطال ابن تيمية و غيره من العلماء لما يستدل به النصارى من أدلة أخرى غير تلك التي أوردناها و أبطلناها في هذا المقام .(/1)
يذكر ابن تيمية أن عقيدة اليهود و النصارى في شأن المسيح – عليه السلام – على طرفي نقيض . فاليهود لم يعطوا المسيح حقه الذي منحه الله إياه ، فزعموا أن ولد زنا ، و أنه كذاب و ساحر ، و لم يؤمنوا به .
أما النصارى فقد غالوا في تعظيمه لدرجة تأليهه ، فقالوا عنه : إنه الله و ابن الله ، بل صار من يقول فيه القول الحق من علمائهم و عبادهم يجمعون لهم مجمعاً و يلعنونهم فيه على وجه التعصب ، واتباع الهوى ، و الغلو فيمن يعظمونه . الجواب الصحيح ( 2/88 ) .
و يبطل ابن تيمية عقيدة النصارى هذه في بنوة المسيح لله تعالى و ألوهيته ، و أدلتهم عليها من جهات متعددة ..
فهو يبطلها بإبطال أدلتهم من الكتاب المقدس – عندهم - ، و كذلك بإبطال استدلالهم عليها – في زعمهم – بالقرآن الكريم .
تفصيل ذلك : المقصود هنا – كما يقول ابن تيمية - : بيان بطلان احتجاج النصارى على أن المسيح هو الله ، أو ابن الله ، أو أنه كلمة الله الخالقة ، و أنه ليس لهم في ظاهر القرآن ولا باطنه حجة كما ليس لهم حجة في سائر كتب الله ، و إنما تمسكوا بآيات متشابهات ، و تركوا المحكم ، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله }[آل عمران/7] . والآية -كما يقول ابن تيمية – نزلت في النصارى فهم مرادون من الآية قطعاً . الجواب الصحيح (2/304) .
يقول ابن تيمية : ثم يقال للنصارى في هذا المقام : أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو الله إلا بهذه الكتب ، ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رسل الله معصومون ، ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن المسيح هو الله ، فصار ذلك دوراً ممتنعاً .- والدور هو : توقف الشيء على نفسه ، أي يكون هو نفسه عله لنفسه ، بواسطة أو بدون واسطة والدور مستحيل بالبداهة العقلية . أنظر : ضوابط المعرفة لعبد الرحمن الميداني ( ص333) - . فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب ، ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله ، ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله ، فصار ثبوت الإلهية متوقفاً على ثبوت إلهيته ، و ثبوت كونهم رسل الله متوقفاً على كونهم رسل الله ، فصار ذلك دوراً ممتنعاً . الجواب الصحيح ( 1/357 ) .
إبطال ابن تيمية لاستدلالات النصارى على بنوة المسيح وألوهيته بالتوراة ثم بالإنجيل .
أولاً : إبطال أدلتهم من التوراة :
يستشهد النصارى على عقيدتهم ببنوة المسيح لله تعالى و أبوة الله له وبالتالي على ألوهية المسيح ، ببعض نصوص التوراة التي تتضمن هذه الألفاظ الدالة على تلك العقائد ، فقد قالوا : نحن معشر النصارى لم نسم المسيح بهذه الأسماء من ذات أنفسنا ، بل الله سماه بها ، و ذلك أنه قال على لسان موسى النبي في التوراة مخاطباً بني إسرائيل : أليس هو أباك و مقتنيك ، هو عملك وأنشأك . سفر التثنية ( 32 : 6 ) . أي أن اسم الأب أو كلمة الأب قد استعملت في التوراة بالنسبة لله عز وجل ، فلم يكونوا – في نظر أنفسهم – هم المبتدعين لتلك الكلمة في حق الله عز وجل ، ولا ما تستتبعه تلك الكلمة من النبوة بالنسبة للمسيح .
و قد أجاب ابن تيمية على ذلك بقوله : إن في هذا الكلام أنه سماه أباً لغير المسيح – عليه السلام – و هذا نظير قوله لإسرائيل : أنت ابني بكري - سفر الخروج ( 4 : 22 و 23 ) - و لداود : ابني و حبيبي – مزمور ( 89 : 26 . 27 ) – و قل المسيح : أبي وأبيكم – يوحنا ( 20 :17 ) - ، و هم يسلّمون أن المراد بهذا في حق غير المسيح بمعنى الرب ، لا بمعنى التولد الذي يخصون به المسيح .
ثم إن هذا الدليل الذي يستدلون به على بنوة المسيح لله تعالى و ألوهيته هو حجة عليهم ، فإذا كان في الكتب المتقدمة تسميته أباً لغير المسيح ، و ليس المراد بذلك إلا معنى الرب ، علم أن هذا اللفظ في لغة الكتب يراد به الرب ، فيجب حمله ف يحق المسيح على هذا المعنى ، لأن الأصل عدم الاشتراك في الكلام ، وأن استعماله في المعنى الذي خصو به المسيح إنما يثبت إذا علم أنه أريد به المعنى الذي ادعوه في المسيح ، فلو أثبت ذلك المعنى بمجرد إطلاق لفظ الأب لزم الدور ، فإنه يعلم أنه أريد به ذلك المعنى ، من حيث يثبت أنه كان يراد به في حق الله هذا المعنى ، ولا يثبت ذلك حتى يعلم أنه أريد به ذلك المعنى في حق المسيح ، فإذا توقف العلم بكل منهما على الآخر لم يعلم واحد منهما ، فتبين أنه لا علم عندهم بأنه أريد في حق المسيح بلفظ الأب ما خصوه به في محل النزاع .(/2)
ثم إنه لا يوجد في كتب الأنبياء و كلامهم إطلاق اسم الأب والمراد به أب اللاهوت ، ولا إطلاق اسم الابن و المراد به شيء من اللاهوت ، و لا كلمته ولا حياته ، بل لا يوجد لفظ الابن إلا والمراد به المخلوق ، فلا يكون لفظ الابن إلا لابن مخلوق ، و حينئذ فيلزم من ذلك أن يكون مسمى الابن في حق المسيح هو الناسوت ، و هذا يبطل قولهم : إن الابن و روح القدس صفتان لله ، وإن المسيح اسم اللاهوت والناسوت ، فتبين أن نصوص كتب الأنبياء تبطل مذهب النصارى و تناقض أمانتهم . الجواب الصحيح ( 2 / 123 ) .
ثانياً : إبطال أدلتهم من الإنجيل :
يستشهد النصارى ببعض نصوص الأناجيل التي تتضمن ألفاظاً دالة على تلك العقائد ، فقالوا : عمدوا الناس باسم الأب و الابن والروح القدس . متى ( 28 : 19 ) .
و قد رد ابن تيمية على ذلك بقوله : هذا النص هو عمدتكم على ما تدعونه من الأقانيم الثلاثة ، و ليس فيه شيء يدل على ذلك لا نصاً ولا ظاهراً ، فإن لفظ الابن لم يستعمل قط في الكتب الإلهية في معنى صفة من صفات الله ، ولم يسم أحد من الأنبياء علم الله ابنه ، ولا سموا كلامه ابنه ، و لكن عندكم أنهم سموا عبده وأو عباده ابنه أو بنيه ، وإذا كان كذلك فدعواكم أن المسيح أراد بالعلم ابن الله ، و كلامه دعوى في غاية الكذب على المسيح ، و هو حمل للفظ على مالم يستعمله هو ولا غيره فيه لا حقيقة و لا مجازاً ، فأي كذب و تحريف لكلام الأنبياء أعظم من هذا ، و لو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله لسميت حياته ابناً ، و قدرته ابناً ، فتخصيص العلم بلفظ الابن دون الحياة خطأ ثانٍ لو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله ، فكيف إذا لم يكن كذلك ...
بل ظاهر هذا الكلام أن يعمدوهم باسم الأب الذي يريدون به في لغتهم الرب ، والابن الذي يريدون به في لغتهم المربي ، و هو هنا المسيح ، و الروح القدس الذي أيد الله به المسيح من الملك والوحي وغير ذلك ، و بهذا فسر هذا الكلام من فسره من أكابر علمائهم . الجواب الصحيح ( 2/131-134 ) بتلخيص .
كما و يستدل النصارى على صحة عقيدتهم في بنوة المسيح لله عز وجل بما يدعونه و يتأولونه كعادتهم من آيات الكتاب الحكيم ، فيقولون :
1 – إنه قد جاء في هذا الكتاب – يقصدون القرآن الكريم – الذي جاء به هذا الإنسان – أي محمد صلى الله عليه وسلم – {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه} [النساء/171] . و يقولون : و هذا يوافق قولنا : إن المسيح لاهوت و ناسوت ، إذ قد شهد القرآن أنه إنسان مثلنا بالناسوت الذي أخذ من مريم ، و كلمة الله و روحه المتحدة فيه ، وحاشا أن تكون كلمة الله و روحه الخالقة مثلنا نحن المخلوقين ، فأشار بهذا إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله الخالقة . نقلاً عن الجواب الصحيح لابن تيمية ( 2/279 ) .
و قد رد ابن تيمية على استشهادهم هذا بقوله : إن دعواكم - أيها النصارى – على محمد صلى الله عليه وسلم أنه أثبت في المسيح اللاهوت والناسوت كما تزعمون أنتم فيه ، هي من الكذب الواضح المعلوم ، فلو ادعى اليهود على محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان يكذّب المسيح عليه السلام و يجحد رسالته ، كان كدعوى النصارى عليه أنه كان يقول : أنه رب العالمين وأن اللاهوت والناسوت ، و محمد صلى الله عليه وسلم قد أخبر فيما بلغه عن الله عز وجل بكفر من قال ذلك ، وبما يناقض ذلك في غير موضع كقوله تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم ، قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه و من في الأرض جميعاً }[المائدة/17] .
و قوله تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم و قال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي و ربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار و ما للظالمين من أنصار } [المائدة/72] .
و قوله تعالى { وقالت اليهود عزيز ابن الله و قالت النصارى المسيح بن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون }[التوبة /30] .
إلى غير ذلك من أمثال هذه الآيات ، فكيف يزعمون أن القرآن يثبت لاهوت المسيح و هو يكفّر صراحة – كما رأينا – من يثبت بنوته لله تعالى و ألهيته .
2 - و يقولون أيضاً في استدلالهم على ألوهية المسيح بآيات الكتاب الكريم في موضع آخر : أن الله قد سماه كذلك في هذا الكتاب خالقاً ، حيث قال : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني }[المائدة/110] . و هذا مما يوافق رأينا – والكلام للنصارى - واعتقادنا في السيد المسيح لذكره ؛ لأنه حيث قال {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله } أي بإذن اللاهوت الكلمة المتحدة في الناسوت . نقلاً عن الجواب الصحيح لابن تيمية( 2/ 287 ) .(/3)
و قد أجاب شيخ الإسلام على ذلك بقوله : إن جميع ما يحتج به النصارى من هذه الآيات – و غيرها – هو حجة عليهم لا لهم ، و ذلك من وجوه :-
الوجه الأول : أن الله لم يذكر عن المسيح خلقاً مطلقاً ، ولا خلقاً عاماً ، كما ذكر عن نفسه تبارك وتعالى ، في كثير من الآيات . وأما المسيح عليه السلام فقال فيه : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني .. الآيات } و قال المسيح عن نفسه : { أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله .. الآيات } ، فلم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله ، فكيف يكون هذا الخالق هو ذاك ؟!
الوجه الثاني : أنه خلق من الطين كهيئة الطير ، والمراد به : تصويره بصورة الطير ، و هذا الخلق يقدر عليه عامة الناس ، فإنه يمكن لأحدهم أن يصور من الطين كهيئة الطير ، و غير الطير من الحيوانات ، والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح فيصير طيراً بإذن الله عز وجل و ليس مجرد خلقه من الطين ، فإن هذا أمر مشترك .
الوجه الثالث : أن الله أخبر أن المسيح إنما فعل التصوير المحرم والنفخ بإذن الله تعالى ، و أخبر المسيح عليه السلام أنه فعله بإذن الله ، و أخبر الله أن هذا من نعمه التي أنعم بها على المسيح عليه السلام كما قال تعلى {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه و جعلناه مثلاً لنبي إسرائيل }[الزخرف/59] .
و قوله تعالى { يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد و كهلا ، و إذ علمتك الكتاب و الحكمة والتوراة و الإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني و تبرئ الأكمه و الأبرص بإذني و إذ تخرج الموتى بإذني } [المائدة/110] .
و هذا كله صريح في أنه ليس هو الله ، إنما هو عبد الله فعل ذلك بإذن الله كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء ، و صرح بأن الآذن غير المأذون له ، و المعلِّم ليس هو المعلَّم ، و المنعم عليه و على والدته ليس هو إياه ، كما ليس هو والدته .
الوجه الرابع : إنهم قالوا : أشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت ، ثم قالوا في قوله { بإذن الله } أي بإذن الكلمة المتحدة في الناسوت ، و هذا يبين تناقضهم و افتراءهم على القرآن ؛ لأن الله أخبر في القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ، ففرق بين المسيح و بين الله ، و بين أن الله هو الآذن للمسيح ، و هؤلاء زعمهم أن مراده بذلك أن اللاهوت المتحد بالناسوت المسيح هو الخالق ، و هو الآذن ، فجعلوا الخالق هو الآذن ، و هو تفسير للقرآن بما يخالف صريح القرآن .
الوجه الخامس : إن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم يحتج إلى أن ياذن لنفسه ، فإنهم يقولون : هو إله واحد ، و هو الخالق ، فكيف يحتاج أن يأذن لنفسه و ينعم على نفسه ؟!
الوجه السادس : إن الخالق إما أن يكون الذات الموصولة بالكلام ، أو الكلام الذي هو صفة للذات ، فإن كان هو الكلام ، فالكلام صفة لا تكون ذاتاً قائمة بنفسها خالقة ، و لو لم تتحد بالناسوت ، واتحادها بالناسوت دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكناً ، فكيف و هو ممتنع ؟!
و إذا كان الخالق هو الذات المتصفة بالكلام ، فذاك هو الله الخالق لكل شيء رب العالمين ، و عندهم هو الأب ، و المسيح عندهم ليس هو الأب فلا يكون هو الخالق لكي شيء ، و القرآن يبيّن أن الله هو الذي أذن للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير ، فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة الطير ليس هو الله ، ولا صفة من صفاته ، فليس المسيح هو الله ، و لا ابن قديم أزلي لله ، و لكن عبده فعل بإذنه .
الوجه السابع : قولهم فأشار بالخالق على كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذ من مريم لأنه كذا قال على لسان داود النبي : ( بكلمة الله خلقت السماوات و الأرض ) فيقال لهم : هذا النص عن داود حجة عليكم ، كما أن التوراة والقرآن و سائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم ، فإن داود عليه السلام قال : ( بكلمة الله خلقت السماوات و الأرض ) و لم يقل : إن كلمة الله هي الخالقة ، كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى كلمة الله .
والفرق بين الخالق للسماوات والأرض و ين الكلمة التي بها خلق السماوات والأرض أمر ظاهر معروف ، كالفرق بين القادر والقدرة ، فإن القادر هو الخالق ، و قد خلق الأشياء بقدرته ، و ليست القدرة هي الخالقة .. فالله تعالى يخلق بقدرته و مشيئته وكلامه ، و ليس صفاته هي الخالقة .
الوجه الثامن : إن قول داود عليه السلام : ( بكلمة الله خلقت السماوات و الأرض ) يوافق ما جاء في القرآن و التوراة ، و غير ذلك من كتب الأنبياء ، إن الله يقول للشيء {كن فيكون} و هذا في القرآن في غير موضع و في التوراة قال الله : ( ليكن كذا ليكن كذا ) .(/4)
الوجه التاسع : قولهم : ( لأنه ليس خالق إلا الله و كلمته و روحه ) . إن أرادوا بكلمته كلامه ، و بروحه حياته فهذه من صفات الله ، كعلمه و قدرته ، فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنه روح الله ، فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله ، فقد كذب عليه ، ثم يقال : هذا كلامه و حياته من صفات الله كعلمه و قدرته ، وحينئذ فالخالق هو الله وحده و صفاته داخلة في مسمى اسمه ، لا يحتاج أن تجعل معطوفة على اسمه بواو التشريك التي تؤذن بأن الله له شريك في خلقه ، فإن الله لا شريك له ، و لهذا لما قال تعالى {الله خالق كل شيء} دخل كل ما سواه في مخلوقاته ، و لم تدخل صفاته كعلمه و قدرته و مشيئته و كلامه ، لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أشياء مباينة له .. وإن أرادوا بكلمة روحه المسيح ، أو شيئاً اتحد بناسوت المسيح ، فالمسيح عليه السلام كله مخلوق كسائر الرسل و الله وحده هو الخالق
الوجه العاشر : إن داود عليه السلام لا يجوز أن يريد بكلمة الله المسيح ؛ لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت ، و هو عند النصارى اسم اللاهوت والناسوت لما اتحدا ، و الاتحاد فعل حادث عندهم ، فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحاً ، فعلم أن داود لم يرد بكلمة الله المسيح ، و لكن غاية النصارى أن يقولوا : أراد الكلمة التي اتحدت فيها – أي مريم – بجسد المسيح لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح كما نطق به القرآن بقوله {إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا و الآخرة و من المقربين }[آل عمران/45] .
فالكلمة التي ذكرها ، و إنها هي التي بها خلقت السماوات والأرض ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله .
فاحتجاجهم بهذا – أي بأن المسيح باعتباره كلمة الله خلق الأشياء – على الكلمة الخالقة بإذنه ، هذا احتجاج باطل ، بل تلك الكلمة التي بها خلقت السماوات و الأرض لم يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم و المسيح لابد أن يدخل فيه الناسوت فعلم أنه لم يرد بالكلمة المسيح . أنظر : الجواب الصحيح (2 /287 – 293 ) .
3 - و يستشهد النصارى أيضاً على صحة بنوة المسيح لله وألويته بقوله تعالى { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ..الآية }[آل عمران/59 ] .
فقالوا : قد عنى بقوله : مثل عيسى ، إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة ، لأنه لم يذكر هنا اسم المسيح إنما ذكر عيسى فقط .
و كما أن آدم خلق من غير جماع ولا مباضعة ، فكذلك جسد المسيح خلق من غير جماع ولا مباضعة ، وكما أن جسد آدم ذاق الموت ، فكذلك جسد المسيح ذاق الموت .
و قالوا كذلك : و قد يبرهن على عقيدتنا أيضاً بما ذكره القرآن عن المسيح من أن الله ألقى كلمته إلى مريم ، و ذلك حسب قولنا : إن كلمة الله الأزلية الخالقة حلت في مريم و تجسدت بإنسان كامل . أنظر : الجواب الصحيح ( 2 / 294 ) .
و قد أجاب ابن تيمية رحمه الله عن ذلك بما يأتي :
أولاً : إن قوله تعالى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } كلام حق فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ؛ ليبين عموم قدرته ، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى ، و خلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى ، و خلق المسيح من أنثى بلا ذكر ، و خلق سائر الخلق من ذكر و أنثى ، و كان خلق آدم و حواء أعجب من خلق المسيح ، فإن حواء خلقت من ضلع آدم ، و هذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم ، و خلق آدم أعجب من هذا و هذا ، و هو أصل خلق حواء ؛ فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح ، فإذا كان سبحانه قادراً أن يخلقه من تراب ، و التراب ليس جنس بدن الإنسان ، أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان ؟ و هو سبحانه خلق آدم من تراب ، ثم قال له كن فكان لما نفخ فيه من روحه ، فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه ، و قال له كن فكان ، و لم يكن آدم بما نفخ من روحه لاهوتاً وناسوتاً ، بل كله ناسوت ، و كذلك المسيح كله ناسوت .
وهذا كله يبين به إن المسيح عبد ليس بإله ، وأنه مخلوق كما خلق آدم ، و قد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يباهل من قال أنه إله ، فيدعوا كل من المتباهلين أبنائه و نسائه و قريبه المخلص به ثم يبتهل هؤلاء و هؤلاء يدعون الله أن يجعل لعنته على الكاذبين ، فإن كان النصارى كاذبين في قولهم : هو الله ، حقت اللعنة عليهم ، و إن كان من قال ليس هو الله بل عبد الله كاذباً حقت اللعنة عليه ، و هذا إنصاف من صاحب يقين يعلم أنه على الحق .
و النصارى لما لم يعلموا أنهم على حق نكلوا عن المباهلة ، و قد قال تعالى عقب ذلك { إن هذا لهو القصص الحق و ما من إله إلا الله .. الآية}[آل عمران/62] . تكذيباً للنصارى الذين يقولون : هو إله حق من إله حق ، فكيف يقال : إنه أراد أن المسيح فيه لاهوت وناسوت و أن الناسوت فقد دون اللاهوت ؟(/5)
و بهذا ظهر الجواب عن قولهم : أعني بقوله : – عيسى – إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة ؛ لأنه لم يذكر الناسوت هاهنا اسماً للمسيح ، إنما ذكر عيسى فقط .
فإنه يقال لهم : عيسى هو المسيح بدليل قوله تعالى {إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه .. الآية} و قوله تعالى {ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل .. الآية } فأخبر أن المسيح ليس هو ابن الله و إنما هو ابن مريم ، والذي هو ابن من مريم هو الناسوت ، و أنه ليس إلا رسول .
ثانياً : قولهم : ( و قد يبرهن أيضاً – أي عقيدتهم في المسيح من أنه إله و ابن إله – بما ذكره القرآن عن المسيح من أن الله ألقى كلمته الخالقة إلى مريم ، و ذلك حسب قولنا نحن معشر النصارى : إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلت في مريم ، واتحدت بإنسان كامل ) . نقلاً عن الجواب الصحيح لابن تيمية ( 2/294 ) .
فيقال لهم : أما قول الله في القرآن فهو حق ، و لكن ضللتم في تأويله كما ضللتم في تأويل غيره من كلام الأنبياء ، وما بلّغوه عن الله و ذلك أن الله تعالى قال : {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة من اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا و الآخرة ومن المقربين ، و يكلم الناس في المهد و كهلاً و من الصالحين ، قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ، قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون }[آل عمران/45-47 ] .
ففي هذا الكلام وجوه تبيّن أنه مخلوق ، ليس هو ما يقوله النصارى ، منها : أنه قال ( بكلمة منه ) و قوله : ( بكلمة منه ) نكرة في الإثبات ، يقتضي أنه كلمة من كلمات الله ، ليس هو كلامه كله كما يقوله النصارى .
و منها : أنه بيّن مراده بقوله ( بكلمة منه ) أنه مخلوق ، حيث قال {كذلك الله يخلق ما يشاء ، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون }.
و قال في الآية الأخرى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } . وقال تعالى أيضاً {ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } .
فهذه ثلاث آيات في القرآن تبيّن أنه قال له ( كن ) فكان ، و هذا تفسير كونه ( كلمة منه ) .
و قال ( اسمه المسيح عيسى بن مريم ) فأخبر أنه ابن مريم و أخبر أنه وجيهاً في الدنيا و الآخرة ومن المقربين ، و هذه كلها صفة مخلوق و الله تعالى و كلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيء من ذلك . و قال تعالى على لسان مريم {أنى يكون لي ولد } فتبين أن المسيح الذي هو الكلمة ، هو ولد مريم لا ولد الله سبحانه و تعالى ..
فمع هذا البيان الواضح الجلي ، هل يظن ظان أم مراده بقوله : ( و كلمته ) أنه إله خالق ، أو أنه صفة لله قائمة به ، وأن قوله ( و روح منه ) المراد به : أنه حياته ، أو روح منفصلة من ذاته ؟! أنظر الجواب الصحيح ( 2 / 299- 301) بتلخيص .
و لنا في هذا المقام كلمة :
بعد ردود ابن تيمية رحمه الله على النصارى فيما يستشهدون به على عقيدتهم من آيات القرآن ، فإذا كانوا يستشهدون بآيات القرآن على أنها من كلام الله ، أو من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ، ليأخذوا جملة العقيدة التي أوحى بها الله ، أو العقيدة التي يعتقدها محمد صلى الله عليه وسلم ، ليأخذوا ذلك من جميع نصوص القرآن الواردة في الموضوع ، فلا يقتصرون على جملة هنا أو جملة هناك ، فالتعبيرات القرآنية عن المسيح بأنه كلمة الله أو روح من الله ، لابد وأن تفهم على ضوء الآيات الأخرى التي تنفي ألوهية المسيح و بنوته ، و تكفر من يقول بهما ، والتي تثبت براءة المسيح ممن يؤلهه أو يؤله أمه ، والتي تثبت كذلك اعترافه ببشريته .
على ضوء ذلك كله لابد و أن تفسر الآيات التي وصفت المسيح بأنه كلمة الله و روح منه ، و إلا فهو إيمان ببعض الكتاب و كفر بالبعض الآخر ، كما هو ديدنهم . و سواء اعتبر النصارى القرآن كلام الله أو كلام محمد صلى الله عليه وسلم فلابد من أن يأخذوا العقيدة القرآنية في المسيح من كل ما جاء في حقه من آيات . و هذا هو ما فعله شيخ الإسلام ، حيث جمع في مناقشتهم بين ما يستشهدون به من آيات القرآن ، و ما غضوا الطرف عنه من الآيات الأخرى ، و بذلك يكون التصور الكامل للعقيدة القرآنية في المسيح ، و في نفس الوقت يظهر بطلان استشهادهم على عقيدتهم الزائفة بآيات القرآن من جهة ، و بطلان عقيدتهم نفسها من جهة أخرى .
شبه أخرى :-(/6)
- يحتج النصارى على اختصاص المسيح بالبنوة والألوهية دون سائر الأنبياء والرسل بأنه كلمة الله الأزلية التي انفصلت عنه واتحدت بالمسيح من دون سائر البشر ، فكان ابناً بالطبع و ليس ابناً بالوضع الجواب : إنما خص المسيح بتسميته كلمة الله دون سائر البشر ؛ لأن سائر البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات ، بخلق الواحد من ذرية آدم من نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم ينفخ فيه الروح ، و خلقوا من ماء الأبوين ( الأب والأم ) . والمسيح عليه السلام لم يخلق من ماء رجل ، بل ما نفخ روح القدس في أمه حبلت به ، و قال الله له ( كن ) فكان ، و لهذا شبهه الله بآدم في قوله {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } فإن آدم عليه السلام خلق من تراب و ماء فصار طيناً ، ثم أيبس الطين ، ثم قال له : ( كن ) فكان بشراً تاماً بنفخ الروح فيه ، و لكن لم يسم كلمة الله ؛ لأن جسده خلق من التراب والماء ، و بقي مدة طويلة يقال : أربعين سنة ، فلم يكن خلق جسده إبداعياً في وقت واحد ، بل خلق شيئاً فشيئاً ، و خلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة ، وأما المسيح عليه السلام فخلق جسده خلقاً إبداعياً بنفس نفخ روح القدس في أمه ، قيل له : ( كن ) فكان له من الاختصاص – بكونه خلق بكلمة الله – ما لم يكن لغيره من البشر . أنظر الجواب الصحيح ( 2/166) .
- يقول ابن تيمية : إن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني آدم ، و قالوا : ( إنه إله تام وإنسان تام ) ، و ليس فيه من الإلهية شيء فما بقي - مع هذا – يمتنع أن يعتقد في نظائره ما يعتقد فيه .
فلو قال القائل : إن موسى بن عمران كان هو الله ، لم يكن هذا أبعد من قول النصارى فإن معجزات موسى كانت أعظم وانتصاره على عدوه أظهر و قد سماه الله في التوراة إلها لهارون و لفرعون . انظر سفر الخروج (4 :16 ، 7 :1 ) . والجواب الصحيح ( 3/174) .
ثم يقول : والمعجزات التي احتججتم بها للمسيح قد وجدت لغير المسيح ، ولو قدر أن المسيح أفضل من بعض أولئك ، فلا ريب أن المسيح عليه السلام أفضل من جمهور الأنبياء ، أفضل من داود وسليمان و أصحاب النبوات الموجودة عندكم ، و أفضل من الحواريين ، لكن مزيد الفضل يقتضي الفضيلة في النبوة والرسالة ، كفضيلة إبراهيم وموسى و محمد صلوات الله عليهم و سلامه ، و ذلك لا يقتضي خروجه عن جنس الرسل ، كما قال تعالى {ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام أنظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون } و قال تعالى { و قال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي و ربكم أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار و ما للظالمين من أنصار } .
وجماع هذا القول : إن سائر ما يوصف به المسيح عندهم و يدّعون اختصاصه به من كونه ابناً لله و كونه مسيحاً و كون الله حل فيه ، أو ظهر أو سكن أو أظهر المعجزات على يديه .. كل ذلك موجود عندهم في حق غير المسيح ، فليس للمسيح اختصاص بشيء من هذه الألفاظ في كلام الأنبياء توجب أن يكون هو الله أو ابن الله بل قد عرف – باتفاقهم واتفاق المسلمين – أن المراد بتلك الألفاظ حلول الإيمان بالله ومعرفته ، و هداه و نوره ومثاله العليّ في قلوب عباده الصالحين .
و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
أبو عبد الله الذهبي(/7)
الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح هم القدوة في الدين
إعداد د. ناصر عبد الكريم العقل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللَّه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة في الدين، ثم أصحابه - رضي اللَّه عنهم أجمعين - لأن اللَّه تعالى زكاهم؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم رباهم، وتوفي وهو عنهم راضٍ، وهم حملة الدين علمًا وعملاً، فقد نقلوا لنا القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعملوا بمقتضاهما، ولم تظهر فيهم الأهواء والبدع والمحدثات في الدين.
فإن الحق والهدى يدوران معهم حيث داروا، ولم يجمعوا إلا على حق، بخلاف غيرهم من الطوائف والمنتسبين للأشخاص والشعارات والفرق فإنهم قد يجتمعون على الضلالة.
ثم السلف الصالح من: التابعين وتابعيهم، وأئمة الهدى في القرون الثلاثة الفاضلة، هم القدوة بعد الصحابة؛ لأنهم كانوا على منهاج النبوة وسبيل الصحابة لم يغيروا ولم يبدلوا.
وعلى هذا المنهج سار أئمة الدين، وأهل السنة إلى يومنا، وإلى أن تقوم الساعة، ملتزمين بما جاء في الكتاب والسنة، ومقتفين لأثر النبي صلى الله عليه وسلم ، والسلف الصالح - والحمد لله-، وسبيل هؤلاء (السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة الدين)، هو سبيل المؤمنين الذي توعد اللَّه من يتبع غيره، وجعل اتباع غيره مشاقَّة للرسول صلى الله عليه وسلم ومن موجبات النار، نسأل اللَّه العافية، قال اللَّه تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [النساء: 115].
وبذلك يتقرر أن سبَّ الصحابة والسلف الصالح والطعنَ فيهم، طعنٌ في الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، كما أنه خيانة للأمة وعامة المسلمين؛ لأنه طعن في خيارها وقدوتها؛ ولذلك عمد أهل الأهواء والبدع والافتراق إلى الطعن في الصحابة والتابعين والسلف الصالح أو بعضهم كما سيأتي بيانه.
مصادر الدين هي: الكتاب والسنة (الوحي فحسب):
المنهج الحق، منهج السلف الصالح، أهل السنة والجماعة يقوم على: أن مصادر الدين: الكتاب والسنة، والإجماع (هو مبني عليهما)، وما عدا ذلك فهو باطل؛ لأنه بموت النبي صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي، وقد أكمل اللَّه تعالى الدين، قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة: 3]، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أدى الرسالة وبلغ الأمانة، وقال صلى الله عليه وسلم : «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب اللَّه وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض».
[صحيح الجامع الصغير: 2934]
والدين الحق يقوم على التسليم لله تعالى؛ والتسليم يرتكز على: التصديق والامتثال، والاتباع لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو دين اللَّه تعالى، أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي وأكمله فليس لأحد أن يُحْدث شيئًا زاعمًا أنه من الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». [متفق عليه]
فالدين كله عقيدة وشريعة، لا يجوز استمداده إلا من الوحي.
والعقيدة هي أصول الدين وثوابته وقواطعه، وعليه فإن: مصادر تلقي العقيدة الحق، هي: الكتاب، والسنة وإجماع السلف، وهذه هي مصادر الدين، ويتفرع من هذه القاعدة العظيمة الأصول التالية:
1- إذا اختلفت فهوم الناس لنصوص الدين، فإنَّ فَهْمَ السلف (الصحابة والتابعين ومن سلك سبيلهم) هو الحجة، وهو القول الفصل في مسائل الاعتقاد وغيرها لأنهم خيار الأمة، وأعلمها وأنقاها وقد أمرنا اللَّه وأمرنا رسوله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم، والرجوع إليهم، وتوعد من اتبع غير سبيلهم، وعليه فإن:
2- منهج السلف في تقرير العقيدة يعتمد على الكتاب والسنة، ولذلك كان هو الأعلم والأسلم والأحكم، ويتمثل ذلك بآثارهم المبثوثة في مصنفاتهم، وفي كتب السنة والآثار.
3- العقيدة توقيفية لا يجوز تلقيها من غير الوحي؛ لأنها غيب لا تحيط بها مدارك البشر، ولا عقولهم ولا علومهم.
4- العقيدة غيبية في تفاصيلها، فلا تدركها العقول استقلالاً، ولا تحيط بها الأوهام، ولا تدرك بالحواس والعلوم الإنسانية ولا غيرها.
5- كل من حاول تقرير العقيدة واستمدادها من غير مصادرها الشرعية فقد افترى على اللَّه كذبًا، وقال على اللَّه بغير علم.
6- كما أن العقيدة مبناها على التسليم والاتباع: التسليم لله تعالى، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم .
قال الزهري: «مِنَ اللَّه - عز وجل - الرسالة، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم».
[البخاري 13/508](/1)
7- الصحابة رضي اللَّه عنهم وأئمة التابعين وتابعيهم وأعلامُ السنة - السلف الصالح - كانوا على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسبيلهم هو سبيل المؤمنين، وآثارهم هي السنة والطريق المستقيم. قال الأوزاعي: «عليك بآثار مَنْ سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم». [رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2077، 2078)]
مصادر التلقي عند أهل الأهواء:
أما أهل الأهواء فقد تفرقت بهم السبل في مصادر تلقي الدين والعقيدة، وتنوعت مشاربهم ومصادرهم، فجعلوا من مصادر الدين وتلقي العقيدة:
1- العقليات والأهواء والآراء الشخصية، والأوهام والظنون وهي من وساوس الشياطين وأوليائهم، ومن اتباع الظن وما تهوى الأنفس.
2- الفلسفة وتقوم على أفكار الملاحدة والمشركين من الصابئة واليونان والهنود والدهريين ونحوهم، والفلسفة أوهام وتخرصات ورجم بالغيب.
3- عقائد الأمم الأخرى ومصادرها، مثل كتب أهل الكتاب وأقوالهم، والمجوس والصابئة، والديانات الوضعية الوثنية.
4- الوضع والكذب (لدى الرافضة والصوفية وغالب الفرق)، ومصدره الزنادقة ورؤوس أهل البدع، فإنهم يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى الصحابة والتابعين وأئمة الهدى وسائر الناس، ويضعون الأحاديث والروايات بأسانيد وهمية ومختلقة.
5- الرؤى والأحلام والكشف والذوق (لدى الصوفية والرافضة ونحوهم)، ومصدرها الأهواء وإيحاء الشياطين.
6- المتشابه والغريب والشاذ من الأدلة الشرعية واللغة وأقوال الناس.
7- الاعتماد على آراء الرجال دون عرضها على الشرع أو القول بعصمتهم وتقديسهم.
وللحديث بقية إن شاء الله.(/2)
الرسول قدوتنا في الأخلاق
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.. الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى.. نحمده حمداً كثيراً كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، ونصلي ونسلم على البشير النذير، والسراج المنير، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:-
فقد حث الرسول - صلى الله عليه وسلم- على مكارم الأخلاق، وكان أفضل الخلق أخلاقاً وأحسنهم آداباً، وبين رسول الله أنه ما بعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق، فلقد كانت في الجاهلية أخلاق كريمة فأتى الرسول ليتممها، وذلك بإصلاح ما فسد منها، والثناء على ما كان فاضلاً، والحث عليه حيث يقول صلى الله عليه وسلم-: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" 1.
أيها المسلمون: لقد امتدح الله نبيه على كمال الأخلاق فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } وذلك يظهر من خلال معاشرته للناس ومخالطته لهم، ولقد سئلت عائشة -رضي الله عنها- كيف كان خلق النبي - صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: " كان خلقه القرآن" 2 فلقد كان –بأبي هو وأمي- قرآناً يمشي على الأرض، أي أنه عمل بأخلاق القرآن، وتمثل آداب القرآن، وذلك أن القرآن أنزل للتدبر والعمل به، فكان أولى الناس عملاً به وامتثالاً لأوامره سيد الخلق.
ومما ذكر من الأخبار في حث الرسول على الأخلاق، عن أبي ذر قال: قال رسول الله: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" 3.
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه " 4.
وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: "إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً" 5.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم" 6.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء " 7.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يدعو بهذا الدعاء: ".. واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت" 8.
وقال: "إن الله -عز وجل- كريم يحب الكرم ومعالي الأخلاق، ويبغض سفسافها " 9.
وكان أول من امتثل تلك الأخلاق وعمل بها رسولنا، ونحن نذكر من الأخلاق الحميدة التي تخلق بها لنقتدي به في ذلك تحقيقاً لقول الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } سورة الأحزاب:21.
ومن تلك الأخلاق الرفيعة: الصدق في الكلام، والصدق في النيات، والصدق في الأعمال كلها، فهو الذي اتصف بذلك الخلق العظيم، وشهد بذلك أعداؤه قبل أصحابه، وقد كان يسمى الصادق الأمين، وهو القائل: " عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) 10.
وجعل الكذب علامة من علامات النفاق حيث قال: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" 11.
وهكذا عاش رسول الله صادقاً في كلامه، وصادقاً في عمله، وصادقاً في نيته، وصادقاً في مبادئه.. لم يصل إلى ما وصل إليه بالكذب والحيلة والمكر، بل إن كل حياته وضوح وصدق، حتى مع أعدائه الذين آذوه وأرادوا قتله وأسره..
هكذا فليكن المسلم –يا عباد الله- مقتدياً بنبيه في خلق الصدق، وأن يتقي الله في كلامه وحياته كلها.. إن الصدق نجاة والكذب هلاك..إن الله – عز وجل- امتدح الصادقين فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} سورة التوبة: 119.
ومن أخلاق الرسول السماحة والعفو: روى البخاري ومسلم عن جابر ( أنه غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم- قِبَل نجد، فلما قفل رسول الله قفل معهم، فأدركتهم القائلة –أي نوم القيلولة ظهراً- في واد كثير العضاه – شجر- فنزل رسول الله وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله تحت سمرة –نوع من الشجر- فعلق بها سيفه، ونمنا نومة؛ فإذا رسول الله يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: " إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاً - أي جاهزاً للضرب- فقال: من يمنعك مني؟ قلت: "الله، ثلاثاً " ولم يعاقبه وجلس )12(/1)
وفي رواية أخرى13: " فسقط من يده فأخذ رسول الله السيف، فقال للأعرابي "من يمنعك مني؟" فقال: كن خير آخذ، فقال - صلى الله عليه وسلم-: " تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟" قال: لا، ولكني أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فأتى الرجل أصحابه فقال لهم: جئتكم من عند خير الناس!)
فهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم- عفا عن الرجل في موقف حرج يدل على شجاعته.. لذا كان أفضل العفو عند المقدرة.
ثم إن الرسول لا يغفل في هذه اللحظة الحرجة عن القيام بواجب الدعوة، واستغلال الموقف لصالح الرسالة التي يحملها، فيقول للرجل: " تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟".
ثم ينادي أصحابه ليعطيهم درساً عملياً في فضائل الأخلاق لا ينسونه أبداً يتعلمون منه الشجاعة مع الحلم والعفو عند المقدرة.. ! فأين ما عليه أدعياء الحلم والعدل، مما كان عليه سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنت أمشي مع رسول الله وعليه برد نجراني –نوع من اللباس- غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم- وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء!)14.
إنها أخلاق نبي الإسلام ورحمة هذا الدين! وكم في ضحكة الرسول في وجه الأعرابي الجاهل من معنى يفهمه أهل الذوق الرفيع!..
ومن أخلاق الرسول الجود والعطاء والبذل: روى الإمام مسلم عن أنس قال: ( ما سئل رسول الله على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم لا يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها).
وهذا فيه تأليف القلوب للدخول في الإسلام.
ومعلوم كيف أنفق مغانم حنين حتى كان الرجل لينال المائة ناقة وأكثر.. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: (كان رسول الله أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان، يعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة).
ومن أخلاقه -أيضاً-: التواضع وخفض الجناح للمؤمنين: وقد أمر الله رسوله بذلك فقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } سورة الشعراء: 215. وذلك أن التواضع يتألف القلوب ويملكها بالمحبة، وقد كان رسول الله-كما أدبه الله- متواضعاً، خافض الجناح، لين الجانب، إذا جلس بين أصحابه كان كأحدهم، لا يتعالى ولا يترفع عليهم ولا يعطي لنفسه امتيازاً إلا ما تقتضيه طبيعة القيادة من الأمر والنهي.15
وعن أنس بن مالك: ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم-كان يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف16 من ليف)17 وفي رواية: ( وكان يوم قريظة والنضير على حمار ويوم خيبر على حمار مخطوم برسن من ليف وتحته إكاف من ليف)18.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله يخصف19 نعله ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته)20 وقالت: ( كان بشراً من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه)21.. وقالت: قال رسول الله: " آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد " 22.
وعن أنس قال: ( إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت" 23.
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة" 24.
هكذا كانت أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم- ! فأين المسلمون اليوم منها، وأين طغاة الأرض الذي عاثوا فيها فساداً بكبرهم وعتوهم، وظلمهم للفقراء والمساكين، وإهانتهم لكرامة الإنسان في كل مكان؟؟!!..
أسأل الله أن يصلح الأوضاع وأن يميتنا مسلمين.. وأستغفر الله العظيم،،،
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد:
إن من حق رسول الله على كل مسلم أن يتأسى به في الأخلاق، ويقتدي به في سلوكه الخاص والعام! وإلا فأين المفر من التقصير في جنب الله ! أيها المقصرون وأيها المفرطون وأيها الغافلون.. أين الهروب من عقوبة الله إذا خالفتم رسول الله في محاسن الأخلاق، وتخلقتم بسيئ الأخلاق، وتركتم معاليها.. هل يعلم الجميع أن أساس ديننا الأخلاق!.. أين الذوق الرفيع.. أين السماحة وانطلاق الوجوه يا مسلمون!.. لماذا أصبح الواحد منا اليوم قليل الأدب، دنيء الرتب، لا يقر له قرار إلا إذا عادى الناس وخاصمهم وشاتمهم؟!.(/2)
ألا وإن من أخلاق الرسول: كف الأذى وترك الشتم والسب وحفظ اللسان عن السوء امتثالاً لقول الله: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }سورة ق: 18.
ثبت أن الرسول كان جالساً فجاء يهود فقالوا: السام عليكم –أي الموت عليكم- فقالت عائشة: وعليكم السام واللعنة! فقال رسول الله: ( يا عائشة! إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ولكن قولي: "وعليكم" )25 وقد قال رسول الله: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 26 وعن أنس قال: (لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فاحشاً ولا لعاناً ولا سباباً، كان يقول عند المعتبة: "ماله ! ترب جبينه" )27.
ومن أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم- الحياء من فعل الشر، والحياء مما يقبح فعله أو يكره، حيث أن الحياء خصلة عفيفة تمنع من صدور القبيح أو الرضا به في غير تقحم قال عليه الصلاة والسلام: " الحياء لا يأتي إلا بخير" 28.
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم- على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول: إنك لتستحي، حتى كأنه يقول: قد أضرَّ بك، فقال رسول الله: "دعه فإن الحياء من الإيمان" 29. وعن أبي سعيد الخدري قال: ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أشد حياءً من العذراء في خدرها)30 .
والحياء لا يكون في تعلم العلم أو الاستفسار عما أشكل على الإنسان أو في قول الحق بحيث يمنعه من طلب العلم أ قول الحق أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. بل الحياء في هذا المواضع مذموم إذا كان بتلك المثابة.
ومن حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم المزاح المتزن والانبساط مع الناس.. فعن أنس بن مالك قال: إن كان النبي ليخالطنا، حتى يقول لأخ لي صغير: "يا أبا عمير ما فعل النغير"31 والنغير: طائر صغير.
وقد مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالسوق فرأى رجلاً من أصحابه فمسكه من خلفه وقال: "من يشتري هذا العبد" –على وجه المزاح- فقال يا رسول الله: إذن تجدني كاسداً ! -أي رخيصاً- قال: "لكنك عند الله لست بكاسد" أو قال: " لكن عند الله أنت غالٍ " 32.
ومن أخلاق الرسول الكريم: إكرام الضيف والجار والإحسان إليهما، وهو القائل: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" 33 .
ومن أخلاقه: احترام الكبير ورحمة الصغير: دخل أعرابي والرسول - صلى الله عليه وسلم- يقبل الحسن والحسين فقال: تقبلون صبيانكم! فقال رسول الله: " أو أملك أن كان الله قد نزع الرحمة من قلبك" 34 ؛ وقال: "من لا يرحم لا يرحم" 35 وقال رسول الله: " إنما يرحم الله من عباده الرحماء، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" 36.
وهكذا أيها المسلمون: كانت أخلاق الرسول في جميع شؤونه، وهي كثيرة جداً على لتي ذكر الله عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }( القلم: 4) وما ذكرناه إنما هو قليل من كثير.. وواجبنا تجاه ذلك: الإقتداء به والتأسي به في الأخلاق والأعمال اتباعاً لقوله -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } سورة الأحزاب: 21.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.. اللهم حسن أخلاقنا وأعمالنا يا رب العالمين.. اللهم أدبنا جميعاً بآداب نبيك، وأعنا على ذلك.. يا رب العالمين....
________________________________________
1- هكذا رواه الإمام أحمد، وورد بلفظ: ( مكارم الأخلاق ) وصححه الألباني.. ورواه الإمام مالك بلفظ: ( حُسْنَ الأخلاق ).
2- رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي.
3- رواه الإمام أحمد والترمذي والدارمي. وقال الترمذي: حسن صحيح.
4- رواه أبو داود في سننه، وهو حديث حسن كما ذكر الألباني في صحيح أبي داود برقم ( 4015 ).
5- رواه البخاري ومسلم.
6- رواه الإمام أحمد وأبو داود، ولفظ أبي داود: ( إن المؤمن ليدرك..) والحديث صحيح كما ذكر الألباني في صحيح أبي داود برقم ( 4013 ).
7- رواه الترمذي بهذا اللفظ. ورواه الإمام أحمد وأبو داود من غير زيادة: ( وإن الله ليبغض الفاحش البذيء ).
8- رواه مسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حديث طويل برقم ( 1290 ) وهو حديث جليل فيه دعاء شريف أرجو ممن يطلع على هذا الحديث العمل به وتدبر معانيه.. ورواه أيضاً الترمذي والنسائي وأبو داود وأحمد والدارمي.
9- رواه الحاكم في المستدرك وأبو نعيم في الحلية، والحديث صحيح كما ذكر الألباني في السلسلة الصحيحة ( 1378).
10 - رواه مسلم والترمذي وأبو داود.
11- رواه البخاري ومسلم.
12- رواه البخاري ومسلم وأحمد.
13- عند الإمام أحمد.
14- رواه البخاري وأحمد.
15 - الأخلاق الإسلامية – للميداني.
16- الإكاف: ما يوضع على ظهر الحمار من وقاء للركوب عليه.
17- رواه الترمذي في سننه.(/3)
18- رواه ابن ماجه، انظر السلسلة الصحيحة رقم ( 2112 ).
19- يخصف: أي يخيط ويرقع.
20- رواه أحمد. وروى نحوه البخاري والترمذي.
21- رواه أحمد.
22- الحديث صحيح انظر السلسلة الصحيحة رقم ( 544 ).
23- رواه البخاري.
24- رواه النسائي والدارمي بإسناد صحيح.
25- رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
26- رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
27- رواه البخاري وأحمد.
28- رواه البخاري ومسلم عن عمران بن حصين.
29- رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
30- رواه البخاري ومسلم.
31- رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
32- رواه الإمام أحمد.
33- رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك وأبو داود وابن ماجه والدارمي.
34- رواه البخاري ومسلم وأحمد عن عائشة رضي الله عنها.
35- رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة وجرير بن عبد الله رضي الله عنهما.
36- رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص. والحديث صحيح كما ذكر الألباني في صحيح أبي داود رقم (4132).(/4)
الرشوة
عبد الرحمن بن علي العسكر ...
ملخص الخطبة ...
1- الأمر بمخالفة الأمم السابقة. 2- الرشوة من صفات اليهود. 3- فتنة المال. 4- مفاسد الرشوة. 5- ذم الرشوة. 6- بين الهدية والرشوة. 7- خطر انتشار الرشوة. 8- التحذير من تسمية الرشوة بغير اسمها. ...
...
الخطبة الأولى ...
...
أما بعد: فيا أيها الناس، الخير كله والصلاح والفلاح في تقوى الله، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
عباد الله، أعاد القرآن وكرر من الأمر بمخالفة الأمم السابقة، وأمرنا أن لا نسلك ما سلكوا فنهلك كما هلكوا، وقال : ((ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشي أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم))، ولقد أخبر الرسول عن هذه الأمة أنها ستفعل مثل ما فعل من قبلهم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)). ألا وإن من أعظم من حذِّرنا أن نقع فيما وقعوا فيه هم اليهود والنصارى.
عباد الله، إن فيما قصه الله علينا في كتابه من أخبار الماضين في معرض الذم لهم والإنكار عليهم ما يحمل أرباب العقول على اجتناب طريقهم والبعد عن مسالكهم.
وإن مما أخبرنا الله سبحانه من صفات اليهود أنهم كانوا أكالين للسحت فيما بينهم: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42]، ويقول سبحانه: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:62، 63]. يقول ابن مسعود: (السحت هو الرشا)، وقال عمر بن الخطاب: (رشوة الحاكم من السحت)، وروى ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به))، قيل: يا رسول الله، وما السحت؟ قال: ((الرشوة في الحكم)). وقال الحسن رحمه الله: "كان الحاكم من بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمّه فأراها إياه وتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة، ويسمع الكذب، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]".
عباد الله، إن المال فتنه أي فتنة، وإن الإنسان متى فتح لنفسه باب شرٍ من طريقه فلن يغلق. ألا وإن من طرق أكل المال الحرام ما جاء في قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، فنهى الله المسلم أن يأكل مال غيره بالباطل، وصورها في صورة الرشوة التي يصانع بها صاحب الحاجة الحاكم لينال حق غيره، ولقد فسر قول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [التوبة:34] بأنه أكل الرشوة.
الرشوة ـ عباد الله ـ مرض فتاك يفسد الأخلاق، ويسري في الأمة حتى يوردها موارد التلف، ما خالطت الرشوة عملاً إلا أفسدته، ولا نظامًا إلا قلبته، ولا قلبًا إلا أظلمته، ما فشت الرشوة في أمةٍ إلا وحل فيها الغش محل النصح، والخيانة محل الأمانة، والخوف جاء بدل الأمن، والظلم بدل العدل.
الرشوة ـ أيها الناس ـ مهدرة الحقوق، معطِّلة للمصالح، مجرَأَة للظلمة والمفسدين، ما فشت في مجتمع إلا وآذنت بهلاكه، تساعد على الإثم والعدوان، تقدم السفيه الخامل، وتبعد المجد العامل، تجعل الحق باطلاً والباطل حقًا، كم ضيّعت الرشوة من حقوق، وكم أهدرت من كرامة، وكم رفعت من لئيم وأهانت من كريم.
الرشوة ـ أيها الناس ـ نقص في الديانة، وضياع للأمانة، وعلامة على الخيانة، انتشرت الرشوة بين اليهود فكانت أمتهم تعيش بالمحاباة والرشا في الأحكام، ففسدت بينها أمور المعاملات، وكذلك استبدلت الطمع بالعفة. كان اليهود ورؤساؤهم أكالين للسحت من رشوة وغيرها من الدناءات، كما هو دأب الأمم في عهود فسادها وأزمان انحطاطها، وما كان عليه أسلافهم في الماضي فهم عليه اليوم، ما تسقط شركة من شركات يهود إلا وفضائح الرشوة تلاحقها، بل ما يزول حاكم من حكامهم إلا وأول تهمة توجه إليه هي أخذه للرشوة ومحاباته لغيره.
عباد الله، الرشوة ملعون صاحبها على لسان رسول الله ، روى الترمذي وأحمد وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لعن الله الراشي والمرتشي))، وفي رواية عند أحمد: ((والرائش)) وهو الذي يمشي بينهما. وروى الطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (الرشوة في الحكم كفر، وهي بين الناس سحت).(/1)
ولما بعث رسول الله معاذًا إلى اليمن أرسل في أثره، فلما جاءه قال: ((أتدري لِمَ بعثتُ إليك؟ لا تصيبن شيئًا بغير إذني فإنه غلول، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، لهذا دعوتك فامض لعملك)) رواه الترمذي.
عباد الله، الهدية مندوب إليها، بل لقد قال رسول الله : ((تهادوا تحابوا))، لكن متى ما كانت الهدية سبيلاً إلى حرام فإنها حرام، يقول ابن التين: هدايا العمال رشوة ليست بهدية، إذ لولا العمل لم يهد له، وهدية القاضي سحت، وإذا قلبها وضعها في بيت المال، فقيل له: إن رسول الله كان يقبل الهدية! فقال: إنها كانت هدية، وهي الآن رشوة.
إذا أتت الهديّة دار قومٍ تطايرت الأمانة من كواها
روى البخاري في صحيحه عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي رجلاً من بني أسد يقال له: ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي إلي، فقام النبي على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا لك وهذا أهدي إلي؟! فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة، يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تعير))، ثم رفع يديه حتى عفرتي إبطيه ـ يعني بياضهما ـ وقال: ((ألا هل بلغت؟)) ثلاثًا. وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من استعملناه على عملٍ فرزقناه رزقًا ـ أي: منحناه مرتبًا ـ فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) رواه أحمد وأبو داود.
أيها الناس، إن وجود الرشوة وانتشارها في قوم مؤذن بخطر عظيم، فقد روى الإمام أحمد وأبو عبيد وابن أبي الدنيا وصححه الحافظ ابن حجر عن عُليم قال: كنت مع عابس الغافري على سطح، فرأى قومًا يتحملون من الطاعون ـ أي: يتوجّعون ـ فقال: ما لهؤلاء يتحمّلون من الطاعون؟ يا طاعون خذني إليك، يا طاعون خذني إليك، فقال له أحد الصحابة: لِمَ تتمنَّى الموت وقد سمعت رسول الله يقول: ((لا يتمنّينّ أحدكم الموت، فإنه عند انقطاع عمله))؟! فقال: إني سمعت رسول الله يقول: ((بادروا بالأعمال خصالاً ستًا: إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وقطيعة الرحم، وبيع الحكم، واستخفافًا بالدم، ونشوًا يتخذون القرآن مزامير، يقدمون الرجل ليس بأفقههم ولا أعلمهم، ما يقدمونه إلا ليغنّيهم)). والمقصود بيع الحكم كما فسره العلماء: هو تولية المناصب عن طريق الرشوة.
فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بمن مضى قبلكم من الأمم المحادّة لله والمعتدية على حدود الله، كيف حلت بهم نقمة الله، وكيف توعد الله من سلك سبيلهم واجترأ على معاصي الله.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. ...
...
الخطبة الثانية ...
الحمد لله الذي جعل لنا في الحلال غنيةً عن الحرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد من اتقاه أن يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، فله الحمد يهدي إلى الرشد ويعِد بالرزق ويفيض النعم ويدفع النقم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المأمور بأكل الطيبات والعمل بالصالحات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا أيها الناس، قاعدة عظيمة ينبغي لكل مؤمن أن يجعلها نصب عينيه في كلّ عمل يعمله، يقول الرسول : ((إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)).
عباد الله، إن تفنُّن الناس في تسمية الرشوة بغير اسمها لا يخرجها عن حكمها، سمَّوها بغير اسمها، ولقّبوها بألقاب تخدع السذج من الناس وتسرّ الغششة، حتى انتشرت الرشوة بينهم انتشار النار في يابس الحطب، حتى أفسدت كثيرًا من الذمم، الطالب يعطي أستاذَه، الموظَّف يهدي إلى مديره، صاحب الحاجة يقيم مأدبة لمن هو محتاج إليه، في صوَر أفسدت العمال على أصحاب العمل، يجعلون الخدمة لمن يدفع أكثر، ومن لا يدفع فلا حول لهم ولا قوة، لا يجد الإنسان أمامه إلا نفوسًا منهومة وقلوبًا منكّسة، ولو كانوا صادقين في إباحة ما أخذوا ما بالهم لا يعلنونه أمام الملأ؟!
أيها الناس، إن من قصور النظر أن يظن أن الرشوة لا تعدو أن تكون مالاً يتبرّع به شخص لآخر، إن كل منفعة كائنة ما كانت بذلت لجلب منفعة أخرى بغير حقّ فهي داخلة في الرشوة، ألم تروا إلى اليهود يقول الرسول عنهم: ((قاتل الله اليهود لما حرمت عليهم شحوم الميتة جملوها وأذابوها، ثم باعوها وأكملوا ثمنها))؟! ويقول فضالة بن عبيد رضي الله عنه: "كل قرضٍ جرّ منفعة فهو وجه من وجوه الربا"، ويقول على بن أبي طالب رضي الله عنه: (يأتي على الناس زمان يستحَلّ فيه السحت بالهدية).
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في سركم وعلانيتكم.(/2)
وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
موقع المنبر ...(/3)
الرضى في الجنة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه والتابعين :
استوقفني وأنا أعد إحدى الخطب عن الجنة والتي أسميتها دار النعيم المقيم استوقفني كثرة الحديث عن الرضى مما جعلني أقول لابد أن يفرد للرضى في الجنة حديث خاص .
ماذا أقول عن دار وعد بالرضى فيها قبل دخولها ؟ ومن استمع إلى تلك هاتين الآيتين أوضحتا له الكثير والكثير عن الرضى في الجنة ، ولكن لنستمع إلى تلك الآيتين ونحن مستحضرون أننا مازلنا في الدنيا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : " والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا ً وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم " الحج 58 ، 59 .
فبالله عليك أخي أما تشعر بالرضى ؟
يا سبحان الكريم الوهاب رضى الجنة يصلك وأنت في الدنيا ! ، وما خفي كان أعظم .
أنه رضى الله الذي وعد أهل الإيمان بالرضى .
لكن يا تُرى أين وعدهم ؟
وعدهم وهم في الدنيا فأخبر جل وعلا عن النار وأنها تلظى ولكن يا أهل الإيمان أبشروا إنكم بفضل الله سوف تجنبوا تلك النار ، وليس فقط بل ولسوف تحظون بالرضى .
قال تعالى " فأنذرتكم نارا ً تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى * وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى " .
إنه الرضى وعدنا ربنا به ونحن في الدنيا ، فكيف إذا صرنا إليه ؟ ما ظنك به ؟
أرجوك لا تطلق لخيالك الانطلاقة في تلك الرضى فإنه أكبر بكثير مما يدور بالخيل ، وكيف لا وفي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فكل ما خطر على قلبك من الرضى فقل له بل أكبر من ذلك عند ربي .
حتى إذا حقت الحاقة ووقعت الواقعة وقام الناس حفاة عراة غرلا ً ووقفوا ما شاء الله أن يقفوا
وطارت الصحف في الأيدي منشرة .... فيها السرائر والأخبار تطلع
" فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية " .
نعم والله يبشر بعيشة راضية وهو في أرض المحشر ، وما ذاك إلا لما قدم في الدنيا " وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية " .
فيرضى عما قدم من عمل بعد أن أخذ كتابه باليمين وبشر بعيشة راضية .
حتى إذا تقدم إمام الأنبياء والمرسلين وخير ولد آدم أجمعين وأهل الجنة خلفه في موكب مهيب فإذ برسول الله صلى الله عليه وسلم يقرع باب الجنة فلا تعجب أخي إن علمت أن الذي يجيب قرع الباب هو خازن الجنة رضوان .
الله أكبر دار الرضى أشتق أسم خازنها من الرضى فأصبح اسمه رضوان .
إي وربي رضوان خازن الجنة من على باب الجنة تراه وتسمع صوته فلكأنها بشرى بما في الجنة من رضى .
