وبالإضافة إلى ماذكرنا من الاعتناء بالفرائض والبعد عن المعاصي، والاجتهاد بالنوافل لابد من السعي لتطهير القلب من التعلق بغير الله عز وجل؛ فصلاح القلب مناط تربية الصلة بالله عز وجل، بل هو مناط النجاة يوم القيامة ، قال الله عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام :[ولا تخزني يوم يبعثون. يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون. إلا من أتى الله بقلبٍ سليم] في هذه الآيات يدعو إبراهيم عليه السلام ربه أن يأتي يوم القيام بقلب سليم، وفي الآية الأخرى وصفه تبارك وتعالى بأنه جاء ربه بقلب سليم ]وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جاء ربه بقلب سليم] .
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن منزلة القلب وأن الجسد كله يصلح بصلاحه، ويفسد بفساده "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
وحين تصلح حال الإنسان مع الله، وتقوى صلته بربه تستقيم سائر أموره.
الوسيلة الثانية: القراءة والمطالعة : وهذا أيضاً عنصر مهم من عناصر التربية الذاتية، فأنت تقرأ في كتب الرقائق ما يرقق قلبك ويزيل قسوته، وتقرأ في كتب الأخلاق والآداب ما يصلح سلوكك، وتقرأ في كتب أهل العلم مايزيدك علماً، وتقرأ في تراجم العلماء مايزيدك حماسة للعلم والدعوة والبذل لدين الله عز وجل.
والقراءة تنمي أفق الإنسان، وتفكيره، وتزيد من قدرته على حل المشكلات، فالقراءة تنمي كافة الجوانب وإن كان يتبادر إلى الذهن أنها قاصرة على الجانب العلمي وحده.
الوسيلة الثالثة: حفظ الوقت والاعتناء به: ويتأكد هذا الأمر في حق من اشتغلوا بدعوة غيرهم وتربيتهم؛ فهذا العمل يأخذ عليهم زبدة أوقاتهم، لكن الاعتناء بتنظيم الوقت والحزم مع النفس في ذلك مما يعينهم على أن يوفروا لأنفسهم قدرا من الوقت كان يضيع سدى؛ فيستثمروه في تربية أنفسهم والرقي بها، إن استغلال الوقت مهارة وقدرة يحتاج الشاب أن يربي نفسه عليها، وليست مجرد اقتناع من الإنسان بأهمية الوقت.
الوسيلة الرابعة: التفاعل مع البرامج العامة: إن هناك برامج عامة يتلقاها الشاب مع إخوانه، كالدرس العلمي والمحاضرة وخطبة الجمعة واللقاءات الجماعية …إلى غير ذلك، وهذه البرامج تحتاج منه إلى أن يتفاعل معها، من خلال التركيز والاستيعاب، ومن خلال أخذ النفس بالعمل والتطبيق بعد ذلك، وقد سبقت الإشارة إلى طوائف ممن كانوا يحضرون أعلى المجالس وأشرفها: مجالس النبي وكانوا لا يستفيدون من ذلك، بل كانت وبالاً عليهم.
الوسيلة الخامسة: الجماعية :لابد من الجماعية في التربية الذاتية، وكيف يكون ذلك؟ ذكر الأستاذ محمد قطب حديثاً جميلاً في كتابه منهج التربية الإسلامية حيث يقول :"وينبغي أن نذكر بصفة عامة أن التنمية النفسية الصحيحة لا تتم في كيان فرد يعيش بمفرده في عزلة عن الآخرين وفي هذه الفترة بالذات – وهو يتحدث عن فترة الشباب الباكر – كيف يتدرب الإنسان على الأخوة إذا لم يمارس الأخوة بمشاعرها؟ مع الإخوة الذين يربطهم به هذا الرباط؟ كيف يتدرب على التعاون إذا لم يقم بهذا الفعل مع أفراد آخرين؟ كيف يتعود أن يؤثر على نفسه إذا لم يكن هناك إلا نفسه؟ إن الوجود في الجماعة هو الذي ينمي هذه المشاعر وهذه الألوان من السلوك، والشاب الذي يعيش في عزلة عن الآخرين وإن حاول أن يستقيم على المنهج السليم تنمو بعض جوانب نفسه وتظل جوانب أخرى ضامرة؛ لأنها لا تعمل".
إن بعض الشباب يقول: علي أن أنعزل لوحدي لأهتم بتربية نفسي ، وهذا غير صحيح فالجماعية مهمة للتربية الذاتية لأمور:
أولاً: هناك أمور جماعية لا يمكن أن تؤديها إلا من خلال الجماعة، كمشاعر الأخوة والتعاون والإيثار والصبر على جفاء الآخرين.
ثانياً: من خلال الجماعة تجد القدوة الصالحة وهي مهمة للتربية .
ثالثاً: من خلال الجماعة تجد القدوة السيئة وهي أيضاً مهمة للتربية؛ فحين ترى فرداً سيء الخلق تدرك كيف يخسر الآخرين، ومن ثم تدرك شؤم سوء الخلق، وترى إنساناً كسولاً فتدرك أثر الكسل والتفريط، إذاً أنت تحتاج إلى القدوة السيئة لا تلازمها وتعاشرها لكن عندما ترى هذا النموذج تجتنبه.
رابعاً: اكتشاف أخطاء النفس، وترويضها؛ فالإنسان الذي يعيش في عزلة يكون في الأغلب إنساناً حاداً في تعامله مع الآخرين، مثاليّاً في أحكامه وفي المشروعات التي يطرحها وعندما ينتقد الآخرين وعندما يوجههم، فهو مهما امتلك من القدرات تبقى لديه جوانب قصور واضحة، من خلال العزلة والسياج الذي فرضه على نفسه، ومن هنا نقول لابد من الجماعة في التربية الذاتية.
الوسيلة السادسة: الثقة بالنفس : وذلك بأن يشعر الشاب أنه قادر على أن يرقى بنفسه إلى درجات الكمال البشري، أما الكمال المطلق فلا يمكن أن يصل إليه البشر إطلاقاً، فالذي لايثق بنفسه لا يمكن أن يصنع شيئاً، ولا يمكن أن يرتفع بها أو يرتقي بها.(/4)
ولابد مع الثقة بالنفس من مقت النفس بجانب الله عز وجل حتى تتجنب طرفي الإفراط والتفريط، فالثقة بالنفس تعني أن يعلم الإنسان أنه قادر على أن يفعل هذا الشيء، وأن يتحمل المسؤولية حين تقع عليه، لكن ذلك لا يعني أن يصاب بغرور وإعجاب، بل ينبغي أن يعلم أنه مقصر وأنه مذنب وأنه مخطئ.
وحين أجمع بين الأمرين سيدفعني ذلك إلى بذل الجهد والمشاركة الدعوية ليكون في ذلك تكفيراً لذنبي، ورفعة لدرجاتي عند الله عز وجل.
افترض أني إنسان أعطاني الله عز وجل فصاحة وبلاغة أيمنعني هذا من أن أخطب الناس وأذكرهم بكتاب الله وسنة النبي، وإن كنت أشعر بأنني أرتكب المعاصي والذنوب، وهب أن أعطاني الله موهبة في التأثير على الآخرين وقدرة في التعامل مع الناس وكسبهم، هل يمنعني شعوري بالتقصير من استثمار هذه الموهبة دعوة الناس والتأثير عليهم، وهكذا أيًّا كانت هذه الموهبة ألا يدعوني ذلك إلى أن أستغلها في طاعة الله على كل حال؟
الوسيلة السابعة: محاسبة النفس : وذلك بأن يحاسب الإنسان نفسه قبل العمل وأثناء ه وبعده، وأن يداوم على محاسبة نفسه في كافة جوانب حياته؛ فالمحاسبة هي التي تُعرِّف الإنسان بعيوب نفسه وجوانب ضعفها، وهي التي تعينه على علاجها.
الوسيلة الثامنة: العزلة الشرعية : ونعني بالعزلة الشرعية أن يكون للشاب حظ من الوقت يخلو فيه بنفسه، ويقبل فيه على الله عز وجل يقول ابن القيم - رحمه الله - في مدارج السالكين تعليقاً في قوله صاحب المنازل في درجات الإيثار قال: ألا يقطع عليك طريق السير والطلب إلى الله جل وعلا مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله؛ فتكون قد آثرته على الله وآثرت بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار؛ فيكون مثلك كمثل رجل سائرٍ على الطريق لقيه رجل فاستوقفه وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق، وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق الساعي إلى الله جل وعلا . فإيثارهم عليه عين الغبن وما أكثر المؤثرين على الله غيره، وما أقل المؤثرين الله على غيره، وكذلك الإيثار ما يفسد على المسلم وقته قبيحٌ أيضاً مثل أن يؤثر في وقته ويفرق قلبه في طلب خلقه، أو يؤثر بأمر قد جمع همه وأمره إلى الله؛ ليفرق عليه قلبه بعد جمعيته ويشتت خاطره، وهذا أيضاً إيثارٌ غير مشروع، وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهمات الخلق ومصالحهم التي لا تتعين عليك، على الفكر النافع واشتغال القلب بالله ونظائر ذلك لا تخفى، بل هو حال الخلق والغالب عليهم ، وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ومحاسبة نفسك مع الله فلا تؤثر به إنما تؤثر الشيطان على الله وأنت لا تعلم" .
إذاً فمهما كنت في ميدان من ميادين الخير: ميدان أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، أو ميدان تعليم علم ، أو ميدان جهاد في سبيل الله، فلابد أن يكون لك نصيب -ولو كان يسيراً - تخلو فيه مع الله عز وجل، فتتلو فيه كتاب الله عز وجل وتتدبره، وتقوم الليل أو تصوم، فهذا زاد لك يعينك على هذا العمل الذي تفرغت له.
التربية الذاتية ومفاهيم خاطئة
لاشك أن الإنسان حينما يفكر في موضوع معين ويعتني به ويتفاعل معه، قد يكون لديه خلل أو فهم خاطئ نتيجة مبالغته في النظرة إلى هذا الموضوع، ومن هنا كان لابد أن نشير إلى بعض المفاهيم الخاطئة التي قد تتبادر للذهن من خلال سماع هذا الموضوع، أو من خلال تفكيرنا بحاجتنا إلى التربية الذاتية.
1. أولاً: استقلال النفس
فقد يشعر بعض الشباب أننا الآن حشدنا الأدلة والمؤيدات في إقناعه بتربية نفسه، فيقول:ما دمت أدرك عيوبي أكثر من غيري، وما دمت مسؤولاً مسؤولية فردية، فأنا لست بحاجة إلى الآخرين، لست بحاجة إلى أن أحضر إلى مجالس العلم فبإمكاني أن أحصله بنفسي، ولست بحاجة إلى مشاركة الشباب الصالحين في برامجهم، إلى غير ذلك وهذا خطأ فالناس بحاجة إلى التعليم، وبحاجة إلى التربية وقديماً قيل: من كان أستاذه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه، فمن أراد أن يتعلم العلم من خلال الكتب وحدها لا يمكن أن يبلغ الغاية، ومن أراد أن يربي نفسه في هذا العصر وهذا المجتمع وسط هذا الزخم الهائل من المغريات والشهوات والفتن التي قد تتحدث عن شيء منها في محاضرة الغد (عناية الشريعة بسد ذرائع الفاحشة) إن شاء الله في هذا الوسط الذي يظن أنه يستطيع أن يستقل بنفسه فهذا وهم كاذب، فلابد له من رفقة صالحة يعينونه على طاعة الله ، وكان عليه السلام كما يقول ابن عباس : "أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل" فإذا كان الرسولعليهالسلاميستفيد من لقائه بجبريل وهو رسول الله أفضل الخلق فغيره من باب أولى.(/5)
إذاً فحديثنا عن التربية الذاتية وأهميتها لا يعني إطلاقاً استقلال الشاب، فمع تأكيدنا على التربية الذاتية وأهميتها فنحن نؤكد أيضاً على الجماعية، كما ذكرنا أن من وسائل التربية الذاتية الجماعية، وذكرنا أن الإنسان الذي يعيش في وسط فردي بحت يعيش في نشاز إنسان شاذ في سلوكه ونشاطه وأخلاقه ومن جلوسك معه تعلم بأنه إنسان لا يعيش ولا يخالط الآخرين.
2. ثانياً: التفريط في الدعوة
ومن المفاهيم الخاطئة للتربية الذاتية: التفريط في الأعمال الهامة بحجة تربية النفس، فبعض الناس يقول أريد أن أتفرغ لكي أربي نفسي وأتعلم وأستزيد من العلم، ثم بعد ذلك يمكنني أن أقوم بالدعوة إلى الله عز وجل .
إن الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم لا يسمح لنا بهذا التباطؤ والتأخر، وأهل الشر يبذلون جهوداً جبارة في سبيل نشر باطلهم، وهب أننا قلنا للشباب جميعاً يجب أن تتفرغوا للعلم وحفظ القرآن وللإبداع فيه ثم تنزلون إلى الميدان، فمن سيتولى تربية هؤلاء الشباب، ومن سيقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن سينفق على المحتاجين والضعفاء، ومن سيقوم بالجهاد في سبيل الله .
إن الشاب الذي تفرغ حينما يتخرج بعد ذلك سيحتاج إلى طريقة للتعامل مع وقته، وإلى تضحية لم يكن اعتاد عليها فيكون من الصعب عليه أن يعمل هذه الأعمال، لا يعرف كيف يتحدث مع الآخرين، لا يعرف المشكلات لم يعرف ولا كيف يواجهها.
وهذا نبي من أنبياء الله قد تفرغ لعبادته وترك الحكم بين الناس فعاتبه الله ألا وهو داود ]وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط … الآية[
وكم تصدى النبي صلى الله عليه وسلم للناس حتى أثر على عبادته صلى الله عليه وسلم فكان في آخر حياته يصلي جالساً كما تقول عائشة حين حطمه الناس، وهكذا المصلحون والعلماء وغيرهم من الناس الذين تصدوا لدعوة الناس.
والأمر يحتاج إلى اعتدال، فلايسوغ أن نهمل الدعوة والإصلاح بحجة تربية أنفسنا، وفي المقابل لا يسوغ أن نهمل أنفسنا، فلنؤت كل ذي حق حقه والله أعلم .
موقع الدويش(/6)
... ...
التربية ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- معنى التربية. 2- الأثر العظيم للوالدين في التربية. 3- صفات المربي. 4- الخطوط العريضة في تربية الأبناء. 5- موقف المسلم من التربية. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم:6]. اعلم أنه كلما اتسعت دائرة الحساب، فمسؤولية العبد بادئ ذي بدء عن نفسه أما وقد تزوج وأنجب أبناءا فيتسع الأمر بعد ذلك، تبعة ومسؤولية وحسابا بين يدي الله عز وجل، عن نفسه وزوجه وأبنائه، وخير ما يصلح الأبناء هي التربية الصالحة.
فما هي التربية؟ وما صفات المربي؟ وما الخطوط العريضة للتربية؟ وما موقف المسلم منها؟
أما التربية لغة: فهي مأخوذة من ربى يربي أي نشأ وترعرع، وأما اصطلاحا فعرف العلماء التربية فقالوا: هي عملية بناء الطفل شيئا فشيئا حتى يبلغ حد الكمال والتمام.
وينبغي أن تعلم:
أن تربية أبنائنا تقع تحت مسؤولية الجميع من ولي الأمر إلى الوالدين إلى الإعلام إلى التربية إلى المجتمع كله، مصداقا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))([1]).
وينبغي أن تعلم أيضا أن للوالدين الأثر العظيم في تحديد مسار الأبناء واختيارهم لدينهم لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، (أي الإسلام) فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه))([2]).
وينبغي أن تعلم أيضا أنه لابد من العناية بتربية أبنائك حتى تنتفع بهم في حياتك وبعد مماتك في آخرتك، في حياتك بأن تقر عينك برؤيتهم والذين يقولون: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين [الفرقان:74]، يقول عكرمة: والله ما أرادوا صباحة وجوه أبناءهم ولا جمال أجسادهم إنما أرادوا أن تقر أعينهم بصلاحهم وأن يكونوا مطيعين لله عز وجل([3])، ثم بعد مماتك فالأجر متصل لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له))([4]). وفي الآخرة قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا دخل الرجل الجنة سأل عن والديه وزوجه وأبنائه فيقال له إنهم: لم يعملوا عملك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيأمر الله تعالى أن يلحقوا به حتى تقر عينه في الجنة))([5]).
ولابد أيضا من العناية بتربية أبنائنا حتى لا تشقى الأمة بأبنائها وأي شقاء أعظم من أن يظهر في الأمة جيل مخنث ناقم على ذكورته ناقم على رجولته يفعل به ويلاط: أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [الشعراء:165]. ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به))([6]). أي شقاء أعظم تعيشه الأمة عندما يظهر فيها جيل يشتري الوهم والخيال والأحلام بأموال طائلة، بل إن أحدهم عرض عرضه حتى ينتفع بنشوة من شمة يشمها. أي شقاء للأمة يكون عندما يظهر فيها جيل من الزناة شغله الشاغل أن يعبث بأعراض الآخرين وأمثال هؤلاء لن تسلم أعراضهم.
إن الزنا دين إذا استقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
أمة ظهر فيها الحشاشون والزناة والمخنثون فأي مصير بعد ذلك تنتظر، وأي قبر تحفره بيدها.
وأما صفات المربي: فإن للمربي صفات:
أن يستشعر مسئوليته فعليه أن يستقيم، في منطقه في سلوكه في خلقه لأنه في موضع قدوة والعيون معلقة به، أنت بالنسبة لولدك كنسبة العود إلى الظل ولا يستقيم الظل والعود أعوج، إن من الآباء من أجرموا في حق أبنائهم بالقدوة السيئة التي ضربوها، والد يبدل طاقم الخادمات كل ستة أشهر مرة بعد أن يفجر بهن والزوجة تعلم والأبناء يعلمون، الزوجة تعلم وتسكت لأنها تربت على عفن الإعلام فألف خليلة ولا حليلة فليفعل ما يفعل المهم أن لا يتزوج عليها كذا علمها إعلامنا لأن الزوجة الثانية انتقاص من كرامتها وأنوثتها، والأبناء يعلمون ولكن.
إذا كان رب البيت بالدف ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
آباء متقاعدون لا يأتون البلاد إلا نادرا شغلهم الشاغل الفجور في بلاد الكفر وإذا أتى فلا يأتي إلا أياما ومنهم من يطلب من ابنته أن تعلمه ضرب الإبر حتى يستعين بها على الحرام فكيف يكون حال الأبناء بعد ذلك؟(/1)
من صفات المربي أن يكون قد أحسن اختيار الزوجة، فهي الساعد الأيمن بالنسبة له، هي الرديف، هي التي تجبر النقص الذي تفعله بسبب تقصيرك بانشغالك في الرزق مثلا لذا أكد النبي عليه الصلاة والسلام على تخير الزوجة الصالحة المؤمنة فقال: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك))([7])، ((خير متاع المؤمن المرأة الصالحة))([8])، أما المرأة المسترجلة التي ظاهرها أنثى وباطنها ذكر والتي تشيبك قبل المشيب والتي تنازعك القوامة ملعونة على لسان النبي عليه الصلاة والسلام عندما لعن المخنثين من الرجال والمسترجلات من النساء، أمثال هؤلاء يشغلنك عن تربية الولد بتلك الصراعات، وكذلك النزاع الذي يكون هو الجو السائد في الأسرة، وكذا خضراء الدمن التي غرك حسنها فلم تلتفت إلى أصلها ومنبتها، رسول الله حذرنا فقال: ((إياكم وخضراء الدمن قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: حسنة المظهر سيئة المنبت))([9])، ومثل هذه لا تؤتمن على عرض فضلا عن أن تؤتمن على تربية الولد، والدمن: ما بقي من آثار الديار ويستعمل سمادا.
من صفات المربي أن يكون عادلا فلا يفضل أحدا على أحدا حتى لا يزرع البغضاء والعداوة والنفرة بين أبنائه، وعندما أحس إخوة يوسف أن يعقوب عليه السلام يميل إلى يوسف وأخيه، صدق الله العظيم: إذا قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين [يوسف:8]. ويتفاقم الأمر إلى القتل: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين [يوسف:9]. حديث النعمان بن بشير جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((يا رسول الله إني نحلت ابني هذا غلاما، (أهديت له غلاما) وأريدك أن تشهد على ذاك، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: هل أعطيت كل ولدك ما أعطيت النعمان؟ قال: لا، قال: إذن لا تشهدني على جور))([10])، أي على ظلم.
من صفات المربي أن يكون حازما وفرق بين الحزم والرفق، الرفق والرحمة لابد منهما، فرسول الله عليه الصلاة والسلام كان من أرحم الناس بعياله وأهله وأما الحزم الذي نتكلم عنه فهو أن لا تسكت على خطأ أبدا، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ولا ترفع عنهم عصاك أدبا)).
قسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم
إذا لم تمارس مهمة الناصح المغير الذي لا يرضى على خطأ أبدا، إن لم تفعل هذا كنت صفرا على الشمال ويتجرأ عليك الصغير والكبير، تفقد هيبتك في بيتك لا يكون لك قيمة، لابد من ممارسة الحزم بأن تثني على الصواب وتعترض على الخطأ.
لابد أن تتولى أمر التربية بنفسك وتحت إشرافك فيكون لك وجود وحضور في أسرتك، أن ترصد كل ما يدخل بيتك من مجلة أو صحيفة أو فلم أو شريط أن ترصد كل ما يعرضه الإعلام من غث وسمين أن تسكت كل صوت لا ينبغي أن يسمع مما فيه دعوة إلى فاحشة وخنا، أن تنمي معاني الرجولة في أبنائك، ومعاني الحياء والعفة في بناتك وقبل أسبوعين نشرت مجلة "اليقظة" في باب أسئلة دينية فتاة تسأل هي طالبة في معهد للسكرتارية تتلقى العلم، لم تجد من يوصلها تبرع شقيق صديقتها أن يقوم بهذه المهمة، ففي الناس أشراف ولكنه كان كلبا مسعورا شغله الشاغل شهوته له صنعته من كلام معسول، يغري ناقصات العقل والدين ممن لم يكن لهن من الدين ما يعصمهن تطاول الأمر حتى مد يده إليها فلم ترفض، أخذ يصحبها إلى شقته يتمتع بها، تقول البنت: وما زلت احتفظ بشرفي، طلبت منه النكاح فرفض وقال: عندي عشرات من أمثالك، تقول: لا أستطيع الاستغناء عنه فماذا أفعل، ضع هذه جانبا وامرأة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، يقال لها أم خلاّد قتل ابنها في المعركة جاءت وهي متنقبة تغطي وجهها تسأل عن ابنها فقال لها بعض الأصحاب: اكشفي عن وجهك حتى نعرف من أنت ومن ابنك؟ قالت لهم: ((لأن أرزأ في ابني أحب إلي من أن أرزأ في حيائي)) أن أصاب بمصيبة في ابني فيموت أحب إلي من أن أصاب بمصيبة في حيائي فأكشف عن وجهي، هذا حديث يرويه أبو داود، تأمل في هذه القمم السامية التي تربت عند النبي عليه الصلاة والسلام وبين هذه السفوح الهابطة، فعل بها كل ما يريد وتقول: ما زلت احتفظ بشرفي، أي شرف يبقى بعد ذلك!! ما هي موازين الشرف في واقعنا! من أي بيت دعارة تخرجت؟! من هم والديها ماذا علموها؟! أسئلة يقف العاقل أمامها حائرا.
أما الخطوط العريضة في تربية الأبناء:(/2)
فالخط الأول هو أن تربط الولد بالله، بذكر الله عز وجل بأن تغرس في قلبه معاني اليوم الآخر من جنة ونار وحساب وعرض على الله عز وجل، عندما يولد المولود في إسلامنا من السنة أن تؤذن في أذنه فأول كلمة تطرق قلبه الله أكبر: ((ما من مولود يولد فيؤذن في أذنه اليمنى وتقام الصلاة في أذنه اليسرى إلا لم تضره أم الصبيان))([11]) وهو نوع من الجن، وإذا أراد الكلام فأول كلمة ينطق بها هي كلمة (لا إله إلا الله)) لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((افتحوا على صبيانكم لا إله إلا الله))([12])، ثم تغرس في نفسه معاني اليوم الآخر، أردف النبي عليه الصلاة والسلام ابن عباس وكان غلاما وراء ظهره ثم قال له: ((يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف))([13]).
التربية بالعادة أن يتعود الخلق الكريم وأن يتعود الطاعة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان))([14]). وهو لم يعتد المساجد في كبره إلا لأنه نشأ على هذا الأمر منذ صغره، تقول أم عطية: ((كنا نصوم صبياننا فإذا بكوا أشغلناهم باللعب حتى يأتي وقت الأذان))([15])، أن يتعود قولة: السلام عليكم. أن يتعود أن يقبل يدي والديه أن يتعود احترام الكبير حتى تنغرس هذه الأمور منذ صغره فتنموا بعد ذلك في كبره.
من الخطوط العريضة أيضا هي التربية بالقصة: إعلامنا أجرم عندما جعل من العاهرة بطلة ومن العاهر بطلا، إعلامنا أجرم في حق أبنائنا فلم يترك عاهرة إلا وصورها وعقد معها لقاء، لابد أن يربط الولد بأنبياء الله عز وجل: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [الأنعام:90]. وبرسو ل الله عليه الصلاة والسلام: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الممتحنة:6].
إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا إن التشبه بالكرام فلاح
ولابد من التربية أخيرا بالعقوبة: الضرب للولد مثل السماد للزرع: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع))([16]) (الولد سبع أمير وسبع أسير وسبع وزير ثم تشاوره ويشاورك)، ما بين مولده وحتى السابعة من عمره تلبي له طلبه، ولا تستخدم العنف معه مما يفسد طاقاته ومواهبه وبين السابعة والرابعة عشر لابد أن يشدد على الولد، ولابد أن يفرض عليه الخلق فرضا، أصحب فلانا ولا تصحب فلانا، اقرأ كذا، ولا تقرأ كذا، فإذا فلت منك في هذه السن فلن تظفر به بعد ذلك.
وأما موقف المسلم من التربية:
فينبغي أن لا تكون النعمة سببا أن ننسى رسول الله عليه الصلاة والسلام وأن ننسى أخلاقنا يحدثني أحد الفضلاء من المدرسين أن ولدا مسك وهو يمارس الفاحشة في الحمام مع أحد الطلاب ولفداحة الأمر ولخطورته اتصلوا بولي أمره في عمله فلما جاء متلهفا مسرعا، وهذا أمر يثنى عليه عرض عليه الأمر بعد تحرج فنظر إليهم نظرة المستهزئ، وقال: لمثل هذا طلبتموني هل الأمر يستحق أن أترك عملي حتى تخبروني أن ولدي يمارس الفاحشة؟، هو يريد أن يلعب يريد أن يلهو فلماذا الاعتراض عليه؟، أهكذا فعلت بنا النعمة فأصبح الفجور بدل العفة والخلاعة بدل الحشمة والجنون بدل العقل أمور ينبغي أن نلتفت إليها: الذين بدلوا نعمة الله كفرا [إبراهيم:28]. فبدل أن نستقبل نعم الله بالشكر وأن نزداد لله طاعة تطيش العقول ونفقد ديننا وأخلاقنا ويصبح الدينار والدرهم رباً أمور ينبغي أن تراجع.
أيضا موقف المسلم من التربية أن يكون لك حضور في أهلك فإن لأسرتك منك نصيب، ولا يكون العمل هو الشغل الشاغل (حمار في النهار جيفة في الليل عالم بالدنيا جاهل بالآخرة) ومنهم من يكون شغله الشاغل أن يقضي وقته بالديوانيات لا يرى ولده ولا أهله فكيف تكون التربية بعد ذلك؟ وينمي النبي عليه الصلاة والسلام أمر القناعة في القلوب فيقول عليه الصلاة والسلام: ((من أصبح منكم آمنا في سربه، معافا في جسده عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها))([17]).
([1])متفق عليه .
([2])البخاري .
([3])مختصر ابن كثير ج2 ص 641 .
([4])مسلم .
([5])الطبراني .
([6])رواه الخمسة إلا النسائي .
([7])رواه البخاري ومسلم .
([8])مسلم .
([9])رواه الدار قطني .
([10])متفق عليه .
([11])البيهقي وابن السني .
([12])الحاكم .
([13]) أحمد والترمذي .
([14])الترمذي .
([15])البخاري ومسلم .
([16])أبو داود بإسناد حسن .
([17])الترمذي وقال حديث حسن . ... ...
... ...(/3)
الترف .. مظاهره وأسبابه وعلاجه
الحمد لله الذي يمحو الزلل ويصفح ، ويغفر الخطل ويمسح ، كل من لاذ به أنجح ، وكل من عامله يربح ، تشبيهه بخلقه قبيح وجحده أقبح ، رفع السماء بغير عمد فتأمل والمح ، وأنزل القطر فإذا الزرع في الماء يُسبح ، وأقام الوُرق على الوَرق تشكر وتمدح ، أغنى وأفقر والفقر في الأغلب أصلح ، كم من غنيِّ طرحه البطر والأشر أقبح مطرح ، هذا قارون ملك الكثير وبالقليل لم يسمح ، ولِيمَ فلم ينفع لومه " إذ قال قومه لا تفرح " .
احمده ما أمسى المساء وما أصبح ، وأصلي على رسوله محمد الذي أُنزل عليه " ألم نشرح " ، وعلى أبي بكر صاحبه في الدار والغار لم يبرح ، وعلى عمر الذي لم يزل في إعزاز الدين يكدح ، وعلى عثمان وعليّ وسائر الصحب وكلٌ رُضي عنهم فأفلح .
ـ أما بعد ـ
إخوتاه ..
قال الله تعالى : " مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " [ هود/15-16]
وقال الله تعالى : "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد" [الإسراء/ 18] .
قال سعيد بن جبير رضي الله عنه : يؤتون ثواب ما عملوا في الدنيا وليس لهم في الآخرة من شيء . وقال قتادة رضي الله عنه : من كانت الدنيا همه وسدمه وطلبته ونيته وحاجته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة ليس له فيها حسنة، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ، ويثاب عليها في الآخرة .
قال ابن جريج: يعجل لهم فيها كل طيبة ، فلم يظلمهم لأنهم لم يعلموا إلا الدنيا.
وههنا خطورة قضية " النعم " فإنَّ المرء قد يعطيه الله تبارك وتعالى ويسبغ عليه من الفضل والنعم ما يكون سبب هلاكه ، فهي عوض عن أعماله الصالحة في الدنيا حتى يأتي الله ولا حسنة له ، فأي مصيبة تعدل ذلك !!
ويرى الناس ذاك المترف فيتمنون ما عنده ليتمتعوا بهذه النعم كما يتمتع ويتنعم هو بها ، ولا يدرون حقيقتها ، فإذا تبين لهم قالوا كما قال قوم قارون " وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون "
ومن هنا تكمن خطورة النظر إلى الأمور بسطحية ، وعدم التدبر في الحقائق ، ومن هنا دعونا نتأمل هذه الظاهرة الخطيرة في مجتمعاتنا الإسلامية والتي أودت بكثير من شبابنا ، ألا وهي " الترف " وفق منظور إسلامي سلفي صحيح ، لنبصر خطورة جعل " الرخاء والرفاهية " مقصدًا للشعوب كما يدندن من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، وكيف ضاع كثير من شباب الأمة ورجالها تحت بريق هذا الهدف المنشود ، ودعونا نفهم عن الله قضية " الفقر والغنى " ، ونتعلم كيف نعيش كما يريد الله لا كما نريد نحن أو يُراد لنا ، ونتعلم كيف نستثمر أموالنا وكيف ننفقها .
إخوتاه ..
ما المقصود بالترف وما حده ؟
أصحاب اللغة يقولون أنَّ :
الترَفُ: هو التَّنَعُّمُ، و المُتْرَفٌ من كان مُنَعَّمَ البدنِ مُدَلَّلاً ، وهو : الذي قد أَبْطَرَتْه النعمةُ وسَعة العيْشِ. وأَتْرَفَتْه النَّعْمةُ أَي أَطْغَتْه ، وهو : المُتَنَعِّمُ المُتَوَسِّعُ في مَلاذِّ الدنيا وشَهواتِها.
يقول الراغب الأصفهاني : الترف : التوسع في النعمة.
قال الله تعالى : " أترفناهم في الحياة الدنيا" [المؤمنون/33]
وقال تعالى : " واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه " [هود/116 ]
وقال تعالى : " ارجعوا إلى ما أترفتم فيه " [الأنبياء/13]
وقال تعالى : " أخذنا مترفيهم بالعذاب" [المؤمنون/64 ]
وهم الموصوفون بقوله سبحانه: " فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول رب أكرمن وأمَّا إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول رب أهانن كلا " [الفجر/15-16 ]
فالمترف من توسع في التنعم بشهوات الدنيا وملذاتها ، ومن شأن ذلك أن يؤثر في شخصيته ، فتراه مدللا ، يفارق الرجال في القوة والاحتمال ، مخنث العزم ، مائع الإرادة ، فالدنيا عنده كأس وغانية ، نهم في طلب شهوات الدنيا ، يعيش لنفسه ، منطقه " اليوم خمر وغدًا أمر " ، شعاره " عش الحياة اليوم فتمتع بكل ما فيها ووقت الله يدبرها الله "(/1)
وهذا الوصف تراه يغلب على شباب الأمة اليوم ، الذين ضاعوا أمام تيارات التغريب والغزو الثقافي ، الذين نشأوا وسط عالم مادي بحت ، فالدين مغيَّب ، والدين أفيون الشعوب ، والدين مجموعة من الشعائر يؤديها المرء ـ إن شاء ـ في بيت العبادة ، فلا علاقة للدين بالحياة ، والإنسان مخلوق حر ، والحرية مكفولة لكل أحد ، فلا غضاضة ولا حرج إنْ سارت النساء كاسيات عاريات ، ولا شيء في أن يتشبه الرجال بالنساء ، ولا مانع من الاختلاط ، والزنا بالتراضي لا يدخل في حكم القاضي ، ومقصود الإنسان في هذه الحياة هو " الرخاء والرفاهية " ومن أجلها توضع الخطط الحكومية ، فهي ضمان السعادة ، والمال هو السلاح الأقوى ، وقيمة المرء بما في جيبه لا ما يتقنه .
ولعلك تسمع كل يوم هذه الشعارات ، ويدندون حولها في جميع وسائل الإعلام ، حتى صدقها الناس وصارت كالحقائق التي لا تقبل النقاش ، وكل من يخرج عن هذا الإطار فهو متخلف رجعي أصولي متطرف إرهابي ، يريد لنا أن نعيش بالطريقة التي لم نخترها ، يريد لنا أن نعيش في الكهوف ونعود للعصور الوسطى … إلى آخر هذه الطنطنات التي يرددها من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، من صارت الحياة همَّه وشغله ، ونسي أنَّ الحياة دار ابتلاء لا دار إخلاد ، فهؤلاء هم الذين أخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم ولم يفكروا فيما بعد الحياة ، لم يؤمنوا بالآخرة فلم يعملوا لها ، ولسان حالهم " ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق " ، يريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، وصفهم الله لنا فقال : " َولَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ "
فلا تتبع من أغفلنا قلبه واتبع هواه وكان أمره فرطًا .
من مظاهر الترف في عصرنا الحالي
إخوتاه ..
إلى هؤلاء اللاهين اللاعبين المترفين أقول : قال الله تعالى " وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ "
فالترف مفسد أي مفسد ، إذ يتعلق قلب صاحبه بالدنيا ، وللأسف الشديد إنَّ أكثر الأمة اليوم يعيش ترفًا غريبًا عجيبًا دخيلاً علينا .
فالفقراء يحاولون أن يفتعلوا الترف ، ولو في بعض الأشياء ، تجده لا يجد إلا قوته الضروري ، ولكنه يقتطع منه من أجل أن يقتني المحمول ، ويشتري أفخر الأثاث ، ويشتري أحدث الأجهزة ، ليشتري الدش فيدخل الفساد على أهله ويقره في بيته دياثة ، وهذا يقتطع من قوت أطفاله لكي يصيّف هنا أو هناك ، والقائمة طويلة تعرفونها جيدًا ، وإلى الله المشتكى .
ترف وللأسف الشديد أمر يخجل ، فلأجل الله يشح ويبخل ، ويقدم لك الاعتذارات لضيق الوقت وضيق ذات اليد و … و… الخ لكن للدنيا وللشهوات يحارب ويدبر ويفكر .
إنه التنافس على الدنيا ، وكأنه لو لم يحصل هذه الأمور سيعيش في الضنك ، وسيبلغ به الحرج المدى ، ولا والله فما الزيادة في الدنيا إلا زيادة في الخسران .
فالغني يصاب بالبطر والكبر ، ويصبح ماله نقمة عليه في الآخرة فيصرخ يوم القيامة : " مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الخاطئون " [ الحاقة /28-37]
والفقير يحلق دينه بالحقد والحسد ، ناهيك عمَّن يتكبر وهو معوز فيدخل في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر " [1].
فرجل كبير السن يزني ، وملك يكذب على رعيته ولا يحتاج لذلك فإذا كذب غش ، فهنا ـ كما يقول العلماء ـ ضعف الداعي ، وتم الفعل ، فعظم الوزر ، وهذا عائل أي فقير وهو مع هذا مستكبر ، فأن يطغى الغني بالمال هذا أمر معروف قال تعالى : " إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى " [ العلق /6-7 ] لكن فقير يتكبر فلماذا ـ يا عبد الله ـ ؟ !! وكذلك فقير مترف هذا شيء يبغضه الله تعالى .
الترف وإفساد الأبناء
إخوتاه ..
ولا شك أنَّ الترف أفسد أبناءنا ، فوجدنا فينا من يتفاخر يقول : أنا لا أجعل ابني في احتياج إلى شيء أبدًا فأنا ألبي له جميع طلباته ورغباته .(/2)
ومثل هذا يظن أنه أحسن إلى ولده ، وأنا أعرف أنَّ العاطفة لها دخل كبير في هذا ، بل من لا يستطيع أن يفعل ذلك يظل مهمومًا بهذه الرغبات من الأولاد والتي لا يستطيع أن يلبيها لهم ، والحقيقة أنَّ هذا ليس من التربية في شيء ، فأنت بذلك تفسد الولد ، إننا نفتقد الحكمة في التربية ، نفتقد التربية الإيمانية الصحيحة لأولادنا .
لماذا لا تربي ولدك منذ البداية على أن يتعلق بالله ، فإذا طلب شيئًا مفيدًا ولم تستطع أن تجيبه فقل له : هيا يا بني نصلي ركعتين وندعو الله فيهما ، فإنَّ الله هو الرزاق ، وهو ربنا المدبر لأمورنا ، فإذا لم يمنحنا المال الذي أستطيع به أن آتيك بما تريد ، فاعلم أنَّ هذا ليس مفيدًا لنا الآن ؛ لأنَّ الله صرفه عنَّا .
فتعلمه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله " [2] ، وليس من التربية أن تلبي جميع متطلبات أولادك فينشأ الواحد منهم عبد شهواته، كلما تاقت نفسه إلى شيء طلبه فإنَّه إن لم يجده سيسرق ويزنى ويخون من أجل أن يحقق ما يشتهي .
إن لابنك حقًا أعظم من الدنيا ، وهو أن تعلمه كيف ينجو من النار ، اللهم نجنا وأولادنا من النار . قال الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون " [التحريم / 6 ]
إخوتاه ..
الجيل المنشود نحتاج فيه إلى صفات " الرجولة " ، والرجل الحق لا يعرف الترف .
أخرج الإمام أحمد في مسنده والبيهقي في سننه وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2668) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إياك و التنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين " .
وهذا محمول على المبالغة في التنعم والمداومة على قصده ، وذلك لأنَّ التنعم بالمباح ـ وإن كان جائزاً ـ لكنه يوجب الأنس به ، ويُخشى من غائلته من نحو بطر وأشر ومداهنة وتجاوز إلى مكروه ونحو ذلك ، والتنعم بالمباح خطر عظيم لأنه يورث المرء ارتياحًا إلى الدنيا وركونًا إليها ، ويبعد عن الخوف الذي هو جناح المؤمن .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه والحاكم في المستدرك وصححه الشيخ الالباني في صحيح الجامع (2879) عن أبي أمامة الحارثي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " البذاذة من الإيمان "
و ( البذاذة ) رثاثة الهيئة ، وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس إيثاراً للخمول بين الناس .
وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من أخلاق أهل الإيمان إن قصد به تواضعاً وزهداً وكفاً للنفس عن الفخر والتكبر ، لا إن قصد إظهار الفقر وصيانة المال ، وإلا فليس من الإيمان من عرَّض النعمة للكفران ، وأعرض عن شكر المنعم المنان ، فالحسن والقبح في أشباه هذا بحسب قصد القائم بها إنما الأعمال بالنيات .
وكان عمر بن الخطاب يقول : " اخشوشنوا ، وتمعددوا ، وانزوا على الخيل نزوا ، واقطعوا الركب وامشوا حفاة " .
معنى تمعددوا أي اقتدوا بمعد بن عدنان وتشبهوا به في عيشه بالتقشف والزموا خشونة اللباس، ودعوا التنعم وزي العجم، ويقال تمعدد الغلام إذا شب وغلظ ويشهد له ما في الحديث الآخر: عليكم باللبسة المعدّيَّةِ ، وامشوا حفاة. فهو حثٌ على التواضع ونهيٌ عن الإفراط في الترفه والتنعم.
وإنَّما كان يأمرهم بالتخشن في عيشهم لئلا يتنعموا فيركنوا إلى خفض العيش ويميلوا إلى الدعة فيجبنوا ويحتموا عن أعدائهم .
ولعل هذا هو حال الأمة وهي تواجه أعداءها المتربصين بها ، فكثير يؤثر الذل باسم " السلام " لأنَّه ألف حياة الترف والرفاهية ، وعاد من اليسير على أمثال هؤلاء التفريط في كل شيء من أجل ضمان أن يعيش كما هو . فالله المستعان على ما يعملون .
إخوتاه ..
والشدة هي التي تصنع الرجال ، وترويض النفوس يحتاج إلى زجرها وترغيبها على حد سواء ، أمَّا أن تعطيها كل شيء ، أو تلبي لولدك جميع طلباته فقد وكلته لنفسه ، فاللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث ، اصلح لنا شاننا كله ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
فإنَّه من المهم للغاية أن تتربى أجيالنا على تحمل المشاق ، وبذل الوسع في طلب الآخرة ، وقد قالت العرب قديما : وعند الصباح يحمد القوم السُّري [3] .
قال الشاعر :
ليسَ أمرُ المرءِ سهلاً كله *** إِنَّما الأمرُ سهولٌ وحزونْ
ربما قرَّتْ عيونٌ بشجى *** مُرْمضٍ قد سخنتْ عنه عيونْ
تطلبُ الراحةَ في دارِ العنا *** خابَ من يطلبُ شيئاً لا يكونْ
أيها الأحبة في الله ..
موقف لطيف جرى بين عالمين جليلين ، فقد اجتمع يومًا ابن حزم الأندلسي الفقيه الظاهري مع أبي الوليد الباجي الفقيه المالكي، وجرت بينهما مناظرة سنة 440 من الهجرة ، فلما انقضت المناظرة قال أبو الوليد الباجي لابن حزم : تعذرني فإن أكثر مطالعاتي كانت على سرج الحراس .(/3)
فأبو الوليد الباجي كان فقيرًا لا يجد مالاً ، لا يجد مصباحًا في بيته ، فاعتذر لابن حزم لأن قراءته ومذاكرته وطلبه للعلم كان على مصابيح الحراس ، فالحراس كانوا يمشون في الليل بمشاعل لحماية البلاد من اللصوص ، فكان هو يسير وراءهم يقرأ في الكتاب ، ويذاكر على ضوء مصابيح الحراس .
سبحان الله العظيم !! وهذا بقي بن مخلد المحدث المشهور صاحب المسند ، وهو أكبر من مسند الإمام أحمد بن حنبل ، الشاهد قال لتلاميذه يومًا : أنتم تطلبون العلم !!
إنني كنت أطلب العلم فلا أجد ما أتقوت به فأجمع من على المزابل أوراق الكرنب الخضراء لآكلها ، وأتعشى بها ، حتى أتي اليوم الذي بعت فيه سراويلي من أجل أن أشتري أوراقًا أكتب بها ، وجلست بلا سراويل .
ومن ثمَّ كان السلف رضوان الله عليهم يؤثرون الفقر ، ويرونه أفضل لحال المرء ، ويبتعدون عن طرائق الترف والمترفين ، وكانوا يرون الغنى مضيعة للعلم ، وضياع العلم ضياع للدين .
قال ياقوت الحموى : فالغني أضيع لطلب العلم من الفقر .
قال بعض المحققين : كثرة المال وطيب العيش تسد مسالك العلم إلى النفوس ، فلا تتجه النفوس إلى العلم مع الترف غالبًا ، فإن الغني قد يسهل اللهو ويفتح بابه ، وإذا انفتح باب اللهو سد باب النور والمعرفة ، فلذائذ الحياة وكثرتها تطمس نور القلب ، وتعمي البصيرة ، وتذهب بنعمة الإدراك ، أما الفقير وإن شغله طلب القوت ، فقد سدت عنه أبواب اللهو ، فأشرقت النفس ، وانبثق نور الهداية والله الموفق والمستعان .
بل كان من سلفنا الصالح من يعد الماء البارد من أعظم المنن التي إن لم يستوفَ شكرها فهي لا تصلح لأمثالهم فيهجرون الشرب من الماء البارد ، فنأمل ذلك وعليها فقس ، فبأي آلاء ربكم تكذبون يا معشر المسلمين اليوم .
إخوتاه ..
ومما تقدم نخلص إلى أنَّ ترك الترفه مأمور به شرعًا ، وذلك لأنه أنفى للكبر ، وأبعد من العجب والزهو والخيلاء والصلف وهي أمور ذمها الشرع ، ومن هنا كان ذلك من صفات الحاج ، بل وصفة أهل القيامة فإنَّهم غبر شعث عراة حفاة ، ومن ثمَّ جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان وألحقها بشعبه ، فإن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم قال : " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا اللّه وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " ولا شك أن الزهو والعجب والكبر أذى في طريق سعادة المؤمن ولا يماط هذا الأذى إلا بالبذاذة وترك الترفه فلذلك جعلها من الإيمان .
قضية الغنى والفقر من منظور سلفي
إخوتاه ..
في هذا الصدد يحسن بنا أن نفقه عن الله تعالى قضية " الفقر والغنى " ونتساءل عن المطلوب من أهل الإيمان في عصرنا ، فهل معنى ما ذكرنا أنَّ الغنى شر كله ، وأن الفقر أصلح ، وعليه فالمقصود أن يكون المؤمن فقيرًا ؟!!
بطبيعة الحال ليس الأمر كذلك بل قد يكون الغني الشاكر أفضل عند الله من الفقير الصابر ؛ وقد أعطى الله نبييه داود وسليمان الملك والغنى ، وكان عبد الرحمن بن عوف من أغنى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من المبشرين العشرة بالجنة ، ناهيك عن ابن المبارك وغيره من سلفنا الصالح .
وقد كتب ابن القيم ـ رحمه الله ـ جزءًا كبيراً في كتابه الماتع " عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين " ناقش فيه هذه المسألة باستفاضة ، وبين كثر ة النزاع فيها بين الأغنياء والفقراء ، واحتجاج كل طائفة على الأخرى بما لم يمكنها دفعه من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار ؛ وفصل الخطاب ما حكاه عن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في هذه المسألة ، بأنَّه ليس لأحدهما على الأخرى فضيلة إلا بالتقوى ، فأيهما أعظم إيمانا وتقوى كان أفضل ، فإن استويا فى ذلك استويا فى الفضيلة ….. لأن نصوص الكتاب والسنة إنما تفضل بالإيمان والتقوى وقد قال تعالى : " إن يكن غنيا أو فقيرًا فالله أولى بهما " وقد كان فى الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء ، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء ، والكاملون يقومون بالمقامين فيقومون بالشكر والصبر على التمام كحال نبينا وحال أبى بكر وعمر رضى الله عنهما ، ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع ، والغنى لآخرين أنفع ، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع والمرض لبعضهم أنفع ، كما فى الحديث الذى رواه البغوى وغيره عن النبى فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى " إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك ، إنِّي أدبر عبادي إني بهم خبير بصير "
وقد صح عن النبي أنه قال : " إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء "
وفى الحديث الآخر لما علم الفقراء الذكر عقب الصلاة سمع بذلك الأغنياء ، فقالوا مثل ما قالوا ، فذكر ذلك الفقراء للنبي فقال : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء "(/4)
فالفقراء يتقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم ، والأغنياء يؤخرون لأجل الحساب عليهم ، ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير كانت درجته في الجنة فوقه وإن تأخر في الدخول ، كما أن السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ـ ومنهم عكاشه بن محصن ـ قد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم في الدرجات ، لكن أولئك استراحوا من تعب الحساب .
نخلص من هذا أنَّ العبرة ليست بالفقر ولا بالغنى ، فهذا أو ذاك لا يغني عنك من الله شيئًا إلا إذا كان سببًا في زيادة الإيمان والتقوى ، فهذا هو المقياس والمعيار المعتبر عند رب العالمين ، فالمهم هو " الرضا " عن الله ، وعدم التسخط عند المنع وعدم البطر عن العطية .
قال الحرالي : من كان رضاه من الدنيا سد جوعته ، وستر عورته ، لم يكن عليه خوف ولا حزن في الدنيا ولا في الآخرة ، سواء جعله اللّه فقيراً أو غنياً أو ذا كفاف إذا اطمأن قلبه على الرضى ببلغتها .
فعجبًا لحال المؤمن حقًا فهو إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ، وإنْ أصابته سراء شكر فكان خيرًا له ، فهو بين مطالعة الجناية ومشاهدة المنة يصبر ويشكر ، ويوقن بأنَّ الله أعلم بحاله منه ، " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير "
فإذا وجدت الله يرزق هذا ويمنع عن ذلك فتذكر قول الله تعالى : " أليس الله بأعلم بالشاكرين " ، وتذكر قول الله تعالى : " وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ " واعلم أن خزائن الله لا تنفد ، وهو المعطي المانع فليتعلق قلبك به ، ودع عنك زخرف الحياة الدنيا فإنما هي أوهام ، والدنيا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءًا حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه .
إخوتاه ..
إذا كان الأمر كذلك ، فعليك بالرضا فإنه ملاك الأمر ، وعليك أن تحسن النظر إلى الأمور فتقيسها بمقياس أهل الإيمان ، ولا تعر اهتمامًا لما دون ذلك ، فالفقير يفرح بأنَّه أخف الناس حسابًا ، وأنَّ الله اختار ذلك الحال لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ويأخذ من حياة النبي صلى الله عليه وسلم العبرة والأسوة ، فلا يقنط ولا ييأس ، ويعلم أنَّ الأمر صبر ساعة ، ولا ينظر بعين الحسد إلى من يعلوه في أمور الدنيا لأنه فهم عن الله أنَّ العلو ليس بكثرة المال ورفاهية العيش ، لا بل العلو بالتقوى وكثرة الطاعات والقرب من الله تعالى ، فهؤلاء هم أهل غبطته .
أمَّا الغني فيخشى أنْ تكون زيادة النعم استدراجًا ، قال صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب و هو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج " [4]
ويخاف شدة العذاب إنْ لم يوفِّ شكر النعم التي بمحض فضل الله تعالى رزقها
" لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنَّ عذابي لشديد " فهو مشغول بشكر نعمة الله عليه ، فيعطي حق المال من زكاة وصدقة ونفقة في سبيل الله تعالى ، فلا يعرف الترف بابه وإن ملك الملايين ، لأنَّه يعلم أنَّ الله سائله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟!!
إخوتاه ..
ولعل كثيرًا منكم يقول : إنَّ هذا لا يدري عن واقع الناس اليوم شيئًا وإنَّه يحدثنا بما يصلح لعصور السلف ، فكيف بالله في ظل كل هذه المغريات والفتن المتلاحقات أن يسير الأمر هكذا .
وإني ناصحك نصيحة حريص مشفق عليك ، فإنَّي لأعلم مدى الخطر الذي يداهم المسلمون الآن ، ومدى الفتن التي يواجهونها ، وحجم المغريات التي توضع في طريقهم فتتخطف السواد الأعظم منهم ولكن ..
القضية أولاً قضية يقين بالله تعالى ، قضية إيمان واعتقاد ، فأي محك آخر نحتكم إليه فهو خداع وشراك ، وأنت حين تنظر إلى الأمور بهذه الطريقة لنتقول مثلما تقول الآن ، حين تفرغ قلبك من حب الدنيا وتخرج قليلًا خارج أسوارها فترى بعين الإيمان الأمور فستذكر ما أقول لك ، ومن هنا يبدأ العلاج :
العلاج
أولاً : التوحيد وصحة الاعتقاد ليصح اليقين والإيمان .
ثانيًا : إشغال القلب بالآخرة ، بكثرة سماع المحاضرات العلمية التي تحض على ذلك ، وقراءة الكتب ، والاتعاظ بحال من كنت تعرف وداهمهم الموت ، وعيادة المرضى والمحتضرين ، وزيارة القبور والنظر لمآلك بعد هذه الحياة .
ثالثًا : تخليص القلب من حب الدنيا ، الذي هو سبب للعجز والوهن الذي أصاب المسلمون هذه الأيام ، وهذا يحصل عندما تعاين حقارتها ، وقد ضرب الله الأمثلة الكثيرة للدنيا ومدى خستها ، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، وارجع إن شئت لكتاب " عدة الصابرين " في الباب الثالث والعشرين فقد كتب في آخره فصلاً تحت اسم : في ذكر أمثلة تبين حقيقة الدنيا وتحته اثنان وعشرون مثلاً فبها اعتبر .
رابعًا : عدم الاختلاط بأهل الدنيا فإنَّ خلطتهم كالداء العضال .
قال الله تعالى : " ولا تمدنَّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجًأ منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى "(/5)
فالناس ثلاث طبقات : طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه ، وهؤلاء هم أهل العلم والفضل ، أهل الإيمان والصلاح ، فاستكثر منهم ، ولا تفارق مجالسهم ، فإنها رياض الجنة ، وطبقة كالدواء يحتاج إليه أحياناً ، وهؤلاء من تحتاجهم عند الضرورة ولابد لك من مخالطتهم كمن تخالطهم في طلب الرزق أو شراء طعام ونحوه ، فتخالطهم بقدر ولا تجمح في مصاحبتهم ، وطبقة كالداء لا يحتاج إليه أبداً وهؤلاء هم سفلة الناس من خلان الدنيا ، هؤلاء هم المترفون الذين لا يصدقون بيوم الدين ، فإياك وهم ، وإنْ ازدانوا وتزخرفوا وأظهروا سعادة لم يبطنوها ـ علم الله ـ
فخلطة هؤلاء تثير حسد الفقير المعوز ، وتشقي الغني الذي يسعى لمشاكلتهم ، وربَّما يزدري نعمة الله عليه مقارنة بمن يعلوه في الدنيا .
خامسًا : الأخوة الإيمانية
فإنَّها نعم المعين ، فعليك برفقة الصالحين ومخالطتهم وحبهم ومنافستهم في الطاعة " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون "
سادسًا : التقيد بمنهج تربوي
فلابد لك من مربٍ يتابعك ويكشف لك عيوبك ، ويبصرك بالطريق ، كما قالوا : لولا المربي بعد ربي ما عرفت ربي ، وإن كانت الساحة تفتقد لهؤلاء ولكن اجتهد وأخلص النية ، ولسوف يعطيك ربك فترضى .
أخيرًا إخوتاه …
كيف تنفق مالك ؟
أخرج الإمام أحمد في الزهد من حديث زياد بن جبير مرسلا وحسنه الألباني في صحيح الجامع ( 3275 ) " خير الرزق الكفاف " .
و الكفاف هو ما كف عن النَّاس ـ أي أغنى عنهم ـ ، وهو ما يكف الإنسان عن الجوع ، وعن السؤال ؛ لأن ما قلَّ وكفى خير ممَّا كثر وألهى ، والكفاف مداره على الرضا ، فما يكفيك هو ما ترضى به دون سرف أو ترف .
وقد أرشدنا الله تبارك وتعالى لكيفية انفاق المال قال تعالى : " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون "
قال ابن عباس : ما يفضل عن أهلك .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصدقة ما ترك غني، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول تقول المرأة: إما أن تطعمني وإمَّا أن تطلقني ، ويقول العبد : أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني إلى من تدعني".
وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول وخير الصدقة ما كان على ظهر غنى، ومن يستعف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله".
وأخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة . فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار. قال: تصدق به على نفسك. قال: عندي آخر؟ قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر. قال: تصدق به على زوجتك. قال: عندي آخر. قال: تصدق به على خادمك. قال: عندي آخر. قال: أنت أبصر".
وأخرج ابن سعد وأبو داود والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله قال "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل، وفي لفظ: قدم أبو حصين السلمي بمثل بيضة من الحمامة من ذهب فقال: يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته. فقال: يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول".
وفي صحيح مسلم عن جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا".
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 2794) عن مالك بن نضلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأيدي ثلاثة فيد الله العليا ، و يد المعطي التي تليها ، و يد السائل السفلى فأعط الفضل و لا تعجز عن نفسك "
وأخرج مسلم عن خيثمة قال: كنا جلوسا مع عبد الله بن عمرو إذ جاءه قهرمان له، فدخل فقال: أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا. قال: فأنطلق فأعطهم، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته".
وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ".
وفي صحيح مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل دينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله، قال أبو قلابة: وبدأ بالعيال، ثم قال أبو قلابة: وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويعينهم ؟ ".
وأخرج مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك".(/6)
ابذل الفضل من مالك ولا تمسكه فإنه شر عليك
بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم الطريقة المثلى في استثمار المال على الوجه الذي يرضي الله تبارك وتعالى .
في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا ابن آدم ! إنك أن تبذل الفضل خير لك ، و أن تمسكه شر لك ، و لا تلام على كفاف ، و ابدأ بمن تعول ، و اليد العليا خير من اليد السفلى "
ولعمر الله طوبى لمن تواضع من غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسكنة، وأنفق مالا جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذلة والمسكنة، وخالط أهل العفة والحكمة، طوبى لمن ذل في نفسه، وطاب كسبه، وصلحت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله".
إخوتاه ..
هذه هي القضية أن الترف مفسد ، وكثرة المال تلهى ، فاللهم أعطنا ما يكفينا ، وعافنا مما يطغينا .
وللأسف الشديد الناس في هذا الزمان لا يطلبون ما يكفيهم ، بل يطلبون ما يطغيهم ، لا يكتفون بما يرضيهم بل يطلبون ما يعليهم ، فاتقوا الله يا عباد الله ، فقد ذكرتم فهل من مدكر .
-----------
[1] أخرجه مسلم (107) ك الإيمان ، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .
[2] أخرجه الترمذي (2516) ك صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله .
[3] السُّرى : سير عامة الليل . وهو مثل يضرب في الرجل يحتمل المشقة من أجل الراحة .
[4] أخرجه الإمام أحمد والطبراني في الكبير والبيهقي وصححه الألباني في صحيح الجامع (561)
وكتبه
محمد بن حسين يعقوب(/7)
التسول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى أله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فإن هناك ظاهرة منتشرة على نطاق واسع في بلاد المسلمين، ولذلك وجب التنبه على هذه الظاهرة، وبيان حكمها، ألا وهي ظاهرة التسول، والذي يقصد به سؤال الناس بعض المال، ونقول ظاهرة منتشرة على نطاق واسع لأنا فعلاً كذلك؛ فلا يخلو مكان من وجودها، فإذا ما ذهب الإنسان إلى المرافق الحكومية وجد المتسولين على أبوابها، وإذا ما كان يمشي بالشوارع رآهم على أرصفتها، وإذا ما ذهب إلى السواق رآهم يتجولون على باعتها ومحلاتها، وإذا ما ذهب إلى المستشفيات رآهم قابعون عند مداخلها، وإذا ما ذهب إلى بيوت الله، فليحدث ولا حرج؛ ففي الغالب أنك لا تجد مسجداً في بلد من بلاد المسلمين وعلى مر الصلوات الخمس إلا وترى متسولاً على الأقل قد وقف على بابه أو بين يدي المصلين، وأما في بعض المساجد المزدحمة فقد ترى أكثر من واحد كلهم يسأل الناس بصوت عال، دون مراعاة لآداب المساجد، وآداب الكلام، بل ربما رأيت النساء عقب الصلوات يدخلن إلى المسجد ثم يسألن الناس، حتى أصبح التسول عند كثير من هؤلاء وظيفة يتعيّش بها، وذلك لأنه وجد أنه ببذل ماء وجهه، وقلة حيائه، وسؤاله الناس، يجمع دراهم كثيرة، ربما لا يقدر على جمعها بعمل آخر على ظنه، وترتب على هذا أن أصبح الناس لا يميزون بين من هو مستحق محتاج للمال فيساعدونه، وبين من هو كاذب محتال فيعرضوا عنه،
هذا عن كثرة المتسولين، وأما عن أساليبهم فقد تعددت وتنوعت، فلربما ربط أحدهم قربة أو قارورة ماء بخيط في حقويه ومن تحت ثيابه، ووضع بها محلولاً أحمر 1. ثم قام يسأل الناس، ويخبرهم بأنه مصاب بمرض السرطان ونحوه، وهذا ما حصل فعلاً في مسجد من مساجد بلاد المسلمين، فقد جاء أحد المتسولين إلى المسجد وقد ربط قربة - علبة ماء- بخيط في حقويه ومن تحت ثيابه، ووضع فيها محلولاً أحمر، وفي أثناء الصلاة صلّى جالساً، ولمّا انتهى من الصلاة وكانت حينها صلاة العصر، وقف يسأل المصلين مظهراً لتلك القربة وأنه مصاب بمرض السرطان!، فما كان من الناس إلا أن تأثروا تأثراً بليغاً، وأبدوا تعاطفهم معه، وجمعوا له مبلغاً كبيراً من المال، بل أراد أحد الأخوة الفضلاء أن يتمم الإحسان فيذهب به إلى مسجد مجاور عله يجمع ما يعالج مرضه.
ولما وصلا إلى المسجد في صلاة المغرب، ما كان من ذلك المصاب بمرض السرطان إلا أن أعاد تشغيل ذلك الشريط الذي شنف به آذان المساكين في المسجد الأول حذو القذّة بالقذّة، ولكنها كانت الفضيحة والفاجعة بالنسبة لذلك الدعي، فقد كان إمام وخطيب ذلك المسجد طبيباً يعمل في مستشفى حكومي، لا تنطلي عليه التمثيليات الفاترة التي انتهت صلاحيتها للعرض، حيث استغرب من قوله أنه مصاب بمرض السرطان وأن علامة ذلك، ذلك الدم الذي يحمله في القربة!! وجرى بين الإمام والمتسول حديثاً سريعاً عن طبيعة المرض وكيفيته، وقف على إثرها الطيب محذراً للناس من إعطاء ذلك المتسول شيئاً من المال؛ أن السرطان الذي يدعيه لا يسبب خروج الدم الذي يدلس به على الناس، فبهت المتسول، وخرج من المسجد مفضوحاً خاسئا وهو حسير.
و هناك من قصص المتسولين ما هو شر منها وأفضع وأكثر كذباً ونصباً واحتيالاً، ولكن ذكرنا هذه القصة هنا لأمور منها:
1- أن كثيراً من المتسولين كذبة، يستعينون بما يجمعون من أموال في المعاصي والفجور وقد تكلم العلماء عن حكم السؤال، فمنهم من حرمه، ومنهم من كرهه، ومنهم من أجازه بشروط، وفي حالة معينة، وذلك لورود أدلة تدل على منعه، وأدلة تدل أخرى توحي بجوازه في حالات معينة وبشروط محددة، ومن هؤلاء ابن تيمية - رحمه الله– كما جاء في غذاء الألباب أنه سئل عن حكم السؤال في المسجد فقال: أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد إلاّ الضرورة فإن كانت ضرورة وسأل في المسجد، ولم يؤذ أحداً كتخطيه رقاب الناس، ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله، ولم يجهر جهراً يضر الناس، مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو هم يسمعون علماً يشغلهم به ونحو ذلك جاز 2.
إذن فالأصل في سؤال الناس التحريم في المسجد أو في خارج المسجد؛ وإنما يجوز في حالات معينة للضرورة الخارجة عن ذلكم الأصل، وذلك لأن في سؤال الناس تعريض للنفس للهوان والذلة، وفيه دلالة على ضعف توكل السائل على الله، ودناءة طبعه.
2- إن وجود مثل هذه الحالات من الكذب والدجل والتدليس على عباد الله تجعل الكثير من أهل الإنفاق يحجم عن النفقة والتصدق على الفقراء والسائلين وبالتالي يحرم من الصدقة والعطف صنف من الناس قد قسم الله لهم ذلك فقال تعالى: {والسَّآئِلِينَ} البقرة:177
3- ما تكسه مثل هذه الحوادث من تدني مستوى الأخلاق في المجتمع، وهي أخلاق وصفات لا تمت إلى أخلاقنا وإسلامنا بأي صلة(/1)
أما الأدلة في ذم التسول فهي في هذا الباب كثيرة ومنها :عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم" 3.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أوخموشاً أوكدوحاً في وجهه " قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: " خمسون درهما أو قيمتها من الذهب " 4.
وصح من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن الله عز وجل يكره ذلك فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله - عز وجل - حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال " 5.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قد ضم الجنة لمن لم يسأل الناس شيئاً ؛ فعن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يتقبل لي بواحدة وأتقبل له بالجنة " قلت: أنا. قال:" لا تسأل الناس شيئا " قال: فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد ناولنيه حتى ينزل فيأخذه.6
هذا والله نسأل أن يرزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى, والله أعلى وأعلم وأحكم،
وصل اللهم على نبينا محمد وأله وصحبه وسلم.
سبحنك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
________________________________________
1 - وهو نوع من أنواع العصيرات المعروفة عند اليمنيين.
2 - انظر غذاء الألباب 2/267.
3 - رواه البخاري(1381) ومسلم(1724).
4 - رواه ابن ماجة(1830) والترمذي( 588) والنسائي(2545) وأبو داود( 1385) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة رقم(1460).
5 - رواه البخاري(2231) ومسلم(3239).
6 - رواه ابن ماجة(1827) وأبو داود (1400) والنسائي (2543) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة رقم(1487).وصحيح أبي داود برقم( 1450).(/2)
التشاؤم أو التطير
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على نبينا محمد،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ :
إن ثمة أمرٍ من الأمور؛ ما تغلغل في صدر إنسان إلا عاش حزيناً كئيباً وقد نهى الشارع الحكيم عنه وحذَّر منه أشدَّ التحذير؛ إنه التشاؤم أو التطير، فما هو ؟ وماحكمه واقسامه ؟..
التعريف:
التَطَيُّر في اللغة: التشاؤم، وهو توقع حصول الشر.
وسُمِّيَ التشاؤم تطيراً؛ لأنَّ العرب كانُوا في الجاهلية إذا خرج أحدُهم لأمرٍ قصد عش طائر فيهيجه، فإذا طار الطيرُ من جهة اليمين تيمن به ومضى في الأمر، ويسمون هذا الطائر في هذه الحالة: (السانح). أما إذا طار جهة يسار الإنسان تشاءم به، ورجع عما عزم عليه، وكانوا يسمون الطير في هذه الحالة: (البارح).
فجاء الإسلام فأبطل هذا الأمر ونهى عنه، وشدد في النكير على فاعله، ورد الأمور إلى سنن الله الثابتة وإلى قدرته المطلقة. وضد التطيّر: التفاؤل: وهو التَّيَمُّن بسماع كلمة طيبة، ويشمل كل قول أو فعل يُستَبْشَر به، والفرق بين التطير والتفاؤل أن الفأل يستعمل فيما يُستَحب، والتطير فيما يُكرَه غالباً.
ومثال التفاؤل: أن يسمع عند عزمه على فعل أمر كلمة طيبة أو اسماً حسناً أو يرى شيئاً طيباً.
وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم-:(يتفاءل ولا يتطير)(1).
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من بيته يحب أن يسمع:(يا راشد يا نجيح)(2).
تاريخ التطيُّر وأمثلته:
كان التطيرُ موجوداً عند العرب على الصفة المذكورة آنفاً وصفات أخرى تقاربها. قال البيهقي:"كان التطير في الجاهلية في العرب إزعاج الطير عند إرادة الخروج للحاجة، وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب، وبمرور الظباء، فسمُّوا الكل تطيراً، قال: وكان التشاؤم في العجم إذا رأى الصبي ذاهباً إلى المعلم تشاءم، أو راجعاً تيمن، وكذا إذا رأى الجمل مُوقَراً حِملاً تشاءم، فإن رآه واضعاً حِمْلَهُ تيَّمن، ونحو ذلك، فجاء الشرع برفع ذلك كله)(3). والتطير قديم الوجود في الأمم؛ فقد أخبرنا الله –سبحانه- أن فرعون وقومه تطيروا بموسى- عليه السلام-ومن معه:{فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}(4).وقبل ذلك تشاءم قوم صالح بصالح-عليه السلام-{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}(5)وكذلك أصحاب القرية تطيروا برسل الله إليهم:{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}(6).وكان الرد عليهم جميعاً: أن ما حل بهم من شر أو نقص في نفس أو مال، أو ما نزل بهم من عقوبة ما هو إلا من قِبَل أنفسهم بسبب كفرهم وعنادهم واستكبارهم، {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهِ}(7) وما زال الناس وإلى يومنا هذا يتطيرون، وتطيُّرهم دليل ضعف توكُّلهم على ربهم، ونقص عقولهم فأي شأن للطير أو غيره بمستقبل الإنسان وقدره؟!
وللناس في التشاؤم أيام معينة أو ساعات محددة أو أعداد معينة مما لا ينقضي منه العجب. فالرافضة (يكرهون التكلم بلفظ العشرة، أو فعل شيء يكون عشرة حتى البناء لا يبنون على عشرة أعمدة،ولا بعشرة جذوع ونحو ذلك؛لكونهم يبغضون خيار الصحابة، وهم العشرة المشهود لهم بالجنة)(8).وكثير من الناس في الغرب يتشاءمون بالرقم( 13)؛ ولذا حذفته بعض شركات الطيران من ترقيم المقاعد كما حذفوه في ترقيم المصاعد والأدوار في العمائر الكبار. وآخرون يتشاءمون بنعيق البوم والغراب، ورؤية الأعور والأعرج والعليل والمعتوه. قال الشيخ ابن عثيمين(9):(والإنسان إذا فتح على نفسه باب التشاؤم فإنها تضيق عليه الدنيا، وصار يتخيل كل شيء أنه شؤم، حتى إنه يوجد أناس إذا أصبح وخرج من بيته ثم قابله رجل ليس له إلا عين واحدة تشاءم، وقال: اليوم يوم سوء وأغلق دكانه، ولم يبع ولم يشتَرِ -والعياذ بالله- وكان بعضهم يتشاءم بيوم الأربعاء،ويقول: إنه يوم نحس وشؤم،ومنهم من يتشاءم بشهر شوال،ولاسيما في النكاح،وقد نقضت عائشة -رضي الله عنها- هذا التشاؤم بأنه-صلى الله عليه وسلم-عقد عليها في شوال؛وبنى بها في شوال،فكانت تقول: أيُّكن كانت أحظى عنده مني ؟)(10)
حكم التطير:(/1)
التطير محرم مخل بالتوحيد، وقد نفى النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم-تأثيره،وجعله شركاً.أما نفي تأثيره ففي قوله-صلى الله عليه وسلم-:( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)(11)حيث نفى تأثير الطيرة.وأمَّا جعلُهُ-عليه الصلاة والسلام-الطيرة شركاً،ففي قوله:(الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك)(12).وقوله في حديث عبد الله بن عمرو:(من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك)(13)وإنما جعل التطير شركاً لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً؛ فكأنهم أشركوه مع الله-تعالى-وهذا الاعتقاد منافٍ لقوله-تعالى-:{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(14)فالله هو النافع الضار، وهذه الطيور لا تعلم الغيب،ولا تدل على المخبَّأ من الأمور بوجه.
قال ابن القيم:( التطير: هو التشاؤم بمرئيٍ أو مسموع،فإذا استعملها الإنسان فرجع بها من سفر وامتنع بها عما عزم عليه فقد قرع باب الشرك،بل ولجه، وبرئ من التوكل على الله- سبحانه-،وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله،وذلك قاطع على مقام{إياك نعبد وإياك نستعين}(15)، وقوله –تعالى-:{فاعبده وتوكل عليه}(16)، وقوله –تعالى-:{ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }(17) فيصير قلبه متعلقاً بغير الله عبادة وتوكلاً، فيفسد عليه قلبه وإيمانه وحاله،ويبقى هدفاً لسهام الطيرة،ويساق إليه من كل أرب، ويقيض له الشيطان من يفسد عليه دينه ودنياه،وكم هلك من هلك بسبب ذلك وخسر الدنيا والآخرة.
وقال الشيخ ابن عثيمين: فإذا تطير الإنسان بشيء رآه أو سمعه، فإنه لا يعد مشركاً شركاً يخرجه من الملة؛ لكنه أشرك من حيث أنه اعتمد على هذا السبب الذي لم يجعله الله سبباً،وهذا يُضعف التوكل على الله ويوهن العزيمة، وبذلك يعتبر شركاً من هذه الناحية والقاعدة:(أنَّ كُلَّ إنسانٍ اعتمدَ على سَبَبٍ لم يجعلْهُ الشَّرعُ سَبَباً فإنه مُشْرِكٌ) وهذا نوع من الإشراك مع الله: إما في التشريع إن كان هذا السبب شرعياً،وإما في التقدير إن كان السبب كونياً.لكن لو اعتقد هذا المتشائم المتطير أن هذا فاعلٌ بنفسه دون الله فهو مشرك شركاً أكبر؛ لأنه جعل لله شريكاً في الخلق والإيجاد)(18).
وأما إخباره بأن الطيرة تنافي حقيقة الإسلام ويخشى على صاحبها فقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم-:(ليس منا من تطير أو تُطُيِّرَ له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)(19).
وروى أبو داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذُكِرَتِ الطيرةُ عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال:(أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً)(20).
والطيرة من الجبت،قال-صلى الله عليه وسلم-:(العيافة والطيرة والطرق من الجبتِ)(21).والجِبت: السِّحرُ كما فسَّره به عمرُ بنُ الخطَّاب. وذلك أنَّ المتطير يعتمدُ في معرفة المغيَّبات على أمر خفيٍّ كالساحر الذي يعتمدُ في قلب حقائق الأشياء على أمر خفيٍّ.
أقسام الناس في الطيرة:
ينقسم الناس تجاه الطيرة ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يتطير، ويستجيب لداعي التطير فيُحجم عن أمر، أو يُقدم عليه بدافع من طيرته؛ فهذا قد واقع المحرم،وولج بابَ الشرك على التَّفصيلِ المذكورِ سابِقاً.
القسم الثاني: مَنْ إذا وقع له ما يدعُو إلى الطِّيرة عند الناسِ لم يترك ما بدا له فعلُهُ، لكنه يمضي في قلق واضطراب وغمٍّ، يخشى من تأثير الطيرة، فهذا أهون من الأول؛ حيث لم يُجِبْ داعي الطيرة، لكن بقي فيه شيءٌ من أثرها، وعليه أن يمضي متوكِّلاً على اللهِ –سبحانه- مُفوِّضاً أمورَهُ إليهِ.
القسم الثالث: وهم أعلى الأقسام وهم مَنْ لا يتطيَّرون، ولا يستجيبون لداعي الطِّيرة، ولا يعني ذلك أنه لا يخطر في قلوبهم شيءٌ أصلاً، ولكن متى عرض لقلوبهم شيءٌ ردُّوه بالتوكل على اللهِ وتفويض الأمورِ إليه، قال معاوية بن الحَكَم: قلت: يا رسولَ اللهِ ! منَّا رجالٌ يتطيَّرون ! قال: ذلك شيءٌ يجدونه في صدورِهم فلا يصدنهم)(22).
علاج الطيرة وكفارتها:
بيَّن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه لا يجوز أن يلتفت المسلم إلى الطيرة فترده عن حاجته، وعليه أن يمضي متوكِّلاً على الله مُردداً الذكرَ الوارد في ذلك؛ فعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-:(من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك ؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك)(23). اللهم وفقنا للعمل بكتابك وسنة نبيك يا أرحم الراحمين. والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1- أخرجه أحمد في مسنده برقم (2213).
2- أخرجه الترمذي وصححه كتاب السير عن رسول الله باب ما جاء في الطيرة برقم (1541).
3- فتح الباري، 10/213.
4- (131) سورة الأعراف.(/2)
5- (47) سورة النمل.
6 - (18) سورة يس.
7- (131) سورة الأعراف .
8-منهاج السنة لا بن تيمية، 1/10.
9- المجموع المفيد، 2/32.
10-رواه مسلم، كتاب النكاح باب استحباب التزوج والتزويج في شوال برقم (2551).
11-رواه البخاري كتاب الطب باب لا صفر وهو داء يأخذ البطن برقم(5278).
12-رواه أبو داود كتاب الطب باب في الطيرة برقم(3411).
13- أخرجه أحمد في مسنده برقم (6748).
14- (107) سورة يونس.
15- الفاتحة 5
16- هود 123
17- الشورى 10
18- القول المفيد على كتاب التوحيد، 2/ 93.
19-رواه البزار قال المنذري: إسناده جيد (الترغيب 4/33).
20- رواه أبو داود، ح/ 3418.
21- رواه أحمد، 3/477، وأبو داود، 4/228.
22- رواه مسلم، 4/1748.
23- رواه أحمد، 2/220، وابن السني (293)، والطبراني كما في المجمع، 5/105.(/3)
التشبه
الخطبة الأولى
أما بعد. .
ياأيها المؤمنون اتقوا الله تعالى واشكروه على أن جعلكم من خير أمة أخرجت للناس، فإن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي خير أمة وحزبه هم أعز حزب قال الله تعالى: ?وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ?(1).
فعزتنا أيها المؤمنون مستمدة من عزة الله القوي العزيز فهي عزة دائمة دوام الليل والنهار لا يرفعها تأخر حضاري ولا تراجع علمي ولا انكسار عسكري ولا تقهقر مادي بل نحن الأعزاء بالله تعالى إن صدقنا الله تعالى في إيماننا وعبوديتنا له قال الله تعالى: ?وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين?(2). وقد قال الأول:
ومما زادني شرفاً وتيهاً ... ... وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي ... ... وأن صيرت أحمد لي نبيا
وتأكيداً لهذه العزة وهذا التميز لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد نهى الله تعالى المؤمنين عن اتباع سبيل الكافرين من اليهود والنصارى والمشركين وغيرهم من أمم الكفر فنهى الله أهل الإسلام عن التشبه بالكفار وعن تقليدهم والتبعية لهم فقال جل وعلا: ?وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقّ?(3) وقال: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً?(4). ولاشك عند أولي الأبصار أن تقليد الكفار والتشبه بهم من أعظم صور الطاعة لهم، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مشابهة الكفار في أحاديث كثيرة منها ما أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد عن ابن عمر مرفوعاً: ((من تشبه بقوم فهو منهم))(5) وفي هذا الحديث غاية التحذير ومنتهى التنفير عن مشابهة الكفار، كيف لا وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من تشبه بالكفار منهم نعوذ بالله من الخذلان وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيان خطورة التشبه: ((ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى))(6) ومن علامات تمييز هذه الأمة عن غيرها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علل كثيراً من الشرائع والأحكام بمخالفة اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الكفر مما يدل على أن مخالفة الكافرين مقصد نبوي شرعي فمن ذلك مثلاً ما أخرجه مسلم عن شداد بن أوس رضي الله عنه مرفوعاً: ((خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم))(7) وقال أيضاً: ((خالفوا المشركين وأحفوا الشوارب وأعفوا اللحى))(8) وهذا قليل من كثير في السنة المطهرة ومما يدل على أهمية مخالفتهم وأن مخالفتهم هي سبب الخيرية في الأمة بل سبب لعلو الدين وظهوره بأنه قال: ((لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون))(9). ومن تأمل كلام أهل العلم على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم علم علماً لا يدخله شك ولا ريب إجماعهم على النهي عن مشابهة الكفار ووجوب مخالفتهم. وذلك لكثرة النصوص الواردة بذلك.
أيها المؤمنون الحريصون على أن تلقوا ربكم بقلوب سليمة استمعوا إلى ما قاله الحبر الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال: ((وبالجملة فالكفر بمنزلة مرض القلب أو أشد، ومتى كان القلب مريضاً لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة وإنما الصلاح أن لا تشبه مريض القلب في شيء من أموره)) وبهذا يتبين أن مخالفتهم في جميع الشؤون مقصودة للشارع، فليس النهي عن مشابهتهم في عباداتهم أو عقائدهم فقط بل هو عام في عاداتهم وآدابهم وأخلاقهم وجميع شؤون حياتهم قال ابن القيم رحمه الله: ((ومن تشبه بالإفرنج في لباسهم ونظمهم ومعاملاتهم فهو بلا شك إفرنجي غير مسلم وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)).
__________
(1) المنافقون: 8.
(2) آل عمران: 139.
(3) المائدة: 48.
(4) الأحزاب: 1.
(5) أخرجه أحمد من حديث ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً برقم 5093 وأخرجه أبو داود في اللباس برقم 4031.
(6) أخرجه الترمذي في الاستئذان والآداب من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص برقم 2695.
(7) أخرجه أبوداود في الصلاة برقم 652.
(8) أخرجه مسلم في الطهارة من حديث ابن عمر رضي الله عنه برقم 259.
(9) أخرجه أبوداود في الصوم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم 2353 وأخرجه أحمد مرفوعاً برقم 27218.(/1)
أيها المؤمنون إنه مع هذه النصوص الكثيرة التي تنهى عن التشبه بالكفار إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن مشابهتهم ومتابعتهم ستقع في الأمة فعن أبي سعيد مرفوعاً: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟))(1). وهاهي الأمة اليوم تحاكي أمم الكفر شرقية وغربية في الزي واللباس وتتشبه بهم في آداب الأكل والشرب وأساليب المعاشرة والمخالطة وطرائق الكلام والمعاملة وغير ذلك بل وتتلقى عنهم الأفكار والآراء حتى صاغ فئات غير قليلة من الأمة حياتهم وأفكارهم وأساليبهم على نهج الحياة الغربية والفكر الغربي والأسباب التي دعت هذه الفئام إلى التشبه بالكفار وتقليدهم عديدة. إلا أن من أبرزها الغفلة عن سبب العزة والسعادة الحقيقية فإن كثيراً ممن تشبه بالكفار ظن أن سبب عزة هؤلاء وارتفاعهم هو أخلاقهم وما هم عليه من نبذ الدين وعدم الاهتمام به، وقد غفل هؤلاء عن قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله: ?وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?(2).
ومما زادني شرفاً وتيهاً ... ... وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي ... ... وأن صيرت أحمد لي نبيا
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون إن من الأسباب الرئيسة التي جعلت كثيراً من المسلمين يتشبه بالكفار من اليهود والنصارى الاختلاط بالكفار والانفتاح عليهم وذلك أن هذه العصور شهدت ثورة كبرى في الاتصالات والنقل فقربت المسافات واتصلت الجهات حتى غدا العالم كما يقال قريةً واحدةً، فلما وقع ذلك كثر الاحتكاك بهم والتعامل معهم فأدى ذلك إلى ظهور معالم التشبه والتبعية والتقليد لأمم الكفر في حياة المسلمين وواقعهم فرأينا بعض إخواننا هداهم الله من جعل الغرب وما فيه قدوة له في اللباس والزي وفي الأكل والشرب وفي تصفيف الشعر وقصه بل وتمادى بعضهم حتى قلدوهم في الفكر والرأي فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولا حلَّ لهذه المشكلة إلا بالتقليل من خلطة هؤلاء ووجودهم بين المسلمين فلا يجوز لأحد أن يسافر إلى بلاد الكفر إلا عند الحاجة ويجب أن يكون المسافر عنده من العلم والإيمان والصبر واليقين ما يدفع به شبهاتهم ويتقي به ما في بلادهم من فتن وشهوات تهتز لها الجبال الرواسي. كما أنه يجب علينا جميعاً أن نتعاون على عدم استقدام الكفار إلا عند عدم وجود من يقومون بما يقومون به من أعمال وذلك أن تكاثرهم بين ظهرانينا في بيوتنا وأعمالنا وأسواقنا ومكاتبنا له تأثير بالغ في بث أخلاقهم وإشاعة أفكارهم.
__________
(1) أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة برقم 7320.
(2) آل عمران: 139.(/2)
... ... ...
التضحية للدين ... ... ...
خالد الشارخ ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- تغير كثير من المفاهيم عند المسلمين اليوم. 2- إنكار الصحابة لبعض ما صنعه وبدله التابعون. 3- رغم زيادة الانحراف فالأمة لا تخلو من خير. 4- أجر الطائفة الثابتة على الدين زمن الانحراف والغربة. 5- ذلة المسلمين اليوم وضعفهم. 6- أمثلة لعزة المسلمين وبذلهم وعلو همة نسائهم وأطفالهم. 7- تغيرت القلوب فاختفت صور العزة. 8- صور من تضحية الصحابة. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
معاشر المسلمين: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
أيها الأخوة المؤمنون:
لقد تغير في هذه الأزمان كل شيء، وشمل هذا التغير جميع نواحي الحياة.
لقد تغيرت المفاهيم، وطاشت الموازين. وغاب وازع الدين. ولم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا رسمه، وصار أمر الدين وهمُّ الإسلام آخر اهتمامات المسلمين، إن كان له في نفوسهم همّ، أواصر الدين وروابط الإسلام توشك أن تنقطع، إن لم تكن انقطعت، وأصبحت الدهماء تسير وراء سراب الدنيا وتتسابق عليه.
ولكن السراب وإن زان لمعانه، وأعجب الناظرين بريقه وجماله فهو سراب، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً .وليته لما لم يجده شيئاً قنع ونظر في نفسه وحاله. ولكنه انطلق خلف سراب آخر وهكذا دواليك.
لقد تغير في الناس حتى دينهم والتزامهم، نعم تغير دينهم، فما كانوا يرون به بأساً بالأمس هومن الجائزات اليوم، وما كان خطيئة وإثماً بالأمس أصبح حسنة وطاعة اليوم، وهي الفتنة التي قال الله عنها فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .
قيل لأحد علماء السلف، ما الفتنة في هذه الآية؟
قال: أن يصبح ما كنت تراه حراماً حلالاً أو ما كنت تراه حلالاً حراماً، يعني بدون دليل شرعي.
ولقد صدق الإمام الناسك أعني أنس بن مالك حين قال كما في الصحيح: ((وإنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله من الموبقات)). لمن يقول هذا الكلام أيها الأخوة إنه يقول: للتابعين وهم من القرون المفضلة.
ولقد أدرك أنس بن مالك تغير الأمة ولاحظ بدء قصورها، فرأى حين رجع إلى المدينة بعد أن مكث في الشام دهراً قليلاً.
وجد الناس لا يسوون صفوفهم، فقال: لقد تغيرت علي صفوف الناس في صلاتهم يعني على عهد النبي .
لقد عرف أنس بن مالك أن هذه هي بداية ميلان الجادة وانحراف الطريق، فماذا يقول يا ترى لو أدرك زماننا؟ ورأى أحوالنا؟
1/ ليت الناس ما غيروا إلا صفوفهم لكان الأمر سهل والخطب أخف.
ولست أقول هلك الناس، ولست بالمهلك.
ففي الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا. وكيف أهلك الناس؟ وقد قال النبي : ((من قال هلك الناس فهو أهلكهم)) على الوجهين[1] ونؤمن بقول الرسول : ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) [رواه البخاري ومسلم].
ولكن لا يخفى على أي مؤمن صادق ما آل إليه أمر الناس وحال المسلمين اليوم من الغرابة، فالموافق المتابع فيه لما عليه الرعيل الأول قليل، والمخالف هو الكثير، وقد اندرست رسوم كثير من الشريعة أو كادت وانمحت بعض مظاهر الدين أو زالت، وإلى الله المشتكى وإليه الملجأ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقد حفظ الله بمنه وكرمه هذه البلاد المباركة، وفق الله القائمين عليها لكل ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.
وكأن رسول الله ينطق بيننا ويعيش بين أظهرنا، حين أخبرنا عن زماننا هذا. فقال كما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة : ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء)).
وفي رواية الإمام أحمد: ((قيل من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)).
وروى الإمام أحمد وابن المبارك في الزهد بإسناد فيه ضعف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: ((طوبى للغرباء، قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: أناس صالحون في أنس سوءٍ كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)) وفي رواية: ((من يبغضهم أكثر ممن يحبهم)).
أيها الأخوة الأعزاء:
إن للصابر في هذا الزمان أجر خمسين صحابياً، وأن كان لا يدرك فضلهم لقوله عليه السلام: ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) [أخرجه الشيخان في الصحيح].
فقد يدرك المسلم أجر الصحابي ولكن لا يدرك فضله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر)) [رواه الترمذي والحديث حسن بشواهده].
وعن ابن مسعود عن النبي قال: ((إن من ورائكم زمان صبر، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيد منكم)) [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير بسند صحيح].
ولقد أحسن القائل:(/1)
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على جمر فتنجوا من البلا
أيها المسلمون:
لقد ساد الصحابة والتابعون يوم أن كانوا أسوداً للإسلام وحماة للدين وسياجاً واقياً قوياً للعقيدة وذللنا يوم أن اتخذنا العزة بالدنيا والدرهم، وهُنا على الله وعلى الناس يوم أن اتخذنا الدنيا وطناً وسكناً، ووالينا لأجلها وعادينا لأجلها، فلأجلها نرضى ولأجلها نغضب.
فها نحن لنا في كل موضع من جسدنا ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، أو وكزة بعصا. فها نحن نسمع بين حين وآخر نواحِ الثكالى وبكاء اليتامى ولا مجيب.
أتسبى المسلمات بكل أرضٍ وعيش المسلمين إذن يطيبُ
وكم سمعنا من أصوات: وامعتصماه، فإذا الصوت هو الصوت الأول الذين سمعه المعتصم فالمصدر هو المصدر، لكن السامع غير السامع، والحال غير الحال.
رب وامعتصماه انطلقت ملأ أفواه الصبايا اليتيم
لامست أسماعنا لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
أيها الأخوة إنه لا عزة للأمة الإسلامية ولا مكانة لها ما دامت لا تضحي لدينها، ولا تثأر لعقيدتها.
ولن تنال العزة والقوة والتمكين في يوم من الأيام، بالمال والجاه، أو الانهزامية، والخذلان.
وتأمل معي هذه القصة التي يرويها الحاكم في مستدركه. خرج عمر بن الخطاب إلى الشام (وذلك حينما ذهب ليتسلم مفاتيح بيت المقدس وكان خليفة المسلمين آنذاك) قال الراوي: ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة، فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا؟ تخلع نعليك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟
ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك (أي نظروا إليك وأنت على هذه الحال) فقال عمر: أوّه، لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد ، إنا كنا أذلّ قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله.
وهذا ربعي بن عامر يرسله سعد بن أبي وقاص قِبَل القادسية رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة.
وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب مرقعة صفيقة وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبه حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسادات، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك. فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني.
فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له. فأقبل متوِكأً على رمحه فوق النمارق فتخرق عامتها فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
أيها المسلمون:
لقد ضرب لنا جيلنا الأول من الصحابة والتابعين أروع ما عرفه التاريخ من التضحيات والإقدام والشجاعة حتى خافت الفرس والروم آنذاك من هذا السيل الجارف والقوة الكاسرة.
لقد كانت المبادئ عندهم والغايات التي يسعون لتحقيقها هي رفعة الدين، ونصرة الدعوة وحماية العقيدة فبذلوا لتحقيقها كل غاية ووسيلة صغرت أم كبرت.
كان هذا الهم وهذه المبادئ لا يختص به الرجال فقط بل حتى النساء والصبيان.
فهذا الزبير بن العوام كان جالساً يوماً عند الكعبة مسنداً ظهره إليها، وإذا بمنادٍ ينادي لقد قتل محمد، لقد قتل محمد، فقام الزبير فزعاً مضموماً وسل سيفه، وانطلق يبحث عن مصدر الصوت، وكان عمره آنذاك (اثنى عشرة سنة) نعم أيها الأخوة عمره (اثنا عشرة سنة). فبينما هو كذلك إذا به يقابل النبي فانكب عليه، فقال: يا رسول الله لقد سمعت عنك كذا وكذا، ووالله لقد خرجت بسيف لأقابل قريش أجمع أقتل أو يقتلوني.
نعم أيها الأخوة، عمره اثنا عشرة سنة وهذه اهتماماته وهذه بطولته، يريد أن يقاتل قريشاً أجمع وحده ثأراً للنبي .
فما هي اهتمامات شبابنا اليوم، ولست أقول الذين أعمارهم اثنا عشرة، ولكن الذين أعمارهم في العقد الثاني والثالث.
أخرج ابن عساكر والحاكم والبغوي بمعناه: عن سعد بن أبي وقاص قال: رد رسول الله عمير بن أبي وقاص عن مخرجه إلى بدر، واستصغره، فبكى عمير فأجازه النبي قال سعد: فعقدت عليه (أي ربطت) حمالة سيفه، قال سعد: فقتل ببدر وهو ابن ست عشر سنة.
واسمع معي هذه البطولة التي يقوم بها غلامان صغيران.(/2)
أخرج الشيخان عن عبد الرحمن بن عوف قال: إني لواقف يوم بدر في الصف، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما. فقال: يا عماه أتعرف أبا جهل ؟ فقلت: نعم، وما حاجتك إليه؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا؟ فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضاً مثلها، فلم أنشب (أي لم ألبث) أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول بين الناس، فقلت: ألا تريان هذا صاحبكم الذي تسألاني عنه؟ فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى النبي فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ قال كل منهما: أنا قتلته، قال: هل مسحتما سيفيكما، قالا: لا، قال: فنظر النبي في السيفين فقال كلاهما قتله.
ولم تكن الشجاعة والإقدام والتضحية في أطفالهم ورجالهم فسحب بل كانت الشجاعة حتى في نسائهم، جيل متكامل، جيل يمثل الأمة المؤمنة الفاضلة التي يحلم بها الفلاسفة وعلماء الاجتماع منذ زمن بعيد.
نعم إنها تكامل الشخصيات وعلو الهمة، وسمة النظرة، وقوة اليقين، وصدق الإيمان، فله درُّهم.
فهذه صفية تدافع عن حصن المسلمين وذلك حينما كان النبي خارج في غزوة الخندق فمر رجل يهودي فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله: تقول صفية: وليس بيننا وبين أحد يدفع عنا، فلما أحست صفية أنه يريد أن يتأكد هل بالحصن رجالٌ أم لا؟ حتى يغير على النساء، فلما دخل الحصن أخذت عمود فسطاط فقتلته ثم ألقته من أعلى الحصن فلما رأى ذلك اليهود، قالوا: ما كان لمحمد أن يخرج ويثرك النساء بلا رجال.
وهذه أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية: دافعت عن رسول الله ، وكانت تسقي الناس يوم أحد فلما رأت رسول الله قد أحيط به، وانهزم عنه الناس وضعت سقاءها، وأخذت سيفاً فجعلت تقاتل أشد القتال وحتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً وظل على عاتقها من هذه الجراح جُرح أجوف له غور أصابها به ابن قَمِئَة فأماته الله في نار جهنم.
وفي بعض الروايات، لما كانت تدافع عن النبي وكثرت عليها الجراح وهي تدافع، والنبي يقول: ((من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة)).
سليني يا أم عمارة فقالت: ادع الله أن نرافقك في الجنة. تريد نفسها وزوجها وابناها حبيب وعبد الله فقال: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة.
هؤلاء النساء الصحابة وهذه بطولاتهم، فمال نساءنا اليوم لا يعرفن تاريخهن ولا يعشن أمجاد الأفذاذ من الصحابيات. ولست أعني أبداً أن نزاحم الرجل أو أن تشارك في المعارك، ولكن لتكن أمرة معتزة بدينها، وكيانها وبعزتها وبحجابها ولا تقلد الكافرات ولا تعجب في السافرات.
بارك الله لي ولكم. .
[1] أي أهلكَهم وأهلكُهم. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أيها الأخوة:
إن هذا القرآن الذي قرأه الصحابة وتأثروا به وعملوا بما فيه، والذي أصبح المحرك لهم لجميع بطولتهم ومواقفهم الخالدة التي لا تنسى، إن هذا القرآن أيها الأخوة الذي تأثروا به تأثراً بالغاً هو نفس القرآن الذي بين أيدينا، لكن القلوب غير القلوب والنفوس غير النفوس.
وإلا فالقرآن واحد، والأسماع واحدة، والتلاوة نفسها، لكن التي تغيرت هي القلوب فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور .
لقد كان الواحد منهم رضي الله عنهم من الصحابة فمن بعدهم، ربما سمع الآية فتغيرت مسيرة حياته، فهذا أبو طلحة لما كبرت سنه ورق عظمه وشابت لحيته، كان يقرأ سورة براءة (التوبة) فلما بلغ قوله تعالى: انفروا خفافاً وثقالاً فقال لا أرى ربنا إلا يستنفرنا شباباً وشيوخاً بآية، جهزوني جهزوني. فجهزوه فغزا في البحر فمات في البحر. فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه بها وهو لم يتغير.
أما نحن فقد سمعنا آيات كثيرة، وترنمنا بسماعها وقراءتها، فما فعلت فينا شيئا، عجباً لنا نسمع الآيات والمواعظ والخطب والكلمات، فموعظة في المسجد وموعظة عبر الشريط وموعظة في الجمعة وموعظة عبر المذياع. ولكن أحوالنا على ما هي عليه، بل كل يوم نزداد بعداً وتقصيراً وتفريطاً في طاعة الله إلا من رحم الله.
أيها المسلمون:
قد سمعنا بعض تضحيات نسائهم وأطفالهن، فماذا عسى أن تكون تضحيات رجالهم.
فهذا عبد الله بن جحش في معركة أحد يدعو يقول: اللهم أني أقسم عليك أن ألقى العدو غداً فيقتلوني ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني فيم ذلك يا عبدي؟ فأقول: فيك يا رب.(/3)
وهذا عمرو بن الجموح كان أعرجاً شديد العرج، وكان له أربعة أبناء يغزون مع رسول الله إذا غزا، فلما توجه رسول الله إلى أحد، أراد أن يتوجه معه، فمنعه أبناؤه لكبره، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله فقال: يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك، والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنة فقال له رسول الله: أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد، وقال لبنيه: وما عليكم أن تدعوه، لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة، فخرج مع رسول الله فقتل يوم أحد شهيداً.
وهذا أنس بن النضر آلى نفس إذ تخلف عن غزوة بدر أن إذا جاءت غزوة أخرى ليرين الله ما يصنع، فلما انكشف المسلمون في غزوة أحد انطلق وقال: اللهم أني أعتذر إليك من صنع هؤلاء، (ويعني أصحابه حينما نزلوا الجبل) وأبرأ إليك من صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد.
قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس بن مالك: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أخته ببنانه (إصبعه)، قال أنس: فكنا نظن أن هذه الآية نزلت في أشباهه من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه .
وهذا رجل آخر من الصحابة يهجم عليه رجلٌ فيطعنه طعنة في صدره فلما سال الدم، أمسك الدم بيمينه ونظر إليه وقال: فزت بها ورب الكعبة، فزت بها ورب الكعبة، فزت بها ورب الكعبة.
ولما انكشف المسلمون في معركة أحد ظهرت البطولات والتضحيات، وفي وسط هذه الدهشة المذهلة والمفاجأة المحزنة، حين خرج المشركون بقيادة خالد بن الوليد (قبل أن يسلم) على المسلمين من خلف الجبل وبعد أن نزل الرماة من جبل أحد، صرخ الشيطان إبليس بأعلى صوته: إن محمداً قد قتل، ووقع ذلك في قلوب كثير المسلمون، ومرّ أنس بن النضر صاحب القصة السابقة بقوم من المسلمين وقد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله فقال: فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا موتوا على ما مات عليه.
ولكن الحقيقة أن رسول الله لم يقتل، وخلص المشركون إلى رسول الله ، وثبت في وجه العدو وقاتلهم قتالاً شديداً فظل يرمي بالنبل حتى فني نبله، وانكسر قوسه، ثم ظل يرمي بالحجارة حتى دفعهم عنه.
وثبت معه نفر من أصحابه قيل أنهم دون العشرة، وقيل أنهم فوق العشرة وأحاطوا به يصدون هجمات العدو الذي أحدق بهم من كل ناحية، وشدوا عليه يريدون أن يقتلوه، فما زال هؤلاء النفر يذودون عنه ويقاتلوه دونه ويتلقون ضربات العدو.
وترّس أبو دجانة نفسه دون رسول الله فجعل النبل يقع على ظهره وهو منحن على رسول الله حتى كثر فيه النبل، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله فجعل رسول الله يناوله النبل وبعد يقول: ارم فداك أبي وأمي.
ودافعت عن رسول الله أم عمارة وقد ذكرنا قصتها.
ولكن رغم ذلك كله جرح العدو وجه النبي وكسروا رباعيته، وهشموا البيضة، (الخوذة) التي على رأسه الشريف، ورموه بالحجارة، حتى وقع وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين، فأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله، وكان الذي تولى أذى النبي عمرو بن قمئة وعتبة بن أبي وقاص، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه، فانتزعها أبو عبيدة بن الجراح، وعض عليها حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجهه .
أرأيتم أيها الأخوة كيف نحن تغيرنا، وأصبحت أمجادنا رهن الذكريات وسجينة كتب التاريخ.
تكدّر من بعد النبي محمدِ عليه س،لام الله ما كان صافياً
فكم من منار كان أوضحه لنا ومن علم أمسى وأصبح عافيا
ركنا إلى الدنيا الدنية بعده وكشفت الأطماع منا المساويا
وإنا لنمر من كل يوم بنكبة نراها فما تزداد إلا تعاميا
أيها المسلمون: أفيقوا واعلموا أنكم أصحاب أمجاد وتاريخ عريق، وأصحاب بطولات لم يعرف التاريخ لها نظيراً، فاربؤوا بأنفسكم أن تكونوا أذلاء صاغرين لا قيمة لكم ولا عزة لكم.
وارفعوا أنفسكم عن سفاسف الأمور، وتطلعوا إلى معاليها، وإياكم والمعاصي والاستسلام للمحرمات صغرت أم كبرت، وإن الخلق لا يهونون عند الله إلا حينما يخالفون أمره، كما قال أبو الدرداء: "ما أهون الخلق على الله إذا هم خالفوا أمره". وإذا كتب الله علينا الهون فمن يكرمنا، ومن يهن الله فما له من مكرم .
انتصر على نفسك على الأقل القليل، إن لم تستطع أن تكون كالصحابة والتابعين في أقدامهم وشجاعتهم فلا أقل من أن تكون منتصراً على نفسك مسيطراً عليها، كم من إنسان تغلبه نفسه وتتحكم به شهواته، فما أن يظهر على الساحة أي معصية أو فتنة حديثة إلا وانجرف وراءها.
ماذا عساك أن تنتظر من هؤلاء وهم لم ينتصروا على أنفسهم التي بين جنباتهم.
اللهم أيقظنا من سبات الغفلات.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
التدخين
...
الكاتب : المشرف العام على موقع الوسط ...
التاريخ : 01/11/1426 ...
يتميز الإسلام بأنه دين شامل كامل فيه حل لكل المشكلات الإنسانية كما قال سبحانه ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) .
وقد يتساءل بعض الناس عن وجه هذه الشمولية والكمال مع أن الأحداث غير متناهية ، والنصوص الشرعية متناهية ، والمتناهي لا يحيط بغير المتناهي !!
والجواب هو أن الشمول والكمال يتحقق من خلال النصوص العامة والقواعد الكلية والمقاصد الكبرى والعلل الجزئية التي تدخل تحتها المسائل الكثيرة والنوازل الجديدة فيمكن التعرف على الموقف الشرعي من خلال النظر العلمي الدقيق فيها .
ومن القضايا الجديدة في واقع الناس قضية التدخين ، وهي قضية لم يرد فيها نص خاص صريح ولكن يمكن التعرف على الموقف من خلال النظر في مقاصد الشريعة والنصوص العامة .
لقد عرف المسلمون التدخين في نهاية القرن العاشر الهجري عن طريق الإنكليز ، ومن ذلك الوقت والفقهاء يجتهدون في استنباط حكمه الفقهي ، فمنهم من أداه اجتهاده إلى التحريم ومنهم من أداه اجتهاده إلى الإباحة ومنهم من أداه اجتهاده إلى الكراهة ، ونحن نحترم اجتهادهم ونقول كما قال الشاعر :
وواجب في مشكلات الحكم تحسيننا الظن بأهل العلم
والسبب الرئيس في هذا الاختلاف هو الخلاف في وجود الضرر ونسبته ، فمن رأى أنه مضر قال بتحريمه ، ومن رأى أنه غير مضر أو أن ضرره محدود قال بإباحته ، بل إن القائلين بالإباحة صرحوا بأنه لو ثبت ضرره كان من المحرمات ، فنخلص من هذا العرض للخلاف بأن الفقهاء جميعا لا يختلفون في تحريم التدخين متى ثبت ضرره الراجح بالإنسان .
و تحديد الضرر الصحي في التدخين قضية مرجعها إلى الأطباء وعلماء التشريح ، وإذا كانت التجارب والدراسات الطبية المتعلقة بالتدخين محدودة في العصور السابقة مما جعل حصول الضرر عند السابقين أمرا مظنونا فإنها في زماننا هذا قد اتسعت وتعددت بحيث بات ثبوت الضرر الحاصل من عادة التدخين أمرا محققا يكاد يجمع عليه الباحثون والأطباء اليوم .
إن عدم تحقق الضرر أمر يحكي نظرية الأمس ولكنه لا يحكي حقيقة اليوم فإن التطور الطبي وتراكم الأبحاث والتجارب قد انتهت إلى حقيقة واضحة وهي الضرر الصحي المحقق في التدخين وأنه سبب رئيس لكثير من الأمراض الخطيرة .
وبناء على ذلك لا يصح التعلق في نظري بفتاوى الإباحة التي قالها بعض الفقهاء السابقين لبطلان المستند فيها وهو عدم تحقق الضرر.
إن جسد الإنسان ملك لله تعالى الذي خلقه وأبدعه ، وليس ملكا للإنسان وإنما هو أمانة لديه ووديعة عنده فلا يجوز التصرف فيه إلا بما فيه صلاحه ، وكل إضرار به فهو عدوان على ملك الله تعالى ، ولهذا حرم على الإنسان قتل نفسه كما قال تعالى ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ) .
وهناك وجوه أخرى من الضرر كتضييع الأموال وصرفها في غير وجوه المصلحة ، ولاسيما لو نظرنا إلى الأموال الضخمة التي تصرفها الدول في معالجة آثار التدخين على صحة الناس والبيئة .
وفي التدخين إضرار بالبيئة والناس ولاسيما أهل المدخن وأولاده وذلك بالرائحة الكريهة والهواء الملوث الذي يستنشقه من حوله .. فيدخل التدخين في طرفي الحديث الشريف ( لا ضرر ولا ضرار ) ويأخذ حظا مضاعفا من المنع إذ فيه ضرر بالنفس وضرار بالناس .
لا أريد الإطالة في تقرير الجانب الفقهي لأن المشكلة لا تنحصر في الجهل بالحكم الفقهي أو الضرر الصحي للتدخين فهناك أطباء يدخنون ولكنها تنشأ غالبا عن ضعف الإرادة والاستسلام للعادة ، وعلاج هذين في شحنة إيمانية وعزيمة أندلسية تحطم القيود وتتجاوز السدود ..(/1)
التفريط وآثاره على الفرد المسلم
د. أحمد العمراني
فالتفريط يعني: التقصير والتضييع. نقول: فرَّط في الأمر: قصَّر فيه وضيَّعه(1).
فماذا ضيع الإنسان؟
لقد خلق الله الإنسان وخلق له الكون كله؛ حيث يقول ـ سبحانه ـ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 29 - 30]. ولم يخلقه عبثاً ـ بتقرير القرآن ـ حيث يقول ـ تعالى ـ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. ويمكن أن نلخص رسالة الإنسان على هذه البسيطة في أمور ثلاثة: العبادة، والعمارة، والخلافة.
ـ فالإنسان مستخلَف ومسؤول بقوله ـ تعالى ـ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 29 - 30].
وببيان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- القائل: «إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون»(2). وفي رواية: «إن هذا المال حلوة خَضِرة؛ فمن أخذه بسخاوة بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه»(3).
ـ وهو مكلف بعمارة الأرض بقوله ـ تعالى ـ: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
وببيانه -صلى الله عليه وسلم-: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسْها»(4).
وهنا يسائل المرء نفسه: لمن سيغرسها إن كان قيام الساعة واضحاً بيِّناً؟ هذه هي الحكمة الربانية، المهم أن تغرس، أن تعمر الأرض وأن تنتج، لا أن تخرب أو تدمر أو تنام وتتقاعس.
ـ ومكلف بتحقيق العبودية لله بقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
فماذا فعلنا لعمارة الأرض؟ وماذا فعلنا لنكون خلفاء كما ينبغي؟ وماذا فعلنا لنعبد الله حق العبادة؟
< أسباب التفريط:
للتفريط في جنب الله أسباب كثيرة، قد نصل إلى إدراك بعضها، وقد تغيب عنا أسباب أخرى منها.
فمن الأسباب الواضحة المؤدية إلى التفريط ما يلي:
1 ـ الانشغال التام بالدنيا:
حيث إن كثيراً من الناس لا يجدون وقتاً لراحتهم وليس لتدينهم فحسب، نظراً لكثرة الانشغالات الدنيوية والارتباطات العملية التي تثمر كثرة الأعباء والتكاليف التي تجعل الإنسان ينغمس فيها طلباً للمال، مما يسبب الأكل الكثير، فالشرب الكثير، فالنوم الكثير، فالالتهاء الكثير، فالنسيان الكثير.
وهذا يضطرهم للتوسع الشديد في المباحات والاستكثار منها. وبالطبع كلما زادت رغبة الفرد في ملذات الدنيا أوقعته في حبائلها وأوصلته إلى الوقوع في مكروهاتها ومحرماتها.
فإذا حصل هذا تُنُوسيت الدار الآخرة، وتنوسيت أهوالها وما ينتظر الفرد منها من سؤال وجزاء ومحاسبة، وهذا بسبب الغفلة التي حصلت بالالتهاء بشهوات الدنيا وزخارفها، فيصعب على الإنسان أن يبتعد عن حياة النعيم التي حصَّلها، فإذا حصَل له بعض النقص، فقد يندفع إلى ارتكاب الموبقات للوصول إلى أغراضه، فيتجرأ على المعصية، وتتلوها معاصٍ، فيحاط قلبه بالران: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، ويتعثر في الرجوع إلى نفسه ونهيها عن غيها، ويصعب عليه الإقلاع والابتعاد عما أوقع نفسه فيه، فينتقل الأمر من الغفلة إلى التفريط التام.
فالتفريط في كل ما ذكر هو مشكلة الأمة اليوم، وهو باختصار: تفريط في جنب الله، وهو نسيان الدار الآخرة والجزاء والحساب والموقف.
فقد أصبح كثير من المسلمين لا يفكرون إلا في الدنيا وشهواتها: تزينت لهم وأغوتهم بغوايتها حتى نسوا الذكر ونسوا الهدف من وجودهم، مع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد حذر منها في قوله: «واللهِ ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم»(1).
وروى في بيانها أبو أمامة الباهلي قال: لما بُعِثَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أتت إبليسَ جنودُه فقالوا: قد بُعث نبي وأُخرجت أمة، قال: يحبون الدنيا؟ قالوا: نعم! قال: لئن كانوا يحبون الدنيا ما أبالي ألا يعبدوا الأوثان، وإنما أغدو عليهم وأروح بثلاث: أخذ المال من غير حقه، وإنفاقه في غير حقه، وإمساكه عن حقه، والشر كله من هذا نبع»(2).
وروي عن عيسى ـ عليه السلام ـ أنه رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء، عليها من كل زينة، فقال لها: كم تزوجتِ؟ قالت: لا أحفظهم، قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقوك؟ قالت: بل كلهم قتلتُ، فقال عيسى ـ عليه السلام ـ: بؤساً لأزواجك الباقين! كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين؟ كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد ولا يكونون على حذر؟»(3).(/1)
لهذا قيل في شأنها: «الدنيا إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وإذا جلت أوجلت، وإذا دنت أودنت»(4) وصدق الله العظيم حين قال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد: 20].
وصدق رسوله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظرْ بِمَ يرجع؟»(5).
وهذا لا يعني أن الإنسان يجب أن يزهد في الدنيا، ويتفرغ للرهبانية التي حذر منها الشرع الحنيف، بل عليه أن يعرف أن الدنيا خُلقت له وليس هو من خُلق لها، وبين الأمرين فرق كبير وبون شاسع.
فما الفرق بيننا وبين باقي الكائنات إن لم نعبد الله؟
نتشابه كلية مع باقي الكائنات فيما يفعلون؛ حيث نأكل ونشرب وننام وننكح، وكذلك يفعلون.
ولكننا نتميز عنهم بعبادة الله كما شرع، وسنحاسَب كما أخبر، مع العلم أن الكون والخلائق كلها تسبِّح الله وتطيعه كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
والفرق الذي بيننا وبينها أنها غير مكلفة بشريعة وغير محاسَبة عليها؛ إذ لم يُبْعَثْ لها أنبياء ورسل، بل هذا مما تميز به الإنسان؛ فكيف لا نتميز؟ بل كيف نرضى لأنفسنا أن نتشابه مع باقي مخلوقاته، والله أمرنا أن نتميز حتى لا نكون مثلهم: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ} [الأعراف: 179]؟
فالتفريط في هذه المقاصد والغفلة عنها هو الذي أوقع الأمة في براثن وحبائل التفريط في جنب الله.
وكثرة غفلة الغافلين هي التي دفعت العديد من الأفراد إلى الإفراط في جنب الله، فوقع المسلمون بين غلو المتشددين، وتقصير الغافلين، وهذا حال الأمة؛ مع أن القرآن الكريم علمنا كيف نستجيب للدنيا وكيف نستجيب للآخرة ونعيمها، وكيف نستجيب لله، ولكل نداؤه الخاص؛ حيث وردت في عباراته ثلاثة نداءات متفاوتة فيما بينها وفي طريقة الاستجابة لها والتعامل معها وهي كلها تخدم فوز ونجاح الإنسان في الدنيا والآخرة.
ـ النداء الأول: من أجل الدنيا قال ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]
والمؤمن الكيِّس الفَطِن مطالَب بالانتباه إلى لغة القرآن؛ ففي طلب الدنيا لا يتجاوز المشي «فامشوا» أي بتؤدة وببطء وتمهل وتعقل، وهو أمر فُسِّر في القرآن تفسيراً وبُيِّن تبييناً؛ حيث يقول الله ـ تعالى ـ في كتابه الكريم في وصية لقمان لابنه: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 18 - 19]. ووصية الله للإنسان في قوله: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً } [الإسراء: 37]. وحدد صفة مشي عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].
فالناظر في آيات القرآن يتبين له كيف أعطى المولى ـ عز وجل ـ للمشي اعتباراً فريداً؛ لأنه ـ بكل اختصار ـ يعبر عن شخصية الإنسان؛ فالمسلم النبيه هو من يمشي ليِّناً هيِّناً بسكينة ووقار دون تجبر ولا استكبار ودون استعلاء على أحد أو انتفاخ، أي: يمشي مشية من يعلم أنه خُلق من الأرض وسيعود فيها {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55].
فمشية المسلم في الدنيا وفي طلبها هي مشيه في الحلال طلباً وأخذاً وعطاءً وسلوكاً، لا يظلم أحداً، ولا يتكبر على أحد، متواضعاً، كما قال الشاعر:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً فكم تحتها قوم همو منك أرفعُ
وإن كنت في عز وجاه ومنعة فكم مات من قوم همو منك أمنعُ(1)
ـ النداء الثاني: من أجل الجنة والمغفرة، وفي ذلك يقول ـ تعالى ـ: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 136].(/2)
ويكفي تمجيد الله لهذا العمل قوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 136] فالمسلم في طلبه للجنة عليه أن يسرع المشي والخطى ويتعجل السير ولا يترك الفرصة لتجاوزه، وهو ما أكده القرآن الكريم بقوله في آية أخرى: {سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21]
والسباق يعني المبادرة إلى ما يوجب المغفرة؛ وما يوجب المغفرة هو العمل بالطاعات، وهو ما يعنيه قوله ـ تعالى ـ: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].
وقد حث الرسول -صلى الله عليه وسلم- على المبادرة والإسراع فيما ينفع المؤمن قبل الوقوع في أسر الفتن فقال: «بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي كافراً ويصبح مؤمناً، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا»(2).
وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة»(3).
وليس كما هو حاصل اليوم في زمننا، الكل يسرع ويلهث ويجري وراء الدنيا وزخارفها وليته يصل إلى مراده، بل الكل ينام وفي ذهنه أنه لَمَّا يتم عمله، وينام تعباً وهو يخطط لعمل الغد وكيفية إنهائه.
فمتى يميز المسلم بين ما يجب الإسراع فيه وما يجب فيه التأني؟
ـ النداء الثالث: نداء الفرار إلى الله؛ حيث يقول ـ سبحانه ـ: {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات: 50].
«ففروا» طلباً لله، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فالفرار إلى الله فرار من معصيته، فرار من غضبه، فرار من الإشراك به. وهو هنا شجاعة؛ لأن الفار يفر من أعداء يبعدونه عن الله وعن رضوانه، ونجاة من الجحيم وطلباً للنعيم المقيم.
وقد بوَّب البخاري ـ رحمه الله ـ أحد أبواب صحيحه في كتاب الإيمان، فقال: «باب: من الدين الفرار من الفتن»(4).
وما أكثر الفتن في زمننا؛ حيث المؤمن فيه يقبض على دينه ويصبر على فتنه «كالقابض على الجمر»(5).
مفتون أينما حل وارتحل، ولعل من أخطر الفتن التي تُحدِق بالمسلم فتنة الأموال وفتنة الأولاد وهو ما أكده القرآن بقوله: {إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15].
بل إن الرسول الحبيب -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أن الأمة ستعيش فتناً يشيب لها الولدان؛ حيث قال: «ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرَّف لها تتشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليَعُذْ به»(1).
ولكن الواقع يشهد أن الأمة أصبحت تعيش تناقضاً مع لغة القرآن ومع فهم مفرداته، فأصبح السير إلى الدنيا سريعاً، وإلى الآخرة وئيداً، والفرار من الله بدل الفرار إليه.
فهل إلى رجوع من سبيل! وهل إلى توبة لتصحيح المسار وتصحيح الخطوات إن شئنا النجاة وتحقيق الفوز والدرجات في الدنيا والدين!
2 ـ عدم الفقه السديد في الدين، وهو أصل كل بلية:
في اعتقاد بعض الناس أنهم إذا أدوا بعض أشكال التدين فقد نجوا وسَلِموا؛ وهذا فهم تجزيئي للإسلام؛ حيث يقتصر بعض الناس في تدينهم على بعض الأمور ويترك الأمور الأخرى، وهذا يؤدي أيضاً إلى التفريط والغفلة؛ فالدين شامل كامل لقول الله ـ تعالى ـ: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].
فليس الدين في العبادات فقط، أو في المعاملات، أو في السلوك والأخلاق، أو في الأعمال الاجتماعية، أو السياسية أو الاقتصادية، بل يشمل كل هذا.
ومع الأسف أن هذا ما حصل للكثير من الناس، حيث جزَّؤوا الدين، وأخذ كل واحد منهم ما يعتقد أنه الصواب والصالح له؛ فمنهم من فهم حديثاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهماً سيئاً وبنى عليه حياته ومصيره، كفهمهم لحديث السائل عن الإسلام، والذي يقول فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مجيباً لرجل من أهل نجد جاء ثائر الرأس يُسمَع دوي صوته ولا يُفقَه ما يقول: «خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: وهل عليَّ غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوَّع، قال رسول الله: وصيام رمضان، فقال: وهل عليَّ غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطَّوَّع، قال: وإخراج الزكاة، قال: وهل عليَّ غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: واللهِ لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أفلح إن صدق»(2).
فأخذ كثير من الناس بعض ألفاظ الحديث، مثل: واللهِ لا أزيد ولا أنقص، ومثل: أفلح إن صدق، ونسوا مقاصد وروح ما ذكر في الحديث؛ فالصلاة تؤدى؟ نعم! ولكن إن لم تؤدَّ على حقيقتها لم تؤثر في الإنسان ولم يحصل له الفلاح، والزكاة تؤدى؟ نعم! ولكن من أي المال؟ والصوم يؤدى؟ نعم! ولكن كيف يؤدى؟(/3)
فكثير من الناس ليس لهم من صلاتهم إلا وقوفهم وجلوسهم، وليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر...»(3).
لهذا وجب عدم التغافل عن مقاصد العبادات وروحها حتى تؤدى كما يجب وتؤدي ثمارها كما ينبغي، كما لا يجب التغافل عن إتيانها والقيام بها بل والاجتهاد فيها؛ لأنها تدفع الغفلة والتغافل؛ حيث أخبر -صلى الله عليه وسلم-: بأن «من قام بعشر آيات لم يُكتَب من الغافلين»(4).
بل إن التشبت بالفريضة والحرص عليها يطرد الغفلة ويشجع على الحرص على السنة كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن لكل عمل شِرَّة، ولكل شرة فترة، فإذا كانت الفترة إلى الغفلة فهي الهلكة، وإذا كانت الغفلة إلى الفريضة لا يضر صاحبها شيئاً»(5). وقد سأل عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ ابنه الحسن يوماً عن الغفلة فقال له: «الغفلة تركك المسجد، وطاعتك المفسد»(6).
ومن الناس من يقول لك: أنا لا أغتاب الناس ولا أكذب عليهم، ولا أغشهم ولا أفعل ولا أفعل، ويوجه سهمه للآخرين فيقول: انظروا إلى ذاك المصلي الكذاب الغشاش؛ فكيف أصلي؟
ويقول أيضاًً: أنا لا أصلي ولكن لا أقوم بمثل أعمال أولئك الحجاج والمصلين الذين ينافقون الناس بتقدمهم إلى الصفوف الأمامية، ويخادعون الناس في معاملاتهم، بل في سلوكهم.
وهذه دعوى باطلة ولو كان الناس يعتقدون في الإسلام وفي قواعده وضوابطه بما يشاهدونه من أفعال المسلمين لما أسلم إلا القلة، وخصوصاً إذا كان المنظور إليهم من أهل القدوة والصلاح؛ حيث يتخذونهم قدوة لهم في التراجع عن الخير فيقعون في سوء الفهم والتأويل والتغافل، ونسوا أو تغافلوا أن الله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. ويقول ـ سبحانه ـ: {وَكُلَّ إنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13].
ومن الناس من يأخذ من الدين العملَ الاجتماعي، فتجده يشارك في الأعمال الخيرية وكفالة اليتيم وإعانة الفقراء والمساكين، ولكن مقابل ذلك لا يصلي ولا يصوم ولا يراقب ربه في باقي أشكال التدين؛ حيث يغفل عن ذلك معتقداً أنه قد حصَّل المراد، وأنه بفعله ذاك قد نال المبتغى، وهذا تلبيس من إبليس الذي يزين للناس ما هم فيه، ويبعدهم عن حقيقة العمل المطلوب، ويبني على ذلك نمط إسلامه الذي يختزله في المعاملات مع الناس، وينسى باقي أركان الإسلام وضوابطه وقواعده، وأن ما هو فيه من الدين ولكن ليس كل الدين. ويكفي أن نقول إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أول ما يحاسَب به العبد المسلم يوم القيامة الصلاة؛ فإن أتمها؛ وإلا قيل: انظروا هل له من تطوُّع؟ فإن كان له تطوع أُكملت الفريضة من تطوعه، ثم يُفعَل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك»(1).