حتى إذا تدفق الجموع إلى دار النعيم المقيم حتى يزدحم بهم باب عرضه مسيرة أربعين سنة وتلقتهم الملائكة بالتهنئة وبالتحية ونزلوا منازلهم وقصورهم كل منهم أعرف بمنزلة في الجنة أكثر من معرفته لمنزله في الدنيا تلقتهم الحور العين الخيرات الحسان يغنين بأحسن الأصوات نحن الراضيات فلا نسخط
ما ظن سامعه بصوت أطيب .... الأصوات من حور الجنان حسان
نحن النواعم والخوالد خيرا .... ت كاملات الحسن والإحسان
لسنا نموت ولا نخاف وما لنا .... سخط ولا ضغن من الأضغان
طوبى لمن كن له وكذاك طو .... بى للذي هو حظنا لفظان
فبالله عليك يا أخي أي نعيم هذا الذي فيه الحورية راضية ؟ وما ظنك بسيدها ألا يكون راضيا ؟
، وبينا هم في هذا الرضى إذ أتاهم ما هو أكبر .
فإن سألت أكبر من أي شيء ؟ فالجواب أكبر من كل شيء " ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم " .
في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول هل رضيتم ؟
يا لنعمة الله ! في كل هذا النعيم ورب الكون ومالك الملك يناديهم هل رضيتم ؟
فيقولون وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا ً من خلقك ؟ ، فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ ، فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا ً .
فاللهم إنا نسألك أن ترضينا وأن ترضى عنا .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كتبها من يرجو عفو ربه /
أيمن سامي
المشرف العام على موقع الفقه
http://www.alfeqh.com(/1)
... ... ...
الرقابة لمن؟ ... ... ...
علي عبد الخالق القرني ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- علم الله بكل شيء. 2- الخوف من الله المطلع على كل شيء. 3- ثمرة مراقبة الله. 4- الشهود يوم القيامة. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ جل وعلا، وأن نقدمَ لأنفسِنا أعمالاً تبيضُ وجوهَنا يوم نلقى اللهَ، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران:30].
يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [النحل:111].
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:42].
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً [الفرقان:27].
يوم الحاقة، يوم الطامة، يوم القارعة، يوم الزلزلة، يوم الصاخة
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
ثم أعلموا يا عباد اللهِ أن رقابةَ البشرِ على البشرِ قاصرة، وأن رقابةَ المخلوقاتِ على بعضها قاصرة.
البشرُ يغفل، والبشرُ يسهو، ينام، يمرض، يسافر، يموت.
إذاً فلتسقطُ رقابةَ المخلوقين ولتسقط رقابة الكائنات جميعَها، وتبقى الرقابةُ الكاملة، الرقابةُ المطلقة آلا وهي رقابةُ اللهِ جل وعلا.
باري البرايا منشأ الخلائق مبدعهم بلا مثال سابق
حي وقيوم فلا ينام وجل أن يشبه الأنام
فإنه العلي في دنوه وإنه القريب جل في علّوه
لا إله إلا هو.
علمُ البشرِ، ما علمُهم؟ علمُ قاصر، ضعيف قليل.
ما وراءَ هذه الجدران؟ نجهلُ منه الكثيرُ لا نعلمه، بل لا نعلمُ أنفسَنا التي بين جنبينا.
لكن الله يعلم ذلك ويعلم ما هو أعلى من ذلك.
وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59].
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء [آل عمران:5]. يعلم ما تسره الآن في سريرتك ومن بجوارك لا يعلم ذلك.
يعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد مائة عام، وأنت لا تعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد دقائق أو ساعات.
إنه العلم الكامل، إنه العلم الكامل المطلق، علم الله السميع العليم، العليم الخبير. يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:19]. يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ [غافر:19].
يعلم ويسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء.
هو الذي يرى دبيب الذر في الظلمات فوق صم الصخر
وسامع للجهر والإخفات بسمعه الواسع للأصوات
وعلمه بما بدا وما خفي أحاط علماً بالجلي والخفي
مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [المجادلة:7].
رجلان من قريش يجلسان في جوف الليل، تحت جدارِ الكعبة، قد هدأت الجفون ونامت العيون، أرخى الليلُ سدوله، واختلط ظلامُه، وغارت نجومُه، وشاع سكونُه.
قاما يتذاكران، ويخططان ويدبران، وظنا أن الحي القيوم لا يعلمُ كثيراً مما يعملون.
استخفوا من الناس ولم يستخفوا من الله الذي يعلم ما يبيتونَ مما لا يرضى من القول.
تذاكرا مصابهم في بدر فقال صفوان وهو أحدُهم: والله ما في العيش بعد قتلى بدر خير.
فقال عمير: صدقت والله لولا دينُ علي ليس له قضاء، وعيالُ أخشى عليهم الضيعة لركبتُ إلى محمد حتى أقتله.
صلى الله على نبينا محمد.
اغتنم صفوان ذلك الإنفعال، وذلك التأثر وقال: علي دينُك، وعيالُك عيالي لا يسعُني شيءُ ويعجزُ عنهم.
قال عمير: فأكتم شأني وشأنك لا يعلم بذلك أحد. قال صفوانُ: أفعل.
فقام عمير وشحذ سيفَه، وسمَه، ثم انطلقَ به يغضُ السير به إلى المدينة.
وصل إلى هناك وعمرُ رضي الله عنه، أعني بنَ الخطاب في نفرٍ من المسلمين.(/1)
أناخَ عميرُ على بابِ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحاً سيفه.
فقال عمر: عدو الله، والله ما جاء إلا لشر.
ودخل عمر على رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبره.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدخلُه علي.
فأخذ عمرُ بحمائل سيفِ عُمير وجعلها له كالقلادة ثم دخل به على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: أرسله يا عمر.
ثم قال ما جاء بك يا عمير. وكان له أبنُ أسير عند رسولِ صلى الله عليه وسلم
قال جئت لهذا الأسير، فأحسنوا به.
قال صلى الله عليه وسلم: فما بالُ السيفِ في عنقك؟
قال: قبحها اللهُ من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً.
فقال صلى الله عليه وسلم وقد جاءه الوحيُ بما يضمرُه عمير، اصدقني يا عمير ما الذي جاء بك؟
قال: ما جئت إلا لذاك.
فقال صلى الله عليه وسلم: بل قعدت مع صفوان في الحجر في ليلة كذا، وقلت له: كذا، وقال لك: كذا وتعهد لك بدينك وعيالك، واللهُ حائلُ بيني وبينك.
قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا أمرُ لم يحضُره إلا أنا وصفوان، واللهِ إني لأعلم أنه ما أتاك به الآن إلا الله، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، والحمد لله الذي هداني للإسلام.
جاء ليقتلَ النور ويطفىء النور، فرجعَ وهو شعلةُ نور اقتبسَه من صاحب النور صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، سمعتم المؤامرة تحاك تحت جدار الكعبة، في ظلمة الليل لا يعلمُ بها أحد حتى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم الغيب. حُبكت المؤامرةُ سراً.
من الذي أعلنها؟ من الذي سمعهما؟ وهما يخططان، ويدبران ويمكران عند باب الكعبة.
إنه الذي لا يخفى عليه شيءُ في الأرض ولا في السماء.
كم تأمر المتآمرون في ظلام الليل، كم من عدو للإسلام جلس يخطط لضرب الإسلام وحدَه أو مع غيره سراً، ويظن أنه يتصرفُ كما يشاء، متناسياً أن الذي لا يخفى عليه شيءُ يسمع ما يقولون ويبطل كيدَهم فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.
يا أيها العبدُ المؤمن: إذا لقيت عنتاً ومشقة وسخرية واستهزاء فلا تحزن ولا تأسَ إن الله يعلم ما يقال لك قبل أن يقالُ لك، وإليه يرد كل شيء، لا إله إلا هو.
يا أيها المؤمن إذا جُعلت الأصابع في الآذان: واستغشيت الثياب، وزاد الإصرار والاستكبار، وكثر الطعن وضاقت نفسك فلا تأسَ ولا تحزن، إن الله يعلم ويسمع ما تقول وما يقال لك.
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ [غافر:19].
يا أيها الشاب الذي وضع قدمَه على أول طريق الهداية، فسمع رجلاً يسخر منه، وآخر يهزأ به، وثالثاً يقاطعه، اثبت ولا تأسَ وأعلم علم يقين أنك بين يدي الله يسمع ما تقول، ويسمع ما يقال لك، وسيجزي كل أمرء بما فعل.
لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [سبأ:3].
يا مرتكبَ المعاصي مختفياً عن أعينَ الخلق أين الله؟
أين الله ما أنت واللهِ إلا أحدُ رجلين: إن كنتَ ظننتَ أن اللهَ لا يراك فقد كفرت.
وإن كنت تعلمُ أنه يراك فلمَ تجترئ عليه، وتجعلَه أهونَ الناظرينَ إليك؟
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً [النساء:108].
يدخلُ بعضُ الناسِ غابةً ملتفة أشجارُها، لا تكادُ ترى الشمسَ معها، ثم يقول: لو عملتُ المعصيةُ الآنَ من كان يراني؟
فيسمعُ هاتفاً بصوت يملأ الغابة ويقول: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]. بلى والله.
فيا منتهكاً حرماتِ الله في الظلمات، في الخلوات، في الفلوات بعيداً عن أعين المخلوقات، أين الله؟ هل سألت نفسكَ هذا السؤال.
في الصحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه قال قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأعلمنَ أقواماً من أمتي يومَ القيامةِ يأتون بحسناتٍ كأمثالِ الجبال بيضاً، يجعلُها اللهُ هباءً منثوراً)).
قال ثوبان: صفهم لنا، جلّهم لنا أن لا نكون منهم يا رسول الله قال: ((أما إنهم إخوانُكم ومن جلدتِكم ويأخذون من الليلِ كما تأخذون، لكنهم إذا خلوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها)).
إلى من يملأ ليله وعينَه وأذنه ويضيعُ وقتَه حتى في ثُلث اليل الآخر، يملأ ذلك بمعاصي الله، أين الله؟
فقد روى االثقاةُ عن خيرِ الملاء بأنه عز وجل وعلا
في ثلثِ الليل الأخيرِ ينزلُ يقول هل من تائبٍ فيقبلُ
هل من مسيء طالبٍ للمغفرة يجد كريماً قابلاً للمعذرة
يمن بالخيراتِ والفضائل ويسترُ العيب ويعطي السائل
فنسأله من فضله.
إن اللهَ لا يخفى عليه شيء فهلا اتقيتَه يا عبد الله.(/2)
عمرُ بن الخطاب رضي اللهُ عنه، يعسُ ليلةً من الليالي ويتتبع أحوال الأمة، وتعب فاتكأ على جدارٍ ليستريح، فإذا بمرأةٍ تقولُ لابنتها: امذقي اللبنَ بالماءِ ليكثرَ عند البيع.
فقالت البنت:ُ إن عمرَ أمرَ مناديه أن ينادي أن لا يشابُ اللبنَ بالماء.
فقالتِ الأم:ُ يا ابنتي قومي فإنك بموضعٍ لا يراكِ فيه عمرُ ولا مناديه.
فقالتِ البنتُ المستشعرةُ لرقابةَ الله: أي أماه فأين الله؟ وللهِ ما كنتُ لأطيعَه في الملا، وأعصيه في الخلاء.
ويمرُ عمرُ أخرى بامرأة أخرى تغيبَ عنها زوجها منذ شهور في الجهاد في سبيل الله عز وجل، قد تغيبت في ظلمات ثلاث، في ظلمة الغربةِ والبعد عن زوجها، وفي ظلمة الليل، وفي ظلمة قعر بيتها، وإذا بها تنشد وتقول وتحكي مأساتها:
تطاول هذا الليل وازور جانبه وأرقني أن لا حبيب ألاعبه
فوالله لولا الله لا رب غيره لحرك من هذا السريري جوانبه
ما الذي راقبته في ظلام الليل وفي بعد عن زوجها، وفي هدأة العيون؟
والله ما راقبت إلا الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أنعم بها من مراقبة وأنعم بها من امرأة.
وأعرابية أخرى يراودها رجل على نفسها كما أورد ابن رجب، ثم قال لها: ما يرانا أحد إلا الكواكب.
فقالت: وأين مكوكبها يا رجل؟ أين الله يا رجل؟
أتستخفي من الناس ولا تستخفي من الله وهو معك إذ تبيت ما لا يرضى من القول.
أخيرا اسمع لهذا الحدث ولم يقع في هذا الزمن وإنما وقع في زمن مضى لتعلم ثمرة مراقبة الله عز وجل، واستشعار ذلك الأمر.
رجل اسمه نوح بن مريم كان ذي نعمة ومال وثراء وجاه، وفوق ذلك صاحب دين وخلق، وكان له أبنة غاية في الجمال، ذات منصب وجمال. وفوق ذلك صاحبة دين وخلق.
وكان معه عبد اسمه مبارك، لا يملك من الدنياء قليلاً ولا كثيراً ولكنه يملك الدين والخلق، ومن ملكهما فقد ملك كل شيء.
أرسلَه سيده إلى بساتين له، وقال له: اذهب إلى تلك البساتين واحفظ ثمرها، وكن على خدمتها إلى أن آتيك.
مضى الرجل وبقي في البساتين لمدة شهرين، وجاءه سيده، جاء ليستجم في بساتينه، ليستريح في تلك البساتين.
جلس تحت شجرة وقال: يا مبارك، ائتني بقطف من عنب.
جاءه بقطف فإذا هو حامض.
فقال: ائتني بقطف آخر إن هذا حامض.
فأتاه بآخر فإذا هو حامض.
قال: ائتني بآخر، فجاءه بالثالث فإذا هو حامض.
كاد أن يستولي عليه الغضب، وقال: يا مبارك أطلب منك قطف عنب قد نضج، وتأتني بقطف لم ينضج.
ألا تعرف حلوه من حامضة؟
قال: والله ما أرسلتني لأكله وإنما أرسلتني لأحفظه وأقوم على خدمته. والذي لا إله إلا هو ما ذقت منه عنبة واحدة.
والذي لا إله إلا هو ما رقبتك، ولا رقبت أحداً من الكائنات، ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أعجب به، وأعجب بورعه وقال: الآن أستشيرك، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، والمستشار مؤتمن.
وقد تقدم لابنتي فلان وفلان من أصحاب الثراء والمال والجاه، فمن ترى أن أزوج هذه البنت؟
فقال مبارك: لقد كان أهل الجاهلية يزوجون للأصل والحسب والنسب. واليهود يزوجون للمال. والنصارى للجمال. وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يزوجون للدين والخلق. وعلى عهدنا هذا للمال والجاه. والمرء مع من أحب، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
أي نصيحة وأي مشورة؟
نظر وقدر وفكر وتملى فما وجد خيراً من مبارك، قال: أنت حر لوجه الله أعتقه أولاً.
ثم قال لقد قلبت النظر فرأيت أنك خير من يتزوج بهذه البنت.
قال: اعرض عليها. فذهب وعرض على البنت وقال لها: إني قلبت ونظرت وحصل كذا وكذا، ورأيت أن تتزوجي بمبارك.
قالت: أترضاه لي؟
قال: نعم.
قالت: فإني أرضاه مراقبة للذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فكان الزواج المبارك من مبارك.
فما الثمرة وما النتيجة؟
حملت هذه المرأة وولدت طفلاً أسمياه عبد الله، لعل الكل يعرف هذا الرجل.
إنه عبد الله بن المبارك المحدث الزاهد العابد الذي ما من إنسان قلب صفحة من كتب التاريخ إلا ووجده حياً بسيرته وذكره الطيب.
إن ذلك ثمرة مراقبة الله غز وجل في كل شي.
أما والله لو راقبنا الله حق المراقبة لصلح الحال، واستقامت الأمور.
فيا أيها المؤمن، إن عينَ اللهِ تلاحقُك أين ما ذهبت، وفي أي مكان حللت، في ظلامِ الليل، وراء الجدران، وراء الحيطان، في الخلوات، في الفلوات، ولو كنتَ في داخلِ صخورٍ صم، هل علمتَ ذلك، واستشعرتَ ذلك فاتقيتَ اللهَ ظاهراً وباطناً، فكانَ باطنُك خيرُ من ظاهرِك.
إذا ما خلوت الدهرَ يوماً فلا تقل خلوتُ ولكن قل علي رقيبُ
ولا تحسبنَ اللهَ يغفلُ ساعةً ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ
عباد الله، اتقوا اللهَ في ما تقولون، واتقوا الله في ما تفعلون وتذرون.
اتقوا الله في جوارحكُم، اتقوا اللهَ في مطعمِكم ومشربِكم، فلا تدخلوا أجوافَكم إلا حلالاً فإن أجوافَكم تصبرُ على الجوعِ لكنها لا تصبرُ على النار.
اتقوا اللهَ في ألسنتِكم، اتقوا اللهَ في بيوتِكم، في أبنائِكم في خدمكم، في أنفسكم.(/3)
اتقوا اللهَ في ليلِكم ونهارِكم، اتقوا اللهَ حيثما كنتم.
وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أقول ما تسمعون واٍستغفر الله فأستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله رب العالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: اعلموا علم يقينٍ أن اللهَ هو الرقيب، وأن الله هو الحسيب، وأنه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا مهرب منه إلا إليه.
هو الشهيدُ وكفى به شهيداً، ومن حكمتِه سبحانه وبحمده أن جعل علينا شهوداً آخرين لإقامةِ الحجُةِ حتى لا يكون للناس حجة، وتعدد الشهودُ علينا وكفى باللهِ شهيداً، من هؤلاءِ الشهودِ:
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حيثُ يقول اللهُ عز وجل: وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:42].
فرسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيشهدُ على الأممِ وعلى هذه الأمة.
والملائكةُ أيضاً يشهدون وكفى باللهِ شهيداً، قال اللهُ عز وجل: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الإنفطار:10-12].
ويقول جل وعلا: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17-18].
فالملائكة أيضا ستشهد. والكتابُ سيشهد. والسجلات ستفتح بين يدي الله فترى الصغيرَ والكبيرَ والنقيرَ والقطميرَ، تنظرُ في صفحةِ اليومِ الثامنُ من هذا الشهر فإذا هي لا تغادرُ صغيرةً ولا كبيرة، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14].
والأرضُ التي ذللها الله عز وجل لنا ستشهدُ بما عمل على ظهرها من خيرِ أو شر: إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلت:1-5].
ستحدث بما عمل على ظهرها من خير أو شر، بل إن هذه الأرض تحمل عاطفة، إذا مات المؤمن بكاه موضع سجوده، وبكاه ممشاه إلى الصلاة، وبكاه مصعد عمله إلى السماء.
وأما الذين أجرموا وكفروا ونافقوا: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالاْرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ [الدخان:29].
والخلقُ أيضا سيشهدون وكفى باللهِ شهيداً: لطالما تفكهُ الإنسانُ بين هؤلاءِ الخلقِ بالوقوعِ في أعراضِ المسلمينَ بذكرِ ما سترَه اللهُ عليه. وما علم أن الخلق سيشهدونَ.
في الصحيح أن جنازة مرت على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه فيثني عليها الناس خيراً فيقول صلى الله عليه وسلم: ((وجبت)).
وتمر أخرى فيثني عليها الناس سوء فيقول صلى الله عليه وسلم: ((وجبت)).
فيتساءل الصحابة؟
فيقول صلى الله عليه وسلم: ((أثنيتم على الأولى بخير فوجبت لها الجنة، وعلى الثانية بسوء فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه، أنتم شهداء الله في أرضه)).
وسيشهدُ ما هو أقربُ من هذا: ستشهدُ الجوارحُ فأيد تشهد، وأرجل تشهد، وألسن تشهد، وجوارح تشهد:
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65].(/4)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الُخَاسِرِينَ فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:19-24].
فاتقوا الله يا باد واجعلوا هؤلاءِ الشهودِ جميعهم لكم لا عليكم.
وبادروا أنفسَكم وأعمارَكم بالأعمالِ الصالحةِ قبل حلولِ الآجالِ وبقاءِ الحسراتِ.
أيا من يدعّي الفهم، إلى كم يا أخَ الوهم، تعبي الذنبَ بالذنب، وتخطي الخطأ الجم.
أما بان لك العيب، أما أنذرك الشيب، وما في نصحه ريب، ولا تنعُ فقد صم.
أما نادى بك الموت، أما أسمعك الصوت، أما تخشى من الفوت، فتحتاطَ وتهتم.
فكم تسكرُ في السهو، وتختالُ من الزهو، وتنصبُ إلى اللهو، كأن الموتَ ما عم.
وحتى متى جافيك، وإبطاؤك لافيك، طباعُ جمعت فيك، عيوبُ شملُها انظم.
أتسعى في هوى النفس، وتختالُ على الأنس، وتنسى ظلمةَ الرمس، ولا تذكرُ ما تم.
ستذري الدمَ لا الدمع، إذا عاينتَ ولا دمع، يقي في عرصة الجمع، ولا خالٍ ولا عم.
كأني بك تنحط، إلى اللحدِ وتنغط، وقد أسلمك الرهط، إلى أضيق منسم.
هناك الجسمُ ممدود، ليستأكَله الدود، إلى أن ينخر العود، ويمسي العظمَ قد رم.
فبادرِ أيها الغمر، لما يحلُ به المر، فقد كاد ينتهي العمر، وما أقلعت عن ذم.
وزود نفسَك الخير، ودع ما يعقبُ الضير، وهيء مركب السير، وخف لجة اليم. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/5)
الرقية الشرعية
الشيخ نبيل العوضي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
أيها الأخ الكريم: أوجه هذا الكلام إلى كل أخ -أو أخت في الله- قد ابتلاه الله عز وجل بداء المس أو السحر أو العين، والله عز وجل يبتلي عباده الصالحين، بل يبتلي المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه شدة زيد له في البلاء، والمؤمن يواجه البلاء بالصبر، بل أعظم من الصبر الرضا بقدر الله جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157]^. بل قال الله عن الذين يصبرون على البلاء ولا يتسخطون ولا يجزعون: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]^.
أخي الكريم: أوجه هذا الكلام إليك إن كنت قد أصبت بمس أو سحر أو عين، وهذه الأمراض الثلاثة طالما قد انتشرت في أوساط كثير من الناس، بل خاصة ضعاف الإيمان. واعلم أن العلاج والشفاء بيد الله جل وعلا: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]^. وإذا كان الإنسان يعتقد في غير الله أن بيده الضر والنفع، فإنه لا ينفعه كل ما سوف نقرؤه عليه من كلام الله جل وعلا. فاعتقد واجزم وتيقن أن الشفاء بيد الله وحده، والله عز وجل إذا أراد أن ينزل الدواء على الداء أصاب. ولا يبقى الإنسان مريضاً طوال حياته إلا إذا لم يشأ الله عز وجل أن يشفيه.
فاسمع -أخي الكريم- إلى هذه الآيات وتدبر، واعلم أن القرآن لا ينفع من لا يتدبره، والله عز وجل ذم الناس الذين يسمعون أو يقرءون القرآن ولا يتدبرون، قال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]^. والذي يقرأ القرآن أو يستمع إلى القرآن ولا يتدبر؛ لا ينتفع به، بل هذا نوع من أنواع الهجر للقرآن، وهو أنك تسمع ولا تعرف ما الذي تسمعه، أو يقرأ عليك القرآن ولا تدري ما الذي يقرأ عليك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليه فيبكي، وقد كان بعض أصحابه إذا تليت عليهم آيتان بكوا حتى الصباح يرددون هذه الآية أو يستمعون إليها، بل منهم من مات وهو يسمع بعض آيات القرآن.
الفاتحة هي العلاج
فاسمع -أخي الكريم- إلى هذه الآيات العظيمات، وهذه الآيات -أيها الأخ الكريم- جُرِبت وجربها كثير من الناس أنها إذا قرئت على مسحور أو ممسوس أو مصاب بالعين أنه يبرأ بإذن الله جل وعلا، والأمر كله يرجع إلى تقدير الله.
متى يكون الشفاء؟
قد يؤخر الله عز وجل الشفاء لحكمة حتى يحط الله عنه الخطايا والذنوب ويكفر عنه السيئات.
وأول ما نبدأ به هو أعظم سورة في القرآن، بل ما أنزل الله في ا لتوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وهي السبع المثاني، بل إنها القرآن العظيم، بل هذه السورة -أخي الكريم- هي الشافية وهي الرقية، وهي التي ثبت أن أحد الصحابة قرأها على ملدوغ بعقرب فبرئ بإذن الله جل وعلا.
فاسمع إليها وتدبرها، ثم انظر إلى أوصاف الله فيها، واعلم أن الله عز وجل ما جعلها أعظم سورة إلا لما فيها من آيات ومعانٍ عظيمة.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
أعوذ بالله، أي: ألجأ إلى الله، وأستجير بالله جل وعلا لدفع كل ضر وكل شر، وهو الله العظيم السميع العليم.
ممن؟ من الشيطان الرجيم، فهو مرجوم، ملعون مطرود من رحمة الله، من همزه ونفخه ونفثه.
واسمع -يا عبد الله- إلى البسملة وهي التي فيها بركة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:1]^ هذه الكلمات فيها بركة عظيمة يشعر بها إي إنسان، فلو أكلت وقلت: باسم الله حرم الشيطان الطعام، ولو دخلت البيت وقلت: باسم الله حرم المبيت وجلس خارج البيت، ولو جامعت أهلك وقلت: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه يصرف عنكم، وإن قضي ولد فإنه يبرأ من الشيطان بإذن الله.
وإن دخلت الخلاء وقلت: باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث؛ حفظت بإذن الله، وإن نزعت الثياب وقلت: باسم الله، كان بينك وبين أعين الجن والشياطين ستر وحجاب.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:1-7]^.
عظم سورة البقرة وما فيها من الآيات(/1)
ثم اسمع -يا عبد الله- إلى سورة لو قُرِئت في بيت فر الشيطان منه، بل إذا سمع هذه السورة تتلى لا يقترب من البيت ويخاف ويفر، أتعرف ما هي هذه السورة؟ إنها سورة البقرة، سورة وأي سورة! يقول عليه الصلاة والسلام عن هذه السورة: (اقرءوا البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة ) أكبر السحرة وأكبر الشياطين لا يقدرون عليها، بل أن بعض من قرئ عليه البقرة كان يحترق الشياطين والجن الذين فيهم، ويراهم الممسوس يحترقون، لأن البقرة قرئت عليهم.
سورة وأي سورة! سوف أتلو عليك من أعظم آياتها، فاسمع وتدبر حفظك الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]^ من هم المتقون؟ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]^ يؤمن بالجنة، ويؤمن بالنار، ويؤمن بأن هناك يوماً للحشر، يحشر الله فيه الأولين والآخرين، والإنس والجن، يؤمن بعذاب القبر، ويؤمن بأهوال يوم القيامة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [البقرة:3]^.
اسمع وانتبه، الذي لا يقيم الصلاة لا تنفعه هذه الآيات، والذي لا يقيم الصلاة لن يبرأ إلا بعد أن يقيمها، إلا إذا شاء الله جل وعلا. فتش في صلاتك وابحث، هل أنت من الخاشعين فيها، المحافظين على أوقاتها، المتدبرين للآيات التي تقرأ فيها، الذي يحفظ أركانها وواجباتها، أم أنت من الناس الذين ينقرونها نقراً، ولا يعرف الفجر إلا بعد طلوع الشمس، ولا العصر إلا بعد أن تغرب الشمس: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:3-5]^.
حقيقة وقوع السحر وعلاجه
السحر هل له حقيقة؟ نعم. يا عبد الله! لكن إياك إياك أن تصاب بالوسواس، وتظن أنك مسحور إلا بعد أن تتأكد وتتيقن، واعلم أن أكبر السحر، وأعظم السحر وشر السحر؛ لا يستطيع أن يقوى أمام كلام الله جل وعلا، وأن هذا القرآن يحطم ما تحته، وأن كلام الله جل وعلا يحرق كلام السحرة، وينسفه ويدمره ولو كانوا أكبر السحرة.
هدف الشياطين من السحر
عبد الله: يقول عليه الصلاة والسلام عن هدف الشياطين من السحر، فإياك أن تستجيب لهم: (إن الشيطان يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فيأتيه جنوده فيقول لأحدهم: ما فعلت؟ قال: ما زلت به حتى فعل كذا وكذا، فيتركه ويقول للآخر: ما فعلت؟... حتى يأتيه شيطان يقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله ) إياك إياك أن تستجيب له، كم وكم من ضعاف الدين والإيمان يغره الشيطان، أو يصاب بسحر فإذا به يطلق زوجته.
سبحان الله! لمَ تستجيب يا عبد الله؟ قال: (ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، فيقول الشيطان له: نعم أنت، فيقربه ويدنيه ويلتزمه ).
واسمع إلى هذه الآية العظيمة، التي دمرت السحرة والشياطين وأحرقتهم: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ [البقرة:10]^ لأنهم اتهموا سليمان أنه كان يتعامل بالسحر، وكذبوا والله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا [البقرة:10]^.
لأن الساحر يتعامل مع الشياطين، فإذا به يلبسه أو يصيبه بالضيق أو بالاختناق، أو يكرهه بزوجته، أو بأهل بيته، فهو شيطان كافر بالله العظيم: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:10]^ ألم ترَ بعض المسحورين كره زوجته وأبغضها ولا يطيق النوم معها، ولا يشتهي رؤيتها، ولا يجامعها منذ سنوات؟: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:10]^.
اعتصم بالله، والتجئ إلى الله؛ لأن الله يقول: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:10]^ بل لو اجتمع شياطين الإنس والجن الذين على وجه الأرض كلهم على أن يضروك لن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:10]^.(/2)
فهذا ما يفعله الساحر والشيطان -الذي لعله يسمعني في هذه اللحظات- واسمع إلى قول الله جل وعلا فيه: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:10]^ لأنه مدحور وخائف، لأنه في النهاية هو الخسران.
قوة الإيمان وأثرها على السحر
عبد الله: إن القضية كلها ترجع إلى قوة الإيمان، وقوة اليقين في القلب بالله جل وعلا، وإخلاصك لله جل وعلا، فعلى قدر إيمانك تفر الشياطين منك، ألم تسمع إلى عمر كلما رآه الشيطان في فج سلك فجاً غيره، بل في بعض الروايات أنه إذا رآه الشيطان خر على وجهه، وهذا من شدة إيمانه ومن قوة يقينه بالله جل وعلا ومن توحيده للرب جل وعلا، فهو لا يتوجه إلى غيره ولا يستعين بسواه، ولا يتوكل على غيره، فحسبه الله جل وعلا.
عبد الله: القضية قضية إيمان وإخلاص وتوجه القلب إلى الله، وتبرُّؤ من الذنوب والمعاصي، أتعرف من هو الله الذي تعبده؟ أتعرف من الذي تتوكل عليه؟ أتعرف من الذي تستعين به؟ اسمع يا عبد الله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:16]^ إله واحد -يا عبد الله- وليس هو إله ثم شيطان، ثم كاهن ثم ساحر. فتوجه إلى الله وحده، أتعرف ما صفاته؟ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:16]^.
اسمع إلى أفعاله في السماء والأرض، اسمع إلى آياته الكونية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]^.
كن منتبهاً واستمع فإن ما سوف يتلى الآن هو أعظم آية في كتاب الله، آية لا تعدلها آية، ولا توزن بآية، ولا تساويها آية في كتاب الله، كلها صفات لله، وأوصاف للرب القدير. عبد الله! وأنت تسمعها تدبرها وادخل في معانيها وتفكر فيها، واعلم -عبد الله- أنك مهما تخيلت، فالله أعظم، ولا يجوز لك أن تتخيل صفات الله جل وعلا.
عبد الله: إنها أعظم آية، إذا قرأتها في الليل -من عظمها- لم يزل عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، آية لا تتحملها الشياطين، آية فيها أوصاف الله جل وعلا وخلقه، ومن خلقه كرسيه، أتعرف ما كرسيه؟ إنه موضع قدميه، أتعرف ما عظم هذا الكرسي؟ فالسماوات السبع وبين كل سماء والتي تليها مسيرة خمسمائة عام والأرضين والكواكب والنجوم كلها لو كانت حلقة لكانت بالنسبة للكرسي كحلقة في صحراء، فالصحراء هي الكرسي والحلقة هي السماوات السبع والأرضين والكون كله، أتعرف ما هو العرش؟ أتعرف ما نسبة الكرسي بالنسبة للعرش؟ الكرسي كالحلقة والعرش كالصحراء: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]^ لا تأخذه سنة: نعاس ولا نوم.
عبد الله: يعلم ما توسوس به نفسك، هل تقوى عليه أو تقدر عليه، اسمع إلى هذه الآية كيف تزلزل الشياطين: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:25]^ وهذه كلمة التوحيد ومعناها لا معبود بحق إلا هو: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]^ أي: لا يعجز الله حفظ السماوات والأرض: وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:25]^.
إذا كان لا يعجزه حفظ السماوات والأرض، هل يعجزه حفظ عباده الصالحين المتقين؟ هل يعجزه حفظ أوليائه المتقين؟
عبد الله: اسمع إلى خاتمة البقرة.
أما خاتمة البقرة فلها شأن عظيم، ولها تأثير كبير، وما أدراك ما تأثيرها؟ إذا قرأتها في ليلة، تكفيك تلك الليلة، بل جاء في الحديث أن الله عز وجل كتب كتاباً، قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام.
تعرف ما شأن هذا الكتاب؟ أنزل منه آيتين فقط ختم بها سورة البقرة، أتعرف من أين خرجت؟ من كنز تحت عرش الرحمن، اسمع إليهما وتدبرهما واعرف -يا عبد الله- بأن الله رحم عباده بتلك الآيتين.(/3)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:285-286]
حقيقة الإسلام
عبد الله: أتعرف ما هو الإسلام؟ أتظن أن الإسلام كلام نقوله، أم هو كلام مكتوب في جنسية أو جواز أو ورقة؟ أنت تقول أنا مسلم، ولكن الإسلام برهان، وهو أنك تستسلم لله جل وعلا. أي دين يقبل الله منك؟ أتعرف ما هو الإسلام؟ أنك تستسلم لله جل وعلا .. أن تستسلم المرأة لله، بحجابها وبصلواتها وبطاعتها لله جل وعلا، أن يستسلم الرجل لله جل وعلا، فلا يرابي ولا يغش ولا ينم ولا يغتاب ولا ينظر للنساء، هذا هو الإسلام يا عبد الله! الإسلام ليس هو كلاماً، وليس هو دعوى كل إنسان يدعيها.
عبد الله: الاستسلام: أن نستسلم لله في بيوتنا، فلا نعلق الصور، ولا نسمع صوت الموسيقى والأغاني ولا نعزفها ولا ندخل في بيوتنا الحرام، من مجلات خليعة، ومن أفلام ماجنة ومن غيرها من منكرات، هذا هو الإسلام الذي يقبله الله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران:18-19]^ فتستسلم لله، وتنطرح بين يدي الله، وتستجيب لله. وليس هو أن تأخذ ما يعجبك والذي لا يعجبك ترده، ليس هذا هو الإٍسلام، أن تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، بل يجب أن تقبله كله بحذافيره صغيره وكبيره: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19]^.عبد الله: يا من أصبت بالمرض، وتخبطتك الشياطين، وضاقت بك الدنيا بما رحبت إلى من تلجأ؟ إلى ربك، إلى الله العلي القدير، ادعه -يا عبد الله- في السجود، الجأ إليه في الأسحار، اسجد بين يديه، وادعه تضرعاً وخفية.
عبد الله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]^. عبد الله! إن الله تعالى وعد ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]^ تعرف من تدعو؟ تدعو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، تعرف من تدعو يا عبد الله؟ الذي سخر الليل والنهار، الذي استوى على العرش ويعلم ما توسوس به كل نفس، ادعه والجأ إليه وتضرع واعرف -يا عبد الله- أن الله يقبل الدعاء ممن هو موقن بالإجابة وملح بالدعاء، فالله عز وجل يستجيب له: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف:54]^.
كذب المنجمون، كذب السحرة، كذب المشعوذون؛ فإن السموات والنجوم والقمر وكل شيء مسخر بأمر الله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:54-56]^.
وهنا يخاطب الله شياطين الجن والإنس، ويخاطب الكفرة، والذين ظلموا والذين آذوا عباد الله في أنفسهم وأهليهم: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]^ ثم يا عبد الله! يا من ابتليت! اسمع إلى قول الله: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]^.
معركة موسى مع السحرة(/4)
اسمع إلى هذه المعركة الكبيرة، وهي معركة عظمى يشهد لها التاريخ، في الصف الأول كليم الله موسى عليه السلام، إنه الذي كلمه الله جل وعلا من فوق سبع سماوات، يقف في صف، من هو الذي في الصف الآخر؟ إنهم السحرة -شياطين الإنس والجن- كلهم قد اجتمعوا، ليدفعوا موسى عليه السلام وليحاربوه، إنهم أعظم السحرة في عصر فرعون، كل ساحر عليم ومن تحت يديه شياطين الكفر، وشياطين ومردة من الجنة، كلهم تحت أيديهم، وليس ساحر واحد بل سحرة الكفر كلهم، وموسى لا يملك إلا عصا ولا يلبس إلا الثوب البالي، ولا يملك جيشاً ولا عتاداً ولا أسلحة، لا يملك إلا التوكل على الله والإيمان بالله جل وعلا، من مع موسى؟ إنه الله جل وعلا: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]^.
بدأت المعركة: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى [طه:65]^ قال موسى يخاطب شياطين الجن والإنس: بل ابدءوا بما عندكم، فألقوا الحبال وألقوا العصي، فإذا بها كأنها أفاعي تسعى، انظر السحر: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]^ فسحروا أعين الناس واسترهبوهم، وإذا العصي كلها تتحول إلى ثعابين في أعين الناس، وهذا من فعل شياطين الجن والإنس، فإذا موسى عليه السلام يخاطبهم: قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ [يونس:81]^.
الله أكبر! الله أكبر يا عبد الله! تيقن بالله جل وعلا، لو كان الذي فيك أعظم سحر على وجه الأرض، بل لو اجتمعت عليك شياطين الإنس والجن فاسمع: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يونس:81-82]^. وإلى الآن موسى فقط تكلم وما بدأ في الرد على هؤلاء الشياطين، فإذا الله عز وجل يوحي إلى موسى، واسمع إلى أثر كلام الله لموسى على هؤلاء السحرة، ولهذا أقول لك: إن القرآن يحرقهم ويدمرهم يا عبد الله! فإذا بالله جل وعلا يوحي إلى موسى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ [الأعراف:11]^ وكأن العصا عندنا هي إيماننا بالله جل وعلا. إذا ألقيناه على السحرة ما الذي يحصل؟
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الأعراف:117]^ الله أكبر! عصا موسى تلقف جميع عصي السحرة وثعابينهم: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:117-122]^.
لما رأى السحرة من الإنس أن الله أبطل سحر شياطين الجن، إذا بهم يسجدون لله، ويخرون سجداً لله جل وعلا، كل هذا -يا عبد الله- حتى تعلم وتتيقن أن الإيمان الصادق والإيمان بالله لا يقف أمامه شيء، وأن كلام الله جل وعلا يبطل كل السحر، وأن كلام الله جل وعلا يهدم سحر شياطين الجن والإنس، فتيقن وتوكل على الله جل وعلا، ولتكن عقيدتك: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69]^.
كلما دخلت بيتاً، وكلما ركبت سيارة، رددها في قلبك، وفي عقلك وفي ذهنك: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69]^.
عبد الله: تظن أن الله عز وجل لمَ خلقنا وأوجدنا؟ وهذا لا بد أن يعرفه الإنس والجن وهو أن الله ما خلقنا إلا لغاية واحدة أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون:115-117]^ من ساحر أو شيطان أو طاغوت أو مشعوذ أو كاهن، فهؤلاء كلهم طواغيت من دون الله جل وعلا: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [المؤمنون:117]^ انتظر يوم الحساب وتمهل، فإن كنت تراه بعيداً فإنه قريب: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:6-7]^ .. فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:117-118]^.
سورة الصافات وأثرها على الشياطين(/5)
ثم اسمع إلى هذه السورة، وهي سورة عظيمة، وقد جُرِبَت، ولعل بعضكم قد شاهد أثرها على شياطين الجن، فهي تحرقهم وتدمرهم وتهلكهم بإذن الله جل وعلا: هذه السورة يبدؤها الله جل وعلا بوصف ملائكته، من هم الملائكة؟ إنهم جنود الرحمن: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]^ يقفون لله جل وعلا ويستجيبون له. والملائكة تزجر الناس زجراً، بل ملك واحد صاح صيحة، فأهلك قرية كاملة.
ثم -في هذه السورة- يخبر الله عن الكواكب التي في السماء والنجوم، أتعرف ما وظيفتها وما غايتها يا عبد الله؟ هذه النجوم التي في السماء شهب ترمي شياطين الجن ممن يسترق السمع من السماء.
واسمع -يا عبد الله- إلى ربنا جل وعلا كيف يعذبهم ويهلكهم ثم قال الله: دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ [الصافات:9]^ أي: ما هو اليوم ولا الغد فقط، بل هو مستمر، في الدنيا بكلامه جل وعلا، وإذا لم يتب شياطين الإنس والجن إلى الله جل وعلا فالعذاب الواصب المستمر المتصل عنده جل وعلا في نار جهنم.
اسمع إلى هذه السورة التي طالما أحرقت شياطين الجن والإنس وبدأها الله بالتسمية لأنها بداية السورة، وباسم الله كما ذكرنا بركة، بل: (مر رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دابته فتعثرت الدابة فقال الرجل: تعس الشيطان. قال: لا تقل تعس الشيطان، فإن الشيطان يتعاظم حتى يصير كالبيت، ولكن قل: باسم الله فإنه لا يزال يتصاغر في نفسه حتى يكون كالذباب )
قل باسم الله إن دخلت بيتك .. إن دخلت غرفتك .. إن أتيت إلى فراشك .. إن دخلت خلاءً .. إن أكلت أو شربت .. إن رميت حجراً .. إن سكبت ماءً، دائماً قل باسم الله فإنها بركة يا عبد الله، بسم الله الرحمن الرحيم .. اسمع وصف الملائكة: وَالصَّافَّاتِ صَفّاً [الصافات:1]^. فهي تحضر مثل هذه المجالس؛ مجالس الذكر، والمجالس التي يقرأ فيها القرآن تحضرها الملائكة وهي جنود للرحمن، والشيطان عندما كان مع المشركين في غزوة بدر ليؤججهم ويثيرهم على المسلمين، فلما اقترب ورأى ملائكة الرحمن تنزل، ورأى الملائكة العظام قال: إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:48]^.
وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ [الصافات:1-4]^ من هو؟ إنه الله إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ [الصافات:4]^ قل لمن يعبدون النار، وقل لمن يثلثون، ويعبدون المسيح، قل لمن يكفرون بالله جل وعلا وأخبر اليهود والنصارى، وعُباد الشمس وعُباد القمر وعُباد النار: إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ [الصافات:4-5]^. رب المشارق جل وعلا، مشارق النجوم ومشارق الكواكب ومشارق الشمس، ومشرقها في الصيف والشتاء: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [الصافات:5-6]^ اسمع: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [الصافات:7]^. والله لو كان مارداً، ولو كان أعتى الشياطين، فإنهم لا يستطيعون للرحمن، فالكواكب ترجمه: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:7-10]^.وليسأل شياطين الجن، وليسألوا أجدادهم وعلماءهم: ما الذي جرى بولادة محمد صلى الله عليه وسلم؟ أتعرف ما الذي جرى؟ كان الشياطين يسترقون السمع، فلما ولد خير الخلق عليه الصلاة والسلام تعجب الجن ورأوا أمراً عجباً، فالسماء بدأت ترجمهم، والكواكب بدأت تحرس السماء وبدأت الشهب تحرقهم حرقاً ببركته عليه الصلاة والسلام، وبركة رسالته وبعثته عليه الصلاة والسلام.
إسلام الجن وتوبتهم
اسمع -يا عبد الله- إلى بعض الجن الذين تابوا، وإلى بعض الجن الذين أسلموا وصدقوا مع ربهم جل وعلا، كانوا كفاراً ولكنهم لما سمعوا القرآن وأحسوا بلذته، وبحلاوته آمنوا بالله جل وعلا، ليس فقط آمنوا بل ذهبوا إلى قومهم يدعونهم إلى الله، وأخبروا قومهم أنه من آمن فله الثواب والمغفرة ومن كفر فله العذاب العظيم، فما جلسوا جلسات بل مرة واحدة، سمعوا كلام الله فإذا بهم مؤمنون ودعاة إلى الله: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف:29]^ وهذا الآيات دعوة مني صادقة إلى كل كافر من شياطين الجن -إي والله- أن يؤمن بالله جل وعلا ويسلم لله جل وعلا.(/6)
فوالله لو كان كفره قد ملأ السماء والأرض وتاب، لبدله الله عز وجل له حسنات، بل والله لو فتن الناس عن دينهم وصدهم عن سبيل الله، وكان هو الذي أضل خلقاً كثيراً عن الله جل وعلا وأوردهم جهنم، لو تاب؛ تاب الله عليه: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29]^ الله أكبر! ليس فقط آمنوا بل صاروا دعاة إلى الله، وكم وكم سمعنا أن من الجن من آمن، وليس فقط آمن بل ذهب إلى قومه يدعوهم إلى الله جل وعلا: (ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ).
قالوا: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:30-31]^.
والله لو كانت التوبة صادقة، ودمعت العين وانكسر القلب: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ [الأحقاف:31-32]^. لا تظن يا من تصر على الظلم والكفر والمعاصي أنك معجز الله، لا والله، بل الله عز وجل يملي للظالمين حتى إذا أخذهم لم يفلتهم جل وعلا: قال الله جل وعلا: وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:32]^. بل اسمع إلى الرب جل وعلا كيف يتحدى معاشر الجن والإنس، بل طواغيتهم، بل أقوى خلق الله من الجن والإنس يتحداهم الرب جل وعلا، انظر إلى التحدي وإذا استطعت أن تقبله فافعل، فهذا ما يعرضه الله جل وعلا عليك من تحد: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الرحمن:33]^ هذا هو التحدي، يطلب الله منك أن تنفذ من أقطار السماوات، فانفذ وتعد السماء الدنيا إذا كنت تستطيع: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:33-34]^.
الجن لما سمعوا هذه الآية آمنوا وقالوا: لا نكذب بآيات ربنا، آمنوا لأنهم كانوا صادقين مخلصين، عرفوا أن الدنيا أيام قلائل وسنوات قليلة، ثم حساب بين يدي العزيز الجبار.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:34-36]^ أتعرف ما الذي أقرؤه عليك الآن؟ إنه كلام الله حقاً، بصوت وحرف، كلام لا يشابهه كلام المخلوقين، وهو صفة من صفاته جل وعلا، أتعرف هذا الكلام لو أنزل على جبل لتصدع الجبل ولتكسر، بل إن من الحجارة لما تهبط من خشية الله!! أتظن أنك -يا مخلوق! يا ضعيف!- تقوى على هذا القرآن، أتعرف من الذي تكلم بهذا القرآن، إنه الله الملك العزيز الجبار، أتعرف من هو الجبار؟ مسكين يا من تعاند الله! مسكين يا من تواجه الجبار! والله لا تقوى على الجبار المهيمن.
عبد الله: أتعرف من هو؟ الذي لا إله غيره، عالم الغيب، عالم الشهادة، عبد الله! هو الخالق الذي خلقك، وبرأك، وصورك. اسمع إلى وصف تأثير القرآن واسمع إلى أوصاف الله جل وعلا: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:21-24]^.
سور عظيمة تبطل السحر
عبد الله: يسرني ويسعدني ويفرحني أن أختم هذه القراءات بسور عظيمات تفك أكبر سحر، وتبطل أكبر سحر يا عبد الله! إنها سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن، وليس فيها إلا وصف الله، وليس فيها إلا صفة الله العظيمة.
عبد الله: سأل الله بها رجل فقال: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي. فقال عليه الصلاة والسلام: قد استجيب له ).(/7)
اسأل الله بها يا عبد الله ! سورة من عظمها تعدل ثلث القرآن، والله ما يقوى عليها شياطين الإنس ولا شياطين الجن، أتعرف ما هي؟ بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]^.
أتعرف ما معنى الصمد؟ الذي تلجأ إليه المخلوقات كلها في السماوات والأرض: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56]^ النملة في جحرها تلتجئ إليه، والسمكة في البحر تلجأ إليه جل وعلا، والطير في السماء يلجأ إليه جل وعلا، بل حتى الكافر وقت الضيق والمصيبة يلجأ إليه جل وعلا.
الصمد الذي لا جوف له، السيد جل وعلا، الذي بلغ في سؤدده كمالاً لا يبلغه كمال، وفي شرفه شرفاً لا يبلغه شرف: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]^.
ثم المعوذتان -يا عبد الله- اقرأهما دائماًَ في الصباح ثلاثاً -مع الإخلاص ثلاثاً- وفي المساء ثلاثاً، واختم بها كل صلاة، وعود عليها صبيانك وأولادك الصغار، فإنها آيات تحطم الجبال، وتحطم ما تحتها.
استعاذة بالله، تعرف ما معنى الاستعاذة؟ هو أن تلجأ إلى الله تعالى، مر عليه الصلاة والسلام ليلة من الليالي في الصحراء، وإذ بالشياطين قد تجمعوا له وبيد كل واحد منهم نار يريد أن يحرق بها وجهه عليه الصلاة والسلام، أتعرف ماذا قال؟ احفظ هذا الدعاء وقله دائماً: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وبرأ وذرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير منك يا رحمان، فانطفأت نيرانهم فولوا على أدبارهم ) الله أكبر! قل صباحاً ومساءً أعوذ بكلمات الله التامات ثلاثاً، وعود عليها صبيانك، وعود أطفالك قول: (أعوذ بكلمات الله التامه، من كل شيطان وهامه، ومن كل عين لامه ) وقلها في كل مكان يا عبد الله.
ولتكثر من هذا الدعاء أعوذ بكلمات الله التامه، من كل شيطان وهامه، ومن كل عين لامه، إذا خفت خوفاً شديداً، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
إذا رأيت منظراً غريباً فقل: أعوذ بالله منك، أي: ألتجئ إلى الله، ومن التجأ إلى الله حماه، فأنت تفر إلى الله.
عبد الله: إن غضبت غضباً شديداً فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إذا دخلت مكاناً مظلماً، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنه لم يزل عليك من الله حافظ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. بسم الله الرحمن الرحيم.. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]^ رب الفجر إذا انفلق، رب الصباح: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:1-3]^ من شر الليل إذا حل، ومن شر القمر إذا ظهر في الليل: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:3-4]^.ومن شر السواحر اللائي ينفثن في العقد التي يرقين عليها: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:4-5]^.بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:1-6]^.
عبد الله: قبل أن أختم، اعلم أن الله ما أنزل بلاء إلا بذنب، ولن يرفع بلاء إلا بتوبة، فتب إلى الله جل وعلا، واعرف أن البلاء قد يكون لذنب أصبته، فهناك معصية وذنباً أنت أذنبته وأنت تعلم به، وإيمانك قد ضعف، وفتور وغفلة. قد يكون هذا هو السبب في هذا الذي أنت فيه يا عبد الله! سواءً كان عيناً أو سحراً أو مساً وإن كنت من الصالحين، فاعرف أن ما فيك بسبب ذنوبك، وتب إلى الله جل وعلا، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، واهجر المعاصي واهجر أماكن الغناء، وأماكن الفحش والبذاءة، واهجر الفسقة والفجرة، وابدأ مع الله صفحة جديدة.
واعلم أنك إذا أقبلت على الله وتقربت إليه شبراً، تقرب الله إليك ذراعاً.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الصوت الإسلامى(/8)
الرقية من احتباس البول
يسأل القارئ: فيصل حسين ـ مركز السنبلاوين، دقهلية يقول: أنا طالبٌ في كلية أصول الدين قسم الحديث، وقد أشكل عليَّ حديثٌ في الرقية من احتباس البول، هل الاختلاف الواقع فيه يضره من جهة صحته أم لا؟
والجوابُ بحول الملك الوهاب: أنّ هذا الحديث لا يثبتُ.
فهذا الحديث أخرجه النسائيُّ في «اليوم والليلة» (8301)، والحاكمُ (4/812 - 912) عن سعيد بن الحكم بن أبي مريم. وأبو داود (2983)، ومن طريقه اللالكائيُّ في «شرح الاعتقاد» (846). وابنُ حيان في «المجروحين» (1/803). وابنُ عديٍّ في «الكامل» (3/4501) عن محمد بن الحسن بن قتيبة، قالا: ثنا يزيد بن خالد بن موهبٍ والحاكمُ (1/343 - 443) عن يحىى بن بكيرٍ. وابنُ عديٍّ (3/4501) عن خالد بن قاسمٍ. والطبرانيُّ في «الأوسط» (6368) عن عبد الله بن صالح. قالوا: ثنا الليث بن سعدٍ، قال: حدثني زيادة بن محمد الأنصاريّ، عن محمدٍ بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد. عن أبي الدرداء أنه أتاه رجل فذكر له أنه احتبس بوله، فأصابته حصاة البول، فعلمه رقية سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم: ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، فاجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، فأنزل شفاء من شفائك، ورحمة من رحمتك على هذا الوجع فيبرأ، وأمره أن يرقيه بها فرقاه فبرأ».
وقال الطبرانيُّ: لا يروي هذا الحديث عن أبي الدرداء إلا بهذا الإسناد، تفرّد به الليث بن سعد». فقد رواه عن الليث بن سعد جماعةٌ منهم: يزيد بن خالد، ويحيى بن بكيرٍ، وعبد الله بن صالحٍ، وخالد بن قاسمٍ، وخالفهم ابنُ وهب، فرواه عن الليث بن سعدٍ وابن لهيعة، كليهما عن زيادة بن محمدٍ، عن محمد بن كعبٍ القرظيِّ، عن أبي الدرداء فذكره. فسقط ذكر «فضالة بن عبيد» أخرجه النسائيُّ في «اليوم والليلة» (7301) قال: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى. وابن عدي (3/4501) عن أحمد بن عمرو، وأحمد بن سعيد قالوا: ثنا ابن وهب بهذا وأبهم النسائي ذكر «ابن لهيعة» كعادته في ترك تسميته لضعفه الشديد عنده.
وصحَّح الحاكمُ إسناده! وليس كما قال؛ فقد صرَّح الحاكم أنه قليلُ الحديث، ومع قلة حديثه، فقد طعن العلماء عليه. قال البخاريُّ: «منكر الحديث» وقال ابنُ حبان: «منكرُ الحديث جدًا، يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك». وقال ابنُ عديٍّ: «لا أعرفُ له إلا مقدار حديثين أو ثلاثة، ومقدار ماله لا يتابع عليه». والرجلُ إذا كان قليل الحديث، ومع ذلك لا يتابع على رواياته فهو متروكٌ. وبهذا حكم البخاري وغيرُهُ وله إسنادٌ آخر. أخرجه النسائيُّ في «اليوم والليلة» (5301) قال: أخبرنا عبد الحميد بن محمد قال: ثنا مخلد قال: حدثنا سفيان عن منصور عن طَلْق عن أبيه أنه كان به الأسرُ فانطلق إلى المدينة والشام يطلب من يداويه فلقي رجلاً فقال: ألا أعلمك كلمات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ربنا الله الذي في السماء تقدَّس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت ربّ الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاءً من شفائك على هذا الوجع فيبرأ.
والأسرُ؛ هو احتباس البول. ووالد طلق بن حبيب لا صحبة له. وقد رواه شعبة بن الحجاج قال: أخبرني يونس بن خبَّابٍ، قال: سمعتُ طلق بن حبيبٍ، عن رجلٍ من أهل الشام، عن أبيه، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم كان به الأسرُ... الحديث. أخرجه النسائي أيضًا (6301) وصحَّح الحافظ في «الإصابة» (1/013) هذه الرواية، وَوَهَاؤها ظاهرٌ فيونس بن خبَّاب، فيه مقالٌ مشهورٌ، وفي الإسناد مجهولان. وليس المقصودُ من تصحيح الحافظ لهذا الوجه، أنه صحيحٌ، فإن ضعف السند أو وهاءه لا يخفى على صغار الطلبة فضلاً عن الحافظ وهو العلم المفردُ، وإنما معناه أنه أولى بالتصويب من الوجه الآخر، لا أنه صحيحٌ، وهذه جادَّةٌ مطروقةٌ عند علماء الحديث، فيذكرون حديثًا ما وقع فيه اختلاف، وكل أسانيده لا تثبت فيقولون عن وجهٍ منها: هذا أصحُّ شيءٍ، ويعنون أقلهُ ضعفًا، فهو بالنسبة لما هو أضعف منه يعدُّ صحيحًا لا أنه صحيحٌ في نفسه، كما تقول أنت إذا مدحت رجلا: «أعور بين عميان» فلا شك أن الأعور أصحُّ من الأعمى، وإن كان الأعور معيبًا بذلك في نفسه إذا قيس بالصحيح. وبالجملة فلا يثبتُ هذا الحديث. والله أعلم(/1)
الروائح الكريهة في المسجد
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
قال الله تعالى:{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } الأعراف:(31)
لهذه الآية، وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك" غير أن بعض إخواننا هداهم الله في منأى عن هذا التوجيه والأمر الرباني، بل لا يبالون به البتة، مع يسر الحال، وخفة المؤونة عليهم، فيؤذون وربما يأثمون ويؤّثمون إخوانهم من المصلين ، بما ينبعث منهم من روائح كريهة، ويشويشون الناس صلاتهم وعبادتهم.
ومن هؤلاء مثلاً عمال بعض المهن الشاقة والتي يتعرّق أصاحبها كثيراً: ثم يأتي الواحد منهم مع ما به من عرق وروائح مؤذية إلى الصلاة، فيؤذي برائحة عرقه لاسيما إذا لم يكن من أهل النظافة كثيراً، أو يؤذي برائحة مهنته إن كان من أصحاب تلك المهن. كروائح الزيوت لدى العاملين في الورش والبناشر أو يؤذي بالاثنين معاً، والله المستعان.
وهناك يفتح على المصلي الذي بجانبه باب عظيم من الوسوسة، والهلوسة في الصلاة، فإذا كان المصلي الذي عن جانبه من أهل السيارات مثلاً، وقد كان له موقف مع أحد أصحاب البناشر أو الورش. استدعى ذلك الموقف وما وما كان فيه من مشادة وما حصل فيه من حلول والأخطاء في تلك الحلول وما هي الخطوات والإجراءات التي سيتخذها لو أن الموقف تكرر مرة أخرى. وما الذي تعلمه من ذلك الموقف. وما الذي سيفعله تجاه الآخرين حتى لا يقعوا في مثله، ثم لو قدر أنّ أباه أو أخاه أو أي قريب له حصل له مثله، فإنه سيفعل كذا وكذا وسيقول كذا وكذا وسيذهب إلى فلان وفلان، حتى يقوم معهم بعمل اللازم من كذا وكذا. وهلم جرّ
أو يتذكر أن الإطار الاحتياطي في سيارته يحتاج إلى إصلاح أو، أو، أو...إلخ. ولا يستفيق من تلك الأفكار والخيالات إلا بعد السلام، والسبب تلك الرائحة.
ومن المهن أيضاً التي لا يتنبه لروائحها أصحابها مهنة بيع المقالي (المأكولات المقلية) في الأسواق، والتي تعلق رائحتها في ثياب أصحابها ويأتون بها إلى الصلاة. فإذا دخل الواحد منهم في الصلاة بدأت الهلوسة بالذي عن يمينه والذي عن شماله ومن أمامه ومن خلفه، وكل من وصلت إليه تلك الرائحة.
فتجد الذي عن يمينه يقول. آه ذكرني برمضان، ثم يهيم في حديث رمضان وما أدراك ما حديث رمضان والأكل والطبخ فيه.
ويقول الذي عن يساره، وقد استنشق ثلاث استنشاقات متكررة وخاطفة، ما هذا! سنبوسة! لا ذا جاء بالمحل ليصلي معه! ويخفي ابتسامته بين شفتيه.
ويسأل: من هو يا ترى؟
من هذا؟ فلان الذي في أول الشارع؟ لا لا..
ذاك لا يصلي.
آه المقرف. عمله وسخ ما زلت أذكر ما لقيت في السنبوسة الشهر الماضي. الله يلـ... استغفر الله استغفر الله...
ولكنه يستحق السب لأنه لا يصـ... بس ما أحد نصحه ولا كلمه, ولا...!
فعله والله مشين.. وكأنه ما يدري أن بلاد المسلمين فيها أمراض فتاكة ومعدية وقاتلة هذه الأيام!!!!؟
بس ليس هو! هذا فلان! وسأشتري للأهل من عنده بعد الصلاة. حتى نجلس و و...
ويبحر في عالم الخيال مع الجلسة مع أهله. ولم يزل كذلك يفتي، ويؤصّل، ويتخيل، وهو لم يزل في ركعة واحدة أو دونها. والسبب تلك الرائحة.
ومن هؤلاء أيضاً بعض من يتهاونون في نظافتهم بعد الأكل خاصة بعد أكل البصل، والكراث والثوم والبقل وغيرها من المأكولات ذات الروائح النفاذة.
أو التهاون في رائحة الفم وقلة نظافته قبل وبعد النوم، فيأتي إلى الصلاة خاصة صلاة الفجر، ورائحة فمه تنبعث إلى بعد أمتار. ويزداد الأمر سوء، إذا كان الذي بجانبه ممن يعاني حالة من حالات الربو، حيث يقل الأكسجين عنده في هذه الوقت، فيخرج إلى الصلاة وأنفاسه تتلاحق بشدة بالغة، حتى إذا اصطف للصلاة وقع بين شرين، الأول: ضيق التنفس والتعب الذي يعانيه بشهق وزفر أكبر قدر ممكن من الهواء، وما أن يقوم بتلك العملية من الشهيق والزفير حتى يقع في الشر الثاني، وهو أنه يستنشق الرائحة الكريهة والمؤذية من فم الذي بجانبه، فيعاني أشد المعاناه ويعنت أشد العنت، إن تنفس شم ما لا يحتمله، وإن كتم أنفاسه كاد أن يغمى عليه بل، أغمي عليه، وربما تأزمت حالته بسبب ذلك. والسبب تلك الرائحة. في حين قد لا يخطر ببال ذلك المتهاون أنه قد يضر بأمثال هذا. والله المستعان.
ومن هؤلاء بل ويدخل فيهم من طريق الأولى رائحة شرب الدخان ( السيجارة) الذي أبتلي به بعض الناس ويأتون إلى الصلاة، وقد جمعوا على أنفسهم السوءين؛ حرمة شرب الدخان، وأذية المسلمين برائحتها. وإنا لله وإنا إليه راجعون.(/1)
وشرب الدخان أشد من تلك الأمور نهياً، – أي البصل والكراث والثوم والبقل- لأن شرب الدخان إلى جانب الإيذاء برائحته الكريهة، ضرره محض، لذلك فالحق فيه أنه محرم،.. بينما تلك الأمور المنهي عنها، فيها فوائد عظيمة وكثيرة، وإنما نهي عن أكلها عند إدارة الصلاة بحيث تبقى ريحها، لا في كل حين. فلا مقارنة بينها وبين هذه المادة الخبيثة شماً، والضارة للبدن، والخارمة للمروءة؟! بل لا يوجد شك عند أهل الفطر السليمة، أن الرائحة المنبعثة من فم المدخن وجسمه أسوأ من رائحة البصل.. لذلك تجدك لو جلست إلى جانب أحد هؤلاء المدخنين، ما شككت في أنه قطعة من تبغ! لا تتمالك معها إلا أن تكتم أنفاسك... نسأل الله أن يهدي هؤلاء إلى ترك كل مضر بصحتهم ومؤذٍ لعباد الله.
ونهي رسول الله أن يأكل الإنسان الثوم أو البصل ثم يدخل المسجد فقال: ( من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا – أو قال: فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته).وفي رواية: (فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) متفق عليه. فيه زجر وموعظة بالغة للمؤمن من أن يقترف ما شابه هذه الروائح أو ما هو أعظم منها، ويظهر الزجر من عدة نواحي:
1. منعه من دخول المسجد، ويحصل فيه حسرة شديدة للمؤمن.
2. فوات صلاة الجماعة وكون ترك الجماعة معصية.
3. فوات أجر صلاة الجماعة الذي يعدل سبعاً وعشرين درجة عن صلاة الفرد.
وقد تكون الروائح الكريهة ليست ناجمة عن تهاون في النظافة، وإنما نتيجة عن التجمل والتزين والتأنق، فقد يستخدم بعض الناس دهون وأطياب ذات روائح نفاذة جداً، يؤذي شمها بعض من يعانون من التحسسات الأنفية أو الصدرية.
أو يحرص البعض على لبس الجوارب، الشُّرّابات، مع نسيان نظافتها، وبالتالي تنبعث منها روائح تصدع الرؤوس وتزكم الأنوف وتقزز النفوس.
ولقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته على النظافة، والعناية بالمظهر، لما في ذلك من تحقيق التحاب والتآلف، التواد بين المسلمين، فإن المظهر الحسن والريح الطيبة تحبذها النفس طبيعة. والريح الكريهة تبغضها وبالتالي تبغض صاحبها ولاشك، وعلى الرغم من شدة العيش التي كانت في عهده -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه لم يكن - صلى الله عليه وسلم- وهو المبلغ لأمته- أن يسكت عن هذه المسألة دون أن ينبه عليها، ويترك الناس يؤذي بعضهم بعضاً، ويقع التدابر والتشاحن والتباغض بينهم، فقد أخرج أبو داوود والحاكم والبيهقي عن عكرمة:" أن ناساً من أهل العراق جاؤوا فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ الغسل: كان الناس مجهودين يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح، آذى بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الريح قال: (أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمس أحدكم أفضل مما يجد من دهنه وطيبه) قال ابن عباس: ثم جاء الله -تعالى- بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضاً من العرق)1.
وهذا يدلنا على التشديد والتأكيد على الاهتمام بالنظافة، وأهمية ظهور المسلم بالمظهر الجميل واللائق، و البعد عن كل ما يؤذي المسلم والحرص على أن تدوم روح الاجتماع والألفة، وإزالة الروائح الكريهة المؤذية للمصلين بل وللملائكة، الذين يحضرون أماكن العبادة والذكر، لأنه لا يمكن لأحد أن يدخل في جماعة ويتآلف معها إلا إذا قدر أفرادها، واحترم مشاعرهم، وأحب ما يحبون، وكره ما يكرهون...
ومن هنا نجد ابن عباس -وهو ترجمان القرآن يربط بين السبب والمسبب- وهو أن السبب في الأمر بالاغتسال والنظافة هي الرائحة الكريهة، فعلى هذا فكلما تكررت الرائحة الكريهة تكرر وجوب النظافة، لأن الحكم يدور مع سببه، لأن الضرر المترتب على هذه خبث الرائحة في الصلاة لا يمكن حرصه ولا التكهن به فهو يختلف باختلاف الأشخاص وطبائعهم وحالاتهم التي يكون عليها
ثم إن المسلم ما جاء إلى بيوت الله –تعالى- إلا ليتقرب إلى ربه، ولتمحى عنه ذنوبه وسيئاته.. فليتق الله أذن وليحذر مخالفة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فإن من خالف أمره يوشك أن يصاب بفتنة يجد مرارتها في قلبه وواقعه، مصداقاً لقوله –تعالى-:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63) سورة النور .
هذا والله تعالى الموفق والمعين،،،
000000000000000
1- قال ابن حجر في الفتح: أخرجه أبو داود والطحاوي وإسناده حسن.(/2)
...
الرياضة بين المشروع والممنوع ...
عبد الله العلوي الشريفي ...
...
...
ملخص الخطبة ...
1- موقف الإسلام من الرياضة ومسابقاتها. 2- موقف الإسلام من العري والضياع والقمار واللهو الذي يسمى اليوم رياضة. 3- انشغال المسلمين برؤية المباريات عن الصلوات والواجبات. 4- آداب ممارسة الرياضة. ...
...
الخطبة الأولى ...
...
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان، بدأتِ اليَوْمَ الملهاةُ الكُبرَى، أو كأسُ العالمِ لكرةِ القدمِ كما يُسَمُّونَه ... ويَعْلَمُ اللهُ أنَّنِي لستُ من أعداءِ الرياضةِ، بلْ أنا مِمَّنْ يحبُّونَها، ويمارسُونها، ويَدْعُونَ إليها كما دعا إليها الإسلامُ كوسيلةٍ للصِّحَّةِ والقوةِ ... ففي صحيح مسلم أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ...)). ومنْ وسائلِ اكتسابِ القوةِ، ممارسةُ بعضِ الأنشطةِ الرياضيةِ التِي تُنمِّي الجسمَ وتقوِّيهِ، كالرمايةِ، والسِّباحةِ، والمصارعةِ، والعدْوِ، ونحْوِ ذلكَ ... وبهذا جاءتْ توجيهاتُ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابَتِهِ الأبرارِ ... فقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمُرُّ على أصحابِهِ في حلقاتِ الرَّمْيِ فيُشَجِّعُهُمْ ويقولُ: ((ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ)) ـ البخاري ـ. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَلَيْكُمْ بِالرَّمْيِ فَإِنَّهُ مِنْ خَيْرِ لَعِبِكُمْ )) حديث رقم (4065) صحيح الجامع .
وقدْ كانَ الصَّحابةُ رضيَ اللهُ عنهمْ يتسابقونَ على الأقدام، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِرُّهُمْ عليهِ، ويُرْوَى أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صارعَ رجُلاً معروفاً بقوَّتهِ يسمى رُكانةَ، فصَرَعَهُ النَّبِيُّ أكْثَرَ من مرَّةٍ، كما شَهِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتفالاتِ المبارزةِ، فقدْ رَوَتْ عَائِشَةُ زوجُ النبيِّ الكريمِ: (كَانَ الْحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فَسَتَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَنْظُرُ، فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حَتَّى كُنْتُ أَنَا أَنْصَرِفُ) ـ البخاري ـ. وقالَ عمرُ رضي الله عنه: "عَلِّمُوا أولادَكُمُ السِّباحةَ والرِّمايةَ، ومُروهُمْ فَلْيَثِبُوا على ظهورِ الخيلِ وَثْباً".
فهذه ألوانٌ من اللهوِ، وأنواعٌ من الرِّياضَةِ كانتْ معروفةً عندَهُم، شرَعَها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسلمينَ، لمُزاوَلَتِها أو للفُرجَةِ، ترفيهاً عنهُمْ، وترويحاً لَهُمْ، وهي في الوقتِ نفسِهِ تُهَيِّءُ نُفُوسَهُم للإقبالِ على العباداتِ والواجباتِ الأُخْرَى، أكْثرَ نشاطاً وأشَدَّ عزيمةً ...
من هنا أريدُ أن أقولَ: إنَّ الإسلامَ يُقِرُّ ويَحُضُّ على الرِّياضةِ الهادفةِ النَّظيفةِ، التي تُتَّخَذُ وسيلةً لا غايةً، وتُلْتَمَسُ طريقاً إِلىَ إيجَادِ الإنْسانِ الفاضِلِ المتميِّزِ بجِسْمِهِ القوِيِّ، وخُلُقِهِ النَّقِيِّ، وعَقْلِهِ الذَّكِيِّ، فمن حقِّنا أن نتمتَّعَ بالرياضةِ، إذا كانت وسيلةً لا غايةً، واسْتِمْتاعاً لا تَعَصُّباً.
إخوةَ الإيمان، ما أبشعَ البعضَ عندما يُصيِّرونَ الحلالَ حراماً، فالمصارعة حلالٌ، ولكنْ عندما تتحوَّلُ إلى استعراضٍ للعُريِ، فإنَّ هذا النَّوعَ من المصارعةِ وليسَ مُطلقَ المصارعةِ يدخلُ قائمةَ المحظوراتِ من الرِّياضاتِ، فضَرورةُ سَتْرِ الأجْسادِ لا تحتاجُ إلى دليلٍ، يكفي قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُفْضِ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُفْضِ الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ)) ـ مسلم ـ.(/1)
وسِباقُ الخيلِ حلالٌ، ولكن عندما يُصْبِحُ السِّباقُ بُؤْرَةً للمراهَناتِ، فإنَّ السباقَ يدخلُ دائرةَ المَيْسِرِ والقِمارِ المُحَرَّمِ والمَنْهِيِّ عنه، وكُرَةُ القدمِ من أنواعِ الرياضةِ المباحةِ، ولكنْ شريطةَ ألا تَشْغَلَنَا عنْ واجباتٍ ثِقالٍ تلاُحِقُنا من يمينٍ وشِمالٍ، ونحن نلاحظُ أن الرياضةَ ـ وخاصَّةً كرةَ القدمِ ـ صارتْ كالبلاءِ أو كالسُّعارِ، حيثُ انحرفتْ عنْ طَريقِها المقبولِ، وزادتْ عن حدِّها المعقولِ، فالجماهيرُ الغفيرةُ منَ الناسِ تتْرُكُ أعمالَهَا من أجلِ كرةِ القدمِ، والألوفُ تتجَمَّعُ حَوْلَ أَجْهِزَةِ التلفزيونِ لمشاهدةِ هذِهِ المبارَياتِ بِحِرْصٍ وشَغَفٍ مجْنونَيْنِ، وليتَ هذه المشاهدةَ تَتِمُّ في هدوءٍ وحكمةٍ، ولكِنَّها تمتلئُ بالصَّخبِ والضَّجيجِ، والمناقشةِ الحادَّةِ، والتَّعصُّبِ الأحمق، مما يؤدِّي إلى خلافٍ عنيفٍ، أو إلى خصومةٍ هائجةٍ بين الأصدقاءِ والمعارفِ، وبين الأزواجِ والزَّوْجاتِ، وبين الأبناءِ والآباءِ، قدْ تبلغُ حدَّ التقاذُفِ بالتُّهمِ والشتائمِ...
واليومَ أو غداً، أو فيما يُسْتقبلُ من الأيامِ ستُطالِعُكُمُ الصُّحُفُ والإذاعاتُ بأخبارِ من يموتُ بالسَّكْتةِ القلبيةِ لأنَّ فريقَ الكرةِ الذي يُحِبُّهُ قدِ انهزمَ، والزَّوْجُ الذي ضَرَبَ أو طلَّقَ زوجتَهُ غيْظاً، وستسْمعون من كسَّرَ تِلْفازَهُ غضباً وسُخطاً، والتِّجارةُ ستبُورُ، ومصالحُ الناسِ ستتعطَّلُ، والمساجدُ ستزدادُ خُلُواً منَ المُصلِّينَ في الأوقاتِ التي توافقُ بثَّ المبارياتِ، حتىَّ وجدنا منْ يسْألُ ويَسْتفْتِي: هل يجوزُ تأخيرُ صلاةِ الجمعةِ اليومَ إلى أن تنتهيَ مُباراةُ الافتتاحِ ؟ لأنَّه سَيُحْرَمُ من مُشَاهَدَتِها، أو على الأقَلِّ سيُحْرَمُ من شَوْطِها الأولِ، ولا عليهِ أنْ يحضُرَ متأخِّراً للصَّلاةِ، لِهَذِهِ الدَّرَجَةِ بَلَغَ الحِرْصُ على مُشاهَدَةِ مُبارَيَاتِ كُرَةِ القَدَمِ، يا لَيْتَنَا كُنَّا نَحْرِصُ عَلَى الصَّلاةِ مِثْلَ هَذَا الحِرْصِ، أما من طَبَعَ اللهُ على قلوبِهم مِمَّنْ جَعلُوا الكُرَةَ مَعْبُودَهُمْ، فقد تخلَّفُوا عنِ الجمعةِ لمشاهدةِ مباراةِ الافتتاحِ، لأنَّهُ لا يُمكنُ لهم أنْ يحرِمُوا أنْفُسَهم من مُتْعَتِها وخيرِها وفضلِها الَّذي يفوقُ في ميزانِهِم فضلَ صلاةِ الجمعةِ الذي قال فيه رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ...)) ـ رواه مسلم ـ.
إنَّ من شَغَلَتْهُ الكرةُ عنِ الصَّلاةِ، أو أجَّلَ وأخَّرَ الصَّلاةَ عن وقتِها من أجْلِ الكُرَةِ عليه أنْ يُرَاجِعَ إيمانَهُ، ويَعْلَمَ أنَّ طاعَتَهُ للهِ ورَسُولهِ ناقصة ومغشوشة، وحالُهُم كحالِ أولئكَ الذين نَزَلَ فيهم قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ [الجمعة:11].
لقد أصبح أمرُ هذه الأمَّةِ عجيباً ـ أيها الإخوةُ ـ إسرافٌ في اللهوِ لا مثيلَ لهُ، حالةُ الطوارئِ أُعلِنَتْ في جميعِ القنواتِ التلفزيةِ، والجرائدِ اليوميةِ والأسبوعيةِ التي تُصْدِرُ ملاحقَ عنِ الملهاةِ العالميةِ، لا حديثَ في الشارعِ والبيوتِ إلا عنِ الكُرَةِ، ثلاثُ إلى أربعِ مقابلاتٍ يومياً، بمعدَّلِ خمسِ إلى ستِّ ساعاتٍ، يضافُ إليها التعليقاتُ والملخَّصاتُ، وقراءةُ الملحقاتِ الرياضيةِ، لهوٌ في لهوٍ، حتَّى يتساءلُ كثيرٌ منَّا: تُرَى ما الهدَفُ من وراءِ هذا الاهتمامِ الواسِعِ بمبارياتِ كرةِ القدمِ، وشَغْلِ النَّاسِ بها إلى هذا الحَدِّ، وإِثَارَتِهِمْ بسببها إلى هذا المَدَى، والكرمِ الحاتِمِيِّ في الإنفاقِ عليها، والتمكينِ لها، والحِرْصِ على إذاعتِها بوسائلِ الإعْلامِ المختلفة، حتَّى إنها لتطغى في أحيانٍ كَثيرةٍ على حُقوقِ أمورٍ جليلةٍ لها مكانتُها الدينيةُ أوِ الوطنيةُ أوِ الاجتماعيةُ؟؟؟(/2)
واللهِ إنَّ كثيراً من الدولِ وهي فقيرةٌ، تُنْفِقُ ما يَصِلُ إلى حَدِّ السَّفَهِ على كُرَةِ القَدَمِ وحْدَها، بل قد تُنفقُ الذي تكونُ مُسْتَشْفَيَاتُها ومُؤَسَّسَاتُها التَّعليميةُ، وطُرُقُها ومرافقُها العامَّةُ أَحْوجَ إليهِ، أيكونُ الهدفُ من هذا كلِّهِ أن تَنْتَشِرَ الرِّياضَةُ السَّليمةُ الهادِفَةُ التي تُهَذِّبُ النفسَ، وتُقَوِّي الجِسْمَ، وتُرَبِّي الخُلُقَ، وتُعَوِّدُ على قوةِ الإرادةِ وضَبْطِ الشُّعورِ، وتَغْرِسُ رُوحَ النِّظامِ والتَّعَاوُنِ، أمْ أنَّ الهدَفَ إلهاءُ الشُّعوبِ والشَّبابِ خُصوصاً عن مهامِّهِمْ نَحْوَ أُمَّتِهِمْ، أيُّ رياضةٍ هذهِ التي تَشْغلُنا عن قضايانا الجَوهرِيةِ والمُلِحَّةِ، وتَشْغَلُ أَبْناءَنا عنِ امتحاناتِهِمُ المصيريةِ.
إنَّ الإسلامَ لا يقاومُ الرِّياضةَ، بلْ هو يدعو إليها، ويحثُّ عليها، ولكنَّهُ يُريدُها وسيلةً للتَّربيةِ والتهذيبِ، لا أن تكونَ مَلهاةً خَبيثةً تَشغلُ الناسَ والأمَّةَ عن قضاياها الكبيرةِ، وعن واجباتِها الثقيلةِ، أمامَ طُغيانِ أعدائِها الذين يتربَّصونَ بها على الدَّوامِ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. ...
...
الخطبة الثانية ...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان، إنَّ لنَا أولاداً يُزَاولُونَ الرِّياضَةَ، ويَشْتَركُونَ في المبارياتِ والمسابقاتِ، فَأدِّبوهُمْ بِأدبِ الإسلامِ في هذا البابِ، وعلِّمُوهُمْ كيفَ يكونُ المسلمُ متواضعاً عندَ الفوزِ، فهو يفرحُ في غيرِ إسرافٍ ولا خيلاءٍ، لأنَّهُ من حَقِّ الفائِزِ أن يَفْرَحَ، ولكنْ ضمنَ ضوابط، علِّموهُمْ كيف يكون المسلم صبوراً عندَ الهزيمةِ: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]. مالكاً نفسَهُ عندَ الغضبِ، فالرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ـ أي الذي لا يغلبه الرجال ـ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)) ـ البخاري ـ.
فالرِّياضِيُ إذا ملكَ نفسَهُ عند الغضب فقد صار بطلاً، وأصبحَ عملاقاً، ولا يُتصَوَّرُ أن يقعَ منهُ تهوُّرٌ أو تمرُّدٌ أوِ اعتِداءٌ، علِّموا أولادَكُم أن اللهَ العلِيَّ القويَّ يريدُ لنا أن نكونَ أقوياءَ، ويريدُ منَّا أيضاً أن نكونَ فضلاءَ، يريدُنا أن نكونَ أقوياءَ في إيمانِنَا، في أبْدانِنَا، مُتَطَهِّرينَ في أَخْلاقِنَا، يَوْمَ يتعلَّمُ أبناؤُنا هذا، ويَعْمَلُونَ بِهِ، يُصْبِحُونَ مِمَّنْ فَهِمُوا المَعَانَيَ السَّامِيَةَ للرِّياضَةِ.
أخيراً أُؤَكِّدُ أنَّ كرةَ القدمِ مباحةٌ، إنَّما يُحرِّمُها ما يرتبطُ بها من مُرَاهَنَاتٍ، وإِلْهَاءٍ عنِ الصَّلاةِ، والمُهِمَّاتِ مِنَ الواجِبَاتِ، وما يَتْبَعُها من سَبٍّ وشَتْمٍ، وسُكْرٍ وعُهْرٍ وضياع للأوقات..
ألا فلنتَّق اللهَ في كُلِّ أُمورِنا، ولْنَتَأَسَّ بِهَدْيِ وتعاليمِ دينِنَا، ولْنَسْتَفِدْ من الرِّياضَةِ بِجَمِيعِ أنواعِها المباحةِ، ولْتَكُنْ غايتُنا رضاءُ الله ونُصرةُ الإسلام.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على المبعوثِ للعالمين محمَّدٍ سيِّدِ الأولينَ والآخِرينَ، وأفْضَلِ الخَلْق أجمعينَ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهرين، وارْضَ اللَّهُمَّ عنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدينَ، وعنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعينَ، والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ ... ...
...
...(/3)
الرياضة في المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد في يوم عيد -فقال لي: (يا حميراءُ! أتحبين أن تنظري إليهم؟) فقلتُ: نعم، فأقامني وراءه، فطأطأ لي منكبه لأنظر إليهم، فوضعت ذقني على عاتقه، وأسندت وجهي إلى خده، فنظرت من فوق منكبيه(1)، وهو يقول: (دونكم يا بني أرفدة!) حتى شبعت، قالت: ومن قولهم يومئذ: (أبا القاسم طيباً).
وفي رواية: حتى إذا مللت؛ قال: (حسبك؟)، قلتُ: نعم، قال: (فاذهبي).
وفي أخرى: قلت: لا تعجل، فقام لي، ثم قال: (حسبك؟) قلت: لا تعجل، قالت: وما بي حب النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي، ومكانه مني، وأنا جارية، فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السن الحريصة على اللهو.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: قال -صلى الله عليه وسلم- يومئذ: (لتعلم يهود أن في ديننا فسحة)(2).
وقد كان لعب الحبشة آنذاك نوع من المباراة أو الاستعراض الرياضي شهده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشهدته معه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-.
إنها لفتة كريمة من الرسول الكريم إلى تحبيذ ألعاب القوى والبطولة، وتشجيع الألعاب الرياضية التي تؤدِّي إلى تقوية الجيل المسلم، وتعويده على الشجاعة والفروسية والثقة بالنفس، فما أعظم هذا الرسول! وما أجدر العاملين على توجيه المسلمين أن يستفيدوا من هذا القائد العظيم هذه الدروس العظيمة(3).
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: (في تمكينه -صلى الله عليه وسلم- الحبشة من اللعب في المسجد دليل على جواز ذلك، فلم كره العلماء اللعب في المساجد؟ قال: والجواب: أن لعب الحبشة كان بالسلاح، واللعب بالسلاح مندوب إليه للقوة على الجهاد، فصار ذلك من القُرب كإقراء علم وتسبيح وغير ذلك من القرب؛ ولأن ذلك كان على وجه الندور، والذي يفضى إلى امتهان المساجد إنما هو أن يتخذ ذلك عادة مستمرة، ولذلك قال الشافعي -رضي الله عنه-: لا أكره القضاء في المسجد المرة والمرتين وإنما أكرهه على وجه العادة)(4).
ولا يفهم من كلام العلماء أن يتخذ المسجد ملعباً أو نادياً رياضياً تمارس فيه الألعاب المختلفة، إنما الجواز في الألعاب التي تقوي الجسم وتعود المسلم على الشجاعة والفروسية والثقة بالنفس. أما بعض الألعاب مثل كرة القدم، والجري وغيرها من ألعاب فلها أما كنها الخاصة، ولا تصلح في المساجد؛ لأن في مما رستها في المسجد أمتهان له وإن كانت هي مباحة.
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، ويجعلنا من عباده المخلصين، أوليائه المقربين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
---
1 - وفي رواية: من بين أذنه وعاتقه.
2 - أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي، والطيالسي، وأحمد والمحاملي في صلاة العيدين، والطحاوي في "مشكل الآثار"، يزيد بعضهم على بعض، راجع: آداب الزفاف في السنة المطهرة للعلامة الألباني (صـ 272 الطبعة الجديدة).
3 - المسجد في الإسلام (صـ 203).
4 - شرح السيوطي لسنن النسائي (3/193).(/1)
الزكاة
مشروعيتها وشروطها وحكم تاركها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فإن الإسلام له أركان يقوم عليها، وأي شيء قد يحكم عليه من خلال أركانه قبل جزئياته، وإن من أركان الإسلام ما يشير إلى التعاطف والتراحم بين أفراده ومعتنقيه، من تلك الأركان الزكاة، فإنها منهج حياة، يمثل جزءاً من قانون الاقتصاد في الشريعة الإسلامية.
وسنتكلم –إن شاء الله- في هذا الدرس عن هذا الركن من حيث التعريف، والمشروعية، وبعض الأحكام المتعلقة به.
تعريفها:
الزكاة في اللغة: النماء يقال زكا الزرع إذا نما وأيضًا بمعنى التطهير1 وكذلك بمعنى الصلاح، وشرعًا: تمليك مال مخصوص لمستحقه بشرائط مخصوصة2
حكمتها:
التطهير من الأدناس، ورفع الدرجة، وحصول الأجر والمثوبة، ونفي الفقر.
مشروعيتها:
فرضت في السنة الثانية من الهجرة، ودليلها: الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب فقد قال تعالى: (وَآتُواْ الزَّكَاةَ) (سورة البقرة:110)، وقال –تعالى-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) (التوبة:103)، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (سورة المعارج:25). وغيرها من الآيات.
وأما السنة فكثيرة: منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: (بني الإسلام على خمس) فذكر من الخمس (إيتاء الزكاة)3، وفي حديث معاذ –رضي الله عنه- لما بعثه إلى اليمن (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم)4. وأما الإجماع: فقد ذكره كثير من العلماء، قال ابن قدامة: وأجمع المسلمون في جميع الأعصار على وجوبه5. وعلى هذا فلا يجوز إنكارها أو التساهل في أدائها.
شروط وجوبها المتعلق بالعبد:
¨ أجمعوا على أنها تجب على كل مسلمٍ حرٍّ بالغٍ عاقلٍ مالكٍ النصابَ ملكًا تامًّ6.
¨ اختلفوا في خلاف ما تقدم، وهم: (الكافر المرتد، والصبي، والمجنون، والعبد، وما خلا المالك ملكاً تامًّا).
أما الكافر الأصلي:
فلا خلاف في أنه لا زكاة عليه7.
أما من كان مسلماً ثم ارتد عن الإسلام فعلى ثلاثة أقوال:
- لا تجب عليه في زمن ردته؛ لأنه كافر، والكافر لا يقبل منه شيء حتى يُسلم، ولأنها عبادة، و الكفار غير مخاطبين بشرائع هي عبادات، وهذا قول الحنفية8والحنابلة9.
- تجب عليه الزكاة؛ لأن الإسلام شرط صحة لا للوجوب فتجب على الكافر، وإن كانت لا تصح إلا بالإسلام، وإذا أسلم فقد سقطت بالإسلام؛ لقوله -تعالى-: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (الأنفال:38)، ولا فرق بين الكافر الأصلي والمرتد، وكما أن الإسلام شرط لوجوب الزكاة، فهو شرط لصحتها أيضًا؛ لأن الزكاة لا تصح إلا بالنية، والنية لا تصح من الكافر باتفاق الأئمة الثلاثة سوى الشافعي، وهذا قول المالكية10.
- تجب الزكاة على المرتد وجوبًا موقوفًا على عودةٍ إلى الإسلام، فإن عاد إليه تبين أنها واجبة عليه لبقاء ملكه، فيخرجها حينئذٍ، ولو أخرجها حال ردته أجزأت، وتجزئه النية في هذه الحالة؛ لأنها للتمييز لا للعبادة، أما إذا مات على ردته ولم يسلم فقد تبين أن المال خرج عن ملكه وصار فيئًا فلا زكاة11.
وأما الصبي والمجنون فالمسألة على ثلاثة أقوال:
- أنها تجب في مال كلٍّ منهما، ويجب على الولي إخراجها وهذا عند ثلاثة من الأئمة12؛ لأنها عندهم ليست عبادة وإنما هي حق للفقراء على الأغنياء فلا يشترط فيها بلوغ ولا عقل13.
- أنها تجب الزكاة ولكن لا تخرج حتى يبلغ الصبي ويفيق المعتوه، وهذا مروي عن ابن مسعود والثوري والأوزاعي14.
- أنها لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون، ولا يطالب وليُّهما بإخراجها من مالهما، لأنها عبادة محضة، والصبي والمجنون لا يخاطبان بها، وإنما وجب في مالهما الغرامات، والنفقات؛ لأنهما من حقوق العباد، ووجب في مالهما العشر، وصدقة الفطر؛ لأن فيهما معنى المؤنة، فالتحقا بحقوق العباد، وحكم المعتوه كحكم الصبي فلا تجب الزكاة في ماله15.
وأما العبد فقد ورد عن أهل العلم فيه ثلاثة أقوال:
- لا زكاة في ماله أصلاً، وبه قال مالك وأحمد وأبي عبيد من الفقهاء، واحتجوا بأن العبد لا يملك16وأن للسيد انتزاعه.
- تجب الزكاة في مال العبد على سيده، وبه قال الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه17، ورأيهم مبني على أن السيد هو المالك.
- على العبد في ماله الزكاة، وبه قال عطاء من التابعين وأبو ثور من الفقهاء، وأهل الظاهر18، وهذا مبني على أن الزكاة عبادة والخطاب في وجوبها عام يدخل فيه المكلفون والعبد مكلف بالعبادة.
وأما المكاتب:
فلا زكاة في ماله؛ لأنه مطالب بإتمام ما تنفك به رقبته، ولا خلاف في هذا القول إلا قول لأبي ثور19.
وأما من عليه دين يستغرق ماله أو ما يجب عليه به الزكاة فالمسألة على أقوال:
- لا زكاة فيه حتى تخرج الديون، وهذا قول الثوري وأبي ثور.
- لا زكاة إلا في الحبوب فقط. وهذا قول الحنفية.(/1)
- يمنع الزكاة في الناض دون غيره، وهذا قول مالك.
- لا يمنع أصلاً لا ناضاً ولا حبوباً ولا غيرها؛ لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين، وهذا مروي عن جماعة من أهل العلم20.
وأما من له دين فينقسم إلى قسمين:
من كان مدينه معترفًا به باذلاً له ففيه أقوال:
- عليه زكاته، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبضه فيؤدي لما مضى، غير أنه لا يؤدي حتى يستكمل شرط الزكاة عند القابض له وهو الحول، روي ذلك عن علي -رضي الله عنه- وبه قال الثوري، وأبو ثور، وأصحاب الرأي21.
- عليه إخراج الزكاة في الحال، وإن لم يقبضه؛ لأنه قادر على أخذه، والتصرف فيه، فلزمه إخراج زكاته، كالوديعة، وبهذا قال عثمان بن عفان وابن عمر -رضي الله عنهما-من الصحابة، وجماعة من التابعين والشافعي وإسحاق وأبو عبيد22.
- ليس في الدين زكاة؛ لأنه غير نامٍ فلم تجب زكاته كعروض القنية، وهذا مروي عن عائشة وابن عمر -رضي الله عنهما- وعكرمة23.
- يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة، روي هذا عن سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعطاء الخراساني وأبي الزناد24.
- الدين ثابت في الذمة فلم يلزمه الإخراج قبل قبضه، كما لو كان على معسرٍ، ولأن الزكاة تجب على طريق المواساة، وليس من المواساة أن يخرج زكاة مالٍ لا ينتفع به، وأما الوديعة فهي بمنزلة ما في يده؛ لأن المستودع نائب عنه في حفظه ويده كيده، وإنما يزكيه لما مضى، لأنه مملوك له يقدر على الانتفاع به، فلزمته زكاته كسائر أمواله، وهذا قول الحنابلة25.
أن يكون مدينه معسراً أو جاحداً أو مماطلاً به على قولين:
- لا تجب؛ لأنه غير مقدور على الانتفاع به، أشبه مال المكاتب، وهذا قول قتادة وإسحاق وأبي ثور وأهل العراق ورواية عن الشافعي.
- يزكيه إذا قبضه لما مضى؛ لما روي عن علي -رضي الله عنه- في الدين المظنون: قال: إن كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى. وروي نحوه عن ابن عباس رواهما أبو عبيد، ولأنه مملوك يجوز التصرف فيه فوجبت زكاته لما مضى كالدين على الملِّي، وهو قول الثوري و أبي عبيد ورواية عن الشافعي.
- يزكيه إذا قبضه لعام واحد وهذا عن عمر بن عبد العزيز و الحسن و الليث والأوزاعي ومالك26.
شروط وجوبها المتعلقة بالمال:
يشترط لوجوب الزكاة أن يبلغ المال المملوك نصابًا، ومضى عليه الحول وهو مالكه، والنصاب معناه في الشرع: ما نصبه الشارع علامة على وجوب الزكاة وحولان الحول في غير الزروع والثمار؛ فإنه يجب فيها من دون حول الحول27.
حكم منكر الزكاة ومانعها:
من أنكر وجوبها جهلا به وكان ممن يجهل ذلك، إما لحداثة عهده بالإسلام، أو لأنه نشأ ببادية نائية عن الأمصار عرِّف بوجوبها، ولا يحكم بكفره؛ لأنه معذور28. أما منكرها وهو من المسلمين الذين نشؤوا في بلاد المسلمين، ولم يخْفَ عنه حكمها فكافر بالإجماع لأنه منكر لمعلوم من الدين بالضرورة، ولأن أدلتها الكتاب والسنة والإجماع، قال الحافظ ابن حجر: وأما أصل فرضية الزكاة فمن جحدها كفر29.
وأما من منعها ولم يؤدها مع إقراره بوجوبها فهو داخل تحت الوعيد الشديد، فقد جاء في الحديث: عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته، إلا أحمي عليه في نار جهنم، فيجعل صفائح فيكوى بها جنباه، وجبينه، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت تستن عليه، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت، فتطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، ليس فيها عقصاء، ولا جلحاء، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ...الحديث)30.
وهو إما أن يقدر الإمام على أخذها منه فيعزره ولا يأخذ زيادة عليها، وهذا قول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم، وكذلك إن غل ماله وكتمه حتى لا يأخذ الإمام زكاته فظهر عليه، وقال إسحق بن راهويه وأبو بكر عبد العزيز: يأخذها وشطر ماله31.
وإما أن يكون مانع الزكاة خارجًا عن قبضة الإمام، فيقاتله الإمام؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- قاتلوا مانعيها، فان ظفر به وبماله أخذها من غير زيادة أيضًا، ولم تسبَ ذريتُه؛ لأن الجناية من غيرهم، ولأن المانع لا يسبَى، فذريته أولى، وإن ظفر به دون ماله دعاه إلى أدائها، واستتابه ثلاثًا فإن تاب وأدى وإلا قُتِل، ولم يحكم بكفره.(/2)
وفي رواية عن أحمد ما يدل على أنه يكفر بقتاله عليها فقد روي عنه: أنه إذا منعوا الزكاة كما منعوا أبا بكر، وقاتلوا عليها، لم يورَّثوا، ولم يصلَّ عليهم، وقد قال عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه-: (ما تارك الزكاة بمسلم) ووجه ذلك ما روي أن أبا بكر -رضي الله عنه- لما قاتلهم وعضتهم الحرب قالوا نؤديها قال: لا أقبلها؛ حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. ولم ينقل إنكار ذلك عن أحد من الصحابة، فدلَّ على كفرهم.32
والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - لسان العرب: (14/363) والقاموس المحيط 1667).
2 -الفقه على المذاهب الأربعة: (1/944).
3 - صحيح البخاري: (1/12 ومسلم: 1/45).
4 - صحيح البخاري:(2/505برقم: 1331، ومسلم: 1/50برقم: 19).
5 - المغني: (2/433)، والفقه على المذاهب الأربعة: 1/946).
6 - بداية المجتهد: (1/370، الفقه على المذاهب الأربعة: 1/950).
7 - المغني: (2/488).
8 - بدائع الصنائع: (2/78).
9 - المغني: (2/488).
10 - الفقه على المذاهب الأربعة: (1/950).
11 - الفقه على المذاهب الأربعة: (1/950).
12 - الموضع السابق.
13 - بداية المجتهد: (1/370).
14 - المغني: (2/488).
15 - الفقه على المذاهب الأربعة: (1/950).
16 - بداية المجتهد: (1/370).
17 - بداية المجتهد: (1/370).
18 - بداية المجتهد: (1/370).
19 - المغني: (2/488).
20 - بداية المجتهد: (1/370).
21 - المغني: (2/637).
22 - المغني: (2/637)
23 - الموضع السابق.
24 - الموضع السابق.
25 - الموضع السابق.
26 - الموضع السابق.
27 - الفقه على المذاهب الأربعة: (1/954).
28 - المغني: (2/434).
29 - فتح الباري : (3/262).
30 - صحيح مسلم : (2/680).
31 - المغني: (2/434).
32 - المغني: (2/434).(/3)
الزهد في الدنيا والاستعداد للموت
عبد العظيم بدوي الخلفي
1105
ملخص المادة العلمية
شدة الموت وأن العاقل الذي يستعد له.أن على الإنسان أن يعلم أنه ما من شيء يحبه إلا وسوف يفارقه.فضل قيام الليل.فضل الاستغناء عما في أيدي الناس.
عن علي قال: قال رسول الله : ((أتاني جبريل فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس)).
هذه كلمات جامعة من جوامع كلم رسول الله التي أوتيها.
قال الغزالي: جمعت هذه الكلمات حكم الأولين والآخرين، وهي كافية للمتأمل فيها طول العمر، إذ لو وقف على معانيها، وغلبت على قلبه غلبة يقين استغرقته، وحالت بينه وبين النظر إلى الدنيا بالكلية والتلذذ بشهواتها. وقد تضمنت هذه الكلمات التنبيه على قصر الأمل، والتذكير بالموت واغتنام الأوقات، والتحذير من الاغترار بالاجتماع، والحث على التهجد، وبيان جلالة علم جبريل عليه السلام، وغير ذلك.
وإنما خاطب جبريل النبي باسمه المجرد دون: يا أيها الرسول، أو: يا أيها النبي، لأنه المناسب لمقام الوعظ والتذكير.
وقوله: ((عش ما شئت فإنك ميّت)) إنما بدأ بذكر الموت لأنه أفظع ما يلقاه الإنسان وأبشعه، فهو أشد من ضرب بالسيوف، ونشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، وهو بمنزلة حسكة كانت في صوف، فهل تخرج الحسكة من الصوف إلا ومعها صوف؟!
روي أنه لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال له ابنه: يا أبتاه! إنك كنت تقول: يا ليتني كنت ألقى رجلا عاقلا لبيبا عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل، فصف لي ما تجد. فقال: يا بني، والله كأن جنبي في تخت، وكأني أتنفس من ثقب إبرة، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي، ولقد وجد رسول الله وهو خليل الله من شدة الموت شيئا كثيرا، حتى أنه كانت بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)).
ولذا قالت عائشة رضي الله عنها: لا أكره شدة الموت لأحد بعد النبي ، فيا أيها الناس: قد آن للنائم أن يستيقظ، وحان للغافل، أن ينتبه، قبل هجوم الموت بمرارة كأسه، وقبل سكون حركاته، وخمود أنفاسه، ورحلته إلى قبره، ومقامه بين أرماسه.
فقد أجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم. فكونوا على أهبة لذلك، واستعدوا للرحيل قبل يوم الرحيل، واستجيبوا لربكم حيث قال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون [الحشر:18-20].
يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون [المنافقون:9-11].
وإذا كان الموت قادما لا محالة تعيّن على العاقل أن يكون قصير الأمل، مغتنما للأوقات، ذا همة عالية في التزوّد من الخيرات، وبهذا كان السلف يتواصون: قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة. وقال الحسن: إنما أنت أيام مجموعة كلما مضى يوم مضى بعضك، وقال: ابن آدم! إنما أنت بين راحلتين مطيتين يوضعانك، يوضعك الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابن آدم خطرا؟
وقال داود الطائي: إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عما قريب، والأمر أعجل من ذلك فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك، وكتب بعض السلف إلى أخ له: يا أخي! يخيل لك أنك مقيم، بل أنت دائب السفر، تساق مع ذلك سوقا حثيثا، الموت متوجّه إليك، والدنيا تطوى:
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صغار يرتجي طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروس زينوها لزوجها وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر
وكم من صحيح مات من غير علة وكم من عليل عاش حينا من الدهر
قال رسول الله : ((بادروا بالأعمال، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي كافرا ويصبح مؤمنا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)).
وقال : ((اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك)).(/1)
فيا عبد الله: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وأكثر من ذكر الموت، فإن من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة: تعجيل التوبة، والقناعة، والاجتهاد في الطاعة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة: تسويف التوبة، وعدم القناعة، والتكاسل عن الطاعة.
وتفكر يا مغرور في الموت وشدّته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله! كفى بالموت مفزّعا للقلوب، ومبليّا للعيون، ومفرّقا للجماعات، وهاذما للذات، وقاطعا للأمنيات. فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك، وانتقالك من موضعك، إذا نقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرت الأخ والصديق، وأخذت من فراشك وغطائك إلى غرر، وغطوك من بعد لين لحافها بتراب مدر. فيا جامع المال، ويا مجتهدا في البنيان ليس لك من مالك والله إلا الأكفان، بل هي للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمثاب. فأين ما جمعت من المال هل أنقذك من الأهوال؟ وكأني بك تقول وقد قرأت كتابك وأيقنت بالبوار: يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابية يا ليتها كانت القاضية ما أغني عني ماليه هلك عني سلطانية [الحاقة:25-29].
فيا نائما أفق، ويا غافلا انتبه، وبادر بالأعمال الصالحة قبل أن لا تقدر عليها ويحال بينك وبينها إما بمرض أو موت. قال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة، يوشك أن تنفق فلا يوصل منها إلى قليل أو كثير. ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكن فيها من العمل فلا تنفعه الأمنية، قال تعالى: وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرّطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذّبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين [الزمر:54-59].
وقوله: ((وأحبب من شئت فإنك مفارقه)) أحبب أخاك فإنك مفارقه، أحبب أمك فإنك مفارقها، أحبب أباك فإنك مفارقه، أحبب زوجتك فإنك مفارقها، أحبب ولدك فإنك مفارقه، أحبب مالك فإنك مفارقه، أحبب دارك فإنك مفارقها، أحبب عائلتك فإنك مفارقها، أحبب من شئت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه بموت أو غيره، فما من أحد في الدنيا إلا وهو ضيف، وما بيده عارية فالضيف مرتحل، والعارية مردودة.
قال الغزالي: القصد بهذا تأديب النفس عن البطر الأشر، والفرح بنعيم الدنيا، فإنه إذا علم أن من أحب شيئا يلزم فراقه، ويشقى لا محالة بفراقه، شغل قلبه بحب من لا يفارقه، وهو ذكر الله والعمل الصالح، فإن ذلك يصحبه في القبر فلا يفارقه، كما قال النبي : ((يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله)).
وفي حديث البراء بن عازب أن النبي أخبر أنه بعد سؤال المؤمن في قبره: ((يأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرّك، أبشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: وأنت فبشرك الله بخير، من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعا في طاعة الله بطيئا في معصية الله، فجزاك الله خيرا)).
وأما الكافر فإنه بعد سؤاله: ((يأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت فبشرك الله بالشر، من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئا عن طاعة الله، سريعا إلى معصية الله، فجزاك الله شرا)).
وقوله : ((واعمل ما شئت فإنك مجزي به))، أي يوم القيامة. كما قال تعالى: كل نفس ذائقة الموت وإنما توفّون أجوركم يوم القيامة [آل عمران:185].
من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة:7-8].
وقد كثر ذكر جزاء الأعمال في القرآن الكريم، قال الله تعالى: ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [النجم:31].
وقال تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة مالهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [يونس:26-27].
وقال تعالى عن أهل الجنة: ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [الأعراف:43].
وقال في وصف نعيمها: وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون [الواقعة:20-24].(/2)
وقال عن أهل النار: يوم يدعون إلى نار جهنم دعّا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون [الطور:13-16].
ولما ذكر الموت وجزاء الأعمال أرشد إلى أشرف الأعمال فقال: ((واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل)) والشرف هو الرفعة، يقال: لفلان شرف: أي منزلة عالية، فالنبي يرشد أمته إلى أن ما يرفع منزلة المؤمن هو قيام الليل، فلأهل القيام منزلة لا تدانيها منزلة، قال تعالى: إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات:15-18].
وقال النبي : ((إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وقام وصلى والناس نيام)).
فعليكم عباد الله بقيام الليل، فهو عنوان الإيمان، ودليل الإحسان:
قال تعالى: إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بما خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعلمون [السجدة:15-17].
وقال تعالى: إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات:15-18].
وقد فرّق الله تعالى بين أهل القيام وغيرهم، فقال: أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [الزمر:9].
ولقد كان رسول الله يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، وهو الأسوة الحسنة والمثل الأعلى، كما قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا [الأحزاب:21].
ولما كان الشرف والعز أخوين استطرد بذكر ما يحصل به العز فقال: ((وعزّه استغناؤه عن الناس)) أي قوته وعظمته وغلبته على غيره في اكتفائه عما في أيدي الناس.
وهذه وصية رسول الله لرجل قال له: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال : ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)).
ولذا قال الحسن: لا تزال كريما على الناس، ولا يزال الناس يكرمونك، ما لم تتعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك، وأبغضوك.
وقال عمر : إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من شيء استغنى عنه.
وقال الغزالي: من لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن فهو ركيك العقل، ناقص الإيمان، ففي القناعة العز والحرية.
ولذلك قيل: استغن عمن شئت فأنت نظيره، واحتج إلى من شئت فأنت أسيره، وأحسن إلى من شئت فأنت أميره.
ودخل أعرابي البصرة فقال: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.
فيا عبد الله:
هي القناعة فاحفظها تكن ملكا لو لم يكن لك منها إلا راحة البدن
وانظر إلى من ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن
نسأل الله أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وأن يكفينا بفضله عمن سواه.(/3)
الزواج آية من آيات الله
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فكم لله على الخلق من منَّة، وكم له في الكون من آية، ومن نعمه وآياته في هذا الكون، نعم الزواج قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الروم (20) (21). فالله -سبحانه- خلق البشر من تراب، وذلك حيث خلق أولهم آدم -عليه السلام- ثم خلق من آدم زوجه حواء وهذا دليل على عظمته وكمال قدرته: {ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ}؛ فأصل بني آدم من تراب، ثم من ماء مهين، ثم تصور فكان علقة ثم مضغة، ثم صار عظاما شكله على شكل الإنسان ثم كسا الله تلك العظام لحماً، ثم نفخ فيه الروح فإذا هو سميع بصير، ثم خرج من بطن أمه صغيراً ضعيف القوى والحركة، ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته حتى آل إليه الحال أن صار يبني المدائن والحصون أو يسافر في أقطار الأقاليم، ويركب متن البحور، ويدور أقطار الأرض، ويكتب ويجمع المال، وله فكرة وغور ودهاء ومكر ورأي وعلم واتساع في أمور الدنيا والآخرة كل بحسبه فسبحان من أقدرهم وسيرهم وسخرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب وفاوت بينهم في العلوم والفكر، والحسد والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة، ولهذا قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ}1 سورة الروم (20).
وعن أبي موسى-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء من الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزن وبين ذلك)2. وهذه هي الخلقة الأولى المتضمنة لنوع البشر، ثم ينتقل الحديث عن مجال الحياة المشتركة بين جنس البشر فيقول الله -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الروم(21).
وهذه آية من آيات الله، ونعمة من نعمه على عباده حيث جعل زوج الإنسان من بني جنسه، من نفسه، حتى يتم التعايش، ويسهل التفاهم في هذه الحياة الدنيا، فإنه لو كانت زوجة أحدنا من الجان أو الحيوان فكيف ستكون العيشة؟ وكيف سيتم الفتاهم على هذه الأرض؟ وفي هذه الآية دليل تكريم الله لهذا الإنسان، الذكر والأنثى، حيث جعل كل واحد يسكن الآخر، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} سورة الإسراء (70). وقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أي خلق لكم من جنسكم إناثاً تكون لكم أزواجاً، لتسكوا إليها كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} سورة الأعراف (189). يعني بذلك حواء خلقها الله من آدم من ضلعه الأقصر الأيسر.(/1)
ومن تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم، وجعل بينهم مودة وهي: المحبة، ورحمة وهي الأمة، فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبة أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد أو محتاجة إليه في الإنفاق بينهما، وغير ذلك: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فإن الناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر، وتشتغل أعصابهم تلك الصلة بين الجنسين، ويدفع خطاهم، وتحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلفة الأنماط والاتجاهات بين الرجل والمرآة، ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجاً، وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر، وجعلت في تلك الصلة سكناً للنفس والعصب وراحة الجسم القلب واستقرارا ً للحياة والمعاش، وأنشاء للأرواح والضمائر، واطمئناناً للرجل والمرآة على السواء {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيدركون حكمة الله في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موفقاً للآخر، ملبياً لحاجته الفكرية، نفسيته وعقلية وجسدية. بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعها السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة؛ لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه وتلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تمثل في جيل جديد. اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا وترحمنا إنك أنت الغفور الرحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
------------
1 - راجع تفسير ابن كثير(3/11432- 1433).
2 - رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال الشيخ الألباني: (صحيح) انظر صحيح الجامع رقم(1759).(/2)
الزواج السري أو العرفي ... ...
هيثم جواد الحداد ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- تحريم الزواج العرفي (بلا إذن ولي ولا إشهار). 2- أهمية عقد النكاح ودوره في بناء الأسرة السعيدة المتكاملة. 3- شروط النكاح الصحيح. 4- الزواج العرفي وبعض مآسيه. 5- انتشار الزواج العرفي. 6- مناقشة رأي الحنفية بصحة النكاح بغير ولي. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد:
فسنتحدث في هذه الخطبة عن مشكلة اجتماعية خطيرة، يصطلي بنارها شرائح عديدة من المجتمع، ويمتد أذاها ليشمل غالب أفراد الأمة، حتى إذا استشرى ضررها، واستطال لهيبها، آذنت للمجتمع بهلاك، ونادت على الأمة بنذر شؤم وشقاء.
هذه المشكلة ـ أيها الإخوة ـ هي ما يسميه البعض بالزواج العرفي، وما يسميه آخرون بالزواج السري، وإن سألتني عن اسمه فإني أتساءل، أهو زواج؟ فأقول: بل هو زنى.
أيها المؤمنون، إن الإسلام بتشريعاته المتكاملة، تكفل بحياة يحفها الأمن، وترعاها القدرة الإلهية، وترفرف في عليائها سعادة الإخلاد إلى التوحيد.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
أيها المؤمنون، إن من أشد نوازع الفطرة البشرية، الميول إلى الجنس الآخر، هذا الميول الذي أودعه الله في جذر القلوب، فلا ينفك عنه رجل أو امرأة، حتى نبينا المعصوم .
وحتى لا تكلف الشريعة البشر ما لا يطيقون، وقد جاءت بسعادتهم في الدنيا والآخرة، فقد شرعت لهم النكاح، وجعل الله الزواج والنكاح ديناً ورضيه حكماً وأنزله وحياً فقال جل من قائل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72].
أيها المؤمنون، عقد الزواج لعله أخطر العقود التي تتم بين طرفين، ولذا فهو العقد الوحيد الذي سماه الله عز وجل عقداً غليظاً، قال جل وعلا سورة النساء: وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظا [النساء:20، 21].
الزواج لقاء بين رجل أجنبي، وامرأة غريبة عنه ربما لم تره يوماً ما من الأيام، هذا العقد يبيح لكل من الزوجين من الخصوصيات ما يختصان به عن سائر الناس، بهذا العقد يقدر الله جل وعلا بين هذه الرجل وتلك المرأة مخلوقاً جديداً يجمع بين لحم هذا ودم هذه، لا هو خالص من الرجل، ولا هو خالص من المرأة، بهذا العقد يرث كل من الطرفين الآخر.
عباد الله، بهذا العقد يقوم بيت جديد، وتبدأ معالم مجتمع صغير في التشكل، هذا العقد ينشئ الأسرة التي هي اللبنة الأساس في بنيان هذه الأمة، حيث تنكشف جاذبية الفطرة بين الجنسين، لا لتجمع بين مطلق الذكران ومطلق الإناث، ولكن لتتجه إلى إقامة الأسر والبيوت: وقال جل من قائل: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
إن الزواج في روحه نظام اجتماعي يرقى بالإنسان من الدائرة الحيوانية والشهوات المادية إلى العلاقة الروحية، ويرتفع به من عزلة الوحدة والانفراد إلى أحضان السعادة وأنس الاجتماع، وهو عقد ارتباط مقدس بين رجل وامرأة يمضيه الشرع ويباركه الله تعالى.
لقد أمر الله سبحانه في النكاح بأن يميز عن السفاح والبغاء، فقال تعالى: فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25]، وقال جل شأنه: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5]، فأمر بالولي والشهود والمهر والعقد، والإعلان، وشرع فيه الضرب بالدف والوليمة الموجبة لشهرته.(/1)
إنها استجابة للفطرة تعمل، وهي الأسرة تلبي هذه الفطرة العميقة في أصل الكون وفي بنية الإنسان، ومن ثم كان نظام الأسرة في الإسلام هو النظام الطبيعي الفطري المنبثق من أصل التكوين الإنساني. بل من أصل تكوين الأشياء كلها في الكون. على طريقة الإسلام في ربط النظام الذي يقيمه للإنسان بالنظام الذي أقامه الله للكون كله. ومن بينه هذا الإنسان.
عباد الله، الأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها؛ وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها؛ وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة.
عباد الله، لما كان الزواج بهذه الخطورة، وتلك الأهمية، فقد أحاطه الله بقيود وشروط وضوابط، حتى تضفي عليه من المهابة والإجلال ما يجعله أهلاً لما يترتب عليه من آثار ونتائج، ولهذا فإننا نجد أن الشريعة الإسلامية اشترطت لهذا العقد أنواعاً من الشروط لم تشترطها في عقد غيره.
يقول ابن القيم رحمه الله: "وشَرَط في النكاح شروطًا زائدة على مجرد العقد، فقطع عنه شبه بعض أنواع السفاح بها، كاشتراط إعلانه، إما بالشهادة، أو بترك الكتمان، أو بهما معًا، واشترط الولي، ومنع المرأة أن تليه، وندب إلى إظهاره، حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة، وأوجب فيه المهر، ومنع هبة المرأة نفسها لغير النبي ، وسر ذلك: أن في ضد ذلك والإخلال به ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح، كما في الأثر: "المرأة لا تزوج نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها"، فإنه لا تشاء زانية أن تقول: زوجتك نفسي بكذا سراً من وليها، بغير شهود ولا إعلان، ولا وليمة، ولا دف، ولا صوت.
ومعلوم قطعًا أن مفسدة الزنى لا تنتفي بقولها: أنكحتك نفسي، أو زوجتك نفسي، أو أبحتك مني كذا وكذا، فلو انتفت مفسدة الزنى بذلك لكان هذا من أيسر الأمور عليها وعلى الرجل، فعظم الشارع أمر هذا العقد، وسد الذريعة إلى مشابهة الزنى بكل طريق"ا.هـ. إغاثة اللهفان.
أيها الإخوة، الزواج العرفي أو السري، هو الذي يتم الاتفاق فيه بين رجل وامرأة على لقاء يسمونه زواجاً، دون أن يكون للمرأة ولي مع إمكانية ذلك لها، ودون أن يكون هناك شهود عدول، أو إشهار لهذا الزواج، وإنما يتم في الخفاء بعيداً عن أعين الناس، وهذا هو السر الذي جعلنا نسميه زنا ولا نسميه زواجاً، ففي هذا الزواج لا توجد ألفة بين أسرتين، ولا إذن لولي، ولا مهر ولا نفقة، ولا مسكن ولا متاع، ولا أسرة ولا أولاد، ولا حياة مشتركة ولا قوامة للرجل، ولا طاعة من المرأة، ولا علم بين الناس، ولا يجري التوارث بين الخليلين... مما يجعلنا نجزم بأن هذا لا يعد زواجًا عرفيًا كما يدعون، ولا شرعيًا كما يريد الله تعالى.
أيها الإخوة، سأقف وقفة عجلى عند شرطين من شروط النكاح الشرعي، ألا وهما الإعلان، والولي.
إن الشريعة حينما شرعت إعلان النكاح، إنما شرعته لأنها تهدف من ورائه لحكم غاية في السمو، وأهداف لا يمكن لتشريع من التشريعات بلوغها، فمنها مثلاً أن هذا الإعلان يبعث رسالة مباشرة للفتاة التي سيدخل بها في تلك الليلة، ولكل فتاة تأمل في النكاح: إنك أيتها الفتاة حينما تسلمين عرضك لرجل أجنبي عنك، فإنما تسلمينه وسط هالة من المهابة، والإجلال، توازي فقدانك عذريتك بعد تلك الليلة، ثم إنه يقول لها: واحذري أن تمنحي عرضك وجسدك، وأغلى ما تملكين بعد دينك لأحد إلا في عقد شرعي يباركه وليك، وذووك، ويشهد عليه هذا الجمع المبارك.
ولهذا ورد في حديث حسن عن رسول الله : ((فصل ما بين الحلال والحرام ضرب الدف والصوت في النكاح) )[1].
أما اشتراط الولي، ففيه حكم يصعب جمعها في هذه الخطبة، ولعل أسمى هذه الحكم، هو قصد الشارع في جعل هذا القرار، قرار النكاح مشتركاً بين طرفين، كل منهما مكمل للآخر، فالولي، وهو الرجل البالغ الرشيد، الذي يغلب عليه العقل عند اتخاذ القرارات، لا بد أن يستأمر ابنته، بكراً كانت أو ثيباً، لا بد أن يستأمر الأنثى، التي تغلب العاطفة على قرارتها، فتكون النتيجة بعد هذه الاستشارة منبثقة من دراسة عاطفية عقلانية، وبهذا تكون أقرب إلى الصواب، أما إذا انفرد الولي الرجل العقلاني بالقرار، أو انفردت به المرأة العاطفية، فإن القرار سيكون ضعيف الأسس، متهاوي الرشاد، مصبوغاً بإحدى الصبغتين، فيكون أحرى بالخطأ منه بالصواب.
إن إعلان النكاح، وإحاطته بهذه المهابة من الشروط والشهود، يؤكد كل التأكيد مقدار ما أولته الشريعة لصيانة الأعراض، ويري كل صاحب عقل المكانة التي يعطيها الإنسان للمرأة، فليست المرأة مجرد محل لنزوة حيوانية، ينزوها فحل على أنثى في لحظة ثوران الشهوة، وانعدام العقل.
هذا هو النكاح الشرعي، فبالله عليكم يا عباد الله، أين هذا الزواج الذي يسمى عرفياً أو سرياً، أو أين ذلك العقد الذي لم تكتمل فيه الشروط المطلوبة من هذا.(/2)
لماذا يحرص كل من الطرفين على إخفائه حتى عن أهلهما، لماذا يحرص كل من الطرفين على أن لا ينتج بينهما ولد، فبالله عليكم أهو زواج أم زنا.
لينظر كل عاقل متأملاً: ما الفرق بينه وبين الزنا المقنن، يمكن للرجل أن يتفق مع امرأة على أن يزني بها، وحتى يحتال على الشرع، يقول لها: لنسميه زواجاً، ونحضر بعض الناس يشهدون هذه الجريمة، ونسميهم شهوداً، أو أن العاهر الذي جلبك لي، أو الذي يشتغل بمهنة الدعارة أحد الشهود، أو هو وليك، ثم يدخل الرجل بها، ويستمتع بها، ويتجنبان إنجاب الولد، ويكتمان هذا اللقاء المحرم، حتى إذا أشبع ذلك الذئب نهمته منها، وسلب كل ما لديها من معاني العفة والحياء، ركلها بقدمه، وداس على كرامتها بأوحال نجاسته، وتركها تتجرع غصص القهر، ومرارة الأسى، ليتلقفها شياطين الجن بخطوات أخرى لتصبح بغياً من البغايا، أما ذلك الوغد فإنه سيبحث عن أخرى لينقض عليها، ويفترس عفافها، ويلتهم أنوثتها، ويشبع نفسه الدنيئة، وهكذا تنتشر الرذيلة في المجتمع ويتناقل الأبناء هذا المرض من آبائهم.