ومن الناس من يلجأ إلى العمل السياسي، ويعطيه كل وقته وجهده وعاطفته وماله، معتقداً أنه يقدم للناس في ذلك خدمات جلى، وأنه يسير في المسار الصحيح لا ينقصه شيء، ولا يعوزه عمل آخر، وهذا من التفريط وسوء الفهم مع الأسف الشديد.
إن الواقع الأليم لينبئ عن كل هذه الأفهام والسلوكات، مما سهَّل على إبليس عملَه، وأسقط الناس تباعاً في حبائله وغواياته، ونسوا جميعاً أن الشرع الحنيف حذر من تجزيء الدين والتفريط في بعض أسسه، حيث قال ـ سبحانه ـ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85].
3 ـ عدم إدراك قيمة النعم وقدر المنعم:
وكل هذا سببه نسيان المنعم الحقيقي الذي يجب له حق الشكر والحمد على ما أعطى ووهب؛ فكل النعم من الله؛ فهو المعطي المانع، الواهب الصانع؛ فكيف يعطي ويُشكَر غيره، وكيف يهب ويُقصَد غيره؟
فالشكر يديم النعم ويزيدها ويقويها، وعدم الشكر يزيلها ويضيعها، وربنا يقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
ولقد آتى الله ـ عز وجل ـ نبيه سليمان ـ عليه السلام ـ ما لم يؤت أحداً من العالمين، حيث قال: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. [ص: 36 - 39]
فلم يعتبر سليمان ـ عليه السلام ـ ذلك نعمة يركن إليها، بل خاف أن يكون ما وهبه الله له من النعم استدراجاً من حيث لا يعلم، فقال ـ سبحانه ـ مخبراً عنه: {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].
إن إدراك حقيقة المنعم وقدره وعظمته مما يشجع الناس على الانتباه والتيقظ، ويدفعهم إلى استغلال أوقاتهم وأفعالهم فيما يرضي الذي {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] والذي وصف نفسه بـ: {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].(/4)
ولنعطِ بعض الأمثلة ليستيقن المسلم بقدر المنعم، ويسلم أمره كله إليه حتى يقلل من المجازفة بدينه وبنفسه فلا يفطن لموقعه إلا بعد فوات الأوان، ولات حين مندم.
فلو أن الإنسان المسلم اعتقد الاعتقاد التام في سمع الله وفي بصره وفي عطائه وعلمه أكان يعصيه؟
لنبين ذلك ثم نسائل أنفسنا أولاً عن ذلك.
فمما ورد في السنة وفي أقوال المفسرين أن خولة بنت ثعلبة لما اشتكت زوجها الذي ظاهر منها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كانت عائشة تسمع الشكوى في حُجرتها، ولم تسمع كل كلامها؛ فلما نزل قول الله ـ تعالى ـ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1]، قالت: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات»(2). فلو آمن الإنسان بهذا أكان يعصيه طرفة عين؟ أكان يقع في التفريط؟ الله يسمع منك كل شيء، ولا يغيب عن سمعه أي شيء.
ثم لننظرْ إلى علم الله المطلق، والذي يغيب عنا، مع العلم أننا نعتقد في علم البشر ونعترف لهم بقوة علمهم وخبرتهم وبأستاذيتهم، ولكننا ننسى علم الله المطلق، وعلمه بالغيب والشهادة، بل إن علم البشرية كلها هو من علم الله.
فهذا موسى الكليم ـ عليه السلام ـ خطب يوماً في قومه، فسئل: هل يوجد من هو أعلم منه؟ فنفى وجود ذلك، فبعثه الله ليتعلم من عبده الخضر ـ عليه السلام ـ وليعلمه أن هناك من هو أعلم منه؛ والحديث كما في صحيح البخاري يحدثنا عن رحلة نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ مع الخضر وماذا تعلم منه، ثم إنهما ركبا السفينة، فجاء عصفور ونقر من البحر نقرة، فقال الخضر: «يا موسى! ما علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر»(3).
وهذا يعني أن علم موسى الرسالي لا يفقهه الخضر، وعلم الخضر الرباني لا يفقهه موسى، وعلمهما معاً أمام علم الله لا يساوي نقطة من بحر علم الله. فإذا علمنا هذا واعتقدناه فهل يقع منا التقصير والغفلة والتفريط؟
ثم لننظر إلى رزق الله الواسع، ألم يقل ربنا في كتابه: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
ألم يحدثنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي أن الله ـ تعالى ـ يقول: «... يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني وأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر»(1).
هل من آمن بهذه الركائز العقدية يغفل عن الله، أو يفرط في جنبه، أو يعصيه طرفة عين؟ بالتأكيد سيكون الجواب: لا، لن يقع في المحظور كما أنه لن يقع في الغفلة والتفريط.
وطبعاً لا يجب أن ننسى أن من سنن الله في خلقه وكونه أنه خلقنا بشراً نخطئ ونصيب، ننسى ونتذكر، نذنب ونتوب؛ فالله لم يخلقنا ملائكة، بل خلقنا بشراً ناكل الطعام ونمشي في الأسواق؛ وهذا يقتضي أن الإنسان قد يخطئ وقد ينسى، ولكنه في كلتا الحالتين يستعين بالدعاء: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. ويرجع حين تذكُّره، ويصحح خطأه حين تنبُّهه: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»(2). وقال أيضاً -صلى الله عليه وسلم-: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها»(3). وقال: «ذاكر الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الفارِّين»(4).
< سبب التسويف:
وهو مرض خطير، ومن تلبيسات إبليس بالناس أجمعين؛ حيث يسوِّف عليهم في كل شيء ويجعلهم يؤجلون كل أعمال الخير إلى أجل غير مسمى حتى يفاجَؤوا بنهاية الأجل ووقوع المحظور.
وقد حذر السلف الصالح من مغبة التسويف وحاربوه؛ حيث روي عن عمر قوله: «القوة في ألا تؤخر عمل اليوم إلى الغد». وقال سهل بن عبد الله: «الجاهل ميت، والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصرُّ هالك، والإصرار هو التسويف، والتسويف أن يقال: أتوب غداً، وهذا كيف يتوب غداً؛ وغداً لا يملكه»(5).
وفي الحديث: «بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر»(6).
هكذا حذرت النصوص من التسويف الذي يعد بحق من الأسلحة الفتاكة التي يستعملها إبليس لإغواء النفس البشرية؛ فما همَّ بعمل خير إلا وضع (سوف) أمامه ليؤجله أو ليلغيه، وفي كِلا الأمرين يتحقق مكسب للشيطان؛ إذ الموت مباغت، والأجل غير معلوم؛ فكلما سوَّف الإنسان أوقع نفسه في المجهول.
قال سيبويه: «سوف: كلمة تنفيس فيما لم يكن بعدُ، ألا ترى أنك تقول: سوَّفته، إذا قلت له: سوف أفعل، ويقال: فلان يقتات السوف، أي يعيش بالأماني»(7).(/5)
ولسوف هاته أشكال وألوان؛ فمن الناس من يمنِّيه إبليس بالتوبة والرجوع حالما ينتهي من عمل ما، أو إتمام مشروع ما، ولكن مع الأسف الشديد عندما ينتهي منه يوجد له الشيطان مشروعاً آخر وهكذا حتى تأتي النهاية المحتومة، ويتحدث مع الطالب بلغة الحصول على الشهادة أو العمل، ومع الأعزب حتى يتزوج، ومع الغني حتى يكتمل مشروعه، ومع الفلاح حتى ينتهي موسم الحصاد، وهكذا يكسب من الناس تأخيراً في التوبة وتعثراً في الرجوع إلى الله، فيظل المسلم غافلاً مسوفاً حتى يلقى الله وتضيع فرص العودة والرجوع والأوْبة والإنابة.
ـ الحرمان من التوفيق الرباني: فمن عاش بين مجزِّئ للدين ومسوِّف وعاصٍ وناكر للنعم وجاحد لحق المنعم، فلن يبتعد حاله مطلقاً عن حال الضالين.
فالمفرط في التدين يقطع صلته بربه، فيحرم بسبب ذلك من عونه وتوفيقه، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 36 - 37].
فإذا كثر الغافلون وكثر التقصير في الدين وإهماله، وربما تشويهه، انقلب هذا السلوك في نفوس بعض الأفراد إلى تفكير خاص، يعتقدون أنه الحل الوحيد لمعالجة هذه الأمراض المنتشرة بينهم، فيلجؤون إلى الإفراط في فهم الدين بدل التفريط فيه كما فعل الأكثرون.
يقول ـ تعالى ـ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}
[الزمر: 55 - 56]
آية من آيات الله تُحدّثُنا عن التفريط، وتحذر منه. ولحسن الفهم والاستيعاب للموضوع وجب تحديد مفهومه وبيان أسبابه.
________________________________________
(*) أستاذ الفقه والتفسير بكلية الآداب، مدينة الجديدة، المغرب. وعضو المجلس العلمي بها.
(1) لسان العرب مادة، (فرط).
(2) أخرجه الترمذي رقم: 2196، وابن حبان: 3219.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الرقاق، باب 26، رقم: 7124.
(4) مسند أحمد، رقم: 13048.
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجزية، رقم: 3158، باب 1، وكتاب المغازي باب: 12، رقم: 4015، وكتاب الرقاق، باب 7، رقم: 6425.
(2) إحياء علوم الدين، ج: (3/229).
(3) إحياء علوم الدين: (3/229).
(4) أوْدَنَتْ: قصَّرت وصَغَّرت.
(5) صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها باب: 14 رقم الحديث: 7376.
(1) انظر فتح القدير: (3/228).
(2) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب 51، رقم الحديث: 328.
(3) المستدرك للحاكم: (1/132 ـ 213 ـ 213).
(4) صحيح البخاري كتاب الإيمان، باب 12، رقم الحديث: 12.
(5) سنن أبي داود، رقم: 4341، وسنن ابن ماجه: رقم: 4016، ومسند أحمد: رقم: 9102، والمعجم الكبير للطبراني: (22/220).
(1) صحيح البخاري كتاب المناقب، رقم: 3601، وصحيح مسلم، كتاب الفتن، باب 3، رقم: 7429.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، رقم: 2678.
(3) صحيح ابن خزيمة: 3/242، ومسند أحمد: رقم: 8885، والمعجم للطبراني: (12/382).
(4) صحيح ابن حبان: ج: 6/310، رقم: 2571.
(5) المعجم الكبير للطبراني: ج: (8/222).
(6) المعجم الكبير للطبراني: (3/69).
(1) سنن أبي داود: رقم: 864، وابن ماجه: 1427.
(2) صحيح البخاري كتاب التوحيد باب 9، رقم: 7385.
(3) انظر صحيح البخاري: باب كتاب العلم باب 44، رقم: 122، ومسلم في كتاب الفضائل، رقم: 6313.
(1) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، رقم: 6737.
(2) سنن ابن ماجه، رقم الحديث: 4253، والترمذي: رقم: 2504، والدارمي: ج: (2/395)، وأحمد: 13116.
(3) مسند أحمد رقم الحديث: 12976، وصحيح مسلم: كتاب المساجد، رقم الحديث: 1601.
(4) المعجم الكبير للطبراني: (10/16).
(5) الجامع للقرطبي: (4/211).
(6) سنن الترمذي، رقم الحديث: (3/2312)، باب ماجاء في المبادرة بالعمل، وقال فيه حسن غريب.
(7) انظر لسان العرب، مادة سوف.(/6)
التفكر ومشروعيته
الحمد لله الذي لم يُقدر لانتهاء عزته نحواً ولا قطراً, ولم يجعل لمراقي أقدام الأوهام ومرمى سهام الأفهام إلى حمى عظمته مجرى, بل ترك قلوب الطالبين في بيداء كبريائه وآلهته حيرى، كلما اهتزت لنيل مطلوبها ردتها سبحات الجلال قسراً, وإذا همت بالانصراف آيسة، نوديت من سرادقات الجمال صبرا صبراً, ثم قيل لها أجيلي في ذل العبودية منك فكراً, لأنك لو تفكرت في جلال الربوبية، لم تقدري له قدراً, وإن طلبت وراء الفكر أمرا فانظري في نعم الله -تعالى- وأياديه كيف توالت عليك تترى, وجددي لكل نعمة منها ذكراً وشكراً, وتأملي في بحار المقادير كيف فاضت على العالمين خيراً وشراً, ونفعاً وضراً, وعسراً ويسراً, وفوزاً وخسراً، وجبراً وكسراً، وطياً ونشراً، وإيماناً وكفراً, وعرفاناً ونكراً، فإن جاوزت النظر في الأفعال إلى النظر في الذات فقد حاولت أمراً إمراً, وخاطرت بنفسك مجاوزة حد طاقة البشر ظلماً وجوراً, فقد انبهرت العقول دون مبادئ إشراقه، وانتكصت على أعقابها اضطراراً وقهراً, والصلاة على محمد -سيد ولد آدم- وإن كان لم يعد سيادته فخراً, صلاة تبقى لنا في عرصات القيامة عدة وذخراً, وعلى آله وأصحابه الذين أصبح كل واحد منهم في سماء الدين بدراً، ولطوائف المسلمين صدراً، وسلم تسليماً كثير1.
أما بعد:
عباد الله:
فإن التفكر في خلق الله وفي أمور الدين والآخرة من صفات عباد الله الصالحين، ولقد أكثر الله -تعالى- في القرآن الكريم من لفت الانتباه إلى قضية التفكر في هذا الكون الدال على عظمة الله وقوته، وعلى علمه وحكمته،،
قال بن القيم -رحمه الله-: (أصل الخير والشر من قبل التفكر، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض, وأنفع الفِكر: الفكر في مصالح المعاد, وفي طرق اجتلابها, وفي دفع مفاسد المعاد, وفي طرق اجتنابها, فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار، ويليها أربعة: فكر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها, وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها, فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء ورأس القسم الأول: الفكر في آلاء الله ونعمه, وأمره ونهيه وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما, وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة, فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها, وفي الدنيا وخستها وفنائها؛ أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا, وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت, وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها وسفولها, وتجعله في واد والناس في واد, وبإزاء هذه الأفكار -الأفكار الرديئة- التي تجول في قلوب أكثر الخلق كالفكر فيما لم يكلف الفكر فيه ولا أعطى الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع، كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته, وغيرها مما لا سبيل للعقول في إدراكه).2
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه).
أيها المؤمنون -عباد الله- لقد كثر الحث في كتاب الله تعالى على التدبر والاعتبار والنظر والافتكار, ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار, ومبدأ الاستبصار, وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم, وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبته لكن جهلوا حقيقته وثمرته.
وقد أمر الله تعالى بالتفكر والتدبر في كتابه العزيز في مواضع لا تحصى, وأثنى على المتفكرين فقال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (191) سورة آل عمران.
بل توعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من لم يتفكر في الكون فعن عطاء قال: انطلقت يوماً أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة -رضي الله عنها- فكلمتنا وبيننا وبينها حجاب, فقالت: يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا, قال: قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (زر غِباً تزدد حباً)، قال ابن عمير: فأخبرينا بأعجب شيءٍ رايتيه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فبكت, وقالت: كل أمره كان عجباً! أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي, ثم قال: (ذريني أتعبد لربى - عز وجل-), فقام إلى القربة فتوضأ منها, ثم قام يصلى فبكى حتى بل لحيته, ثم سجد حتى بل الأرض, ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح, فقال: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر, فقال: (ويحك يا بلال! وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله -تعالى- عليَّ في هذه الليلة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} (190) سورة آل عمران.ثم قال: (ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها).3 فقيل للأوزاعي ما غاية التفكير فيهن؟ قال: يقرؤهن ويعقلهن.4(/1)
وما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق لهم ربهم, حتى أيقنت قلوبهم, وحتى كأنما عبدوا الله عن رؤيته, وما رأى العارفون شيئاً من الدنيا إلا تذكروا به ما وعد الله به من جنسه في الآخرة من كل خير وعافية.
وعن محمد بن واسع أن رجلاً من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبى ذر, فسألها عن عبادة أبى ذر فقالت: كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر. وعن الحسن قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. وعن الفضيل قال: الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك, وقيل لإبراهيم ابن أدهم إنك تطيل الفكرة, فقال: الفكرة مخ العقل, وكان سفيان بن عيينة كثيراً ما يتمثل بقول القائل:
إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة
وقال الحسن: من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو, ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو, ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو. وقال الحسن في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (146) سورة الأعراف. أي: أمنع قلوبهم التفكر في أمري.
فأعطوا أعينكم -عباد الله- حظها من العبادة وذلك بالنظر في المصحف والتفكر فيه والاعتبار عند عجائبه.
(قلوب العارفين لها عيون ... ترى ما لا يراه الناظرون)5
وكان لقمان يطيل الجلوس وحده فكان يمر به مولاه فيقول: يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك! فلو جلست مع الناس كان آنس لك, فيقول لقمان: إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة. وقال وهب بن منبه: ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم, وما علم امرؤ قط إلا عمل.
وقال عمر بن عبد العزيز: الفكرة في نعم الله عز وجل من أفضل العبادة. قال عبد الله بن المبارك يوماً لسهل بن علي -ورآه ساكتا متفكراً-: أين بلغت؟ قال: الصراط.
وقال بِشْر: لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل. وعن ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب..
وبينا أبو شريح يمشى إذ جلس فتقنع بكسائه فجعل يبكي فقيل له: ما يبكيك؟ قال: تفكرت في ذهاب عمري, وقلة عملي, واقتراب أجلي.
وقال أبو سليمان: عودوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر. وقال: الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة وعقوبة لأهل الولاية, والفكر في الآخرة يورث الحكمة ويحيي القلوب, وقال حاتم: من العبرة يزيد العلم، ومن الذكر يزيد يزيد الحب، ومن التفكر يزيد الخوف.
وقال ابن عباس: التفكر في الخير يدعو إلى العمل به, والندم على الشر يدعو إلى تركه.
وقال الحسن: إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة.
وقال إسحاق بن خلف: كان داود الطائي -رحمه الله تعالى- على سطح في ليلة قمراء فتفكر في ملكوت السموات والأرض وهو ينظر إلى السماء ويبكي حتى وقع في دار جار له, قال: فوثب صاحب الدار من فراشه عرياناً وبيده سيف وظن أنه لص, فلما نظر إلى داود رجع ووضع السيف, وقال: من ذا الذي طرحك من السطح, قال: ما شعرت بذلك!!.
وقال الجنيد: أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد, والتنسم بنسيم المعرفة, والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد, والنظر بحسن الظن لله -عز وجل -, ثم قال: يا لها من مجالس ما أجلها! ومن شراب ما ألذه! طوبى لمن رزقه. وقال الشافعي -رحمه الله-: استعينوا على الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكر6.
بيان حقيقة الفكر وفائدته:
التفكر هو: تصرف القلب وتجوله في معاني الأشياء لدرك المطلوب, وهو سراج القلب يرى به خيره وشره.
وأما فائدة الفكر -عباد الله- فهي ما يحصل للمتفكر من معرفة بعض ما أودع الله في هذا الكون من الآيات العظيمة وبدايةً من هذا الإنسان, قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (21) سورة الداريات. وما يحصل للمتفكر من زيادة في الإيمان والأعمال الصالحة.
أيها الإخوة المؤمنون -عباد الله-: فالفكر إذن هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها, وهذا هو الذي يكشف لك فضيلة التفكر, وأنه خير من الذكر والتذكر؛ لأن الفكر ذكر وزيادة, وذكر القلب خير من عمل الجوارح بل شرف العمل لما فيه من الذكر.
فإذن: التفكر من أفضل الأعمال القلبية, ولذلك قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: (تفكر ساعة خير من عبادة سنة).
نسأل الله أن يغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وأن ينصرنا على القوم الكافرين..
الخطبة الثانية:
نسأل الله ربنا أن يبلغ بنا من الحمد ما هو أهله, وأن يعلمنا من البيان ما يقصر عنه مزية الفضل وأصله, وحكمة الخطاب وفضله, ونرغب إليه أن يوفقنا للصلاة على نبينا محمد رسوله, وعلى آله وصحبه الذي منهم من سبق وبدر، ومنهم من صابر وصبر، ومنهم من آوى ونصر.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار...
إني رأيت عواقب الدنيا ... *** ... فتركت ما أهوى لما أخشى
فكرت في الدنيا وعالمها ... *** ... فإذا جميع أمورها تفنى(/2)
وبلوت أكثر أهلها فإذا ... *** ... كل امرئٍ في شأنه يسعى
أسنى منازلها وأرفعها ... *** ... في العز أقربها من المهوى
تعفو مساويها محاسنها ... *** ... لا فرق بين النعي والبشرى
إني مررت على القبور فما ... *** ... ميزت بين العبد والمولى
أتراك تدري كم رأيت من ... *** ... الأحياء ثم رأيتهم موتى
أيها المؤمنون- عباد الله-: لعلنا في هذه اللحظات نتناول بعض فوائد التفكر في هذا الكون, وما بسط الله فيه من الآيات التي تهدينا إلى معرفة تلك الفوائد, ومنها:
أولاً: أن التفكر طريق موصل إلى رضوان الله ومحبته ومعرفته, ولا أدل على ذلك من الأعرابي الذي نظر في الكون, فهداه الله إلى معرفته، وذلك عندما قال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج! أفلا يدل على العليم الخبير؟!
ومن الفوائد كذلك: أنه يؤدي إلى انشراح الصدر وطمأنينة القلب وسكينته، وكذلك يورث الخوف والخشية من الله -عز وجل-.
وكذلك التفكر يورث الحكمة، ويحي القلوب بنور الإيمان الذي يصل إليه الإنسان من خلال التفكر.
ومن الفوائد كذلك -عباد الله-: كثرة الاعتبار والاتعاظ من سير السابقين، وقد قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ} (21) سورة الزمر، أي أولي العقول التي تتجول في الكون. ومن الفوائد العظيمة للتفكر: أن للتفكر قيمة عقلية كبرى تؤدي إلى يقظة الأفراد ونهضة الشعوب, ولذا لا يمكن لأي أمة تريد أن تنهض لن تنهض حتى تفكر في ماضيها وفي الأمم المتطورة من حولها.
أيها الناس: صلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه, وثنى فيه بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم -أيها المؤمنون- من جنه وإنسه, فقال -عز من قائل-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56) سورة الأحزاب. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين, وانصر الإسلام والمسلمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، إن الله يعلم ما تصنعون.
والحمد لله رب العالمين،،،
---
1 - إحياء علوم الدين: محمد بن محمد الغزالي أبو حامد: دار المعرفة – بيروت: 4/ 423.
2 - الفوائد: محمد ابن أبي بكر ابن أيوب ابن القيم الزرعي أبو عبد الله: دار الكتب العلمية – بيروت -ـ الطبعة الثانية، 1393 هـ – 1973م: ص 198.
3 - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان: محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي: مؤسسة الرسالة – بيروت: الطبعة الثانية، 1414 – 1993: تحقيق: شعيب الأرنؤوط 2/386، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (68).
4 - إحياء علوم الدين: ( 4/424).
5 - إحياء علوم الدين، بتصرف: ( 4/423).
6 - إحياء علوم الدين (4/425).(/3)
التقدم والرجعية
(1)
بقلم الدكتور تقي الدين الهلالي
محاضرة ألقاها فضيلة الدكتور على طلبة الجامعة الإسلامية
هاتان الكلمتان لم تكن تستعملهما العرب بهذا المعنى الذي يقصده بهما كتاب العصر الحاضر لأنهما مما ترجمه المترجمون باللغة العربية ناقلين له من اللغات الأوروبية فتلقاه كتاب العربية واستعملوه في كلامهم وكتبهم.
والرجعية نسبة إلى الرجع وهو مصدر رجع يرجع رجعا أي عاد إلى مكانه الذي كان فيه أو إلى حال كان فيها وفعله بهذا المعنى اللازم.
قال ابن منظور في لسان العرب: "ومصدره لازما الرجوع ومصدره واقعا الرجع يقال رجعته رجعا فرجع رجوعا". اهـ.
والرجعية عند المعاصرين صفة الرجعي الذي يرجع في أفكاره وعقائده إلى الزمان الماضي وهو زمن الانحطاط والظلم والجهل والاستئثار والإصرار على الخرافات والأوهام التي انقشع الظلام فيها عن بصائر المتقدمين والمتمدنين السائرين حثيثا في ركب الحضارة الطالبين للحقيقة ولا يمنعهم منها مانع من العقيدة أو عادة يتعصب الرجعيون لها فهم - أعني المتقدمين - دائما في طليعة هذا الركب أغنياء أقوياء سعداء علماء سائرون إلى الأمام متعاونون مع الشعوب التقدمية ينظرون إلى آبائهم وأسلافهم نظرة ازدراء أو رحمة وشفقة ويسخرون منهم كلما ذكروا أحوالهم.
بداية عصر النهضة والتقدم عند الأوروبيين وكيف كانت الحالة قبل ذلك:
ينبغي أن نذكر هنا كيف كانت الحال قبل النهضة ليعرف فضلها, ويتبين لكل ذي عينين الفرق الشاسع بين التقدميين والرجعيين الذين يصرون على تقديس العصور المظلمة على حد تعبير خصومهم .
قال جوزيف مكيب في كتابه ( مدنية العرب في الأندلس ) وقد ترجمته وعلقت عليه وطبع في بغداد سنة 1369 هـ 1950 م وسبب ترجمتي له أني كنت في غرناطة أثناء الحرب العالمية الأخيرة لأن الفرنسين نفوني من الأراضي التي كانت تحت أيديهم وهي القسم الأكبر, والقسم الذي كان بيد الأسبانيين كان ممتدا على شاطئ البحر الأبيض لا يزيد عرضه على (50ميلا) وكنت ولا أزال مصابا بداء الربو أحتاج إلى البعد عن البحر.
وكان الطلبة المغاربة الذين يدرسون في جامعة غرناطة ملتفين حولي, مترددين على زيارتي وكان الأساتذة الإسبانيون الذين يعلمونهم لا ذمة لهم ولا أمانة وذلك شأن أكثر الأساتذة في البلاد التي تنعدم فيها الحرية ويسود فيها الاستبداد, فكانوا يفترون على التاريخ ويزعمون أن المسلمين الفاتحين للأندلس من الشرقيين والمغربيين كانوا سيئ الأخلاق جهالا عتاة وكان حكمهم جائرا قاسيا, فمحوا كل خلق كريم من الشعب الإسباني وعلموه مساوئ الأخلاق فكل خلق سيء مرذول يوجد في الشعب الإسباني هو من آثار الحكام المسلمين, وكنت قد اطلعت على كتابين ألفهما في تاريخ المسلمين في إسبانيا المؤلف الإنكليزي الشهير الذائع الصيب (جوزيف مكيب ) أحدهما كبير والآخر صغير فعمدت إلى الصغير فترجمته بالعربية ليكون سلاحا بيد الطلبة المغاربة وغيرهم من المسلمين يواجهون به كل عدو جاحد مكابر .
وهذا المؤلف عدو للأديان كلها وقد ذكرت له ترجمة واسعة في أول الكتاب إلا أن طعنه في الإسلام أقل وأخف من طعنه في النصرانية, لأن علماء شعبه الذين يرد عليهم من الإنكليزيين وسائر الأوروبيين كلهم نصارى وقد أستثقل تفاحش قوله وشتائمه للنصارى ولكني أضطر إلى نقلها إذا كانت ممزوجة مع اعترافه بفضل المسلمين وسبب هذا الاستثقال حب الإقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن طعانا ولا لعانا ولا فاحشا ولا متفحشا ولما طبع هذا الكتاب ووصلت نسخ منه إلى تطوان في زمن الاستعمار الإسباني صادر الحكام الإسبانيون تلك النسخ وزجوا بالكتبي الذي كان يبيعها في السجن وليس ذلك بعيدا من أخلاقهم وقد حبسوني أنا بنفسي قبل أن ينشر الكتاب وقبل أن يعلموا بوجوده وكان ذلك تهورا منهم وطغيانا لوساوس كان شيطانهم يوسوس لهم بها ولمقالات كنت بعثتها في البريد الإنكليزي بتطوان إلى الأستاذ المجاهد الشهيد الشيخ حسن البنا رحمة الله عليه فقد اطلعوا عليها بواسطة بعض الموظفين المغاربة في البريد الإنكليزي ثم أنقذني الله منهم وأنقذ ذلك الجزء من المغرب من حكمهم ونسأله سبحانه أن ينقذ الباقي وهو(سبتة, ومليلية ووادي الذهب والصحراء المغربية والساقية الحمراء) ويوفق المغاربة لغسل هذا العار إنه على كل شيء قدير .
قال جوزيف مكيب في كتابه مدنية العرب في الأندلس :
الفصل الأول
لقد أطلقت لفظ العصور المظلمة كسائر المؤرخين في (تويليفي) هذا على أكثر عصور الممالك النصرانية انحطاطا على العموم وخصوصا القرن العاشر المسيحي تنصرت الممالك الأوروبية قبل ذلك بخمس قرون أو ستة قرون تقريبا مضت من يوم تغلب البوابي - جمع بابا - والأساقفة على إرادة الملوك وحثوهم على إبادة كل مصدر من مصادر الإلهام يخالفهم فأغلقوا المدارس والمعاهد وقضوا على العلم والأدب.(/1)
وإذا استثنينا بعض المواضع في أوروبا كالبندقية إذ كان فيها بقية تافهة إصطلاحية من علم اليونانيين تخفف من شرهم وهمجيتهم فإن أوروبا كلها كانت في تباب وخراب اقتصاديا واجتماعيا وعقليا وكان ذلك العهد أشد سواد وظلمة وانحطاطا من سائر العصور البابوية وفي ذلك الزمان أطلق الأساقفة والقسيسون والرهبان والراهبات الأعنة في الدعارة والشهوات البهيمية ولم يكونوا في ذلك الزمان يستترون حتى بجلباب النفاق ولو أن غنيا مليونيا من أهل هذا العصر كان في ذلك الزمان لقدر أن يشتري مملكة بأسرها وكان تسعة وتسعون في المائة خدما يعاملون بأقسى ما يعامل به العبيد ولم يكن ولا واحد في المائة من الرجال ولا واحد في الألف من النساء تقدر على القراءة وكان الضعيف مضطهدا مقهورا مسحوقا تحت الأقدام مغموسا في الطين والدم بل حتى القوي كان مهددا بالأوبئة الوافدة والسيوف اللامعة على الدوام والنجوم ذوات الأذناب في السماء وجنود العفاريت الهائلة في الهواء كذلك إن أردت أن تعرف أفكار النصرانية الاجتماعية فادرس القرن العاشر فلا زخارف أقوال الواعظين ولا كذب المعتذرين ولا الإذعان السياسي من المؤرخين يقدر أن يخفي عن ذوي الألباب عظم تبعة الكنيسة ولا سيما البابوية في ذلك الزمان الذي بلغ فيه الانحطاط إلى دركة لا نظير لها وإنه لفصل من أشد فصول البشرية شقاء وحزنا من الفصول التي استشهدت فيها الإنسانية وأنه لأفضع فصول من فصول غضب الله. حقا لقد حطم "بولوس" من ناحية و"أوكستين" من ناحية أخرى مدنية الإنسان فهل هذا الذي سمياه - بعيدين عن اتباع الهوى - (مدينة الله).
يقصد المؤلف بهذا الكلام رجلين على يديهما انتشرت النصرانية المحرفة التي يعزو إليها المؤلف كل ما أصاب الناس من الشقاء وينبغي أن أذكر للمستمعين الكرام ترجمتي هذين الرجلين باختصار:
أما "بولوس" ويسميه الأوروبيون (بول الرسول) وتعده الكنيسة من الرسل الإثني عشر من أصحاب عيسى عليه السلام وكان "بولس" يهوديا يونانيا ولد في "طرسوس" ولا يعرف بالتحقيق تاريخ ولادته وقد خمن المؤرخون أن يكون قد ولد سنة عشر للميلاد وكان عالما بعلوم اليهود واليونان وكان يعد من فقهاء اليهود وكان شديد العداوة لكل من آمن بالمسيح محرضا على قتلهم ولما كان في نحو الثلاثين من عمره ادعى أنه رأى رؤيا تدل على أن النصرانية حق فصار نصرانيا متعصبا وبعد ما قضى "بولوس" بقية عمره أي خمسا وثلاثين سنة في حل وترحال مطوفا في أقطار آسيا الصغرى وأوروبا في البر والبحر يدعو الناس إلى النصرانية ويخبرهم بأن الله أمره بذلك ويبني الكنائس ويؤسس الجماعات ويركب الأخطار وأعداؤه من اليهود الحاقدين عليه والنصارى الحاسدين له ينصبون له الشباك ويكيدون له المكائد وقد سجن مرارا وقتل في رومية سنة 65بتاريخ النصارى وله مؤلفات كثيرة معروفة مقدسة عند النصارى .(/2)
وأما "أوكستين" ويسمى باللاتينية (أغسطونيوس) فقد ولد في "تاغستة" وهي بليدة من توميديا في إفريقيا غير بعيدة عن قرطجنة وهي في هذه الأيام من أعمال تونس في 13من تشرين الثاني سنة 354وتوفي في 18 آب سنة 430 بتاريخ النصارى وكان أبوه وثنيا وأمه نصرانية متعصبة وكان في أول أمره بعيد على التدين والصلاح ثم اشتغل بدراسة الفلسفة ولما بلغ من عمره 29 سنة انتقل إلى إيطاليا فاجتمع بالعلماء ثم دخل في النصرانية بإلحاح من أمه وألف كتاب سماه (الاعترافات) ذكر فيه سيرته قبل التدين بالنصرانية وبعده ثم رجع إلى بلده "تاغستة" ثم أخذ يعظ في الكنيسة إلى أن صار أسقفا وبقي فيها 35 سنة وألف تآليف كثيرة في الديانة النصرانية منها تفسير الزبور ومنها حواش على الأناجيل الأربعة وله كتابان آخران أحدهما كتاب (الاعترافات) وقد تقدم ذكره والثاني (مدينة الله) وإليه أشار "جوزيف مكيب" الذي ترجمت كتابه وسميته "مدنية العرب في الأندلس" ومقصوده بهذا الكتاب الرد على الوثانيين الذين يعبدون الأوثان والأصنام ودعوتهم إلى الدخول في مدينة الله بإيمانهم بدين النصارى الذي يقصر العبادة على ثلاث أقانيم فقط أولها الأب وثانيها الإبن وهو عيسى عليه السلام وثالثها روح القدس وهو قد يظهر في بعض الأحيان على شكل حمامة أو غيرها يقول كاتب هذه المحاضرة وليت شعري ما الفرق بين عبادة الأوثان والأصنام وبين عبادة الأقانيم الثلاثة؟ صدق الله العظيم {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}سورة المائدة.
ثم قال "جوزيف مكيب" في وصف انحطاط الأوروبيين قبل فتح المسلمين الأندلس وبعده بزمن طويل:(/3)
"اعلم أن أمهات المدن الأوروبية لم توجد فيها قنوات لصرف المياه القذرة حتى بعد مضي ستمائة سنة من ذلك التاريخ أي من سنة 756-1356م فكانت المياه المنتنة النجسة تجري في طول شوارع باريس ولندن ويضاف إلى ذلك أنها لم تكن مبلطة أو تجتمع فيتكون منها برك حتى بعدما علمت النهضة في أوروبا عملها قرونا طوالا أما في مدن المور فكانت الشوارع مبلطة منورة قد سويت فيها مجاري المياه أحسن تسوية في أواسط القرن العاشر قال "سكوت": بعض القنوات التي كانت تحت الشوارع لصرف المياه القذرة في "بلنسية" تقدر أن تكتسح سيارة وأصغر قناة منهن تقدر أن تكتسح حمار وكانت الشوارع مجهزة أحسن تجهيز بالشرطة وهذا النظام الصحي السامي كانت تعضده النظافة العامة التي يراها الأمريكيون في هذه العصور شيئا واجبا ولكنها في ذلك الزمن كانت في نظر الأوروبيين أعجوبة من أعاجيب الرقي التام فكان في قرطبة وحدها تسعمائة حمام عام وكانت الحمامات الخاصة كثيرة في كل مكان أما في بقية بلاد أوروبا فلم يكن فيها ولا حمام واحد وكان أشراف أوروبا ورؤساء الإقطاع منهمكين في الرذائل إلى حد يحجم الإنسان عن وصفه ولم يكن لبس الكتان معروفا في أوروبا حتى أخذت (موضة) - أي طراز - لبس الكتان النظيف من المحمديين ولم تكن الزاربي أيضا تصنع هناك وكان الحشيش يغطي قصور الأمراء ومصطبات الخطابة في المدارس وكان الناس والكلاب ينجسون المحلات إلى حد يعجز عنه الوصف ولم يكن لأحد منهم منديل في جيبه وفي ذلك الوقت لم تكن الحدائق تخطر ببال أحد من أهل الممالك النصرانية ولكن في إسبانيا العربية كان الناس من جميع الطبقات يبذلون الجهود والأموال في تجميل حدائقهم العطرة البهية وكانت الفسقيات تترقرق مياهها صعودا في صحون الدور والقصور والأماكن العامة ولا يزال في صحن الجامع الكبير في قرطبة حوضان كبيران جميلان من مرمر يزينان ذلك الصحن حيث كان كل مصلي يتوضأ قبل أن يدخل إلى المسجد ووصفهما "سكوت" في هذا الزمان فقال هذان الحوضان اللذان كانا من قبل متوضأ للمسلمين الغيورين من جميع الآفاق والآن يمدان بالماء سكان قرطبة النصارى ذوي المناظر القذرة والأخلاق السبعية والجهل العظيم بمزايا الشعب الطاهر العاقل المهذب الذي تنتمي إليه الذكريات الفاخرة من الفن والصناعة هذان الحوضان يشهدان شهادة مرضية بأن لا دوام للمدنية العليا وأن الإنسان دائما يميل بطبعه إلى التقهقر والرجوع إلى أحوال الهمجية ويشهدان بما لسلطة القسيسين من المقدرة على فعل الشر وأن سياستهم التي لن تجد لها تبديلا أسست على قاعدة احتقار مواهب عبيدهم العقلية وهذه العدد التي أعدها الخلفاء بفرط ذكائهم ظهر أثرها في زيادة خارقة للعادة في السكان على حين كانت جميع بلاد أوروبا لا يتضاعف سكانها إلا بعد مضي أربعة أو خمسة قرون ولم تنحصر عنايتهم الأبوية في حفظ الصحة والحياة فقط فمع كثرة النفوس المفرطة كانوا لا يرون أحد يصاب بمصيبة إلا نفسوا عنه الكرب وواسوه وهذا فيما لم يمكن اتقاؤه منها.
وكان يساعدهم على اتقاء النكبات اتخاذهم نظاما حسنا في استخدام البطالين في إصلاح الطرق والأشغال العامة وكان "عبد الرحمن الثاني" قد أعلن أن كل من يريد العمل يمنحه ودوائر العدل التي خلفتها محاكم التفتيش وغرف التعذيب كما أثبته المحققون كانت منزهة عن كل ريبة أو فساد وكانت المعارف والتعليم أحسن مما كانت فيه ممالك الروم ولم يكن يضاهيها إلا ما بلغه اليونانيون من المعارف العلية في أرقى أيامهم والخلفاء أنفسهم شيدوا المشافي (جمع مستشفى ) ودور الأيتام كما كان يفعل ملوك اليونانيين ومنذ زال ملكهم زالت هذه المؤسسات في أوروبا وكان الأعيان والتجار لا يألون جهدا ما اقتفوا آثار الخلفاء في العمل بهدي القرآن في مثل هذه الخيرات وكان الخلفاء أنفسهم يعودون المرضى ويبحثون عن المكروبين لينفسوا كربهم والنساء اللائي كن نزلنا إلى دركة الخدم في بلاد أوروبا لكراهية القسيسين للزواج وإيثارهم العزوبة كن على خلاف ذلك عند المور مكرمات مالكات حريتهن والكرم إن لم نقل البذخ والسرف اللذان حلا محل التقشف والتعصب في دمشق انتقلا إلى الأندلس فكانا كافيين لحفظ مركز المرأة والعشرة الخشنة التي يعشر بها المسلمون المرأة كما هو مشهور عندنا لم توجد في الأندلس والنساء في القصر الملكي بقرطبة كن يساعدن الخلفاء في تدبير الأمور وكان طلب العلم مباحا لهن بكل حرية وكثير منهن كان لهن ولع شديد بالعلوم الرائجة في ذلك الزمن من فلك وفلسفة وطب وغيرها وكانت النساء يتبرقعن في خارج بيوتهن ولكنهن كن مكرمات وفي منازلهن كن مشرفات ومحترمات ولا حاجة إلى أن أتكلم في ظرف المور ولطفهم وشهامتهم لأنهم هم الذين طبعوا الشعب الإسباني طبعا لا يمحى أبدا على الاحترام الشخصي واللطف الذي لا يزال من خواصه المستميلة حتى في الصناع والفلاحين وهناك مزية أخرى يمتاز بها المور وهي التسامح الديني.(/4)
في أول الأمر كان هناك بلا شك شهداء يعني مقتولين لمخالفتهم الدين ولكن لا مناسبة بين ذلك وبين المذبحة التي عملها الإسبانيون أخيرا في ذرية المور .
وأما بعد استقلال المملكة العربية في الأندلس فإذا استثنينا معاملتهم لطوائف الثوار من النصارى كأهل طليطلة الذين كانوا على الدوام ينتظرون الخلاص من ناحية الشمال فقد كان أهل الأديان جميعا يعاملون بالحسنى وكانت على اليهود والنصارى فريضة مالية قليلة تخصم وكانوا يتمتعون بحماية حقوقهم فكثر عددهم وعظم بذلك الخرج الذي يؤخذ منهم.
وقد رخصوا لنصارى طليطلة في المحافظة على كنائسهم الكبرى ورخص لهم أن يبنوا عددا كثيرا من الكنائس وكانت لهم في طليطلة ست كنائس وكانوا مستمسكين بالعلاقات الودية مع جيرانهم حتى أثار فيهم القسيسون الضغينة الدينية وأما ما يخص اليهود الذين كانوا يتمتعون بعصرهم الذهبي حينئذ وارتقوا إلى أعلى درجة في العلوم ونالوا أعلى المناصب في دولة مور فسأتكلم عليه في فصل آخر.
وهذه النبذة المجملة في ذكر مدينة المور ستزداد وضوحا وتفصيلا عند الكلام على وصف حياة قرطبة وغرناطة ولا بد أن القارئ علم مما ذكرناه آنفا تفوق المدنية التي يزعمون أنها وثنية تفوقا خارقا للعادة ولا بد رأى أثرها في أوروبا المتوحشة وهذا صحيح لا يمتري فيه أحد من المؤرخين.
والمؤرخون لا يقابلون بين المور والنصارى لأنهم لو فعلوا ذلك لكانوا كالذي يقيس أهل "بوستون" - مدينة في إمريكا - بقبائل "إسكيمو" وذلك عجب عجيب.
قال "ستنلي لين بول" في شأن النصارى الذين فتحوا شمال إسبانيا كانت غزوات النصارى لعنة عظيمة على من يكون لهم فريسة وكانوا خشنا جاهلين أميين لا يقدر على القراءة إلا قليل منهم جدا ولم يكن لهم من الأخلاق إلا مثل ما لهم من المعارف يعني لم يكن لهم منها شيء وأما تعصبهم وقسوتهم فهو ما يمكن نتوقعه من الهمج البرابرة" ا-هـ.
ونكتفي بهذا القدر من صفة حال أهل أوروبا قبل فتح المسلمين لجنوب بلادهم وإقامة مدنية عظيمة أدهشت العالم وفتحت لأهله بابا ليخرجوا من ظلمات الهمجية والجهل إلى نور المدنية والعلم وقد اقتبس الأوروبيون من المسلمين الفاتحين المعلمين المهذبين قبسة من علومهم وآدابهم وكانت أساسا لنهضتهم ولا شك أن العلم والمدنية اللذين سبق إليهما المسلمون في الحجاز أولا حيث نزل القرآن وأشرق نور الإسلام ثم في دمشق والأندلس وبغداد ثانيا هما أعظم تقدم شهده العالم قبل نهضة الأوروبيين فالمسلمون أئمة العلم والحضارة والأخلاق لو تركوا ذلك التقدم ورجعوا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام لكانوا رجعيين مذمومين منتكسين خاسرين وكذلك الأوروبيون لو رجعوا من نهضتهم وتقدمهم إلى ما كانوا عليه في زمن نهضة المسلمين لكانوا رجعيين أشقياء مخذولين خاسرين ولكن الأوروبيين استمروا في نهضتهم من الوجهة المادية وقلت عنايتهم بالوجه الخلقية وقد بلغوا اليوم أوج المدنية والسعادة المادية ولا يزالون دائبين في طلب الكمال وإذا التفتوا إلى الوراء وشهدوا ما كانوا فيه من الجهل والظلمة اغتبطوا واستعاذوا بالله من ذلك العهد ولهم الحق في ذلك ولو أراد بعضهم الرجوع إلى تلك العصور المظلمة كما يسمونها هم أنفسهم لحكم عليه عقلاؤهم بالجنون وسفهوا رأيه واحتقروه وهو بذلك جدير أما المسلمون ومنهم العرب فإن معظمهم مسلمون وغير المسلمين منهم قليلون والحكم للغالب فقد أخذت علومهم ومدنيتهم في الجزر بعد ذلك المد العظيم منذ مئات السنين ولم يزالوا يرجعون إلى الوراء وينحطون من عليائهم حتى بلغوا أسفل سافلين وكانوا بالنسبة للأوروبيين كدلوين اختلفا صعودا وهبوطا فكلما تقدم الأوروبيون في العلم والمدنية اللذين اقتبسوها من المسلمين ازداد المسلمون توغلا وهبوطا في الجهل والتأخر اللذين اقتبسوهما من الأوروبيين ولا شك أن استمرارهم في هذه الحال لا يزيدهم إلا خبالا فماذا ينبغي لهم أن يعلموا لاستعادة علمهم ونورهم ومجدهم؟ أيعودون إلى جهاليتهم الأولى يطلبون منها الخلاص ولا خلاص فيها؟ أم يعودون إلى جاهلية الأوربيين؟.
قال قائل لا هذا ولا هذا ولكن يقتبسون من الأوروبيين مدنيتهم الحاضرة ويعتبرون أنفسهم كأنهم خلقوا خلقا جديدا ويقطعون النظر عن الماضي خيره وشره قلنا لهم هذا تقليد ومحاكاة لا ثمرة لهما أبدا ولابد لكل بناء من أساس ولو أرادوا أن يفعلوا ذلك ما استطاعوا إليه سبيلا فإن الأوروبيين حين اقتبسوا العلم والمدنية من المسلمين لم ينسلخوا من تاريخهم وعاداتهم وعقائدهم ولو فعلوا ذلك لصاروا مسلمين وإنما أخذوا من أساتذتهم المسلمين ما كانوا في حاجة إليه حسبما بدا لهم ولم يتركوا شخصيتهم ولا جنسيتهم وبذلك بلغوا من الرقي ما هم فيه إلا أنهم أغفلوا جانبا من علوم الإسلام وهو ما يتعلق بالنفس وتزكيتها والصعود بها من دركات المادة الصماء إلى أوج السعادة الروحية.(/5)
وهذا الجانب الذي أغفلوه هو الذي سبب لهم ما هم فيه اليوم من الشقاء بالتخاصم والتنازع والتحاسد والتحارب وسعى كل فريق منهم إلى الاستئثار بأطايب الحياة وشهواتها وملذاتها وحرمان من سواهم من البشر وإذا كان آباؤنا قد سبقوا إلى العلم والنور والمدنية والأخلاق الفاضلة ورجعنا حن إلى اقتفاء آثارهم وإحياء علومهم لم نكن راجعين وإنما نحن متقدمون أحسن التقدم إلا إذا قلنا إن العلوم المدنية والحضارة قد وقفت في الحد الذي وصل إليه أسلافنا فيجب أن نقف عندما وصلوا إليه ولا نقتبس شيئا جديدا نافعا أبدا وحينئذ نكون جامدين ولا نستحق الحياة فبعض الكتاب من المسلمين المتهورين الذين لا يَزِنُونَ أفكارهم بل يهرفون بما لا يعرفون إذا سمعوا الأوروبيين يستنكرون عصورهم المظلمة ويسمونها رجعية ويستعذون بالله منها يقلدونهم في أقوالهم كالببغاءات ويحاكونهم في أفعالهم كالقردة ولا يعلمون الفرق بين ماضينا وماضيهم فإن ماضيهم كما قال علماؤهم ظلمات مدلهمة لا نور فيها أما نحن فبالعكس ماضينا علم ونور وحضارة مزدهرة وقوة وعز وسعادة فرجوعنا إليه هو عين التقدم ولا يتنافى ذلك مع اقتباس ما جد من العلوم والأعمال النافعة.
والحكمة ضالة المؤمن أما حاضرنا فهو كماضيهم ظلمات بعضها فوق بعض ولنا مثال آخر مع فرق سننبه عليه وهو الشعب الياباني فإنه اقتبس الحضارة الأوروبية وبلغ فيها شأوى يفوق أساتذته أو فاقهم مع المحافظة على مقوماته ومعنوياته ولا يتنازل عن شيء منها فماذا نقول في هذا الشعب أهو تقدمي أم رجعي؟ لا يستطيع أحد أن يقول هو رجعي فإنه في طليعة الشعوب المتقدمة وقد أصيب بهزيمة عظيمة في الحرب العالمية الأخيرة فلم تقضي عليه ولم توقف تقدمه ولا يزال هذا الشعب يقدس ملكه ويعتقد أنه ابن الشمس ويقوم بخدمته بطقوس لا تعقل ولم يضره ذلك ولا نقص تقدمه لأنه لا يخطو خطوة في طلب التقدم إلا بعقل ووعي ولا يحب التقليد أبدا.
لما كنت مقيما في برلين كنت أتردد على مطعم صيني أحيانا وكنت أراه مع اختلاف أطعمته عن المطاعم الجرمانية يشابهها في التأنق والزخرفة ويؤمه دائما الأغنياء من الأوروبيين الذين عاشوا مدة في الشرق وألفوا أطعمته بنسائهم وبناتهم وأولادهم وكثير منهم كانوا يأكلون الرز بالعيدان كعادة الصينيين إلا أنهم يشربون الحساء بدون صوت سواء منهم الشرقيون والغربيون كعادة الأوروبيين فإنهم يستنكرون الشرب بصوت وكان في ذلك الوقت في برلين ثلاثة مطاعم صينية وسمعت بمطعم ياباني فذهبت إليه لأوازن بينه وبين المطاعم الصينية فلم أر فيه شيئا من التأنق وكان صغيرا رأيت فيه نحو خمسة وعشرين آكلا كلهم رجال يابانيون ولا يوجد فيه إلا امرأتان اثنتان عجوز في المطبخ وأخرى توزع الطعام والذي استرعى نظري فيه وتعجبت منه هو شرب الحساء بأصوات منكرة تتجاوب أصداؤها فقلت في نفسي هؤلاء اليابانيون كلهم يقيمون في بلاد الجرمانية ويعرفون عادات الجرمانيين حق المعرفة وأنهم يستقبحون الشرب بصوت فقد رغبوا عن عاداتهم وتباروا في الشرب بأصوات عالية فما مقصودهم بذلك؟ أظن أن مقصودهم بذلك الاعتزاز بعادتهم مهما كانت لأنهم لم يسافروا إلى أوروبا بقصد تعلم آداب الأكل وأدب الشرب وأدب الرقص وأدب الغناء وما أشبه ذلك لأنهم يرون آدابهم أكمل الآداب ولا يبغون بها بديلا ولكنهم جاءوا لأغراض لا يمكن أن تحصل في بلادهم وفي ذلك عبرة للمقلدين.
هذا اليابانيون وثنيون يعبدون غير الله وهو نقص كبير في معنوياتهم وإهمال لتزكية أنفسهم وتوجيهها لما خلقت له ولما يرفعها ويسمو بها إلى الملأ الأعلى ويبلغ بها أعلى مراتب الكمال الإنساني ولكنهم لما تجنبوا التقليد في اقتباسهم علوم الأوروبيين وأخذوا منهم العلم على بصيرة واستقلال وبعقل وروية كما فعل الأوروبيون مع المسلمين أدركوا الثمرة نفسها التي أدركها الأوروبيين وهي السعادة المادية المنغصة بسبب إهمال النفس ولو أن اليابانيين هموا بالرجوع إلى ما كانوا عليه قبل مائة عام لكانوا سفهاء رجعيين ولزيادة الإيضاح أقول كيف كان العرب وسائر الشعوب التي أسلمت وحسن إسلامها قبل الإسلام وكيف صاروا بعد الإسلام؟.(/6)
الجواب أنهم كانوا قبل الإسلام من الوجهة الخلقية في أسفل الدركات يقتلون أولادهم من الفقر أو خوف الفقر والمراد من قتلهم من الفقر أن يكونوا فقراء فيقتلون من يولد لهم لعجزهم عن إعاشته بالتغذية وسائر ما يحتاج إليه والمراد بقتلهم خوف الإملاق أن يقتلوا الولد مخافة أن تفضي بهم حياته إلى الفقر في المستقبل ولذلك جاء في القرآن الكريم في سورة الأنعام151 {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} وفي سورة الإسراء 31 {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} وكانوا يئدون بناتهم أي يدفنونهم حيات وكانوا يعبدون التماثيل من الحجارة كما يعبدها كثير من البشر في هذا الزمان وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله وكانوا يستقسمون بالأزلام يضعون عيدانا في كيس قد كتب على بعضها أمرني ربي أن أفعل وعلى بعضها نهاني ربي أن أفعل وبعضها غفل لا كتابة عليه فيدخل الواحد منهم يده فإذا صادفت العود الذي فيه الأمر أقدم على عمله وإذا صادفت العود الذي فيه النهي أحجم عن عمله وإذا صادفت العود المهمل أعاد الاستقسام وكانوا يتيمنون ويتشاءمون بالطير يزجرون الطائر فإن طار إلى اليمين استبشروا وإن طار إلى الشمال تطيروا وخافوا.
وكانوا يخافون من الجن ويعوذون برؤسائهم أي يطلبوا الحماية منهم وكانوا يأكلون الميتة والدم ولا يورثون امرأة ولا صبيا بل كانوا يرثون النساء أنفسهن باعتبارهن أموالا وكان بعضهم يقتل بعضا على أتفه الأمور ويضيعون أموالهم في القمار والمنافرة وهي أن يتنافر اثنان للتفاخر فيعقر هذا بعيرا من إبله وينحر ويعقر الآخر مثله حتى تفنى إبل كل منهما وكانوا أشتاتا كل قبيلة لوحدها لا كلمة تجمعهم ولا عقيدة ولا دين ولا شريعة وكانوا أذلاء سكان القسم الشرقي تحت حكم الفرس وسكان القسم الغربي تحت حكم اليونان وسكان وسط الجزيرة كانوا فوضى ولم يحفظ التاريخ لوسط الجزيرة وغربها وشرقها حضارة تذكر أما أهل الجنوب فقد كانت لهم حضارة قضى عليها جيرانهم من الحبشة وأهل فارس فكيف صارت حالهم بعد الإسلام؟.
كل أهل العلم يعلمون أنهم صاروا أسعد الناس صاروا أئمة أهل الدنيا في الدين والدنيا وصاروا حكام العلم وقد رأيتم في هذا المقال شهادة العلماء الأوروبيين المنصفين لطائفة منهم وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى إقامة دليل فهل الاعتزاز بهذا المجد والبناء عليه والتمسك به يعد رجعية؟ إن كان الأمر كذلك عند هؤلاء السفهاء فحيا الله الرجعية وحي عليها وأهلا وسهلا بها ألا ساء ما يحكمون.
ويقال لهؤلاء التقدميين المخدوعين أين تذهبون؟ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا فقرا وذلة وشتاتا وجهلا وحزنا وشقاء فإن لكم ما سألتم وستضرب عليكم الذلة والمسكنة وتبوءون بغضب من الله زيادة على ما أنتم عليه ذلكم بأنكم تقتلون المصلين في المساجد وتشردون علماء الإسلام المصلحين فريقا حبستم وفريقا تقتلون والله عزيز ذو انتقام.
وما ظالم إلا سيبلى بأظلم
... وما من يد إلا يد الله فوقها
الرجعية والتقدم في نظر الإسلام:
تقدم أن العقل الصحيح يرى التقدم في العلم والعدل وسائر الأخلاق الكريمة فكل أمة اتصفت بالعلم والأخلاق فهي متقدمة وإن كان قبل مليون سنة وكل أمة اتصفت بالجهل ومساوئ الأخلاق فهي متأخرة ساقطة مذمومة ملعونة وإن كانت ستجيء بعد خمسمائة سنة والإسلام دين العقل يوافق هذا ولا يخالفه أبدا فلا عبرة بالزمان ولا بالمكان قال الله تعالى في سورة النساء {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً}.
قال الحافظ بن كثير: روى العوفي عن ابن عباس أنه قال: في هذه الآية تخاصم أهل الأديان فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام لا دين إلا الإسلام وكتابنا ينسخ كل كتاب ونبينا خاتم النبيين وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا، فقضى الله بينهم وقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} وخير بين الأديان فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِن} إلى قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}.(/7)
وقد تبين لك أن الإسلام الصحيح الذي لم تخالطه العصبية والعقائد الخرافية يبني التقدم كله - روحيا كان أم ماديا - على أساس العمل النافع والاعتقاد الصحيح وإذا سمعت القرآن يقول: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً}ويقول: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}.
ومثل ذلك فيه كثير فإنه لا يريد البتة أن تكون أمة متمسكة بالإسلام شقية في هذه الدنيا محرومة من جميع حقوقها مدوسة تحت الأقدام مخذولة في جميع تصرفاتها مهزومة في جميع حروبها مكبلة مخذولة خاضعة ذليلة تتكفف غيرها من الأمم طول حياتها ثم هي في الدار الآخرة سعيدة عالية الدرجة عند الله وافرة الحظ في دار الكرامة تدخل الجنة وتسعد برضوان الله فإن ذلك وهم وخيال قال تعالى في سورة الإسراء: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} قال القاسمي في تفسيره:
"ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن الإهتداء إلى الحق فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة وأضل سبيله في الدنيا لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسبابا يمكنه الإهتداء بها وهو في مكان الكسب باقي الاستعداد ولم يبق هناك شيء من ذلك. قيل الأعمى حقيقة فيمن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته ومجاز في أعمى البصيرة وهو عدم الإهتداء إلى طريق النجاة وقيل حقيقة فيهما فالأمة العمياء التي لا تبصر طريق النجاة والسعادة في الدنيا مع إمكان رؤيتها بالعقل الذي أعطيته وبإرشاد الله لها بالآيات البينات التي تدلها وتهديها طريق السعادة وتحذرها من طريق الشقاء فهي في الآخرة التي لا تملك وسائل للتوبة والتبصر والرجوع إلى الحق أشد عمى وأضل سبيلا لأنها في دار الجزاء وكانت من قبل في دار العمل فلم تزرع شيئا نافعا يمكنها أن تحصده في آخرتها وإنما زرعت أسباب الشقاء والشر فهي في الآخرة تحصد الندامة وبعبارة أخرى قد وعدها الله السعادة في الداريين إن أطاعته وعملت ما أمرت به وتركت ما نهيت عنه واتبعت رضوانه وأوعدها بالشقاء في الدارين إن عصت أمره وفعلت ما نهاها عنه واتبعت ما أسخطه والواقع في هذا الزمن أنها عصت الله وارتكبت ما نهيت عنه وعميت عن أسباب النجاة مع وضوحها فعاقبها الله في هذه الدنيا بالحرمان والخذلان والذلة والهوان وسيعاقبها في الآخرة عقابا أشد وستكون في الآخرة أشد أعمى وأبعد عن النجاة كما قال الله تعالى في سورة الرعد: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}. وقال تعالى في سورة الطلاق: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رسولا يتلوا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً}.
المراد بالقرية هنا الأمة قال الحافظ بن كثير: "يقول تعالى متوعدا لمن خالف أمره وكذب رسله وسلك غير ما شرع مخبرا عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِه}. أي تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً}. أي منكرا فظيعا {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا}. أي غب مخالفتها وندموا حيث لا ينفع الندم {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً}. أي أعد لهم عذابا شديدا أي في الدار الآخرة مع ما عجل لهم من العذاب في الدنيا.(/8)
ثم قال تعالى بعد ما قص من خبر هؤلاء: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَاب}. أي الأفاهام المستقيمة لا تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم {يَا أُولِي الأَلْبَاب}، {الَّذِينَ آمَنُوا}. أي صدقوا بالله ورسله قد أنزل إليكم ذكرا يعني القرآن كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. وقوله تعالى: {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} قال بعضهم: {رَسُولاً} منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر، وقال بن جرير: الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر يعني تفسيرا له ولهذا قال: {رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات} أي في حال كونها بيِّنة واضحة جلية {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} كقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم.
وقد سمَّى الله تعالى الوحي الذي أنزله نورا لما يحصل به من الهدى كما سماه روحا لما يحصل به من حياة القلوب فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً}. قد تقدم تفسير مثل هذا غير مرة بما أغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة .
وقال تعالى في سورة النحل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. فأنت ترى أن الله تعالى وعد الذين يعملون الصالحات ويتمسكون بالإيمان أن يحيهم حياة طيبة في الدنيا ويجزيهم جزاء حسنا في الآخرة فإذا أحياهم حياة سيئة بالشقاء والحرمان فذلك دليل قاطع على أنهم عملوا السيئات وأن الله سيعذبهم أكثر مما عذبهم في الدنيا إذا عرف المسلمون ومنهم العرب هذه الحقيقة وجب عليهم أن يكونوا على يقين أن كل حركاتهم في هذه الأزمنة الأخيرة لا يزيدهم إلا خبالا ولا تكون عليهم إلا وبالا فيجب عليهم أن يبحثوا عن طريق جديد وجهة جديدة ولن يجدوها إلا في الرجوع إلى القرآن وقد تحديناهم نحن وأساتذتنا مئة سنة أن يجدوا سبيلا أخرى للخلاص فلم يجدها ولن يجدوها أبدا.
ومن ذلك تعلم علم اليقين أن السفهاء الذين يسمون الرجوع إلى القرآن والتمسك بالإسلام رجعية. هم شر رجعيين في العالم ولا تجد لرجعيتهم نظرا بين الرجعيات في هذه الدنيا وإذا تجرؤا وزعموا أنهم تقدميون فإن جميع أهل الأرض يلعنونهم ويسخرون منهم وذلتهم وفقرهم وجهلهم وحقارتهم شهودا عدول على كذبهم، أضف إلى ذلك طيشهم واستبدادهم وفقدان العدل والمساواة بينهم وإنهم فوضى يخبطون خبط عشواء في ليلة ظلماء، لا استقرار عندهم ولا أمن يثور بعضهم على بعض ويفني بعضهم بعضا كل ثائر يريد أن ينعم بالاستبداد والطغيان ولو مدة قصيرة ومع ذلك يمدحون الثورة ويجعلونها من القواعد المرغوب فيها لذاتها وإن لم يترتب إلا زيادة الشقاء والشتات والدموع والدماء لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون .
مقصود الأوروبيين والنصارى بالرجعية:
يرى الأوربيون النصارى أن التمسك بالأساليب التي أكل عليها الدهر وشرب وأقام الدليل على أنها خطأ رجعية مذمومة محالفة للشقاء الذي يزول حتى تزول تلك الأساليب، فمن ذلك الاستمرار على الجهر بما ينفع الناس في دينهم وأخلاقهم ومعاشهم وأرزاقهم، ومن ذلك التعصب للعقائد والأنظمة، فكل أمة تكون متفرقة فرقا عديدة لكل فرقة عقيدتها وكل فرقة تبغض من يخالفها في العقيدة من مواطنيها بغضا يحملها على عداوتهم والكيد لهم وآذاهم فهي فرقة رجعية، وإن كانت فرق الأمة كلها كذلك فالأمة كلها رجعية بعيدة عن التقدم والسير في طريق الفلاح لأنه ثبت بالبرهان القاطع عندهم أن الأمة لا تستطيع التعاون على ما فيه خيرها وسعادتها إلا إذا نبذت التعصب وساد فيها التسامح بين الفرق.(/9)
ومن ذلك التعصب للنظام كالجمهورية والملكية مثلا فكل شعب يتعصب لنظامه ويبغض كل من خالفه ولا يكفيه ذلك حتى يعاديه ويكيد له ولا يتعاون معه ولا يتبادل معه المصالح فهو شعب رجعي مذموم عندهم ولذلك تجد الشعوب المتقدمة الملكية كبريطانيا والدانمارك والسويد والنرويج وبلجيكا ولوكسمبورج وهولندا لا تبغض الدول الجمهورية لكونها جمهورية كالولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسة أو سويسرة وجرمانية وإيطالية بل تتواد معها وتتعاون معها وتتبادل معها المصالح وكل فريق يترك للفريق الآخر الحرية فيما اختره لنفسه، ومن الأمثلة العجيبة في ذلك أن إيرلندة المستقلة اختارت النظام الجمهوري وخرجت على أمتها البريطانية، وكلهم يسكنون بلادا متصلة وينتسبون نسبا واحدا ولوشاءت بريطانية أن تتعصب وتكيد لإيرلندة كما يفعل الرجعيون لسحقتها في يوم واحد وأجبرتها على الانضمام لها ولكنهما تعيشان في سلام .
ومن ذلك التعصب للأساليب القديمة في الفلاحة والملاحة والصناعات، فلو وجد شعب يحرث على الدواب وعرضت عليه الجرارات العصرية فمنعه التعصب من قبولها لكان رجعيا مذموما محروما، ولو وجدت قرية تستضيء بالقناديل والزيت والفتل وعرضت عليها الكهرباء فرفضتها لكان أهلها رجعيين مذمومين .
وهكذا يقال في قرية يطحن أهلها بالأيدي فعرضت عليهم طاحونة بالكهرباء فرفضوها، وفي قوم يسافرون في البحر بسفن شراعية فعرضت عليهم البواخر التي تمخر البحار كأنها الأعلام وقس على ذلك فهذا هو الفرق بين الرجعية والتقدم عند نصارى أوروبا.
أما دراسة الدين في الجامعات وتخصيص كل جامعة عظيمة كلية عظيمة محترمة مكرمة لتعلم اللاهوت (ثيولوجي) وإقامة الصلوات في كنيسة الكلية وإيجاد أعمال دينية محترمة لهم في شعبهم وامتلاء الكنائس يوم الأحد بالمصلين والمصليات من التلاميذ والطلبة والأساتذة وعامة الشعب وحضور أساتذة الجامعة ومشاركتهم في الصلوات والاحتفال بتخرج عدد كبير من الأطباء كل سنة في تلك الكليات، وتبرع بملاين من الدولارات والجنيه لنشر النصرانية خارج أوروبا وأمريكا وبناء المستشفيات والمدارس والكنائس والإرساليات في آسيا وإفريقيا فلا يعدون شيئا من ذلك رجعية، ومن ذلك الحكم الاستبدادي الذي لا يستند إلى انتخاب ولا برلمان ولا مجلس شيوخ فإنهم يعدونه رجعية ولذلك ترى أكثر دول أوروبا وأمريكا تبغض نظام الحكم في إسبانيا وتشمئز منه، على أنهم ليسوا سالمين من التعصب الديني وإن كانوا يذمونه وقد عاشرتهم وخبرتهم فرأيت فيهم من التعصب الديني أشد التعصب حتى فيما بينهم كالبرتستانين والكاثوليكين وفيهم من يبغض الإسلام بلا سبب تعصبا للنصرانية، ولي على ذلك أدلة لو ذكرتها لطال الكلام.
مثل قرآني
{... أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأََمْثَالَ}. الرعد /19
فدائيون
كان كعب بن الأشرف رجلا من طي وأمه من بني النفير وهو من زعماء اليهود بالمدينة آذى المسلمين وشبَّب بنسائهم وحاك المؤامرات لحربهم والقضاء عليهم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اكفيني ابن الأشرف بما شئت" ثم قال: "من لي بابن الأشرف فقد آذاني"، فقال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: "أنا لك به يا رسول الله". وفي ليلة الرابع عشر من ربيع الأول من السنة الثالثة من الهجرة توجهت السرية بقيادته واشتراك أبي نائلة سلكان بن سلامة وعباد بن بشر إلى قلعة بن الأشرف في ديار بني النضير حسب اتفاق سابق معه على رهن بعض السلاح عنده مقابل كمية من الطعام وكان قد طالبهم عدو الله برهن نسائهم وأبنائهم فرفضوا.
وعند القلعة استنزلوه إلى شعب العجوز (ويقع في غرب منها) وقتلوه فصاح صيحة سمعها أهل الحصون المجاورة من اليهود فأوقدوا المشاعل ليكشفوا عن العملية دون جدوى، ورجعت السرية من ديار بني أمية وحرة العريض ولما بلغوا بقيع الغرقد كبروا فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم وعرف أنهم قتلوا عدو الله فلما انتهوا إليه قال: "أفلحت الوجوه". قالوا: "ووجهك يا رسول الله". ورموا برأس كعب بين يديه.
ابن إسحاق| طبقات بن سعد |نهاية الأدب باختصار(/10)
التقوى ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- التقوى لغة واصطلاحاً. 2- التقوى مفتاح كل خير. 3- كيف يتحصل المؤمن على التقوى. 4- صور تتنافى مع التقوى. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
قال تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [البقرة:197].
الزاد هو ما يأخذ المسافر معه من متاع، وكلنا في حال سفر إلى الله سبحانه وخير ما نتزود به لذلك اللقاء هي التقوى.
فما التقوى؟ ولماذا؟ وكيف يتقي العبد ربه؟ وما موقف المسلم منها؟
أما التقوى: لغة فهي مأخوذة من الوقاية وما يحمي به الإنسان رأسه.
اصطلاحا: أن تجعل بينك وبين ما حرّم الله حاجبا وحاجزا.
عرّف علي بن أبي طالب التقوى فقال: هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.
وسأل عمر كعبا فقال له: ما التقوى؟ فقال كعب: يا أمير المؤمنين أما سلكت طريقا فيه شوك؟ قال: نعم. قال: فماذا فعلت؟ فقال عمر : أشمر عن ساقي، وانظر إلى مواضع قدمي وأقدم قدما وأؤخر أخرى مخافة أن تصيبني شوكة. فقال كعب: تلك هي التقوى.
تشمير للطاعة، ونظر في الحلال والحرام، وورع من الزلل، ومخافة وخشية من الكبير المتعال سبحانه.
وينبغي أن تعلم:
أنه ما من خير إلا وعلقه رب العزة سبحانه بالتقوى:
أ - تفريج الكروب: ومن يتق الله يجعل له مخرجا
ب - سعة في الرزق: ويرزقه من حيث لا يحتسب [الطلاق:2].
ج- قبول العمل: إنما يتقبل الله من المتقين [المائدة:27].
د- سداد في الرأي وتوفيق في النظر: إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [الأنفال:29].
هـ- حسن العاقبة: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [يوسف:90].
والتقوى محلها القلب للحديث: ((التقوى ههنا التقوى ههنا ويشير إلى صدره ))([1]).
فليست التقوى مظهرا يكون عليه العبد للحديث: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))([2]).
وأما لماذا التقوى؟: فلا بد من التقوى:
لأن التقوى هي منبع الفضائل كلها فالرحمة والوفاء والصدق والعدل والورع والبذل والعطاء كلها ثمرات من ثمار شجرة التقوى إذا أينعت في قلب المؤمن.
لأن التقوى هي التي تصحبك إلى قبرك فهي المؤنس لك من الوحشة والمنجية لك من عذاب الله العظيم: (دخل علي المقبرة فقال: يا أهل القبور ما الخبر عندكم: إن الخبر عندنا أن أموالكم قد قسمت وأن بيوتكم قد سكنت وإن زوجاتكم قد زوجت، ثم بكى ثم قال: والله لو استطاعوا أن يجيبوا لقالوا: إنا وجدنا أن خير الزاد التقوى).
التقوى هي خير ضمانة تحفظ بها ولدك ومستقبل أبنائك من بعدك:
قال تعالى: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا [النساء:9].
وتأمل كيف أن الله سبحانه سخر نبيا هو موسى عليه السلام ووليا هو الخضر عليه السلام لإقامة جدار في قرية بخيلة فاعترض موسى عليه السلام: قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا [الكهف:78]. ثم يخبر الخضر عليه السلام سبب فعله بالغيب الذي أطلعه الله عليه في هذا الأمر فيقول: وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا [الكهف:82]. وقال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما وتقدم إنه كان الأب السابع والله أعلم([3]).
وأما كيف يتقي العبد ربه؟:
في عقلك وفهمك:
أ- الانقياد لشرع الله سبحانه قال تعالى: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم [الحجرات:1]. قال ابن عباس: (نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه)([4]).
ب، التسليم لقضاء الله وقدره: وذلك بأن يعتقد عند المصيبة أمرين لا غنى للمسلم عنهما الأول: أنه ملك لمالك: فنحن مملوكون لله سبحانه: إنا لله وإنا إليه راجعون [البقرة:156]. قل اللهم مالك الملك [آل عمران:26]. ألا له الخلق والأمر [الأعراف:54].
الثاني: إن هذا المالك - وهو الله سبحانه - حكيم في أفعاله فلا يصدر عنه سبحانه إلا ما هو مبني على العلم والحكمة والخير قال تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:216].
يقول عمر : (والله لا أبالي على خير أصبحت أم على شر لأني لا أعلم ما هو الخير لي ولا ما هو الشر لي).
ج- التأمل والنظر في بديع صنع الحق سبحانه: وأنكر رب العزة سبحانه على الذين يمرون بآيات الله ولا يعتبرون فقال: وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [يوسف:105].
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
في قلبك :
فلا غل ولا حسد: وقيل لرسول الله : ((أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان. قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد))([5]).
ولا كبر ولا عجب للحديث: ((لا يدخل الجنة إنسان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر))([6]).(/1)
في تعاملك: فلا غش ولا خداع ولا كذب: لقول النبي : ((من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار))([7]).
أو أن يستخدم اسم الله العظيم لترويج بضاعته للحديث: ((الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة))([8]).
أو أن يكتم عيبا للحديث: ((من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت الله ولم تزل الملائكة تلعنه))([9]).
أو يستخدم الرشوة لتيسير أمره في أمر لا يحق له للحديث: ((لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش)) يعني الذي يمشي بينهما([10]).
في مطعمك وشربك: فلا يدخل جوفك الحرام، وإذا أكل العبد الحرام فلا تقبل منه طاعة للحديث: ((وإذا خرج الحاج حاجا بنفقة خبيثة (أي حرام) ووضع رجله في الغرز ونادى: لبيك اللهم لبيك ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك زادك حرام وراحلتك حرام وحجك مأزور غير مبرور))([11]).
في جوارحك في لسانك: قال عقبة بن عامر: ((يا رسول الله ما النجاة؟ فقال: أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك))([12]).
في بصرك: قال تعالى: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [غافر:9]. قال ابن عباس: (هو الرجل يكون مع القوم فإذا مرت المرأة بهم نظر إليها إذا غفلوا عنه، وإذا فطنوا غض بصره وقد اطلع الله على ما في قلبه أنه يود أن يرى عورتها)، وللحديث: ((والعينان تزنيان))([13]).
في رحمك: للحديث: ((يقول الله عز وجل: أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته))([14]).
في أهلك: فلا ظلم أو سوء عشرة للحديث: ((إن الرجل ليكتب عند الله جبارا وليس عنده إلا أهل بيته))([15]).
ولا بخل في الإنفاق للحديث: ((كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته))([16]).
وأن يعدل بين نسائه إن كانوا أكثر من واحدة للحديث: ((من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل))([17]).
وأما موقف المسلم من التقوى:
أن تسأل الله أن يجعلك من المتقين للحديث: ((اللهم إني أسلك الهدى والتقى والعفاف والغنى))([18]).
مغالبة النفس بالعمل الصالح للحديث: ((اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن))([19]).
([1])مسلم .
([2])مسلم .
([3])مختصر ابن كثير مجلد 2 ص 432.
([4])مختصر ابن كثير ص357 .
([5])ابن ماجة بإسناد صحيح .
([6])رواه أحمد ورواته رواه الصحيح .
([7])الطبراني .
([8])البخاري .
([9])ابن ماجة .
([10])أحمد والبزار .
([11])الطبراني .
([12])الترمذي .
([13])أحمد والبزار .
([14])أبو داود والترمذي .
([15])ابن حيان .
([16])مسلم .
([17])أصحاب السنن وابن حبان .
([18])مسلم .
([19])الترمذي وقال حديث حسن صحيح . ... ...
... ...
... ...
... ...(/2)
التكامل التربوي بين الإعلام والتعليم
د. حياة بنت سعيد با أخضر
نِعَمُ الله ـ تعالى ـ تترى علينا صباح مساء، والعقل البشري من أعظم تلك النِّعم بعد نعمة الإسلام. فالعقل قد كُرِّم به الإنسان وجُعل مناطاً لتكليفه، ومن ثم الجزاء على أعماله. ويظل العقل يقدِّم لنا ـ بتوفيق الله تعالى ـ مخترعات شتّى في أوقات قياسية توفر علينا مجهودات ضخمة، ومن أبرزها: تلك الأجهزة متعددة الاستخدام والأحجام، ولكن التلفاز (الرائي) يظل في قمة تلك المخترعات سهلة الانقياد، حيث يدخل المنازل دون استئذان، ويحتلُّ مكانة في النفوس والأذهان. وهذا مما حفّز الكثيرين على استغلاله وإدارة دفّته نحو دروب ومسالك ومعاقل عدة، ومن ثم أفرز ذلك اضطرابات وتناقضات في التربية والسلوك، وحطَّم الكثير من القيود والثقافات، وزعزع ـ أحياناً ـ العقائد في بعض النفوس. لذا؛ فإن الوعي بأهمية شراكة التلفاز في التربية لا تقلُّ أهمية عن أيِّ مؤثر آخر. فإن برامجه المتدفّقة والمتشابهة والمترابطة ـ أحياناً ـ في الأهداف تقدم لنا أنموذجاً صارخاً للقضاء على الاستقرار النفسي لدى الناس، وتمثل مِعْوَلاً هدّاماً في يد حفنة من مؤسسي القنوات الفضائية والشركات التجارية التي لا همّ لها إلا الربح المادي على حساب كل شيء وأيّ شيء.
فتقف التربية ومسؤوليها ـ من ثم ـ في وضع المدافع دائماً أمام طوفان الهلاك الأخلاقي الذي تقذف حُمَمَه القنواتُ الفضائية طوال اليوم، وهذا يحتِّم على عقلاء أمتنا التنبّه لأهمية الإعلام في وقتنا الحالي، مما يعني إيجاد تعاون مثمر وجادّ بين أصحاب القرار من مسؤولي التربية والتعليم والإعلام ورجال الأعمال المتميزين دينياً والهيئة العالمية للإعلام الإسلامي في صورة لجنة عليا للإعلام تعتني بالتالي:
1 ـ وضع برامج ودورات علمية شرعية للعاملين في القطاع الإعلامي بجميع صوره (تلفاز ـ مذياع ـ صحافة)، وتقوم هذه الدورات بتدريس تخصص أصول الفقه ووسائل الدعوة لعلاقتهما بمقاصد الشريعة وجوانب سدّ الذرائع والمصالح المرسلة وغير ذلك، مع دورات في علوم الاجتماع والنفس والأخلاق القائمة على أسس إسلامية، فعندنا ما يغنينا عن التزوّد من النظريات البشرية، ويمكن الاستعانة في ذلك بمناهج كليات وأقسام الإعلام في الجامعة الإسلامية وجامعة الإمام محمد بن سعود وكلية الدعوة بجامعة أم القرى لما كان الإعلام قسماً ملحقاً بها.
2 ـ وضع البرامج التعليمية الجادة لجميع طبقات المجتمع من الأطفال والناشئة وغيرهم. ولعلَّ تجربة (قناة المجد) تعتبر رائدة في ذلك، حيث أثبتت أن الإعلام الإسلامي الجادّ يمكنه المنافسة دون اختلاط وموسيقى ومحرّمات على وجه العموم.
3 ـ الدعم المادي لوضع برامج إعلامية تقدم دورات تدريبية في فنون التربية الصحيحة وعلاقة أفراد المجتمع ككل بذلك، وربط كل ذلك بنظام الجودة الشاملة، ولن يستقيم ما سبق إلا بتأسيس قناعات عقدية لدى المجتمع بأهمية الترابط بين التربية ووسائل الإعلام وأهمية الوعي لمدى الانفصام الحقيقي في هذا الترابط المأمول، ولن يتمّ هذا إلا بنشر الأسس والثوابت الشرعية في النفوس؛ لأنه بدونها سنظل نحفر في الهواء ونبني على الماء. وديننا غني بكل ما نريد، وعلماؤنا ورعاتنا أهلٌ لذلك، ولنجعل همّنا أن لا صوت يعلو على الحق: {فأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17].
________________________________________
(ü) أستاذ مساعد بمعهد اللغة العربية لغير الناطقين بها بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.(/1)
التكامل والتوازن في التربية
أحمد المنصب
إن الحديث عن أهمية إنقاذ الأمة، وعن ضرورة رسم المنهج ذي المعالم الواضحة في إحياء الأمة، وإنقاذها حديثٌ أحسب أننا قد تجاوزناه، وأصبح من البدهيات لدى كل مسلم يشعر بواقع الأمة، ويدرك دوره في إنقاذها.
إنما مدار النقاش والحديث حول المناهج ووسائل التغيير، وأحسب أن الأغلب من قطاع الصحوة يوافق على أن التربية ضرورة ملحّة؛ لغرس المعاني والتوجيهات في صفوف الناشئة وعلى صعيد الأمة أجمع، وضرورة ملحّة لغسل أوضار الماضي وآثاره السيئة.
وهي حينما تسعى للقيام بهذا الدَّور وأداء هذا الواجب فلا بد أن تكون مؤهّلة لهذه المنزلة، ولا أظن أننا نملك بديلاً غير التربية، لذا فهي تستحقّ منا الحديث الكثير عن ضرورتها، والمطالبة بها والسعي في نشر آثارها، وهناك جوانب كثيرة؛ منها:
أولاً: ينبغي أن نعتني به جميعاً لا على مستوى رجال الصحوة فحسب، بل على كافة الطبقات والمستويات التي تعتني بهذا الجانب، ونحن حين نتحدَّث حول هذا الموضوع الشموليّ، عن جوانب كثيرة سواء أكانت جوانب فردية أم جوانب على مستوى الأمة، وسواء أكانت جوانب تخص الفرد بحد ذاته، أم كانت تخصّ الأسرة ودور الأب والأم، أم كانت تتعلَّق بالمؤسسات التربوية، إننا حين نتحدَّث هذا الحديث فإننا لا نعدو أن نذكر خواطر مجرَّدة؛ فالحديث عن هذه القضية مجال واسع.
ثانياً: حين نتحدث عن القضايا التربوية، علينا أن نطرح منهجاً نظريّاً، وربما يكون قابلاً للصواب وللخطأ؛ لكن هذا شيء، وتطبيقه على آحاد الأفراد شيء آخر؛ فنحن نتحدّث عن أسلوب ومنهج، أو عن برنامج، وهذا لا يعني أن محمداً من الناس أو زيداً من الناس ينطبق عليه هذا الكلام أو ذاك؛ ذلك أن كثيراً من الإخوة الأساتذة والمربِّين يطبق ما يسمع حرفاً بحرف، وما يقول قد يكون حالة من الحالات يعيشها المربي مع من يربِّيه، مع تلميذه، أو مع ابنه، وقد تكون حالة فريدة؛ وهذا راجع إلى إلقاء أسلوب المربي في التعامل مع تلاميذه وأبنائه.
ثالثاً: التربية ليست مسؤولة عن مشكلات لم تكن هي السبب في إحداثها ووقوعها. إنك مثلاً، قد تجد البعض من الآباء يعرض مشكلة ابن من أبنائه، أو بنت من بناته قد بلغ سن التكليف، واستعصى على التوجيه وشب عوده؛ فلم يعد قادراً على تربيته؛ فهنا يعجز الأب عن حل هذه المشكلة، فيعرض عليك مشكلته ويطلب منك حلاًّ لها، قد تجد حلاًّ وقد تنجح، لكن ينبغي أن نعلم أن هذه المشكلة من أسبابها سوء التربية ابتداءً. فنحن حين نتحدث عن التربية نرى أنها كفيلة - بإذن الله - بحل كثير من المشكلات والعقبات، وهي ليست مسؤولةً عن حل مشكلاتٍ لم تكن هي السبب في حدوثها.
إن المفترض أن تبدأ تربية الشاب من صغره وطفولته، بل أن يتربى وهو حمل في بطن أمه؛ فضلاً عن طفولته ومراهقته وشبابه، وحين يسار به وفق المنهج الشرعي والتربوي السليم، فالأغلب حينئذ - بإذن الله - أن يستقيم وفق المنهج القويم، وحين يفلت فلان أو فلان فالقلوب بيد الله عز وجل.
رابعاً: حين نتكلم عن هذه القضايا التربوية التي تخص فئة، وقطاعاً عاماً من الناس فهي تعني المعلم، وتعني الأب، وتعني الأم، تعني الكثير من الناس. حينئذ فنحن لسنا نتحدث حديثاً أكاديمياً، ولسنا نتحدث للمختصين؛ فلا بد حينئذ أن يكون حديثاً عامّاً يأخذ طابع العمومية، وحينئذ أرجو ألَّا يؤاخذني أهل الاختصاص والاصطلاح حين أسطو على مصطلح من مصطلحاتهم، فأستخدمه أوسع أو أضيق مما يريدون هم، أو يستخدمونه هم في قضية من قضاياهم.
ü مسوغات المطالبة بالتربية المتكاملة المتوازنة:
إننا نطالب أن تكون التربية متكاملة، وأن تكون متوازنة في الوقت نفسه، سواء على مستوى الأفراد أو على المجتمع ككل. وحين نطالب بذلك فإن الذي يدعونا إلى هذا الأمر مسوغات عدة:
| طبيعة الإنسان:
فالله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق الإنسان بجوانب كثيرة متنوعة (جسم، وعقل، ومشاعر...) وحينئذ فالمنهج التربوي الذي يريد أن يرقى بهذا الإنسان ينبغي أن يكون متوافقاً مع فطرة هذا المرء، ولهذا صار أي تشريع للبشر من غير المصدر الشرعي محكوماً عليه بالفشل والبوار؛ لأنه تشريع صادر من البشر، والله - سبحانه وتعالى - هو الذي خلقهم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] وغالباً ما ترى تشريعات البشر وآراءهم تأخذ جانباً على حساب جانب آخر، وغالباً ما تخل بهذا التكامل أو هذا التوازن في شخصية المرء، إذن! فالتكامل والتوازن هو الذي يتوافق أصلاً مع خلق الإنسان ومع فطرته التي فطره الله عليها.(/1)
ولأضرب على ذلك مثلاً: إننا حين نربي الناس على الخضوع وعلى التسليم لكل الآراء التي تُطرح عليهم أياً كان مصدرها، ونطلب من الناس أن يعطلوا عقولهم، وألاّ يفكروا مطلقاً فيما يُقال لهم؛ إننا حينئذ نعطل هذا العقل الذي خلقه الله - عز وجل - له، وما خلقه الله - سبحانه وتعالى - إلا لحكمة، ولو كانت أمور الناس تستقيم على التقليد والتبعية لخلق الله - عز وجل - لنخبة من الناس عقولاً دون عقول سائر الناس؛ حتى يخضع بعضهم لبعض ويكونوا تابعين لغيرهم.
أما وقد خلق الله العقول للناس جميعاً فهذا يعني أن تُربى العقول، وهذا يعني أن يُربى الناس على أن يستخدموا عقولهم ويحكّموها داخل الدائرة الشرعية التي لا تخرجهم عن حدودها. وحين نأخذ منهجاً تربويّاً يتعامل مع جانب العقل والمعرفة وحدها، ويغفل عن جانب الوجدان في نفس الإنسان، يعيش في تناقض يحكم عليه بالفشل والبوار، كما هو الحال في المجتمعات الغربية المعاصرة، وقُلْ مثل ذلك في أي منهج يتعامل مع جانب واحد من جوانب الإنسان.
| التوازن والتكامل سُنة الله في الحياة:
فالجنون مثلاً نتيجة لعدم توازن القدرات العقلية والحسية؛ ولهذا يقال عن المجنون: «إنسان غير متوازن»، «والصرع العضوي من أسباب زيادة الكهرباء في دماغ الإنسان»، «وفقر الدم أو ضعفه يحصل عن عدم توازن كريات الدم الحمراء والبيضاء في الدم»، «ثم إن زيادة سائل الأذن قد يتسبب في حالة إغماء لدى الإنسان»، «كما يتسبب ضغط العين أو القلب على انعكاسات صعبة خطيرة». هذه بعض النتائج التي يخلّفها عدم التوازن في الكائن البشري، وهناك عشرات الأمثلة الأخرى على ذلك.
أما حدوث عدم التوازن في الكون والحياة فهي أكثر من أن تحصى... «إن تغير نسبة الأكسجين في الهواء تجعله ملوثاً، وقد تجعله سمّاً قاتلاً»، «وتغير المعادلة المتوازنة في دوران الأرض والشمس والأفلاك ينتج عنه كثيرٌ من الأمور أقلها اختلال نظام الليل والنهار، وتعاقب الفصول، وما يؤدي ذلك من أضرار على الإنسان والحيوان والنبات وعلى الحياة بكاملها».
وما يصنعه بنو الإنسان من آلات وما ينشئونه من بنايات، فجميعه محكومٌ بقاعدة التوازن، وأي خلل في المقادير والمعايير يتسبب بنتائج خطيرة ومأساوية.
وجوانب الشخص نفسها حين لا تكون متوازنة ولا متناسقة فإنها تُخرج إنساناً غير متناسق؛ فجمال الوجه - مثلاً - فيه توازن نسبي بين حجم الأنف والعينين والفم والرأس؛ بحيث لو اضطربت هذه النسب لكانت صورة مشوهة هزيلة أو ناقصة. وقيمة الطعام تكمن في مختلف عناصره الرئيسة؛ بحيث تتحقق النسبة المتوازنة لسلامة الجسم من مختلف الدهون والسكريات والفيتامينات والأملاح والمعادن... إلى غير ذلك.
والإخلال بالتوازن حتى في المظهر الجمالي أمر يدعو الناس إلى النفور؛ فحين يسعى الإنسان لتجميل منزله فيبالغ فيه أو يجعله بصورة غير متوازنة يصبح أمراً مرفوضاً.
وتقرأ في كتاب الله - عز وجل - الحديث عن هذا الكون وأنه محكوم بهذه السنة. قال ـ تعالى ـ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، ويقول: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إلاَّ بِإذْنِهِ} [الحج: 65]، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3 - 4].
| الشرع قائم على الوسطية والتكامل:
إن شرْع الله - عز وجل - قائم على الوسطية في كل الأمور: الوسط في الاعتقاد، الوسط في العبادة، الوسط في السلوك، فشرْع الله - عز وجل - قائم على هذه القاعدة.
وهو كذلك تبدو فيه ظاهرة التكامل مَعْلماً بارزاً؛ فما من مجال من مجالات الحياة إلا وللشرع فيه حُكم؛ فإنك ترى للشرع حُكماً في معتقد الإنسان، وترى للشرع حُكماً في تعامل الإنسان مع غيره، وترى للشرع حُكماً في عبادة الإنسان، ترى له حُكماً في سلوكه، وترى له حُكماً في أخلاقه، وفي الاقتصاد والسياسة وحياة الناس الاجتماعية وعلاقاتهم... إنك لا تجد باباً من أبواب الحياة إلاّ وفيه حُكم واضح للشرع، وهذا يعني أننا أمام شرع متكامل.(/2)
إذاً! حينما نريد أن نربي الناس على هذا الشرع ينبغي أن نربيهم تربية متكاملة ومتوازنة؛ ولهذا أنكر الله على بني إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 85]، {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150 - 151].
ومن إعجاز القرآن أن الله - سبحانه وتعالى - حذَّر نبيه من صورة نراها في واقعنا؛ فحين أمر الله نبيه أن يحكم بشرع الله قال بعد ذلك: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} [المائدة: 49] وكأن هذه الآية تنطق بواقع القرون المتأخرة، وأن هناك من يساوم على بعض شرع الله، فيأخذ بعض شرع الله ويرفض بعضه، فينادي بالاحتكام إلى شرع الله - عز وجل - في باب من أبواب الحياة، ويرفض بعد ذلك سائر الأبواب.
إن هذا دليل على أن هذا الشرع جاء للحياة كلها، وهذا يعني أن أي منهج تربوي يريد تربية الناس على خلاف هذا المنهج فهو منهج غير متكامل وغير متوازن، ومعارض لهذه القاعدة الشرعية التي لا تنخرم وتراها في كل حكم شرعي في سائر أبواب الحياة.
| كثرة التحديات التي تواجه الأمة:
الأمة الإسلامية تواجه تحدياً تربويّاً من أبواب شتى؛ فالشباب يعانون من تخطيط ماكر وغزو مدبر، وكذلك الرجال والنساء، والصغير والكبير، بل حتى الطفل المسلم تُعد له أفلامٌ وتُكتب له قصصٌ ومجلاّت يُقصَد منها تربيته تربية تحرفه عن المنهج الشرعي.
وحياة الناس في عقيدتهم، وحياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيها تحديات، فنحن نواجه تحدياً شاملاً، تحدياً متكاملاً في جوانب الحياة كلها لخلع الأمة عن دينها، ثم تربيتها على غير شرع الله عز وجل. فالتربية التي تهدف إلى إنقاذ جيل الأمة، والوقوف في وجه هذا التيار الوافد ما لم تكن آخذةً بالتكامل والتوازن فإنها حينئذٍ لن تكون مؤهلة للمواجهة، ولن تكون مؤهلة لصدّ هذا السيل الجارف من الغزو الذي تواجَه به الأمة.
__________________________
(ü) طالب في كلية العلوم ـ جامعة حضرموت.(/3)
التلاعب بمصطلحات الشريعة
21 / 11 / 1426هـ
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد،، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، إن الله سبحانه وتعالى ذكر لنا في كتابه العزيز كثيراً من الحقائق، وسماها سبحانه بأسماء معينة، وبين التوحيد، والشرك، والكفر، والإيمان، بين الإسلام والملل الأخرى، { هو سماكم المسلمين }، وذكر لنا في المقابل أهل الكتاب { والذين أشركوا }، { والذين كفروا }، {واليهود والنصارى والصابئين }، وهو عزوجل قد ذكر لنا { الميتة ولحم الخنزير }، وذكر لنا الحلال الطيب، سمى لنا الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وغير ذلك من شعائره سبحانه وتعالى، سمى لنا النبي صلى الله عليه وسلم أسماء في الشريعة، فمنها مثلاً أسماء الصلوات، والأوقات، ورفض عليه الصلاة والسلام أن يغلبنا الأعراب على أسم صلاة العشاء، فهم يقولون: العتمة، وكذلك سمى لنا الأضحية ونحوها، من أنواع الذبائح لله رب العالمين، وتغيير الأسماء الشرعية وإبدالها هو تحريف وأمر خطير جداً، لأن الأسماء التي سماها الله ورسوله يجب أن تبقى، فهي من دلالات الشرع، ومن ظلم الكلمات تغيير ألفاظها وتغيير دلالاتها، وظلم الكلمات بتغيير معانيها أو تغيير ألفاظها، الكلمات الشرعية أعظم خطراً من ظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، فإن تشويه خلقة إنسان يقتصر ضرره عليه بينما تغيير الألفاظ الشرعية أو معانيها يؤثر على فئام من الناس فيضلهم، ولذلك فلم تغني عن الكفار أسماء آلهتهم شيئاً، فسموا العزى من العزيز، ومناة من المنان، عندما اشتقوا من أسماء الله عزوجل أسماء لآلهتهم لم يغني ذلك من شيء، ورفضت تلك الآلهة وأسماؤها، والنبي صلى الله عليه وسلم طعن فيها وهدمها، وأرسل من يحرقها، وهناك مصطلحات شرعية قد جاءت الشريعة بها فإذا غيرت المصطلحات الشرعية فسدت الديانات، وتبدلت الشرائع والأحكام، وأضمحل الإسلام، والتلاعب بالمصطلحات الشرعية من أعظم ما يسعى إليه أعداء الدين، فمما يتعين الاعتناء به معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، وعندما يحرم علينا الربا فنحن نسميه باسمه الربا، وعندما يحرم علينا الخمر فنحن نسميه باسمه الشرعي الخمر، وعندما يحرم علينا الزنا فنحن نسميه كذلك،، ولو أن الناس بدلوا هذه الأسماء فسموا الربا بأسم آخر، وسموا الخمر بأسم آخر، وسموا الزنا بأسم آخر، يأتي أجيال يفعلون هذه الأشياء ولا يجيدون رابطاً بينها وبين الأدلة الشرعية، لأن الأدلة الشرعية فيه أسماء معينة، فعندما تغير الأسماء تنقطع الروابط بين أحكام هذه الأشياء المسماة من الله ورسوله، وبين الأدلة المنصوص فيها على أحكام هذه الأشياء فهذه لعبة خطيرة، يقوم بها أعداء الدين، والقصد واضح إنه تحريف الدين، إنه التغيير فيه والتبديل، إنه التمويه والزخرفة، فأحياناً يجملون العبارات بألفاظ فيها تمويه، فيها جمال في الظاهر، ولكن الحقيقة أنها في دين الله تعالى محرمة، فلما سمى الكفار اللات مؤنث الله بزعمهم تعالى الله عن قولهم، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، أرادوا أن يكسبوا آلهتهم أسماء شرعية فاشتقوا من أسماء شرعية أسماء لآلهتهم، فماذا كان جزاؤها؟ أن حرقت وكسرت، وهكذا حصل من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن واجبات المسلمين صيانة الحقائق الدينية، وعدم التلاعب بها، أو السماح بالتلاعب بها، وعندما يقال عن الصلاة رياضة، وعن الحج مؤتمر، ونحو ذلك،، بدون أن تستعمل الألفاظ الشرعية فهذا فيه خطورة أيضاً، وتأتي الشريعة بأسماء لأمور كانت في الجاهلية فيبدل الاسم القديم ويحل محله أسم جديد، فكان يوم الجمعة في الجاهلية يسمى يوم العروبة فجاء الله عزوجل بهذا الاسم { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله }، وهكذا جاءت النصوص بتسميته فنسخ ذلك الاسم حتى كأنه لم يعد شيئاً مذكوراً.
عباد الله، كان أسم مدينة النبي عليه الصلاة والسلام يثرب، فسماها طيبة، وسماها المدينة، فلا يجوز أن نغير هذا الاسم بعد أن سماها به، فصار ذلك الاسم القديم أمراً من التاريخ القديم، شيئاً قديماً، وأما أسمها الشرعي هذا هو، وهكذا من الأمور الكثيرة التي تتفاوت أهميتها ولكن المبدأ واحد تسمية ما جاء في الكتاب والسنة بذات الاسم والأمر في قضايا العقيدة خطير أخطر من تسمية المدن والبلدان، والأمور التاريخية، مع أن الكل بالنسبة للمسلم مبدأ واحد لكنه يتفاوت في خطورته، في خطورة أفراده، وأنواعه.(/1)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ( أعلم أن مسائل التكفير والتفسيق من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها المولاة والمعاداة، والقتل والعصمة، وغير ذلك في الدار الدنيا، فإن الله سبحانه وتعالى أوجب الجنة للمؤمنين، وحرم الجنة على الكافرين، وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان ).
إذن في قضايا العقيدة يجب الاحتفاظ بالأسماء الشرعية كما هي لأنه تتعلق بها مصائر في الآخرة وأحكام في الدنيا، فإذا قلنا مثلاً المشرك والكافر يتعلق بذلك في أحكام الآخرة من جهة خلودهما في النار الخلود الأبدي، { وما هم منها بمخرجين }، ومن جهة الدنيا فإن عداوة الكفار باقية إلى قيام الساعة، كما قال الله عزوجل: { إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً }، ولا تجوز موالاتهم ولا نصرتهم، لأن الله حرم ذلك، { وإبراهيم والذين معه قالوا لقومهم }، المشركين {إنا برآ منكم ومما تعبدون من دون الله }، فمن الأحكام العقدية هنا وجوب التبري من الكفار، والكافرين، والشرك، والمشركين، وما عليه هؤلاء من الانحرافات، وعندما يكون الكافر مقاتلاً له أحكام محارباً، وعندما يكون معاهداً له أحكام، وعندما يكون ذمياً له أحكام، وعندما يكون مستأمناً له أحكام، ولذلك لا بد من الاحتفاظ بالأحكام، بالأسماء الشرعية لتترتب عليه الأحكام الشرعية، فإذا ضيعت الأسماء ضيعت الأحكام، وهذا ما يريده أعداء الله اليوم من التغييرات في مصطلحات المسلمين لأنهم يعرفون أن هذه الأسماء تترتب عليها عند المسلمين قضايا كبيرة، والله سبحانه وتعالى فرق بين الفرقاء ووضح الفرق بين المسلم والكافر، والبر والفاجر، { قل لا يستوي الخبيث والطيب }، وقال سبحانه وتعالى: { وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير }، وقال عزوجل: { وما يستوي الأعمى والبصير والذين أمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء }، لا يستوي المؤمنون والمسيئون، وقال سبحانه وتعالى: { أم حسب الذين أجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون }، وقال عزوجل: { أم نجعل الذين أمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار }، ولذلك لو سوا الناس بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، سووا بين أهل الطاعة وأهل الفسق والعصيان والفجور، فعند الله لا يستوون.
لقد وردت كلمة الكفر بمشتقاتها من الكفر والكافرين والكفار والذين كفروا في القرآن الكريم أكثر من أربعمائة مرة، ووردت لفظت الشرك بمشتقاتها المشركين والذين أشركوا في القرآن أكثر من مائتين مرة، ووردت لفظت النفاق ومشتقاتها المنافقين والذين نافقوا في القرآن أكثر من خمسين مرة، ووردت كلمة اليهود سبع مرات، والنصارى ثماني مرات، ولفظت الكفار أربعة عشر مرة، والكافرين خمساً وخمسين مرة، وكذلك الذين كفروا مائة وأثنين وخمسين مرة، وهكذا بهذه الألفاظ، فيسمع المؤمن كلمة كفر وكافر وكفار وكافرين بمجرد السماع قلبه ينطق بالكراهية لهؤلاء، لأنهم كفروا بالله، أشركوا به، سبوا الله، اعتقدوا بالله عزوجل عقيدة ضالة منحرفة، وهكذا ينبني أحكام، تنبني أحكام ومواقف.(/2)
عباد الله، بين لنا سبحانه وتعالى أن الكفار يريدون منا أن نكفر مثلهم، فقال: { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء }، وبين أنهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله: { إن الذين كفروا ينفقوا أموالهم ليصدوا عن سبيل الله }، بين عداوتهم لنا فقال: { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم }، بين لنا أنهم يحسدوننا على ما آتانا الله، وكان الحوار مع هؤلاء في القرآن شديداً { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون }، { يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون }، { وقال طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون }، وقد بين تعالى أن طاعتهم خسارة عظيمة، { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم }، وحذرنا من اتخاذهم أولياء فقال: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين }، فسماهم باسمهم الشرعي الكافرين، وبنى حكماً على هذه التسمية فقال: { لا يتخذوا المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين }، وهدد من يفعل ذلك فقال: { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاه ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير }، وحذرنا من موالاة هؤلاء اليهود والنصارى فسماهم بهذه الأسماء، { يا أيها الذين لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم }، وبين لنا أن كل هؤلاء في النار يوم القيامة فقال: { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية }.
عباد الله، إن الله سبحانه وتعالى قد حرم علينا أن نغير هذه الأسماء الشرعية فنسميها بأسماء أخرى، لألى تضيع الحقائق، أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي قوم يسمون الخمر بغير أسمها، لماذا؟ يريدون تضييع الحكم، لأن الخمر في القرآن الكريم حكمها واضح جداً { فهل أنتم منتهون }، أخبرنا أنها سبيل الشيطان، يريد أن يفرق بيننا بها، { يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر }، يريد أن يصدنا بالخمر عن سبيل الله وذكره، { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة }، فيكره المؤمن الخمر لما ورد في الأحاديث في النصوص الشرعية من الآيات والأحاديث بشأنها، النبي عليه الصلاة والسلام لعن الخمر، ولعن شاربها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، وحاملها، والمحمول إليه، وآكل ثمنها، فالمؤمن ينفر من كلمة الخمر نفوراً شديداً، لأن المسألة فيها لعنة وغضب، وفيها السحت في الأثمان المترتبة عليها، والتفسيق لشاربها، والحد الذي ورد في السكران، فعندما تغير الأسماء ماذا سيترتب على ذلك في الأجيال؟ وكذلك الربا،، وعندما تصبح كلمة الفائدة هي البديل، كما تصبح المشروبات الروحية هي البديل، وكما يغير الناس أو كما يريد أن يغير أعداء الله أسم الجهاد للإرهاب، وأسم الشورى الشرعي إلى الديمقراطية، ونحو ذلك،، كل هذا تسمية باطلة فيريدون من وراء التسمية أحياناً التنفير من المصطلح الشرعي، كتسمية التمسك بالدين تطرفاً، وأحياناً يريدون التسوية تسوية حقنا بباطلهم، ويروج هذا فيسمي بعض الناس الشورى وهي الاسم الشرعي بالديمقراطية، وشتان شتان بين هذا وهذا الديمقراطية التي يحكموا بها الناس أنفسهم بأهوائهم فحسب، رأي الأغلبية يكون القانون، { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله }، ويتخذون قوانين منحرفة عما أراده الله، فأحياناً يريدون بتغيير التسمية يريدون تشويه المعنى الشرعي للقضية، أو تارة يريدون تسوية الحق بالباطل، وتارة يريدون التخفيف من مواقف المسلمين تجاه ما هم عليه هم من الباطل بحيث يكون الباطل عند المسلمين سائغا فيتقبله.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الحق يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، أحيينا مسلمين وتوفنا مؤمنين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
أقول قولي هذا،، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك على محمد، عبدك ونبيك ورسولك الذي بعثته خاتماً للنبيين، وجعلته إماماً للغر المحجلين، والشافع المشفع يوم الدين، وصاحب لواء الحمد والمقام المحمود، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى ذريته الطيبين، وأزواجه وخلفائه الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(/3)
عباد الله، ومن حرب المصطلحات التي يشنها أعداء الإسلام علينا أيضاً،، جعل معنى لكلمة شرعية غير المعنى الشرعي، فكلمة الوسط مثلاً وما يشتقون منها من الوسطية، كلمة الوسط كلمة شرعية، { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً }، أي عدولاً خياراً، جعل الله هذه الأمة وسطاً في كل الأمور، وسطاً بين غلو النصارى وجفاء اليهود، وسطاً في الشريعة لا فيه تشديدات اليهود ولا تهاون النصارى، جعلهم سبحانه وتعالى، جعل عباده المؤمنين وسطاً بين الأمم في المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح، وهكذا،، جعلهم كاملين معتدلين، وجعلهم شهداء على الناس، فيأتي أعداء الدين ليغيروا معنى كلمة الوسط لتكون طرفاً في الحقيقة لا وسطاً، وهكذا يأتون بكلمات أحياناً، وهذا من الحرب أيضاً،، ومن جوانبها بكلمات لها معانٍ في السمع جميلة، ككلمة التجديد، والتحديث، والتطوير، والتنوير، والتقدم، ونحو ذلك من الكلمات لكي يسموا بها الأشياء الباطلة التي يريدونها، هم يسمون مبادئ باطلة مخالفة للإسلام تطوراً وتقدماً وتنويراً وتجديداً وتحديثاً، ومن حرب المصطلحات أيضاً،، جعل الأمور الشرعية والأحكام الشرعية توصف بأسماء هي في الحس والسمع قبيحة، كالرجعية، والتخلف، والجمود، والتحجر، والتقوقع، والظلامية، والسلبية، والتعصب، وعلى سبيل المثال أن يسمى الحجاب الكامل الذي فيه ستر المرأة لبدنها كله وهذا ما اقتضته الأدلة الشرعية أن يسمى هذا رجعية، تخلف، تحجر، تقوقع، ونحو ذلك،، حرب المصطلحات إنها حرب شرسة، إنها قضية خطيرة، فتسمى الأمور الشرعية التي يريدها الله ورسوله بأسماء قبيحة مثل هذه رجعية، تخلف، جمود، تحجر، ظلامية، سلبية، تعصب، وحشية، فمن الأمثلة على ذلك تسمية الحدود الشرعية، أو إطلاق لفظت الوحشية أو الظلامية على الحدود الشرعية، قطع يد السارق، جلد الزاني غير المحصن، رجم الزاني المحصن، جلد السكران، ونحو ذلك،، يقال هذه رجعية وحشية، وهكذا،، { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم }، كل هذا أيها الإخوة كل هذا من أجل أن يحرفوا المسلمين عن دينهم ويلبسوا عليهم دينهم.
سياسة الغصب سموها مشاركة فأعجب لمن قد غدا منا يواليها
ألست تعجب دارا قد عكفت لها حينا من الدهر دون الناس تبنيها
لما أقمت لها الجدران وانتصبت مثل الجبال التي قرت رواسيها
حل الدخيل بها غصبا ليسكنها يصيح في القوم إني من أهاليها
ألست تعجب أرضا أنت حارثها ... ... وأنت زراعها حبا وساقيها
لما أزدها بعد بين الزرع سنبلها ... ... وعندما حصد الزرع الذي فيها
جاءها هذا النصاب أو جاء هذا السارق يفتك بها.
ألست تعجب أجرا أنت صاحبه ... ... من أجل ساعات كد أنت تفنيها
وأصبح الجسم منهوكا برمته ... ... من أجل آلام أوجاع يقاسيها
إذا بصوت على من غاصب لهم ... ... إليك كالرعد تحذيرا وتنبيها
نصف الدراهم مما أجرك به ... ... لرغم أنفك يا مأجور تعطيها
عباد الله، تسمية المنكر بغير أسمه، كلما ظهرت المنكرات، وكثر أربابها، وشاعت الرذيلة، وأميتت الفضيلة، كان ذلك من أسباب تضييع الشريعة، ومن هذا تضييع هذه الأسماء الشرعية، " ليشربنا أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير أسمها "، وفي رواية ابن ماجة " لا تنتهي الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر ويسمونها بغير أسمها "، وهكذا يريدون أن يبدلوا كلام الله، وعندما تنظر اليوم في وضع الربا لتجدن من الأسماء العجيبة الكثيرة جداً المتنوعة ما يريدون به طمس الحقائق، وحرف الناس عن دينهم، فوائد، عوائد استثمارية، كلفة القرض، بيع السندات، جدولة الديون، إعادة جدولة الديون، شهادات الاستثمار، القيمة الزمنية للقرض، شهادات الخزينة، ضريبة التأخير، إلى آخر ذلك من القائمة الطويلة،، كل شيء إلا الربا، لماذا؟ لأن الله لما قال في القرآن: { يمحق الله الربا }، { اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا }، { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله }، لما كانت الآيات شديدة كان لا بد من تمييع القضية بتسمية الربا بأسم آخر، لما قال: { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً }، { الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة }، يأتي من يقول واحد غلط مع وحدة.
عباد الله، تسمى اليوم القضية صداقة، عشيقة، صديقة، يقال عن الردة وفيها حد بقطع العنق: حرية الرأي، حرية الفكر، يقال عن الميسر والقمار الذي حرمه الله ورسوله ومن سبيل الشيطان: يانصيب خيري!!، أنظر إلى الخبث في التسمية إنه ليس فقط يسمى بأسم آخر مضلل، ولكن أسم فيه لفظة تجتذب النفوس، خيري، يانصيب خيري، وهكذا،، وهكذا من الأشياء .
عباد الله، مهما أطلقنا على الخنزير من الأسماء، ولو أن خنزير كتب عليه خروف بالخط الثلث، أو الرقعة، أو الفارسي، أو الكوفي، أو لغة أخرى، فإن العبرة بالحقيقة وليس بهذا الاسم.(/4)
قال ابن القيم رحمه الله: " في خطورة التغيير " ( فتغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها وحقائقها، زيادة في المفسدة التي حرمت لأجلها، مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله، ونسبة المكر، والخداع، والغش، والنفاق إلى شرعه ودينه )، ولهذا قال أيوب:
( يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون )، وقال: ( إنما أوتي هؤلاء من حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته، وهذا بعينه هو شبهة اليهود في استحلال بيع الشحم بعد إذابته، واستحلال أخذ الحيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت في الحفائر والشباك ).
وكم من ظلامات تسمى لديهم بغير أسمها ستر لها في العوالم
تقولون هذه دفعة ثم هذه ... لدينا قتال أو جريمة جارم
وذي فرقة فاعلم بها أو معونة وتلك إذا حققت أقبح مأثم
وهذه مكوص كلها غير أنها تروج على فهم أمراء غير فاهم
فيا منكر المعروف من دين أحمد جهلت ولكن فوق جهل البهائم
عباد الله، هل سمعتم بشيء أسمه الاغتصاب الزوجي، عجيب،، تسميات عجيبة، وهكذا قام الإعلان العالمي للمرأة، ومؤتمر بكين ونحو ذلك من المؤتمرات، يتكلمون عن قضية اغتصاب الزوجة، الحرية للمرأة، وإذا دعاها كاره فهذا اغتصاب، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: " تجبه ولو كانت على التنور "، الخبز يحترق، الله سبحانه وتعالى أعلم بما في النفوس، ويعلم ما يصلح عباده عزوجل.
أيها المسلمون، إن هذه قضية جديرة بالاهتمام والله، إنها مسألة في غاية الخطورة، فإذا لم ينتبه المسلمون إليها يضيع كثير من الدين.
اللهم إنا نسألك أن تثبت قلوبنا بالإيمان واليقين، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم ثبت قلوبنا على دينك، اللهم ثبت قلوبنا على دينك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم أنصر من نصر الدين، وأخذل من خذل المسلمين، اللهم أجعلنا في بلادنا آمنين، اللهم أجعلها عامرة بذكرك وشرعك، اللهم من أراد بنا وبالإسلام والمسلمين سوءا فأمكر به، وأجعل كيده في نحره، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، وأغفر لنا يا عزيز يا غفور.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(/5)
التمائم في ميزان العقيدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أما بعد:
فإن التوكل على الله تعالى من أفضل القربات التي يتقرب بها العباد إلى الله، كما ذكر الله ذلك في آيات كثيرة، والتوكل هو الاعتماد على الله مع العمل بأسباب جلب الخير ودفع الشر، وينافي التوكل على الله التعلق بأمور وهمية لا تأثير لها في حقيقة الأمر، ومن ذلك تعليق التمائم والحروز التي يصنعها السحرة والمشعوذون. وسنأتي على شيء من التفصيل في بيان معنى التمائم وحكمها.
تعريف التمائم في اللغة والشرع:
قال في اللسان: والتميم: العوذ، واحدتها تميمة، قال أبو منصور: أراد الخرز الذي يتخذ عوذاً، والتميمة خرزة رقطاء تنظم في السير، ثم يعقد في العنق وهي التمائم والتميم، وقيل: هي قلادة يجعل فيها سيور وعوذ. وحكي عن ثعلب: تَمَّمت المولود: علقت عليه التمائم، والتميمة عوذة تعلق على الإنسان. قال ابن بري: ومنه قول سلمة بن الخرشب:
تعوذ بالرقى من غير خبل *** وتعقد في قلائدها التميم
قال: والتميم جمع تميمة.1
قال ابن حجر: والتمائم: جمع تميمة، وهي خرز أو قلادة تعلق في الرأس كانوا في الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات.2
قال ابن الأثير: التمائم جمع تميمة وهي خَرَزات كانت العرب تُعلّقها على أولادهم يَتَّقُون بها العين في زعْمهم فأبْطلها الإسلام.3
إذا فهي كلُ ما علق من أجل دفع شر متوقع حصوله من مرض، أو عين، أو رفع شرٍ، وقع فعلاً سواء كان المعلق خرزاتٍ أو أخشاباً أو خيوطاً أو أوراقاً أو غير ذلك.
استعمالات التمائم:
تستعمل التمائم لغرضين هما:
الأول: دفع الشر المتوقع من مرض، أو عين قبل أن يحصل، وهذا ظاهر فيما يعلق على الصبيان والفرس والمساكن ونحو ذلك.
الثاني: دفع الشر الذي وقع بالفعل وهذا ظاهر فيما يتعلقه المرضى بالواهنة والحمرة والحمى كما يتضح مما سيأتي.
حكم التمائم في الإسلام:
لما كان اعتقاد الجاهليين في تعليق التمائم فيه من اللجوء إلى غير الله في جلب الخير ودفع الضر بما لم يجعله الله سببا شرعياً لذلك، واعتقاد هذا جهل وضلال، وإشراك بالله؛ إذ لا مانع ولا دافع غير الله.
ولما في ذلك من تعلق القلوب والغفلة عن الله -سبحانه- ولمنافاة هذا العمل للتوحيد، أنكره الإسلام عليهم، وزجرهم عنه، وشدد وغلظ في هذا الموضوع؛ لما فيه من الشرك، فحكم التمائم التحريم؛ لما فيها من التعلق بغير الله؛ إذ لا دافع إلا الله، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وأسمائه وصفاته.
الأدلة على تحريم التمائم:
أولاً: من القرآن الكريم:
قول الله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} (17) سورة الأنعام. وقال سبحانه: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (107) سورة يونس. وقال سبحانه: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (53) سورة النحل. ففي هذه الآيات الكريمات دلالة واضحة على أنه لا يكشف الضر إلا الله، وأنه سبحانه هو الذي يلجأ إليه العباد لجلب الخير ودفع الشر وهو القادر على ذلك بسبب أو بغير سبب.
ثانياً: من السنة:
وهذه بعض الأحاديث الواردة في المنع من هذا الأمر: فعن قيس بن السكن الأسدي قال: دخل عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- على امرأة أي من أهله فرأى عليها خرزا من الحمرة فقطعه قطعاً عنيفاً، ثم قال: إن آل عبدالله عن الشرك أغنياء وقال: كان مما حفظنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرُّقى والتمائم والتِّولة شرك).4
وعن عيسى بن عبد الرحمن قال: دخلنا على عبد الله بن عكيم وهو مريض نعوده فقيل له: لو تعلقت شيئاً! فقال: أتعلق شيئا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلق شيئاً وكل إليه)؟5.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعا: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)6.
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من علق تميمة فقد أشرك)7. فهذه النصوص وما في معناها في التحذير من الرقى الشركية التي كانت هي غالب رقى العرب، فنهي عنها لما فيها من الشرك والتعلق بغير الله تعالى.
ويدخل في التمائم: تعليق نعل الفرس على باب الدار، أو في صدر المكان، وتعليق بعض السائقين نعلاً في مقدمة السيارة، أو مؤخرتها، أو الخرز الأزرق على مرآة السيارة التي تكون أمام السائق من الداخل كل ذلك من أجل العين –زعموا- !، وغير ذلك مما عمَّ وطم َّ بسبب الجهل بالتوحيد وما ينافيه من الشركيات والوثنيات التي ما بُعثَ الرسل ولا أنزلت الكتب إلا من أجل إبطالها، والقضاء عليها، فإلى الله المشتكى من جهل بعض المسلمين اليوم وبُعدِهم عن الدين.8(/1)
متى تكون التمائم شركاً أكبرَ، ومتى تكون شركاً أصغرَ؟
التمائم الشركية تختلف حسب الأحوال وحسب المعلق لها فقد تكون شركا أكبر وقد تكون شركا أصغر، فالذي يعلق شيئا ويعبده من دون الله فهذا يكون شركا أكبرَ، أما إذا اعتقد أنها سبب للسلامة من العين فهذا من الشرك الأصغر.
الأسباب إما شرعية وإما طبيعية:
والأسباب إما أن تكون شرعية أو تكون طبيعية. فالسبب الشرعي ما جعله الله سبباً في الشرع بنص آية أو حديث كمثل الدعاء والرقية الشرعية فإنهما سبب شرعي لجلب الخير للعبد أو لدفع الشر عنه بإذن الله تعالى، فالمباشر لهذه الأسباب إنما لجأ إلى الله الذي أمر بها وبيَّن أنها أسباب، والاعتماد على الله لا عليها؛ لأنه هو سبحانه الذي جعلها أسباباً وهو القادر على تعطيل تأثيرها، فيكون الاعتماد أولاً وأخيراً عليه سبحانه وتعالى.
وأما السبب الطبيعي فهو ما كان بينه وبين تأثيره مناسبة واضحة يدركها الناس في الواقع المحسوس أو المعقول مثل أن شرب الماء سبب لإزالة العطش، والتدثر بالملابس سبب لإزالة البرد، ومثل الأدوية المصنوعة من مواد معينة تؤثر على الجراثيم المسببة للمرض فتقتلها.9
علاقة الأسباب بالتمائم:
إن التميمة جماد لا تأثير له ولا علاقة له بالشفاء، فعلى هذا فإن المعلق لها جعلها سببا شرعياً، وضابط السبب الشرعي أن يثبت بالدليل وهذه التميمة لم يثبت دليل على أنها سبب شرعي.
حكم التمائم إذا كانت من القرآن أو من الأدعية النبوية:
التمائم التي من الآيات القرآنية هي على أشكال مختلفة منها ما يكتب في أوراق، ثم تحاط بجلد صغير، ومنها مصاحف تطبع بحجم صغير جداً أحياناً تعلق في الرقبة، ومن الناس من يحملها معه بدون تعليق، ومنها كتابة بعض الآيات القرآنية في قطع ذهبية، أو فضية، أو غيرهما، وغالباً ما تعلق في أعناق الصبيان، وعلى السيارات، وغير ذلك من الصور المختلفة.
وهذا النوع من التمائم التي ليس فيها إلا قرآن قد اختلف العلماء في تعليقه، فمنهم من منعه، ومنهم من أجازه وإليك أقوالهم:
القول الأول:
وهم القائلون بمنع التعليق لهذه التمائم واستدلوا بما يلي:
1- عموم النهي الوارد في تحريم التمائم ولم يأت ما يخصص هذا العموم. والقاعدة الأصولية تقول: إن العام يبقى على عمومه حتى يرد دليلٌ بالتخصيص. قال -صلى الله عليه وسلم-: (من علق تميمة فقد أشرك).10 وقال: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك).11 قالوا: فهذه الأحاديث دلت بعمومها على منع التعليق مطلقاً، ولم يرد ما يخصص التمائم التي من القرآن، أو غيره فالواجب حملها على عومها.
2- لو كان هذا العمل مشروعاً لبينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته إذ البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة، والمتتبع للسنة يرى أن جميع الأحاديث الواردة في الأذكار، والدعوات وردت بلفظ من قال: كذا، أو من قرأ كذا ولم يرد في حديث واحد من كتب كذا أو علق كذا.
وفي ذلك قال ابن العربي: وتعليق القرآن ليس من السنة، وإنما السنة فيه الذكر دون التعليق.
3- سد الذرائع، وهذا أمر عظيم في الشريعة، ومعلوم أنا إذا قلنا بجواز تعليق التمائم التي من الآيات القرآنية، والدعوات النبوية انفتح باب الشرك، واشتبهت التميمة الجائزة بالممنوعة، وتعذر التمييز بينهما إلا بمشقة عظيمة، ولاستغل هذا الباب دعاة الضلال والخرافات، وأيضاً فإن هذه التمائم تعرض القرآن للنجاسات، والأماكن التي يجب أن ينزه القرآن عنها، ومن علقه يتعذر عليه المحافظة على ذلك خاصة عندما يعلق على الأطفال.
القول الثاني:
وهم القائلون بالجواز، واستدلوا بما يلي:
1- بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من تعلق شيئا أكل عليه أو إليه).12
وجه الدلالة: أن من علق التمائم الشركية وكل إليها، ومن علق القرآن تولاه الله ولا يكله إلى غيره لأنه -تعالى- هو المرغوب إليه والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرآن.