عفوا تعف نساؤكم في المحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دين فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
يا هاتكاً حرم الرجال وقاطعاً سبل المودة عشت غير مكرم
لو كنت حراً من سلالة ماجد ما كنت هتاكاً لحرمة مسلم
من يزنِ يُزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم
لقد تفاقمت هذه المشكلة وأصبحت ظاهرة، بعد أن كانت مجرد حالات فردية، فلقد صرحت, وزيرة الشؤون الاجتماعية في جمهورية مصر العربية، في ندوة خاصة لمناقشة هذا الطاعون الفتاك تقيم ندوة خاصة لمناقشتها صرحت بأن عدد الزيجات العرفية بين طالبات الجامعات فقط وصل إلى 17 ، ويقال: إن عدد الطالبات في الجامعات المصرية حوالي مليون طالبة.. فهذا يعني أن هناك حوالي "170" ألف طالبة تزوجن من وراء ظهور أهلهن وعلى علاقة بطلبة زملاء لهن في الجامعة.
هذا أيها الإخوة ما تم إحصاؤه بين طلبة الجامعات، فكيف إذا عم الإحصاء جميع طبقات المجتمع.
وهكذا امتدت هذه الظاهرة، لتشمل الأردن، وبدأت تأخذ منحى في دولة الكويت، وغيرها من بلاد المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إذا كان هذا هو حال بلاد المسلمين، فبالله عليكم كيف يكون الحال في هذه البلاد، التي تشجع على الرذيلة، وتشيع الفاحشة، وتدعو الناس إلى مهاوي الردى.
حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] (حم ت ن هـ ك) عن محمد بن حاطب. تحقيق الألباني (حسن) انظر حديث رقم (4206) في صحيح الجامع. ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة، حتى يتكامل طرح هذا الموضوع لا بد من الإشارة إلى شبهة تعرض على كثير من المسلمين لاسيما في هذه البلاد، ألا وهي رأي الأحناف في النكاح بغير ولي، فنقول والعلم عند الله تعالى:
أولاً: إن هذا الرأي مرجوح، لا نرى العمل به، لمخالفته للأدلة الصحيحة التي تشترط الولي لصحة النكاح، فمنها:
حديث أبي موسى الْأَشْعَرِيِّ أن رسول الله قال: ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ))[1]، وهو حديث صحيح صححه غير واحد من أهل العلم.
قَالَ السُّيُوطِيُّ: حَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ, وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ. انتهى.
قُلْت: الرَّاجِحُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ , بَلْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ عن رسول الله قالت: قَالَ: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ)) قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ[2].
ومنها حديث َابْنِ عَبَّاسٍ عن رسول الله : ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ. وَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ))[3].
ومنها حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ, وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ نَفْسَهَا))[4].
فهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة تدل على وجوب اشتراط الولي في النكاح المعتبر، وأن رأي الأحناف مع جلالة قدرهم غير صحيح في هذه المسألة.
ومن طريف ما يذكر أن أحد علماء الشافعية كان يقول لبعض علماء الحنفية: النكاح بغير ولي مسألة خلاف بين أبي حنيفة وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل)) وقال أبو حنيفة: بل نكاحها صحيح. [طبقات الحنفية (1/358)].(/3)
قال البخاري في صحيحه: بَاب مَنْ قَالَ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ [النساء:19]، فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ وَقَالَ: وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]، وَقَالَ: وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ [النور:32]، ولاحظوا أيها الإخوة أن الله عز وجل أسند النكاح في هذه الآيات لغير المرأة، فدل على أن المرأة لا تزوج نفسها.
ثانياً: من الملاحظات على الآخذين برأي الحنفية هذا: أنه حتى لو لم يكن رأي الأحناف هذا ضعيفاً، فلماذا يختار الناس هذا الرأي، ويتركون رأي الجمهور الذي تسنده الأدلة، والذي يسنده الواقع، وهو أحوط وأسلم لدين المسلمين وأعراضهم، أم أنه مجرد الهوى والشهوة التي قال الله عز وجل فيها: أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43].
وقال تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].
ثالثاً: قال الترمذي: وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِجَازَةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بحديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا))، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا احْتَجُّوا بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ : ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ))، وَهَكَذَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بَعْدَ النَّبِيِّ فَقَالَ: ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ))، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ : ((الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا)) عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يُزَوِّجُهَا إِلَّا بِرِضَاهَا وَأَمْرِهَا، فَإِنْ زَوَّجَهَا فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ.
[1] الترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد وأبو داود.
[2] أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ, وَابْنُ خُزَيْمَةَ, وَابْنُ حِبَّانَ, وَالْحَاكِمُ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي.
[3] أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَفِيهِ مَقَالٌ.
[4] أَخْرَجَهُ اِبْنُ مَاجَهْ, وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ. قَالَ اِبْنُ كَثِيرٍ: الصَّحِيحُ وَقْفُهُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ الْحَافِظُ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ كَذَا فِي النَّيْلِ، وأما زيادة, فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا فإن الألباني يضعفها. ... ...
... ...
... ...(/4)
السبع الموبقات
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، الحمد الله الذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاءً أحواء، الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيرا, والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً, ومبشراً, ونذيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
نص الحديث:
عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إلَّا باِلْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّباَ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَناَتِ الغَافِلاَتِ)(1)
معاني الكلمات:
قوله :" السبع الموبقات": أي المهلكات.
قوله:"الشرك بالله": أي أن يتخذ معه إله غيره.قال المناوي: الشرك إما أكبر، وهو إثبات الشريك لله تعالى، أو أصغر وهو مراعاة غير الله في بعض الأمور"(2).
قوله:"السحر": لغة صرف الشيء عن وجهه، وقال ابن قدامة-رحمه الله-: "هو عقد ورقى يتكلم به، أو يكتبه الساحر أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له".
قوله:"قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق":أي قتل النفس بدون سبب شرعي كالقصاص.
قوله: "أكل مال اليتيم": اليتيم هو الذي مات أبوه وهو دون البلوغ، أي بدون حق شرعي.
قوله: "التولّي يوم الزحف": أي الفرار عن القتال يوم ازدحام الطائفتين.
قوله: "قذف المحصنات": بفتح الصاد اسم مفعول اللاتي أحصنهن الله تعالى وحفظهن من الزنا والقذف هو الرمي ومعناه أن يرمي النساء المحصنات بالزنا.
قوله: "المؤمنات": احترز به عن قذف الكافرات.
قوله:"الغافلات": بالغين المعجمة والفاء أي عما نسب إليهن من الزنا(3).
شرح الحديث:
قوله-صلى الله عليه وسلم-:" اجتنبوا السبع الموبقات" بموحدة وقاف أي: المهلكات. قال المهلب: سميت بذلك؛ لأنها سبب لإهلاك مرتكبها قلت(أي ابن حجر): "والمراد بالموبقة هنا الكبيرة, كما ثبت عن أبي هريرة رفعه: "الكبائر الشرك بالله وقتل النفس... الحديث", مثل رواية أبي الغيث إلا أنه ذكر بدل السحر الانتقال إلى الأعرابية بعد الهجرة, وعن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (ما من عبد يصلي الخمس ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة... الحديث)(4), ولكن لم يفسرها, والمعتمد في تفسيرها ما وقع في رواية سالم عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال: "كتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كتاب الفرائض, والديات, والسنن, وبعث به مع عمرو بن حزم إلى اليمن الحديث... بطوله, وفيه وكان في الكتاب, (وإن أكبر الكبائر الشرك) فذكر مثل حديث سالم سواء(5).
قوله-صلى الله عليه وسلم-: " الشرك بالله". وهو أن تجعل لله نداً وهو خلقك، وتعبد معه غيره من حجر أو بشر أو شمس أو قمر، أو نبي، أو شيخ، أو جني، أو نجم، أو ملك، وغير ذلك.
قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) (النساء:48). وقال -تعالى-:(إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(المائدة: من الآية72). وقال سبحانه:(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(لقمان: من الآية13).فمن أشرك بالله تعالى ثم مات مشركاً فهو من أصحاب النار قطعاً، كما أن من آمن بالله ومات مؤمناً فهو من أصحاب الجنَّة وإن عُذِّب.
قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-:(ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله....)(6)
وقال :(اجتنبوا السبع الموبقات…)فذكر منها الشرك. وقال -صلى الله عليه وسلم- :(من بدل دينه فاقتلوه)(7).
عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رجل يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟قال:(أن تدعو لله نداً وهو خلقك...)(8).
قال ابن بطال -رحمه الله-: "لا إثم أعظم من الشرك"(9).
قال ابن القيم رحمه الله-يصف الشرك:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر ... ... ذا القسم ليس بقابل الغفران
وهو اتخاذ الند للرحمن أياً ... ... كان من حجر ومن إنسان
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ... ... ويحبه كمحبة الديان(10)
قال ابن حجر رحمه الله: " الشرك أبغض إلى الله من جميع المعاصي"(11)(/1)
قوله-صلى الله عليه وسلم-: " والسحر" لأن الساحر لا بدّ أن يكفر، قال الله -تعالى-:(وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)(البقرة: من الآية102).وما للشيطان الملعون غرض في تعليمه الإنسان السحر إلا ليشرك به. وقال تعالى عن هاروت وما روت(وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)(البقرة: من الآية102).فترى خلقاً كثيراً من الضلال يدخلون في السحر ويظنونه حراماً فقط، وما يشعرون أنه الكفر، فيدخلون في تعلم السيمياء(12) وعملها، وهي محض السحر، وفي عقد المرء عن زوجته وهو سحر، وفي محبة الزوج لامرأته وفي بغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلماتٍ مجهولةٍ أكثرها شركٌ وضلالُ.
حكم الساحر:
وحدُّ الساحر القتل؛ لأنه كَفَرَ بالله أو ضارع الكفر. قال النبي-صلى الله عليه وسلم-:(اجتنبوا السبع الموبقات...)فذكر منها: السحر. فليتق العبد ربه ولا يدخل فيما يخسر به الدنيا والآخرة, وجاء عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (حد الساحر ضربة بالسيف) والصحيح أنه من قول جندب، وعن بجالَة ابن عبدة أنه قال أتانا كتاب عمر-رضي الله عنه-قبل موته بسنة: "أن اقتلوا كل ساحر وساحرة".
وعن أبي موسى-رضي الله عنه-:أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال:" ثلاثةٌ لا يدخلون الجنَّة: مدمنُ خمرٍ، وقاطعُ رحمٍ، ومصدق بالسحرِ)(13), وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- مرفوعاً قال: (الرقا(14), والتمائم(15), والتِّوَلَة(16) شرك).
قال النووي: "عمل السحر حرام, وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي-صلى الله عليه وسلم-من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفراً, ومنه ما لا يكون كفراً بل معصية كبيرة, فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا, وأما تعلمه وتعليمه فحرام. فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه, ولا يقتل فإن تاب قبلت توبته, وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر.
وعن مالك-رحمه الله-: "الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب بل يتحتم قتله كالزنديق".
قال عياض-رحمه الله-: "وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين". وفي المسألة اختلاف كثير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها(17).
قوله-صلى الله عليه وسلم-:" وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق" : قد جاء في القرآن ما يدل على ذلك، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93)
وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً) (الفرقان:67-69).
وقال تعالى:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة:32).وقال تعالى:(وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ) (التكوير:8).
وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: (اجتنبوا السبع الموبقات...) فذكر قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. وقال رجل للنبي-صلى الله عليه وسلم-:" أي الذنب أعظم عند الله-تعالى-قال: (أن تجعل لله نِدَّاً وهو خلقك). قال: ثم أيّ؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك). قال: ثم أي؟ قال: (أن تزانيَ حليلة جارك)(18). فأنزل الله-تعالى-تصديقها(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً) وقال-صلى الله عليه وسلم-:(إذا التقى المسلمان بسيفيْهما فالقاتلُ والمقتولُ في النَّار). قيل يا رسولَ الله! هذا القاتل فما بالُ المقتول؟! قالَ: (إنَّه كانَ حريصاً على قتلِ صاحبه)(19) قال الإمام أبو سليمان-رحمه الله-: "هذا إنما يكون كذلك إذا لم يكونا يقتتلان على تأويل إنما يقتتلان على عداوة بينهما, وعصبية, أو طلب دنيا, أو رئاسة, أو علو, فأما من قاتل أهل البغي على الصفة التي يجب قتالهم بها, أو دفع عن نفسه, أو حريمه؛ فإنه لا يدخل في هذه؛ لأنه مأمور بالقتال للذب عن نفسه غير قاصد به قتل صاحبه, إلا إن كان حريصاً على قتل صاحبه, ومن قاتل باغياً أو قاطع طريق من المسلمين, فإنه لا يحرص على قتله إنما يدفعه عن نفسه, فإن انتهى صاحبه كف عنه ولم يتبعه, فإن الحديث لم يرد في أهل هذه الصفة, فأما من خالف هذا النعت فهو الذي دخل في هذا الحديث الذي والله أعلم".(/2)
وقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)(20) , وقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)(21) وقال-صلى الله عليه وآله وسلم-:(أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)(22) وفي الحديث أن رسول-صلى الله عليه وسلم-الله قال: (لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)(23) وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:"أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين ...)(24) وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: (ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل)(25), وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن رائحتها لتوجد من مسيرة أربعين عاما)(26) فإذا كان هذا في قتل المعاهد وهو الذي أعطى عهداً من اليهود والنصارى في دار الإسلام فكيف يقتل المسلم؟!. وقال- النبي-صلى الله عليه وسلم-:(ألا ومن قتل نفساً معاهدة لها ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر ذمة الله ولا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين خريفا)(27) وقال-عليه الصلاة والسلام-:(من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله-تعالى-)(28) وعن معاوية-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً, أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً)(29).
قوله-صلى الله عليه وسلم-:"وأكل الربا". قال الله-تعالى-:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:130), وقال الله-تعالى-: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:275): أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم الذي قد مسه الشيطان وصرعه. "ذلك" أي ذلك الذي أصابهم بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا. أي حلالاً فاستحلوا ما حرم الله, فإذا بعث الله الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين إلا أكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون كما يقوم المصروع كلما قام صرع؛ لأنهم لما أكلوا الربا الحرام في الدنيا أرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم يوم القيامة فهم كلما أرادوا النهوض سقطوا, ويريدون الإسراع مع الناس فلا يقدرون, وهذا وعيد عظيم بالخلود في النار لمن عاد إلى الربا بعد الموعظة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
عن عبد الله بن حنظلة قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(درهم ربا يأكله الرجل- وهو يعلم- أشد من ستة وثلاثين زنية)(30).
وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-عن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال:" الرباء ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم)(31).
وعن جابر –رضي الله عنه-قال: لعن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء)(32).
قال ابن عباس-رحمه الله-: في قوله تعالى:(فأذنوا بحرب من الله ورسوله...) أي استيقنوا بحرب من الله ورسوله(33). وقال أيضاً:(آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق". وقال أيضاً يقال: يوم القيامة لآكل الربا: خذ بسلاحك للحرب)(34).
أنواع الربا:
ربا الفضل: وهو البيع مع زيادة أحد العوضين المتفقي الجنس على الآخر.
ربا اليد: وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما عند التفرق من المجلس أو التخاير فيه بشرط اتحادهما علة، بأن يكون كل منهما معلوماً, أو كل منهما نقداً وإن اختلف الجنس.
ربا النسيئة: وهو البيع للمطعومين أو للنقدين المتفقي الجنس أو المختلفيه لأجل ، ولو لحظة ، وإن استويا وتقبضا في المجلس.
حكم الربا:
كل هذه الأنواع حرام بالإجماع بنص الآيات والأحاديث وكل ما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع كلها(35). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: المراباة حرام بالكتاب والسنة، والإجماع. وقد لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، والمحلل والمحلل له"(36).
وقال ابن حجر: "عد الربا كبيرة هو ما أطبقوا عليه اتباعاً لما جاء في الأحاديث الصحيحة من تسميته كبيرة، بل هو من أكبر الكبائر وأعظمها"(37).(/3)
قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وأكل مال اليتيم": قال الله-تعالى-:(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء:10) وقال الله- تعالى-:(وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)(الإسراء: من الآية34)وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال في المعراج: (فإذا أنا برجال وقد وكل بهم رجال يفكون لحاهم, وآخرون يجيئون بالصخور من النار فيقذفونها بأفواههم, وتخرج من أدبارهم فقلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا)(38) وقال السدي- رحمه الله تعالى-: "يحشر آكل مال اليتيم ظلما يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه, ومن مسامعه, وأنفه, وعينه كل من رآه يعرفه أنه آكل مال اليتيم". قال العلماء: "فكل ولي ليتيم إذا كان فقيراً فأكل من ماله بالمعروف بقدر قيامه عليه في مصالحه وتنمية ماله فلا بأس عليه, وما زاد على المعروف فسحت حرام لقول الله- تعالى-(وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء:6), وفي الأكل بالمعروف أربعة أقوال:
أحدها: أنه الأخذ على وجه القرض. والثاني: الأكل بقدر الحاجة من غير إسراف. والثالث: أنه أخذ بقدر إذا عمل لليتيم عملاً. والرابع: أنه الأخذ عند الضرورة فإن أيسر قضاه, وإن لم يوسر فهو في حل, وهذه الأقوال ذكرها ابن الجوزي في تفسيره, وفي البخاري أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا, وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما)(39), وفي صحيح مسلم أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال: (كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة وأشار بالسبابة والوسطى)(40) وكفالة اليتيم هي القيام بأموره, والسعي في مصالحه من طعامه, وكسوته, وتنمية ماله إن كان له مال, وإن كان لا مال له أنفق عليه وكساه ابتغاء وجه الله- تعالى- وقوله في الحديث: (له أو لغيره) أي سواءً كان اليتيم قرابة, أو أجنبيا منه, فالقرابة مثل أن يكفله جده, أو أخوه, أو أمه, أو عمه, أو زوج أمه, أو خاله, أو غيره من أقاربه, والأجنبي من ليس بينه وبينه قرابة وقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(من ضم يتيما له أو لغيره حتى يغنيه الله عنه وجبت له الجنة)(41), وقال: (من مسح رأس يتيم لا يمسحه إلا لله, كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنة, ومن أحسن إلى يتيم أو يتيمة عنده كنت أنا وهو هكذا في الجنة)(42).
قوله-صلى الله عليه وسلم-:"والتولي يوم الزحف".والتولي هو: الفرار من الزحف: قال الله-تعالى-:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (لأنفال:16).وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: وما هن يا رسول الله؟! قال: الشرك بالله, والسحر, وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وأكل الربا, وأكل مال اليتيم, والتولي يوم الزحف, وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)(43) قال ابن كثير –رحمه الله-:"قوله تعالى متوعداً على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا } أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم { فلا تولوهم الأدبار } أي تفروا وتتركوا أصحابكم { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال } أي يفر بين يدي قرنه مكيدة ليريه أنه قد خاف منه فيتبعه ثم يكر عليه فيقتله فلا بأس عليه في ذلك نص عليه سعيد بن جبير والسدي. وقال الضحاك أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها { أو متحيزا إلى فئة } أي فر من ها هنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونونه فيجوز له ذلك حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو الإمام الأعظم دخل في هذه الرخصة(44) . وعن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: "لما نزلت إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين, فكتب الله عليهم, أن لا يفر عشرون من مائتين, ثم نزلت الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا, فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين, وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين فكتب أن لا يفر مائة من مائتين"(45)(/4)
قوله-صلى الله عليه وسلم-:"وقذف المحصنات الغافلات": قال الله –تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النور:24).
وقال الله-تعالى-:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:4) بين الله-تعالى-في الآية أن من قذف امرأة محصنةً حرة عفيفة بالزنا والفاحشة أنه ملعون في الدنيا والآخرة وله عذاب عظيم, وعليه في الدنيا الحد ثمانون جلدة, وتسقط شهادته, وإن كان عدلاً, وفي الصحيحين أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: قال: (اجتنبوا السبع الموبقات فذكر منها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات)(46) والقذف أن يقول لامرأة أجنبية حرة عفيفة مسلمة يا زانية, أو يا باغية, أو يا قحبة, أو يقول: لزوجها يا زوج القحبة, أو يقول:
لولدها يا ولد الزانية, أو يا ابن القحبة, أو يقول: لبنتها يا بنت الزانية, أو يا بنت القحبة, فإن القحبة عبارة عن الزانية, فإذا قال: ذلك أحد من رجل أو امرأة لرجل أو لامرأة كمن قال لرجل يا زاني, أو قال لصبي حر يا علق, أو يا منكوح, وجب عليه الحد ثمانون جلدة؛ إلا أن يقيم بينة بذلك, والبينة كما قال الله: أربعة شهداء يشهدون على صدقه فيما قذف به تلك المرأة, أو ذاك الرجل فإن لم يقم بينة جلد إذا طالبته بذلك التي قذفها أو إذا طالبه بذلك الذي قذفه, وكذلك إذا قذف مملوكه أو جاريته, بأن قال لمملوكه: يا زاني, أو لجاريته يا زانية, أو يا باغية, أو يا قحبة, لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (أنه قال من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة, إلا أن يكون كما قال)(47).
وكثير من الجهال واقعون في هذا الكلام الفاحش الذي عليهم فيه العقوبة في الدنيا والآخرة, ولهذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب. فقال له معاذ بن جبل: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به. فقال: ثكلتك أمك يا معاذ. وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)(48) وفي الحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)(49). وقال الله-تبارك وتعالى-في كتابه العزيز: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18).
وقال عقبة بن عامر: يا رسول الله! ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك, وليسعك بيتك, وابك على خطيئتك, وإن أبعد الناس إلى الله القلب القاسي) وقال: إن أبغض الناس إلى الله الفاحش البذي, الذي يتكلم بالفحش ورديء الكلام.
فوائد مستفادة من الحديث:
1- أن الشرك يحبط الأعمال وإن كانت كثيرة.
2- أن الشرك يخلد صاحبه في النار.
3- أن السحر شرك بالله وكفر به.
4- لا يجوز قتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق.
5- أن المصر على الربا محارب لله.
6- أن آكل مال اليتيم ظلماً إنما يأكل في الحقيق نارا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا)
7- أن الفرار والتولي من المعركة لا يجوز وأن من فر من المعركة خوفاً من العدو فإنه قد ارتكب كبيرة.
8- أن الله لعن القاذف للمحصانت وتوعده بالعذاب العظيم فقال سبحانه:(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
اللهم جنبنا الموبقات، ونجنا من المهلكات والكبائر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - البخاري مسلم.
2 - التوقيف (203).
3 - راجع: إرشاد الساري شرح صحيح البخاري:ص(6/257).
4 - وأخرج النسائي والطبراني وصححه بن حبان والحاكم من طريق صهيب مولى العتواريين.
5 فتح الباري (12/189).
6 - البخاري. كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور. (2654).
7 - البخاري، كتاب الجهاد ، باب لا يعذب بعذاب الله، (3017).
8 - متفق عليه.
9 -فتح الباري(12/265).
10 - راجع: فتح المجيد ص(77).
11 - فتح الباري(12/210).
12 - السيمياء: السحر، وحاصله إحداث مثالات خيالية لا وجود لها في الحس.
13 - رواه أحمد(4/399).
14 - قال الخطابي -رحمه الله-: وأما إذا كانت الرقية بالقرآن أو بأسماء الله تعالى فهي مباحة لأن النبي كان يرقي الحسن الحسين-رضي الله عنهما-فيقول (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة).(/5)
15 - جمع تميمة وهي خرزات وحروز يعلقها الجهال على أنفسهم وأولادهم ودوابهم يزعمون أنها ترد العين وهذا من فعل الجاهلية ومن اعتقد ذلك فقد أشرك.
16 - والتولة بكسر التاء وفتح الواو نوع السحر وهو تحبيب المرأة إلى زوجها وجعل ذلك من الشرك لاعتقاد الجهال أن ذلك يؤثر بخلاق ما قدر الله تعالى.
17 - فتح الباري(10/224).
18 -رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى :فلا تجعلوا الله أنداداً وأنتم تعلمون".
19 - البخاري، كتاب الإيمان، باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما رقم(2888).
20 - البخاري، كتاب العلم، باب الإنصات للعلماء رقم(121).
21 -رواه البخاري.
22 - البخاري، كتاب الديات، باب قوله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم" رقم(6862).
23 - أخرجه النسائي: كتاب تحريم الدم، باب تعظيم الدم.
24 - البخاري، كتاب الإيمان والنذور، باب اليمين الغموس.رقم (6675).
25 -متفق عليه.
26 - رواه البخاري.
27 - الترمذي.
28 - رواه الإمام أحمد.
29 - أخرجه النسائي.
30 - المنذري في الترغيب، (3/7)، وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير،ورجال أحمد رجال الصحيح.
31 -الحاكم في المستدرك(2/37).وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
32 - مسلم.
33 - تفسير ابن كثير(1/331).
34 - المصدر السابق ص(1/327).
35 - الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيثمي (299).
36 - الفتاوى الكبرى(29/418).
37 - الزواجر عن اقتراف الكبائر(309).
38 - رواه مسلم.
39 - البخاري.
40 - رواه مسلم.
41 - الطبراني في المعجم الأوسط، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (2882).
42 - رواه أحمد والترمذي وقال هذا حديث غريب.
43 -متفق عليه.
44 - تفسير ابن كثير (2/389).
45 - رواه البخاري.
46 - متفق عليه.
47 - متفق عليه.
48 - متفق عليه.
49 - البخاري ومسلم.(/6)
السحر وأضراره
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قصة الساحرة التي دخلت على أم المؤمنين عائشة. 2- خطر السحر. 3- انتشار السحر في بلادنا وسواها. 4- أنواع السحر وحقيقته. 5- براءة سليمان عليه السلام من السحر. 6- أساليب السحرة. 7- خطر إتيان السحرة. 8- علامات يعرف بها الساحر. 9- انتشار السحر وضعف الإيمان. 10- حد الساحر. 11- علاج السحر. 12- الوقاية منه.
الخطبة الأولى
أما بعد:
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن أبي الزناد حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدمت عليّ امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله بعد موته حداثة ذلك. تسأله عن أشياء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به، وقالت عائشة رضي الله عنها لعروة: يا ابن أختي فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله فيشفيها فكانت تبكي حتى إني لأرحمها وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت، كان لي زوج فغاب عني فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها فقالت: إن فعلت ما أمرك به فأجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن شيء حتى وقفنا ببابل وإذا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ قلت: نتعلم السحر فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري فارجعي فأبيت وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما فقالا: أفعلتِ؟ فقلت: نعم، فقالا: هل رأيت شيئاً؟ فقلت: لم أر شيئاً فقالا: لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأبيت فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت فاقشعررت وخفت ثم رجعت إليهما وقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: لم أر شيئاً. فقالا: كذبت لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فإنك على رأس أمرك، فأبيت، فقالا: اذهبي إلى التنور فبولي فيه فذهبت إليه فبلت فيه فرأيت فارساً مقنعاً بحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، فجئتهما فقلت قد فعلت، فقالا: فما رأيت قلت: رأيت فارساً مقنعاً خرج مني، ذهب في السماء وغاب حتى ما أراه فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك اذهبي، فقلت للمرأة والله ما أعلم شيئاً، وما قالا لي شيئاً فقالت: بلى لم تريدي شيئاً إلا كان، خذي هذا القمح فابذري فبذرت وقلت: أطلعي فأطلعت وقلت: أحقلي، فأحقلت، ثم قلت أفركي، فأفركت، ثم قلت: أيبسي، فأيبست ثم قلت: أطحني فأطحنت ثم قلت: اخبزي فأخبزت، فلما رأيت إني لا أريد شيئاً إلا كان سقط في يدي، وندمت، والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئاً ولا أفعله أبداً. رواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان به مطولاً كما تقدم وزاد بعد قولها: ولا أفعله أبداً فسألت: أصحاب رسول الله : حداثة وفاة رسول الله وهم يومئذ متوافرون فمادروا ما يقولون لها وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه، قال هشام: إنهم كانوا من أهل الورع والخشية من الله.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها.
إنه أججية الأحاجي ولغز الألغاز وسر من أكبر الأسرار، داء عضال، تفشى بين الرجال والنساء.. الفقراء، والأغنياء، الأميين، والمتعلمين المرضى، الاأصحاء البؤساء والوجهاء، العالة والرؤساء، إنه الداء الخطير الذي تفشى بين الناس عامة وخاصة إلا من رحم ربي، إنه خطر عظيم، خطر على العقيدة، خطر على الفرد، خطر على الأسرة، خطر على المجتمع، خطر على الأمة بأسرها.
إنه السحر قرين الكفر.
أيها الناس: إنه كما ينبغي على الأمة أن تعرف الأمراض التي تصيب الأبدان وتفتك بالصحة، فكذلك ينبغي لهم أن يعرفوا وأن يهتموا بالأمراض التي تمس الدين بل قد تذهبه بالكلية، ولاشك أن أمراض العقائد والقلوب أشد ضرراً من أمراض الأبدان لأن مرض الأبدان لا يعدو أن يكون أثره في الدنيا بينما مرض العقائد ومرض القلوب يكون أثره في الدنيا والآخرة.
وإن من أشد الأمراض التي قد استشرت وانتشرت مرض السحر وإتيان السحرة، ومن هنا وجب على أهل العلم وحملة العقيدة أن يدفعوا عن حمى الإسلام ويذبوا عن حياضِه، وأن يوعوا الناس في أمور دينهم ودنياهم، خاصة في هذه الأزمان التي قد تنوعت فيه أمراض العصر، ففي كل عام نصبح بلون جديد من الأمراض، وبالتالي كثر المشعوذون والسحرة والدجالون بحجة معالجة المرضى وتطبيبهم.
فانتشر السحرة والمشعوذين في كل مكان حتى في الدول التي يُدعى أنها متقدمة.
ففي فرنسا يوجد أكثر من 30.000 ساحر ومشعوذ.
وفي ألمانيا 80.000 ساحر ومشعوذ. وفي غيرها كثير.
أيها الناس: اعلموا أن السحر حقيقة موجودة، ولها تأثير في واقع الناس، ولو لم يكن موجوداً وله حقيقة لما وردت النواهي عنه في الشرع والوعيد على فاعله، والعقوبات الشرعية، على متعاطيه، فكم فرق السحرة بين زوج وزوجته، وبين صديق وصديقه، وتاجر وتجارته، وموظف ووظيفته، وكل هذا حقيقة لا مكابرة فيها.(/1)
أيها المسلمون:
لقد عرف من خلال تتبع أحوال السحرة والمسحورين أن للسحر أنواعاً كثيرة من حيث تأثيرها على المسحور.
فمنه سحر التفريق الذي قال الله فيه: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه.
ومنه سحر العطف الذي سماه رسول الله التولة حيث قال : ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) [رواه أحمد وأبو داود].
التولة: هو ما يصنعونه ويزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل، إلى امرأته، وهو ضرب من السحر.
ومن السحر أيضاً سحر التخييل كأن يرى الشيء الثابت متحركاً، والمتحرك ثابتاً كما قال تعالى عن موسى عليه السلام: فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
ومن سحر سحر الخمول بحيث يحبب إلى المسحور الوحدة والصمت الدائم والشرود الذهني وما شابه ذلك من ألوان السحر وضروبه.
أيها الأخوة في الله:
اعلموا أن السحر من نواقض الإسلام الكبرى فمن تعاطى السحر أو عمل به فهو كافر خالد مخلد في نار جهنم.
ذكر الله تعالى عن اليهود أنهم أعرضوا عن دين الرسول وذهبوا ليتعلموا السحر ويعملوا به، وكفروا.
واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان.
قال القرطبي رحمه الله: قال محمد بن إسحاق: لما ذكر رسول الله سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم: يزعم محمدٌ أن ابن داود كان نبياً! والله ما كان إلا ساحراً فأنزل الله عز وجل: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستئجار الطير والشياطين كان سحراً.
واعلموا أن الساحر لا يكون ساحراً حتى يكفر بالله، وقد أخبرنا ربنا تبارك وتعالى أن الذي يعلم الساحر السحر إنما هم الشياطين.
ولا يتمكن الساحر من ذلك حتى يكفر بالله العظيم ويستعين بالشياطين من دون الله.
فليس الساحر بنفسه هو الذي اخترع السحر، بل إن الشياطين هم الذين علموه. وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.
وقد تواتر النقل بالاستقراء والتجربة والمشاهدة عمن بحث في أحوال السحر والسحرة في إثبات العلاقة والتبعية والانقياد والعبودية بين السحرة والشياطين.
فالسحرة يتقربون للشياطين بما تحبه الشياطين من كل شيء: بعقيدة فاسدة وأعمال خيالية وأكل للمحرمات، الخبائث وتقرب بالنجاسات ووقوع في الموبقات.
وبعد هذا كله إذا اجتاز الساحر امتحاناً يجربه الشيطان عليه بأكل نجاسة وصرف عبادة، ووقوع في أمر لا يجوز ولا يليق حينئذٍ يوقن الشيطان أن تلميذه من السحرة قد جاوز المرحلة، فيبدأ يسخر له من شياطين الجن من يعينه على إحداث الخلل والمرض والزلل.
أخي المسلم:
وإذا عرفت الساحر فلا يجوز لك المجيء إليه، فإن جئته لم تقبل لك صلاة أربعين يوماً.
روى مسلم في صحيح عن بعض أزواج النبي : ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن صدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)).
وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )).
وعن عمران بن الحصين مرفوعاً: ((ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن له، أو سحر له)).
أيها الأخوة الأكارم:
وللساحر علامات يعرف بها:
1- إذا دخلت عليه فسألك عن اسم أمك فاعلم أنه يستعين بالجن.
2- إذا أمرك ألا تذكر الله ولا تقل بسم الله عند علاجه لك فاعلم أنه ساحر.
3- إذا أخبرك بأمر غيبي كأن يخبرك عن مكان مسكنك أو عن اسمك مثلاً أو اسم أبيك.
4- يعطي ورقة ويكتب فيها بعض الآيات ككتابة آية الكرسي مثلاً وبعض أسماء الله، وفي أسفل الورقة يرسم مربعاً ويضع فيه بعض الحروف المقطعة أو أرقاماً وهذه الحروف والأرقام يخاطب بها الجن.
5- من علاماته أيضاً أنه لا يرفع صوته بما يقول حتى لو طلبت منه ذلك، وربما موه عليك فقرأ بعض الآيات بصوت عالي ثم يخفض صوته في الباقي، وفيها يطلسم بكلمات وعزائم غير مفهومة حيث يتمتم بكلام لا معنى له، أو أن يعطي المريض أوراقاً يحرقها ويتبخر بها.
6- أو يأمره أن يعتزل الناس فترة معينة في غرفة لا تدخلها الشمس ويسميها العامة (الحجبة).
7- وأحياناً يطلب الساحر من المريض ألا يمس ماءً لفترة من الزمن غالباً أربعين يوماً.
وهذا يدل على أن الشيطان الذي يخدم هذا الساحر نصراني.
أيها الأخوة في الله:
من أسباب كثرة السحرة، ضعف الإيمان وعدم التوكل على الله، ومنها كثرة الخدم والسائقين في البيوت.
وذلك أن كثيراً من الخادمات قبل أن تأتي إلى أي مكان تمرّ على الساحر ومعها اسم صاحب البيت وأين يسكن ومن ثم تطلب من الساحر أن يخبرها عن هؤلاء، فيقول الساحر هذا رجل عنده زوجة واحدة مثلاً، وعنده خمسة أبناء وذلك بواسطة الشياطين الذين في المنطقة.
فيقول لها: إذا أردت شيئاً فأرسلي لنا شيئاً من شعره أو شعر زوجته أو ولده أو شيئاً من لباسهم ونحن نعقد فيه شيئاً من السحر.
ولذلك بعض الناس فطنوا لهذا فيأمر الخادمة أو السائق ألا يقفل الرسالة إلا وقد أطلع على ما في داخلها، وإذا جاءت رسالة لابد وأن تفتح الرسالة بين عينيه حتى يرى ما فيها.(/2)
أيها الناس:
فإذا علمتم ساحراً في أي مكان أو علمتم من خلال الأوصاف التي قلتها لكم وجب عليكم إبلاغ الجهات المختصة بذلك كهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يوقفوا هذا الساحر عند حده، فحد الساحر أن يضرب بالسيف.
لأنه كافر والله قد سمى الساحر كفراً وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.
وعن جندب مرفوعاً: ((حد الساحر ضربة بالسيف)) [رواه الترمذي]. وقال: الصحيح أنه موقوف. وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة.
وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت.
وبعد هذا أخي المسلم من خلال هذه الخطبة وهذه الآيات والأحاديث تبين لك أن السحر كفر وأن الساحر كافر، وأن من يأتي الساحر فهو على خطر عظيم وهو على شفا الكفر عياذاً بالله من ذلك.
ألا تخاف يا أخي من أن تخسر الدنيا والآخرة,
ألا تتوكل على الله ربنا خالقنا المتصرف في شئوننا الذي ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء.
وهذا الداء دواؤه العلاج الرباني وليس العلاج الشيطاني.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وننزل من القرآن ما هو شفاء رحمة للمؤمنين.
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله القادر على كشف السوء وبرأ السقيم، وصلاةً وسلاماً على محمد الذي وحد الله وتبرأ من كل صنم وعلى آله وصحابته والتابعين والمستعينين بالله من كل ألم.
وعنا معهم بإحسانك ولطفك يا واسع الجود والكرم.
أما بعد:
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداك
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك
قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل.
نعم قد عرفنا السحر وأنواعه وعلامات السحرة ولكن كيف العلاج وما طرق الوقاية من الحسر والسحرة؟
1- العلاج: أن تعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا يصيبك شيء إلا بإذن الله، ولن تشفى إلا بإذن الله وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له.
ومن العلاج بل هو العلاج وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين نعم هو القرآن لكن الناس قد أعرضوا عن هذا الدواء الرباني فبكثرة قراءة القرآن والنفث على المريض يفك الله السحر عن المسحور بإذنه سبحانه وتعالى.
· أما الوقاية:
أ - فبإكثار الذكر ومداومة الطاعة والاستقامة على الخير والإعراض عن المحرمات وترك الموبقات وإن تحفظ الله بفعل أوامره وترك نواهيه ليحفظك في دنياك وأخراك.
والإكثار من قراءة القرآن وقراءة الأوراد والأذكار في الصباح والمساء والمحافظة على آية الكرسي وقراءة المعوذتين وسورة الإخلاص، ففي الحديث أنه من قرأها في صباحه ومساءه ثلاث مرات كفته من كل سوء.
ومن قرأ آية الكرسي لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان يومه ذلك.
ومن حافظ على ذلك كله حفظه الله.
أيها الناس: وإذا أصيب أحد الناس بهذا المرض أعني أصيب بالسحر – هدانا الله وإياكم – فعليه بالرقية الشرعية.
فإن الإنسان إذا اعتقد اعتقاداً جازماً أن الله جعل الشفاء في كتابه وأن الله قادر على شفائه، وأنه لا يملك أحد من البشر شيئاً من ذلك فإنه يرجى له الشفاء بإذن الله.
والرقية هي قراءة الآيات والأذكار والأدعية مع النفث على المريض ولا تكون الرقية شرعية حتى تجتمع فيها ثلاثة شروط:
1- أن تكون بالقرآن والأحاديث أو بكلام نافع.
2- أن تكون باللغة العربية.
3- أن يكون قلب الشخص معلقاً بالله وأن الشفاء من عند الله.
أيها الأخوة: الرقية ليست خاصة بأناس دون غيرهم فكل شخص يستطيع أن يرقي، فأنت تستطيع أن ترقي نفسك أو أن يرقيك أخوك أو صاحبك أو زوجك، فليست الرقية حكراً على أحد، ومن هنا تعجب من بعض الناس كيف يزدحمون على فلان وفلانة وكأن الرقية لا يحسنها إلا هو.
فتجد هذا يأتي من الشمال وهذا من الجنوب وهذا من الشرق حتى يتمكنوا من الحصول على الرقية.
نعم لا شك أن لصلاح الشخص أثر في الرقية، ولكن كم من شخص تحقره ويجعل الله الشفاء في رقيته.
أما أيها الأخوة: ومن أراد النجاة من كل هذا فعليه بالاعتصام بالقرآن تلاوة وعملاً وقراءة وحفظاً وعليه بالأذكار والأوراد في الصباح والمساء وحين النوم وعند اللباس وعند رؤية المبتلي وعند دخول الخلاء والخروج منه وعند دخول المسجد والخروج منه.
ومن أنواع علاج السحر:
ما ذكره الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - في رسالة السحر والكهانة.
قال – يرحمه الله –:
1- ومن الأدعية الثابتة عنه في علاج الأمراض من السحر وغيره وكان صلى الله عليه وسلم يرقي بها أصحابه.
((اللهم رب الناس أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاءك، شفاء لا يغادر سقماً)).
ومن ذلك الرقية التي رقى بها النبي وهي: ((باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك)) وليكرر ذلك ثلاث مرات.(/3)
* ومن علاج السحر أيضاً وهو من أنفع علاجه بذل الجهود في معرفة توضع السحر في أرض أو جبل أو غير ذلك، فإذا عرف استخرج وأتلف بطل السحر.
* ومن علاج السحر بعد وقوعه أيضاً وه علاج نافع للرجل الذي يحبس عن جماع أهله: أن يأخذ سبع ورقات من السدر الأخضر فيدقها بحجر أو نحوه ويجعلها في إناء ويصيب عليها من الماء ما يكفيه للغسل ويقرأ فيها: آية الكرسي، وسورة الكافرون، والإخلاص، والمعوذتين، وآيات السحر التي في سورة الأعراف وسورة يونس وسورة الشعراء وسورة طه وبعد قراءة ما ذكر في الماء يشرب بعضه ويغتسل في الباقي وبذلك يزول الداء - إن شاء الله –، ولا بأس من تكرار ذلك.
* وأما علاجه بسحر مثله فهذا لا يجوز، فإنه من عمل الشيطان بل من الشرك الأكبر فالواجب الحذر من ذلك.
* ومن العلاج أيضاً علاج السحر بالحجامة.
قال رسول الله: ((خيركم ما تداويتم به الحجامة)) [رواه مسلم].
ويقول ابن القيم أن أنواع علاج السحر الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه السحر، وذلك بالحجامة (أ، هـ).(/4)
السحر
د. عبد الحي يوسف
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضلّ له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له, وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله وصفيّه وخليله, بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة, ونصح الأمّة وجاهد في سبيل ربّه حقّ الجهاد, ولم يترك شيئاً مما أُمر به إلاّ بلّغه, فتّح الله به أعيناً عُمياً وآذاناً صُماً وقلوباً غُلفاً, وهدى الناس مِن الضّلالة، ونجّاهم من الجهالة, وبصّرهم من العَمى, وأخرجهم مِن الظُلمات إلى النور, وهداهم بإذن ربّه إلى صراط مستقيم. اللهم صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ونبيّك محمد، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه.
أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى, وخيرَ الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم, وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثةٍ بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وكلّ ضلالةٍ في النار, وما قلّ وكفى خيرٌ مما كَثُر وألهى, وإنّ ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين.
أما بعد أيها المسلمون عباد الله!
فإنّ شريعة الإسلام جاءت بالقضاء على الفساد، وقطع دابر المفسدين، رجالاً كانوا أو نساءً, فسادهم عقديٌّ، أو أخلاقيٌّ, أو اجتماعيٌّ، أو اقتصادي, أو غير ذلك من أنواع الفساد، فالله لا يُحبُّ المفسدين، (والله لا يُحبُّ الفساد). والفساد طبيعة المنافقين وسمتُهم وصفتهم (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون). جاءت شريعة الإسلام آمرةً بقتل الزاني المحصن، وبقتل المرتد، الذي بدّل دينه، وفارق جماعة المسلمين، وقَتْل من قَتَل النفس التي حرّم الله إلا بالحقّ، وأمرت شريعة الإسلام كذلك بقتل المحاربين الذين يسعون في الأرض فساداًَ، يُحاربون الله ورسوله, يَقطعون السبيل, ويُخيفون الآمنين, ويَنتهبون الأموال, ويَنتهكون الأعراض، وأمرت شريعة الإسلام كذلك بقتل مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط، وبقتل مَنْ أتى ذات محرمٍ، وأمرت شريعة الإسلام بقتل السارق في المرة الخامسة، وشارب الخمر في المرة الرابعة، على خلافٍ بين أهل العلم في ذلك، وأمرت شريعة الإسلام بقتل من حرّض على الفساد أو أمر به، وأمرت كذلك بقتل الساحر، الذي يُفسد عقائد المسلمين، ويزين لهم الأباطيل، ويأمرهم بالمنكر، ويُعلّقهم بغير الله، ويَجعل في عقيدتهم أنّ للكواكب تأثيراً، أو أنّ للشياطين استغلالاً بالفعل. هذه الأصناف كلّها شريعة الإسلام أمرت بقتلهم, وقطع دابِرهم، والقضاء عليهم, لأنهم جراثيمُ مُفسدة، إذا تُركت سممت المجتمعات، وأفسدت الشعوب, وأظهرت ما أمر الله عزّ وجل بإخفائه.
ومن أخطر هؤلاء جميعًا، أيها المسلمون عباد الله، الساحر. الساحر الكافر الذي يَستعين بغير الله, يَستعين بالشياطين, يَستعين بالجنّ الكافر, يعتدي على كتاب الله عزّ وجلّ وعلى شرعه ودينه, يَحقُّ الباطل ويُبطل الحق, ويأمر بالمنكر وينهى عن المعروف, ويتعدى على الحرمات. هذا الساحر الذي يأتي هذه الموبقات شريعة الإسلام تأمر بقتله.
فما هو السحر، أيها المؤمنون عباد الله؟ ما حقيقته؟ ما تأثيره؟ ما حكم تعلّمه؟ ما حكم مَنْ يُمارسه؟ ومنْ يأتيه ويفعله؟ هذه أسئلة لابد أنْ نعرف الجواب عنها, كيف نتقي السحر ونمنع أنفسنا منه؟
السحر، أيها المسلمون عباد الله، من كبائر الذنوب, من الموبقات العظيمات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات: الشركَ بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق, وأكل الربا, وأكل مال اليتيم, والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم السحر في المرتبة الثانية، بعد الشرك بالله عز وجل, إذ السحر قسيم الشرك.. نوع من أنواعه.. صنفٌ مِن أصنافه, وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ تعلّم السحر حرام ((من تعلّم شيئا من السحر قليلاً كان أو كثيراً كان ذلك آخر عهده من الله)).(/1)
ما هو السحر، أيها المؤمنون عباد الله؟ السحر في لغة العرب يُطلق على كلّ ما خَفِيَ سببه ودقَّ ولَطُف, ولذا يُقال للوقت الذي قَبل صلاة الفجر: السَّحَر حيث تخمد الأصوات, وتخفض الحركات, ويَخلد الناس إلى الراحة, سُمِّيَ هذا الوقت سَحَرَا, والطعام الذي يُتناول في ذلك الوقت سُمّيَ سَحُوراً, ومن خدع الناس بحلاوة حديثه، وطلاقة لسانه، وحلو بيانه سماه النبي صلى الله عليه وسلم ساحِراً: (إنّ مِن البيان لسحراً). هذا السحر عبارةٌ عن عزائم ورُقََى وطلاسم يُجمع بعضها إلى بعض، وتعالج معالجاتٍ خفيّة فيحدث تأثيرها بإذن الله. قد تقتل, قد تُمرِض, قد تُفرّق بين المرء وزوجه, قد تُعَوّج عُضواً. الساحر يأتي بالأمور المنكرات العظيمات، كأنْ يَطير في الهواء، أو يَمْشي على الماء، أو يَركب كلباً، أو يَسير على خيطٍ دقيقٍ، أو غير ذلك مِنْ الحيل والأساليب التي يَستعملونها، والتي هي هديُ فرعونَ وقومِهِ, فرعونُ وقومه هم الذين ابتدعوا هذه البدع, وأصَّلوا تلك الأصول الكُفْرية الشركية, أما المسلم فإنه أبعد ما يكون عن ذلك.
الساحر الذي يُمارس هذه الأفعال، أيها المسلمون عباد الله، حكم عليه ربُّنا في كتابه بأنّه كافر، ليس من الإسلام في قليل أو كثي،ر يقول الله عز وجل: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سُليمان وما كفر سُليمان ولكنّ الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر)، (ولكن الشياطين كفروا)، ما سبب كفرهم؟ لأنهم (يُعلمون الناس السحر). نبيُّ الله سُليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، سخّر الله له الجنّ والإنس والطير فهم يوزعون, سخّر الله له الريح, سخّر الله له الشياطين (كل بنّاءٍ وغوّاص, وآخرين مقرّنين في الأصفاد), ودعا ربّه فقال: (ربِّ اغفر لي وهب لي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنّك أنت الوهّاب). هذا النبي الكريم كان الجنّ يَعملون بأمره، يبنون له المباني، ويشيّدون له المساجد والمحاريب، ويعملون بأمره في كل ما يشاء, ثم بعد ذلك هم يخافون منه ويرتعبون منه (ومن يَزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير).
لمّا مات نبيُّ الله سُليمان جاء الشيطان فدفن تحت كرسيه أنواعًا من السحر, وألوناً من الكفر: طلاسمَ وألغازاً, ثم بثّ في بني إسرائيل أنّ سُليمان بن داود كان يَملككم بالسحر, كان يُسيطر عليكم بألوانٍ من السحر، فنفى الله عنه هذه التُّهمة في هذه الآية (وما كفر سُليمان ولكنّ الشياطين كفروا يُعلمون الناس السحر)، قال أهل التفسير: مفهوم الآية أنّ سُليمان عليه السلام -وحاشاه- لو كان ساحراً لكان كافراً, فعُلِم من الآية أنّ الساحر كافر. قال الله عزّ وجلّ: (يُعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يُعلمان من أحد حتى يقولا إنّما نحن فتنة فلا تكفر)، هاروتُ وماروتُ شيطانان يُعلمان الناس السحر, لكنّهما لا يُعلِّمان أحداً, ولا يُلقِّنان شخصاً, حتى يُحذراه ويُنذراه، يقولان له: "يا عبد الله إنّما نحن فتنة، جعلنا الله فتنة للعباد، فإذا تعلمت السحر فقد كفرت, فلا تكفر". يروي الإمام ابن كثير، رحمه الله، في تفسير هذه الآية "أنّ امرأةً جاءت إلى أمّنا عائشة بنت الصديق، رضي الله عنهما، قالت لها: يا أمّ المؤمنين إني أذنبت ذنباً، قالت: وما ذاك؟ قالت خرج زوجي فلم يَرجِع، فأُخبِرتُ أنّ رَجُلين بأرض بابل يُعلّمان الناس السّحر، فأتيتُهما فقلتُ لهما: إني أريد أن أتعلم السّحر لأستردّ زوجي، قالا ليَ: يا أمةَ الله! إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفري. فقلتُ: بلى، أريد أن أتعلّم السّحر. فقالا ليَ: اذهبي إلى ذلك المكان فبولي فيه. -عيّنا لها مكاناً، حددا لها بقعةً من الأرض- قالت: فذهبتُ وما فعلتُ ثم رجعت, قالا ليَ: ماذا رأيتِ؟ قلتُ: ما رأيت شيئاً, قالا: إنّك كاذبة ارجعي فبولي, قالت: ففعلت ثم أتيتهما, فقالا ليَ: وما رأيتِ؟ قلت: رأيتُ كأنّ فارسًا خرج من فرجي فصعد في السماء, فقالا لها: ذلك إيمانك قد خرج منكِ. الذي يتعلم السحر, الذي يُمارسه, الذي يُباشره, كافرٌ بالله العظيم، ليس من دين الإسلام في قليلٍ أو كثير, قال الله عز وجل: (ولا يُفلح الساحر حيث أتى). قال أهل التفسير: عُلِم مِنْ استقراء أدلّة القرآن أنّ الله لا يَنفي الفلاح إلاّ عمّن كان كافراً. لا يَنفي الله الفلاح بإطلاق إلا عمّن كان كافراً، (ومَنْ أظلم مِمَن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته إنه لا يُفلح الظالمون)، (إنه لا يُفلح المجرمون)، (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلالٌ وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إنّ الذين يفترون على الله الكذب لا يُفلحون)، الله جلّ جلاله نَفى الفلاح في هذه الآيات عن أصنافٍ من الكفار، فلمّا قال: (ولا يُفلح الساحر حيث أتى)، عُلِمَ يَقينا أنّ الساحر كافر, وهذا مذهب الإمامين الجليلين مالك بن أنس، وأبي حنيفة النُعمان، وهو قول أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
أيها المسلمون عباد الله!(/2)
هذا الساحر الذي يُفَرّق بين المرء وزوجه, ويُظهر في الأرض الفساد، ويَسير بين الناس بالعداوة والبغضاء, ويُلَبّسُ عليهم دينهم، هذا الساحر حكمه في شريعة الإسلام أنّه يُقتل، ودليل ذلك ما رواه الإمام البخاريُّ، رحمه الله، في صحيحه في كتاب الجهاد، بابُ قتل الساحر، عن بُجَالة بن عبيد رحمه الله أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أهل البصرة: "أنْ اقتلوا كل ساحرٍ وساحرة وفرّقوا بين كل ذي محرَم مِنْ المجوس". يَقول بجالة رحمه الله: "فقتلنا في يومٍ واحدٍ ثلاث سواحر"، في يوم واحد قتلوا ثلاث نساء ساحراتٍ كافراتٍ بأمر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه. وروى الإمام الترمذي من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حَدُّ الساحر ضربةٌ بالسيف)، لأنّ فساده عظيم، وشره كبير، وإثمه مستطير لا يَقتصر على نفسه، بل شرُّه متعدٍّ إلى العباد, شره متعدٍّ إلى الناس. وقد كان أحد الأمراء وهو الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط بين يديه ساحر، يلعب بين يديه، يُمارس ألعابًا سحرية يُخيلها في أعين الناس، يقطع رأس إنسانٍ, ويَحْمله ثمّ يُعيده ثانية، ويقول الناس الجالسون: سبحان الله! إنّه يُحيي الموتى. رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جُندُب الأسْديّ رضيَ اللهُ عنه جاء في اليوم الثاني مشتملاً سيفه، فلمّا بدأ ذلك الساحرُ يَلعَبُ ويُمارسُ تلك الأمور الموهِمة استل سيفه، وضرب عنق الساحر وقال: "إنْ كان صادقاً فليحي نفسه"، فرّق الله بذلك الصحابي بين الحقّ والباطل, بين الهدى والضلال, تبين الكذب والإفك والضلال في فعل ذلك الساحر الذي كان يُخيل للناس صنيعه بأنه قادرٌ على أنْ يُحيي الموتى.
أيها المسلمون عباد الله!
هذا الحكم الذي تعلمناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي مارسه عمر بن الخطاب، وجُندب بن عبد الله، وأمُّ المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، سحرتها جارية لها دبّرتها فقتلتها حفصة رضي الله عنها. هؤلاء الصحابة لا يُعْلَمُ لهم مخالف مطلوبٌ من وليِّ أمر المسلمين أنْ يُحيي هذه السنّة، فإنّ السحرة كفرةٌ، أشرارٌ، فجارٌ، يَسعون بالفساد في الأرض. وإنّ كثيراتٍ من النساء وبعضاً من الرجال يلجأون إلى أولائك السحرة إما للإيقاع بعدوٍ، وإما لتفريقٍ بين المرء وزوجه، وإما للانتقام من واحد من ذوي الأرحام، وما علم أولائك المساكين بأنّ هذا العمل كفر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى ساحراً أو كاهنًا فسأله فصدّقه, فقد كفر بما أُنزل على محمد)) -صلى الله عليه وسلم- الأمرُ جِدٌّ لا هزل فيه.. الساحر زنديق خلا قلبه من مخافة الله. لربّما يكتب القرآن بالنجاسة.. لربّما يُلقي كتاب الله في نجاسة.. لربّما يكفر بالصلاة كلها, أو ببعضها أو يُصلي مع الناس بغير وضوء, أو بغير غسل جنابة، أو غير ذلك من أنواع الكفر، لربّما سبَّ الله, لربّما سبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن يكون بينه وبين الشيطان عقد, هذا يَخدمه وذاك يَرُد له الخدمة كما قال الله على لسانهم: (ربّنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا)، استمتاع الشيطان: بكفر هذا الساحر, واستمتاع الساحر: بالخدمات التي يُقدّمها له الشيطان. كثيرون يَزعمون أنّهم قد سخروا فئاماً من الجنّ، وهذا هو والله الكذب بعينه. الجنّ لا يُسخّر لأحد بعد نبيّ الله سليمان عليه السلام، نبي الله سُليمان قال الله عنه (إنّا سخرنا له الريح تجري بأمره رُخاءاً حيث أصاب والشياطين كلّ بناء وغوّاص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب)، دعا ربّه فقال: (رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي)، ليس أحدٌ بعد نبي الله سليمان يملك أنْ يُسخر شيطاناً, الشيطان لا يُسخر لأحد بعد نبي الله سليمان، حتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف النبيين, وسيّد المرسلين، لما عرض له الشيطان في صلاته فأمسك به صلى الله عليه وسلم وخنقه حتى سال لعابه على يده، قال عليه الصلاة والسلام: (ولو شئتُ لربطّه بسارية المسجد, حتى يلعب به صبيان المدينة لكنني تذكرت دعوة أخي سُليمان (ربّ اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي). فلا يخدعنّكم امرؤ يفتري على الله الكذب، ويزعم أنه قد سخّر شيطاناً، أو جملة من الشياطين، ليس هناك تسخير، وإنّما استمتاع، الشيطان لا يخدم هذا الساحر ولا يهيئ له الأسباب التي يمارس بها سحره؛ إلا إذا كفر بالله عزّ وجلّ كفراً قولياً أو كفراً فعلياً، يراه الشيطان بعينه أو يسمعه بأذنه، ثم بعد ذلك يصلح الاستمتاع فيما بينهم.(/3)
أقول أيها المسلمون عباد الله: هؤلاء السحرة فسادهم عظيم، وشرّهم كبير، وقد بلغ الحال ببعضهم أن يتجرّأ على إشعال حرائق في بعض البيوت، وعلى انتهاب أموالٍ من بعض الناس، واجترأ بعضهم على أن يوجّه تهديداً مباشراً لأناس كرامٍ من المسلمين الطيبين، الذين ما عُلِم عنهم إلاّ الخير، والبر، والحرص على الجمعة والجماعة، ويجاهدون في الله عزّ وجل بأموالهم. ضرر السحرة أعظم من ضرر الزناة, أعظم مِن ضرر مَن يُروجون الخمور والمخدرات, أعظم مِن ضرر مَن يعملون عمل قوم لوط. ضرر الساحر عظيم وما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله إلا وهو يعلم مقدار شره, فالواجب على مَن ولاّه الله أمر المسلمين أن يُنفذ هذا الحكم في كل مَن ثبت عليه ممارسة السحر، مِن أجل أنْ تقرّ عيون أقوام يتألمون لفساد عقائد الناس. كم يتألم المرء حين يسمع أنّ مسلمةً تصلي لكنها تتردد على الساحر, أو أن مسلماً يصوم لكنه لا يتورع عن اللجوء إلى الكاهن، هذا دليل على الجهل وعلى خلل في المعتقد.