وأجيب عن ذلك: صحيح أن المرغوب إليه والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرآن هو الله - عز وجل - ولكن يكون ذلك حسب ما ورد في الشرع والذي ورد هو الاستشفاء به عن طريق الرقى لا التعليق له، وترجع الاستعاذة بالقرآن إلى الاستعاذة بالله حين يتلوه المسلم حق تلاوته فيؤمن به ويتبعه وينفذ شرائعه فيحصل له بذلك العافية الحقيقية والأمن والسلام، ولا يكون ذلك بتعليق ورقه وجلده.
ولو كان من تعلق القرآن وكل إليه لكفانا إذا أن نتعلق بالقرآن، وما جاء من أذكار الصباح والمساء، ولا داعي لقراءته وقراءة تلك الأذكار، وفي ذلك تعطيل لما ثبت في السنة من الرقى ثبوتاً صحيحاً بشيء لم يثبت أصلاً. ونجد أن من تعلق القرآن طالما التفت قلبه عن الله، فلو نزعت تلك التميمة التي عليه لتغير وخاف من حصول المكاره والأخطار، فلو كان قلبه متعلق بالله لكان واثقاً بالله تمام الثقة، ولم يلجأ إلى شيء لم ترد السنة به، فهو لم يتعلق بالقرآن حقيقة، وإنما تعلق بتلك الأوراق وما عليها من الجلود.(/2)
بعد عرض الأدلة لكل من القولين يتبين لنا أن الراجح هو القول الأول وهو عدم جواز تعليق التمائم من القرآن أو من غيره، وذلك لقوة أدلتهم، ولما فيه من حماية جناب التوحيد من أي شائبة تشوبه وهذا هو المقصد والغاية؛ ولأن أصحاب القول الثاني ليس لهم أدلة صريحة على ما ذهبوا إليه، بل إن الأدلة العامة الصريحة الصحيحة لم تفرق بين المعلق من القرآن وغيره، والصحابة الكرام عندما غضبوا من تعليق بعض أهليهم وذويهم تمائم لم يسألوهم عما إذا كانت قرآنا أو غيره. والقول بجواز تعليقه بدعة لم يأذن بها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. بل إن الله سبحانه أنزل القرآن وسن الأذكار لذكر الله بها وحماية الإنسان نفسه بها من كيد الشيطان ونزغه، ومن حسد الحاسدين وشر الأشرار. ولم يشر من قريب أو بعيد إلى تعليق ذلك، فضلاً عن أن ينص عليه أو يقره، بل إن ذلك مخالف لأصول الإسلام المعلومة من التوكل على الله والاعتماد عليه بذكره والعياذ به من شر كل ذي شر.
ربنا علق قلوبنا بك لا بغيرك، ربنا أصلح ما فسد من أمور المسلمين، واهدنا صراطك المستقيم، إنك تهدي من تشاء إلى سبيلك القويم.
________________________________________
1 لسان العرب لابن منظور (12/67). بتصرف.
2 فتح الباري لابن حجر (10/196).
3 النهاية في غريب الأثر (1/536).
4 رواه أبو داود (3883) قال الألباني حسن، انظر مشكاة المصابيح (4552).
5 رواه أحمد (4/310)، والترمذي برقم(2072)، وهو حسن لغيره، كما ذكر شعيب الأرناؤوط في التعليق على المسند.
6 رواه أحمد (4/154) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2014).
7 رواه أحمد (4/ 154) قال الشيخ الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم : 5388 في صحيح الجامع.
8 حكم تعليق التمائم: لعبد الله زقيل: المصدر: http://saaid.net . بتصرف.
9 التمائم في ميزان العقيدة: لعلي بن نفيِّع العلياني: دار الوطن: ط1: 1411هـ:ص11- 12بتصرف.
10 سبق تخريجه.
11 سبق تخريجه.
12 رواه أحمد (18035) بهذا اللفظ، ورواه الترمذي وغيره بلفظ: (وكل) وقد سبق.(/3)
التمائم في ميزان العقيدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أما بعد:
فإن التوكل على الله تعالى من أفضل القربات التي يتقرب بها العباد إلى الله، كما ذكر الله ذلك في آيات كثيرة، والتوكل هو الاعتماد على الله مع العمل بأسباب جلب الخير ودفع الشر، وينافي التوكل على الله التعلق بأمور وهمية لا تأثير لها في حقيقة الأمر، ومن ذلك تعليق التمائم والحروز التي يصنعها السحرة والمشعوذون. وسنأتي على شيء من التفصيل في بيان معنى التمائم وحكمها.
تعريف التمائم في اللغة والشرع:
قال في اللسان: والتميم: العوذ، واحدتها تميمة، قال أبو منصور: أراد الخرز الذي يتخذ عوذاً، والتميمة خرزة رقطاء تنظم في السير، ثم يعقد في العنق وهي التمائم والتميم، وقيل: هي قلادة يجعل فيها سيور وعوذ. وحكي عن ثعلب: تَمَّمت المولود: علقت عليه التمائم، والتميمة عوذة تعلق على الإنسان. قال ابن بري: ومنه قول سلمة بن الخرشب:
تعوذ بالرقى من غير خبل *** وتعقد في قلائدها التميم
قال: والتميم جمع تميمة.1
قال ابن حجر: والتمائم: جمع تميمة، وهي خرز أو قلادة تعلق في الرأس كانوا في الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات.2
قال ابن الأثير: التمائم جمع تميمة وهي خَرَزات كانت العرب تُعلّقها على أولادهم يَتَّقُون بها العين في زعْمهم فأبْطلها الإسلام.3
إذا فهي كلُ ما علق من أجل دفع شر متوقع حصوله من مرض، أو عين، أو رفع شرٍ، وقع فعلاً سواء كان المعلق خرزاتٍ أو أخشاباً أو خيوطاً أو أوراقاً أو غير ذلك.
استعمالات التمائم:
تستعمل التمائم لغرضين هما:
الأول: دفع الشر المتوقع من مرض، أو عين قبل أن يحصل، وهذا ظاهر فيما يعلق على الصبيان والفرس والمساكن ونحو ذلك.
الثاني: دفع الشر الذي وقع بالفعل وهذا ظاهر فيما يتعلقه المرضى بالواهنة والحمرة والحمى كما يتضح مما سيأتي.
حكم التمائم في الإسلام:
لما كان اعتقاد الجاهليين في تعليق التمائم فيه من اللجوء إلى غير الله في جلب الخير ودفع الضر بما لم يجعله الله سببا شرعياً لذلك، واعتقاد هذا جهل وضلال، وإشراك بالله؛ إذ لا مانع ولا دافع غير الله.
ولما في ذلك من تعلق القلوب والغفلة عن الله -سبحانه- ولمنافاة هذا العمل للتوحيد، أنكره الإسلام عليهم، وزجرهم عنه، وشدد وغلظ في هذا الموضوع؛ لما فيه من الشرك، فحكم التمائم التحريم؛ لما فيها من التعلق بغير الله؛ إذ لا دافع إلا الله، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وأسمائه وصفاته.
الأدلة على تحريم التمائم:
أولاً: من القرآن الكريم:
قول الله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} (17) سورة الأنعام. وقال سبحانه: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (107) سورة يونس. وقال سبحانه: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (53) سورة النحل. ففي هذه الآيات الكريمات دلالة واضحة على أنه لا يكشف الضر إلا الله، وأنه سبحانه هو الذي يلجأ إليه العباد لجلب الخير ودفع الشر وهو القادر على ذلك بسبب أو بغير سبب.
ثانياً: من السنة:
وهذه بعض الأحاديث الواردة في المنع من هذا الأمر: فعن قيس بن السكن الأسدي قال: دخل عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- على امرأة أي من أهله فرأى عليها خرزا من الحمرة فقطعه قطعاً عنيفاً، ثم قال: إن آل عبدالله عن الشرك أغنياء وقال: كان مما حفظنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرُّقى والتمائم والتِّولة شرك).4
وعن عيسى بن عبد الرحمن قال: دخلنا على عبد الله بن عكيم وهو مريض نعوده فقيل له: لو تعلقت شيئاً! فقال: أتعلق شيئا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلق شيئاً وكل إليه)؟5.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعا: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)6.
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من علق تميمة فقد أشرك)7. فهذه النصوص وما في معناها في التحذير من الرقى الشركية التي كانت هي غالب رقى العرب، فنهي عنها لما فيها من الشرك والتعلق بغير الله تعالى.
ويدخل في التمائم: تعليق نعل الفرس على باب الدار، أو في صدر المكان، وتعليق بعض السائقين نعلاً في مقدمة السيارة، أو مؤخرتها، أو الخرز الأزرق على مرآة السيارة التي تكون أمام السائق من الداخل كل ذلك من أجل العين –زعموا- !، وغير ذلك مما عمَّ وطم َّ بسبب الجهل بالتوحيد وما ينافيه من الشركيات والوثنيات التي ما بُعثَ الرسل ولا أنزلت الكتب إلا من أجل إبطالها، والقضاء عليها، فإلى الله المشتكى من جهل بعض المسلمين اليوم وبُعدِهم عن الدين.8(/1)
متى تكون التمائم شركاً أكبرَ، ومتى تكون شركاً أصغرَ؟
التمائم الشركية تختلف حسب الأحوال وحسب المعلق لها فقد تكون شركا أكبر وقد تكون شركا أصغر، فالذي يعلق شيئا ويعبده من دون الله فهذا يكون شركا أكبرَ، أما إذا اعتقد أنها سبب للسلامة من العين فهذا من الشرك الأصغر.
الأسباب إما شرعية وإما طبيعية:
والأسباب إما أن تكون شرعية أو تكون طبيعية. فالسبب الشرعي ما جعله الله سبباً في الشرع بنص آية أو حديث كمثل الدعاء والرقية الشرعية فإنهما سبب شرعي لجلب الخير للعبد أو لدفع الشر عنه بإذن الله تعالى، فالمباشر لهذه الأسباب إنما لجأ إلى الله الذي أمر بها وبيَّن أنها أسباب، والاعتماد على الله لا عليها؛ لأنه هو سبحانه الذي جعلها أسباباً وهو القادر على تعطيل تأثيرها، فيكون الاعتماد أولاً وأخيراً عليه سبحانه وتعالى.
وأما السبب الطبيعي فهو ما كان بينه وبين تأثيره مناسبة واضحة يدركها الناس في الواقع المحسوس أو المعقول مثل أن شرب الماء سبب لإزالة العطش، والتدثر بالملابس سبب لإزالة البرد، ومثل الأدوية المصنوعة من مواد معينة تؤثر على الجراثيم المسببة للمرض فتقتلها.9
علاقة الأسباب بالتمائم:
إن التميمة جماد لا تأثير له ولا علاقة له بالشفاء، فعلى هذا فإن المعلق لها جعلها سببا شرعياً، وضابط السبب الشرعي أن يثبت بالدليل وهذه التميمة لم يثبت دليل على أنها سبب شرعي.
حكم التمائم إذا كانت من القرآن أو من الأدعية النبوية:
التمائم التي من الآيات القرآنية هي على أشكال مختلفة منها ما يكتب في أوراق، ثم تحاط بجلد صغير، ومنها مصاحف تطبع بحجم صغير جداً أحياناً تعلق في الرقبة، ومن الناس من يحملها معه بدون تعليق، ومنها كتابة بعض الآيات القرآنية في قطع ذهبية، أو فضية، أو غيرهما، وغالباً ما تعلق في أعناق الصبيان، وعلى السيارات، وغير ذلك من الصور المختلفة.
وهذا النوع من التمائم التي ليس فيها إلا قرآن قد اختلف العلماء في تعليقه، فمنهم من منعه، ومنهم من أجازه وإليك أقوالهم:
القول الأول:
وهم القائلون بمنع التعليق لهذه التمائم واستدلوا بما يلي:
1- عموم النهي الوارد في تحريم التمائم ولم يأت ما يخصص هذا العموم. والقاعدة الأصولية تقول: إن العام يبقى على عمومه حتى يرد دليلٌ بالتخصيص. قال -صلى الله عليه وسلم-: (من علق تميمة فقد أشرك).10 وقال: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك).11 قالوا: فهذه الأحاديث دلت بعمومها على منع التعليق مطلقاً، ولم يرد ما يخصص التمائم التي من القرآن، أو غيره فالواجب حملها على عومها.
2- لو كان هذا العمل مشروعاً لبينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته إذ البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة، والمتتبع للسنة يرى أن جميع الأحاديث الواردة في الأذكار، والدعوات وردت بلفظ من قال: كذا، أو من قرأ كذا ولم يرد في حديث واحد من كتب كذا أو علق كذا.
وفي ذلك قال ابن العربي: وتعليق القرآن ليس من السنة، وإنما السنة فيه الذكر دون التعليق.
3- سد الذرائع، وهذا أمر عظيم في الشريعة، ومعلوم أنا إذا قلنا بجواز تعليق التمائم التي من الآيات القرآنية، والدعوات النبوية انفتح باب الشرك، واشتبهت التميمة الجائزة بالممنوعة، وتعذر التمييز بينهما إلا بمشقة عظيمة، ولاستغل هذا الباب دعاة الضلال والخرافات، وأيضاً فإن هذه التمائم تعرض القرآن للنجاسات، والأماكن التي يجب أن ينزه القرآن عنها، ومن علقه يتعذر عليه المحافظة على ذلك خاصة عندما يعلق على الأطفال.
القول الثاني:
وهم القائلون بالجواز، واستدلوا بما يلي:
1- بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من تعلق شيئا أكل عليه أو إليه).12
وجه الدلالة: أن من علق التمائم الشركية وكل إليها، ومن علق القرآن تولاه الله ولا يكله إلى غيره لأنه -تعالى- هو المرغوب إليه والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرآن.
وأجيب عن ذلك: صحيح أن المرغوب إليه والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرآن هو الله - عز وجل - ولكن يكون ذلك حسب ما ورد في الشرع والذي ورد هو الاستشفاء به عن طريق الرقى لا التعليق له، وترجع الاستعاذة بالقرآن إلى الاستعاذة بالله حين يتلوه المسلم حق تلاوته فيؤمن به ويتبعه وينفذ شرائعه فيحصل له بذلك العافية الحقيقية والأمن والسلام، ولا يكون ذلك بتعليق ورقه وجلده.
ولو كان من تعلق القرآن وكل إليه لكفانا إذا أن نتعلق بالقرآن، وما جاء من أذكار الصباح والمساء، ولا داعي لقراءته وقراءة تلك الأذكار، وفي ذلك تعطيل لما ثبت في السنة من الرقى ثبوتاً صحيحاً بشيء لم يثبت أصلاً. ونجد أن من تعلق القرآن طالما التفت قلبه عن الله، فلو نزعت تلك التميمة التي عليه لتغير وخاف من حصول المكاره والأخطار، فلو كان قلبه متعلق بالله لكان واثقاً بالله تمام الثقة، ولم يلجأ إلى شيء لم ترد السنة به، فهو لم يتعلق بالقرآن حقيقة، وإنما تعلق بتلك الأوراق وما عليها من الجلود.(/2)
بعد عرض الأدلة لكل من القولين يتبين لنا أن الراجح هو القول الأول وهو عدم جواز تعليق التمائم من القرآن أو من غيره، وذلك لقوة أدلتهم، ولما فيه من حماية جناب التوحيد من أي شائبة تشوبه وهذا هو المقصد والغاية؛ ولأن أصحاب القول الثاني ليس لهم أدلة صريحة على ما ذهبوا إليه، بل إن الأدلة العامة الصريحة الصحيحة لم تفرق بين المعلق من القرآن وغيره، والصحابة الكرام عندما غضبوا من تعليق بعض أهليهم وذويهم تمائم لم يسألوهم عما إذا كانت قرآنا أو غيره. والقول بجواز تعليقه بدعة لم يأذن بها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. بل إن الله سبحانه أنزل القرآن وسن الأذكار لذكر الله بها وحماية الإنسان نفسه بها من كيد الشيطان ونزغه، ومن حسد الحاسدين وشر الأشرار. ولم يشر من قريب أو بعيد إلى تعليق ذلك، فضلاً عن أن ينص عليه أو يقره، بل إن ذلك مخالف لأصول الإسلام المعلومة من التوكل على الله والاعتماد عليه بذكره والعياذ به من شر كل ذي شر.
ربنا علق قلوبنا بك لا بغيرك، ربنا أصلح ما فسد من أمور المسلمين، واهدنا صراطك المستقيم، إنك تهدي من تشاء إلى سبيلك القويم.
________________________________________
1 لسان العرب لابن منظور (12/67). بتصرف.
2 فتح الباري لابن حجر (10/196).
3 النهاية في غريب الأثر (1/536).
4 رواه أبو داود (3883) قال الألباني حسن، انظر مشكاة المصابيح (4552).
5 رواه أحمد (4/310)، والترمذي برقم(2072)، وهو حسن لغيره، كما ذكر شعيب الأرناؤوط في التعليق على المسند.
6 رواه أحمد (4/154) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2014).
7 رواه أحمد (4/ 154) قال الشيخ الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم : 5388 في صحيح الجامع.
8 حكم تعليق التمائم: لعبد الله زقيل: المصدر: http://saaid.net . بتصرف.
9 التمائم في ميزان العقيدة: لعلي بن نفيِّع العلياني: دار الوطن: ط1: 1411هـ:ص11- 12بتصرف.
10 سبق تخريجه.
11 سبق تخريجه.
12 رواه أحمد (18035) بهذا اللفظ، ورواه الترمذي وغيره بلفظ: (وكل) وقد سبق.(/3)
التنافس الصحيح
عبدالحميد التركستاني
ملخص الخطبة ... ... ... ...
1- إذا نافسك الناس في الدنيا فنافسهم في الآخرة. 2- المنافسة في أمور الآخرة سبب لارتفاع أرواح المتنافسين فيما المنافسة في الدنيا سبب لدنو الهمة. 3- دعوة للمنافسة على الجنة. 4- دعوة لاغتنام الأوقات قبل انصرامها. 5- عوائق تمنع تمنع من المنافسة على الآخرة. ... ... ... ...
... ... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ... ...
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، أيها الإخوة: ها نحن الآن قد انطوت صفحات من أعمارنا وانقضت الإجازة الصيفية بما فيها من الخير والشر، لنبدأ مشوار العام الدراسي الجديد فمن شمر واجتهد من البداية نال مبتغاه ومن قصّر وغفل ولهى ولعب لم ينل مراده وخسر عاما كاملا لم يستفد منه شيئا.
وهكذا الدنيا معشر الأحبة هي دار العمل والجد في طاعة الله فنحن في الدنيا كأننا في سنة دراسية فمنا الرابح ومنا الخاسر والإنسان ما دام يحيا على هذه الأرض ينبغي له أن يغتنم فرصة الصحة والقوة والشباب والراحة ليجعل أوقاته كلها طاعة لله عز وجل فها هي أسواق الجنة تفتح أبوابها لترى منافسة العباد في المتاجرة مع الله عز وجل، متاجرة ومنافسة كما قال بعض السلف: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة. قال تعالى: وفي ذلك فليتنافس المنافسون فأصحاب الدنيا يتنافسون من أجل مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد، يريد كل منهم أن يسبق إليه وأن يحصل على أكبر نصيب منه ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل وفان.
وأما أصحاب الآخرة الذين يريدون الجنة الذين يبحثون عن السعادة الحقيقية فهم الذين يجعلون حياتهم وقفا على معرفة الله ومرضاته، وإرادتهم مقصورة على محابه فتنافسهم في الدنيا من أجل تحصيل النعيم المقيم في الدار الآخرة وهذه الهمة أعلى همة شمر إليها السابقون وتنافس فيها المتنافسون، فهو مطلب يستحق المنافسة وهو أفق يستحق السباق والتنافس هو التسابق والتغالب وأصله من المنافسة وهي مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم.
ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعا حتى يصل بهم الحال إن قتل أحدهم في سبيل الله يقول في لحظة فراقه للدنيا: (فزت ورب الكعبة). إنه الفوز بالشهادة لدخول دار الكرامة بل يصل الأمر ببعضهم أن يشم رائحة الجنة ويأتيه من روحها ونسيمها وهو في هذه الدار كما حدث لأنس بن النضر في أُحدٍ عندما قال: إني لأجد ريح الجنة دون أحد فقاتل حتى قتل ، بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بنا جميعا، والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع، والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعا وبيئاً تأكل منه النفوس الحاقدة والدنيئة بعضها البعض، أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين، والتنافس في نعيم الآخرة يجعل الدنيا مزرعة للآخرة مما يجعل منها عبادة تحقق غاية وجود هذا الإنسان كما قررها الله سبحانه وهو يقول: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، وإن قوله: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لهو توجيه مد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة إلى الدار الآخرة، كما كان يفعل أبو مسلم الخولاني عندما كان يقوم الليل فإذا تعبت قدماه ضربها بيديه قائلا: أ يحسب أصحاب محمد أن يسبقونا برسول الله والله لنزاحمنهم عليه في الحوض، فهو يريد المنافسة ويريد أن يزاحم صحابة رسول الله في الدار الآخرة، وهنيئا له بهذه المنافسة الشريفة.
أيها المسلمون: إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود وعمره في الآخرة ليس له نهاية ولا حدود، وإن متاع الدنيا في ذاته محدود، ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر، وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم في الآخرة يليق بالخلود فأين مجال من مجال؟ وأين غاية من غاية؟ متى يحاسب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب لا توجد مقارنة ألا إن السباق إلى هناك، فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى فيها المخيم، ولهذا حض النبي عليه الصلاة والسلام أمته للعمل الصالح، فوصف لهم الجنة جلاّها لهم ليخطبوها فقال: ((ألا من مشمر للجنة؟ فإنها ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانه تهتز، وزوجة حسناء، وفاكهة نضيجة، وقصر مشيد نهر مطّرد، فقال الصحابة: يا رسول الله نحن المشمرون لها فقال: قولوا إن شاء الله)) وقال عليه الصلاة والسلام لمن سأله مرافقته في الجنة: ((أعني على نفسك بكثرة السجود)) وذلك لأن مقامات الناس في الجنة حسن أعمالهم.
أيها المسلمون: إن العمل الجاد في طاعة الله لطلب الجنة محبوب للرب مرضي له ولو لم يكن هذا مطلوباً له سبحانه وتعالى لما وصف الجنة للعباد وزينها لهم وعرضها عليهم، وأخبرهم عن تفاصيل ما تصل إليه عقولهم منها وما عداه أخبرهم به مجملا، كل هذا تشويقا لهم إليها وحثا لهم على السعي لها سعيا حثيثا.(/1)
أيها الإخوة: إن الله عز وجل يسوق الفرص للبشر لاغتنامها وهي أسواق تعقد ثم تفض يربح منها من يربح ويخسر فيها من يخسر والمسلم سبّاق للخير ولا يدع لحظة من لحظات حياته تمر دون فائدة والزمن له قيمة كبرى في حياة المسلم بل الزمن هو حياة الإنسان، وقيل قديما: "الوقت من ذهب" والحقيقة أن الوقت أغلى من الذهب لأن الوقت هو الحياة والحياة لا تقدر بثمن وكما قال الوزير الصالح يحي بن هبيره:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه
وأراه أسهل ما عليك يضيع
وما أجمل كلام أمير الشعراء شوقي حين قال:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني
معشر المسلمين من صغار وكبار إن لم تعبدوا الله اليوم فمتى تعبدون؟ وإن لم تصلوا اليوم فمتى تصلون؟ وإن لم تجتهدوا في العبادة اليوم فمتى تجتهدون؟ إن لم تدخلوا مضمار السباق في الطاعة فمتى تدخلون؟
فهيا إلى المبادرة للأعمال الصالحة قبل ظهور العوائق وقبل فجأة الموت وإستتمام الرحيل كما جاء في وصية النبي عليه الصلاة والسلام: ((اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)).
فلماذا تدخر هذه الصحة عن طاعة الله؟ ولماذا تبخل بهذا الجسم عن عبادة الله؟ ماذا تنتظر؟ حتى يضعف جسمك ويرق عظمك وتخور قوتك، ثم إذا بلغت الروح التراقي قلت: أفعل وأفعل وأتصدق وأنى أوان العمل حينئذ، فإن كنت باكيا فابك على نفسك من الآن:
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح
لست بالباق وإن عمّرت كنوح
وأما السبيل إلى التنافس:
أولا: أن نعظم أمر الآخرة: ونلحظ سمت الأنبياء قال تعالى: إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار .
ومعنى الآية: أنا خصصناهم بخصيصة عظيمة وجسيمه وجعلنا ذكر الدار الآخرة في قلوبهم والعمل لها صفوة وقتهم والإخلاص والمراقبة لله وصفهم الدائم، فالمؤمن ثمرة وقته وشدة انشغاله إنما يكون بربه سبحانه وما يرضيه وما يقرب إليه يقول بعض السلف: (من كان اليوم مشغولا بنفسه فهو غدا مشغول بنفسه ومن كان اليوم مشغولا بربه فهو غدا يسر بلقاء ربه).
الأمر الثاني: العناية بآخرتنا فكل طاعة نعملها إنما هي إعمار للآخرة فلا تنشغل بتنافس أهل الدنيا. يقول أحد السلف: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة. ودع عنك موازين الناس لبعضهم وناج ربك وقل:
ويا ليت الذي بيني و بينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود يا غاية المنى
فكل الذي فوق التراب تراب
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . ... ... ... ...
... ... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ... ...
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: وإن من عوائق سلوك طريق المنافسة لطلب رضى الله والدار الآخرة:
أولا: الغفلة، داء عضال يقع فيه الكثيرون وهو من أهم أسباب فساد الخلق فمن غفل عن الله واتجه إلى ذاته، وإلى ماله، وإلى أبنائه، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته، فلم يعد في قلبه متسع لله، - والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله - فيزيده الله غفلة، ويملي له فيما هو فيه، حتى تفلت الأيام من بين يديه ويكون أمره فرطا ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: (خراب القلب من الأمن والغفلة وعمارته بالخشية والذكر). فالحذر الحذر من غفلة الغافلين والاغترار بها.
ثانيا: اتباع الهوى وهو السبب الثاني في فساد الخلق وهو يصد عن قصد الحق وإرادته واتباعه فيكون فيه شبها من اليهود، وكم من الناس اليوم من يعلمون الحق ولكنهم لا يريدون أن يطبقوه في واقع حياتهم يريدون سبيل الغي ليتخذوه سبيلا أرأيت من اتخذ إلهه هواه .
قال الحسن: هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه. ليس له وازع من ضمير، ولا رادع من دين، ولا حياء من الناس إن هناك من كان يضع على سطح منزله دشا فإذا به بدل أن يزيله يصبح على سطحه دشين فضول نظره في المحرمات التي تبث عبر هذه الدشوش فيفسد بذلك قلبه وتنعدم الغيرة منه فيعيش بلا هدف ليس له هم في منافسة أهل الخير في الطاعة والعبادة بل منافسة لأهل الشر في الفسق والمجون نسأل الله السلامة والعافية.
ثالثا: الانهماك في تحصيل المال والتجارة وحيازة المال النافع للإسلام وأهله، لا يلبث هذا الأمر أن ينقلب إلى تحصيل محض وحب للدنيا والانغماس فيها، ومن ثم يقسو قلب الشخص وتنحط همته.
رابعا: كثرة التمتع بالمباح والترف الزائد والترفل في النعيم وكل هذه الأمور من العوامل الفتاكة القاضية على التنافس في ميدان الآخرة مهما قيل في تدبيرها وتعليلها.
قال ابن القيم رحمه الله: (قال لي شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة فالعارف يترك كثيرا من المباح برزخا بين الحلال والحرام) .(/2)
هذا والذي لام عليه الإمام ابن تيميه تلميذه ابن القيم (شيء من المباح) فما بالكم بما نراه اليوم من تمتع الناس بمباحات ونعيم لا يعرفها الملوك السالفون.
خامسا: التسويف: وهو داء عضال ومرض قتال، إذ أن (سوْف) جند من جنود إبليس وقد قيل: إن عامة دعاء أهل النار: يا أف للتسويف.
وكم من الناس من سوّف وسوّف فانقضى أجله ولم يدرك شيئا من أمانيه الدنيوية ولم يحصل شيئا لحياته الأخروية.
سادسا: الانغماس في الدنيا والركون إليها، فالانغماس في الدنيا وترفها وملذاتها وتعلق القلب بها ينتج عنه، غفلة عن الآخرة، وتشتت للذهن والقلب، وإهمال الفكر في الاستزادة فيها والخوف على فواتها وهذا يؤدي إلى قسوة القلب ورقة الدين، ومن هنا تبدأ النفس في الاستجابة لتزيين الشيطان، وتثور الشبهات والشهوات في القلب، وتضعف الهمة في التنافس للآخرة وتقوى للتنافس على الدنيا بأي وجه من الوجوه.
فاتقوا الله عباد الله وليتفقد كل منا نفسه، وليكن همنا الأول والأخير هو وجه الله والدار والآخرة والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين . ... ... ... ...(/3)
... ...
التنافس ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- معنى المنافسة والمسابقة. 2- النصوص تأر بالمنافسة على الخيرات. 3- التنافس قبل ظهور العوائق. 4- الآخرة درجات. 5- أنواع التنافس وصوره. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
قال تعالى: إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون [المطففين:22]. بيان وتشويق، بيان لحال أهل الجنة، وقد بدى النعيم فيهم وفيما حولهم وفي الوجوه، شرابهم ليس ككل شراب مختوم بالمسك بدل الطيب وقيل في نهايته يجد الشارب رائحة المسك عند الانتهاء منه وتشويق إلى المبادرة والإسراع لنيل ذلك المقام.
فما التنافس؟ ولماذا؟ وما أنواعه؟ وما السبيل إليه؟
أما التنافس: فهو التسابق والتغالب وأصله من المنافسة وهي مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم كما قال الراغب.
والله تعالى يدعونا إلى الإسراع إلى كل خير، قال تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين [آل عمران:133]. وقال: سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض [الحديد:21]. وقدم المغفرة على الجنة لأن المغفرة سلامة والجنة غنيمة، والسلامة قبل الغنيمة تطلب.
والصادق في خوفه وإقباله، علامة صدقة الإسراع للحديث: ((من خاف أدلج (أي بكر بالطاعة) ومن أدلج بلغ المنزل (الغاية) ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة))([1]). وقد سأل رجل أحد الصالحين عن الحديث: ((من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)) فقال الرجل الصالح: (نعم ولكن للمفتاح أسنان وأسنان مفتاح الجنة هي أوامر الله تعالى فإذا جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك).
والخاسر من كان يومه كأمسه ليس فيه زيادة عمل صالح للأثر: (من استوى يوماه فهو مغبون)([2]). فكيف بمن كان في هبوط دائم؟
وأما لماذا التنافس؟: فلابد من التنافس: في مبادرة الأعمال الصالحة:
قبل ظهور العوائق للحديث: ((بادروا بالأعمال سبعا هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر))([3])، وفي العبادة كالحج للحديث: ((تعجلوا الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له))([4])، وفي الصدقة للحديث: ((إن رسول الله صلى العصر فلما سلم قام سريعا فدخل على بعض نسائه ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته فقال: ذكرت وأنا في الصلاة تبراً (ذهبا) عندنا فكرهت أن يمسي أو يبيت عندنا فأمرت بقسمته))([5]).
لأن مقامات الناس في الجنة على قدر أعمالهم للحديث: ((إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف فوقهم كما تتراءون الكوكب الغائر في الأفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال بلى: والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين))([6]). وللحديث: ((إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما يرون النجم الطالع))([7])، حتى يختلفون في إشراقة وجوههم للحديث: ((أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءه))([8]). وأصحاب العافية من أهل الجنة في درجات دنيا ويتمنون بلوغ ما بلغه إخوانهم من أهل البلاء لعلو درجاتهم للحديث: ((إن أهل النعيم (من أهل الجنة) في الآخرة يتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا فتقرض جلودهم بالمقاريض لما يرون من درجة أهل البلاء))([9]).
وأما أنواع التنافس:
التنافس في مرضاته:
في طلب الشهادة في سبيله: جاء جماعة من الأصحاب إلى رسول الله وطلبوا منه ما يحملهم عليه للغزو فقال لهم: ((والله لا أجد ما أحملكم عليه))، فتولوا وهم يبكون وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا فأنزل الله عذرهم في كتابه فقال: ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون [التوبة:90]. أو في إظهار الرضا بقضائه سبحانه: أغارت الروم على جواميس لبشير الطبري وعنده أربعمائة جاموس فركب هو وابن له فلقيا العبيد الذين يعملون عنده مقبلين يقولون: يا مولانا ذهبت الجواميس، استلبها الروم. فقال بشير الطبري: وأنتم أيضا اذهبوا معها فأنتم أحرار لوجه الله تعالى فقال ابنه: أفقرتنا فقال بشير: اسكت إن ربي اختبرني فأردت أن أزيده([10]).
التنافس في الطاعات:
والعبد إذا مات أيقن أن كل مظهر أو زينة كان يحياها تافهة وليس له من مؤنس إلا عمله الصالح للحديث: ((إذا مات العبد تبعه ثلاثة: أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله))([11]). وسئل أحد الصالحين عن سبب صلاحه قال: (رأيت لكل إنسان محبوب ولكن هذا المحبوب لا يدخل معه في قبره وإنما يدعه ويذهب فجعلت محبوبي الحسنات فهي معي لا تفارقني).
ومن الطاعات:(/1)
التنفل بكثرة السجود للحديث: ((سأل رجل رسول الله مرافقته في الجنة فقال له: أعني على نفسك بكثرة السجود))([12]) وقول رسول الله لبلال: ((يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام إني سمعت دف (أي صوت) نعليك بين يدي في الجنة (أي أمامي) فقال بلال: ما أذنت قط إلا وصليت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها ورأيت أن لله علي ركعتين فقال رسول الله : فبذلك))([13])، قال ابن القيم: تقدم بلال بين يدي رسول الله في الجنة فلأن بلال كان يدعو بالأذان فيتقدم أذانه بين يدي رسول الله فتقدم دخوله كالحاجب والخادم.
ومن الطاعات قضاء حوائج المسلمين وتفقد أحوالهم، كان عمر يتفقد عجوزا كبيرة عمياء في حواشي المدينة (أطرافها) من الليل فيستقي لها ويقوم بأمرها ويخرج عنها الأذى وكان إذا جاءها وجد غيره سبقه إليها فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة فلا يسبق إليها فرصده عمر فإذا هو أبو بكر الصديق رضي الله عنهما الذي يأتيها وهو خليفة([14]).
ومن الطاعات ذكر الله تعالى: ((قال الفقراء لرسول الله ذهب أهل الدثور (الأموال) بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم فقال ، أوليس قد جعل لكم ما تتصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة وتحميدة صدقة وتهليلة صدقة وتكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويضع أحدكم اللقمة في أهله فهي له صدقة))([15]) وفي رواية أبي ذر: ((أفلا أدلك على عمل إذا أنت عملته أدركت من قبلك وفقت من بعدك إلا من قال مثل قولك؟ تسبح الله بعد كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمده ثلاثا وثلاثين وتكبر أربعا وثلاثين)).
وما السبيل إلى التنافس؟:
أن نعظم أمر الآخرة: وتلك سمة الأنبياء، قال تعالى: إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار [ص:46]. وثمرة ذلك انشغالك بربك وما يرضيه يقول أحد السلف: (من كان اليوم مشغولا بنفسه فهو غدا مشغول بنفسه، ومن كان اليوم مشغولا بربه فهو غدا مشغول بربه).
العناية بآخرتنا فكل طاعة إنما هي إعمار لها، فلا تنشغل بتنافس أهل الدنيا يقول أحد السلف: (إذا رأيت من ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة)، ودع عنك موازين الناس لبعضهم وقل :
فليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود يا غاية المنى
فكل الذي فوق التراب تراب
([1])الترمذي .
([2])إحياء علوم الدين وقال رواه البيهقي عن عمر بن عبد العزيز .
([3])الترمذي وقال حديث حسن .
([4])أحمد والبيهقي .
([5])البخاري .
([6])البخاري ومسلم .
([7])أحمد .
([8])البخاري ومسلم .
([9])الترمذي .
([10])صفة الصفوة لابن الجوزي .
([11])البخاري ومسلم .
([12])مسلم .
([13])البخاري ومسلم .
([14])حياة الصحابة .
([15])البخاري ومسلم . ... ...
... ...(/2)
التهاون بالمواعيد
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، والصلاة والسلام على من أرسله ربه هادياً ومبشراً ونذيرا، ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، أما بعد:
إن الدين الإسلامي العظيم جاء بجملة من الآداب الاجتماعية هي نسيج واحد ملتئم ومتماسك، لا يمكن الأخذ بطرف منه وترك سائره، بل لابد من التحلي به جملة وتفصيلاً حتى يسود المجتمع ويرتقي في سلم المجد والعز.
فمن الآداب الاجتماعية المؤثرة في المجتمع أدب الوفاء بالمواعيد المضروبة وعدم التخلف عنها إلا بعذر قاهر صحيح مقبول، حتى يطمئن الناس بعضهم إلى بعض، ويثق بعضهم بوعد البعض الآخر، وكلامه، وميثاقه وعهده، والتزامه الذي التزمه، والوعد المضروب الذي ارتضاه وقبله.
أيها الأحبة: إن الله سبحانه وتعالى مدح نبياً كريماً بالصدق في الوعد، والالتزام به، فقال-سبحانه-:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} مريم:54، قال الإمام القرطبي- رحمه الله- عند هذه الآية: "صدق الوعد من خلق النبيين والمرسلين، وضده-وهو الخلف-مذموم، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين...1 .
أما النبي-صلى الله عليه وسلم- فقد حث على الوفاء بالوعد، وجعل من يخلف الوعد قد اتصف بصفة المنافق، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا وعد أخلف"2, قال الحافظ السخاوي-رحمه الله تعالى-في قول النبي-صلى الله عليه وسلم-:"إذا وعد أخلف": أنه محمول على مَن وعد وهو على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر، فأما مَن عزم على الوفاء ومَن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقاً وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق، ولكن يحترز من صورة النفاق كما يحترز من حقيقته.. ولا ينبغي أن يجعل نفسه معذوراً من غير ضرورة..3.
ومما جاء في الأحاديث يفيد أهمية الوفاء بالوعد والصدق فيه ما جاء في حديث هرقل المشهور لما قال لأبي سفيان:" سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه أمركم بالصلاة، والصدق, والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي"4. فالوفاء بالوعد والعهد من صفة الأنبياء، ومن صفة أتباعهم ومن جرى على سنتهم.
أمثلة من وفاء السلف في مواعيدهم:
كان السلف الصالح-رضوان الله عليهم- يحرصون كل الحرص على إنجاز ما يوعدون به, فهذا ابن مسعود –رضي الله عنه-كان يقول أصحابه أنه إذا وعد فقال: إن شاء الله لم يخلف"5. وهذا محمد بن سيرين-رحمه الله تعالى-يواعده ابن عبد ربه القَصَّاب فيقول: "واعدت محمد بن سيرين أن أشتري له أضاحي فنسيت موعده لشغل ثم ذكرت بعدُ، فأتيته قريباً من نصف النهار، وإذا محمد ينتظرني ، فسلمت عليه فرفع رأسه فقال: أما أنه قد يقبل أهون ذنب منك، فقلت: شُغِلتُ، وعنفني أصحابي في المجيء إليك وقالوا: قد ذهب ولم يقعد إلى الساعة، فقال: لو لم تجئ حتى تغرب الشمس ما قمت من مقعدي هذا إلا للصلاة أو الحاجة لا بد منها"6ولا ريب أن صنيعه هذا-رحمه الله تعالى- يدل على حرصه الشديد على الوفاء بوعده وإعذار الآخرين المتأخرين.
أهمية الالتزام بالمواعيد المضروبة وعدم الإخلال بها:
إن الالتزام بالمواعيد المضروبة، صفة من صفات الأنبياء والمرسلين، وخلق من أخلاق العلماء والدعاة المخلصين، وأدب من آداب الرجال الصادقين، فالالتزام بالمواعيد يحفظ الأوقات من الضياع، فتحصل المصالح، وتعم الفائدة، ويتصف صاحب الوفاء بصفة حميدة يحبه عليها الله والناس.
قال عبد الرحمن بن أَبْزى-رضي الله عنه-: كان داود-عليه السلام-يقول:" لاتَعِدنَّ أخاك شيئاً لا تنجزه له، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة"7.
أولئك قوم أدبتهم الحكمة، وأحكمتهم التجارب، ولم تغررهم السلامة المنطوية على الهَلَكة، ورحل عنهم التسويف الذي قطع الناس به مسافة آجالهم، فقالت ألسنتهم بالوعد, وانبسطت أيديهم بالإنجاز، فأحسنوا المقال وشفعوه بالفعال"8
يقول أبو تمام:
إذا قلت في شيء : نعم فأتمه فإن نعم دَين على الحرِّ واجب
وإلا فقل : لا تسترح وترح بها لئلا يقول الناس : إنك كاذب
ويقول العقيلي في هذا المعنى:
ابدأ بقولك لا من قبل قول نعم يا صاح بعد نعم ما أقبح العللا
واعلم بأن نعم إن قالها أحد عند المواعيد لم يترك له جدلا
أسباب التهاون بالمواعيد:
أيها الأحبة: إن هناك جملة من الأسباب التي قد تؤدي- مجتمعة أو منفردة- إلى الإخلال بالمواعيد والتخلف عنها والتهاون بها، وبعض هذه الأسباب أخطر من بعض؛ لكنها كلها مؤشر على خلل في الشخصية لا بد أن يتداركه المرء، فمن تلك الأسباب ما يلي:
1- ضعف الالتزام بالأحكام الشرعية: وذلك ؛ لأن الموعد المضروب المتفق عليه لا يصح شرعاً أن يُتأخر عنه إلا بعذر شرعي؛ وذلك لأن النبي-صلى الله عليه وسلم-عد من علامات النفاق العملي إخلاف الموعد.(/1)
2- عدم إدراك أن الموعد المضروب المتفق عليه لا يجوز الإخلال به إلا بعذر، وهذا قد يكون عند بعض الناس عذراً قائماً يعتذرون به، إذ يظنون أنه لا شيء في إخلاف الموعد ولا بأس فيه، فهؤلاء ينبغي أن يُعلَّموا ويبين لهم حتى يزول جهلهم وينتفي عذرهم.
3- عدم المبالاة: وهذه صفة قائمة في بعض النفوس، حيث صار أصحابها لا يبالون بأمور كثيرة، ولا يرون أهميتها، ومن جملة تلك الأمور قضية الالتزام بالموعد، ولأن عدم المبالاة صارت صفة لبعض الناس فإنك تراهم لا يأبهون ولا يبالون أحضروا في الوقت أم لم يحضروا، أو أنك تراهم يتخلفون عن الحضور تماماً ثم لا يتكلف الواحد منهم مشقة الاعتذار ولو مهاتفة!! وهذا الصنف لا يعتمد عليه ولا ينبغي أن يعتمد عليه في شيء ذي بال فإنه ضائع مضياع، لم يُربَّ التربية الإيمانية الجادة القوية.
4- عدم الالتفات إلى الدقائق أو إلى أجزاء الساعة: وهذا في الحقيقة جزء من السبب السابق-عدم المبالاة- إذ تجد الشخص لا يعد الدقائق أو أجزاء الساعة شيئاً، فالموعد المضروب في الساعة السابعة والنصف لا يرى شيئاً في تأخيره إلى الثامنة، والموعد المضروب في الساعة السابعة والربع يؤخره إلى السابعة والنصف أو الثامنة أيضاً وهكذا، وكل ذلك نابع من عدم مبالاته.
5- عدم تقدير أهمية ما يراد الحضور إليه: هناك من الناس من يتخلف عن الحضور إلى المواعيد المضروبة؛ لأنه لا يرى أهمية لحضوره، أو يراه في أحسن الأحوال مرجوحاً في حقه، فهذا لا عذر له على الحقيقة، وذلك لأنه كان ينبغي له الاعتذار المبكر عن عدم الحضور لئلا ينتظره من يتوقع حضوره، لكن بعض الناس يخجل من الاعتذار، أو يخاف إن اعتذر ألا يُقبل عذره، أو يُساء الظن به، أو غير ذلك من الأسباب التي هي ليست في الحقيقة أسباباً وجيهة يقدم بها بين يدي غيابه.
6- عدم مراعاة الأولويات: إن مراعاة الأولويات أمر مهم، فيكون قد وعد الطلاب بدرس في الساعة التاسعة، ثم يتأخر عنهم إلى العاشر لأسباب قد لا تكون أسباب في الحقيقة فمثلاً يقول لك:
تأخرت بسبب أني كنت مع زوجتي في السوق.
تأخرت لأن زوجتي أصرت أن أوصلها إلى بيت أهلها أو صويحباتها.
تأخرت لأن عندي موعداً آخر، فيكون قد وقع في خطأ أخر وهو أنه ربط أكثر من موعد في وقت واحد. هذه وغيرها من الأعذار والأسباب الواهية.
7- عدم اتخاذ الوسائل المناسبة للتذكير بالموعد: فبعض الناس يريد الحضور في الموعد الذي التزمه، ويأنف من التخلف عنه أنفة تامة، لكنه لم يتخذ من الوسائل ما يكفل له ذلك؛ خاصة إن كان الموعد المضروب بعد أسابيع أو شهور فهذا يحسن به أن يتخذ مذكرة, أو مفكرة, ينظر فيها كل يوم ليتذكر بها مواعيده، أو إن كان قد اتخذ مساعداً في عمله فليذكره المساعد بما التزمه من المواعيد، أو يتفق مع آخرين يخضرون معه موعده أن يذكروه، وينبهوه، وكل تلك الوسائل ناجعة في تحقيق الالتزام المطلوب خاصة لمن كان مصاباً بمرض النسيان.
الآثار المترتبة على إخلاف المواعيد:
إن قضية الخلف بالمواعيد ليست قضية سهلة أو هينة حتى تتجاوز، بل هي مشكلة إيمانية تربوية اجتماعية ينبغي النظر في أسبابها والآثار الكبيرة التي تتركها في الأفراد والمجتمعات.فمن هذه الآثار السيئة ما يلي:
1- عدم الاعتماد على من يتخلف عن موعده وعيب صنيعه: وهذا أمر خطير إذا انتشر بين الناس أن فلاناً ليس بجادّ، ولا هو ممن يعتمد عليه، ولا ينبغي الالتزام معه بموعد مضروب، إذ نتيجة ذلك أن يعرض الناس عن هذا الشخص فلا يشارك في أمر ذي بال.
2- عدم الثقة بما يُضرب من مواعيد: وهذه مشكلة شائعة، إذ ينتشر بين الناس ألاَّ سبيل إلى الحضور في الموعد المضروب فإذا لم يكن الموعد في الثامنة فلا بأس أن يكون في التاسعة أو العاشرة.
3- تفلت الجادين من الالتزام بمواعيد العابثين: فإذا رأى الشخص الجاد أن المجموعة التي التزمت بالموعد قد اعتادت أن تتخلف عنه وألا تعيره الاهتمام اللائق، فإنه قد ينصرف عن الالتزام معهم في أي موعد يضربونه، بل قد يعتذر عن عدم حضوره واستمراره مع تلك المجموعة، فإذا انسحب الشخص الجاد وبقي الضعاف، فهل يُرجى لهذا العمل أي تقدم وإنتاج؟! وهل يُعقل أن يبقى شخص جاد مع أولئك العابثين اللاهين؟!.
4- تعطل إنجاز الأعمال: فإذا انتشر في الناس التخلف عن المواعيد أو التأخر عنها فإن ذلك يؤدي في المنظور المتوسط والبعيد إلى تعطيل إنجاز أعمال كثيرة، أو التأخر في إنجازها تأخراً يُعد أخاً للتعطيل، وينبني على ذلك عدم الوفاء بكل ما أريد تنفيذه من خطط وأهداف، وفي ذلك خسارة كبيرة للجهود وتضييع للأعمال.
5- عدم الفهم الكلي أو الجزئي لما يجري في اللقاء: وهذا يكون عندما يتأخر القادم تأخراً يؤدي به إلى أن يفقد المتابعة المؤثرة الصحيحة لما يجري بسبب تأخره وعدم فهمه للنقاش الدائر9.
6- إلغاء أو تأجيل اجتماعات هي غاية في الأهمية, قد يترتب عليها خسارات مادية واعتبارات شخصية .. وخلل اجتماعي ...(/2)
7- اتصاف هذا الشخص أو ذاك بأنه كذاب وأنه يخلف الوعود .. وهذه صفة من صفات المنافقين.
العلاج:
إذا كنا قد شخصنا المرض فما علينا بعده إلا أن نكتب العلاج لهذا المرض الخطير والداء العضال الذي يتفشى في أوساط المجتمعات بمختلف شرائحها وتوجهاتها حتى الملتزمين منها فالعلاج هو كالتالي:
1- التربية الإيمانية الجادة: وهذه التربية كفيلة- بإذن الله- أن تقضي على هذه الظاهرة كليّاً أو تخفف من آثارها تخفيفاً كبيراً. فالمرء عندما يتربا على التربية الإيمانية الجادة يجد دافعاً إيمانياً يدفعه للوفاء بالوعد، وللدقة في الحضور.
2- المصارحة وعدم المواربة والمجاملة والمداهنة: فإن مواجهة أولئك الذين يضيعون أوقات الآخرين، ولا يأبهون لأمر حتمٍ لازمٍ، لا تنفع معهم المواربة والمجاملة، ولا يليق فيه إلا المصارحة وعدم المداهنة.
3- تكرم وتشجيع من يلتزم الموعد تكريماً معنوياً أو مادياً مناسباً: وهذا سهل التحقق في الشباب الصغار والناشئة الأحداث حيث يقوم مربوهم والمسئولون عنهم في شتى المجالات الرياضية, والتربوية, والدينية, والعلمية بتكريمهم. وهذا يغري الآخرين ويشجعهم على الوفاء بالمواعيد، والحضور في الوقت المحدد.
4- التزام القدوات بالمواعيد المضروبة: ليس أنجع في حل هذه المشكلة ولا أعظم أثراً من أن يضرب القدوة المثل بنفسه، فيسارع في الحضور والالتزام بالموعد المضروب التزاماً يغني عن أي كلام، ويقوم مقام توجيهات شفهية كثيرة.
5- الالتزام بالبدء في الموعد وعدم انتظار المتأخر: وهذا علاج ناجح لأنه يحقق عدة أمور منها:
أ - شعور المتأخر بالخجل من تأخره.
ب - إشعار المتأخر أن القوم ليسوا في حاجة ماسة إليه، وأنهم يمكن أن ينصرفوا إلى ما جاءوا له دون انتظار حضوره، وهذا يشعره بنقص يلازمه لا ينفك عنه إلا بحضوره في الوقت المقرر سلفاً.
ت - يشعر الآخرين بأهمية ما جاءوا له، وأن الموعد محترم.
6- تحديد ساعة معينة للبدء10.
حكم الإخلال بالوعد:
اختلف العلماء في حكم الوفاء بالوعد، فقد قال النووي:"قد أجمع العلماء على أن من وعد إنساناً شيئاً ليس بمنهي عنه فينبغي له أن يفي بوعده، وهل ذلك واجب أو مستحب؟ فيه خلاف بينهم، فذهب الشافعي، وأبو حنيفة، والجمهور على أنه مستحب، فلو تركه فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة، ولكن لا يأثم.. وذهب جماعة إلى أنه واجب"11وحكى الخطابي عن الإمام أحمد القول بالوجوب، وذكر النووي أن ابن العربي ذكر قولاً ثالثاً للمالكية إلى أنه ارتبط الوعد بسبب كقوله: تزوج ولك كذا، وجب الوفاء بالوعد، ونحو ذلك، وإن كان وعداً مطلقاً لم يجب. انتهى12. فيتبين من هذا الكلام المتقدم أن الخلف بالوعد أقل أحواله عند الفقهاء الكراهة الشديدة، وأن القول بحرمة إخلاف الوعد ووجوب الوفاء به للمستطيع قول وجيه وله أدلته الوجيهة، فينبغي للعاقل والحالة هذه أن يفي بوعده ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وألا يعزم على الإخلاف والنكث فإنه في أقل أحوال مذهب للمروءة.
تَيَمَّمْتُ ما أرجوه من حسن وعدكم فكنت كمن يرجو منال الفراقد13
هَبُونيَ14 لم أستأهل العُرفَ منكمُ أما كنتمُ أهلاً لصدق المواعدِ 15.
وأخيراً: أخي الكريم :إنك إذا وعدت صديقاً لك قال أوعد عربي أم إنكليزي، لأن الموعد العربي-حسب زعمهم- متصف دوماً بالتأخير واللامبالاة والاستهتار، بل والإخلاف بالوعد على نقيض الموعد الإنكليزي الذي يعني دوماً دقة الموعد وضبطه .. حتى صار مجالاً للمدح والإطراء ...
إنه لمؤسف جداً أن يتسم أعداء الإسلام ببعض صفات الخلق الاجتماعي, كالوفاء بالوعد, والالتزام بالاتفاق, ونتسم نحن المسلمين بعدم الوفاء بالوعد، والالتزام بالاتفاق.
إن كثيراً من أبناء المسلمين نسوا أن الوقت ليس ملكهم خاصة .. وأن المواعيد ملك للمتعلقين بهذا الوعد .. فيترتب عليها مفسدة بل مفاسد وأضرار كما قدمناه.
وإنه لجديرٌ بنا ونحن أمة القرآن وأمة الإسلام أن نسترد عزيمتنا ونقوم سلوكنا ونربي أنفسنا ونغير منهجنا ووفق منهج الحق ، والصلاح, والاستقامة, وأن ننشئ الجيل القادم على الفضيلة والصدق والوفاء, وأن نمتثل ذلك فينا لنكون قدوة حسنة وأسوة طيبة16. قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } الرعد: من الآية11.
أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يعلي شأنهم، وأن ينصرهم على عدوه وعدوهم إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - الجامع لأحكام القرآن (11/115).
2 - البخاري ، كتاب الشهادات، باب من أمر بإنجاز الوعد وفعله المحسن.
3 - التماس السعد83-84.
4 - البخاري، كتاب الشهادات، باب من أمر بإنجاز الوعد وفعله الحسن.
5 - المصدر السابق.(74).س
6 - راجع:" التماس السعد ص(70-71).
7 - المنتقى من مكارم الأخلاق" ص(55).(/3)
8 - المصدر السابق ص(54).
9 - راجع: كتاب ظاهرة التهاون بالمواعيد محمد الشريف بتصرف يسير. ص(78-80).
10 - راجع: ظاهرة التهاون بالمواعيد محمد الشريف ص(82)وما بعدها بتصرف يسير.
11 - النووي في الأذكار.
12 - راجع: التماس السعد ص(53)وما بعدها.
13 - تيممت: أي قصدت وطلبت: والفراقد: نجوم السماء.
14 - هبوني أي: عُدُّوني فرضاً وجدلاً
15 - راجع : المنتقى من مكارم الأخلاق ص(54).
16 - راجع مجلة البيان رقم (40)، مقال "مفارات المواعيد"، خالد الموسى. بتصرف.(/4)
التهوية والتدفئة والتنظيف والإنارة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالمساجدُ هي بيوتُ اللهِ في أرضِهِ،وهي أفضلُ البقاع، إليها يأتي المسلمون ليُؤدوا ما فرض اللهُ عليهم،فهم مُطالبون بخمس صلوات في اليوم والليلة،وتكون في جماعة المسلمين،التي لا تكون في الغالب إلا في المساجد.
والمساجدُ لها منزلةٌ عظيمةٌ في قلوبِ المسلمينَ،فهم يُصلُّون فيها ويتعلَّمون فيها ويقرأون القرآنَ والكتبَ النافعةَ،ويجلسون في حِلَقِ الذِّكرِ، كل ذلك في هذه البيوت؛ لأنهم يعلمون منزلة هذه المساجد,ومكانتها عند الله { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ }سورة النور: 36.
ولما كانت هذه المساجدُ يرتادها المسلمون فإنَّها تحتاجُ لما يُصلحها ويجعلها مُهيَّأةً للمُصلِّينَ حتى يتمكنوا من أداءِ الصَّلاةِ على أكمل وجه، وأتمه.
ونظراً لما يطرأ على المناخ من الحرارة أو البرودة وتأثر المساجد بتلك الظروف؛ لأنها ليستْ في معزلٍ عن هذا الأمرِ، فيكون فيها الجو الحار أو البارد على حسب ما هو موجود في تلك المنطقة الجغرافية التي يقع فيها المسجد، ولذلك ينبغي أن توجد المكيفات التي تلطف الجو من حرارته إلى برودته، أو العكس، ليتمكن المصلي من أداء ما فرض الله عليه بكل راحة واطمئنان، فإذا عدمت هذه الأشياء فإن الناس يتضايقون من الحر أو البرد وبالتالي قد يتخلفون عن أداء الصلاة في المساجد، والسبب هو أن هذه المساجد ليست مهيأة كما ينبغي، فعلى القائمين عليها أن يبذلوا ما بوسعهم في تهيئتها.
أما عن تنظيف المساجد فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببناء المساجد في الدور -أي: في محال القبائل-، وأن تُنظَّفَ وتُطيَّبَ(1).
وعن سَمُرة بن جُنْدُب قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنْ نتخذَ المساجدَ في ديارِنا، وأمرنا أنْ ننظفها(2).
وكثير من مساجد المسلمين اليوم سيئة التهوية، وفرشها لا يُرفع من مكانه إلا بعد أعوام طويلة، فيشم الداخل إليها الروائح النتنة من أثر أقدام المصلين، أو من عرق أبدانهم، أو ريح ثيابهم المتسخة، أو من كثرة غلق النوافذ. فأين النظافة؟! وأين تطييب المساجد؟!
وبعض المساجد ليس فيها تدفئة في الشتاء، أو تبريد في الصيف, فلا يستطيع المصلي المكوث فيها،وقد توجد ولكن في أماكن غير مناسبة لها، فمثلاً توضع المدافئ في منتصف المسجد أمام صفوف المصلين؛ حيث يصلون إلى النار، وإلى اللهب الظاهر من المدافئ، والأجدر أن توضع في المكان المناسب، إما في مؤخرة المسجد، أو في زاوية منه، والأفضل لو أنشئت تدفئة مركزية؛ تغني عن هذه المدافئ القديمة.
وتهوية المساجد ووسائل تنقية الهواء من نظافة المسجد، وبحمد الله فوسائل التنظيف، والتهوية من المراوح والمكيفات متوفرة, فما على القائمين على المساجد إلا إدخال مثل هذه الوسائل إليها.
أما الإنارة، فهي ضرورية، ليتمكن الناس من الجلوس في المسجد لقراءة القرآن وحضور الصلوات -وخاصة الليلية المغرب والعشاء وكذا الفجر-، وقراءة العلوم النافعة، ولكن يقتصر منها على ما هو ضروري، دون إسراف وتبذير.
فهذه الأمور التي ذكرت من تهوية وتنظيف وتدفئة وإنارة لبيوت الله ضرورية لها، وهي مما يصلحها ويجعلها مهيأة للعبادة، ويدخلوها المسلمون ويجدون فيها الأنس والراحة، لا يدخلونها وهم متضايقون من حرها أو بردها أو عدم نظافتها أو روائحها الكريهة.
وفق الله الجميع للخير، والحمد الله رب العالين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يراجع :كتاب (المسجد في الإسلام) لخير الدين وانلي,وغيره في هذا الموضوع.
________________________________________
1 - الترمذي وأبو داود وأحمد، وصححه الألباني، في حجاب المرأة (29).
2 - رواه أحمد والترمذي وصححه، وقال الألباني: صحيح لغيره، انظر:" صحيح الترغيب والترهيب", رقم (278).(/1)
التواضع وذم الكبر بندر بن خلف العتيبي ...
ملخص الخطبة ...
1- الكبرياء صفة لا تنبغي إلا لله. 2-صور من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم. 3-فضل التواضع وذم الكبر. ...
...
الخطبة الأولى ...
...
أيها الناس: قال لي صاحبي وهو مهموم لماذا لا تتحدث عن التواضع وذم الكبر، فإنني أرى في بعض القوم كبراً وتيهاً ظاهراً لا يخفى على من له أدنى بصيرةٌ.
قلت: إي والله: وقد رأيت ما رأى صاحبي أمراً ظاهراً جلياً، ولخطورة هذا الأمر البالغة ولتعلقه بالتوحيد نتحدث فيه، لأن من نبذ خلق التواضع وتعالى وتكَبَّر إنما هو في الحقيقة معتد على مقام الألوهية لأن الكبرياء والعظمة لله وحده، ولا يجوز للعبد أن يتصف بهما أو بأحدهما، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: ((الكبرياءُ ردائي والعظمةُ إزاري. فمن نازعني واحداً منهما ألقيتُه في جهنم)) فليسَ بغريب إذاً أن نجد التواضع من سيماء الصالحين. ومن أخص خصال المؤمنين المتقين ومن كريم سجايا العاملين.
قال الله تعالى: يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]. وقال الله لنبيه والخطاب عام له ولأمته: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وقال تعالى: وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الأرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]. وقال جل وعلا: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35]. في آيات كثيرة جداً في كتاب اللهِ العظيمِ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه اللهُ)).
الله أكبر: إن المتواضع يرفع الله سبحانه وتعالى منزلته ومكانه وقدره فطوبى للمتواضعين.
إخواني يا من تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا من تعتقدون أن لا سعادة ولا عزة ولا طريق إلى الجنة إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا بأن تكون محبته مقدمة على كل محبوب من البشر.
لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
إنه سيد ولد آدم. ليس فوقه أحد من البشر - حاشاه صلى الله عليه وسلم - إنه أحب الخلق إلى الله وأعظمهم جاهاً وقدراً عند رب العالمين. إنه صاحب الوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة، منزلةٌ واحدةٌ ليست إلا له صلى الله عليه وسلم. إن الأرض ما وطئ عليها ولن يطأ عليها إلى يوم القيامة أكرم ولا أجل ولا أرفع منه صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك تأمل أخي المؤمن إلى تواضعه العجيب صلى الله عليه وسلم.
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغبر بطنه يقول: (( والله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
إن الأُلى قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا
ويرفع بها صوته: أبينا، أبينا)).
رعيه الغنم وتحدثه بذلك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بعث الله نبينا إلا وقد رعى الغنم وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط)) قال أهل العلم: رعى الغنم وظيفة ارتضاها الله لأنبيائه.
فما السر في ممارسة الأنبياء لها؟
قالوا: إن من أسرارها أنها تربي النفوس على التواضع وتزيد الخضوع لله تعالى. ومن أسرارها أنها تربي على الصبر وتحمل المشاق إلى حكم كثيرة وهو الحكيم العليم.
وأيضاً تواضعه مع الضعفاء والأرامل والمساكين والصبيان.
عن سهل بن حنيف رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم)) يأتي ضعفاء المسلمين. فلم تشغله النبوة عن ذلك. ولم تمنعه مسؤولية أمته، ولا كثرة الارتباطات والأعمال: أن يجعل للضعفاء والمرضى نصيباً من الزيارة والعبادة واللقاء.
فأين أنتم يا أصحاب الجاه والسلطان من هذا الخلق العظيم؟ أين أنتم أيها الأغنياء من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم.
إذا أردتم حلاوة الإيمان أن تطعموها. فهذا هو السبيل إليها فلا تخطئوه.
أيها المسلمون: كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم. وفي رواية: ((كان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم)).
إنك ترى - في عصرنا هذا - من يترفع عن المتقين من الرجال فكيف يكون شأنه مع الصبيان والصغار؟
إنك لتجد بعض ضعفاء الإيمان يأنف أن يسلم على من يرى أنه أقل منه درجة أو منصباً، ولعل ما بينهما عند الله كما بين السماء والأرض!
ألا فليعلم أولئك أنهم على غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخي المسلم تأمل يا رعاك الله في هذين الحديثين:(/1)
عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: سأل رجل عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: (نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته).
وعن عائشة رضي الله عنها وقد سئلت عما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله؟ قالت: (كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة).
ماذا يقال عمن يفعل مثل هذا اليوم؟ محكوم للمرأة. ولكنه النور الذي جعله الله سبحانه وتعالى في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبان في سلوكه وفعاله وتواضعه وخدمة أهله. وبه كانت تسمو نفسه صلى الله عليه وسلم وتعلو، فليقل السفهاء ما يحلو لهم أن يقولوا.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هذا من فراغ في وقته ولكنه كان يحقق العبودية لله سبحانه بجميع أنواعها وأشكالها وصورها.
اللهم يا كريم يا منان أكرمنا باتباع رسولك صلى الله عليه وسلم واجعلنا ممن يعظم هديه وسنته إنك سميع عليم قريب مجيب والحمد لله رب العالمين. ...
...
الخطبة الثانية ...
أيها المسلمون: قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]. قال عكرمة: العلو: التجبر. وقال سعيد بن جبير: بغير حق: وقال ابن جريج: لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرْضِ تعظماً وتجبراً وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة؟ قال: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس)).
وبطر الحق: هو دفعه ورده على قائله، أما غمط الناس: فهو احتقارهم وازدراؤهم.
وعن عياض بن حمار رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جواظ مستكبر)).
كان علي بن الحسن يقول: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدا جيفة، وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى خلقه، وعجبت كل العجب لمن أنكر النشأة الأولى، وعجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء وترك دار البقاء.
قال الحسن رحمه الله: هل تدرون ما التواضع؟ التواضع: أن تخرج من منزلك فلا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً.
ومن منا الآن يطبق هذا القول على نفسه، وينزلها تلك المنزلة؟ بل البعض يأخذه العجب والتيه والتكبر على عباد الله لدنيا أو منصب أو علم أوجاه. . وكلها منح وعطايا من الله عز وجل. ومثلما أعطاها إياه فهو سبحانه قادر على أن يسلبها منه في طرفة عين.
وقال أبو علي الجوزجاني: النفس معجونة بالكبر والحرص على الحسد، فمن أراد الله هلاكه منع منه التواضع والنصيحة والقناعة، وإذا أراد الله تعالى به خيراً لطف به في ذلك. فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى، قال سفيان بن عيينة: من كانت معصيته في شهوة فارج له التوبة فإن آدم عليه السلام عصي مشتهياً فاستغفر فغفر له، فإذا كانت معصيته من كبر فاخش عليه اللعنة. فإن إبليس عصى مستكبراً فلعن.
أخي المسلم: من اتقى الله تعالى تواضع له. ومن تكبر كان فاقداً لتقواه. ركيكاً في دينه مشتغلاً بدنياه.
فالمتكبر وضيع وإن رأى نفسه مرتفعاً على الخلق، والمتواضع وإن رؤي وضيعاً فهو رفيع القدر.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه إلى طبقات الجو وهو وضيع
ومن استشعر التواضع وعاشه. وذاق حلاوته كره الكبر وبواعثه ورحم أهله ورأف لحالهم نعوذ بالله من حالهم.
وتأمل في حال من تلبسه الشيطان في حالة واحدة من حالات الكبر يظنها بعض الناس يسيرة وهي عند الله عظيمة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما رجل يمشي في حُلة تعجبه نفسه، مرجل رأسه، يختال في مشيته إذ خسف الله به، فهو يتجلجل - أي يغوص وينزل - في الأرض إلى يوم القيامة)).
أخي الحبيب: كل ما تراه من مباهج الدنيا وزينتها وقضهما وقضيضها إنما هو ظل زائل وراكب مرتحل.
أحلام ليل أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع
قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ينبغي لك هذا. فقال: (لما أتاني الوفود سامعين مطيعين - القبائل بأمرائها وعظمائها - دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها).
أيها الناس: اعلموا أن الزمان لا يثبت على حال كما قال عز وجل: وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:139]. فتارة فقر، وتارة عنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة منصب، وهكذا.
فالسعيد من لازم أصلاً واحداً على كل حال. وهو تقوى الله عز وجل والتواضع على كل حال، وهذا الذي يزينه ويبقى معه، والله المستعان.(/2)
مر بعض المتكبرين على مالك بن دينار، وكان هذا المتكبر يتبختر في مشيته فقال له مالك: أما علمت أنها مشية يكرها الله إلا بين الصفين؟ فقال المتكبر: أما تعرفني؟ قال مالك: بلى، أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة، فانكسر وقال: الآن عرفتني حق المعرفة.
وأخيراً: اعلم أخي المسلم: أن الكبر من أخلاق الكفار الفراعنة، والتواضع من أخلاق الأنبياء والصالحين لأن الله تعالى وصف الكفار بالكبر فقال: إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ اله إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35]. وقال: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل:23].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين. . ...
..................................................................
.............................
موقع المنبر ...(/3)
التواضع وذم الكبر
1951
أمراض القلوب, الشمائل, مكارم الأخلاق
بندر بن خلف العتيبي
الدمام
24/6/1421
أبو بكر الصديق
ملخص الخطبة
1- الكبرياء صفة لا تنبغي إلا لله. 2-صور من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم. 3-فضل التواضع وذم الكبر.
الخطبة الأولى
أيها الناس: قال لي صاحبي وهو مهموم لماذا لا تتحدث عن التواضع وذم الكبر، فإنني أرى في بعض القوم كبراً وتيهاً ظاهراً لا يخفى على من له أدنى بصيرةٌ.
قلت: إي والله: وقد رأيت ما رأى صاحبي أمراً ظاهراً جلياً، ولخطورة هذا الأمر البالغة ولتعلقه بالتوحيد نتحدث فيه، لأن من نبذ خلق التواضع وتعالى وتكَبَّر إنما هو في الحقيقة معتد على مقام الألوهية لأن الكبرياء والعظمة لله وحده، ولا يجوز للعبد أن يتصف بهما أو بأحدهما، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: ((الكبرياءُ ردائي والعظمةُ إزاري. فمن نازعني واحداً منهما ألقيتُه في جهنم)) فليسَ بغريب إذاً أن نجد التواضع من سيماء الصالحين. ومن أخص خصال المؤمنين المتقين ومن كريم سجايا العاملين.
قال الله تعالى: يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]. وقال الله لنبيه والخطاب عام له ولأمته: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وقال تعالى: وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الأرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]. وقال جل وعلا: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35]. في آيات كثيرة جداً في كتاب اللهِ العظيمِ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه اللهُ)).
الله أكبر: إن المتواضع يرفع الله سبحانه وتعالى منزلته ومكانه وقدره فطوبى للمتواضعين.
إخواني يا من تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا من تعتقدون أن لا سعادة ولا عزة ولا طريق إلى الجنة إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا بأن تكون محبته مقدمة على كل محبوب من البشر.
لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
إنه سيد ولد آدم. ليس فوقه أحد من البشر - حاشاه صلى الله عليه وسلم - إنه أحب الخلق إلى الله وأعظمهم جاهاً وقدراً عند رب العالمين. إنه صاحب الوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة، منزلةٌ واحدةٌ ليست إلا له صلى الله عليه وسلم. إن الأرض ما وطئ عليها ولن يطأ عليها إلى يوم القيامة أكرم ولا أجل ولا أرفع منه صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك تأمل أخي المؤمن إلى تواضعه العجيب صلى الله عليه وسلم.
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغبر بطنه يقول: ((
ولا تصدقنا ولا صلينا والله لولا الله ما اهتدينا
وثبت الأقدام إن لا قينا فأنزلن سكينة علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا إن الأُلى قد بغوا علينا
ويرفع بها صوته: أبينا، أبينا)).
رعيه الغنم وتحدثه بذلك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بعث الله نبينا إلا وقد رعى الغنم وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط)) قال أهل العلم: رعى الغنم وظيفة ارتضاها الله لأنبيائه.
فما السر في ممارسة الأنبياء لها؟
قالوا: إن من أسرارها أنها تربي النفوس على التواضع وتزيد الخضوع لله تعالى. ومن أسرارها أنها تربي على الصبر وتحمل المشاق إلى حكم كثيرة وهو الحكيم العليم.
وأيضاً تواضعه مع الضعفاء والأرامل والمساكين والصبيان.
عن سهل بن حنيف رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم)) يأتي ضعفاء المسلمين. فلم تشغله النبوة عن ذلك. ولم تمنعه مسؤولية أمته، ولا كثرة الارتباطات والأعمال: أن يجعل للضعفاء والمرضى نصيباً من الزيارة والعبادة واللقاء.
فأين أنتم يا أصحاب الجاه والسلطان من هذا الخلق العظيم؟ أين أنتم أيها الأغنياء من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم.
إذا أردتم حلاوة الإيمان أن تطعموها. فهذا هو السبيل إليها فلا تخطئوه.
أيها المسلمون: كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم. وفي رواية: ((كان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم)).
إنك ترى - في عصرنا هذا - من يترفع عن المتقين من الرجال فكيف يكون شأنه مع الصبيان والصغار؟
إنك لتجد بعض ضعفاء الإيمان يأنف أن يسلم على من يرى أنه أقل منه درجة أو منصباً، ولعل ما بينهما عند الله كما بين السماء والأرض!
ألا فليعلم أولئك أنهم على غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/1)
أخي المسلم تأمل يا رعاك الله في هذين الحديثين:
عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: سأل رجل عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: (نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته).
وعن عائشة رضي الله عنها وقد سئلت عما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله؟ قالت: (كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة).
ماذا يقال عمن يفعل مثل هذا اليوم؟ محكوم للمرأة. ولكنه النور الذي جعله الله سبحانه وتعالى في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبان في سلوكه وفعاله وتواضعه وخدمة أهله. وبه كانت تسمو نفسه صلى الله عليه وسلم وتعلو، فليقل السفهاء ما يحلو لهم أن يقولوا.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هذا من فراغ في وقته ولكنه كان يحقق العبودية لله سبحانه بجميع أنواعها وأشكالها وصورها.
اللهم يا كريم يا منان أكرمنا باتباع رسولك صلى الله عليه وسلم واجعلنا ممن يعظم هديه وسنته إنك سميع عليم قريب مجيب والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها المسلمون: قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]. قال عكرمة: العلو: التجبر. وقال سعيد بن جبير: بغير حق: وقال ابن جريج: لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرْضِ تعظماً وتجبراً وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة؟ قال: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس)).
وبطر الحق: هو دفعه ورده على قائله، أما غمط الناس: فهو احتقارهم وازدراؤهم.
وعن عياض بن حمار رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جواظ مستكبر)).
كان علي بن الحسن يقول: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدا جيفة، وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى خلقه، وعجبت كل العجب لمن أنكر النشأة الأولى، وعجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء وترك دار البقاء.
قال الحسن رحمه الله: هل تدرون ما التواضع؟ التواضع: أن تخرج من منزلك فلا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً.
ومن منا الآن يطبق هذا القول على نفسه، وينزلها تلك المنزلة؟ بل البعض يأخذه العجب والتيه والتكبر على عباد الله لدنيا أو منصب أو علم أوجاه. . وكلها منح وعطايا من الله عز وجل. ومثلما أعطاها إياه فهو سبحانه قادر على أن يسلبها منه في طرفة عين.
وقال أبو علي الجوزجاني: النفس معجونة بالكبر والحرص على الحسد، فمن أراد الله هلاكه منع منه التواضع والنصيحة والقناعة، وإذا أراد الله تعالى به خيراً لطف به في ذلك. فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى، قال سفيان بن عيينة: من كانت معصيته في شهوة فارج له التوبة فإن آدم عليه السلام عصي مشتهياً فاستغفر فغفر له، فإذا كانت معصيته من كبر فاخش عليه اللعنة. فإن إبليس عصى مستكبراً فلعن.
أخي المسلم: من اتقى الله تعالى تواضع له. ومن تكبر كان فاقداً لتقواه. ركيكاً في دينه مشتغلاً بدنياه.
فالمتكبر وضيع وإن رأى نفسه مرتفعاً على الخلق، والمتواضع وإن رؤي وضيعاً فهو رفيع القدر.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه إلى طبقات الجو وهو وضيع
ومن استشعر التواضع وعاشه. وذاق حلاوته كره الكبر وبواعثه ورحم أهله ورأف لحالهم نعوذ بالله من حالهم.
وتأمل في حال من تلبسه الشيطان في حالة واحدة من حالات الكبر يظنها بعض الناس يسيرة وهي عند الله عظيمة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما رجل يمشي في حُلة تعجبه نفسه، مرجل رأسه، يختال في مشيته إذ خسف الله به، فهو يتجلجل - أي يغوص وينزل - في الأرض إلى يوم القيامة)).
أخي الحبيب: كل ما تراه من مباهج الدنيا وزينتها وقضهما وقضيضها إنما هو ظل زائل وراكب مرتحل.
أحلام ليل أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع
قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ينبغي لك هذا. فقال: (لما أتاني الوفود سامعين مطيعين - القبائل بأمرائها وعظمائها - دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها).
أيها الناس: اعلموا أن الزمان لا يثبت على حال كما قال عز وجل: وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:139]. فتارة فقر، وتارة عنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة منصب، وهكذا.(/2)
فالسعيد من لازم أصلاً واحداً على كل حال. وهو تقوى الله عز وجل والتواضع على كل حال، وهذا الذي يزينه ويبقى معه، والله المستعان.
مر بعض المتكبرين على مالك بن دينار، وكان هذا المتكبر يتبختر في مشيته فقال له مالك: أما علمت أنها مشية يكرها الله إلا بين الصفين؟ فقال المتكبر: أما تعرفني؟ قال مالك: بلى، أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة، فانكسر وقال: الآن عرفتني حق المعرفة.
وأخيراً: اعلم أخي المسلم: أن الكبر من أخلاق الكفار الفراعنة، والتواضع من أخلاق الأنبياء والصالحين لأن الله تعالى وصف الكفار بالكبر فقال: إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ اله إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35]. وقال: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل:23].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين. .(/3)
التوبة والاستغفار:
الفصل الأول: تعريف وبيان (التوبة - الاستغفار - الإنابة - الأوبة).
الفصل الثاني: حكم التوبة وشروطها.
الفصل الثالث: فضائل التوبة والاستغفار في القرآن الكريم:
أولاً: قبول التوبة والمغفرة من صفات الرحمن جل جلاله.
ثانياً: أمر الله عز وجل عباده بالتوبة والاستغفار.
ثالثاً: التوبة والاستغفار من صفات الأنبياء والصالحين.
رابعاً: دعوة الأنبياء والصالحين أقوامهم للتوبة والاستغفار.
خامساً: بيان جزاء التوبة في الدنيا والآخرة.
الفصل الرابع: فضائل التوبة والاستغفار في السنة النبوية.
الفصل الخامس: الآثار والأقوال الواردة في التوبة والاستغفار.
الفصل السادس: مسائل في التوبة:
1- التوبة الواجبة والتوبة المستحبة.
2- التوبة النصوح.
3- التوبة الخاصة من بعض الذنوب.
4- التخلص من الحقوق والتحلل من المظالم.
5- توبة العاجز عن المعصية.
6- معنى التوبة من قريب والتوبة عند الموت.
7- رجوع الحسنات إلى الثائب بعد التوبة.
8- هل التوبة تُرجع العبد إلى حاله قبل المعصية؟
الفصل السابع: أمور تعين على التوبة:
1- الإخلاص لله والإقبال عليه عز وجل.
2- المجاهدة.
3- قِصَر الأمل وتذكر الآخرة.
4- العلم.
5- مصاحبة الأخيار ومجانبة الأشرار.
6- استحضار أضرار الذنوب والمعاصي في الدنيا والآخرة.
7- الدعاء.
الفصل الثامن: نماذج وصور وقصص للتائبين.
الفصل التاسع: أخطاء في باب التوبة:
1- تأجيل التوبة.
2- الغفلة عن التوبة مما لا يعلمه العبد من ذنوبه.
3- ترك التوبة مخافة الرجوع للذنوب.
4- ترك التوبة خوفاً من لمز الناس.
5- ترك التوبة مخافة سقوط المنزلة وذهاب الجاه والشهرة.
6- التمادي في الذنوب اعتماداً على سعة رحمة الله.
7- الاغترار بإمهال الله للمسيئين.
8- اليأس من رحمة الله.
9- اليأس من توبة العصاة.
10- الشماتة بالمبتلَين.
11- توبة الكذابين.
الفصل الأول: تعريف وبيان:
تعريف التوبة:
التوبة لغة: قال ابن المنظور: "هي الرجوع من الذنب، والتوبُ مثله.
وقال الأخفش: التوب جمع توبة، مثل عَزْمَة وعَزْم، وتاب إلى الله يتوب توباً ومتاباً: أناب ورجع عن المعصية إلى الطاعة.
ومذهب المبرد أن التوب مصدر كالقول، أو أنه جمع توبة كلوزة ولوز، ومنه قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3]".
وقال أبو منصور: "أصل تاب عاد إلى الله ورجع وأناب [ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ((رب تقبل توبتي واغسل حوبتي))]. وتاب الله عليه: أي عاد عليه بالمغفرة".
والتوبة لفظ يشترك فيه العبد والرب سبحانه وتعالى، فإذا نُسِبَت إلى العبد فالمعنى: أنه رجع إلى ربه عن المعصية، وإذا وصف بها الرب تبارك وتعالى فالمعنى: أنه رجع على عبده برحمته وفضله. وأما عن اتصاف الله بأنه توّاب بصيغة المبالغة فالمراد بذلك المبالغة في الفعل وكثرة قبوله، أو أنه لكثرة من يتوب إليه تعالى أو أنه الملهم لعباده الكثيرين أن يتوبوا.
ويقول الحليمي في تفسير التواب: "إنه العائد على عبده بفضل رحمته كلما رجع لطاعته وندم على معصيته، فلا يحبط عنه ما قدمه من خير ولا يحرمه ما وعد به الطائع من الإحسان.
وقال الخطابي: "التواب: الذي يعود إلى القبول كلما عاد العبد إلى الذنب وتاب".
وأما وصف العبد بأنه تواب أي كثير الرجوع إلى الطاعة فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ} [البقرة:222].
تعريف التوبة شرعاً:
للتوبة في الشرع تعاريف كثيرة ذكرها العلماء، منها:
1- قال ابن جرير الطبري: "معنى التوبة من العبد إلى ربه: إنابته إلى طاعته وأوبته إلى ما يرضيه، بتركه ما يسخطه من الأمور التي كان عليها مقيماً مما يكرهه ربه".
2- عرفها القرطبي بقوله: "هي الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على ألا يعود إلى مثلها، وأن يكون ذلك حياء من الله".
فالقرطبي جمع معظم شروط التوبة، ولكن ليست كلها، إلا أنه أضاف أمراً هاماً وهو أن تكون التوبة من أجل الله حياءً منه، لا خوفاً على منصب أو مصلحة.
3- وعرفها الراغب الأصفهاني بقوله: "التوبة ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة".
وأضاف ابن حجر العسقلاني إلى تعريف الراغب: "وردّ الظلامات إلى ذويها، أو تحصيل البراءة منهم".
4- ونقل ابن كثير عن بعض العلماء تعريفاً للتوبة فقال: "التوبة النصوح هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل، ثم إن كان الحق لآدمي رده إليه بطريقة".
نظرة في التعاريف السابقة:(/1)
مما سبق نستنتج أن التوبة هي معرفة العبد لقبح الذنوب وضررها عليه، فيقلع عنها مخلصاً في إقلاعه عن الذنب لله تعالى، نادماً على ما بدر منه في الماضي من المعاصي قصداً أو جهلاً، عازماً عزماً أكيداً على عدم العودة إليها في المستقبل، والقيام بفعل الطاعات والحسنات، متحللاً من حقوق العباد بردها إليهم، أو محصلاً البراءة منهم.
تعريف الاستغفار:
الاستغفار لغة: الاستغفار مصدر قولهم: استَغفَر يستغفر، وهو مأخوذ من مادة (غَ فَ رَ) التي تدل على الستر في الغالب الأعم، فالغَفْر الستر والغفر والغفران بمعنى واحد، يقال: غفر الله ذنبه غفراً ومغفرة وغفراناً.
وقال ابن منظور: "أصل الغفر التغطية والستر يقال: اللهم اغفر لنا مغفرةً. واستغفر الله ذنبه على حذف الحرف طلب منه غَفْرةً".
وقال الراغب: "الغفر إلباس ما يصونه عن الدنس".
الاستغفار شرعاً: الاستغفار من طلب الغفران والغفران تغطية الذنب بالعفو عنه وهو أيضاً طلب ذلك بالمقال والفعال.
تعريف الإنابة:
الإنابة لغة: تدور مادة (ن و ب) حول الرجوع، يقول ابن فارس: "النون والواو والباء" كلمة واحدة تدل على اعتياد مكان ورجوعٍ إليه".
تقول: أناب فلان إلى الشيء، رجع إليه مرة بعد أخرى، وإلى الله تاب ورجع.
وقال الراغب: "الإنابة إلى الله تعالى: الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل".
وفي التنزيل العزيز: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم:31] أي: راجعين إلى ما أمر به، غير خارجين عن شيء من أمره، وقوله عز وجل: {وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ} [الزمر:54] أي: توبوا إليه وارجعوا.
وقال ابن الأثير "يقال: أناب ينيب إنابة فهو منيب، إذا أقبل ورجع، وفي حديث الدعاء ((وإليك أنبت))".
الإنابة شرعاً: الإنابة: إخراج القلب من ظلمات الشبهات، وقيل: الإنابة الرجوع من الكل إلى من له الكل، وقيل: الإنابة الرجوع من الغفلة إلى الذكر، ومن الوحشة إلى الأُنْس.
وقال الكفوي: "الإنابة: الرجوع عن كل شيء إلى الله تعالى".
وقال ابن القيم: "الإنابة: الإسراع إلى مرضاة الله، مع الرجوع إليه في كل وقت، وإخلاص العمل له".
تعريف الأوبة:
الأوبة لغة: الأوْب الرجوع، آب إلى الشيء: رجع، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقبل من سفر قال: ((آيبون تائبون لربنا حامدون))، وفي محكم التنزيل قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئَابٍ} [ص:25] أي: حسن المرجع الذي يصير إليه في الآخر.
وفلان أواب أواه أي: رجاع إلى التوبة.
قال ابن فارس: "الهمزة والواو والباء أصل واحد، وهو الرجوع، ثم يشتق منه ما يبعد في السمع قليلاً. وقال الخليل: آب فلان إلى سيفه أي ردّ يده ليستله".
الأوبة شرعاً: قال الراغب الأصفهاني: "والأواب كالتواب وهو الراجع إلى الله تعالى بترك المعاصي وفعل الطاعات".
وقال أبو هلال العسكري: "الإياب هو الرجوع إلى منتهى القصد فلا يقال لمن رجع من بعض الطريق: آب، قال تبارك وتعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية:25]".
وقال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30]: "إنه إلى طاعة الله مقبل وإلى رضاه رجّاع".
وقال القرطبي: "أي: تواب رجاع مطيع".
العلاقة بين الاستغفار والإنابة والأوبة وبين التوبة:
أولاً: علاقة الاستغفار بالتوبة:
جاء ذكر الاستغفار منفرداً عن التوبة، كما جاء مقترناً بها في مواضع كثيرة في الكتاب والسنة وسنسوق الشواهد على ذلك:
1- إفراد التوبة عن الاستغفار:
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، ويقول عز وجل: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً} [الفرقان:71]، ويقول سبحانه: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة:39].
أما من السنة النبوية:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة)).
2- إفراد الاستغفار عن التوبة:
يقول سبحانه وتعالى: {فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6]، ويقول عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، ويقول سبحانه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10].
وأما من السنة:(/2)
فعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها من النهار موقناً بها فمات قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)).
3- اقتران الاستغفار بالتوبة:
يقول الله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:3]، ويقول عز وجل: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90]، ويقول سبحانه: {وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52].
أما من السنة النبوية:
فعن أبي هريرة رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)).
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: كانت تُعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور.
أقوال العلماء في الفرق الاستغفار بين التوبة:
إذا اقترن ذكر التوبة بالاستغفار فإن الاستغفار حينئذ هو طلب المغفرة بالدعاء، والتوبة هي الندم على الخطيئة مع العزم على ترك المعاودة.
وقيل: إن الاستغفار إذا اقترن بالتوبة فإنه يعني طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله، وأيضاً فالاستغفار من باب إزالة الضرر، والتوبة طلب جلب المنفعة، فالمغفرة أن يقية شر الذنب، والتوبة أن تحصل له بعدها الوقاية مما يحبه.
وإذا أفرد الاستغفار أو أفردت التوبة يكون معناهما واحدا، قال ابن القيم: "الاستغفار المفرد كالتوبة، بل هو التوبة بعينها مع تضمنه طلب المغفرة من الله، وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره، لا كما يظنه بعض الناس أن المغفرة تعني الستر، فإن الله يستر على من يغفر له، ومن لا يغفر له ولكن الستر لازم مسماها أو جزؤه".
ثانياً: علاقة الإنابة بالتوبة:
الإنابة كالتوبة في أنها تعني الرجوع، يقول ابن منظور: "الإنابة الرجوع إلى الله بالتوبة".
لكن بعض العلماء كالراغب الأصفهاني وابن القيم والماوردي وابن منظور والجوهري يرون أن للإنابة معنىً زائداً عن التوبة.
يقول ابن القيم رحمه الله: "من نزل في التوبة وقام مقامها نزل في جميع منازل الإسلام فإن التوبة الكاملة متضمنة لها، وهي متدرجة فيها، فإذا استقرت قدمه في منزل التوبة نزل بعده منزل الإنابة".
ثالثاً: علاقة الأوبة بالتوبة:
الأوبة تفيد معنى الرجوع كالتوبة، يقول ابن منظور: "الأوب: الرجوع، آب إلى الشيء رجع، يؤوب أوباً وإياباً وأوبة وأيبة".
ويقول الزبيدي: "الأوبة: الرجوع، وآب الشيء رجع، وأواب وتأوب وأيب كله: رجع).
فإذاً مادة (أوب) تفيد الرجوع وهي أصل التوبة فالعلاقة بين الأوبة والتوبة واضحة في كونهما يفيدان الرجوع والخضوع.
ترتيب لسان العرب (2/61) باختصار وتصرف.
الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (3551) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
تهذيب اللغة (14/332)، وانظر: المصباح المنبر في غريب الشرح الكبير (78)، والمفردات للراغب الأصفهاني (72)، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس (1/357)، وأساس البلاغة (40).
انظر: تفسير الرازي (3/22)، الجامع لأحكام القرآن (1/325)، روح المعاني (1/237-238)، تفسير التحرير والتنوير (1/439).
انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري (11/107).
تفسير ابن جرير الطبري (1/283).
الجامع لأحكام القرآن (5/91).
المفردات (72).
فتح الباري (11/103).
تفسير ابن كثير (4/392)، وللاستزادة انظر: التعريفات للجرجاني (95).
التوبة في ضوء القرآن الكريم د. آمال نصير (21).
انظر: مقاييس اللغة(4/385).
لسان العرب (10/91).
المفردات (374).
نضرة النعيم (2/252).
مقاييس اللغة (5/367).
المعجم الوسيط (2/961).
المفردات (نوب) (529).
النهاية في غريب الحديث والأثر (5/123).
الكليات (308).
مدارج السالكين (1/467) بتصرف.(/3)
أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب ما يقول إذا رجع من الغزو (3085)، ومسلم في كتاب الحج باب إذا ركب إلى سفر الحج (1342).
لسان العرب (1/257).
المعجم الوسيط (1/32).
مقاييس اللغة (1/152)، وانظر: أساس البلاغة للزمخشري (12).
المفردات في غريب القرآن (25).
الفروق اللغوية (250) بتصرف.
تفسير الطبري (10/591).
الجامع لأحكام القرآن (15/215).
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب التوبة (6309).
أخرجه البخاري كتاب الدعوات باب أفضل الاستغفار (6306).
أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب: الدعاء في الصلاة من آخر الليل (1145)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة (758).
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم (6307).
أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب ما يقول إذا قام من المجلس (3434) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
انظر: الفروق اللغوية (195).
انظر: مدارج السالكين (1/308-309).
مدارج السالكين (1/307-308).
لسان العرب (14/319) مادة (نوب).
مدارج السالكين (1/133-134).
لسان العرب (1/257).
تاج العروس من جواهر القاموس (1/152).
الفصل الثاني: حكم التوبة وشروطها:
ورد الأمر بالتوبة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، فمما ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
قال السعدي: "أمر الله تعالى بالتوبة فقال: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، ثم علّق على ذلك الفلاح، فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي الرجوع مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً، ودل هذا أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة لأن الله خاطب المؤمنين جميعاً وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة".
وقال سبحانه وتعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90]، ويقول سبحانه: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم:8]، وغيرها من الآيات.
أما الأحاديث الدالة على الأمر بالتوبة فمنها:
عن أبي بردة قال: سمعت الأغر المزني رضي الله عنه يحدث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم مائة مرة)).
والآيات والحديث تضمنت الأمر بالتوبة، والأصل في الأمر الوجوب، ولا يصرف عنه إلى الندب إلا بقرينة، ولا قرينة هنا.
قال القرطبي: "واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين".
وقال أيضاً: "وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا بد لكل عبد من توبة، وهي واجبة على الأولين والآخرين".
أما النظر فإنه يؤكد أن الإنسان لا يخلو من معصية فلا يسلم من هذا النقص أحد من البشر، وإنما يتفاوت الخلق في المقادير، أما أصل ذلك فلا بد منه، وهو يجبر بالتوبة النصوح، وإلى هذا يشير النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)). وذلك لأن السهو والتقصير من طبع الإنسان.
ولما كانت الذنوب انحراف عن خط الاستقامة وإضرار بمصالح البشرية فإنها تهدد الحياة الإنسانية وتنغص عيشتها وتعرضها للخطر، وليس من العقلاء من يرضى بهذا المصير ولا يسعى إلى تغييره؛ لذا كانت التوبة واجبة أيضاً بالعقل والنظر الصحيح.
والتوبة واجبة من كل الذنوب صغيرها وكبيرها ما يعلم منها وما لا يعلم عمداً أو سهواً جداً أو هزلاً، وذلك لأمر الله عز وجل عباده بها، وهذا الأمر للعموم؛ لذا فهو يشمل جميع الذنوب ولم يخص التوبة من ذنب دون آخر.
يقول الرازي عند تفسيره لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [البقرة:160]: "التوبة لا تحصل إلا بترك ما لا ينبغي وبفعل كل ما ينبغي".
وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كثير من الأحاديث التي تدل على إكثاره صلى الله عليه وسلم من التوبة، وفي فعله تعليم لأمته عليه الصلاة والسلام.
فعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: ((رب اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطاياي وعمدي وجهلي وهزلي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير)).
ووجه الدلالة من الحديث أن العبد يسأل الله التوبة والمغفرة في جميع أحواله في العمد والجهل والهزل وما فعله في السر والعلانية.(/4)
يقول النووي رحمه الله عند شرحه للحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي)): "التوبة من جميع المعاصي واجبة، وإنها واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة، والتوبة من مهمات الإسلام وقواعده المتأكدة، ووجوبها عند أهل السنة بالشرع".
ويعلل الغزالي لوجوب التوبة من جميع الذنوب فيقول: "وأما بيان وجوبها على الدوام وفي كل حال فهو أن كل بشر لا يخلو عن معصية بجوارحه، إذ لم يخل عنه الأنبياء، كما ورد في القرآن والأخبار من خطايا الأنبياء وتوبتهم وبكائهم على خطاياهم، فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح، فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب، فإن خلا في بعض الأحوال عن الهمّ فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة، فإن خلا عنه فلا يخلو من غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص وله أسباب، وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع عن طريق إلى ضده".
أما شروط قبول التوبة:
فباب التوبة مفتوح على مصراعيه دائماً لكل من أراد الدخول فيه بعد أن استيقظ قلبه وقويت عزيمته على هجر المعاصي والذنوب.
قال سيد قطب: "باب التوبة دائماً مفتوح يدخل منه كل من استيقظ ضميره وأراد العودة والمآب، لا يصد عنه قاصد ولا يغلق في وجه لاجئ، أياً كان وأياً ما ارتكب من الآثام".
وعلى ضوء ما ذكر في تعريف التوبة يمكن أن نقسم شروط قبول التوبة إلى قسمين:
الأول: شروط تتعلق بترك الذنب.
الثاني: شروط تتعلق بزمن قبول التوبة.
أولاً: الشروط التي تتعلق بترك الذنب:
الشرط الأول: الإسلام:
التوبة لا تصح إلا من مسلم، أما الكافر فإن توبته تعني دخوله الإسلام، قال القرطبي: "اعلم أن التوبة إما من الكفر وإما من الذنب، فتوبة الكافر مقبولة قطعاً، وتوبة العاصي مقبولة بالوعد الصادق".
قال الله عز وجل: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء:18].
والمراد من الآية نفي وقوع التوبة الصحيحة من المشركين، وأنه ليس من شأنها أن تكون لهم فقوله: {وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} أي: لا توبة لأولئك ولا لهؤلاء.
وقال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً} [النساء:116].
قال سيد قطب: "ولا غفران لذنب الشرك متى مات صاحبه عليه.. بينما باب التوبة مفتوح لكل ذنب سواه عندما يشاء الله، والسبب في تعظيم جريمة الشرك وخروجها من دائرة المغفرة أن من يشرك بالله يخرج عن حدود الخير والصلاح تماماً، وتفسد كل فطرته بحيث لا تصلح أبداً".
وقال سبحانه وتعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَءاتَوُاْ الزكاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَنُفَصّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة:11].
الشرط الثاني: الإخلاص:
إن التائب من المعاصي لا تصح توبته إلا بالإخلاص، فمن ترك ذنباً من الذنوب لغير الله تعالى، كالخوف من الفضيحة أو تعيير الناس له أو عَجَزَ عن اقترافه أو خاف من فوات مصحلة أو منفعة قد تضيع بالاستمرار على تلك المعصية. مثال ذلك من تاب عن أخذ الرشوة لا خوفاً من الله واللعن، ولكن لتوليه منصباً اجتماعياً لا يسمح له بأخذها، فإن توبته وتوبة من تقدم تكون مردودة باتفاق أهل العلم.
وقال الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} [الكهف:110].
يقول الشنقيطي في قوله: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا}: "أعم من الرياء وغيره، أي: لا يعبد ربه رياء وسمعة ولا يصرف شيئاً من حقوق خالقه لأحد من خلقه لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] إلى غير ذلك من الآيات، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة أن الذي يشرك أحداً بعبادة ربه، ولا يعمل صالحاً أنه لا يرجو لقاء ربه، والذي لا يرجو لقاء ربه لا خير له عند الله".
والتوبة من الأعمال الصالحة التي يجب فيها الإخلاص حتى تقبل عند الله عز وجل كسائر العبادات والقربات. والآيات والأحاديث في ذلك معروفة مشهورة.
الشرط الثالث: الاعتراف بالذنب:
إن التوبة لا تكون إلا عند ذنب، وهذا يعني علم التائب ومعرفته لذنوبه، وجهل التائب بذنوبه ينافي الهدى؛ لذلك لا تصح توبته إلا بعد معرفته للذنب والاعتراف به وطلبه التخلص من ضرره وعواقبه الوخيمة.(/5)
والدليل من السنة قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها في قصة الإفك: ((أما بعد، يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه)).
قال ابن القيم: "إن الهداية التامة إلى الصراط المستقيم لا تكون مع الجهل بالذنوب، ولا مع الإصرار عليها، فإن الأول جهل ينافي معرفة الهدى، والثاني: غي ينافي قصده وإرادته، فلذلك لا تصح التوبة إلا من بعد معرفة الذنب والاعتراف به وطلب التخلص من سوء عاقبته أولاً وآخراً".
الشرط الرابع: الإقلاع عن الذنب:
الإقلاع عن الذنب شرط أساسي للتوبة المقبولة، فالذي يرجع إلى الله وهو مقيم على الذنب لا يعد تائباً، وفي قوله تعالى {وتوبوا} إشارة إلى معنى الإقلاع عن المعصية؛ لأن النفس المتعلقة بالمعصية قلما تخلص في إقبالها على عمل الخير؛ لذلك كان على التائب أن يجاهد نفسه فيقتلع جذور المعاصي من قلبه، حتى تصبح نفسه قوية على الخير مقبلة عليه نافرة عن الشر متغلبة عليه بإذن الله.
الشرط الخامس: الندم:
الندم ركن من أركان التوبة لا تتم إلا به، وهو في اللغة: التحسر من تغير رأي في أمر فائت.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيمة الندم فقال: ((الندم توبة)).
ومعنى أنه توبة: أي عمدة أركان التوبة كقوله عليه السلام: ((الحج عرفة)).
الشرط السادس: العزم على التوبة:
العزم مترتب على الندم، وهو يعني الإصرار على عدم العود إلى الذنوب ثانية، والعزم في اللغة: عقد القلب على إمضاء الأمر.
ويقول عز وجل حاكياً عن أبينا آدم عليه السلام: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115]، أي: لم نجد له صبرا وعزيمة، حيث لم يحترز عن الغفلة من وساوس الشيطان، وهذه الآية تشير إلى أن المؤمن لا بد وأن تكون عنده عزيمة قوية وإرادة فعالة. والتائب أكثر الناس حاجة إلى العزيمة والإرادة القوية حتى يمكن من السيطرة على شهواته ورغباته، فيقف أمامها وقفة صمود وقوة، تجعله لا يعاود الذنوب ثانية، فتكون توبته صحيحة مقبولة.
الشرط السابع: رد المظالم إلى أهلها:
ومن شروط التوبة التي لا تتم إلا بها رد المظالم إلى أهلها، وهذه المظالم إما أن تتعلق بأمور مادية، أو بأمور غير مادية، فإن كانت المظالم مادية كاغتصاب المال فيجب على التائب أن يردها إلى أصحابها إن كانت موجودة، أو أن يتحللها منهم، وإن كانت المظالم غير مادية فيجب على التائب أن يطلب من المظلوم العفو عن ظلامته وأن يعمل على إرضائه، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه)).
قال ابن حجر: "فوجه الحديث عندي ـ والله أعلم ـ أنه يعطى خصماء المؤمن المسيء من أجر حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته، فإن فنيت حسناته أخذ من خطايا خصومه فطرحت عليه، ثم يعذب إن لم يعف عنه، فإذا انتهت عقوبة تلك الخطايا أدخل الجنة بما كتب له من الخلود فيها بإيمانه ولا يعطى خصماؤه ما زاد من أجر حسناته على ما قابل من عقوبة سيئاته، يعني من المضاعفة؛ لأن ذلك من فضل الله يختص به من وافي يوم القيامة مؤمناً والله أعلم".
ثانياً: الشروط التي تتعلق بزمن قبول التوبة وهي شرطان:
الشرط الأول: أن تقع التوبة قبل الغرغرة:
وقد أشارت إليه آيتان من سورة النساء فقال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء:17-18].
قال القرطبي: "نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين من حضره الموت وصار في حين اليأس كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان؛ لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع؛ لأنها حال زوال التكليف".
وإلى هذا يشير الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)).
يقول المباركفوري: "أي: ما لم تبلغ الروح إلى الحلقوم يعني ما لم يتيقن الموت فإن التوبة بعد التيقن بالموت لم يعتد بها".
الشرط الثاني: أن تقع التوبة قبل طلوع الشمس من مغربها:
قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَاتِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ} [الأنعام:158].(/6)
يقول الألوسي: "والحق أن المراد بهذا البعض الذي لا ينفع الإيمان عنده طلوعُ الشمس من مغربها".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون)) فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ثم قرأ الآية.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ومن تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)).
وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).
ويعلل القرطبي نقلاً عن جماعة من العلماء عدم قبول الله إيمان من لم يؤمن وتوبة من لم يتب بعد طلوع الشمس فيقول: "وإنما لا ينفع نفساً إيمانها عند طلوعها من مغربها لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم ـ لإيقانهم بدنو القيامة ـ في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الموت".
تيسير الكريم الرحمن (516).
أخرجه الإمام مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه (2702).
انظر: نهاية السول في شرح منهاج الأصول (2/251)، وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (86، 102).
الجامع لأحكام القرآن (5/90).
الجامع لأحكام القرآن (18/197) (12/238).
مجموع فتاوى ابن تيمية (10/310).
أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2499)، من حديث أنس بن مالك وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة. وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد في باب ذكر التوبة (4251) وأخرجه الإمام أحمد برقم (12576) والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (4391).
حادي الروح إلى أحكام التوبة النصوح (15) وانظر كتاب التوبة للدكتورة آمال نصير (24).
تفسير الفخر الرازي (4/150).
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم اللهم (6398).
أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب: قول الله تعالى ويحذركم الله نفسه (7405) وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب الحث على ذكر الله (2675).
شرح صحيح مسلم (17/59).
إن الهم بالذنب أمر قد جاء الشرع برفع الحرج والإثم عنه إذا لم يعمل به الإنسان أو يتكلم فلا يؤاخذ عليه والله أعلم.
إحياء علوم الدين بتصرف (4/10).
في ظلال القرآن (1/258).
المفهم بشرح مختصر صحيح مسلم (7/717).
تفسير المنار (4/448) (4/450).
في ظلال القرآن (2/760).
انظر: فتح الباري (11/103).
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/199).
الحديث أخرجه مسلم بتمامه في كتاب التوبة باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف (2770).
مدارج السالكين (1/179).
انظر كتاب التوبة في ضوء القرآن الكريم ( ) للدكتورة آمال نصير.
المفردات للراغب (507).
أخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب الزهد باب ذكر التوبة برقم (4252) من حديث عبد الله بن مسعود وأخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (3387). وصححه الألباني في صحيح الجامع (6802).
المفردات (346).
التوبة، للدكتورة آمال.
أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب باب: من كانت له مظلمة عند رجل فحللها له (2449) من حديث أبي هريرة.
فتح الباري شرح صحيح البخاري (11/397).
الجامع لأحكام القرآن (5/93).
أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب: في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله (3537)، وأخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب الزهد باب: ذكر التوبة (4253). وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1903).
تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (9/521).
روح المعاني (8/63).
أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب: لا ينفع نفساً إيمانها (4636) واللفظ له، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (157).
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه (2703).
أخرجه مسلم في كتاب التوبة باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب (2759).
تفسير القرطبي (7/149).
الفصل الثالث: فضائل التوبة والاستغفار في القرآن الكريم :
أولاً: قبول التوبة والمغفرة من صفات الرحمن جل جلاله:
قال الله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160].(/7)
قال ابن جرير: "{فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} يعني: هؤلاء الذين فعلوا هذا الذي وصفت منهم هم الذين أتوب عليهم فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي والإنابة إلى مرضاتي {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} يقول: وأنا الذي أرجع بقلوب عبيدي المنصرفة عني إليّ، والرادها بعد إدبارها عن طاعتي إلى طلب محبتي".
قال الله تعالى: {وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:102].
قال السعدي: "{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: وصفه المغفرة والرحمة اللتان لا يخلو مخلوق منهما، بل لا بقاء للعالم العلوي والسفلي إلا بهما، فلو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة".
وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:104].
قال السعدي: "أي: كثير التوبة على التائبين، فمن تاب إليه تاب عليه، ولو تكررت منه المعصية مراراً، ولا يمل الله من التوبة على عباده حتى يملوا هم".
وقال تعالى: {حم A تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ B غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:1-3].
قال وهبة الزحيلي: "ثم وصف الله نفسه بستة أنواع من الصفات الجامعة بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقال: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3] أي: أن الله هو غافر الذنب الذي سلف لأوليائه، سواء أكان صغيرة أم كبيرة بعد التوبة، أو قبل التوبة بمشيئته، وقابل توبتهم المخلصة".
ثانياً: أمر الله عز وجل عباده بالتوبة والاستغفار:
قال الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم:8].
قال القرطبي: "أمر بالتوبة وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان".
وقال الله تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
قال القرطبي: "أمرٌ، ولا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة وأنها فرض متعين".
وقال الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء:106]، وقال الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:199].
قال السعدي: "أمر الله بالاستغفار والإكثار من ذكره عند الفراغ من المناسك، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد في أداء عبادته وتقصيره فيها".
وقال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ اله إِلاَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19].
قال ابن جرير الطبري: "وسل ربك غفران ذنوبك وحادثها وذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء".
وقال تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ A وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً B فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا} [النصر:1- 3].
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلا ويقول: ((سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)).
ثالثاً: التوبة والاستغفار من صفات الأنبياء والصالحين:
قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143].
قال مجاهد: "من مسألة الرؤية في الدنيا، وقيل: سأل من غير استئذان فلذلك تاب، وقيل: قاله على جهة الإنابة إلى الله والخشوع له عند ظهور الآيات".
وقال الله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الركِعُونَ السَّاجِدونَ} [التوبة:112].
قال ابن كثير: "هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة".
وقال تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ B وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:2-3].(/8)
قال ابن كثير: "أي: وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه، وأن تستمروا على ذلك".
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147]، وقال الله تعالى: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} [آل عمران:193]، وقال الله تعالى في قصة توبة آدم عليه السلام: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ h قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأحَدٍ مّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [ص:34، 35].
رابعاً: دعوة الأنبياء والصالحين أقوامهم للتوبة والاستغفار:
قال الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ اله غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ x ياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ y وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} [هود:50-52].
قال السعدي: "استغفروا ربكم عما مضى منكم، ثم توبوا إليه فيما تستقبلونه بالتوبة النصوح والإنابة إلى الله تعالى".
وقال الله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ اله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود:61]، وقال تعالى حاكياً قول شعيب عليه السلام لقومه: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90].
قال السعدي في سرده لفوائد قصة شعيب: "ومنها: أن التائب من الذنب كما يسمح له عن ذنبه ويعفى عنه فإن الله تعالى يحبه ويودُّه ولا عبرة بقول من قال: (إن التائب إذا تاب فحسبه أن يغفر له ويعود عليه بالعفو وأما عود الود والحب فإنه لا يعود)، فإن الله تعالى قال: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ}".
خامساً: بيان جزاء التوبة في الدنيا والآخرة:
أ- محبة الله عز وجل للتائبين:
قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ}.
ب- حصول المغفرة من الله عز وجل:
قال تعالى: {وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
قال ابن كثير: "{وَإِنّى لَغَفَّارٌ} أي: كل من تاب إليّ تبت عليه من أي ذنب كان حتى إنه تاب تعالى على من عبد العجل من بني إسرائيل، وقوله: {تَابَ} أي: رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق".
ج- الفلاح في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان:70].
قال السعدي: "{وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً} لأن المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة، ثم علق على ذلك الفلاح فقال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة وهي الرجوع مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً".
د- تبديل السيئات إلى حسنات:
قال الله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}.(/9)
قال القرطبي: "قال النحاس: من أحسن ما قيل فيه أنه يكتب موضع كافر مؤمن وموضع عاصي مطيع، وقال مجاهد والضحاك: أن يبدلهم الله من الشرك الإيمان وروي نحوه عن الحسن. وقال أبو هريرة: ذلك في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته، فيبدل الله السيئات حسنات. وقال القرطبي: فلا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)) وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وآخر أهل النار خروجاً منها، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: يا رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا))، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجده".
هـ- تكفير السيئات ودخول الجنات:
قال الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ}.
قال السعدي: "قد أمر الله بالتوبة النصوح في هذه الآية، ووعد عليها بتكفير السيئات ودخول الجنات والفوز والفلاح".
و- منع العذاب في الدنيا:
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان فيهم أمانان: النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار).
ز- الإمداد بالأموال والبنين وإنزال الغيث:
قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً J يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً K وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10- 12].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أي: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدرّ لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين، أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها).
تفسير الطبري (2/60).
تيسير الكريم الرحمن (350).
تيسير الكريم الرحمن (351).
التفسير المنير (24/73) باختصار.
الجامع لأحكام القرآن (18/197).
الجامع لأحكام القرآن (12/238).
تفسير السعدي (92) بتصرف.
تفسير الطبري (11/318).
أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب حدثنا الحسن بن الربيع (4967) وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة باب ما يقال في الركوع والسجود (484).
انظر: الجامع لأحكام القرآن (7/279).
تفسير القرآن العظيم (2/374).
تفسير القرآن العظيم (2/417).
تفسير السعدي (383).
تفسير السعدي (389).
تفسير ابن كثير (3/169).
تفسير السعدي (567).
أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة باب ما جاء في معاشرة الناس (1987) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها (190).
الجامع لأحكام القرآن (13/78).
تفسير السعدي (874).
انظر: تفسير ابن كثير (2/317).
انظر: تفسير ابن كثير (4/453).
الفصل الرابع: فضائل التوبة والاستغفار في السنة النبوية:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا أخطأ نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، وإن عاد زيد فيه، حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}[المطففين:14])).
قال المباركفوري: "والمعنى: نظّف وصفَّى مرآة قلبه، لأن التوبة بمنزلة المصقلة، تمحو وسخ القلب وسواده حقيقياً أو تمثيلياً".
2- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).(/10)
3- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلّ على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدَلّ على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك الموت في صورة آدمي، فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)).
قال ابن حجر: "وفيه مشروعية التوبة من جميع الكبائر حتى من قتل الأنفس، ويحمل على أن الله إذا قبل توبة القاتل تكفل برضا خصمه... وقال عياض: وفيه أن التوبة تنفع من القتل كما تنفع من سائر الذنوب وهو وإن كان شرعاً لمن قبلنا وفي الاحتجاج به خلاف، لكن ليس هذا من موضع الخلاف، لأن موضع الخلاف إذا لم يرد في شرعنا تقريره وموافقته، أما إذا ورد فهو شرع لنا بلا خلاف".
4- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش، أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده)).
5- عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة)).
قال ابن أبي جمرة: "جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمى سيد الاستغفار، ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجدها وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو، وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة، فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى".
6- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)).
قال ابن بطال: "الأنبياء أشد الناس اجتهاداً في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير".
وقال الغزالي: "كان صلى الله عليه وسلم دائم الترقي فإذا ارترقى إلى حال رأى ما قبلها دونها، فاستغفر من الحالة السابقة وهذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقاً بحسب تعدد الأحوال".
7- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: ((أذنب عبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أنه له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفر لك))، قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة: ((اعمل ما شئت)).
قال القرطبي: "يدل هذا الحديث على عظيم فائدة الاستغفار وعلى عظيم فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه، لكن هذا الاستغفار هو الذي ثبت معناه في القلب مقارناً للسان لينحل به عقد الإصرار ويحصل معه الندم، فهو ترجمة للتوبة".
الران: الطبع والختم.
أخرجه الترمذي في كتاب التفسير باب: ومن صورة المطففين (3334) وقال: هذا حديث حسن صحيح وأخرجه ابن ماجة في كتاب الزهد باب: ذكر الذنوب (4244).
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (9/254).
أخرجه مسلم في كتاب التوبة باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب (2759).
أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب: حديث الغار (347)، ومسلم في كتاب التوبة باب: قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (2766).(/11)
فتح الباري (6/518).
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب: التوبة (6308).
معنى أبوء أي: أعترف.
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب فضل الاستغفار (6306).
انظر: فتح الباري (11/103).
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب: استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة (6307).
شرح صحيح البخاري (10/77) بتصرف.
إحياء علوم الدين ( ).
أخرجه مسلم في كتاب التوبة باب: قبول التوبة من الذنوب و إن تكررت الذنوب (2758). وأبو داود في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى يريدون أن يبدلوا كلام الله (7507)،
المفهم (7/85) بتصرف.
الفصل الخامس: الآثار والأقوال الواردة في التوبة والاستغفار:
قال محمد بن كعب القرظي: "يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العودة بالجنان، ومهاجرة سيئ الإخوان"[1].
قال يحي بن معاذ: "الذي حجب الناس عن التوبة طول الأمل، وعلامة التائب إسبال الدمعة، وحب الخلوة، والمحاسبة للنفس عند كل همة"[2].
وقال بعض أهل العلم: "من أعطي أربعاً لم يمنع أربعاً: من أعطي الشكر لم يمنع المزيد، ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطي المشورة لم يمنع من الصواب"[3].
قال ابن القيم: "التوبة من أفضل مقامات السالكين؛ لأنها أول المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يفارقها العبد أبداً، ولا يزال فيها إلى الممات، وإن ارتحل السالك منها إلى منزل آخر ارتحل به ونزل به، فهي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النهاية ضرورية كما حاجته إليها في البداية كذلك"[4].
قال أبو موسى رضي الله عنه: (كان لنا أمانان، ذهب أحدهما وهو كون الرسول فينا، وبقي الاستغفار معنا، فإذا ذهب هلكنا).
قال الفضيل رحمه الله: "استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين".
ويقاربه ما جاء عن رابعة العدوية: "استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير".
سئل سهل عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب فقال: "أول الاستغفار الاستجابة، ثم الإنابة، ثم التوبة، فالاستجابة أعمال الجوارح، والإنابة أعمال القلوب، والتوبة إقباله على مولاه بأن يترك الخلق، ثم يستغفر من تقصيره الذي هو فيه".
قال ابن الجوزي: "إن إبليس قال: أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبـ (لا إله إلا الله)، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً"[5].
---------------
[1] انظر: الآداب الشرعية (1/86) لابن مفلح.
[2] انظر: ذم الهوى لابن الجوزي (174).
[3] انظر: إحياء علوم الدين (1/206).
[4] مدارج السالكين لابن القيم (1/198).
[5] انظر فيما تقدم من الآثار: نضرة النعيم (2/301).
الفصل السادس: مسائل في التوبة:
1- التوبة الواجبة والتوبة المستحبة:
فالتوبة الواجبة تكون من فعل المحرمات وترك الواجبات، والتوبة المستحبة تكون من فعل المكروهات وترك المستحبات.
فمن اقتصر على التوبة الأولى كان من الأبرار المقتصدين، ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين، ومن لم يأت بالأولى كان من الظالمين إما الكافرين وإما الفاسقين.
2- التوبة النصوح:
هي الخالصة الصادقة الناصحة، الخالية من الشوائب والعلل، وهي التي تكون من جميع الذنوب، فلا تدع ذنباً إلا تناولته، وهي التي يجمع صاحبها العزم والصدق بكليته عليها، بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوّم ولا انتظار.
وهي التي تقع لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، ليست لحفظ الجاه والمنصب والرياسة، ولا لحفظ الحال أو القوة أو المال، ولا لاستدعاء حمد الناس أو الهرب من ذمهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، ولا لقضاء النهمة من الدنيا أو للإفلاس والعجز، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل، فمن كانت هذه حاله غفرت ذنوبه كلها، وإذا حسنت توبته بدل الله سيئاته حسنات.
قال ابن كثير عند قول الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ}: "أي: توبة صادقة جازمة، تمحو ما قبلها من السيئات، وتلمّ شعث التائب وتجمعه وتكفه عما يتعاطاه من الدناءات".
وقال الألوسي: "وجوز أن يكون المراد بالتوبة النصوح توبة تنصح الناس، أي تدعوهم إلى مثلها؛ لظهور أثرها في صحابها واستعمال الجد والعزيمة في العمل بمقتضاها".
3- التوبة الخاصة من بعض الذنوب:
الواجب على العبد أن يتوب من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، فإذا تاب من بعضها مع إصراره على بعضها الآخر، قبلت توبته مما تاب منه، ما لم يصر على ذنب آخر من نوعه.(/12)
أما إذا تاب من ذنب مع مباشرة ذنب آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه صحت توبته مما تاب منه. مثال ذلك أن يتوب من الربا وهو مُصّر على السرقة وشرب الخمر، فتقبل توبته مما تاب منه، أما إذا تاب من نوع من أنواع الربا وهو مُصّر على نوع آخر منه، أو تاب من نوع منه وانتقل إلى نوع آخر فلا تقبل توبته، كحال من يتوب من ربا الفضل وهو مُصّر على ربا النسيئة، وكحال من يتوب من الزنا بامرأة وهو مُصّر على الزنا بأخرى، فإن توبته لا تصح. وبالجملة فكل ذنب له توبة خاصة وهي فرض منه، لا تتعلق بالتوبة من غيره، فهذه هي التوبة الخاصة.
وسر المسألة أن التوبة تتبعض كالمعصية، فيكون تائباً من وجه دون وجه، كالإسلام والإيمان.
وهذا هو قول جمهور أهل السنة والجماعة.
ثم إن على العبد إذا وفقه الله لترك ذنب من الذنوب أن يسعى في التخلص من الباقي؛ لأن الإصرار على الذنوب يقود إلى ذنوب أخرى، فالحسنة تهتف بأختها والسيئة كذلك.
4- التخلص من الحقوق والتحلل من المظالم:
فالتوبة تكون من حق الله وحق العباد، فحق الله تبارك وتعالى يكفي في التوبة منه الترك كما تقدم، غير أن منه ما لم يكتف الشرع فيه بالترك، بل أضاف إليه القضاء والكفارة.
أما حق غير الله فيحتاج إلى التحلل من المظالم فيه وأداء الحقوق إلى مستحقيها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات)).
ولكن من لم يقدر على الإيصال بعد بذل الوسع في ذلك فعفو الله مأمول.
5- توبة العاجز عن المعصية:
إذا ِحيل بين العاصي وبين أسباب المعصية فعجز عنها بحيث يتعذر وقوعها منه فهل تصح توبته إذا تاب؟ وذلك كحال السارق إذا قطعت أطرافه الأربعة، وكالزاني إذا جُب، وكمن حكم عليه بالسجن المؤبد، فهل لهؤلاء توبة، مع أنه قد حيل بينه وبين ما كان يفعله من معاصي؟
قال ابن القيم بعد أن ذكر الأقوال والخلاف في هذه المسألة "القول الثاني: وهو الصواب أن توبته ممكنة بل واقعة، فإن أركان التوبة مجتمعة فيه، والمقدور له منها الندم، وفي المسند مرفوعاً ((الندم توبة))، فإذا تحقق ندمه على الذنب ولومه نفسه عليه فهذه توبة، وكيف يصح أن تسلب التوبة عنه مع شدة ندمه على الذنب ولومه نفسه، ولا سيما ما يتبع ذلك من بكائه وحزنه وخوفه وعزمه الجازم، ونيته أنه لو كان صحيحاً والفعل مقدوراً له لما فعله، وإذا كان الشارع قد نَزّل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها إذا صحت نيته كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً))، وفي الصحيح أيضاً: ((إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم)) قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: ((وهم بالمدينة، حبسهم العذر)).
وله نظائر في الحديث فتنزيل العاجز عن المعصية، التارك لها قهراً مع نية تركها اختياراً لو أمكنه منزلة التارك المختار أولى".
6- معنى التوبة من قريب والتوبة عند الموت:
قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17].
قال ابن رجب: "وأما التوبة من قريب فالجمهور على أن المراد بها التوبة قبل الموت، فالعمر كله قريب، ومن تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، ومن لم يتب فقد بعُد كلَّ البعد كما قيل:
فهم جِيرة الأحياء أما قرارهم فدانٍ وأما الملتقى فبعيد
فالحي قريب، والميت بعيد من الدنيا على قربه منها، فإن جسمه في الأرض يبلى وروحه عند الله تنعم أو تعذب، ولقاؤه لا يرجى في الدنيا".
أما إذا عاين العبد أمور الآخرة وانكشف له الغطاء، وشاهد الملائكة فصار الغيب عنده شهادة، فإن الإيمان والتوبة لا تنفعه في تلك الحال.
قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء:18].
فسوّى عز وجل بين من تاب عند الموت ومن تاب من غير توبة، والمراد بالتوبة عند الموت: التوبة عند انكشاف الغطاء، ومعاينة المحتضر أمور الآخرة ومشاهدة الملائكة.
وقال ابن رجب: "وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال: لا يزال العبد في مهل من التوبة ما لم يأته ملك الموت يقبض روحه، فإذا نزل ملك الموت فلا توبة حينئذ.
وقال ابن عمر: (التوبة مبسوطة ما لم ينزل سلطان الموت).