نسأل الله أن يردّنا إلى دينه رداً جميلاً, وأن يصرف عنّا شر كلّ ذي شرٍّ هو آخذٌ بناصيته.. اللهم اصرف عنّا شرّ الأشرار، وكيد الفُجّار, وشرَّ طوارق الليل والنهار، إلاّ طارقاً يطرق بخير يا رحمن, والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدوان إلا على الظالمين, وأشهد ألاّ إله إلاّ الله إله الأولين والآخرين, وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمداً عبدُ الله ورسوله، النبي الأمين, بعثه الله بالهُدى واليقين, لينذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين, اللهم صلي وسلم وبارك عليه و على إخوانه الأنبياءِ والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين, وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.(/4)
أما بعد أيها المسلمون فاتقوا الله حقّ تُقاته، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلّكم تفلحون, واعلموا أيّها الإخوة في الله أنّ كلّ شيءٍ يجري في الكون بقدر الله: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتابٍ من قبل أن نبرأها إنّ ذلك على الله يسير)، (ما أصاب من مصيبة إلاّ بإذن الله)، (قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون). لن يُصيبك أيها المسلم إلا ما قدّره الله لك, وأنت مأمور بأن تتعامل مع قدر الله بشرع الله، تعامَل مع القدر بالشرع, واعلم أنّ للسحر علاجين: علاجُ دفعٍ، وعلاجُ رفع. علاج الدفع معناه أن تأخذ بالأسباب، وأن تتلمّس من الوسائل ما يمنع وقوع السحر بك. وأعظم هذه الوسائل، أيها المسلمون عباد الله, الإكثار من ذكر الله، خاصةً أذكار الصباح والمساء، عوّد نفسك أيها المسلم بعد صلاة الصبح, قبل أن تمارس عملاً، أن تتحصّن بالأذكار التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قُل: ((أعوذ بكلمات الله التامات من شرّ ما خلق))، ثلاث مرّات, قُل: ((بسم الله الذي لا يضُر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم))، ثلاث مرات، اقرأ آية الكرسي، أقرأ الإخلاص والمعوّذتين ثلاث مرات, وهكذا بعد صلاة العصر, (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، (وسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب)، هذا هو الذي أُمِرْنا به أيها المسلمون عباد الله. ثاني هذه الأسباب أن تحافظ على الوضوء فإنه لا يُحافظ على الوضوء إلا مُؤمن, كن على طهارة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. ثالث هذه الأسباب المحافظة على هذه الصلوات المكتوبات في مواقيتها مع جماعة المسلمين ما استطعت إلى ذلك سبيلاً, هذا من أعظم الأسباب التي يقيك الله بها شر السحرة، والمكرة، والحاسدين، والكائدين، الله عز وجل يدفع عنك شرهم, ((مَنْ صلّى الصبح في جماعة كان في ذمّة الله حتى يُمْسي))، أنت في ذمّة الله، في أمانه، في ضمانه، لا يَستطيع أنْ يَكيدك ساحرٌ ولا شيطانٌ ولا ماكر، بل الله عز وجل هو الذي يَحفظك، ويَكلؤُك, أكثر من قراءةِ آية الكرسي فإنه لا يزال عليك من الله حفيظ حتى تُصبح. ثمّ إذا وقع السحر، لا قدر الله، فلا تلتمس علاجاً عند ساحر، فالدم لا يُطهره البول، لا تُزِل نجاسةً بنجاسةٍ، ولا تَمحُ سيئاً بسيئ، فإنّ الله عز وجل لا يَمْحو الخبيث بالخبيث، ولكن يَمْحو الخبيث بالطيّب. علاج السحر بالقرآن, كلام الله شفاءٌ من كل داء. وقد سُحِر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يدِ لبيد بن الأعْصَم، يَهوديٌّ من بني زُرَيْق، فنزل عليه جبريل وميكائيل جلس أحدُهما عند رأسه، والآخر عند رجليه قال أحدهما: ((ما بال الرجل؟))، قال: ((مطبوب))، قال: ((مَنْ طبَّه؟)) قال: ((لبيد بن الأعصم في مُشطٍ ومُشاطة, في جَفِّ طلعةِ نخلٍ ذكر في بئر ذرْوان)) فقرءا عليه المُعوّذتين: (قل أعوذ برب الفلق) و(قل أعوذ برب الناس), ومسحا على جسده الشريف، فقام صلى الله عليه وسلم وكأنّه نَشِط مِن عِقال, هكذا القرآن شفاء, شفاءٌ من أمراض الأبدان, وأمراض الأرواح, وما عليك أيها المسلم إلاّ أن تلتمس العلاج فيه.
نسأل الله عز وجل أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا, ونور صدورنا، وذهاب همومنا، وجلاء أحزاننا.. اللهم علِّمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا.. اللهم اجعلنا ممن يُحلّ حلاله، ويُحَرّم حرامه، ويعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، ويتلوه حق تلاوته.. اللهم آت نُفوسنا تقواها، وزكّها أنت خيرُ مَن زكاها، أنت وليُّها ومولاها.. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عِصمة أمرنا، وأصلح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كلّ خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شر.. اللهم أصلحنا، وأزواجنا، وأولادنا.. اللهم أصلحنا، وأزواجنا، وأولادنا.. اللهم أصلحنا، وأزواجنا، وأولادنا.. اللهم بارك لنا فيما آتيتنا، وقنّعنا بما رزقتنا، ولا تَفتِنّا بما زويت عنّا.. اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كلّ مكان.. اللهم كن لهم ناصراً ومعيناً يا رحمن.. اللهم فُكّ أسر المأسورين مِن المسلمين.. اللهم نفّس كروبهم, وفرّج همومهم, ورُدّهم سالمين غانمين، ولا تجعل لكافرٍ على مؤمنٍ سبيلاً, برحمتك يا أرحم الراحمين, وصلِّ اللهم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وأقم الصلاة.
المشكاة(/5)
السخرية بدعوى المزاح
أحمد سعد الدين
قال الله تعالى: { ياأيُّها الَّذين آمنوا لا يَسخَرْ قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يَكُنَّ خيراً منهنَّ ولا تَلْمِزوا أنفُسَكُم ولا تنابَزوا بالألقابِ بئْسَ الاسْمُ الفسوقُ بعد الإيمانِ ومن لم يتُبْ فأولئك همُ الظَّالمون } الحجرات: 11.
ـ نهى الله تعالى المؤمنين عن السخرية من الآخرين مهما كانت صفاتهم وأوضاعهم، فلعلَّ مَن يُسخَر منه ويُنظَر إليه نظرة احتقار واستخفاف؛ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من الساخر الَّذي يعتقد بنفسه الكمال، ويرمي أخاه بالنقص ويعيِّره. ـ نهى الله تعالى المؤمنين عن تبادل الشتائم، والتهاتر بالألفاظ القبيحة، لأن ذلك يوقع البغضاء بينهم، ويتجه بهم إلى منزلقات الجاهلية.
ـ من لم يستجب لله ويبتعد عن احتقار الناس وإيذائهم فقد ظلم نفسه، ومن لبس ثوب الظلم فقد هيَّأ نفسه لانتقام الله الَّذي يستحقُّه حقاً وعدلاً. ومادَّة السخرية لا تنبعث إلا من نفس ملوَّثة بجراثيم العُجْبِ والتكبُّر، فهي تعمل على إيذاء من حولها بدافع الشعور بالفوقية المتغلغلة في أعماقها المريضة. لقد استهان إبليس بآدم وسخر منه قائلاً: ( أنا خير منه )، فباء بالخسارة والخذلان، ولو أنه أمعن النظر في صفات آدم لأدرك أنه يمتاز عليه بصفات كثيرة، أوجدها الله تعالى فيه ليكون مخلوقاً متوازن الصفات والاستعدادات، فعنده أرضيَّة للخير واستعداد للسوء، وعقل للتمييز وقلب للتنوير، وبالتالي فإن لديه جميع الملكات الَّتي تصلح كأدوات للصراع بين الخير والشر، يخوضه الإنسان ويميِّز به الخبيث من الطيِّب، وتتقرَّر درجات الإحسان أو الإساءة.
أمَّا إبليس فإنه لم يكن معتدلاً فقد كان طاووس الملائكة في العبادة، وأصبح زعيماً للشر وأهله، حمله تكبُّره وطغيانه على الإلقاء بنفسه في دائرة غضب الله تعالى ولعنته. ولو لم تغلب عليه شقوته المتأصِّلة في نفسه، لأدرك الفضل والكرامة لآدم والمكانة المتميزة الَّتي له عند ربِّه، فلم يستهن به ولم يسخر منه. إن سخرية الإنسان من أخيه الإنسان معول فعَّال يسعى حثيثاً في تهديم العلاقات الإنسانية، وتمزيق الأُخوَّة الإيمانيَّة شرَّ مُمزَّق، حيث يستعلي المرء بماله، أو حسبه، أو جاهه مفاخرة ومباهاة وتحقيراً للآخرين، دون أن يدرك إمكانية تفوُّقهم عليه بمواصفات لا تتوافر فيه، وهذه كلُّها أسلحة إبليس يضعها بين أيدي الخلائق ليفرِّق بينهم، وليزرع العداوة والبغضاء في قلوبهم.
إن القرآن الكريم يُذَكِّر الَّذين آمنوا بأنهم وحدة متماسكة كنفس واحدة فيقول: {ولا تلمِزوا أنفسَكُم} فإذا عاب غيره من المؤمنين فكأنما يعيب نفسه، واللمز هو العيب، ومن اللمز التنابز بالألقاب الَّتي يكرهها أصحابها، ويُحِسُّون بأن إطلاقها عليهم ما هو إلا من قبيل السخرية والعيب، ومن حقِّ المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويُزري به، وقد غيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء وألقاباً كانت في الجاهلية لأصحابها، لأنه وجد فيها ما يُزري بأصحابها. أمَّا الألقاب الَّتي تُكسِبُ حمداً أو مدحاً فلا تُكره، فقد أُطلقَ على أبي بكر (الصدِّيق) وعلى عمر (الفاروق) وعلى عثمان (ذي النُّورَين) وعلى علي (المرتضى) وعلى خالد (سيف الله). ثمَّ تحذِّر الآية المؤمنين من فقدان صفة الإيمان باستخدام ألفاظ الفسق والفجور، لأن في ذلك ارتداداً إلى الجاهلية، لذا فإن من لم يتب عن نبزه أخاه بما نهى الله عنه من الألقاب، أو لمزه إيَّاه أو السخرية منه، فقد ظلم نفسه وأكسبها عقاب الله بعصيانه إيَّاه.
إن الآية الكريمة تشير إلى ضرورة تجنُّب أمور ثلاثة فيها كلُّ الإساءة إلى المجتمع الإيماني؛ وهي السخرية، واللمز، والنَّبْز. فالسخرية هي أن ينظر الإنسان إلى أخيه بازدراء ويسقطه عن درجته، واللمز هو ذِكر ما في الرجل من عيب في حضوره أو في غيبته، والنَّبْز هو أن يضيف إليه وصفاً يوجب بُغضه والحطَّ من منزلته، وبذلك يضع الإسلام قواعد اللياقة الاجتماعية والأدب النفسي للتعامل في المجتمع الإنساني الفاضل الكريم. وفى صحيح مسلم: عن جابر يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" ، وفى سنن ابن ماجه: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم "، وفى المسند لأحمد: عن أم هانئ قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } قال: " كانوا يخذفون أهل الطريق ويسخرون منهم فذلك المنكر الذي كانوا يأتون"
أما عن المزاح فله ضوابط شرعية:
ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين:(/1)
فيعد هذا من نواقض الإسلام؛ لقوله تعالى:{ ولَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ ( ) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُم ْ} التوبة: 65، 66، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : "الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه "مجموع الفتاوى، 7 / 273، ويجعل الإمام ابن قدامة ذلك ردة عن الإسلام. وهذه كالاستهزاء ببعض السنن على سبيل المزح، وببعض الأحكام الشرعية كتقصير الثوب وإعفاء اللحية أو الصلاة والصوم وغيرها. يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: "من أذنب ذنباً وهو يضحك دخل النار وهو يبكي الحلية لأبي نعيم، 4/96، والفردوس، للدليمي، 3/578.
ألا يكون إلا صدقاً ولا يكذب:
ولا سيما أولئك المعتادين لذكر الطرائف الكاذبة بقصد إضحاك الناس. روى الإمام أحمد في مسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للذي يحدِّث فيكذب ليُضحِكَ به القوم ويل له" رواه أبو داود، ح 4338. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليُضحِك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا رواه أحمد، ح 8852 . ولا شك أنهم وقعوا في ذلك بسبب الفراغ وضعف الإيمان والبعد عن ذكر الله ـ تعالى ـ، ومصاحبتهم لجلساء السوء الذين يزينون لهم بعض المحرمات.
عدم السخرية والاستهزاء بالآخرين:
فتلك محرمة وتعد من الكبائر، يقول ـ تعالى ـ: { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ ولا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ومَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الحجرات: 11، يقول ابن كثير: "المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم والاستهزاء بهم، وهذا حرام، ويُعد من صفات المنافقين "تفسير ابن كثير، 7/376.. ويقول الطبري: "اللمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان "انظر جامع البيان، 24/597.
وقد روى البيهقي في (شعب الإيمان) أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إن المستهزئين بالناس لَيُفْتَحُ لأحدهم باب الجنة فيقال: هلم، فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاء أُغلق دونه" شعب الإيمان للبيهقي، 5/310، رقم: 6757، عن الحسن مرسلاً. ويُخشى على المستهزئ أن تعود عليه تلك الخصلة التي يسخر من غيره فيها فيتصف بها ويبتلى بفعلها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك" رواه الترمذي، ح/ 2430 وقال: حديث حسن. ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السخرية بالمسلمين فقال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بِحَسْبِ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه" رواه مسلم، ح 4650.
ألا يروِّع أخاه:
فقد أورد أبو داود في سننه عن ابن أبي ليلى قال: "حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً" رواه أبو داود، ح/ 1534. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً" رواه أبو داود، ح 4350.
عدم الانهماك والاسترسال والمبالغة والإطالة:
ينبغي ألاَّ يداوَم على المزاح؛ لأن الجد سمات المؤمنين، وما المزاح إلا رخصة وفسحة لاستمرار النفس في أداء واجبها. فبعض الناس لا يفرق بين وقت الجد واللعب. وبذلك نبه الغزالي ـ رحمه الله ـ بقوله: "من الغلط العظيم أن يتخذ المزاح حرفة" إحياء علوم الدين، للغزالي 3/129 .
أن يُنْزِل الناس منازلهم:
إن العالم والكبير لهم من المهابة والوقار منزلة خاصة، ولأن المزاح قد يفضي إلى سوء الأدب معهما غالباً فينبغي الابتعاد عن المزاح معهما خشية الإخلال بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم" رواه أبو داود، ح 4203. ونقل طاووس عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: "من السنة أن يوقَّر العالِم". وكذلك من آداب الإسلام ألاَّ يمزح مع الغريب الذي لا يعرف طبيعة نفس المازح؛ فهذا يؤدي إلى استحقار المازح والاستخفاف به؛ فهذا عمر بن عبد العزيز يرسل إلى عدي بن أرطأة فيقول: "اتقوا المزاح؛ فإنه يُذْهِبُ المروءة".
ألا يكون مع السفهاء:
قال سعد بن أبي وقاص لابنه: "اقتصد في مزاحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرِّئ عليك السفهاء".
ألا يكون فيه غيبة:(/2)
الغيبة وحليفتها النميمة كلتاهما تصبان في مستنقع الفتنة، ولا يخلو مَنْ كَثُرَ مزاحه من هذه الآفة العظيمة؛ لأن من كثر كلامه كثر سقطه، فهو لا يشعر أنه وقع في الإثم أصلاً؛ لأنه ـ في زعمه ـ إنما يقول في فلان مازحاً غير قاصد ذلك. ولم يعِ تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للغيبة بقوله: "ذكرك أخاك بما يكره "رواه مسلم، ح 4690. وقد أورد الترمذي في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك: فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوججتَ اعوججنا" رواه الترمذي، ح/ 2331. والغيبة أنواع، سواء كانت في البدن أو الخلق وغيرها.
هذا ونسأل الله أن يؤدبنا بآداب الإسلام، وأن يهدينا إلى الصراط المستقيم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
السرف في الأموال والمتاع
إبراهيم محمد الحقيل
من طبيعة البشر التوسعُ في النفقات، والمبالغة في الاستهلاك، وهدرُ الأموال عند أول شعور بالثراء واليسار، ولا يعرفون أي معنى لوفرة المال إذا لم يصاحبها استهلاك أكثر، ورفاهية وتمتع بالكماليات أوسع. وقد صرح القرآن بأن من طبيعة الإنسان السرف عند الجدة، وتجاوز حدود القصد والاعتدال. قال الله ـ تعالى ـ: {كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]، وقال ـ تعالى ـ: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27].
ولتهذيب الإنسان وتربيته أمر الله ـ تعالى ـ بالقصد في الأمور كلها حتى في أمور العبادات كيلا يملها العبد. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «والقصدَ القصدَ تبلغوا» أخرجه البخاري وبوَّب عليه بقوله: «باب القصد والمداومة على العمل»(1)
وضدُّ القصد السرف وهو منهي عنه كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. قال عطاء ـ رحمه الله تعالى ـ: نُهوا عن الإسراف في كل شيء(1).
* أنواع السرف:
يُطلقُ الإسراف على الكفر؛ فمن أسرف على نفسه بالعصيان حتى وقع في الكفر فهو مسرف على نفسه، كما كان فرعون من المسرفين قال ـ تعالى ـ: {وَإنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83]، وعاقبة هذا الصنف من الناس النار خالدين فيها إن لم يتوبوا ويؤمنوا قال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127]، وفي آية أخرى قال ـ تعالى ـ: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43]. ويُطلق كلاهما على العصيان.
والعبد إذا أسرف على نفسه بالعصيان مأمور أن يتوب إلى الله ـ تعالى ـ فإنه ـ تعالى ـ يقبل توبته مهما عظُم جرمه، وكثر إسرافه كما قال ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، ومن دعاء عباد الله الصالحين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}.
[آل عمران: 147]
والإسراف في شراء الأطعمة وأكلها أو رميها من مواطن النهي الجلي في القرآن. قال ـ تعالى ـ: {كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، وكذا الإسراف في الملابس والمراكب والأثاث وغيرها محرم كما قال ـ تعالى ـ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. [الأعراف: 31]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مَخْيَلَة» (2)، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التنعم ولو كان بالمباحات؛ لأنه مظنة للسرف، وتضييع المال، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إياكم والتنعم؛ فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين» (3).
* لماذا ينهى عن السرف؟
هذا التشديد في النهي عن السرف ما كان إلا لأجل الحفاظ على الأموال والموارد التي يُسأل عنها العبد يوم القيامة؛ فهو يُسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟
والسرف يعارض حفظ المال، بل يتلفه ويؤدي إلى إفقار نفسه ومن ثم إفقار أهل بيته وقرابته وأمته، والله ـ تعالى ـ كره لنا قيل وكثرة السؤال وإضاعة المال.
إن حفظ المال فيه حفظ الدين والعرض والشرف، والأمم التي لا تمتلك المال لا يحترمها الآخرون، والشخص الذي ليس له قوة من مال أو جاه لا ينظر الناس إليه ولا يأبهون به، ومن أجل ذلك قال الحكماء: من حفظ ماله فقد حفظ الأكرميْن: الدين، والعرض(4).
ولم تحرم الشريعة اكتساب الأموال ونماءها والتزود منها، بل حضت على ذلك؛ ولكنها حرمت الطرق المحرمة في كسبها وإنفاقها.
وإن من الطرق المحرمة في إنفاقها: السرف فيها وإهدارها بغير حق، إما في سفر باذخ محرم، وإما في حفلة زواج باهظة الثمن. وإن ما ينفق من أموال على السفر إلى بلاد الكفر والفجور ليعدل ميزانيات دول كاملة، وما ينفق على حفلات الأعراس التي يلقى فائض أطعمتها في النفايات يساهم في إنقاذ الملايين ممن يموتون جوعاً، وفي كل عام يموت الآلاف من البشر جوعاً؛ فهل من حفظ المال هدره بأي طريقة؟ وهل من شكر الله ـ تعالى ـ على نعمته إنفاقه فيما يسخطه سبحانه وتعالى؟!
* حال السلف مع الأموال:(/1)
لم يكن من هدي السلف الصالح الإسراف وتضييع الأموال؛ بل كانوا مقتصدين ينفقون أموالهم في الحق، ويحفظونها عن الإنفاق فيما لا فائدة فيه. قال الحسن ـ رحمه الله ـ: «كانوا في الرحال مخاصيب، وفي الأثاث والثياب مجاديب»(1). قال الزبيدي: «أي: ما كانوا يعتنون بالتوسعة في أثاث البيت من فرش ووسائد وغيرها، وفي ثياب اللبس وما يجري مجراها كما يتوسعون في الإنفاق على الأهل»(2).
لقد كانوا ـ رحمهم الله ـ مع زهدهم وورعهم يعتنون بقليل المال ولا يحتقرون منه شيئاً مع اقتصاد في المعيشة والنفقة؛ ولذا كان القليل من المال يكفيهم.
وقد أبصرت أم المؤمنين ميمونة ـ رضي الله عنها ـ حبة رمان في الأرض فأخذتها وقالت: «إن الله لا يحب الفساد»(3).
وقال أحمد بن محمد البراثي: «قال لي بِشر ابن الحارث لما بلغه ما أنفق من تركة أبينا: قد غمني ما أُنفق عليكم من هذا المال؛ ألا فعليكم بالرفق والاقتصاد في النفقة؛ فلأن تبيتوا جياعاً ولكم مال أعجبُ إليّ من أن تبيتوا شباعاً وليس لكم مال، ثم قال له: اقرأ على والدتك السلام وقل لها: عليك بالرفق والاقتصاد في النفقة»(4).
والتقط أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ حباً منثوراً في غرفة له، وقال: «إن من فقه الرجل رفقه في معيشته»(5).
وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: «الخرق في المعيشة أخوف عندي عليكم من العوز، لا يقلُّ شيء مع الإصلاح، ولا يبقى شيء مع الفساد»(6)، وأخبارهم في ذلك كثيرة.
* السرف الجماعي المعاصر:
إن السرف في العصور المتأخرة تحوَّل من سلوك فردي لدى بعض التجار والواجدين إلى ظاهرة عامة تجتاح الأمة كلها؛ فالواجد يسرف، والذي لا يجد يقترض من أجل أن يسرف ويلبي متطلبات أسرته من الكماليات وما لا يحتاجون إليه، وهذا من إفرازات الرأسمالية العالمية التي أقنعت الناس بذلك عبر الدعاية والإعلان في وسائل الإعلام المختلفة.
إن المذاهب الرأسمالية ترى أن المحرك الأساس للإنتاج هو الطلب؛ فحيثما وجد الطلب وجد الإنتاج، ومن ثم فإن الإعلانات التجارية تتولى فتح شهية المستهلك للاستهلاك، وتلقي في روعه أنه إذا لم يستهلك السلع المعلن عنها فسيكون غير سعيد، وغير فعال، وسيظهر بمظهر غير لائق، وهذا كله جعل الناس يلهثون خلف سلع كمالية، ويبكون عليها كما يبكي المولود في طلب الرضاعة(7). واضحى رب الأسرة المستورة يستدين بالربا من البنوك لتلبية رغبة أسرته في السفر للخارج، أو لإقامة حفلة زواج لابنه أو ابنته تليق بواقع الناس، وهكذا يقال في العمران والأثاث والمراكب والملابس والمطاعم وغيرها. بينما منهج الإسلام تربية الناس لا على الاستهلاك وإنما على الاستغناء عن الأشياء بدل الاستغناء بها حتى لا تستعبدهم المادة كما هو حال كثير من الناس اليوم؛ إذ أصبحوا منساقين بلا إرادة ولا تبصُّر إلى الإسراف وهدر الأموال فيما لا ينفع تقليداً للغير.
وبعدُ: أوَ كلما جاء صيف جديد يجيء معه هدر الأموال وإتلافها وفي المسلمين مشردون محرومون لا يجدون ما يسد جوعتهم، ولا ما يكسو عورتهم: في فلسطين والشيشان، وكشمير وغيرها من بلاد المسلمين المنكوبة؟ وهل من معاني الأخوة في الدين أن تستمتع ـ أيها المسلم ـ بما أعطاك الله ـ تعالى ـ فيما حُرِّم عليك وأنت ترى مآسي إخوانك المسلمين؟! ولو لم يوجد مسلم على وجه الأرض يحتاج إلى جزء من مالك يسدُّ رمقه ويبقي على حياته لمَا حَسُن بك أن تهدر مالك في غير نفع؛ فكيف والمسلمون في كل يوم يموت منهم العشرات بل المئات من جراء التجويع والحصار والحرمان؟!
إن عدم الاهتمام بذلك قد يكون سبباً للعقوبة وزوال الأموال، وإفقار الناس؛ حتى يتمنوا ما كانوا يُلقون بالأمس في النفايات. عوذاً بالله. وكم يمر بالناس من عبر في ذلك ولكن قلَّ من يعتبر؛ فكم من أسر افتقرت من بعد الغنى؟! وكم من دول بطرت شعوبها وأسرفت على نفسها فابتلاها الله بالحروب والفتن التي عصفت بها، فتمنى أفرادها بعض ما كانوا يملكون من قبل؟!
والتاريخ مليء بأحداث من هذا النوع؛ فالمعتمد ابن عَبَّاد ـ رحمه الله ـ كان من ملوك الأندلس، ويملك الأموال الطائلة، والقصور العظيمة، ولما اشتهت زوجته وبعض بناته أن يتخوَّضن في الطين أمر بالعنبر والعود فوضع في ساحة قصره، ورُشَّ عليه ماء الورد وأنواع من الطيب، وعُجِن حتى صار مثل الطين؛ فتخوَّضت فيه أسرته المترفة. وما ماتت تلك الأسرة المترفة حتى ذاقت طعم الفقر وألم الجوع؛ إذ استولى يوسف بن تاشفين على مملكة ابن عباد، وكان النسوة اللائي تخوَّضن في العود والعنبر لا يجدن ما يأكلن إلا من غزل الصوف بأيديهن الذي لا يسد إلا بعض جوعهن.(/2)
وهذا أبو عبد الله الزغل من آخر ملوك غرناطة الأندلسية باع أملاكه فيها بعد أن استولى عليها النصارى، وحمل مالاً عظيماً قُدِّر بخمسة ملايين من العملة المعروفة آنذاك بـ (المراويد) ورحل إلى إفريقيا؛ فقبض عليه سلطان فاس وصادر أمواله، وسمل عينيه، ورماه في السجن بسبب بيعه غرناطة للنصارى وتخليه عنها، ولما خرج من السجن لم يجد من يطعمه ويؤويه، فأخذ يستعطي الناس في الأسواق، ويطوف وعلى ثيابه رق غزال مكتوب عليه: (هذا سلطان الأندلس العاثر المجد) لعل من يراه يرحمه ويعطيه بعض المال(1).
فالتاريخ أبان لنا عاقبة المسرفين التي كانت ذلاً وخسراً؛ فواجب علينا أن لا نطغى إذا أُعطينا؛ بل نشكر المنعم ـ سبحانه ـ بتسخير نعمه لطاعته والاقتصاد في الإنفاق؛ فذلك خير لنا في الدنيا والآخرة، وهو سبب حفظ المال. والله حسبنا ونعم الوكيل.
-----------------------------
(1) انظر: صحيح البخاري، كتاب الرقاق، وهو جزء من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ «لن ينجي أحداً منكم عمله» (6463).
(1) الأدب المفرد، للبخاري، (2/ 182) عن نضرة النعيم (9/3894).
(2) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به. انظر الفتح (10/253)، والنسائي في الزكاة باب الاختيال في الصدقة (5/78) وابن ماجة في اللباس باب: البس ما شئت ما أخطأك سرف أو مخيلة (3605) وصححه الألباني في صحيح النسائي (2399).
(3) أخرجه أحمد (5/244) قال المنذري: ورجاله ثقات (3/142) وذكره الألباني في الصحيحة (353) وحسنه في صحيح الجامع (2665).
(4) عيون الأخبار، لابن قتيبة (1/351).
(1) إحياء علوم الدين مع اتحاف السادة المتقين (6/160).
(2) اتحاف السادة المتقين، للزبيدي (6/160).
(3) الطبقات الكبرى، لابن سعد (8/110).
(4) الحث على التجارة والصناعة والعمل، لأبي بكر الخلال (58 ـ 59) برقم (32).
(5) المصدر السابق (42)، والزهد، لوكيع (3/782).
(6) المصدر السابق (41040) برقم (14)، ومناقب عمر بن الخطاب، لابن الجوزي (196).
(7) انظر: مدخل إلى التنمية المتكاملة، الدكتور عبد الكريم بكار (343).
(1) انظر: خلاصة تاريخ الأندلس، لشكيب أرسلان (259)(/3)
السعادة المنشودة
190
فضائل الإيمان
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- السعادة مطلب الجميع. 2- السعادة هبة من الله يعطيها لمن أطاعه. 3- الهم والحزن والأرق السهر جند من جند الله يسلطها الله على من شاء. 4- السعادة ليست كما يتصورها البعض مالاً وقصوراً. 5- السعادة كما عرّف طريقها النبي والسلف الكرام. 6- أبواب الشقاء كثيرة منها الغناء والنفاق والذنوب.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ، اتقوه واعبدوه وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]. افعلوا الخير واسجدوا لربكم واركعوا مع الراكعين.
أيها المسلمون، لا يعرف مفقود، تواطأ الناس على البحث عنه، والإعياء في طلابه، وهم مع ذلك يسيرون في غير مساره، ويلتمسونه في غير مظانه، مثل السعادة والطمأنينة والبال الرخي، فلله ما أقل عارفيها! وما أقل في أولئك العارفين من يقدرها ويغالي بها ويعيش لها!
بل لو غلغل النظر في بعض عارفيها، لما وجد إلا حق قليل، يكتنفه باطل كثيف، حق يعرف في خفوت كأنه نجمة توشك أن تنطفئ في أعماء الليل، وما أكثر العواصف التي تهب علينا وتملأ آفاقنا بالغيوم المرعدة! وكم يواجه المرء منا بما يكره، ويحرم ما يشتهي، وهنا يجيء دور السعادة التي تطارد الجزع، والرضا الذي ينفي السخط.
السعادة التي تسير مع الإنسان حيث استقلت ركائبه، وتنزل إن نزل وتدفن في قبره، السعادة التي يعبّر عنها شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ في أوج إحساسه بها: "ما يفعل بي أعدائي؟ إن سجني خلوة، وإن قتلي شهادة، وإن تشريدي سياحة في سبيل الله".
إن الحديث عن السعادة والشقاء، سيظل باقيا ما دام في الدنيا حياة وأحياء، وإن كل إنسان على هذه البسيطة ليبحث عنها جاهدا، ويود الوصول إليها والحصول عليها، ولو كلفه ذلك كل ما يملك، ألا وإن جمعا من الواهمين يعرفون السعادة بأنهالا حقيقة لها، وأنها خيال يبتدعه الوهم ويكذبه الواقع.
والحق ـ عباد الله ـ، أن هؤلاء جاهلون أو مخادعون؛ لأنه لا يعقل ألبتة أن يخلقنا الله ثم يريد لنا أن نشقى جميعا، كيف ذلك؟ والله يقول لنبيه : طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى [طه:1، 2]. ويقول: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى [طه:123].
السعادة ـ عباد الله ـ هي جنة الأحلام، التي ينشدها كل البشر، من المثقف المتعلم في قمة تفكيره وتجريده، إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته، ومن السلطان في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الصغير يعيش على تراب الإملاق، ولا نحسب أحدا منهم يبحث عمدا عن الشقاء لنفسه أو يرضى بتعاستها.
أيها المسلمون، إن العبد بغير إيمان مخلوق ضعيف، وإن من ضعفه أنه إذا أصابه شر جزع، وإذا أصابه خير منع، وهو في كلتا الحالين قلق هلع إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلّينَ [المعارج:19-22].
إن فقدان السعادة من قلب المرء، يعني بداهةً، حلولَ القلق والاضطراب النفسي في شخصه، فتجتمع عليه السباع الأربعة، التي تهد البدن وتوهنه، فضلا عن كونها تحلق سعادته وتقصر اطمئنانه، ألا وهي الهم والحزن والأرق والسهر .
ولا أشد ـ عباد الله ـ، من وقوع الهم في حياة العبد، إذ هو جند من جنود الله ـ عز وجل ـ سلطه على من يشاء من عباده ممن كان ضعيف الصلة بالله، خوي الروح، مرتعا للمعاصي والذنوب وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [الفتح:7].
ولقد سئل علي بن أبي طالب وأرضاه: من أشد جند الله؟ قال: (الجبال، الجبال يقطعها الحديد ؛ فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد؛ فالنار أقوى، الماء يطفئ النار؛ فالماء أقوى، السحاب يحمل الماء؛ فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب، فالريح أقوى والإنسان يتكفأ الريح بيده وثوبه؛ فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان؛ فالنوم أقوى، والهم يغلب النوم؛ فأقوى جند الله هو الهم يسلطه الله على من يشاء من عباده).(/1)
فالمفهوم إذاً ـ عباد الله ـ أن السعادة والطمأنينة عطاء من الله ورحمة، كما أن الهم والقلق والضيق غضب من الله ومحنة، فقد يلتقي الملتقيان يتواجهان النفس بالنفس، وبينهما من الفوارق كما بين السماء والأرض، بل وفي أحلك الظروف، وحين تدلهم الخطوب يظهر البون شاسعا بين موفق سعيد يغبط، وبين هلع جزع يتعوذ بالله من حاله، ولقد ذكر الله مثل هذا في كتابه الحكيم عن غزوة أحد حينما ألقى النوم والنعاس على المؤمنين، في حين أن القتال قائم بعد سويعات ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مّنْكُمْ [آل عمران:154]. النعاس في هذه الحال دليل على الأمن والأمان، لمن كانوا جازمين بأن الله سينصر رسوله، وينجز له مأموله، ولهذا قال عن الطائفة الأخرى وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَىْء [آل عمران:154]؛ أي من القلق والجزع والخوف، وهذا شأن أهل الريب والشك، يعيشون بين (لو) المتندمة و(ليت) المتسحرة.
عباد الله، إن السعادة عبارة يتوهم معظم الناس في تفسيرها ولا يتفقون عليها، يجلبون بخيلهم ورجلهم على ما يتوهمونه، ثم يعودون بخفي حنين وكأنهم خرف يكلم الأشباح، أو يطعن في الرياح، فصاروا كطالب اللؤلؤ في الفلاة، مجهود البدن كسير النفس خائب الرجاء. فظن الغني منهم أن سعادته كامنة في صحته وعمارة قصره، وتوهمها الفقير في الثروة والملبس الحسن، وأكد السياسي أنها في تحقق الأهداف، والمهارة في جعل الجور عدلا والقوة شرا، وجزم العاشق على أنها في الوصال، والتيم بمعشوقه، وعند فلان كذا وعند علان هي ذا...
ولكن المنصف الملهم ـ عباد الله ـ حينما يبرق بعيني بصيرته، ليعلم يقينا سخف التخمين وسحق الهوة التي يقع فيها أصحاب الأوهام المعلولة ؛ فإذا بالغني يرى أن قصره المشيد قد شاطره السعادة الموهومة فيه، خدمه وحشمه بل وكلب حراسته وفيله، فتأكد له جيدا، أن السعادة لا تتمثل في بناء الدور وتشييد القصور، وإذا بالفقير المرهق، ينظر إلى أصحاب الثروة واللباس الفاخر ملتاثين بطيف سعادة، إنما هي رجع ضوء منعكس على سحابة عما قريب ستنقشع؛ فيقول في قرارة نفسه: هذا القطن الذي يلبسونه، كان في الغابة على الأشجار، والحرير الذي يباهون به في بطن دودة تعيش في الأوكار، أما الحلي الذي يلبسونه فقد كان وسط أحجار ينقلها بغل أو حمار، فيتيقن حينئذ أن السعادة الحقة، قد تمثلت في مثل شخص الفاروق في حين إن البردة تكسوه مرقعة، والزيت أدم له والكوخ مأواه، ومع ذلك يهتز كسرى على كرسيه فرقا من خوفه وملوك الروم تخشاه.
فالسعادة إذاً ـ يا رعاكم الله ـ، ليست في وفرة المال ولا سطوة الجاه، ولا كثرة الولد، ولا حسن السياسة، السعادة أمر لا يقاس بالكم ولا يشترى بالدنانير، لا يملك بشر أن يعطيها، كما أنه لا يملك أن ينتزعها ممن أوتيها.
السعادة دين يتبعه عمل، ويصحبه حمل النفس على المكاره، وجبلها على تحمل المشاق والمتاعب، وتوطينها لملاقاة البلاء بالصبر، والشدائد بالجلد، والسعيد من آثر الباقي على لفاني إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدّاً [مريم:96]. ذالِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
السعادة ـ أيها المسلمون ـ، هي الرضا بالله والقناعة بالمقسوم والثقة بالله واستمداد المعونة منه، من ذاق طعم الإيمان ذاق طعم السعادة، قال رسول الله : ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا)) [رواه مسلم][1].
ولذا فإن من أضاع نعمة الرضا، أصابه سُعار الحرص والجشع؛ فهو يطمع ولا يقنع ويجمع ولا يدفع، يأكل كما تأكل الأنعام، ويشرب كما تشرب الهيم، ولقد صدق رسول الله ؛ حيث يقول: ((من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله)) [رواه الترمذي][2].
ولقد كتب الفاروق إلى أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ يقول له: (أما بعد، فإن الخير كله في الرضى، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر).
إذاً يا عباد الله، لا تخش غمًّا ولا تشكُ هماً، ولا يصبك قلق مادام أمرك متعلقا بقول الله ـ جل وعلا ـ في الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)) [رواه البخاري ومسلم][3].
بهذا الحديث وأمثاله بدت السعادة في وجوه السعداء، والتي يعبر عنها من أحس بنشوتها من أئمة الإسلام فيقول: "إننا نحس بسعادة لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بحد سيوفهم".
السعادة التي يمثلها من يغدو في خمائلها ويقول: "إنه لتمر علي ساعات أقول فيها: لو كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه الآن لكانوا إذاً في عيش طيب".(/2)
إن أمثال هؤلاء هم الذين ابتسموا للحياة حينما كشرت عن أنيابها، واستقبلوا الآلام بالرضى والتسليم، اللذين يحولانها إلى نعمة تستحق الشكر والحمد، على حين أنها عند غيرهم مصائب تستوجب الصراخ والعويل.
فإذا كانت السعادة شجرة منبتها النفس البشرية، فإن الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هو ماؤها وغذاؤها وهواؤها وضياؤها الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ امَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ [الرعد:28، 29].
[1] صحيح مسلم ح (34).
[2] ضعيف، سنن الترمذي ح (2151) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد، ويقال له أيضًا حماد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم المدني، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث.
[3] صحيح البخاري ح (7405)، صحيح مسلم ح (2675).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه .
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن العلم الذي يبصر ويهدي، والهمة التي تحفز وترقي، إنما هما في الحقيقة مفتاحا مراتب السعادة والفلاح، وإنما تفوت هذه المراتب العبد من هاتين الجهتين أو من إحداهما، فإما أن لا يكون له علم بها، فلا يتحرك في طلبها، أو يكون علم بها ولا تنهض همته إليها فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ [آل عمران:159].
ألا فاعلموا عباد الله أن لفقدان السعادة أبوابا ينبغي إحكام إغلاقها وكشف عوراتها، فمن ذلك الغناء مزمار الشيطان، ورقية الزنا، الذي ينبت النفاق والقلق كما ينبت الماء الكلأ، يقول الله فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [لقمان:6]. ولقد أقسم ابن مسعود ثلاثا على أنه الغناء.
كما أن من مهلكات السعادة، جعل البيت المسلم محلا لمردة الجن وبعد الملائكة، وذلك بنشر الصور التي حرمها الشارع على جدرانه وفي فنائه، ورسول الله يقول: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة))[1]، فما بال الكثيرين يغلقون أبوابهم في وجوه الملائكة ويستدعون أسباب الشقاء والقلق ثم هم ينشدون السعادة بعد ذلك؟!
وبعدُ ـ عباد الله ـ فإن من أبواب الشقاء: الذنوب والمعاصي التي قال عنها المصطفى : ((إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )) [رواه أحمد][2]. وقد قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ في مسنده: "وجد في خزائن بني أمية حنطة، الحبة بقدر نواة التمر وهي في صرة مكتوب عليها: هذا كان ينبت في زمن العدل".
ولذا ـ عباد الله ـ فإن سعادة القلب، المثمرة بركة الرزق منوطة بالطاعة والتقوى، ولقد جاء عند مسلم في صحيحه في وصف المهدي المنتظر الحديث وفيه: ((ويقيم الدين الذي بعث الله به رسوله، وتخرج الأرض بركتها وتعود كما كانت، حتى إن العصابة من الناس ليأكلون الرمانة ويستظلون بقحفها – أي قشرها – ويكون العنقود من العنب حمل بعير..)) الحديث[3].
ومن أسباب القلق ـ أيها المسلمون ـ التهاونُ بشأن الصلاة أو التقليل منها، ورسول الله يقول: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة )) [رواه أحمد والنسائي][4].
(وكان إذا حزبه أمر اشتد عليه لجأ إلى الصلاة) [رواه أحمد وأبو داود][5]. ثم إن ترك الذكر والدعاء والاستغفار، محل للشقاء والهم والحزن، ولذا كان لزاما على من ينشد السعادة ألا يغفل هذا الأمر المهم، بل عليه أن يمسك بزمامه، ويعضّ عليه بالنواجذ، وليستحضر قول النبي : ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) [رواه أبو داود والنسائي][6].
ولقد دخل رسول الله المسجد ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة فقال: ((يا أبا أمامة، مالي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة؟)) قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. قال: ((أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: الله إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)). وقال أبو أمامة: "ففعلت ذلك، فأذهب الله همي وقضى عني ديني". [رواه أبو داود][7].
[1] أخرجه البخاري ح (3225)، ومسلم ح (2106).(/3)
[2] مسند أحمد (5/280) وأخرجه أيضًا ابن ماجه ح (4022) ولفظ أحمد: ((لا يرد القدر إلاالدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البرّ، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)). وقد ثبت الحديث دون قوله: ((وإن العبد ليحرم...)) فإن هذه الزيادة رُويت بسند فيه عبد الله بن أبي الجعد، قال عنه الذهبي في "ميزان الاعتدال" (2/400): وعبد الله هذا وإن كان وُثق ففيه جهالة. وانظر السلسلة الصحيحة (154).
[3] صحيح مسلم ح (2137).
[4] صحيح، مسند أحمد (3/128)، سنن النسائي ح (3939).
[5] حسن، أخرجه أحمد (5/338)، وأبو داود ح (1319)، ولم أجده في سنن النسائي.
[6] ضعيف، سنن أبي داود ح (1518) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (456). كما أخرجه أحمد (1/248) وابن ماجه (3819) والحاكم (4/262) وصححه وتعقبه الذهبي بقوله: الحكم فيه جهالة. وانظر السلسلة الضعيفة (705).
[7] سنن أبي داود ح (1555) وفي إسناده غسان بن عوف المازني. قال ابن حجر: لين الحديث. التقريب (5393).(/4)
... ... ...
السعادة المنشودة ... ... ...
سعود الشريم ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- السعادة مطلب الجميع. 2- السعادة هبة من الله يعطيها لمن أطاعه. 3- الهم والحزن والأرق السهر جند من جند الله يسلطها الله على من شاء. 4- السعادة ليست كما يتصورها البعض مالاً وقصوراً. 5- السعادة كما عرّف طريقها النبي والسلف الكرام. 6- أبواب الشقاء كثيرة منها الغناء والنفاق والذنوب. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ، اتقوه واعبدوه وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]. افعلوا الخير واسجدوا لربكم واركعوا مع الراكعين.
أيها المسلمون، لا يعرف مفقود، تواطأ الناس على البحث عنه، والإعياء في طلابه، وهم مع ذلك يسيرون في غير مساره، ويلتمسونه في غير مظانه، مثل السعادة والطمأنينة والبال الرخي، فلله ما أقل عارفيها! وما أقل في أولئك العارفين من يقدرها ويغالي بها ويعيش لها!
بل لو غلغل النظر في بعض عارفيها، لما وجد إلا حق قليل، يكتنفه باطل كثيف، حق يعرف في خفوت كأنه نجمة توشك أن تنطفئ في أعماء الليل، وما أكثر العواصف التي تهب علينا وتملأ آفاقنا بالغيوم المرعدة! وكم يواجه المرء منا بما يكره، ويحرم ما يشتهي، وهنا يجيء دور السعادة التي تطارد الجزع، والرضا الذي ينفي السخط.
السعادة التي تسير مع الإنسان حيث استقلت ركائبه، وتنزل إن نزل وتدفن في قبره، السعادة التي يعبّر عنها شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ في أوج إحساسه بها: "ما يفعل بي أعدائي؟ إن سجني خلوة، وإن قتلي شهادة، وإن تشريدي سياحة في سبيل الله".
إن الحديث عن السعادة والشقاء، سيظل باقيا ما دام في الدنيا حياة وأحياء، وإن كل إنسان على هذه البسيطة ليبحث عنها جاهدا، ويود الوصول إليها والحصول عليها، ولو كلفه ذلك كل ما يملك، ألا وإن جمعا من الواهمين يعرفون السعادة بأنهالا حقيقة لها، وأنها خيال يبتدعه الوهم ويكذبه الواقع.
والحق ـ عباد الله ـ، أن هؤلاء جاهلون أو مخادعون؛ لأنه لا يعقل ألبتة أن يخلقنا الله ثم يريد لنا أن نشقى جميعا، كيف ذلك؟ والله يقول لنبيه : طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى [طه:1، 2]. ويقول: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى [طه:123].
السعادة ـ عباد الله ـ هي جنة الأحلام، التي ينشدها كل البشر، من المثقف المتعلم في قمة تفكيره وتجريده، إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته، ومن السلطان في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الصغير يعيش على تراب الإملاق، ولا نحسب أحدا منهم يبحث عمدا عن الشقاء لنفسه أو يرضى بتعاستها.
أيها المسلمون، إن العبد بغير إيمان مخلوق ضعيف، وإن من ضعفه أنه إذا أصابه شر جزع، وإذا أصابه خير منع، وهو في كلتا الحالين قلق هلع إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلّينَ [المعارج:19-22].
إن فقدان السعادة من قلب المرء، يعني بداهةً، حلولَ القلق والاضطراب النفسي في شخصه، فتجتمع عليه السباع الأربعة، التي تهد البدن وتوهنه، فضلا عن كونها تحلق سعادته وتقصر اطمئنانه، ألا وهي الهم والحزن والأرق والسهر .
ولا أشد ـ عباد الله ـ، من وقوع الهم في حياة العبد، إذ هو جند من جنود الله ـ عز وجل ـ سلطه على من يشاء من عباده ممن كان ضعيف الصلة بالله، خوي الروح، مرتعا للمعاصي والذنوب وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [الفتح:7].
ولقد سئل علي بن أبي طالب وأرضاه: من أشد جند الله؟ قال: (الجبال، الجبال يقطعها الحديد ؛ فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد؛ فالنار أقوى، الماء يطفئ النار؛ فالماء أقوى، السحاب يحمل الماء؛ فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب، فالريح أقوى والإنسان يتكفأ الريح بيده وثوبه؛ فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان؛ فالنوم أقوى، والهم يغلب النوم؛ فأقوى جند الله هو الهم يسلطه الله على من يشاء من عباده).(/1)
فالمفهوم إذاً ـ عباد الله ـ أن السعادة والطمأنينة عطاء من الله ورحمة، كما أن الهم والقلق والضيق غضب من الله ومحنة، فقد يلتقي الملتقيان يتواجهان النفس بالنفس، وبينهما من الفوارق كما بين السماء والأرض، بل وفي أحلك الظروف، وحين تدلهم الخطوب يظهر البون شاسعا بين موفق سعيد يغبط، وبين هلع جزع يتعوذ بالله من حاله، ولقد ذكر الله مثل هذا في كتابه الحكيم عن غزوة أحد حينما ألقى النوم والنعاس على المؤمنين، في حين أن القتال قائم بعد سويعات ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مّنْكُمْ [آل عمران:154]. النعاس في هذه الحال دليل على الأمن والأمان، لمن كانوا جازمين بأن الله سينصر رسوله، وينجز له مأموله، ولهذا قال عن الطائفة الأخرى وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَىْء [آل عمران:154]؛ أي من القلق والجزع والخوف، وهذا شأن أهل الريب والشك، يعيشون بين (لو) المتندمة و(ليت) المتسحرة.
عباد الله، إن السعادة عبارة يتوهم معظم الناس في تفسيرها ولا يتفقون عليها، يجلبون بخيلهم ورجلهم على ما يتوهمونه، ثم يعودون بخفي حنين وكأنهم خرف يكلم الأشباح، أو يطعن في الرياح، فصاروا كطالب اللؤلؤ في الفلاة، مجهود البدن كسير النفس خائب الرجاء. فظن الغني منهم أن سعادته كامنة في صحته وعمارة قصره، وتوهمها الفقير في الثروة والملبس الحسن، وأكد السياسي أنها في تحقق الأهداف، والمهارة في جعل الجور عدلا والقوة شرا، وجزم العاشق على أنها في الوصال، والتيم بمعشوقه، وعند فلان كذا وعند علان هي ذا...
ولكن المنصف الملهم ـ عباد الله ـ حينما يبرق بعيني بصيرته، ليعلم يقينا سخف التخمين وسحق الهوة التي يقع فيها أصحاب الأوهام المعلولة ؛ فإذا بالغني يرى أن قصره المشيد قد شاطره السعادة الموهومة فيه، خدمه وحشمه بل وكلب حراسته وفيله، فتأكد له جيدا، أن السعادة لا تتمثل في بناء الدور وتشييد القصور، وإذا بالفقير المرهق، ينظر إلى أصحاب الثروة واللباس الفاخر ملتاثين بطيف سعادة، إنما هي رجع ضوء منعكس على سحابة عما قريب ستنقشع؛ فيقول في قرارة نفسه: هذا القطن الذي يلبسونه، كان في الغابة على الأشجار، والحرير الذي يباهون به في بطن دودة تعيش في الأوكار، أما الحلي الذي يلبسونه فقد كان وسط أحجار ينقلها بغل أو حمار، فيتيقن حينئذ أن السعادة الحقة، قد تمثلت في مثل شخص الفاروق في حين إن البردة تكسوه مرقعة، والزيت أدم له والكوخ مأواه، ومع ذلك يهتز كسرى على كرسيه فرقا من خوفه وملوك الروم تخشاه.
فالسعادة إذاً ـ يا رعاكم الله ـ، ليست في وفرة المال ولا سطوة الجاه، ولا كثرة الولد، ولا حسن السياسة، السعادة أمر لا يقاس بالكم ولا يشترى بالدنانير، لا يملك بشر أن يعطيها، كما أنه لا يملك أن ينتزعها ممن أوتيها.
السعادة دين يتبعه عمل، ويصحبه حمل النفس على المكاره، وجبلها على تحمل المشاق والمتاعب، وتوطينها لملاقاة البلاء بالصبر، والشدائد بالجلد، والسعيد من آثر الباقي على لفاني إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدّاً [مريم:96]. ذالِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
السعادة ـ أيها المسلمون ـ، هي الرضا بالله والقناعة بالمقسوم والثقة بالله واستمداد المعونة منه، من ذاق طعم الإيمان ذاق طعم السعادة، قال رسول الله : ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا)) [رواه مسلم][1].
ولذا فإن من أضاع نعمة الرضا، أصابه سُعار الحرص والجشع؛ فهو يطمع ولا يقنع ويجمع ولا يدفع، يأكل كما تأكل الأنعام، ويشرب كما تشرب الهيم، ولقد صدق رسول الله ؛ حيث يقول: ((من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله)) [رواه الترمذي][2].
ولقد كتب الفاروق إلى أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ يقول له: (أما بعد، فإن الخير كله في الرضى، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر).
إذاً يا عباد الله، لا تخش غمًّا ولا تشكُ هماً، ولا يصبك قلق مادام أمرك متعلقا بقول الله ـ جل وعلا ـ في الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)) [رواه البخاري ومسلم][3].
بهذا الحديث وأمثاله بدت السعادة في وجوه السعداء، والتي يعبر عنها من أحس بنشوتها من أئمة الإسلام فيقول: "إننا نحس بسعادة لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بحد سيوفهم".
السعادة التي يمثلها من يغدو في خمائلها ويقول: "إنه لتمر علي ساعات أقول فيها: لو كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه الآن لكانوا إذاً في عيش طيب".(/2)
إن أمثال هؤلاء هم الذين ابتسموا للحياة حينما كشرت عن أنيابها، واستقبلوا الآلام بالرضى والتسليم، اللذين يحولانها إلى نعمة تستحق الشكر والحمد، على حين أنها عند غيرهم مصائب تستوجب الصراخ والعويل.
فإذا كانت السعادة شجرة منبتها النفس البشرية، فإن الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هو ماؤها وغذاؤها وهواؤها وضياؤها الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ امَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ [الرعد:28، 29].
[1] صحيح مسلم ح (34).
[2] ضعيف، سنن الترمذي ح (2151) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد، ويقال له أيضًا حماد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم المدني، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث.
[3] صحيح البخاري ح (7405)، صحيح مسلم ح (2675). ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه .
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن العلم الذي يبصر ويهدي، والهمة التي تحفز وترقي، إنما هما في الحقيقة مفتاحا مراتب السعادة والفلاح، وإنما تفوت هذه المراتب العبد من هاتين الجهتين أو من إحداهما، فإما أن لا يكون له علم بها، فلا يتحرك في طلبها، أو يكون علم بها ولا تنهض همته إليها فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ [آل عمران:159].
ألا فاعلموا عباد الله أن لفقدان السعادة أبوابا ينبغي إحكام إغلاقها وكشف عوراتها، فمن ذلك الغناء مزمار الشيطان، ورقية الزنا، الذي ينبت النفاق والقلق كما ينبت الماء الكلأ، يقول الله فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [لقمان:6]. ولقد أقسم ابن مسعود ثلاثا على أنه الغناء.
كما أن من مهلكات السعادة، جعل البيت المسلم محلا لمردة الجن وبعد الملائكة، وذلك بنشر الصور التي حرمها الشارع على جدرانه وفي فنائه، ورسول الله يقول: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة))[1]، فما بال الكثيرين يغلقون أبوابهم في وجوه الملائكة ويستدعون أسباب الشقاء والقلق ثم هم ينشدون السعادة بعد ذلك؟!
وبعدُ ـ عباد الله ـ فإن من أبواب الشقاء: الذنوب والمعاصي التي قال عنها المصطفى : ((إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )) [رواه أحمد][2]. وقد قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ في مسنده: "وجد في خزائن بني أمية حنطة، الحبة بقدر نواة التمر وهي في صرة مكتوب عليها: هذا كان ينبت في زمن العدل".
ولذا ـ عباد الله ـ فإن سعادة القلب، المثمرة بركة الرزق منوطة بالطاعة والتقوى، ولقد جاء عند مسلم في صحيحه في وصف المهدي المنتظر الحديث وفيه: ((ويقيم الدين الذي بعث الله به رسوله، وتخرج الأرض بركتها وتعود كما كانت، حتى إن العصابة من الناس ليأكلون الرمانة ويستظلون بقحفها – أي قشرها – ويكون العنقود من العنب حمل بعير..)) الحديث[3].
ومن أسباب القلق ـ أيها المسلمون ـ التهاونُ بشأن الصلاة أو التقليل منها، ورسول الله يقول: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة )) [رواه أحمد والنسائي][4].
(وكان إذا حزبه أمر اشتد عليه لجأ إلى الصلاة) [رواه أحمد وأبو داود][5]. ثم إن ترك الذكر والدعاء والاستغفار، محل للشقاء والهم والحزن، ولذا كان لزاما على من ينشد السعادة ألا يغفل هذا الأمر المهم، بل عليه أن يمسك بزمامه، ويعضّ عليه بالنواجذ، وليستحضر قول النبي : ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) [رواه أبو داود والنسائي][6].
ولقد دخل رسول الله المسجد ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة فقال: ((يا أبا أمامة، مالي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة؟)) قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. قال: ((أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: الله إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)). وقال أبو أمامة: "ففعلت ذلك، فأذهب الله همي وقضى عني ديني". [رواه أبو داود][7].
[1] أخرجه البخاري ح (3225)، ومسلم ح (2106).(/3)
[2] مسند أحمد (5/280) وأخرجه أيضًا ابن ماجه ح (4022) ولفظ أحمد: ((لا يرد القدر إلاالدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البرّ، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)). وقد ثبت الحديث دون قوله: ((وإن العبد ليحرم...)) فإن هذه الزيادة رُويت بسند فيه عبد الله بن أبي الجعد، قال عنه الذهبي في "ميزان الاعتدال" (2/400): وعبد الله هذا وإن كان وُثق ففيه جهالة. وانظر السلسلة الصحيحة (154).
[3] صحيح مسلم ح (2137).
[4] صحيح، مسند أحمد (3/128)، سنن النسائي ح (3939).
[5] حسن، أخرجه أحمد (5/338)، وأبو داود ح (1319)، ولم أجده في سنن النسائي.
[6] ضعيف، سنن أبي داود ح (1518) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (456). كما أخرجه أحمد (1/248) وابن ماجه (3819) والحاكم (4/262) وصححه وتعقبه الذهبي بقوله: الحكم فيه جهالة. وانظر السلسلة الضعيفة (705).
[7] سنن أبي داود ح (1555) وفي إسناده غسان بن عوف المازني. قال ابن حجر: لين الحديث. التقريب (5393). ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
السعادة والنجاة في الصلة بالله
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
السعادة والنجاة في الصلة بالله ، حقيقة لا بد من اليقين بها ، و لا مخرج إلا بامتثالها وتطبيقها ، كم في الصدور من ضيق ومن حرج .. كم في القلوب من هموم وغموم .. كم في الحياة من مشكلات ومعضلات ..كم في العلاقات من سوء وانقطاع .. كم في الأبناء من عقوق وتمرد .. كم في الحياة من صور مختلفة من الابتلاءات .. يفضي المرء بها إلى شقاء عظيم ، وإلى بلاء كبير وتلك في أصل خلقتها سنة الله - جل وعلا - في الحياة .. { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا } ، إنها حياة ابتلاء من لم يكن له بالله صلة صار له ابتلاء وشقاء .
وإن المرء ليتأمل فيجد في حياة الناس في الجملة أسبابا كثيرة من أسباب النكد والهم والغم ، فذاك حزين كاسف البال ؛ لأنه لم يجد ما يريد وما يطمع فيه من المال .. وذاك حزين متألم لما وجد من خصومة زوجته وعقوق أبنائه .. وهذا متذمر من سوء جيرانه وأذاهم .. والأخير متألم مكوي بنار في قلبه من ظلم الطغاة والجبابرة وقهرهم له وأخذهم لحقه ، فأي شيء يسرّي عن تلك النفوس وما فيها من الأحزان والآلام ، وأي شيء يسكب في تلك القلوب الحزينة الكسيفة الطمأنينة والسكينة ، وكيف تخلص السعادة واللذة إلى النفوس والأرواح رغم كل هذه البلايا والرزايا .. إن الدنيا كلها وما فيها من متع وشهوات لا يمكن أن تحل هذه المشكلات ، ولا أن تزيل تلك الهموم ، وإن أسباب القوة المادية من جاه وسلطان لا يمكن كذلك أن يكون لها أدنى أثر ولا أقل فائدة ، إنه لا بد لنا أن نعرف أصل خلقتنا ، قبضة طين ونفخة روح : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } .
إنها الأرواح أثر من نفخة روح الله - عز وجل - إنها القلوب والنفوس لا يطعمها ولا يغذيها ولا يشبعها ولا يرويها غذاء وشراب وطعام من أثر هذه الحياة الدنيا ، وإنما غذائها روحي وإنما ريها رباني وإن تطلعها لما في الملأ الأعلى ، لا بد أن ندرك هذه الحقيقة وإن لم يكن الأمر كذلك ؛ فإنه الشقاء المحتوم ، والبلاء الدائم ، والهمُّ العظيم ، والغمُّ المتوالي .. ذلك ما نشكو منه .. ذلك مانحس به ؛ لأن القلوب لم يخلص إليها روح من الله - عز وجل - من أثر التعلق به وحسن الصلة به ، وذلك مادلّت عليه الآيات ، وما استنبطه العلماء ، وما بينته وقائع سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فلنقف هذه الوقفات التي نحن في أمسّ الحاجة إليها مع صعوبة وشدة وشقاء عناء هذه الحياة ، قال ابن القيم - رحمه الله - في إطلالة قرآنية ، واستنباطات روحانية ، ودلالات علمية ، تكشف حقيقة الحياة البشرية ، وتدل على سبل النجاة الحقيقية ، قال رحمه الله تعالى : " قوله جل وعلا : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } متضمن لكنز من الكنوز وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيده ، وأن طلبه من غيره ممن ليس عنده ولا يقدر عليه ، أمر غير محمود ولا معقول ، وقوله جل وعلا : { وأن إلى ربك المنتهى } متضمن لكنز عظيم ، وهو أن كل مراد لم يرد لأجله ، ويتصل به فهو مضمحل منقطع ؛ فإنه ليس إليه المنتهى ، ليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت له الأمور كلها ، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه فهو غاية كل مطلوب وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب ، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل ، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه ، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } ، واجتمع كل ما يراد له في قوله : { وأن إلى ربك المنتهى } ، فليس ورائه سبحانه غاية تطلب .. وليس دونه غاية إليها المنتهى ، وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ولا يسكن إلا بالوصول إليه " ، إنها حقائق القرآن .. إنها الوقائع الحقيقية في حياة البشرية ، أفلا ترون غير المسلمين عموما والمسلمين الشاردين عن طاعة الله خصوصا .. كيف تأثرت لهم أسباب الدنيا ، وكيف كسروا حواجز الحرام ، فهربوا من شهواتها وملذاتها ، وكيف تيسرت لهم كثير من الأسباب التي يتمناها غيرهم من الناس ، فهل خلصت السعادة إلى نفوسهم ؟ وهل سكنت الطمأنينة قلوبهم ؟ كلا ! والله إنك لترى الشقاء مرسوماً على جباههم ، وبادياً في وجوههم ، وظاهراً في حزنهم ، ومتجلياً في كسف بالهم .. إنك تراهم وقد ملكوا الدنيا وأسبابها وهم ما يزالون في نكد وبلاء وضيق ؛ لأن شقاء الدنيا كله قد جمعته وأوجزته حقيقة ربانية في شطر آية قرآنية : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } .(/1)
ضنك في كل شيء .. ضنك في أسباب الحياة المادية والمعنوية .. ضنك في أسباب الحياة الفردية والجماعية .. ضنك في أسباب الحياة الداخلية والظاهرية .. ضنك لا يكاد ينفك عنه أحد إلا إذا أقبل على الله وعلّق قلبه بالله ، وأفضى بعوالج ولواعج قلبه ونفسه إلى خالقه ومولاه ، لا يمكن أن يتخلص من همه وغمه إلا بتلك المناجاة و التضرع إلى الله ، والإقبال على الله ؛ فإنه لا يسد فاقة القلب ولا يلمّ شعثه إلا الإقبال على الله ، ولا يمكن لأحد أن يطلب تلك السعادة والراحة إلا من هذا الطريق ، وإلا فإنه محجوب مردود على عقبه ، غير بالغ مقصده ولا نائل أربه ، وتلك الحقيقة تنطق بها الآيات وتشهد بها الوقائع في حياة الناس ، وهذه كلمات أخرى تدل على ذلك وتؤكده في كل صور الحياة النفسية والقلبية التي يحتاجها كل إنسان على سبيل العموم .. وكل مؤمن مسلم على سبيل الخصوص .