7- رجوع الحسنات إلى التائب بعد التوبة:(/13)
قال ابن القيم: "وإذا استغرقت سيئاته الحديثات حسناته القديمات وأبطلتها، ثم تاب منها توبة نصوحاً خالصة عادت إليه حسناته، ولم يكن حكمه حكم المستأنف لها، بل يقال له: تبت على ما أسلفت من خير، فالحسنات التي فعلتها في الإسلام أعظم من الحسنات التي يفعلها الكافر في كفره من عتاقة وصدقة وصلة، وقد قال حكيم بن حزام: يا رسول الله أرأيت عتاقة أعتقتها في الجاهلية، وصدقة تصدقت بها، وصلة وصلت بها رحمي، فهل لي فيها من أجر؟ فقال: ((أسلمت على ما أسلفت من خير))، وذلك لأن الإساءة المتخللة بين الطاعتين قد ارتفعت بالتوبة، وصارت كأنها لم تكن، فتلاقت الطاعتان واجتمعتا والله أعلم".
قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث المتقدم: "لا مانع من أن يضيف الله إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه في الكفر تفضلاً وإحساناً".
8- هل التوبة ترجع العبد إلى حاله قبل المعصية؟
إذا كان للعبد حال أو مقام مع الله ثم نزل عنه لذنب ارتكبه، ثم تاب منه، فهل يعود بعد التوبة إلى ما كان أو لا يعود؟
والجواب أن هذه المسألة قد اختلف فيها السلف على أقوال شتى، ومن أحسن من أجاب على تلك المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: "والصحيح أن من التائبين من لا يعود إلى درجته، ومنهم من يعود إليها، ومنهم من يعود إلى أعلى منها، فيصير خيراً مما كان قبل الذنب، وكان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة... وهذا بحسب حال التائب بعد توبته وجده وعزمه وحذره وتشميره، فإن كان ذلك أعظم مما كان له قبل الذنب عاد خيراً مما كان وأعلى درجة، وإن كان مثله عاد إلى مثل حاله، وإن كان دونه لم يعد إلى درجته وكان منحطاً عنها".
قال ابن القيم: "وهذا الذي ذكره هو فصل النزاع في هذه المسألة".
انظر: رسالة في التوبة (227) لابن تيمية ضمن جامع الرسائل (المجموعة الأولى).
مدارج السالكين (1/316)، وانظر أيضاً: فتح الباري (11/105).
تفسير القرآن العظيم (4/391).
روح المعاني (28/158).
انظر: إحياء علوم الدين (4/40).
انظر: مدارج السالكين (1/285).
انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن رجب الحنبلي (1/157).
أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب باب: من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له (2429) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
انظر: كتاب التوبة وظيفة العمر للحمد (83).
الحديث أخرجه ابن ماجة في كتاب الزهد باب ذكر التوبة (4252) وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4002) وحسنه الحافظ في الفتح (13/471)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6802). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب:يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة (2996).
أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب: نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر (4423).
انظر: مدارج السالكين (1/296).
لطائف المعارف (571).
لطائف المعارف (573).
لطائف ومعارف (573).
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب: من تصدق في الشرك ثم أسلم (1436)، ومسلم في كتاب الإيمان باب: بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده (123).
مدارج السالكين (1/293).
فتح الباري (3/354).
انظر: مدارج السالكين (1/302).
مدارج السالكين (1/302).
الفصل السابع: أمور تعين على التوبة:
1- الإخلاص لله والإقبال عليه عز وجل:
فالإخلاص لله عز وجل من أنفع الأدوية، فإذا أخلص لله عز وجل وصدق في طلب التوبة أعانه الله عليها ويسره لها وأمده بألطاف لا تخطر بالبال، وصرف عنه الآفات التي تعترض طريقه وتصد توبته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه، أو خوفاً من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر، قال تعالى في حق يوسف: {كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]، فالله يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل إلى الصور والتعلق بها ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله؛ ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوي في قلبه، انقهر له هواه بلا علاج".
2- المجاهدة:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
قال ابن الجوزي: "وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة، ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً؛ لأنه قُهِر، بخلاف غالب الهوى فإنه يكون قوي القلب عزيزاً؛ لأنه قَهَر".
3- قِصَر الأمل وتذكر الآخرة:(/14)
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
قال ابن رجب الحنبلي: "وهذا الحديث أصل في قِصَر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً فيطمئن فيها. ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر، يهيئ جهازه للرحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم".
4- العلم:
لأنه نور يستضاء به، والعلم يشغل صاحبه بكل خير ويُشغله عن كل شر، فإذا فقد العلم فقدت البصيرة. ومن العلم في هذا السياق العلم بعاقبة المعاصي وقبحها ورذالتها، ودناءتها، ومن العلم أيضاً أن يعلم بفضل التوبة والرجوع إلى الله عز وجل.
5- مصاحبة الأخيار ومجانبة الأشرار:
لأن مصاحبة الأخيار تحيي القلب وتشرح الصدر، وتنير الفكر، وتعين على الطاعة، والأشرار على عكسهم، ولهذا جاء في حديث الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً أنه لما أتى إلى الرجل العالم وسأله: هل له من توبة؟ قال له: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء.
6- استحضار أضرار الذنوب والمعاصي في الدنيا والآخرة:
فإن للذنوب والمعاصي أضراراً عظيمة وعقوبات متنوعة سواء في الدنيا أو في الآخرة على مستوى الأفراد أو الجماعات، فَتَذكُّر هذه العقوبات والمثلات يدعو الإنسان للتوبة قبل حلول العذاب.
7- الدعاء:
قال الله تعالى: {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وقال جل شأنه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.
ومن أعظم ما يُسأل الله عز وجل أن يوفقه للتوبة النصوح، وأن يتقبل توبته.
مجموع فتاوي ابن تيمية (10/187- 188).
صيد الخاطر (115).
أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب قول النبي صلى الله عليه وسلم كن في الدنيا كأنك غريب (6416).
جامع العلوم والحكم (2/377).
أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب حديث الغار (347)، ومسلم في كتاب التوبة باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (2766).
انظر: التوبة وظيفة العمر (223).
الفصل الثامن: نماذج وقصص للتائبين:
1- قصة توبة أبي محجن الثقفي:
عن ابن سيرين قال: كان أبو محجن الثقفي لا يزال يجلد في الخمر، فلما أكثر عليهم سجنوه وأوثقوه، فلما كان يوم القادسية فكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا في المسلمين، فأرسل إلى أم ولد سعد، أو امرأة سعد: إن أبا محجن يقول لك: إن خليت سبيله وحملته على هذا الفرس ودفعت إليه سلاحاً ليكونن أول من يرجع إليك إلا أن يقتل.
فحلت عنه قيوده، وحمل على فرس كان في الدار وأعطي سلاحاً، ثم خرج يركض حتى لحق، بالقوم فجعل لا يزال يحمل على رجل فيقتله ويدق صلبه، فنظر إليه سعد فجعل يتعجب ويقول: من ذاك الفارس؟ قال: فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى هزمهم الله، ورجع أبو محجن، ورد السلاح وجعل رجليه في القيود كما كان، فجاء سعد فقالت له امرأته: كيف كان قتالكم، فجعل يخبرها ويقول: لقينا ولقينا حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق، لولا أني تركت أبا محجن في القيود لقلت: إنها بعض شمائل أبي محجن فقالت: والله إنه لأبو محجن، كان أمره كذا وكذا، فقصت عليه قصته، فدعا به فحل قيوده وقال: لا نجلدك على الخمر أبداً، قال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبداً، كنت آنف أن أدعها من أجل جلدكم. قال: فلم يشربها بعد ذلك.
2- قصة توبة الفضيل بن عياض:
عن علي بن خشرم قال: أخبرني رجل من جيران الفضيل بن عياض قال: كان الفضيل يقطع الطريق وحده، فخرج ذات ليلة ليقطع الطريق فإذا هو بقافلة قد انتهت إليه ليلاً، فقال بعضهم لبعض: اعدلوا بنا إلى هذه القرية، فإن أمامنا رجلا يقطع الطريق يقال له: الفضيل، قال: فسمع الفضيل، فأرعد فقال: يا قوم أنا الفضيل، جوزوا، والله لأجتهدن أن لا أعصي الله أبداً، فرجع عما كان عليه.
انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (7/360- 362 ) لابن حجر.
انظر: سيد الأعلام النبلاء (8/423) للذهبي.
الفصل التاسع: أخطاء في باب التوبة:
1- تأجيل التوبة:
فمن الناس من يدرك خطأه ويعلم حرمة ما يقع فيه، ولكنه يؤجل التوبة ويسوّف فيها وهذا خطأ عظيم؛ لأن التوبة واجبة على الفور، بل إن تأخير التوبة ذنب يجب أن يستغفر منه.
قال الغزالي: "أما وجوبها على الفور فلا يستراب فيه، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان، وهو واجب على الفور".
وقال ابن القيم: "المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور، ولا يجوز تأخيرها، فمتى أخرها عصى بالتأخير فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى، وهي توبته من تأخير التوبة".
2- الغفلة عن التوبة مما لا يعلمه العبد من ذنوبه:(/15)
وهذا من الأخطاء التي تقع في باب التوبة وقلّ من يتفطن لها، قال ابن القيم: "ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة مما يعلم من ذنوبه ومما لا يعلم، فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه، ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكناً من العلم، فإنه عاصٍ بترك العلم والعمل، فالمعصية في حقه أشد".
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل))، فقال أبو بكر: فكيف الخلاص منه يا رسول الله؟ قال: ((أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)).
3- ترك التوبة مخافة الرجوع للذنب:
يجب على المسلم أن يتوب إلى الله في كل وقت وحين فلربما أدركه الموت وهو لم ينقض توبته، كما عليه أن يحسن الظن بربه ويعلم أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني)).
4- ترك التوبة خوفاً من لمز الناس:
فمن الناس من تحدثه نفسه بالتوبة ولزوم الاستقامة، ولكنه يخشى لمز الناس وعيبهم إياه ووصمهم له بالتشدد والوسوسة، وهذا خطأ فادح؛ إذ كيف يقدم خوف الناس على خوف رب الناس، وكيف يؤثر الخلق على الحق، فالله أحق أن يخشاه.
5- ترك التوبة مخافة سقوط المنزلة وذهاب الجاه والشهرة.
6- التمادي في الذنوب اعتماداً على سعة رحمة الله:
يقول المولى جل ذكره {نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ w وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ} [الحجر:49، 50].
يقول أبو حامد الغزالي في شأن من يذنب وينتظر العفو عنه اتكالاً على فضل الله تعالى قال: "هو كمن ينفق جميع أمواله ويترك نفسه وعياله فقراء منتظراً من فضل الله أن يرزقه العثور على كنز في أرض خربة، فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الامكان، وهو مثل من يتوقع النهب في الظلمة في بلده وترك ذخائر أمواله في حصن داره وقدر على دفنها فلم يفعل".
وقال ابن القيم: "وهذا الضرب من الناس قد تعلق بنصوص الرجاء واتكل عليها، وتعلق بكلتا يديه، وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته ونصوص الرجاء. وللجهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائب وعجائب".
7- الاغترار بإمهال الله للمسيئين:
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ قوله تعالى: {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
قال ابن الجوزي: "فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كل مذنب ذنباً، وهو معنى قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]، وربما رأى العاصي سلامة بدنه فظن أن لا عقوبة، وغفلته عما عوقب به عقوبة".
وقال ابن الجوزي أيضاً: "الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي، فإن نارها تحت الرماد، وربما تأخرت العقوبة، وربما جاءت مستعجلة".
8- اليأس من رحمة الله:
يقول المولى سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، وقال جل ذكره: {قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر:53].
9- اليأس من توبة العصاة:
جاء في صحيح مسلم عند جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث: ((إن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك)).
10- الشماتة بالمبتلَين.
11- توبة الكذابين:
الذين يهجرون الذنوب هجراً مؤقتاً يتحينون الفرص لمعاودة الذنب.
12- الاغترار بالتوبة:
وهذا الغرور قد يصاحب بعض التائبين وكأن توبته قد قبلت وذنوبه قد محيت فيدفعه هذا الغرور إلى أن يقع في بعض الذنوب الأخرى.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إحياء علوم الدين (4/7).
مدارج السالكين (1/283).
مدارج السالكين (1/283).
رواه البخاري في الأدب المفرد باب فضل الدعاء (1/250). وصححه الألباني في صحيح الجامع (3731).
أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى ويحذركم الله نفسه (7405) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب الحث على ذكر الله (2675).
إحياء علوم الدين (4/58).
الجواب الكافي (67-68).
أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب قوله وكذلك اخذ ربك إذا أخذ القد (4686)، مسلم في البر والصلة (2583)، من حديث أبي موسى الأشعري.
صيد الخاطر (104).
صيد الخاطر (500).
أخرجه مسلم في كتاب الصلة والاداب باب: النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله (2621).(/16)
التوبة وفضلها
محمد رزق ساطور
الحمد الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات، وهو التواب الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فقد استعرضنا في الحلقة الماضية حقيقة التوبة، وذكرنا شيئًا من فضائلها، وفي هذه الحلقة نكمل بعض فضائل التوبة- إن شاء الله تعالى- فنقول:
الحمد الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات، وهو التواب الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فقد استعرضنا في الحلقة الماضية حقيقة التوبة، وذكرنا شيئًا من فضائلها، وفي هذه الحلقة نكمل بعض فضائل التوبة- إن شاء الله تعالى- فنقول:
رابعًا: التائب يقبله الله تعالى ويتوب عليه، ولو لم يكن في التوبة إلا أن يسامحه الله ويقبل توبته لكفى ذلك شرفًا وفضلاً، قال جل شأنه: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم {البقرة: 178}.
والمراد قَبِلَ توبتكم حين تبتم عن المحظور الذي ارتكبتموه. {روح المعاني 1-2-65}.
قال الرازي: لأن التوبة من العباد الرجوع إلى الله تعالى بالعبادة، ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان، وأما العفو فهو التجاوز يعني عن المعاصي، فبين الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما جعله ثقيلاً على من قبلنا كقوله تعالى: ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم {الأعراف: 157}.
فتوبة الله تعالى دليل الرضا وتوفيق الله تعالى لمن تاب عليهم، فلقد أخبر سبحانه أنه تاب على النبي والمهاجرين والأنصار كرمًا منه سبحانه وفضلاً، فقال لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم.
قال ابن الجوزي: كرر- سبحانه- ذكر التوبة، لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم ذكر التوبة فضلاً منه، ثم أعاد ذكر التوبة. {زاد المسير لابن الجوزي 3-516}.
وقال القاسمي: اعلم أن الله تعالى لما بين فيما تقدم مراتب الناس في أيام غزوة تبوك، مؤمنهم ومنافقهم، والمنفق لها طوعًا أو كرهًا، والمرغب فيها أو عنها والمتخلف نفاقًا أو كسلاً، وأنبأ عما لحق كلا من الوعد والوعيد، وميز الصادقين عن غيرهم ختم بفرقة منهم كانوا قد تخلفوا ميلاً للدعة وهم صادقون في إيمانهم، ثم ندموا فتابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم فقبلها، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية وصدرها بتوبته على رسوله وكبار صحبه جبرًا لقلوبهم وتنويهًا لشأنهم بضمهم مع المقطوع بالرضا عنهم، وبعثًا للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار، كل على حسبه، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأنها صفة التوابين والأوابين صفة الأنبياء.
{محاسن التأويل للقاسمي 9-3285}
وقال جل شأنه عن أبينا آدم: وعصى آدم ربه فغوى (121) ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى {طه: 121، 122}.
فتوبة الله اجتباء وتوفيق لمن تاب الله عليه وتشريف لأن الله تعالى تاب عليهم ليتوبوا ودلهم على التوبة، وقبلهم ليقبلوا عليه ويتوبوا إليه حبًا وطمعًا في فضله جل شأنه، وقال سبحانه: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن {المزمل: 20}.
وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال: يقول ما قاله أبواه: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين {الأعراف: 23}.
وقال موسى عليه السلام: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي {القصص: 16}.
وقال يونس عليه السلام: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين {الأنبياء: 87}.
وقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد أنه كان يقول في قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه قال الكلمات اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني، إنك خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي، فتب علي، إنك أنت التواب الرحيم. {تفسير ابن كثير}.
خامسًا: أن الله تعالى يفرح بتوبة عبده، فرحًا يليق بذاته جل وعلا، فهو سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير {الشورى: 11}.
وفرح الله تعالى بتوبة عبده، يدل على فضل التوبة وشرفها ومنزلتها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه تهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده".
{البخاري 11-105، ومسلم 17-60، 61}(/1)
وأول شيء ننبه عليه في هذا الحديث أن المسلم يجب عليه أن يحذر من التعطيل والتمثيل، فإن كلا منهما منزل ذميم ومرتع وخيم ولا ينبغي لأحد أن يشم من نفسه ذلك الأمر الفاسد لأنه يفسد الذوق، ويحرم العبد الفهم والوعي ولا يمكنه أن يذوق طعم الإيمان، بل يعلم أن فرح الله تعالى لا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته، وما يليق بعز جلاله سبحانه، وربما كان الأولى بنا طي الكلام في ذلك إلى ما هو اللائق بأفهام بني الزمان وعلومهم وضعف عقولهم عن احتماله، ولكن الله جلت قدرته يسوق هذه البضاعة إلى من يعرف قدرها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
يقول ابن القيم رحمه الله: اعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله وشرفه، وخلقه لنفسه، وخلق كل شيء له، وخصه عن معرفته ومحبته وإكرامه بما لم يعط غيره، وسخر ما في سماواته وأرضه وما بينهما حتى ملائكته الذين- هم أهل قربه- استخدمهم له، وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته، وظعنه وإقامته، وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسل إليه رسله، وخاطبه وكلمه منه إليه، واتخذ منهم الخليل والكليم، والأولياء والخواص والأحبار، وجعلهم معدن أسراره ومحل حكمته وموضع محبته، وخلق الجنة والنار لهم، فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات، وقد خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأظهر فضله على الملائكة، فالمؤمن من نوع الإنسان: خير البرية على الإطلاق، وخيرة خلق الله من العالمين، فإنه خلقه ليتم نعمته عليه، وليتواتر إحسانه إليه، وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيته، ولم يخطر على باله، ولم يشعر به؛ ليسأله من العطايا والمواهب الظاهرة والباطنة، العاجلة والآجلة، التي لا تنال إلا بمحبته ولا تنال محبته إلا بطاعته وإيثاره على ما سواه، فاتخذه محبوبًا له، وأعده له أفضل ما يعده محب غني قادر جواد لمحبوبه إذا قدم عليه، وعهد إليه عهدًا تقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه، وأعلمه في عهده ما يقربه إليه، ويزيده محبة وكرامة عليه وما يبعده منه ويسخطه عليه، فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة، إذ انقلب آبقًا شاردًا مائلاً عنه إلى عدوه ناسيًا لسيده، منهمكًا في موافقة عدوه وارتكب مساخط مولاه، فهو بذلك استدعى من سيده خلاف ما هو أهله، فبينما هو كذلك عرضت له فكرة فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه، وعلم أنه لا بد له منه، وأن مصيره إليه وعرضه عليه، ففر إلى سيده من بلد عدوه وجدَّ في الهرب حتى وصل إلى بابه، ووضع خده على عتبة بابه وتوسد ثرى أعتابه متذللاً متضرعًا خاشعًا باكيًا آسفًا، يتملق سيده ويسترحمه ويستعطفه ويعتذر إليه قد ألقى بيده إليه واستسلم له وأعطاه قياده وألقى إليه بزمامه، فعلم سيده ما في قلبه فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه ومكان الشدة رحمة به وأبدله بالعقوبة عفوًا وبالمنع عطاء وبالمؤاخذة حلمًا، هذا إذا نظرت إلى تعلق الفرح الإلهي بالإحسان والجود والبر، أما إذا لاحظت تعلقه بإلهيته وكونه معبودًا، فذاك مشهد أجل من هذا وأعظم منه، وإنما يشهده خواص المحبين.
{مدارج السالكين 1-230، 237 بتصرف}
سادسًا: أن الله تعالى دعا كل الخلق إلى التوبة فدعا إليه الذين عبدوا المسيح، ومن قال المسيح هو الله، ومن قال هو ثالث ثلاثة، ومن قال عزير ابن الله، ومن قال يد الله مغلولة، ومن قال إن الله فقير ونحن أغنياء، ومن دعا لله الصاحبة والولد، فقال لهم جميعًا: أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم {المائدة: 74}.
قال ابن كثير: وهذا من كرمه وجوده، ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم وهذا الافتراء والكذب والإفك يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب عليه.
{تفسير ابن كثير 2-81}
ودعا سبحانه إلى التوبة من هو أعظم محادة لله من هؤلاء وهو من قال: أنا ربكم الأعلى {النازعات: 23}، وقال: يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري {القصص: 38}، فقال الله تعالى لكليمه موسى: اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى {طه: 43، 44}.
وقال أيضًا: أن ائت القوم الظالمين (10) قوم فرعون ألا يتقون {الشعراء: 10، 11}، ودعا سبحانه إليها المشركين فقال: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم {التوبة: 5}، ودعا إليها الكفار فقال جل شأنه: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين {الأنفال: 38}.
ودعا إليها المنافقين فقال سبحانه: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما {النساء: 145، 146}.(/2)
ودعا إليها من كتم ما أنزل الله تعالى من البينات والهدى فقال جل ذكره: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون *إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم {البقرة: 159، 160}.
وقال جل شأنه: كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين (86) أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (87) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (88) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم {آل عمران: 86- 89}.
ودعا سبحانه إلى توبة السارق والسارقة فقال جل شأنه: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38) فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم{المائدة: 38، 39}
ودعا إليها من أضاع الصلاة واتبع الشهوات، فقال جل شأنه: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا (59) إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا
{مريم: 59، 60}
ودعا إليها من يدعو مع الله إلهًا آخر ومن يقتل ومن يزني فقال: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما {الفرقان: 68- 70}.
ودعا إليها جميع المسرفين بأي ذنب كان فقال: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون {الزمر: 53، 54}.
وقال جل وعلا: والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم {الأعراف: 153}.
وقال سبحانه: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما
{النساء: 110}
فالتوبة بابها مفتوح لكل العباد لأنهم عباد الله وهو خالقهم ورازقهم والمدبر لشئونهم، فحينما يعودون إليه يقبلهم ويتجاوز عن سيائتهم وقبيح صنيعهم، وهذا يدل على شرف التوبة وفضلها لمن وعاها وأقبل بها على ربه سبحانه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين".
{البخاري: 13-411، 7416، ومسلم 2-1136}
سابعًا: يجعل الله تعالى من يخطئ ويتوب أفضل المخطئين وخيرهم فإذا كان الخطأ يبعد العبد عن ربه، ويكون سببًا في العذاب فإن التوبة تجبر الخطأ ويكون التائب المخطئ خير التوابين، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون". {أحمد في مسنده 3-198}.
فإذا علم العبد ذلك سارع إلى الله تعالى بالتوبة، وشغل نفسه بتطهير ما تدنس منه وكان حذرًا من الذنوب، حتى يكون خير الخطائين.
والحمد لله رب العالمين(/3)
التوبة وفضلها
إعداد/ محمد رزق ساطور
الحلقة الثالثة
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا فسأل عن أعلم أهل الأرض، فَدُل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم: أي حكمًا، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة». [البخاري 6/591، ومسلم 17/82، 83]
وفي هذا الحديث من الكنوز والفوائد الكثير لمن تدبره، وها نحن نذكر بعضًا منها:
الأولى: الاعتبار بما مضى في السابقين، وبمن كانوا قبلنا، فكان منهم من رضي الله عنهم وتقبل منهم، وأقال عثرتهم وأنار بصيرتهم، فكل من طلب من الله العفو، عليه أن يستقيم على أمره، ليقبل منه ويتجاوز عنه، وأن من لم يعتبر بغيره ويرجع عن غيه، كان عبرة لمن بعده، فالنبي صلى الله عليه وسلم يربط هذه الأمة بمن سبقها على طريق التوبة والإيمان لأن دين الأنبياء واحد وهو الإسلام وحتى يعلم المسلمون أننا لا نسير في طريق التوبة وحدنا بل لقد سار في هذا الطريق كل الأنبياء والمرسلين، وأتباعهم الذين صدقوا في إيمانهم، أما من بدل وغير فإننا نبرأ منه ويبرأ منه الأنبياء والمرسلون ومن صدق من أتباعهم.
والثانية: أن قساوة القلب، والبعد عن الله، والجهل واقتراف المعاصي، وفعل القبائح والسيئات لها حد ولها نهاية، من وضع لها حدًا في الدنيا بالتوبة فقد فاز، وإلا كانت النهاية في النار- عياذًا بالله منها- فهذا قاتل محترف قتل تسعة وتسعين نفسًا، وبعد ذلك يمل من كثرة هذه القبائح ويرجو رحمة ربه سبحانه ويطلب التوبة، فطريق العصيان كله ملل ونصب وشقاء وهلاك وتعب، فالمخالفات من شأنها أن تهلك القلب ولا تسعده، ماذا كان يريد هذا الرجل بعد أن قتل تسعة وتسعين نفسًا، ربما كان سعيدًا سعادة مؤقتة زائفة بذلك، وربما كان يثبت لنفسه هذه السعادة الزائفة بقتل الأنفس، ومع ذلك أحس أن ما فعله هو الدمار والشقاء والضياع والرعب والفزع والاضطراب والقلق، هذا حينما أبصر الحق وزالت عنه غشاوة الباطل فلا بد من حل للخروج من هذه الأزمات، إن ذلك لا يكون إلا بالقرب من الله تعالى والتوبة له والخضوع والذل والاستسلام والإذعان والانقياد لأمره تعالى، هذه بغية القلب التي يبحث عنها والتي إن وجدها استراح، آمن هذا الرجل بذلك، إن ما كان يعيش فيه من مال ومتع زائفة وحياة غنية باللهو والعبث والشهوة واللذة لم تشبع له نفسًا، ولم تسد له حاجة، فظل الرجل في تيه وملل حتى أحس بنور الله فتعلق به لأنه النجاة والفكاك من ظلمة العين وقساوة القلب، ولذلك لما وقف الراهب ليحول بينه وبين الله، وبينه وبين النور الذي رأى أنه نجاته، أحس أن ذلك الراهب يحول بينه وبين السعادة الحقيقية وأراد أن يرده إلى الوحل وإلى ما قاسى منه من هلاك وضياع ودمار، ولذلك قتله غير آسف على قتله لأنه بعد ما وجد الطريق رأى من يبعده عنه، فالتوبة هي العلاج والدواء وسبب السعادة، ثم فيها الاعتراف بما فعله العبد والوقوف بين يدي الله لطلب العفو والصفح، وعند ذلك تكتمل سعادة العبد؛ لأن من وجد الله فقد وجد كل شيء، ومن فقد طريق الله فَقَدَ كل شيء.
الثالثة: أن المستكثر من أي شيء يمل منه ويرغِّب عنه إلا المستكثر من الطاعات والبر والإيمان، فهذا القاتل مل من القتل على كثرته لأنه لم يشف له غليلاً، ولم يرح له قلبًا، فلا يطلب الزيادة على ما هو عليه إلا المؤمن، ولذلك على العبد أن ينظر هل يزداد عند الله خيرًا أم إثمًا، فلا يستكثر إلا من القربات، فلو أنك نظرت إلى حال هذا القاتل، الذي بدأ طريقه وحياته بقتل الناس والاعتداء عليهم، وإذا به يفعل كل ذلك ولم يكتشف أمره، ولم يفضح، ولم يستطع أحد أن يقتله قبل أن يتمكن من كل هذا العدد، مع كل هذا الطغيان والتمرد والجبروت علم أن القتل لم يقدم له شيئًا مما قتل من أجله، فعاد نادمًا ليستكثر من الزاد الحق الذي انتكس عنه من قبل، فلابد من الندم على الإكثار في الفساد ثم العمل بالطاعات والإكثار منها فهي السبيل لمن فرط وقصر في حق الله.(/1)
الرابعة: قصور عقول بني آدم، وعدم إدراكها لكثير من مصالحها وأنها عاجزة ما لم ترتبط بالشرع، فلو أن إنسانًا فكر بعقله، في شأن قاتل محترف، ومجرم سفاك للدماء قتل تسعة وتسعين نفسًا، هل يهتدي للتوبة؟ يشاء العليم الخبير سبحانه أن يختم لهذا العبد خاتمة طيبة، فلا يمكن منه أحدًا ليقتله قبل أن يتوب، ولا تدركه منيته حتى يسأل أهل العلم، ويعزم الرجوع والعودة، ويقبل على الله، فيقبل منه توبته، وهذا من رحمة الله بالتائبين، فلابد للعبد أن يشغل نفسه بالله، ويرجع إليه ليوفقه، ولا يستعظم ذنوبه، فالله وعد بالغفران، فلابد من الرجوع السريع، والله الموفق.
الخامسة: أن التائب حين يريد التوبة ويطلبها عليه أن يسأل عن حكم أخطائه ومعاصيه وكيف يتحلل منها حتى تكون التوبة نصوحًا، ولا ينبغي أن يرتجل في توبته فيعتمد على فكره ورأيه وحده، بل عليه أن يسأل ويتعلم ليعمل عملاً لا يتوب منه بعد ذلك، وإذا سأل يتحرى ويبحث عن عالم من علماء الآخرة، ليطمئن على توبته، ومن هنا بدأ هذا الرجل يسأل عن أعلم أهل الأرض، ولم يكتف بالسؤال عن أي عالم، فهو يريد توبة تخلصه من كل ذنوبه فبحث عن خلاصة العلماء، وحينما لم يجد بغيته في المرة الأولى لم ييأس وظل يسأل عن أعلم أهل الأرض حتى وفقه الله إلى عالم فتاب على يديه، وهذا الرجل كان منصفًا، فمع أنه قابل عابدًا جاهلاً إلا أنه لم يعمم الحكم على غيره- فإن بعض الناس حين يتعامل مع إنسان فيخدعه فيقول إنهم جميعًا مثله- أو يقول: كلهم هكذا، بل أدرك هذا الرجل أن الناس فيهم الصادق والمدعي، فجعله ذلك يعود فيسأل عن أعلم أهل الأرض ووجده، وهذا من بركات الإنصاف وعدم إلقاء الأحكام جزافًا.
السادسة: أن العلم يمنع صاحبه القتل في الدنيا قبل الآخرة؛ لأنه ينير البصيرة، فيميز العالم بين من يسألونه، خاصة أن العلماء يرد عليهم خيار أهل الأرض، وكذا أفسد أهل الأرض، ولذلك فإن الجهل قتل صاحبه، فحينما أفتى الراهب هذا الرجل بأنه لا توبة له، أفتى بجهل، وكانت هذه الفتيا سببًا في قتله، وأن العالم حين أفتى نفس الرجل ولكن بعلم انقاد له وأذعن ولم يخالفه، ولم يعترض عليه ونفذ كل ما أمره به، وهذا من بركة العلم، وكذلك فإن العلم يجعل صاحبه يستوعب الجاهل والمجرم والقاتل فيؤلف قلبه، ويداوي جرحه، ولا يتأفف من رائحة المعاصي التي تفوح منه، فإن الطبيب إذا تأفف من مريضه فمن يداويه؟ ومن يخرج القيح والصديد من جروحه ويصبر عليه ويتابعه؟ ثم إن الطبيب مهما كانت حالة مريضه فإنه ينبغي ألا يصارح المريض إلى هذا الحد، فمثلاً لا يقول له: اذهب فسوف تموت الآن، أو لا أمل في شفائك، أو انطلق حتى لا تعدي الناس فأنت هالك لا محالة، بل إن الطبيب الواعي هو الذي يفسح لمريضه في الأجل ويطمئنه ويعطيه الدواء المناسب، ثم الأمل في وجه الله لا ينقطع، ولذلك فإن أهل العلم هم الأطباء والممرضون والخدم للخلق فلا ينبغي أن يقنطوا الناس في رحمة الله، بل التوبة مفتوحة حتى الغرغرة.
السابعة: أن العالم هو الذي يحبب الناس في الله، ويرغبهم في رحمته، ويبين لهم سعة حلمه وعفوه وكرمه لمن تاب وأناب، ولذلك قال العالم للرجل: «ومن يحول بينك وبينها»، فالعلاقة بين العبد وربه موصولة دائمة متينة، فلو أن العبد قطعها وانغمس في شهواته وانطوى على ملذاته، وذاب في رغباته، فإن الله تعالى لا يقطعها ولا ييأس من توبة عبده فهو الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، والعالم مطالب أن يدل الناس على الله، ثم بعد ذلك علاقة العبد بربه لا يطلع عليها إلا الله، فإن شاء قبل منه وغفر له.
الثامنة: أن العالم لا يقف عند حد الفتوى الجافة، ولكن عليه أن يوجد للسائل مخرجًا كريمًا يساعد فيه العاصي على أن يتجاوز المحنة، فلقد كان من الممكن أن يكتفي العالم بأن يقول لذلك الرجل: نعم باب التوبة مفتوح فتب إلى الله، ويسكت عند هذا الحد، ولكن العالم لم يكتف بذلك بل إنه دله كيف يعمل؟ وكيف يتصرف؟ وكيف يتوب، ودله على قوم صالحين يعبد الله معهم في أرض كذا، وسماها للرجل؛ لأن صاحب المعصية مهما صحت توبته وقبلت في حاجة إلى من يعلمه ويوجهه، ومن هذا فإن العالم ينبغي أن يجيب السائل بأكثر من السؤال، أو بما وراء السؤال ليزيل عنه كل إشكال.
التاسعة: البحث عن هذا الصنف من العلماء، مع إخلاص النية في سؤال أهل الحق، فلو أن الإنسان بحث عن أهل العلم، ولم يوفق لهم في البداية فحق على الله تعالى أن يوفقه ويدله على بغيته، فالله تعالى وفق العاصي القاتل إلى أهل العلم ومقابلتهم والتعلم منهم حين صدقت نيته، وكذلك الحذر من علماء السوء الذين يفتون بغير علم.(/2)
العاشرة: فضل الصحبة الطيبة، واختيار الصاحب الذي يذكرك بالله ولا يحرمك من نصيحته، ويحافظ عليك حتى من شر نفسك التي بين جنبيك، ولذلك، كان من بركة هذه الصحبة الطيبة أن غفر الله لهذا الرجل بنية اقترابه من الصحبة الصالحة، فإن كان من يقترب يصنع معه ذلك، فماذا بالصاحب الخليل والرفيق القريب.
الحادية عشرة: عاقبة الصحبة السيئة لقرناء السوء، كادت تختم لهذا الرجل بخاتمة سيئة، فلقد أماتت قلبه، ودفعته للمنكر، وزينت له القتل، وشجعته عليه، لولا أن الله سلم.
الثانية عشر: أن الشيطان أبعد عن الجماعة عنه عن الواحد، وأن من أراد التوبة لابد أن يلتحق بصحبة طيبة، ولا يترك نفسه وحده، حتى لا يقع في مصايد الشيطان ومخالبه ووساوسه التي تفسد على العبد علاقته بالله تعالى.
الثالثة عشر: أن الموت يأتي بغتة، وأن العبد إذا علم أنه مهدد بالموت صحح نيته، وعقيدته وعبادته فيلقى الله تعالى على نية حسنة، فمن كان يظن أن يموت هذا القاتل وهو لا يزال بصحته وقوته، ولكن العبد لا يدري متى يموت فينبغي له أن يستعد؛ لأن الموت يأتي بغتة، وعلمه بذلك يدفعه إلى سرعة التوبة والإنابة والتذلل والندم، حتى يعطيه الله فوق نيته الطيبة بغير حساب كرمًا منه تعالى وإحسانًا.
الرابعة عشر: لابد أن يستحي الإنسان من عمله، فلسوف يعرض على ربه، ويظهر أمام الملائكة، ولعله يختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فلابد من الإخلاص؛ لأن الإخلاص هو الخلاص، والاستحياء من العمل، أن يطلع الخلق على فضائحه، وملائكة الرحمة تلتمس المعذرة لمن تاب وأناب، وملائكة العذاب تطلبه لمن تكبر وظلم واستحق العذاب والعقاب.
الخامسة عشر: الانسلاخ عن مكان المعصية من أنفع الأدوية لعلاج اقتراف المعاصي؛ لأن وجود العبد في نفس المكان الذي تعود فيه على الفحش والمخالفات يجعله يحن للمعاصي، فإن هدى الله أهل المكان الأول جازت العودة إليهم؛ لأنهم سيساعدونه على الاستقامة، أما إذا خلا عن ناصح أمين، فالانسلاخ أولى والبعد أنفع.
السادسة عشر: إذا أحب الله تعالى عبدًا قبل منه توبته، ووفقه إليها، ومن ثم فإذا علم العبد ذلك حرص عليها لينال هذا الحب والرضوان حتى إذا ما قبض، لقي الله تعالى وهو عنه راض، ولما توقف الحكم على هذا الرجل على المسافة بين الأرض الطيبة أو الأرض السوء، طوى الله تعالى الأرض وقرب التائب من الأرض الطيبة ليكون من أهلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
السابعة عشر: أن الاختلاف ثابت وواقع حتى بين الملائكة، ولكن أدب الاختلاف يقتضي أن يتحاكم كل من الفريقين إلى أهل الحق ليفصلوا بينهم بما أنزل الله، ثم عليهم أن يعظموا حكم الله، ويحكموا أفضل الموجودين حتى يهديهم الله تعالى إلى سواء السبيل.
الثامنة عشر: فضل وشرف ابن آدم وأنه حين يستقيم على أمر الله فإنه يكون أشرف من الملائكة، بل إن الملك الذي نزل ليحكم بين الملائكة تصور في صورة آدمي وهذا يدل على شرف الصورة، فكيف بالأصل إذا استقام وأناب، والحمد لله رب العالمين.
إنا لله وإنا إليه راجعون
ودّعت أنصار السنة المحمدية واحدًا من أبنائها الدعاة؛ وهو الشيخ/ مسعد كامل حسن، وذلك يوم الأحد 61 ذو القعدة، وقد عمل بالدعوة إلى الله أكثر من خمس عشرة سنة على منابر الجماعة فرع جالية وقلابشو ـ ببلقاس، كما عمل في مجال التحقيق والنشر.
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنه صالح العمل، وأن يسكنه فسيح جناته..(/3)
التوبة وفضلها
إعداد- محمد رزق ساطور
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى وبعد:
فهذه هي الحلقة الأولى عن التوبة، نبدأها بالحديث عن فضل التوبة، فنقول:
أولاً: قال ربنا جل ذكره: إن الله يحب التوابين {البقرة:222}.
قال القاسمي: "وفي ذكر التوبة إشعار بمساس الحاجة إليها بارتكاب بعض الناس لما نهوا عنه". وقال الزمخشري: "إن الله يحب التوابين الذين يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب".
ومحبة الله للتوابين دليلها فتح الباب لهم لئلا يقنطوا من رحمة الله سبحانه فيقبلوا عليه، ويلوذوا ببابه، لينالوا من فضل التوبة وبركتها.
ثانيًا: قال سبحانه: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما {النساء: 17، 18}.
وفي هاتين الآيتين بشارة لمن أراد التوبة، وَفَتْحُ بابِها إلى قبيل الموت، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر". وقوله: "ما لم يغرغر". أي ما لم تبلغ روحه حلقومه، فتكون بمنزلة الشيء يتغرغر به، أي ما لم يتيقن الموت لأن التوبة المقبولة هي التي تكون قبل الموت، أما عند تحقق وقوع الموت فلا يعتد بها.
قال الشيخ حافظ بن حكمي:
وتقبل التوبة قبل الغرغرة
كذا أتى في الشرعة المطهرة
ولذلك اجتمع أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم". وقال الثاني: أنت سمعت هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم". فقال الثالث: أنت سمعت هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة". {والضحوة ارتفاع أول النهار، وقيل: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى حين تشرق الشمس. لسان العرب: ص2559}. فقال الرابع: أنت سمعت هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه". {أخرجه أحمد}
فمن فضل الله على عباده أنه أذن لهم في التوبة وفتح بابها ما لم يأت الموت وتنتهي الحياة، كما أنه جل شأنه رغب في التوبة قبل أن يأتي الموت، وحتى لا يقول العبد حين يعاين الهلاك بعد الموت: رب ارجعون (99) لعلي أعمل صالحا فيما تركت {المؤمنون: 99- 100}، عند ذلك يأتيه الرد القاطع الذي يليق بحاله: كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون {المؤمنون: 100}.
ثالثًا: قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار {التحريم: 8}، فالله تعالى يرغب أهل الإيمان في التوبة، لأنهم هم الذين يستجيبون لأمره ولأنهم هم أحق الناس بالتوبة، أي بالرجوع إلى الله، ونيل ثواب التوبة الذي لا يحصل عليه إلا أهل الإيمان، وكذلك رغبهم سبحانه دون غيرهم، وهذا لاختصاصهم بالفضل وتوجيههم للخير، وحضهم على التوبة النصوح، قال مجاهد: النصوح أن يتوب من الذنب فلا يعود إليه، قيل: توبة نصوح أي صادقة يقال نصحته: أي صدقته، وقيل: نصوح: أي بالغة في النصح، مأخوذ من النصح وهو الخياطة، كأن العصيان يخرق والتوبة ترقع، والنصح: الخيط، وقيل: نصوحًا أي خالصة، يقال: نصح الشيء إذا خلص، ونصح له: أخلص له القول.
{شرح السنة للبغوي 5-81}
وقال القاسمي: أي توبة ترقع الخروق، وترتق الفتوق، وتصلح الفاسد، وتسد الخلل. {محاسن التأويل للقاسمي: 16-5868}. وسئل الحسن البصري عن التوبة النصوح فقال: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك
الجوارح، وإضمار أن لا يعود.
وقال القرطبي: اختلفت عبارة العلماء وأرباب القلوب في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولاً، فقيل: هي التي لا عودة بعدها كما لا يعود اللبن في الضرع، وروى عن عمر وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم ورفعه معاذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال فتح الموصلي: علاماتها ثلاث: مخالفة الهوى وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظمأ، وقال سهل بن عبد الله التستري: هي التوبة لأهل السنة والجماعة لأن المبتدع لا توبة له بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : "حجب الله على كل صاحب بدعة أن يتوب".
{الطبراني في الأوسط 4360}(/1)
وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه، وأصل التوبة النصوح من الخلوص، ويقال هذا عسل ناصح إذا خلص من الشمع، وقيل: هي مأخوذة من النصاحة وهي الخياطة، وفي أخذا منها وجهان: أحدهما: لأنها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما تحكم الخياط الثوب بخياطته ويوثقه، والثاني: لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء الله وألصقته بهم كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه إلى بعض.
فهذه التوبة النصوح أي التي لا يتاب منها من فضلها أنها تكفر الذنوب والخطايا وسبب من أسباب دخول الجنة، ولذلك قال جل شأنه: من تاب وآمن
وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما، وقال جل شأنه: إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا (60) جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا، وقال سبحانه: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "ليتمنين أقوام لو أكثروا من السيئات قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: الذين بدل الله سيئاتهم حسنات".
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل شيء يتكلم به ابن آدم فإنه مكتوب عليه فإذا أخطأ خطيئة فأحب أن يتوب إلى الله عز وجل فليأت رفيقه فليمدد يديه إلى ربه عز وجل ثم يقول: اللهم إني أتوب إليك منها لا أرجع إليها أبدًا فإنه يغفر له ما لم يرجع في عمله ذلك". {اليبهقي في السنن الكبرى: 10-154}
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فتعرض عليه صغار ذنوبه وتنحى عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا وكذا، وهو مقر لا ينكر، وهو مشفق من الكبار، فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة، فيقول: أين لي ذنوب ما أراها هاهنا؟ قال أبو ذر: فلقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه". {مسلم: 1-177}
انظر إلى حال ذلك الرجل وهو مقر لا ينكر من صغار ذنوبه التي تعرض عليه شيئًا وهو مشفق من كبار ذنوبه، وهو لا يتلكم ولا يذكر شيئًا سورى الإقرار لأنه يخشى أن تظهر الكبار، فلما سترها الله عليه وجاءت رحمة الله رب العالمين ليعطى مكان كل سيئة حسنة، عند ذلك فقط سأل عن كبار ذنوبه راجيًا الثواب لتبدل هي الأخرى حسنات، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم من طمع ذلك العبد في رحمة ربه، بعد أن كان مشفقًا على نفسه من الكبار، طلبها حتى تزداد حسناته فسبحان الذي بدل السيئات حسنات بعفوه وكرمه وإحسانه.
قال أبي طويل شطب الممدود أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت من عمل الذنوب فلم يترك منها شيئًا وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داحة إلا أتاها فهل لذلك من توبة؟ قال: فهل أسلمت؟ قال: فأما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن، قال: وغدراني وفجراني، قال: نعم. قال: الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى.
فالتوبة النصوح تذهب السيئات وتمحوها بفضل الله وعفوه وكرمه بل تتبدل السيئات إلى حسنات، ويجعلها الله تعالى سببًا في دخول الجنة التي وعد الله عباده، وهذا يدل على فضل وشرف ومنزلة التوبة.(/2)
التوكل على الله تعالى
تعريف التوكل في اللغة والاصطلاح:
التوكل من مادة (وكل) يقال: وكل بالله وتوكل عليه واتكل : استسلم له. و (وكل إليه الأمر وَكْلاً ووكولاً: سلمه وتركه. وورجل وُكلة إذا كان يكل أمره إلى الناس. ورجل وَكل ووَكُلَة و تُكَلَة أي : عاجز يكل أمره إلى غيره ويتكل عليه. والوكيل الذي يقوم بأمر موكله. وفسر بعضهم الوكيل بالكفيل كالراغب الاصفهاني. والتوكل إظهار العجز والاعتماد على غيرك ، والاسم التكلان. قال أبو السعادات:يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به ، ووكلت أمري إلى فلان إذا اعتمدت عليه ، ووكّل فلان فلاناً إذا استكفاه أمره ثقةً بكفايته ، أو عجزاً عن القيام بأمر نفسه. أ.هـ.
وفي الاصطلاح (أي الشرع) اختلفت عبارات السلف في تعريف التوكل على الله تبعاً لتفسيره تارة بأسبابه و دواعيه وتارة بدرجاته وتارة بلازمه وتارة بثمارته وغير ذلك من متعلقاته. وسبب هذا الاختلاف أن التوكل من أحوال القلوب وأعمالها وهي صعبة أن تحد بحد أو تحصر بلفظ.(/1)
قال ابن عباس: التوكل هو الثقة بالله. وصدق التوكل أن تثق في الله وفيما عند الله فإنه أعظم وأبقى مما لديك في دنياك. قال الحسن: إن من توكل العبد أن يكون الله هو ثقته--الإمام أحمد: هو قطع الاستشراف بالإياس من الخلق ، وقال: وجملة التوكل تفويض الأمر إلى الله جل ثناؤه والثقة به -- عبدالله بن داود الخريبي: أرى التوكل حسن الظن بالله -- شقيق بن إبراهيم: التوكل طمأنينة القلب بموعود الله عز وجل -- الحسن: الرضا عن الله عز وجل -- علي بن أحمد البوشنجي: التبرئة من حولك وقوتك وحول مثلك وقوة مثلك -- ابن الجوزي عن بعضهم: هو تفويض الأمر إلى الله ثقةً بحسن تدبيره -- ابن رجب الحنبلي: هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها -- ابن حجر: وقيل: هو قطع النظر عن الأسباب بعد تهيئة الأسباب-- عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب: هو إسناد العبد أمره إلى الله وحده لاشريك له في جميع أموره الدينية والدنيوية. -وقيل: هو حالٌ للقلب ينشأ عن معرفته بالله والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير والضر والنفع والعطاء والمنع ، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ؛ فيوجب له اعتماداً عليه وتفويضاً إليه وطمأنينةً به وثقةً به ويقيناً بكفايته لما توكل عليه فيه. --عبد القادر الجيلاني: التوكل هو الخروج من الحول والقوة مع السكون إلى رب الأرباب. -- عبد القادر الجيلاني: تفويض الأمور إلى الله عز وجل والتنقي من ظلمات الأختيار والتدبير إلى ساحات شهود الأحكام والتقدير فيقطع العبد ألاّ تبديل للقسمة فما قُسم له لا يفوته وما لم يُقدّر له لا يناله فيسكن قلبه إلى ذلك ويطمئن إلى وعد مولاه -- الأمام أحمد: التوكل عمل القلب، ومعنى ذلك أنه عمل قلبي ليس بقول اللسان و لاعمل الجوارح و لا هو من باب العلوم والإدراكات.-- وقيل:علم القلب بكفاية الرب للعبد -- وقيل: التوكل هو انطراح القلب بين يدي الرب وهو ترك الاختيار والاسترسال مع مجاري الأقدار -- سهل: التوكل الاسترسال مع الله مع ما يريد -- وقيل: هو الرضا بالمقدور -- التوكل هجر العلائق ومواصلة الحقائق -- وقيل: التوكل نفي الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك -- ذو النون: خلع الأرباب وقطع الأسباب ( يريد قطعها من تعلق القلب بها وليس منع مباشرة الجوارح للأسباب) -- أبو سعيد الخراز: التوكل اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب -- أبو تراب النخشبي: هو طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والطمأنينة إلى الكفاية فإن أُعطي شكر وإن مُنع صبر -- أبو يعقوب النهرجوري: التوكل على الله بكمال الحقيقة ما وقع لإبراهيم الخليل عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام: أما إليك فلا -- سهل: التوكل قلب عاش مع الله بلا علاقة -- وقيل: التوكل أن يستوي عندك الإكثار والإقلال -- وقيل: هو ترك كل سبب يوصلك إلى مسبَّب حتى يكون الحق هو المتولي لذلك< فيه غلط> -- وقيل: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية -- وقيل: التوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه -- وقيل: هو التفويض إليه في كل حال-- أبن عطاء: التوكل ألاّ تظهر في انزعاج إلى الأسباب مع شدة فاقتك إليها ، ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفك عليها -- وقيل: التوكل هو الأخذ بالأسباب والكفر بها -- ابن جزي: التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع أو حفظها بعد حصولها ، وفي دفع المضار ورفعها بعد وقوعها -- التوكل تمام اليقين بالله -- وقيل: هو سكون القلب إلى كفاية الله تعالى ، وتفويض الأمور إلى الله تعالى لكفايته ، والاعتماد عليه تعالى لعلمه وقدرته -- وقيل: التوكل يجمع بين العمل والأمل مع هدوء قلب وطمأنينة نفس ، واعتقاد جازم أن ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن. -- أبو حيان: والتوكل هو تفويض الأمر إلى من يملك الأمر ويقدر عليه -- ابن عاشور: التوكل إسناد المرء مهمه وشأنه إلى من يتولى عمله -- أبن عاشور:انفعال قلبي عقلي يتوجه به الفاعل إلى الله راجياً الإعانة ومستعيذاً من الخيبة والعوائق -- الفخر الرازي: التوكل هو أن يراعي الأنسان الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق -- صديق حسن خان: التوكل هو اعتماد العبد على الله في كل الأمور والأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها -- الصاوي: التوكل هو وثوق القلب بالله تعالى في جميع الأمور من غير اعتماد على الأسباب وإن تعاطاها -- وقيل: هو اعتماد القلب على الله في كل الأمور مع إتيان الأسباب المشروعة للبلوغ إلى المطلوب مما هو خير ومعروف وأمر إدراك المطلوب على الله تعالى مع الرضا بما يتم من ربح أو خلافه ونجاح وغيره -- القرطبي: تفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى والاعتماد في كل الأحوال على الله تعالى -- وقيل: عبارة عن الاعتصام بالله في جميع الأمور ومحله القلب والحركة بالظاهر لا تنافي توكل القلب بعد ما تحقق للعبد أن التقدير(/2)
من قبل الله فإن تعسر شىء فبتقديره -- صديق حسن خان: هو تفويض الأمور إلى الله -- ذو النون المصري: التوكل ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة -- أبو عبدالله القرشي: التعلق بالله في كل حال -- الغزالي:الاكتفاء بالأسباب الخفية عن الأسباب الظاهرة مع سكون النفس إلى مسبب السبب لا إلى السبب-- أبو طالب المكي: التوكل نظام التوحيد وجماع الأمر -- وقيل: التوكل ترك الإيواء إلاّ إلى الله -- ابن مسروق: التوكل الاستسلام لجريان القضاء في الأحكام--أبو سليمان الداراني: إذا بلغ (يعني العبد) غاية من الزهد أخرجه ذلك إلى التوكل.
درجات التوكل( من كلام ابن القيم في مدارج السالكين):
1 - الأولى: معرفة الرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته واليقين بكفاية وكيله وأنَّ غيره لايقوم مقامه في ذلك.
2 - الثانية : إثبات الأسباب ورعايتها والأخذ بها.
3 - الثالثة: رسوخ القلب في مقام التوحيد.
4 - الرابعة: اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب ولا سكون إليها ، وطمأنينته بالله والثقة بتدبيره.
5 - الخامسة: حسن الظن بالله عز وجل.
6 - السادسة : استسلام القلب لله وانجذاب دواعيه كلها إليه وقطع منازعته.
7 - السابعة : التفويض: هو إلقاء العبدِ أمورَه كلها إلى الله ، وإنزالها به طلباً واختياراً ، لا كرهاً واضطراراً. والتفويض هو روح التوكل ولبّه وحقيقته.
8 - الثامنة: الرضا
ويمكن اعتبار درجاتٍ للتوكل كما يلي : 1- الأولى : أن يكون المتوكل حاله في حق الله سبحانه والثقة بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل( هذا توكل العامة) 2- الثانية: حال المتوكل مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى أحد سواها ولا يعتمد إلا إياها والفرق بين هذه الدرجة والأولى أن هذا متوكل وقد فني في توكله عن توكله إذ ليس يلتفت قلبه إلى التوكل وحقيقته ، بل إلى المتوكَل عليه فقط وهي أقوى من الأولى 3- الثالثة: أعلاها ، وتكون باستسلام القلب لله وانجذاب دواعيه كلها إليه وقطع منازعته ، ويكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل لا يفارقه (وهو توكل الخاصة).
أقسام التوكل(مجاله ومتعلقاته)(مراتبه):
1 - توكلٌ العبد على الله في استقامة نفسه وإصلاحها دون النظر إلى غيره.
2 - توكلٌ العبد على الله في استقامة نفسه وكذلك في إقامة دين الله في الأرض ونصره وإزالة الضلال عن عبيده وهدايتهم والسعي في مصالحهم ودفع فساد المفسدين ورفعه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3 - توكلٌ على الله في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية كالرزق والزواج والذرية والعافية والانتصار على العدو الظالم أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.
وبين القسم الثاني والثالث من الفضل ما لا يحصيه إلا الله فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الثالث تمام الكفاية ومتى توكل عليه في النوع الثالث دون الثاني كفاه أيضاً لكن لا يكون له عاقبة المتوكل فيما يحبه و يرضاه.
4 - توكلٌ على الله في جلب محرم من إثم أو فاحشة أو دفع مأمور به.
أهمية التوكل و منزلته من العقيدة والإيمان والسلوك:(/3)
التوكل على الله خلق عظيم من أخلاق الإسلام وهو من أعلى مقامات اليقين وأشرف أحوال المقربين وهو نظام التوحيد وجماع الأمر كما أنه نصف الدين والإنابة نصفه الثاني ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها وهو مفتاح كل خير لأنه أعلى مقامات التوحيد وعبادة من أفضل العبادات . وهو فريضة يجب إخلاصه لله تعالى وعقيدة إسلامية لقوله تعالى(وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) فإن تقديم المعمول يفيد الحصر : أي وعلى الله فتوكلوا لا على غيره .إن التوكل شرط من شروط الإيمان ولازم من لوازمه ومقتضياته ؛ فكلما قوي إيمان العبد كان توكله أكبر وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل قال الله عز وجل( وعلى الله فليتوكل المؤمنون) . وفي الآية الأخرى ( وقال موسى إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) يونس:84 فجعل دليل صحة الإسلام التوكل . وهو من أشرف الرتب وأعلى المقامات من أعمال القلوب التي هي أصل الإيمان الذي هو أجل وأعظم ما تعبد الله تعالى به. والتوكل من أجمع أنواع العبادة وأعظمها لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة. والتوكل مقترن بمراتب الدين الثلاث (الإيمان والإسلام والإحسان) وشعائره العظام. والتوكل مقام جليل القدر عظيم الأثر جعله الله سبباً لنيل محبته قال تعالى (إن الله يحب المتوكلين) . وجمع الله بينه وبين الهداية والحق والدعاء. التوكل أصل من أصول العبادة التي لا يتم توحيد العبد إلا به جاء الأمر به في كثير من الآيات مثل قوله تعالى (فاعبده وتوكل عليه ) وقوله عز وجل(وتوكل على الحي الذي لا يموت ) ، وهو من سمات المؤمنين الصادقين قال تعالى( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءآيته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون) . وفي حديث ( أربع لا يعطيهن الله إلا من أحب: الصمت وهو أول العبادة والتوكل على الله والتواضع والزهد في الدنيا) رواه الطبراني وهو في اتحاف السادة.وقال علي:يا أيها الناس توكلوا على الله وثقوا به فإنه يكفي مما سواه . فائدة:عندما نتأمل مقالة علي بن أبي طالب رضي الله عنه نجد أنه يربط التوكل بالثقة واليقين بالله ، وإلا فلا توكل ما لم يكن معه اليقين . واليقين هو أن العبد يعمل لله خالصاً ولا يطلب به عرض الدنيا و لا رضا المخلوقين وأن يكون في نفس الوقت آمناً بوعد الله وهو الرزق . وقيل لبعض الحكماء : ما الفرق بين اليقين والتوكل؟ قال: أما اليقين فهو أن تصدق الله بجميع أسباب الآخرة ، والتوكل أن تصدق الله بجميع أسباب الدنيا . وقال لقمان لابنه: يا بني إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيه أناس كثير ، فإن استطعت أن تكون سفينتك فيها الإيمان بالله وحشوها العمل بطاعة الله عز وجل وشراعها التوكل على الله ، لعلك تبحر. وعن سعيد بن المسيب قال: التقى عبدالله بن سلام وسلمان فقال أحدهما لصاحبه: إن مت قبلي فالقني فأخبرني ما لقيت من ربك وإن مت لقيتك فأخبرتك ، فقال أحدهما للآخر أو تلقى الأموات الأحياء قال :نعم أرواحهم تذهب في الجنة حيث شاءت ، قال: فمات فلان فلقيه في المنام ، فقال: توكل وأبشر فلم أر مثل التوكل قط وأبشر فلم أرَ مثل التوكل قط. أخرجه ابن منده وأورده ابن رجب في أهوال القبور والسيوطي في شرح الصدور. ومما يدل على أهميته أن الله أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله، وجعله شعاراً لعباده المؤمنين والثناء عليهم. ومن فضل التوكل في القرآن أن الله أمر فيه رسوله بالتوكل في تسع آيات وكذلك أمر المؤمنين عامة بالتوكل وكذلك التوكل خلق الرسل جميعاً وكذلك تبيين القرآن لفضل التوكل. وكذلك ورد فضل التوكل في السنة.عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت الحي الذي لا يموت والجن والأنس يموتون) رواه البخاري ومسلم وأحمد. وعن الأوزاعي قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أسألك التوفيق لمحابك من الأعمال وصدق التوكل عليك وحسن الظن بك) قال شعيب الارنؤوط: ضعيف أخرجه أبو نعيم في الحلية عن الأوزاعي مرسلاً والحكيم الترمذي عن أبي هريرة. وعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه :(اللهم اجعلني ممن توكل عليك فكفيته واستهداك فهديته واستغفرك فغفرته) مروي في كنز العمال ومسانيد الجامع الكبير. وصفة التوكل من أبرز صفات المؤمنين الجليلة لأن اعتماد القلب على الاسباب الظاهرة واعتقاد أنها هي المؤثرة يخل بصحة الإيمان وسلامته بل هو في حقيقته شرك بالله تعالى . والتوكل على الله تعالى سلوك نفسي وقلبي يقتضيه الإيمان الصحيح الماثل في ساحة التصور الموجه للسلوك. و مما يدل على أهمية التوكل حاجة المسلم إليه حاجة شديدة وخصوصاً في قضية الرزق أو كان صاحب دعوة وحامل رسالة وطالب إصلاح ، و مما يدل على أهميته أيضاً ضرورته للعبد وعدم استغنائه عنه طرفة عين من عدة جهات: 1- من جهة فقر العبد(/4)
وعدم ملكه شيئاً لنفسه فضلاً عن غيره من المخلوقين 2- من جهة كون الأمر كله بيد الله تعالى 3- من جهة أن تعلق العبد الزائد بما سوى الله مضرة عليه 4- من جهة أن اعتماد العبد على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته عكس ما أمًَله منه.
من أقوال السلف في بيان أهمية التوكل وارتباطه بالايمان :
ابن عباس:التوكل جماع الإيمان -- سعيد بن جبير: التوكل على الله نصف الإيمان. -- قال أبو الدرداء: ذروة الإيمان الاخلاص والتوكل والاستسلام للرب عز وجل - وقال أبو محمد سهل: ليس في المقامات أعز من التوكل - قال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان. -- سهل بن عبدالله : من طعن في الاكتساب فقد طعن في السنة ، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان. -- أحمد: التوكل عمل القلب -- الجنيد بن محمد: التوحيد قول القلب والتوكل عمل القلب -- فضيل بن عياض: التوكل قوام العبادة والتوكل من أوجب واجبات القلب -- ابن القيم: إن التوكل يجمع أصلين: علم القلب وعمله ، أما علمه: فيقينه بكفاية وكيله وكمال قيامه بما وكله إليه ، وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك.وأما عمله: فسكونه إلى وكيله وطمأنينته إليه وتفويضه وتسليمه أمره إليه ورضاه بتصرفه له فوق رضاه بتصرفه هو لنفسه. والتوكل من أقوال القلب وأفعاله التي كل منها حسنة وسيئة بنفسها يحصل بها الثواب والعقاب بما يكون في القلوب ، وإن لم يظهر على الجوارح. ولا يستقيم توكل العبد حتى يصلح له توحيده ، بل حقيقة التوكل توحيد القلب ، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول.وكذلك لا يحصل تحقيق التوكل حتى يؤمن العبد بكمال ربوبية الله تعالى وما تتضمنه من كمال الملك والتدبير والسلطان والقدرة والتصرف والمشيئة والقيومية والإحاطة وملك الضر والنفع ، فذلك من أقوى أسباب ودواعي التوكل ولهذا نجد في كثير من الآيات ربط التوكل بالربوبية. وكذلك كل من كان بالله تعالى وصفاته أعلم كان توكله أكمل، والآيات التي بينت تعلق التوكل بأسماء الله وصفاته كثيرة. ويستحيل أن يتم توكل العبد حتى يتم له أمران لهما صلة تامة بتوحيد الألوهية وهما : حسن الظن بالله عز وجل والتفويض.والآيات التي ربطت العبادة والإنابة بالتوكل قد صورت العلاقة بين الإلهية والتوكل وهي كثيرة. فالتوكل على الله عبادة يجب إخلاصه لله فصرفه لغيره شرك ينافي التوحيد(وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) إن كنتم مؤمنين بالله ومصدقين به فلا تعتمدوا في جميع أموركم إلا عليه وحده . إن الإقرار بالربوبية والألوهية هو أول دليل على أنه وحده سبحانه المستحق أن يُفرد بالتوكل (قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) ،(إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) ،(و توكل على الحي الذي لا يموت) . وقرن تعالى التوكل بالربوبية و الألوهية معاً ومن ذلك قول الحق(قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب) وقوله (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً) وقوله (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) ؛ فالألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى بالكلية وقطع التعلق بالمرة عما سواه من البرية. والتوكل من أكثر مقامات الإيمان صلةً بأسماء الله وصفاته ولذلك عرف بعضهم التوكل بأنه: المعرفة بالله وصفاته. ومن الآيات (وتوكل على الحي الذي لا يموت ) ،(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) وربط التوكل بصفتي (العزيز) و(الحكيم) في قوله تعالى(و من يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم). كذلك الآيات التي يذكر فيها القضاء والقدر تذيل بالتوكل إذ يستحيل أن يحصل توكل حتى يعلم المسلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئة الله وقدرته ، وأنها تنتهي كلها إلى علمه ، فلا بد من الإيمان بقضاء الله وقدره ، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وتحقيق التوكل مترتب على تحقيق الإيمان بالقدر قال تعالى( ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شىء قدراً) وقال( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا و على الله فليتوكل المؤمنون) (و قال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون). إن َّالقضاء والقدر والتوكل من أساسيات الدين ، والقضاء والقدر سابق للتوكل ، والقدر أشمل وأعم من التوكل، والقضاء والقدر جالبان للراحة والطمأنينة والسعادة وسلوك الطريق المستقيم ، والتوكل داخل في الإرادة الشرعية والقضاء والقدر داخل في الإرادة الكونية ، والتوكل وإتخاذ الأسباب يدفعان القضاء والقدر . واقترن لفظ العبادة بالتوكل في مواضع منها (إياك نعبد وإياك نستعين) و( فاعبده وتوكل عليه) والتوكل داخل في معنى العبادة. واقترن التوكل بالتقوى في مواضع منها (واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) ،( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً و يرزقه من حيث لا يحتسب ومن(/5)
يتوكل على الله فهو حسبه) فسرّ اقتران التوكل بالتقوى هو سرّ اقتران الاستعانة بالعبادة.وكذلك فإن التوكل سبب ولكنه ليس كافياً في حصول المراد ، بل يحتاج معه إلى التقوى.وكلاً منهما يعتمد امتثال المأمور واجتناب المحظور. واقترن التوكل بالإنابة في مواضع ( وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) ،(قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب) ،(ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب) ،(ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) قال ابن عاشور:والإنابة الرجوع والمراد بها هنا الكناية عن ترك الاعتماد على الغير. وكلاهما يحتاج للآخر ويجب أن يفرد العبد ربه بكليهما. واقترن الصبر بالتوكل على الله في مواضع منها (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) فالصبر مبدأ السلوك إلى الله تعالى والتوكل هو آخر الطريق ومنتهاه. قال تعالى (ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) فالصبر والتوكل من أقوى الأسلحة في مواجهة الشدائد والصعاب في طريق الدعوة وتحمل أعبائها، وقيل الصبر خاص بوقت المصيبة والتوكل في أمر مستقبل، والصبر في حاجة للتوكل لإنه( أي الصبر) من العبادات، وكلاهما من أمهات الصفات التي يجب على المؤمن الإتصاف بها، وقيل الصبر في أمر مملوك يحتاج للتحمل و التوكل خاص بأمر غيبي كوني يحتاج للاعتماد على الله والثقة بتدبيره، والتوكل على الله هو نتيجة للصبر. والتوكل على الله في إقامة الدين ودعوة الناس إليه يحتاج إلى همة عالية ، فهو من أعظم مقامات التوكل وأرفعها كما هي همم الرسل والأنبياء وبعدهم الصحابة رضي الله عنهم . قال الله تعالى (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) . قال ابن عباس: " حسبنا الله ونعم الوكيل " قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس (إن الناس قد جمعوا لكم).
عوائق التوكل:
1 - الجهل بمقام الله من ربوبية وألوهية وأسماء وصفات 2- الغرور والاعجاب بالنفس 3- الركون للخلق والاعتماد عليهم في قضاء الحاجات 4- حب الدنيا والاغترار بها مما يحول بين العبد والتوكل لأنه عبادة لاتصح مع جعل العبد نفسه عبداً للدنيا.
قوادح التوكل:
من أهمها التفات القلب إلى الأسباب وتعلقه بغير الله تعالى. وتلك الأسباب على ثلاث درجات: 1- التي ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته ارتباطاً مطرداً لا يتخلف كالطعام فتركها ضرب من الجنون 2- ليست متيقنة بل هي ظنية كالرقى والاكتواء ؛ فالتعلق بها مضعف للتوكل وكماله وقيل إن الرقية والكي يقدحان في التوكل فكرهوهما دون غيرهما وقيل أنهما لا يقدحان في كمال التوكل ولا ينافيانه وقول ثالث بأنه يفرق بين فعل الرقية بنفسه أو بغيره وبين طلبها وهو الراجح إن شاء الله, ونأتي لمسألة حكم التدواي فالأصل فيها الجواز وأنه لا يقدح في التوكل بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً ، وأن تعطيلها يقدح في نغس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة . وفيه أقوال ( أي التداوي ): مباح وتركه أفضل ومستحب وواجب ، وقيل ما غلب على الظن نفعه مع احتمال الهلاك بعدمه فهو واجب وما غلب على الظن نفعه و لاهلاك محقق بتركه فهو أفضل وما تساوى فيه الأمران فتركه أفضل ، وقد ادّعى قوم أن ترك التداوي والعلاج من التوكل، وعدوا فعل التداوي قادحاً في التوكل ورد أهل العلم زعمهم هذا.3 - الموهومة : ليست معتبرة شرعاً و لا قدراً كالتطير( وهو التشاؤم بكل مرئي ومسموع ومعلوم) وتعليق التمائم والحروز فالالتفات لها خوفاً وطمعاً بالاستدلال على أمر غيبي ، مناف لتحقيق التوكل وكمال التوحيد . وهناك أحاديث يثبت ظاهرها التشاؤم بأشياء معينة كالمرأة والدار والدابة و قد جمع العلماء بينها وبين أحاديث النهي عن الطيرة. وبالنسبة للتفاؤل هل هو من الطيرة أم لا ؟ على قولين. والدرجة الثانية والثالثة جمعها حديث ابن عباس في حديث عرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخره قوله(سبقك بها عكاشة).(/6)
ومن الأشياء التي تنافي أصل التوكل: 1- التعلق بسبب لا تأثير له كا لأموات والغائبين والطواغيت فيما لا يقدر عليه إلا الله 2- اعتقاد أن السبب سواء المشروع أو المحرم فاعل بنفسه دون الله فذلك شرك أكبر . ومما ينافي كمال التوكل الواجب : 1- التوكل في الأسباب الظاهرة العادية على أي شخص قادر حي فيما يقدر عليه. 2- الاعتماد على أمر ليس سبباً شرعاً مع اعتقاد أن الضرّّ والنفع بيد الله وحده كالتطير والتمائم والتولة . وهناك الوكالة الجائزة وهي: توكيل الإنسان في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه لكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وُوكل فيه بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه . وهناك أمور عدها العلماء منافية لكمال التوكل المستحب كالكي و الاسترقاء. فهناك علاقة بين إثبات النفع والضر لله تعالى من جهة ، والتوكل عليه والاستعانة من جهة أخرى ، فلا يُتصور توكل العبد إلا بمن يعتقد فيه الضر والنفع قال تعالى ( قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون). ومما ينافي التوكل والتوحيد تعليق النجاح بالأسباب فقط .
والتطير قادح في التوكل ، وذلك أن المتوكل على الله يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم ليكن ليصيبه قال تعالى (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) ، و أما المتطير فهو في خوف وفزع دائم الاضطراب والقلق من أمور مخلوقة لا تملك لنفسها ضرا و لانفعاً.
علاقة التوكل بالأسباب:
مواقف الناس من الأسباب على أربعة أقسام:
1 - الالتفات إلى الأسباب بالكلية واعتماد القلب والجوارح عليها من غير نظر لمسببها: كنظرة الماديين والعقلانيين فوقعوا في الشرك لأنهم أثبتوا موجدأً مع الله مستقلاً بالضر والنفع ، وهذا باطل مخالف للكتاب والسنة والاجماع كما أن الأسباب قد تتخلف عن مسبباتها بإذن الله كما يشهد لذلك الحس.
2 - الإعراض عن الأسباب بالكلية: كنظر غالب الصوفية للتوكل ، فهم لا يرون تحقيق التوكل إلا في ترك الأسباب بالكلية فتركوا التكسب والعمل والاحتراز والاحتياط والتزود في السفر والطعام ويرون ذلك كله منافياً للتوكل, ولهم شبه ضعيفة أجاب عنها العلماء المحققون كمحمد بن الحسن الشيباني في كتابه(الاكتساب في الرزق المستطاب) والخلال في كتابه(الحث على التجارة والصناعة والعمل) والحارث المحاسبي في كتابه(المكاسب) وابن تيمية وابن الجوزي وابن القيم وابن مفلح وابن رجب. كما أن الإعراض عن الكسب والخمول بدعوى التوكل له آفات ومفاسد يصعب حصرها. وهذا الموقف أي (الإعراض عن الأسباب بالكلية) حكم عليه العلماء بأنه قدح في الشرع.
3 - نفي تأثير الأسباب بالكلية: وصف العلماء هذا القول بأنه (نقص في العقل) وهو قول القدرية الجبرية ، وهم يرون أن الله لم يخلق شيئاً سبباً و لا جعل في الأسباب قوى وطبائع تؤثر. وغرضهم الرد على القدرية النفاة لكنه ردوا باطلاً بباطل. وهذا الموقف فاسد باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع.(/7)
4 - قيام الجوارح بالأسباب واعتماد القلب على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى: هذا مذهب أهل السنة والجماعة وهو الحق الذي دل عليه الشرع والعقل وهو الوسط في كل مذهب فأثبت للأسباب تأثيراً في مسبباتها لكن لا بذاتها بل بما أودعه الله فيها من القوى الموجبة ، وهي تحت مشيئته وقدرته فإن شاء منع اقتضائها وإن شاء جعلها مقتضية لأحكامها، فهم ( أي أهل السنة والجماعة) يوجبون الأخذ بالأسباب ويعتقدون عدم منافاتها للتوكل؛ بل إن التوكل من أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار ونفي الفقر ووجود الراحة. و يرون ضرورة الأخذ بالأسباب مع عدم الاعتماد عليها، و يكون التوكل بالقلب على الخالق مع اتباع الأسباب في ظاهر الحال فقط . والأخذ بالأسباب ثم الاعتماد على الله عز وجل هو مذهب أهل الحق من سلف الأمة. قال تعالى( وقال يا بني لا تدخلوا ... المتوكلين) (يوسف:67). و في جانب الرزق قال تعالى(هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور). قال في مدارج السالكين (... لا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل ، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية ) . والسبب الذي أُمر العبد به أمر إيجاب أو أمر استحباب هو عبادة الله وطاعته له ولرسوله والله فرض على العباد أن يعبدوه ويتوكلوا عليه كما قال تعالى(فاعبده وتوكل عليه)هود وقال(واذكر اسم ربك...فاتخذه وكيلا)المزمل 8-9 وقال ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً و يرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه) والمقصود أن الله لم يأمر بالتوكل فقط بل أمر مع التوكل بعبادته وتقواه التي تتضمن فعل ما أمر وترك ما حذر.فمن ظن انه يرضي ربه بالتوكل بدون فعل ما أمره به كان ضلالا كما أن من ظن أنه يقوم بما يرضي الله عليه بدون التوكل عليه كان ضلالا ، وأن من ظن أن التوكل يغني عن الأسباب المأمور بها فهو ضال ولهذا كمن ظن أنه يتوكل على ما قدر عليه من السعادة والشقاوة بدون أن يفعل ما أمره الله به ، فإن كانت أسباب مقدورة له وهو مأمور بها فعلها مع التوكل على الله كما يؤدي الفرائض وكما يجاهد العدو ويحمل السلاح ويلبس جبة الحرب ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ماأُمر به من الجهاد. فان قيل كيف يطلب ما لا يعرف مكانه؟ جوابه: أن يفعل السبب المأمور به ويتكل على الله فيما يخرج عن قدرته مثل الذي يشق الأرض ويلقي الحب ويتوكل على الله في إنزال المطر ونبات الزرع ودفع المؤذيات. ومن ترك الأسباب المأمور بها فهو عاجز مفرط مذموم.والتوكل باعتبار تعلقه بالأسباب ينقسم إلى قسمين : 1 - توكل اضطرار 2- توكل اختيار .(/8)
و من الأدلة على ارتباط التوكل بالأخذ بالأسباب : من القرآن (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) ،(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) ، (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) ،(فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله) ، (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) وقوله تعالى(فبما رحمة من الله لنت لهم...)آل عمران 159، (ولقد نصركم الله ببدر ....)آل عمران 123-125) ، (وهزي إليك بجذع النخلة ...) مريم25- 26 ، (أينما تكونوا يدرككم الموت ...) النساء 78 ، ( وعلمناه صنعة لبوس ...)الأنبياء 80، (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ...)النساء ، ومن السنة حديث (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) رواه أحمد وابن أبي شيبة وذكره البخاري تعليقاً والهيثمي في المجمع ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ناقة له ، فقال: يا رسول الله أدعها وأتوكل ؟ فقال: اعقلها وتوكل. رواه الترمذي وابن أبي الدنيا وأبو نعيم والبيهقي وابن حبان . وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً. رواه أحمد وابن المبارك في الزهد والترمذي في الزهد وابن ماجه في الزهد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والبيهقي في الشعب وأبو نعيم في الحلية وغيرهم.خماصاً: جياعاً ، بطاناً: ممتلئات البطون. والمعنى الإجمالي للحديث: أن التوكل الصحيح هو تفويض الأمر إلى الله عز وجل ، والثقة بحسن النظر فيما أمر به ، فلو أن المسلمين يتوكلون على الله جل ثناؤه في كل شئونهم لرزقهم كالطير تماماً ولكن بعضهم يعتمد على قوته وحذره ويحلف بالباطل وكل هذا خلاف التوكل. وعن المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده. رواه البخاري وابن ماجه وأحمد والبيهقي في الشعب. وعن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حياته .... رواه البخاري ومسلم. ولقي عمر بن الخطاب ناساً من أهل اليمن فقال من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون ، فقال أنتم المتكلون ، إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله. وفي ذلك الرد البليغ على من يتركون الأسباب تقاعساً بدعوى التوكل على الله ، ولو صدقوا لأحسنوا العمل.
أما التواكل فهو: ترك الكسب والطمع في المخلوقين والاعتماد عليهم بالتخلي عن الأسباب التي وضعها الله عز وجل والانقطاع عن السعي والتقاعد عن العمل وانتظار النتائج من الخلق أو القدرأو الاتكال على الله أن يخرق له العوائد. ولأصحاب هذا المفهوم أدلة. والتواكل خسة همة وعدم مروءة لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتب المسببات على الأسباب. ولقد حارب الاسلام التواكل وحذر منه ، وهو حرام ليس من الشرع أصلاً وهو مخالف للنصوص.
ثمار التوكل:(/9)
1 - تحقيق الإيمان: قال تعالى (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) 2- طمأنينة النفس وارتياح القلب وسكونه .3- كفاية الله المتوكل جميع شئونه: لقوله تعالى(ومن يتوكل على الله فهو حسبه) . قال ابن القيم :أي كافيه ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا بأذى لا بد منه :كالحر والبرد والجوع والعطش وأما أن يضره بما يبلغ به مراده فلا يكون أبداً.وهذا أعظم جزاء أن جعل الله تعالى نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن لجعل الله له مخرجاً وكفاه رزقه ونصره ، ولحديث: إذا خرج الرجل من باب بيته كان معه ملكان موكلان به فإذا قال:بسم الله قالا:هديت فإذا قال:لا حول ولا قوة إلا بالله قالا:وقيت فإذا قال:توكلت على الله قالا:كفيت قال: فيلقاه قريناه فيقولان:ماذا تريدان من رجل قد هدي ووقي وكفي. رواه الترمذي وابن ماجه وروى أبو داود نحوه وكذلك أحمد. وروى ابن ماجه في الزهد عن عمرو بن العاص يرفعه:إن من قلب ابن آدم بكل وادي شعبة فمن اتبع قلبه الشعب كلها لم يبال الله بأي وادي هلك ومن يتوكل على الله كفاه الله الشعب. 4- من أقوى الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار . قال ابن عباس: " حسبنا الله ونعم الوكيل " قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس (إن الناس قد جمعوا لكم). قوله " ونعم الوكيل" أي نعم الموكول إليه كما قال تعالى(واعتصموا بحبل الله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) ومخصوص نعم محذوف تقديره (هو) . قال ابن القيم رحمه الله: هو حسب من توكل عليه وكافي من لجأ إليه وهو الذي يؤمن الخائف ويجير المستجير فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه ، تولاه وحفظه وحرسه وصانه ، ومن خافه واتقاه ، أمنّه مما يخاف ويحذر وجلب إليه ما يحتاج إليه من المنافع. عن بهيم العجلي عن رجل من أهل الكوفة قال:بينا أنا في بستان لي إذ خُيل إلي شخص أسود ففزعت منه فقلت: حسبي الله ونعم الوكيل فساخ في الأرض (غاص فيها) وأنا أنظر إليه وسمعت صوتاً من ورائي يقرأ هذه الآية (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره) فالتفت فلم أر شيئاً. وكتب عامل أفريقية إلى عمر بن عبد العزيز يشكو إليه الهوام (دواب الأرض المؤذية) والعقارب فكتب إليه وما على أحدكم إذا أمسى وأصبح أن يقول ( وما لنا ألاّ نتوكل على الله ) الآية . قال زرعة:وهي تنفع من البراغيث.5- يورث محبة الله تعالى للعبد لقوله تعالى (إن الله يحب المتوكلين) 6- يورث قوة القلب وشجاعته وثباته وتحديه للأعداء ويورث القوة الروحية لحديث(... ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله...) رواه ابن أبي حاتم وعبدالله بن أحمد في الزهد والحاكم وابن أبي الدنيا والطبراني وأبو نعيم وأبو يعلى والبيهقي في الزهد من حديث ابن عباس وضعفه العراقي في تخريج الإحياء وحسنه المناوي في التيسير تبعا للسيوطي ، ويورث العزة قال تعالى (وتوكل على العزيز الرحيم) ، (ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) ،( إن ينصركم الله فلا غالب لكم ...) آل عمران : 160(وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً)الأحزاب .قال الحسن: العز والغنى يجولان في طلب التوكل فإذا ظفرا أوطنا .7 - يورث الصبر والتحمل و لهذا اقترن الصبر بالتوكل على الله في مواضع من القرآن منها (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) ،(ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) 8- يورث النصر والتمكين ، ولهذا قرن الله تعالى بينه وبين التوكل في قوله (إن ينصركم الله فلا غالب لكم ... وعلى الله فليتوكل المؤمنون) آل عمران :160 ،(ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) 9- يقوي العزيمة والثبات على الأمر . قال تعالى (فإذا عزمت فتوكل على الله) آل عمران :159 ، و قال تعالى(قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا..) التوبة :51 ، ولحديث (إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل) عزاه ابن كثير لابن مردويه 10- يقي من تسلط الشيطان. قال تعالى (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) وفي حديث( إذا خرج الرجل من باب بيته كان معه ملكان موكلان به فإذا قال:بسم الله قالا:هديت فإذا قال:لا حول ولا قوة إلا بالله قالا:وقيت فإذا قال:توكلت على الله قالا:كفيت قال: فيلقاه قريناه فيقولان:ماذا تريدان من رجل قد هدي ووقي وكفي). رواه الترمذي وابن ماجه وروى أبو داود نحوه وكذلك أحمد 11- من أسباب دفع السحر والحسد والعين. قال تعالى ( وقال يابني لا تدخلوا ...)يوسف :67 .12 - يورث الرزق . قال تعالى (إن الناس قد جمعوا لكم)آل عمران: 173-174 ، وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً. رواه أحمد وابن المبارك في الزهد والترمذي في الزهد وابن(/10)
ماجه في الزهد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والبيهقي في الشعب وأبو نعيم في الحلية وغيرهم. 13- يطرد داء العجب والكبر 14- يطرد التطير والأمراض القلبية كالتشاؤم ولبس الحلقة والخيط قال ابن مسعود:( وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل) بعد أن ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم(الطيرة شرك) رواه أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا. 15- يورث الرضا بالقضاء . قال ابن القيم: فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله.16-سبب في دخول الجنة بلا حساب ولاعذاب لحديث ابن عباس في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب متفق عليه . 17- الأمل .18- دخول الجنة بوجوه مضيئة على صفة القمر ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر ...) 19- هم أول من يدخل الجنة لحديث (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة) رواه البخاري ومسلم. 20- الثقة بالله وعدم اليأس 21- الثبات على الحق . قال تعالى (فتوكل على الله إنك على الحق المبين). 22- صدق الجهاد والإقدام على معالي الأمور.
نماذج عملية في التوكل واتخاذ الأسباب :
ترتيبات رسول الله صلى الله عليه وسلم للهجرة للمدينة من استئجار دليل مشرك ليدله على طريق الهجرة للمدينة وغير ذلك - موقفه في غزوة بدر الكبرى - ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بين درعين - ما حدث له بذات الرقاع من رفع الأعرابي سيف النبي صلى الله عليه وسلم عليه . رواه البخاري ومسلم - دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة والبيضة على رأسه - كان يحمل الزاد والمزاد إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة وجميع أصحابه.
إبراهيم عليه السلام في قصة حرقه بالنار- موسى عليه السلام في لحاق فرعون وقومه له عند البحر- أصحاب الكهف والرقيم في نومهم بالكهف تاركين الكفر وأهله. كان الأنبياء يفعلون أسباباً يحصل بها الرزق.
كان المهاجرون في مجموعهم أهل تجارة وكان الأنصار أهل زرع.
موقع اعمال القلوب
http://www.heartsactions.com/s7.htm(/11)
... ... ...
الثبات على الدين ووسائله ... ... ...
مراد القدسي ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- أهمية الموضوع وتعلقه بالقلب. 2- الثبات هبة إلهية. 3- الثبات في الفتن. 4- الثبات على الدين. 5- وسائل تستجلب الثبات على الدين. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أهمية الموضوع:
كثرة الردة والنكوص على الأعقاب.
كثرة الفتن والمغريات والتي تؤدي بالفرد إلى الانحراف.
تعلق الموضوع بالقلب:
روى الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود: ((لقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القدر إذا اجتمعت غلياً)).
روى أحمد والطبراني عن أبي موسى: ((إنما سمى القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن)).
وقال الشاعر:
وما سمى الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا لأنه يتقلب
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو: ((إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء)).
1- الثبات من الله:
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء .
ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً .
وجاء السؤال بطلب الثبات: قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين .
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
المواطن التي يلزم فيها الثبات:
1- الثبات على الدين:
روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو، ثم قال رسول الله : ((اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)).
ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجثتت من فوق الأرض ما لها من قرار .
2- الثبات في الفتن:
روى مسلم وأحمد عن حذيفة: قال:قال رسول الله ((تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره الفتنة مادامت السماوات والأرض والآخر مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب هواه)).
والفتن أنواع:
1- الجاه:
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا .
روى أحمد عن كعب بن مالك: قال:قال رسول الله ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)).
2- فتنة الزوجة والنساء:
اعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة .
إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم .
روى مسلم عن أبي سعيد: قال:قال رسول الله ((اتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة كانت في بني إسرائيل في النساء)).
وفي مسند أبي يعلى عن أبي سعيد: قال:قال رسول الله ((الولد مجبنة مبخلة محزنة)).
3- فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم:
قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود ـ إلى قوله ـ شيء شهيد .
روى مسلم في حديث خباب: ((شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه)).
4- فتنة الدجال:
روى ابن ماجه وغيره من حديث أبي أمامة قال:قال رسول الله ((يا أيها الناس إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله آدم أعظم من فتنة الدجال..)).
((يا عباد الله: أيها الناس فاثبتوا، فإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه قبلي نبي..)).
5- فتنة المال:
ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون .
ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة .
3- الثبات في الجهاد.
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون .
يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا ينصركم ويثبت أقدامكم .
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان .
روى البخاري من حديث البراء بن عازب: كان النبي ينتقل التراب يوما لخندق حتى أغمر أو اغبر بطنه يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا إذا أردوا فتنة أبينا
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين .
4- الثبات على المنهج:
المنهج لغة: هو الطريق الواضح البين.(/1)
وأقصد: الثبات على منهج أهل السنة والجماعة، وهذا يعم العقيدة والعبادات والسلوك والأخلاق.
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً .
5- الثبات عند الممات:
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون .
يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة . أ.هـ.
وسائل الثبات على دين الله:
1- استشعار عظمة الله:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين .
وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه .
روى البخاري من حديث أبي هريرة: قال:قال رسول الله ((يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض)).
قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً .وفسره الترمذي في حديث أنس: ((هكذا، ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر، ثم قال: فساخ الجبل)).
وروى مسلم من حديث أبي موسى: قال:قال رسول الله ((حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)).
روى البخاري من حديث أبي هريرة: قال:قال رسول الله ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير )).
2- الالتزام بالدين:
ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً .
ومن الالتزام:
أ) الإكثار من العمل الصالح: 1028
روى مسلم عن أبي هريرة: قال:قال رسول الله ((من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)).
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض .
سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض .
روى مسلم عن أنس بن مالك: قال:قال رسول الله ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخ بخ، قال: ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها، فأخرج ثمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل ثمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل)).
وينبغي لمن رزقه الله الطاعة الاستمرار عليها:روى مسلم عن عائشة: قالت:قال رسول الله ((أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل)).
ب) قراءة القرآن:
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاّ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً .
ولقراءة القرآن فوائد:
يزرع الإيمان ويزكي النفس.
يتقوى به المؤمن أمام الفتن.
يعطى المؤمن التصورات الصحيحة حول الحياة والكون ونفسه.
يرد الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام.
ج) ذكر الله:
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً .
يوسف قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون .
د) الالتزام بالمنهج الصحيح:فالابتعاد عنه سبب في:
أ- تحير أهل البدع:يقول الرازي:
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ظلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وقال الشهرستاني:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
والصنعاني يجيب:
لعلك أهملت الطواف بمعهد الرسول ومن لاقاه من كل عالم
فما جار من يهدي بهدي محمد ولست تراه قارعاً سن نادم
نصائح إلى كل ملتزم بمنهج الرسول:
1- لابد من الشعور بالاصطفاء. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى .
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا .
2- أن هذا الطريق قديم عتيق.
3- سيحصل الثبات بإذن الله تعالى.
روى البخاري عن ابن عباس: (قال هرقل لأبي سفيان: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، ثم قال: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب).
هـ) ممارسة الدعوة إلى الله:
- خير وسيلة للدفاع الهجوم.
- فيها أمر بمعروف ونهي عن منكر.
- فيها أشغال النفس بالطاعة.
ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين .
و) استجماع الأخلاق المعينة:(/2)
1- الصبر:في الحديث المتفق عليه من حديث أبي سعيد: قال:قال رسول الله ((ما أعطى أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر)).
2- الاستقامة: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. .
روى أحمد عن ثوبان: ((استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)).
3- محاسبة النفس: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد .
روى أحمد عن عمر من قوله: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا).
وقال ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقياً حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك لشريكه.
3- تدبر قصص الأنبياء والصالحين:
وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين .
وفي ذلك ثبات إبراهيم قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين .
وعن ابن عباس: ((كان آخر قول إبراهيم حين ألقى في النار: حسبنا الله ونعم الوكيل)).
وفي ذلك ثبات موسى فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين .
وثبات سحرة فرعون فلا قطعن أيديكن وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى .فكان جوابهم لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا .
ومثله قوله: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادوهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل .
4- وصية الرجل الصالح:
الإمام أحمد ابتلي في فتنة خلق القرآن، فكان مما ثبته يومئذ وصايا بعض الصالحين له، ومن ذلك:
قول أعرابي: يا هذا ما عليك أن تقتل ها هنا وتدخل الجنة.
وقال آخر: إن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل.
وقال أعرابي: يا أحمد أن يقتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً.. قال أحمد: فقوي قلبي.
وقال له محمد بن نوح: أنت رجل يقتدى بك قد مدَّ الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك، فاتق الله واثبت لأمر الله.
وعندما خاف السوط قال بعض المسجونين: لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي.
5- الالتفاف حول العناصر المثبتة:
روى ابن ماجة عن أنس: قال:قال رسول الله ((إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر)).
وقال علي بن المديني: أعز الله الدين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة.
وكان ابن القيم: يلجأ إلى شيخ الإسلام – رحمهما الله - عند الفتن.
6- الدعاء:
روى الترمذي عن أنس: ((كان رسول الله يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، فقلنا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء)).
وفي حديث الطبراني والحاكم عن ابن عمر قال:قال رسول الله ((إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)).
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
7- التفاعل مع الآيات الكونية:
روى الشيخان عن عائشة: ((كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه)). وإذا قيل له: قال: ((يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذه عارض مطرنا)).
وفي مسند أحمد عن عائشة: ((أخذ.. بيدي ثم أشار إلى القمر فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الفاسق إذا وقب)).
وعن عقبة بن عامر قال: قال : ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم منهما شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم)).
8- قصر الأمل:
أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون .
كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار .
9- الإكثار من ذكر الموت:
روى الترمذي عن ابن عمر قال:قال رسول الله ((أكثروا ذكر هادم اللذات يعني الموت)).
روى الحاكم في المستدرك عن أنس: قال:قال رسول الله ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها يرق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة ولا تقولوا هجراً)).
10- الخوف من سوء الخاتمة:
روى الشيخان من حديث أبي هريرة: قال:قال رسول الله ((ومن قتل نفسه بحديده فحديدته في يده يتوجا بها في بطنه.. ومن شرب سماً يتحساه.. ومن تردى من جبل فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)).
11- تذكر منازل الآخرة:
روى الحاكم في المستدرك: قال:قال رسول الله ((صبراً آل ياسر صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)).
وفي الحديث المتفق عليه من حديث أسيد بن حضير أنه قال للأنصار: ((إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)). ... ... ...
... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
الثبات على الطاعات
إعداد : أحمد عبدالمجيد مكي
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعد:
يلاحظ أن كثيرًا من المسلمين ممن كانوا يحافظون على أنواع كثيرة من الطاعات في رمضان كالذكر والدعاء والصدقة والتبكير إلى الصلوات وغيرها، يهملون هذه الطاعات بعد رمضان ولا يثبتون عليها وهذا الأمر إن استمر له خطورته على إيمان العبد وخاتمته وآخرته.
لذا أمرنا الله بالثبات على الطاعات حتى الممات قال تعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين {الحجر:99} وأمرنا أن نسأله عدة مرات اهدنا الصراط المستقيم وهذا الثبات له موانع وله عوامل. إن تجنب الإنسان موانعه وأخذ بعوامله ثبت على الطاعة بإذن الله.
وفيما يلي بيان مختصر لأغلب هذه الموانع وأهم هذه العوامل، لعل الله عز وجل أن ينفع بها قارئها وكاتبها.
أ موانع الثبات على الطاعات
1 طول الأمل: حيث يتولد عنه الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب. وصفاء القلب إنما يكون بتذكر الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال يوم القيامة.
ويحذرنا الله تعالى من طول الأمل فيقول: ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم {الحديد:16}، ويقول جل شأنه ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون {الحجر:3} أي دعهم يعيشوا كالأنعام ولا يهتموا بغير الطعام والشهوات، وقوله ويلههم الأمل أي يشغلهم طول الأمل والعمر عن استقامة الحال على الإيمان، والأخذ بطاعة الله تعالى.
2 التوسع في المباحات:
لا شك أن التوسع في المباحات من الطعام والشراب واللباس والمراكب ونحوها سبب في التفريط في بعض الطاعات، وعدم الثبات عليها. إذ أن التوسع يورث الركون والنوم والراحة. بل قد يجر هذا التوسع إلى الوقوع في المكروهات، فلا يزال الشيطان يزين للعبد التوسع بقوله: افعل ولا حرج، حتى يقع في المكروهات، فالمباحات باب الشهوات، والشهوات لا تقف عند حد بل قد تقود إلى شر، قال تعالى: كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه {طه:81} فأمر سبحانه بالأكل ونهى عن الطغيان فيه حتى لا تميل النفس إلى البطالة والكسل، وتتقاعس عن العمل وتطلب الراحة ويعجز المسلم عن حملها عليه، وهذا لا يعني تحريم ما أحل الله، فقد كان صلى الله عليه وسلم (يحب العسل والحلواء) {صحيح البخاري (4967)} (ويأكل اللحم ويقبل ما يقدم إليه إلا أن يعافه) {المستدرك (1-253) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي} فاستعمال المباح في التقوي على الطاعة طاعة، ولكن الآفة التوسع والاستكثار، فليكن تناول المباح بقدر.
3 الابتعاد عن الأجواء الإيمانية:
من أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، وكما أن النفس إن لم تشغلها بالحق والطاعة شغلتك بالمعصية.
فالإيمان يضعف ويضمحل إذا تعرض العبد لأجواء الإباحية والفجور والتبرج والسفور أو خالط أهل الدنيا في أسواقهم وأطال فيها البقاء وأجال فيها النظر.
لذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن (أحسن البقاع إلى الله المساجد وأبغض البقاع إلى الله الأسواق) {صحيح الترغيب والترهيب للألباني (325)}، وما ذلك إلا لأن المساجد بيوت الطاعات، ومحل نزول الرحمات، وأساسها على التقوى، والأسواق محل الغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة وخلف الوعد والإعراض عن ذكر الله وغير ذلك مما في معناه.
وحينما سأل قاتل المائة العالم: هل له من توبة؟ قال: نعم ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، مما يدل على أن البيئة تؤثر في ثبات المسلم على الطاعة.
لذا حث الشرع على مرافقة الصالحين ليعتاد المسلم فعل الطاعات، وترك السيئات، قال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا {الكهف:28}.
ب عوامل الثبات على الطاعة
1 الاجتهاد في الدعاء بالثبات:
قال تعالى: ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم {آل عمران:101} ومن صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم على الطاعة ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب {آل عمران:8}.
ولما كانت قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) {صحيح الجامع (7987)} (اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك). {مسند أحمد (2-418)}
وكان من دعائه:
اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين. {سنن الترمذي (3233) وصححه الألباني}(/1)
اللهم اهدني ويسر الهدى لي. {سنن الترمذي (3551) وابن ماجة (3830) وصححه الألباني}
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يدعو: اللهم يسرني لليسرى وجنبني العسرى. {كنز العمال (5-420)}
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليًا أن يسأل الله عز وجل السداد والهدى، وقال له: "اذكر بالسداد تسديدك السهم، وبالهدي هدايتك الطريق". {سنن ابن داود (4225) وصححه الألباني}
2 قصر الأمل:
ومعناه العلم بقرب الرحيل وسرعة انقضاء مدة الحياة، وهو من أنفع الأمور للثبات على الطاعات، فإنه يبعث على انتهاز فرصة الحياة التي تمر مر السحاب، ويثير ساكن عزماته إلى دار البقاء، ويحث على قضاء جهاز سفره وتدارك الفائت، ويزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة. فكلما قصر الأمل جد العمل، لأن العبد يقدِّرُ أنه يموت اليوم فيستعد استعداد ميت، فإذا أمسي شكر الله تعالى على السلامة، وقدر أن يموت تلك الليلة فيبادر إلى العمل، وقد ورد الشرع بالحث على العمل والمبادرة إليه، فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر فقال له: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر مستقبل". {البخاري (6053)}
وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى حاكيًا عن مؤمن آل فرعون: إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار {غافر:39}.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما لي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها" {سنن الترمذي (2377) وصححه الألباني}، ووصى صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب. {سنن ابن ماجة (4104) وصححه الألباني}
3 تنويع الطاعات والمسارعة إليها وعدم التفريط في شيء منها:
فمن رحمة الله عز وجل بنا أن نوع لنا العبادات لتأخذ النفس بما تستطيع منها، فمنها عبادات بدنية، ومالية وقولية وقلبية وقد أمر الله عز وجل بالتسابق إليها جميعا، وعدم التفريط في شيء منها.
قال تعالى: فاستبقوا الخيرات {البقرة:148} وقال جل شأنه: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون {المطففين:26}.
وقال صلى الله عليه وسلم : "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقي أخاك بوجه طلق". {مسلم (2626)}
وقال: "ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم". {الجامع الصغير (5831) وصححه الألباني}
وقال: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة". {البخاري (6174)}
ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد ألمح إلى مثل هذا التنوع وتلك المسارعة حين سأل صحابته: من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من اتبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من أطعم اليوم منكم مسكينا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا. قال صلى الله عليه وسلم : ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة". {رواه مسلم} ونلحظ أن الطاعات التي سأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم جمعت أنواعًا من العبادات فمنها عبادات بدنية (كالصيام، واتباع الجنائز، وعيادة المريض) وعبادات مالية (كإطعام المساكين)، وعبادات ذات نفع متعد مثل (عيادة المريض اتباع الجنائز إطعام المساكين). وعبادات ذات نفع قاصر (مثل الصيام).
وبمثل هذا التنوع وتلك المسارعة يثبت المسلم على الطاعة ولا يقطع الملل طريق العبادة عليه، مصداقًا لقوله تعالى: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا {النساء:66}.
4 التعلق بالمسجد وأهله:
ففي التعلق بالمسجد وأهله ما يعين على الثبات على الطاعات حيث المحافظة على صلاة الجماعة والصحبة الصالحة ودعاء الملائكة، وحلق العلم، وتوفيق الله وحفظه ورعايته.
قال تعالى في الملازمين للمساجد المنشغلين بها عن الدنيا: ليجزيهم الله أحسن ما عملوا {النور:38}.
وفي الحث على حلق العلم والصحبة الصالحة يقول صلى الله عليه وسلم : "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده". {مسلم (2699)}
ويقول صلى الله عليه وسلم : "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" {مسلم (2689)}، فبين أن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى به عليهم إكراما لهم، ولو لم يشاركهم في أصل الذكر.
ويبين صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تدعو لمن جلس بعد الصلاة للذكر فيقول: "الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يُحدِث فيه، تقول: اللهم أغفر له اللهم ارحمه". {البخاري (434)}
أما من جلس ينتظر الصلاة فهو في رباط كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط". {مسلم (251)} فمن كان حاله كذلك فقد استغرق عمره في الطاعة وكان ذلك بمنزلة الرباط.
5 مطالعة قصص الأنبياء وحياة الصحابة والتابعين:(/2)
لقد قص الله علينا في كتابه قصصًا طيبة من أخبار الأنبياء والسابقين، ولم تذكر للتسلية والسمر ولكن لننتفع ونتعظ بها. ومن منافعها تثبيت قلوب المؤمنين والمؤمنات والطائعين والطائعات، قال تعالى: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك {هود:120}.
وكثير من الناس تتغير أحوالهم بالاطلاع على سير العظماء والأكابر، خاصة سير السلف الصالح الأوائل الذين ضربوا أعظم الأمثلة في التضحية والعبادة، والزهد والجهاد والإنفاق وغيرها. وكانوا بحق شامة الناس ومقدمي الأمم.
والاطلاع على هاته السير يورث المرء حماسًا عظيمًا، محاولة منه للحاق بركب أولئك الأكابر الأعاظم.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح
6 التطلع إلى ما عند الله من النعيم المقيم:
إن من شاهد الآخرة بقلبه مشاهدة يقين أصبح بالضرورة مريدًا لها ساعيًا إليها، فالحياة قصيرة، والجنة سلعة غالية، لذلك تحتاج إلى عمل دائب متواصل قال تعالى: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا {الملك:2}. فبين سبحانه أن مدة الحياة ابتلاء، وأنها منافسة على أحسن العمل، وأن الموت خلق مع الحياة.
ويذكر لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أدنى أهل الجنة منزلة في حديث يُعلي الهمة ويحث على صالح العمل والثبات عليه حيث يقول:
سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة فيقول: أي رب: كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له أترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربي. فيقول: لك ذلك ومثله ومثله، فقال في الخامسة رضيت ربي. قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت. غرست كرامتهم بيدي. وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر قال: ومصداقه في كتاب الله تعالى: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين {السجدة:17}. {مسلم (189)}
نسأله سبحانه أن يستعملنا في طاعته وأن يثبتنا عليها. آمين(/3)
... ... ...
الثبات في المحن ودروس من غزوة ُأحد ... ... ...
سليمان حمدالعودة ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- البلاء والابتلاء سنة لله في مخلوقاته 2- اختلاف الناس أمام البلاء بين صابر وقانط 3- مصاب النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاء في أحد 4- بلاء الصحابة في سبيل الله في غزوة أحد 5- دروس غزوة أحد ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
اخوة الايمان ونحن نقف على نهاية أيام عام هجري يؤذن بالانصراف حري بنا أن نتأمل ونتفكر في أحداثه وعبره، وقد اشتمل على مسرات واحزان وتوفرت فيه الصحة لأقوام وأقعد المرض آخرين، وفيه من شارف على الهلكة ثم متعه الله إلى حين، وفيه من فاجأته المنية واخترمه ريب المنون فيه، قدر ربك الغنى لقوم وأقنى الآخرين، وفيه أضحك ربك وأبكى وأمات وأحيا، وعليه النشأة الأخرى كما اشتمل العام على قتل فئام من الناس وتشريد آخرين وإيذاء طوائف من المسلمين لا ذنب لهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق (2)
ايها المسلمون لا غرابة أن يقع هذا وغيره، فما هذه الدار بدار قرار، وليست خلوا من المنغصات والأكدار ويعلم العارفون أن هذه الدنيا لا يدوم على حال لها شأن، وأنها متاع الغرور، وأنها دار امتحان وابتلاء، ويخطئ الذين يغترون بزينتها فيفرحون بما أوتوا وإن كان فيه حتفهم، ويأسون على ما فاتهم وإن كان فواته خيرا لهم.
كذلك يوجه القرآن وما أسعد من يفقه توجيه القرآن: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور (3)
إن المصائب والمحن في هذه الحياة الدنيا ليست قصرا على جيل دون الآخر وليست خاصة بأمة دون أخرى بل هى عامة في الأولين والآخرين من بني الانسان وتشمل الصالحين والصالحات قال الله تعالى: لقد خلقنا الإنسان في كبد (1)
وقال تعالى: نبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون
ولكن الذى يختلف فيه الناس أسلوب التعامل مع مصائب الدنيا ونكدها فإذا امتاز المؤمنون بالصبر والمصابرة والرضى والتسليم بأقدار الله الجارية مع بذل الجهد في تحصيل الخير وتحقيق العدل ودفع المكروه والشر ورفع الظلم في الأرض فان سواهم يضيق به الصدر وتنقطع أوصاله بالحزن والقلق، ويصاب بالضيق والاحباط، وربما أودى بحياته تخلصا مما هو فيه، فانتقل إلى نكد مؤبد وإلى عذاب دائم ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .
إخوة الايمان: واقرؤوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، وستجدون أنهم نالوا من المصائب والمحن ما نالهم، ومنهم أزكى البشرية وأتقاها، وجيلهم خير أجيال المسلمين وأنقاها، كل ذلك حتى يمتحن المؤمنون ويعلم الله الصابرين ويكشف زيف المنافقين وحتى يعلم هؤلاء وتعلم الأمة من ورائهم قيمة الثبات على الحق والصبر على الشدائد حتى يأذن الله بالنصر والفرج.
واذا كان الناس في حال الرخاء يتظاهرون بالصلاح والتقى ففي زمن الشدائد يميز الله الخبيث من الطيب ويثبت الله المؤمنين ويلقي الروع في قلوب آخرين.
قفوا، معاشر المسلمين عند غزوة احد واقرؤا بشأنها قوله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين وقوله: إذ تصعدون ولا تلووون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم و لاما أصابكم والله خبير بما تعملون
وقوله: وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا الآية.
ولقد كانت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها تدرك هول المعركة وشدتها على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين وهى تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: هل مر عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟
والواقع يشهد أن المسلمين حين خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واختل ميزان المعركه أسقط في أيديهم وتساقط الشهداء منهم في ميدان المعركة، وفقدوا اتصالهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وشاع أنه قتل، وفر من فر منهم، وأصابت الحيرة عددا منهم وآثر آخرون الموت على الحياة وخلص المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهه وكسروا رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وكانت فاطمة رضي الله عنها تغسل الدم عن وجهه وكان علي رضى الله عنه يسكب عليها الماء بالمجن، ولم يستمسك الدم حتى أحرقوا حصيرا، فلما كان رمادا ألصقوه بالجرح فاستمسك الدم كما في الحديث المتفق على صحته(1)
وفى هذه الأجواء الصعبة يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم وينادي في المسلمين: ((إليّ عباد الله)) قال تعالى إذ تصعدون و لا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم (2)(/1)
وفى ظل هذه الظروف العصيبة يتنادى المسلمون وتثبت طائفة من شجعان المؤمنين وتقاتل قتال الابطال دفاعا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخلص بعض المشركين الى النبي صلى الله عليه وسلم هو في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فيقول عليه الصلاة والسلام: ((من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة؟ فقاتلوا عنه واحدا واحداً حتى استشهدوا الأنصار السبعة(1) ثم قاتل عنه طلحة بن عبيد الله قاتل قتالا مشهورا حتى شلت يديه بسهم أصابهم(2) وقاتل سعد بن ابى وقاص رضي الله عنه وهو من مشاهير الرماة بين يدي الرسول صلى الله عليه سلم وهو يقول له: ارم فداك أبي وأمي))
وهكذا يكون حال المؤمنين حين تعصف بهم المحن: الصبر والثبات والجهاد والتضحية حتى يأذن الله بالنصر أو يفوزوا بالشهادة فينالوا المغنم في الدنيا ويحظون بالدرجات العليا في الآخرة.
وهاك فوق ما سبق نموذجا واعيا للثبات على الإسلام حتى آخر لحظة والوصية بالدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى آخر رمق، يمثله الصحابي الجليل أنس بن النضر رضي الله عنه الذي كان يحث المسلمين على الجهاد ويقول: (الجنة، ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد)
وعندما انجلت المعركة وجد في جسده بضعاً وثمانين من بين ضربة ورمية، وطعنة لم يعرفه أحد إلا أخته (الربيع) عرفته ببنانه، وحين أرسل النبى صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت ليتفقده وجده وبه رمق، فرد سلام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: إني أجد ريح الجنة وقل لقومي من الأنصار: (لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر طرف ودمعت عيناه)
وهاكم نموذجا آخر تمثله النساء وليست البطولات قصرا على الرجال، فالسمراء بنت قيس يصاب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه حتى إذا رأته وأطمأنت على حياته قالت كلمتها العظيمة: كل مصيبة بعدك جلل (أي صغيرة).
(2) البروج / 10 .
(3) الحديد /22، 23 .
(1) البلد /4
(1) تفسبر ابن كثير 2/123.
(2) ال عمران / 153
(1) صحيح مسلم شرح النووى 12/ 146
(2) صحيح البخارى 7/ 358 الفتح . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله رب العالمين يحكم ما يشاء ويختار لا معقب لحكمته ولا راد لقضائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد: فهذه إطلالة على نموذج من المحن والشدائد التى نزلت يوما من الدهر بالمسلمين، وهذه لمحة خاطفة عن بعض أحداث غزوة أحد.
ما أحرانا بتأملها والاستفادة من عبرها، ألا ما أحوجنا في هذه الظروف إلى قراءة كتاب الله بشكل عام، وإلى قراءة ما نزل تعقيبا على هذه الغزوة الكبيرة في تاريخ المسلمين بشكل خاص، وقد نزل حول أحداث غزوة أحد ثمان وخمسون آية من سورة آل عمران ابتدأت بذكر أول مرحلة من مراحل الإعداد لهذه المعركة وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال
وتركت في نهايتها تعليقا جامعا على نتائج المعركة وحكمتها والله يقول: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب
اجل لقد تميز الناس على حقيقتهم في غزوة أحد، فكانوا ثلاث طوائف سوى الكفار، واذا كان قد مر معنا خبر طائفة من المؤمنين ثبتت حول النبي صلى الله عليه وسلم تحوطه وتدافع عنه حتى استشهد من استشهد منهم، وجرح من جرح، فثمة طائفة أخرى من المؤمنين حصل منهم ما حصل من تول وفرار واستذلهم الشيطان ببعض ما كسبوا .. لكن الله عفا عنهم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضا عفا الله عنه كما قال تعالى: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استذلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم .
فعادت شجاعة الإيمان الى مركزها ونصابها، وكذلك ينبغي أن يكون سلوك المؤمنين إذا وقعوا في الخطأ وذكروا: تذكروا فإذا هم مبصرون، واستغفروا لذنوبهم وعادوا الى قافلة المؤمنين.
أما الذين يستمرءون الخطأ ويصرون على المعاندة وإيذاء المؤمنين مع علمهم بالحق وأهله وبالباطل وجنده، فأولئك في قلوبهم مرض، وسيكشف الله أضغانهم وسيفضحهم في جوف بيوتهم .
إخوة الايمان: أما الطائفة الثالثة التى أراد الله لها أن تتكشف على حقيقتها في غزوة أحد فهي طائفة المنافقين.(/2)
للإمام ابن القيم رحمه الله كلام جميل في الفصل الذى عقده للحكم والغايات المحمودة التى كانت في وقعة أحد، ومما قاله بشأن المنافقين: ومنها أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما اظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وطار لهم الصيت دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخابئهم، وعاد تلويحهم تصريحا، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم فاستعدوا لهم وتحذروا منهم. قال تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء
أي ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى يميز أهل الايمان من أهل النفاق _ كما ميزهم بالجنة يوم أحد _ ما كان الله ليطلعكم على الغيب الذى يميز به بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في غيبه وعمله، وهو سبحانه يريد تمييزا مشهودا، فيصبح معلوما وشهادة الأمر الذى كان غيبا .. وإن كان الله يجتبي من رسله من يطلعهم على ذلك(1).
إخوة الاسلام: وكذلك ينبغي أن تكون الشدائد والمحن في كل زمان فيصلا لتمييز المؤمنين، وفضح المنافقين.
ومن الحكم الجليلة التى ذكرها ابن القيم رحمه الله لهذه الغزوة: استخراج عبودية أوليائه وجذبة في السراء والضراء، فيما يحبون ويكرهون، وفى حال ظفرهم أعدائهم بهم، فاذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون عبيده حقا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والعافية(2)
ومن هذه الحكم: (أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه وغير ذلك من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين ءامنوا منكم ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين%وليمحص الله الذين ءامنوا ويمحق الكافرين(1)
ألا ما أعظم هذه الحكم، وما أحوج المسلمين إلى ذكر هذه العبر، وقد وردت روايات تفيد الصلاة على شهداء أحد، لكنها لا تقوى على معارضة أحاديث نفي الصلاة عليهم، فكلها متكلم فيها، وقد دفن الاثنان والثلاثة في قبر واحد، وحمل بعض الشهداء أهلوهم ليدفنوهم في المدينة فأمرهم الرسول صلى الله علية وسلم بدفنهم في أماكن استشهادهم بأحد.
ولما انتهى من دفن الشهداء صفّ أصحابه، وأثنى على ربه فقال: ((اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادى لما أضللت، ولا مضل لمن مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك، ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني اسألك النعيم المقيم الذى لا يحول ولا يزول، اللهم إني اسألك النعيم يوم العلية (أي الفاقة)، والأمن يوم الخوف اللهم أعوذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتو الكتاب، إله الحق)) ثم ركب فرسه ورجع الى المدينة.
(1) آل عمران/179.
(2) زادة المعاد 3/219،220.
(1) آل عمران/139_141. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
الثبات على دين الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
أما بعد:
فإن الثبات على دين الله -عز وجل-، وعدم الانحراف عنه يمنياً وشمالاً، والوقوف مع الشرع وتحكيمه هو النجاة في الدنيا والآخرة، وهو السعادة الطيبة، والهدف المنشود لتوفيق الله -عز وجل- إلى الجنة والنجاة من النار.
ما معنى الثبات؟
الثبات لغةً: مصدر ثبت وهو مأخوذ من مادة (ث،ب،ت) التي تدل على دوام الشيء، يقال ثبت ثباتاً وثبوتاً: (أي دام واستقر) فهو ثابت.
قال الراغب -رحمه الله-: الثبات ضد الزوال. ويقال تثبت الرجل في الأمر واستثبت بمعنى واحد هو التأني وعدم العجلة.1
الثبات اصطلاحاً: هو الدوام والاستقامة على الجادة ولزوم الصراط المستقيم من غير عوج ولا انحراف، وهو أيضاً: عدم احتمال الزوال بتشكيك المشكل والثبات على الحق حتى الممات.
فوائد الثبات وأهميته:
1- دليل كمال الإيمان وحسن التوكل على الله- عز وجل-.
2- دليل قوة النفس ورباطة الجأش.
3- الثبات من السبل الهادية إلى الجنة.
4- في الثبات على الدين تأسٍ بالرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام -رضي الله عنهم-.
5- دليل على تمكن حب العقيدة والصبر عليها وعلى تكاليفها حتى الممات.
من الآيات الواردة في الثبات:
1- قال -تعالى-: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} سورة الفرقان 32.
2- وقال -تعالى-: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل 102).
3- وقال -تعالى-: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}(73-74) سورة الإسراء.
4- وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} (45) سورة الأنفال.
5- وقال -تعالى-: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (66) سورة النساء.
6- قال -تعالى-: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} (27) سورة إبراهيم.
قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره:
وقيل معنى (يثبت الله) يديمهم الله على القول الثابت, ومنه قول عبدالله بن رواحة -رضي الله عنه-:
يثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصراً كالذي نصرا
وقيل: يثبتهم في الدارين جزاء لهم على القول الثابت).2
من الأحاديث الواردة في الثبات:
1. عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- أنه قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب ينقل التراب، وقد وارى التراب بياض بطنه, وهو يقول: (لولا أنت ما اهتدينا ،ولا تصدقنا ولا صلينا ،فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا، إن الألى قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا).3
2- عن النواس بن سمعان الكلابي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه). وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك).4
3- عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ) قال: نزلت في عذاب القبر يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، وديني دين محمد -صلى الله عليه وسلم-، فذلك قوله، الآية..).5 4- عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة, في عسرنا ويسرنا, ومنشطنا ومكرهنا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالعدل أين كنا، لا نخاف في الله لومة لائم).6
5- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حين ألقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) آل عمران /173.7
المثل التطبيقي من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الثبات:(/1)
1. عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عمل عملاً أثبته. وكان إذا نام من الليل, أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. قالت: وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام ليلة حتى الصباح, وما صام شهراً متتابعاً إلا رمضان).8
2. عن أبي إسحاق أنه قال: قال رجل للبراء: يا أبا عمارة أفررتم يوم حنين؟ قال: لا والله، ما ولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنه خرج شبّان أصحابه وأخفاؤهم حُسَّراً ليس عليهم سلاح، أو كبير سلاح، فلقوا قوماً رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوازن وبني نضر، فرشقوهم رشقاً ما يكادون يخطئون، فاقبلوا هناك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بغلته البيضاء. وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به, فنزل فاستنصر وقال: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ثم صفهم..9
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في الثبات:
1- عن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد. قال فقلت له: إني لن أكفر بمحمد حتى تموت، ثم تبعث) قال: وإني لمبعوث من بعد الموت فسوق أقضيك إذا رجعت إلى مالٍ وولد!!. فنزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} (77) سورة مريم.10
2- قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: (السنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي: الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك-إن شاء الله- فكونوا). 11
3- وقال أبو حاتم البستي: الصبر على ضروب ثلاثة: فالصبر عن المعاصي، والصبر على الطاعات، والصبر عند الشدائد والمصيبات. فأفضلها: الصبر عن المعاصي.
فالعاقل يدبر أحواله بالتثبت عند الأحوال الثلاثة التي ذكرناها بلزوم الصبر على المراتب التي وضعناها قبل، حتى يرتقي بها إلى درجة الرضا عن الله -جل وعلا-، في حال العسر واليسر معاً، نسأل الله الوصول إلى تلك الدرجة بمنه).12.13
نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الإسلام، وأن يصبرنا على طاعته وعن معاصيه وعن أقداره إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________________________________
1 -(مفردات الراغب(78) (بتصرف) و(الصحاح(1/245).
2 -تفسير القرطبي (9/238).
3 -رواه البخاري ومسلم.
4 - رواه ابن ماجه. وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (165).
5 - (إبراهيم 27) ، رواه النسائي (3/101 – 210) وقال الألباني: صحيح (2/442).
6 - رواه البخاري ومسلم.
7 - رواه البخاري.
8- رواه مسلم.
9 - رواه البخاري ومسلم.
10- رواه مسلم.
11 - إغاثة اللهفان (1/70).
12 -(انظر روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للحافظ أبي حاتم البستي ص 273 – 275).
13 - انظر (نظرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم 4/1437 الثبات). إعداد: مجموعة من المختصين. إشراف الشيخ: صالح بن حميد وعبدالرحمن بن ملوح) بتصرف.(/2)
الثقة والاطمئنان بالله.. من أين تنبع؟
* محمد مهدي الآصفي
ليس من شك أن القيم التي يؤمن بها الانسان في حياته، والتي تتحول أحياناً إلى رسالة في حياة الانسان يضحي في سبيلها.. تلهم الانسان كثيراً من العزم والقوة والتضحية، كما أن الإيمان بالله يلهم الانسان هذا العزم والقوة.
وتنبع هذه العزيمة والقوة من نفس الانسان، حيث يتحول هذا الإيمان والعقيدة إلى اتجاه وهدف وقوة في كلتا الحالتين:
لكن الفرق بين الحالة الأولى والحالة الثانية، أي الإيمان بالقيم والإيمان بالله، أن الانسان في الحالة الاولى يتعامل مع أصنام من المفاهيم الميتة لا تملك حولاً ولا قوة، ولا يؤمن الانسان في هذه الحالة أنها تمده بقوة أو سلطان، ولا يثق بأمداده وتعزيزه، خلال المعترك الطويل الذي يخوضه في سبيل العقيدة.
بينما يعتقد الانسان المؤمن بالله أنه يعبد إلهاً، حياً، قديراً، قوياً، رحيماً، لا حد لقدرته وقوته وسلطانه ورحمته، ويثق بامداده وتعزيزه للمؤمنين به خلال معترك الحياة، ويؤمن خلال أزمات المعركة ومتاعب الحياة أنه مرتبط بمعين لا ينضب من الرحمة وقوة وسلطان لا يقهر.
وهذا الشعور يخلق لدى الانسان المؤمن كثيراً من الثقة والاطمئنان، ويسنده ويربط على قلبه حتى في أحرج الأوقات وأشدها، ويوحي إليه أن من ورائه دعماً وتأييداً إلهياً قوياً، لا يقاومه العدو.
وهذا الشعور، في حد نفسه، من أهم مقومات النصر، كما أن فقدان هذا الشعور يعتبر من أهم أسباب التخاذل والهزيمة.
ولا يختلف الأمر في ساحات الحياة ومعترك الحياة الكبير عن ساحات الحرب والقتال. فلكي يقاوم الانسان عوامل الفشل وأسباب الهزيمة النفسية في خضم مسائل الحياة.. لابد أن يتمتع بقدرٍ كبيرٍ من الثقة والإيمان بالمدد الغيبي.
وفي غير هذه الحالة يعود الانسان في كثير من الأحيان مهزوماً أمام مشاكل الحياة ومتاعبها الكثيرة، عندما يجد أن عدّته المادية لا تكفي لمواجهة هذه المشاكل.
وليس من العسير علينا أن نجد في التاريخ رجالاً أشداء معروفين بقوة الشخصية وبالاعتداد بالنفس التجأوا إلى الانتحار حينما وجدوا أن امكاناتهم المادية قاصرة عن مواجهة تحديات المعركة.
ولا نريد بالطبع أن نقول هنا أن التوكل على الله والاعتماد على المدد الغيبي يكفي لكسب المعركة في ميادين الوغى والحياة، دون أن يعد الانسان المؤمن للمعركة عدتها اللازمة والتخطيط الكافي لمواجهة تحديات المعركة. فليس من شك أن الاعتماد على المدد الغيبي فقط دون الإعداد لخوض المعركة لا يكفي لإحراز النصر.
ولكن الذي يهمنا في هذا الصدد أن الإيمان بهذا المدد الغيبي والثقة بالله يمد الانسان في ساحات المعركة بكثير من القوة والعزم والصلابة، التي تعتبر من دون ريب، من أهم العوامل النفسية لإحراز النصر، إلى جانب العوامل المادية الأخرى لخوض المعركة والخروج منها بالنصر.(/1)
الثوابت المهمة في حياة الأمة
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
إن نِعم الله علينا عظيمة .. أكرمنا بهذا الإيمان وأعزنا بالإسلام ، وجعل لنا نوراً من القرآن ، وجعل لنا بياناً من هدي الرسول العدنان - صلى الله عليه وسلم - . وإن ما يحتاجه المؤمن أن يعرف ثوابته ، وأن يرجع إلى قواعده ، وأن يبصر كل شيء يمر به في ضوء ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد .
إن بين أيدينا ما لا نضل به ولا نزيغ ولا نحتار معه ، ولا نشك ولا نضعف في وجوده ولا نجبن ، ويكون لنا منه كل أسباب القوة في الرأي وبيان الحق ، وفي عزيمة النفس وشجاعة القلب ، وفي ثبات الموقف وأصالة المواجهة .. ذلك يجعلنا نقف هذه الوقفات مع هذه الثوابت المهمة في حياة الأمة .
القاعدة الأولى : المرجعية الكلية
المرجعية الكلية الشاملة في كل شأن من الشؤون ، وفي كل خطب من الخطوب ، وفي كل حدث من الأحداث ، ليس لنا من مرجع إلا كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإن هذه المرجعية المطلقة الشاملة المعصومة بإذن الله - عز وجل - وبرحمته وحكمته من كل تحريف وتغيير وتبديل .. المستمرة في صلاحيتها في كل زمان ومكان .. المتضمنة لحلول كل المشكلات ، وإجابة جميع التساؤلات ، وتفريج جميع الكربات بإذن الله - سبحانه وتعالى - نحتاج إلى أن ننتبه إلى هذه المرجعية ، فلا نحيد عنها ، ولا نبحث عن الهدى في غيرها ، ولا نرجع للبحث عن صحة الحق أو ثباته في شيءٍ سواها : { فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } .
وكما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي ) ، في كل الأزمان ، وسائر الأعصار والأماكن والظروف والأحوال ؛ لأن هذا هو النهج القويم الذي اختاره الله - عز وجل - للأمة الخاتمة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم – : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } . ورسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - وهو يعظ الموعظة التي رقّت منها القلوب ، ووجلت وذرفت منها الدموع وسُكبت ، يخبر ويوفي ويؤكد وينبّه : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ) .
فهل بعد هذه الوصية من وضوح وتأكيد وبيان وتنبيه إلى عدم مفارقة هذه المرجعية العظيمة ؟ إنها مرجعية حق لا ضلال معها .
يقول الحق - سبحانه وتعالى - : { والله يقضي بالحق والذين من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير } .
وقد بيّنت لنا آيات الله - عز وجل - ذلك بياناً واضحاً : { فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال } .
وقد خوطب رسولنا - صلى الله عليه وسلم - والخطاب له ولأمته من بعده : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } .
إنها مرجعية حق ، لا يمكن أن يكون الحق في غيرها بحال من الأحوال ، لماذا ؟ إنها شريعة الله .. إنها آيات الله .. إنها هدي الرسول الذي بعثه الله - عز وجل - .. { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } .. { أليس الله بأحسن الحاكمين } .. { فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين } .
تلك هي بعض صفاته التي تجعلنا نوقن بأن كل الهدى والخير والحق والنعمة والرحمة والحكمة فيما أتانا الله - عز وجل - من كتابه ، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - ، ألا له الخلق والأمر - سبحانه وتعالى - .
وإذا تأملنا ؛ فإن كل شيءٍ يخرج بنا عن هذه الجادة .. إنما هو ضلال تضطرب به الأهواء .. تضطرب به الآراء ، وتموج فيه الأهواء ، ويكثر فيه الخصام ، وينعدم فيه الوئام ، كما أخبرنا الحق - سبحانه وتعالى - : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } .
فكل شيءٍ غير ذلك إنما هو انحراف ، كأن الأمة فيه - والعياذ بالله - قد تتصف بما اتصفت به الأمم المنحرفة من قبل ذلك مما أخبرنا الله به : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } .
القاعدة الثانية : أمر الكمال
كمال مطلق في هذه المرجعية لا نقص معه .. لا شيء يشذ عنه ، ولا أمر يخرج من دائرته شيئٌ يندّ عن قواعده الكلية ، ونصوصه الشاملة : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } .. {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } .
لكل شيء نجد قاعدة وأصلاً ، وإشارة إلى القرآن من القرآن ، أو من السنة ، أو مما أجمعت عليه الأمة في قرونها الفاضلة ، مما يستنبئ من القرآن والسنة ، كما أخبر بذلك أهل العلم وبينوه . قال الشاطبي - يرحمه الله - : " لم يمت رسول الله - صلى الله عليه والسلام - حتى كمّل الدين بشهادة الله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم } " .(/1)
وفي صحيح مسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حق عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم ) .
ولئن كان ذلك في الرسل والأنبياء قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو به أحرى ، وهو الذي قام به على أتم وأكمل وجه ، فما من خير مطلقاً إلا أرشدنا إليه ، وما من شر جملة إلا حذرنا منه - عليه الصلاة والسلام - . وذلك كمال ليس فيه تصادم ، وليس فيه تعارض بين آيات القرآن بعضها مع بعض ، ولا بين آيات القرآن وما صح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل هو انسجام واتفاق وتكامل في كل التشريعات والأحكام والقواعد : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا } .
وبذلك نستغني عن كل شيء ، وعن كل مذهب ، وعن كل قانون ، مهما جُعلت له الأسماء ، ومهما اجتمعت عليه الآراء ، ومهما وقعت عليه الجماعات ؛ لأن عندنا ما نستغني به عن كل ذلك : { وما كان ربك نسيا } .
وقد جاء التحذير لنا والتنبيه في آيات القرآن نفسها ألا نحيد عن هذا الطريق وألا نخرج عن تلك الجادة : { يا أيها الذين أمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } .
استمع إلى التحذير المنفي على الإطلاق : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } .
قال ابن القيم - رحمه الله - في بيان ما قد يكون عندما يترك الشرع والمرجع إلى الكتاب والسنة ، تُقدم آراء العقول وأهواء النفوس ، قال : " أصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع ، والهوى على العقل .. وكل من له مسكة من عقل ، يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي ، والهوى على الشرع ، وما استحكم الأمران - أي الرأي أو الهوى - في أمة إلا فسد أمرهم تمام الفساد . فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق ، وأثبت بها من باطل ، وأميت بها من هدى ، وأحيي بها من ضلالة " .
وذلك هو الذي يقع عندما لا نرجع ولا ننقاد إلى كتاب الله ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل مُعرضٍ عن ذلك متعرض لسلب صفة الإيمان عنه ، ودخوله في دائرة النفاق : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } .
فمن قدم واختار فكأنما نقض من أصل إيمانه وقاعدته واستمع لقول الله - عز وجل - : { إنما كان قول المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا } .
وأما أهل النفاق فقد وصفهم الله - عز وجل - : { وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريقٌ منهم مُعرضون } .
هذا هو الإعراض الذي حذرنا الله - عز وجل - منه .. هذه أصول تلك المرجعية كما ذكرها أهل العلم ؛ أولها : كتاب الله الذي هو خير الكلام وأصدقه فلا يقدمون على كلام الله كلام أحد من الناس .
والثاني : سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أُثر عنه من هدي وطريقة لا يقدمون على ذلك هدي أحد من الناس .
والثالث : ما وقع عليه إجماع الصدر الأول من هذه الأمة قبل ظهور البدع والمقالات ، وما جاءهم بعد ذلك مما قاله الناس وذهبوا إليه ، ووزنوه بهذه الأصول الثلاثة ، وأرجعوه إليها فهذه قضية ثابتة ، ومرجعية كلية كاملة ، هي إحدى عواصم كل مسلم من كل فتنة بإذن الله - عز وجل - .
القاعدة الثالثة: الحرمة العظيمة
لهذا الدين العظيم .. لكتاب الله - عز وجل – الكريم .. لرسول الهدى - عليه الصلاة والسلام - ، بل والحرمة العظيمة للمسلم المؤمن الذي يؤمن بالله ، ويؤمن برسوله - عليه الصلاة والسلام - المسلم المؤمن له حرمة عظيمة في كل شيء يتصل به ، وفي كل أمر يتعلق به ليس بمجرد إزهاق نفسه ، أو قتله فذلك من أعظم الجرم وأشد ما ورد فيه الوعيد : { ومن يقتل مؤمن متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً } .
وذلك من الوعيد المغلظ المشدد ، الذي لم يرد في القرآن له مثيل إلا فيما هو أجّل من هذا وأعظم ، وإذا تأمل الإنسان المؤمن يرى أن كتاب الله - عز وجل - ، وهذا الدين قد حمى جناب المسلم حماية عظيمة ، ليس في دمه فحسب ، بل في دمه وماله وعرضه ، بل حتى فيما هو أقل من ذلك أليس قد قال رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يتناجى اثنان دون الثالث ؛ فإن ذلك يُحزنه ) .
بمجرد إدخال الحزن على المسلم جاء النهي لئلا يكون على هذا المسلم شيء يزعجه أو يضره أو يؤذيه : { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً } .
وفي حديث البراء في سنن ابن ماجة بسند صحيح رجاله موثوقون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( لَزوال الدنيا أهون على الله - عز وجل - من قتل امرئٍ مسلم بغير حق ) .(/2)
المؤمن قدره عظيم ، وفي السنن عند ابن ماجة أيضاً بسند تكلم فيه أيضاً بعض أهل العلم ، عن عبد الله بن عمر بن العاص أنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالكعبة ثم خاطبها فقال : ( إني لأعلم عظمتك وحرمتك عند الله - عز وجل - وإن حرمة المسلم أعظم عند الله من حرمتكِ ) .
وهذا دليل على تعظيم حرمة المسلم ، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم - بموجب حكم الشريعة : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والترك لدينه المفارق للجماعة ) ، لا يحل دم امرئ مسلم بحال من الأحوال .
و عن الافتراء عليه يعد ذلك من أعظم الذنوب والآثام الذي تتعرض بها الأمة ، ويتعرض بها الخلق لسخط الجبار - سبحانه وتعالى - وقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في أحاديث كثيرة : ( سباب المسلم فسوق وقتاله كُفر ) .
وفي حديث أسامة في صحيح الإمام مسلم في قصة الرجل حينما بعث النبي - عليه الصلاة والسلام - بعثاً للحروقات ، قال أسامة : فأهويت بسيفي على رجل من المشركين فقال : لا إله إلا الله . قال فأهويت عليه بسيفي فقتلته ، فأخبرت بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ) ؛ فإنه كان بمزيتك بعد أن يقولها . ثم في رواية أخرى قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( أفلا شققت عن قلبه فعرفت ما فيه ) .
مما يدل على ذلك كثيراً ما ورد أيضاً في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا دخل أحدكم وفي يده سهم فليأخذ بنصالها ) .
لئلا يؤذي إخوانه المسلمين بمجرد الإشارة ورد في صحيح مسلم : ( من أشار على أخيه بحديدة - أي ولو على سبيل المداعبة تهديداً له – لعنته الملائكة ).
نسأل الله - عز وجل - السلامة . فهذه قاعدة مهمة في الحرمة العظيمة للمسلم .
القاعدة الرابعة: في المنزلة العظيمة لأمة الإسلام
وأنها لابد أن تكون الأعلى والأسمى ، وأن لا تُعطي الدنية في دينها ، وألا تخالف أمر ربها ، وألا تضعف ولا تجبن أمام أعدائها ، وألا تذل لخصومها ، وألا تمالئ وتوالي وتعادي على غير منهج ربها ودينها ، والله - سبحانه وتعالى - قد جعل ذلك سنة ماضية في حال تمسك الأمة بدينها ، واستمساكها بإسلامها ، واعتصامها بربها - سبحانه وتعالى - : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } .
وتأمل الآية فإنه يقول : { للكافرين على المؤمنين } ؛ فإن كانت الأمة مؤمنة إيماناً صادقاً خالصاً ، لم يكون لأهل الكفر سبيلٌ عليها ولا علوٌ عليها بإذن الله عز وجل : { يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبينا } .
أتتعرضون لسخط الله - سبحانه وتعالى ولمضاء سنته عليكم بإدانة الكافرين عليكم ، وتسلطهم عليكم ، إذا أنتم خالفتم أمره في أمر العقيدة الإيمانية ، والموالاة الإسلامية : { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبينا } .
بل والقضية مرتبطة كما قلنا بأصول هذا الدين إيماناً ثابتاً أو نفاق والعياذ بالله : { بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا } .
فقد أخبرنا الله - عز وجل - بذلك في آيات كثيرة واضحة ، فيما يدل على عظمة هذه الأمة ومنزلتها الرفيعة السامية بإيمانها .. بإسلامها .. بكتاب ربها .. بهدي رسولها .. باعتزازها بدينها .. بانتسابها لسلفها .. بكل هذه المعاني تكون لها تلك المكانة السامية العالية : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } .
وفي سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك في المواقف الكثيرة ، بل وفي تاريخ أمة الإسلام مواقف قد سبق وأن أشرنا إلى كثير منها في عزة إيمانية ، واستعلاء إسلامي ، وقوة في كل موقف من المواقف ، رغم أنها كانت فترات أو مرت بها فترات لم يكن بين أيديهم من أسباب القوة المادية الدنيوية شيء يُذكر في مواجهة أعدائهم ، وذلك يدلنا على أن هذه المنزلة إنما هي بذلك الاعتصام بكتاب الله ، وسنة رسول الله ، والحرص على وحدة الأمة ، والتلاحم فيما بينها والمؤازرة والمناصرة فيما بينها حتى تتأهل لرحمة لله ، وحتى تكون ممن يستحقوا العزة والقوة والسيادة في هذه الحياة الدنيا : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } .
نسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا بكتابه مستمسكين ولهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم - متبعين ، ولآثار السلف الصالح مقتفين ، ونسأله - عز وجل - أن يعزّنا بالإسلام ، وأن يعزّ الإسلام بنا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
الخطبة الثانية
إن حاجتنا ماسة إلى كثير وكثير من هذه القواعد والثوابت ، التي نعرفها في ضوء كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
القاعدة الخامسة : العداوة الشديدة(/3)
العداوة الشديدة التي بيّن الله - عز وجل - لنا أنها تملأ قلوب أهل الكفر على أهل الإسلام والإيمان ، وإن لم يكن ثمّة مواجهة أو معاداة أو أحداث بعينها ؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - كما مرّ بنا قد قضى أمره ، واقتضت حكمته أن يكون الصراع بين الحق والباطل باقياً ما بقيت هذه الدنيا ، حتى تقوم الساعة على شرار الخلق ، كما أخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - .
تأمل آيات القرآن ، وكم نحن بحاجة إلى أن نعود لكتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ليس عوداً بما ننادي به ، ونناشد به أقوالاً ، وإنما ارتباط وتدبر وعمل واستمساك ، وعودة نعيد بها الحياة إلى قلوبنا ، والعزّة إلى نفوسنا ، والهدى والرشاد إلى عقولنا ، والتلاحم والتآزر بين صفوفنا ، والمعرفة والبصيرة بحياتنا ، والكشف والبيان لأعدائنا .. بحاجة إلى كل ذلك وهو بين أيدينا : { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون } .
آيات تتلى إلى قيام الساعة .. حقائق بينة ساطعة .. عبارات واضحة ناصعة { إن يثقفوكم .. } إن يجدوكم في كل حال ، وفي كل زمان وفي كل مكان .. { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون } لابد أن نوقن ونصدّق بكتاب ربنا ، وليس شيءٌ غيره ، وليس قولٌ غيره ، وليس رأيٌ غيره ، وليس أي شيء مما يمكن أن نسمعه ، أو أن نراه في هذه الدنيا التي اختلطت فيها الآراء واضطربت ، وماجت فيها الأهواء ، وظلّ فيها كثير من الناس ، وحارت كثير من العقول ؛ لأنها لم تستمسك بهذا الهدى العظيم الذي أكرمنا الله - سبحانه وتعالى - به ، وصيغة المضارع الدالة على الاستمرار كثيراً ما ترد في مثل هذه المعاني المتعلقة بالكفار : : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } .
صيغة مضارعة تدل على الاستمرار الدائم ، بل كما قال الحق جل وعلا : { كيف وإن يظهروا عليك لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة } أي لا يرقبون عهداً ، ولا يرقبون ذمة .. {يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون * اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون * لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون } .
والآيات تكشف كشفاً عظيماً واضحاً بيناً : { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } .
أليست هذه آيات واضحة تبيّن لنا الحقائق ؟ فما بالنا لا نرجع إليها أو ما بالنا نبحث عن غيرها ، أو ما بالنا نضطرب عندما يمر بنا ما يناقضها أو يعارضها : { ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } .
والقواعد والثوابت كثيرة ، ذكرنا المهم منها فيما نحتاج إليه في واقعنا ، وفيما نحتاج إلى أن نستبصر به ، وأن نعرف في ضوئه ما يمر بنا ، وأن نكون دائماً أثبت جناناً ، وأرسخ يقيناً ، وأمضى عزيمة ، وأعلى همة ، وأسمح رأساً ، وأعز موقفاً في كل حادثة من الحوادث ، وخطب من الخطوب ، و إذا استمسكنا بكتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله معنا الله - جل وعلا - رب الأرباب ، وجبار السماوات والأرض ، من بيده كل شيء ، من أمره بين الكاف والنون ، من كسر الكياسرة ، وقصر القياصرة ، وأغرق فرعون وقلب قرى قوم لوط .. معنا الله جل وعلا : { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } .
أليس قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر في ذلك الموقف الشهير الدقيق في يوم الهجرة: ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) .
الله عز وجل قد وعد ووعده حق وصدق : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } .
نحتاج إلى أن نحيي هذا الإيمان في قلوبنا ، وأن نتمسك بقوة وعزيمة ومضاء بنهجنا وديننا وعقيدتنا ، وأن نحيي معاني أخوتنا وتآلفنا وتآزرنا ونصرتنا ؛ فإن فعلنا ذلك فنحن جديرون بأن نكون خير أمة أخرجت للناس ، ونكون حينئذٍ أقوى الأمم وأعزها ، وإن كان ليس بين أيدينا شيء من أسباب القوة المادية ، فنحن نعلم تماماً أن القوة في مقياسها التي قد أوضحناها من قبل ، إنما هي قوة الإيمان والاعتقاد .. قوة الوحدة والارتباط .. قوة الصلاح والاستقامة .. قوة التضرع والدعاء ، ثم بعد ذلك قوة الساعد أو السلاح أو القوة المادية .
نسأل الله - عز وجل - أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد ، يعز فيها أهل طاعته ، ويذل فيها أهل معصيته ، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر .(/4)
الجاهلية الجهلاء
185
السيرة النبوية, نواقض الإسلام
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- نظرة إلى المجتمع الجاهلي قبل الإسلام. 2- الحج في الجاهلية مزيج بين التوحيد والوثنية والفضائل والرذائل. 3- خطبة حجة الوداع. 4- لفظة الجاهلية في القرآن. 5- أمر الله المسلمين بمخالفة مسائل الجاهلية. 6- من مسائل الجاهلية المنبوذة الشرك والفرقة والتفاخر وتحاكم إلى غير شرع الله.
الخطبة الأولى
أما بعد :
فوصيتي لنفسي ولكم عباد الله هي تقوى الله سبحانه ، في السر والعلن ، والسفر والحضر ، والفرح والحزن ، في خلواتكم وجلواتكم إن الله يحب المتقين .
أيها الناس :
لقد ابتليت المجتمعات الجاهلية في غابر الأزمان ، برجس الأصنام والوثنية ، والخمر والميسر، والأنصاب والأزلام ، يتخرج منها رجال ونساء ، في الشرك والتضليل ، والجهالة والعبْيَّة الجاهلية ، حتى لقد أصبحت مقاصد الحج عندهم عبارة عن تجمعات مكثفة ، في سوق عكاظ، يقصدها الناس من شتى أنحاء البلاد ، وكان يقام فيها السوق ، شهر ذي القعدة نحوا من نصف شهر ، ثم يأتون بعد ذلك موضعا دونه إلى مكة ، يقال له : سوق مجنة ، فيقام فيه السوق إلى آخر الشهر ، ثم يأتون موضعا قريبا منه ، يقال له : ذو المجاز ، فيقام فيه السوق إلى يوم التروية ، ثم يصدرون إلى منى .
كانت تجتمع في هذه الأسواق قبائل العرب ، ووفود ملوكهم ، بالهدايا والقرابين إلى الأصنام ، يتناشدون الأشعار ، ويفتخرون بالسلب والنهب ، وقتل الأنفس البريئة دون ما ذنب أو جريمة، ويمارسون وأد البنات إبان حياتهن ، ويعدون ذلك من المكرمات ، التي تهون دونها الحرمات.
عباد الله :
لقد كانت مواقف الجاهلية في الحج ، مواقف مخزية ، إنما هي خليط ممزوج ، من الأضداد والمتناقضات ، يظهر ذلك جليا في بعض المواقف المتكررة ، ومن ذلك مثلا تلبيتهم في الحج، التي يخلطون معها الشرك فيقولون : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك .
وكانت قبيلة عك إذا خرجت حاجة ، قدمت أمامها غلامين أسودين من غلمانهم ، فكانا أمام ركبهم فيقولان : نحن غرابا عك ، فتقول عك من بعدهما : عك إليك عانية ، عبادك اليمانية ، كيما نحج الثانية ، هذه هي تلبيتهم .
ولقد كانت قريش ومن دان بدينها ، يقفون بالمزدلفة ، وسائر العرب يقفون بعرفات ، حتى أنزل الله على رسول ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس [سورة البقرة:199].
ومن مظاهر الجاهلية في الحج – عباد الله – ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما بقوله : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ، ويحمل الحمالات ، ويحمل الديات ، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً [سورة البقرة :200].
وفي خضم الجاهلية الجهلاء يمن الرب الرحيم القادر الحليم على عباده ، بالنبي الختم ذي النفس الطاهرة ، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، فأنزلت آيات الكتاب المتلوة ، وأبلغ الرسول دعوته ، فسمع الأصم نبراته ، وأبصر الأعمى آياته ، جاء البشير النذير والسراج المنير ، فاقتلع الوثنية من جذورها واستأصل شأفتها ، بعد أن سفه أحلامهم وعاب آلهتهم في مدة من الزمن وجيزة هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [سورة الجمعة :2].
ويمن الله عليه بفتح مكة ، وتحطيم ما فيها من أصنام وأوثان ، ثم يرسل أبا بكر في السنة التاسعة حاجا ، لينادي بالناس ، ألا يحج بعد العام مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان ، ثم يأتي صلوات الله وسلامه عليه حاجا في السنة العاشرة ، ليختم دعوته ، بلقاء حافل مع جموع المسلمين ، في عرصات المشاعر المقدسة ، ويقول لهم : (( خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )) ، وفي عرصات عرفة ، في اليوم الذي أكمل الله فيه دينه وأنزل قوله اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [سورة المائدة:3].
في يوم عرفة عباد الله ، يرى الحبيب أن هذا الجمع العظيم ، وهذه القلوب الصافية الخاشعة، فرصة عظيمة ؛ لأن تعي ما سيقول لها ، من قواعد عظيمة ، ربما عدوها وصية مودع مشفق ، فيقف على راحلته ، ويخطب الناس خطبته المشهورة ، كما جاء في السنن لأبي داود وابن ماجة وغيرهما ، فكان مما قال فيها : ((ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمانا ، دم ابن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب ، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل ، وربا الجاهلية موضوع كله ، وأول ربا أضع ربانا ، ربا العباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله .. )) الحديث .(/1)
إن هذه الكلمات ، المنبعثة من، مشكاة النبوة ، ليؤكد المصطفى حتمية المخالفة لما كان عليه أهل الجاهلية ، ويبين بذلك أن مسمى الجاهلية ، يعني أن يكون الأمر إسلاما اولا إسلام ، فالجاهلية والإسلام أمران نقيضان ، لا يمكن أن يجتمعا في نفس واحدة البتة .
إن كلمة الجاهلية ، لم تكن نشازا من حديث النبي لا وكلا ، بل هي كلمة مطروقة ، تكرر ذكرها في غير ما موضع من كتاب الله وسنة رسوله ، فقد قال سبحانه أفحكم الجاهلية يبغون [سورة المائدة :50]. وقال عز وجل يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية [سورة آل عمران:154]. ويقول جل شأنه ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [سورة الأحزاب :33]. ويقول أيضا إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية [سورة الفتح :26].
ولقد بوب البخاري في صحيحه بابا فقال : باب المعاصي من أمر الجاهلية . وذكر فيه قول النبي لأبي ذر لما عير رجلا بأمه ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) ، قال الحافظ ابن حجر : إن كل معصية تؤخذ ، من ترك واجب أو فعل محرم فهي من أخلاق الجاهلية .
وعن ابن مسعود قال :قال رجل : يا رسول الله ، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال : ((من أحسن في الإسلام ، لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر )) رواه البخاري ومسلم .
وقد قال ثابت بن الضحاك : نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة ، فسأل النبي : ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ )) قالوا :لا ، قال : ((فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ )) قالوا : لا ، فقال رسول الله : ((أوف بنذرك …)) الحديث ، [رواه أبو داود] .
فيؤخذ من هذا الحديث وغيره – عباد الله – التحذير الشديد من أمور الجاهلية ، أو مشابهة أهلها ، في أي لون من ألوانها ، كيف لا ورسول الله يقول : (( ألا إن كل شيء من أمور الجاهلية تحت قدمي موضوع )) ، ولو لم يكن من ازدرائها وشناعة قبحها ، إلا حكم النبي بأنها تحت قدميه لكفى .
لقد أكد رسول الله مخالفة ما عليه أهل الجاهلية من الكتابيين والأميين ، مما لا غنى للمسلم في أن ينبذها وينأ بنفسه عن الوقوع في هوتها ، وأن ينسل بنفسه ، عن أشدها خطرا وآكدها ضررا ، وهو عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول ، ناهيكم عما ينضاف إلى ذلك ، من استحسان ما عليه أهل الجاهلية ، الذي تتم به الخسارة والبوار كما قال تعالى والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون [سورة العنكبوت :52]. أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرهاً وإليه يرجعون [سورة آل عمران :83].
عباد الله :
إن مسائل الجاهلية برمتها ، قد بسطها أهل العلم في كتبهم ، وسطروها بأقلامهم وألسنتهم ، حتى لقد أوصلها بعضهم إلى مائة وثلاثين مسألة ، وهي إلى الثلاثمائة أو تزيد أقرب .
وإن من أعظم التشبه ، بما كان ، عليه أهل الجاهلية ، وأكثرها إيقاعا للخلل في دين الناس ودنياهم ، أمورا ثلاثة :
أولها : أن كثيرا من الناس يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته ، يريدون شفاعتهم عند الله في حين أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ؛بل إنهم لأحوج إلى عفو الله ورحمته من أولئك الذين يدعونهم ؛ كما قال سبحانه أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً [سورة الإسراء:57].
وهذه – عباد الله – هي أعظم مسألة خالف فيها الرسول ما كان عليه أهل الجاهلية ، وعندها بدت بينه وبينهم العداوة والبغضاء أبدا حتى يؤمنوا بالله وحده ، ومن هنا افترق الناس إلى مسلم وكافر ، ولأجل هذه القضية العظمى شرع الجهاد في سبيل الله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [سورة البقرة :193].
وثاني الأمور الثلاثة : هو أن أهل الجاهلية ، متفرقون في دينهم ودنياهم ، وهم في ذلك فرق وأحزاب ، كل حزب بما لديهم فرحون ، كل منهم يرى أنه على الحق دون سواه ، فمحق الخير ، وأحيي الشر ، حتى أصبح المرء لا يعرف إلا نفسه ، ولا يهتاج بالفرح والحزن ، إلا لما يمسه هو من خير أو شر ، فماتت العاطفة ، وقل الاكتراث المبتوت الصلة ، بمشاعر الأخوة الإسلامية العامرة .
فجاء الإسلام ودعا إلى الأخوة الدينية وتلا رسول الله قول ربه شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [سورة الشورى :13]. وتلا قول خالقه إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء [سورة الأنعام:159].
ويعلن المصطفى قولته المشهورة : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )) رواه مسلم .(/2)
ويكون بذلك مؤكدا أخوة الدين ، التي تفرض تناصر المؤمنين المصلحين ، لا تناصر العبية العمياء ، والجاهلية الجهلاء ، لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وإجارة المهضوم ، وإرشاد الضال ، وحجز المتطاول ، وهذا كله هو ثمرة قول المصطفى : ((انصر أخاك ظالما أو مظلوما )) رواه البخاري .
إن الله سبحانه رد أنساب الناس وأجناسهم إلى أبوين اثنين ، فهم جميعا من جهة التمثال أكفاء، أبوهم آدم وأمهم حواء ، وإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به ، فهو الطين والماء ، ليجعل الله من هذه الرحم ، ملتقى تتشابك عنده الصلات وتستوثق العرى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير [سورة الحجرات:13]. إنه التعارف لا التفاخر ، والتعاون لا التخاذل ، وأما الشرف والرفعة فإنما هو في قوة الدين ، وتمكن التقوى من قلب العبد ، في إزالة الفوارق البشرية ، فرسول الله من أشراف قريش ، يقف مع الناس ويقول لقومه ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس [سورة البقرة :199]. تحقيقا للمساواة بين المسلمين ، وكان الرجل من أشراف قريش يأنف أن يزوج ابنته أو أخته من الرجل من عامة الناس ، فيأتي رسول الله ويزوج ابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية ، من مولاه زيد بن حارثة ، ويقول عن رجل من أصحابه: ((يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه )) ، وقد كان حجاما ، رواه أبو داود والحاكم إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [سورة الحجرات:10].
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد البشر ، والشافع المشفع في المحشر ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه السادة الغرر.
أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن ثالثة الأثافي من أمور الجاهلية : هي ديدن الجاهلية ، المتمثل في ظنهم المقلوب ، أن مخالفة ولي الأمر ، وعدم الانقياد له ، فضيلة ورفعة ، وأن السمع والطاعة والانقياد ، ذل ومهانة ، ونقص في الرجولة والعلم ، فخالفهم المصطفى وأكد على مخالفتهم في ذلك ، بالسمع والطاعة في المنشط والمكره ، للولاة الشرعيين بالبيعة الشرعية ، وأمر بالصبر على جور الولاة ، وعدم الخروج عليهم ، مع بذل النصح والإرشاد لهم ، فغلظ في ذلك وأبدى وأعاد ، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه ؛ حيث يقول : ((من كره من أميره شيئا فليصبر ، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية )) رواه البخاري ومسلم .
فهذه الأمور الثلاثة التي مضت ، جمعها النبي في قوله: ((إن الله يرضى لكم ثلاثا : ألا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم )) رواه أحمد .
وإن مما ينبغي التنبيه إليه عباد الله ، هو ما وقع فيه كثير من الناس في هذا العصر إلا من رحم الله ، من التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله و التراضي بأحكام البشر وقوانينهم ودساتيرهم ، وهذا وربي هو عين فعل الجاهلية أفحكم الجاهلية يبغون [سورة المائدة :50].
لقد أنكر سبحانه ، على من خرج عن حكمه ، المشتمل على كل خير ، الزاجر عن كل شر ، وعدل إلى ما سواه من قوانين البشر وأعرافهم ، التي وضعها رجالهم بلا مستند أو أثارة من علم ، كما كان عليه أهل الجاهلية الأولى ، وكما كان يحكم به التتار ، من السياسات المأخوذة عن سلاطينهم ، والتي اقتبسوها من شرائع شتى ، كاليهودية والنصرانية وغيرها ، فصارت فيمن بعدهم شرعة متبعة ، يقدمونها إلى الحكم بكتاب الله وسنة رسوله يصف أمثالهم لبيد بن ربيعة ويقول :
يا معشر سنت لهم آباءهم ولكل قوم سنة وإمامها
وهم بذلك ، قد كفروا وجب قتالهم لأجله حتى يرجعوا إلى حكم الله ورسوله أ فحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون [سورة المائدة :50]. فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً [سورة النساء:65].(/3)
الجدية في الالتزام
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمد عبده ورسوله .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ " [ آل عمران/102 ]
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا "[ النساء /1 ]
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا " [ الأحزاب/70-71 ]
ـ أما بعد ـ
فإنَّ أصدق الحديث كلام الله تعالى ، وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
إخوتي في الله ..
والذي برأ الحبة وخلق النسمة إنِّي أحبكم في الله ، وأسأل الله جل جلاله أن يجمعنا بهذا الحب في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ، اللهم اجعل عملنا كله صالحًا ، واجعله لوجهك خالصًا ، ولا تجعل فيه لأحد غيرك شيئًا .
أحبتي في الله ..
كثيرًا ما سألتكم وما يزال السؤال مطروحًا إلى الآن ، لماذا دبَّ الوهن فينا ؟ لماذا لا يعتقد أي منَّا أنه أهل لأن يمكن له ؟ لماذا انتكس من انتكس ؟ لماذا تولى من تولى ؟ لماذا صرنا إلى نقصان بعد أن كنا في زيادة ؟…. إنه داء الفتور في الالتزام .
أخي في الله ..
هل كنت تحفظ القرآن ثم تركت ؟!
هل كنت تقوم الليل ثم نمت ؟!
هل كنت ممن يطلب العلم ثم فترت ؟!
هل كنت ممن يعمل في الدعوة ثم تكاسلت ؟!
هذا واقع مرير يمر به كثير من شباب الأمة ، نسأل الله لنا ولكم العافية ، وتمام العافية ، ودوام العافية ، والشكر على العافية .
فكم من أعمال بدأت ولم تتم بسبب مرض الفتور !!
وكم من أعمال بمجرد أن بدأت ماتت وانتهت ، وهي مازالت مشروعات على الأوراق !
وكم من أناس ما زال الفتور بهم ، وتقديم التنازلات حتى وصل إلى ترك الدين بالكلية ، والبعد عن الدين بالمرة ، ونسيان الله بالجملة .
كم من أناس هم موتى اليوم ، وهم لا يشعرون ولا يعلمون ، هل هم أحياء أم ميتون ؟!! نسأل الله أن يحيي قلوبنا .
أحبتي في الله ..
رسالتنا هذه تحمل اسم " الجدية في الالتزام " ، فإنَّ أكبر سبب من أسباب الفتور هو فقدان الجدية ، فأنت ترى الجدية واضحة عند كثير من المسلمين في طلب الدنيا ، فهو إذا افتتح مصنعًا أو شركة أو دكانًا أو نحو ذلك فإنه يبذل أقصى جهده ، ويستولي هذا العمل على جهده ليلاً ونهارًا ، يستولي عمله على كل قوته ، وكل تفكيره ، وكل إمكانياته ، فهو يعيش وينام لهذا العمل الدنيوي .
أما أهل الدين ففي الخذلان والكسل والتواني والإخلاد إلى الأرض والرغبة في الدعة والراحة .
إخوتاه ..
إنني ـ والله ـ أتعجب من لاعبي الكرة كيف يبذلون جهدهم وطاقتهم إخلاصًا للكرة !! وهؤلاء الممثلون في إخلاصهم من أجل الشهرة ، والمطربون والمغنيين إخلاصًا للموسيقى ، ونفقد نحن هذا الإخلاص في الملتزمين بشريعة رب العالمين .
فمن يعملون لأجل جنة عرضها السموات والأرض متكاسلون فاترون ، وللأسف الشديد إنَّ أحدنا ليستحي من لاعب كرة يتدرب ليل نهار ، ويلعب ليل نهار، من أجل حطام الدنيا الفاني ، للأسف الشديد إنَّ أي طالب في الثانوية العامة يبذل جهدًا أضعاف أضعاف أي طالب علم يطلب العلم لله ، أليس الأمر كذلك أم أنَّ هذا الكلام غير واقعي ؟!
يا شباب الإسلام ..
إنه واقع مر يستوجب منا وقفات ، لماذا يدب الوهن في قلوبنا ؟ لماذا تفتر سريعًا عزائمنا ؟ لماذا يولي بعضنا الأدبار عند أول صدمة ؟!!
والجواب : لأننا أخذنا ديننا بضعف ، كانت لي محاضرة قديمة بعنوان " بين سحر الحواة ولعب الهواة ضاع الدين " ضاع الدين لأن كثيرًا من شباب المسلمين حملوا هذا الدين هواية ، كهواية جمع طوابع البريد ، وهواية المراسلة ، وهواية لعب الكرة ، فدخل الدين هواية ، ونحن نواجه ملحدين محترفين ، نواجه كفارًا محترفين ، ولا يمكن للهواة أن يقفوا في وجه هؤلاء ، فلابد ـ إخوتاه ـ من احتراف الدين .(/1)
إنني لا أطلب منك أن تترك دراسة الهندسة ، ولا الطب ، ولا الزراعة ؛ لتطلب العلم الشرعي ، لا أطالبك بشيءٍ من هذا ، وإنما أطالبك أن تكون مهندسًا محترفًا في أعمال الهندسة وإخضاعها للدعوة إلى الله ، وخدمة الدين .
أطالبك أن تكون طبيبًا ولكنك احترفت الطب لخدمة الدين ، أطالبك أن تكون تاجرًا ولكن عبدتّ المال لخدمة رب العالمين .
من أنت ؟!!
أخي في الله ..
لو أنني سألتك هذا السؤال وقلت لك : ما اسمك عند رب العالمين ؟ فبم تجيب ؟ من أنت ؟!!
هل أنت فلان الكذاب ، أو الغشاش ، أو المرائي ، أو المنافق ، أو .. أو ؟!
أم أنت فلان المؤمن ، أو الموحد ، أو القوَّام ، أو الصوام ، أو القائم بالقسط ، أو الذكير، أو الصديق .. آهٍ .. آهٍ من أنت ؟!
أجبني ـ أخي ـ الآن ، قبل أن تنبأ به غدًا على رؤوس الأشهاد يوم تبلى السرائر ، يوم الفضيحة الكبرى فلا أبأس ولا أشقى ولا أذل منك يومئذٍ .
إني أريد أن أسألك ما هي وظيفتك عند الله ؟!!
إن أكثرنا يعمل لحساب نفسه ، ونسي الله الذي خلقه ، ما هي وظيفتك في خدام الله ؟! إن قلت لي : لا شيء . فأنت ـ أيضًا ـ لا شيء ، فإن لم يكن لك وظيفة عند ربك فلا نفع لك في هذه الدنيا ، ولا قيمة لك عند الله ، فإنما قيمة العبد عند الله حين يعظم العبد الله ، فيعظم الله في قلبه ، وإذا عظم الله في قلبك فأبدًا لا تطيق ولا تستطيع أن تجلس هكذا لا تدعو إلى طريق مولاك .
أخي الحبيب ..
لا تخادع نفسك ، فأنت على نفسك بصير ، لا تقل : كنت وكان وسوف ، فإنها حبائل الشيطان ، بل سل نفسك بصدق وفي الحال : من أنا عند الله ؟!
فإن أدركت أنك في الحضيض ، فقل لها : وحتى متى ؟! فإن تسرب إليك هاتف من يأس فذكرها بالله الرحيم ، فإن تعلقت بالرحمة ولم تعمل فهذا عين الغرور ، فمن يحسن الظن بالله يحسن العمل ، وما مآل المغترين إلا أن يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون .
وإن كنت على خير فإياك أولا أن تغتر أو تعجب ، بل سل نفسك حينئذٍ : أين شكر النعم ؟! وهل ما أنا فيه استدراج ؟ ومدار النجاة في أن تكون دائمًا في زيادة ، فإن كنت في نقصان فهنا البلية الكبرى ، لأنَّ الموت قد يفجأك على هذه الحالة ، ومازلت أنت تذكر ليلة قمتها ، ويوم بعيد صمته ، وتركن على أعمال هزيلة لا تغني عنك من الله شيئًا ، فما عساك تصنع حينها ؟
قال ابن مسعود : إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة ، وأعمال محفوظة ، والموت يأتي بغتة ، فمن زرع خيرا فيوشك أن يحصد رغبته ، ومن زرع شرا فيوشك أن يحصد ندامة ، ولكل زارع مثل ما زرع لا يسبق بطيء بحظه ، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له .
أخي ..
أفق من غفوتك ، وانهض من رقدتك ، فالعمر قليل ، والعمل كثير ، فإلى متى النكوص والفتور والتواني والكسل ، إلى متى هجران الطاعات ؟ وترك المندوبات ؟ بل قل : ترك الواجبات ، وآكد الفرائض المحتمات ، واستمراء المعاصي والسيئات ، والاجتراء على الوقوع في المهلكات .
إلى متى ؟! إلى متى ؟
يا نفس : بالله أجيبيني !! مادمت تعرفين أنَّك لا تساوين شيئًا عند الله ، وأنَّك رضيت بالهوان فآثرت نعيمًا فانيًا ، وزهدت في جنات خالدة ، أما تنظرين إلى من ساروا في هذا الدرب كيف فتنوا ؟ كيف ذلوا وصغروا ؟ كيف شقوا فما والله سعدوا ؟
ثمَّ بعد ذلك إلى الردى تريدين !!
لا .. لا لن أنصت لحديثك مرة أخرى . بل سأبدأ من اللحظة ، سأبدأ في الحال صفحة جديدة في عمري لا شعار لي فيها إلا الجدية في الالتزام .
ومن هنا البداية ، فاعرف اولًا من أين أوتيت ؟ وكيف قهرت جيوش النفس والشيطان حصون قلبك فأردتك ، ضع يدك في يدي ، وتعال نعمل سويًا لأجل رضا ربنا ، حتى نصل بإذن الله إلى الجنة.
أسباب ضعف الالتزام
إخوتاه
ما هي الأسباب وراء ضعف الالتزام ؟
السبب الأول: عدم الجدية في أخذ الدين .
فإننا لم نأخذ هذا الدين في الأصل بجد ، بل دخلنا فيه هوى وهواية ، وكثيرًا جدًا ما أطالبكم بأن يراجع كل منا نفسه ، فيبدأ بسبب التزامه الأول ، تدري عندما أصرخ فيمن لا يصلي لماذا لا تصلي ؟ أحتاج ـ أيضًا ـ أن أوجه صرخة أخرى لمعاشر المصلين وأنتم لماذا تصلون ؟
نعم لماذا تصلي ؟! نعم يا من أعفيت لحيتك لماذا أعفيتها ؟ لماذا ـ أخي ـ قصرت ثوبك ؟! لماذا تركت أشرطة الأغاني وأقبلت على سماع القرآن ؟! لماذا خلا بيتك من الدش والفيديو والتليفزيون ؟ لماذا ؟!!
لماذا اقتنيت مصحفًا ؟ لماذا بدأت تقرأ القرآن ؟ لماذا تحفظ القرآن ؟ لماذا تحضر دروس العلم ؟ لماذا لا تصاحب إلا مؤمنًا ؟ ….لماذا .. لماذا ؟
إن لم يكن كل هذا لله فإنه مردود عليك ، فيضمحل ويتلاشى ويتواري ويعود كأن لم يكن .
قال تعالى : " وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا " [ الفرقان / 23 ](/2)
لابد أن نمحص نياتنا على جمرات الإخلاص ، ارجع إلى البدايات الأولى ، اتهم نيتك ، فكثير منا التزم الدين في ظروف غير طبيعية قد تكون دفعته أو اضطرته إلى الالتزام ، وبعضنا ـ ولله الحمد ـ التزم لله مخلصًا ، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم ، لكن ارجع وصحح نيتك فهذه هو الأصل .
السبب الثاني : الترف
والترف مفسد أي مفسد ، إذ يتعلق قلب صاحبه بالدنيا ، وللأسف الشديد إنَّ أكثر الأمة اليوم يعيش ترفًا غريبًا عجيبًا دخيلاً علينا .
فالفقراء يحاولون أن يفتعلوا الترف ، ولو في بعض الأشياء ، تجده لا يجد إلا قوته الضروري ولكنه يقتطع منه من أجل أن يقتني المحمول ، ويشتري أفخر الأثاث ، ويشتري أحدث الأجهزة ، ليشتري الدش فيدخل الفساد على أهله ويقره في بيته دياثة ، وهذا يقتطع من قوت أطفاله لكي يصيّف هنا أو هناك ، والقائمة طويلة تعرفونها جيدًا ، وإلى الله المشتكى .
ترف وللأسف الشديد أمر يخجل ، فلأجل الله يشح ويبخل ، ويقدم لك الاعتذارات لضيق الوقت وضيق ذات اليد و … و… الخ لكن للدنيا وللشهوات يحارب ويدبر ويفكر .
إنه التنافس على الدنيا ، وكأنه لو لم يحصل هذه الأمور سيعيش في الضنك ، وسيبلغ به الحرج المدى ، ولا والله فما الزيادة في الدنيا إلا زيادة في الخسران .
فالغني يصاب بالبطر والكبر ، ويصبح ماله نقمة عليه في الآخرة فيصرخ يوم القيامة : " مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ " [ الحاقة /28-37]
والفقير يحلق دينه بالحقد والحسد ، ناهيك عمَّن يتكبر وهو معوز فيدخل في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر "[1] .
فرجل كبير السن يزني ، وملك يكذب على رعيته ولا يحتاج لذلك فإذا كذب غش ، فهنا ـ كما يقول العلماء ـ ضعف الداعي ، وتم الفعل ، فعظم الوزر.
إنها عقوبة تروع قلب أي مسلم ألا يكلمه الله ، انظر لكعب بن مالك لما خاصمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كادت روحه تزهق ، تفكر في حالك ولو أتيت من تحب فوجدته معرضًا عنك أو خاصمك كيف تكون حينها ؟! ألا تشعر أنَّ الدنيا اسودت في وجهك ، ويحل بك من الضيق والحزن ما يقطع قلبك ، فما بالك أن يقاطعك الله ، لا يكلمك ، لا ينظر إليك ، يعرض عنك ، لا يزكيك ، هذا أشد من عذاب جهنم عند الموقنين المحبين الموحدين .
والثالث : عائل أي فقير وهو مع هذا مستكبر ، فأن يطغى الغني بالمال هذا أمر معروف قال تعالى : " إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى " [ العلق /6-7 ] لكن فقير يتكبر فلماذا ـ يا عبد الله ـ ؟ !! وكذلك فقير مترف هذا شيء يبغضه الله تعالى .
إخوتاه ..
ولا شك أنَّ الترف أفسد أبناءنا ، فوجدنا فينا من يتفاخر يقول : أنا لا أجعل ابني في احتياج إلى شيء أبدًا فأنا ألبي له جميع طلباته ورغباته .
ومثل هذا يظن أنه أحسن إلى ولده ، وأنا أعرف أنَّ العاطفة لها دخل كبير في هذا ، بل من لا يستطيع أن يفعل ذلك يظل مهمومًا بهذه الرغبات من الأولاد والتي لا يستطيع أن يلبيها لهم ، والحقيقة أنَّ هذا ليس من التربية في شيء ، فأنت بذلك تفسد الولد ، إننا نفتقد الحكمة في التربية ، نفتقد التربية الإيمانية الصحيحة لأولادنا .
لماذا لا تربي ولدك منذ البداية على أن يتعلق بالله ، فإذا طلب شيئًا مفيدًا ولم تستطع أن تجيبه فقل له : هيا يا بني نصلي ركعتين وندعو الله فيهما ، فإنَّ الله هو الرزاق ، وهو ربنا المدبر لأمورنا ، فإذا لم يمنحنا المال الذي أستطيع به أن آتيك بما تريد ، فاعلم أنَّ هذا ليس مفيدًا لنا الآن ؛ لأنَّ الله صرفه عنَّا .
فتعلمه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله " [2] ، وليس من التربية أن تلبي جميع متطلبات أولادك فينشأ الواحد منهم عبد شهواته، كلما تاقت نفسه إلى شيء طلبه فإنَّه إن لم يجده سيسرق ويزنى ويخون من أجل أن يحقق ما يشتهي .
إن لابنك حقًا أعظم من الدنيا ، وهو أن تعلمه كيف ينجو من النار ، اللهم نجنا وأولادنا من النار . قال الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون " [التحريم / 6 ]
إخوتاه ..
نحتاج إلى صفات " الرجولة " ، والرجل الحق لا يعرف الترف .
قال عمر : اخشوشنوا فإنَّ النعمة لا تدوم .(/3)
وقالت العرب قديما : وعند الصباح يحمد القوم السُّري [3] .
قال الشاعر :
ليسَ أمرُ المرءِ سهلاً كله *** إِنَّما الأمرُ سهولٌ وحزونْ
ربما قرَّتْ عيونٌ بشجى *** مُرْمضٍ قد سخنتْ عنه عيونْ
تطلبُ الراحةَ في دارِ العنا *** خابَ من يطلبُ شيئاً لا يكونْ
أيها الأحبة في الله ..
موقف لطيف جرى بين عالمين جليلين ، فقد اجتمع يومًا ابن حزم الأندلسي الفقيه الظاهري مع أبي الوليد الباجي الفقيه المالكي، وجرت بينهما مناظرة سنة 440 من الهجرة ، فلما انقضت المناظرة قال أبو الوليد الباجي لابن حزم : تعذرني فإن أكثر مطالعاتي كانت على سرج الحراس .
فأبو الوليد الباجي كان فقيرًا لا يجد مالاً ، لا يجد مصباحًا في بيته ، فاعتذر لابن حزم لأن قراءته ومذاكرته وطلبه للعلم كان على مصابيح الحراس ، فالحراس كانوا يمشون في الليل بمشاعل لحماية البلاد من اللصوص ، فكان هو يسير وراءهم يقرأ في الكتاب ، ويذاكر على ضوء مصابيح الحراس .
سبحان الله العظيم !! وهذا بقي بن مخلد المحدث المشهور صاحب المسند ، وهو أكبر من مسند الإمام أحمد بن حنبل ، الشاهد قال لتلاميذه يومًا : أنتم تطلبون العلم !!
إنني كنت أطلب العلم فلا أجد ما أتقوت به فأجمع من على المزابل أوراق الكرنب الخضراء لآكلها ، وأتعشى بها ، حتى أتي اليوم الذي بعت فيه سراويلي من أجل أن أشتري أوراقًا أكتب بها ، وجلست بلا سراويل .
قال ياقوت الحموى : فالغني أضيع لطلب العلم من الفقر .
وقال بعض المحققين : كثرة المال وطيب العيش تسد مسالك العلم إلى النفوس ، فلا تتجه النفوس إلى العلم مع الترف غالبًا ، فإن الغني قد يسهل اللهو ويفتح بابه ، وإذا انفتح باب اللهو سد باب النور والمعرفة ، فلذائذ الحياة وكثرتها تطمس نور القلب ، وتعمي البصيرة ، وتذهب بنعمة الإدراك ، أما الفقير وإن شغله طلب القوت ، فقد سدت عنه أبواب اللهو ، فأشرقت النفس ، وانبثق نور الهداية والله الموفق والمستعان .
إخوتاه ..
هذه هي القضية أن الترف مفسد ، وكثرة المال تلهى ، فاللهم أعطنا ما يكفينا ، وعافنا مما يطغينا .
وللأسف الشديد الناس في هذا الزمان لا يطلبون ما يكفيهم ، بل يطلبون ما يطغيهم ، لا يكتفون بما يرضيهم بل يطلبون ما يعليهم .
انظر لطلبة العلم الآن ، فأكثرهم لم يختم القرآن حفظًا ، والحفاظ أصبحوا ندرة ، فإذا سئلت لماذا لم تحفظ القرآن ؟!! فالجواب عادة : لأنني لا أجد الوقت .
لماذا ـ أخي ـ لا وقت عندك ، لأنك تضيعه في طلب الدنيا أو طلب شهوات النفس ، أليس لله حق في وقتك ، فاتقِِ الله . ولا حول ولا قوة إلا بالله .
السبب الثالث : رواسب الجاهلية
من أسباب ضعف الالتزام رواسب الجاهلية ، فإن أكثرنا يدخل طريق الالتزام وفي داخلة نفسه رواسب من رواسب الجاهلية مثل : حب الدنيا ، والاعتزاز بالنفس ، والآمال الدنيوية العريضة ، وعدم قبول النصيحة ، وكثرة الأكل ، وكثرة النوم ، وكثرة الكلام ، و.. و…الخ .
قال الله جل جلاله عن قوم موسى الذين لم يستطيعوا أن يدخلوا معه الأرض المقدسة قال عنهم : " فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ " [يونس /83 ] .
هؤلاء الذين أسلموا لموسى بعد السحرة ، يخبرنا الله أنهم أسلموا على خوف ، إنهم ربُّوا على القهر والذل والاستعباد ، وسياقهم كالقطيع ، نشأوا على ذلك ، عاشوا على هذا ، فلما آمنوا ظلت فيهم رواسب من هذا فلم ينجحوا مع موسى عليه وعلى نبينا الصلاة و السلام ، فاتعبوه ، وبدأت الجاهليات تظهر ، فتارةً قالوا : " لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً " [ البقرة /55 ] ، وتارة قالوا : " لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ " [ البقرة /61 ] ، وتارةً " قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ " [المائدة /24 ] .
والشاهد أن سبب هذا أنهم آمنوا أصلاً على خوف من فرعون وملأهم ، فإذا اجتمع الالتزام مع رواسب الجاهلية ، تظل الرواسب تشدك للماضي .
كم من شباب التزم ثم نكص على عقبيه ، وأنت تعلمون أنِّي ـ والله ـ أحبكم في الله ، فلا تغضبوا مني ، فإني أحاول أن نصل معًا إلى حل ، إلى علاج لتلك الأمراض التي تفت في عضدنا ، وتطمس الجهود الدعوية المبذولة لإعلاء كلمة الله في الأرض ، فلكي نصل إلى الجنة لابد من تحمل مرارة الدواء، فهل يعز عليكم تحمل هذا في سبيل الوصول للجنة ؟ !!
لذلك تعالوا بنا إلى بعض السبل العلاجية لظاهرة ضعف الالتزام والفتور .
طرق العلاج من ضعف الالتزام
أولا: قف مع نفسك وقفة صادقة جادة .
لابد من وقفة جادة مع النفس ، اصدق مع نفسك ، ولا تبخل في بذل النصح لها .
قل لها : ثمَّ ماذا ؟ ما هي النهاية لكل ما أنت فيه من إعراض عن سبيل الله ؟(/4)
هذا أول سبيل للعلاج ، سل نفسك : ماذا تريدين ؟ هل تريدين الجنة أم النار ؟ فإن قلت : الجنة فبماذا تطمعين فيها وأنت في هذا البلاء، وأنت تعصين الله في السر والعلن ، في الليل والنهار ، حالك هذا والله لا يرضي الله ، إنَّ هذا لهو الغرور عينه .
سل نفسك : مالك تشتهين الدنيا وقد علمت حقيقتها ؟
أليس نعيمها منغصًا ؟ أليس كل فيها يزول ويفنى ؟ فمالك تريدين الدنيا وهي إلى رحيل ولا تعملين للجنة وهي دار الخلود ؟
اصدق مع نفسك في الجواب ، وإياك من التلون والخداع ، إياك أن تظفر بك نفسك في التسويف والقنوط .
بعضنا إذا سالته : هل تريد الدنيا أم الآخرة ؟ يقول : الآخرة قطعًا ، وحاله شاهد على كذبه .
وآخرون لا يدرون ماذا يريدون ؟ وبعضنا لا يريد أن يفوت الدنيا ولا الآخرة ، والجمع بين النقيضين محال .
كم من شاب يمني نفسه بالعروس الجميلة ذات المؤهل العالي والمركز الاجتماعي المرموق ، وبطبيعة الحال كل سلعة لها ثمن ، ففي المقابل ستجد التكاليف الباهظة من مهر وشقة ومستلزمات …لخ ، وهكذا تظل تعمل من أجل الدنيا ، فتتملكك ثمَّ تقول : أريد الدنيا والآخرة !!
إخوتاه ..
أهل الآخرة يكفي أحدهم أقل القليل من حطام الدنيا ، فمن كان همُّه الآخرة لم يبالِ بما حصَّل الناس من الدنيا ، إذا رأى الناس يتنافسون في الحصول على المرأة الجميلة تذكر هو قول الله في الحور العين : " إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ " [ الواقعة /35-38] ، فصرف رغبته إليهن ، وشمَّر عن ساعد الجد لنيلهن ، وهكذا تلمح دائمًا الفرق بين أهل الدنيا وأهل الآخرة فممن أنت ؟!
الشاهد أننا نريد موقفًا جديًا ، نمحص به نياتنا ، نعيد من خلاله ترتيب أهدافنا ، وابدأ بسؤال نفسك ماذا تريدين ؟ ثم الأمر يحتاج بعد ذلك إلى قرارات صارمة .
ثانيًا : مخالفة النفس طريق الهدى
انظر لربك وهو يعاتب موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في تربية قومه يقول الله عز وجل : " وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا " لماذا ؟ " سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ " [ الأعراف /145 ] ، فهذا أول السبيل تهذيب النفس بمخالفة الهوى ، فلا تتابع نفسك في كل ما تشتهي ، فلا تجبها في كل ما تطلب .
مثال ذلك : أن تعرف من نفسك أنها لا تصبر على طاعة ، فإذا قالت لك : هيا لنأكل أو لنذهب لزيارة فلان أو نحو ذلك من المباحات ، فقل لها : ليس قبل أن أقرأ وردي من القرآن . فستظل تلح عليك فإن خالفتها ولم تفعل ما تطلبه منك المرة بعد المرة فسوف تتحكم فيها ، ومن هنا تعلو همتك ، وتكون صاحب إرادة ، وهذه هي الرجولة الحقيقية فتأمل .
كذلك أنت ـ أيتها الأخت المسلمة ـ إذا حادثتك النفس في أن تكلمي فلانة أو فلانة ، فقولي لها : لا ليس قبل أن أنتهي من حفظ هذا الجزء من القرآن ، أو ليس قبل أن أنتهي من أذكار الصباح والمساء ، ليس قبل أن أقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة، وهكذا خالفيها في المباحات فإنَّها لا تأمرك بفعل المكروهات ، ومن باب أولى المحرمات .
فمن تابع نفسه في كل ما تطلب أهلكته ، لذلك قال تعالى في عاقبة من يخالف نفسه في هواها " وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى " [ النازعات /40-41] وقد بين لنا ربنا حقيقة النفس فقال : " إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ " [ يوسف/53] .
فالنفس قد تكون طاغوتًا يعبد من دون الله دون أن يدري الإنسان منا ، قال تعالى " أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ " [ الجاثية /23 ]
فاتباع الهوى سبب الضلال ، قال تعالى : " فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين " [ القصص/ 50 ]
فاللهم اهدنا بفضلك فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وقنا شر أنفسنا ، واجعلنا من المرحومين .
أخي الحبيب ..
هذب نفسك ، وأعلمْها حقيقتها ، فهي أمة لله الكبير المتعال ، فلابد أن تقيم حاكمية الله على النفس ، فالله هو الذي يحكم نفسك ، وليست الشهوات ، ولا الشيطان .
إنك تتعجب حين تطالع سير سلفنا الصالح ، كان الواحد يأكل في اليوم مرة ، ويشرب في اليوم مرتين فقط ، كما أثر هذا عن الإمام أحمد وغيره .(/5)
فأي رجال كان هؤلاء ، لكن من عاش ليأكل ويشرب ، فهذا قد يكون عبدًا لبطنه ، طالع سير السلف لتعرف قدرك جيدًا .
سئل بعض السلف : الرجل يأكل في اليوم أكلة ؟ قال : طعام المتقين .
قيل : فالرجل يأكل في اليوم مرتين . قال : طعام المؤمنين .
قيل : فالرجل يأكل في اليوم ثلاث مرات . قال : قل لأهله : ابنوا له معلفًا .
فالناس اليوم تعمل من أجل أن تأكل من أفخر الأطعمة ، إنه شره النفس ، فليس الأمر ما يسد الحاجة ، لا .. لا .. إنه يريد أن يحاكي هذا وذاك ، وأعداء الإسلام لا ينفكون في تزيين الباطل للناس ، حتى تتحطم عقيدة المسلمين في خضم الشهوات والملذات ، إنها كما قيل : صناعة الغفلة ، نسأل الله لنا ولكم العافية .
إخوتاه ..
انظر لما أراد الله أن يربي يحيى ليحكم صبيًا قال ربنا جل جلاله : " يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا " [ مريم /12 ] ، وهو صبي يحكم لأنه تربى على الجدّ والرجولة ، لا على الترف ، ولا على الشهوات ، ولا على متابعة النفس ، ومطاوعة الرغبات ، ولا على توفير المطالب ، " يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا " وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا {13} وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا " [ مريم /12 –14 ] فأين هذه الصفات في شبابنا الآن ؟!!
أيها الأحبة في الله ..
الله أمرنا بالجدية في الإسلام فقال : " إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ " [ الطارق /13-14] فالأمر ليس هزلًا ، اليوم نرى سمات الصالحين في الظاهر ، ولكن على قلوب فارغة ، على عقول فارغة ، وأنا آسف إن قلت هذا ، ولكن هذا واقع للأمة لابد من تصحيحه ؛ لأنه عار علينا ، ووصمة للدعوة ، وقد بدأت تظهر أمور لا تمت بصلة للإسلام ، في المعاملات وأكل أموال الناس بالباطل ، والمشاكل الأسرية والطلاق ، والأولاد الذين كنَّا نعقد عليهم آمالنا ، أولاد الملتزمين الذين لم يعرفوا الجاهلية التي مرَّ بها آباؤهم ، فوجدنا من كبر منهم ـ وللأسف ـ بعضهم أسوأ من أبيه .
فلابد من وقفة للتصحيح ، لابد من ضبط مواقع الأقدام ، قبل أن تذل بنا في جهنم ، قال تعالى : " فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ " [ النحل/94 ]
أيها الأحبة في الله ..
من طرق العلاج :
ثالثًا : التخلص من مظاهر عدم الجدية
ومن أخطر تلك المظاهر : الرضا بالظواهر والشكليات ، ونسيان القلب والأعمال .
فليس جل الدين في اللحية والقميص القصير والنقاب ، إنها من شعائر الإسلام ، وينبغي علينا أن نلتزم بها، لكن لأنَّ هذه السنن صارت شعارًا لأهل الإيمان ومعشر الملتزمين في هذا الزمان ، فلا شك تسرب بينهم من ليس منهم ، واكتفى بهذه الأمور ، ومن هنا عدنا نقول : الملتزم هو الصوَّام القوَّام ، الملتزم هو القائم بالقسط ، الملتزم هو من خلا بيته من المنكرات ، من يتفقه في دينه ، من يفهم عن ربه ، من يعمل في تزكية نفسه ، هذه هي المعايير الآن ، ومن ابتعد عن هذا فليس من الملتزمين ، فقف لتحاسب نفسك .
إخوتاه ..
أسألكم بالله عليكم : منذ أن التزم الواحد منكم ماذا حصَّل من العلم الشرعي الذي زاده قربًا إلى ربه ؟
ماذا حصَّلت من العقيدة ؟ ماذا درست في الفقه ؟ كم كتاب قرأت ؟ وعلى من تعلمت ؟
هل تجيد قراءة القرآن الذي هو فرض عين عليك ؟
كم حفظت منذ أن التزمت من القرآن ؟
ما أخبار قيام الليل وصيام النهار والمحافظة على الأذكار ؟!!
أيها الأخ الحبيب ..
ينبغي أن يكون الفرق بينك الآن وبين أيام الجاهلية شاسعًا ، لابد أن تتغير جذريًا ، فاللسان يلهج بالذكر ، والعين تبكي خشية لله ، القدم تورم من القيام ، قلبك لا تجده إلا في دروس العلم، أذنك تعودت على سماع القرآن وهجرت الموسيقى والغناء .
لابد من هذا ، فإنك لا تعدم أن ترى الأطفال يدندنون بالإعلانات والأغاني وتحزن أنك لا ترى أبناء الملتزمين وهم يدندنون بالقرآن .
أين ابنك الذي حفظ القرآن ، ثمَّ حفظ اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (البخاري ومسلم)، والذي فيه أصح الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرها قوة .
هل رأيت مثل هؤلاء ؟ اللهم إلا النادر القليل ، والنادر لا حكم له .
لماذا يحدث هذا ؟ لماذا لأهل الباطل الغلبة والتأثير ؟ أهم أكثر منكم إخلاصًا ؟!!
ما نحن فيه الآن يجعلنا جميعًا في قفص الاتهام ، وعليك أن تثبت لي عكس هذا .
قال الحسن البصري ـ وقد صح عنه موقوفًا وهو ضعيف مرفوعًا ـ : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال ، وإن قومًا خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم ، قالوا : نحسن الظن بالله . وكذبوا ، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل .
إخوتاه ..(/6)
أين الإخلاص ؟! أين حملة الدين ؟ أما رأيتم الرويبضة وهم يمرقون من الدين ، إن هؤلاء ما تجرأوا على الدين إلا بسبب تقصيرنا ؟ تقصير في طاعة الله ، تقصير في الدعوة إلى الله ، والواحد منَّا جل ما يصنع أن يقول : أنا مقصِّر ، ادعُ الله لي !! . مقصر!! فلابد من علاج ، فليس الأمر أن تتهم نفسك في العلن ، ثمَّ لا يتبع ذلك ندم وتوبة .
إخوتاه ..
نحن لا نيأس من رحمة الله ، والله وعدنا إنْ أصلحنا من أنفسنا أن يغير ما نحن فيه من غربة، فالأمل سيظل معقودًا أبدًا ، والمستقبل للإسلام ، وإن كره الملحدون والكافرون ، والتمكين للدين آتٍ بإذن الله ، نسأل الله أن يمكن لدينه في الأرض .
إخوتاه .
من طرق العلاج :
رابعًا : زيادة الطاعات وعدم الاغترار بالعمل اليسير .
معتقد أهل السنة والجماعة أنَّ الإيمان يزيد وينقص ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، فإن لم يكن يزيد فإنه ينقص .
أريد أن يزيد إيمانك كل يوم ، تقرب إلى الله بما تستطيع ، ولا تغتر بالعمل اليسير ، ولا تكثر التشدق بالإنجازات ، لأنَّ هذا قد يورث العجب والفرح بالعمل والاشتغال بالنعمة عن المنعم ،
مثال ذلك :
تجد أن الأخ إذا وجد نفسه مقيمًا للصلوات في الجماعة ، وقام ليلة أو ليلتين ، ظن نفسه من أولياء الله الصالحين ، وهذا قد يبتلى بترك العمل ، لأنه لم يشكر النعمة وإنما نسب الفضل لنفسه ، ولذلك كان المؤمنون هم أكثر الناس وجلًا ، فليس الشأن في العمل وإنما في قبوله ، قال تعالى : " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ " [ المؤمنون / 60 ]
فالاغترار بالعمل القليل اليسير ، وكثرة الكلام عن الأعمال التي يقوم بها ، هذا دليل أنه لن يكمل ، ولن يتم فاستر نفسك .
قال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين : " ولله در أبي مدين حيث يقول : ومتى رضيت نفسك وعملك لله، فاعلم أن الله عنك غير راضٍ ، ومن عرف نفسه وعرف ربه علم أن ما معه من البضاعة لا ينجيه من النار ، ولو أتى بمثل عمل الثقلين " .
نعم الذي يرى نفسه مؤمنًا خالصًا فهذا معجب مغتر بنفسه ، لابد أن ترى دائمًا نفسك بعين النقص والعيب ، لابد أن تنكس رأسك وتذل لله .
ولله المثل الأعلى : فأنت تعرف أنَّ الولد إذا رضي عن نفسه في علم من العلوم يبدأ يهجر مدارسته ، ثمَّ بعد هذا تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ، وقد يرسب في هذه العلم ، بسبب تهاونه وعجبه .
وهذه قضية الأمن على الإيمان ، وقد قال الله : " أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ " [ الأعراف/97-99] فلا تأمن ، فإنَّ إبراهيم الخليل عليه السلام لم يأمن على توحيده ، بل ابتهل إلى ربه وقال : " وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَام " [ إبراهيم/35 ]
إخوتاه ..
من طرق العلاج :
خامسًا : عدم التسويف .
فمن مظاهر عدم الجدية في الالتزام كثرة الوعود والأماني مع التسويف ، فتجد المرء منَّا يمني نفسه ، تقول له : احفظ القرآن . فيقول : سأحفظ إن شاء الله عندما أجد الوقت . وبطبيعة الحال لا يجد الوقت فهو مهموم دائمًا ، يقول : عندما أنتهي من الدراسة سأتعلم العلم الشرعي ، وأتفرغ للدعوة إلى الله ، ثمَّ يدخل الجيش فيقول : عندما أنتهي من هذه الفترة الشاقة سأصنع ما أريد بإذن الله ، ثمَّ تنتهي مدة الجيش فيبدأ في البحث عن العمل ، ثمَّ يقول : لابد أن أتزوج ، فيظل مهمومًا بأمر الزوجة والبحث عنها ، ثمَّ يجدها فيهتم بأمر الشقة وتجهيز المنزل ، ثمَّ يتزوج فيبدأ في السعي لتحسين وضعه الاجتماعي ، ثمَّ يرزق بالأولاد فيظل مهمومًا بأمورهم هكذا دواليك .
والعجيب أنّك قد تجد رجلًا من هؤلاء في النهاية قد رضي بهذا الضنك ، ويقول : هذه سنة الحياة !!
سنة الحياة أن تعبد الدنيا وتنسى أمر الآخرة !! سنة الحياة أن تهجر الطاعات من أجل الهوى والشهوات !!
إخوتاه ..
بسيف التسويف قُتل أناس كثيرون ، فالتسويف رأس كل فساد ، فمن أجَّل الطاعات لغد وبعد غد لا يلبث أن يتركها بالكلية ، فالشيطان يسول له ، ويمنيه ، ويغريه بطول الامل ، والموت يأتي بغتة ، والقبر صندوق العمل .(/7)
في قصة الثلاثة الذين خلفوا ، كان كعب لديه المال ، يقول كعب بن مالك : " فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ، ولم أقض شيئا ، فأقول في نفسي : أنا قادر عليه . فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئا ، فقلت : أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا ، ثم غدوت ، ثم رجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل بي حتى أسرعوا ، وتفارط الغزو ، وهممت أن أرتحل فأدركهم ، وليتني فعلت ، فلم يقدر لي ذلك ، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أنِّي لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق ، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء [4].
وهكذا في نهاية المطاف وجد نفسه في وسط المنافقين ، وهذا من جراء التسويف .
إخوتاه ..
الحذر الحذر من التسويف ، وطول الأمل ، قبل فجأة الموت ، وحسرة الفوت .
يا من تعمل في أعمال محرمة ، إياك أن تسوِّف ، فقد تموت قبل أن تتخلص منه ، هيا الآن ، لا تؤجل ، لا تعطل ، واتخذ هذا القرار الحاسم في حياتك فهذا دليل توبتك حقًا ، لا أن تتشدق بالأوهام .
يا من يريد حفظ القرآن قل : سأبدأ حفظ القرآن اليوم ، كل يوم ربع أو ربعين ، وتلزم نفسك بذلك إلزامًا صارمًا ، ولا تتهاون في عقاب نفسك إن قصرت ، وإلا فستصبح من أصحاب المظهرية الجوفاء الذين يكثرون من الوعود والأماني .
إخوتاه ..
من طرق العلاج :
سادسًا : أخذ الدين بشموليته .
فمن مظاهر عدم الجدية في الالتزام الاكتفاء ببعض الجوانب في الدين دون الشمولية ، وقد قال الله : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّة " [ البقرة /208 ] ، فكثير من الملتزمين يدخل في الدين ، ويلتزم ببعض الجزئيات التي أحبها في الدين ، وقد يكون ذلك هوى ، فليس الهوى في فعل المحرمات ، بل وفي فعل الطاعات أيضًا ، قال الله تعالى لنبيه داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه " [ ص /26] وقد كان هواه في العبادة .
فملاحظة الشمولية في الدين أمر ضروري ، فإنني أريدك متكاملاً في جانب العبادة صوام قوام ذكار لله تتلو القرآن فتصبح ذا شخصية متألهة متنسكة ، وعلى الجانب العلمي فأنت طالب علم مجتهد ، حافظ للقرآن ، ذو عقل وفكر نير واستيعاب شامل ، وفي الجانب الدعوي فنشاط متقدم ، سرعة واستجابة ، وعدم رضا بالواقع ، وتفكير متواصل في الطرق الشرعية لتحويل وتغيير مجرى الحياة ، ذو تأثير ملحوظ في المحيط الذي تعيش فيه ، كما قال الله تعالى في وصف نبيه عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : " وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ " [ مريم /31 ]
إخوتاه ..
هذه هي الشخصية التي نبحث عنها ، هؤلاء هم الرجال الذين يحق أن يمكن لهم في الأرض ، أما الرضا ببعض جوانب الدين ، وتقسيم الدين إلى لباب وقشور ، فهذه بدعة منكرة جرت من ورائها تنازلات كثيرة، وشقت الصف لا جمعته .
تجد بعض الشباب رضي بالجانب العلمي وترك باقي الجوانب ، تقول لأحدهم : لماذا لا تقوم الليل ؟! فيقول : طلب العلم يستحوذ على كل وقتي .
وأنا أعجب من هذه التفرقة التي لا أصل لها ، من قال أنَّ علماء السلف تركوا الاجتهاد في العبادة والدعوة من أجل طلب العلم ؟!!
وتجد آخرين لا همَّ لهم إلا الدعوة ، يتجولون على الناس لدعوتهم وربطهم بالمساجد ، وهذا في حد ذاته جيد ، لكن دعوة بدون علم ، هذا سرعان ما ينقلب على عقبيه ، لأنه لم يفهم دينه ، فربما يستجيب مرة أو مرتين بسيف الحياء ، أو بفعل تحمس مؤقت ، ثمَّ بعد ذلك لا تجده .
وآخرون ارتضوا من الدين بالعبادة فلا تعلموا ولا دعوا ، فمن أين لهؤلاء بهذا ؟!!
إخوتاه ..
الدين كلُُ واحد ، لا يصلح فيه الترقيع " ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّة " [ البقرة /208 ] أي جملة واحدة بجميع جوانبه
ولابد أن توزع طاقاتك من أجل خدمة هذه الجوانب الثلاثة ، علم وعمل ودعوة ، ومتى ضاع منك الوقت دون أن تثمر شيئًا في هذه الجوانب فاعلم أنَّ هذا من الخذلان ، وأنَّ هذا لا يكون إلا بكسبك ، فينبغي أن تتوب سريعًا ، وإلا فمن يدريك أن الموت لن يكون أسرع مما تتوقع ، وعلى هذا نتعاهد ونتواصى ، وليأخذ كل منكم بيد أخيه ، فإنها النجاة .
إخوتاه ..
سابعًا : التعاهد على الثبات حتى الممات .(/8)
فمن مظاهر عدم الجدية التفلت من الالتزام لأول عارض ، فمن أول شبهة أو أول وارد من شهوة يتفلت ، وسرعان ما تتتابع التنازلات ، مرة ترك النوافل ، ثمَّ مرة ترك الجماعة ، بدأ يترك رفقة الصالحين ، وفي الملتزمات تجدها تتنازل يوم عرسها فتخلع الحجاب ، لماذا ؟ لأنه يوم الزفاف ولا حرج ، أو تتنازل فتتزوج من غير الملتزمين ، وهكذا ، تبدأ في خلطة غير الملتزمات ، تبدأ في مشاهدة التلفاز ، تبدأ في الاختلاط بالرجال ، ثمَّ لا تسل بعد ذلك أين هي الآن ؟!!
إخوتاه ..
يقول ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/140) : وقال لي شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رضي الله عنه ـ وقد جعلت أُورد عليه إيرادًا بعد إيراد : لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضج إلا بها ، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ، ولا تستقر فيها ، فيراها بصفائه ، ويدفعها بصلابته ، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرًا للشبهات أو كما قال .
يقول ابن القيم : فما أعلم أنِّي انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك .
وهذا هو السبيل ، فلا تكن خفيفًا ، قال الله تعالى : " وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ " [ الروم/60] ، ولهذا من يتأثر بأدنى شبهة فهذا لا يقين عنده ، وأهل العلم واليقين هم الذين يثبتون ، فلهذا أقول لك : لا تقف مع الشبهات ، وخذ بنصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " [5].
فلا تلتفت ـ أخي ـ لكل شبهة ولكل شاردة وواردة ، مثلًا : الأخ بعدما أعفى لحيته يأتي الاختبار والبلاء فيجد من يقول له : من قال أنَّ اللحية فرض ؟ اللحية سنة ؟ أو هي من العادات ؟ وفلان وفلان قال ذلك .
فالخفيف الذي لم يفقه سرعان ما يلتبس عليه الأمر ، ومع أول مضايقة يفر ، وهذا يعني عدم الإخلاص وعدم اليقين ، وأصل كل المشاكل الإيمانية يدور حول هذين الأمرين ، لذلك أقول لك : لابد أن تتعلم أولاً، ثم تعمل بما تعلم ، ثمَّ تدعو إلى ما وفقك الله له .
قال تعالى : " وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " [ سورة العصر ]
إخوتاه ..
كثيرًا ما أحزن عندما تنتشر بعض الأقاويل الباطلة ، وعندما ينفث أعداء الدين بشبهاتهم ، فتجد بعض الإخوة متخبطًا ، يقول لك : ماذا أصنع ؟! كيف نرد عليهم ؟!! أن تسأل هذا جيد ، ولكن متى تقف على أرض صلبة ، متى تفهم عن الله ؟ متى لا يتسرب إليك الشك سريعًا عند كل شبهة ؟
هذا ما يورث الفتور وعدم الجدية ، فبهذه النفسيات لا يمكن أن يمكن لنا ، لذلك لابد من أن نقف على أرض صلبة ، لابد أن نثبت على الدين وإن قويت الرياح ، لا نتزعزع ، لا تكن انهزاميًا .
مثلًا : تجد من يعمل في ساعة مبكرة من النهار يضيع منه الفجر مرة فأخرى ، ثمَّ يبدأ يتنازل وتجده يقول : لا يمكن أن أستيقظ للفجر ، فإذا أراد أن ينام يضبط المنبه على ميعاد العمل ، وينسى صلاة الفجر، وأخشى أن يكون هذا إصرارًا على تضييع الصلاة في وقتها ، فيكون هذا نذير شرك والعياذ بالله .
أنا أريدك موقنًا بما في يد الله ، أريدك موقنًا بأنَّ الله هو الرزاق ، أريدك إذا عصفت الرياح قويًا تفهم سنن الله الكونية ، وتصبر على البلاء حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً .
بعض الإخوة إذا أصابه شيء من القهر يجزع سريعًا ، وآخرون يقعون في أول اختبار في شهوة ، فإذا فتحت عليه الدنيا شيئًا ما نسي ما قدمت يداه ، فأين الثبات على الدين ؟ أين الاستقامة على شريعة رب العالمين ؟
إخوتاه ..
إنَّ هؤلاء الذين يتفلتون من الالتزام لأول عارض شبهة أو أول وارد شهوة يضيعون قبل ورود العوارض والموارد ، لأنهم مهيؤون نفسيًا للوقوع والسقوط .
والعلاج هو اليقين ، هو الثبات حتى الممات ، هو العقيدة الصحيحة الصلبة ، والمنهجية في العلم والعمل والدعوة ، وهذا يحتاج إلى صبر وتحمل ، ولا يكون ذلك كله إذا لم يخلص العبد في الاستعانة بربه تبارك وتعالى فالزم .
إخوتاه ..
من طرق العلاج أيضًا :
ثامنًا : عدم إكثار الشكوى وتضخيم المشاكل
فمن مظاهر عدم الجدية في الالتزام : كثرة الشكوى وتضخيم المشاكل وإيجاد المبررات ، فدائمًا أبدًا شكاء ، لا يرضى ، وكل مشكلة صغيرة يضخمها ، وهذا من البطالة وعدم الجدية .
وآخر صاحب منطق تبريري ، فلا يريد أن يواجه نفسه ويلقي باللائمة عليها ، بل يتذرع ويعلل ويبرر ، وهو يدري أنَّه على غير الحق .
ومنهم : من إذا التزم بالدين صار عالة على الدعاة ، ولسان حاله يقول : أنا صنعت ما قلتم لي ، فعليكم أن توجدوا لي الحلول لكل مشكلاتي ، وهل لما التزمت التزمت من أجل فلان وفلان أم ابتغاء وجه رب العالمين ؟!(/9)
فإذا كنت كذلك فتعلم : " إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله "[6] ، لا تكثر الشكوى خوفًا أن تتسخط على قدر الله ، وتلك بلية عظيمة أعيذك بالله أن تقع فيها .
أريد أن تتعلم أن تلجأ إلى الله ، لا تتوكل على أحد سوى الله ، والله هو القادر على أن يدفع عنك ، " إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا " [ الحج/38 ]
إخوتاه ..
كثرة الشكوى وتضخيم المشاكل وإيجاد المبررات سبيل للنكوص ولابد ، واستصحب دائمًا هذه النصيحة النبوية الذهبية " واستعن بالله ولا تعجز "[7] " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف "
نصيحة أخيرة
أريد بعد هذا كله أن أسألكم سؤالًا حتميًا ، وأرجو أن يجيب كل واحد منكم نفسه بصدق .
هل أنتم جادون في طلب الخلاص مما أنتم فيه ؟ وما الدليل على هذا ؟!!
كما قلت لكم من قبل : وقفة جادة مع النفس ، والتزام بمنهج واضح في العلم والعمل والدعوة ، واعتبار ذلك فرضًا حتميًا لا ينبغي الحيد عنه ، وقفة لا تقبل التأجيل ، وقفة من الآن .
قل لنفسك : منذ متى وأنا ملتزم فماذا قدمت لدين الله ؟!
هل أنا أعمل لله أم من أجل نفسي ؟!
ثمَّ بعد أن تمحص نيتك لا تفتر ، ولا تقنط ، بل عليك أن تسعى في العلاج بقوة ، انتهز أوقات النشاط في مضاعفة الطاعات .
وهذا منهج تربوي عليك أن تبدأ به .
1. احفظ كل يوم ولو عشر آيات ، وارتبط بمقرأة لتتعلم أحكام التلاوة ، وإذا كنت أتقنتها فحافظ عليها من أجل أن تكون من القوم الذين يجتمعون في بيوت الله لتلاوة القرآن ومدارسته فتحفهم الملائكة وتنزل عليهم السكينة ويذكرهم الله فيمن عنده ..
2. حافظ على أذكار الصباح والمساء ، وأكثِر من الاستغفار والتسبيح والتحميد والتهليل
3. حافظ على درس علم أسبوعي .
4. لابد أن يكون لك حظ من الليل ، وابدأ الآن بركعتين خفيفتين ، ثمَّ ابدأ في الزيادة شيئًا فشيئًا ، ولا يلهينك الشيطان عن هذا الورد ، إن لم تكن تحفظ فامسك بالمصحف وصلِّ ، واعتادك ذلك سيكون عونًا لك على الحفظ بإذن الله ، لأنَّ القراءة من حفظك لها شأن آخر .
5. امكث في المسجد بعد صلاة الفجر إلى أن تشرق الشمس ، وصل ركعتي الضحى لتكتب لك كل يوم أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة .
وإن لم توفق لذلك فاجلس بين المغرب والعشاء لتنتظر الصلاة بعد الصلاة فإنها من أعظم الكفارات ، وترفع بها الخطايا وتعلي الدرجات .
وهكذا ابدأ في زيادة الطاعات والقربات لتحصن نفسك ، أما إذا لم يؤثر فيك كل ذلك ، وإذا لم تجد من نفسك القوة والرغبة والإصرار على بذل الجهد لله ، فاعلم أنَّ قلبك مات فادعُ الله أن يردك عليك قلبك المطموس .
إخوتاه ..
انظروا لحال السلف الصالح ، وكيف كانت أشواقهم تطير بهم إلى طاعة الله تعالى ، كيف كانوا يتغلبون على الفتور والكسل بالشوق والخوف .
يقول ابن القيم في كلام غال ثمين لو تأملته : إذا جن الليل وقع الحرب بين النوم والسهر ، فكان الشوق والخوف في مقدمة عسكر اليقظة ، وصار الكسل والتواني في كتيبة الغفلة ، فإذا حمل الغريم حملة صادقة هزم جنود الفتور والنوم فحصل الظفر والغنيمة ، فما يطلع الفجر إلا وقد قسمت السهمان وما عند النائمين خبر [8].
فأين شوقك لرضا الله ؟ أين وجل قلبك وقد أمهلت كثيرًا ، وما نهاية ذلك إلا سوء الخاتمة ؟ فلماذا تأكلك الغفلة ؟ لماذا صرت أمير الكسل ؟
إخوتاه ..
إننا نحتاج إلى إخوة جادين في كل شؤون حياتهم ، تبدو عليهم تلك السمات في أفعالهم ، جادين في تفكيرهم ، الهم الأول عندهم هو الدين ، ثمَّ تأتي سائر الهموم بعد ذلك ، فلا شيء يقدم على دين الله .
في صحيح البخاري عن الأسود بن يزيد النخعي قال : سألت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته .
قالت : كان يكون في مهنة أهله تعني خدمة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة [9].
فهكذا فقس نفسك ، هل إذا قيل لك : حي على الصلاة ، حي على العمل الصالح ، حي على حضور درس العلم النافع ، حي على الإنفاق في سبيل الله ، فما بالك حينها ؟!
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ…." [التوبة /38-39]
إخوتاه ..(/10)
يخيل إلىَّ أنني لو راجعت كل واحد منكم فسرد لي قائمة اهتماماته لاستحييت من ذكرها ، أمور تافهة لا قيمة لها تشغل تفكيرك ، وربما تحول بينك وبين الله ، ونحن موقنون أنَّ الله يعلم السر وأخفى ، وأنَّ الله عليم بذات الصدور ، ولكن رفع الحياء ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أين حياؤك من الله العزيز القهار ؟! أين وجل قلبك من العلي الكبير المتعال ؟!
إنه لو قدر لبشر أن يعرف ما بداخل صدر أخيه لوقع الجميع في حرج شديد ، فما بالك تستحيي من الناس ولا تستحي من الله وهو معك !!
فابدأ ـ أخي ـ من الآن إجراء هذه العملية الضرورية ، عملية تطهير للأفكار ، نريد جدية في الاهتمامات ، إن بعضنا يكاد يقتل نفسه من كثرة التفكير ، يفكر في وضعه بين الناس ، كيف يفكر الناس فيه ؟! ماذا يقول الناس عنه ؟! ولعله لم يخطر للناس على بال ، ولو شغل نفسه بحاله مع الله لكفاه ، حينئذٍ عليك أن تردد في نفسه : ماذا أنت فاعل بي يا غفار الذنوب ؟ وما اسمي عندك يا علام الغيوب ؟
لا تهتم كثيرًا بالناس ، فاصلح ما بينك وبين رب الناس يكفك أمر الناس .
تجد بعضهم يقع في مشكلات نفسية وعندما تفتش عن الأسباب تجدها أمور تافهة ، وهذا حال أهل البطالة سافلو الهمة ، فإنَّ النفوس العلوية لا تنظر لمثل هذه السفاهات ، وإلا أخلَّ ذلك بها ، لكنه فراغ القلب من الله .
أما أهل الهمة العالية ، والجادون في التزامهم فإنهم مشغولون بأمور أخرى ، مشغول بحفظ القرآن ، بالدعوة إلى الله ، بكيفية إصلاح فساد قلبه ، مشتاق لسجدة يقبلها الله منه ، مشتاق لتسبيحة يشعر معها بحلاوة الإيمان ، هذا شأن عباد الله الصالحين ، فمن أي الفريقين أنت ؟!
إخوتاه ..
منذ كم عام وأنت ملتزم ؟ فماذا صنعت ؟ هل ذقت حلاوة الإيمان أم لم تشعر بها بعد ؟
هل تنقل قلبك في رياض الإيمان فشعرت بالسعادة الحقيقية ؟ واحسرتاه على من قضى عمره في وهم كبير شيده في ذهنه ، ووضع له السياج اللائق به ، فكذب على نفسه ، ثم استمرأ الكذب فخادع نفسه ، فصدق كذبه !!
وإن أخشى ما أخشاه أنْ يكون التزامك هذا وهمًا ، ولا أراني أشعر بأفعال تطيح بهذا الهاجس المقلق من نفسي على شباب الصحوة !!
هذه ـ إذًا ـ قضيتك الأولى ، هل أنت ملتزم أم لا ؟ هل اعتاد لسانك الذكر فصار رطبًا منه ؟ هل اعتادت جوارحك القيام بأداء حقوق الله فصرت تشعر بالوحشة إذا لم تؤدِ شيئًا يسيرًا منها ؟ إنَّه إدمان الطاعة ، حينها تجد الرجل يقول : الصلاة صارت تجري في دمي ، لا أستطيع أن أترك ورد القرآن ، أشعر بأنِّي لا أتمالك نفسي ، وهكذا ساعتها تعيش الإسلام لأنه يعيش فيك ، فتحفظ من التفلت والانتكاس .
إخوتاه ..
تبدو أوضح مظاهر الجدية في التعامل مع الأوقات ، كثير من الناس يشتكون من قلة الوقت ، وضيق الوقت ، وهذا دليل على عدم الجدية .
يقول ابن القيم في تعريف اليقظة : هي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين ، وهي على ثلاثة مراتب :
(1) لحظ القلب إلى النعمة على اليأس من عدها ، والوقوف على حدها ، ومعرفة المنة بها ، والعلم بالتقصير في حقها .
(2) مطالعة الجناية على التخلص من رقها ، وطلب التمحيص بها ، والثبات على التوبة بعدها.
(3) معرفة الزيادة والنقصان من الأيام ، فيلتزم الضنّ بباقيها ، وتعمير تالفها ، واستدراك فائتها.
هنا محل الشاهد ، فهذا هو الملتزم الحق ، الذي دفن جاهلياته ، وشمَّر عن ساعد الجد لاستدراك ما فاته طيلة عمره .
وسنة الله الكونية على أنَّه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه ، فالطالب في الكلية عندما يلتزم يندم على أيام ثانوي ، والذي يتخرج يندم على أيام الجامعة ، والذي يتزوج يندم على أيام قبل الزواج ، وهكذا .
فاليوم الذي يذهب لا يأتي مثله ، مصداق ذلك حديث أنس بن مالك في البخاري مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم [10] .
فانتبه إلى الجدية في التعامل مع الأوقات ، لا تضيع وقتك فيما لا ينفعك غدًا ، كل نفس من أنفاسك محسوب عليك .
الإمام ابن عقيل الحنبلي شيخ ابن الجوزي يقول : أنا لا أحل لنفسي أن تضيع لحظة من عمري ، فأنا إما أكتب ، وإما أقرأ ، وإما أطالع ، وإما أدرس ، وإما أصلي ، وإما أذكر ، أو اتذاكر حتى إذا تعبت فارقد على جنبي وأسرح بخيالي في مسائلي فإذا عمت لي مسألة قمت وكتبتها .
وهذا الإمام أبو حنيفة في سياق الموت وتلاميذه حوله قال : هلم مسألة ، تعالوا نتدارس مسألة. قالوا : وفي مثل هذه الحال . قال : لعله ينجو بها ناج .
ولن تعدم الوسيلة ، تحفظ القرآن ، تقرأ في كتب العلم ، تسمع شريطًا ، تخرج في زيارة لشيخ ، أو زيارة لمكتبة ، أو زيارة لشخص تدعوه إلى الله .
إخوتاه
أخيرًا عليكم بالاقتصاد في الهزل والمزاح .(/11)
فلقد صار الهزل وكثرة الضحك شعار الشباب في هذه الأيام ، وليست المشكلة في الدعابة اليسيرة ، والمزاح القليل الذي لا يخرج عند حدود الأدب ، وإنما في هذا الإفراط والمبالغة حتى أن بعض الشباب يقلب أكثر المواقف جدية إلى هزل وفكاهة ، والذي لا يصنع هكذا يتهم بأنه مصاب بالجمود والانغلاق …الخ
آهٍ … للأسف الشديد ونحن في ذلة وصغار واستضعاف صرنا نعبث ونلهو حتى كأن العصر هو عصر الهزل ، والآن هناك أماكن مخصصة للضحك ، مسرحيات بالساعات للضحك واللهو والعبث ، وكل ذلك بالكذب .
أين الجد في حياتنا يا شباب الإسلام ؟
الذي يحلق ببصره ويطوف شرقًا وغربًا ليرى حال المسلمين لا يمكن أن يكون هذا حاله .
قال أبو الدرداء الصحابي الجليل : أضحكني ثلاث ، وأبكاني ثلاث .
فقال : أبكاني رجل ضاحك ملء فيه وهو لا يدري أرضي الله عنه أم سخط .
وبعد
اسأل الله العلي الكبير أن تكون هذه الرسالة سبيلاً للمؤمنين للرجوع إلى الجادة ، ونفض هذا الغبار الذي لطخهم ، لنتعاون سويًا لنصرة دين الله تعالى .
وما كان من خطأ أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان ، وأعوذ بالله أن أذكركم بالله وأنساه ، فاللهم اجعل كلامنا هذا حجة لنا لا علينا ، واربط على قلوبنا ، وعمّنا برحمتك أنت أرحم الراحمين .
* أصل هذه الرسالة كان محاضرة ألقاها فضيلته.
* تنبيه هام : هذه الطبعة ليست الطبعة النهائية التى خرج بعدها الكتاب إلى عالم المنشورات، ولكنها طبعة قبل الزيادات والتنقيحات !
----------------
[1] أخرجه مسلم (107) ك الإيمان ، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .
[2] أخرجه الترمذي (2516) ك صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله .
[3] السُّرى : سير عامة الليل . وهو مثل يضرب في الرجل يحتمل المشقة من أجل الراحة ، وقيل : إن خالد بن الوليد هو أول من قاله .
[4] متفق عليه . أخرجه البخاري (4418) ك المغازي ، باب حديث كعب بن مالك ، ومسلم (2769) ك التوبة ، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه .
[5] متفق عليه . أخرجه البخاري (52) ك الإيمان ، باب فضل من استبرأ لدينه ، ومسلم (1599) ك المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات .
[6] تقدم تخريجه .
[7] جزء من حديث أخرجه مسلم ( 2664) ك القدر ، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله .
[8] بدائع الفوائد (3/752)
[9] أخرجه البخاري (676) ك الأذان ، باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج .
[10] أخرجه البخاري (7068) ك الفتن ، باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه .
وكتب
محمد بن حسين بن يعقوب
غفر الله له ولأهله وأحفاده والمسلمين أجمعين .(/12)
الجدية
بسم الله الرحمن الرحيم
نماذج الجادّين:
1. سيدنا أبو بكر الصديق....النحيف..ضعيف الجسد..قوي الهمة والإرادة...
كان يقول عن نفسه: (والله ما نمت فحلمت, ولا سهوت فغفلت, وإنني على الطريق ما زغت)...
هذه الكلمات تعبر عن مدى تغلغل مفهوم الجدية في نفس أبي بكر فالعمر قصير والهدف سام...ولا وقت للهزل...فمن جد وجد...
2. يوم معركة القادسية والناس تأتي لسعد بن أبي وقاص وتتبرع بالأموال للإعداد للمعركة....أتته امرأة فقيرة وهي تبكي وتقول له إنها لا تملك شيئاً لكي تعطيه...ولكنها قطعت ضفيرة شعرها حتى يتخذ هذه الضفيرة لجاماً لفرسه....لكي تشارك في نصر المسلمين...أضع هذه المرأة أمام نساء المسلمبن الآن الفارغات اللواتي لا يفعلن شيئاً سوى قضاء أكثر من نصف اليوم أمام الفضائيات و على الهاتف....
3. قبل بدء المعركة....تقدم أحد الغلمان من سعد وطلب منه أن ينضم إلى الجيش فرده سعد قائلاً له إن هذا ألأمر للرجال...
فوجيء سعد بالغلام يقول له..(ومالك أنت يا سعد...الأمر بيني و بين الله..إن الله اشترى وانا بعت...فما دخلك بيني وبين الله)..
فضمه سعد للجيش...وليلة المعركة أتى هذا الغلام سعداً
فقال له: يا سعد لقد رأيت رؤيا عجيبة..رأيت أني أسير في حدائق ليست من حدائق الدنيا..وأرى أنهار ليست كأنهار الدنيا..وأرى نساء ليست كنساء الدنيا..
فقال سعد: الله أكبر..أرى إنها الشهادة...
فقال له الغلام: فهل تريد مني شيئاً يا سعد..
فقال سعد: تعم...إذا التقيت برسول الله...فأبلغه مني السلام...وقل له إن سعد يقول لك جزاك الله عنا خيراً يا رسول الله فلقد وجدنا ما وعدتنا حقاً...
فقال له الغلام: وأنت يا سعد أبلغ هذه الرسالة لأمي..أنني قد وجدت ما وعدني الله حقاً..إني أرى ما بعيني الجنة...
فقال له سعد: ومن هي أمك؟..
فقال له الغلام: صاحبة الضفيرة..
4. أثناء المعركة تقدم من سعد رجل كفيف..وهو عبدالله بن أم مكتوم وكان مؤذناً لرسول الله مع بلال...وانضم إلى الجيش رغم أن الجهاد رفع عنه لأنه كفيف..وطلب أن يمسك باللواء...فرفض سعد بشدة وقال له: كيف..؟ وأنت كفيف..
فقال له عبدالله..يا سعد إن المبصر إذا رأى الفرس فسيهرب..ولكنني لا أرى شيئاً فسأثبت مكاني...
فقال سعد: صدقت...وأعطاه اللواء..وبعد المعركة وجدوه شهيداً و اللواء في يده...
أرءيتم الرجولة...إننا الآن نعرف الرجولة..بتدخين السجائر...بمصاحبة البنات...إلخ...
5. هذه هي قصة غلام صغير آمن برسالة السيد المسيح...في وقت كان أتباع المسيح يقتلون....فأراد الملك أن يقتل هذا الغلام...
فقال له الغلام: إنك لن تقتلني حتى تجمع الناس.. فأمر الملك بعض أتباعه أن يلقوه من أعلى الجبل...فيقول الغلام الدعاء التالي: "اللهم اكفنيهم بما شئت و كيف شئت..إنك على كل شيء قدير.."فيسقطون جميعاً من فوق الجبل ويعود للملك...لأنه لا يريد الهرب..فهو صاحب هدف ورسالة..أن يجعل نفسه فداء..لإيمان الناس...فحاول الملك ثانية بإغراقه في البحر..ولكنه لم يفلح أيضاً...
فيقول له الغلام : إنك لن تقتلني حتى تجمع الناس..ثم تأخذ سهماً من كنانتي وتقول: باسم الله رب الغلام....فنفذ الملك ما قاله له الغلام..واستشهد الغلام..فقالت الناس: آمنا برب الغلام..آمنا برب الغلام.. هذا الغلام...كانت ولادته الحقيقية يوم استشهاده...لأنه كان سبباً في هداية أهل المدينة كلهم...
6. عمر بن عبدالعزيز....كانت أحد أسباب ثباته على الحق..وقوته....هو ابنه عبدالله...الذي توجه إليه يوم توليه الخلافة..وقال له: يا إبت إنك اليوم سوف تسأل يوم القيامة ويسأل معك أهل بيتك..فامش على الحق ولو وضعنا في القدور تغلي بنا..فلا تترك الحق يا أبت..فقال عمر: الحمد لله الذي جعل من أهل بيتي من يذكرني...وكان ابنه عمره 17 عاماً فقط...ولكنه كان جاداً...وأثناء جمع أموال المظالم من بني أمية..أفتى بعض علماء المسلمين أن هذه الأموال وزرها على من سبق...فلا ترد إلى أهلها..ولكن عمر أصر على أن ترد إلى أهلها..وكان الوقت وقت قيلولة...فقال: سأردها بعد العصر..فأتاه عبدالله وقال له: وهل تضمن أن تعيش إلى العصر...!!!هذا الشاب مات وعمره 19 عاماً...بعد أن ثبت أباه..وجعله قوياً صلباً لا يخشى في الله لومة لائم...
7. سيدنا علي بن أبي طالب..الذي حمل الإسلام على كتفيه منذ كان عمره 7 أعوام وحتى استشهاده وعمره 63 عاماً...
8. إبراهيم بن أدهم...كان شاباً فارغاً..كل همه في الدنيا لهوه بالفرس...فذات يوم مر به شيخ عجوز فقال له: يا إبراهيم..ألهذا خلقت...أم بهذا أمرت!!!! فعاد إبراهيم إلى بيته..وأقسم أن يعيش للسبب الذي خلق من أجله..قال تعالى :" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"..وصار إبراهيم بن أدهم...سيد التابعين..(/1)
9. عبدالله بن الزبير بن العوام...وعمره 7 أو 8 سنوات...مر به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب..وكان عمر كلما مر...تفر من أمامه الصبيان لهيبته..ولكن عبدالله لم يفر..فسأله عمر: لم لم تجر كما جرى أقرانك...فقال عبدالله: لم أخطيء لأفر...ولم يكن الطريق ضيقاً لأوسع لك الطريق..
فسأله عمر: لم لا تلعب مع أصحابك...
فقال عبدالله: ألعب معهم هويناً...ولكن لم أخلق لألعب...
قال عمر: فلم خلقت...
فقال عبدالله: لأعز الإسلام...
*****************
هذه نماذج الجدية..برغم قلتها....
أرءيتم....كيف تربت هذه الأجيال على الجدية..بينما الآن أجيالنا تربت وتربى على الميوعة...وسائل الإعلام ترسخ في نفوسهم هذا المبدأ فيهم....كيف تكون مائعاً...كيف تكون تافهاً....
إنني أكاد أجزم أن الفراق الأساسي بين أجيالنا وبين جيل الصحابة هو الجدية....
• كانوا يتلقون القرآن للتنفيذ..بينما نحن نتلقاه للتسلية..أو لا نتلقاه...كان الصحابي يستمع إلى الآية وهي تقول:" يأيها الذين آمنوا.." فيقول نعم يا رب ماذا تأمر....
• لهذا فإنك ترى أن آيات القرآن تقول:" إنه لقول فصل* وما هو بالهزل"...لتؤكد مدى تغلغل الجدية في أوامر القرآن..
• وتقول الآية:" من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد* ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك".....هذه الآية توضح أن من يريد الدنيا وهو جاد في مطلبه فسيأخذها..ومن يريد الآخرة ويعمل لها فسيأخذها...بينما الغير جادين...بين بين...من يمسكون العصا من المنتصف....فهؤلاء لا يستحقوا أن يذكروا أساساً....من يقول : أنا سالتزم بعد سنة..أنا هالبس الحجاب لما أتجوز....هؤلاء مائعين ...غير جادين....
• لهذا فإن بداية الرسالة ونزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم..كانت بداية غاية في الجدية....فكان جبريل يضم الرسول الله ضماً شديداً ثم يطلقه...حتى يعرف الرسول أنه مقبل على أمر جلل....
• وتأتي الآية وتقول: "فإذا فرغت فانصب"....لتؤكد مدى جدية الموضوع...ويقول رسول الله إلى السيدة خديجة :"مضى زمن النوم يا خديجة"...
• وذات مرة أتى رجل يدعى بشر إلى رسول الله فقال له: امدد يدك أبايعك يا رسول الله...فمد الرسول يده..فقال ولكني لا استطيع الصدقة ولا الجهاد....فضم الرسول يده وعبس..وقال: إذا لا صدقة ولا جهاد..فعلام تبايع..
• ذات مرة قدم وفد إلى رسول الله ليبايعونه..وكان معهم شاب...فرأى فتاة في المدينة فجذبها من ثيابها...وفي الصباح عندما قدموا على رسول الله..وهو يمد يده ليبايعهم فرداً فرداً...وعندما أتى الدور على الشاب..قبض الرسول يده وقال: ألست أنت صاحب الجبيذة بالأمس..فقال: نعم يا رسول..فقال الرسول: إذا والله لا أبايعك أبداً..وأدار وجهه... فصرخ الشاب..لا يا رسول الله...لن أعود لها أبداً...فقال الرسول: نعم ..إذا أبايعك....
يا ترى ماذا يقول رسول الله إذا رأى ما يحدث الآن بين شباب المسلمين وبين فتيات المسلمين..!!!!!!!!!!
كيف يقابل رجال الإعلام...والمسؤلين عن الميوعة في وسائل الإعلام...رسول الله يوم القيامة..وهم السبب في إفساد الشباب...؟!!
• يوم بدر..أتى إلى رسول الله غلامين هما سمرة بن جندب..ورافع بن خديج...ويطلبان أن ينضما إلى جيش المسلمين..ولكن رسول الله يردهما لصغر سنهما...فيقول سمرة: يا رسول الله إنني أرمي بالسهام فلا تطيش رميتي..فيرمي أمام رسول الله فيصيب الهدف..فيضمه رسول الله..فيقول رافع: يا رسول الله إنني أصارع سمرة فأغلبه..فيصارعه أمام رسول الله فيصرعه...فيضمه للجيش...
• معاذ ومعوذ وعمرهما 13 و 14 سنة يوم بدر...قتلا أبي جهل رأس الكفر...وكانا يربطان السيوف على أيديهما لصغر سنهما...
إنه لفرق كبير بين من يعيش ليتعرف على فتاة وبين من يعيش ليدخل الجنة...
• والجدية في العبادة....فعندما نزلت آيات تحريم الخمر....استيقظ أهل المدينة في الصباح فوجدوا أزقتها موحلة من كثرة ما أريق من الخمر بعد نزل الآيات...بينما نجد الآن من يشكك في تحريم الخمر...
• وفي آيات الحجاب نجد الشيء نفسه....كان التلقي للتنفيذ..وليس للتسالي...الآن نجد من يشكك في الحجاب...!!!
ابن النفيس:
هذا العالم المسلم..هو نموذج للعالم الجاد...فلقد اكتشف الدورة الدموية الصغرى..وكيف أن الدم ينقى عن طريق الرئتين..واكتشف حركة صمامات القلب..وتشريح القلب...وكان اكتشافه هذا فتحاً كبيراً في الطب..واستعان به من جاؤا بعده في فهم وظيفة القلب واكتشاف الدورة الدموية الكبرى....
هذا العالم كان السبب في نجاحه ونبوغه هو حديث لرسول الله سمعه وهو صغير..هذا الحديث يقول:" ما خلق الله داء إلا جعل له دواء" فوجد الناس تتشكك في هذا الحديث..بزعم أنه توجد أمراض ليس لها علاج..فأصر على أن يثبت صحة هذا الحديث...وعمل من أجل ذلك...(/2)
كان ابن النفيس في عمله مثالاً للجدية..فكان يبري الكثير من الأقلام عندما يبدأ في كتابة مؤلفاته حتى لا يقاطعه أحد وحتى يركز في عمله...هذا العالم ألف أكثر من 80 مجلداً وعمره 35 عاماً...من مؤلفاته كتاب الشامل في الطب..
هذا العالم عندما يأتي يوم القيامة ويقابل رسول الله...ويقول له..لقد أثبت صحة حديثك يا رسول لله.... وأنا أقول إن هذا الحديث لا ينطبق على الطب فحسب..بل ينطبق على أمور كثيرة...مثل مشاكل المسلمين ومشاكلنا الإجتماعية...
والآن..وبعد هذا الإستعراض الطويل..لتوضيح أن الإسلام هو دين جاد... وعرضت لكم الكثير من النماذج للجادين....
ننتقل إلى الآن إلى حال الأمة وكيف وصلنا....
**************************
سأحكي لكم كيف صارت الميوعة وعدم الجدية مسيطرة علينا..وسأركز في حديثي على الإعلام..لأن الإعلام هو وسيلة خطيرة لبناء أو هدم القيم و الأخلاق....
وأقولها..أنه لا نجاح لصناع الحياة..بدون التخلص من قيد عدم الجدية...
وأعرض عليكم الآن مظاهر عدم الجدية في وسائل الإعلام:
• الفيديو كليب..صار من المعتاد استخدام جسد المرأة والمثيرات للغرائز في الأغاني...
• الصحف والمجلات..أكثر من 70 % من أخبارها..تركز على أخبار الفنانين والفنانات..وخصوصياتهم والشائعات المثارة حولهم...
• البرامج الهادمة التي تجذب الشباب والفتيات لمشاهدة..الشباب وهو يتبارى في إبراز مواهبهم من الرقص والغناء...
• انتشار الرسائل التي تتحرك على شاشات الفضائيات...بين شباب وبنات يقولون لبعضهم البعض..بحبك يا فلان..بحبك يا فلانة...وكل الناس ترى هذا الكلام....والرابح في النهاية هي الشركات والقنوات التي تجمع الأموال بهذه الطريقة الرخيصة...التي تزيد من الميوعة بين الشباب...
• كلمات الأغاني: كلها تركز على لوعة الحب..والفراق...والشجن.. و عدم القدرة على الفراق....منذ عشرات السنين ونفس الكلمات...
• البرامج التي تشجع على التلصص...والتجسس على الآخرين...
لمصلحة من تتم هذه الأمور...هل نحن في هذه المرحلة...وبهذه التفاهة والسطحية...قادرين على النهوض...
أنا لا أتحدث اليوم عن الحلال والحرام...ولكني اتحدث عن نهضة الأمة...
أنا أتحدث عن بلاد تنهار..وأمم تسقط..ونجد أن الميوعة تزداد بين الشباب..
وصارت القدوة بين الشباب هو الشخص الذي يصاحب البنات...وبقص شعره بطريقة كذا....ويلبس بطريقة كذا...ونفس الشيء للبنات....
• سأحكي لكم قصة شاب يعمل في إحدى دور النشر...بقسم التطوير..ففوجيء بمجلة تصدر عن الشركة فوجد أن الهدف منها بالضبط....الهيافة...فلم يصدق حتى سأل رئيس مجلس الإدارة...
• إحدى الفنانات الشابات..سألوها في برنامج لماذا تعري جسدها في الفيديو كليب...فقالت بكل بساطة...حتى يراني الشباب!!!!
• فنان شاب آخر..سألوه عن قصة شعره الجدية..فقال إنها مجرد حركات...!!!!!!
• تذكرت وأنا أشاهد كل هذه المظاهر المؤلمة على شاشات الفضائيات....حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :" توشك أنتتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها..فقال الصحابة..أمن قلة يا رسول الله...فقال: لا... أنتم يومئذ كثير..ولكن غثاء كغثاء السيل..."
*********************
ما هو مفتاح قيام..وسقوط الحضارات...؟؟
كيف قامت حضارة الفرس والرومان....
كيف قامت حضارة الإسلام...
كيف قامت الشيوعية....
وكيف سقطت....
شيء واحد فقط....
هو وجود فكرة قوية...تدخل قلوب الناس...تملأ مشاعرهم..تحرك فيهم طاقة كبيرة...تجعلهم يفعلون الإعاجيب...فتقوم الحضارة...
كل شيء في الدنيا يبدأ بفكرة...
الشيوعية قامت على مبدأ توزيع الثروات بين الشعب...
أوروبا قامت على فكرة الحرية...
كل الإختراعات بدأت بفكرة....
أي عمل فني يبدأ بفكرة...
الإسلام.............بدأ بفكرة عظيمة.. وهي إننا عايزين نرضي ربنا وندخل الجنة..وننجح في الدنيا...
الخلاصة....
إن الحضارات تقوم بالفكرة..فإذا ما سقطت الفكرة...سقطت الحضارة...ولكن ما هي العلاقة بين الميوعة والفكرة....؟؟
إن ما تبثه وسائل الإعلام من برامج مائعة تنشر التفاهة وعدم الجدية بين الشعوب....هو أكبر قاتل للأفكار.....
هذه هي خطورة قتل الأفكار....
فنحن نملك أعظم فكرة في الوجود....وهي مجربة ...ونجحت من قبل...ولكن ينقص أن تدخل إلى قلوب الناس...حتى يتفاعلوا معها..فيحدث النجاح... الخطورة في البرامج التي تثير الغرائز..وتعرض أشياء غير هادفة ومدمرة للقيم والأخلاق..ليست مسئلة الحلال والحرام فقط..ولكنها تؤدي إلى منع النهضة بين المسلمين...
لأنك كلما حاولت أن تركز في النهضة...وجدت أن هذه البرامج ولوسائل تجذبك لأسفل...
نظرية:
يقول بعض العلماء..أنه توجد 3 عوالم:
1. عالم الأشياء: مثل الساعة التي ألبسها...والقميص...و السيارة...إلخ..
2. عالم الأشخاص: من أبوك..من أمك..ما هي قدوتك...من الأشخاص المؤثرين في حياتك..(/3)
3. عالم الأفكار: ما هي الفكرة الكبيرة في عقلك..؟ عندما يولد الطفل...كل ما يهمه هو عالم الأشياء...من حوله...
ثم يكبر شيئاً فشيئاً فيصير مهتماً بعالم الأشخاص..فيبدأ في التعرف على من حوله.....باب وماما...
ثم يكبر..فيبدأ في التأثر بأفكار من حوله..
مشكلة الميوعة إنها تجعل المسلمين تدور في عالم الأشياء فقط!!!!!
فيكونوا في مرحلة الأطفال...وعدم النضج....!!!!!
ذات مرة ....كنت في زيارة لإحدى المدراس فقابلت طفلاً ....فسألته ماذا تأخذ في المدرسة؟...
فقال لي: بسكويت...
فقلت له لا.. أقصد ماذا تتعلم..؟؟
فهكذا إذا..تبعاً لتربية الطفل عبر بغريزته عن عالم الأشياء وليس الأفكار..
هذه هي خطورة الفيديو كليب...والإعلام السيء....
قرأت ذات مرة دراسة تقول....إن الطفل المصري هو أذكى طفل في العالم حتى سن 6 سنوات....إنها ليست مسألة مضحكة بقدر ما هي مسألة تسير التساؤل..ما هو الشيء الذي سيدخل بعد 6 سنوات....
إن مسألة الميوعة وعدم الجدية وقتل الأفكار لهو...شيء غاية في الخطورة...وبالتالي فلا يوجد أمل...
لهذا نوجه نداء....
للمسؤلين عن الإعلام في الوطن العربي...إلى المخرجين..إلى المنتجين..إلى كتاب السيناريو...إلى كتاب الأغاني....
نرجوكن أن لا تقتلوا الأفكار.......لأننا نريد أن نهض ببلادنا...بتحبوا بلادنا..بتحبوا الإسلام....نرجوكم أن لا تضيعونا....
لا تجعلوا أرزاقكم...من قتل الأفكار بين الشباب..لا تفرحوا بالأموال التي تكسبونها من نشر الميوعة بين الشباب...
فالحساب شديد يوم القيامة....
قال تعالى:" وقفوهم إنهم مسئولون".." وليحملن أوزارهم ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم"....
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" هناك تساؤل طرأ على ذهني....
هل ما يحدث في وسائل الإعلام الآن...هل هو صدفة...أم خطة....
أنا لا أدري ولكن...
قال تعالى:"إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون"
**********************
تبقى نقطة أود أن أؤكد عليها...
وهي أن الجدية ليس معناها...أن نظل عابسين ومكشرين طيلة الوقت....
ولكن لا...فأنا أخرج وأروح عن نفسي...ولكن يبقى شيء هام وهو أن هناك فكرة هامة في عقلي...أعيش من أجلها..وأثابر عليها..فيجب أن نوازن....
ونموذجي على هذا هو مجموعة من الشباب اللبناني...كانوا في يوم من الأيام غير جادين... ولكنهم أصبحوا من الجادين وأسسوا جمعية تسمى هدير مكونة من 20 شاب وفتاة وحافظوا على الضوابط الأخلاقية بينهم كأولاد وبنات...وقاموا بعمل أعمال إعلانية...هادفة ليثبتوا أنهم وهم صغار في السن في العشرينات من العمر...قادرين على النجاح.....
من أنشطتهم:
• أغاني خصيصأ للأطفال أذيعت على معظم الفضائيات في شهر رمضان الماضي..
• عمل موقع على الإنترنت ليقربوا الشباب إلى الله...
• عمل كتاب عن المساجد في لبنان...لبظهروا الوجه المشرق للبنان..
• عمل إمساكية لشهر رمضان ووزعت على طلبة الجامعات...
• عمل دورات في كرة السلة بين المساجد...
واختم بتساؤل...هل كانت الأمم تنهض وبها مثل هذه الأفكار الهدامة...
هل كان إعلام اليابان والصين وألمانيا عند نهضتها يعرض هذه الأشياء...
لا.....
إذا هل يمكننا التغيير.....؟؟
مشروع الأسبوع:
الوسيلة الوحيدة أو الأساسية التي استخدمت من قبل وسائل الإعلام لنشر الميوعة هو جسد المرأة.....وأنوثة المرأة...ودلع المرأة..لإثارة الغرائز...
لهذا مشروعنا هذا الأسبوع يسمى...مشروع احترام المرأة...
لن نقبل أن تهان المرأة أبداً في كرامتها...
لا ترى أي لقطة في فضائية..أو في مجلة..أو في إعلان..أو في منتج...يستخدم فيه جسد المرأة... إلا وعلينا أن نبعث بعشرات ومئات الخطابات بمنتهى الأدب...نحن سنقاطع هذا المنتج....
لآن هذه المرأة..هي أمي وأختي....وابنتي...واحترام المرأة هو قيمة إنسانية...
لأن استخدام جسد المرأة في الترويج عن السلع هو إهانة لجميع السيدات....
وترسل لأصحاب المنتج....
برسالة مهذبة....توضح فيها وجهة نظرك من هذا الاستخدام السيء للمرأة...ورفضك لهذا الأمر الذي يسيء إليك...وإلى جميع السيدات..
لو حدث وأرسلت آلاف الخطابات....
فسيحدث تغيير بدون شك....
موقع الاستاذ/عمروخالد ...(/4)
الجذع يحن إليه !!
د. لطف الله خوجه
< محبة مفترضة:
من حقوق النبي -صلى الله عليه وسلم- محبته، وقد ورد الأمر بها في القرآن. قال الله ـ تعالى ـ: {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
وموضع الشاهد: ما في الآية من الوعيد، لمن كانت محبته لشيء، أكثر من محبته لله ـ تعالى ـ ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، في كلمتين هما:
أولاً: قوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} والتربص هنا للعقوبة، ولا تكون العقوبة إلا لترك واجب.
ثانياً: قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} فقد وصفهم بالفسق؛ وذلك لا يكون إلا بفعل كبيرة فما فوقها، من كفر وشرك، لا في صغيرة.
فمن قدّم شيئاً من المحبوبات على محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو فاسق، متربص ببلية تنزل عليه.
وقد اقترنت محبته -صلى الله عليه وسلم- بمحبة الله تعالى؛ وذلك يفيد التعظيم، كاقتران طاعته بطاعة الله تعالى.
وثمة نصوص نبوية صريحة، في وجوب تقديم محبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ على كل المحبوبات الدنيوية:
3 النص الأول:
كان النبي آخذاً بيد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال له عمر:
- «يا رسول الله! لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي.
- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا، والذي نفسي بيده! حتى أكون أحب إليك من نفسك.
- فقال له عمر: فإنه الآن والله! لأنت أحب إليَّ من نفسي.
- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الآن يا عمر!». [البخاري، الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي].
النفي المؤكد بالقسم يدل على وجوب تقديم محبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ على النفس.
فأَمْرُه بتأخير محبة النفس، وتقديم هذه المحبة النبوية عليها ـ مع كون محبة النفس جِبِلَّة في الإنسان، يقدمها على كل شيء، ولا يُلامُ على ذلك في أصل الأمر، إلا إذا تجاوز بها إلى محظور ـ دليل وجوب، لا استحباب.
إذ لا يؤمَر الإنسان بترك فِطرة فُطِرَ عليها، وليست مذمومة في أصلها، إلا إذا قادته إلى محظور. وتقديم محبة النفس على محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، تقود إلى فعل المحظورات، كما هو مجرّب، فلذا وجب التقديم.
أمر ثانٍ: النفس هالكة لولا فضل الله ـ تعالى ـ على الناس بهذا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو سبب نجاتها، فمحبته أحق بالتقديم.
3 النص الثاني:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» [البخاري، الإيمان].
هذا نص في وجوب أن يكون ـ عليه الصلاة والسلام ـ أحب إلى المرء من كل شيء دنيوي، وذلك لأمور:
- كونه نفى حصول الإيمان إلا بكونه أحب شيء، والإيمان واجب، وما تعلق به فهو واجب.
- ثم إن الخطاب جاء في حق الأعيان في قوله: «أحدكم»، فكل مؤمن مخاطب بهذه المحبة.
- ثم إنه أتى بصيغة التفضيل: «أحب»، وهو صريح في تقديم محبته مطلقاً على كل شيء دنيوي.
وهذه المحبة الواجبة من فرّط فيها فهو آثم مذنب، ومن قدّم عليه محبة: الآباء، أو الأبناء، أو الإخوان، أو الأزواج، أو شيء من متاع الدنيا، فهو آثم فاسق، مستحق للعقوبة، فقوله: «لا يؤمن أحدكم...» نفي للإيمان الواجب، بمعنى أن من فعل ذلك فقد نقص إيمانه نقصاً يستحق به الإثم والعقوبة.
فالشارع لا ينفي واجباً، ثبت وجوبه، إلا لترك واجب فيه.
والإيمان واجب، ولا ينفي بقوله: «لا يؤمن.. .» إلا لترك واجب فيه، كالصلاة لا تنفى إلا لترك واجب فيها، كقوله: «لا صلاة لمن لا وضوء له» [أخرجه أحمد].
والإثم والعقوبة متفاوت بحسب نوع التقديم:
فتارة يكون كفراً، وذلك في حالين:
- الأول: إذا كان التقديم مطلقاً، فلا يتعارض شيء مع محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا قدّم ذلك الشيء، وهكذا في كل شيء، فهذا يعبد هواه، ولا يعبد الله ـ تعالى ـ في شيء.
- الثاني: إذا كان التقديم في بعض الأحوال، لكن في أمور كفرية، ينقض بها أصل دينه، فيقدم محبة الأمور الكفرية على محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كمن نصر الكافرين على المسلمين.
- وتارة يكون كبيرة، وذلك إذا قدّم محبة الكبائر على محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فشرِبَ الخمر وزنى، ولم يطع النبي -صلى الله عليه وسلم- في نهيه عنها، فهذا قدّم محبة هذه الكبائر.
- وتارة صغيرة، وذلك إذا فعل الصغائر، فقدم حبها على حبه النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وطاعتَه.
< عبودية لا إلهية:(/1)
وليس فوق محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا محبة الله تعالى؛ فإن محبة الله ـ تعالى ـ هي أعلى المحبوبات وأوجبها على الإطلاق، ولا يجوز أن يساوى بينه ـ تعالى ـ وبين غيره في المحبة، حتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن محبته وإن كانت عظيمة مقدمة على المحبوبات الدنيوية، لكنها تبقى في مرتبة البشرية، لا تبلغ مرتبة الألوهية؛ فلله ـ تعالى ـ محبة تخصه تسمى: محبة التألُّه، والخلة. ويقال كذلك: المحبة الذاتية. فلا يجب محبة شيء لذاته إلا الله تعالى.
ومن هنا يُفهَم خطأ من بالغ في محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى جعله كمحبة الله تعالى، فنسب إليه خصائص الخالق سبحانه، من:
- علم الغيب.
- وتدبير الخلق.
- ونسبة إجابة الدعوات إليه.
- ودعائه والاستغاثة به من دون الله ـ تعالى ـ في قضاء الحوائج، وتفريج الكربات.
- وسؤاله شيئاً لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
فإن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن اقترنت بمحبة الله ـ تعالى ـ إلا أنها كاقتران طاعته بطاعته. أما المحبة الإلهية فشيء وراء المحبة البشرية، وما أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ليعلّق القلوب بالله تعالى، ويخلص الناس محبتهم لله ـ تعالى ـ فلا يشركون فيها معه غيره، وهذه هي العبودية، التي قال ـ تعالى ـ فيها:
ـ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، أي: ليخلصوا المحبة والخضوع والطاعة لله تعالى.
وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا المسلك غاية التحذير، وحرص على منع كل ذريعة تفضي إلى مساواته بالله ـ تعالى ـ في المحبة، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
- «لا تُطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم؛ فإنما أنا عبده، فقولوا: عبدُ الله ورسوله».
ومعنى الأثر: لا تبالغوا في مدحي، وتغلوا فيّ كغلوِّ النصارى في عيسى عليه السلام.
فإن النصارى زعموا فيه أنه إله، وأنه ابن الله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إن يَقُولُونَ إلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 5]، فقد خشي النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا المسلك، فنهى عن المبالغة في مدحه.