إن في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله ، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله ، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته ، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع إليه والفرار منه إليه ، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوب ، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له ، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً .
وها نحن - أيها الأخوة الأحبة - نوضح هذه الحقيقة فهل إلى مراجعةٍ من سبيل ؟ وهل إلى مصارحة من طريق تجعلنا ندخل السرور إلى نفوسنا ونذهب الهم والحزن عن قلوبنا ونشيع اللذة والحبور والسرور في أرواحنا ؟ استمعوا إلى النداء القرآني العجيب : { ففروا إلى الله }
وكل شيء خفته فررت منه .. وكل شيء يمكن أن يكون سبباً ولو بتقدير في شيء من ضر لا يتصور أن يكون علاجه وبرؤه منه .. لكنها الحقيقة الربانية { ففروا إلى الله } .
كلما أظلمت الدنيا في وجوهكم فروا إلى الله .. كلما تعاظمت المشكلات والصعوبات فروا إلى الله ..كلما ضاقت الصدور وقست القلوب فروا إلى الله .. كلما جمدت الأعين وقحطت الدموع فروا إلى الله .. كلما لذت الألسن وأكثرت من الباطل فروا إلى الله .. تجدوا عنده كل ما يملأ قلوبكم ونفوسكم أنسا وسعادة وسروراً ، وذلك أمره بين وقد فقهه أسلافنا وعلمائنا وأئمتنا وهو أمر لا يحتاج إلى ذلك كله ، فهو أمر يفقهه ويعرفه - بل - يذوقه ويستشعره كل مؤمن يقبل على الله ويقف بين يديه ويتوسل إليه ويتضرع إليه وذلك مما تشهد به وقائع أحوالنا عندما تتغير أحوالنا في بعض الأوقات عند الملمات أو في المناسبات والطاعات نشعر بأثر ذلك ، ونشعر بلذة في لحظات نقيسها ونزنها بسنوات وسنوات ؛ لأنه ليس هناك أثقل ولا أجمل ولا أفضل من تلك السعادة النفسية الروحية التي فيها هدوء البال ، وسكينة النفس ، وطمأنينة القلب ، ورشد العقل ، وسكينة تفيض على الإنسان كل هذه المعاني القيمة الحسنة .
قال إبراهيم ابن شيبان : " من أراد أن يكون معدوداً في الأحرار مذكوراً في الأبرار فليخلص عبادة ربه "
إنه بدون ذلك التعلق تبقى عبدا مأسورا لحاجتك ذليلا لمن تمد إليه يدك غير الله مقهورا لكل من تخافه غي الله سبحانه وتعالى ، أما إذا علقت القلب به وأخلصت النية له ووجهت القصد والوقت والجهد في طاعته ومرضاته فأنت حر الأحرار .. وأنت بر الأبرار .. وأنت الناجي من عذاب النار بإذنه سبحانه وتعالى ، وكذلك نجد هذا في ما كان يقوله أسلافنا .. سئل ذو النون رحمه الله فيما يجد العبد الخلاص وكلنا نسأل هذا السؤال كلنا نريد الخلاص كلنا يريد النجاة ، كلنا يريد السعادة فقال رحمه الله : " الخلاص في الإخلاص ، فإذا أخلص تخلص " .
تخلّص من كل هم دنياه ، تخلص من كل تسلط أعدائه ، تخلص من كل حاجات نفسه الدنية الدنيوية ؛ ليبقى سامياً عالياً مرتقياً على الدنيا وما فيها ، وعلى أهل الدنيا جميعاً ؛ فإن قوّته وصلته بالله تعطيه من الغنى والاستغناء مالا يكون ، أهل الأرض كلهم يوازون عنده جناح بعوضة كما قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منها شربة مؤمن ) .
ونحن لنا مطامع إذا علقناها بالله وجدنا الخير والسعادة والحرية ، وإذا علقناها بأسباب الحياة لم نجد ما يشبع النهمة ويروي الظمأ ثم كنا أسرى ضعفاء لا نستطيع أن نحقق مرادنا في دنيانا ، وربما نخشى أن لا نحقق نجاتنا في أخرانا ، قال ابن تيمية رحمه الله : " كلما طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ، ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته عما سواه فكما أن طمعه في المخلوق يهذّب عبوديته له فإنه يكون فيأسره عما يوجب غنى قلبه عنه "
كما قيل : استغن عمن شئت تكن نضيره وأفضل على من شئت تكن أميره واحتج إلى من شئت تكن أسيره فان احتجت إلى غير الله فأنت أسيره .(/2)
وتأمل - أخي المؤمن - ماذا تريد من الدنيا وماذا تريد في الآخرة ؟ اسأل نفسك وتلمس الإجابة ؛ فإنك تجدها كلها متعلقة بأمر الله وطاعته وتعليق القلب به وربط الحبال بما عنده سبحانه وتعالى ، ألست تريد تكثير الحسنات وتكفير السيئات ؟! استمع لقوله تعالى : { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً } .
ألست تريد العلم والفقه والفهم ؟ استمع لقول الله تعالى : { واتقوا الله ويعلمكم الله } .
ألست تريد الفرج والرزق ورغد العيش ؟ استمع لقول الله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب } .
ألست تريد الفرح والسرور والسعادة ؟ استمع لقول الله : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } .
المعين عذب متدفق ، فأين الواردون الشاربون ؟ والطريق واضح مستقيم ، فأين السالكون المشمرون ؟
تأملوا لنجد أن شقاءنا مغروس في نفوسنا بما أعرضت عن ذكر الله وبما فرطت من التعلق بالله - سبحانه وتعالى - لنجد أن كل ما نحتاج إليه كما أسلفنا القول في بدء حديثنا مبدئه ومنتهاه .. أوله وآخره .. سرائه وضرائه .. دنياه وأخراه مرتبط بحقيقة التعلق بالله .. ألستم تعرفون أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟ ألسنا نحفظ قوله : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر وليس ذلك لأحد الا للمؤمن ) ؟
ألسنا نعرف فقه الابتلاء الذي يزيل الهمّ والغمّ وينفس الكرب في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا تعب ولا هم ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) ، ألسنا نعرف وصيته العظيمة قالها لغلام في مقتبل عمره : ( احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك رفعت الأقلام وجفت الصحف )
أين نحن من هذا ؟ نسأل الله - عز وجل - أن يردنا إلى كتابه وإلى هدي رسوله ، وأن يروي ظمأ قلوبنا ، وأن يطهّر كَدَرَ نفوسنا بالإقبال عليه والتعلق به والإنابة إليه والخوف منه والرجاء فيه .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
نموذج نتلمس فيه كل ما قلناه من تلك المعاني ، نموذج في فريضة الصلاة التي افترضها الله - عز وجل - علينا في كل يوم خمس مرات ؛ لنرى كيف يمكن أن تكون هذه الصلاة هي سعادة دنيانا ، ونجاة أخرانا وراحة نفوسنا ، وطمأنينة قلوبنا ، وانشراح صدورنا ، وهدوء بالنا ، ولذة حياتنا ، وسعادة أفراحنا { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } .
كلما ادلهمت الخطوب وعظمت الرزايا فلنفعل ما كان يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، ألق فيها همك .. واطرح فيها بين يدي ربك شكواك .. وارفع إليه مناجاتك .. وتضرع إليه فإن ذلك يحقق لك كل طمأنينة وسكينة ، وتأملوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يوجز الدنيا ومتعها ويجعل الكفة الراجحة في سعادة القلب والنفس في هذه الصلاة : ( حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة ) .
تلك من متع الدنيا لكن قرة العين ، وهي منتهى السعادة ، وغاية اللذة وقمة السرور وأقصى ما يجد الإنسان فيه راحته وسعادته ، في الصلاة تلقي همك وتبث شكواك إلى ربك ومولاك ، فأي شيء من هم يبقى بعد ذلك ؟
وكان - عليه الصلاة والسلام - ينادي بلالاً فيقول : ( أرحنا بها يا بلال ) .
راحةٌ من كل تعب .. وهدوء من كل صخب .. وسعادة من كل شقاء .. نجدها في تعليق القلوب إلى الله في تعليق القلوب بالله وصدود الجباه لعظمته - سبحانه وتعالى - وتسبيح الألسنة له وذكرها له - سبحانه وتعالى - ونرى ذلك واضحاً فيما بينته سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف نزيل الكدر والهم والغم ؟ كيف نطهر الأبدان والأرواح ؟
( أرأيتم لو أن نهرا غمرا يجري بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ) .(/3)
ويمحو كذلك - سبحانه وتعالى -كدر النفوس ، وهمّ القلوب ، وضيق الصدور بإذنه جل وعلا ، وكذلك نجد ذلك في السير وفي الأحاديث والنصوص ، وحسبنا في ذلك أن نذكر الحديث العظيم الذي أخبر فيه نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن رب العزة والجلال أنه قال : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، نصف لي ونصف لعبدي ، فإذا قال العبد : { الحمد لله رب العالمين} ، قال الله جل وعلا : حمدني عبدي ، وإذا قال : {الرحمن الرحيم }، قال : أثنى عليَّ عبدي ، وإذا قال : { مالك يوم الدين } قال الله جل وعلا : مجدني عبدي ، وإذا قال :{إياك نعبد وإياك نستعين}، قال : وذلك بيني وبينه وإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم * ولا الضالين } ، قال : هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل " .
تأمل أنت العبد الفقير الحقير إذا وقفت بين يدي الله كل كلمة تتلوها من آياته يرد بها عليك ، إذا وقفت بين يدي الله في مقام الصلاة والمناجاة ؛ فإنك ببصر الله وإنك بسمع الله وإن الله يرى مقامك ويسمع مناجاتك ويرد على تلاوة آياتك فأي شيء أعظم من ذلك ؟! وأي مقام أرفع من هذا ؟! تأمل هذا وأعلم أن هذا نموذج فحسب وإلا ففي الذكر فسحة واسعة وفي الدعاء لذة غامرة وفي الإحسان إلى الخلق سرور عظيم وفي كل طاعة من طاعات الله عز وجل ما تسكن به النفوس وتسعد ، نسأل الله - عز وجل - أن يردنا إليه ردا جميلا وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا .(/4)
السلف والعبادة
من هدي السلف في العبادة
قال الوليد بن مسلم : رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه ، يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ويخبرنا عن السلف : أن ذلك كان هديهم ، فإذا طلعت الشمس ، قام بعضهم إلى بعض ، فأفاضوا في ذكر الله ، والتفقه في دينه .
معنى الخشوع :
سئل الأوزاعي عن الخشوع في الصلاة ، قال : غض البصر ، وخفض الجناح ، ولين القلب ، وهو الحزن ، الخوف .
من كان بالله أعرف كان منه أخوف
روى حماد بن زيد عن أيوب قال : قيل لعمر بن عبد العزيز : يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة ، فإن قضى الله موتا ، دفنت في موضع القبر الرابع مع رسول الله صلىالله عليه وسلم ، قال : والله لأن يعذبني الله بغير النار أحب إلي من أن يعلم من قلبي أني أراني لذلك أهلا .
التوازن عند السلف
قال بلال بن سعد : أدركتهم يشتدون بين الأغراض يضحك بعضهم إلى بعض ، فإذا كان الليل كانوا رهبانا .
تأثر السلف بالجنائز
قال ثابت البناني : كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعا باكيا أو متقنعا متفكرا .
العابد الرباني وهيب بن الورد . قال ابن إدريس : مارأيت أعبد منه .
وقال ابن المبارك : قيل لوهيب : يجد طعم العبادة من يعصي ؟ قال : ولا من يهم بالمعصية .
وصفة في مكابدة الشيطان ومغالبته
قال الحارث بن قيس العابد الفقيه التابعي : إذا كنت في الصلاة ، فقال لك الشيطان : إنك ترائي ، فزدها طولا .
لم يكن أهل البيت من الغافلين
ابن أم عبد الصحابي الجليل رجله في الميزان أثقل من جبل أحد أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَوْمًا بَعْدَ مَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ فَسَلَّمْنَا بِالْبَابِ فَأَذِنَ لَنَا قَالَ فَمَكَثْنَا بِالْبَابِ هُنَيَّةً قَالَ فَخَرَجَتِ الْجَارِيَةُ فَقَالَتْ أَلا تَدْخُلُونَ فَدَخَلْنَا فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ يُسَبِّحُ فَقَالَ مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا وَقَدْ أُذِنَ لَكُمْ فَقُلْنَا لا إِلا أَنَّا ظَنَنَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ نَائِمٌ قَالَ ظَنَنْتُمْ بِآلِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ غَفْلَةً قَالَ ثُمَّ أَقْبَلَ يُسَبِّحُ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ فَقَالَ يَا جَارِيَةُ انْظُرِي هَلْ طَلَعَتْ قَالَ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَطْلُعْ فَأَقْبَلَ يُسَبِّحُ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ قَالَ يَا جَارِيَةُ انْظُرِي هَلْ طَلَعَتْ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هِيَ قَدْ طَلَعَتْ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَقَالَنَا يَوْمَنَا هَذَا فَقَالَ مَهْدِيٌّ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَلَمْ يُهْلِكْنَا بِذُنُوبِنَا قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ كُلَّهُ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ إِنَّا لَقَدْ سَمِعْنَا الْقَرَائِنَ وَإِنِّي لأَحْفَظُ الْقَرَائِنَ الَّتِي كَانَ يَقْرَؤُهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنَ الْمُفَصَّلِ وَسُورَتَيْنِ مِنْ آلِ حم *
كثرة بكائه من خشية الله) ابن عمر(
بإسناد رجاله ثقات عن نافع: كان ابن عمر إذا قرأ: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } بكى حتى يغلبه البكاء
بإسناد رجاله ثقات عن محمد بن زيد: أن ابن عمر كان له مهراس فيه ماء , فيصلي فيه ماقدر له , ثم يصير إلى الفراش يغفي إغفاءة الطائر , ثم يقوم , فيتوضأ ويصلي , يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمسة
وعن نافع: كان ابن عمر لايصوم في السفر , ولايكاد يفطر في الحضر.
قال ابن المبارك :
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليس له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
سيد التابعين وزاهد العصر أبو مسلم الخولاني .
يؤدب ويروض نفسه بضربها
قال عثمان بن أبي العاتكة : علق أبو مسلم سوطا في المسجد ، فكان يقول : أنا أولى بالسوط من البهائم ، فإذا فتر ، مشق ساقيه سوطا أو سوطين ( أي ضرب بسرعة) . وكان يقول : لو رأيت الجنة عيانا أو النار عيانا ما كان عندي مستزاد .
كثرة صومه حتى في الجهاد
عن عطية بن قيس ، قال : دخل ناس من أهل دمشق على أبي مسلم وهو غاز في أرض الروم ، وقد احتفر جُورة في فسطاطه ، وجعل فيها نطعا وأفرغ فيه الماء وهو يتصلق فيه ( وهو التقلب على جنبيه) فقالوا : ما حملك على الصيام وأنت مسافر ؟ قال : لو حضر قتال لأفطرت ، ولتهيأت له وتقويت ؛ إن الخيل لا تجري الغايات وهن بُدًن ، إ،ما تجري وهن ضُمر ، ألا وإن أيامنا باقية جائية لها نعمل .
عامر بن عبد قيس القدوة الولي الزاهد أبو عبد الله التميمي البصري كان ثقة من عباد التابعين يشغل نفسه باقراء الناس .
قلبه معلق بالصلاة(/1)
عن الحسن أن عامرا كان يقول : من أُقرئ ؟ فيأتيه ناس ، فيقرئهم القرآن ثم يقوم فيصلي إلى الظهر ، ثم يصلي إلى العصر ، ثم يقرئ الناس إلى المغرب ، ثم يصلي مابين العشائين ، ثم ينصرف إلى منزله ، فيأكل رغيفا ، وينام نومة خفيفة ، ثم يقوم لصلاته ، ثم يتسحر رغيفا ويخرج .
تورمت قدماه من طول الصلاة
كان عامر لا يزال يصلي من طلوع الشمس إلى العصر ، فينصرف وقد انتفخت ساقاه فيقول : يا أمارة بالسوء ، إنما خلقت للعبادة .
خشيته وخشوعه بين يدي الجبار
عن أبي الحسن المجاشعي قال : قيل لعامر بن عبد قيس : أتحدث نفسك في الصلاة ؟ قال : أحدثها بالوقوف بين يدي الله ، ومنصرفي .
أنس بطاعة الله فبكى عند فقدها
قال قتادة : لما احتضر عامر بن عبد قيس بكى ، فقيل مايبكيك ؟ قال : ما أبيك جزعا من الموت ، ولا حرصا على الدنيا ، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل .
العابد التابعي هرم بن حيان العبدي ، قاد بعض الحروب في أيام عمر وعثمان ، قال ابن سعد : كان عاملا لعمر ، وكان ثقة ، له فضل وعبادة .
مناداته للصلاة في الليل
قال المعلى بن زياد : كان هرم يخرج في بعض الليل وينادي بأعلى صوته : عجبت من الجنة كيف نام طالبها ؟ وعجبت من النار كيف نام هاربها ؟ ثم يقول : { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا}
أقبل على الله بقلبك يقبل الناس عليك
قال قتادة : كان هرم بن حيان يقول : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله ، إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه ، حتى يرزقه ودهم .
الإمام القدوة أبو عمرو الأسود بن يزيد النخعي كان من رؤوس العلم والعمل .
يضرب بعبادته المثل
قال الذهبي : وهو نظير مسروق في الجلالة والعلم والثقة والسن يضرب بعبادهما المثل .
ملازته للعبادة ومداومته عليها
سئل الشعبي عن الأسود بن يزيد فقال : كان صواماً قواماً حجاجاً .
وقال أبو إسحاق : حج الأسود ثمانين ، من بين حجة وعمرة .
وكان يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين ، وكان ينام بين المغرب والعشاء ، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال .
حياؤه من الله جل وعلا
عن علقمة بن مرثد قال : كان الأسود يجتهد في العبادة ، ويصوم حتى يخضر ويصفر ، فلما احتضر بكى ، فقيل له : ما هذا الجزع ؟ فقال : مالي لا أجزع ، والله لو أتيت بالمغفرة من الله لأهمني الحياء منه مما قد صنعت ، إن الرجل ليكون بينه وبين آخر الذنب الصغير فيعفو عنه ، فلا يزال مستحيا منه .
التابعي الجليل ، فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها ، الإمام ، الحافظ ، المجود ، المجتهد الكبير ، أبو شبل علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي عم الأسود .
يختم القرآن في خمس
روى الأعمش عن إبراهيم قال : كان علقمة يقرأ القرآن في خمس ، والأسود في ست ، وعبد الرحمن بن يزيد في سبع .
التابعي الإمام ، القدوة ، العلم ، أبو عائشة مسروق بن الأجدع الوادعي الهمداني .
تورمت قدماه من طول القيام
روى أنس بن سيرين عن امرأة مسروق قالت : كان مسروق يصلي حتى تورم قدماه ، فربما جلست أبكي مما أراه يصنع بنفسه .
قال العجلي : تابعي ثقة ، كان أحد أصحاب عبد الله الذين يقرئون القرآن ويفتون . وكان يصلي حتى ترم قدماه .
حج فلم ينم إلا ساجدا
روى شعبة عن أبي إسحاق ، قال : حج مسروق فلم ينم إلا ساجداً على وجهه حتى رجع .
آنس نفسه في الصلاة فما يأسى إلا عليها
قال سيعد بن جبير ، قال لي مسروق : مابقي شيئ يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب ، وما آسى على شيئ إلا السجود لله تعالى .
العلم الخشية
الأعمش عن مسلم عن مسروق قال : كفى بالمرء علما أن يخشى الله تعالى ، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعمله .
مرة الطيب ، ويقال له أيضا : مرة الخير لعبادته وخيره وعلمه ، وهو مرة بن شراحيل الهمداني الكوفي، مخضرم كبير الشأن روى عن أبي بكر وعمر وابن مسعود .
أكل التراب جبهته
وثقه يحي بن معين . وبلغنا عنه أنه سجد لله حتى أكل التراب جبهته .
وقال عطاء بن السائب : رأيت مصلى مرة الهمداني مثل مبرك البعير .
قال الذهبي : ما كان هذا الولي يكاد يتفرغ لنشر العلم ، ولهذا لم تكثر روايته ، وهل يراد من العلم إلا ثمرته .
أشبه الناس هديا وصلاة وخشوعا برسول الله صلىالله عليه وسلم
عمرو بن الأسود العنسي الحمصي ، أدرك الجاهلية والأسلام ، كان من سادة التابعين دينا وورعا .
حج عمرو بن الأسود ، فلما انتهى إلى المدينة ، نظر إليه ابن عمر وهو يصلي فسأل عنه ، فقيل : شامي يقال له : عمرو بن الأسود ، فقال : ما رأيت أحدا أشبه صلاة ولا هديا ولا خشوعا ولا لبسة برسول الله صلىالله عليه وسلم من هذا الرجل .
ثم بعث إليه ابن عمر بقرى وعلف ونفقة ، فقبل ذلك ورد النفقة .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من سره أن ينظر إلى هدي رسول الله صلىالله عليه وسلم ، فلينظر إلى هدي عمرو بن الأسود .
الأمير الكبير ، العالم النبيل ، أبو بحر الأحنف بن قيس التميمي ، أحد من يضرب بحلمه وسؤدده المثل، وفد على عمر .(/2)
صيام مع الكبر إعداد للسفر الطويل
قيل للأحنف : إنك كبير ، ولاصوم يضعفك . قال إني أعده لسفر طويل . وقيل : كانت عامة صلاة الأحنف بالليل .
محاسبته لنفسه بالمصباح
كان الأحنف يضع أصبعه على المصباح ، ثم يقول : حس . ويقول : ما حملك يا أحنف على أن صنعت كذا يوم كذا .
ذهبت عينه منذ سنين فلم يشكو لأحد
قال مغيرة : ذهبت عين الأحنف فقال : ذهبت من أربعين سنة ما شكوتها إلى أحد .
الإمام القدوة شيخ الإسلام أبو محمد البناني ، مولاهم البصري .
معنى العبادة عنده
ولد في خلافة معاوية . وحدث عن ابن عمر ، وعبد الله بن مغفل المزني ، وأبي برزة الأسلمي ، وأنس بن مالك وغيرهم .
عن سليمان بن المغيرة قال : سمعت ثابتا البناني يقول : لا يسمى عابدا أبدا عابدا وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان : الصوم والصلاة ؛ لأنهما من لحمه ودمه .
قال بكر المزني : من أراد أن ينظر إلى أعبد أهل زمانه فلينظر إلى ثابت البناني ، فما أدركنا الذي هو أعبد منه .
قال شعبة : كان ثابت البناني يقرأ القرآن في كل يوم وليلة ، ويصوم الدهر .
تنعم بالصلاة بعد المكابدة
قال ثابت : كابدت الصلاة عشرين سنة ، وتنعمت بها عشرين سنة .
بكاؤه وخشوعه
قال حماد بن زيد : رأيت ثابتا يبكي حتى تختلف أضلاعه .
وقال جعفر بن سليمان : بكى ثابت حتى كادت عينه تذهب ، فجاؤوا برجل يعالجها ، فقال : أعالجها على أن تطيعني . قال : وأي شيئ ؟ قال : على أن لاتبكي . ، فقال : فما خيرهما إذا لم يبكيا ، وأبى أن يتعالج .
وقرأ ثابت : { تطلع على الأفئدة } قال تأكله إلى فؤاده وهو حي لقد تبلغ فيهم العذاب ثم بكى وأبكى من حوله .
وقال حماد بن سلمة : قرأ ثابت : { أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا } وهو يصلي صلاة الليل ينتحب ويرددها .
الربيع بن خثيم هو ابن عائذ أبويزيد الثوري الكوفي ، الإمام القدوة العابد ، أحد الآعلام ، وكان يعد من عقلاء الرجال , أدرك زمان الرسول صلىالله عليه وسلم وأرسل عنه .
اتهامه لنفسه :
عن بشير قال بت عند الربيع ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية (( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون )) قال فمكث ليلته حتى أصبح ما يجوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد ) .
الخشوع ، وسلامة القلوب وحب الخير للأمة لأن الدعوة همتهم
عن بكر بن ماعز قال أعطي الربيع فرساً أو اشترى فرساً بثلاثين ألفاً فغزا عليها قال ثم ارسل غلامه يحتش وقام يصلي وربط فرسه فجاء الغلام فقال يا ربيع أين فرسك قال سرقت يا يسار قال وأنت تنظر إليها قال : ( نعم يا يسار أني كنت أناجي ربي عز وجل فلم يشغلني عن مناجات ربي شيء اللهم انه سرقني ولم أكن لأسرقه اللهم إن كان غنياً فاهده وإن كان فقيراً فاغنه ) ، ثلاث مرات ) .
الإسرار بالعمل الصالح :
عن سفيان قال أخبرتني سرية الربيع بن خيثم قالت :( كان عمل الربيع كله سراً إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه ) .
الحرص على العمل الصالح :
حدثنا عبدالله حدثني أبي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن حبان حدثني أبي قال كان الربيع بعد ما سقط شقه يهادى بين رجلين إلى مسجد قومه وكان أصحاب عبدالله يقولون يا أبا يزيد قد رُخص لك لو صليت في بيتك فيقول: إنه كما تقولون ولكني سمعته ينادي حي على الفلاح فمن سمعه منكم ينادي حي على الفلاح فيلجبه ولوزحفاً ولو حبواً ) .
زيارة المقابر من سبل تزكية النفس وترقيق القلب :
عن بن فروخ قال : ( كان الربيع بن خيثم إذا كان الليل ووجد غفلة الناس خرج إلى المقابر فيجول في المقابر يقول : ( يا أهل القبور كنتم وكنا ، فإذا أصبح كأنه نشر من أهل القبور ) .
بكاؤه :
عن نسير بن ذعلوق قال : ( كان الربيع بن خيثم يبكي حتى يبل لحيته من دموعه فيقول أدركنا قوماً كنا في جنوبهم لصوصاً )
الخشية و الخوف أقلقا مضجعه :
عن سفيان قال بلغنا عن أم الربيع بن خيثم كانت تنادي ابنها ربيع تقول يا ربيع ألا تنام فيقول يا أمه من جن عليه الليل وهو يخاف السيئات حق له ألا ينام قال فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت يا بني لعلك قتلت . قتيلا قال نعم يا والدة قد قتلت قتيلا ، فقالت ومن هذا القتيل يا بني حتى نتحمل إلى أهله فيغتفرك والله لو يعلمون ما تلقى من السهر والبكاء بعد لقد رحموك فقال يا والدة هو نفسي )
مسلم بن يسار الإمام ، القدوة الفقيه ، الزاهد ، كان خامس خمسة من فهاء البصرة .
روى عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم .
هكذا المناجاة لله تعالى والخشية والخشوع :
عن عبدالله بن مسلم بن يسار : إن أباه كان إذا صلى كأنه ودٌ لايميل لا هكذا ولاهكذا .
وقال غيلان بن جرير : " كان مسلم بن يسار إذا صلى كأنه ثوب ملقى"(/3)
عن ميمون بن حيان قال : ( ما رأيت مسلم بن يسار متلفتاً في صلاته قط خفيفة ولا طويلة ولقد انهدمت ناحية من المسجد ، فزع أهل السوق لهدته وأنه لفي المسجد في صلاته فما التفت ) .
حدثنا عبدالله حدثني أبي معتمر قال بلغني أن مسلماً كان يقول لاهله : ( إذا كانت لكم حاجة فتكلموا وأنا أصلي ) .
حدثنا عبدالله حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا علي بن المبارك عن سليمان بن المغيرة عن صاحب عن ابن مسلم بي يسار أن أهل الشام لما دخلوا هزموا أهل البصرة زمن ابن الأشعث فصوت أهل دار مسلم بن يسار فقالت له أم ولده أما سمعت الصوت قال ما سمعته ) .
عن عبد الحميد بن عبدالله بن مسلم بن يسار عن أبيه قال:(كان مسلم إذا دخل المنزل سكت أهل البيت فلا يسمع لهم كلام وإذا قام يصلي تكلموا وضحكوا) .
عن زيد عن بعض البصرين أن مسلماً كان يصلي في المسجد قال فوقع بعض المسجد ففزع بعض أهل المسجد قال ومسلم في بعض المسجد ما تحرك )
وروي أنه : " وقع حريق في داره وأطفىء ، فلما ذكر ذلك له قال : ماشعرت "
الإمام الحافظ القدوى و شيخ الأسلام، محمد بن المكدرابن عبد الله التيمي القرشي
ولد سنة بضع وثلاثين .
قال الفسوي : هو غاية في الإتقان والحفظ والزهد ، حجة .
قال أبو حاتم البستي : كان من سادات القراء لايتمالك البكاء إذا قرأ حديث رسول الله صلىالله عليه وسلم .
مجاهدة النفس وترويضها على الطاعة
قال ابن المنكدر : كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت .
بكاؤه من خشية الله
بينا ابن المنكدر ليلة قائم يصلي إذ استبكى و فكثر بكا,ه حتى فزع له أهله ، وسألوه ، فاستعجم عليهم ، وتمادى في البكاء ، فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء إليه ، فقال : ما الذي أبكاك ؟ قال : مرت بي أية ، قال : وماهي ؟ قال : [ وبدالهم من الله مالم يكونوا يحتسبون ] فبكى أبوحازم معه فاشتد بكاؤهما .
وقد جزع ابن المنكدر عند الموت ، فقيل له : لم تجزع ؟ قال : أخشى آية من كتاب الله : [ وبدالهم من الله مالم يكونوا يحتسبون ] فأنا أخشى أن يبو لي من الله مالم أكن أحتسب .
تمتعه في قيام الليل
قال ابن المنكدر : إني لأدخل في الليل فيهولني ، فأصبح حين أصبح وما قضيت منه أربي .
عطاء بن أبي رباح هو الإمام شيخ الإسلام ، مفتي الحرم ، أبو محمد القرشي مولاهم
ولد في أثناء خلافة عثمان ، وحدث عن عائشة وأم سلمة ، وأم هاننئ ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، وابن عمر وغيرهم من الصحابة .
وكان ثقة ، فقيها ، عالما ، كثير الحديث .
وكان بنو أمية يأمرون في الحج مناديا يصيح : لايفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح .
طول الصلاة مع كبر السن :
وعن ابن جريج صحبت عطاء ثماني عشرة سنة ، وكان بعد ماكبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مئتي آية من البقرة وهو قائم لايزول منه شيء ولايتحرك .
الإمام القدوة ربيعة بن يزيد لم يؤذن للصلاة إلا وهو في المسجد
: " ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضا أو مسافرا .
الإمام الثقة صفوان بن سليم الزاهد العابد
يطرد النوم عن نفسه بالبرد وشدة الحر :
كان يصلي على السطح في الليلة الباردة لئلا يجيئه النوم .
وعن مالك بن أنس : كان صفوان بن سليم يصلي في الشتاء في السطح ، وفي الصيف في بطن البيت ، يتيقظ بالحر والبرد ، حتى يصبح ، ثم يقول : هذا الجهد من صفوان وأنت أعلم ، وإنه لترم رجلاه حتى يعود كالسقط من قيام الليل ، ويظهر فيه عروق خضر .
سليمان بن طرخان التيمي الإمام شيخ الإسلام ، أبو المعتمر التيمي البصري .
نزل في بني تيم فقيل التيمي .
قال الإمام أحمد : ثقة , وقال ابن معين والنسائي : ثقة ، وقال العجلي : ثقة من خيار أهل البصرة . وقال ابن سعد من العباد المجتهدين ، كثير الحديث ثقة .
قال سفيان حفاظ البصرة ثلاثة : سليمان التيمي ، وعاصم الأحول ، وداود بن أبي هند ، وعاصم أحفظهم . وعن ابن علية قال : سليما التيمي من حفاظ البصرة .
تقاسم قيام الليل مع أسرته
قال عبد الملك بن قريب الآصمعي : بلغني أن سليمان التيمي قال لأهله : هلموا حتى تجزئ الليل فإن شئتم كفيتكم أوله وإن شئتم كفيتكم آخره .
نشاط في العبادة لم يعرف الفتور
روى مثنى بن معاذ عن أبيه قال : ماكنت أشبه عبادة سليمان التيمي إلا بعبادة الشاب أول مايدخل في تلك الشدة والحِدة .
وقال : كنت إذا رأيت التيمي كأنه غلام حدث ، قد أخذ في العبادة . كانةا يرون أنه أخذ عبادته عن أبي عثمان النهدي .
لايحسن المعصية ، دائم العمل
قال حماد بن سلمة : ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله فيها إلا وجدناه مطيعا ، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصليا ، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئا ، أو عائدا مريضا ، أو مشيعا لجنازة ، أو قاعدا في المسجد . وكنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله .
ذكر جرير بن عبد الحميد أن سليمان التيمي : لم تمر ساعة قط عليه إلا تصدق بشيء ، فإن لم يكن شيء ، صلى ركعتين .
شدة خوفه من الله(/4)
قال يحي بن سعيد : ماجلست إلى أحد أخوف لله من سليمان التيمي .
نعم من كان بالله أعرف كان منه أخوف أولئك العلماء الربانين . فأين نحن منهم ؟ وما نصيبنا من هذا الخوف والخشية ؟
الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمد ، شيخ الإسلام ، وعالم أهل الشام ، أبوعمرو الأوزاعي .
جلده في العباده
قال الوليد بن مزيد : كان الأوزاعي من العبادة على شيء ما سمعنا بأحد قوي عليه ، ما أتى عليه زوال قط إلا وهو قائم يصلي .
وقال الوليد بن مسلم : ما رأيت أكثر اجتهادا في العبادة من الأوزاعي .
وقال ضمرة بن ربيعة : حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومئة ، فما رأيته مضطجعا في المحمل في ليل ولا نهار قط ، كان يصلي ، فإذا غلبه النوم ، استند إلى القتب .
كأنه أعمى من الخشوع
قال إبراهيم بن سعيد الجوهري : حدثنا بشر بن المنذر قال : رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع.
مصلاه رطب من دموعه
وكان يحي الليل صلاة وقرآنا وبكاء . وكانت أمه تدخل منزله ، وتتفقد موضع مصلاه ، فتجده رطبا من دموعه في الليل .
العالم الفقيه شيخ الإسلام ابن أبي ذئب .
بلغ به من العبادة بما لامزيد عليها
كان يصلي الليل أجمع ، ويجتهد في العبادة ، ولو قيل له : إن القيامة تقوم غدا ، ماكان فيه مزيد من الاجتهاد .
الإمام الحجة الحافظ هشام الدستوائي .
شدة الخوف والخشية من الجبار
عن عبيد الله العيشي قال : كان هشام الدستوائي إذا فقد السراج من بيته ، يتململ على فراشه ، فكانت امرأته تأتيه بالسراج . فقالت له في ذلك ، فقال : إني إذا فقدت السراج ، ذكرت ظلمة القبر .
فسدت عينه من كثرة البكاء
وقال شاذ بن فياض : بكى هشام الدستوائي حتى فسدت عينه ، فكانت مفتوحة ، وهو لا يكاد يبصر بها .
وعن هشام قال : عجبت للعالم كيف يضحك . وكان يقول : ليتنا ننجو لا علينا ولا لنا .
الإمام الحافظ الثبت شيخ العراق مسعر بن كدام بن ظهير بن عبيدة .
طول السجود وقراءة نصف القرآن قبل النوم
عن خالد بن عمرو قال : رأيت مسعرا كأن جبهته ركبة عنز من السجود .
وقال محمد بن مسعر : كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرآن .
وقال محمد بن مسعر : كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرآن ، فإذا فرغ من ورده لف رداءه ثم هجع عليه هجعة خفيفة ، ثم يثب كالرجل الذي ضل منه شيء فهو يطلبه ، وإنما هو السواك والطهور ، ثم يستقبل المحراب ، فكذلك إلى الفجر ، ، وكان يجهد على إخفاء ذلك جدا .
وكان يقول :
نهارك يامغرور سهو وغفلة وليلك نوم ، والردى لك لازم
وتَتعب فيما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم
عبد العزيز بن أبي رواد شيخ الحرم أحد الأئمة العباد .
أعبد الناس
قال ابن المبارك : كان من أعبد الناس .
وقال شقيق البلخي : ذهب بصر عبد العزيز عشرين سنة ولم يعلم به أهل ولا ولده .
أمير المؤمنين في الحديث الثبت الحجة شعبة بن الحجاج .
طول الصلاة
قال أبوقطن : ما رأيت شعبة ركع قط إلا ظننت أنه نسي ، ولا قعد بين السجدتين إلا ظننت أنه نسي.
جد وجلد لا يعرف الفتور أو الراحة
وقال أبو بحر البكراوي : ما رأيت أحدا أعبد لله من شعبة ، لقد عبد الله حتى جف جلده على عظمه واسود .
وقال عمر بن هارون : كان شعبة يصوم الدهر كله .
وقال عفان : كان شعبة من العباد .
المحدث الثقة بشر بن الحسن الصفّي :
يقال له : ( الصفي ) لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة
ابراهيم بن ميمون المروزي
أحد الدعاة المحدثين الثقات من أصحاب عطاء بن أبي رباح ، وكانت مهنته الصياغة وطرق الذهب والفضة . قالوا : ( كان فقيها فاضلا . من الامّارين بالمعروف) .
لا يشغله عن الصلاة شيئ
وقال ابن معين : كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها ) .
كثير بن عبيد الحمصي
جمع الهم على الله في الصلاة
سئل عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط وقد أم أهل حمص ستين سنة كاملة ، فقال : ( ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفس غير الله ).
قاضي قضاة الشام سليمان بن حمزة المقدسي، وهو من ذرية ابن قدامة صاحب كتاب المغني :
لم يصل الفريضة منفردا
قال ( لم أصل الفريضة قط منفرداً إلا مرتين ، وكأني لم أصلهما قط ) مع أنه قارب التسعين .
يارجال الليل جدوا رب صوت لا يرد
ما يقوم الليل إلا من له عزم وجدٌّ
ويبصرني كيف الدنيا بالأمل الكاذب تغمسني
مثل الحرباء تلونها بالأثم تحاول تطمسني
فأبعدها وأعاندها وأرقبها تتهجسني
فأشد القلب بخالقه والذكر الدائم يحرسني
قيام الليل :
يحيون ليلهم بطاعة ربهم بتلاوة ، وتضرع ، وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان ، وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الأبطال
بوجوههم أثر السجود لربهم وبها أشعة نوره المتلالي
المسارعة إلى الصلاة
يمشون نحو بيوت الله إذا سمعوا الله أكبر في شوق وفي جذل
أرواحهم خشعت لله في أدب قلوبهم من جلال الله في وجل
نجواهم : ربنا جئناك طائعة نفوسنا ، وعصينا خادع الأمل
إذا سجى الليل قاموه وأعينهم من خشية الله مثل الجائد الهطل(/5)
هم الرجال فلا يلهيهم لعب عن الصلاة، ولا أكذوبة الكسل
قال ابن المبارك :
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغاً مستريحا
وإذا هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكانه تسبيحا
قال الوليد بن مسلم : رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه ، يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ويخبرنا عن السلف : أن ذلك كان هديهم ، فإذا طلعت الشمس ، قام بعضهم إلى بعض ، فأفاضوا في ذكر الله ، والتفقه في دينه .
تتكدر العبادة ويذهب صفاؤها بالهوى
قال أحد السلف : " الهوى لايترك العبودية تصفو ، وما لم يشتغل السالك بأضعاف هذا العدو الذي بين جنبيه لا يصح له قدم ، ولو أتى بأعمال تسد الخافقين . والرجل كل الرجل من داوى الأمراض من خارج ، وشرع في قلع أصولها من الباطن ، حتى يصفو وقته ، ويطيب ذكره ، ويدوم أنسه "
ولذلك كان السلف الصالح يجدون من لذة التعبد مالا يكافؤه لذة الدنيا بأسرها .
ضعف العبادة من العقوبات
وقال مالك : ( إن لله تبارك وتعالى عقوبات في القلوب والأبدان وضنكاً في المعيشية وسخطاً في الرزق ووهناً في العبادة ).
أعبد أهل مصر
أبوتميم الجَيشاني من أئمة التابعين بمصر ولد في حياة النبي صلىالله عليه وسلم وقدم المدينة في خلافة عمر.
قال يزيد بن أبي حبيب : كان من أعبد أهل مصر .
التوازن في شخصية المسلم وإعطاء كل ذي حق حقه
التوزن صمام أمان في جميع الأحوال ومنها :
1ـ وقت المحن والمصائب ، والشدائد العامة والخاصة .
2ـ وعندما تلوح الشهوات .
3ـ وحين ترد الشبهات .
4ـ وحين تأخر الثمار .
لتكن هممكم عالية :
عن مالك بن دينار قال : ( إن صدور المؤمنين تغلي بأعمال البر وإن صدور الفجار تغلي بأعمال الفجور والله تعالى يرى همومكم فانظروا ما همومكم رحمكم الله )
هكذا كان جدهم وتيقظهم :
عن إبراهيم التيمي قال حدثني من صحب الربيع بن خيثم عشرين سنة قال فما سمعت منه كلمة تعاب).
روى منصور بن إبراهيم قال : قال فلان : ما أرى الربيع بن خثيم تكلم بكلام منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعد . وعن بعضهم قال : صحبت الربيع عشرين عاما ماسمعت منه كلمة تعاب "
تلك الهمم العالية والدأب الذي لا يهدأ
قال إبراهيم الحربي عن الإمام أحمد :
قال إبراهيم الحربي : ( ولقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً وحراً وبرداً وليلاً ونهاراً فما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس )
الإمام أحمد يهتم بأهل الخير ويتفقدهم ويعقد الصلات معهم :
قالوا كان الإمام أحمد ( إذا بلغه عن شخص صلاح ، أو زهد ، أو قيام بحق أو اتباع للأمر : سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة ، وأحب أن يعرف أحواله )
سئل رجل ابن الجوزي : ( أيجوز أن أفسح لنفس في مباح الملاهي ) ؟
فقال : ( عند نفسك من الغفلة ما يكفيها )
قال ابن القيم رحمه الله : ( لا بد من سنة الغفلة ، ورقاد الغفلة ولكن كن خفيف النوم )
وانته من رقدة الغفلة فالعمر قليل واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل
قال الإمام الشافعي : ( طلب الراحة في الدنيا لا يصلح لأهل المروءات فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان )
سئل أحد الزهاد عن سبيل المسلم ليكون من صفوة الله ، قال : ( إذا خلع الراحة ، وأعطى المجهود في الطاعة )
قيل للإمام أحمد : ( متى يجد العبد طعم الراحة ) ؟ قال ( عند أول قدم يضعها في الجنة )
أوقف نفسك على مصالح المسلمين
قالت فاطمة بنت عبد الملك تصف زوجها عمر بن عبد العزيز : ( كان قد فرغ للمسلمين نفسه ، ولأمورهم ذهنه ، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه : وصل يومه بليلته )
قال بعض أصحاب عمر القدامى لعمر : ( لو تفرغت لنا ) فقال : ( وأين الفراغ ؟ ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله )
استغرق أوقاته في الخير:
قالوا عن محمد بن أحمد الدباهي : ( لازم العبادة ، والعمل الدائم والجد ، واستغرق أوقاته في الخير . . صلب في الدين ، وينصح الإخوان ، وإذا رآه إنسان : عرف الجد في وجهه )
ولما تعجب غافل من باذل وقال له:( إلى كم تتعب نفسك ؟ ) .كان جواب الباذل سريعاً حاسماً :
( راحتها أريد )
ليس للفراغ عليهم سبيل
قال ابن عقيل : إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري ، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة ، وبصري عن مطالعة ، أعملت فكري في حال راحتي ، وأنا مستطرح ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره . وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة "
وقال : " أنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي ، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز ، لأجل ما بينهم من تفاوت المضغ ، توفرا على مطالعة ، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه"
المبادرة لا التسويف :
قال يحيى بن معاذ : ( لا يزال العبد مقروناً بالتواني ، مادام مقيماً على وعد الأماني )
حفت الجنة بالمكاره :
( وأتعب الناس من جلّت مطالبه )
لا تنال الدعوة بالكسل والهمم الدنيئة
قال أحد السلف لرويم الزاهد أوصني فقال : " هو بذل الروح وإلا فلا تشتغل بالترهات "(/6)
وقال ابن الجوزي : " أول قدم في الطريق بذل الروح . . . هذه الجادة فأين السالك ؟ ?
وقال لسان الدين ابن الخطيب : " طريق القوم مبنية على الموت "
إن نفسا ترتضي الإسلام دينا ثم ترضى بعده أن تستكينا
أو ترى الإسلام في أرض مهينا ثم تهوى العيش نفس لن تكونا
في عداد المسلمين العظماء
نصر الدين ليس بالمجان
أعطوا ضريبتهم للدين من دمهم والناس تزعم نصر الدين مجانا
عاشوا على الحب أفواها وأفئدة باتوا على البؤس والنعماء إخوانا
الله يعرفهم أنصار دعوته والناس تعرفهم للخير أعوانا
أنت وقف في سبيل الله
" والنبي صلىالله عليه وسلم كانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده ، ولهذا كان أرفع العالمين ذكرا ، وأعظمهم عند الله قدرا "
( وطالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة ، بل وإلى كل علم وصناعة ورئاسة ، بحيث يكون رأساً في ذلك مقتداً به فيه ، يحتاج أن كون شجاعاً مقداماً ، حاكماً على وهمه ، غير مقهور تحت سلطان تخيله ، زاهداً في كل ما سوى مطلوبه عاشقاً لما توجه إليه ، عارفاً بطريق الوصول إليه ، والطرق القواطع عنه ، مقدام الهمة ، ثابت الجأش ، لا يثنيه عن مطلوبه لوم لائم ولا عذل عاذل ، كثير السكون ، دائم الفكر ، غير مائل مع لذة المدح ولا ألم الذم ، قائماً بما يحتاج إليه من أسباب معونته ، لا تستفزه المعارضات ، شعاره الصبر وراحته التعب )
همان يتطاردان :
حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا سيار حثنا جعفر قال سمعت مالكاً يقول : ( بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج هم الآخرة من قلبك وبقدر ما تحزن للآخرة كذلك يخرج هم الدنيا من قلبك) .
جهل غيرك لايغلب علمك
قال خالد بن صفوان : ( إن أقواماً غرهم ستر الله ، وفتنهم حسن الثناء ، فلا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك ).
قال قتادة بن دعامة السدوسي :
( قد رأينا والله أقواماً يسرعون إلى الفتن وينزعون فيها ، وأمسك أقواماً عن ذلك هيبة لله ومخافة منه ، فلما انكشفت ، إذا الذين امسكوا أطيب نفساً ، وأثلج صدوراً ، وأخف ظهوراً من الذين أسرعوا إليها وينزعون فيها ، وصارت أعمال أولئك حزازات على قلوبهم كلما ذكروها . وأيم الله ! لو أن الناس كانوا يعرفون منها إذ أقبلت ما عرفوا منها إذ أدبرت لعقل فيها جيل من الناس كثير ).
صاحب القلب المريض ينكشف عند الغبرة
في وقت الرخاء والأمن تختلط الصفوف ، ويصعب التمييز ، فإذا وقعت الشدائد ونزلت الفتن اتضح الناس على حقيقتهم ، كمثل المصدور عند صغاء الجو يختلط مع الأصحاء ولا ينكشف أمره إلا عند الغبرة . قال تعالى [ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله ما يشاء ] .
( تعرض الفتن على القلوب كالحصير ، عوداً عوداً ، فأي قلبٍ أشربها نكت فيه نكتت سوداء ، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكت بيضاء ، حتى تصير على قلبين ، على أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، ولآخر أسود مرباداً ، كالكوز مجخياً ، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ، إلا ما أشرب من هواه ) .(/7)
السلف والعبادة
من هدي السلف في العبادة
قال الوليد بن مسلم : رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه ، يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ويخبرنا عن السلف : أن ذلك كان هديهم ، فإذا طلعت الشمس ، قام بعضهم إلى بعض ، فأفاضوا في ذكر الله ، والتفقه في دينه .
معنى الخشوع :
سئل الأوزاعي عن الخشوع في الصلاة ، قال : غض البصر ، وخفض الجناح ، ولين القلب ، وهو الحزن ، الخوف .
من كان بالله أعرف كان منه أخوف
روى حماد بن زيد عن أيوب قال : قيل لعمر بن عبد العزيز : يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة ، فإن قضى الله موتا ، دفنت في موضع القبر الرابع مع رسول الله صلىالله عليه وسلم ، قال : والله لأن يعذبني الله بغير النار أحب إلي من أن يعلم من قلبي أني أراني لذلك أهلا .
التوازن عند السلف
قال بلال بن سعد : أدركتهم يشتدون بين الأغراض يضحك بعضهم إلى بعض ، فإذا كان الليل كانوا رهبانا .
تأثر السلف بالجنائز
قال ثابت البناني : كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعا باكيا أو متقنعا متفكرا .
العابد الرباني وهيب بن الورد . قال ابن إدريس : مارأيت أعبد منه .
وقال ابن المبارك : قيل لوهيب : يجد طعم العبادة من يعصي ؟ قال : ولا من يهم بالمعصية .
وصفة في مكابدة الشيطان ومغالبته
قال الحارث بن قيس العابد الفقيه التابعي : إذا كنت في الصلاة ، فقال لك الشيطان : إنك ترائي ، فزدها طولا .
لم يكن أهل البيت من الغافلين
ابن أم عبد الصحابي الجليل رجله في الميزان أثقل من جبل أحد أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَوْمًا بَعْدَ مَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ فَسَلَّمْنَا بِالْبَابِ فَأَذِنَ لَنَا قَالَ فَمَكَثْنَا بِالْبَابِ هُنَيَّةً قَالَ فَخَرَجَتِ الْجَارِيَةُ فَقَالَتْ أَلا تَدْخُلُونَ فَدَخَلْنَا فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ يُسَبِّحُ فَقَالَ مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا وَقَدْ أُذِنَ لَكُمْ فَقُلْنَا لا إِلا أَنَّا ظَنَنَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ نَائِمٌ قَالَ ظَنَنْتُمْ بِآلِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ غَفْلَةً قَالَ ثُمَّ أَقْبَلَ يُسَبِّحُ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ فَقَالَ يَا جَارِيَةُ انْظُرِي هَلْ طَلَعَتْ قَالَ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَطْلُعْ فَأَقْبَلَ يُسَبِّحُ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ قَالَ يَا جَارِيَةُ انْظُرِي هَلْ طَلَعَتْ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هِيَ قَدْ طَلَعَتْ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَقَالَنَا يَوْمَنَا هَذَا فَقَالَ مَهْدِيٌّ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَلَمْ يُهْلِكْنَا بِذُنُوبِنَا قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ كُلَّهُ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ إِنَّا لَقَدْ سَمِعْنَا الْقَرَائِنَ وَإِنِّي لأَحْفَظُ الْقَرَائِنَ الَّتِي كَانَ يَقْرَؤُهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنَ الْمُفَصَّلِ وَسُورَتَيْنِ مِنْ آلِ حم *
كثرة بكائه من خشية الله) ابن عمر(
بإسناد رجاله ثقات عن نافع: كان ابن عمر إذا قرأ: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } بكى حتى يغلبه البكاء
بإسناد رجاله ثقات عن محمد بن زيد: أن ابن عمر كان له مهراس فيه ماء , فيصلي فيه ماقدر له , ثم يصير إلى الفراش يغفي إغفاءة الطائر , ثم يقوم , فيتوضأ ويصلي , يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمسة
وعن نافع: كان ابن عمر لايصوم في السفر , ولايكاد يفطر في الحضر.
قال ابن المبارك :
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليس له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
سيد التابعين وزاهد العصر أبو مسلم الخولاني .
يؤدب ويروض نفسه بضربها
قال عثمان بن أبي العاتكة : علق أبو مسلم سوطا في المسجد ، فكان يقول : أنا أولى بالسوط من البهائم ، فإذا فتر ، مشق ساقيه سوطا أو سوطين ( أي ضرب بسرعة) . وكان يقول : لو رأيت الجنة عيانا أو النار عيانا ما كان عندي مستزاد .
كثرة صومه حتى في الجهاد
عن عطية بن قيس ، قال : دخل ناس من أهل دمشق على أبي مسلم وهو غاز في أرض الروم ، وقد احتفر جُورة في فسطاطه ، وجعل فيها نطعا وأفرغ فيه الماء وهو يتصلق فيه ( وهو التقلب على جنبيه) فقالوا : ما حملك على الصيام وأنت مسافر ؟ قال : لو حضر قتال لأفطرت ، ولتهيأت له وتقويت ؛ إن الخيل لا تجري الغايات وهن بُدًن ، إ،ما تجري وهن ضُمر ، ألا وإن أيامنا باقية جائية لها نعمل .
عامر بن عبد قيس القدوة الولي الزاهد أبو عبد الله التميمي البصري كان ثقة من عباد التابعين يشغل نفسه باقراء الناس .
قلبه معلق بالصلاة(/1)
عن الحسن أن عامرا كان يقول : من أُقرئ ؟ فيأتيه ناس ، فيقرئهم القرآن ثم يقوم فيصلي إلى الظهر ، ثم يصلي إلى العصر ، ثم يقرئ الناس إلى المغرب ، ثم يصلي مابين العشائين ، ثم ينصرف إلى منزله ، فيأكل رغيفا ، وينام نومة خفيفة ، ثم يقوم لصلاته ، ثم يتسحر رغيفا ويخرج .
تورمت قدماه من طول الصلاة
كان عامر لا يزال يصلي من طلوع الشمس إلى العصر ، فينصرف وقد انتفخت ساقاه فيقول : يا أمارة بالسوء ، إنما خلقت للعبادة .
خشيته وخشوعه بين يدي الجبار
عن أبي الحسن المجاشعي قال : قيل لعامر بن عبد قيس : أتحدث نفسك في الصلاة ؟ قال : أحدثها بالوقوف بين يدي الله ، ومنصرفي .
أنس بطاعة الله فبكى عند فقدها
قال قتادة : لما احتضر عامر بن عبد قيس بكى ، فقيل مايبكيك ؟ قال : ما أبيك جزعا من الموت ، ولا حرصا على الدنيا ، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل .
العابد التابعي هرم بن حيان العبدي ، قاد بعض الحروب في أيام عمر وعثمان ، قال ابن سعد : كان عاملا لعمر ، وكان ثقة ، له فضل وعبادة .
مناداته للصلاة في الليل
قال المعلى بن زياد : كان هرم يخرج في بعض الليل وينادي بأعلى صوته : عجبت من الجنة كيف نام طالبها ؟ وعجبت من النار كيف نام هاربها ؟ ثم يقول : { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا}
أقبل على الله بقلبك يقبل الناس عليك
قال قتادة : كان هرم بن حيان يقول : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله ، إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه ، حتى يرزقه ودهم .
الإمام القدوة أبو عمرو الأسود بن يزيد النخعي كان من رؤوس العلم والعمل .
يضرب بعبادته المثل
قال الذهبي : وهو نظير مسروق في الجلالة والعلم والثقة والسن يضرب بعبادهما المثل .
ملازته للعبادة ومداومته عليها
سئل الشعبي عن الأسود بن يزيد فقال : كان صواماً قواماً حجاجاً .
وقال أبو إسحاق : حج الأسود ثمانين ، من بين حجة وعمرة .
وكان يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين ، وكان ينام بين المغرب والعشاء ، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال .
حياؤه من الله جل وعلا
عن علقمة بن مرثد قال : كان الأسود يجتهد في العبادة ، ويصوم حتى يخضر ويصفر ، فلما احتضر بكى ، فقيل له : ما هذا الجزع ؟ فقال : مالي لا أجزع ، والله لو أتيت بالمغفرة من الله لأهمني الحياء منه مما قد صنعت ، إن الرجل ليكون بينه وبين آخر الذنب الصغير فيعفو عنه ، فلا يزال مستحيا منه .
التابعي الجليل ، فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها ، الإمام ، الحافظ ، المجود ، المجتهد الكبير ، أبو شبل علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي عم الأسود .
يختم القرآن في خمس
روى الأعمش عن إبراهيم قال : كان علقمة يقرأ القرآن في خمس ، والأسود في ست ، وعبد الرحمن بن يزيد في سبع .
التابعي الإمام ، القدوة ، العلم ، أبو عائشة مسروق بن الأجدع الوادعي الهمداني .
تورمت قدماه من طول القيام
روى أنس بن سيرين عن امرأة مسروق قالت : كان مسروق يصلي حتى تورم قدماه ، فربما جلست أبكي مما أراه يصنع بنفسه .
قال العجلي : تابعي ثقة ، كان أحد أصحاب عبد الله الذين يقرئون القرآن ويفتون . وكان يصلي حتى ترم قدماه .
حج فلم ينم إلا ساجدا
روى شعبة عن أبي إسحاق ، قال : حج مسروق فلم ينم إلا ساجداً على وجهه حتى رجع .
آنس نفسه في الصلاة فما يأسى إلا عليها
قال سيعد بن جبير ، قال لي مسروق : مابقي شيئ يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب ، وما آسى على شيئ إلا السجود لله تعالى .
العلم الخشية
الأعمش عن مسلم عن مسروق قال : كفى بالمرء علما أن يخشى الله تعالى ، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعمله .
مرة الطيب ، ويقال له أيضا : مرة الخير لعبادته وخيره وعلمه ، وهو مرة بن شراحيل الهمداني الكوفي، مخضرم كبير الشأن روى عن أبي بكر وعمر وابن مسعود .
أكل التراب جبهته
وثقه يحي بن معين . وبلغنا عنه أنه سجد لله حتى أكل التراب جبهته .
وقال عطاء بن السائب : رأيت مصلى مرة الهمداني مثل مبرك البعير .
قال الذهبي : ما كان هذا الولي يكاد يتفرغ لنشر العلم ، ولهذا لم تكثر روايته ، وهل يراد من العلم إلا ثمرته .
أشبه الناس هديا وصلاة وخشوعا برسول الله صلىالله عليه وسلم
عمرو بن الأسود العنسي الحمصي ، أدرك الجاهلية والأسلام ، كان من سادة التابعين دينا وورعا .
حج عمرو بن الأسود ، فلما انتهى إلى المدينة ، نظر إليه ابن عمر وهو يصلي فسأل عنه ، فقيل : شامي يقال له : عمرو بن الأسود ، فقال : ما رأيت أحدا أشبه صلاة ولا هديا ولا خشوعا ولا لبسة برسول الله صلىالله عليه وسلم من هذا الرجل .
ثم بعث إليه ابن عمر بقرى وعلف ونفقة ، فقبل ذلك ورد النفقة .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من سره أن ينظر إلى هدي رسول الله صلىالله عليه وسلم ، فلينظر إلى هدي عمرو بن الأسود .
الأمير الكبير ، العالم النبيل ، أبو بحر الأحنف بن قيس التميمي ، أحد من يضرب بحلمه وسؤدده المثل، وفد على عمر .(/2)
صيام مع الكبر إعداد للسفر الطويل
قيل للأحنف : إنك كبير ، ولاصوم يضعفك . قال إني أعده لسفر طويل . وقيل : كانت عامة صلاة الأحنف بالليل .
محاسبته لنفسه بالمصباح
كان الأحنف يضع أصبعه على المصباح ، ثم يقول : حس . ويقول : ما حملك يا أحنف على أن صنعت كذا يوم كذا .
ذهبت عينه منذ سنين فلم يشكو لأحد
قال مغيرة : ذهبت عين الأحنف فقال : ذهبت من أربعين سنة ما شكوتها إلى أحد .
الإمام القدوة شيخ الإسلام أبو محمد البناني ، مولاهم البصري .
معنى العبادة عنده
ولد في خلافة معاوية . وحدث عن ابن عمر ، وعبد الله بن مغفل المزني ، وأبي برزة الأسلمي ، وأنس بن مالك وغيرهم .
عن سليمان بن المغيرة قال : سمعت ثابتا البناني يقول : لا يسمى عابدا أبدا عابدا وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان : الصوم والصلاة ؛ لأنهما من لحمه ودمه .
قال بكر المزني : من أراد أن ينظر إلى أعبد أهل زمانه فلينظر إلى ثابت البناني ، فما أدركنا الذي هو أعبد منه .
قال شعبة : كان ثابت البناني يقرأ القرآن في كل يوم وليلة ، ويصوم الدهر .
تنعم بالصلاة بعد المكابدة
قال ثابت : كابدت الصلاة عشرين سنة ، وتنعمت بها عشرين سنة .
بكاؤه وخشوعه
قال حماد بن زيد : رأيت ثابتا يبكي حتى تختلف أضلاعه .
وقال جعفر بن سليمان : بكى ثابت حتى كادت عينه تذهب ، فجاؤوا برجل يعالجها ، فقال : أعالجها على أن تطيعني . قال : وأي شيئ ؟ قال : على أن لاتبكي . ، فقال : فما خيرهما إذا لم يبكيا ، وأبى أن يتعالج .
وقرأ ثابت : { تطلع على الأفئدة } قال تأكله إلى فؤاده وهو حي لقد تبلغ فيهم العذاب ثم بكى وأبكى من حوله .
وقال حماد بن سلمة : قرأ ثابت : { أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا } وهو يصلي صلاة الليل ينتحب ويرددها .
الربيع بن خثيم هو ابن عائذ أبويزيد الثوري الكوفي ، الإمام القدوة العابد ، أحد الآعلام ، وكان يعد من عقلاء الرجال , أدرك زمان الرسول صلىالله عليه وسلم وأرسل عنه .
اتهامه لنفسه :
عن بشير قال بت عند الربيع ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية (( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون )) قال فمكث ليلته حتى أصبح ما يجوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد ) .
الخشوع ، وسلامة القلوب وحب الخير للأمة لأن الدعوة همتهم
عن بكر بن ماعز قال أعطي الربيع فرساً أو اشترى فرساً بثلاثين ألفاً فغزا عليها قال ثم ارسل غلامه يحتش وقام يصلي وربط فرسه فجاء الغلام فقال يا ربيع أين فرسك قال سرقت يا يسار قال وأنت تنظر إليها قال : ( نعم يا يسار أني كنت أناجي ربي عز وجل فلم يشغلني عن مناجات ربي شيء اللهم انه سرقني ولم أكن لأسرقه اللهم إن كان غنياً فاهده وإن كان فقيراً فاغنه ) ، ثلاث مرات ) .
الإسرار بالعمل الصالح :
عن سفيان قال أخبرتني سرية الربيع بن خيثم قالت :( كان عمل الربيع كله سراً إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه ) .
الحرص على العمل الصالح :
حدثنا عبدالله حدثني أبي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن حبان حدثني أبي قال كان الربيع بعد ما سقط شقه يهادى بين رجلين إلى مسجد قومه وكان أصحاب عبدالله يقولون يا أبا يزيد قد رُخص لك لو صليت في بيتك فيقول: إنه كما تقولون ولكني سمعته ينادي حي على الفلاح فمن سمعه منكم ينادي حي على الفلاح فيلجبه ولوزحفاً ولو حبواً ) .
زيارة المقابر من سبل تزكية النفس وترقيق القلب :
عن بن فروخ قال : ( كان الربيع بن خيثم إذا كان الليل ووجد غفلة الناس خرج إلى المقابر فيجول في المقابر يقول : ( يا أهل القبور كنتم وكنا ، فإذا أصبح كأنه نشر من أهل القبور ) .
بكاؤه :
عن نسير بن ذعلوق قال : ( كان الربيع بن خيثم يبكي حتى يبل لحيته من دموعه فيقول أدركنا قوماً كنا في جنوبهم لصوصاً )
الخشية و الخوف أقلقا مضجعه :
عن سفيان قال بلغنا عن أم الربيع بن خيثم كانت تنادي ابنها ربيع تقول يا ربيع ألا تنام فيقول يا أمه من جن عليه الليل وهو يخاف السيئات حق له ألا ينام قال فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت يا بني لعلك قتلت . قتيلا قال نعم يا والدة قد قتلت قتيلا ، فقالت ومن هذا القتيل يا بني حتى نتحمل إلى أهله فيغتفرك والله لو يعلمون ما تلقى من السهر والبكاء بعد لقد رحموك فقال يا والدة هو نفسي )
مسلم بن يسار الإمام ، القدوة الفقيه ، الزاهد ، كان خامس خمسة من فهاء البصرة .
روى عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم .
هكذا المناجاة لله تعالى والخشية والخشوع :
عن عبدالله بن مسلم بن يسار : إن أباه كان إذا صلى كأنه ودٌ لايميل لا هكذا ولاهكذا .
وقال غيلان بن جرير : " كان مسلم بن يسار إذا صلى كأنه ثوب ملقى"(/3)
عن ميمون بن حيان قال : ( ما رأيت مسلم بن يسار متلفتاً في صلاته قط خفيفة ولا طويلة ولقد انهدمت ناحية من المسجد ، فزع أهل السوق لهدته وأنه لفي المسجد في صلاته فما التفت ) .
حدثنا عبدالله حدثني أبي معتمر قال بلغني أن مسلماً كان يقول لاهله : ( إذا كانت لكم حاجة فتكلموا وأنا أصلي ) .
حدثنا عبدالله حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا علي بن المبارك عن سليمان بن المغيرة عن صاحب عن ابن مسلم بي يسار أن أهل الشام لما دخلوا هزموا أهل البصرة زمن ابن الأشعث فصوت أهل دار مسلم بن يسار فقالت له أم ولده أما سمعت الصوت قال ما سمعته ) .
عن عبد الحميد بن عبدالله بن مسلم بن يسار عن أبيه قال:(كان مسلم إذا دخل المنزل سكت أهل البيت فلا يسمع لهم كلام وإذا قام يصلي تكلموا وضحكوا) .
عن زيد عن بعض البصرين أن مسلماً كان يصلي في المسجد قال فوقع بعض المسجد ففزع بعض أهل المسجد قال ومسلم في بعض المسجد ما تحرك )
وروي أنه : " وقع حريق في داره وأطفىء ، فلما ذكر ذلك له قال : ماشعرت "
الإمام الحافظ القدوى و شيخ الأسلام، محمد بن المكدرابن عبد الله التيمي القرشي
ولد سنة بضع وثلاثين .
قال الفسوي : هو غاية في الإتقان والحفظ والزهد ، حجة .
قال أبو حاتم البستي : كان من سادات القراء لايتمالك البكاء إذا قرأ حديث رسول الله صلىالله عليه وسلم .
مجاهدة النفس وترويضها على الطاعة
قال ابن المنكدر : كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت .
بكاؤه من خشية الله
بينا ابن المنكدر ليلة قائم يصلي إذ استبكى و فكثر بكا,ه حتى فزع له أهله ، وسألوه ، فاستعجم عليهم ، وتمادى في البكاء ، فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء إليه ، فقال : ما الذي أبكاك ؟ قال : مرت بي أية ، قال : وماهي ؟ قال : [ وبدالهم من الله مالم يكونوا يحتسبون ] فبكى أبوحازم معه فاشتد بكاؤهما .
وقد جزع ابن المنكدر عند الموت ، فقيل له : لم تجزع ؟ قال : أخشى آية من كتاب الله : [ وبدالهم من الله مالم يكونوا يحتسبون ] فأنا أخشى أن يبو لي من الله مالم أكن أحتسب .
تمتعه في قيام الليل
قال ابن المنكدر : إني لأدخل في الليل فيهولني ، فأصبح حين أصبح وما قضيت منه أربي .
عطاء بن أبي رباح هو الإمام شيخ الإسلام ، مفتي الحرم ، أبو محمد القرشي مولاهم
ولد في أثناء خلافة عثمان ، وحدث عن عائشة وأم سلمة ، وأم هاننئ ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، وابن عمر وغيرهم من الصحابة .
وكان ثقة ، فقيها ، عالما ، كثير الحديث .
وكان بنو أمية يأمرون في الحج مناديا يصيح : لايفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح .
طول الصلاة مع كبر السن :
وعن ابن جريج صحبت عطاء ثماني عشرة سنة ، وكان بعد ماكبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مئتي آية من البقرة وهو قائم لايزول منه شيء ولايتحرك .
الإمام القدوة ربيعة بن يزيد لم يؤذن للصلاة إلا وهو في المسجد
: " ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضا أو مسافرا .
الإمام الثقة صفوان بن سليم الزاهد العابد
يطرد النوم عن نفسه بالبرد وشدة الحر :
كان يصلي على السطح في الليلة الباردة لئلا يجيئه النوم .
وعن مالك بن أنس : كان صفوان بن سليم يصلي في الشتاء في السطح ، وفي الصيف في بطن البيت ، يتيقظ بالحر والبرد ، حتى يصبح ، ثم يقول : هذا الجهد من صفوان وأنت أعلم ، وإنه لترم رجلاه حتى يعود كالسقط من قيام الليل ، ويظهر فيه عروق خضر .
سليمان بن طرخان التيمي الإمام شيخ الإسلام ، أبو المعتمر التيمي البصري .
نزل في بني تيم فقيل التيمي .
قال الإمام أحمد : ثقة , وقال ابن معين والنسائي : ثقة ، وقال العجلي : ثقة من خيار أهل البصرة . وقال ابن سعد من العباد المجتهدين ، كثير الحديث ثقة .
قال سفيان حفاظ البصرة ثلاثة : سليمان التيمي ، وعاصم الأحول ، وداود بن أبي هند ، وعاصم أحفظهم . وعن ابن علية قال : سليما التيمي من حفاظ البصرة .
تقاسم قيام الليل مع أسرته
قال عبد الملك بن قريب الآصمعي : بلغني أن سليمان التيمي قال لأهله : هلموا حتى تجزئ الليل فإن شئتم كفيتكم أوله وإن شئتم كفيتكم آخره .
نشاط في العبادة لم يعرف الفتور
روى مثنى بن معاذ عن أبيه قال : ماكنت أشبه عبادة سليمان التيمي إلا بعبادة الشاب أول مايدخل في تلك الشدة والحِدة .
وقال : كنت إذا رأيت التيمي كأنه غلام حدث ، قد أخذ في العبادة . كانةا يرون أنه أخذ عبادته عن أبي عثمان النهدي .
لايحسن المعصية ، دائم العمل
قال حماد بن سلمة : ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله فيها إلا وجدناه مطيعا ، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصليا ، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئا ، أو عائدا مريضا ، أو مشيعا لجنازة ، أو قاعدا في المسجد . وكنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله .
ذكر جرير بن عبد الحميد أن سليمان التيمي : لم تمر ساعة قط عليه إلا تصدق بشيء ، فإن لم يكن شيء ، صلى ركعتين .
شدة خوفه من الله(/4)
قال يحي بن سعيد : ماجلست إلى أحد أخوف لله من سليمان التيمي .
نعم من كان بالله أعرف كان منه أخوف أولئك العلماء الربانين . فأين نحن منهم ؟ وما نصيبنا من هذا الخوف والخشية ؟
الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمد ، شيخ الإسلام ، وعالم أهل الشام ، أبوعمرو الأوزاعي .
جلده في العباده
قال الوليد بن مزيد : كان الأوزاعي من العبادة على شيء ما سمعنا بأحد قوي عليه ، ما أتى عليه زوال قط إلا وهو قائم يصلي .
وقال الوليد بن مسلم : ما رأيت أكثر اجتهادا في العبادة من الأوزاعي .
وقال ضمرة بن ربيعة : حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومئة ، فما رأيته مضطجعا في المحمل في ليل ولا نهار قط ، كان يصلي ، فإذا غلبه النوم ، استند إلى القتب .
كأنه أعمى من الخشوع
قال إبراهيم بن سعيد الجوهري : حدثنا بشر بن المنذر قال : رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع.
مصلاه رطب من دموعه
وكان يحي الليل صلاة وقرآنا وبكاء . وكانت أمه تدخل منزله ، وتتفقد موضع مصلاه ، فتجده رطبا من دموعه في الليل .
العالم الفقيه شيخ الإسلام ابن أبي ذئب .
بلغ به من العبادة بما لامزيد عليها
كان يصلي الليل أجمع ، ويجتهد في العبادة ، ولو قيل له : إن القيامة تقوم غدا ، ماكان فيه مزيد من الاجتهاد .
الإمام الحجة الحافظ هشام الدستوائي .
شدة الخوف والخشية من الجبار
عن عبيد الله العيشي قال : كان هشام الدستوائي إذا فقد السراج من بيته ، يتململ على فراشه ، فكانت امرأته تأتيه بالسراج . فقالت له في ذلك ، فقال : إني إذا فقدت السراج ، ذكرت ظلمة القبر .
فسدت عينه من كثرة البكاء
وقال شاذ بن فياض : بكى هشام الدستوائي حتى فسدت عينه ، فكانت مفتوحة ، وهو لا يكاد يبصر بها .
وعن هشام قال : عجبت للعالم كيف يضحك . وكان يقول : ليتنا ننجو لا علينا ولا لنا .
الإمام الحافظ الثبت شيخ العراق مسعر بن كدام بن ظهير بن عبيدة .
طول السجود وقراءة نصف القرآن قبل النوم
عن خالد بن عمرو قال : رأيت مسعرا كأن جبهته ركبة عنز من السجود .
وقال محمد بن مسعر : كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرآن .
وقال محمد بن مسعر : كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرآن ، فإذا فرغ من ورده لف رداءه ثم هجع عليه هجعة خفيفة ، ثم يثب كالرجل الذي ضل منه شيء فهو يطلبه ، وإنما هو السواك والطهور ، ثم يستقبل المحراب ، فكذلك إلى الفجر ، ، وكان يجهد على إخفاء ذلك جدا .
وكان يقول :
نهارك يامغرور سهو وغفلة وليلك نوم ، والردى لك لازم
وتَتعب فيما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم
عبد العزيز بن أبي رواد شيخ الحرم أحد الأئمة العباد .
أعبد الناس
قال ابن المبارك : كان من أعبد الناس .
وقال شقيق البلخي : ذهب بصر عبد العزيز عشرين سنة ولم يعلم به أهل ولا ولده .
أمير المؤمنين في الحديث الثبت الحجة شعبة بن الحجاج .
طول الصلاة
قال أبوقطن : ما رأيت شعبة ركع قط إلا ظننت أنه نسي ، ولا قعد بين السجدتين إلا ظننت أنه نسي.
جد وجلد لا يعرف الفتور أو الراحة
وقال أبو بحر البكراوي : ما رأيت أحدا أعبد لله من شعبة ، لقد عبد الله حتى جف جلده على عظمه واسود .
وقال عمر بن هارون : كان شعبة يصوم الدهر كله .
وقال عفان : كان شعبة من العباد .
المحدث الثقة بشر بن الحسن الصفّي :
يقال له : ( الصفي ) لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة
ابراهيم بن ميمون المروزي
أحد الدعاة المحدثين الثقات من أصحاب عطاء بن أبي رباح ، وكانت مهنته الصياغة وطرق الذهب والفضة . قالوا : ( كان فقيها فاضلا . من الامّارين بالمعروف) .
لا يشغله عن الصلاة شيئ
وقال ابن معين : كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها ) .
كثير بن عبيد الحمصي
جمع الهم على الله في الصلاة
سئل عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط وقد أم أهل حمص ستين سنة كاملة ، فقال : ( ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفس غير الله ).
قاضي قضاة الشام سليمان بن حمزة المقدسي، وهو من ذرية ابن قدامة صاحب كتاب المغني :
لم يصل الفريضة منفردا
قال ( لم أصل الفريضة قط منفرداً إلا مرتين ، وكأني لم أصلهما قط ) مع أنه قارب التسعين .
يارجال الليل جدوا رب صوت لا يرد
ما يقوم الليل إلا من له عزم وجدٌّ
ويبصرني كيف الدنيا بالأمل الكاذب تغمسني
مثل الحرباء تلونها بالأثم تحاول تطمسني
فأبعدها وأعاندها وأرقبها تتهجسني
فأشد القلب بخالقه والذكر الدائم يحرسني
قيام الليل :
يحيون ليلهم بطاعة ربهم بتلاوة ، وتضرع ، وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان ، وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الأبطال
بوجوههم أثر السجود لربهم وبها أشعة نوره المتلالي
المسارعة إلى الصلاة
يمشون نحو بيوت الله إذا سمعوا الله أكبر في شوق وفي جذل
أرواحهم خشعت لله في أدب قلوبهم من جلال الله في وجل
نجواهم : ربنا جئناك طائعة نفوسنا ، وعصينا خادع الأمل
إذا سجى الليل قاموه وأعينهم من خشية الله مثل الجائد الهطل(/5)
هم الرجال فلا يلهيهم لعب عن الصلاة، ولا أكذوبة الكسل
قال ابن المبارك :
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغاً مستريحا
وإذا هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكانه تسبيحا
قال الوليد بن مسلم : رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه ، يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ويخبرنا عن السلف : أن ذلك كان هديهم ، فإذا طلعت الشمس ، قام بعضهم إلى بعض ، فأفاضوا في ذكر الله ، والتفقه في دينه .
تتكدر العبادة ويذهب صفاؤها بالهوى
قال أحد السلف : " الهوى لايترك العبودية تصفو ، وما لم يشتغل السالك بأضعاف هذا العدو الذي بين جنبيه لا يصح له قدم ، ولو أتى بأعمال تسد الخافقين . والرجل كل الرجل من داوى الأمراض من خارج ، وشرع في قلع أصولها من الباطن ، حتى يصفو وقته ، ويطيب ذكره ، ويدوم أنسه "
ولذلك كان السلف الصالح يجدون من لذة التعبد مالا يكافؤه لذة الدنيا بأسرها .
ضعف العبادة من العقوبات
وقال مالك : ( إن لله تبارك وتعالى عقوبات في القلوب والأبدان وضنكاً في المعيشية وسخطاً في الرزق ووهناً في العبادة ).
أعبد أهل مصر
أبوتميم الجَيشاني من أئمة التابعين بمصر ولد في حياة النبي صلىالله عليه وسلم وقدم المدينة في خلافة عمر.
قال يزيد بن أبي حبيب : كان من أعبد أهل مصر .
التوازن في شخصية المسلم وإعطاء كل ذي حق حقه
التوزن صمام أمان في جميع الأحوال ومنها :
1ـ وقت المحن والمصائب ، والشدائد العامة والخاصة .
2ـ وعندما تلوح الشهوات .
3ـ وحين ترد الشبهات .
4ـ وحين تأخر الثمار .
لتكن هممكم عالية :
عن مالك بن دينار قال : ( إن صدور المؤمنين تغلي بأعمال البر وإن صدور الفجار تغلي بأعمال الفجور والله تعالى يرى همومكم فانظروا ما همومكم رحمكم الله )
هكذا كان جدهم وتيقظهم :
عن إبراهيم التيمي قال حدثني من صحب الربيع بن خيثم عشرين سنة قال فما سمعت منه كلمة تعاب).
روى منصور بن إبراهيم قال : قال فلان : ما أرى الربيع بن خثيم تكلم بكلام منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعد . وعن بعضهم قال : صحبت الربيع عشرين عاما ماسمعت منه كلمة تعاب "
تلك الهمم العالية والدأب الذي لا يهدأ
قال إبراهيم الحربي عن الإمام أحمد :
قال إبراهيم الحربي : ( ولقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً وحراً وبرداً وليلاً ونهاراً فما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس )
الإمام أحمد يهتم بأهل الخير ويتفقدهم ويعقد الصلات معهم :
قالوا كان الإمام أحمد ( إذا بلغه عن شخص صلاح ، أو زهد ، أو قيام بحق أو اتباع للأمر : سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة ، وأحب أن يعرف أحواله )
سئل رجل ابن الجوزي : ( أيجوز أن أفسح لنفس في مباح الملاهي ) ؟
فقال : ( عند نفسك من الغفلة ما يكفيها )
قال ابن القيم رحمه الله : ( لا بد من سنة الغفلة ، ورقاد الغفلة ولكن كن خفيف النوم )
وانته من رقدة الغفلة فالعمر قليل واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل
قال الإمام الشافعي : ( طلب الراحة في الدنيا لا يصلح لأهل المروءات فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان )
سئل أحد الزهاد عن سبيل المسلم ليكون من صفوة الله ، قال : ( إذا خلع الراحة ، وأعطى المجهود في الطاعة )
قيل للإمام أحمد : ( متى يجد العبد طعم الراحة ) ؟ قال ( عند أول قدم يضعها في الجنة )
أوقف نفسك على مصالح المسلمين
قالت فاطمة بنت عبد الملك تصف زوجها عمر بن عبد العزيز : ( كان قد فرغ للمسلمين نفسه ، ولأمورهم ذهنه ، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه : وصل يومه بليلته )
قال بعض أصحاب عمر القدامى لعمر : ( لو تفرغت لنا ) فقال : ( وأين الفراغ ؟ ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله )
استغرق أوقاته في الخير:
قالوا عن محمد بن أحمد الدباهي : ( لازم العبادة ، والعمل الدائم والجد ، واستغرق أوقاته في الخير . . صلب في الدين ، وينصح الإخوان ، وإذا رآه إنسان : عرف الجد في وجهه )
ولما تعجب غافل من باذل وقال له:( إلى كم تتعب نفسك ؟ ) .كان جواب الباذل سريعاً حاسماً :
( راحتها أريد )
ليس للفراغ عليهم سبيل
قال ابن عقيل : إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري ، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة ، وبصري عن مطالعة ، أعملت فكري في حال راحتي ، وأنا مستطرح ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره . وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة "
وقال : " أنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي ، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز ، لأجل ما بينهم من تفاوت المضغ ، توفرا على مطالعة ، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه"
المبادرة لا التسويف :
قال يحيى بن معاذ : ( لا يزال العبد مقروناً بالتواني ، مادام مقيماً على وعد الأماني )
حفت الجنة بالمكاره :
( وأتعب الناس من جلّت مطالبه )
لا تنال الدعوة بالكسل والهمم الدنيئة
قال أحد السلف لرويم الزاهد أوصني فقال : " هو بذل الروح وإلا فلا تشتغل بالترهات "(/6)
وقال ابن الجوزي : " أول قدم في الطريق بذل الروح . . . هذه الجادة فأين السالك ؟ ?
وقال لسان الدين ابن الخطيب : " طريق القوم مبنية على الموت "
إن نفسا ترتضي الإسلام دينا ثم ترضى بعده أن تستكينا
أو ترى الإسلام في أرض مهينا ثم تهوى العيش نفس لن تكونا
في عداد المسلمين العظماء
نصر الدين ليس بالمجان
أعطوا ضريبتهم للدين من دمهم والناس تزعم نصر الدين مجانا
عاشوا على الحب أفواها وأفئدة باتوا على البؤس والنعماء إخوانا
الله يعرفهم أنصار دعوته والناس تعرفهم للخير أعوانا
أنت وقف في سبيل الله
" والنبي صلىالله عليه وسلم كانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده ، ولهذا كان أرفع العالمين ذكرا ، وأعظمهم عند الله قدرا "
( وطالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة ، بل وإلى كل علم وصناعة ورئاسة ، بحيث يكون رأساً في ذلك مقتداً به فيه ، يحتاج أن كون شجاعاً مقداماً ، حاكماً على وهمه ، غير مقهور تحت سلطان تخيله ، زاهداً في كل ما سوى مطلوبه عاشقاً لما توجه إليه ، عارفاً بطريق الوصول إليه ، والطرق القواطع عنه ، مقدام الهمة ، ثابت الجأش ، لا يثنيه عن مطلوبه لوم لائم ولا عذل عاذل ، كثير السكون ، دائم الفكر ، غير مائل مع لذة المدح ولا ألم الذم ، قائماً بما يحتاج إليه من أسباب معونته ، لا تستفزه المعارضات ، شعاره الصبر وراحته التعب )
همان يتطاردان :
حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا سيار حثنا جعفر قال سمعت مالكاً يقول : ( بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج هم الآخرة من قلبك وبقدر ما تحزن للآخرة كذلك يخرج هم الدنيا من قلبك) .
جهل غيرك لايغلب علمك
قال خالد بن صفوان : ( إن أقواماً غرهم ستر الله ، وفتنهم حسن الثناء ، فلا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك ).
قال قتادة بن دعامة السدوسي :
( قد رأينا والله أقواماً يسرعون إلى الفتن وينزعون فيها ، وأمسك أقواماً عن ذلك هيبة لله ومخافة منه ، فلما انكشفت ، إذا الذين امسكوا أطيب نفساً ، وأثلج صدوراً ، وأخف ظهوراً من الذين أسرعوا إليها وينزعون فيها ، وصارت أعمال أولئك حزازات على قلوبهم كلما ذكروها . وأيم الله ! لو أن الناس كانوا يعرفون منها إذ أقبلت ما عرفوا منها إذ أدبرت لعقل فيها جيل من الناس كثير ).
صاحب القلب المريض ينكشف عند الغبرة
في وقت الرخاء والأمن تختلط الصفوف ، ويصعب التمييز ، فإذا وقعت الشدائد ونزلت الفتن اتضح الناس على حقيقتهم ، كمثل المصدور عند صغاء الجو يختلط مع الأصحاء ولا ينكشف أمره إلا عند الغبرة . قال تعالى [ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله ما يشاء ] .
( تعرض الفتن على القلوب كالحصير ، عوداً عوداً ، فأي قلبٍ أشربها نكت فيه نكتت سوداء ، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكت بيضاء ، حتى تصير على قلبين ، على أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، ولآخر أسود مرباداً ، كالكوز مجخياً ، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ، إلا ما أشرب من هواه ) .(/7)
السنة النبوية وأثرها في صلاح الأمة
لفضيلة الشيخ علي عبدالرحمن الحذيفي إمام المسجد النبوي
الحمد لله العزيز العليم، التواب الرحيم، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويضل من يشاء بعدله وحكمته وعلمه، أحمد ربي وأشكره على فضله العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العلي العظيم، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث بالهدي القويم، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ذوي الخلق الكريم.
إنَّ الله تفضل وتكرَّم على الخلقِ ببعثة سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين {الأنبياء: 107}، فالمسلمُ مرحومٌ رحمةً خاصة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه آمن بها واتَّبعها وعمل بها، والكافر مرحومٌ رحمةً عامة برسالة الإسلام؛ لأن تمسك المسلمين بدينهم وتطبيقهم لتعاليمه، يخفف الله به شر الكافرين، ويخفف الله به منابع فساد المفسدين، قال الله تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين {البقرة:251}.
وقد أنزل الله على نبيّه أعظمَ كتاب، وأنزلَ عليه أعظمَ تفسيرٍ للقرآن الكريم وهو السنّة النبويّة، وحفِظَ الله القرآن والسنة من التغيير والتّبديل، وحفظهما من فاسِدِ الآراء والتأويل الباطل، وأقام الله الحجّةَ على العالمين بسيِّد المرسَلين عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهدَى الله نبينا محمَّدًا صلى الله عليه وسلم إلى أحسَن الهَدي، ويسَّره لأحسنِ السّبل وأسهل المناهج، قال الله تعالى لنبيّه: ونيسرك لليسرى {الأعلى:8}، وروى مسلمٌ من حديث جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلُّ بدعة ضلالة"(1).
وقد وفَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم مقاماتِ العباداتِ كلَّها ومراتبَ الدّين، وفضائل الأعمال والخصال المحمودة والأخلاق المرضية، قد وفَّى هذه الأمورَ كلَّها حقَّها، وأتى بالغايةِ في ذلك كلِّه، فرسول الله هو القدوةُ للعابد، والقدوةُ للداعية، والقدوة للمعلِّم، والقدوةُ للحاكم، والقدوة للقائد، والقدوةُ للجنديّ، والقدوةُ للزّوج وللأب، والقدوةُ في المعاملات وفي كلّ حالٍ يتقلّب فيه الإنسان، قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا {الأحزاب: 21}، وقال تعالى: وإنك لعلى خلق عظيم {القلم: 4}، قالت عائشة رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن"(2)، أي: يعمَل به في كلّ صغيرةٍ وكبيرة، ويتَّصف ويعمَل بما يدعو إليه القرآن، ويجانبُ ما ينهى عنه القرآن.
وسنّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معالم هُدى في الصراط المستقيم، يقتدي بها المسلمون، ولقد جمعت سنةُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الفضائل كلّها والخيراتِ والكمالاتِ كلَّها، فمن عمل بالسنة فقد جمع الله له الخير كله، ومن ترك السنةَ فقد حُرم الخيرَ كلَّه، ومن ترك بعضَ السنة فقد فاته من الخير بقدرِ ما ترك من السنة النبوية.
وإذا كانت هذه منزلة السنة النبوية، وهذا فضلها ومكانها السني وشرفها العلي، فما معنى هذه السنة؟
السنة- يا عباد الله- معناها في اللغة: الطريق المسلوك والعادة المتَّبعة، قال تعالى: سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا {الإسراء: 77}.
ويرادُ بالسنة في الشرع: التمسكُ والعمل بما كان عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو وخلفاؤه الراشدون المهديون وصحابتُه السابقون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، كما يُرادُ بالسنة أقوالُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأفعالُه وتقريراته؛ لأن ذلك أصلُ الاعتقاد والعمل.
أمة الإسلام، إنَّ الحال التي وصل إليها المسلمون يحزن لها قلبُ كلّ مؤمن، وتدمع العين، وتأسى النفس، فقد تكالب عليهم الأعداءُ، ونال هؤلاء الأعداءُ من المسلمين ما يغيض المسلمين في كل مجال، واستهانوا بحقوقهم وتجرءوا عليهم واستخفوا بقيمهم، وتمادوا في الظلم والعدوان عليهم، ومزَّقت المسلمين نزعات التعصب المذهبي والمناهج الحزبية، والقوميات الجاهلية والبدع المحدثة، وأضعف المسلمين تناحرهم وتفرقهم والأهواءُ الضالة واتباع الشهوات المحرمة، وليس ذلك الضعفُ والانحطاط والذُّل لقلة عدد المسلمين، فهم أكثرُ أهل الأديان عددًا، وإنما مُصابُ المسلمين بالتقصير في العمل بدينهم، قال الله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال {الرعد:11}.(/1)
وإنّ الوضع الذي عليه المسلمون اليومَ من كيد أعدائهم لهم، وإنزالِ أنواع البلايا والمِحَن عليهم، إنّ تِلك الحالَ وذلك الوضع قد أيقظَ الهِمَمَ العالية، وأوجب النصائحَ الصادِقة أنِ ارجعوا- أيها المسلمون- إلى ربِّكم، وتوبوا إلى بارئكم، وتمسَّكوا بدينكم، واعملوا بكتابِ ربِّكم وسُنَّة نبيكم، يرحمكم ربُّكم ويرفَع ما نزل بكم.
وإنَّ أسباب أمراضَ المسلمين قد كثُرت، وإن أسبابَ انحطاطِهم قد تعدَّدت، ومصائبهم قد توالت والعقوبات قد عظُمت، وقد يزداد الأمرُ سوءًا ولكنَّ العاقبةَ للإسلام.
إنَّ أدواءَ المسلمين ليس لها دواءٌ إلاَّ السنَّة النبوية، إنَّ اتباعَ سنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والتمسّك بمنهج السلف الصالح، عِلاجُ الأمراض وزوالُ المكروهات ونزُول البركات والخيرات، والتمسُّك بالسنة هو الاجتماع ونَبذ الخلافات وتوادُّ القلوب واتفاق النيات، والتمسُّك بالسنة هو النصرُ على أعداء الحقِّ، وعلى أهلِ الغيّ والشهوات، قال بعض أهل العلم: "ما مِن بلدٍ يعمَل أهلُه بالسنّة وتظهر فيه أنوارها إلاَّ كان منصورًا ظاهرًا على عدوِّه، وما مِن بلدٍ تنطفئ فيه أنوارُ السنة إلاَّ غلَب عليه عدوُّه". وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: "جُعِل رزقي تحتَ ظلِّ رمحي، وجُعلت الذِّلَّة والصّغار على من خالف أمري، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم"(3)، وروى أبو داود والترمذي عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه-، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وجلت منها القلوبُ وذرَفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظةُ مودِّع فأوصنا، قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمعِ والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد، فإنّه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتيّ وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كلّ بدعة ضلالة"(4).
إنّ الدعوةَ للسنّة النبوية هي للناس كلِّهم، ففرضٌ على كلّ مسلم أن يقومَ بذلك، فدعوةُ المسلم لأخيه المسلم بتكميل نقصِ تمسُّكِه بالسنة، واستدراكِ ما فاته مِن العمل بالسنة، وجَبر تقصيرِه في دينه وتذكيره بغفلته وتعليمه ما يجهله، ومعاونته على الخير وتحذيره من الشر، ودعوةُ المسلم للكافر ببيان محاسنِ الإسلام وإقامة الحجّة عليه، وأن يكونَ المسلم قدوةً صالحة في دينه.
وأنتم- أيها المسلمون- في هذه البلاد عافاكم الله مما ابتُلِيت به بعض البلدان من كثير من الشرور، فاحمدوا الله على ذلك، ولكن احذَروا أن تفتَحوا على أنفُسكم أبوابَ الشرِّ الذي فُتِح على غيركم، فإن الأمة ما تزال بخير ما لم تفتح على نفسها باب الشرِّ، فإذا انفتح باب شر فلن يُغلق، واعتبروا بما وقع فيه العالَم من الفتن التي يرقق بعضها بعضا، والتي أفسدت الحياة ودمرت المجتمعات، والسعيد من وُعِظَ بغيره والشقيُّ من وُعِظَ به غيره، واحذروا التهاونَ بالذنوب، فإنها سببُ العقوبات، وليكُن المسلم في يومِه خيرًا منه في أمسِه، وفي غدِه خيرًا منه في يومه، ولا يرضَى لنفسِه بالتأخُّر في الطاعة والتساهل في المعصية.
وإياكم- معشر المسلمين- والموانعَ من اتّباع السنَّة، وأعظمُ مانعٍ من اتّباع السنةِ اتباعُ الهوى، قال الله تعالى عن المعاندين للحق: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين {القصص:50}. وأهلُ البدَع يُسمِّيهم السلفُ أهلَ الأهواء لمباعدتهم السنَّة. وإياكم وفتنةَ الدنيا وركوبَ الشهواتِ المحرمة، فإنَّ ذلك يصدُّ عن السنة، قال الله تعالى: بل تؤثرون الحياة الدنيا *والآخرة خير وأبقى {الأعلى:16، 17}، وقال تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا {مريم:59}.
وممّا يصُدُّ عن سنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم تقليدُ الضالّين المُضِلِّين من ذوي التعصُّب المذموم، وأربابِ الطُرُق الضالّة والأهواء المنحرفة، قال الله تعالى: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون {الأعراف:3}.
وممّا يصُدُّ عن سنّةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم الجهلُ بها، وفي الحديث: "من يُردِ الله به خيرًا يفقّهه في الدين" رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية - رضي الله عنه -.(/2)
فلا يحُلْ بينك وبين السنّة- أيها المسلم- حائل، ولا يصدَّنَّك عنها شيء، فإنه لا يأمَن من الشر والعقوبات ولا يفوز بالخير والجنات، إلاَّ من تمسَّك بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، فتمسك بهذه السنَّة في كل صغيرة وكبيرة من حياتك، واحفظ من القرآن واحفظ من الحديث ما تحتاجه في عباداتك ومعاملاتك، وكلما ازددت فهو خير لك، قال الله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب {الحشر:7}، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون *ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون {الأنفال:20، 21}.
عبادَ الله، اغتنموا الأوقات في الأعمال الصالحات، ولا تضيعوا الأعمار بتفويت فرص القدرة على فعل الخيرات والتمكن من الحسنات، قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون {الحشر:18}. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مَغْبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناس، الصِّحَّة والْفَرَاغُ". وإذا أرخى المسلم لنفسه الزمام فلا يتعدى المباح إلى المحرم، فطوبى لمن لم يتجاوز المباح إلى المحرمات. وأحسنوا الرعاية على من ولاكم الله أمره من الرعية، فمسؤولية الأولاد مسؤولية عظيمة، فلا تتركوهم يتعرضون للشرور والضياع، ولا تغفلوا عن إصلاح بيوتكم، فإن الأسرة لبنة المجتمع، ولا ترتادوا في السياحة إلا البلاد المأمونة من الفساد، وفي بلادكم مبتغيً لمريد الاصطياف والسلامة والأمان.
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما {الأحزاب:56}. وقد قال: "من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً". فصلُّوا وسلِّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرا.
(1) صحيح مسلم (ح867).
(2) أخرجه مسلم (ح746).
(3) أخرجه أحمد (2-50)، والحديث صححه الألباني في الإرواء (1269).
(4) سنن أبي داود (ح4607)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).(/3)
... ... ...
السوق آداب وتوجيهات عامة ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- أهمية الأسواق لحياة الناس 2- إباحة الاشتغال بالتجارة، وكيف كان حال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا. 3- مراقبة النبي صلى الله عليه وسلم للسوق وتعهده له 4- توجيهات وآداب لمن يرتادون السوق 5- حال النساء عند دخول الأسواق وماالذي يجب على أولياء الأمور ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)).
إن الحديث عن السوق حديث طويل ،لكثرة مسائله وجهل الناس بمعظمها ،ولحاجة الناس اليومية ،من دخولهم إلى الأسواق لبيع أو شراء أو نحوه ،فهذه فاتحة الحديث عن الأسواق:
السوق أيها الأحبة ،قديم قدم هذا الإنسان ،فقد وجدت منذ كثر الناس على سطح المعمورة ،وازدحمت وضاقت بهم البلدان.
وقد كان للعرب في الجاهلية أسواقاً يتبايعون فيها ،روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومَجّنَّة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية ،فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا فيه ،فنزل قول الله تعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم .
وكان بالمدينة في الجاهلية عدة أسواق متنوعة الأغراض ،منها سوق حُباشة ،وهذه السوق كانت مخصوصة لبيع العبيد ،وسوق بالجسر في بني قينقاع وغيرها من الأسواق.
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ،حدد مكاناً معيناً للسوق في موضع بقيع الزبير ،وضرب فيه قبة، وقال لأصحابه: هذا سوقكم.
ولكنه عليه الصلاة والسلام ،رأى غيره أنفع منه وأكثر تحقيقاً لمصالح المسلمين ،فعدل عنه ،وذهب إلى مكان آخر يسمى حَرُّ فسيح ،وخطه برجله وقال: ((هذا سوقكم فلا يُنتقصن ولا يُضربن عليه خراج)).
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم ،مما أعلمه ربه من علم الغيب ،أنه حذر بعض أصحابه من بعض الأسواق ،ففي الحديث الصحيح أنه قال لأنس: ((يا أنس إن الناس يُمصرون أمصاراً ،أي إن الناس سينشئون في المستقبل مدناً يسكنون فيها – وإن مصراً منها يقال لها البصرة ،فإن مررت بها أو دخلتها ،فإياك وسباخها ،وكُلاّءها – وهو شاطئ النهر – وسوقها ،وباب أمرائها، وعليك بضواحيها ،فإنه يكون بها خسف وقذف ورجف ،وقوم يبيتون يصبحون قردة وخنازير)) وبعض هذا الحديث لم يتحقق بعد. والله المستعان.
وعندما جاء الإسلام ،أولى للسوق اهتماماً خاصاً فقد دعى هذا الدين إلى العمل بالتجارة ،واكتساب المال عن طريقها ،قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ،وقال عز وجل: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة .
أيها المسلمون: لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرتاد الأسواق كسباً للرزق وطلباً للمعاش ،حتى عاب المشركون عليه ذلك بقولهم ،كما حكى ذلك القرآن وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق .
هذا وقد اقتدى به صلى الله عليه وسلم أصحابه ،فكانوا يرتادون الأسواق ،ويتجرّون فيها بأموالهم ،ولا يرون في ذلك بأساً.
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه بزازاً ،يتاجر بالبز ،وكان يغدو إلى السوق فيبيع ويبتاع ،إلى أن فُرض له عطاءً بعد أن تولى الخلافة.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،يعلل خفاء أحكام بعض المسائل الشرعية عليه بانشغاله بالصفق في الأسواق ،وحديث عمر في البخاري في كتاب البيوع ،باب الخروج في التجارة.
ثم هذا الصحابي المهاجر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يعرض عليه أخوه في الله سعد بن الربيع أن يشاطره ماله ،ويختار إحدى زوجتيه فيطلقها له ،فيلقى هذا الإيثار النبيل ،بعفاف نبيل ويقول عبد الرحمن لسعد: بارك الله لك في مالك وأهلك ،لا حاجة لي في ذلك ،وإنما دلني على السوق ،لأتجر فيها ،فدله سعد عليها فغدا إليها ،فأتى بأقط وسمن ،وباع واشترى حتى فتح الله عز وجل عليه.
أيها المسلمون: لقد حظي السوق في عهده صلى الله عليه وسلم باهتمامه ورعايته ،فتعهده بالإشراف والمراقبة ،ووضع له ضوابطاً ،وسن له آداباً ،وطهره من كثير من بيوع الجاهلية المشتملة على الغبن والغرر والغش والخداع والربا.
كما منع عليه الصلاة والسلام ،بيع المحرمات فيه ،ومنع: إنشاد الأشعار والتفاخر بالأحساب والأنساب فيه ،وقد داوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على تفقد أحوال السوق بنفسه ،أو مع بعض أصحابه ،ومراقبة الأسعار ،ومنع أي احتكار أو استغلال قد يقع فيه.
روى مسلم في صحيحه ،عن أبي هريرة رضي الله عنه ،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،مرّ على صُبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟فقال: أصابته السماء يا رسول الله ،قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ،من غشنا فليس منا)).(/1)
عباد الله: هذه خمسة توجيهات أو سمّها آداب متعلقة بالسوق ،أقدمها بين يديك لتأخذ بها ،وتراعيها عند دخولك وخروجك من السوق.
أولاً: إذا دخلت السوق ،فعليك بهذا الدعاء، وينبغي علينا جميعاً حفظه.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحي ويميت ، وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كل شيء قدير ،كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، وبنى له بيتاً في الجنة)) حديث حسن رواه الترمذي.
إن السوق في الغالب ،مكان غفلة عن ذكر الله ،فهو موضع سلطنة الشيطان ،ومجمع جنوده ،لهذا شُرع للمسلم الذكر ليقاوم غلبة الشيطان.
ثانياً: لا تكن سخاباً بالأسواق ،والسخب هو رفع الصوت بالخصام واللجاج ،ورد في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق ،ولا يدفع بالسيئة السيئة ،ولكن يعفو ويغفر)) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه. السخب مذموم في ذاته ،فكيف إذا كان في الأسواق ،التي هي مجمع الناس من كل جنس ،إنه لا يليق بالرجل العاقل الرزين أن يكون سخاباً يستفزه أقل إنسان ،من أجل ريالات معدودات ،فالعقل العقل أخي المسلم.
ثالثاً: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .
إن كثرة تردد العبد على الأسواق ،يعرضه لرؤية ما لا يرضي الله عز وجل ،فإن الأسواق قل ما تسلم من مناظر محرمة ،خصوصاً ما نراه من تسكع نساء هذا الزمان في الأسواق والتبرج وإظهار الزينة بدون حياء ،فعليك أخي المسلم إذا دخلت السوق أن تغض بصرك بقدر ما تستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. إن الله جل وتعالى جعل العين مرآة القلب. فإذا غض العبد بصره ،غضّ القلب شهوته وإرادته.وإذا أطلق العبد بصره ،أطلق القلب شهوته وإرادته. أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة ،فالعين تزني وزناها النظر ،واللسان يزني وزناه النطق ،والرجل تزني وزناها الخطى ،واليد تزني وزناها البطش ،والقلب يهوي ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) فبدأ بزنى العين ،لأنه أصل زنى اليد والرجل والقلب والفرج.وهذا الحديث من أبين الأشياء على أن العين تعصي بالنظر وأن ذلك زناها ،لأنها تستمتع به. ((يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية)) قالها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه في حديث رواه الإمام أحمد.
رابعاً: كثرة الحلف.
روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ،المسبل إزاره ،والمنّان ،والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحلف منفقة للسلعة ،ممحقة للكسب)) متفق عليه. والمعنى أن البائع قد يحلف للمشتري أنه اشتراها بكذا وكذا ،وقد يخرج له فواتير في ذلك ،فيصدق المشتري ،ويأخذها بزيادة على قيمتها ،والبائع كذاب ،وإنما حلف طمعاً في الزيادة ،فهذا يعاقب بمحق البركة ،فيدخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي أخذها من حيث لا يحتسب ،بسبب حلفه.
اعلم أخي التاجر أن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته ،وإن تزخرفت الدنيا للعاصي ،فإن عاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب ،روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رجلاً أقام سلعته وهو في السوق، فحلف بالله: لقد أُعطى بها ما لم يعط ليوقع فيها رجلاً من المسلمين ،فنزل قول الله تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .
نفعني الله وإياكم . . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:
خامس هذه الوقفات ،مع المرأة ،ودخولها للأسواق ،وهذه القضية لوحدها تحتاج إلى خطبة مستقلة:
روى الطبراني بسند صحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً: الديوث ،والرَّجَلَةُ من النساء ،ومدمن الخمر)).
والديوث هو الذي يرضى الخبث في أهله ومحارمه، وأي خبث أيها الأحبة أشد وأعظم مما يشاهد من أوضاع النساء في الأسواق في هذا الزمان ،من التبرج والسفور والاختلاط بالرجال وقلة الحياء ،والمصيبة أنه على مرأى ومسمع من الأزواج وأولياء الأمور ،تنزل المرأة للسوق ،وفي كثير من الأحيان لغير حاجة ،فقط أنها تشعر بملل في المنزل ،والحل الذهاب لقضاء عدة ساعات في الأسواق، تدخل المحل وتخرج، وتدخل الآخر وهكذا ،وتسّعر بعض البضائع ،وهي لا تريد الشراء، وفي الغالب يفوح منها رائحة الطيب.(/2)
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى المسجد لم تقبل لها صلاة حتى تغتسل)) هذا إذا كان خروجها إلى المسجد للصلاة. فما بالكم بالسوق. اسمع أخي المسلم يقول صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة استعطرت ثم خرجت ،فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية ،وكل عين زانية)) رواه الإمام أحمد.
أقول أين غيرة الأزواج ،وحرمة أولياء الأمور على محارمهم.خذ أمثلة سريعة من واقع السوق:
تدخل المرأة للمحل، وتبدأ تساوم صاحب المحل بكل جرأة ووقاحة ،ودون حشمة ولا حياء ،والديوث جالس في السيارة ينتظرها مع الأولاد.
قضية أخرى: إن تجمل المرأة ،عند خروجها من المنزل ،ونزولها للأسواق قد تجد له تخريجاً ،لكن بماذا نفسر تجمل أصحاب المحلات وبائعي الدكاكين ،ووضع العطورات ،التي تجد أحياناً رائحتها وأنت خارج المحل ،وانتقاء الألوان الجذابة للملابس، وبعضهم يفتح القميص عند صدره ،أقول ،ماذا يريد هؤلاء ،وبماذا نفسّر هذه الظاهرة.
قضية ثالثة: وأحياناً تشاهد سيارة محمّلة بمجموعة من النساء مع السائق.تقف السيارة وسط الطريق ،ثم تنزل هذه الحمولة ،فتنفلت في السوق ،كل واحدة منهن تذهب من جهة ،والموعد بعد 4 أو 5 ساعات في المكان الفلاني ،والسائق المسكين يبحث له على رصيف مناسب ينتظر طوال هذه المدة.
أما عن المعاكسات والمغازلات في الأسواق فحدث ولا حرج ،بدأً بالبائع في المحل ،ذلك الرجل الأنيق الجميل ،الذي ذكرنا خبره قبل قليل ،وانتهاءً بهذا الشباب المراهق الفارغ ،العاري من الدين والخلق والحياء.
أقول وقد ساعدت هذه المجمعات التجارية في كثير من الأحيان على ازدياد الفساد في أسواقنا ،فإن صعوبة الجو في فصل الصيف عندنا قد يخفف، من التحرك والمكوث لساعات طويلة في الأسواق، لكن ومع هذه المجمعات المكيفة ،فإن الشر والفساد نسأل الله السلامة في تمدد وانتشار.
فاتقوا الله أيها الآباء ،وأيها الأزواج ،تابعوا نساءكم ،لا تتساهلوا في خروج المرأة للسوق ،وإن كان هناك حاجة فلا تذهب إلا وأنت معها. فإن الذئاب كثر ،والدين رقيق، والنساء ناقصات عقل ودين.
وأخيراً احذر ثم احذر وامنع أهلك تماماً من استخدام غرف المقاس داخل المحلات ،فإنها مصيبة ،وأي مصيبة.
روى بعض أصحاب السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها)).
فإنه يحرم على المرأة أن تخلع ثيابها في السوق ،بحجة القياس ،وتظن أنها في غرفة مستورة ولا أظن أن قصص وأخبار غرف المقاسات تخفى على العقلاء أمثالكم.
اللهم استر عوراتنا ،آمن روعاتنا ،واحفظنا، اللهم رحمة اهد بها قلوبنا . . . ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
السياحة كلمة ومعنى
سعود الشريم
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده و رسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على طريقه واتبعوا نهجه وهداه، وعلى من تبعهم وحذا حذوهم ما تعاقب الأجدان، الليل والنهار.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. إلزموا حدود الله: فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه. وحذار حذار من التفلت والحياد عن سبيله كما تتفلت الإبل في عُقُلها، فإنه ما من زمان يأتي إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم. وإنكم ستعرفون مِن الناس وتنكرون حتى يأتي على الناس زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله. ألا فمن استنصح الله وُفق، ومن اتخذ شِرعته نهجا هُدي للتي هي أقوم. فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.
عباد الله: تكلم أهل الأصول وعلم البيان عن الكلام وماهيته، وأن من أقسامه ما يسمى ’الحقيقة‘. وأن الكلام الحقيقي قد يكون لغويا أو شرعيا أو عرفيا، كما هو في مظانه من مؤلفاتهم. والذي يفيدنا منه في هذا المقام هو أن الأصل في الألفاظ حمْلها على الحقيقة بواحد من أقسامها الثلاثة الآنفة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن طغيان الجانب المادي واللهث وراء المحسوسات، المشغلة عن الدين والتدين و سلوك النهج القويم والدخول في دائرة الأخلاق التي تشمل الجميع، كان سببا ولا شك في قلب الحقائق وجعل الشين زيناً والمر حلواً ومثول صور شتى من اللامبالاة بقيم الألفاظ ودلالات الكلام وثمراته، كما جاء في بعض الأحاديث من تسمية الأشياء بغير اسمها، كما تسمى الخمرة عند أقوام بـ’المشروبات الروحية‘، والمخدرات ’كيوفات حيوية‘، وما أشبه ذلك. غير أن مما يروعنا، عباد الله، خلائق مقبوحة إنتشرت بين كثير من المجتمعات المسلمة في كافة الأقطار، دون مبالاة. أو بعبارة أخرى، على إغماض متعمد أو شبه متعمد من ذوي المسئوليات العامة من كافة الناس المكلفين. واستمرت موافقة الناس لها حتى حولها الإلف والمحاكاة إلى جزء لا يتجزء من الحياة العامة والتحسينات اللامحدودة.
ومن هنا، رأينا الإستهانة بالكلمة و حقيقتها التي وضعت لها. ورأينا قلة الإكتراث بالأمانات والمسئوليات الثقيلة. ورأينا القدرة على التكيف في قلب الحقائق إذا حل الهوى قلبا ً خاليا ً، فتمكن منه. ومن ثم، جُعل الجهل علما ً، وريادة ً وتطورا ً، والعلم جهلا ً والمعروف منكرا ً والمنكر معروفا ً، وهكذا دواليك.
إن محور حديثنا أيها الناس ونقطة الإرتكاز فيما سنطرحه هو ما يسمى في الكلام "السياحة". نعم، السياحة، وما تطرف منها لفظا ً ومعنى. تلكم الكلمة، عباد الله، تكاد تتواطئ أسهام الأغرار من الناس على أنها عبارة دالة بذاتها على معان منها: الترويح عن النفس، أو الإصطياف، أو الخروج عن القيود الشرعية أو العرفية، أو الإرتقاء والتمدن واتساع الأفق الثقافي، أو بعبارة أخرى تلم الجميع: ’العولمة الحرة‘. وأين كان، هذا المعنى أو ذاك، فإنه لن يخرجنا هذا كله عن القول بصدق: إن هذه المعاني والمفاهيم للسياحة كلها مغلوطة، وليست من السياحة في ورد ولا صَدر ولا هي من بابته. ولأجل أن نؤكد على ما نقول بالدليل القاطع فإن هناك نصوصا ً من كتاب ربنا وسنة نبينا، صلى الله عليه وسلم، وأقوال السلف الصالح، كلها تدل على مفهوم للسياحة مغاير لما تعارف عليه جمهرة الناس.
يقول الله، جل وعلا: "التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون،" الآية. قال بن مسعود وبن عباس وأبو هريرة وعائشة رضي الله عنهم، وغيرهم: "إن السائحين هم الصائمون." ومثل ذلك قوله تعالى: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا ً خيرا ً منكن، مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا ً." وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "سياحة هذه الأمة: الصيام." وقال بعض أهل العلم، كزيد بن أسلم وابنه: "السائحون هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم." و لذلك قال بعض السلف: " من لم يكن رُحلة، لن يكون رُحالة." أي من لم يرحل في طلب العلم للبحث عن الشيوخ والسياحة في الأخذ عنهم، سيبعد تأهله ليُرحل إليه.
وأقول أيها المسلمون: إن هذا القول كان أيام الخلافة الإسلامية وكون البلدان كالرقعة الواحدة، والله المستعان!(/1)
وثم إطلاق آخر لمعنى السياحة وهو السير للمطلوب الشرعي والبحث عنه، عبادة ً لله وقربى لديه، كالحج وزيارة المساجد الثلاثة، أو الغزو في سبيل الله أو نحو ذلك. فقد ثبت عند الترمذي في جامعه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا قَفَل من غزوة، أو حج أو عمرة، كان مما يقول في دعائه: "آيبون تائبون عابدون سائحون لربنا حامدون،" الحديث. وإطلاق آخر للسياحة بمعنى عبادة الله في أرضه للمضطهدين في دينهم والمشردين عن أوطانهم ، كما ثبت في صحيح البخاري من قصة هجرة أبي بكر، رضي الله عنه، إلى الحبشة حيث لقيه بن الدَّغِنة فقال: "أين تريد يا أبا بكر؟" فقال أبو بكر: "أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي." فقال بن الدغنة: "إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج،" الحديث.
ومن هذا المنطلق، دُونت المقولة المشهورة عن شيخ الإسلام، بن تيمية، رحمه الله، إبان إضطهاده وامتحانه: "ما يفعل أعدائي بي؟ إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وتشريدي سياحة." ولا يُعقل أيها المسلمون أن يسيح العالم المجاهد، المتقي، لأجل أن يلهو أو يعبث!
ما مضى ذكره أيها الإخوة إنما هي معان ٍ ممدوحة من معاني السياحة والذهاب على وجه الأرض في أصل الكلمة وحقيقتها. وفي المقابل، نجد سياحة مذمومة ممقوتة، نهى الشارع الحكيم عنها وأبدل الأمة خيرا منها. تلكم، عباد الله، هي السياحة في الأرض، على وجه العزلة والإنطواء والبعد عن الناس ومخالطتهم والصبر على أذاهم لأجل التعبد وحده. فقد ثبت عن أبي أمامة، رضي الله عنه، أن رجلا ً قال: "يا رسول الله: إئذن لي في السياحة." قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "إن سياحة أمتي: الجهاد في سبيل الله." رواه أبو داود في سننه وقدَّره بقوله: "باب النهي عن السياحة."
قال بن عباس، رضي الله عنهما، في قوله تعالى: "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم، إلا إبتغاء رضوان الله فما رَعوها حق رعايتها،" يقول، رضي الله عنه: "هذا عن ملوك بعد عيسى بن مريم بدلوا التوراة والإنجيل وكان بهم مؤمنون يقرأون التوراة.." إلى أن قال، رضي الله عنه: "..فقال أناس منهم: نتعبد كما يتعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دُورا كما اتخذ فلان، وهم على شركهم. فلما بعث الله النبي، صلى الله عليه و سلم، ولم يبق منهم إلا قليل، إنحط رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وصاحب دَير من ديره فآمنوا به، وصدقوه، فقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله وآمنوا برسوله، يؤتكم كِفلين من رحمته." رواه النسائي.
يقول بن كثير، رحمه الله: "وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع ألا في أيام الفتن والزلازل في الدين، كما ثبت عند البخاري من حديث أبي سعيد أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن."
فلا إله إلا الله: كم فيما مضى ذكره من عبر، ولا إله إلا الله كم يكفينا ذلك في تذكير أرباب السياحة العابثة. ألا سبحان الله: سياحة لأجل العزلة والتعبد منهي عنها، أفتكون سياحة اللهو والتخمة أحل وأنقى؟؟ لا إله إلا أنت، سبحانك، ولا نقول إلا ما يرضيك عنا.
تلك، عباد الله، بعض المعالم والشذرات حول مفهوم السياحة ،الأصل والأساس، والذي كاد يُعدم معناه أو ينمحي، حيث أبدله الناس بهذا المفهوم العارم والذي سنسلط عليه بعض الضوء والمصارحة، ففي النصح بركة والحر تكفيه من ذلك الإشارة. فنقول: إن الترويح على النفس بما أباح الله لها هو مسرح للإستئناس البريء الخالي من الصخب واللغط، على حد قول النبي، صلى الله عليه وسلم لحنظلة بن عامر، رضي الله عنه: "ولكن، ساعة وساعة،" لا كما يقول أرباب التحرر: "ساعات لك، وساعة لربك، واستعن بالهزل على الجد، والباطل على الحق،" أو: "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر!" كلا! فالبيت والمجتمع والإعلام كلهم خاضعون لحدود الله. ومتى تجاوزوا تلك الحدود، فما قدَروا الله حق قدره وما شكروه على آلائه.
إن المرء الجاد الخائف من ربه، وولي نعمته، ليس لديه متسع من الوقت أو الجهد لينفقه فيما يعود عليه بالوبال. لقد حرص كثير من الناس على تضخيم الترويح على النفس والبدن، حتى ظنوا بسبب ذلك أنهم مسجونون في بيوتهم وبلدانهم! إستصغروا ما كانوا يُكبرون من قبل، واستنزروا ما كانوا يستغفرون! أقفرت منازلهم من الأ ُنس، وألِفوا السياحة على مفهومهم القاصر، والجلوس في المنتديات حال الإغتراب، حتى أصبح المرء منهم في داره حاضرا ً كالغائب، مقيما ً كالنازح، يعلم من حال البعيد عنه ما لا يعلم من حال القريب منه.(/2)
قبل الإجازات، يَعقدون الجلسات غير المباركة عن معاقد عزمهم في شد الرحال إلى مجاري الأنهار وشواطيء البحار في بلاد الكفار أو بلاد تشبهها، يفرون من الحر اللافح إلى البرد القارس، وما علموا أن الكل من فيح جهنم ونَفَسها الذي جعله الله لها في الشتاء والصيف.
رحلات عابثة تفتقرإلى الهدف المحمود والنفع المنشود، أدنى سوءها الإسراف والتبذير، ناهيكم عما يشاهد هنالك من محرمات ومخازي لا يُدرى كيف يبيح المرء لنفسه أن يراها، وماذا سيجيب الله عن قوله: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم."
الجُل من السياح نهارهم في دُجنة وليلهم جَهْوَري، ألذ ما عند بعضهم سمر العشاق أو شَغل المشغولين بالفراغ. عبادتهم ندر وغوايتهم غمر. يأكلون الأرطال ويشربون الأسطال، ويسهرون الليل وإن طال، حتى يصير الصبح ليلا ً والليل صبحا ً، فيختل الناموس الذي خلق الليل والنهار من أجله. فلا يُرخي الليل سدوله إلا وقد سَحب اللهو ذيوله. وتمشت البلادة في عظام المرء حتى تترقى إلى هامه وتسْلم العقل، فيُخلع ثوب الوقار ويُلاطف بعبث مشين في سَفْسَف أو باطن من الأمر.
ومن ثم، تُعد تلك السجايا من السياحة الجاذبة. وكم يقال حينها:
هل لساهر في مثل هذا من نُزْح *** أو هل لليله من صبح
هيهات ثم هيهات، فتلك ليال طُف أجنحتها وظل أصحابها، وكيف يُرجى تقطيع ليال وافية الذوائب ممتدة الأطناب بين المشارق والمغارب؟ "وهو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا". ولا بِدْع حينئذ إذا عكست آمال هؤلاء وخابت أعمالهم فلم يرجعوا من سياحتهم إلا بنفاد المال في الدنيا وسوء المغبة في الأخرى.
إننا أيها المسلمون نحتاج حقيقة ً إلى مصارحة مع أنفسنا وإلى استحضار عقولٍ وقلوبٍ ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. إننا لنساءل رواد السياحة بأوضح صور الصراحة، فنقول لهم: أفيدونا، يا هداكم الله: ما هي إيجابيات السياحة؟ وما هي سلبياتها؟ والجواب، أن ظننا فيهم، أن يقولوا: "إيجابياتها تكمن في التعرف على البلدان ومعرفة حضارات الأقوام ومشاهدة المناظر الخلابة والآثار العامرة.." والرابع، يقال على إستحياء: "قتل الأوقات ومجاراة الناس!"