وقد وقع ما نهى عنه -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث غلا فيه أناس حتى جعلوه في مرتبة الألوهية والربوبية:
- فنسبوا إليه ما لا يليق إلا بالخالق، وصنعوا به كما صنع النصارى بالمسيح، غير أنهم لم يقولوا: هو ابن الله، لكنهم نسبوا إليه: التصريف، وعلم الغيب، وإجابة الدعاء، وهذا إنزال له في مرتبة الألوهية، وإن لم يقولوا: إنه الله؛ فإن العبرة بالمعاني والحقائق.
- كما أنهم ابتدعوا له عيداً، يحتفلون فيه بمولده -صلى الله عليه وسلم-، كابتداع النصارى عيد الميلاد للسيد المسيح عليه السلام، ولم يفعله ولم يأمر به عليه السلام، كما لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يأمر في حق نفسه الشريفة.
لقد اتبع طائفة من المسلمين سنن اليهود والنصارى حذو القُذة بالقُذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه، كما أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-.
نعم! النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق، وسيد ولد آدم، وخليل الله تعالى، وأعلى الناس منزلة يوم القيامة، وفي الجنة، وهو إمام الأنبياء والمرسلين، لا يبلغ مقامه نبي مرسل، ولا مَلَك مقرَّب، غير أنه تحت سقف العبودية، دون مرتبة الألوهية، وقولُه:
- «إنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله».
تقريرٌ لهذه الحقيقة، ولجم وإبطال لدعاوى فريقين:
الأول: الغالي، الذي رفعه عن مرتبة العبودية، وذلك بقوله: «فقولوا: عبد الله».
والثاني: الجافي، الذي عامله كسائر الناس، فلم يميزه بالمرتبة العالية، وذلك بقوله: «ورسوله».
قال الله ـ تعالى ـ:
- {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إنْ أَنَا إلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].
وتقديم محبته -صلى الله عليه وسلم- على كل شيء له أربعة أسباب: الاثنان الأولان منها على سبيل الوجوب، والآخران على سبيل الاستحباب:
الأول: أمر الله ـ تعالى ـ به، حيث تقدمت الأدلة الدالة على هذا، وهذا السبب وحده يكفي في الوجوب.
الثاني: منّته -صلى الله عليه وسلم- على أمته؛ إذ هداهم الله به، ودلهم على طريق السعادة والنجاة من شقاء الدنيا والآخرة.
الثالث: كماله الخُلقي: كرماً، وشجاعة، وإحساناً، ومروءة، وصدقاً، وعدلاً، وأمانة، وحلماً، ورحمة، وعفواً وصفحاً. بالإضافة إلى العلم والفقه والبصيرة، وأية واحدة من هذه السجايا توجب محبة من تحلى بها؛ فكيف بمن اجتمعت فيه على أكمل وجه. قال ـ تعالى ـ: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].(/2)
الرابع: كماله الخَلْقي: فقد كان جميلاً، منيراً كالقمر، طيب الرائحة، عرقه كالمسك، معتدل القوام، حسن الشعر، جميل العين، أبيض البشرة؛ فله أوصاف الجمال؛ فمن رآه أحبه -صلى الله عليه وسلم-.
- الشوق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وعلامات المحبة -صلى الله عليه وسلم- متعددة، هي: الإيمان به، وتوقيره، ونصرته، وطاعته.
ثم إن منها كذلك: الشوق والأُنْس عند ذكره، وتمني رؤيته، والجلوس إليه، ولو كان ذلك لا يحصل إلا بإنفاق كل المال، وما عرف عن الصادقين من المؤمنين إلا مثل هذا الشعور الصادق، وهذه آثارهم:
1 ـ سأل رجل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: «متى الساعة؟
قال: «وما أعددتَ لها؟»
قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله.
فقال: «أنت مع من أحببتَ».
قال أنس: فما فرحنا بشيء فَرَحَنا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنت مع من أحببت».
- قال أنس: «فأنا أحب النبيَّ وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل أعمالهم» [البخاري، الأدب، باب: علامة الحب في الله دون قول أنس].
2 ـ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفس محمد بيده! ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني. ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم» [أخرجه مسلم في الفضائل، باب: فضل النظر إليه -صلى الله عليه وسلم-، وتمنيه، 4/1836].
3 ـ وجاء أن امرأة قُتِلَ أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت:
- «ما فعل رسول الله؟
- قالوا: خيراً، هو بحمد الله كما تحبين.
- فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل» [الروض الأُنُف للسهيلي: 6/25، الشفا: 2/22].
4 ـ ولما احتُضر بلال ـ رضي الله عنه ـ قالت امرأته: «واحزناه!
- فقال: واطرباه! غداً نلقى الأحبة .. محمداً وحزبه». [سير أعلام النبلاء: 1/359، الشفا: 2/23].
5 ـ ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنّة ـ رضي الله عنه ـ من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان ـ ولم يكن قد أسلم بعدُ ـ:
- «أنشدك الله! أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك يُضرَب عنقه، وأنك في أهلك؟».
- فقال: «واللهِ ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة، وإني جالس في أهلي».
- فقال أبو سفيان: «ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً». [السيرة النبوية الصحيحة للعمري: 2/400، سيرة ابن هشام: 3/160، الروض الأنف: 6/166، الشفا: 2/23].
6 ـ وكان خالد بن معدان لا يأوي إلى فراشه إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله وإلى أصحابه، ويسميهم ويقول: «هم أصلي وفصلي، وإليهم يحنّ قلبي، طال شوقي إليهم، فعجِّل ربِّ قبضي إليك»، حتى يغلبه النوم. [سير أعلام النبلاء: 4/539، الحلية: 5/210، الشفا: 2/21].
7 ـ وقد كانت الجمادات فضلاً عن المؤمنين تشتاق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحبه وكذا البهائم:
- فقد كان ـ عليه السلام ـ يخطب إلى جذع نخلة، فلما صُنِع له المنبر، تحوَّل إليه، فحنّ الجذع، وسمع الناس له صوتاً كصوت العشار، حتى تصدع وانشق، حتى جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضع يده عليه فسكت، وكثر بكاء الناس لما رأوا به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن هذا بكى لِمَا فقد من الذكر، والذي نفسي بيده! لو لم ألتزمه، لم يزل هكذا إلى يوم القيامة»، فأمر به فدُفن تحت المنبر.
- وكان الحسن البصري ـ رحمه الله ـ إذا حدَّث بهذا بكى، وقال: «يا عباد الله! الخشبة تحنّ إلى رسول الله شوقاً إليه بمكانه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه». [بتصرف، وأصله مروي في صحيح البخاري، في المناقب، باب: علامات النبوة قبل الإسلام، 3/1314، انظر: الشفا: 1/304، صحيح الجامع: 2256].
8 ـ وقد كان الطعام يسبِّح في يده، والشجر والجبل والحجر يسلم عليه. [الشفا :1/306، وأثر التسبيح عند البخاري، في المناقب، باب: علامات النبوة قبل الإسلام، 3/1312، وأثر تسليم الحجر في مسلم، الفضائل، باب: فضل نسب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، 4/1782].
9 ـ لما قدم عمر ـ رضي الله عنه ـ الشام، سأله المسلمون أن يسأل بلالاً ـ رضي الله عنه ـ يؤذِّن لهم، فسأله، فأذّن يوماً، فلم يُرَ يوم كان أكثر باكياً من يومئذ، ذكراً منهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-. [سير أعلام النبلاء: 1/357]
10 ـ عن أُبَيِّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان رسول الله إذا ذهب ربع الليل قام، فقال: أيها الناس! اذكروا الله! اذكروا الله! جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه.
- فقلت: يا رسول الله! إني أُكْثِرُ الصلاةَ عليك؛ فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت.
- قلت: الربع؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير.
- قلت: النصف؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير.
- قلت: الثلثين؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير.(/3)
- قال: أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذاً تُكْفَى همَّك، ويغفر لك ذنبك». [أخرجه الترمذي: صفة القيامة، وأحمد: 5/136]؛ لأن من صلَّى على النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الله عليه بها عشراً، ومن صلى الله عليه كفاه همه وغفر ذنبه. [انظر: جلاء الأفهام: لابن القيم ص 46].
كثير من الصالحين يرون النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، بعضهم كان يراه في كل ليلة، فإذا ما لم يره في ليلة اتهم نفسه بالنفاق، ورؤيته في المنام -صلى الله عليه وسلم- دليل على تعلق القلب به، واشتغال اللسان بالصلاة عليه، والعين بالنظر في سنته، والأذن في سماع حديثه.
أما أولئك الذين:
لا يصلُّون عليه حتى إذا ذُكر.
ولا يسمعون لحديثه ولو تُلي.
ولا ينظرون في سنته، ولو مرّ بهم كتاب حديث.
فإنه لن يكون له في قلوبهم: ذكر، ولا شوق.
فأنَّى لهم أن يروه في المنام، ولو لمرة؟ فهل لهم أن يتهموا أنفسهم بالنفاق!
____________
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى ـ السعودية.(/4)
الجرأة على الفتيا
مقدمة:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد...
أيها الأخوة الكرام إن من الأمراض الفتاكة التي بدأ بدن الأمة الإسلامية يتآكل منها مرض الجرأة على الفُتيا في دين الله عز وجل لكل من هب ودب، فتساهل الناس في أمر دينهم، وانتهكوا حرمات الشريعة، وناولوا من قدسية دينهم أعظم النيل فلم يعد للقرآن والسنة مهابة في قلوب أولئك القوم فكان ما ترى من سهولة التلفظ بكلمة حرام وحلال، ويجوز ولا يجوز، وكفى بهذا المرض تبديلاً لأحكام الله وتغييراً لشرائعه، ونزعاً لمهابة الوعظ القرآني، والزجر النبوي من صدور قوم ابتلوا بمثل هذا المرض...
ونسأل الله العافية لنا وللمسلمين جميعاً من القول على الله بغير علم. ومن هذا المنطلق قدمنا هذا البحث حتى نضع الأمور في نصابها، وتستقر الهيبة من القرآن والسنة في قلوبنا، وتعود إلينا مروءتنا بعد أن ضاعت بالجرأة على الفُتيا في دين الله. نسأل الله أن يجعل ذلك في ميزان حسناتنا، وأن يغفر به زلاتنا، والله الهادي إلى سواء السبيل.
أولاً: الزاجر القرآني في الجرأة على الفتيا:
يقول تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} (النحل:116). يقول القرطبي: أي لما تصف ألسنتكم من الكذب وقرئ الكُذُبُ بضم الكاف والذال والباء نعتا للألسنة (( أي وصفاً ))، وقرأ الحسن( يقصد البصري ) الكذب بفتح الكاف وخفض الذال والباء نعتا لما، والتقدير ( ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب )، وقيل على البدل من ما أي: ولا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب. ج: 10 ص: 196 .
والآية خطاب للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام، وإن كان ميتة. فقوله هذا حلال إشارة إلى ميتة بطون الأنعام، وكل ما أحلوه. وقوله: ((وهذا حرام)) إشارة إلى البحائر والسوائب، وكل ما حرموه، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل أي ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عن قريب. تفسير القرطبي ج: 10 ص: 196.
قال ابن القاسم: هو نعت الألسنة، وهو جمع كذوب.قال المفسرون: والمعنى أن تحليلكم وتحريمكم ليس له معنى إلا الكذب، والإشارة بقوله هذا حلال وهذا حرام إلى ما كانوا يحلون ويحرمون لتفتروا على الله الكذب، وذلك أنهم كانوا ينسبون ذلك التحليل والتحريم إلى الله تعالى ويقولون هو أمرنا بهذا. زاد المسير ج: 4 ص: 502.
وقال صاحب فتح القدير: قرأ الحسن بفتح الكاف وكسر الذال والباء نعتا لما، وقيل على البدل من ما، أي ولا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام، واللام في لتفتروا على الله الكذب هي لام العاقبة لا لام العرض، أي فيتعقب ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه. ثم يستطرد قائلاً: وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل: (( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام.......إلى آخر الآية)) فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا.
قلت: صدق رحمه الله فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وآله سلم، كما يقع كثيراً من المؤثرين للرأي المقدمين له على الرواية، أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنة كالمقلدة، وإنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من جهالاتهم، فإنهم أفتوا بغير علم من الله، ولا هدى ولا كتاب منير فضلوا وأضلوا هم ومن يستفتيهم،كما قال القائل: كبهيمة عمياء قاد زمامها أعمى على عوج الطريق الجائر .فتح القدير ج: 3ص:201 . يقول تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء:36). قال ابن منظور: قال الفراء:أكثر القراء يجعلونها من قفوت كما تقول لا تدع من دعوت قال: وقرأ بعضهم ولا تقف مثل:ولا تقل. وقال الأخفش: في قوله تعالى: ((ولا تقف ما ليس لك به علم)) أي لا تتبع ما لا تعلم، وقيل: ولا تقل سمعت ولم تسمع ولا رأيت ولم تر ولا علمت ولم تعلم ((إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا))... لسان العرب ج: 15 ص: 194.(/1)
يقول الزرقاني: الناظر في تاريخ الصحابة يروعه ما يعرفه عنهم في تثبتهم أكثر مما يروعه عنهم في حفظهم لأن التثبت فضيلة ترجع إلى الأمانة الكاملة والعقل الناضج من ناحية، ثم هو في الصحابة بلغ القمة من ناحية أخرى، إذ كان تثبتا بالغا وحذرا دقيقا وحيطة نادرة وتحريا عميقا لكتاب الله تعالى وهدى رسوله في كل ما يتصل بهما عن قرب أو بعد. مناهل العرفان ج: 1 ص: 219 . وكذلك نهى الله عن اتباع ما لا دليل عليه إلا أن تسمع الأذن أو ترى العين أو يعتقد القلب عن برهان، فقال عز من قائل:{ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا }وقد عاب القرآن على من يأخذون بالظن فيما لا يكفي فيه الظن، فقال الله جل شأنه{ إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا }... مناهل العرفان ج: 1 ص: 220
وقال السيوطي: أخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " عسى رجل أن يقول إن الله أمر بكذا، ونهى عن كذا، فيقول الله عز وجل له: كذبت. ويقول إن الله حرم كذا، وأحل كذا، فيقول الله عز وجل له:كذبت".... الدر المنثور ج: 5 ص: 175. وعن الأعمش قال: ما سمعت إبراهيم ( النخعي ) قط يقول: حلال ولا حرام ولكن يقول كانوا يكرهون وكانوا يستحبون... تفسير القرطبي ج: 10 ص: 196.
وقال ابن وهب: قال مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا.. ومعنى هذا أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل، وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان إلا أن يكون البارئ تعالى يخبر بذلك عنه، وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول: إني أكره كذا وكذلك، وكان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى... تفسير القرطبي ج: 10 ص: 196.
ثانياً: الزواجر النبوية في الجرأة على الفُتيا:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ)). البخاري ومسلم. وكل أهل السنن تقريباً. ومعلوم إن هذا الحديث من الأحاديث المتواترة، قال النووي: ولا يعرف حديث اجتمع على روايته العشرة إلا هذا، ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابياً إلا هذا, وقال بعضهم: رواه مائتان من الصحابة ثم لم يزل في ازدياد وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في صحيحيهما من حديث علي والزبير وأنس وأبي هريرة وغيرهم. والله أعلم. شرح مسلم.
وقال ابن حجر: "قوله: (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) أي فليتخذ لنفسه منزلاً, يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه سكناً, وهو أمر بمعنى التهديد, أو بمعنى التهكم, أو دعاء على فاعل ذلك أي بوأه الله ذلك". فتح الباري: كتاب العلم. وقال النووي: "وأما الكذب فهو عند المتكلمين من أصحابنا: الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو, عمداً كان أو سهواً, هذا مذهب أهل السنة". شرح مسلم. وفي رواية الدارمي: عَنْ الزُّبَيْر - رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ حَدَّثَ عَنِّي كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ. وليس فيها متعمداً. يقول ابن حجر تعليقاً على ذلك: "وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمداً أم خطأً, والمخطئ وإن كان غير مأثوم بالإجماع لكن الزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر, لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار إذ الإكثار مَظِنَّة الخطأ, والثقة إذا حدث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق بنقله, فيكون سبباً للعمل بما لم يقله الشارع, فمن خشي من إكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار, فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار من التحديث. وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت, أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان. رضي الله عنهم.
تتمة:(/2)
في هذه الرواية (( أعني رواية الدارمي السالفة ))، وجعلها نعم ما تمسك به الزبير – رضي الله عنه- دليلاً على قلة التحديث، وما هو إلا الورع والإحجام عن محارم الله عز وجل، بل إنه بيان واضح لكل من سولت له نفسه إقداماً بدون مهابة وجرأة بدون رجعة للفتيا في أحكام الله، ثم يتعلل إذا ما ظهر خطأ في الحكم أنه لم يتعمد ذلك ولم يقصده، بل تجده يقلب مسألة ما ظهراً لبطن وهو لا يعلم أين مظانها ومن هم القائلون بالتحريم، ومن قال بالكراهة، ولكن السر في ذلك أن نفسه الأمارة بالسوء لم تهدأ إذا طُرحت مسألة في مكان يتداول فيه العلم حدثته نفسُهُ أنه لابد أن يكون له جولة وبيان وصيت بين صفوة أهل العلم الشرعي، فهل أمثال هؤلاء يعذرون بمقاصدهم ؟ وأين هم من الزبير – رضي الله عنه- وزهده وورعه وإحجامه، ومعرفته لقدر نفسه. يقول ابن حجر في فتح الباري: عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: " عناني ذلك " يعني قلة رواية الزبير: " فسألته " أي عن ذلك " فقال: يا بني, كان بيني وبينه من القرابة والرحم ما علمت, وعمته أمي, وزوجته خديجة عمتي, وأمه آمنة بنت وهب وجدتي هالة بنت وهيب ابني عبد مناف بن زهرة, وعندي أمك, وأختها عائشة عنده, ولكني سمعته يقول " مَنْ حَدَّثَ عَنِّي كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ". " قلوب خالطت محبة الله بشاشتها، وقلوب دنست وساوس الشيطان صفاء ها ونقاءها "
ويقول النووي في شرح مسلم: "واعلم أن هذا الحديث يشتمل على فوائد وجمل من القواعد:
إحداها: تقرير هذه القاعدة لأهل السنة أن الكذب يتناول إخبار العامد والساهي عن الشيء بخلاف ما هو.
الثانية: تعظيم تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم وأنه فاحشة عظيمة وموبقة كبيرة ولكن لا يكفر بهذا الكذب إلا أن يستحله. هذا هو المشهور من مذاهب العلماء من الطوائف.
الثالثة: أنه لا فرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بين ما كان في الأحكام، وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغير ذلك، فكله حرام من أكبر الكبائر وأقبح القبائح بإجماع المسلمين الذين يعتد بهم في الإجماع.
الرابعة: يحرم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعا أو غلب على ظنه وضعه فمن روى حديثا علم أو ظن وضعه ولم يبين حال روايته ووضعه فهو داخل في هذا الوعيد, مندرج في جملة الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويدل عليه أيضا الحديث ( من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ).
ولهذا قال العلماء: ينبغي لمن أراد رواية حديث أو ذكره أن ينظر فإن كان صحيحاُ أو حسناً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعله أو نحو ذلك من صيغ الجزم وإن كان ضعيفاً فلا يقل: قال أو فعل أو أمر أو نهى وشبه ذلك من صيغ الجزم بل يقول: رُوي عنه كذا أو جاء عنه كذا أو ( يُروى أو يُذكر أو يُحكى أو يُقال أو بلغنا وما أشبهه. والله سبحانه أعلم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَفْتَى ح، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ " أخرجه أبو ( داود، وقال الألباني: (حسن) انظر حديث رقم: 6068. في صحيح الجامع. عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاص رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " البخاري ومسلم. يقول ابن حجر في الفتح: وقد اشتهر هذا الحديث من رواية هشام بن عروة فوقع لنا من رواية أكثر من سبعين نفسا عنه من أهل الحرمين والعراقين والشام وخراسان ومصر وغيرها, وكان تحديث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حجة الوداع كما رواه أحمد والطبراني من حديث أبي أمامه قال: لما كان في حجة الوداع قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خذوا العلم قبل أن يقبض أو يرفع " فقال أعرابي: كيف يرفع ؟ فقال: "ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته. ثلاث مرات". الفتح ج1ص235ط الريان.(/3)
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم، حضره في حجة الوداع أكثر من مائة ألف صحابي في أعظم محفل تم في الإسلام، وهو ينصح ويودع قائلاً: "لعلكم لا تروني بعد عامي هذا "نصيحة لا نصيحة بعدها، فكان حكمة الله تعالى أن تحريم الفُتيا في دين الله بغير علم أمر يتناوله جمهرة غفيرة من أفاضل الصحابة فينشرونه في بقاع العالم الإسلامي حتى أصبح هذا الحكم معلوماً من الدين بالضرورة ليستوي في معرفته الخاص والعام ن وما ذاك غلا لخطورة هذا المنزلق حيث تضيع الهيبة الشرعية من صدور القوم، وتبدل أحكام في الله في أرضه.
صور ونماذج السلف في الإحجام عن الفُتيا:
قوله تعالى عن الملائكة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (البقرة:32) قال البيضاوي في تفسيره: " اعتراف بالعجز والقصور وإشعار بأن سؤالهم كان استفساراً ولم يكن اعتراضاً، ومراعاة للأدب بتفويض العلم كله إليه..." تفسير البيضاوي ج: 1 ص: 288.
وقال القرطبي في سياق تفسير الآية السالفة: "الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: الله أعلم، ولا أدري اقتداء بالملائكة، والأنبياء، والفضلاء من العلماء، لكن قد أخبر الصادق أن بموت العلماء يقبض العلم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيَضِلون ويُضلون". ج1: ص: 285.
أخرج البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ. ..فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا الرُّوحُ؟. فَسَكَتَ. فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقُمْتُ. فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ قَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا } وفي الصحيحين ورد حديث جبريل الطويل وفيه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ. ..ففَالَ: مَتَى السَّاعَةُ ؟. قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ..." قال النووي تعليقاً في الشرح على هذا الحديث: "ينبغي للعالم والمفتي وغيرهما إذا سُئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، وأن ذلك لا ينقصه بل يُستدل به على ورعه وتقواه ووفور علمه.
وفي البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ.
فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ما لهم إلى الله، ولم يبين فيهم شيئاً، لأنه لم يُعلمه الله فيهم شيئاً، وما ينطق عن الهوى. وقال الصديق للجدة أرجعي حتى أسأل الناس.. عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَتْ الْجَدَّةُ أُمُّ الْأُمِّ وَأُمُّ الْأَبِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ إِنَّ ابْنَ ابْنِي أَوْ ابْنَ بِنْتِي مَاتَ، وَقَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّ لِي فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقًّا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَجِدُ لَكِ فِي الْكِتَابِ مِنْ حَقٍّ، وَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى لَكِ بِشَيْءٍ، وَسَأَسْأَلُ النَّاسَ. قَالَ: فَسَأَلَ النَّاسَ فَشَهِدَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا السُّدُسَ، قَالَ: وَمَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مَعَكَ ؟. قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: فَأَعْطَاهَا السُّدُسَ... أخرجه الترمذي. انظر لم يمنعه حياؤه رضي الله عنه وهو الخليفة من أن يسأل الناس، وهذا عمر بن الخطاب تعضل عليه المسألة فيجمع لها أهل بدر ليستشيرهم ويسألهم، فما يزيده ذلك إلا مهابة وإجلالاً في قلوبهم.(/4)
وكان علي رضي الله عنه يقول: وا أبردها على الكبد ثلاث مرات. قالوا: وما ذلك يا أمير المؤمنين؟قال: أن يُسئل الرجل عما لا يعلم، فيقول: الله أعلم. ولنا مع هذا الأثر وقفة عما قريب وأخرج مسلم في صحيحه قال: حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ ( واسمه يحيى بن المتوكل رضي الله عنه - تابعي -) قَالَ:كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَقَالَ يَحْيَى لِلْقَاسِمِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّهُ قَبِيحٌ عَلَى مِثْلِكَ عَظِيمٌ أَنْ تُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ فَلَا يُوجَدَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ، وَلَا فَرَجٌ، أَوْ عِلْمٌ وَلَا مَخْرَجٌ، فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ: وَعَمَّ ذَاكَ ؟. قَالَ: لِأَنَّكَ ابْنُ إِمَامَيْ هُدًى ابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، قَالَ لَهُ الْقَاسِمُ: أَقْبَحُ مِنْ ذَاكَ عِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنْ اللَّهِ أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَوْ آخُذَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ، قَالَ: فَسَكَتَ فَمَا أَجَابَهُ.
ما ورد من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه و التابعين بعدهم:
فروي البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي البقاع شر ؟. قال: لا أدري. حتى أسأل جبريل،فسأل جبريل فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء، فقال:خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق. وسأل ابن عمر رجل عن مسألة، فقال: لا علم لي بها، فلما أدبر الرجل قال ابن عمر: نعم ما قال ابن عمر سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به... تفسير القرطبي ج: 1 ص: 285. وعن عبد الرحمن بن أبى ليلي وهو من التابعين الثقات المعروفين – قال "لقد أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يسأل عن فتيا إلا ودّ أن أخاه كفاه الفتيا ".
مائة وعشرون من خيرة أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم ومن كبارهم وممن طالت أعمارهم فحصلوا علماً كثيراً غزيراً، ومع ذلك يتدافعون الفتيا وكل واحد يتمنى أن أخاه يكفيه الفتيا، ونحن نجلس في بعض المجالس فتطرح موضوعات في الطب فلا تجد إلا الأطباء يتكلمون وإذا تحدثوا في الأدب فلا تجد إلا الأدباء هم الذين يتحدثون، وأما إذا طرحت مسألة دينية إذا بك تفاجأ بأنك تجالس بين هيئة كبار العلماء فإذا سألت عن مسألة فقهية وجدت كل واحد منهم يذكر رأيه والأخر وجهة نظره، وإذا سألت عن صحة حديث وجدت نفسك تجالس مع أئمة الحديث،كالإمام أحمد، والحافظ بن حجر، فهذا يصحح الحديث، والأخر يضعف الحديث، والله المستعان.
وذكر أبو عمر بن عبد البر عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني دُفعت إليك، لا أعرف غيرك؛ فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله لا أحسنه.
وقال القاسم أيضاً: والله لئن يُقطع لساني أحبُّ إليَّ من أن أتكلم بما لا أعلم.
وقال يحيى بن سعيد: سمعت القاسم بن محمد يقول: لأن يعيش الرجل جاهلا بعد أن يعرف حق الله عليه خير له من أن يقول مالا يعلم... تهذيب الكمال ج: 23 ص: 433.
وكان سعيد بن المسيب رحمه الله لا يكاد يفتي فتيا، ولا يقول شيئاً إلا قال: "اللهم سلمني وسلم مني". وجاء رجل إلى سُحنون ( من فقهاء المالكية ) يسأله عن مسألة، فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام، فقال: مسألتي أصلحك الله، اليوم ثلاثة أيام؛ فقال له: وما أصنع بمسألتك؟ مسألتك معضلة، وفيها أقاويل، وأنا متحير في ذلك؛ فقال: وأنت أصلحك الله لكل معضلة؛ فقال سُحنون: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذل لحمي ودمي للنار، وما أكثر ما لا أعرف، إن صبرتَ رجوتُ أن تنقلب بمسألتك، وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامضي تجاب في مسألتك في ساعة؛ فقال: إنما جئت إليك ولا أستفتي غيرك؛ قال: فاصبر؛ ثم أجابه بعد ذلك. وقال سُحنون: "أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره، فقال: تفكرت فيه وجدته المفتي يأتيه الرجل قد حنث في امرأته ورقيقته فيقول له: لا شيء عليك، فيذهب الرجل فيستمتع بامرأته ورقيقته وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا".
أسباب الجرأة على الفتيا:(/5)
الهوى وهو: المرض العضال الذي تنتهك بسببه كثير من الحماقات، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من المهلكات فقال: "ثلاث مهلكات هوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه" أخرجه الطبراني، وقال الألباني: (حسن) انظر حديث رقم: 3045 في صحيح الجامع، وما ذاك إلا ضعف في الإخلاص وفساد في الإرادة ولا يسلك هذا السبيل إلا من كان قلبه كالقبر أو البيت الخرب، ولا تجد صاحب هوى يخطو خطوة في طريق القربة إلى الله عز وجل لإصلاح نيته، وتقويم قلبه وتذكر لقبره الذي سيدخله عما قريب، ولو فعل ما ظاهره القربة إنما هو لزيادة الحصيلة العلمية لمماراة السفهاء ومجادلة العلماء، وللتفوق على الأقران، فبئس النية نية تحول دقة الطريق على الله فيلبس الأمر على صاحبها في طريقه إلى الله حتى يصير المشرق عنده مغرباً والمغرب مشرقاً، قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد: 14.(
العجب والاغترار وهو: أن يُعجب المرء بنفسه، ويغتر بعلمه فيقدم على الفتوى، وإكثار الكلام وإن لم يعلم، ومما يؤسف له أن داء العجب أشد فتكاً بدين الإنسان من الهوى، وقد صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث منجيات وثلاث مهلكات فأما المنجيات فتقوى الله في السر والعلانية والقول بالحق في الرضى والسخط والقصد في الغنى والفقر. وأما المهلكات فهوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه وهي أشدهن". رواه البيهقي في شعب الإيمان. باب الظلم وهو حسن. وذلك أن خطر داء العجب عظيم فإن العجب يدعو إلى الكبر لأنه أحد أسبابه فيتولد من العجب الكبر ومن الكبر آفات كثيرة لا تخفى على عباد الله، وأما مع الله فالعجب يدعو إلى إهمال الذنوب ونسيانها فلا يحدث لها توبة ويستعظم أعماله وطاعته، ويمن على الله بفعلها. والمعجب يغتر بنفسه وبراية و يأمن مكر الله وعذابه ويظن أنه عند الله بمكان ولا يسمع نصح ناصح ولا وعظ واعظ ويمنعه عجبه من سؤال أهل العلم فهذا وأمثاله من آفات العجب فلذلك كان من المهالك ومن أعظم آفاته أن يفتر في السعي لظنه أنه قد فاز وأنه قد استغنى وهو الهلاك الصريح...نسأل الله العظيم حسن التوفيق لطاعته... البحر الرائق لأحمد فريد.
الاستحياء والخوف من التجهيل: فهو يظن أنه لو قال لا أدري، أو لا أعلم أن هذه سبة في حقه وفي شخصه، وأن السائل سيرميه بالجهل وعدم العلم، ويخاف أن يسقط من أعين الحاضرين.
الجهل ذاته: فلا يجسر على الفتوى ويتجرأ على أعلم إلا الجاهل الذي لم يشم للعلم أدنى رائحة، وذلك أنه إما أن يذكر الدليل على كلامه في المسألة الشرعية من الكتاب أو السنة أو قول السلف من علماء الأمة ويحيل السامع إلى مظانها... فهذا معه أثارة علم، وإما أن يتشدق ويثرثر ولا يحيل على المظان، ولا يستدل ببرهان فيكون هذا عين الجهل والبهتان، وذلك أن المسألة لا تحتمل إلا أمراً من أمرين: إما العلم، وإما الجهل
علاج أسباب الجرأة على الفُتيا:
أولاً: علاج الهوى: وذلك بأن يعلم أن الهوى مضاد تماماً للقرآن والسنة، وأن الله قد قسم الناس قسمين: أتباع الوحي، وأتباع الهوى، فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } (القصص: من الآية50) فليس ثم قسم ثالث، وليعرض نفسه هذا العرض الدقيق الذي يحدد قيمة العبد عند ربه، ثم يعلم أن الهوى ما سمى هوى إلا لأنه يهوي بصاحبه في المخاطر، وأن اتباع الهوى دليل على ضياع المروءة، وضعف الدين، وفساد العقل ؛ لأن هذه الثلاث تنهى عن اللذة التي يعقبها ألم، وعن الشهوة التي تورث الندم، والهوى ضدها يدعو على ذلك ألا ترى أن الطفل يؤثر ما يهوى و إن أدًَاه إلى التلف لضعف ناهي العقل عنده، وأن ما لا دين له يؤثر هواه وإن أدًَاه إلى هلاكه في الآخرة لضعف الوازع الإيماني، وأن من لا مروءة له يؤثر ما يهواه وإن ثلم مروءته، أو أعدمها لضعف ناهي المروءة عنده. قال الشافعي: (( لو علمت أن الماء البارد يثلم مروءتي لما شربته ))، وحتى يتخلص مما قد وقع يستعين بحول الله وقوته بمثل هذه الأمور وهي:
1. جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة.
2. قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة والشجاعة كلها صبر ساعة، وخير العيش أدركه العبد بصبره.
3. أن يفكر في حسن عاقبة الصبر ففيه الشفاء الذي لا مرض بعده.
4. أن يفكر في ألم اتباع الهوى حيث الضيق والهم والغم.
5. إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى، وفي قلوب عباده وهو خير وأنفع له من لذة موافقة الهوى.
6. أن يتفكر في قهر إبليس ورده خاسئاً مغتاظاً ؛ وذلك بمخالفة الهوى.
7. أن باتباعه لهواه يصير الحيوان البهيم أحسن حالاً منه ؛ فالحيوان يميز بطبعه بين مواقع ضرره ومنافعه، فيؤثر النافع على الضار، والإنسان أُعطي العقل، فإذا لم يميز الضار من النافع كان الحيوان البهيم أحسن حلاً منه.(/6)
8. أن يتصور العاقل انقضاء غرضه من اتباع الهوى وهذا لا يتعدى دقائق معدودة وليحدث نفسه بم يشعر بعد هذه الدقائق، وما هي منزلته عند الله بعد اتباع الهوى، وبيان ذلك: أن الفُتيا بغير علم أو الجرأة على الفتيا إنما هي دقائق يتحدث فيها عن حكم الشرع في المسألة الفلانية فيخشى تفويت المنزلة في قلوب الخلق بقوله: (( الله اعلم )) فإذا به يقتحم أبواب جهنم، ثم ينسى الناس هذه المسألة ولم يعد لها في خاطرهم ذكر، ويبقى ألم الجرأة على الله في قلبه هماً وغماً وضيقاً، وكأن لسان الحال: ياليتني صبرت هذه الدقائق فماذا نلت فيها إلا ثلم المروءة، وضعف الدين وفساد العقل. فليكن الإنسان منا حذراً فطناً لبيباً.
ثانياً: علاج العجب: وذلك أن يتذكر أن ما عنده من العلم إنما هو محض فضل ومنه ونعمة من الله، قال تعالى:{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}(النحل: من الآية53)، وأعظم النعم هي نعمة الهداية والتوفيق للعلم والعمل، فمنشأ العجب هو الجهل وكفران نعمة الله على عبده، قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(النور: من الآية21)، ويعلم العبد أنه مهما بلغ في العلم والعمل فإنه لا يدخله الجنة إلا أن تدركه الرحمة الربانية،كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ "، ومما يستعان به في رفع العجب بالعلم الذي يجرئه على الفتيا أن يتذكر علم أسلاف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فأين هو من الإمام الشافعي، أو مالك، أو أبي حنيفة، أو أحمد بن حنبل ؟. أم أين علم من علم شيخ الإسلام ابن تيمية ؟. كلما قرأ العاقل اللبيب لابن حجر، أو النووي، أو شيخ الإسلام ابن تيمية فلولا رحمة ربي لأصيب باليأس والإحباط في طريق العلم لما حباهم الله من الغزارة في شتى علوم الشرع، ولو كان ثم علم يفتخر به أو يعجب به الإنسان علم غيره لكان هذا العلم، ولكن هو محض منة من الله عليهم فليحذر المسلم تلبيس إبليس، وأن يكون هدفه ومنتهى غايته إرادة وجه الله، لا عجباً بعلم، ولا حظاً لنفس، لا نيلاً لمنزلة في قلوب الخلق. اللهم حسن النيات، ويسر الخيرات واستر العلات.
ثالثاً: علاج الاستحياء والخوف من التجهيل: فمن أفضل الأدوية علاجاً لهذا المرض قول على رضي الله عنه: (( وا بردها على الكبد))، وانتبه أيها العاقل اللبيب فإن علياً رضي الله عنه يقصد برد الإخلاص واليقين في قلوب غرس الله كرامتها بيده فليكن لك في هؤلاء أسوة حسنة حتى تهدا نفسك، ويسترح قلبك ببرد الإخلاص واليقين، وليعلم كل منا أن الطريق إلى الله ليس مزاداً علنياً في رفع أسعار المحبة في قلوب الخلق، والتقرب إليهم على حساب الدين، وإنما طريقنا قربة إلى الله نصرةً لدينه ؛ بتبيين أحكام الله على ضوء شريعة الله. اللهم شرفنا بنصرة دينك.
وأخيراً أيها الكرام: اتقوا الله فإنكم في زمان رقًَ فيه الورع، وقل فيه الخشوع، وحمل العلم مفسدوه ؛ فأحبوا أن يعرفوا بحمله، وكرهوا أن يعرفوا بإضاعته، فنطقوا فيه بالهوى لما ادخلوا فيه من الخطأ فذوبهم ذنوب لا يستغفر منها، وتقصيرهم تقصير لا يعترف به زمان، كما قال القرطبي: (( عم فيه الفساد،وطلب فيه العلم للرياسة لا للدراية بل للظهور في الدنيا، وغلبة الأقران بالمراء والجدل الذي يقسي القلب، ويورث الضغن، وذلك مما يحمل على عدم التقوى، وترك الخوف من الله......))، فهلموا يا دعاة الحق، يا من تنهون عن الفساد في الأرض، وقفوا بالمرصاد لهذه الضراء المضرة، والفتنة المضلة حتى تقضوا على أمر يحبه إبليس، ويبغضه الله بما هو آتٍ.
مقترحات:
1. مطالبة كل من عرف بالجرأة على الفتيا بالدليل الشرعي بالإسناد،كما قال السلف: "لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء "، فإما أن يهتدي إلى سبيل العلم وطريقه الصحيح، وإما أن يكفيكم شره ؛ لخوفه من المسائلة أمام الناس، واستحياه وكبره أن ينقص من أعين الناس.
2. ناقل الفتوى ليس بمفتي، فإذا سُئل قال: أسأل لك أهل العلم وآتيك بالإجابة، فإذا جاء بالإجابة اسند القول إلى قائله أي إلى العالم.
3. ضرورة التضييق، والإلحاح بالنصح، والإحراج لكل من علم عنه الجرأة في الفتيا درءاً للمفاسد وإصلاحاً لحاله بحيث ينتهي الأمر على صحة النقل، وتسنيد القول إلى قائله، وكما قيل: " إن كنت ناقلاً فالصحة...وإن كنت مدعياً فالدليل "
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يجعلنا أول العاملين بما في هذا البحث حتى تصح دعوانا، ويستقيم منهجنا. اللهم ارزقنا برد الإخلاص واليقين، واجعلنا مهتدين، وارزقنا خشيتك في السر والعلن.......وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/7)
الجامعة الأولى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.. أما بعد:
فإن من أول ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما دخل المدينة أن بنى المسجد الذي هو الجامعة الأولى التي يتخرج منها المسلم، ومكان عبادة الله رب العالمين، تلقى فيه المواعظ والتوجيهات، والخطب النافعات، وتجيش منه الجيوش، وتربى فيه الأجيال، ويأوي إليه المسكين، ويستريح بظله المتعبون من عناء الحياء وشقاء البعد عن الله، مع ما فيه من اجتماع المسلمين وتآلف قلوبهم، وتعاونهم على البر والتقوى..
عن بناء المسجد النبوي وما جرى في ذلك من أحداث يحدثنا أنس بن مالك -رضي الله عنه- كما ذكر ذلك الإمام البخاري -رحمه الله- حيث يقول:
حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد، قال: سمعت أبي يحدث فقال: حدثنا أبو التياح يزيد بن حميد الضبي، حدثنا أنس بن مالك قال: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاءوا متقلدي سيوفهم، قال: وكأني أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على راحلته، وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب، قال: فكان يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، قال: ثم أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ بني النجار فجاءوا فقال: (يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا) فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله -عز وجل-. قال: فكان فيه ما أقول لكم، كانت فيه قبور المشركين، وكانت فيه خرب، وكان فيه نخل، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، قال: فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فجعلوا ينقلون ذلك الصخر وهم يرتجزون، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم يقول: (اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة). وقد ثبت في صحيح البخاري في موضع آخر عن الزهري عن عروة أن المسجد الذي كان مربداً -وهو المكان الذي يجفف فيه التمر- كان ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة، وهما سهل وسهيل فساومهما فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى حتى ابتاعه منهما وبناه مسجداً.. فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول -وهو ينقل معهم التراب-:
(هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرُّ ربنا وأطهر)
ويقول:
(اللهم إن الأجرَ أجرُ الآخرة ... فارحم الأنصارَ والمُهاجرة)
وقد يشكل على البعض قولهم: (والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله -عز وجل-) مع القول في الرواية الأخرى (فأبى حتى ابتاعه منهما) حيث يفهم من الرواية الأخرى أهم لم يقبلوا منه ثمنها، بل جعلوا أجرها على الله، وفي الرواية الثانية دلالة على أنه -صلى الله عليه وسلم- دفع أجرة الأرض لليتيمين..! وعلى هذا الإشكال يجيب ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- فيقول: (لا منافاة بينهما، فيجمع: بأنهم لما قالوا لا نطلب ثمنه إلا إلى الله سأل عمن يختص بملكه منهم، فعينوا له الغلامين فابتاعه منهما، فحينئذ يحتمل أن يكون الذين قالوا له لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تحملوا عنه للغلامين بالثمن، وعند الزبير: أن أبا أيوب أرضاهما عن ثمنه).1
عمار بن ياسر والمسجد:
ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- كان ممن شارك في بناء المسجد النبوي، وكان -من شدة تفاعله مع هذا العمل العظيم- يحمل لبنتينِ، بينما الناس يحملون لبنة واحدة.. فعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: لما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يبنون المسجد جعل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل كل واحد لبنةً لبنة، وعمار يحمل لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمسح ظهره وقال: (ابن سمية! للناس أجر ولك أجران، وآخِرُ زادِك شربةٌ من لبن، وتقتلك الفئةُ الباغية).2
قال ابن كثير: ولم يكن في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- أول ما بني منبر يخطب الناس عليه، بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس وهو مستند إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي، فلما اتخذ له -عليه السلام- المنبر.. وعدل إليه ليخطب عليه فلما جاوز ذلك الجذع خار ذلك الجذع وحن حنين النوق العشار؛ لما كان يسمع من خطب الرسول -عليه السلام- عنده فرجع إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحتضنه حتى سكن كما يسكن المولود الذي يسكت... وما أحسن ما قال الحسن البصري بعد ما روى هذا الحديث عن أنس بن مالك: (يا معشر المسلمين! الخشبة تحن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقاً إليه، أو ليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه)؟!!3
مسكن الرسول:(/1)
بعد أن تم بناء المسجد النبوي الشريف بُني لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حوله حُجَرٌ -أي غرف- لتكون مساكن له ولأهله، وكانت مساكن قصيرة البناء قريبة الفناء، قال الحسن بن أبي الحسن البصري وكان غلاماً مع أمه (خيرة) مولاة أم سلمة: لقد كنت أنال أطول سقف في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- بيدي.. وقد كان الحسن البصري ضخماً طويلاً -رحمه الله-.
وكانت مساكنه -عليه السلام- مبنية من جريد عليه طين، بعضها من حجارة مرضومة وسقوفها كلها من جريد.. وكانت حُجره من شعر مربوطة بخشب من عرعر، وفي تاريخ البخاري أن بابه -عليه السلام- كان يقرع بالأظافير)4 فدل على أنه لم يكن لأبوابه حِلق، وقد أضيفت الحُجر كلها بعد موت أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد.5
المسجد النبوي يُخرج جيلاً لم تسمع بمثله البشرية!
تم بناء المسجد في حدود البساطة، فراشه الرمال والحصباء، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدو وتروح. هذا البناء المتواضع.. هو الذي ربى ملائكة البشر، ومؤدبي الجبابرة، وملوك الدار الآخرة.. في هذا المسجد أذن الرحمن لنبي يؤم بالقرآن خير من آمن به، يتعهدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل.
إن مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي، فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام، لكن الناس -لما أعياهم بناء النفوس على الأخلاق الجليلة- استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة، تضم مصلين أقزاماً!!
أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية أنفسهم وتقويمها، فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام..6
لمثل هذا فليبنى المسجد، فهو قلعة الإيمان، وحصن الفضيلة، وهو المدرسة الأولى التي يتخرج منها المسلم، هو بيت الأتقياء، ومكان اجتماع المسلمين يومياً، ومركز مؤتمراتهم، ومحل تشاورهم وتناصحهم، والمنتدى الذي فيه يتعارفون ويتآلفون، وعلى الخير يتعاونون، منه خرجت جيوشهم، ففتحت مشارق الأرض ومغاربها.. منه تخرج العلماء والفقهاء.
هكذا فهم المسلمون الأولون وظيفة المسجد، وهكذا بنوه، فلم يسرفوا في بنائه، ولم يزخرفوا، ولم يبذروا، ولم ينصرفوا البهرج وزخرفة الظاهر، بل كان مقصدهم جوهر ذلك الصرح العظيم وعظيم دوره في صياغة الشخصية المسلمة، ولذلك ففتح الله على أيديهم مشارق الأرض ومغاربها.
ولما صار المسلمون إلى التبذير والإسراف والزخرفة والمظاهر الفارغة، نزع الله الملك من أيديهم، فصار ما بنوه من المساجد كنائس ومتاحف، لا يُذكر فيها اسم الله الواحد الأحد (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل:33).7
اللهم أعنا على القيام بأمرك، والوقوف عند نهيك، ونعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..
________________________________________
1- فتح الباري (7/246) ط: دار المعرفة ، بيروت 1379 هـ.
2- رواه أحمد في مسنده، ورواه عبد الرزاق الصنعاني بهذا السياق. وقال ابن كثير عن إسناد عبد الرزاق: (وهذا إسناد على شرط الصحيحين). (البداية والنهاية 4/536). ط: دار عالم الكتب.. وقد رواه مسلم في صحيحه لكنه ذكر أن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمار كان عند حفر الخندق في غزوة الأحزاب، قال البيهقي -رحمه الله- في الدلائل (2 / 549): يشبه أن يكون ذكر الخندق، وهما في رواية أبي نضرة، أو كان قد قالها عند بناء المسجد، وقالها يوم الخندق، والله أعلم).
قال شعيب الأرناؤوط –عند تعليقه على الحديث (11024) في مسند أحمد-: لا مانع من أنه -صلى الله عليه وسلم- قد قالها عند بناء المسجد، ويوم الخندق، وقد ورد ذكر يوم الخندق من حديث أم سلمة أيضاً بإسناد صحيح). ورواه الترمذي بلفظ: (أبشر عمار، تقتلك الفئة الباغية) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2989).
3- البداية والنهاية (4/541).
4- رواه البخاري في الأدب المفرد. وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (4805).
5- البداية والنهاية (4/545).
6- فقه السيرة للغزالي ص168-169. ط: دار إحياء التراث العربي.
7 - انظر كتاب (المسجد في الإسلام) لـ خير الدين وانلي. في المقدمة.(/2)
الجليس السوء
إعداد/ شوقي عبد الصادق
الحمد لله خلق الناس فمنهم كافر ومنهم مؤمن والله بما يعملون بصير، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، وبعد:
ففي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبةً، ونافخ الكير إما أن يُحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة». [اللؤلؤ المرجان برقم 1687]، ويقول أيضًا فيما رواه أبو هريرة وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بسند حسن صحيح: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل».
فمن هذين الحديثين يتضح لكل ذي بصيرة تأثر الجليس بجليسه إن كان من أهل الصلاح أو من أهل الفساد، ومن أمثلة هذا التأثر والتأثير بالإنسان في الطبع والمجالسة ما رواه عمر بن الخطاب قال: «كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصخبت عليَّ امرأتي فراجعتني فأنكرتُ أن تراجعني، قالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه». [فتح الباري ج9 رقم 5191]
والشاهد من الحديث تأثر نساء المهاجرين بأدب نساء الأنصار، فبعد أن كن لا يراجعن أزواجهن في مكة أصبحن يراجعنهم في المدينة لأنهن جالسن نساء الأنصار، وكذلك قوله تعالى: الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم [التوبة: 97]، فالأعراب سكان البوادي أشد كفرًا ونفاقًا من كفار المدينة ومنافقيها لأن الآخرين يساكنون الصحابة والرسول ويُجالسونهم، بخلاف منافقي البادية فإنهم لا يجالسون الرسول والصحابة ولا يسمعون منهم ولا يتأثرون بهم فكانوا أشد كفرًا ونفاقًا.
ويتأثر الإنسان بطبعه كذلك بالحيوان كما روى الشيخان من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «رأس الكفر نحو المشرق، والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل والفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم». [اللؤلؤ والمرجان برقم 33]
ومعنى الفدّادين: الأعراب أهل الجفاء من رعاة الإبل الذين يعيشون بالبادية، وهم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم وخيلهم وحروثهم ونحو ذلك، ووجه ذمهم شغلهم بما هم فيه عن أمر دينهم.
ونقول- والله أعلم-: فالجمل والفرس يمشيان رافعي رؤوسهما إلى أعلى فيؤثر ذلك والله أعلم في صاحبه كبرًا وعجبًا، والشاة ساكنة متواضعة خافضة الرأس لأسفل بحثًا عن طعامها حتى تسمى في عرف عالم الحيوان بالحيوانات الكانسة فيؤثر ذلك في صاحبها سكونًا وتواضعًا.
وأمثلة التأثر بالجمادات أنك تجد من يركب سيارة رخصية متواضعة لا يتعاظم في نفسه ولا يتكبر مثل الذي يركب سيارة فارهة باهظة الثمن فيتعاظم في نفسه ويتأثر بمركوبه وملبوسه ومأكوله ومشروبه.
من كل ما سبق يتبين تأثر الجليس بجليسه، فإن كان جليسًا سيئًا كان خطرًا على جليسه وخطر جلساء السوء متنوع ومتعدد الصور، وصوره هي:
1- جلساء السوء يزينون لك الباطل ويحببونه إليك، وتدبر في ذلك قوله تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون [الأنعام: 122]، فهذا الجليس السوء- شيطان الإنس- يوحي إلى جليسه زخرف القول فيسمي له الشرك ودعاء الأولياء من دون الله توسلا إلى الله تعالى، وربما استدل بقوله تعالى: اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة [المائدة:53]، ويجعل دعاء آل بيت النبي والاستغاثة بهم والذبح لهم والنذر لهم والطواف حول قبورهم هو المودة المرادة من قوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى [الشورى:32]، كذلك يسمون الحرام بغير اسمه، فيسمى الربا مرابحة وعائدًا استثماريًا، ويسمى الخمر بالمشروب الروحي أو المنشط، والمخادنة والخلوة المحرمة بالصداقة البريئة وهكذا.
2- جلساء السوء يصرفونك عن الخير ويزهدونك فيه:
يؤخذ هذا من قوله تعالى: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين [التوبة:47]، وجليس السوء يجعل جليسه بدلاً من أن يأخذ الكتاب والسنة بقوةٍ يجعله يتهاون فيهما لما يسمعه منه من استهزاء، بل ربما سمع منه الكفر، والله تعالى يقول: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا [النساء: 140].
3- جلساء السوء يشككونك فيما أنت عليه من الحق:(/1)
وشاهد ذلك قوله تعالى: وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون [آل عمران: 72]، كذلك من تشكيك جلساء السوء قولهم: عدم صلاحية الشريعة للتطبيق كاملة في هذا الزمان وخصوصًا الحدود فيها، أو أن أسلمة الاقتصاد وتطهيره من الربا يؤدي ذلك إلى الفقر!
4- جلساء السوء هم جند الشيطان وأولياؤه:
وكاشف ذلك قوله تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا (27) يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا (28) لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا [الفرقان: 27- 29]، فهذا الظالم لنفسه جاءه الذكر وعرف أنه الحق ولكن خليله كان من أولياء الشيطان وحزبه فأضله.
5- جلساء السوء يغررون بجلسائهم ويمنونهم الأماني الكاذبة.
ودليل ذلك قوله تعالى: وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون [العنكبوت: 12].
6- جلساء السوء يحبون لجلسائهم الزيغ والغواية:
لقوله تعالى: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما [النساء: 27]، وقوله تعالى: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا [النساء: 89].
فمن أراد لنفسه وأهله السلامة فلا يجالس أهل الفواحش والشهوات ولا أهل النفاق والبدعة والشرك؛ لأنهم يريدون أن يميل معهم ميلاً عظيمًا.
7- جلساء السوء يجعلونك تستصغر أعمالك السيئة وتتجرأ على المعاصي:
وصدق حذيفة رضي الله عنه فيما رواه البخاري قال: «إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعُدها على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الموبقات».
حال جلساء السوء يوم القيامة
وأما في الآخرة فإن ثمرة مجالسة أهل السوء هي التلاعن والتخلي والبراءة كما في قوله تعالى: قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار [الأعراف:38]، وقوله: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون [الزخرف: 67، 68].
وجليس السوء قد يكون إنسانًا شاخصًا، وقد يكون كتابًا مشحونًا بالشركيات والضلالات والبدع والإسرائيليات والأكاذيب على الله ورسوله، وقد يكون مجلة أو جريدة حوت الصور الفاضحة، وقد يكون فِلْمًا يعرض القاذورات سواء عن طريق الأرضيات أو الفضائيات، وكل هذه الأشياء السيئة الجلوس معها إما أن يحرق الثياب وأعظم هذه الثياب هو التقوى التي يتزيَّى بها العبد كما في قوله تعالى: ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله.
وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة، نعوذ بالله من فعل السوء وقول السوء والجليس السوء، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(/2)
الجليس الصالح
إعداد/ شوقي عبد الصادق
الحمد لله الذي خلق
فسوى وقدر فهدى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، وبعد:
فمجالسة الصالحين
فضيلة أمر اللَّه سبحانه نبيه بها، فقال تعالى: واصبر نفسك مع
الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه
ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا
تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان
أمره فرطا [الكهف: 28]، وقال تعالى: ولا تطرد الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما
عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من
شيء فتطردهم فتكون من الظالمين [الأنعام: 52].
فهذا أمر اللَّه سبحانه لرسوله بأن يكون أولى الناس بالمجالسة هم الصالحون، ومثل له أروع
الأمثلة فقال فيما رواه أبو موسى الأشعري: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء
كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن
تجد منه ريحًا طيبة». [اللؤلؤ والمرحان 1687]
وهذا الحديث يفيد أن الجليس
الصالح جميع أحواله مع من يجالسه خير وبركة ونفع ومغنم، مثل حامل المسك الذي
تنتفع بما معه، إما بهبةٍ، أو بيع أو برائحة المسك التي تنبعث منه.
ثمار مجالسة الصالحين
أولاً: لا يشقى بهم جليسهم:
فقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا
قومًا يذكرون تنادوا هلموا إلى حاجتكم». قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء
الدنيا، قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم ما يقول عبادي ؟ قال: يقولون: يسبحونك
ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال فيقول: هل رأوني ؟ قال: فيقولون: لا والله ما
رأوك، قال: فيقول: وكيف لو رأوني ؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة
وأشدَّ لك تمجيدًا وأكثر لك تسبيحًا، قال: فيقول: فما يسألوني ؟ قال: يسألونك
الجنة، قال: يقول: وهل رأوها ؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها، قال: يقول:
فكيف لو رأوها، قال: يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا وأشد لها
طلبًا وأعظم فيها رغبةً، قال: فمم يتعوذون ؟ قال: يقولون من النار، قال: يقول:
وهل رأوها، قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول فكيف لو رأوها؟
قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشدّ لها مخافةً، قال: فيقول
فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما
جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم». [اللؤلؤ والمرجان 1722]
قال
القاضي عياض رحمه اللَّه: ذِكْرُ اللَّه ضربان؛ ذكر بالقلب وذكر باللسان، وذكر
القلب نوعان؛ أحدهما وهو أرفع الأذكار وأجلها الفكر في عظمة اللَّه وجلاله
وجبروته وملوكته وآياته في سماواته وأرضه، والثاني ذكره بالقلب عند الأمر
والنهي؛ فيتمثل ما أمر به ويترك ما نهي عنه ويقف عما أشكل عليه، وأما ذكر
اللسان مجردًا فهو أضعف الأذكار ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث.
انتهى.
ثانيًا: يحشر المُجالس للصالحين معهم في الآخرة:
ففي الصحيحين من رواية
أنس بن مالك أن رجلاً من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه متى
الساعة قائمة ؟ قال: «وما أعددت لها». قال: ما أعددتُ لها إلا أني أحبُ اللَّه
ورسوله، قال: «إنك مع من أحببت».
ثالثًا: يستفاد من مجالسة الصالحين علم وصلاح
وفقه:
فهذا موسى عليه السلام يقول للخضر: هل أتبعك على أن
تعلمن مما علمت رشدا [الكهف: 66]، وهذا زكريا عليه السلام
يكفل مريم ويتردد عليها في المحراب فتثير فيه الرغبة في الدعاء وطلب الولد من
اللَّه تعالى الذي يعطي بأسباب وبغير أسباب، لما رأى عندها رزقًا في غير ميعاده
فسألها أنى لك هذا ؟ قالت: هو من اللَّه إن اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب.
فتوجه إلى ربه بالسؤال: هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب
لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء [آل عمران:
38].
رابعًا: الجليس الصالح يُذكر صاحبه بالله:
ويجدد فيه كَوَامِنَ الإيمان
ويوقظ التوكل والخوف والرجاء وشاهد ذلك ما رواه الشيخان من حديث أبي بكر رضي
الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا،
فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين اللَّه ثالثهما؟».
وهؤلاء أصحاب موسى عليه
السلام يقولون له: إنا لمدركون (61) قال كلا إن معي
ربي سيهدين [الشعراء: 61، 62].
خامسًا: الجليس الصالح ربما كان سببًا
في خروجك من الدنيا على التوحيد والإيمان:
فقد أخرج البخاري عن أنس قال: كان
غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه، فقال له:
أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم
وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار. [فتح الباري 3/136]
وذكره الألباني(/1)
في أحكام الجنائز بزيادة قوله عليه السلام: «فلما مات قال: صلوا على صاحبكم».
[أحكام الجنائز ص26]
فأي فضل نال هذا الصبي اليهودي بجلوس النبي صلى الله عليه وسلم عنده في هذا
الساعة الحرجة من عمره حتى خرج من الدنيا بالإسلام وأنقذه اللَّه من
النار.
والجليس الصالح قد يكون إنسانًا حيًا، ولا يكون صالحًا إلا إذا كان ذا
دين متمسكًا بالكتاب والسنة وبفهم سلف الأمة موحدًا ربه كمال التوحيد.
وقد يكون
كتابًا، وأسمى الكتب وأعلاها صلاحًا وإصلاحًا كتاب اللَّه تعالى وما صح عن
نبينا صلى الله عليه وسلم من سنة قولية أو فعلية أو تقريرية أو تركية.
وقد يكون هذا الجليس شيئًا
معنويًا لا يرى ولا يسمع ولكنه يؤثر في جليسه ويظهر عليه حسنُ المجالسة وشاهد
ذلك حديث الصحيحين من رواية أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «سبعة يظلهم
اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وكان آخرهم ورجل ذكر اللَّه خاليًا ففاضت
عيناه». [اللؤلؤ والمرجان برقم 61]
ولنا أن نتخيل من هو فليس الرجل السابع إنه
ذكر اللَّه بالتفكر والقلب واللسان الذي عاش معه فترة من الوقت فأثر فيه حتى
فاضت عيناه شوقًا إلى مولاه ورجاءً في ثوابه ورضاه وخوفًا من عذابه وأذاه.
وصلى
اللَّه وسلم على نبينا محمد.(/2)
الجمعة يوم عبادة
عبدالملك القاسم
دار القاسم ... ...
الحمد لله الذي جعل في تعاقب الليل والنهار عبره لأولي الأبصار، أحمده وأشكره على نِعمه الغزار، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فلا تزال الشعوب تحتفي بأعيادها وتفرح بتكرارها، وتُسَّر بذكر اسمها.. كيف إذا كان العيد لأمة الإسلام وتتعبد الله عز وجل به..
إن عيد الأسبوع لأهل الإسلام هو يوم الجمعة الذي كرم الله به هذه الأمة بعد أن أضل عنه اليهود والنصارى، قال { خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة } [رواه مسلم].
وهذا اليوم العظيم جعله البعض من المسلمين يوم نوم طويل، ونزهة ورحلة وخصصت بعض النساء هذا اليوم للأسواق وأعمال المنزل، وغفلت عن حق هذا اليوم.. ولا بد أن نعرف لهذا اليوم قدره ونعلم خصائصه؛ حتى نتفرغ فيه للعبادة والطاعة وكثرة الدعاء والصلاة على النبي تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختصُ بها عن غيره، وقد اختلف العلماء هل هو أفضل أم يوم عرفه.. ) وقد عد ابن القيم أكثر من ثلاثين مزية وفضل لهذا اليوم، ومن تلك الخصائص والفضائل:
1. أنه يوم عيد متكرر: فيحرم صومه منفرداً، مخالفه لليهود والنصارى، وليتقوى العبد على الطاعات الخاصة به من صلاة ودعاء وغيرها.
2. أنه يوم المزيد، يتجلى الله فيه للمؤمين في الجنة، قال تعالى [ق:35] قال أنس رضي الله عنه: ( يتجلى لهم في كل جمعة ).
3. أنه خير الأيام قال : { فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يُصلي يسأل الله - تعالى - شيئاً إلا أعطاه إياه } وأشار بيده يُقلِّلها. [رواه البخاري ومسلم].
5. فضل الأعمال الصالحة فيه: قال : { ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة } [رواه مسلم].
7. أنه يوم تُكفر فيه السيئات: فعن سلمان : { لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طُهر، ويَدّهِنُ من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كُتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى } [رواه البخاري].
8. أن للماشي إلى الجمعة أجر عظيم: قال : { من اغتسل ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدِّر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه، غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام } [رواه مسلم].
10. أن الوفاة يوم الجمعة أو ليلتها من علامات حسن الخاتمة لقوله يقرؤهما، ولعل ذلك لما اشتملت عليه هاتان السورتان مما كان ويكون من المبدأ والمعاد، وحشر الخلائق، وبعثهم من القبور، لا لأجل السجدة كما يظنه بعض المسلمين.
2. التبكير إلى الصلاة: وهذا الأمر تهاون به كثير من الناس حتى أن البعض لا ينهض من فراشه، أو لا يخرج من بيته إلا بعد دخول الخطيب، وآخرون قبل دخول الخطيب بدقائق وقد ورد في الحث على التبكير والعناية به أحاديث كثيرة منها:
أن رسول الله قال عليه الصلاة والسلام: { إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خُلِق آدم، وفيه قُبض، وفيه النفَّخة، وفيه الصَّعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء } [رواه أحمد].
4. الاغتسال يوم الجمعة: لحديث الرسول : { من اغتسل يوم الجمعة، واستاك ومسَّ من طيب إن كان عنده، ولبس أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد، فلم يتخط رقاب الناس حتى ركع ما شاء أن يركع، ثم أنصت إذا خرج الإمام فلم يتكلم حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها } [رواه أحمد].
وقال : { من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين } [رواه الحاكم]. ولا يشترط قرائتها في المسجد بل المبادرة إلى قراءتها ولو كان بالبيت أفضل.
7. وجوب الإنصات للخطبة والحرص على فهمها والاستفادة منها: قال لرجل تخطى رقاب الناس يوم الجمعة وهو يخطب: { اجلس فقد آذيت وآنيت } [رواه أحمد] وهذا لا يفعله غالباً إلا المتأخرون.
9. إذا انتهت الصلاة فلا يفوتك أن تصلي في المسجد أربع ركعات بعد الأذكار المشروعة، أو اثنتين في منزلك.
أما وقد انصرفت من المسجد وقد أخذت بحظك من الدرجات والخيرات إن شاء الله.. تأمل في قول ابن رجب رحمه الله في ( لطائف المعارف ) وهو يقول: ( كان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حر الظهيرة يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار فإن الساعة تقوم في يوم الجمعة ولا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار قاله ابن مسعود وتلا قوله: [الفرقان:24].
أخي المسلم: تَحَرَّ ساعة الإجابة وأرجح الأقوال فيها: أنها آخر ساعة من يوم الجمعة.. فادع ربك وتضرع إليه واسأله حاجتك، وأرِه من نفسك خيراً، فإنها ساعة قال عنها النبي FPRIVATE "TYPE=PICT;ALT=" : { إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً، إلا أعطاه إياه } [متفق عليه].(/1)
جعلنا الله وإياكم ممن يعبد الله حق عبادته وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
موقع كلمات ... ...(/2)
الجنة أو النار
الجنة هي مقر المتقين الأبرار، والنار مقر المجرمين الكفار، فهما المقران الأخيران لكلا الفريقين، ولا شك في وجودهما الآن، وأنهما لا تفنيان أبداً، والأدلة على أن الجنة مقر المتقين الأبرار، وأن النار مقر المجرمين الكفار قول الرب العزيز الغفار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ إلى قوله تعالى تجري من تحتها الأنهار}1.
وقال تعالى: {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}2 .
وقال تعالى: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}3 .
وآيات القرآن كثيرة شهيرة في ذلك، فإن الله كلما يذكر الجنة عطف عليها بذكر النار، وكلما يذكر أهل النار عطف عليهم بذكر أهل الجنة، فتارة يعد ويتوعد، وتارة يخبر بما أعدّ في الجنة من النعيم المقيم لأوليائه، ويخبر عما أرصد في النار من العذاب الأليم لأعدائه وغير ذلك، فمن رام استقصاءه فليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته بتدبر وقلب شهيد والله الموفق4.
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه والجنة حق والنار حق أدخله الجنة على ما كان من العمل"5 .
وقال تعالى في إثبات وجود الجنة الآن:{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}6.
وقال تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}7. وقال تعالى: {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}8 .
وغيرها من الآيات التي تخبر على أن الجنة معدة قد أوجدت، وأنها مدخرة لأولياء الله، وأنها في السماء، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم – رآها ليلة المعراج.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء"9.
وعن أسامة بن زيد- رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قمت على باب الجنة ، فإذا عامة من دخلها المساكين ، وإذا أصحاب الجد محبوسون ؛ إلا أصحاب النار ؛ فقد أمر بهم إلى النار ، وقمت على باب النار ، فإذا عامة من دخلها النساء "10.
وقال تعالى في النار: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}11.
وقال تعالى:{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}12. وقال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} 13. وقال تعالى:{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا}14.
فهي معدة لأعداء الله من اليهود والنصارى وغيهم من الكفار، ومن دخلها من عصاة هذه الأمة.
وعن ابن عمر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار" 15.
وعن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء"16 .(/1)
وقال تعالى في إثبات دوامهما وبقائهما، وأنهما لا تفنيان ولا يفنى من فيهما: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}17. وقال تعالى: و{لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ}18.
وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 19. وقال تعالى: {لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}20.
وذلك في إثبات ما يُقاد الجنة وعدم فنائها وفناء من دخلها، وعدم خروجه أيضاً منها:
وقال في النار: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا}21.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} 22.
وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالدينَ فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً}23.
وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}24 .
وقال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}25.
وقال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى}26 .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}27 . وغيرها من الآيات..
وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، جيء بملك الموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي منادٍ يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم " 28.
وقال حافظ حكمي – رحمه الله - ملخصاً لهذه المسائل:
والنار والجنة حق وهما ... *** ... موجودتان لا فناء لهما
وقال ابن القيم – رحمه الله -: لم يزل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وتابعوهم، وأهل السنة والحديث قاطبة، وفقهاء الإسلام وأهل التصوف والزهد على اعتقاد ذلك، وإثباته مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، فإنهم دعوا الأمم إليها، وأخبروا بها إلى أن نبعث نابغة من القدرية والمعتزلة فأنكرت أن تكون مخلوقة الآن 29.
وفي الجنة ما لا عين رأيت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}30.
وفيها الحور الحسان، والخدم والغلمان، وأنواع المآكل والمشارب والمراكب، والجوهر. ولكنها فيها أفضل لذة على الإطلاق هي النظر إلى وجه الله الكريم- اسأل الله أن يرزقنا ذلك- حيث قال ابن القيم : الباب الخامس والستون: في رؤيتهم ربهم - تبارك وتعالى – بأبصارهم جهرة كما يرى القمر ليلة البدر، وتجليه لهم ضاحكاً إليهم. فهذا الباب أشرف أبواب الكتاب، وأجلها قدراً، وأعلاها خطراً، وأقرها لعيون أهل السنة والجماعة، وأشدها على أهل البدعة والضلالة، وهي الغاية التي تمر إليها المستمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا ناله أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم، وحرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من العذاب الجحيم. اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وجميع الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام على تتابع القرون.(/2)
وأنكرها أهل البدع المارقون، والجهمية المهتوكون، والفرعونية المعطلون، والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، ومن حبل الله منقطعون، وعلى مسبة أصحاب رسول الله عاكفون، وللسنة وأهلها محاربون، ولكل عدو لله ورسوله ودينه مسالمون، وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون، أولئك أحزاب الضلال وأعداء الرسول وحزبه، وقد أخبر الله – سبحانه- عن أعلم الخلق به في زمانه، وهو كليمه ونجيه وصفيه من أهل الأرض، إنه سأل ربه - تعالى - النظر إليه، فقال له ربه - تبارك وتعالى -: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}31. ثم سرد كعادته في سرد وجوه الاستدلال من الآيات والأحاديث، ثم أردف بعد ذلك بذكر باب في تكليمه - سبحانه وتعالى - لأهل الجنة، وخطابه لهم، ومحاضرته إياهم وسلامه عليهم32.
وقد لخص حافظ حكمي هذه المسألة في منظومة سلم الوصول إلى علم الأصول فقال:
وأنه يرى بلا إنكار ... ... في جنة الفردوس بالأبصار
كل يراه رؤية العيان ... ... كما أتى في محكم القرآن
وفي حديث سيد الأنام ... ... من غير ما شك ولا إيهام
رؤية حق ليس يمترونها ... ... كالشمس صحواً لا سحاب دونها
وخص بالرؤية أولياؤه ... ... فضيلة وحجبوا أعداؤه
والحمد الله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وأله وصحبه وسلم.
________________________________________
1 - التحريم (6-7- 8 ).
2 - البقرة (24 – 25).
3 - آل عمران (131- 133).
4- انظر معارج القبول( 2/858).
5 - رواه البخاري ومسلم.
6 - آل عمران ( 133).
7 - الحديد (21)
8 - النجم (14- 15).
9 - رواه البخاري ومسلم.
10 - رواه البخاري ومسلم.
11 - التغابن ( 9).
12- البقرة (.2).
13- الفرقان ( 11)
14- النبأ (21 ).
15 - رواه البخاري ومسلم.
16 - رواه البخاري ومسلم.
17 - التوبة (100).
18 - الحجر (48 ).
19 - هود ( 108).
20- الواقعة (33) .
21 - النساء (168- 169)
22 - النساء (57).
23 - الأحزاب (64-65).
24 - المائدة (37).
25 - فاطر( 36- 37).
26- الأعلى ( 11- 13-12).
27 - النساء (56).
28 - رواه البخاري ومسلم.
29 - حادي الأرواح ص37. ط: دار كاتب وكتاب - بيروت، تحقيق د/ السيد الجميلي
30 - السجدة (17).
31 - الأعراف (143)
32- للاستزادة انظر حادي الأرواح ص 326- 380 فهو كتاب جامع نافع في الحديث عن الجنة وما فيها من النعيم المقيم، والنظر إلى وجه الله الكريم.
وأما الكتاب الذي أحيلك عليه في ذكر النار والتخويف منها ومن سلوك طريقها، وذكر ما يتجرعه أهلها من الغصص والحرمان، فهو كتاب: التخويف من النار للحافظ ابن رجب الحنبلي، فرجعهما تجد فيهما بغيتك ومقصو دك، والله يعصمنا وإياك من الخطاء الزلل، ويجنبنا طريق أهل الزيغ والأهواء والنحل .(/3)
الجنة دار الأبرار والطريق الموصل إليها
للشيخ / أبو بكر الجزائري
هذه هي الجنة دار السلام
يا وفد الرحمن
هذه النوق البيض فامتطوها ؟
كأني بهم وقد قاموا من قبورهم غير مذعورين ، ولا خائفين { لا يحزنهم الفزع الأكبر ، وتتلقاهم الملائكة : هذا يومكم الذي كنتم توعدون } .
أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال ( والذي نفسي بيده : إنهم إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة ، عليها رحال الذهب ، شراك نعالهم نور يتلألأ ، كل خطوة منها مد البصر . وينتهون إلى باب الجنة ) .
وفي القرآن الكريم { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً }
{ وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ، وقال لهم خزنتها : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } .
يالسعة الدار
ما أوسع دار السلام! وما أطيب ريحها!
أما عرضها فكعرض السماء والأرض وأما ريحها فيوجد من مسيرة مائة عام ففي الكتاب الكريم { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } وفي الحديث الشريف ( فإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام ).
هذه الأبواب أيها الوافدون فادخلوها
إن لدار المتقين ثمانية أبواب ، ما بين مصراعي كل باب مسيرة أربعين سنة ، والله ليأتين عليها يوم وهي كظيظ من الزحام .
علمنا أن أحد هذه الأبواب يسمي الريان وهو باب خاص بأهل الصيام .
وعلمنا أيضاً أن حلق هذه الأبواب من ياقوت أحمر على صفائح من ذهب .
رو ى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله ( إن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة بينهما مسيرة أربعين سنة وليأتين عليها يوم وهي كظيظ من الزحام ) وقال مرة صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن وفد الرحمن ( وينتهون إلى باب الجنة فإذا حلقة من ياقوت حمراء على صفائح الذهب ) .
ماذا عند باب الجنة
عند باب الجنة مباشرة على يمين الداخل أو شماله ، أو أمامه شجرة عظيمة ينبع من أصلها عينان أعدت إحداهما لشرب الداخلين ، والأخرى لاغتسالهم فيشربون من الأولى لتجري نضرة أشعارهم أبداً .
وفي القرآن الكريم { وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } .
وفي الحديث الشريف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عند باب الجنة شجرة ينبع من أصلها عينان فإذا شربوا من الأخرى لم تشعث أشعارهم أبداً ) .
مع أفواج الداخلين
نترك يا أخي القارئ الآن الكلمة للرسول صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن أفواج الداخلين فاسمع له يقول ( إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة ، لا يبولون ، ولا يتغوطون ، ولا يتمخطون ، ولا يتفلون . أمشاطهم الذهب ، ورشحهم المسك ، ومجامرهم الألوة . أزواجهم الحور العين . أخلاقهم على خلق رجل واحد ، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء ) .
وكيف يستقبلون
هذا وفد الرحمن يا رضوان فستقبله !
ما إن تطأ أقدامهم أبواب الجنة حتى يستقبلهم بالتهنئة والسلام جموع الملائكة الطاهرين ، وفي مقدمتهم رضوان خازن الجنان .
قال الله تعالى { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ، وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ، وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين } .
ماذا في القصور ؟
الله أكبر الله أكبر ؟
من الذي يقوى على وصف قصورهم ، أو يحسن التعبير عن نعيمهم وسرورهم ، والله مكرمهم ومنعمهم يقول { وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً ، عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق ، وحلُّوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } .
إن النبي صلى الله عليه وسلم يا أخي القارئ وحده يمكنه أن يحدثنا بعض الحديث عن تلك القصور ، وما حوت من النعيم المقيم ، فلنستمع إليه في هذا الحديث المقتضب القصير . من حديث له مسهب طويل هذا آخر رجل يدخل الجنة حتى إذا دنا من الناس رفع له قصر من درة فيخر ساجداً ، فيقال له : ارفع رأسك مالك ؟ فيقول رأيت ربي ! فيقال له : إنما هو منزل من منازلك ، ثم يلقى رجلاً فيتهيأ للسجود له . فيقال له : مه !! فيقول : رأيت أنك ملك من الملائكة . فيقول له : إنما أنا خازن من خزانك ، وعبد من عبيدك ، فينطلق أمامه حتى يفتح له القصر ، وهو من درة مجوفة سقافها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها , تستقبله جوهرة خضراء مبطنة ، كل جوهرة تفضي إلى جوهرة على غير لون الأخرى في كل جوهرة سرر وأزواج ووصائف أدناهن حوراء عيناء عليها سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء حللها ، كبدها مرآته ، وكبده مرآتها ، إذا أعرض عنها إعراضة ازدادت في عينه سبعين ضعفاً ، فيقال له أشرف فيشرف ، فيقال له : ملكك مسيرة مائة عام ينفذه بصرك .
الهدايا والتحف(/1)
وإذا ضمت وفد الرحمن القصور ، وانتهوا إلى نعيم غمرهم بالسرور والحبور ، توافدت عليهم جموع الملائكة المهنئة لهم ، وهي تحمل أجمل التحف وأحسن الهدايا ، وتقول " سلام عليكم بما صبرتم ، فنعم عقبى الدار " .
يالتفاوت الدرجات
سبحان الله ما أعظم تفاوت درجات القوم وما أبعد ما بين قصورهم ومنازلهم تبعاً لكمال إيمانهم في الدنيا وكثرة أعمالهم الصالحة فيها .,
روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم ، قالوا يا رسول الله : تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ، قال بلى ، والذي نفسي بيده (1) رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ) .
نظرة على أرض الجنة
ما تظن يا أخي . في أرض ؟ هل هي من تراب أبيض أو أحمر ، وهل حصباؤها من حجارة ملونة جميلة ، وهل جدران مبانيها من لبن في غاية الحسن والجمال ، وهل الطين الذي يوضع بين اللبنات لرصفها وإحكامها من مزيج الرمل الأبيض والإسمنت الأزرق الناعم
أعلم ي أخي القارئ إنه لا يستطيع أحد أن يجيبك عن تساؤلاتك هذه إلا من شاهد الجنة وعاش فيها ساعة كرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وها هم هؤلاء أصحابه يسألونه عنها ويقولون : حدثنا يا رسول الله عن الجنة ما بناؤها ؟ كما روى ذلك أحمد والترمذي فيقول : ( لبنة من ذهب ولبنة من فضة و ملاطها ( الطين ) المسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران من يدخلها
ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت ، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ) .
إلى جنة عدن
جنة عدن ، وما أدراك ما جنة عدن ، دار كرامة اولياء ، ومنزل الأبرار منهم .:
ما بالك يا أخي بدار بناها الله ، وبستان غرسه الله ، وبنعيم أعده الله لمن اطاعه وما عصاه .
ولا يشفي صدرك يا أخي ، بالحديث عنها سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسمع إليه وهو يقول كما روى ذلك الطبراني بسند جيد ( خلق الله جنة عدن بيده لبنة من درة بيضاء ، ولبنة من ياقوتة حمراء ، ولبنة من زبرجدة خضراء ، وملاطها المسك ، وحشيشها الزعفران ، حصباؤها اللؤلؤ ، ترابها العنبر ، ثم قال لها انطلقي ، قالت : ( قد افلح المؤمنون ).
في الخيام
في الجنة خيام قطعاً لقول الله تعالى { حور مقصورات في الخيام } ولكن ما نوع هذه الخيام ، وما شكلها ؟ وما هي مادة تكوينها ، وما مدى حسنها وجمالها .
وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة منها فقال ( إن للمؤمن في الجنة لخيمة من الؤلؤة مجوفة ، طولها في السماء ستون ميلاً ، وعرضها ستون ميلاً للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً ) .
من الخيام إلى السوق
سبحان الله هل في الجنة أسواق ! وكيف لا ! والله تعالى يقول { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون } فليس من المستغرب إذاً أن تتوق نفس أحدهم في الجنة إلى دخول سوق من الأسواق وخاصة التجار المؤمنين الذين كانوا يربحون في أسواق الدنيا ويربحون ، فيطلب ذلك ويدعيه ، فيخلق الله تعالى لهم أسواقاً يغشونها إتماماً للانعام في دار النعيم وهذا مسلم يخرج لنا حديث السوق في الجنة فيقول : إن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن في الجنة سوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً ، فتقول لهم أهلوهم ؛ والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً ، فيقولون ، وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً ).
بين الأنهار والأشجار
هات يدك – أخي القارئ – نتجول قليلاً بين أنهار الجنة وأشجارها ، ونمتع النفس ساعة في ذلك النعيم المقيم هيا بنا إلى الأنهار الأربعة التي هي أصل كل نهر في الجنة ، التي هي نهر الماء ، ونهر اللبن ، ونهر الخمر ، ونهر العسل كما أخبرنا بذلك ربنا جل جلاله في قوله من سورة محمد صلى الله عليه وسلم { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى } .
وإلى الكوثر يا أخي ، إلى حوض النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته فإنه من أعظم أنهار الجنة وأحسنها . فقد حدث عنه مرة صلى الله عليه وسلم كما روى ذلك البخاري فقال ( بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف ، فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال هو الكوثر الذي أعطاك ربك . قال فضرب الملك بيده فإذا طينة مسك أذفر ).
وقال مرة أخرى في رواية الترمذي : ( الكوثر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ،وماؤه أحلى من العسل ،وأبيض من الثلج ) .(/2)
هذه هي الأنهار قد وقفنا عليها ، وروينا النفس بالحديث عنها ، فهيا بنا إلى الأشجار وثمارها . وليرو لنا أمام الحديث البخاري طرفاً منها فلنستمع إليه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ) لا يقطعها ؛ إن شئتم فاقرأوا { ظل ممدود ، وماء مسكوب } .
ويحدث ابن عباس رضي الله عنهما عن هذا الظل الممدود فيقول : شجرة في الجنة على ساق قدر ما يسير الراكب في ظلها مائة عام في كل نواحيها ، فيخرج أهل الجنة ، أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها ، فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا ، فيرسل الله تعالى ريحاً من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا روى هذا الترمذي وحسنه ، وروى الحاكم وصححه قوله : نخلة الجنة جذعها من زمرد أخضر وكربها ذهب أحمر ، وسعفها كسوة لأهل الجنة . منها مقطعاتهم , وحللهم ، وثمرها أمثال القلال والدلاء ، أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل ، وألين من الزبدة ليس فيها عجم .
إلى مطاعم الجنة
وهل في الجنة مطاعم ؟
نعم فيها مطاعم ومشارب ، ولا ينبئك مثل القرآن واسمع إليه يحدثك ويصف لك من ذلك الكثير . ففي سورة الإنسان يقول : { ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير ، قوارير من فضة قدروها تقديراً ، ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً ، عيناً فيها تسمي سلسبيلاً } وفي سورة الزمر يقول قال الله تعالى { يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ، ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ، يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وأنتم فيها خالدون } .
وفي سورة الواقعة يقول { يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون ،وفاكهة مما يتخيرون ،ولحم طير مما يشتهون}
ويتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الجنة في أكلهم وشربهم ، واصفاً لهم فيقول ( أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يبولون طعامهم ذلك جشاء كريح المسك ، يلهمون التسبيح والتكبير كما يلهمون النفس ) ويقول صلى الله عليه وسلم ( إن أسفل أهل الجنة أجمعين من يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفتان ، واحدة من فضة ، وواحدة من ذهب . في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثلها ، يأكل من آخره كما يأكل من أوله ، يجد لآخره من اللذة والطعم ما لا يجد لأوله ، ثم يكون بعد ذلك رشح مسك وجشاء ، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ) .
الحلي والحلل
هل تريد أخي القارئ – أن تعرف شيئاً عن حلي أهل الجنة وحللهم ؟ فأتركك للقرآن الكريم يصف لك طرفاً من ذلك فاسمع إليه في سورة الكهف يقول { أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس واستبرق متكئين فيها على الأرائك } وفي سورة الإنسان يقول { عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق وحلوا أساور من فضة } وفي الحج يقول عنهم { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير } .
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يصف ذلك النعيم العظيم فيقول : ( من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه ، في الجنة مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) ويقول ( ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا انطلق به إلى طوبى فتفتح له أكمامها فيأخذ من أي ذلك شاء ،إن شاء أبيض وإن شاء أحمر، وإن شاء أخضر وإن شاء أصفر ، وإن شاء أسود مثل شقائق النعمان وأرق وأحسن).
السرر والأرائك
إن نعيم جنات دار النعيم يعظم – يا أخي – على الوصف ويقصر دونه الضبط والحصر ، وكيف يحصر مالا يفني ولا يبيد ، وكيف يوصف مالا يدرك كنهه ولا يعرف أوله ولا آخره .
قرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قول الله تعالى { متكئين على فرش بطائنها من استبرق } وقال : لقد أخبرتم بالبطائن فكيف بالظواهر ؟ .
وقيل في قوله تعالى : { وفرش مرفوعة } : لو طرح فراش من أعلاها لهوى إلى قرارها مائة خريف .
لنترك – يا أخي القارئ – الكلمة للقرآن الكريم يحدثنا عن أسرة القوم وأرائكهم ، فمن سورة الواقعة يقول : { والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين } ومن سورة الرحمن يقول { متكئين على فرش بطائنها من استبرق } ويقول { متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً } ومن سورة الغاشية يقول { وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لا غية فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ، ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة } .
مع الحور العين(/3)
إليك يا أخي كلمات قليلة من القرآن تتحدث عن نساء دار السلام جعلني الله وإياك من سكانها فاصغ إليها في إجلال وخشوع { إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عرباً أترابا لأصحاب اليمين } { فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } { وعندهم قاصرات الطرف أتراب هذا ما توعدون ليوم الحساب } { إن للمتقين مفازاً حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأساً دهاقاً } .
وبعد فإلى الرسول صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن هذا النعيم المقيم ويكشف لنا الستار عن بعض هؤلاء الحور لنزداد مقة وعشقاً ولنستحث الخطى إلى الوصول إلى العيش بجانبهن ، حدث مرة رسول الله قال ( لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم أو موضع سوطه من الجنة خير من الدنيا وما فيها ، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً ولأضاءت ما بينهما ، ولنصفيها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ) .
وقال مرة ( إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على ضوء كوكب دري في السماء ، ولكل امرئ منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم وما في الجنة أعزب ) .
ويقول : ( لو أن امرأة من نساء أهل الجنة أشرقت لملأت الأرض ريح مسك ولذهب ضوء الشمس والقمر ) .
شيء من الغناء والطرب
تعال يا أخي نطرب ساعة قبل يوم الساعة يروي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله ( إن في الجنة لمجتمعاً لحور العين يرفعن بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها يقلن : ( نحن الخالدات فلا نبيد ) و ( نحن الناعمات فلا نبأس ) و ( نحن الراضيات فلا نسخط ) ( وطوبى لمن كان لنا وكنا له ) وإليك أخي القارئ مجتمعاً آخر لحور العين يا له من مجتمع عجيب !! دونك النهر على حافتيه صفوف الحور العين يغنين بأصوات يسمعها الخلائق حتى ما يرون في الجنة لذة مثلها ) وقيل لأبي هريرة وما ذاك الغناء فقال ( إن شاء الله التسبيح والتحميد والتقديس والثناء على الرب عز وجل ) .
خيل في الجنة
إلى عشاق الخيل والمولعين بركوبها وامتطاء صهواتها نعيماً آخر تلذونه وتسعدون به إنه يوجد لكم خيول في الجنة من الياقوت الأحمر لها أجنحة تطير بكم حيث شئتم قال عبد الرحمن بن ساعدة رضي الله عنه كنت رجلاً أحب الخيل فقلت يا رسول الله هل في الجنة خيل ؟ فقال ( إن أدخلك الله يا عبد الرحمن ، كان لك فيها فرس من الياقوت له جناحان تطير بك حيث شئت ) وقال فداه أبي وأمي صلى الله عليه وسلم ( إن (2) في الجنة لشجراً يخرج من أعلاها حلل ومن أسفلها خيل من ذهب مسرجة ملجمة من در وياقوت لا تروث ولا تبول لها أجنحة خطوها مد البصر تركبها أهل الجنة فتطير بهم حيث شاءوا فيقول الذين أسفل منهم درجة ، يا رب بم بلغ عبادك هذه الكرامة كلها ، فيقال لهم كانوا يصلون بالليل وكنتم تنامون وكانوا يصومون وكنتم تأكلون وكانوا ينفقون وكنتم تبخلون وكانوا يقاتلون وكنتم تجبنون ) .
معهم في تزوارهم
إذا كان لأهل الجنة ما تشتهي أنفسهم فيها ولهم فيها . ما يدعون فأي شيء أشهى على النفس من زيارة إخوان كان يربط بينهم في الدنيا حب الله والسير في الطريق إليه .
وعليه فهل تحصل زيارات في الجنة يسرون بها وينعمون على تفاوتهم في الدرجات ، وارتفاع المنازل ، وعلوا المقامات ؟ نعم يا أخي القارئ الكريم ولم لا يكون لهم ذلك وكيف لا وقد علمت أن لهم فيها ما تشتهي أنفسهم وما يدعون ولنسمع إلى البزار رحمة الله تعالى يروي لنا في ذلك الحديث النبوي التالي : ( إذا دخل أهل الجنة فيشتاق الإخوان بعضهم إلى بعض فيسير سرير هذا إلى سرير هذا ، وسرير هذا إلى سرير هذا حتى يجتمعا جميعاً فيتكئ هذا ، فيقول أحدهما لصاحبه : أتعلم متى غفر الله لنا ؟فيقول صاحبه :نعم ،يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله تعالى فغفر لنا ).
أما أبو هريرة رضي الله عنه فيروي لنا ويقول : إن أهل الجنة ليزاورون على العيس الجون ، عليها رجال الميس يثير مناسمها غبار المسك ، خطام أو زمام أحدهما من الدنيا وما فيها .
أكرم زيارة
أية زيارة أكرم يا أخي ، وأية زيارة أعظم ، وأية زيارة أشهى على النفس وأحب لها من تلك التي هي زيارة الرب تبارك وتعالى !!
روى أبو نعيم في حليته عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله ( إذا سكن أهل الجنة الجنة أتاهم ملك فيقول لهم :إن الله يأمركم أن تزوروه فيجتمعون ، فيأمر الله تعالى داود عليه السلام فيرفع صوته بالتسبيح والتهليل ثم توضع مائدة الخلد ، قالوا يا رسول الله وما مائدة الخلد ؟ قال : زاوية من زواياها أوسع مما بين المشرق والمغرب فيطمعون ، ثم يسقون ، ثم يكسون ،فيقولون لم يبق إلا النظر في وجه ربنا عز وجل ، فيتجلى لهم فيخرون سجداً فيقال لهم : لستم في دار عمل ، إنما أنتم في دار جزاء ) .
سلام عليكم
بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : سلام عليكم يا أهل الجنة .(/4)
وهو قول الله تعالى من سورة يس { سلام قولاً من رب رحيم } فلا يتلفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ، وتبقى فيهم بركته ونوره .
نعيم لا يوصف
إن نعيماً وعد الله به أهل وفادته ، ودار كرامته لا يستطيع امرؤ وصفه مهما كان لسناً ذا بيان فضلاً عن أن يعده أو يحده ، يقول الله تعالى فيه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم : ( لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ومصداق هذه في القرآن الكريم ) { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } .
إلى أعظم نعيم
{ ورضوان من الله أكبر }
هكذا يقول الله تعالى في كتابه العزيز { ورضوان من الله أكبر }
فقد ذكر تبارك وتعالى ما أعده لأوليائه وأهل وفادته من النعيم المقيم في جنات عدن ثم قال بعد ذلك النعيم العظيم { ورضوان من الله أكبر } فعلم أن رضاه سبحانه وتعالى من عباده هو أكبر نعيم يلقونه في دار الإكرام والإنعام .
وهذا الإمام البخاري رحمه الله يروي لنا حديث أكبر الإنعام فيقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة ، يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، والخير بيديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقولون : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ( فيقولون : وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول ، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً ) اللهم اجعلنا من أهل طاعتك ومحبتك ورضوانك آمين .
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
وهذا هو الطريق
هذا هو الطريق أيها السائرون !
فإلى الجنة دار النعيم التي عرفها لكم .
وهذا هو طريقها واضحا معبداً عليه أعلامه ، وفوقه أنواره وها أنتم في مبتداه فسيراً حثيثاً إلى منتهاه حيث أبواب الجنة مفتحة أيها السالكون !!
إليكم الطريق كما رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوليه :
1. ( تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ) .
2. ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى ، قيل : ومن يأبى يا رسول الله ؟ فقال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) إنه عليه الصلاة والسلام في هذين الحديثين قد بين الطريق ورسمه واضحاً لكل ذي بصيرة فهلم أيها الإخوان لنسير سوياً ، أخوانا متحابين وأصدقاء متعاونين فهيا بنا هيا بنا !!
واسمحوا لي أن أتقدمكم رائداً لكم لأصف طريقكم إلى جنة ربكم ، ودار إقامتكم وكرامتكم .
إن الطريق أيها الإخوة السائرون بين أربع كلمات : إثنتان سالبتان ، وإثنتان موجبتان . فالسالبتان : الشرك والمعاصي ، والموجبتان : الإيمان والعمل الصالح .
ومن هذه الكلمات الأربع يتكون الطريق القاصد إلى الجنة دار الإقامة والكرامة .
وهاهو ذا قد أشير إليه بكلمتي لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، إذ الأول تعني أنه لا معبود بحق إلا الغفور الودود ، فليعبد وحده بالإيمان واليقين ، والطاعة له ولرسوله بالصدق والإخلاص الكاملين .
والثانية تعني أن النبي محمداً هو الرسول الخاص ببيان كيف يعبد الله وحده في هذه الأكوان ، وأنه لا يتأتى لأحد أن يعبد الله بدون إرشاده صلى الله عليه وسلم وبيانه .
والآن أيها الإخوة السائرون فلنسلك الطريق مسترشدين بإشارة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
• فلنعتقد جازمين أن خالقنا هو الذي خلق هذه العوالم ودبرها بقدرته وعلمه ، ومشيئته وحكمته ، وفيها تجلت صفاته العلى وأسماؤه الحسنى ، فبقدرته تعالى كانت هذه الأكوان ، وبعلمه تعالى اتحد وجودها وانتظم شأنها ، وسارت إلى غاياتها في نظام محكم بديع .
• ولنعتقد جازمين أنه لا وجود لمشارك لله تعالى في خلق هذه العوالم ولا مدبر لها معه سواه؛إذا لو كان ذلك لظهر في العوالم التضارب والتناقص ،ولأسرع إليها الفناء والزوال{قل لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا ، فسبحان الله رب العرش عما يصفون}.
• ولنعتقد جازمين أنه متى لم يكن لله تعالى شريك في الخلق والتدبير فإنه لا يكون له شريك في الطاعة والعبادة ، فلا ينبغي أن يعبد معه أحد أبداً سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً ، أو دون ذلك . من سائر المخلوقات . وسواء كانت العبادة صلاة أو دعاء ، أو صوماً أو ذبحاً ، أو زكاة أو نذراً ، لو طاعة في معصيته تعالى بتحريم ما أحل أو تحليل ما حرم أو ترك ما أوجب أو فعل ما حرم .
• ولنعتقد جازمين أن حاجة الناس إلى الرسل في بيان الطريق إلى الجنة اقتضت إرسالهم ، وإنزال الكتب عليهم ومن هنا وجب تصديق كافة الرسل وإتباعهم ووجب الإيمان بالكتب والعمل بما فيها مما لم ينسخه الله تعالى بغيره من الشرائع والأحكام كما وجب الإيمان بالملائكة ، والقدر والمعاد والحساب والجزاء . بهذه النقاط الأربع المشتملة على الإيمان الصحيح كنا قد قطعنا ربع الطريق إلى الجنة ، أيها السائرون فإلى الربع الثاني وهو العمل الصالح .(/5)
• فلنقم الصلاة بأن نتطهر لها طهارة كاملة ، ونؤديها في أوقاتها في جماعة أداء وافياً مستوفين كافة الشروط والفرائض والسنن والآداب فنوافق بها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) .
• ولنؤت زكاة أموالنا أهلها من الفقراء والمساكين والغارمين والمجاهدين ولنتحر في إخراجها الجودة والكمال والإخلاص الكامل فيها لله تعالى .
• ولنصم رمضان بالإمساك عن المفطرات والبعد عن المتشابهات والمحرمات في الأقوال والأفعال والخواطر والنيات .
• ولنحج بيت الله حجاً كحج رسول الله صلى الله عليه وسلم موسوماً بالبرور وذلك بأدائه أداء صحيحاً خالياً من الرفث والفسق والجدال محفوفاً بالخيرات مفعماً بالصالحات .
• ولنبر الوالدين بطاعتهما في غير معصية الله ، وبالإحسان اليهما ببذل المعروف وإسداء الجميل من القول والفعل ، مع كف الأذى عنهما ولو كان ضجراً منهما ، أو عدم رضا عنهما .
• ولنصل أرحامنا ببرهم وزيارتهم ، والسؤال عنهم ، والتعرف إلى أحوالهم ومساعدتهم بما في القدرة وما هو مستطاع .
• ولنحسن إلى الجيران بإكرامهم المتمثل في الإحسان إليهم وكف الأذى عنهم .
• ولنكرم الضيف إكرامه الواجب له بإطعامه وإيوائه .
• ولنكرم المؤمن بتحقيق أخوته القائمة على أساس أداء حقوقه من السلام عليه عند ملاقاته ، وتشميته عند عطاسه . وتشييع جنازته عند مماته ،وعيادته إذا مرض ، وإبرار قسمه إذا أقسم .
• ولنعدل في القول والفعل والحكم إذ العدل في الكل واجب محتم ، وبه يستقيم أمر الدين والدنيا ، ويصلح شأن العباد والبلاد .
وإلى هنا تم نصف الطريق أيها السائرون ، ولم يبق إلا نصفه الآخر ، هو ترك الشرك والمعاصي فلنواصل السير في غير كلل ولا ملل ولنترك الشرك وذلك :
1. بأن لا نعتقد أن مخلوقاً من المخلوقات كائناً من كان يملك لنفسه أو لغيره ضراً أو نفعاً بدون مشيئة الله وإذنه ، وعليه فلنحرص رغبتنا في الله فلا نرغب في أحد سواه فلا نسأل مخلوقاً ولا نستشفع أو نستغيث بآخر ، إذ لا معطي ولا مغيث إلا الله . فلنقصر رغبتنا فيه ، ورهبتنا وخوفنا منه .
2. بأن لا نصرف شيئاً من عبادة الله تعالى إلى أحد سواه ؛ فلا نحلف بغير الله ولا نذبح على قبر ولي من أولياء الله ، ولا ننذر نذراً لغير الله ، ولا ندعو غير الله ولا نستغيث بسواه .
3. وبأن لا نعلق خيطاً أو عظماً أو حديداً نرجو بها دفع العين أو كشف الضر ، فإنه لا يدفع العين ولا يكشف الضر إلا الله .
4. وبأن لا نصدق كاهناً أو عرافاً أو منجماً فيما يخبر به ويدعيه من علم الغيب ؛ إذ لا يعلم الغيب إلا الله .
5. وبأنه لا نطيع حاكماً أو عالماً أو أباً أو أماً أو شيخاًَ في معصية الله ، إذ طاعة غير الله بتحريم ما أحل الله ، أو تحليل ما حرم شرك في ربوبية الله .
بهذه الخطوات الخمس أيها السائرون قد قطعنا نصف المسافة المتبقية ولم يبق إلا نصفها الآخر وهو ترك المعاصي وبعدها نصل إلى باب الجنة وندخلها إن شاء الله مع الداخلين فهيا بنا نواصل سيرنا أيها السالكون .
• فلنحفظ الدماغ فلا نفكر فيما يضر ، ولا ندبر ما يسوء من فساد أو شر .
• ونحفظ السمع فلا نسمع باطلاً من سوء أو فحش ، أو كذب أو غناء ، أو غيبة ، أو نميمة ، أو هجر أو كفر .
• ونحفظ البصر فلا نسرحه في النظر إلى ما لا يحل النظر إليه من أجنبية غير محرمة مسلمة أو كافرة ، عفيفة أو فاجرة .
• ونحفظ اللسان فلا ننطق بفحش أو بذاء ، ولا سوء أو كذب أو زور ، أو غيبة أو نميمة أو سب أو شتم أو لعن من لا يستحق اللعنة .
• ونحفظ البطن فلا ندخل فيه حراماً طعاماً كان أو شراباً فلا نأكل ربا ولا ميتة ولا خنزيراً ، ولا نشرب مسكراً ، ولا ندخن تبغاً ولا تنباكا .
• ونحفظ الفرج فلا نطأ غير زوجة شرعية أو مملوكة سرية أباح الله وطئها وأذن فيه .
• ونحفظ اليد فلا نؤذي بها أحداً بضرب أو القتل ، ولا نأخذ بها مالاً حراماً ولا نلعب بها ميسراً ولا نكتب بها زوراً أو باطلاً .
• ونحفظ الرجل فلا نمشي بها إلى لهو أو باطل ، ولا نسعى بها إلى فتنة أو فساد أو شر .
• ونحفظ العهد ، والشهادة والأمانة ، فلا نخفر ذمة ولا ننكث عهداً ، ولا نخلف وعداً ، ولا نشهد زوراً ولا نخون أمانة .
• ونحفظ المال فلا نبذره ، ولا نسرف فيه ، كما لا نهمله ولا نضيعه ، أو نتركه بدون إنماء أو صلاح .
• ونحفظ الأهل والولد في أبدانهم وعقولهم وعقائدهم وأخلاقهم فندفع عنهم ما يؤذيهم أو يضرهم أو يفسد أرواحهم ، أو عقولهم وندرأ عنهم كل ما يردي أو يهلك ويشقي .
وإلى هنا انتهى الطريق أيها السائرون فدونكم الجنة دار السلام فتهيأوا للدخول منتظرين رسل ربكم متى تصل إليكم حاملة استدعاء ربكم المنعم الكريم لتفدوا عليه وتحطوا الرحال بساحته . ويومها يفرح ، المتقون .
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
-----------------------------(/6)
[1] - هذا كقوله تعالى : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله }
[2] - تنبيه : جميع أحاديث هذه الرسالة خرجها المنذري في الترغيب وما فيها حديث غير مقبول قط(/7)
الجنة دار الأبرار
والطريق الموصل إليها
للشيخ / أبو بكر الجزائري
المقدمة
بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة واللام على رسول الله ، وآله وصحبه ومن والاه .
هذه هي الجنة دار السلام
يا وفد الرحمن
هذه النوق البيض فامتطوها ؟
كأني بهم وقد قاموا من قبورهم غير مذعورين ، ولا خائفين { لا يحزنهم الفزع الأكبر ، وتتلقاهم الملائكة : هذا يومكم الذي كنتم توعدون } .
أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال ( والذي نفسي بيده : إنهم إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة ، عليها رحال الذهب ، شراك نعالهم نور يتلألأ ، كل خطوة منها مد البصر . وينتهون إلى باب الجنة ) .
وفي القرآن الكريم { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً }
{ وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ، وقال لهم خزنتها : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } .
يالسعة الدار
ما أوسع دار السلام! وما أطيب ريحها!
أما عرضها فكعرض السماء والأرض وأما ريحها فيوجد من مسيرة مائة عام ففي الكتاب الكريم { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } وفي الحديث الشريف ( فإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام ).
هذه الأبواب أيها الوافدون فادخلوها
إن لدار المتقين ثمانية أبواب ، ما بين مصراعي كل باب مسيرة أربعين سنة ، والله ليأتين عليها يوم وهي كظيظ من الزحام .
علمنا أن أحد هذه الأبواب يسمي الريان وهو باب خاص بأهل الصيام .
وعلمنا أيضاً أن حلق هذه الأبواب من ياقوت أحمر على صفائح من ذهب .
رو ى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله ( إن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة بينهما مسيرة أربعين سنة وليأتين عليها يوم وهي كظيظ من الزحام ) وقال مرة صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن وفد الرحمن ( وينتهون إلى باب الجنة فإذا حلقة من ياقوت حمراء على صفائح الذهب ) .
ماذا عند باب الجنة
عند باب الجنة مباشرة على يمين الداخل أو شماله ، أو أمامه شجرة عظيمة ينبع من أصلها عينان أعدت إحداهما لشرب الداخلين ، والأخرى لاغتسالهم فيشربون من الأولى لتجري نضرة أشعارهم أبداً .
وفي القرآن الكريم { وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } .
وفي الحديث الشريف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عند باب الجنة شجرة ينبع من أصلها عينان فإذا شربوا من الأخرى لم تشعث أشعارهم أبداً ) .
مع أفواج الداخلين
نترك يا أخي القارئ الآن الكلمة للرسول صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن أفواج الداخلين فاسمع له يقول ( إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة ، لا يبولون ، ولا يتغوطون ، ولا يتمخطون ، ولا يتفلون . أمشاطهم الذهب ، ورشحهم المسك ، ومجامرهم الألوة . أزواجهم الحور العين . أخلاقهم على خلق رجل واحد ، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء ) .
وكيف يستقبلون
هذا وفد الرحمن يا رضوان فستقبله !
ما إن تطأ أقدامهم أبواب الجنة حتى يستقبلهم بالتهنئة والسلام جموع الملائكة الطاهرين ، وفي مقدمتهم رضوان خازن الجنان .
قال الله تعالى { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ، وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ، وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين } .
ماذا في القصور ؟
الله أكبر الله أكبر ؟
من الذي يقوى على وصف قصورهم ، أو يحسن التعبير عن نعيمهم وسرورهم ، والله مكرمهم ومنعمهم يقول { وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً ، عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق ، وحلُّوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } .
إن النبي صلى الله عليه وسلم يا أخي القارئ وحده يمكنه أن يحدثنا بعض الحديث عن تلك القصور ، وما حوت من النعيم المقيم ، فلنستمع إليه في هذا الحديث المقتضب القصير . من حديث له مسهب طويل هذا آخر رجل يدخل الجنة حتى إذا دنا من الناس رفع له قصر من درة فيخر ساجداً ، فيقال له : ارفع رأسك مالك ؟ فيقول رأيت ربي ! فيقال له : إنما هو منزل من منازلك ، ثم يلقى رجلاً فيتهيأ للسجود له . فيقال له : مه !! فيقول : رأيت أنك ملك من الملائكة . فيقول له : إنما أنا خازن من خزانك ، وعبد من عبيدك ، فينطلق أمامه حتى يفتح له القصر ، وهو من درة مجوفة سقافها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها , تستقبله جوهرة خضراء مبطنة ، كل جوهرة تفضي إلى جوهرة على غير لون الأخرى في كل جوهرة سرر وأزواج ووصائف أدناهن حوراء عيناء عليها سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء حللها ، كبدها مرآته ، وكبده مرآتها ، إذا أعرض عنها إعراضة ازدادت في عينه سبعين ضعفاً ، فيقال له أشرف فيشرف ، فيقال له : ملكك مسيرة مائة عام ينفذه بصرك .
الهدايا والتحف(/1)
وإذا ضمت وفد الرحمن القصور ، وانتهوا إلى نعيم غمرهم بالسرور والحبور ، توافدت عليهم جموع الملائكة المهنئة لهم ، وهي تحمل أجمل التحف وأحسن الهدايا ، وتقول " سلام عليكم بما صبرتم ، فنعم عقبى الدار " .
يالتفاوت الدرجات
سبحان الله ما أعظم تفاوت درجات القوم وما أبعد ما بين قصورهم ومنازلهم تبعاً لكمال إيمانهم في الدنيا وكثرة أعمالهم الصالحة فيها .,
روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم ، قالوا يا رسول الله : تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ، قال بلى ، والذي نفسي بيده (1) رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ) .
نظرة على أرض الجنة
ما تظن يا أخي . في أرض ؟ هل هي من تراب أبيض أو أحمر ، وهل حصباؤها من حجارة ملونة جميلة ، وهل جدران مبانيها من لبن في غاية الحسن والجمال ، وهل الطين الذي يوضع بين اللبنات لرصفها وإحكامها من مزيج الرمل الأبيض والإسمنت الأزرق الناعم
أعلم ي أخي القارئ إنه لا يستطيع أحد أن يجيبك عن تساؤلاتك هذه إلا من شاهد الجنة وعاش فيها ساعة كرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وها هم هؤلاء أصحابه يسألونه عنها ويقولون : حدثنا يا رسول الله عن الجنة ما بناؤها ؟ كما روى ذلك أحمد والترمذي فيقول : ( لبنة من ذهب ولبنة من فضة و ملاطها ( الطين ) المسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران من يدخلها
ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت ، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ) .
إلى جنة عدن
جنة عدن ، وما أدراك ما جنة عدن ، دار كرامة اولياء ، ومنزل الأبرار منهم .:
ما بالك يا أخي بدار بناها الله ، وبستان غرسه الله ، وبنعيم أعده الله لمن اطاعه وما عصاه .
ولا يشفي صدرك يا أخي ، بالحديث عنها سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسمع إليه وهو يقول كما روى ذلك الطبراني بسند جيد ( خلق الله جنة عدن بيده لبنة من درة بيضاء ، ولبنة من ياقوتة حمراء ، ولبنة من زبرجدة خضراء ، وملاطها المسك ، وحشيشها الزعفران ، حصباؤها اللؤلؤ ، ترابها العنبر ، ثم قال لها انطلقي ، قالت : ( قد افلح المؤمنون ).
في الخيام
في الجنة خيام قطعاً لقول الله تعالى { حور مقصورات في الخيام } ولكن ما نوع هذه الخيام ، وما شكلها ؟ وما هي مادة تكوينها ، وما مدى حسنها وجمالها .
وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة منها فقال ( إن للمؤمن في الجنة لخيمة من الؤلؤة مجوفة ، طولها في السماء ستون ميلاً ، وعرضها ستون ميلاً للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً ) .
من الخيام إلى السوق
سبحان الله هل في الجنة أسواق ! وكيف لا ! والله تعالى يقول { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون } فليس من المستغرب إذاً أن تتوق نفس أحدهم في الجنة إلى دخول سوق من الأسواق وخاصة التجار المؤمنين الذين كانوا يربحون في أسواق الدنيا ويربحون ، فيطلب ذلك ويدعيه ، فيخلق الله تعالى لهم أسواقاً يغشونها إتماماً للانعام في دار النعيم وهذا مسلم يخرج لنا حديث السوق في الجنة فيقول : إن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن في الجنة سوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً ، فتقول لهم أهلوهم ؛ والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً ، فيقولون ، وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً ).
بين الأنهار والأشجار
هات يدك – أخي القارئ – نتجول قليلاً بين أنهار الجنة وأشجارها ، ونمتع النفس ساعة في ذلك النعيم المقيم هيا بنا إلى الأنهار الأربعة التي هي أصل كل نهر في الجنة ، التي هي نهر الماء ، ونهر اللبن ، ونهر الخمر ، ونهر العسل كما أخبرنا بذلك ربنا جل جلاله في قوله من سورة محمد صلى الله عليه وسلم { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى } .
وإلى الكوثر يا أخي ، إلى حوض النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته فإنه من أعظم أنهار الجنة وأحسنها . فقد حدث عنه مرة صلى الله عليه وسلم كما روى ذلك البخاري فقال ( بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف ، فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال هو الكوثر الذي أعطاك ربك . قال فضرب الملك بيده فإذا طينة مسك أذفر ).
وقال مرة أخرى في رواية الترمذي : ( الكوثر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ،وماؤه أحلى من العسل ،وأبيض من الثلج ) .(/2)
هذه هي الأنهار قد وقفنا عليها ، وروينا النفس بالحديث عنها ، فهيا بنا إلى الأشجار وثمارها . وليرو لنا أمام الحديث البخاري طرفاً منها فلنستمع إليه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ) لا يقطعها ؛ إن شئتم فاقرأوا { ظل ممدود ، وماء مسكوب } .
ويحدث ابن عباس رضي الله عنهما عن هذا الظل الممدود فيقول : شجرة في الجنة على ساق قدر ما يسير الراكب في ظلها مائة عام في كل نواحيها ، فيخرج أهل الجنة ، أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها ، فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا ، فيرسل الله تعالى ريحاً من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا روى هذا الترمذي وحسنه ، وروى الحاكم وصححه قوله : نخلة الجنة جذعها من زمرد أخضر وكربها ذهب أحمر ، وسعفها كسوة لأهل الجنة . منها مقطعاتهم , وحللهم ، وثمرها أمثال القلال والدلاء ، أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل ، وألين من الزبدة ليس فيها عجم .
إلى مطاعم الجنة
وهل في الجنة مطاعم ؟
نعم فيها مطاعم ومشارب ، ولا ينبئك مثل القرآن واسمع إليه يحدثك ويصف لك من ذلك الكثير . ففي سورة الإنسان يقول : { ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير ، قوارير من فضة قدروها تقديراً ، ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً ، عيناً فيها تسمي سلسبيلاً } وفي سورة الزمر يقول قال الله تعالى { يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ، ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ، يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وأنتم فيها خالدون } .
وفي سورة الواقعة يقول { يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون ،وفاكهة مما يتخيرون ،ولحم طير مما يشتهون}
ويتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الجنة في أكلهم وشربهم ، واصفاً لهم فيقول ( أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يبولون طعامهم ذلك جشاء كريح المسك ، يلهمون التسبيح والتكبير كما يلهمون النفس ) ويقول صلى الله عليه وسلم ( إن أسفل أهل الجنة أجمعين من يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفتان ، واحدة من فضة ، وواحدة من ذهب . في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثلها ، يأكل من آخره كما يأكل من أوله ، يجد لآخره من اللذة والطعم ما لا يجد لأوله ، ثم يكون بعد ذلك رشح مسك وجشاء ، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ) .
الحلي والحلل
هل تريد أخي القارئ – أن تعرف شيئاً عن حلي أهل الجنة وحللهم ؟ فأتركك للقرآن الكريم يصف لك طرفاً من ذلك فاسمع إليه في سورة الكهف يقول { أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس واستبرق متكئين فيها على الأرائك } وفي سورة الإنسان يقول { عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق وحلوا أساور من فضة } وفي الحج يقول عنهم { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير } .
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يصف ذلك النعيم العظيم فيقول : ( من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه ، في الجنة مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) ويقول ( ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا انطلق به إلى طوبى فتفتح له أكمامها فيأخذ من أي ذلك شاء ،إن شاء أبيض وإن شاء أحمر، وإن شاء أخضر وإن شاء أصفر ، وإن شاء أسود مثل شقائق النعمان وأرق وأحسن).
السرر والأرائك
إن نعيم جنات دار النعيم يعظم – يا أخي – على الوصف ويقصر دونه الضبط والحصر ، وكيف يحصر مالا يفني ولا يبيد ، وكيف يوصف مالا يدرك كنهه ولا يعرف أوله ولا آخره .
قرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قول الله تعالى { متكئين على فرش بطائنها من استبرق } وقال : لقد أخبرتم بالبطائن فكيف بالظواهر ؟ .
وقيل في قوله تعالى : { وفرش مرفوعة } : لو طرح فراش من أعلاها لهوى إلى قرارها مائة خريف .
لنترك – يا أخي القارئ – الكلمة للقرآن الكريم يحدثنا عن أسرة القوم وأرائكهم ، فمن سورة الواقعة يقول : { والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين } ومن سورة الرحمن يقول { متكئين على فرش بطائنها من استبرق } ويقول { متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً } ومن سورة الغاشية يقول { وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لا غية فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ، ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة } .
مع الحور العين(/3)
إليك يا أخي كلمات قليلة من القرآن تتحدث عن نساء دار السلام جعلني الله وإياك من سكانها فاصغ إليها في إجلال وخشوع { إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عرباً أترابا لأصحاب اليمين } { فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } { وعندهم قاصرات الطرف أتراب هذا ما توعدون ليوم الحساب } { إن للمتقين مفازاً حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأساً دهاقاً } .
وبعد فإلى الرسول صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن هذا النعيم المقيم ويكشف لنا الستار عن بعض هؤلاء الحور لنزداد مقة وعشقاً ولنستحث الخطى إلى الوصول إلى العيش بجانبهن ، حدث مرة رسول الله قال ( لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم أو موضع سوطه من الجنة خير من الدنيا وما فيها ، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً ولأضاءت ما بينهما ، ولنصفيها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ) .
وقال مرة ( إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على ضوء كوكب دري في السماء ، ولكل امرئ منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم وما في الجنة أعزب ) .
ويقول : ( لو أن امرأة من نساء أهل الجنة أشرقت لملأت الأرض ريح مسك ولذهب ضوء الشمس والقمر ) .
شيء من الغناء والطرب
تعال يا أخي نطرب ساعة قبل يوم الساعة يروي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله ( إن في الجنة لمجتمعاً لحور العين يرفعن بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها يقلن : ( نحن الخالدات فلا نبيد ) و ( نحن الناعمات فلا نبأس ) و ( نحن الراضيات فلا نسخط ) ( وطوبى لمن كان لنا وكنا له ) وإليك أخي القارئ مجتمعاً آخر لحور العين يا له من مجتمع عجيب !! دونك النهر على حافتيه صفوف الحور العين يغنين بأصوات يسمعها الخلائق حتى ما يرون في الجنة لذة مثلها ) وقيل لأبي هريرة وما ذاك الغناء فقال ( إن شاء الله التسبيح والتحميد والتقديس والثناء على الرب عز وجل ) .
خيل في الجنة
إلى عشاق الخيل والمولعين بركوبها وامتطاء صهواتها نعيماً آخر تلذونه وتسعدون به إنه يوجد لكم خيول في الجنة من الياقوت الأحمر لها أجنحة تطير بكم حيث شئتم قال عبد الرحمن بن ساعدة رضي الله عنه كنت رجلاً أحب الخيل فقلت يا رسول الله هل في الجنة خيل ؟ فقال ( إن أدخلك الله يا عبد الرحمن ، كان لك فيها فرس من الياقوت له جناحان تطير بك حيث شئت ) وقال فداه أبي وأمي صلى الله عليه وسلم ( إن (2) في الجنة لشجراً يخرج من أعلاها حلل ومن أسفلها خيل من ذهب مسرجة ملجمة من در وياقوت لا تروث ولا تبول لها أجنحة خطوها مد البصر تركبها أهل الجنة فتطير بهم حيث شاءوا فيقول الذين أسفل منهم درجة ، يا رب بم بلغ عبادك هذه الكرامة كلها ، فيقال لهم كانوا يصلون بالليل وكنتم تنامون وكانوا يصومون وكنتم تأكلون وكانوا ينفقون وكنتم تبخلون وكانوا يقاتلون وكنتم تجبنون ) .
معهم في تزوارهم
إذا كان لأهل الجنة ما تشتهي أنفسهم فيها ولهم فيها . ما يدعون فأي شيء أشهى على النفس من زيارة إخوان كان يربط بينهم في الدنيا حب الله والسير في الطريق إليه .
وعليه فهل تحصل زيارات في الجنة يسرون بها وينعمون على تفاوتهم في الدرجات ، وارتفاع المنازل ، وعلوا المقامات ؟ نعم يا أخي القارئ الكريم ولم لا يكون لهم ذلك وكيف لا وقد علمت أن لهم فيها ما تشتهي أنفسهم وما يدعون ولنسمع إلى البزار رحمة الله تعالى يروي لنا في ذلك الحديث النبوي التالي : ( إذا دخل أهل الجنة فيشتاق الإخوان بعضهم إلى بعض فيسير سرير هذا إلى سرير هذا ، وسرير هذا إلى سرير هذا حتى يجتمعا جميعاً فيتكئ هذا ، فيقول أحدهما لصاحبه : أتعلم متى غفر الله لنا ؟فيقول صاحبه :نعم ،يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله تعالى فغفر لنا ).
أما أبو هريرة رضي الله عنه فيروي لنا ويقول : إن أهل الجنة ليزاورون على العيس الجون ، عليها رجال الميس يثير مناسمها غبار المسك ، خطام أو زمام أحدهما من الدنيا وما فيها .
أكرم زيارة
أية زيارة أكرم يا أخي ، وأية زيارة أعظم ، وأية زيارة أشهى على النفس وأحب لها من تلك التي هي زيارة الرب تبارك وتعالى !!
روى أبو نعيم في حليته عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله ( إذا سكن أهل الجنة الجنة أتاهم ملك فيقول لهم :إن الله يأمركم أن تزوروه فيجتمعون ، فيأمر الله تعالى داود عليه السلام فيرفع صوته بالتسبيح والتهليل ثم توضع مائدة الخلد ، قالوا يا رسول الله وما مائدة الخلد ؟ قال : زاوية من زواياها أوسع مما بين المشرق والمغرب فيطمعون ، ثم يسقون ، ثم يكسون ،فيقولون لم يبق إلا النظر في وجه ربنا عز وجل ، فيتجلى لهم فيخرون سجداً فيقال لهم : لستم في دار عمل ، إنما أنتم في دار جزاء ) .
سلام عليكم
بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : سلام عليكم يا أهل الجنة .(/4)
وهو قول الله تعالى من سورة يس { سلام قولاً من رب رحيم } فلا يتلفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ، وتبقى فيهم بركته ونوره .
نعيم لا يوصف
إن نعيماً وعد الله به أهل وفادته ، ودار كرامته لا يستطيع امرؤ وصفه مهما كان لسناً ذا بيان فضلاً عن أن يعده أو يحده ، يقول الله تعالى فيه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم : ( لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ومصداق هذه في القرآن الكريم ) { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } .
إلى أعظم نعيم
{ ورضوان من الله أكبر }
هكذا يقول الله تعالى في كتابه العزيز { ورضوان من الله أكبر }
فقد ذكر تبارك وتعالى ما أعده لأوليائه وأهل وفادته من النعيم المقيم في جنات عدن ثم قال بعد ذلك النعيم العظيم { ورضوان من الله أكبر } فعلم أن رضاه سبحانه وتعالى من عباده هو أكبر نعيم يلقونه في دار الإكرام والإنعام .
وهذا الإمام البخاري رحمه الله يروي لنا حديث أكبر الإنعام فيقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة ، يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، والخير بيديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقولون : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ( فيقولون : وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول ، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً ) اللهم اجعلنا من أهل طاعتك ومحبتك ورضوانك آمين .
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
وهذا هو الطريق
هذا هو الطريق أيها السائرون !
فإلى الجنة دار النعيم التي عرفها لكم .
وهذا هو طريقها واضحا معبداً عليه أعلامه ، وفوقه أنواره وها أنتم في مبتداه فسيراً حثيثاً إلى منتهاه حيث أبواب الجنة مفتحة أيها السالكون !!
إليكم الطريق كما رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوليه :
1. ( تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ) .
2. ( كلكم يدخل الجنة إلا من أبى ، قيل : ومن يأبى يا رسول الله ؟ فقال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) إنه عليه الصلاة والسلام في هذين الحديثين قد بين الطريق ورسمه واضحاً لكل ذي بصيرة فهلم أيها الإخوان لنسير سوياً ، أخوانا متحابين وأصدقاء متعاونين فهيا بنا هيا بنا !!
واسمحوا لي أن أتقدمكم رائداً لكم لأصف طريقكم إلى جنة ربكم ، ودار إقامتكم وكرامتكم .
إن الطريق أيها الإخوة السائرون بين أربع كلمات : إثنتان سالبتان ، وإثنتان موجبتان . فالسالبتان : الشرك والمعاصي ، والموجبتان : الإيمان والعمل الصالح .
ومن هذه الكلمات الأربع يتكون الطريق القاصد إلى الجنة دار الإقامة والكرامة .
وهاهو ذا قد أشير إليه بكلمتي لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، إذ الأول تعني أنه لا معبود بحق إلا الغفور الودود ، فليعبد وحده بالإيمان واليقين ، والطاعة له ولرسوله بالصدق والإخلاص الكاملين .