وأما السلبيات فسيجيب عنها غيورون عقلاء على أنها "لا حصر لها،" غير أن من أبرزها: "السفر إلى بلاد الكفر،" والتي نهانا النبي، صلى الله عليه وسلم، عن الإقامة بها، وكذا "السفر بلا مَحْرم عند البعض،" ومثله "التساهل في الحجاب بالنقص منه أو نزعه بالكلية!" وكذا "رؤية المنكرات والعري والإختلاط بين الجنسين ورؤية الكفر بالله ورسوله وانتهاك محارم الله،" وقولوا مثل ذلك في الإسراف والتبذير، ناهيكم عن البعد عن جو الإيمان وطاعة الله: فلا أذانٌ يُسمع ولا قرآنٌ يُتلى ولا ذكرٌ لله، إلا ما شاء الله. ومن دَعته محبته لله إلى أن يؤدي فريضة الله، فعلى إستحياء أو تخوف أو في أماكن صخب يتعذر معها معرفة القبلة أو وقت الصلاة أو أن يفقه مما أدى شيئا!
وأما ندرة الطعام الحلال، فحدثوا عن ذلك ولا حرج. أضافة إلى خطورة ما ذكر على الأطفال والشباب والفتيات، وما يَعلق في أذهانهم من حب اللهو والإحساس بأن ما عند أولئك خيرٌ مما عندنا، وأننا نعيش في أجواء الكبت والمحاصرة وقيد الحرية!
وأمثال ذلك أضعاف مضاعفة، بيد أن الحاصل في الأمر هو أن الإثم في السياحة المزعومة أكبر من النفع، والسلب أضعاف الإيجاب. ولو نظرنا إلى الخمرة، والتي يجمع المسلمون طُرا ً على تحريمها، يقول عنها، جل شأنه: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما." وإذا كنا قد ذكرنا آنفا أن السياحة على وجه العزلة للتعبد، منهي عنها، فكيف بالسياحة على وجه اللهو واللعب: ألا إن النهي أشد والمغبة أسوأ. ولو لم يكن في ذلك إلا أن المرء يذهب بنفسه وذويه إلى بلاد السوء وأرض المعاصي والكفر بالله، فلا يدري: أيُختم له في بلد الإسلام، أم في بلد الكفر؟ أفي جو الطاعة والإيمان، أم في جو المعصية وأماكن اللهو والعبث؟ والأعمال بالخواتيم!
ألا تسمعون، يا رعاكم الله، إلى ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ً وأكمل المئة بالراهب، حتى أتى عالما ً فقال له العالم: "ومن يَحُول بينك وبين التوبة؟ إنطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أ ُناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم. ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء." فانطلق، حتى إذا نَصَف الطريق، أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فجعلوا مَلكا حكما، فقال: "قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى، فهو له." فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجُعل من أهلها! فيالله، أين أنتم يا عشاق السياحة؟ لقد كان مصير هذا التائب، الخائف الوجل، متعلقا ً بمدى قربه من أي القريتين! ألا ما أصعب الجواب، وما أسحق الهوة.(/3)
وبعد، فثم سؤال آخر يطرح نفسه، ليَبين من خلاله وجه التناقض بين مآرب السياح وأرباب السياحة، وبين ما ألِفه بعضهم من جو الحفاظ والتدين. وصورة السؤال هي: "يا أيها السائح: هل أنت ممن سيقرأ دعاء السفر، إذا أردت السياحة في بلاد اللهو؟" فإن كان باحثا ً عن الحق، فسيقول: "وهل يغفل المرء المسلم دعاء السفر؟" قلنا له: "فماذا تقول في دعائك؟" فسيجيبنا: "أقول الدعاء المشهور: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا: البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى." فنقول له: "حسبك قف! لقد قلت: البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى! فأين محل البر والتقوى والعمل المُرضي في سفرك؟! أيكون مشاهدة المنكر برا ً أو تقوى؟ أيكون الجلوس أمام ما يغضب الله برا ً أو تقوى؟؟ أن ذلك كله مما لا يُرضي الله، وأنت تسأله من العمل ما يُرضيه! ألا تدري ما هو البر؟ إن أجمع ما يصوره هو قوله، جل وعلا: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون." ألا تدري مالتقوى؟ "إنما يتقبل الله من المتقين." ألا تدري مالعمل الذي يُرضي الله؟ "إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه."
ألا فاتقوا الله، معاشر المسلمين. وليس عيبا ً أن يقع أمرؤ في الخطأ، وإنما العيب، كل العيب، أن يتمادى فيه ويكابر!
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والثبات على دينك واتباع سنة نبيك، صلى الله عليه وسلم. اللهم ارزقنا من السعادة والطمأنينة والرضا بالمقسوم ما يغنينا عما عند غيرنا. اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك. بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة. أقول ما سمعتم وأستغفر الله، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا ً عبده ورسوله. أما بعد:
فيا أيها الناس: إن ما مضى ذكره حول السياحة، بين المفهوم الصحيح والمفهوم الخاطيء وما أشرنا إليه من جهة التحريم والنهي، فإن المنع قد يُرفع عند الضرورة الملجئة، وللضرورة أحوالها. بَيْد أن هناك أمرا يجدر الإهتمام به وهو أن هذا المنع لا يدل من قريب ولا من بعيد على ألا يكون للمسلمين ما يسمى على لغة الكثيرين: "التنشيط السياحي." أو بعبارة أخرى أصح: "فرص إستغلال الأوقات،" لأجل أن يستغنوا عن السفر إلى بلاد الكفار أو ما يشابهها. وفي الوقت نفسه، لا يُفهم من هذه الدعوة أن يكون الحل في استجلاب ما عند غيرنا إلى أرضنا، فتكون الثمرة هي فحسب ’إستبدال المواقع!‘ فيكون حشفا وسوء كيل. بل ينبغي أن يكون الأمر أعظم وأجل. إنه مبني على كوننا مسلمين، نعمل ونسعى ونرتقي من خلال ما شرعه الله لنا. فإنشاء الدورات الصيفية والجمعيات الخيرية من تحفيظ للقرآن، أو تنشيط ثقافي نافع أو نحو ذلك مما يُستغل به أوقات الجمهور، وإن لزم الأمر فيُقتصر حينئذ على المباح، إذ ما بعد المباح إلا ما حرم الله، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ مع الحذر الحذر أن تُقلب المفاهيم وأن تكون صورة التنشيط السياحي مثالا ً للهو والعبث والضج والضجيج والعزف والطرب، وبذل الوقت والمال فيما حرم الله ورسوله. فكم من مظاهر عريضة مفتعلة لها ضجيج وطنين يَصْدع الأسماع والأبصار تمتد ألوانها إلى أوقات متأخرة ليلا ً، ولسان الحال يقول:
يا ليل هل لك من صباح *** أم هل لصبحك من براح
ضل الصباح طريقه *** والليل ضل عن الصباح
ثم ينجلي أمرها *** فإذا هي هشيم تذروه الرياح
وإذا كنا نرى السفر إلى بلاد الكفار داءً يجب علاجه، فإن الله، جل وعلا، لم يجعل شفاء أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، فيما حرم عليها. وإن استئناس كثير من الغافلين بما حرم الله، لا يعني البتة التطلع إلى تنفيذ رغباتهم. والقاعدة الشرعية المقررة من خلال حديث النبي، صلى الله عليه وسلم، أن: "من أرضى الناس، بسَخَط الله، سَخِط الله عليه وأسخط عليه الناس. ومن أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى الناس عنه."
ألا وإن بذل الأوقات في الغناء واللهو لمما حرم الله ورسوله. وكلما كانت المجاهرة به أظهر، كلما كان الخطر أشد والخَطْب أدهى وأمَر. وكل أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، معافى إلا المجاهرين. عن سهل بن سعد، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ." قيل: "ومتى ذلك يا رسول الله؟" قال: "إذا ظهرت المعازف والقَيْنات،" رواه بن ماجه والطبراني. والقينات هم المغنون والمغنيات. بل إن الأمر سيذهب إلى أبعد من هذا، إلى أن يأتي أقوام فيستحلون المعازف والأغاني على شدة ما ألِفوها واستمرؤها وقَل النكير لها. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف،" ذكره البخاري في صحيحه.(/4)
وقد سئل الإمام أحمد، رحمه الله، عن الغناء فقال: "يُنبت النفاق في القلب." وقد قال الفضيل بن عِياض، رحمه الله: "الغناء رقية الزنا." وقال الإمام أحمد: "حدثنا إسحق بن عيسى الطباع، قال: سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: إنما يفعله عندنا الفساق." وقد حكى أبو بكر الآجري وغيره الإجماع على تحريمه.
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، وأقلِعوا عن معاصي الله في أرض الله، فإن الأجل يحل بغتة وكتاب الله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؛ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ً وما عملت من سوء ، تود لو أن بينها وبينه أملا ً بعيدا ً؛ ويحذركم الله نفسَه والله رؤوف بالعباد."
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد. وارضى اللهم عن خلفائه الأربعة، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد، صلى الله عليه وسلم. اللهم أعز الإسلام و المسلمين وأذل الشرك والمشركين، ودمرأعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا ً مطمئنا ً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم. اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم سُقيا رحمة، لا سقيا هدم ولا بلاء ولا عذاب ولا غرق ولا استدراك، يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
موقع صيد الفوائد ...(/5)
السيرة النبوية 1 ...
مازن التويجري ...
...
...
ملخص الخطبة ...
1 ـ بعض من حال العرب في الجاهلية. 2 ـ أبرهة يغزو مكة لهدم الكعبة3 ـ ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ونشأته في بادية بني سعد4 ـ حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم5 ـ بعض علامات تميزه صلى الله عليه وسلم في صغره6 ـ زواجه من خديجة7 ـ بناء الكعبة ودوره صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر الأسود ...
...
الخطبة الأولى ...
...
في جو مشحون بزيف الباطل، وركام الجاهلية، يسوس الناس جهلهم، ويحكمهم عرفهم وعاداتهم، قتل وزنا، عهر وخنا، وأد للبنات، تفاخر بالأحساب والأنساب، ساد في البقاع قانون الغاب، فالبقاء للقوي، والتمكين للعزيز، تُغير القبيلة على الأخرى لأتفه الأسباب، تقوم الحروب الطاحنة، تزهق فيها الأرواح، وتهلك الأموال، وتسبى النساء والذراري، وتدوم السنون، وتتعاقب الأعوام، والحرب يرثها جيل بعد جيل، وأصلها بعيرٌ عُقر، وفرسٌ سبقت أخرى، أو قطيع أغنام سيق وسرق.
ساد في ذلكم المجتمع عادات غريبة عجيبة، فعند الأشراف منهم كانت المرأة إذا شاءت جمعت القبائل للسلام، وإن شاءت أشعلت بينهم نار الحرب والقتال، بينما كان الحال في الأوساط الأخرى أنواع من الاختلاط بين الرجل والمرأة، لا نستطيع أن نعبر عنه إلا بالدعارة والمجون والسفاح والفاحشة.
كانت الخمر ممتدح الشعراء، ومفخرة الناس، فهي عندهم سبيل من سبل الكرم، ناهيك عن صور الشرك وعبادة الأوثان، التي تصور كيف كان أولئك يعيشون بعقول لا يفكرون بها، وبأعين لا يبصرون بها، وأذان لا يسمعون بها إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان: 44].
في هذه الأثناء حدث حادث عجيب لمكة وحرمها، رأى أبرهة الصباح نائب النجاشي على اليمن أن العرب يحجون الكعبة، فبنى كيسة كبيرة بصنعاء ليصرف حج العرب إليها، وسمع بذلك رجل من بني كنانة، فدخلها ليلاً ولطخ قبلتها بالعذرة، ولما علم أبرهة بذلك ثار غضبه وسار بجيش عرمرم عدده ستون ألف جندي إلى الكعبة ليهدمها، واختار لنفسه فيلاً من أكبر الفيلة، وكان في الجيش قرابة ثلاثة عشر فيلاً، وتهيأ لدخول مكة فلما كان في وادي محسر بين المزدلفة ومنى برك الفيل ولم يقم، وكلما وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق قام يهرول، وإذا وجهوه قبل الكعبة برك فلم يتحرك، فبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار مثل الحمص، لا تصيب أحدًا منهم إلا تقطعت أعضاؤه وهلك، وهرب من لم يصبه منها شيء يموج بعضهم في بعض، فتساقطوا بكل طريق، وهلكوا على كل مهلك، وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله، ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك.(/1)
وكانت هذه الوقعة قبل مولد النبي بخمسين يومًا أو تزيد، فأضحت كالتقدمة قدمها الله لنبيه وبيته، وبعد أيام من هلاك ذلكم الجيش أشرقت الدنيا وتنادت ربوع الكون تزف البشرى ولد سيد المرسلين، وإمام المتقين، والرحمة للعالمين في شعب بني هاشم بمكة صبيحة يوم الإثنين التاسع من ربيع الأول لعام الفيل، ولد خير البشر، وسيد ولد آدم، ولد الرحيم الرفيق بأمته أطل على هذه الحياة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، روى ابن سعد أن أم رسول الله قالت: لما ولدته خرج من مني نور أضاءت له قصور الشام، وأرسلت على جده عبد المطلب تبشره بحفيده، فجاء مستبشرًا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له، واختار له اسم محمد، وهو اسم لم يكن معروفًا في العرب، وختنه يوم سابعه كما كانت العرب تفعل، وقد ولد يتيمًا حيث توفي والده قبل ولادته وقيل بعدها بشهرين، وأول من أرضعته بعد أمه آمنة ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له مسروح، وكانت العادة عند حاضرة العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم، ابتعادًا على أمراض الحواضر ولتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم، ولنترك الحديث لمرضعته حليمة السعدية تحدثنا عن قصة رضاعها إياه، قالت: خرجت مع زوجي وابني في نسوة من بني سعد بن بكر، نلتمس الرضعاء قالت: وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيئًا فخرجت على أتان لي قمراء ضعيفة، معنا شارف لنا، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من بكاء صبينا من الجوع، وما في ثديي ما يغنيه، وما في ضرع شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلأخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافلٌ، فحلب منها وشربت معه حتى انتهينا ريًا وشبعًا، فبتنا بخير ليلة، قالت: ثم خرجنا وركبت أتاني، وحملته معي عليها، فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقولن لي: يا ابنة أبي ذؤيب: ويحك، اربعي علينا أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول لهن: والله إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها شأنًا قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعًا لُبنًا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم، ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتاه حتى كان غلامًا جفرًا: قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته فكلمنا أمه، وقلت لها: لو تركت ابني عندي حتى يغلظ فإني أخشى عليه وباء مكة، وبقي رسول الله في بني سعد، ووقع حادث عجيب له في سنته الرابعة أو الخامسة، روى مسلم عن أنس أن رسول الله أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقه، فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. وبعد هذه الحادثة خشيت عليه حليمة فردته إلى أمه ولما بلغ سنته السادسة توفيت أمه فكان عند جده عبد المطلب، فحنَّ عليه كأشد ما يكون الحنو، بل آثره على أولاده، فكان رسول الله يأتي وهو غلام فيجلس على فراش جده في ظل الكعبة وأعمامه حول الفراش فيقول جده: دعوا ابني هذا فوالله إن له لشأنًا ولما تخطى سنته الثامنة توفي جده الذي عهد بكفالته إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه، فكان يوليه من العناية ما لا يجعله لأبنائه، ويخصه بفضل احترام وتقدير ومكانة.
ومن آياته وكراماته ما أخرجه ابن عساكر عن جلهمه عن عرفطه قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش يا أبا طالب: أقحط الوادي وأجدب العيال، فهلم فاستق فخرج أبو طالب ومعه غلام، كأنه شمس دجن، تجلت عنه سحابة قثماء، حوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بأصبعه الغلام، وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق واغدووق، وانفجر الوادي، وأخصب النادي والبادي. وإلى هذا أشار أبو طالب بقوله:(/2)
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ولما بلغ رسول الله اثنتي عشرة سنة ارتحل به أبو طالب تاجرًا إلى الشام حتى وصل إلى بصرى، وكان فيها راهب يقال له بحيرًا، فلما نزل الركب، خرج وأكرمهم وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك، وعرف رسول الله بصفته، فقال وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال أبو طالب: وما علمك بذلك فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخرَّ ساجدًا، ولا تسجد إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبو طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام، خوفًا عليه من اليهود فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة.
وكان عليه السلام في بداية حياته قد رعى الغنم ثم لما بلغ خمسًا وعشرين سنة خرج تاجرًا إلى الشام في مال لخديجة مع غلامها ميسرة فحدثها عن خلاله العذبة، وشمائله الكريمة، وما أوتي من فكر راجح ومنطق صادق، ونهج أمين، ففاتحت خديجة صديقتها نفيسة بنت منبه برغبتها الزواج من محمد فعرضت نفيسة على رسول الله الأمر، فرضي ثم كلم أعمامه فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، وأصدقها عشرين بكرة وكانت أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلاً، وهي أول امرأة تزوجها، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت. فرضي الله عنها وأرضاها. ...
...
الخطبة الثانية ...
ولخمس وثلاثين سنة من مولده عليه الصلاة والسلام جرف مكة سيل عرم، انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فعزمت قريش على بناءها وألا يدخلوا في مالها إلا طيبًا فهدموها حتى بلغوا قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء، فجزأوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها، فلما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه واستمر النزاع أربع ليالٍ أو خمسًا، وكاد أن يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا أول داخل من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون أول داخل هو رسول الله فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد، فأمر برداء ووضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل رفع الرداء إلى موضع الحجر الأسود فوضعه بيده الشريفة.
هذا هو النبي وهذه هي حياته قبل مبعثه، جمع خير ما في طبقات الناس من ميزات، كان طرازًا رفيعًا، وواحدًا فريدًا، ذا نظرة سديدة وفكر صائب، وفطنة وحسن خلق، نفر مما كان عليه قومه من خرافات وعبادات، ما وجده حسنًا شارك فيه، وما كان قبيحًا مشينًا عافه ونفر منه، وعاد إلى عزلته العتيدة، فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالاً. ولا شك أن الله جل وعلا قد أحاطه بعنايته فحال بينه وبين أمور الجاهلية.
روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي : اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة فخر إلى الأرض، وطممت عيناه إلى السماء، ثم أفاق فقال: إزاري، إزاري فشد عليه إزاره.
كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عريكة، وأعفهم نفسًا، وأكرمهم خيرًا، وأبرهم عملاً وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه الأمين.
والحديث موصول إن شاء الله تعالى في سلسلة مباركة أسابيع أخرى. في وقفات مع سيرة المصطفى .
اللهم صلَّ على محمد... ...
المصدر: http://www.alminbar.net(/3)
السيرة النبوية 3 ...
مازن التويجري ...
...
...
ملخص الخطبة ...
1- خروج الرسول إلى الطائف وما لقيه فيها. 2- دعاء النبي وأدعية الأنبياء في المحن. 3- رحمة النبي بالكافرين. 4- الإسراء والمعراج وموقف المشركين منه. 5- بيعة العقبة الأولى. 6- بيعة العقبة الثانية. ...
...
الخطبة الأولى ...
...
ولما خرج رسول الله وأصحابه من حصار الشعب الآثم, وكان ما كان من وفاة زوجه الرؤوم, وعمه الذي يحوطه ويمنعه, وأن كفار قريش لم يزالوا يحاربون الحق ودعوة الحق, يسومون المؤمنين بالعذاب أضعافًا لأهل الحق المتمسكين به, غدا ليعرض دعوته على بلاد أخرى, ورجال آخرين.
في شوال سنة عشر للنبوة, خرج رسول الله إلى الطائف ماشيًا على قدميه الطاهرتين ومعه مولاه زيد بن حارثة, كلما مرَّ على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام فلم يجبه أحد, ووصل إلى الطائف فعمد إلى ثلاثة أخوة من رؤساء ثقيف, وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي, فجلس إليهم ودعاهم إلى الله ونصرة الإسلام, فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة: إن كان الله أرسلك, وقال الآخر: أما وجد الله أحدًا غيرك, وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا, إن كنت رسولاً لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك, ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك, فقام عنهم رسول الله وقال: ((إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني)) [1].
وأقام في أهل الطائف عشرة أيام, لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه, فقالوا: اخرج من بلادنا, وأغروا به سفهاءهم, فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به, حتى اجتمع عليه الناس فوقفوا له صفين وجعلوا يرمونه بالحجارة, ويسبونه ورجموا عراقيبه, حتى احتضنت نعلاه بالدماء, وزيد بن حارثة يقيه بنفسه, فأصابه شجاج في رأسه.
وهكذا يبقى أهل الحق في صراع مع الباطل على مرَّ العصور, في دعوته عليه السلام لأهل مكة وسيره لأهل الطائف نداء إلى كل من يحمل همَّ دينه وأمته: أن طريق الدعوة شاقٌ, طويلٌ, عسيرٌ, عقباته كؤود, وألمه شديده, ليتذكر ذلك العامل لدينه يوم يصاب في ماله, كيف بذل رسول الله دنياه كلها في سبيل دعوة الخلق إلى الحق, تذكر وأنت تدعو الناس إلى الله وقد أصابك ما أصابك من شتم يسير, أو سباب من سفيه حقير ما عرف قيمة الحياة أن إمام الأمة, وقائد الملة, وخير البشر, وأكرم الخلق, يُسب ويشتم, بل ويقال: كاهن, شاعر, مجنون, فهل رميت يومًا بمثل هذا, أو نالك من الحديث كهذا, بل أنت سالم في أهلك, معافىً في جسدك, والطاهر المطهر, المزكى من ربه ومولاه يضرب, ويرمى بالحجارة حتى يسيل دمه الطاهر, كل هذا نصرة لدين الله, ورفعًا للوائه ورايته, ولكن لابد أن يُعلم أن درب الجهاد والدعوة جماله في عنائه, وروعته في أوجاعه, ولذته في طول طريقه, ومن لم يجد هذا ولا ذاك فليراجع إيمانه وإخلاصه, وليكن نشيدك على الدوام:
دربنا المزروع بالشوك طويل وجميل ربما نعثر فيه وليالينا تطول
ولم يزل أولئك السفهاء بالنبي حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة, على ثلاثة أميال من الطائف فرفع كفيه وقال: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي, وقلة حيلتي, وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين, أنت رب المستضعفين وأنت ربي, إلى من تكلني, إلى بعيد يتجهمني, أم إلى عدو ملكته أمري, إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي, ولكن عافيتك هي أوسع لي, أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات, وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك, أو يحل عليَّ سخطك, لك العتبى حتى ترضى,ولا حول ولا قوة إلا بك)) [2].
لا إله إلا الله, أي التجاء أعظم من هذا الالتجاء يا أهل الحق, الحق منصور فلا تجزعوا, ولكن لابد للبطولة من أبطال, ولساحات الوغي من شجعان, ومن رام العلى, وسرى نحو الثريا, لابد وأن يترفع على الثرى وغباره, ولا يُرى يلطخ عقله وجسمه في الوحل والطين... إنه الدرس العظيم في صدق اللجوء, وعمق التعلق والتذلل, مهما بلغت الأسباب والمسببات, فلا تنفع شيئًا, إذا فارقها توفيق وتيسير مسبب الأسباب سبحانه.
ما يصيب العامل لدينه من توفيق أو عدمه, من تصديق أو تكذيب, من قبول أو عناد وكله في صالحه, ومن حسن تدبير الله له, وما يدريك ففي قبول الناس للخير الفوز والفلاح, وفي عنادهم وأذاهم تكفير وتمحيص للسيئات, وعلو ورفعة في الدرجات, يوسف عليه السلام بعد كل ما لاقى من عناد وعذاب يقول ويبتهل رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين [يوسف: 101].
وموسى عليه السلام يخرج من وطنه طريدًا كسيرًا وآلامه تعتصر في قلبه, ومع ذلك ينادي ويدعو قال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [القصص: 24].(/1)
فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما, فدعو غلامًا لهما نصرانيًا, يقال له عداس, وقالا له: خذ قطفًا من هذا العنب واذهب به إلى هذا الرجل, فلما وضعه بين يدي رسول الله مدّ يده إليه وهو يقول: ((بسم الله)) ثم أكل فقال عداس: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد, فقال له رسول الله : ((من أي البلاد أنت؟)) قال: أنا نصراني, من أهل نينوى, فقال رسول الله من قرية الرجل الصالح: يونس بن متى, قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال: ((ذاك أخي, كان نبيًا وأنا نبي)) فأكب عداس على رأس رسول الله ويديه ورجليه يقبلهما[3].
ورجع رسول الله في طريقه إلى مكة, روى البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبي هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: ((لقيت من قومك ما لقيت, وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت, فانطلقت وأنا مهموم على وجهي, فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب, فرفعت رأسي, فإذا أنا بسحابة قد أظلتني, فنظرت فإذا فيها جبريل, فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك, وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم, فناداني ملك الجبال, فسلم علي, ثم قال: يا محمد, ذلك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين, وهما جبلا مكة يحيطان بها, قال النبي , بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئًا)) [4].
الله أكبر هكذا كانت إجابة الحليم الحكيم, هكذا كانت إجابة الرؤوف الرحيم بأمته مع كل ما قابله من تكذيب وتحريش وإغراء ومع ذلك يقول: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا. لا غرو ولا غرابة فهو الرحمة المهداة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء: 107].
هذه الكلمات الصادقة الحانية, رسالة إلى كل داعية ومعلم خير, أنت تبلغ دين الله, وشرع الله, فليكن عَرضك مقبولاً, وقولك طيبًا, وفعلك محمودًا, واعرض ما عندك, كما يعرض التاجر اللبيب بضاعته, وبعد ذلك إن لم تجد عونًا ووجدت صدًا وتجريحًا, فارفع يدك وادع رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي [طه: 25 ـ 27], اللهم اهدني واهد بي.
وبينا رسول الله في هذه المرحلة التي كانت دعوته تشق طريقها بين النجاح والاضطهاد, وقع حادث عجيب مهم ألا وهو حادث الإسراء والمعراج, وقد اختلف في وقوعه, قيل: في رمضان من السنة 12 من النبوة, وقيل: في المحرم أو ربيع الأول من السنة 13 للنبوة, وقد روى أهل السنن والمسانيد والصحاح في كتبهم هذه الوقعة.
قال ابن القيم رحمه الله: أسرى برسول الله بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس, راكبًا على البراق, صحبه جبريل عليه السلام فنزل هناك, وصلى بالأنبياء إمامًا, وربط البراق بحلقة باب المسجد, ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا, فاستفتح له جبريل ففتح له, فرأى هناك آدم أبا البشر, فسلم عليه ورحب به, ورد عليه السلام وأقر بنبوته, وأراه الله أرواح الشهداء عن يمينه, وأراح الأشقياء على يساره.
ثم عرج به إلى السماء الثانية فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم, وفي الثالثة يوسف, وفي الرابعة إدريس, وفي الخامسة هارون بن عمران, وفي السادسة موسى بن عمران, فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته, فلما جاوزه بكى موسى, فقيل له: ما يبكيك, فقال: أبكي لأن غلامًا بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي, ثم عرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم عليه السلام أجمعين, ثم رفع إلى سدرة المنتهى, ثم رفع إلى البيت المعمور, ثم عرج إلى الجبار جل جلاله, فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى, ثم كان فرض الصلاة على ما جاء, وعرض عليه في مسراه لبن وخمر, فاختار اللبن فقيل: هديت للفطرة, أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك, ورأى أربعة أنهار في الجنة, نهران ظاهران, ونهران باطنان, والظاهران هما النيل والفرات, ومعنى ذلك أن رسالته ستتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات, وسيكون أهلها حملة الإسلام جيلاً بعد جيل, وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة.(/2)
ورأى مالك خازن النار, وهو لا يضحك, وليس على وجهه بشر وبشاشة, وكذلك رأى الجنة والنار, ورأى أكلة أموال اليتامى ظلمًا لهم مشافر كمشافر الإبل يقذفون في أفواههم قطعًا من نار كالأنهار فتخرج من أدبارهم, ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة, لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم, ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار, ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن, يأكلون من الغث المنتن, ويتركون الطيب السمين, ورأى النساء اللاتي يُدخلن على الرجال من ليس من أولادهم, رآهن معلقات بأثداهن, ورأى عيرًا من أهل مكة في الإياب والذهاب, وقد دلهم على بعير ندّ لهم, وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون ثم ترك الإناء مغطى, وقد صار ذلك ليلاً على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء.
فلما أصبح رسول الله في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى, فاشتد تكذيبهم له وأذاهم وضراوتهم عليه, وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس فجلاه الله له, حتى عاينه, فطفق يخبرهم عن آياته ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا, وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه, وأخبرهم عن وقت قدومها, وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها وكان الأمر كما قال فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا, وذكر ذلك لأبي بكر فقال: إن كان قال فقد صدق, ولذلك سمي صديقًا اهـ باختصار من كلام ابن القيم رحمه الله.
[1] رواه ابن إسحاق (2/419).
[2] رواه ابن إسحاق في السيرة. سيرة ابن هشام 2/420.
[3] المصدر السابق 2/421.
[4] رواه البخاري ح (3231). ...
...
الخطبة الثانية ...
وفي موسم الحج للسنة الثانية عشرة من النبوة اتصل اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج برسول الله عند العقبة بمنى فبايعوه وهي ما تسمى ببيعة العقبة الأولى.
روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال: ((تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا, ولا تسرقوا ولا تزنوا, ولا تقتلوا أولادكم, ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم, ولا تعصوني في معروف, فمن وفى منكم فأجره على الله, ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله, فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه)) قال: فبايعته, وفي نسخة فبايعناه على ذلك[1].
وبعد البيعة بعث رسول الله معهم أول سفير إلى يثرب يدعو الناس ويعلمهم أمر دينهم, وهو مصعب بن عمر العبدري رضي الله عنه, وكان من السابقين إلى الإسلام, ونزل مصعب على أسعد بن زرارة, وأخذا يبثان الإسلام في أهل يثرب حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا دارين فقط, وقبل حلول الحج من السنة الثالثة عشرة من النبوة, أي بعد سنة فقط من بيعة العقبة الأولى عاد مصعب إلى مكة يحمل إلى رسول الله بشائر الفوز والقبول.
وفي موسم الحج لهذه السنة قدم من يثرب نحو من ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتان من المسلمين, وقد تساءلوا فيما بينهم وهم لم يزالوا في طريقهم حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي لقاءات أدت إلى الاتفاق أن يجتمعوا في أواسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى.
قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا أي من حجاج المشركين حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله نتسلل تسلل القطا مستخفين, حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة, فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله ومعه عمه العباس بن عبد المطلب, وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه, وتوثق له وكان أول متكلم فقال: يا معشر الخزرج إن محمدًا منا حيث قد علمتم, وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه, فهو في عز من قومه, ومنعة في بلده, وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم, فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه, ومانعوه ممن خالفه, فأنتم وما تحملتم من ذلك, وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت, فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
روى أحمد عن جابر قال: قلنا: يا رسول الله على ما نبايعك؟ قال: ((على السمع والطاعة في النشاط والكسل, وعلى النفقة في العسر واليسر, وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم, وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)) [2], وفي رواية ابن إسحاق؛ فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم, والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع أزرنا منه, فبايعنا يا رسول الله, فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابر عن كابر.(/3)
قال: فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله: إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله ثم قال: ((بل الدم الدم, والهدم الهدم, أنا منكم وأنتم مني, أحارب من حاربتم, وأسالم من سالمتم))[3].
قال العباس بن عبادة بن نضلة هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس, فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة, وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن, فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة, وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه, فهو والله خير الدنيا والآخرة, قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف, فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: ((الجنة)), قالوا: ابسط يدك, فبسط يده فبايعوه".
قال جابر: فقمنا إليه رجلاً رجلاً فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة, أما المرأتان فكانت بيعتهما قولاً, ما صافح رسول الله امرأة أجنبية قط[4].
[1] رواه البخاري ح (3892).
[2] رواه أحمد ح (14047).
[3] رواه أحمد ح (1537) وابن إسحاق (2/442).
[4] رواه ابن إسحاق (2/446) ...
المصدر: http://www.alminbar.net(/4)
السيرة النبوية ـ 2 ...
مازن التويجري ...
...
...
ملخص الخطبة ...
1 ـ عزلة النبي في غار حراء وتحنثه فيه. 2 ـ نزول الوحي عليه في غار حراء.3 ـ تفسير ورقة للنبي ما حصل له في الغار 4 ـ انقطاع الوحي ثم عودته5 ـ بدء الدعوة السرية. 6 ـ الجهر بالدعوة على جبل الصفا7 ـ إيذاء قريش للنبي صلى الله عليه وسلم وهمها بقتله. 8 ـ الهجرة إلى الحبشة9 ـ قصة إسلام عمر. ...
...
الخطبة الأولى ...
...
وبعد ذلك تباعدت الشقة بين النبي وبين قومه، وأضحى يقلق لما يراهم عليه من الشقاوة والفساد، واشتد هذا القلق، حتى ما عاد يطيق الإقامة بينهم، فأخذ يحث المسير إلى غار حراء يتعبد فيه ويخلو، على بقايا دين إبراهيم عليه السلام، وهو غار لطيف، يقيم فيه شهر رمضان المبارك يطعم فيه من جاءه من المساكين، ويتفكر فيما حوله من مشاهد الكون، وكان اختياره لهذه العزلة طرفًا من تدبير الله له، وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم، ولا بد لأي روح يراد بها أن تؤثر في واقع حياة البشر فتحولها وجهة أخرى.. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل حياتهم.
ولما تكامل له أربعون سنة، وهي رأس الكمال ولها تبعث الرسل، بدأت آثار النبوة تلوح من وراء الأفق، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود ذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ: فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1 ـ 5] فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة، مالي؟ وأخبرها الخبر، لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرءًا تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى، فأخبره رسول الله خبر ما رأى؟ فقال له ورقة، هذا الناموس الذي نزَّله الله على موسى، يا ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله : ((أو مخرجيَّ هم)) قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي".
روى البخاري في صحيحه ما نصه: وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي فيما بلغنا حزنًا عدا منه مرارًا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال يا محمد: إنك رسول الله حقًا، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.
قال ابن حجر رحمه الله: وكان ذلك (أعني انقطاع الوحي أيامًا) ليذهب ما كان وجده من الروع، وليحصل له التشويق إلى العود، فلما تقلصت ظلال الحيرة وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف معرفة اليقين أنه أضحى نبيًا لله الكبير المتعال، وأن ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء، وصار تشوفه وارتقابه لمجئ الوحي سببًا في ثباته واحتماله عندما يعود، روى البخاري عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله يحدث عن فترة الوحي قال: فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني، زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ثم حمي الوحي وتتابع حينها قام رسول الله ، فظل قائمًا بعدها أكثر من عشرين عامُا، لم يسترح ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله، قام يحمل على عاتقه العبء الثقيل عبء الأمانة الكبرى في هذه المعمورة عبء البشرية كلها، عبء العقيدة ونشرها، وعبء الكفاح والجهاد جهاد السيف والكلمة، والدعاء والدعوة.(/1)
قام لم يلهمه شأن عن شأن، ولا شغله أمر بمن أخر، فاللهم أجزه خير ما جزيت نبيًا عن أمته.
ولما كانت مكة مركز دين العرب، وفيها سدنة الكعبة، والقوام على الأصنام المقدسة، كان من الحكمة أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية لئلا يهيج أهل الباطل في مكة.
وفي أول يوم من أيام الدعوة أسلم الرعيل الأول السابقون الأولون، فأسلمت خديجة زوج النبي عليه السلام ومولاه زيد بن حارثة وابن عمه علي بن أبي طالب وإمام الأمة بعد رسولها أبي بكر الصديق، ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلاً مألوفًا محببًا سهلاً رفيعًا في قومه، فأسلم على يده عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، ثم تلى أولئك بلال وأبو عبيدة والأرقم وخباب وابن مسعود وغيرهم.
قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتُحدث به وكان رسول الله يجتمع بهم سرًا ويرشدهم إلى الدين متخفيًا حيث إن الدعوة لا تزال فردية سرية، وكان في أوائل ما نزل الأمر بالصلاة, فكان النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه إذا حضرت الصلاة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، ومضت ثلاث سنين والأمر كما هو إلى أن أُمر عليه السلام بالصدع بدعوة الحق فنزل قول الله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين .
وجهر النبي بدعوته فقام يومًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا)) فقال أبو طالب ما أحب إلينا معاوتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامضي لما أمرت به، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.
فقال أبو لهب: هذه والله السنوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب: والله لنمنعه ما بقينا، وقد قال الشقي أبو لهب للنبي عليه السلام قبل هذه المرة: فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشرٍ مما جئت به.
وروى البخاري ومسلم عن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبي على الصفا، فجعل ينادي يا بني فهر، يا بني عدي لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ [المسد: 1].
وهذه سنة الله لا تتبدل ولا تتغير، فأعداء الحق ودعوة الحق كثيرون على مر العصور، ولم يكن ولن يكون طريق الدعوة سهلاً يسيرًا مفروشًا بالرياحين والورود، بل هو شاق طويل يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ آل عمران: 200].
واستمر عداء كفار قريش للنبي وتفننوا في إيذائه ومن آمن به، ذكر ابن إسحاق أن جيرانه عليه السلام كان أحدهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، فاتخذ حجرًا ليستتر به منهم إذا صلى، وكان عليه الصلاة والسلام يخرج الأذى بعود، فيقف به على بابه ويقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا، ثم يلقيه في الطريق.
وروى مسلم أن أبا جهل حلف باللات والعزى ليطأ في رقبة رسول الله وهو ساجد، فذهب وعاد وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقالوا مالك يا أبا الحكم، قال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة فقال عليه السلام: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا. وكان بلال مولىً لأمية بن خلف فيضع الحبل في عنقه ثم يسلمه إلى الصبيان يطوفون به في جبال مكة، وكان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع عليه، فمر عليه أبو بكر فاشتراه بسبع أواق من فضة وأعتقه، وعُذب ياسر وسمية وعمار في الهاجرة وكان النبي يمر بهم، ويقول: صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة، فمات ياسر وطعن الطاغية أبو جهل سمية في قبلها فماتت، وعذب عمار عذابًا شديدًا، وكانوا يأخذون بشعر خباب بن الأرت فيجذبونه جذبًا، ويلوون عنقه ليًا، وأضجعوه مرات عديدة على الفحم الملتهب ووضعوا عليه حجرًا.(/2)
وكانوا يلفون بعض الصحابة في إهاب الإبل والبقر ثم يلقونه في حر الرمضاء، ويلبسون بعضًا آخر درعًا من الحديد ثم يلقونه على صخرة ملتهبة، ودامت على حالها الأوضاع كما سمعت، ولكن ما هي إلا سني يسيرة وإذا بهؤلاء المعذبين يطأون أعناق الجبابرة المتكبرين فاتحين منصورين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 1 ـ 3].
ولله الأمر من قبل ومن بعد والحمد لله رب العالمين. ...
...
الخطبة الثانية ...
ثم اتخذ رسول الله دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا مركزًا للدعوة، ولاجتماع أهل الإيمان يعلمهم ويهديهم وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم.
وفي رجب سنة خمس من النبوة أذن الله بالهجرة إلى الحبشة فهاجر أول فوج من الصحابة في اثني عشر رجلاً وأربع نسوة رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه رقية بنت النبي . ثم لحق بهم فوج آخر يزيد على المائة فكانوا عند النجاشي في خير جوار وأطيب عيش.
وأخذ كفار قريش يهددون أبا طالب ويطالبونه بإيقاف ابن أخيه عما هو ماضٍ فيه، وفكروا في قتله، أتى عتيبه بن أبي لهب يومًا للنبي وقال: أنا أكفر بـ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم: 1] وبالذي دَنَا فَتَدَلَّى [النجم: 8] ثم تسلط عليه بالأذى وشق قميصه وتفل في وجهه، إلا أن البزاق لم يقع على وجهه الطاهر، فدعا عليه النبي وقال: ((اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك)) فخرج عتيبة في نفر من قريش إلى الشام في مكان يقال له الزرقاء فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي، هو والله آكلي كما دعا محمد عليَّ. فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ بأرسه فذبحه.
وأخذ أبو جهل الأمان من قريش في أن يقتله، فأصبح ومعه حجر لا يقوى على حمله، حتى إذا سجد رسول الله احتمله أبو جهل فما هو إلا أن دنا منه رجع مهزومًا منتقعًا لونه، مرعوبًا قد يبست يداه فقالت قريش: مالك يا أبا الحكم؟ قال: لما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهمَّ أن يأكلني.
وخلال هذا الجو الملبد بسحائب الظلم والطغيان أضاءت للمسلمين بارقة أمل، ألا وهي إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب، مرّ أبو جهل برسول الله عند الصفا، فآذاه ونال منه، ثم ضربه بحجر في رأسه فشجه حتى نزف منه الدم، وأقبل حمزة من القنص متوشحًا قوسه، فأُخبر بالذي جرى فغضب غضبًا شديدًا فخرج يسعى، حتى دخل المسجد فوقف على رأس أبي جهل وقال له: يا مصفر استه، تشتم ابن أخي وأنا على دينه، ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة، وكان اسلامه أول الأمر أنفة ثم شرح الله صدره للإسلام والنور.
أخرج الترمذي وصححه والطبراني أن النبي قال: ((اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام)).
وعلم عمر بإسلام أخته وزوجها فدخل عليهما وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها سورة طه، يقرئهما إياها، فضرب أخته وزوجها، ثم ندم وقال: اعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه فقالت أخته: إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون، فقام فاغتسل، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: أسماء طيبة طاهرة، فقرأ: طه [طه: 1] إلى قوله: إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا اله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصلاةَ لِذِكْرِى [طه: 14] فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه، دلوني على محمد، فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم انطلق حتى أتى دار الأرقم فضرب الباب فرآه رجلٌ من خلل الباب فاستجمع القوم فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر، فقال: وعمر! افتحوا له الباب، فإن جاء يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرًا قتلناه بسيفه، فدخل فأخذ رسول الله بمجامع ثوبه وحمائل سيفه ثم جذبه جذبة شديدة فقال: ((أما أنت منتهيًا يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة، اللهم هذا عمر، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)) فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأسلم فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد.
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : "ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر".
وقال صهيب رضي الله عنه: "لما أسلم عمر ظهر الإسلام ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقاً، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.
وهكذا فلله جند يعز بهم دينه، ويرفع بهم لواءه، وينصر أولياءه، فهم سيف الإسلام وترسه. ...
المصدر: http://www.alminbar.net(/3)
الشباب بين الاتباع والابتداع
أولا: أهمية الشباب:
1- أهمية مرحلة الشباب في التكوين الفكري وسلامة المنهج.
2- أهمية العناية بالشباب والحرص على توجيههم وتعليمهم وسبب ذلك.
ثانيا: تعريف السنة والبدعة:
1- تعريف السنة لغة.
2- تعريف السنة شرعا.
3- تعريف أهل السنة.
4- تعريف البدعة لغة.
5- تعريف البدعة شرعًا.
ثالثا: الأمر بلزوم السنة والحث عليها والنهي عن البدع والتحذير منها:
1- النصوص من كتاب الله سبحانه وتعالى.
2- النصوص من السنة النبوية.
3- النصوص المنقولة عن السلف الصالح وأتباعهم.
رابعا: من أسباب الوقوع في الابتداع:
1- الخلل في منهج التلقي:
أ- قلّة العلم بالشرع المُنزّل، والاعتماد على غيره.
ب- ترك تلقي العلم الشرعي عن العلماء وترك مجالستهم.
ج- التلقي عن أهل البدع ومخالطتهم والجلوس معهم.
2- الخلل في منهج الاستدلال:
أ- عدم التسليم للنصوص الشرعية وعدم الانقياد لها.
ب- الاستدلال ببعض النصوص دون النظر في غيرها.
ج- الاحتجاج على صحّة ومشروعية البدعة بالعادة والعُرف.
د- الاحتجاج على صحّة ومشروعية البدعة بعمل بعض ذوي العلم والفضل بها.
هـ- الاحتجاج باختلاف العلماء.
و- الاحتجاج بحصول منفعة هذه البدعة بالتجربة.
3- الجهل بكلام العرب وأساليبهم في الخطاب.
4- اتباع الهوى.
5- الغلو والتعصب.
خامسا: أخطار البدع على دين المرء:
1- اتخاذ الشركاء مع الله عز وجل.
2- مخالفة وتكذيب لصريح القرآن.
3- مخالفة وتكذيب لصريح السنة الصحيحة.
4- اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالخيانة.
5- عمل المبتدع مردود.
6- الهلاك والوعيد للمبتدع.
7- المبتدع يحمل أوزار من تبعه.
8- المبتدع يحجب عن الحوض.
أولاً: أهمية الشباب:
1- أهمية مرحلة الشباب في التكوين الفكري وسلامة المنهج:
قال أيوب السختياني: "إن من سعادة الحَدَث والأعجميّ أن يوفقهما الله لعالمٍ مِنْ أهل السنة".
وقال عبد الله بن شوذب: "إن من نعمة الله على الشابّ إذا تنسّك أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها".
وقال عمرو بن قيس الملائي: "إذا رأيت الشاب أوّل ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارْجُه، وإذا رأيته مع أهل البدع فايْأس منه؛ فإنّ الشاب على أوّل نشوئه".
وقال أيضًا: "إن الشاب لينشأ فإن آثر أن يجالس أهل العلم كاد أن يَسْلَم، وإن مال إلى غيرهم كاد يَعْطَب".
2- أهمية العناية بالشباب والحرص على توجيههم وتعليمهم وسبب ذلك:
قال مالك بن دينار: "إنما الخير في الشباب".
وقال الحسن البصري: "قدّموا إلينا أحداثكم؛ فإنهم أفرغ قلوبًا، وأحفظ لما سمعوا، فمن أراد الله أن يُتِمّه له أتمّه".
وقال يوسف بن الماجشون: قال لي ابن شهاب الزهري ولابن عمٍّ لي ولآخر معنا: "لا تستحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أعياه الأمر المُعْضل دعا الأحداث فاستشارهم؛ لحِدَّة عقولهم".
وقال أبو بكر بن عياش: كنا عند الأعمش ونحن حوله نكتب الحديث فمرّ به رجلٌ فقال: يا أبا محمد، ما هؤلاء الصبيان حولك؟ فقال: "هؤلاء الذين يحفظون عليك دينك".
وقال هشام بن عروة: كان أبي يقول: "أي بني، كنا صغار قومٍ فأصبحنا كبارهم، وإنكم اليوم صغار قوم ويوشك أن تكونوا كبارهم، فما خير في كبيرٍ ولا علم له؟! فعليكم بالسنة".
وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي: "ما رأيت شابًا قط لا يطلب العلم ولا سيما إذا كانت له حِدّة إلا رحمتُه".
شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي (1/66).
الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة (1/205–206)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي (1/67).
الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة (1/205–206)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي (1/67).
الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة (1/205 – 206)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي (1/67).
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (1/484، 487).
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (1/484، 487).
المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (2/157) وحلية الأولياء لأبي نعيم (3/364).
المحدّث الفاصل للرامهرمزي (ص 193-194).
المحدّث الفاصل للرامهرمزي (ص 193-194).
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/370).
ثانياً: تعريف السنة والبدعة:
1- تعريف السنة لغة:
السنة الطريقة والسيرة.
قال الأزهري: "السنة الطريقة المحمودة المستقيمة".
2- تعريف السنة شرعا:
قال الشاطبي: "ويطلق ـ أي: لفظ السنة ـ في مقابلة البدعة؛ فيقال: فلان على سنة إذا عمل على وفق ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم، كان ذلك مما نص عليه في الكتاب أو لا، ويقال: فلان على بدعة إذا عمل على خلاف ذلك".(/1)
قال ابن رجب: "السنة هي الطريق المسلوك؛ فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة، ولهذا كان السلف قديمًا لا يطلقون السنة إلاّ على ما يشمل ذلك كله، وروي ذلك عن الحسن والأوزاعي والفضيل بن عياض".
قال محمد رشيد رضا: "المراد بالسُنة هنا معناها اللغوي، وهي الطريقة المخصوصة للسلوك المتبعة بالفعل في أمر الدين ـ فعلاً وتركًا ـ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالتعريف فيها للعهد، وليس المراد بها ما اصطلح عليه علماء الحديث من إطلاقها على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وشمائله، ولا ما اصطلح عليه الفقهاء من إطلاقها على ما واظب عليه صلى الله عليه وسلم على غير سبيل الوجوب؛ فإن جميع فرق المبتدعة في الإسلام يأخذون بالسنة بمعنييها الأخيرين على اصطلاحات لهم وقواعد في إثباتها ونفيها وتأويلها وتعارضها..." .
3- تعريف أهل السنة:
قال ابن حزم: "وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق، ومن عداهم فأهل البدعة؛ فإنهم الصحابة رضي الله عنهم، وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين، ثم أصحاب الحديث ومن اتبعهم من الفقهاء جيلاً فجيلاً إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها رحمة الله عليهم".
قال ابن الجوزي: "ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه هم أهل السنة؛ لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تعريفه لأهل السنة: "هم المتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان".
وقال: "فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة".
قال عبد الرحمن بن ناصر السعدي: "فأهل السنة المحضة السالمون من البدع الذين تمسكوا بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الأصول كلها، أصول التوحيد والرسالة والقدر ومسائل الإيمان وغيرها، وغيرهم من خوارج ومعتزلة وجهمية وقدرية ورافضة ومرجئة ومن تفرع عنهم كلهم من أهل البدع الاعتقادية".
4- تعريف البدعة لغة:
قال ابن فارس: "الباء والدال والعين أصلان لشيئين:
أحدهما: ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال سابق مثال، والله بديع السموات والأرض.
الثاني: الانقطاع والكلال كقولهم: أبدعت الراحلة إذا كلت وعطبت".
وفي اللسان:"بدع الشيء يبدعه بَدْعًا وابتدعه: أنشأه وبدأه، وبدع الركيّة: استنبطها وأحدثها.
والبدعة: الحدث، وما ابتدع من الدين بعد الإكمال.
ابن السكيت: البدعة كلّ محدثة".
5- تعريف البدعة شرعًا:
قال الشاطبي: "طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصَد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه".
قال ابن رجب: "والمراد بالبدعة ما أحدِث مما لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة شرعًا وإن كان بدعة لغة".
قال السيوطي: "البدعة عبارة عن فعلةٍ تصادم الشريعة بالمخالفة أو توجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان".
قال ابن تيمية: "البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك، وسواء كان هذا مفعولاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن".
النهاية لابن الأثير (2/409).
تهذيب اللغة (12/301).
الموافقات (4/4).
جامع العلوم والحكم (ص 262).
انظر: مقدمة صيانة الإنسان للسهسواني (ص 7).
الفصل لابن حزم (2/271).
تلبيس إبليس (ص 21)، وعنه مقرّاً له السيوطي في الأمر بالاتباع (ص 88).
مجموع الفتاوى (3/375).
مجموع الفتاوى (3/346).
الفتاوى السعدية (ص 63).
مقاييس اللغة (1/209).
لسان العرب (9/ 351).
الاعتصام (1/37).
جامع العلوم والحكم (ص 265).
الأمر بالاتباع (ص 88).
مجموع الفتاوى (4/ 107-108).
ثالثاً: الأمر بلزوم السنة والحث عليها والنهي عن البدع والتحذير منها:
1- النصوص من كتاب الله سبحانه وتعالى:
1- قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3].
قال ابن عباس: (أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه فلا يسخطه أبدًا)[1].
2- وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].(/2)
3- وقال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء: 115].
4- وقال تعالى: {وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
5- وقال تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3].
6- وقال تعالى: {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأمّىَّ} [الأعراف: 156، 157].
7- وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20].
8- وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
9- وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} [طه: 123].
10- وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
11- وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50].
12- وقال تعالى: {وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55].
13- وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
14- وقال تعالى: {وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} [الحشر: 7].
2- النصوص من السنة النبوية:
1- عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله))[2].
2- عن أبي شريح الخزاعي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أبشروا وأبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟!)) قالوا: نعم، قال: ((فإن هذا القرآن سببٌ طرفُه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسّكوا به، فإنّكم لن تضلّوا ولن تهلكوا بعده أبدًا))[3].
3- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خطب: ((أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة))[4].
4- عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودّع فماذا تعهد إلينا؟ قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًا، فإنه مَنْ يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))[5].
5- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً ثم قال: ((هذا سبيل الله))، ثم خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال: ((هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه))، ثم تلا: {وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153][6].
6- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لكل عمل شِرة، ولكل شِرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنّتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك))[7].
7- عن أنس رضي الله عنه في قصة الثلاثة الذين جاؤوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: أصلي الليل أبداً، وقال الآخر: أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: ((أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني))[8].(/3)
3- النصوص المنقولة عن السلف الصالح وأتباعهم:
1- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إياكم وأصحاب الرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا)[9].
2- وقال أيضاً: (سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله)[10].
3- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إنها ستكون أمور مشتبهات، فعليكم بالتؤدة، فإن الرجل يكون تابعاً في الخير، خير من أن يكون رأساً في الضلالة)[11].
4- وقال ابن مسعود أيضاً: (إنكم أصبحتم على الفطرة، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول)[12].
5- وقال أيضاً: (إياكم وما يحدث الناس من البدع، فإن الدين لا يذهب من القلوب بمرّة، ولكن الشيطان يحدث له بدعاً، حتى يخرج الإيمان من قلبه، ويوشك أن يدع الناس ما ألزمهم الله من فرضه في الصلاة والصيام والحلال والحرام، ويتكلمون في ربهم عز وجل، فمن أدرك ذلك الزمان فليهرب)، قيل: يا أبا عبد الرحمن، فإلى أين؟ قال: (إلى لا أين)، قال: (يهرب بقلبه ودينه، لا يجالس أحداً من أهل البدع)[13].
6- وعنه أيضاً قال: (اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة)[14].
7- وعن عنه أيضاً قال: (كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، إذا ترك منها شيء قيل: تركت السنة)، قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: (ذلك إذا ذهب علماؤكم، وكثرت جهالكم، وكثرت قراؤكم، وقلّت فقهاؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقّه لغير الدين)[15].
8- وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن الله لم يجعل في هذه الأهواء شيئاً من الخير، وإنما سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار)[16].
9- وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه: (هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟) قالوا: يا أبا عبد الله، ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً، قال: (والذي نفسي بيده، لتظهرن البدع حتى لا يُرى من الحق إلا قدر ما ترون ما بين هذين الحجرين من النور. والله، لتفشونّ البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا: تركت السنة)[17].
10- ودخل ابن مسعود على حذيفة فقال: اعهد إليّ، فقال له: ألم يأتك اليقين؟! قال: بلى وعزّة ربي، قال: (فاعلم أنّ الضلالة حقَّ الضلالة أن تعرف ما كنت تُنكر، وأن تنكر ما كنت تعرفُ، وإياك والتلوُّن، فإن دين الله واحد)[18].
11- وعن سعيد بن المسيب قال: "إذا تكلم الناس في ربهم وفي الملائكة ظهر لهم الشيطان، فقدّمهم إلى عبادة الأوثان"[19].
12- وقال أبو العالية: "وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء"[20].
13- وقال شريح القاضي: "إن السنة قد سبقت قياسكم، فاتبع ولا تبتدع، فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر"[21].
14- وعن إبراهيم النخعي قال: "كانوا يكرهون التلون في الدين"[22].
15- وعنه أيضاً: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء} [المائدة:41]، قال: "الخصومات والجدال في الدين"[23].
16- وقال عمر بن عبد العزيز: "السنة إنما سنّها من علم ما جاء في خلافها من الزلل، ولهم كانوا على المنازعة والجدل أقدر منكم"[24].
17- وقال أيضاً: "من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقّل"[25].
18- وعنه أيضاً قال: "إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة"[26].
19- وسأل رجل عمر بن عبد العزيز عن شيء من الأهواء، فقال: "الزم دين الصبي في الكُتَّاب والأعرابي، وَالْه عما سوى ذلك"[27].
20- وقال الشعبي: "إنما الرأي بمنزلة الميتة، إذا احتجت إليها أكلتها"[28].
21- وقال الزهري: "من الله الرسالة، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم"[29].
22- وقال سفيان الثوري: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها"[30].
23- وسُئل سفيان الثوري عن الكلام فقال: "دع الباطل، أين أنت عن الحق، اتبع السنة، ودع البدعة". وقال: "وجدت الأمر الاتباع"، وقال: "عليكم بما عليه الجمّالون والنساء في البيوت والصبيان في الكُتَّاب من الإقرار والعمل"[31].
24- وقال الأوزاعي: "بلغني أن الله إذا أراد بقومٍ شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل"[32].
25- وعن الفضيل بن عياض قال: "أدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة، وينهون عن أصحاب البدع"[33].
26- وقال أيضاً: "لا تجالسوا أهل الخصومات؛ فإنهم يخوضون في آيات الله"[34].
27- وعن العوام بن حوشب قال: "إياكم والخصومات في الدين؛ فإنها تحبط الأعمال"[35].(/4)
28- وكان مالك بن أنس يقول: "الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جهم والقدر، وكل ما أشبه ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في دين الله عز وجل فالسكوت أحبّ إلي؛ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل"[36].
29- وقال مالك أيضاً: "لو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة والتابعون، كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدلّ على باطل"[37].
30- وقال أيضاً: "إياكم والبدع"، قيل: يا أبا عبد الله، وما البدع؟ قال: "أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان"[38].
31- وجاء رجل إلى مالك فسأله عن مسألة، فقال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وكذا، فقال الرجل: أرأيت؟ قال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور:63][39].
32- وقال الشافعي: "لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء"[40].
33- وقال أيضاً: "لأن يُبتلى المرء بما نهى الله عنه خلا الشرك بالله خير له من أن يبتليه بالكلام"[41].
34- وقال أيضاً: "ما ارتدى أحدٌ بالكلام فأفلح"[42].
35- وقال أحمد بن حنبل: "إنه لا يفلح صاحب كلام أبداً، ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلاَّ وفي قلبه دَغَل"[43].
36- وقال البغوي: "واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه"[44].
37- وقال ابن عبد البر: "أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم"[45].
38- وقال أيضاً: "ونهى السلف رحمهم الله عن الجدال في الله جل ثناؤه في صفاته وأسمائه، وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر؛ لأنه علم يحتاج فيه إلى رد الفروع على الأصول للحاجة إلى ذلك، وليست الاعتقادات كذلك؛ لأن الله عز وجل لا يوصف عند أهل السنة والجماعة إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أجمعت الأمة عليه، وليس كمثله شيء، فيدرك بقياس أو بإمعان نظر، وقد نهينا عن التفكر في الله، وأمرنا بالتفكر في خلقه الدال عليه، وللكلام في ذلك موضع غير هذا، والدين قد وصل العذراء في خدرها والحمد لله"[46].
39- وقال الشاطبي في بيان ذم البدع وأنه عام لا يخص بدعة دون غيرها: "فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن ما تقدم من الأدلة حجة في عموم الذم من أوجه:
أحدها: أنها جاءت مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء ألبتة، ولم يأت فيها ما يقتضي أن منها ما هو هدى، ولا جاء فيها: (كل بدعة ضلالة إلا كذا وكذا) ولا شيء من هذه المعاني، فدل على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية.
الثاني: أنه قد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة، وأتي بها شواهد على معان أُصولية أو فروعية، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص، مع تكررها وإعادة تقريرها، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم.
وقد جاء في الأحاديث المتعددة أن كل بدعة ضلالة، وأن كل محدثة بدعة. وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع مذمومة، ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها، فدل ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها.
الثالث: إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمها كذلك، وتقبيحها والهروب عنها وعمّن اتسم بشيء منها، ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا مثنوية، فهو بحسب الاستقراء إجماع ثابت، فدل على أن كل بدعة ليست بحق، بل هي من الباطل.
الرابع: أن متعقد البدعة يقتضي ذلك بنفسه؛ لأنه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أنه ينقسم إلى حسن وقبيح وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم، إذ لا يصح في معقول استحسان مشاقة الشارع.
وأيضاً لو فرض أنه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم لم يتصور، لأن البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك، وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها، إذ لو قال الشارع: (المحدثة الفلانية حسنة) لصارت مشروعة"[47].
00000000000000
[1] جامع البيان (4/419).
[2] صحيح مسلم: كتاب الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218)، ورواه أبو داود (1905)، وابن ماجه (3074).
[3] رواه ابن حبان في صحيحه (122)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/169): "رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح"، وقد صححه الألباني في صحيح الترغيب (1/93).(/5)