والثانية تعني أن النبي محمداً هو الرسول الخاص ببيان كيف يعبد الله وحده في هذه الأكوان ، وأنه لا يتأتى لأحد أن يعبد الله بدون إرشاده صلى الله عليه وسلم وبيانه .
والآن أيها الإخوة السائرون فلنسلك الطريق مسترشدين بإشارة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
• فلنعتقد جازمين أن خالقنا هو الذي خلق هذه العوالم ودبرها بقدرته وعلمه ، ومشيئته وحكمته ، وفيها تجلت صفاته العلى وأسماؤه الحسنى ، فبقدرته تعالى كانت هذه الأكوان ، وبعلمه تعالى اتحد وجودها وانتظم شأنها ، وسارت إلى غاياتها في نظام محكم بديع .
• ولنعتقد جازمين أنه لا وجود لمشارك لله تعالى في خلق هذه العوالم ولا مدبر لها معه سواه؛إذا لو كان ذلك لظهر في العوالم التضارب والتناقص ،ولأسرع إليها الفناء والزوال{قل لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا ، فسبحان الله رب العرش عما يصفون}.
• ولنعتقد جازمين أنه متى لم يكن لله تعالى شريك في الخلق والتدبير فإنه لا يكون له شريك في الطاعة والعبادة ، فلا ينبغي أن يعبد معه أحد أبداً سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً ، أو دون ذلك . من سائر المخلوقات . وسواء كانت العبادة صلاة أو دعاء ، أو صوماً أو ذبحاً ، أو زكاة أو نذراً ، لو طاعة في معصيته تعالى بتحريم ما أحل أو تحليل ما حرم أو ترك ما أوجب أو فعل ما حرم .
• ولنعتقد جازمين أن حاجة الناس إلى الرسل في بيان الطريق إلى الجنة اقتضت إرسالهم ، وإنزال الكتب عليهم ومن هنا وجب تصديق كافة الرسل وإتباعهم ووجب الإيمان بالكتب والعمل بما فيها مما لم ينسخه الله تعالى بغيره من الشرائع والأحكام كما وجب الإيمان بالملائكة ، والقدر والمعاد والحساب والجزاء . بهذه النقاط الأربع المشتملة على الإيمان الصحيح كنا قد قطعنا ربع الطريق إلى الجنة ، أيها السائرون فإلى الربع الثاني وهو العمل الصالح .(/5)
• فلنقم الصلاة بأن نتطهر لها طهارة كاملة ، ونؤديها في أوقاتها في جماعة أداء وافياً مستوفين كافة الشروط والفرائض والسنن والآداب فنوافق بها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) .
• ولنؤت زكاة أموالنا أهلها من الفقراء والمساكين والغارمين والمجاهدين ولنتحر في إخراجها الجودة والكمال والإخلاص الكامل فيها لله تعالى .
• ولنصم رمضان بالإمساك عن المفطرات والبعد عن المتشابهات والمحرمات في الأقوال والأفعال والخواطر والنيات .
• ولنحج بيت الله حجاً كحج رسول الله صلى الله عليه وسلم موسوماً بالبرور وذلك بأدائه أداء صحيحاً خالياً من الرفث والفسق والجدال محفوفاً بالخيرات مفعماً بالصالحات .
• ولنبر الوالدين بطاعتهما في غير معصية الله ، وبالإحسان اليهما ببذل المعروف وإسداء الجميل من القول والفعل ، مع كف الأذى عنهما ولو كان ضجراً منهما ، أو عدم رضا عنهما .
• ولنصل أرحامنا ببرهم وزيارتهم ، والسؤال عنهم ، والتعرف إلى أحوالهم ومساعدتهم بما في القدرة وما هو مستطاع .
• ولنحسن إلى الجيران بإكرامهم المتمثل في الإحسان إليهم وكف الأذى عنهم .
• ولنكرم الضيف إكرامه الواجب له بإطعامه وإيوائه .
• ولنكرم المؤمن بتحقيق أخوته القائمة على أساس أداء حقوقه من السلام عليه عند ملاقاته ، وتشميته عند عطاسه . وتشييع جنازته عند مماته ،وعيادته إذا مرض ، وإبرار قسمه إذا أقسم .
• ولنعدل في القول والفعل والحكم إذ العدل في الكل واجب محتم ، وبه يستقيم أمر الدين والدنيا ، ويصلح شأن العباد والبلاد .
وإلى هنا تم نصف الطريق أيها السائرون ، ولم يبق إلا نصفه الآخر ، هو ترك الشرك والمعاصي فلنواصل السير في غير كلل ولا ملل ولنترك الشرك وذلك :
1. بأن لا نعتقد أن مخلوقاً من المخلوقات كائناً من كان يملك لنفسه أو لغيره ضراً أو نفعاً بدون مشيئة الله وإذنه ، وعليه فلنحرص رغبتنا في الله فلا نرغب في أحد سواه فلا نسأل مخلوقاً ولا نستشفع أو نستغيث بآخر ، إذ لا معطي ولا مغيث إلا الله . فلنقصر رغبتنا فيه ، ورهبتنا وخوفنا منه .
2. بأن لا نصرف شيئاً من عبادة الله تعالى إلى أحد سواه ؛ فلا نحلف بغير الله ولا نذبح على قبر ولي من أولياء الله ، ولا ننذر نذراً لغير الله ، ولا ندعو غير الله ولا نستغيث بسواه .
3. وبأن لا نعلق خيطاً أو عظماً أو حديداً نرجو بها دفع العين أو كشف الضر ، فإنه لا يدفع العين ولا يكشف الضر إلا الله .
4. وبأن لا نصدق كاهناً أو عرافاً أو منجماً فيما يخبر به ويدعيه من علم الغيب ؛ إذ لا يعلم الغيب إلا الله .
5. وبأنه لا نطيع حاكماً أو عالماً أو أباً أو أماً أو شيخاًَ في معصية الله ، إذ طاعة غير الله بتحريم ما أحل الله ، أو تحليل ما حرم شرك في ربوبية الله .
بهذه الخطوات الخمس أيها السائرون قد قطعنا نصف المسافة المتبقية ولم يبق إلا نصفها الآخر وهو ترك المعاصي وبعدها نصل إلى باب الجنة وندخلها إن شاء الله مع الداخلين فهيا بنا نواصل سيرنا أيها السالكون .
• فلنحفظ الدماغ فلا نفكر فيما يضر ، ولا ندبر ما يسوء من فساد أو شر .
• ونحفظ السمع فلا نسمع باطلاً من سوء أو فحش ، أو كذب أو غناء ، أو غيبة ، أو نميمة ، أو هجر أو كفر .
• ونحفظ البصر فلا نسرحه في النظر إلى ما لا يحل النظر إليه من أجنبية غير محرمة مسلمة أو كافرة ، عفيفة أو فاجرة .
• ونحفظ اللسان فلا ننطق بفحش أو بذاء ، ولا سوء أو كذب أو زور ، أو غيبة أو نميمة أو سب أو شتم أو لعن من لا يستحق اللعنة .
• ونحفظ البطن فلا ندخل فيه حراماً طعاماً كان أو شراباً فلا نأكل ربا ولا ميتة ولا خنزيراً ، ولا نشرب مسكراً ، ولا ندخن تبغاً ولا تنباكا .
• ونحفظ الفرج فلا نطأ غير زوجة شرعية أو مملوكة سرية أباح الله وطئها وأذن فيه .
• ونحفظ اليد فلا نؤذي بها أحداً بضرب أو القتل ، ولا نأخذ بها مالاً حراماً ولا نلعب بها ميسراً ولا نكتب بها زوراً أو باطلاً .
• ونحفظ الرجل فلا نمشي بها إلى لهو أو باطل ، ولا نسعى بها إلى فتنة أو فساد أو شر .
• ونحفظ العهد ، والشهادة والأمانة ، فلا نخفر ذمة ولا ننكث عهداً ، ولا نخلف وعداً ، ولا نشهد زوراً ولا نخون أمانة .
• ونحفظ المال فلا نبذره ، ولا نسرف فيه ، كما لا نهمله ولا نضيعه ، أو نتركه بدون إنماء أو صلاح .
• ونحفظ الأهل والولد في أبدانهم وعقولهم وعقائدهم وأخلاقهم فندفع عنهم ما يؤذيهم أو يضرهم أو يفسد أرواحهم ، أو عقولهم وندرأ عنهم كل ما يردي أو يهلك ويشقي .
وإلى هنا انتهى الطريق أيها السائرون فدونكم الجنة دار السلام فتهيأوا للدخول منتظرين رسل ربكم متى تصل إليكم حاملة استدعاء ربكم المنعم الكريم لتفدوا عليه وتحطوا الرحال بساحته . ويومها يفرح ، المتقون .
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
---------------------(/6)
[1] - هذا كقوله تعالى : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله }
[2] - تنبيه : جميع أحاديث هذه الرسالة خرجها المنذري في الترغيب وما فيها حديث غير مقبول قط(/7)
الجنة ونعيمها 1
1962
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
سعيد الجندول
ملخص الخطبة
1- السلف رأوا الجنة وكأنها بين ظهرانيهم. 2- أبواب الجنة. 3- دخول أهل الجنة إليها. 4- بعض نعيم أهل الجنة. 5- آخر رجل يدخل الجنة.
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون: إن الحديث عن الجنة شيِّق ومحبّب إلى النفوس المؤمنة, الجنة تلك الأمنية الغالية التي يسعى إليها الساعون من المؤمنين على مر العصور, الجنة التي كانت في قلوب السلف الصالح شعلة تحركهم لضرب أعلى أمثلة البطولة في الجهاد والتضحية, الجنة تلك الغاية الكريمة التي ترنو إليها العيون الحالمة, وتهفو إليها الأرواح والنفوس المؤمنة في كل زمان ومكان يستعذبون العذاب من أجل الحصول عليها. إنها أعظم مرغوب عند المؤمن, ودخولها والانتهاء إليها أمل يتراءى له في رحلة العمر التي تستغرق حياته كلها. وما أكثر ما كانت حافزاً إلى الخير والحق مهما كان في الطريق من المخاطر والعقبات والأشواك, بل لو كان فيها الموت المحقّق.
لقد كان هذا أيام النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر أنس رضي الله عنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر, وجاء المشركون, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه)). فدنا المشركون, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)). قال عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله: جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: ((نعم)). قال: بخٍ بخٍ, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها !! قال: ((فإنك من أهلها)). فأخرج تمرات من قرنه, فجعل يأكل منهن, ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة !! فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل رضي الله عنه.
فيا أيها المؤمنون: إن الجنة هي دار المتقين, دار الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, دار جنانها تجري من تحتها الأنهار, دار قصورها لبنة من ذهب, ولبنة من فضة, طينها _ وقيل ملاطها _ المسك الأذفر _ الجيّد غاية الجودة _ وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت, وتربتها الزعفران وخيامها اللؤلؤ المجوف, هي نور يتلألأ, وريحانة تهتز, وفاكهة وخضرة, فيها الزوجات الخيرات الحسان, فيها العباد المنعمون الذين يأكلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون بل يخرج ذلك منهم مسكاً عندما يكون منهم جشاءٌ, فيها المنعمون الذين يضحكون ولا يبكون, ويقيمون ولا يظعنون, ويحيون ولا يموتون, فيها الوجوه المسفرة الضاحكة المستبشرة, فيها الجمال المبين والحور العين, فيها النعيم الدائم, فيها المزيد حيث يُرفع الحجاب فينظر الفائزون إلى وجه العزيز الوهاب, فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
نتناول الحديث عن الجنة وسعتها وأبوابها وأنهارها وخدمها ومطاعمها ومشاربها وعن أهلها وعن سائر ألوان النعيم فيها من القرآن العظيم ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورد عن عرضها وريحها قول الله عز وجل: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاواتُ وَالاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام)).
وأبواب الجنة ثمانية أبواب فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله من ماله نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير, وللجنة ثمانية أبواب, فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة, ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد, ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان, ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة)). فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله: ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة, فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: ((نعم وأرجو أن تكون منهم)).
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في الجنة ثمانية أبواب, باب منها يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل غيرهم)).(/1)
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيبالغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)). هكذا وردت في الحديث موضحة العدد ومفسرة للقرآن حيث وردت مجملة في قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر: 73]. وهذه الأبواب في غاية الوسع والكبر وإن ما بين المصراعين مسيرة أربعين سنة وهي مع ذلك سوف تكتظ وتزدحم بأفواج الداخلين إليها، وحلق أبوابها من ياقوت أحمر, وهي قائمة على صفائح من ذهب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة, وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام)). وقال صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن أهل الجنة: ((وينتهون إلى باب الجنة فإذا حلقه من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب)).
وعند باب الجنة شجرة عظيمة ينبع من أصلها عينان, خصصت إحداهما لشراب الداخلين, والثانية لتطهيرهم فإذا شربوا من الأولى جرت في وجوههم نضرة النعيم فلا يبأسون أبداً, وإذا توضأوا من الثانية لم تشعث أشعارهم أبداً, قال تعالى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً [الإنسان: 21]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن الجنة: ((وإذا شجرة على باب الجنة ينبع من أصلها عينان فإذا شربوا من إحداها جرت في وجوههم نضرة النعيم، وإذا توضأوا من الأخرى لم تشعث أشعارهم أبداً)).
ودخول الجنة يكون زمراً ويتفاوتون في حسن هيئتهم وجمال وجوههم لتفاوت أعمالهم في الدنيا في كمياتها وكيفياتها ويكونون جرداً مرداً بيضاً مكحلين أبناء ثلاثٍ وثلاثين سنة, الطول ستون ذراعاً في عرض سبعة أذرع, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر, والذين يلونهم على أشد كوكب درّي في السماء إضاءة, لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون, أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك, ومجامرهم الألوة, أزواجهم الحور العين, أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء)). وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدخل أهل الجنة جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين, وهم على خلق آدم ستون ذراعاً في عرض سبعة أذرع)). ويعطى الواحد منهم قوة مائة رجل في الجماع, وأفئدتهم في الرقة والخوف والهيبة مثل أفئدة الطير, لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)). وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع, قيل: يا رسول الله أويطيق ذلك؟ قال: يعطى قوة مائة)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس, ولا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه)).
وتستقبل الملائكة وفود الرحمن عند دخولهم إلى دار السلام, إلى جنات النعيم, وأول المستقبلين هو رضوان خازن الجنان, ثم الملائكة الموكّلون بنعيم الجنة وأهلها. قال تعالى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103]. وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر: 73]. وقال تعالى: وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 23، 24].
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه, أحمده سبحانه وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فأورد بعض الأحاديث ولو أن إيرادها بكاملها أفضل وأكمل ولكن لمناسبة المقام وعدم الإطالة, وعلى المسلم أن يراجع التفسير والأحاديث ليزداد شوقاً إلى الجنة وإلى العمل الصالح ويرجو رحمة الله ومغفرته, وسوف تكون خطبة أخرى بل خطب إن شاء الله لإكمال ما تبقى من هذا الإيجاز الذي لم يكن في الإمكان الابتعاد عنه نسأل الله القبول وحسن الخاتمة.(/2)
قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً [الإنسان: 20 ـ 22].
وفي الحديث الطويل الذي ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم عن آخر رجل يدخل الجنة فقال: ((حتى يمر الذي يعطى نوره على ظهر قدميه يحبو على وجهه ويديه ورجليه, تخر يد وتعلق يد, وتخر رجل وتعلق رجل, وتصيب جوانبه النار, فلا يزال كذلك حتى يخلص, فإذا خلص وقف عليها فقال: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً إذ نجاني منها بعد إذ رأيتها, قال: فينطلق به إلى غدير عند باب الجنة فيغتسل, فيعود إليه ريح أهل الجنة وألوانهم, فيرى ما في الجنة من خلل الباب, فيقول: رب أدخلني الجنة, فيقول له: أتسأل الجنة وقد نجيتك من النار ؟ فيقول: رب اجعل بيني وبينها حجاباً لا أسمع حسيسها _ أي بينه وبين النار _, قال: فيدخل الجنة ويرى أو يرفع له منزل أمام ذلك كأن ما هو فيه إليه حلم, فيقول: رب أعطني ذلك المنزل, فيقول له: لعلك إن أعطيتكه تسأل غيره, فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره, وأي منزل أحسن منه, فيعطاه فينزله, ويرى أمام ذلك منزلاً كأن ما هو فيه إليه حلم, قال: رب أعطني ذلك المنزل, فيقول الله تبارك وتعالى له: فلعلك إن أعطيتكه تسأل غيره, فيقول: لا وعزتك يا رب, وأي منزل أحسن منه ؟ فيعطاه فينزله ثم يسكت, فيقول الله جلّ ذكره: مالك لا تسأل ؟ فيقول: رب قد سألتك حتى استحييتك وأقسمت حتى استحييتك, فيقول الله جلّ ذكره: ألم ترض أن أعطيك مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافه, فيقول: أتهزأ بي وأنت رب العزة ؟ فيضحك الرب تبارك وتعالى من قوله, فيقول الرب جلّ ذكره: لا ولكني على ذلك قادر, سَلْ, فيقول: ألحقني بالناس, فيقول إلحق بالناس, فينطلق يرمل في الجنة, حتى إذا دنا من الناس رُفع له قصر من درة فيخر ساجداً, فيقال له: ارفع رأسك مالك ؟ فيقول: رأيت ربي, أو تراءى لي ربي، فيقال له ارفع رأسك إنما هو منزل من منازلك, ثم يلقى رجلاً فيتهيأ للسجود له, فيقال له: مه ؟ فيقول: رأيت أنك ملك من الملائكة, فيقول له: إنما أنا خازن من خزانك, وعبد من عبيدك, فينطلق أمامه حتى يفتح له القصر، وهو درة مجوفة, سقائفها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها, تستقبله جوهرة خضراء مبطنة بحمراء, فيها سبعون باباً, كل باب يفضي إلى جوهرة خضراء مبطنة, كل جوهرة تفضي إلى جوهرة على غير لون الأخرى, في كل جوهرة سرر وأزواج ووصائف, أدناهن حوراء عيناء عليها سبعون حلة يرى مُخُّ ساقها من وراء حللها, كبدها مرآته, وكبده مرآتها, إذا أعرض عنها إعراضة ازدادت في عينه سبعين ضعناً, فيقال له: أشرُف فيشْرُفُ, فيقال له: ملكك مسيرة مائة عام ينفذه بصرك)). الحديث… وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم, قالوا: يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم, قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)). ومصداق ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: 21].
وما أخفاه الله عنا من نعيم الجنة شيء عظيم لا تدركه عقول البشر ولا تصل إلى كنهه أفهامهم وإنما هو التقريب إلى أذهانهم عن بعض ما ألفوه واعتادوه ورأوه في الدنيا, وإلا فالمخفي عنهم أعظم كما قال تعالى: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة: 17] والباء هنا سببية أي بسبب أعمالهم الصالحة كما وردت في عدة آيات من القرآن الكريم، ولا منافاة بينها وبين الدخول برحمة الله وإنما هي الأسباب لدخول الجنة أو العكس من ذلك في أسباب دخول النار وكما أسلفت في الخطبة السابقة بأن الأسباب للدارين لا بد من بيانهما إن شاء الله تعالى في خطب قادمة.(/3)
ورد في صحيح البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, فاقرأوا إن شئتم: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة: 17]. وروى الإمام مسلم رحمه الله عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً وصف فيه الجنة حتى انتهى, ثم قال صلى الله عليه وسلم في آخر حديثه: ((فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, ثم قرأ هذه الآية: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة 16، 17].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/4)
... ...
الجنة ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- مكان الجنة والنار. 2- أسماء الجنة. 3- لم خلق الله الجنة. 4- صفة الجنة وسكانها وخدمها. 5- أسباب دخول الجنة. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
يقول رب العزة سبحانه: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين [آل عمران:133].
دعوة من الله سبحانه لعباده أن يسارعوا إلى كل خير وإلى كل عمل صالح، حتى يفوزوا بمغفرة الله والجنة. وقدّم المغفرة على الجنة - كما قال العلماء - لأن السلامة تطلب قبل الغنيمة وأصحاب الجنة هم المتقون.
فما الجنة؟ ولماذا؟ وما صفة الداخلين إليها؟ وما صفتها؟ وما أسباب دخولها؟
أما الجنة:
فهو الاسم العام المتناول لتلك الدار، دار رب الأرباب وملك الملوك، التي أعدها لعباده المؤمنين من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وأهل التوحيد من أمة محمد عليه الصلاة والسلام بعد أن يطهرهم رب العزة سبحانه من ذنوبهم.
وسميت الجنة جنة، لأن الداخل إليها تستره بأشجارها وتغطيه.
وينبغي أن تعلم:
أن هاهنا إشكال أورده البعض في قول الله تعالى: وجنة عرضها السماوات والأرض [آل عمران:133]. فإذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار. أورد ابن كثير رحمه الله تعالى رواية عن الإمام أحمد: أن هرقل كتب إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار ؟! فقال عليه الصلاة والسلام: ((سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار؟))([1]). إذا جاء النهار غشى وجه العالم في جانب، ويكون الليل في الجانب الآخر، فكذا الجنة في أعلى عليين، والنار في أسفل سافلين([2]). كذا قال ابن كثير رحمه الله تعالى.
سمى رب العزة الجنة بأسماء باعتبار صفاتها:
أ- دار السلام: قال تعالى: لهم دار السلام عند ربهم [الأنعام:127]. ذلك لأن الداخل إلى الجنة قد سلم من كل آفة ومن كل بلاء ومن كل مكروه، فلا تنكيد ولا تنغيص. لقول النبي : ((ويؤتي بأشقى أهل الدنيا من أهل الجنة، فيغمس غمسة في الجنة، فيقال له: هل رأيت شرا قط؟ قد مر بك شر قط؟ فيقول: لا والله، ما رأيت شرا قط ولا مر بي شر قط))([3]).
ب- جنات عدن: وصدق الله العظيم: جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا [مريم:61]. العرب تقول: عدن الرجل في المكان: أي أقام فيه فلم يرتحل. وكذا الداخل إلى الجنة، لا يرتحل عنها أبدا، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((فيؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش، فيقال لأهل الجنة والنار: أتدرون ما هذا؟ فيقولون: نعم إنه الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ويقال لأهل النار: خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم))([4]).
ج- جنات النعيم: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم [لقمان:8]. ذلك لما في الجنة من اللذائذ والأطايب التي أعدها رب العزة لأوليائه، ظاهرة وباطنة.
وأما لماذا الجنة؟ فلا بد من الجنة:
حتى لا يستوي الصالح بالطالح، ولا المحسن بالمسيء، ولا المؤمن بالكافر، ولا المظلوم بالظالم، وصدق الله العظيم:
أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون [القلم:35-36]. لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون [الحشر:20].
فإذا كانت الموازين قد اختلت في الأرض.
يوما تريك خسيس النار مرتفعا و يوما تخفض العاني
أما ترى البحر تطفو فوقه جيف وتستقر بأقصى قعره الدرر
وكم على الأرض أشجارا مورقة وليس يرجم إلا من به ثمر
فإن موازين السماء لن تختل أبدا: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا [الأنبياء:47].
حتى يعوّض رب العزة سبحانه المحسن عن إحسانه، والمجاهد عن جهاده، والصابر عن صبره، والمحتسب وجه الله عز وجل في كل بلية جرت عليه. في الحديث القدسي يقول الله سبحانه: ((يا ملك الموت، قبضت ولد عبدي، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ فيقول: نعم، فيقول رب العزة: وماذا قال عبدي؟ يقول: حمدك واسترجع: (أي قال: الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون) فيقول رب العزة سبحانه: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسمّوه بيت الحمد))([5]).
ويقول رب العزة سبحانه في الحديث القدسي: ((إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه – أي بعينيه – فصبر، عوضته منهما الجنة))([6]). وهذا أصل في التربية عظيم، بل هو البلسم الشافي لجراحات القلوب.
لأنها أمنية الصالحين، ومهوى أفئدة السالكين، فما دمع العين ولا حرقة القلب ولا انزعاج الجوارح إلى العمل بطاعة الله عز وجل، إلا لنيل تلك الجنان. فعند ذكرها تهون المصائب ويلذ الجهاد بل الموت في سبيل الله.
أخي إن مت نلق أحبابنا فروضات ربي أعدت لنا
وأطيارها رفرفت حولنا فطوبى لنا في ديار الخلود
عندما حضرت بلال الوفاة، قالت زوجته: واحزناه! قال: بل قولي: وافرحتاه! غدا نلق الأحبة، محمدا وصحبه.(/1)
وأما صفة الداخلين إلى الجنة:
في سنهم وخلقهم: يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((يدخل أهل الجنة على سن ثلاث وثلاثين، على خلق آدم عليه السلام ستون ذراعاً في عرض سبعة أذرع))([7])، ابن القيم رحمه الله تعالى يقول: وهذا السن أبلغ ما يكون العبد فيها من القوة، وبكمال القوة يكون كمال التلذذ والاستمتاع بما أعده رب العزة سبحانه.
في تنزههم عن الفضلات والأذى: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك))([8]). سأل رجل من أهل الكتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام عن أهل الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ويعطى الرجل في الجنة قوة مائة رجل في المطعم والمشرب والجماع: فقال الرجل: يا محمد، أين تكون الفضلات بعد ذلك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تكون رشحا ويكون الرشح مسكا)). تكون عرقا ويكون هذا العرق مسكا بقدرة الله عز وجل.
في تطهيرهم في ظواهرهم وبواطنهم: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((وعند باب الجنة شجرة، يخرج من أصلها عينان، إذا شربوا من الأولى جرت عليهم نظرة النعيم، وخرج منهم ما في داخلهم من كل بأس وأذى، وإذا اغتسلوا من الثانية لم تشعث أشعارهم أبدا))([9]).
قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((أهل الجنة يدخلون الجنة جماعات جماعات لقول رب العزة سبحانه: وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا )) [الزمر:73]
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: كل أهل طاعة يحشرون ويأتون الجنة كجماعة لحالها، وذلك مما يؤنس بعضهم ببعض ويقوى بعضهم بعضا ويفرح بعضهم ببعض. وأهل النار والعياذ بالله يساقون إلى النار جماعات: وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا [الزمر:71]. يقول ابن القيم: وذلك حتى يلعن بعضهم بعضا ويتهم بعضهم بعضا ويسب بعضهم بعضا، وهذا أبلغ في الهتيكة والخزي بأهل النار من أن يذهبوا إلى النار واحدا واحدا.
وباب الجنة لن يفتح لأحد إلا أن يكون أول داخل إليها رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: ((آتي الجنة فأستفتح أي فأستأذن فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: أنا محمد فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك))([10]). وهذا تعظيم لقدر نبينا عليه الصلاة والسلام وتكريم له.
وأما صفة الجنة:
1- في أبوابها: فهي ثمانية، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((من توضأ ثم أحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية))([11]). فهي ثمانية أبواب. وكل باب قد خصه رب العزة بطاعة، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان)). فقال أبو بكر الصديق : بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وما على أحد من ضرورة أن يدعى من الأبواب كلها؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((لا، وأرجو أن تكون منهم))([12])، أي: وأرجو يا أبا بكر أن تكون ممن يدعى من الأبواب الثمانية.
2- وأما أرضها: فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((إنها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، بلاطها طينتها المسك، وترابها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم))([13]).
3- ما يكون لأدنى أهلها منزلة وما يكون لأعلاهم منزلة، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((يجيء آخر رجل ممن يدخل الجنة وقد نزل الناس منازلهم، فيقول له رب العزة: ادخل الجنة ،فيقول: يا رب وأين أكون وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟! فيقول له رب العزة سبحانه: أترضى أن يكون لك مثل مُلك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب. فيقول له رب العزة: لك ذلك ومثله ومثله ومثله مثله. فيقول في الخامسة: رضيت يا رب، فيقول: لك ذلك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك)).
وأما أعلاهم درجة فيقول رب العزة سبحانه: ((أولئك الذين أردت - أي اخترت - ختمت كرامتهم بيدي، وأعددت لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر))([14]).
4- وأما أنهارها، فهي أربعة أنواع من الأنهار، يقول رب العزة سبحانه: مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم [محمد:15].
وأعظم أنهارها الكوثر، قرأ النبي عليه الصلاة والسلام: إنا أعطيناك الكوثر [الكوثر:1]. فقيل: يا رسول الله، ما الكوثر؟ قال: ((نهر أعطانيه ربي حافتاه من الذهب، حصباؤه اللؤلؤ والياقوت، آنيته عدد نجوم السماء، ترد عليه أمتي يوم القيامة، لونه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا))([15]).
5- وأما حورها ونسائها: فيعلمنا المصطفى عليه الصلاة والسلام:(/2)
أ- عن مادة خلقهن: فيقول: ((خلق الله تعالى الحور العين من الزعفران))([16])، يقول ابن القيم: فإذا كانت الصورة الآدمية في حسنها وتناسقها مادة خلقها التراب: فكيف يكون حال الحور العين وقد خلقن من الزعفران هناك؟!
ب- في عفتهن: يقول رب العزة سبحانه: وعندهم قاصرات الطرف عين [الصافات:48]. عفيفات قد قصرن أبصارهن إلا عن أزواجهن، ذهب الحياء بخير الدنيا والآخرة.
ج- في طهرهن: وأزواج مطهرة [آل عمران:15]. فلا حيض ولا نفاس.
د- في حسنهن: يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((يسطع نور في الجنة فيرفع أهل الجنة رؤوسهم فيرون حورية قد ابتسمت))([17]).
ه- في نكاحهن: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((وإن المؤمن ليصل في اليوم الواحد إلى مائة عذراء))([18]).
ولكنه لا مني ولا إنزال ولا ما يوجب الغسل، قول النبي : ((لا مني ولا منية))([19]) أي لا إنزال ولا موت يكون في الجنة.
6- وأعظم عطاء الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم: لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة: ودخل أهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقول أهل الجنة: ألم يبيّض وجوهنا؟! ألم يجرنا من النار؟! ألم يثقل موازيننا؟! فيكشف الحجاب، فينظرون إلى وجه الله الكريم، فما اعطوا عطاء أحب إليهم من النظر إلى وجه الله الكريم))([20]). وصدق الله العظيم: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [القيامة: 22-23]. للذين أحسنوا الحسنى – أي الجنة- وزيادة [يونس: 26]. أي وأعظم من الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال الإمام مالك.
7- وأخيرا هنالك في الجنة أمنيات تتحقق. جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((يا رسول الله، هل في الجنة خيل؟ فإنها تعجبني، فقال عليه الصلاة والسلام: إن أحببت أتيت بفرس من ياقوته حمراء تطير بك في الجنة حيث شئت))([21]).
قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا استقر أهل الجنة في الجنة، اشتاق الإخوان إلى الإخوان، فيطير سرير هذا إلى سرير هذا، فيذكران ما كان بينهما في الدنيا ويقول له: أتذكر مجلس كذا، جلسنا فدعونا الله أن يغفر لنا فغفر لنا))([22]).
وأما أسباب دخول الجنة؟
فينبغي أن تعلم أن الجنة غالية، والأمر يحتاج إلى جد لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من خاف أدلج – أدلج بالطاعة - ومن أدلج بلغ المنزل..)) ((ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة))([23]).
والأمر يحتاج إلى تشمير، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ألا من مشمّر للجنة، فإنها ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وزوجة حسناء، فقال الأصحاب: نحن المشمرون لها يا رسول الله، قال: قولوا: إن شاء الله، فقال القوم: إن شاء الله))([24]).
والأمر يحتاج إلى عمل: ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون [الأعراف:43].
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
لا تركنن إلى الدنيا و زينتها فالموت لا شك يفنيها ويبديها
واعمل لدار غدا رضوان خازنها و الجار أحمد و الرحمن بانيها
قصورها ذهب و المسك طينتها و الزعفران حشيش نابت فيها
وتنافس في أعلى مقامات الجهاد: قال تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله [التوبة:111]. فالمشتري هو الله، والبائع هو المؤمن، والسلعة هي الأنفس والأموال، والثمن هي الجنة، والطريق هو الجهاد.
وعلى الجهاد ربى رسول الله أصحابه رضوان الله عليهم، حتى صار الموت في سبيل الله تعالى أسمى أمنياتهم وأغلاها، وهذا صحابي جليل ممن اشتاق إلى لقاء الله تعالى على أكرم صورة، هي شاهد صدق على حب الله تعالى الذي اختلط بدمائهم وعصبهم ولحمهم، هو الصحابي عبد الله بن جحش وفي غزوة أحد يرفع يده ويدعو، وبماذا يدعو؟! ويا عجبا لما يدعو! يقول: اللهم إنك تعلم أنه قد حضر ما أرى، أي من التقاء الجيشين، فأسألك ربي أن تبعث إلي رجلا كافرا صنديدا قويا يقتلني ويجدع أنفي وأذني ويضعها في خيط، (زيادة في النكاية والتمثيل) ثم آتيك ربي فتقول: فيم ذاك يا عبد الله؟ فأقول: فيك يا رب، أي لأجلك يا رب قد فعل بي هذا.
ومن أبواب الجنة هو الإنفاق: يقول رب العزة سبحانه: لن تنالوا البر – أي لن تدخلوا الجنة – حتى تنفقوا مما تحبون [آل عمران:92]. قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((عندما خلق الله الجنة قال لها: تكلمي، فقرأت: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون واللذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون ، فقال رب العزة سبحانه: وعزتي وجلالي، لا يجاورني فيك بخيل))([25]).
ثم الصلاة:(/3)
في الفرض يقول جرير بن عبد الله: كنا عند النبي عليه الصلاة والسلام، وكان القمر بدرا، فكان عليه الصلاة والسلام: ((إنكم سترون ربكم كرؤيتكم القمر – أي في الوضوح- لا تضامون في رؤيته – أي لا تملون- فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا))([26])- أي صلاة الصبح وصلاة العصر – وما أكثر تضييعنا لها.
في النافلة، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من صلى اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بيتا في الجنة: ركعتان قبل صلاة الصبح، وأربعا قبل الظهر، واثنتان بعدها، وركعتان بعد صلاة المغرب، وركعتان بعد صلاة العشاء))([27]).
في قيام الليل: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة:16]. قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام))([28]).
ثم أن تلزم ذكر الله سبحانه، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من قال: سبحان الله والحمد لله، غرست له نخلة في الجنة))([29]). وللحديث: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وإنها قيعان وإن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر))([30]).
الخلق الحسن: للحديث: ((ألا أخبركم برجالكم في الجنة: النبي في الجنة، والصديق في الجنة والشهيد في الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر لا يزوره إلا لله في الجنة، ونساؤكم من أهل الجنة الودود الولود التي إذا غضبت جاءت حتى تضع يدها في زوجها ثم تقول: لا أذوق غمضا حتى ترضى))([31]).
([1])رواه الإمام أحمد.
([2])مختصر ابن كثير ج1 ص 318.
([3])مسلم.
([4])رواه البخاري.
([5])الترمذي وابن حيان.
([6])البخاري.
([7])رواه أحمد.
([8])رواه مسلم.
([9])رواه البيهقي.
([10])رواه مسلم.
([11])رواه مسلم.
([12])رواه البخاري ومسلم.
([13])رواه الترمذي.
([14])رواه مسلم.
([15])رواه الترمذي.
([16])الطبراني مرفوعا.
([17])ابن أبي الدنيا.
([18])الترمذي.
([19])الطبراني.
([20])مسلم.
([21])الترمذي.
([22])ابن أبي الدنيا.
([23])رواه الترمذي.
([24])ابن ماجة وابن حيان.
([25])رواه أحمد والترمذي والنسائي.
([26])متفق عليه.
([27])رواه مسلم.
([28])الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
([29])الترمذي.
([30])الترمذي.
([31])النسائي. ... ...
... ...
... ...
... ...(/4)
الجوال آداب وتنبيهات
محمد بن إبراهيم الحمد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فإن الهاتف - بجميع خدماته- يقوم بدور مهم، ويقدم خدمة جليلة، ويوفر جهداً كبيراً، سواء في الوقت، أو في المال، أو الذهاب، أو الإياب.
ولقد تكلم الفضلاء من أهل العلم على الهاتف وآدابه، وما يجب وما ينبغي أن يراعى في ذلك.
وعلى رأس أولئك صاحب الفضيلة الشيخ العلامة الدكتور بكر أبو زيد - حفظه الله ومتعه بالعافية- حيث ألف كتابه الماتع الرائع ( أدب الهاتف ) .
وهو بسبق حائزٌ تفضيلاً مستوجبٌ ثنائي الجميلا
والحديث هاهنا سيكون حول أدب الجوال على وجه الخصوص، وما يقال في حق الهاتف العادي يقال في حق الجوال، إلا أن الجوال ينفرد في أمور خاصة قد لا توجد في الهاتف العادي؛ فالجوال - في الأغلب - يكون خاصاً بشخص لا يرد عليه غيره، بخلاف الهاتف العادي؛ حيث يكون في مكان عام، أو مكتب أو منزل، وقد يرد عليه أكثر من شخص، ثم إن الجوال يمتاز بخدمات أخرى لا توجد في الهاتف.
ولا ريب أن الجوال نعمة كبيرة، يقضي بها الإنسان حاجاته بأقرب طريق، وأيسر كلفة.
ولكن هناك أمور تنافي شكر هذه النعمة، وهناك ملحوظات يحسن التنبه لها، والتنبيه عليها؛ حتى تتم الفائدةُ المرجوَّةُ من هذه النعمة، ولأجل ألا تكون سبباً في جلب الضرر على أصحابها.
فمما يحسن التنبيه عليه ومراعاته في هذا الأمر ما يلي:
أولاً: الاقتصاد في المكالمات: حتى لا تحصل الخسارة المالية بدون داع، ولأجل ألا يتأذى الإنسان من جراء الإطالة، وعلى هذا فإنه يحسن بالمُتَّصل أن يقتصد في كلامه، وأن يتجنب التطويل في المقدمات والسؤال عن الحال.
وينبغي أن يحذر من كثرة الاتصالات بلا داع، وأن يحذر فضول الكلام في المهاتفة؛ فإن بعض الناس قد يمتد به الحديث ساعات وساعات.
يقول العلامة الشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله-: (( احذر فضول المهاتفة، حتى لا يصيبك سُعار الاتصال؛ فكم من مصاب به؛ فمن حين يرفع رأسه من نومته يدني مذكرته -نوتته- ولا كالطفل يلتقم ثدي أمِّه، فيشغل نفسه وغيره عبر الهاتف من دار إلى دار، ومن مكتب إلى آخر يروِّح عن نفسه، ويلقي بالأذى على غيره.وليس لنا مع هؤلاء حديثٌ إلا الدعاء بالعافية، وننصحهم بمعالجة وضعهم من هذا الفضول. )) أدب الهاتف ص32-33.
ثانياً: الحذر من إحراج المتَّصَلِ عليه: كأن يَمْتَحِنَ المتَّصِلُ المتَّصَلَ عليه بقوله: هل تعرفني؟ فإذا قال: لا، بدأ يلومه، ويعاتبه على نسيانه له، وعدم تخزينه لرقم هاتفه، مع أن المتَّصَل عليه قد يكون ذا مكانة في العلم أو القدر أو السن، وقد يكون ممن لا يخزن الأرقام في جواله، وقد يكون جواله مليئاً ولا يتسع للمزيد؛ فأولى للمتصل أن يخبر عن اسمه في البداية إن كان يريد أن يُعْرف، وأن ينأى عن تلك الأساليب المحرجة.
جاء في الصحيحين جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما- قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم- فدعوت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (( من هذا؟ )) فقلت: أنا، فخرج وهو يقول: (( أنا أنا !! )) البخاري ( 6250 )، ومسلم ( 2155 ).
ثالثاً: مراعاة حال المتصل عليه، والتماس العذر له: فقد يكون مريضاً، أو في مكان لا يسمح له بالتفصيل كأن يكون في مسجد، أو مقبرة، أو بين أناس لا يود أن يقطع حديثهم أو نحو ذلك؛ فإذا لم يرد، أو رد رداً مقتضباً، أو كانت الحفاوة أقل من المعتاد- فعلى المتصل أن يبسط له العذر، وألا يسيء به الظن. كما يحسن بالمتَّصَلِ عليه أن يخبر المتَّصِل فيما بعد، أو يرد عليه رداً سريعاً يبين من خلاله أنه في مكان لا يسمح له بالحديث؛ فذلك أسلم للقلوب، وأبعد لها من الوحشة والنفرة.
رابعاً: إغلاق الجوال أو وضعه على الصامت عند دخول المسجد: وذلك لئلا يشوشَ على المصلين، ويقطعَ عليهم خشوعهم وإقبالهم على صلاتهم.
وإذا حصل أنْ نسي ولم يغلقْه أو يضعه على الصامت فليبادر إلى إغلاقه وإسكاته إذا اتصل أحد؛ لأن بعض الناس يدعه يرن وربما كان بنغمات موسيقية مؤذية، فلا يُغْلِقُهُ ولا يسكته؛ خوفاً من حدوث الحركة في الصلاة، والذي ينبغي لهذا أن يعلم أن تلك الحركة لمصلحة الصلاة، بل لمصلحة المصلين عموماً.
كما ينبغي أن يُبْسَطَ العذرُ لمن نسي إغلاقَ جوالِه أو وَضْعَهُ على الصامت، وألا يشدد في النكير عليه، والنظر شزراً إليه، خصوصاً إذا كان ممن يُخشى نُفُورُه، وغضبه، أو أن يكون فاضلاً نسي؛ فلا يحسن إحراجه وتبكيتُه، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة حينما لَطُف بالأعرابي الذي بال في المسجد، وأمر أن يهراق سِجلٌ أو ذنوبٌ من ماء على مكان بوله.(/1)
جاء في صحيح البخاري( 2201 ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: (( قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم-: (( دعوه، وأهر يقوا على بوله سِجلاً من ماء - أو ذنوباً من ماء- فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين )).
خامساً: البعد عن استعمال النغمات الموسيقية: لما في ذلك من الحرمة، وانتقاص العقلاء لمن يستعملها، ولما فيها من التشويش والأذى، ويقبح استعمالها إذا كان في المساجد، أو المجالس العامة.
سادساً: استعمال الجوال في مجالس العلم ومجالس الأكابر عموماً: لأن ذلك يذهب بهيبة المجلس، ويقطع الفائدة على المتعلمين، ويؤذي من يلقي الدرس أو الفائدة، ويزري بمن يستعمل الجوال في تلك المجالس.
بل ينبغي للإنسان ألا يتصل أو يردَّ على المتصل إذا كان في مجلس يسوده الجد، ويتكلم فيه متكلم واحد، أو أن يكون في ذلك المجلس من يَكْبُره في السن والقدر؛ لأن الاتصال أو الرد يقطع الحديث، ويكدر على الحاضرين، وينافي أدب المحادثة والمجالسة، قال أبو تمام:
من لي بإنسان إذا أغضبته وجهلت كان الحلمُ ردَّ جوابه
وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به
وقد يُغْتَفَرُ الاتصال أو الرد إذا كان في الأمر ضرورةٌ، أو حاجةٌ يُخشى فواتُها ويراعى في ذلك ترك التطويل.
ويغتفر - أيضاً - لكبير القدر أو السن أن يتصل أو يرد، ويغتفر - كذلك - إذا كان الإنسان في مجلس إخوانه أو أصدقائه الذين يطرح الكلفةَ بينهم، أو الذين لم يسترسل حديثهم. ويجمل بالمرء - أيضاً - إذا أراد الاتصال أن يستأذن ويخرج عن المجلس.
سابعاً: تسجيل المكالمات، أو وضع الجوال على مكبر الصوت بحضرة الآخرين دون علم الآخر: فقد يتصل أحدٌ من الناس على صاحبه، أو يتصل عليه صاحبه فيسجل المكالمة، أو يضع الجوال على مكبر الصوت وحولَه مَنْ يسمع الحديث، وهذا العمل لا يليق بالعاقل خصوصاً إذا كان الحديث خاصاً أو سِرِّياً؛ فقد يكون ضرباً من الخيانة، أو نوعاً من النميمة. ويقبح إذا كان المُتَّصل عليه من أهل العلم ثم سجل المتصِّل حديثه دون إذنه، ثم نشره بعد ذلك، أو وضعه في الإنترنت، أو كتبه وزاد فيه ونقص.
قال الشيخ العلامة الدكتور بكر أبو زيد -حفظه الله-: (( لا يجوز لمسلم يرعى الأمانة ويبغض الخيانة أن يسجل كلام المتكلم دون إذنه وعلمه مهما يكن نوع الكلام: دينياً، أو دنيوياً كفتوى، أو مباحثة علمية، أو مالية، وما جرى مجرى ذلك )) أدب الهاتف ص28. وقال -حفظه الله-: (( فإذا سجلت مكالمته دون إذنه وعِلْمِه فهذا مكر وخديعة، وخيانة للأمانة، وإذا نشرت هذه المكالمة للآخرين فهي زيادة في التَّخون، وهتك الأمانة، وإن فعلت فعلتك الثالثة: التصرف في نص المكالمة بتقطيع، وتقديم، وتأخير، ونحو ذلك إدخالاً أو إخراجاً -دبلجة- فالآن ترتدي الخيانة مضاعفة، وتسقط على أم رأسك في: (( أم الخبائث )) غير مأسوف على خائن.والخلاصة أن تسجيل المكالمة هاتفية أو غير هاتفية دون علم المتكلم وإذنه فجور، وخيانة، وجرحة في العدالة، ولا يفعلها إلا الضامرون في الدين، والخلق، والأدب، لاسيما إن تضاعفت - كما ذكر- فاتقوا الله - عباد الله- ولا تخونوا أماناتكم، ولا تغدروا بإخوانكم )). أدب الهاتف ص 29-30.
ثامناً: إلقاء الجوال في الأماكن العامة: كإلقائه بين الزملاء، أو الأطفال، فهذا مدعاة لوقوع الحرج، فقد يُتَّصل عبر جوالك بأناس لا ترتضيهم، وقد يُساء إلى أحد من الناس عبر جوالك، وقد يسرق جوالك، وقد يستعرض ما فيه من رسائل تكره أن يراها غير ك، وقد حصل ويحصل من جراء ذلك أذى كثير، وإحراج شديد.
تاسعاً: الحذر من استعمال الجوال في التصوير: فبعض الجوالات تتوافر فيها هذه الخدمة، وقد تُستعمل في تصوير المحارم خصوصاً في المناسبات العامة كالولائم وغيرها.
ولا يَخْفَى حُرْمَةُ هذا الصنيع، وتَسبُّبُه في انتهاك الحرمات، وتفريق البيوت، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، ويعظم الأمر إذا نشرت الصورة، وأضيف إليها بعض التعديلات، بحيث يرى صاحب الصورة في وضع عارٍ أو نحو ذلك.فعلى مَنْ تسوِّل له نفسه ذلك أن يحذر مغبة صنيعه، وعلى النساء خصوصاً لزوم الستر والحشمة حتى لا يقع المحذور.
عاشراً: مراعاة أدب الرسائل: فالجوال يشتمل على هذه الخدمة، والذي يليق بالعاقل أن يراعي الأدب في الرسائل؛ فإذا أراد أن يرسل رسالة فلتكن جميلة معبرة أو مُبَشِّرة، أو مُعَزِّية، أو مسلية، أو أن تكون مشتملة على ذكرى، أو حكمة،أو موعظة، أو مثل سائر، أو نحو ذلك.
حادي عشر: التثبت في شأن الرسالة: فإذا كانت متضمنة لمعلومة فليتثبت من صحتها.
وإذا كانت متضمنة لخبر فليكن الخبر صحيحاً لأنه سينقل عن المُرْسِل. وليستحضر المُرْسِل أن رسالته ربما تدوالتها الأيدي، وانتشرت في الآفاق؛ فله غنمها وعليه غرمها؛ فلينظر ماذا يحب أن ينقل عنه، أو يتسبب فيه.(/2)
ومما يحسن التنبيه عليه في هذا الشأن ما يكون في بعض الرسائل من التواصي بأمر من الأمور، دون نظر إلى مشروعيته، كالتواصي بصيام آخر يوم من أيام السنة؛ لأنه وافق يوم الاثنين، أو أن يخصص ويوحد الدعاء في وقت ما لأحد أو على أحد، أو أن يُحَرِّج المُرسِلُ المُرْسَل إليه بأن يرسل الرسالة إلى عشرة أو أكثر أو أقل؛ فهذا مما لا ينبغي، وربما دخل في قبيل البدع والمحدثات.
أما إذا تواصى الناس بالدعاء لأحد من المسلمين، أو على أحدٍ من أعداء الملة، واغتُنِم الوقت أو المكان فلا بأس في ذلك دون أن يشار إلى توحيد للدعاء، أو نحو ذلك.
ثاني عشر: الحذر من الرسائل السيئة: التي تشتمل على الكلمات البذيئة، والنكات السخيفة، والرسومات القبيحة، والصور الفاضحة، وكذلك العبارات التي تحتمل معنيين: أحدهما سيئ وهو الذي يبدو لأول وهلة، ثم يتضح أنه معنى صحيح بعد التدقيق، أو الكلمات المتقطعة التي تزيد كلما ضغط زر الجوال؛ ويتبين من خلال ذلك فسوق، وسوء أدب، يقول الماوردي - رحمه الله-: (( ومما يجري مجرى فحش القول، وهجره في وجوب اجتنابه ولزوم تنكبه : ما كان شنيع البديهة، مستنكر الظاهر، وإن كان بعد التأمل سليماً، وبعد الكشف والرويَّة مستقيماً )). أدب الدنيا والدين ص 284.
وكذلك المزاح الثقيل، واستعمال عبارات الغرام خصوصاً مع النساء اللواتي يغرُّ بَعْْضَهُنَّ الثناءُ، ومعسول الكلام. وكذلك العبارات المشتملة على السب، والقذف، ونحو ذلك.
فهذا كله مما يخالف الشرع، وينافي الأدب، ولا يتلاءم مع شكر هذه النعمة.
ثالث عشر: التأكد من صحة الرقم: حتى لا تقع الرسالة بيد من لم يُقْصَد إرسالُها إليه، فيقع الحرج، ويساء الظن بالمرسل إن كانت رسالة لا تناسب.
رابع عشر: مراعاة الذوق، وحال المُرسل إليه: فقد تكون الرسالة ملائمة لشخص، ولكنها غير ملائمة لآخر، وقد تكون صالحة لأن ترسل لكبير قدر أو سنٍّ، ولا تصلح أن ترسل إلى غيره، وقد يصلح أن يرسلها شخص ولا يصلح أن يرسلها آخر، وقد تصلح لأن ترسلها لمن يَعْرفك ويَعْرف مقاصدك، ولا يصلح أن ترسلها لشخص لا يعرف مقاصدك، أو لشخص شديد الحساسية سيئ الظن؛ فمراعاة تلك الأحوال أمر مطلوب، وكم حصل من جراء التفريط بذلك الأدب من إساءة ظن، وقيام لسوق العداوة.
خامس عشر: النظر في جوالات الآخرين واستعراض الرسائل دون رضاهم: فذلك من كشف الستر، ومن التطفل المذموم، بل هو ضرب من ضروب الخيانة، وباب من أبواب سوء الظن؛ لأن الناظر في رسائل جوال غيره ربما رأى رسالة ففهمها على غير وجهها، أو ظن أنها أرسلت إلى امرأة يعاكسها وقد يكون صاحب الجوال أرسلها إلى زوجته.وقد تكون الرسالة وردت إليه وهو لم يرض بها، فيسيء الناظرُ الظنَّ في صاحبه وهو براء من ذلك. وهذا يؤكد ما مضى التنبيه عليه من حفظ الجوال، والحذر من إلقائه بين الآخرين، ويوجب أن يستحضر العاقل أنه ربما استعرض الجوالَ غير صاحبه فيرى الرسائل ويكشف الستر، وربما أساء الظن. وينبغي للمرسل أن يحتاط لذلك، خصوصاً النساء؛ لأنه ربما استعرض الجوال زوج صاحبتها، أو أخوها، وربما كان مريض النفس، فكان ذلك سبباً فيما لا تحمد عقباه.
سادس عشر: ترك الإنكار على من أرسل رسالة لا تليق: فهذا مما لا ينبغي، بل على المسلم إذا وصلت إليه رسالة لا تليق أن يبادر في الإنكار على صاحبه بالرفق واللين؛ ففي هذا إقامة لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه تواصٍ بالحق، وتنبيهٌ على الخطأ، وتعليم للجاهل إذا كان المرسل لا يفقه ما أرسل. كما يحسن بالإنسان أن يبادر إلى مسح الرسالة السيئة؛ حتى يسلم من الحرج إذا ضاع جواله، أو نسيه في مكان ما، أو وقع في يد غيره.
سابع عشر: استعمال الجوال للمعاكسات: وهذا الأمر يكاد يكون أخطر ما في الجوال؛ فقد كان العقلاء في السابق يحذِّرون خطر الهاتف، وينبهون على وجوب أخذ الحيطة من وضعه في أيدي السفهاء، فجاء الجوال، فعم و طم، وصار بيد العاقل والسفيه، والرجل و المرأة،والصغير والكبير.
فالواجب على العقلاء أن يتنبهوا لهذا الخطر الذي سَهَّل مهمة المعاكسات كثيراً، والواجب -أيضا- على المتلاعبين بالأعراض أن يحذورا عاقبة أمرهم، وأن يراقبوا ربهم، وأن يستحضروا اطلاعه عليهم.
كما يجب عليهم أن يقفوا مع أنفسهم وقفة صادقة، وأن يدركوا أن السعادة الحقة لا تكون بهذه الأساليب المحرمة، بل إن تلك الأساليب أعظم أسباب اضطرابهم وقلقهم، وحيرتهم، وفساد أحوالهم، وضياع أموالهم، كما أنها سبب لفضيحتهم وشقائهم، ودمارهم في الدنيا ولآخرة، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ولذة العفة خير من لذة الشهوة المحرمة.
ثامن عشر :كثرة العبث بالجوال في المجالس: خصوصاً في مجالس الأكابر من أهل العلم والفضل؛ فبعض الناس لا يفتأ يقلب جواله، ويستعرض نغماته وأجراسه، ويلعب في التسالي التي يحتويها الجوال إلى غير ذلك مما لا يليق بالعاقل، ومما يجعله عرضة للتندر، والاستهجان.(/3)
تاسع عشر: التشبع، والادعاء: كحال من يريد لفت الأنظار، وإظهار العظمة، وبيان أنه إنسان مهم، حيث يوهم من حوله بأن فلاناً من أهل الفضل، والمكانة يبحث عنه، ويتصل به.
يقول الشيخ بكر أبو زيد -حفظه الله-: (( في الجماعة أفراد يحملون همَّ العظمة، وأن يحمدوا بما لم يفعلوا، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور )). رواه البخاري ( 5219 )، ومسلم ( 2129 ) و( 2130 ).ومن المهاتفين العُراة إجراؤهم المهاتفة الوهمية لبعض ذوي القدرة، والمكانة، أو ذوي القدر والجاه واليسار، أو يُسرُّ إلى بعض خواصه أن يتصل به، على أنه ذاك الذي يشار إليه، فترى المسكين يوهم الحاضرين عنده بالاهتمام البالغ، وبعض العبارات والحركات لهذه المقامات؛ ليبين للحضور أنه شخص مرموق رفيع المستوى،كأنه يقول: (( هأناذا؛ فاعرفوني )).
وهو اتصال وهميٌّ مكذوب.وقد شاهدت وشاهد غيري من ذلك عجباً.
والمهم أن يعرف أولئك أنهم عراة، وقلَّ أن تخفى حالهم؛ فلا تسلك أيها المسلم سبيلهم )) . أدب الهاتف ص35-36.هذه إشارة عجلى وتنبيهات عابرة حول الجوال وما ينبغي في أدبه ومالا ينبغي.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
محمد بن إبراهيم الحمد
9/2/1424هـ
http://www.toislam.net(/4)
الجود
عائض القرني
ملخص الخطبة ... ...
1- الله لا يتخلى عن عباده المحسنين 2- مراتب الجود : أ- الجود بالنفس ب- الجود بالعلم ج- الجود بالمال د- الجود بالجاه والسلطان هـ- الجود بالوقت والراحة 3- أمثلة لجود الصحابة بأنواع الجود المختلفة ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
عباد الله:
يقول الله تبارك وتعالى: أفمَن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوانٍ خيرٌ أمَّن أسس بنيانه على شفا جُرُف هارٍ فانهار به في نار جهنّم والله لا يهدي القوم الظالمين [التوبة:109].
أفمن أسس حياته ومستقبله، على تقوى الله تعالى ورضوانه، على خوف من الله, وخشية لله, خيرٌ أمَّن أسس حياته ومستقبله على معصية وتمرُّد، وتَعَدٍّ وانتهاك لحدود الله وحُرُماته.
ومن سُنّة الله تبارك وتعالى أن ينصر أوليائه، وأن يحفظ أحبابه، وأن يؤيد عباده. إنّ الله يدافع عن الذين آمنوا إنّ الله لا يحب كلّ خوّانٍ كفور [الحج:38].
ومن سُننه كذلك أن يخذل أعداءه، وأن ينتقم ممن عاداه وحادَّه.
ولذلك لمّا رجع رسول الله، عليه الصلاة والسلام، من غار حراء خائفاً وجلاً بعد أن جاءه جبريل، وظنّ أنه سيموت أو سيهلك أو سيُخزى، لأنه رأى صورة ما رآها من قبل، فقالت له خديجة، رضي الله عنها، وأرضاها: كلا والله لا يُخزيك الله أبداً، إنك لَتَصِلُ الرحِم، وتحمِل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق"[1]. فاستدلّت – رضي الله عنها – بحُسن أفعاله، وبجميل سيرته على أنّ الله لا يُخزيه أبداً.
هل رأيتم متصدقاً أخزاه الله ؟. هل رأيتم صادقاً أسلَمه الله ؟ هل رأيتم مُحسناً ضيّعه الله ؟
إنما يُخزي الله أعداءه ومَن نادّه.. أهل المعاصي والهوى.. أهل الفواحش والسيئات، هم الذين يُخزيهم الله تعالى ويقطع عنهم حبلَه ومدَده.
أما أهل الجود والصدقة والمعروف، فإنّ الله – عز وجل – معهم مثل الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبة والله يُضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [البقرة:261].
ويقول الشاعر عن البذل والجود:
ولم أرَ كالمعروف أما مذاقه فحلوٌ وأما وجهه فجميل
وقد بيّن ابن القيّم رحمه الله في كتاب مدارج السالكين، مراتب الجود ودرجاته.
فأعظم درجات الجود ومراتبه: الجود بالنفس، ليس هناك أكرم ممن يجود بنفسه في سبيل الله – عز وجل -.
فيا مَن يبخل بدرهمه وديناره.. أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، جادوا بنفوسهم وأرواحهم في سبيل الله.
يجود بالنفس إن ضَنَّ البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
جاء الصحابة في بدر، لا يملكون من الدنيا شيئاً، لا مال، ولا عقار، ولا سلاح، وإنما كانوا يملكون نفوساً أبيّة، وأفئدة طاهرة، باعوها لله الواحد الأحد، إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة [التوبة:111].
رفعوا سيوفهم ظاهرين مقبلين، وقالوا: يا رب، لا نملك من الدنيا قليلاً ولا كثيراً، إنما نملك نفوساً قد وَهَبناهَا لك، فتقبّلها منّا، وجئنا ببضاعة مُزجاة فتصدق علينا.
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعزّ شيء فاشترى
أَمّن رمى نار المجوس فأُطفئَت وأبان وجه الصبح أبْلج نيِّرا
ومن الذي دَكُّوا بعزم أكفِّهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
خالد بن الوليد، باع نفسه لله، جعفر الطيّار، عبد الله بن رواحة، صلاح الدين، محمود بن سُبُكتكين، وأبناء محمود من المجاهدين الأفغان قدموا أنفسهم رخيصة في سبيل الله – عز وجل -.
أرواحنا يا رب فوق أكُفِّنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمُها ونهدم فوقها الكُفّارا
لو كان غير المسلمين لحَازَها كنزاً وصاغ الحُلْي والدينارا
أيها المسلمون:
ومن مراتب الجود أيضاً: الجود بالعلم، وهو من أشرف المراتب، وبذلُه للناس من أعظم القُرَب إلى الله تعالى، وهو أشرف من الجود بالمال، كما ذكر ابن القيم رحمه الله، فيا دعاة الإسلام، ويا طلبة العلم، ويا حمَلَة الشهادات العالية، الأمة ماتت جهلاً، وشركاً وتخلُّفاً, وضياعاً، فمن يُنقذها بعد الله إلا أنتم؟ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أُوتوا الكتاب لتُبيِّنُنه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون [آل عمران:187].
اشتروا به مناصب ,ووظائف، وتكدّسوا في بيوتهم، والأمة غارقة في الجهل، وفي الشرك، وفي الخرافة، فبئس ما يشترون.
ووالله لساعة واحدة يقضيها المسلم في طلب العلم خير له من الدنيا وما فيها.
هو العَذْب المهنّد ليس ينبو تُصيبُ به مَضاربَ من أردتَ
وكنزٌ لا تخاف عليه لصاً خفيف الحِمْل يوجد حيث كنتَ
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفّاً شددتَ
ومن وصايا عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – لِكُمَيل بن زياد، يا كُميل: العلم خير من المال.. العلم يحفظك وأنت تحفظ المال، العلم يزكو بالإنفاق، والمال تُنقصه النفقة.(/1)
يقول تبارك وتعالى: إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التوّاب الرحيم [البقرة:159160].
ونسأل أيها المسلمون. كم من العلماء في بلادنا ؟ كم من الدعاة؟ كم من القضاة، ومع ذلك فالقُرى جاهلة، والبوادي تعيش في الخرافة، وكثير من الناس لا يعرفون أحكام دينهم، ولا أمور شرعهم، ظمئى وحولهم، ولكن بخل أهل الماء به، وصدوا الناس عنه.
إنّ مَن بخل بعلمه، بالنور الذي يحمله، بالهدى الذي في صدره، لَهُو أشدّ ذمّاً ومَقتاً وبخلاً ممن بخل بماله.
إنّ أهل الباطل ودعاة التخلف، يبذلون ما عندهم من الباطل، وينشرونه بين الناس، ويودّون أن لو يصل باطلهم إلى كل إنسان على وجه هذه الدنيا.
إنّهم تكلّموا، وكتبوا، وحاضروا، وأنتجوا، وطبّلوا، وزمّروا، وغَنّوا، ورقصوا؛ دعاية لباطلهم، ونشراً لعفنهم، بينما يستحي كثير من شباب الإسلام؛ أن يُعلِّم جاهلاً آية من كتاب الله، أو حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون :
من مراتب الجود أيضاً: الجود بالمال، ونحن – بحمد الله تعالى – نعيش في هذه البلاد عيشة هنيئة كريمة لا تتوفر في معظم بلاد الدنيا، فماذا قدمنا لأنفسنا، وماذا قدمنا لديننا؟.
هل قدمنا للقبر، هل قدمنا للصراط، هل قدمنا ليوم الكُرُبات والفضائح؟
لقد رأينا ورأيتم كثيراً من الناس يَشْكون الحاجة والفقر، مَدِينٌ لا ينام الليل، فقير لا يجد قوت يومه، مريض لا يملك ثمن الدواء، هرِمٌ ليس له إلا الله تعالى، فمن لهؤلاء إن أغلقتم أبوابكم دونهم؟
واعلموا أيها الناس: أنّ مَن قدّم خيراً فإنما يُقدّم لنفسه وما تقدموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند الله [البقرة:110].
الخير أبقى وإن طال الزمان به والشرُّ أخبث ما أوعيْتَ من زادك
يقول عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيح: ((ما من يوم يُصبح العباد فيه؛ إلا ملَكان ينزلان؛ فيقول أحدهما: اللهم أعط مُنفقاً خلَفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط مُمسكاً تلفا))[2].
فمن أراد أن يُخلف الله عليه، وأن يُبارك له في رزقه، وفي دَخلِه، فليُنفق على الفقراء، على المجاهدين، على المساكين، في مشاريع الخير، فكل ذلك من أبواب البر.
وإذا كان بعض الجاهليّين لا يرضون أن يعيش في مجتمعهم جائع ولا مسكين، وهم وثنيّون، لا يعرفون رباً ولا رسولاً ولا ديناً، فما بال أهل الحق يَبخلون بفضل الله على عباد الله!!.
ابن جُدْعان رجل جاهلي، ما عرف لا إله إلا الله، ما سجد لله، عنده صِحاف تُعرض كلّ صباح فينادي مُناديه على جبل أبي قُبيص في مكة: من أراد الإفطار فليَأتِ، فتُحاط صحافه بالمساكين، فإذا كان الظهر، ملأ صِحافه باللحم والخبز ونادى مُناديه: من أراد الغداء فليَأت.
ولذلك قال أمية بن أبي الصلت في آل جدعان:
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم لِتَطلُّب الحاجات بالعيدان
بل يُشرقون وجوههم فترى لها عند السؤال كأحسن الألوان
وإذا دعا الداعي ليوم كريهة سدّوا شُعاع الشمس بالفرسان
ومن الجود أيضاً أيها الناس، الجود بالجاه والوجاهة والمنصب، فبعض الناس آتاه الله الجاه والمنصب، يعرفه المسئولون بوجاهته، ويقبلون شفاعته، ويُقدّمونه على الناس، والله تعالى يقول: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نُؤتيه أجراً عظيماً [النساء:114].
ويقول - سبحانه -: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كِفلٌ منها وكان الله على كلّ شيء مُقيتاً [النساء:85].
فيا أيها المسئولون في هذه البلاد وفي غيرها.
ويا من أنعم الله عليكم بالجاه والمنصب.
هذه والله بُشرى لكم.
شفاعتكم للمحتاجين، قضاء حوائج المسلمين، دفع الظلم عن المظلومين، السعي على مصالح الأرامل والمساكين، كلامك إلى المسئول، إلى الأمير، إلى الوزير في مصالح هؤلاء، له أعظم الأجر عند الله تعالى، حيث يشفع لك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، يوم لا ينفع جاه ولا منصب.
ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كِفْلٌ منها ، كما يفعل الذين تبلّدَت عقولهم، وخربت ذِمَمُهم، في الإضرار بالمسلمين، وتنغيص عيشهم، واضطراب أمورهم، ويحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم، وسيندمون على ذلك أشدّ الندم يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء:88-89].
ومن الجود أيضاً، الجود بالوقت والراحة، وذلك بأن تجعل جزءًا من وقتك لإخوانك المسلمين، تعود مريضاً، فتُدخل على قلبه البهجة والسرور، وقد تكون زيارتك له سبباً في شفائه، وغرس شجرة الأمل في نفسه.
وكذلك تَفقُّد ذوي الحاجات من الفقراء والمساكين والضَّعَفة، والله تعالى يقول: ما عندكم ينفدُ وما عند الله باق [النحل، الآية:96].(/2)
فما أحسن المعروف، وما أحسن الجميل. يقول علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – "ما أحسن الجميل، والله لو كان الجميل رجلاً لكان حسَناً، وما أقبح القبيح، والله لو كان القبيح واللؤم رجلاً لكان قبيحاً".
جاءه رجل فاستحى أن يسأله، فكتب حاجته على التراب، فقال علي – رضي الله عنه – أمسكتَ ماء وجهك، وأعفيتنا من ذلّ سؤالك، لألَبّيَنّ مسألتك، فكساه وآتاه مالاً، فقال الرجل:
كسوتني حُلّة تَبلى محاسنها لأكْسُونَّك من حُسن الثنا حُللا
والثناء من أحسن ما وضع الله للناس في الأرض.
وأنما المرء حديثٌ بعده فكُن حديثاً حسناً لمن وعى
حاتم الطائي نذكره اليوم وهو مشرك لا يعرف رباً ولا ديناً، ولكنه كان جواداً فبقي ذكره في الدنيا جزاءً وِفاقاً، ولا يظلم ربك أحداً.
فيا عباد الله:
قوا أنفسكم وأهليكم ناراً تلظّى، قوا وجوهكم من لَفح النار؛ بالمعروف، بالكلمة الطيبة، بالبسمة، بالصدقة، بالزيارة، بالشفاعة، بما يرضيه سبحانه وتعالى.
غفر الله لي ولكم، أنقذني الله وإياكم من النار، هداني الله وإياكم سواء السبيل.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري ( 1 / 3) . ومسلم ( 1 / 141 ) رقم ( 160 ) .
[2] أخرجه البخاري ( 2/120 ) . ومسلم ( 2 / 700 ) رقم ( 1010 ) ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله:
إن خير جيل ظهر على وجه الأرض هم جيل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فهم القادة، وهو القدوة التي ينبغي على جميع المسلمين؛ رجالاً ونساءً، شباباً وشيباً، الاقتداء بهم، والسير على طريقهم.
أولئك الذين هدى الله فبهداهُم اقتده [الأنعام:90].
فنحن لم نُقدّم للإسلام عُشر ما قدموا، ولم نبذُل شيئاً مما بذلوا، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
أتى حمزة، فترك أهله وأطفاله وداره وعَقاره، وأتى بثيابه الممزقة التي تَستر جسمه الطاهر، فقاتل في أُحد حتى قُتل، فكان أسد الله في أرضه، وكان سيّد الشهداء في السماء.
وأتى أنس بن النضر مقبلاً إلى الموت غير مُدبر، بعد أن رأى الناس قد فرّوا يوم أُحد، فأقبل إلى الله، وشمّ ريح الجنة من دون أحد، فقُتِل وضُرِب بأكثر من ثمانين ضربة.
وأتى خالد وسعد فباعوا أرواحهم للحي القيوم، هذه أعظم التجارة وأربحها، وهذا هو أعظم البذل والعطاء. إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة يُقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله [التوبة:111].
وهذا أعظم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، أحيا الله به الأرواح من الجهل والشرك والخرافة، حتى كانت خير أمة أخرجت للناس.
يقول شوقي:
أخوك عيسى دعا ميْتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرِّمم
إن كان عيسى عليه السلام أحيا ميتاً بإذن الله، فأنت أحييت الأرواح الميّتة، أحييت الشعوب الميتة، علّمت الجاهلين، رفعت الأميين، هديت الذين ما كانوا يهتدون ولا يفقهون ولا يتدبرون.
أَتَطْلُبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه
بذل أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، العلم، وبلّغوه للناس، وهذه قبورهم في الشرق والغرب تشهد بذلك.
كان أُبي بن كعب - رضي الله عنه – يجلس للناس بعد كلّ صلاة فيقول:
هل من متعلِّم، هل من سائل، هل من مُسْتَفتٍ، هل من مُستفسِر، فيفيض بالعلم كالبحر الذي لا ساحل له.
ابن عباس – رضي الله عنه – يجلس للناس من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، فيدخل أهل التفسير، حتى إذا انتهوا قال: اخرجوا، وعليّ بأهل الحديث، فإذا انتهوا قال: عليّ بأهل الفقه، فإذا انتهوا، نزل أهل الفَتاوى والأحكام، ثم جاء بأهل الأدب والشعر واللغة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [الحديد،:21].
وأما بذل الأموال فحدِّث ولا حرج – أبو بكر الصدّيق – رضي الله عنه – يبذل ماله كلّه في سبيل الله، فيقال له: ماذا تركت لأهلك وعيالك؟ فيجيب بلسان الواثق بالله تعالى: تركت لهم الله ورسوله.
عثمان بن عفّان – رضي الله عنه – يبذل ماله في سبيل الله، يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ((من يشتري بئر رومة وله الجنة))[1] فاشتراها عثمان من اليهود فكانت ثمن روحه إلى الجنة.
ويسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يُجهّز جيش تبوك وله الجنة))[2] فجهّز عثمان الجيش على نفقته، فاستحق بذلك دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام.
((اللهم اغفر لعثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان، فإني عنه راضٍ، ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم))[3].
أيها الناس:(/3)
صلوا وسلِّموا على من أمركم الله بالصلاة و السلام عليه حيث قال: إنّ الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليما [الأحزاب:56].
[1] أخرجه البخاري ( 3 / 74 ) . والترمذي ( 5/586 ) . رقم ( 3703 ) وقال : حديث حسن .
[2] حديث تجهيز جيش العسرة , أخرجه الترمذي ( 5 / 584- 586 ) . رقم ( 3700 , 3703 ) . وأحمد ( 5/63 ) .
[3] أخرجه الترمذي ( 5/585 ) , رقم ( 3701 ) وقال : حديث حسن غريب . وأحمد ( 5/63 ) . ... ...
... ...
... ...(/4)
الحافظ الكبير شيخ الإسلام أبو نعيم الفضل بن دكين
إعداد / مجدي عرفات
اسمه ونسبه: أبو نعيم الفضل بن دكين عمرو بن حماد بن زهير التيمي الطلحي القرشي مولاهم الكوفي الملائي الأحول مولى آل طلحة بن عبيد اللَّه.
كان شريكًا لعبد السلام بن حرب الملائي بالكوفة يبيعان المُلاء وغير ذلك، وكذلك كان غالب علماء السلف، إنما ينفقون من كسبهم.
مولده: روى الخطيب عن أحمد بن ملاعب: سمعت أبا نعيم يقول: ولدت في آخر سنة ثلاثين ومائة.
شيوخه: سمع من سليمان الأعمش وزكريا بن أبي زائدة، وعمر بن ذر وعبد الواحد بن أيمن، ومالك بن مغول، ويونس بن أبي إسحاق، ومسعر بن كدام وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وإسرائيل بن يونس، وشريك بن عبد اللَّه، وعبد العزيز بن أبي رواد، وزهير بن حازم، وأبي حنيفة وابن أبي ليلى، وشيبان النحوي، وخلق كثيرين.
تلامذته والرواة عنه: روى عنه البخاري كثيرًا وهو من كبار شيوخه، وروى عنه أيضًا أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وزهير بن حرب، وأبو بكر، وعثمان ابنا أبي شيبة، ومحمد بن يحيى الذهلي، والدارمي، وعبد بن حميد، وأبو زرعة، وأبو حاتم الرازيان، وعلي بن عبد العزيز البغوي، وأمم سواهم، وحدث عن عبد اللَّه بن المبارك مع تقدمه، قال: شاركت سفيان الثوري في أكثر من أربعين شيخًا. اهـ. وهذا يدل على تبكيره في السماع.
ثناء العلماء عليه: قال أحمد بن حنبل: أبو نعيم أعلم بالشيوخ وأنسابهم وبالرجال، ووكيع أفقه.
وقال أيضًا: إذا مات أبو نعيم صار كتابه إمامًا، إذا اختلف الناس في شيء فزعوا إليه، وقال أيضًا: ما رأيت أحفظ من وكيع، وكفاك بعبد الرحمن معرفة وإتقانًا، وما رأيت رجلاً أوزن بقوم من غير محاباة وأشد تثبتًا في أمور الرجال من يحيى بن سعيد، وأبو نعيم فأقل الأربعة خطأً وهو عندي ثقة موضع الحجة في الحديث.
وقال أيضًا عندما سأله الفضل بن زياد: أيجري عندك ابن فضيل مجرى عبيد اللَّه بن موسى ؟ قال: لا، كان ابن فضيل أستر وكان عبيد اللَّه صاحب تخليط، روى أحاديث سوء، قلت: فأبو نعيم يجري مجراهما ؟ قال: لا، أبو نعيم يقظان في الحديث، وقام في الأمر - يعني محنة خلق القرآن - ثم قال: إذا رفعت أبا نعيم من الحديث فليس بشيء.
وقال أيضًا: كان ثقة يقظان في الحديث عارفًا به، ثم قام في أمر الامتحان ما لم يقم غيره عافاه اللَّه، وقال: إنما رفع اللَّه عفان وأبا نعيم بالصدق حتى نوّه بذكرهما.
قال يحيى بن معين: ما رأيت أحدًا أثبت من رجلين: أبي نعيم وعفان.
قال أحمد بن صالح: ما رأيت محدثًا أصدق من أبي نعيم.
قال يعقوب الفسوي: أجمع أصحابنا أن أبا نعيم كان غاية في الإتقان.
قال أبو حاتم: كان حافظًا متقنًا لم أر من المحدثين من يحفظ ويأتي بالحديث على لفظ واحد لا يغيره سوى قبيصة وأبي نعيم في حديث الثوري، وكان أبو نعيم يحفظ حديث الثوري حفظًا جيدًا - يعني الذي عنده عنه - وثلاثة آلاف وخمسمائة حديث، ويحفظ حديث مسعر وهو خمس مائة حديث وكان لا يلقن.
قال يحيى بن سعيد القطان: إذا وافقني هذا الأحول - يعني أبا نعيم - ما أبالي من خالفني.
قال أبو نعيم: نظر ابن المبارك في كتبي فقال: ما رأيت أصح من كتبك.
قال محمد بن عبد اللَّه بن عمار: أبو نعيم متقن حافظ، إذا روى عن الثقات فحديثه حجة أحج ما يكون.
قال عثمان بن أبي شيبة مرة: حدثنا الأسد، فقيل: من ؟ قال: أبو نعيم.
قال أبو حاتم: سألت عليًا (يعني ابن المديني): مَن أوثق أصحاب الثوري؟ قال: يحيى وعبدالرحمن ووكيع وأبو نعيم.
قال العجلي: ثقة ثبت في الحديث.
قال الذهبي: كان من أئمة هذا الشأن (يعني الحديث) وأثباتهم.
قال ابن حجر: ثقة ثبت.
من أقواله وأحواله: قال أبو نعيم: القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر.
قال رحمه اللَّه: ينبغي أن يُكتب هذا الشأن عمن كتب الحديث يوم كتب يدري ما كتب، صدوق مؤتمن عليه يحدث يوم يحدث يدري ما يحدث معنى كلامه؛ أن لا يكتب الحديث إلا عمن يدري معنى ما كتب ومعنى ما يحدث به لا يكون جاهلاً بمعنى ما يكتب ويحدث.
قال: لا ينبغي أن يؤخذ الحديث إلا من حافظ أمين له عارف بالله.
قلت: وهذا معنى ما تقدم من قوله السابق.
قال: عندي عن أمير المؤمنين في الحديث سفيان (يعني الثوري) أربعة آلاف حديث. اهـ.
قلت: هذا يدل على سعة حفظه فهذا شيخ واحد من شيوخه يروي عنه أربعة آلاف فكم يكون الباقي ؟
قال: كثر تعجبي من قول عائشة رضي الله عنها: ذهب الذين يعاش في أكنافهم... لكني أقول:
ذهب الناس فاستقلوا وصرنا
خَلَفًا في أراذل النَّسناس
في أناس نعدهم من عديد
فإذا فُتشوا فليسوا بناس
كلما جئتُ أبتغي النَّيْلَ منهم
بدروني قبل السؤال بياس
وبكَوْا لي حتى تمنيت أني
منهم قد أَفْلَتُّ رأسًا برأس(/1)
قال أحمد بن منصور الرمادي: خرجت مع أحمد (يعني ابن حنبل) ويحيى (ابن معين) إلى عبد الرزاق (ابن همام الصنعاني) خادمًا لهما، قال: فلما عدنا إلى الكوفة قال يحيى بن معين: أريد أن اختبر أبا نعيم، فقال أحمد: لا تُرِدْ فالرجل ثقة، قال يحيى: لا بد لي، فأخذ ورقة فكتب فيها ثلاثين حديثًا وجعل على رأس كل عشرة منها حديثًا ليس من حديثه ثم إنهم جاؤوا إلى أبي نعيم فخرج وجلس على دكان طين (مكان مرتفع) وأخذ أحمد بن حنبل فأجلسه عن يمينه ويحيى عن يساره وجلستُ أسفل الدكان، ثم أخرج يحيى الطبق فقرأ عليه عشرة أحاديث، فلما قرأ الحادي عشر، قال أبو نعيم: ليس هذا من حديثي؛ اضرب عليه، ثم قرأ العشر الثاني وأبو نعيم ساكت فقرأ الحديث الثاني، فقال أبو نعيم: ليس هذا من حديثي فاضرب عليه ثم قرأ العشر الثالث ثم قرأ الحديث الثالث فتغير أبو نعيم وانقلبت عيناه، ثم أقبل على يحيى فقال: أمّا هذا - وذراع أحمد بيده - فأورع من أن يعمل مثل هذا، وأما هذا - يريدني - فأقل من أن يفعل ذلك، ولكن هذا من فعلك يا فاعل، وأخرج رجله فرفس يحيى فرمى به من الدكان وقام فدخل داره فقال أحمد بن حنبل ليحيى: ألم أمنعك وأقل لك إنه ثَبْتٌ، قال: والله لرفْسَتُهُ لي أحب إليّ من سفرتي.
قال أبو العباس السراج عن الكديمي قال: لما دخل أبو نعيم على الوالي ليمتحنه وثَمَّ يونس وأبو غسان وغيرهما فأول ما امتحن فلان فأجاب ثم عطف على أبي نعيم فقال: قد أجاب هذا فما تقول؟ فقال: والله ما زلت أتهم جدّه بالزندقة ولقد أخبرني يونس بن بكير أنه سمع جده يقول: لا بأس أن يرمي الجمرة بالقوارير، أدركت الكوفة وبها أكثر من سبع مائة شيخ، الأعمش فمن دونه يقولون: القرآن كلام اللَّه وعنقي أهون من زِرِّي هذا، فقام إليه أحمد بن يونس فقبل رأسه وكان بينهما شحناء، وقال: جزاك اللَّه من شيخ خيرًا.
قال سبط بن الجوزي في (مرآة الزمان): قال عبد الصمد بن المهتدي: لما دخل المأمون بغداد نادى بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لأن الشيوخ بقوا يضربون ويحبسون فنهاهم المأمون وقال: قد اجتمع الناس على إمام فمر أبو نعيم فرأى جنديًا على منكر عظيم فنهاه أبو نعيم بعنف فحمله إلى الوالي فيحمله الوالي إلى المأمون قال: وأُدخلت عليه بُكرةً وهو يُسبح، فقال: توضأ، فتوضأت ثلاثًا ثلاثًا على ما رواه عبد خير عن علي رضي الله عنه فصليت ركعتين، فقال: ما تقول في رجل مات عن أبوين، فقلت: للأم الثلث وما بقي للأب، قال: فإن خلف أبويه وأخاه ؟ قلت: المسألة بحالها، وسقط الأخ، قال: فإن خلف أبوين وأخوين ؟ قلت: للأم السدس وما بقي للأب، قال: في قول الناس كلهم ؟ قلت: لا، إن جدك ابن عباس يا أمير المؤمنين ما حجب الأم عن الثلث إلا بثلاثة إخوة، فقال: يا هذا من نهى مثلك عن الأمر بالمعروف ؟ إنما نهينا أقوامًا يجعلون المعروف منكرًا ثم خرجت.
قال محمد بن عبد الوهاب الفراء: كنا نهاب أبا نعيم أشد من هيبة الأمير.
قال بشر بن عبد الواحد: رأيت أبا نعيم في المنام فقلت: ما فعل اللَّه بك ؟ يعني فيما كان يأخذ على الحديث، فقال: نظر القاضي في أمري فوجدني ذا عيال فعفا عني، قال الذهبي: ثبت عنه أنه كان يأخذ على الحديث شيئًا قليلاً لفقره.
قال عليّ بن خشرم: سمعت أبا نعيم يقول: يلومونني على الأخذ وفي بيتي ثلاثة عشر نفسًا وما في بيتي رغيف. قال الذهبي: لاموه على الأخذ يعني من الإمام لا من الطلبة.
قال الذهبي: وقد كان أبو نعيم ذا دعابة فروى علي بن العباس المقانعي سمعت الحسين بن عمرو العنقزي يقول: دق رجل على أبي نعيم الباب، فقال: من ذا ؟ قال: أنا، قال: من أنا؟ قال: رجل من ولد آدم، فخرج إليه أبو نعيم وقبله وقال: مرحبًا وأهلاً، ما ظننت أنه بقي من هذا النسل أحدٌ.
قال الذهبي: كان في أبي نعيم تشيع خفيف. قلت: كان منتشرًا في الكوفة.
وفاته: توفي أبو نعيم رحمه اللَّه بالكوفة ليلة الثلاثاء لانسلاخ شعبان سنة تسع عشرة.
قال الذهبي: توفي أبو نعيم شهيدًا، فإنه طعن في عنقه وظهر به في يده حمرة بسبب الطاعون.
ومما رواه أبو نعيم من الحديث:
روى البخاري عنه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال اللَّه عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جنة، للصائم فرحتان؛ فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى اللَّه عز وجل، ولخلوف فم الصائم أطيب عند اللَّه من ريح المسك».
وما رواه البخاري عنه عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن همام قال: كنا جلوسًا مع حذيفة فقيل له: إن رجلاً يرفع الحديث إلى عثمان، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة قتات». والقتات هو النمام.
فوائد من الترجمة:
1- مكانة أبي نعيم في العلم والفضل والصدع بالحق.
2- لا يؤخذ العلم إلا عمن يفهم ما يكتب وشهد له بذلك العلماء.
3- يُعرف حال الراوي بالاختبار والسؤال عن حديثه.(/2)
4- الثبات على الحق من أخلاق العلماء فإنهم لا يتلونون.
5- أهل العلم ينبغي أن يكون لهم المهابة والوقار.
6- جواز أخذ الأجرة على العلم الشرعي وتعليمه لمن كان محتاجًا.
7- الطاعون شهادة.
مراجع البحث:
ـ تاريخ بغداد. ـ سير أعلام النبلاء.
ـ تهذيب التهذيب. ـ تقريب التهذيب.(/3)
... ... ...
الحب في الله ... ... ...
رضا محمد السنوسي ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- الحب والبغض طبيعتان في الإنسان. 2- كثير من أعمال الإنسان مصدرها الحب والبغض. 3- الميزان الشرعي للحب والبغض. 4- المجتمع الإسلامي يقوم على آصرة الحب في الله. 5- فضل عبادة الحب في الله . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
أحبابنا في الله: للإنسان في هذه الحياة حاجات يود قضاءها، ومطالب يرجو نوالها، ومصالح يتمنى نجاحها، وله أيضاً ميول ورغبات وشهوات يحاول إرضاءها وإشباعها والتمتع بها، وكل من ساعده على قضاء حاجة أحبه، ومن وافقه على هواه مال إليه، ومن خالفه في مصلحة، أو صادمه في أهوائه كرهه وأبغضه.
فالحب والبغض من طبيعة الإنسان، ومن صفاته المتأصلة فيه، لا مفر منهما، ولا عاصم عنهما، ولن يخلو إنسان من حب أو بغض، فقد وجد الحب مع أبينا آدم عليه السلام، وكان الحب والبغض بين أولاده سبباً في قتال قابيل وهابيل، وشربت الأرض دم أول قتيل نتيجة حب القاتل لحسن حظ المقتول، فتولد البغض لأخيه الذي أنتج القتل وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْ ءادَمَ بِالْحَقّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاْخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ إلى قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:27-30].
فهكذا يتسلط الحب والبغض على النفس، فتصدر الأعمال والأقوال تبعاً لهما، يصدر عن الحب الائتلاف والمودة والتعاون والرحمة، فتسعد الجماعات والأمم والأفراد، ويصدر عن البغض القطيعة والهجران والتفرقة والاختلاف والخذلان والقسوة والشدة، فتفرق الجماعة وتفسد الأمم، وكثيراً ما يسير الإنسان وراء هواه في حب الناس وبغضهم، ويحكم أغراضه في الرضا عنهم أو كرههم، ولا يوجه حبه وبغضه في وجه الحق والدين والعقل.
لهذا كله وضع الإسلام ميزاناً للحب والبغض، وحد حدوداً للرضا والسخط، حتى لا تضيع الحقوق، ويفنى الأفراد بين حب أعمى وبغض عقيم؛ لهذا يضع الإسلام الميزان الحق في الحب والبغض، يمنع شرهما، ويجعلهما سلاحين من أسلحة الحق والعدل وإسعاد الأفراد والأمم.
فالميزان الحق في ذلك أن يكون حبك وبغضك لله، فأنت تحب لله وتبغض في الله، تحب المؤمنين الصالحين، وتبغض الكافرين المفسدين، تحب أولياء الله، وتبغض أعداء الله، تحب من أحب الله ولو خالف آراءك وتبغض من يبغضه الله ولو وافقك أحياناً، يقول : ((من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)) [أبو داود:4681].
والإسلام يربط أتباعه برباط الحب الذي يوجد المجتمع المتحاب، ورسول الله يعلن عن الوسائل التي تقوي هذا الحب، وتزيده، أخرج مسلم في صحيحه عن رسول الله قال: ((ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم! أفشوا السلام بينكم)).
وقديماً قيل: جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
والحب في المجتمع الإسلام يقوم على الإخلاص لله، لا رياء ولا نفاق، ولا مصالح دنيوية تربط بين هؤلاء، إنه الإخلاص لله وحده لا شريك له، والحق أن الحب إذا شابته أغراض فإنه ينتهي كما بدأ كحب الشيطان الذي يوقع الإنسان في معصية الله ويزين له ذلك، وكحب اللسان من غير تمكين من القلب.
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
ولهذا نجد أن النبي يعلم أتباعه حلاوة الحب لله، ويبين لهم الأثر المحمود لهذا الحب، أخرج البخاري ومسلم (43) عن رسول الله قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)).
الحق أن المسلم إذا أحب لله ذاق أثر ذلك في نفسه من الراحة والاطمئنان، ونال في الآخرة الأجر العظيم الذي أعد الله للمتحابين فيه، ولهذا حرص الإسلام على القواعد التي تجعل هذا الحب واقعاً ملموساً يعيشه المسلم، ويستظل به في هذه الدنيا، يقول : ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)) [أبو داود والترمذي].
إنه توكيد لهذا الحب وإعلام للغير به حتى لا يكون هذا الحب من طرف واحد.
إن الإسلام يشيع الحب بين أتباعه حتى يكون المجتمع متآلفاً، أخرج أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً كان عند النبي ، فمر رجل به فقال: يا رسول الله، إني أحب هذا، فقال له النبي : ((أأعلمته))؟ قال: لا، قال: ((أعلمه)). فلحقه، فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الذي أحببتني له.
والحب ليس كلمة تقال، وإنما هو واقع يعيشه المحب لحبيبه، نصح وإرشاد، بذل وعطاء، تضحية وإيثار، تفقد ودعاء، إنها معانٍ عظيمة تظهر على المتحابين، ولهذا لما كان هذا العمل عظيماً كان الجزاء عليه كبيراً من الرحيم الرحمن.(/1)
ففي الحديث الصحيح المتفق عليه في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله، منهم: ((رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه))، وتفرقا عليه، ويستمر العطاء الرباني لهؤلاء المتحابين، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: ((وجبت محبتي للذين يتحابون ويتجالسون ويتزاورون ويتبادلون في)) [الطبراني: 153، 20/81].
وأما في الآخرة، فإن الناس تغبطهم لهذا النعيم الذي هم فيه، أخرج ابن حبان: (573) بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((أن من عباد الله عباداً ليسوا بأنبياء يغبطهم الأنبياء والشهداء)) قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال: ((هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس))، ثم قرأ: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].
اللهم اجعلنا منهم، وألحقنا بهم، واجعلنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
إخوة الإسلام: ألا هل من مشمر منا لهذا، ومبتغٍ إلى ذلك سبيلاً، إن الحب لله أجره عظيم، فهلا أعلم بعضنا بعضاً إن كان يحبه لله حتى يحظى بهذا الأجر، إن بعضاً منا يحب أخاه في الله لكنه يتحرج من ذلك خشية أن يلقى صدوداً أو غير ذلك، لكن السلف رضوان الله عليهم كانوا لا يتحرجون من ذلك، بل يعلمون من أحبوه بهذا الحب حتى ينالوا الأجر من الله.
أخرج الطبراني: (150) بإسناده عن أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا أنا بفتى براق الثنايا طويل الصمت، وإذ الناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقيل: معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه، وقلت: إني والله لأحبك لله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، قال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، قال فأخذ بحبوة ردائي، فجبذني إليه، وقال: أبشر؛ فإني سمعت رسول الله يقول: ((قال الله: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ)). اللهم اجعلنا منهم.
فاتقوا الله عباد الله، واسلكوا نهج رسول الله تفلحوا، وتسعدوا في الدنيا والآخرة. اللهم اجعلنا ممن أحب فيك، اللهم اكتب لنا حبك وحب من يحبك، وألهمنا حبك وحب رسولك وحب المؤمنين. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، أقول ما تسمعون وأستغفر الله. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله حمداً كثيراً . . أما بعد:
إخوة الإسلام:
لقد أقام الإسلام المجتمع الإسلامي على المحب والوئام بعد أن كان الناس أعداء في شحناء وبغضاء وخصام، وقد ظهر هذا الحب العظيم في المحبة التي غرسها رسول الله بين المهاجرين والأنصار، تلك المحبة التي عجزت الدنيا أن تأتي بمثلها إلا في الإسلام وبالإسلام، لقد وصلت المحبة بينهم أن يعرض الرجل التنازل عن إحدى زوجتيه بطلاقها حتى يتزوجها أخوه المهاجر.
إنه الإيثار الذي وصف به القرآن هؤلاء الرجال رضوان الله عليهم، وجدير بالخلف أن يسلكوا مسلك السلف الصالح، وأن نقيم مجتمعنا هذا على المحبة والوئام والسلام، وأن نخلع من نفوسنا بذور الشقاق والخصام، وليكن لنا في الحب في الله المسلك الأمثل لتحقيق هذه الغاية المباركة.
ألا هل من مشمر لهذا؟ اللهم نعم. اللهم اجعلنا متحابين متآلفين متزاورين متباذلين فيك يا أرحم الراحمين، ثم صلوا وسلموا على الشافع المشفع نبي الرحمة، فقد أمركم بذلك مولانا الرحمن، فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/2)
الحث على اغتنام الطاعات
28 / 11 / 1426هـ
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد،،
فإن حياتنا لله، { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين }، خلقنا لعبادته، ولا يجوز لنا أن ننسى لماذا خلقنا، لغمرت الدنيا وما فيها من البهجة والزينة والانشغال بشهواتها، فهذه الدنيا تلهي وتطغي وينسى الناس ما لأجله خلقهم الله عزوجل، فأما المؤمن فإنه على ذكر مما خلقه الله لأجله فهو يسارع للعبادة ويفرح بمواسم الخيرات والفضل، ذلك فضل الله عزوجل آتى عباده منه، والله ذو الفضل العظيم.
عباد الله، إن من مواسم العبادات العظيمة ما سنقدم عليه في هذه العشرة العظيمة التي أقسم الله بها، والله عزوجل خالق الزمان يفضل ما يشاء منه على ما يشاء، رب الليالي والشهور، رب الأعوام واللحظات، خص بعض الشهور والأيام والليالي بمزايا وفضائل يعظم فيها الأجر، ويكثر فيها الفضل، وكذلك المغفرة منه تتنزل ليزداد العباد رغبة فيما عنده، وطمعاً في ثوابه، ومن فوائدها سد الخلل واستدراك النقص، وتعويض ما فات، فكم فاتنا من طاعة الله؟، وكم ذهبت علينا من عباده؟، وكم قصرنا في حقه عزوجل؟، فيريد المسلم أن يسد الخلل، يريد شيئاً يستدرك به النقص، ويعوض ما فاته، فتأتي مثل هذه المواسم كعشر ذي الحجة يتقرب فيها إلى الله، ويغتنم فضله، ويستجيب المؤمن لربهم، { وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين }، قال عليه الصلاة والسلام في فضلها: " ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء ". أخرجه البخاري.
وقال عليه الصلاة والسلام: " ما من عمل أزكى عند الله عزوجل ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟، قال: ولا الجهاد في سبيل الله عزوجل إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ".
فهذه النصوص تدل على أن هذه العشر أفضل من سائر أيام السنة بلا استثناء، حتى العشر الأواخر من رمضان، لكن ليال العشر الأواخر أفضل من ليال غيرها لاشتمالها على ليلة القدر، أما بالنسبة للنهار اليوم الذي هو النهار فإن أيام عشر ذي الحجة أفضل بنص النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دل على أفضليتها أمور:
أولاً: أن الله أقسم بها، والإقسام بالشيء دليل على أهميته عند الله عزوجل، ودليل على عظم نفعه للعباد، قال تعالى: { والفجر وليال عشر }، قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: ( إنها عشر ذي الحجة )، قال ابن كثير: وهو الصحيح.
ثانياً: إن النبي صلى الله عليه وسلم شهد بأنها أفضل أيام الدنيا كما تقدم في الحديث.
ثالثاً: إنه حث فيها على العمل الصالح لشرف الزمان وشرف المكان فأما شرف الزمان فهو عام للحجاج وغيرهم، وشرف المكان خاص بحجاج بيت الله العتيق.
رابعاً: إنه أمر فيها بكثرة التسبيح والتحميد والتكبير، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل، والتكبير، والتحميد ". رواه الإمام أحمد وإسناده صحيح. قال فأكثروا فيهن من التهليل، والتكبير، والتحميد.
خامساً: إن فيها يوم عرفة، وهو اليوم المشهود الذي أكمل الله فيه الدين، وصيامه يكفر آثام سنتين.
وسادساً: أن في هذه العشر يوم النحر، الذي هو أعظم أيام السنة على الإطلاق، وهو يوم الحج الأكبر.
سابعاً: أن في هذه العشر من العبادات ما لا يوجد في غيرها في أيام السنة، كالأضحية، والحج، تنهر الدماء لله رب العالمين ويحجون بيته يؤمونه من كل فج عميق.
ومن الأعمال الطيبة الصالحة في هذه العشر الصيام، وفي شتائنا نهار قصير، وجو بارد، وفرصة وغنيمة للمسلمين، والصيام داخل في الأعمال الصالحة، وقد قال الله تعالى: ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به )، وقد جاء في حديث هنيدة ابن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، أول أثنين من الشهر وخميسين ). رواه النسائي، وأبو داوود، وصححه الألباني.(/1)
فإذن لو صامت تسع كلها لأن العاشر لا يجوز صيامه لأنه يوم العيد، لو صامت تسع كلها فهو طيب، ولو صام بعضها فهو طيب، وكذلك يشرع فيها الإكثار من ذكر الله في سائر الأماكن، وأن يجهر بذلك في المنازل، والمساجد، والطرقات، تكبير وتحميد وتهليل وتسبيح، وفيها كذلك هذا الذكر المطلق والمقيد بالنسبة لأهل البلدان، وهذا التكبير والذكر يجهر به الرجال، وقال سبحانه وتعالى: { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا أسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام }، فهم يذكرونه في هذه الأيام المعلومات، ثم يأتي يوم الذبح فيذبحون، وجمهور العلماء على أن الأيام المعلومات هي: أيام العشر عشر ذي الحجة التي سنقدم عليها إن شاء الله. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما الأيام المعلومات أيام العشر، وصفة التكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، وفيه أيضاً صفات أخر التكبير في هذا الزمان، صار من السنن المهجورة مع أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفعلونه ويخرجون إلى مجامع الناس لتذكيرهم، وقد ثبت أن أبن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، وياليت القائمين على شبكات أجهزة الحاسب يذكرون الناس، وقد صارت الحواسيب في المكاتب، والبيوت، في التجارة، وفي أنواع المراجعات، وغيرها،، فتظهر هذه العبارات على الشاشات تذكر الناس بالتكبير، وهذا من الأمور الطيبة التي يفعلها مشرفو هذه الأجهزة في تذكير الناس بالعبادات، في مثل هذه الأوقات وكذلك،، برسائل الجوالات استناناً بما فعل ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما عندما كانا يذكران الناس بالتكبير، فتذكير الناس بالتكبير في هذه العشر بكل وسيلة مباحة يحقق المقصود الشرعي، والمراد أن الناس يتذكرون التكبير، فيكبر كل واحد بمفرده وليس المراد التكبير الجماعي الذي يجتمعون عليه بصوت واحد، فليس هذا من السنة، ليس من السنة أن يكونوا كالفرقة يكبرون معاً بصوت واحد وإنما المقصود أن يسمع هذا صوت التكبير فيكبر ويسمع الآخر، صوت الأول فيقتدي به ويكبر وهكذا يتذكر الثالث والناس، ويتعلم الجاهل فيكبر كل بمفرده.
عباد الله، إن إحياء من أندثر من السنن أو كاد أن يندثر فيه ثواب عظيم، وقد جاء في الحديث الحسن بطرقه " من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ".
ومن الأعمال العظيمة جداً في هذه العشر أداء العمرة والحج، أن يؤم بيت الله استجابةً لأمره،
{ وأذن في الناس بالحج }، وهكذا كان الخليل عليه السلام منفذاً لأمر الله تعالى فأسمع الله الخلائق صوته فجاءوا من كل فج عميق، ومن وفقه الله تعالى لحج بيته، وقام بأداء نسكه كما أمر الله فهو ما أخبر عنه، النبي صلى الله عليه بقوله: " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " وفي هذه العشر يسن الإكثار من الأعمال الصالحة عموماً كالصدقة، وصلة الرحم، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجيران، وإكرام الزوجة، ورعاية الأولاد، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم، والنصيحة في الدين، والدعوة إلى الله، وكذا دعاه تعالى، وقراءة كتابه، وتلاوة كلامه، وذكره عزوجل، وكذلك في هذه العشر العبادة العظيمة التي فيها توحيد لله بإنهار الدماء له عزوجل، وعلى أسمه الأضحية والتقرب إلى الله بإعدادها، واستسمانها، واستحسانها، وبذل المال فيها قربة إليه، هذه الأضحية التي تفارق عمل المشركين الذين يذبحون لآلهتهم ولأصنامهم، فجاء هذا الدين بإقرار ما شرعه الله لإبراهيم عليه السلام.
عباد الله، في عشرنا توبة عظيمة وإقلاع عن السيئات، رجوع إلى الله وترك للمنكرات، تطهير للبيوت والنفوس والقلوب، وكذلك فإن التوبة في الأزمنة الفاضلة أجدر وأولى وأحرى بالقبول من الله عزوجل، { فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين }، وعلى المسلم أن ينتهز الفرصة فإن الثواء قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرجع والمآب، الغنيمة، الغنيمة بانتهاز هذه الفرصة العظيمة، فما منها بعوض ولا تقدر بقيمة.
عباد الله المبادرة، المبادرة بالعمل والعجل العجل، قبل هجوم الأجل، قبل أن يصير المحبوس في حفرته بما قدم من عمل، ويحول الموت بين المؤمل وبلوغ الأمل.
يا من ظلمة قلبه كالليل إذا يسري أما آن لقلبك أن يستلين
فتعرض لنفحات مولاك في هذه العشر، فإن لله فيه نفحات يصيب بها من يشاء فمن أصابته سعد يوم الدين.(/2)
عباد الله، هذه الأضحية التي تذبح من بهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم، تقرباً إلى الله، أهل البلدان في بلدانهم، وأما الحاج فله الهدي ولو كان مفرداً، فيستحب له الهدي ولا يجب، وإذا ترك الحاج لأهله شيئاً يضحون به في بلدهم فهذا حسن، ولا يجب عليه فيكفيه هديه عن الأضحية، والأضحية سنة مؤكدة في قول أكثر أهل العلم، وقال بعضهم بوجوبها وخصوصاً على المقتدر الغني يشرك من يشاء في ثوابها من الأحياء والأموات، وأضحية الميت تنفذ كما أمر إن ترك مالاً هذه الأضحية لا يجزئ التصدق بثمنها عنها، فإن إنهار الدم عبادة مقصودة، والتصدق باللحم أفضل من التصدق بالقيمة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى ولم يتصدق بقيمة الأضحية، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يفعل إلا ما هو الأولى والأفضل، وإذا ترك من ذلك شيء فلأمر هو أولى.
عباد الله، تجزئ الشاة عن الواحد من أهل بيته وعياله، مهما كثروا، قال أبو أيوب: ( كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون )، وهذه الأضحية إذا أراد الإنسان أن يقوم بها ونوى ذلك فإنه بمجرد دخول ذو الحجة يمسك عن شعره، وأظفاره، وبشرته إلى أن يذبح أضحيته، قال عليه الصلاة والسلام: " إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي" ، وفي رواية " فلا يمس من شعره وبشرته شيئاً "، أخرجه مسلم من أربعة طرق.
من رحمة الله وفضله أنه جعل لأهل البلدان شيئاً يشاركون به حجاج بيت الله الحرام، فالمحرم يمسك عن أشياء فهو يمسك عن الشعر والأظفار، وينزع المخيط ويمسك عن الطيب، والنساء وعقد النكاح ونحو ذلك،، من الأمور المحظورة عليه كالصيد، وأما المسلمون في البلدان فلا يمتنعون عن الشعر والأظفار والبشرة، والأمور الأخرى من النساء والطيب، والمخيط، فهي حلال عليهم لا يمنعون منها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " إذا رأيتم هلال ذي الحجة "، فإذن هذا هو وقت الإمساك والامتناع عن الأخذ بمجرد رؤية هلاله، أو الإعلان رؤية الهلال والليلة تبدأ قبل اليوم، فإذا غربت شمس آخر يوم من ذي القعدة دخل ذو الحجة، ويعرف ذلك برؤية الهلال، هذه الرؤية التي علق الشرع عليها الحكم وهذا الأمر الوارد في الحديث، فليمسك عن شعره وأظفاره، الراجح فيه أنه للوجوب وأن الناهي في قوله فلا يمس من شعره وبشرته للمنع والتحريم لأنهما في الحقيقة أمر مطلق ونهي مجرد لا صارف لهما، ولكن من تعمد فعل شيء من ذلك فعليه أن يتوب إلى الله وأن يستغفره، ولا فدية عليه ويذبح أضحيته، وبعض الخاسرين المغبونين المساكين ربما ترك عبادة عظيمة بما فيها من الفضل والأجر العظيم، لأجل أنه لا يصبر عن شعره وهذا من الغبن الكبير، ومن أحتاج إلى أخذ شيء لتضرره ببقائه كانكسار ظفره، أو أخذ شيء من الشعر، لعلاج أو دواء أو عملية ونحوها،، فإنه لا حرج عليه وكذا لا حرج في الاغتسال والإمتشاط، وهذا الحكم لا يلزم إلا صاحب الأضحية الذي يدفع ثمنها، فأما أهله وأولاده وزوجته، وكذلك الوكيل الذي أخذ المال لينفذ الوكالة والجزار الذي يذبح فإنه لا يلزمهم لا يلزم إلا من له أضحية، فصاحب المال هو الذي يلزمه هذا الحكم.
عباد الله، ومن دخلت عليه العشر وقد أخذ من شعره شيئاً ثم أراد أن يضحي أثناء العشر فإنه يمسك من حين ينوي ويريد، فإذا أراد أمسك وبعض الناس يوكلون غيرهم جهلاً منهم بزعمهم أن هذا التوكيل يخرجه من الحكم، والحقيقة أن التوكيل لا يخرجه لأن الحكم متعلق بصاحب الأضحية، وهو صاحب الأضحية.
يا عبد الله، إذا عزمت على الحج ولك أضحية في البلد فأحرص على أن تأخذ من شعرك وأظفارك قبل دخول العشر، لأنك حاج، وصاحب أضحية، وفي هذه الحال لا تأخذ من شعرك إلا في التحلل للعمرة عمرة التمتع، وأما إذا لم يكن لك أضحية وعندك الهدي، فإنك تأخذ من شعرك وأظفارك إلا أن تحرم ولا يلزمك ما يلزم المضحون في البلد، فالحاج إذن قد يكون له أضحية وهدي فيترك مالاً في بلده لأهله، أو يرسله إلى بلد آخر ليضحى عنه في ذلك البلد، فيلزمه ما يلزم المضحي، فماذا يأخذ من الشعر؟ الجواب: فقط عند التحلل من عمرة التمتع إلى أن تذبح أضحيته.
الحاج الثاني: لم يرد الأضحية وإنما اكتفى بالهدي، وقال: هذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فإنه عندما حج أهدى فهذا لا يلزمه ما يلزم المضحي، وإنما يأخذ من شعره وأظفاره عند إرادة الإحرام، قبل أن ينوي ثم بعد ذلك يمسك إذا نوى وأحرم.
والحاج الثالث: لا أضحية له ولا هدي كمن حج مفرداً وليس له أضحية فهذا كذلك يمسك عند إحرامه.(/3)
عباد الله، إن معرفة الأحكام الشرعية مهمة للمسلم، وهو يريد القيام بهذه العبادات العظيمة، وينبغي على من أراد حج بيت الله أن يراجع نفسه، ويتزود بالتقوى وتكون النفقة من المال الحلال، ويوطن نفسه عن الابتعاد عن الفسق والإثم، وأن يأتي بالمناسك كما أمر الله، وأن لا يرائي وإنما يخلص لرب العالمين، " ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه "، ولنا وقفات بمشيئة الله مزيد وقفات في الأضحية والحج في جمعتنا القادمة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل عملنا، وأن يضاعف أجرنا، وأن يكفر عنا سيئاتنا، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في العروة الوثقى مستمسكين، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا أجمعين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو البر الرءوف الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم صل وسلم وبارك على محمد نبيك، وعبدك، ومصطفاك من خلقك، وأمينك على وحيك، صاحب لواء الحمد، والمقام المحمود، والشافع المشفع يوم الدين.
عباد الله، نحن في أشهر عظيمة ذو العقدة منها أيضاً، { إن عدة الشهور عند الله أثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتل المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وأعلموا أن الله مع المتقين }، الأشهر الحرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وقد قال تعالى: { فلا تظلموا فيهن أنفسكم }، فما هو ظلم النفس في هذه الأشهر؟ أن تمر دون ازدياد من الحسنات وترك للسيئات، فإذا فرط في التزود من الحسنات ووقع في السيئات فقط ظلم نفسه، فقوله: { لا تظلموا فيهن أنفسكم }، لا تبخسوها حقها. وكيف يبخس الإنسان نفسه وحق نفسه في هذه الأشهر الحرم؟ تفوت الحسنات ويقع في السيئات فيكون قد ظلم نفسه وبخسها حقها.
عباد الله، وإن هذه الأعمال الصالحة ولا شك توافق هذه الأشهر الحرم فيزداد الأجر ويعظم عند الله، لأنه يعظم في المكان الفاضل والزمان الفاضل، ومما ساءنا ما وقع في هذه الأشهر الحرم من إراقة دماء المسلمين، وكان هذا الدم الذي يسيل من دماء المسلمين هذا ولا شك جرم محرم، وقد قال عزوجل: { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاءه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدا له عذاباً عظيماً }، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق "، فمن تعرض لرجل مسلم، وسفك دمه، بغير جرم أغترفه فإنه يكون قد ولغ في هذه الجريمة العظيمة، وإذا كان مجرد الإشارة إلى المسلم بحديدة يسبب لعن الملائكة لمن فعل ذلك، فكيف إذا أراق دمه؟، قال عليه الصلاة والسلام: " من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه وإن كان أخاه لأبيه وأمه ". رواه مسلم. ورجال الأمن وغيرهم من المسلمين في المجتمع من عامة المسلمين الأصل في دمائهم الحرمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا "، وقال عليه الصلاة والسلام: " ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وأول دم أضعه من دماءنا دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وأول ما يقضى يوم القيامة بين الناس في الدماء "، كما أخبر عليه الصلاة والسلام وقال لنا: " لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دم حراماً "، ومعنى فسحة يعني سعة من دينه إشعار بالوعيد لمن قتل مؤمناً متعمداً، وقوله: " ما لم يصب "، وفي رواية: " ما لم يتندى بدم حرام "، والإصابة المخالطة، { ولا تقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق }، " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم "، يقول عبد الله بن عمر: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: " ما أطيبك، وأطيب ريحك، ما أعظمك، وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيرا "، رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح لغيره. وقال ابن عمر: ( إن من ورطات الأمور (( والورطة التي إذا وقع الإنسان فيها لم يخرج منها ))، إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله ) فإلى متى سيبقى الدم المسلم المحرم يسفك، وإلى متى سنبقى نشهد هذه الأعمال التي فيها إراقة الدماء في بلدنا يا عباد الله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعصم دماء المسلمين، نسأل الله عزوجل أن يثبت الأمن في بلادنا وبلاد المسلمين، نسأل الله تعالى أن يبعد الفتن عنا وعن المسلمين.(/4)
عباد الله، فتن عظيمة والله، وسفك دم إمرء مسلم واحد بهذا القدر، وبهذه الشدة التي جاءت بها النصوص الشرعية، ثم إن الإخلال بالأمن لا مصلحة للمسلمين فيه، بل هو المضرة العظيمة، بل هو الضرر الكبير، وإذا كان من هؤلاء المسلمين من يحمي الحمى ويحرص المسلمين فيكون الاعتداء عليه وهو يحرس المسلمين جرماً مضاعفاً، فلا يجوز الاعتداء على رجال الأمن الذين يحرصون المسلمين، ويؤمنون الطرق، ويحمون الأموال والدماء، والمراكب والنفوس، فنسأل الله الرحمة والمغفرة لكل مسلم مات على التوحيد، ونسأله عزوجل أن يخلف لأهليهم بخير وأولادهم.
عباد الله، إن من الأمور المشاهدة في الأيام المنصرمة، الإقبال الشديد، والتدافع العجيب، والتكالب الغريب، وكذلك ما حدث من بعض الفوضى والتشاجر عند أبواب المصارف، إقبالا على الاكتتابات في أسهم بعض الشركات.
{ إن الإنسان خلق هلوعاً }، الطمع فيه، الشح في نفسه، الحرص على الدنيا الولع بها، { زين للناس حب }، الشهوات حب الشهوات زين في قلوبهم، من الناس والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، سبع من أنواع متاع الدنيا أشارت إليه الآية، النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسومة المعلمة المزينة، والأنعام من الإبل والبقر والغنم، والحرث الزراعة، هذا الذهب والفضة وهذه الأسهم التي تقوم بالذهب والفضة زينت في قلوب الناس، فتزاحم شديد وطمع في الحصول على تلك الأسهم، واقتتال على الدور، وظنن أن المبكر يحصل على أكثر مما يحصل عليه غيره، إغلاق منافذ، وطوابير طويلة، وحالات من الإرباك والفوضى، وتدخل الشرطة لفض الاشتباك، وتستعين البنوك برجال الأمن لتنظيم الناس بعد أن فقدوا القدرة على تنظيمهم، انتهاء أرقام، وتوقف أجهزة وهكذا،، وهكذا مما يحصل حتى في فروع المصارف النسائية من الملاسنات، والمشاتمات، والملاعنات، والمشاجرات، والهرج والمرج، والتدافع وكسر الباب، والصراخ والعويل، وهذا يريد واسطة، وهذا يريد التقدم على غيره، { أعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً }، { قل أؤنبئكم من خير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد }.
عباد الله، إنه هلع عجيب، وقبل ذلك أيضاً أناس قد سافروا وارتكبوا العناء والمركب الصعب، وباتوا في الحدائق والمساجد، وعلى الشواطئ، كل يسعى لنيل سهم الاكتتاب، إنه سيتضاعف وتحصل على كذا وكذا، وإشاعات وشائعات، وهذا يأخذ أسم زوجته فيكتتب به فإذا ذهبت لتكتتب قيل: لها إن رقمك مأخوذ وهكذا،، وهكذا مما حصل من الأشياء العجيبة الدالة على هلع الناس على الدنيا وتقاتلهم عليها، أشياء غير عادية مما يدل على شدة التعلق بالدنيا، وأحياناً تكون النتيجة أغلى مما يدفع، وأحياناً تكون أقل مما دفع، وبضعهم يقترض بالربا ليكتتب ثم يخسر، أو لا يفي المال الذي يعود عليه بتسديد الربا الذي تراكم عليه.
عباد الله، تحتاج النفوس إلى التربية، تحتاج النفوس إلى محاربة هذا التعلق بالدنيا، الزهد: ترك الرغبة في ما لا ينفع في الدنيا ولا في الآخرة.
عباد الله، لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بنظرين:
الأول: النظر في الدنيا وسرعة زوالها، وفنائها ونقصها وخستها.
والنظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها وبقائها ودوامها.
قيل لأحد السلف: ما سر زهدك في الدنيا؟ قال: ( أربع، علمت أن رزقي لا يأخذه أحد غيري فأطمأن قلبي، وعلمت أن عملي لا يقوم به أحد سواي فاشتغلت به، وعلمت أن الموت لا شك قادم فاستعددت له، وعلمت أني لا محالة مسؤول واقف بين يدي ربي فجعلت أعد للسؤال جوابه).
وليس معنى الزهد يا عباد الله أن يجحد المرء خيراً ساقه الله إليه، ولا أن يترك فرصة مباحة قدرها الله له، أو ساقها الله إليه، وكان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما ولهما من المال والملك والنساء مالهما، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم من أزهد البشر وله تسع نسوة، وكان علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان، من الزهاد ولهم أموال، والمذموم هو صرف الهمم والجهود في الدنيا والإعراض عن الآخرة، المذموم أن يقاتل لأجل الدنيا، أن يغضب لأجل الدنيا، ويرضى لأجل الدنيا، أن يرتكب الحرام لأجل الدنيا.(/5)
عباد الله، هذا الذي يحدث الآن في عالم المساهمات شيء عجيب والله، وجدير بالتفكير وأن يسأل المرء نفسه على ماذا كل هذا؟، وهل فعلاً ما يبذل يساوي النتيجة؟، يندفعون اندفاعات عجيبة، ومعلوم أن هنالك تخصيص، وأنه لن يأتي الإنسان كل الأسهم التي يطلبها، ومع ذلك بعضهم يقول: لعلي أكون أظفر بأكثر؟، ولعل المبكر يأخذ أكثر؟، ولعل المكتتب في المكان يأخذ أكثر من المكتتب عن طريق الإنترنت والهاتف؟، وهكذا،، ويضيع الناس في الأسهم. يا عبد الله لا تحزن إذا خسرت، ولا تتحسر إذا فاتك ربح، ولا تفرح وتغتر إذا ربحت، ولا تشغل وقتك كله بالأسهم، وتحرى المال الحلال، وأحذر من الانسياق وراء الشائعات، وهنالك في عالم الأسهم مرجفون ومطبلون ومن يتعمد نشر إشاعات لأجل رفع أسهم، وجيوش من المتآمرين، فإن عالم الأسهم اليوم من أوسخ العوالم ليس فيه من الصدق والأمانة والوضوح إلا القليل، تكالب الناس عليه لارتفاع المؤشرات، ولا يزالون يقولون: سترتفع وترتفع، فلا تبدأ رحلتك يا عبد الله بقرض محرم، ولا تضارب بأموال الآخرين وأنت تحمل في رقبتك هذا الحمل العظيم ولا تحسنه، فبعض الناس يجازف ويغامر بأموال غيره، ولا تطمع فلن يأتيك إلا ما كتبه الله لك، وإذا رزقك الله يوماً رزقاً مكسب ممتاز غير متوقع فإن الطمع قد يذهبه في لحظة، وإذا أشترى إنسان شيئاً فإنه يستشير أهل الخبرة وبذل الرأي صدقة، وتظهر في هذه الأسهم أخلاق الناس، فيظهر يأس هذا وإحباطه، وتظهر عجلة هذا وعدم تأنيه، ويظهر تهور هذا وطيشه، وفي المقابل تظهر أناة هذا وصبره، وفي المقابل يظهر كيف تتغير القناعات بسرعة؟، وهذا بادي الرأي يخوض ويغامر بلا تروي، وكذلك يظهر من أنواع المنكرات ما يجعل الإنسان يراجع نفسه في الدخول في بعض هذه الأشياء، فيقولون: ليس بالضرورة إذا أجريت عملية على الشاشة أن يكون السعر الذي ظهر أمامك هو السعر الذي ستتم به العملية، عجباً!! كيف هذا؟، أمره بالجهاز قد ينفذ بسعر أقل مما رآه على الشاشة، وتوقفات، وإنقطاعات تؤدي إلى أن تتم العملية بسعر غير السعر الذي يراه أمامه، فالسؤال الآن ما حكم إجراء عملية على سعر فإذا بها تتم بسعر آخر؟، ولذلك فإن هذا العالم عالم الأسهم اليوم مليء بالمحرمات، ومليء بالمشتبهات، ومليء بأنواع البيوع التي لا تجوز، ومليء بأشياء بغير الرضى تتم، وأشياء يقصر عليها بعضهم قصراً، وأخذ بعض المصارف ما ليس بحق لها، ودخول الناس في عمليات، عمليات ظلمات بعضها فوق بعض،، ولذلك فإن على المسلم أن يدرس الأمر قبل الدخول فيه ليتبين، فإن هذه القضية كسب عليه مدار نجاة جسده يوم القيامة، " كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به "، فإذا وجد شيئاً نظيفاً طيب يدخل فيه على بينة بشروط البيع الشرعي وإلا فلا يورط نفسه.
اللهم أجعل مكسبنا حلال، ومطعمنا حلال، ومشربنا حلال، وفقنا لما يرضيك، وباعد بيننا وبين ما يغضبك، أجعلنا ممن أردت بهم خيراً، ووفقنا لليسرى، وجنبنا العسرى، أحيينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(/6)
الحث على اغتنام العمر في خصال الخير
135
اغتنام الأوقات
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
ملخص الخطبة
1- الدعوة إلى اغتنام الأوقات 2- الدعوة إلى المسابقة بالخيرات 3- ذكر بعض صفات الخير التي تُخل الجنة
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس! اتقوا الله واجتهدوا فيما يحبه ويرضاه، وتوبوا إلى ربكم قبل أن ينظر المرء ما قدمت يداه؛ فإن الله تعالى قد أقام عليكم الحجة فيما شرع لكم من الهدى، وأسبغ عليكم النعمى، وأمهلكم إلى أجل مسمى، وكل إلى نفاد وشيك وزوال قريب، ولن يزيد في العمر المحدود طول الأمل الممدود، فأكثروا من صالح العمل قبل نفاذ الأجل، وتأهبوا للنقلة فإن الرحيل قريب، وتزودوا للمسير فإن السفر بعيد، والمعاد مضمار العباد، فيغتبط بما احتقب غانم، ويبئس على ما فاته نادم، فبادروا بالخير – رحمني الله وإياكم – ما دمتم في مهل الأنفاس وجدة الأحلاس قبل أن يؤخذ بالكضم ولا يغني الندم، فلن يهمل من الأعمال صغير ولا كبير، ولن يظلم أحد ذرة فضلاً عن النقير والقطمير.
أيها المسلمون: جاء في سنن الترمذي وغيره أن النبي قال: ((بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسيا ، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر))؟. والمعنى: اغتنموا الفرص في عمل الصالحات وترك المنهيات، والتوبة إلى الله من الخطيئات قبل أن تفاجأوا بواحدة أو أكثر من هذه الفواقر الكبار.
وأخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي وعظ رجلا فقال: ((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)).
وفي التنزيل يقول الرب الجليل: وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون [سورة المنافقون:10-11].
عباد الله: افعلوا الخير واستبقوا الخيرات، وسارعوا إلى المغفرة والجنات، بادروا في ذلكم الأعمار، واشغلوا به لحظات الليل والنهار؛ فإن من سارع إلى الخيرات سبق، ومن أخذ بمنهاج السلف الصالح لحق، وذلكم يقين بخبر رب العالمين إذ يقول في الذكر المبين: أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [سورة المؤمنون:61]. ويقول: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك هو الفوز العظيم [سورة التوبة:100]. ويقول سبحانه: والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين [سورة الطور:21]. فتحروا الخير تهدوا إليه، ولازموه حتى تلقوا ربكم عليه، فقد ثبت في الصحيح: ((يبعث كل امرئ على ما مات عليه)).
معشر المسلمين: ومن نعم الله على العباد أن الخير مُنَوَّعٌ وميسر ومبارك وثوابه مكثر، وهو معالم تهدي من فطن لها، فاهتدى بها، إلى مثلها، وخزائن بعضها مفاتيح بعض، وأيم الله إنها أعظم وأجل وأنفع وأبقى من خزائن الأرض، فافرحوا بما شرع الله لكم من أبوابه، واستبشروا بجزيل إنعامه وكريم ثوابه: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [يونس:58].
معشر المسلمين: ثبت في الصحيحين أن النبي قال: ((الإيمان بضع وسبعون)) وفي رواية: ((بضع وستون شعبة)). ((فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق؛ والحياء شعبة من الإيمان))، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله)) قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: ((أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً)) قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعاً أو تصنع لأخرق)) قلت: يا رسول الله! أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: ((تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك)) متفق عليه.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إنه خلق كل إنسان على ستين وثلاثمائة مفصل؛ فمن كبر الله وحده، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجراً عن طريق الناس أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر عدد الستين والثلاثمائة فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار)).
وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح)) متفق عليه.
وفي الصحيحين عنه أيضا في قصة الرجل الذي وجد كلباً يلهث يأكل الثرى من العطش فنزل بئرا فسقاه، وفيها: ((فشكر الله له فغفر له))، وفي البخاري: (( فأدخله الجنة)).(/1)
وفي الصحيحين عن النبي قال: ((بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخَّره فشكر الله له فغفر له)). وفي رواية لمسلم: ((فأدخل الجنة)).
وقال : ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)) رواه مسلم.
وفي البخاري عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله : ((أربعون خصلة – يعني نوعا من البر – أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة)).
معشر المسلمين: تلكم خصال من الخير ومثلها في الكتاب والسنة كثير جعلها الله أسباباً لمحو الخطيئات وكثرة الحسنات ورفعة الدرجات، والنجاة من النار، وأبوابا تدخل منها الجنة من الأبرار، فتنافسوا فيها تكونوا من أهلها، ولازموها تعرفوا بها، واهدوا غيركم إليها يكن لكم مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجره شيئاً، ففي الصحيح عن النبي قال: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)). ومما تفضل الله به على معتادي الخير تفضيلاً وتكريماً أن العبد إذا مرض أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير [سورة الحج :77-78].
منحنا الله وإياكم هداه، ووفقنا لما يحبه ويرضاه، وجعلنا من الفائزين بمغفرته وجناته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
لم ترد.(/2)
الحث على الاستخارة الشرعية والنهي عن غيرها
عبد العظيم بدوي الخلفي
ملخص المادة العلمية
تعريف الاستخارة وبيان الاستقسام بالأزلام وحكمه.صور من صور الاستقسام بالأزلام في هذا العصر.أهمية الاستخارة الشرعية وكيفيتها.شرح دعاء الاستخارة.آثار الاستخارة.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: ((إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إنس أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر – وهو كذا، ويسمي حاجته – خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله - فأقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر – وهو كذا، ويسمي حاجته – شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال :في عاجل أمري وآجله – فأصرفه عني وأصرفني عنه، وأقدر لي الخير حيث كان، ثم رضّني به)).
الاستخارة: طلب بيان خير الأمرين من الفعل أو الترك.
وكانوا في الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو زواجا أو بيعا، أو غير ذلك مما لا يعرف وجه الخير فيه، أتى أحد سدنة البيت وطلب منه أن يخرج له الأزلام، وهي قداح ثلاث: مكتوب على أحدهما افعل، وعلى الثاني لا تفعل، والثلاث غفل ليس عليه شيء. فيدير هذه الأزلام ويحركها، ثم يأخذ واحدا منها، فإن خرج المكتوب عليه افعل استبشر خيرا ومضى، وإن خرج لا تفعل استبشر شرا وقعد، وإن خرج الغفل الذي لا كتابة عليه أعاد الاستقسام.
وقد ثبت في الصحيح أن سراقة بن مالك لما خرج في طلب النبي وأبي بكر وهما مهاجران إلى المدينة قال: فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره لا تضرهم، قال: فعصيت الأزلام واتبعتهم، ثم استقسم بها ثانية وثالثة، كل ذلك يخرج الذي يكره: لا تضرهم، وكان سراقة لم يسلم بعد.
وثبت في الصحيح أن النبي لما دخل الكعبة وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها وفي أيديهما الأزلام، فقال : ((قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا)).
فلما جاء الإسلام حرم الاستقسام بالأزلام، وعده فسقا، قال تعالى: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق [المائدة:3].
وقال النبي : ((لن يلج الدرجات العلى من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر تطيرا)).
وإنما حرم الإسلام الاستقسام بالأزلام لأنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل سيء الرأي، يفعل ما يفعل من غير بينة ولا بصيرة، ويترك ما يترك من غير بينة ولا بصيرة، ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة والسدنة، ويتفاءل ويتشاؤم بما لا فأل فيه ولا شؤم، فلا غرو أن يبطل ذلك دين العقل والبصيرة والبرهان، كما أبطل التطير والكهانة والعيافة والعرافة وسائر خرافات الجاهلية.
إلا أنه مع الأسف ما زال في المسلمين من يستقسم بالأزلام أو بما في معناها، ويسمونها بغير اسمها، كمن يستقسم بالسبحة ويسمى هذا الاستقسام استخارة، وذلك بأن يعدوا حبات السبحة واحدة واحدة وهم يقولون: افعل لا تفعل، افعل لا تفعل، حتى تنتهي السبحة، فيكون الحكم الفصل للحبة الأخيرة، فإن كانت آخر حبة مع قوله: افعل، فعل، وإن كانت مع قوله: لا تفعل، لم يفعل.
ومنه من يأخذ الفأل من القرآن الكريم، وطريقتهم في ذلك: أن يأتي أحدهم بالمصحف مغلقا، ثم يقرأ: قل هو الله أحد سبع مرات، ثم يقول ثلاث مرات: اللهم بكتابك تفاءلت، وعليك توكلت، اللهم أرني في كتابك ما هو الكتوم من سرك المكنون في غيبك. ثم يفتح المصحف ويتفاءل بأول الصفحة.
ومنهم من يأخذ الفأل من ورق الكوتشينة، ومنهم من يأخذه من زهر الطاولة إلى آخر ذلك من عادات الجاهلية التي حرمها الإسلام واستحلها المسلمون، وسموها بغير اسمها.
ولما كان الإنسان يتعرض ولابد لأمور يخفى عليه الخير والشر فيها، فيتردد ويحتار فإن الإسلام وقد حرم الاستقسام بالأزلام أرشد المسلم إلى الفرار إلى الله بالدعاء والسؤال، ليزيل الحيرة، وييسر له الخيرة، ويشرح صدره لها.
وكان النبي يهتم بتعليم المسلمين الاستخارة كما يهتم بتعليمهم السورة من القرآن، مما يدل على شدة الاعتناء بهذا الدعاء.
كما كان يرشدهم إلى الاستخارة في الأمور كلها، دقّها وجلّها، وفي هذا دليل على أنه لا يجوز للمرء أن يحتقر أمرا أو يستصغره، فيترك الاستخارة فيه، فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم، أو يكون في تركه خير كثير.(/1)
كان يقول: ((إذا هم أحدكم بالأمر)) والهم أول وارد يخطر على القلب، وإنما أرشد النبي إلى الاستخارة عند الهم ليكون القلب مجردا من الهوى، مسلما حقيقة أمره لله، يوجهه لما يعلمه له من الخير. بخلاف الاستخارة بعد العزم، فربما فعل بعد الاستخارة ما استقر في قلبه وركن إليه، وهو يظن أنه يفعل نتيجة الاستخارة.
وقوله : ((فليركع ركعتين من غير الفريضة)) فيه دليل على أن للاستخارة صلاة مستقلة عن الفريضة ورواتبها.
وقوله : ((ثم ليقل)) أي بعد الانصراف من الصلاة، أو بعد التشهد وقبل السلام، وهو أولى، لأن النبي إنما كان يدعو في الصلاة قبل السلام، وما كان يدعو بعد الانصراف من الصلاة. وكيف يترك سؤال الله ودعاءه وهو بين يديه يناجيه، حتى إذا انصرف من بين يديه أقبل يسأله ويدعوه!!
فالأولى أن يكون دعاء الاستخارة بعد التشهد وقبل السلام.
والحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، وذلك يحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح من الصلاة، لما فيها من تعظيم الله والثناء عليه والافتقار إليه حالا ومآلا.
وقوله: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك)) أي أطلب منك بيان خير الأمرين من الفعل والترك بسبب علمك، فإنك تعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب.
والمعنى: أطلب منك أن تشرح صدري لخير الأمرين، بسبب علمك بكيفيات الأمور وجزئياتها وكلياتها، إذ لا يحيط بخير الأمرين على الحقيقة إلا من هو كذلك، كما قال تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:216].
وقوله: ((وأستقدرك بقدرتك)) أي: أطلب منك أن تجعل لي القدرة عليه، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك.
وقوله: ((وأسألك من فضلك العظيم)) فيه دليل على احتياج الخلق كلهم إلى الله عز وجل وافتقارهم جميعا إلى فضله وإحسانه، مهما عظموا، وأن كل عطاء الرب عز وجل فضل، وأنه ليس لأحد عليه حق في جلب نعمة، ولا في رفع نقمة، فإن أعطى فمن فضله، وإن منع فمن عدله.
وقوله: ((فإنك تقدر ولا أقدر)) معناه: فإنك يا رب تقدر بالقدرة الكاملة على كل شيء ممكن تعلقت به إرادتك، ولا أقدر أنا على شيء إلا بقدرتك وحولك وقوتك.
وقوله: ((وتعلم ولا أعلم)) معناه: إنك يا رب تعلم بالعلم المحيط بجميع الأشياء، خيرها وشرها، ولا أعلم أنا شيئا منه إلا بإعلامك وإلهامك.
وفي ذلك إشارة إلى أن العلم والقدرة لله وحده، وأنه ليس للعبد من ذلك إلا ما قدره الله له.
((اللهم إن كنتم تعلم أن هذا الأمر وهو كذا، ويسمى حاجته)) بعينها، من سفر أو نكاح، أو طلاق، أو بيع، أو شراء، أو نحو ذلك. ((خير لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري وعاجله)) لأن الأمر قد يكون خيرا في الدنيا دون الدين، أو في العاجل دون الآجل، فسأل ربه أن يجمع له خيري الدين والدنيا، والعاجل والآجل. ((فاقدره لي)) أي اجعله مقدورا لي، ((ويسره لي، ثم بارك لي فيه)) أي أكثر الخير والبركة فيما أقدرتني عليه ويسرته لي.
((وإن كنت تعلم أن هذا الأمر وهو كذا، ويسمى حاجته))، بعينها ((شر لي في ديني ودنياي، وعاقبة أمري وعاجله، فاصرفه عني واصرفني عنه)) فلم يكتف بسؤال صرف أحد الأمرين، وإنما طلب الأكمل من وجوه انصراف ما ليس فيه خير عنه. لأنه قدر يصرف الله المستخير عن ذلك الأمر بأن ينقطع طلبه له، وذلك الأمر يطلبه، فربما أدركه، وقد يصرف الله عن المستخير ذلك الأمر، ولا يصرف قلب العبد عنه، فيبقى القلب متشوفا إلى حصوله، متطلعا إليه، متعلقا به، فلا يهدأ له بال، ولا يطمئن له خاطر، فإذا صرف كلا منهما عن الآخر كان ذلك أهدأ للبال والخاطر. ثم سأل ربه ((واقدر لي الخير حيث كان)) بعد أن تصرف عني مالا خير فيه، وتصرفني عنه، ((ثم رضني)) بما قدّرت لي وقسمت.
وهذا الحديث دليل على كمال شفقة النبي ورحمته بأمته، وحرصه على تعليمهم جميع ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
وفيه دليل على أنه يجب على العبد أن يرد الأمور كلها إلى الله، وأن يبرأ من حول نفسه وقوتها، وأن يستعين بحول الله وقوته، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وما أحسن أن يترك العبد الاختيار لنفسه وتدبير أمرها، إلى من له الاختيار والتدبير.
وما أجمل أن يستشعر العبد أن تدبير الله له خير من تدبيره لنفسه، وأن اختيار الله له أحسن من اختياره لنفسه.
وما أجمل أن يستشعر العبد أن ربه أنصح له من نفسه، وأرحم به من نفسه، وأبر به من نفسه، فيطرح نفسه بين يدي ربه انطراح عبد مملوك ضعيف، بين يدي ملك عزيز قاهر، له التصرف في عبده بكل ما يشاء، وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه.
فهنالك يطيب عيشه، وينعم قلبه، ويعظم سروره وفرحه، ويذهب همّه وغمّه.
فيا إخوة الإسلام: إن في الاستخارة في الأمور كلها خيرا عظيما، فلا تتركوا الاستخارة في أموركم كلها، ولا يقدمن أحدكم على فعل حتى يستخير ربه، ولا يتركن أمرا حتى يستخير ربه.(/2)
ولكن ما هي آثار الاستخارة؟ وهل لها تعلّق بالرؤى والأحلام؟
الجواب: أنه لم يرد في السنة شيء من ذلك، ، فعلى العبد إذا استخار ربه أن ينظر في صدره، فإن وجد انشراحا في صدره لهذا الأمر فليتوكل على الله، وإن وجد ضيقا وانقباضا، أو لم يجد طلبا في صدره لهذا الأمر، فليتركه.
وإن لم يجد انشراحا ولا انقباضا، فليأخذ في الأسباب فإن يكن في الأمر خير فستيسر أموره، وتذلل له الصعاب دونه، وإن تعسرت الأمور، وأغلقت الأبواب، فليس في ذلك الأمر خير.
اللهم رضنا بما قسمت لنا حتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت لن(/3)
الحث على ذكر الله
160
الدعاء والذكر
محمد بن علي السعوي
بريدة
جامع الراشد
ملخص الخطبة
1- ذكر الله من أفضل الطاعات 2- النصوص الشرعية تحثّ على ذكر الله 3- ذكر بعض الأذكار الشرعية 4- إنما شُرعت العبادات لإقامة ذكر الله 5- أثر الذكر في خشوع القلب
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
معشر المسلمين: موضوع حديثي في هذا الموقف المبارك عن ذكر الله تعالى وأثره، وأثر الإعراض عنه.
أيها المسلمون: إن ذكر الله عز وجل من أعظم القربات وأفضل الطاعات وسبب لرفع الدرجات قال الله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:239].
وقال عز وجل: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، ذكر الله هو أفضل ما يشغل به الإنسان نفسه في الجملة قال النبي : ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى))، رواه مالك والترمذي وغيرهما.
ولقد كان النبي يذكر الله على كل أحيانه.
ووصف الله المؤمنين بأنهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد هو المداومة على الذكر في غالب الأحوال، لأن الإنسان قل أن يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث وهي القيام والقعود وكونه نائماً على جنبه.
أيها المسلمون: إن ذكر الله تعالى هو الحصن الحصين من شياطين الإنس والجن، والجُنّة الواقية من عذاب الله تعالى.
قال النبي : ((وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم)) رواه الإمام أحمد. وقال النبي : ((ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله ممن ذكر الله)) رواه الترمذي وغيره.
أيها المسلمون: ولقد أمر الله تعالى بالإكثار من ذكره قال سبحانه: يا أيها الذين ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]. وذكر سبحانه أن من صفات الذين يتأسون برسول الله أنهم يذكرون الله كثيراً بعد الإيمان الصادق بالله واليوم الآخر.
قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
أيها المسلمون: إن كثرة ذكر الله تعالى أمان من النفاق فإن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قال كعب رحمه الله: من أكثر ذكر الله عز وجل برئ من النفاق.
أتى رجل أبا مسلم الخولاني رحمه الله فقال له: أوصني يا أبا مسلم، قال: اذكر الله تعالى تحت كل شجرة ومدرة، فقال: زدني، فقال: اذكر الله حتى يحسبك الناس من ذكر الله مجنوناً.
قال: وكان أبو مسلم يكثر ذكر الله فرآه رجل وهو يذكر الله تعالى، فقال: أمجنون صاحبكم هذا، فسمعه أبو مسلم فقال: ليس هذا بالمجنون يا ابن أخي، ولكن هذا دواء الجنون([1]).
أيها المسلمون: إن الله تعالى وعد الذاكرين الله كثيراً والذاكرات وغيرهم مغفرةً وأجراً عظيماً، والمراد بذكر الله كثيراً: هو كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: يذكر الله في أدبار الصلوات وغدواً وعشياً وفي المضاجع وكلما استيقظ من نومه وكلما غدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى([2]).
معشر المسلمين: ذكر الله تعالى يكون باللسان ويكون بالأعمال الصالحة فيكون الذكر باللسان بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وقراءة القرآن، قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [آل عمران:41].
وقال النبي : ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) رواه البخاري.
وقال تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [السجدة:15].
وقال النبي : ((من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه)).
وقال: ((ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وقال عز وجل في شأن القرآن: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:-7069].(/1)
وكذلك يكون الذكر بالأعمال الصالحة قال تعالى في شأن صلاة الجمعة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9].
وقال النبي : ((إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)).
وكذلك يكون الذكر في سائر الطاعات، قال سعيد بن جبير رحمه الله: ((كل عامل بطاعة الله فهو ذاكر لله)).
أيها المسلمون: إن ذكر الله عز وجل له أثر عظيم فهو سبب لخشوع القلب ووجله وذهاب قسوته، قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
كما أن الذكر سبب لطمأنينة القلب ورقته قال تعالى: الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]. وقال تبارك وتعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].
ومن أثر الذكر أن ينهى عن الفحشاء والمنكر، ويدعو الذاكرين إلى الاستغفار والتوبة.
قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
([1]) تذكرة النفس: (ص53).
([2]) الفتوحات الربانية (1/199).(/2)
الحج تعريفه- منزلته -شروطه – حكمه
الحمد لله الذي جعل حج بيته العتيق شرعة لأهل الإيمان، من لدن إبراهيم عليه السلام إلى محمد بن عبد الله خير بني الإنسان، واختص هذه الأمة المجيدة بوراثة البيت المجيد إلى قيام الساعة في آخر الزمان، وجعل الكعبة المشرفة قياماً للناس، يقيمون وجوههم إليها من كل مكان وتجتمع قلوبهم عليها في كل زمان، وتكون شعاراً لأمة واحدة، تعبد رباً واحداً على اختلاف الزمان والمكان، {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(92) سورة الأنبياء.
والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة، الذي بعث لإخراج خير أمة أخرجت للناس، جعلت الكعبة قبلتها، والحج والعمرة سياحتها، ولبيك اللهم لبيك نشيدها، والمسجد الحرام ملتقاها، يأتون إليه من كل فج عميق، حيث يذكرون الله بكل لسان، ويؤدون عبادة عظيمة بالأموال والأبدان والوجدان.
أما بعد:
فإن الحج من أفضل الطاعات عند رب العالمين، وأجل الأعمال الصالحة لمحو ذنوب المذنبين. فما هو الحج؟ وما منزلته في الدين، وما شروطه وأركانه؟
تعريف الحج:
قال في لسان العرب: الحج: القصد، حج إلينا فلان أي قدم(1).
والحج: قصد التوجه إلى البيت بالأعمال المشروعة فرضاً وسنة. وهو قصد الكعبة لأداء أفعال مخصوصة، أو هو زيارة مكان مخصوص في زمن مخصوص بفعل مخصوص والزيارة هي:الذهاب، والمكان المخصوص: الكعبة وعرفة. والزمن المخصوص: هو أشهر الحج، وهي: شوال وذو القعدة ، والعشر الأول من ذي الحجة. ولكل فعل زمن خاص، ، والفعل المخصوص: أن يأتي محرماً بنية الحج إلى أماكن معينة.
متى شرع الحج؟
فُرض الحج في أواخر سنة تسع من الهجرة، وآية فرضه قوله تعالى:{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}(97) سورة آل عمران. نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع وهو رأي أكثر العلماء.
منزلة الحج في الدين وفضائله:
الحج من أفضل الأعمال فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور)(2). رواه البخاري ومسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل من الجهاد حج مبرور)(3). رواه البخاري.
ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)(4). رواه البخاري ومسلم.
إن الحاج إن حج ولم يرفث ولم يفسق تطهَّر من ذنوبه وآثامه فيرجع كيوم ولدته أمه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)(5). رواه البخاري ومسلم.
فهنيئاً للحجاج مغفرة الذنوب، إنهم وفد الله عز وجل، فعن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:(الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)(6).وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)(7). رواه الترمذي.
حكم الحج:
اتفق العلماء على فرضية الحج مرة في العمر بدليل الكتاب والسنة. أما الكتاب فقول الله تعالى:{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}(97) سورة آل عمران. وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)(8).
والدليل على فرضية الحج مرة واحدة في العمر هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم)(9).
وقد يجب الحج أكثر من مرة لعارضٍ كنذر كأن يقول: لله علي حجة. وقد يحرم الحج كالحج بمال حرام، وقد يكره كالحج بلا إذن ممن يجب استئذانه. كأحد أبويه محتاج إلى خدمته، وكالدائن الغريم لمدين لا مال له يقضي به، وكالكفيل لصالح الدائن. إلا بالإذن.(/1)
وهنا مسألة يتكلم عنها الفقهاء كثيراً، وهي: هل وجوب الحج على الفور أم على التراخي؟ وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة فمنهم من قال بالوجوب على الفور، وهم أصحاب المذاهب الثلاثة الحنابلة والحنفية المالكية، واستدلوا بأدلة منها:- قوله تعالى: :{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}(97) سورة آل عمران. وحديث: (تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)(10).وحديث: (من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً)(11). رواه أحمد ورواية الترمذي: (من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً؛ وذلك لأن الله قال في كتابه: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً).(آل عمران:97)(12).
وروى سعيد بن منصور في سننه، والبيهقي عن عمر بن الخطاب أنه قال: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان جدة (أي سعة من المال). ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين)(13).
وقال الشافعية وأحمد والحنفية: بوجوب الحج على التراخي، قالوا: ويجوز أن يؤخره من سنة إلى سنة، لأن فريضة الحج نزلت على المشهور عندهم سنة ست، فأخر النبي صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر من غير عذر، و الرأي الأول قوي لدلالة الأحاديث السابقة وإن كان في بعضها ضعفٌ. ولسنا بصدد ذكر أدلة الفريقين والرد عليها. وإنما ذكرنا هذه المسألة بشيء من الاختصار؛ لأن المقال لا يسع ذلك.
حكم من أنكر فرضية الحج:
من أنكر فرضية الحج فهو كافر مرتد عن الإسلام إلا أن يكون جاهلاً وهو ممن يمكن جهله بهذا الحكم كحديث عهد بإسلام، وناشئ في بادية بعيده لا يعرف من أحكام الإسلام شيئاً، فهذا يُعذر بجهله ويُعرَّف، ويُبين له الحكم، فإن أصر على إنكاره حُكم بردته.
وأما من تركه متهاوناً مع اعترافه بفرضيته فهذا لا يكفر، ولكنه على خطر عظيم، وقد قال بعض أهل العلم بكفره
شروط الحج:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وأما شروط وجوب الحج والعمرة فخمسة مجموعة في قول الناظم:
الحج والعمرة واجبان في العمر مرة بلا توان
بشرط إسلام كذا حرية عقل بلوغ قدرة جلية
فيشترط لوجوبه:
أولاً: الإسلام فغير المسلم لا يجب عليه الحج، بل ولا يصح منه لو حج، بل ولا يجوز له دخوله مكة لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}(28) سورة التوبة.
فلا يحل لمن كان كافراً بأي سبب كان كفره دخول مكة، ولكن يحاسب الكافر على ترك الحج وغيره من فروع الإسلام على القول الراجح من أقوال أهل العلم لقوله تعالى: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ*فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ* عَنِ الْمُجْرِمِينَ* مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}(39-45)سورة المدثر.
ثانياً: العقل، فالمجنون لا يجب عليه الحج، فلو كان الإنسان مجنوناً من قبل أن يبلغ حتى مات فإنه لا يجب عليه الحج ولو كان غنياً.
ثالثاً: البلوغ: فمن كان دون البلوغ فإنه لا يجب عليه، لكن لو حج فإن حجه صحيح، ولكن لا يُجزئه عن حجة الإسلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي رفعت إليه صبياً وقالت: (ألهذا حج؟ قال:(نعم ولك أجر)14. لكنه لا يُجزئه عن حجة الإسلام، لأنه لم يُوجَّه إليه الأمر بها. حتى يجزئه عنها، ولا يتوجه الأمر إليه إلا بعد البلوغ.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: وبهذه المناسبة أحب أن أقول: إنه في مثل المواسم التي يكثر فيها الزحام ويشق فيها الإحرام للصغار ومراعاة إتمام مناسكهم، الأولى ألا يحرموا بحج ولا عمرة؛ لأنه يكون فيه مشقة عليهم وعلى أولياء أمورهم، وربما شُغلوا عن إتمام مناسكهم، فيبقوا في حرج، وما دام الحج لم يجب عليهم، فإنهم في سعة من أمرهم.
رابعاً: الحرية: فالرقيق المملوك لا يجب عليه الحج، لأنه مملوك مشغول بسيده، فهو معذور بترك الحج لا يستطيع السبيلَ إليه.
خامساً: القدرة على الحج بالمال والبدن: فإن كان الإنسان قادراً بماله دون بدنه، فإنه يُنيب من يحج عنه(/2)
لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:كان الفضل رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه. قال:(نعم). وذلك في حجة الوداع.(15). ففي قولها: أدركته فريضة الله على عباده في الحج، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم إياها على ذلك دليل على أن من كان قادراً بماله دون بدنه، فإنه يجب عليه أن يُقيم من يحج عنه. أما مَن كان قادراً ببدنه دون ماله، ولا يستطيع الوصول إلى مكة ببدنه، فإن الحج لا يجب عليه.
وألحق بعض العلماء بهذا الشرط أمن الطريق، بحيث يكون الطريق آمناً لا خوف فيه فإن عُدم هذا الشرط لم يجب عليه الحج.
وهنا شروط زائدة خاصة بالنساء:
أحدهما: أن يكون معها زوجها أو محرم لها، فإن لم يُوجد أحدهما لا يجب عليها الحج.
الثاني: ألا تكون معتدة عن طلاق أو وفاة؛ لأن الله تعالى نهى المعتدات عن الخروج بقوله:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ}(1) سورة الطلاق. ولأن الحج يمكن أداؤه في وقت آخر.
________________________________________
1-لسان العرب(2/226).
2- أخرجه البخاري في كتاب الحج باب فضل الحج المبرور برقم (1447).
3- أخرجه البخاري في كتاب الحج باب فضل الحج المبرور برقم (1448).
4 -أخرجه البخاري في كتاب أبواب العمرة باب وجوب العمرة وفضلها برقم (1683).
5- أخرجه البخاري كتاب الحج باب فضل الحج المبرور برقم (1449).
6- أخرجه ابن ماجه في سننه كتاب المناسك باب فضل دعاء الحاج برقم (2893)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (2339).
7- أخرجه الترمذي في سننه كتاب الصوم باب ثواب الحج والعمرة برقم (810)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن صحيح (1133).
8 -متفق عليه.
9 -رواه مسلم، كتاب الحج باب فرض الحج مرة في العمر برقم (1337).
10- أخرجه أحمد في مسنده برقم (2869)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم(2957).
11- رواه البيهقي في الكبرى برقم (8443)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب برقم (754).
12- أخرجه الترمذي في سننه برقم (812)، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي برقم (132).
13- قال ابن حجر في التلخيص الحبير: وله طريق صحيحة إلا أنها موقوفة رواها سعيد بن منصور والبيهقي عن عمر بن الخطاب قال: (لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جدة ولم يحج فيضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين) لفظ سعيد، ولفظ البيهقي أن عمر قال: (ليمت يهودياً أو نصرانياً) يقولها ثلاث مرات.(2/223)
14 -رواه مسلم، كتاب الحج باب صحة حج الصبي وأجرمن حج به برقم (1336).
15 -رواه البخاري كتاب الحج باب وجوب الحج وفضله برقم (1442).(/3)
الحج سوق الدعوة الأعظم
معشر الأخوة والأخوات:
يا من نسعد بالحديث معهم ومنهم، ومن تتوق نفوسنا للأخذ عنهم... ها نحن نبدأ معكم زاوية، هي منكم وإليكم...نستفتح معكم باباً -واعتمادنا بعد الله عليكم- أن تثرى بمقترحاتكم، وأن تنعش بمشاركاتكم، فهي زاوية نفعها مأمول، وحبلها بحل الأجر _ إن شاء الله _ موصول، في زمان شكى فيه الأجر حين عز طالبه، وأنّت فيه الحسنات حين استرخصها عتيقها؛ فهدفنا من خلالها كسب الأجر لا غير.
وفكرتها أننا نختار حدثاً مهماً، في حياة الأمة الإسلامية لنتيح الفرصة لكل من لديه القدرة على تناول الحدث بتعليق أو تحليل أو تنبيه ، موضحاً أو مقعداً أومؤصلاً لذلك.
وفي هذه الحلقة نقف مع حدث عظيم في حياة كل مسلم حدث يتكرر كل سنة، ويتكرر منذ آلاف السنين...
إنه الحج الركن الخامس من أركان الإسلام التي بني عليها قال عليه الصلاة والسلام{ بُنيَ الإسلامُ على خمس.. وذكرمنها :.. وحج البيت }رواه البخاري ومسلم
موسم عظيم وعبادة جليلة جمعت أصول العبادات وأنواعها ؛ ففيه التعبد بالمال لنفقة الحج والصدقة، وفيه التعبد بالصلاة بالطواف والصلاة عند المقام، وفيه الصوم، وفيه التلبية وهي الاستجابة لله وتنزيهه عن الندّ والشريك، وهو القبلة الأولى للتوحيد والتوجه إلى الله في أرضه. فشأنه شأن خطير " لا يدركه إلا الحنفاء الذين ضربوا في المحبة بسهم وشأنه أجل من أن تحيط به العبارة وهو خاصة هذا الدين الحنيف حتى قيل في قوله تعالى :{ حنفاء لله غير مشركين } أي :حجاجا.وجعل الله بيته الحرام قياما للناس فهو عمود العالم الذي عليه بناؤه فلو ترك الناس كلهم الحج سنة لخرت السماء على الأرض هكذا قال ترجمان القرآن ابن عباس.فالبيت الحرام قيام العالم فلا يزال قياما ما زال هذا البيت محجوجا.
والحج هو خاصة الحنيفة ومعونة الصلاة وسر قول العبد لا إله إلا الله فإنه مؤسس على التوحيد المحض والمحبة الخالصة"1 ، فيه تتآلف القلوب، وتتحطم الفوارق وتذوب، يقف فيه الجميع بالمشاعر المقدسة ولباسهم واحدٍ وهدفهم واحد، وشعارهم واحد ؛ لبيك اللهم لبيك إجابة محب لدعوة حبيبه إلى بيته ولسان حاله ومقاله :
أطوف به والنفس بعد مشوقة إليه وهل بعد الطواف تداني
وألثم منه الركن أطلب برد ما بقلبي من شوق ومن هيمان
فوالله ما أزداد إلا صبابة ولا القلب إلا كثرة الخفقان
وهوكنز وموسم للدعاة في الدعوة إلى الله تعالى، كما كان صلى الله عليه وسلم يترقب المواسم وتجمعات الناس يعرض عليهم الإسلام، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يدع فرصة تمر به إلا ويسخرها في الدعوة إلى الله تعالى.
ونحن أحوج ما نكون إلى اقتفاء أثره صلى الله عليه وسلم، وأحوج ما نكون اليوم إلى استغلال هذا الموسم الاستغلال الأمثل.
فكيف تُستغل هذه الجموع من الحجيج؟
وكيف نستغل هذا الموسم في تعليم الناس الخير؟
كيف نوجه للعالم أجمع رسالة نشرح من خلالها ما لدينا من كنوز النبوّة؟
كيف نقدم الإسلام للناس غضّاً طريّاً , ونمسح عنه ما علق به من غلو الغالين وانتحال المبطلين؟
نأمل من جميع الأخوة والأخوات التعليق على هذا الحدث ( الحج ) وتقديم المقترحات للدعاة إلى الله وأئمة المساجد ليمثل ذلك برنامجاً عملياً للدعوة إلى الله خلال الموسم، سواء أكان هذا البرنامج لدعوة الحجيج في الموسم، أو لدعوة المتابعين له عبر القنوات ومواقع الأنترنت أو غير ذلك؟
فشاركنا بمقترحاتك، وأتحفنا بآرائك، نتشارك معاً في الأجر إن شاء الله...
هدانا الله وإياكم ويسر لنا ولكم طرق الهدى
1- بدائع الفوائد : 2 / 281
________________________________________
التعليقات
• شكر مقرون بطلب ودعاء : ابو ابراهيم
الشكر لـ ( القائمين على هذا الموقع المبارك) الطلب من( القائمين على مواصلة المسير ) الدعاء لـ( القائمين بالتوفيق والتسديد آمين)
• أكبر تجمع : السالم
لا شك أن حرص الدعاة الى الله على ابلاغ الدعوة الى حجاج بيت الله الحرام من أعظم القربات وأمس الحاجيات والذي اقترحه أن تطبع الكثير من النشرات والمطويات التى تعرف الناس بدينهم وما يجب ان يعرفوه من توحيد الله باسلوب شيق ومحبب وفي وجهة نظري أن مثل هذه النشرات التي تعرف بالدين الاسلامي أولى من تلك التى تعالج مسائل محددة
• رايي في الموقع : maZEN GHAWANMEH
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته الموقع غني وثري بالمواضيع العديدة فبارك الله بكم(/1)
الحج عن الغير
إعداد- زكريا حسيني
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على المصطفى المبعوث رحمة وهداية للناس أجمعين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد..
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلا وضيئًا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: "نعم".
أولاً: تخريج الحديث
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في أربعة مواضع، أولها: في كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله برقم (1513). والثاني في كتاب جزاء الصيد، باب: الحج عمن لا يستطيع أن يثبت على الراحلة برقم (1854) وباب حج المرأة عن الرجل برقم (1855). والثالث في كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع برقم (4399) والرابع في كتاب الاستئذان، باب: قول الله تعالى: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم وقوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم... وقوله تعالى: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن برقم (6228).
وأخرجه الإمام مسلم في الصحيح في كتاب الحج باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت برقم (1334) وبرقم (1335)، وأخرجه الإمام أبو داود في سننه كتاب المناسك باب الرجل يحج عن غيره برقم (1809) وأخرجه الإمام الترمذي في جامعه في كتاب الحج، باب: ما جاء في الحج عن الشيخ الكبير والميت برقم (928)، والإمام النسائي في سننه، في كتاب: مناسك الحج، باب: حج المرأة عن الرجل برقم (2642)، والإمام ابن ماجه في سننه في كتاب المناسك، باب: الحج عن الحي إذا لم يستطع برقم (2907) والإمام مالك في الموطأ في كتاب الحج، باب: الحج عمن يحج عنه، والإمام أحمد في المسند بالأرقام {1-76، 157، 212، 219، 251، 329، 346، 359} والإمام الدارمي في سننه في كتاب المناسك.
ثانيا: أحاديث في الموضوع نفسه
منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شُبْرُمة. قال: "ومن شبرمة؟" قال: أخ لي أو قريب لي فقال: "حججت عن نفسك؟" قال: لا، قال: "فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة". {أخرجه أبو داود في المناسك باب الرجل يحج عن غيره، وابن ماجه في المناسك وابن حبان في صحيحه} ومنها حديث أبي رزين العقيلي قال: يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن، قال: "احجج عن أبيك واعتمر". {أخرجه أبو داود، والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح وأخرجه النسائي وابن ماجه} ومنها حديث بريدة قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت ولم تحج، أفأحج عنها؟، قال: "نعم حجي عنها" أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ومنها حديث ابن عباس أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج، قال: "حجي عن أبيك".
{أخرجه النسائي}
ومنها حديث حصين بن عوف قال: قلت يا رسول الله: إن أبي أدركه الحج ولا يستطيع الحج إلا معترضا، فَصَمَتَ ساعة، ثم قال: "حُجَّ عن أبيك". {أخرجه ابن ماجه}
ثالثًا: شرح الحديث
( أ ) تعريف بالفضل بن عباس رضي الله عنهما:
هو الفضل بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي أبو عبد الله، ويقال: أبو محمد ويقال: أبو العباس المدني ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزن الهلالية وكان شقيق عبد الله بن عباس، روى عنه أخوه عبد الله وغيره، غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحنينًا، وثبت معه يومئذ حين ولى الناس، وشهد معه حجة الوداع وأردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه وأمهر عنه، وكان فيمن غَسَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم وولي دفنه، مات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة من الهجرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(ب) مفردات الحديث:
الرديف: الراكب خلف الراكب.
خثعم: اسم قبيلة مشهورة.
الوضيء: حسن الوجه جميل الصورة.
عَجُزُ الراحلة: مؤخرها.
فأخلف يده: أدارها من خلفه.
الذقن: مجتمع اللحيين من أسفلهما، العظم أسفل الفم.
لا يستطيع أن يستوي: أي لا يستطيع أن يثبت على الراحلة لشيخوخته وكبر سنه.
فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ أي: فهل يجزئ عنه أن أحج عنه؟.
(ج) معنى الحديث وفقهه:(/1)
في هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي سُقناها مشروعية الحج عن الغير، قال الحافظ في الفتح: واستدل الكوفيون بعمومه على جواز أن يحج الإنسان عن غيره وإن لم يحج عن نفسه، وخالفهم الجمهور فخصوه بمن حج عن نفسه واستدلوا بحديث ابن عباس فيمن سمعه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لبيك عن شُبْرُمَة" فقال: "أحججت عن نفسك؟" قال: لا، قال: "هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة". قال الحافظ: واستُدل به على أن الاستطاعة تكون بالغير كما تكون بالنفس، وعكس بعض المالكية فقال: من لم يستطع بنفسه لم يلاقه الوجوب. وأجابوا عن حديث الباب بأن ذلك وقع من السائل على سبيل التبرع وليس في شيء من طرقه تصريح بالوجوب. وبأنها عبادة بدنية فلا تصح النيابة فيها كالصلاة، وقد نقل الطبري وغيره الإجماع على أن النيابة لا تدخل في الصلاة، ثم قال الحافظ ابن حجر: وأجيب بأن قياس الحج على الصلاة لا يصح؛ لأن عبادة الحج مالية بدنية معًا فلا يترجح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة. وقال عياض: لا حجة للمخالف في حديث الباب؛ لأن قوله: "إن فريضة الله على عباده في الحج..." معناه: إن إلزام الله عباده بالحج. وتعقب أيضا بأن في بعض طرقه التصريح بالسؤال عن الإجزاء فيتم الاستدلال. وفي بعض طرق مسلم "إن أبي عليه فريضة الله في الحج" ولأحمد في رواية "والحج مكتوب عليه". وادعى بعضهم أن هذا الحديث مخصوص به أبو الخثعمية والخثعمية، كما خُص سالم مولى أبي حذيفة برضاعه في حال الكبر، قال ابن عبد البر: وممن قال بذلك مالك وأصحابه، وهو مروي عن عبد الله بن الزبير وعكرمة وعطاء والضحاك، قال الحافظ ابن حجر: وتعقب بأن الأصل عدم الخصوصية وقد قال صلى الله عليه وسلم للمرأة الجهنية: "اقضوا الله فالله أحق بالوفاء"، قال: وادعى آخرون منهم أن ذلك خاص بالابن يحج عن أبيه ولا يخفى أنه جمود. اه. وكذلك يرده حديث من لبى عن شبرمة بقوله: أخ لي أو قريب لي.
عمن تكون النيابة في حج الفريضة؟؟
قال الحافظ في الفتح: واتفق من أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عطب فلا يدخل المريض؛ لأنه يرجى برؤه، ولا المجنون؛ لأنه يرجى إفاقته، ولا المحبوس؛ لأنه يرجى خلاصه ولا الفقير؛ لأنه يرجى استغناؤه، والله أعلم. وأما في النافلة فلا يشترط الموت والعطب، والله أعلم.
هل يلزم المَحْرَمُ للمرأة في حج الفريضة؟
قال أبو عمر ابن عبد البر: وقد زعم بعض أصحابنا أن في هذا الحديث دليلا على أن للمرأة أن تحج وإن لم يكن معها ذو محرم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمرأة الخثعمية: "حجي عن أبيك" ولم يقل: إن كان معك محرم. ثم قال: وهذا ليس بالقوي من الدليل؛ لأن العلم ما نطق به لا ما سكت عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر إلا مع ذي محرم أو زوج". {رواه مسلم من حديث ابن عمر}. ورواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر أيضًا: "لا تسافر المرأة ثلاثا إلا ومعها ذو محرم".
من الفوائد في هذا الحديث
1 ركوب شخصين على دابة إذا كانت الدابة تطيق ذلك، قال ابن عبد البر: هذا مما لا خلاف في جوازه.
2 إباحة الارتداف؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردف الفضل، كما أردف عبد الله بن عباس وأردف معاذ بن جبل وغيرهم.
3 تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال ابن عبد البر: وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم كلها سُنَنٌ مرغوب فيها يحسن التأسي بها على كل حال، ومنها جميل الارتداف بالجليل من الرجال.
4 بيان ما رُكِّبَ في الآدميين من الشهوات وما يخشى من نظر الرجال إلى النساء والنساء إلى الرجال، قال ابن عبد البر: وكان الفضل بن عباس من أجمل الشبان في زمانه، ووقع في رواية الطبري في آخر الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "رأيت غلاما حدثا وجارية حدثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان".
5 أن على العالم والإمام أن يغير من المنكر كل ما يمكنه بحسب ما يقدر عليه إذا رآه، وليس عليه ذلك فيما غاب عنه.
6 فيه دليل على أنه يجب على الإمام أن يحول بين الرجال والنساء اللواتي لا يُؤمَن عليهن ولا منهن الفتنة، وأن يمنعهن من الخروج والمشي في الحواضر والأسواق وحيث ينظرن إلى الرجال وينظر الرجال إليهن، أفاده ابن عبد البر ورَوى حديث أسامة بن زيد "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء".
{أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه}
7 منزلة الفضل بن العباس رضي الله عنهما من النبي صلى الله عليه وسلم.
8 تحريم النظر إلى الأجنبيات ووجوب غض البصر عنهن، قال الحافظ في الفتح: قال عياض: وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة، قال: وعندي أن فعله صلى الله عليه وسلم إذ غطى وجه الفضل أبلغ من القول. ثم قال: لعل الفضل لم ينظر نظرًا ينكر، بل خشي عليه أن يئول إلى ذلك.
9 جواز كلام المرأة وسماع صوتها للأجانب عند الضرورة كالاستفتاء عن العلم.(/2)
10 بر الوالدين والاعتناء بأمرهما والقيام بمصالحهما من قضاء دين وخدمة ونفقة وغير ذلك من أمور الدين والدنيا.
11 قال ابن العربي: حديث الخثعمية أصل متفق على صحته في الحج خارج عن القاعدة المستقرة في الشريعة من أن ليس للإنسان إلا ما سعى رفقا من الله تعالى في استدراك ما فرط فيه المرء بولده وماله.
12 فيه صحة حج المرأة عن الرجل والرجل عن المرأة، خلافا لمن منع حج المرأة عن الرجل معللا أن حج المرأة غالبا ما يعتريه النقص وأنها تلبس ولا يلبس، فقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة السائلة أن تحج عن أبيها.
13 فيه جواز أن يعرض الرجل ابنته على الرجل الصالح؛ وذلك لما جاء في رواية أبي يعلى لهذا الحديث بإسناد قوي كما قال ابن حجر عن ابن عباس عن الفضل بن عباس قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم وأعرابي معه بنت له حسناء فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها، وجعلت ألتفت إليها، ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسي فيلويه...".
الاستئجار على الحج
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: في الحج عن الميت أو المعضوب بمال يأخذه، فإما أن يكون المال الذي يأخذه نفقة فهذا جائز بلا خلاف، وإما أن يكون أجرة على الحج أو جعلا، فهذا فيه نزاع بين الفقهاء، فمن أصحاب الشافعي من استحب ذلك وقال: هو من أطيب المكاسب؛ لأنه يعمل صالحًا ويأكل طيبًا، والمنصوص عن أحمد أنه قال: لا أعرف في السلف من كان يعمل هذا، وعده بدعة، وكرهه، ولم يكره إلا الإجارة والجعالة، قلت القائل ابن تيمية : حقيقة الأمر في ذلك أن الحاج يستحب له ذلك إذا كان مقصوده أحد شيئين: الإحسان إلى المحجوج عنه بإبراء ذمته في الفرض وهذا بمنزلة قضاء دينه كما جاء ذلك في عدة أحاديث.
فإن كان مقصود الحاج قضاء هذا الدين الواجب عن هذا فهذا محسن إليه، والله يحب المحسنين فيكون مستحبًا، وذلك يكون الباعث عليه إما رحم بينهما وإما مودة وصداقة أو إحسان له عليه يكافئه به ويأخذ من المال ما يستعين به على أداء الحج عنه بمقدار الكفاية، وكذا لو وصَّى بحجة مستحبة وأحب إيصالها إليه. ولهذا جوزنا نفقة الحج بلا نزاع.
والموضع الثاني: إذا كان الرجل مؤثرًا أن يحج محبة للحج وشوقًا إلى المشاعر، وهو عاجز فيستعين بالمال المحجوج به على الحج، وهذا قد يعطى المال ليحج به لا عن أحد، كما يعطى المجاهد المال يغزو به، فلا شبهة فيه، فيكون لهذا أجر الحج ببدنه ولهذا أجر الحج بماله، كما في الجهاد فإنه "من جهز غازيًا فقد غزا"، وقد يعطى المال ليحج به عن غيره، وهذا أيضا إنما يأخذ ما ينفقه في الحج كما لا يأخذ إلا ما ينفقه في الغزو. قال: فهاتان صورتان مستحبتان، وهما الجائزتان من أن يأخذ نفقة الحج ويرد الفضل أي الزيادة .
وأما إذا كان قصده الاكتساب بذلك فهو صورة الإجارة والجعالة، والصواب أن هذا ليس مستحبًا، وإن قيل بجوازه؛ لأن العمل المعمول للدنيا ليس بعمل صالح في نفسه إذا لم يقصد به إلا المال فيكون من نوع المباحات، ومن أراد الدنيا بعمل الآخرة فليس له في الآخرة من خلاق. {انتهى بتصرف واختصار من مجموع الفتاوى ج26 ص14 وما بعدها}
نسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(/3)
الحج فضله وآثاره ناصر بن محمد الأحمد ...
ملخص الخطبة ... ... ... ...
1- الحج خامس أركان الإسلام. 2- أدلة وجوب الحج. 3- فضل عبادة الحج. 4- آثار الحج على المسلمين. ... ... ... ...
... ... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ... ...
أما بعد: الحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام ودعائمه الخمس، وفرض من فروضه دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، وهو فرض عين على المكلف المستطيع مرة واحدة في العمر، ومن أنكر ذلك فقد كفر إلا إذا كان حديث عهد بالإسلام أو نشأ في بادية بعيدة عن العلم وأهله.
الأدلة من الكتاب:
1- قال تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].
2- وقال تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ [البقرة:196].
3- وقال تعالى: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
4- وقال تعالى: وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الاْنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:27، 28].
فهذه الآيات صريحة في إيجاب الحج حيث قال تعالى: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ وكلمة عَلَى إيجاب، وقال تعالى: وَمَن كَفَرَ أي ومن كفر بوجوب الحج، وقال تعالى: وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ أي ادعهم ونادهم إلى حج البيت وقيل أعلمهم أن الله فرض عليهم الحج بدليل قوله تعالى: يَأْتُوكَ .
قال ابن العربي بعد سياقه للآية: " وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل البيت:97]. قال علماؤنا: هذا من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب إذ قال العربي لفلان: عليّ كذا، فقد وكده وأوجبه، قال علماؤنا: فذكر الله الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيداً لحقه وتعظيماً لحرمته وتقوية لفرضه ...".
الأدلة من السنة:
1- ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إلى ذلك سبيلا)).
2- ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا))، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم))، ثم قال: ((ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)) مسلم.
فهذه النصوص من السنة تدل دلالة قاطعة على وجوب الحج مرة واحدة في العمر، وأنه ركن من أركان الإسلام ومبانيه العظام التي لا يتم إسلام امرئ إلا به متى تحققت فيه شروط الوجوب وانتفت عنه موانع الأداء، فحري بالمسلم أن يبادر لإبراء ذمته وأداء ما عليه قبل أن تقول نفس: يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، وقبل أن يندم، ولات ساعة مندم.
ولقد أفاض القرآن والسنة في فضل الحج ووردت فيه النصوص الكثيرة التي ذكرنا طرفاً منها فيما سبق ونذكر هنا ما لم نذكره هناك مما يختص في فضل الحج فنقول:
1- الحج يهدم ما قبله:
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (.. فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إبسط يمينك لأبايعك فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ قال: قلت أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله ...).
2- الحاج يعود بعد حجه كيوم ولدته أمه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)).
3- الحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((ثم جهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((ثم حج مبرور)) البخاري.
4- الحج أفضل الجهاد:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ قال: ((لا لكن أفضل الجهاد حج مبرور)) البخاري.(/1)
5- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
ومن فضائل الحج أن الحجاج والعمار وفد الله إن سألوه أعطاهم، وإن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم، ونفقتهم في سبيل الله، وهي مخلوفة عليهم، وهم معانون في أداء النسك.
وأخيراً فإن الله يباهي بالحجاج ملائكته في صعيد عرفات ويتجلى لهم ويقول: انصرفوا مغفوراً لكم، إنه لفضل عظيم ونعمة كبرى أن ينصرف الحاج من هذا الموقف العظيم مغفوراً له وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء اللهم إنا نسألك من فضلك.
الحج هجرة إلى الله تعالى، استجابة لدعوته، وموسم دوري يلتقي فيه المسلمون كل عام على أصفى العلاقات وأتقاها، ليشهدوا منافع لهم على أكرم بقعة شرفها الله.
وعبادات الإسلام وشعائره تهدف كلها إلى خير المسلمين في الدنيا والآخرة، ومن هنا كان الحج عبادة يتقرب بها المسلمون إلى خالقهم، فتصفو نفوسهم ويلتقون على المودة يربط بينهم الإيمان رغم تباعد الأقطار واختلاف الديار.
والمتأمل في نصوص الكتاب والسنة الخاصة بالحج إذا جمع معها ما يلمسه في الواقع المشاهد خلال أداء فريضة الحج تتجلى له الأهداف التالية:
1- الحج امتثال لأوامر الله واستجابة لندائه:
الحج امتثال لأوامر الله واستجابة لتعاليمه تتجلى فيه الطاعة الخالصة والإسلام الحق وصدق الله العظيم: وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان:22].
2- الحج فيه تأسٍ بأبينا إبراهيم عليه السلام:
لقد أمر الله أبانا إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج وكتب الله لمن شاء من عباده أن يلبوا هذا النداء رجالاً أو ركباناً، ففي الحج اقتداء بالصالحين وتأسي بمن أمرنا الله أن نتأسى بهم ونجعلهم قدوة حسنة لنا، يقول تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة:4]، إلى قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الأَخِرَ.. [الممتحنة:6].
3- الحج فيه ارتباط بمهبط الوحي:
الحج رحلة إلى الديار المقدسة مهبط الوحي ومتنزل التشريع، وكلما ارتبط المسلم بهذه البقاع الطاهرة كلما كان أقرب إلى الاقتداء بالرعيل الأول، الذين جاهدوا في سبيل الله وبلغوا شرعه إلى أنحاء المعمورة، وشتان بين مسلم يرتبط قلبه بمهابط الوحي ومنازل التشريع ومسلم يتعلق قلبه هنا أو هناك خلف عرض زائل أو قزم يتطاول، فكما أن الفرق شاسع بين الوسيلتين فكذلك في النتيجة.
4- في الحج إعلان عملي لمبدأ المساواة بين الناس:
تتجلى المساواة بأسمى صورها الواقعية في الحج، وذلك في صعيد عرفات حينما يقف الناس موقفاً واحداً لا تفاضل بينهم في أي عرض من أعراض الدنيا الزائلة بل التفاضل والفوز والفلاح بالتقى، يقول الحق تبارك وتعالى مؤكداً هذا المنهج السامي في الإسلام إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ويقول تعالى: سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25].
5- في الحج تذكرة بيوم لقاء الله:
الحج يذكر المسلم بيوم لقاء الله وذلك إذا تجرد الحاج من ثيابه ولبى محرماً ووقف بصعيد عرفات، ورأى كثرة الناس ولباسهم واحد ويشبه الأكفان، فهنا تجول بالخاطر مواقف سيتعرض لها المسلم بعد وفاته فيدعوه ذلك للاستعداد لها وأخذ الزاد قبل لقاء الله.
6- في الحج توثيق لمبدأ التعارف والتعاون:
يقول الحق تبارك وتعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، ويتجلى تحقيق هذا المبدأ السامي في الحج حيث تتوثق الصلات ويقوى التعارف ويتم التشاور ويحصل تبادل الآراء، والتجارب والخبرات للسعي قدماً في النهوض بالأمة ورسم الطريق الأمثل لها لتتبوأ مكانتها القيادية على مر العصور والأجيال.
7- في الحج جمع للناس على مبدأ التوحيد:
في الحج تتجلى صورة التوحيد لدى المسلمين، فهم أولاء يتوافدون على الديار المقدسة ويجتمعون في أماكن محددة ويناجون رباً واحداً ملبين للنداء مذعنين للأمر منضوين تحت اللواء، يرفعون كلمة التوحيد ويعتصمون بالحبل المتين وصدق الله العظيم: إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].
8- الحج مؤتمر سنوي للمسلمين:
وأخيراً فالحج مؤتمر سنوي عام للمسلمين يتدارسون فيه شئونهم وتجتمع فيه كلمتهم ويحنو فيه غنيهم على فقيرهم وتظهر فيه الوحدة الكبرى للمسلمين.(/2)
والذي أدى فريضة الحج في السنوات الأخيرة يلمس هذه الأهداف ماثلة للعيان فكم من أموال بذلت في سبيل الله وكم من تجارب تمت الاستفادة منها وكم من لقاءات جانبية تداول فيها المجتمعون ما يهم المسلمين في حاضرهم ومستقبلهم، وإذا كان هذا تحقق فعلاً بفضل من الله فإننا نأمل المزيد وندعو المسلمين لاستثمار هذا المؤتمر السنوي ليحصل الخير الوفير لأمة الإسلام في جميع ديار المسلمين.
فرض الله سبحانه وتعالى العبادات على عباده امتحاناً لطاعتهم وإظهاراً لعبوديتهم وشكرهم وتحقيقاً لمصالحهم في الدنيا والآخرة وقد أشار سبحانه وتعالى في محكم كتابه إلى طرف من هذه المصالح والمنافع، فعند ذكر الحج مثلاً أشار إلى منافعه العظيمة التي يشهدها الحجاج يقول تعالى: لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الاْنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28].
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: (منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات ...).
ولكي تتضح الصورة لنا حول آثار الحج سنتحدث عنه من جانبين:
أحدهما: آثار الحج في حياة الأمة الإسلامية.
الثاني: آثار الحج فيمن أدى فريضته.
آثار الحج في حياة الأمة الإسلامية:
للحج آثار عظيمة على المجتمع المسلم في عقيدته ووحدته واقتصاده وجميع شئون حياته ومن أبرز آثاره في حياة الأمة الإسلامية ما يأتي:
1- وصل حاضر الأمة بماضيها:
من آثار الحج الظاهرة أنه يصل حاضر الأمة الإسلامية بماضيها ويربط الجيل الحاضر بالجيل الأول، وتاريخ البيت العتيق ضارب في أعماق الزمن منذ أن دعا أبونا إبراهيم عليه السلام وأرسل نداءه الخالد على مر الزمن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ .
2- سقوط الشعارات الزائفة:
من آثار الحج سقوط الشعارات الزائفة التي تجعل التفاضل بين الناس حسب أجناسهم وألوانهم ومكانتهم في الدنيا. ففي الحج تذوب تلك الفوارق، بل تسقط فتتحقق المساواة بين المسلمين رغم اختلاف أجناسهم وألوانهم وتباين ألسنتهم وتباعد بلادهم، الجميع من آدم وآدم من تراب إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
3- توحيد كلمة المسلمين:
من آثار الحج في حياة أمة الإسلام توحيد كلمة المسلمين وجمع شملهم تحت راية التوحيد، شعارهم المعلن هو التلبية ـ لبيك اللهم لبيك ـ وما ذاقت الأمة ما ذاقت من ويلات وحروب واستعمار وتخلف إلا بسبب تفرقها وتمزقها، والحج فرصة، وأيما فرصة للم الشمل وتوحيد الصف والوقوف بوجه العدو تحقيقاً لأمر الله وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103].
4- تبادل المنافع التجارية والتجارب الاقتصادية:
من آثار الحج في حياة الأمة الإسلامية تبادل التجارب والخبرات في المجال الاقتصادي وتنويع المنتوجات حسب العرض والطلب في السوق المالية في ديار الإسلام.
ولا شك أن هذا التجمع الكبير فرصة لبحث أوجه النقص لدى بعض البلاد الإسلامية ليتم التكامل مع بعض البلاد الأخرى، وهذا من المنافع التي أمرنا الله أن نشهدها في الحج، وقد أشار خير الأمة وترجمان القرآن إلى هذا المعنى في تفسيره للمنافع في الآية.
آثار الحج فيمن أدى فريضته:
1- تجديد ذكر الله:
من آثار الحج في حياة المسلم الذي يؤدي فريضته أنه يقوي صلة المحبة بينه وبين خالقه، وذلك عن طريق شعار الحج المعلن ـ لبيك اللهم لبيك ـ، فيها يجدد المسلم ذكر الله في مواقع ومواقف متعددة، يصحب ذلك خشوع وخضوع للخالق البارئ سبحانه وتعالى، والمسلم بهذه التلبية يطرح كل شواغل الحياة وصوارفها التي تمنعه من القرب من خالقه طاعة وامتثالاً وخشوعاً وخضوعاً وتذللاً وإجلالاً ـ لبيك اللهم، لبيك لا شريك لك لبيك ـ.
2- في أداء مناسك الحج يذكر المسلم اليوم الآخر:
الحج مظهر مصغر ليوم الحشر والعرض على الله. ولذا تفيض في نفس الحاج بواعث الشوق للقاء الله ويدفعه للعمل الصالح وينشط في مجالات الخير وتنهزم بواعث المعصية في نفسه ويبقى ذكر الموت وما بعده بين عينيه، وفي هذا من الآثار العظيمة على السلوك والأخلاق ما يلمسه كل حاج مع نفسه ومع الآخرين.
3- نيل رضوان الله ومغفرته:
من آثار الحج في حياة المسلم الحاج أنه يرجع إلى بلده بإذن الله نقياً من الذنوب؛ لأنه تعرض لمغفرة الله ورضوانه ووقف مع من وقف في بابه يدعو ويرجو راغباً راهباً، وقد وعد الله من حج ولم يرفث ولم يفسق بالمغفرة والرضوان جاء ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)).
4- يتعلم الحاج دروس التضحية والبذل:(/3)
من آثار الحج على المسلم الذي يؤدي هذه الفريضة أنه يتعلم دروساً في البذل والتضحية، ولذا كان الحج باباً من أبواب الجهاد، أليس الحاج يترك وطنه وأهله وأحبابه؟ أليس الحاج يبذل المال قربة لله؟ أليس الحاج يجهد نفسه ويخلع ثيابه ويتجرد من كل شيء طاعة لله وامتثالاً لأمره، وهذا لون من ألوان الجهاد بالمال والجهد والوقت.
5- الحج تدريب عملي للحاج على الصبر والطاعة:
من آثار الحج في حياة المسلم الذي يؤدي هذه الفريضة أنه يتدرب عملياً على الصبر بكل أنواعه: الصبر على مشقة الطاعة والصبر عما حرم الله والصبر على ما يصيب الحاج من المشقة والجهد والعنت وفقد المال وبعد الأهل والأحباب، وبهذا يتهيأ المسلم لمنازلة الأعداء وهو قوي الجانب ثابت الجنان لا يدخل الخوف إلى قلبه ولا يتسرب الهلع إلى نفسه لأن الإخلاص ملأ عليه سمعه وبصره فلا يصدر عنه إلا السمع والطاعة.
6- الحج نقطة تحول في حياة الحاج:
يزداد به خيراً وتقوى وصلاحاً، ولذا أشار القرآن الكريم إلى أنه ينبغي للحاج ألا ينسى مواقفه الضارعة في الحج وأن يستمر في تعلقه بربه وإنابته له. بقوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا... [البقرة:200].
والحاج الذي يبقى أثر الحج في نفسه ويعود منه وقد تحسن حاله واستقام أمره وأقبل على طاعة ربه، هو الذي يرجى أن يقبل حجه، فالله لا يقبل العمل إلا من المتقين إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
أيها المسلمون، الذين لم يعزموا على الحج هذا العام سواء ممن حج أو لم يحج سأقرأ عليكم حديثاً واحداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى أن يحرك الهمم، والذي تردد لعله يعزم.
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة ويمحو عنك بها سيئة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثاً غبراً من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني، فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة. فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك)).
اللهم يسر على الحجاج حجهم... ... ... ... ...
المنبر
... ... ... ...(/4)
الحج مدرسة تربوية
إعداد/ محمد عاطف التاجوري
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد خرجنا من مدرسة رمضان التربوية، والتي درسنا فيها كثيرًا من الأخلاق، واليوم ندخل مدرسة أخرى من المدارس التربوية، لنتعرف على بعض الأخلاق فيها، ونربي أنفسنا عليها، تلك هي مدرسة الحج التربوية.
1- الإخلاص:
يقول الله تعالى: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (26) وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير (28) ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق [الحج:26-29].
فانظر كيف بدأ إبراهيم عليه السلام عمله كما أمره الله عز وجل بترك الشرك بالله أي أمره بإخلاص العمل لله تعالى، وكذلك أول ما حرص عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا النسك هو الإخلاص، ففي حديث جابر رضي الله عنه في صحيح مسلم: «فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك»، فكل عمل لا بد أن يبنى على الإخلاص حتى يقبله الله تعالى، فما لم يبن على الإخلاص لا يقبل، وهو أول ما يعلن عنه الحاج: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك».
2- الطهارة:
ثم يقول الله تعالى: وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ، فما المقصود بالطهارة هنا؟ هل هي طهارة الظاهر فقط؟
يقول ابن كثير في تفسيره: «وطهر بيتي» قال قتادة ومجاهد من الشرك.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
الطهارة أنواع:
1- منها الطهارة من الكفر والفسوق، كما يراد بالنجاسة ضد ذلك؛ كقوله تعالى: إنما المشركون نجس [التوبة: 28].
2- ومنها: الطهارة من الحدث وضد هذه نجاسة الحدث.
3- ومنها: الطهارة من الأعيان الخبيثة التي هي نجسة. [مجموع الفتاوى 21/67، 68].
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
المراد من قوله تعالى: وثيابك فطهر [المدثر: 4]، الآية تعم كل ما ذكره ابن تيمية سابقًا، إن كان المراد طهارة القلب، فطهارة الثوب وطيب مكسبه تكميل لذلك، فإن خبث الملبس يكسب القلب هيئة خبيثة، كما أن خبث المطعم يكسبه ذلك، ولذلك حرم ما حرم من اللباس، لما تكسب القلب من الهيئة المشابهة لتلك الحيوانات التي تلبس جلودها، فإن الملابسة الظاهرة تسري إلى الباطن. [إغاثة اللهفان 1/69].
3- الاستجابة:
أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بدعوة الناس إلى الحج، فقال له: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ، فاستجاب إبراهيم عليه السلام لأمر الله تبارك وتعالى واستجاب الناس لدعوة إبراهيم عليه السلام وما يزالون يستجيبون حتى الآن.
يقول الله تبارك وتعالى عن هذا الخلق: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون [الأنفال: 24].
وقال البخاري: «استجيبوا» أجيبوا «لما يحييكم» لما يصلحكم.
وروي عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته، فقال: «ما منعك أن تأتي؟ ألم يقل الله: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ؟» ثم قال: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج» فذهب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرتُ له..(الحديث).
وقال معاذ: حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن سمع حفصًا سمع أبو سعيد رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وقال: «هي الحمد لله رب العالمين، السبع المثاني». [البخاري 4647 كتاب التفسير]
4- الإنفاق في سبيل الله:
والمسلم الذي يأتي إلى الحج من كل فج عميق راكبًا أو ماشيًا؛ ماذا يتكلف وما الذي يدفعه إلى هذا الإنفاق في سبيل الله تعالى من أجل الحج إلى بيت الله عز وجل؟ ثم يجد التوجيهات الكثيرة التي تدفعه للإنفاق: منها الأمر بذبح الهدي للقارن والمتمتع وكذلك في الفدية لجبر القصور الحاصل في أداء المناسك فضلاً عن توزيع تلك الذبائح؛ قال تعالى: فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [الحج:28]، فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر [الحج:36].
5- الهداية:
يقول الله تبارك وتعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين [البقرة:198].
ويقول تبارك وتعالى: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين [الحج:37].
فمناسك الحج مظهر من مظاهر شكر الله تبارك وتعالى على هدايته، فربنا هو الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ويزداد الشعور بنعمة الهداية عندما يتذكر الإنسان ما كان فيه من ضلال.
6- الإحسان:(/1)
وفي آية سورة الحج: لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين ، وفي سورة البقرة: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [البقرة:195].
ومرتبة الإحسان هي أعلى مراتب الإيمان، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنها في حديث جبريل المتفق عليه: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وحين تصل النفس إلى هذه المرتبة، فإنها تفعل الطاعات وتنتهي عن المعاصي كلها، وتراقب الله في الصغيرة والكبيرة، وفي السر والعلن على السواء.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته». [رواه مسلم 1955]
7- الوفاء:
يرشدنا الله تبارك وتعالى إلى الوفاء في قوله تعالى في سورة الحج: ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق [الحج:29].
والوفاء لغة يعني الإكمال والإتمام وضده الغدر. [لسان العرب]
وقد أمرنا الله تعالى بالوفاء في كل أمورنا فقال: وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم [البقرة:40]، وقال: وبعهد الله أوفوا [الأنعام:152]، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم [النحل:91]، وقال تعالى: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا [الإسراء:34]، وقال تعالى: وأوفوا الكيل والميزان بالقسط [الأنعام:152]، يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [المائدة:1].
8- التقوى:
يقول الله تعالى في سياق الحديث عن الحج من سورة البقرة: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب [البقرة: 197]، ويقول: واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون [البقرة:203].
ويقول: وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم [البقرة: 206]، ويقول: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج: 32]، ويقول: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم [الحج: 37].
ويقول ابن كثير في تفسيره: فإن خير الزاد التقوى لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة وهو استصحاب التقوى إليها كما قال: قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشدًا إلى اللباس المعنوي وهو الخشوع والطاعة والتقوى وذكر أنه خير من هذا وأنفع.
9- الذكر والدعاء والاستغفار:
يقول الله تعالى مرشدًا لنا إلى الإكثار من ذكره: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم [البقرة: 199].
ويرشدنا أيضًا إلى آداب الدعاء؛ فلا ينبغي أن يدعو الداعي بأمور دنياه فقط وهو معرضٌ عن أخراه: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق (200) ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (201) أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب [البقرة: 200- 202].
ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء؛ فقد روى البخاري عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». وقال أحمد: عن عبد العزيز بن صهيب قال: سأل قتادة أنسًا أي دعوة كان أكثر ما يدعوها النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان يقول: «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».
وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها. رواه مسلم. [ابن كثير ج1 ص245].
10- تعظيم حرمات الله:
يقول الله تعالى: ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه [الحج: 30].
يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: أي ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيمًا في نفسه فهو خير له عند ربه أي فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما أنه على فعل الطاعات ثواب كبير وأجر جزيل كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات، قال ابن جريج قال مجاهد في قوله: ذلك ومن يعظم حرمات الله قال: الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى عنه من معاصيه كلها. وكذا قال ابن زيد.
11- تعظيم شعائر الله:
يقول تعالى: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج: 32].
يقول ابن كثير: يقول تعالى هذا ومن يعظم شعائر الله أي أوامره، فإنها من تقوى القلوب ، ومن ذلك تعظيم الهدايا (الهَدْي في الحج) والبدن (وهي الإبل التي تذبح في الحج وواحدتها بَدَنَة).
وبعد، فهذه أمثلة فقط لدروس هذه المدرسة، مدرسة الحج التربوية، والحمد لله رب العالمين.(/2)
الحج والأضحية والصيام
28 / 11 / 1426هـ
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد،،
فيقول الله سبحانه وتعالى: { وإذ بوأنا لإبراهيم }، حددنا له وبين مكان البيت، { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت }، فبيناه له { أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفيين والقائمين والركع السجود }، لقد بين تعالى قبل ذلك بأن الكفار نجس، وأن المشركين كذلك، { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذيقه من عذاب أليم }، فشناعة المشركين في صدهم عن سبيل الله وجمعهم بين الكفر، ومنع الناس من الإيمان، بينما البيت متاح في شرع الله لجميع المؤمنين، ومجرد إرادة الظلم والإلحاد في الحرم، موجبة لعذاب الله عزوجل، فمن عزم على الإلحاد، أو العصيان، أو عمل السيئة في الحرم، فإنه يعاقب على ذلك من تعظيم الله لحرمه هذا الحكم المعاقبة على العزم والتصميم على الارتكاب المحظور فيه، ولذلك كان كافياً لأبره وجنده أن يهلكهم الله بما عزموا عليه من هدم البيت العتيق ولو لم يهدموه، بوأ الله لإبراهيم مكان البيت وأعلمه به لإقامة التوحيد، لماذا كان تعمير البيت؟ { أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفيين والقائمين والركع السجود }، ليعبد الله وحده، ولذلك أسس على طاعة الله وعلى تقوى من الله، بناه إبراهيم وإسماعيل على شرط أن لا يشرك بالله شيئاً، ويكون إخلاص العمل لله في بنيانه، وفيما يحدث بعد ذلك من العبادات فيه، وطهر بيتي من المعاصي، والأنجاس، والأدناس، لتأتي الأفئدة بالأجساد ويكون هذا البيت مهيأ للركع السجود من المصلين، يطوفون ويتعبدون ويعتكفون، ويؤخذ من الآية أنه لا يجوز أن يترك عند بيت الله قذر من الأقذار ولا نجاسة من النجاسات لا الحسية ولا المعنوية، { وأذن بالناس بالحج }، وهكذا يكون الإعلام بالعبادة والدعوة إليها، فإذا وضع البيت على التوحيد فبقي أن يأتي الموحدون والعابدون، { وأذن في الناس بالحج }، أعلمهم به، أدعوهم إليه، بلغ القاصي والداني، سيأتون حجاجاً وعماراً ومشاتاً وركباناً { وعلى كل ضامر }، ناقة ضامر، تواصل السير لتأتي إلى أشرف الأماكن، { من كل فج عميق }، ومن كل بلد بعيد، فعل ذلك الخليل عليه السلام ونفذ أمر الله فبلغ الله نداءه إلى العالم وأسمع أهل الأرض قاطبة، ليأتوا من كل فج عميق، { ليشهدوا منافع لهم }، من المنافع الدينية والدنيوية، يأدوا العبادات وإن شاءوا التكسب بالحلال المباح، { ويذكروا أسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام }، فيذبحوا الهدي ويكبروا ويسموا الله تعالى على هذه الإبل، والبقر، والغنم التي رزقهم إياها، فإذا ذبحوها فلا ينسوا الفقراء، { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير}، الزمن شديد الفقر، { ثم ليقضوا تفثهم }، يقضوا النسك، ويتموه، ويزيلوا الوسخ والأذى من طول الشعر، والأظافر، والشعث، { وليوفوا نذورهم }، التي أوجبوها على أنفسهم من حج وعمرة وهدي، { وليطوفوا بالبيت العتيق }، هذا الطواف العظيم الذي يكون بعد النحر طواف الإفاضة، ركن الحج في ذلك البيت العتيق الذي هو أفضل المساجد أعتقه الله من تسلط الجبابرة عليه، وحماه وحفظه ذلك، { ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه }، لأن من إجلال الله أن تعظم شعائره أن تحترم، أن يقام بها، أن لا تنتقص، أن لا يعتدى عليها، إن من إجلال الله تعالى إجلال نسكه عزوجل، وهكذا إستسمان الهدي وبراءته من العيوب، إلا ما يتلى عليكم تحريمه في القرآن، كالميتة والدم ولحم الخنزير، { فاجتنبوا الرجس من الأوثان }، إنها خبث وقذر لأنها أنداد تعبد من دون الله، { واجتنبوا قول الزور }، جميع الأقوال المحرمة، { حنفاء لله غير مشركين به }، مقبلون على العبادة، مستقيمون على الحق، مائلون عن الشرك إلى التوحيد، مائلون عن الباطل إلى الحق، { غير مشركين به ومن يشرك بالله }، فمثله، { فكأنما خر من السماء }، وسقط منها، { فتخطفه الطير }، بسرعة، { أو تهوي به الريح في مكان سحيق }، عميق، فيتقطع أوصالاً، ويتفرق أجزاءه، هذا مثل المشرك تتخطفه الشياطين من كل جانب ثم يكون الخسار عليه، { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم }، فيها منافع إلى أجل مسمى، { ثم محلها إلى البيت العتيق }، هذه الهدايا والقرابين التي تقرب إلى الله عزوجل، تذبح تقرباً إليه ينهر الدم على أسمه وهذا توحيد، وأما المشركون فيذبحون لأصنامهم، لكنها بالنسبة إلينا منافع وتوحيد لله قبل ذلك، { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى }، وهكذا الهدي والبدن ينتفع بها بالركوب والحلب، بما لا يضرها إلى أجل مسمى إلى أن تصل إلى وقت ذبحها ومكانه وهو البيت العتيق، الحرم كله مكان لذبح(/1)
الهدي، { ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام }، فهذا المنسك وهذا الذبح لله عزوجل موجود في جميع الشرائع، لماذا؟، { ليذكروا اسم الله وحده لا شريك له على ما رزقهم من بهيمة الأنعام }، ففيها توحيد، وفيها شكر نعمة، وفيها نفع للناس يأكلون ويتصدقون ويهدون، ولذلك ندب عباده للمسارعة في الخيرات، { ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله }، ليتسابقوا بالخيرات إلى ذلك،، { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام }، شكر النعمة، { فإلهاكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين }، إذن انقادوا واستسلموا أيها العباد، وليبشر الخاضعون لله المستسلمون لأمره، المتواضعون لعباده، فهؤلاء هم المخبتون، { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم }، خوفاً وتعظيماً، { والصابرين على ما أصابهم من البأساء والضراء والمقيم الصلاة }، بأركانها وواجباتها وشروطها ومستحباتها،
{ ومما رزقناهم ينفقون }، وجوباً واستحباباً من الزكاة، والنفقات، والصدقات، والإهداء، والكفارات، ولذلك فإن المسلم يشكر ربه على ما رزقه من المال، { ومما رزقناهم ينفقون }، جمعوا بين الخوف من الله، والصبر على قضاءه، وإقامة صلاته والإنفاق مما رزقهم، { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير }، فيها خير من المهدي من الأكل، والصدقة، والانتفاع، والثواب والأجر، وللمهدى إليه للمهدي، وللمهدى إليه، { فاذكروا اسم الله عليها }، عند ذبحها، { صواف }، قائمة تعقل اليد اليسرى للإبل عند نحرها، فإذا ضربت في لبتها سقطت وطاحت، فإذا وجبت جنوبها وصارت على الأرض تسلخ حينئذ بعد زهوق روحها،
{ فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر }، الفقير الذي لا يسأل تقنعاً وتعففاً، والملحاح الذي يحضر ويطالب، { كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون }، تشكرون الله على ستخيرها، وهكذا الأضاحي لأهل البلدان، { لن ينال الله لحومهما ولا دماؤها }، ليس المقصود أن يأخذ عزوجل اللحوم والدماء فإنه غني حميد، لا يحتاج إلى هذا، { ولكن يناله التقوى منكم }، يصعد إليه يصله، يناله التقوى من عباده المخلصين، الذين ذبحوا لله ابتغاء وجه لا فخراً ولا رياءاً ولا سمعةً ولا مجرد عادة، وإنما يريدون وجه الله، { كذلك سخرها لكم لتبكروا الله }، لتعظموه، {على ما هداكم }، إلى هذا النسك الجميل الجليل، { وبشر المحسنين }، الذين يحسنون في عبادتهم، ويحسنون في علاقتهم بربهم، ويحسنون إلى الخلق بالأضحية، يشاركوا أهل البلدان حجاج بيت الله الحرام، ويشكرون الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة، وهي ما رزقهم من بهيمة الأنعام.
هذه الأضحية التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده بعد أن ذكر ما يكونوا لحجاج البيت العتيق من الهدي، ذكر ما يفعل في هذه الأيام المعلومات، والمعدودات، وفي يوم العاشر يوم الذبح، وتسمى أضحية من وقت ذبحها لأنها تذبح ضحى عند ارتفاع النهار، { فصلي لربك وأنحر }، بعد صلاة العيد، أنحر لله عزوجل، ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما، وذلك لتثبيتها عند الذبح، وهذا من الإحسان، وهذه الأضحية التي قال بعض العلماء: بوجوبها على المقتدرين وجمهورهم على أنها سنة مؤكدة, تأكيداً شديداً ضحى النبي عليه الصلاة والسلام، ومن السنن المندثرة إرسال المقيمين في البلدان، الهدي إلى بيت الله العتيق لذبحه هناك قربة إلى الله، فلو وكل المقيم حاجاً بأن يذبح له هدياً هناك وهو لم يحج ولكن يهدي من بلده فهذه سنة، والأضحية في البلد سنة أخرى، ضحى النبي عليه الصلاة والسلام، وضحى المسلمون، وما من عمل يعمله آدمي في يوم النحر أحب إلى الله من إرهاق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة شاهدة للعبد، ولذلك المسلم يطيب بها وهي مشروعة في حق أهل البوادي، والحضر، والمقيمين، والمسافرين، والأضحية للمقيم، والهدي للحاج، ولكن للحاج أن يترك أضحية في البلد، وللمقيم أن يهدي إلى البيت ولو لم يحج، شرعت هذه العبادة العظيمة في السنة الثانية للهجرة إنها فيها تذكيراً لنا بما فعله الخليل عليه السلام وابنه من الاستسلام لله عزوجل عندما أبتلاه الله برؤيا، ورؤيا الأنبياء حق بأن يذبح ولده، فعلم أن هذا أمر من الله فاستسلاما لأمر الله وتله للجبين، فكانت المجازات والمكافأة،(/2)
{ ونادينه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إن كذلك نجزي المحسنين إن هذا له البلاء المبين }، وفداه الله سبحانه وتعالى بذبح عظيم وكانت سنة في الآخرين، إنها توسعة على النفس وأهل البيت، وإكرام للجيران، والأقارب، والأصدقاء، والصدقة على الفقراء، عبادات متوالية صلاة العيد ثم بعده ذكره الله بالخطبة وبعد ذلك ذبح هذه الأضحية، قال الصحابي: فأكلت وأطعمت أهلي وجيراني. إنها شكر لله عزوجل على نعمة الحياة، فلقد تركك تعيش إلى هذه السنة فتشكره على ذلك، ويشارك أهل البلدان حجاج بيت الله بهذا ولذلك كان مما يفعله المضحي أن لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره ولا من بشرته، { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب }، أن يستسمنها ويستبرأها من العيوب، وإذا ترك الميت مالاً فأوصى وجب أن يفعل في ماله ما أمر به من التضحية فلا يدخل فيها من لم يدخله، ولا يخرج منها من أدخله فيها، وبحسب ما أوصى تنفذ، ومن تبرع عن الميت بأضحية فإن ذلك مقبول ولكن السنة أن المسلم يدخل أمواته في أضحيته، ولا يحتاج أن يفردهم بأضاحي إلا إذا تركوا مالاً فأوصوا وجب تنفيذ وصيتهم، عندما يقول المسلم اللهم عني وعن أهل بيتي، يدخل فيهم الأحياء والأموات من أقاربه فهؤلاء أهل بيته إنها من بهيمة الأنعام، جدع من الضأن ما له ستة أشهر ودخل في السابع، وثني من المعز ما أتم سنة ودخل في الثانية، وثني من البقر ما أتم سنتين ودخل في الثلاثة، أو ثني من الإبل ما أتم خمساً ودخل في السادسة، تكون ملكاً بالحلال ولا حاجة أن يقترض وإن أقترض فصحيح، قال أحمد - رحمه الله - : ( أرجوا أن يخلف الله عليه أحيا سنة )، فيجوز اقتراض ثمنها ليسلمه في آخر الشهر مثلاً ولكن لا يجب عليه تكون خالية من العيوب لا عوراء، ولا عمياء، لا مريضة، ولا عرجاء، لا كسيرة، ولا هزيلة، إنها قربة إلى الله فكلما كانت أكمل وأفضل كان أكثر أجراً لصاحبها يبحث عن السليمة لا تكون ناقصة في أي عوض من أعضاءها، لا في القرن، ولا في الأذن، ولا في الذيل، إنه يريدها قربة لله عزوجل أكمل ما تكون وما كان موجوأً خصياً لطيب اللحم فإن ذلك طيب، فقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين موجوأين، وهذا إنما حصل لطيب لحمه، وليكثر ويسمن، وأما إذا اشتراها فطرأ عليها عيب بلا تعد منه، ولا تفريط فيجزئه أن يذبحها كذلك،، وكذلك إذا اشتراها فضلت أو ماتت أو سرقت بغير تفريط، فليس عليه شيء، وإذا عينها بشرائها بنية الأضحية أو تلفظ بذلك فلا يجوز أن يبدلها إلا بخير منها، لا يجوز أن يهبها، ولا يبيعها، ولا أن يذبحها قبل وقتها لأنها تعينت أضحية بعد طلوع الشمس من يوم العاشر من ذي الحجة، وبعد دخول وقت صلاة الضحى ومضي زمان يتسع فيه الوقت للصلاة، وهذا مهم لأهل البوادي الذين ربما لا يجيدون من يصلون معهم العيد فيعرفون الوقت المقدر فيذبحون، قال عليه الصلاة والسلام: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح " أي: ( قبل الوقت الشرعي )، " فإنما هو لحم قدم لأهله وليس من النسك في شيء ". رواه البخاري ومسلم. وقال عليه الصلاة والسلام:
" من كان ذبح قبل الصلاة فليعد وآخر وقت لذبحها غروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق"، يوم العيد وثلاثة أيام بعده عند بعض العلماء، وقال بعضهم: يوم النحر ويومان بعده، وجمهورهم على ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل أيام التشريق أيام ذبح "، حديث صحيح. وقال: " أيام تشريق أيام أكل وشرب وذكر لله "، فهي أيام منى.(/3)
عباد الله، أفضل وقت لذبحها في اليوم الأول بعد انقضاء صلاة العيد والخطبة، ويجوز أن تذبح ليلاً أو نهاراً، وعلى الوكيل أن يتقي الله فيما وكل به وإلا يعتذر من البداية، ولا يقبل التوكيل، فإن كثير من الوكلاء يضيعون وأفضل الأضاحي لوناً، ما أخبر به عليه الصلاة والسلام ما فعله إن كفى إلى كبشين أقرنين أملحين، الأملح: الذي فيه سواد وبياض يغلب عليه البياض وفيه شيء من السواد ما حول عينيه وما حول ركبتيه وما حول قدميه، وأخبر عليه الصلاة والسلام: " أن دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداويين "، ضحى النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه وأهل بيته، وبشر الفقراء بأضحية عنهم عما شهد بالتوحيد وله بالبلاغ، ضحى عن من لم يضحي من أمته، وهذا من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، وأما المسلم فيضحي بواحدة، وإذا كان له ضيوف فذبح لهم فوق الأضحية لأجل الضيوف فلا بأس، أما أضحيته فهي واحدة من الغنم، ويجوز أن يشترك سبعة في بقرة وفي بدنه، نية لله عند الذبح إنما الأعمال بالنيات، وأن يسوقها سوقاً جميلاً ولا يحد السكين بحضرتها، ولا يذبح أخرى بحضرتها، يضجعها يستقبل القبلة ويسمي ويكبر، ويشهد ذبحها إذا لم يكن هو الذي يذبحها، وإذا ذبحها بيده فهو أفضل يسمي ويكبر، ويدعوا بأن يتقبل الله منه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى ". رواه مسلم. وكذلك فإن المسلم يجوز له أن يضحي بأضحية قد وهبت له ولا يشترك في الشاة مع الواحد آخر، وإذا كانوا أهل بيت نفقتهم واحدة ومالهم مشترك فتكفيهم أضحية واحدة، وإن كان لكلاً منهم راتباً مستقلاً ونفقة مستقلة فعلى كل واحد أضحية إن أستطاع، ويحافظ عليها ولو كان في بطنها ولد فذكاته ذكاة أمه، وإذا ولد قبل ذبحها فإنه يذبحه أيضاً معها، يأكل منها ويتصدق ويطعم ولا ينسى الفقراء، ولا يجوز أن يباع شيء من جلدها، لا يجوز أن يباع شيء منها، ولا أن يعطى الجزار منها شيئاً كأجرةً أو جزءاً من الأجرة ولو الجلد، وإنما يتصدق به أو يستفيد منه، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً أن يقوم على بدنه وأن يتصدق بلحوهما وجلودها وأجلتها، قال:
" وأن لا أعطي الجزار منها "، وقال: " نحن نعطيه من عندنا "، أي: أجرة الذبح، ويتأكد أن يكون مسلماً أو كتابياً لا يذكر عليها أسم غير الله، فأما ذبح الهندوسي، والبوذي، والسيخي، والوثني، والمجوسي، فلا يجوز ذلك.
عباد الله، إذا اجتمعت أضحية وعقيقة فعجز عنهما قدم الأضحية لفضلها، ولأنه يفوت وقتها والأخرى وقتها فيه سعه.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يعظم شعائرك، اللهم أجعلنا بدينك قائمين، اللهم أجعلنا لأحكام الدين مطبقين، وبها عاملين، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه،، أنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، أشهد ألا إله إلا الله، وأصلي وأسلم على محمد رسول الله، أشهد أنه رسول الله حقاً، والداعي إلى الله، صاحب اللواء، والشافع المشفع، صاحب المقام المحمود يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله، لقد فرض الله الحج على عباده، { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً }، وهدد الذي يرفض الحج وهو قادر، { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين }، فيصح أن يحج ولو تبرع غيره له بالحج، ولو كان فريضة، كما يصح أن يضحي بأضحية قد أهداها غيره له، إذا ملك ما يزيد عن نفقته ونفقة عياله حتى يرجع فإنه يجب عليه أن يذهب للحج، ولابد للمرأة من محرم، ومن أراد الحج فليتعجل فقد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة،(/4)
لا يجوز للإنسان أن يمنع زوجته المقتدرة ومعها محرم من الحج، ولا أن يمنع أولاده البالغين إذا قدروا من الحج، إن فضله عظيم، " ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه "، لم يرفث ولم يفسق، إن الحاج ليتذكر بخروجه طاعة الله، لم يخرج ليطلق النظر في النساء الأجنبيات، ولا ليسمع الأغاني، ولا ليلعن ويشتم في حجه، والعجب من بعضهم يضع الكمام ثم يرفعه ليدخن!، إن الحاج لا يضيع صلاة من الصلوات، ولا يؤذي خلق الله في المزاحمة، وإنما يعين ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يفتي بغير علم بل يتقي الله ويسأل عما جهله، وإذا كان قد حج فريضته وأحتاج المسلمون حاجة للمال فإنه يقدم حاجة المسلمين على حج النافلة، ويصح أن يحج متمتعاً أو قارناً أو مفرداً، فيحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم بعد ذلك ينوي الحج ولو أنه ذهب قبل عرفة فطاف وسعى بنية العمرة وقصر ثم أحرم بالحج مباشرة، ولو لم ينزع عنه المناشف فإنه متمتع وعليه دم التمتع، لقد أتى بعمرة ثم بحج، وأما القارن والمفرد فإن الطواف واحد للحج والعمرة وكذلك السعي واحد للحج والعمرة ولكن على القارن دم، وليس على المفرد لكن المفرد يستحب له أن يهدي أيضاً، ولا يترك التمتع لأجل الدم فإن الله بين أن من لم يستطع دم التمتع فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج، السابع والثامن والتاسع، الثامن والتاسع والحادي عشر، التاسع والحادي عشر والثاني عشر، يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، ولا يترك فضل التمتع وبعض الناس يترك فضل التمتع هرباً من الدم.
عباد الله، إن توكيل المؤسسات بالدم لا يصيره صاحبه قارناً، ولا يصيره قد ساق الهدي، وإنما القران في حق من ساق الهدي من خارج الحرم إلى داخل الحرم، وكذلك من أحتاج للقران كالحائض التي أحرمت متمتعة فلم تتطهر وسيأتي عرفة فأدخلت الحج على العمرة بالنية وصارت قارنة، ينبغي الحرص على الإتيان بما أوجبه الله وأن يخرج الإنسان لطاعة الله، والصبيان يلزمون بما يلزم به الكبار، وإذا طاف به وليه بنية أن الطواف لهما فيصح ذلك، يكون الطواف به للاثنين معاً وبعض الناس يهتم جداً لأمور كبعض الروائح في الصوابيين ومعجون الأسنان، ولا يهتم لما هو أعظم منها من الأمور الخطيرة المتعلقة بالأركان، وربما فعل أموراً من المحرمات.
عباد الله، ينبغي الانتباه إلى الطهارة في الطواف في البيت العتيق، فربما نام نوماً مستغرقاً في الحافلة ولا ينتبه للوضوء كذلك،، فإنه يلبي الله عزوجل ولا يتوان عن التلبية فأجرها عظيم يشهده له كل من سمعه يلبي من جن وإنس وشجر وحجر يوم القيامة، إن تعظيم البيت العتيق بالطواف حوله كما أمر الله سبحانه وتعالى، وأن يكون المسلم على طهارة ومن لم يتمكن من الصلاة خلف المقام صلى في أي مكان، ويذكر ربه على الصفا وعلى المروة، ويتأكد من اكتمال الأشواط ومن كانت له أضحية في البلد فإنه يأخذ من شعره بعد العمرة إذا كان متمتعاً لأنه أقوى من ترك الأخذ من الشعر في الأضحية لأن ذاك واجب وهذا محظور فتعارض فتقدم رعاية الواجب في هذه الحالة، وأما الحاج الذي ليس له أضحية وإنما عنده هدي فهو يأخذ من شعره وأظفاره ما شاء إلى حين الإحرام، وكذلك فإن من أدرك عرفة قبل فجر يوم العاشر فقد أدرك الحج، وينبغي على الحجاج أن يعرفوا علامات عرفة ومزدلفة، فإن بعضهم إذا خرج من عرفة ربما ينزل قبل مزدلفة ويبقى إلى الفجر، فيفوته المشعر الحرام العظيم نتيجة عدم الانتباه للإشارات وإذا خرج من مزدلفة قبل منتصف الليل، لأي سبب وجب عليه الرجوع إليها، ولا يخرج من مزدلفة قبل منتصف الليل أبداً، كما لا يخرج من عرفة قبل الغروب.
عباد الله، يخالط بعض أصحاب العوائل يخالطهم بعض العزاب في الحافلات، فلو انطلقت بعد منتصف الليل وشق على من كان وحده أن يترك من معه من رفقته فلا بأس عليه بذلك، وجمهور العلماء أنه يصح الرمي والحلق والطواف والسعي بعد منتصف ليلة النحر، ولكن السنة أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس ثم ينحر ويحلق، ثم يذهب للطواف والسعي ويحرص على السنة ما أمكنه.
عباد الله، إن غلبت الظن بوصول الحصاة إلى المرمى كافية، وإذا تيقن فهو أحسن بلا وسوسة، وبعض الناس يقول: نجمع طواف الإفاضة مع طواف الوداع، والجواب نعم له ذلك،، وينويه إفاضة فيقوم مقام الوداع إذا أخره إلى آخر شيء ولم يترك بعده شيئاً من أعمال الحج، فيقوم طواف الإفاضة مقام طواف الوداع، ولا مغادرة لمنى قبل ظهر الثاني عشر من ذي الحجة، فإنه لا بد أن يرمي بعد الظهر ثم يتعجل، وإذا أخذ بأسباب التعجل وغربت الشمس فهو متعجل، ولا يضره الحبس في الحافلات في الطريق.(/5)
عباد الله، إنها أنساك عظيمة، وأحكام جليلة، شرعها الله سبحانه وتعالى فلا بد لنا من الحرص عليها، نحن في هذه العشر وفي الشتاء غنيمة العابدين وربيع المؤمنين، قال أبو هريرة رضي الله عنه: ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى، فقال: الصيام في الشتاء ليله طويل فلا تقصره بمنامك، ونهاره قصير فأنتهزه بصيامك.
عباد الله، لقد كان السلف يحنون إلى أيام الشتاء لأن ليلها طويل يستمتعون بقيامه، ونهارها قصير فيصومونه، ونحن قد سمعنا الخبر المؤلم بانهيار ذلك المبنى في مكة، ولكننا من جهة نستبشر لأولئك الذين قبضهم الله على طاعته، فعن ابن عباس قال: أؤتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل وقصته، (يعني: أسقطته ناقته)، فاندقت عنقه ومات وقصته راحلته فمات وهو محرم، فقال عليه الصلاة والسلام: " كفنوه في ثوبيه "، أي: في الإزار والرداء اللذين لبسهما في الإحرام، " واغسلوه بماء وسدر "، إذن لا يطيب لأنه لا زال محرماً فلا يوضع له طيب،
" واغسلوه بماء وسدر ولا تخمروا رأسه "، لا تغطوه ولا تستروه لأنه محرم، قال: " فإن الله يبعثه يوم القيامة يلبي "، يعني: يقول عند الحشر عندما يقوم الناس من قبورهم، لبيك اللهم لبيك، ليعلم أهل المحشر أنه مات محرماً فهنيئاً له، ثم إن من أنهدم عليه المكان فمات فإنه له أجر شهيد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " الشهداء خمسة المطعون، الذي أصيبه بالطاعون، والمبطون، قتل بداء البطن، المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله عزوجل "، فصاحب الهدم الذي يموت تحت الهدم وهو سقوط البناء عليه ووقوعه عليه، ولا يعارض هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوا، " اللهم إني أعوذ بك من الهدم وأعوذ بك من التردي وأعوذ بك من الغرق والحرق والهرم وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً وأعوذ بك أن أموت لديغاً ". رواه أبو داوود وهو حديث صحيح. لكن إذا جاء قدر الله فإن قدر الله لا مرد له وقد جعل لأصحاب الميتات الشديدة الصعبة هذا الأجر العظيم، فإذا كان محرماً وأنهدم عليه البناء فهو يبعث يوم القيامة ملبياً وله أجر شهيد، فهذا مما نستبشر به لهم، وأما الذين لا يخافون الله من أصحاب العمائر والمقاولين يبنونها على غير أساس صحيح، ويوفر في المال وينقص الأساسات اللازمة، ويدخل في المبنى ما لا يتحمله المبنى، ويتسبب في مثل هذه الكارثة، فويل له، ولقد كان إقبال الناس على أنقاض إخوانهم كان أمراً مشهوداً وشيئاً عظيماً يكتب لمن نواه لله تعالى في ميزان حسناته يوم القيامة.
اللهم تغمدهم برحمتك، اللهم تقبل منهم عملهم ولا تحرمهم من أجر الشهادة والحج، يا رب العالمين.
عباد الله، ويقابل هذا المصيرة بحج، وهدم، مصير طاغية اليهود في الجانب الآخر الذي أذاقه الله من عذاب الدنيا ما أذاقه، { ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً }، والظلم مرتعه وخيم ودعاء الظالمين مستجاب ولو بعد حين.
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم مرتعه يفضي إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه يدعوا عليك وعين الله لم تنم
الله يمهل ولا يهمل، فترى أيدي العصاة مطلقة فإذا زاد انبساطهم أخذهم أخذ جبار، يبلوا للصابر ويملي للظالم، فإذا أخذه فإنما هو أخذ أليم شديد، من الشر أسمه، وهو المسؤول عن قتل إخواننا في لبنان، وفلسطين، في بيت المقدس، وفي الشوارع، وذلك الشيخ على الكرسي المتحرك، والله ينتقم لعباده ولأوليائه.
عباد الله، إن في موت المؤمنين عبرة، وفي مصرع الظالمين عبر، وإن أخذ الله أليم شديد، ثقب صغير في القلب، يقهر الله به الأكاسرة والجبابرة ويفعل بهم الأفاعيل.
وقولي لمن دارت على الظالمين كأسهم أفيقوا فعقب الظالمين وبيل
{ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون }، وقد قال عزوجل: { ألا لعنة الله على الظالمين }.
فنسأل الله أن يأخذ طاغية اليهود ومن معه من قادتهم، ونسألهم أن ينكل بهؤلاء اليهود تنكيلاً، وأن يذيقهم من بأسه عذاباً وبيلاً، وأن يجعل خاتمتهم سيئة، وأن يجعل الدبرة عليهم، والهزيمة عاجلة، ونسأله أن ينصر الإسلام وأهله، وأن يعز عباده الموحدين، ونسأله أن يطهر بيت المقدس من دنس هؤلاء اليهود الظالمين، اللهم عجل فرج المسلمين، وأحفظ الحجاج والمعتمرين، والغزاة والمجاهدين والمقيمين من المسلمين، اللهم إنا نسألك أن تنشر رحمتك على بلادنا وبلاد المسلمين، اللهم أحفظ بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين، اللهم إنا نسألك في ربوعنا الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، اللهم أجعلنا ممن يحكم شرعك ويدافع عن دينك، اللهم أجعلنا بدينك مستمسكين، اللهم أنا نسألك أن تحيينا مؤمنين، وأن تتوفانا مؤمنين، وأن تلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، تقبل منا يا سميع الدعاء.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(/6)
الحج وتاريخه
248
فقه
الحج والعمرة
منصور الغامدي
الطائف
2/12/1419
أبو بكر الصديق
ملخص الخطبة
حكم الحج – قصة بناء إبراهيم عليه السلام البيت – فضل الحج – أحكام الحج وأقسامه - أعمال الحاج
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن الحج تلك الشعيرة العظيمة من شعائر ديننا العظيم، فرض فرضه الله على عباده إلى بيته العتيق مرة؛ في العمر لقوله عندما سئل عن الإسلام فقال ((أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إذا استطعت إليه سبيلاً))[1]، فمن أنكر فريضة الحج فقد كفر، ومن أقر بها وتركها تهاوناً فهو على خطر، قال عمر بن الخطاب : (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا من كان عنده جِدة فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين)، وقال علي بن أبي طالب : (استكثروا من الطواف بهذا البيت، قبل أن يحال بينكم وبينه).
إن بيت الله الحرام، هو منارة التوحيد، بناه إمام الموحدين وأمره الله أن يطهر بيته من الرجس والأوثان، إن قدر الله لغالب ألا مكان للوثنية والشرك عند بيته المحرم.
وللبيت قصة عجيبة، لقد جاء إبراهيم عليه السلام بهاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت العتيق، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما ماء وتمراً، ثم انطلق إبراهيم، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس ولا شيء، قالت ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال نعم، قالت: إذا لا يضيعنا. ثم انطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نَفِد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فقامت على الصفا ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحداً ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه، ثم تسمعت فسمعت أيضاً، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه بيدها، فشربت وأرضعت، فقال لها الملك: ((لا تخافوا الضيعة، فإن هذا البيت يبنيه هذا الغلام وأبوه)) رواه البخاري[2].
ويبني الخليل وابنه البيت، وأمر الله خليله إبراهيم عليه السلام بأن يؤذن في الناس بالحج قال تعالى: وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27]. فقال إبراهيم: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذ إليهم؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، هل الحج اسم لمكان معين؟ وقيل: على الصفا، وقيل على أبي قبيس. وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأجابه كل شيء سمعه من حجر وقدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة، لبيك اللهم لبيك.
وقد حث النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه على الحج ورغب فيه، وأنه يهدم ما قبله من سيئ العمل، فعن عمرو بن العاص قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت رسول الله فقلت: ابسط يدك فلأبايعك، فبسط، فقبضت يدي، فقال: ((مالك يا عمرو))؟ قلت: أشترط، قال ((تشترط ماذا))، قلت: أن يغفر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله))[3].
فالحاج الذي لم يرفث ولم يفسق يخرج طاهرا نقيا من الذنوب صغيرها وكبيرها.
قال : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه))[4]، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)) رواه أحمد وصححه الألباني[5].
وللحاج دعوة مستجابة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم))[6].
الحاج في حفظ الله تعالى، قال : ((ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى المسجد من مساجد الله، ورجل خرج غازياً في سبيل الله، ورجل خرج حاجاً))[7].(/1)
ومما جاء في فضل الحج وأنه منفاة للذنوب، حديث ابن عمر قال: قال رسول الله : ((أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام، فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك، يكتب الله بها لك حسنة، ويمحو عنك بها سيئة وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي ولم يروني فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج، أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك)) رواه الطبراني وحسنه الألباني[8].
إن في هذه الأحاديث دعوة ونداء إلى المبادرة بالحج، وغسل النفس من ذنوبها، فإن العبد لا يعلم متى موعد رحيله من هذه الدنيا، والحج أيام معدودات، من استطاع أن يلبي فيها نداء ربه ثم لم يفعل فهو المحروم، إن الحج إلى بيت الله الحرام وأجره وفضله، يحرك الساكن، ويهيج المشاعر والقلوب التي تطمع في مغفرة علام الغيوب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
---
[1] أخرجه مسلم : كتاب الإيمان – باب الإيمان والإسلام والإحسان ، حديث (8) ، والبخاري بنحوه : كتاب الإيمان – باب سؤال جبريل النبي من الإيمان والإسلام... حديث (50).
[2] صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء – باب يزفون : النسلان في المشيء ، حديث (3364).
[3] أخرجه مسلم : كتاب الإيمان – باب كون الإسلام يهدم ما قبله ... حديث (121).
[4] أخرجه البخاري : كتاب الحج – باب فضل الحج المبرور ، حديث (1521) ، ومسلم : كتاب الحج – باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة ، حديث (1350).
[5] أخرجه أحمد (1/387) ، والترمذي : كتاب الحج – باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة ، حديث (810) وقال : حسن صحيح ، والنسائي : كتاب مناسك الحج – باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة ، حديث (2630-2631) ، وأخرجه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (8/196) وقال : إسناده حسن ، وصححه الألباني : السلسلة الصحيحة (1200).
[6] أخرجه ابن ماجه : كتاب المناسك – باب فضل دعاء الحاج ، حديث (2893) ، والطبراني في الكبير (13556) ، وابن حبان : كتاب السير – باب فضل الجهاد – ذكر البيان بأن المجاهدين من وفد الله ... حديث (4613). قال البوصيري في الزوائد (1021) : هذا إسناد حسن ، عمران مختلف فيه. وقال الهيثمي في المجمع (3/211) : رجاله ثقات. وحسّنه الألباني بمجموع طرقه . انظر السلسلة الصحيحة (1820). فالحديث حسن أو صحيح.
[7] أخرجه الحميدي في مسنده (1090) ، وأبو نعيم في الحلية (1820). وصحيحه الألباني ، صحيح الجامع (3046) ، السلسلة الصحيحة (598).
[8] أخرجه عبد الرزاق : كتاب الحج – باب فضل الحج ، حديث (8830) والبزار (1/90 زوائد) والطبراني في الكبير (13566) ، وابن حبان : كتاب الصلاة – باب صفة الصلاة – ذكر وصف بعض السجود ... حديث (1887). قال الهيثمي في المجمع (3/275) : ورجال البزار موثقون. وحسنه الألباني ، صحيح الجامع (1373).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإذا عقد المسلم نيته على الحج فعليه أن يلبس ملابس الإحرام إزاراً ورداء، فيمر بالميقات وينوي الدخول في الحج بأحد الأنساك الثلاثة:
فإن كان متمتعاً يحرم بالعمرة وحدها ويقول إذا وصل الميقات: لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج، فإذا وصل إلى مكة، طاف وسعى سعي المعمرة ثم يحلق أو يقصر، فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة يوم التروية أحرم بالحج وحده وأتى بجميع أعماله، وإن أخر إحرامه إلى اليوم التاسع فلا حرج عليه لكنه خلاف السنة، وينحر الهدي في اليوم العاشر.
وإن أراد الحاج (الإفراد) يقول عند الميقات: لبيك حجاً، فإذا أخرّ سعيَ الحج سعى بعد طواف الإفاضة، ولا يحلق ولا يقصر ولا يحل من إحرامه، بل يبقى على إحرامه حتى يحل منه بعد رمي جمرة العقبة يوم العيد. والمفرد لا هدي عليه.(/2)
والنسك الثالث: القرآن، وهو أن يحرم بالعمرة والحج جميعا فيقرن بينهما، وعمل القارن مثل عمل المفرد سواء بسواء إلا أن القارن عليه هدي كالمتمتع، وصفة النية أن يقول: لبيك عمرة وحجاً، وفي اليوم الثامن يستحب التوجه إلى منى قبل الزوال فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء قصراً، ويبيت فيها فيصلي فجر التاسع، وفي اليوم التاسع ـ وهو يوم عرفة ـ يمكث الحاج بعد صلاة الفجر في منى إلى ما بعد شروق الشمس ثم ينطلق من منى إلى عرفة وهو يلبي أو يكبر، فإذا زالت الشمس صلى الحاج الظهر والعصر جمعاً وقصراً جمع تقديم بأذان واحدا وإقامتين، ولا يصلي قبلهما ولا بينهما شيئاً ويتفرغ الحاج بعد ذلك للذكر والدعاء والتضرع إلى الله ويدعو بما أحب رافعاً يديه ويكثر من التهليل فإنه خير الدعاء يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وكان للسلف أحوال من الرجاء في مغفرة الله، فكان أبو عبيدة الخواص يقول في الموقف: واشوقاه إلى من يراني ولا أراه، وكان بعد ما كبر يأخذ بلحيته ويقول: يا رب قد كبرت فأعتقني. قال ابن المبارك جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة، وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تهملان، فالتفت إلي فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له. وروي عن الفضيل أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً يعني سدس درهم، أكان يردهم؟ قالوا: لا قال: واللهِ لَلْمَغْفِرَةُ عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.
فإذا غربت الشمس أفاض الحجاج من عرفات إلى المزدلفة وعليهم السكينة والوقار، فإذا وصلوا المزدلفة صلوا المغرب والعشاء جمع تأخير قصراً، ويبيت في مزدلفة ويصلي فيها صلاة الفجر ويكثر من الذكر والدعاء بعد الصلاة ويلتقط سبع حصيات لرمي جمرة العقبة ثم يرمي جمرة العقبة مكبراً مع كل حصاة، ثم يحلق أو يقصر، ويطوف طواف الإفاضة، ويجوز تأخيره إلى اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر أو مع طواف الوداع، ثم السعي إن لم يسعَ أولاً. وعلى القارن والمتمتع نحر الهدي، وفي اليوم الحادي عشر يبيت في منى ويرمي الجمرة الصغرى فالوسطى فالكبرى بعد الزوال، يكبر مع كل حصاة ويدعو بعد الصغرى والوسطى، وكذا يفعل في اليوم الثاني عشر، لكن يجوز للحاج أن يتعجل فينفر من منى إلى مكة قبل غروب الشمس، ثم يطوف طواف الوداع، ومن أراد أن يتأخر إلى اليوم الثالث عشر ـ وهو الأفضل ـ يبيت في منى ثم يرمي الجمرات الثلاث ويطوف طواف الوداع وهو واجب في تركه دم إلا الحائض والنفساء.
أما والذي حج المحبون بيته ولبوا له عند المهل وأحرموا
وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعا لِعِزَّهِ من تعنوا الوجوهَ وتسلم
دعاهم فلبوه رضا ومحبة فلما دعوه كان أقرب منهم
وقد فارقوا الأوطان والأهل رغبة ولم تثنهم لَذَّاتُهم والتنعم
ولما رأت أبصارهم بيته الذي قلوب الورى شوقا إليه تضرم
فلله كم من عبرة مهراقة وأخرى على آثارها لا تقدم
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم
ويدنو به الجبار جل جلاله يباهي به أملاكه فَهْوَ أكرم
فأشهدكم أني غفرت ذنوبهمْ وأعطيتهم ما أمَّلوه وأنعم
فكم من عتيق فيه كمل عتقه وآخر يستسعي وربك أكرم
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله..(/3)
الحج ومظاهر التوحيد
إعداد/ معاوية محمد هيكل
الحمد لله الذي جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمناً، والصلاة والسلام على النبي المجتبى والرسول المرتضى صلى الله عليه وسلم وبعد ،،
فإن فريضة الحج تأتي على رأس العبادات التى تحقق التوحيد في أسمى معانيه فمظاهر العبودية في مناسك الحج ، ظاهرة وواضحة فقد جمع الله عز وجل فيه ألوان العبادات القلبية والقولية والبدنية والمالية، فإن أول شئ يبدأ به الحاج في هذه الشعيرة المباركة ويفتتح به ويستهل هي كلمة التوحيد، فهي المقصود الأعظم لهذا الدين كما يشتمل الحج على الصلاة وإنفاق المال والذبح لله عز وجل والصيام لمن لم يجد الهدي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر والحلم والشفقة والرحمة وتعليم الناس الخير وجهاد النفس ، وغير ذلك من ألوان العبادة، فأعظم بها من شعيرة وأكرم بها من عبادة.
والحج هو قصد البيت الحرام لأداء مناسك الحج أو العمرة، وكان الحج في شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث أمره ربه ببناء البيت والأذان في الناس بالحج كما أخبر الله عز وجل فقال : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [الحج:72-28]، فالحج عبادة جليلة القدر عظيمة الشأن فيها فوائد كثيرة منها غفران الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم : «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» [رواه البخاري 2/209]، ومنها شهود المنافع العظيمة التى قال عنها الله سبحانه وتعالى: ليشهدوا منافع لهم والمنافع كثيرة دينية ودنيوية، ومنها كذلك ذكر الله في الأيام المعلومات والأيام المعدودات بالتكبير والتلبية والوقوف بعرفة والمزدلفة وذبح القرابين ورمي الجمار والطواف والسعي والمبيت بمنى .
ومن منافع الحج العظيمة تعارف المسلمين حين يلتقون في تلك البقاع الطاهرة والمشاعر المقدسة في المسجد الحرام وفي صعيد عرفات وبقية المشاعر، يلتقون في زمن واحد وفي مكان واحد لأداء عبادة واحدة لرب واحد قال تعالى : إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون [الأنبياء:92].
الحج وسلوكيات الجاهلية
استمر الحج بعد إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام على الحنيفية السمحة لم تشُبْه شائبة ولكن مع مرور الأيام وتطاول الزمن دخله بعض التغيير في عهد الجاهلية؛ من ذلك:
1 ـ أنهم كانوا يضمنون تلبيتهم الشرك بالله عز وجل حيث يقولون: «لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك» فجعلوا لله شريكاً من عباده فرد الله عليهم بقوله: ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون [الروم:28]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضاً، فإذا لم تخافوا هذا من مواليكم ولم ترضوا هذا لأنفسكم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي وهم عبيدي؟!.
2 ـ وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويرون أن ذلك طاعةً أمر الله بها فرد الله عليهم بقوله: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون [الأعراف:28]، أي لا يليق بكماله وحكمته أن يأمر عباده بتعاطي الفواحش لا هذا الذي يفعله المشركون ولا غيره .
ثم أمرهم ربنا سبحانه وتعالى باللباس وستر العورة في الصلاة والطواف وغيرهما فقال سبحانه: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين [الأعراف:31].
3 ـ وكان سكان الحرم لا يقفون مع الناس في عرفة ، بل يقفون في المزدلفة لأنهم بزعمهم من أهل الحرم ولا يجوز لهم الخروج منه ويتعظمون أن يقفوا مع سائر العرب في عرفات فرد الله عليهم ذلك وأمرهم بأن يقفوا بعرفات ويفيضوا منها إلى مزدلفة مع سائر الناس وأخبرهم أنه سنة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام فقال سبحانه : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم [البقرة:199].
فأعاد الله سبحانه وتعالى الحج كما كان على ملة إبراهيم على يد محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم على التوحيد الخالص وباللباس الساتر والوقوف بالمشاعر، وأعلن للناس قبل أن يحج بقوله: «لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» [رواه البخاري4/69] عملاً بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم [التوبة:28] وبقوله تعالى : وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود [الحج:26].
مظاهر التوحيد تتجلى في مناسك الحج(/1)
لقد أمر الله بأداء الحج والعمرة فقال سبحانه وتعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [البقرة:196]، مما يدل على أن كل حج وعمرة لا يتوفر فيهما التوحيد فليسا مقبولين عند الله. وقد جعل الله مناسك الحج مظاهر لتوحيده، فمن مظاهر التوحيد في الحج:
أولا: رفع الأصوات بعد الإحرام بالتلبية لله ونفي الشريك عنه وإعلان انفراده بالحمد والنعمة والملك: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك» يرددها المحرمون بين كل فترة وأخرى حتى يشرعوا في أداء المناسك.
فالحج من أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس حيث ينصرف العباد إلى مقتضى الاسترقاق ، وتظهر فيه معاني العبودية المحضة عندما تعظم شعائر الله ، ولذلك لبى أنس رضي الله عنه: «لبيك بحجة حقاً، لبيك تعبداً ورِقًا» ولبى غيره «لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل، لبيك وسعديك والخير كله بيديك، والرغباء إليك والعمل».
والتزم النبي صلى الله عليه وسلم قول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».
وكلها إعلان بتوحيد الله عز وجل وإدامة للطاعة والعبودية له ، والاعتراف بفضله سبحانه، وهي في ذات الوقت مجانبة للمشركين الذين كانوا يلبون كما سبق بيانه. والمسلم يستشعر وهو يلبي قيمة العقيدة التي توحد قلوب العباد، ويعلم بتجاوب الكون من حوله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ملبٍ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا» [رواه ابن ماجه وصححه الألباني برقم (1292)]
فالتلبية يتجلى فيها الإخلاص بأسمى معانيه، فهي كلمات عظيمة لها دلالات كبيرة في تحقيق الإيمان والتوحيد لأنها تعني الاستجابة لله تعالى بالحج كما أمر الله سبحانه، كما تشتمل على معاني المحبة والإجلال والتعظيم لله عز وجل لأن عبارة «لبيك» لا تصدر إلا لمن يحب، ولا يستحق ذلك كمالاً وتقديساً وتعظيماً إلا ربنا عز وجل، فالتلبية من اللب ولب الشئ خلاصته، والتلبية كذلك فيها إثبات لصفات الكمال لله تعالى والإقرار به مثل الكلام والسمع والقرب، كما تضمنت التلبية كل معاني التوحيد لله تعالى بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وكذلك إبطال الشرك والإلحاد.
وإعلان التلبية من المسلم هي تهيئة للنفس للاستجابة لدين الله عز وجل وشرعه، والاستعداد لقبول أوامر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في أعمال الحج وغيرها والكف عن المحظورات وأن العبد مستعد لإصلاح شأنه ظاهرًا وباطنًا.
ثانيًا: ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج أن الله تعالى أمر بالطواف ببيته، فقال تعالى: وليطوفوا بالبيت العتيق [الحج:29]، مما يدل على أن الطواف خاص بهذا البيت فلا يجوز الطواف ببيتٍ غيره على وجه الأرض ولا بالأضرحة ولا بالأشجار والأحجار، ومن هنا يعلم الحاج أن كل طواف بغير البيت العتيق فهو باطل وليس عبادة لله عز وجل، وإنما هو عبادة لشياطين الإنس والجن، ومن أعجب العجب أن بعض الحجاج يعتقدون أن حجهم لا يكتب له الكمال بل لا يقبل إلا إذا عادوا إلى أوطانهم وطافوا حول أضرحة الأولياء بزعمهم، فبعدًا لقومٍ لا يفقهون.
ثالثًا: ومن مظاهر توحيد العبادة في الطواف بالبيت العتيق أن الطائف حين يستلم الركن اليماني والحجر الأسود يعتقد أنه يستلمهما لأنهما من شعائر الله، فهو يستلمهما طاعة لله واقتداءً برسوله صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما استلم الحجر وقبله: «والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك».
ومن هنا يعلم المسلم أنه لا يجوز تقبيل شيء من الأبنية والأحجار إلا الحجر الأسود؛ لأن ذلك مخالف لشرع الله، ولأنها ليست من شعائر الله. بل من مناسك الجاهلية.
رابعًا: ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج أن الحاج حينما يفرغ من الطواف ويصلي الركعتين فإنه يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثانية يقرأ (سورة الإخلاص)، لما تشتمل عليه هاتان السورتان من توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ففي السورة الأولى البراءة من دين المشركين وإفراد الله بالعبادة ، وفي السورة الثانية إفراد الله بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النقص، وبذلك يعرف العبد ربه ويخلص له العبادة ويتبرأ من عبادة ما سواه من خلال هذا الدرس العملي العظيم .
خامسًا: ومن مظاهر توحيد العبادة في السعي بين الصفا والمروة أن العبد يسعى؛ امتثالاً لقوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [البقرة:158].
ومن ذلك يتعلم المسلم أنه لا يجوز السعي في أي مكان من الأرض إلا بين الصفا والمروة ؛ لأنهما من شعائر الله.(/2)
سادسًا: ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج أن أعظم الذكر الذي يقال في يوم عرفة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير»، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء دعاء عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير» ، فهذا إعلان في هذا المجمع العظيم وفي هذا اليوم المبارك لتوحيد العبادة من خلال النطق بهذه الكلمة وتكرارها لأجل أن يستشعر الحاج مدلولها ويعمل بمقتضاها فيؤدي أعمال حجه خالصة لله عز وجل من جميع شوائب الشرك.
سابعًا: ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج ما شرعه الله في يوم العيد وأيام التشريق من ذكره وحده ، قال تعالى : واذكروا الله في أيام معدودات [البقرة:203]
وذكر الله في هذه الأيام يتجلى في الأعمال العظيمة التي تؤدى في أيام منى من رمي الجمار وذبح الهدي وأداء الصلوات الخمس في هذه الأيام المباركة، كل هذه الأعمال ذكر لله عز وجل.
فرمي الجمار ذكر لله؛ ولهذا يقول المسلم عند رمي كل حصاة: (الله أكبر)، وذبح الهدي ذكر لله عز وجل، كما قال تعالى: ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [الحج:28]، وقال تعالى: والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون (36) لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين [الحج:36-37].
ومن هنا يتعلم المسلم أن الذبح عبادة لا يجوز صرفها لغير الله ، فلا يذبح لقبر ولا لولي ولا لجني أو مخلوق ؛ لأن الذبح عبادة وصرف العبادة لغير الله شرك .
ثامنًا: ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج أن الله أمر بذكره أثناء أداء مناسكه وبعد الفراغ منها، فقال تعالى: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق (200) ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (201) أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (202) واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون [البقرة:200-203].
شعائر الحج رد على دعاة إتباع العقل
تاسعًا: ومن مظاهر التوحيد أن الحج تحدٍ لعُبَّاد العقل ، ودعوة إلى الإيمان بالغيب وإتباع الأمر المجرد بعيداً عن العادات والمألوفات والحضارة المصطنعة والمجتمع القاسي، فالبيت الحرام يزوره الناس من كل فج عميق، شعثاً غبراً متواضعين لرب ذلك البيت ومستكينين له خضوعاً لجلاله . ليكون ذلك أبلغ في رقهم وعبوديتهم وأتم في إذعانهم وانقيادهم ولذلك وظف عليهم في الحج أعمالاً لا تهتدي إلى معانيها العقول كرمي الجمار بالأحجار والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية الم(1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [العنكبوت:1-3] والحكمة ظاهرة في الصلاة والزكاة والصيام، أما أعمال الحج فلا اهتداء للعقل إلى معانيها، فلا يكون في الإقدام عليها إلا باعث الأمر المجرد وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الإتباع فقط . ولذلك قال أنس: لبيك بحجة حقاً تعبداً ورِقًا، ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها.
وعباد الرحمن إذا عرض لهم الشيطان بخاطر أو وساوس فقال لهم: سعت هاجر فلماذا تسعى ، ورمى إبراهيم لما عرض إبليس له فلماذا ترمي ؟ فاعلم أنها وسوسة ولابد من إرغام أنف الشيطان ، ولأن تخر من السماء إلى الأرض أهون عليك من أن تجد ما تجد فأنت عبد لله إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [الأعراف:201].
الحج إذعان للواحد الديان
وختامًا فالحج طاعة يتقلب بها الحاج بين المشاعر، يقيم ويرحل ويمكث ويتنقل ويخيم ويقلع ليست له حرية ولا اختيار ولا حكم إلا الامتثال فهو طوع إشارة ورهين أمر ، وهكذا كانت حياة إبراهيم وحياة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، نزول وارتحال ومكث وانتقال وعقد وحل ونقض وإبرام ووصل وهجر لا خضوع لعادة ولا إجابة لشهوة ولا اندفاع للهوى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفه: «كونوا على مشاعركم فإنكم على إرث إبراهيم». [رواه الترمذي وقال حسن]
ولا يملك المسلم في النهاية إلا أن يهتف بقوله تعالى : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [الأنعام:162-163].
والحمد لله رب العالمين(/3)
الحجاب إيمان طهارة تقوى حياء عفة
دار القاسم ... ...
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد لقيت المرأة المسلمة من التشريع الإسلامي عناية فائقة كفيلة بأن تصون عفتها، وتجعلها عزيزة الجانب، سامية المكان، وإن الشروط التي فرضت عليها في ملبسها وزينتها لم تكن إلا لسد ذريعة الفساد الذي ينتج عن التبرج بالزينة، وهذا ليس تقييداً لحريتها بل هو وقاية لها أن تسقط في درك المهانة، ووحل الابتذال، أو تكون مسرحاً لأعين الناظرين.
فضائل الحجاب
الحجاب طاعة لله عز وجل وطاعة للرسول فقال: [الأحزاب:36].
وقد أمر الله سبحانه النساء بالحجاب فقال تعالى: [النور:31].
وقال سبحانه: [الأحزاب:33]، وقال تعالى: [الأحزاب:53]، وقال تعالى: [الأحزاب:59].
وقال الرسول يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ : { إن الله حيي ستير، يحب الحياء والستر }، وقال يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ : { إن لكل دين خلقاً، وإن خلق الإسلام الحياء }، وقال
ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئاً، قال رسول الله : { سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات }.
التبرج من صفات أهل النار
قال رسول الله أنه قال: { مثل الرافلة في الزينة في غير أهلها، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها }، يريد أن المتمايلة في مشيتها وهي تجر ثيابها تأتي يوم القيامة سوداء مظلمة كأنها متسجدة في ظلمة والحديث – وإن كان ضعيفاً – لكن معناه صحيح وذلك لأن اللذة في المعصية عذاب، والطيب نتن، والنور ظلمة، بعكس الطاعات فإن خلوف فم الصائم ودم الشهيد أطيب عند الله من ريح المسك.
التبرج نفاق
قال النبي : { أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها، فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل }.
التبرج فاحشة
فإن المرأة عورة وكشف العورة فاحشة ومقت قال تعالى: [الأعراف:28]، والشيطان هو الذي يأمر بهذه الفاحشة [البقرة:268].
التبرج سنة إبليسية
إن قصة آدم مع إبليس تكشف لنا مدى حرص عدو الله إبليس كشف السوءات، وهتك الأستار، وأن التبرج هدف أساسي له، قال تعالى: [الأعراف:27].
فإذن إبليس هو صاحب دعوة التبرج والتكشف، وهو زعيم زعماء ما يسمي بتحرير المرأة.
التبرج طريقة يهودية
لليهود باع كبير في مجال تحطيم الأمم عن طريق فتنة المرأة وهم أصحاب خبرة قديمة في هذا المجال، حيث قال النبي وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى دعوى الجاهلية بأنها منتنة أي خبيثة فدعوى الجاهلية شقيقة تبرج الجاهلية، وقد قال النبي : { لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا }.
ومنها: تسهيل معصية الزنا بالعين: قال عليه الصلاة والسلام: { العينان زناهما النظر } وتعسير طاعة غض البصر التي هي قطعاً أخطر من القنابل الذرية والهزات الأرضية.قال تعالى: [الإسراء:16]، وجاء في الحديث: { أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعذاب }.
فيا أختي المسلمة:
هلا تدبرت قول الرسول غير مبال بما عليه تلك الكتل الضالة التائهة، الذاهلة عن حقيقة واقعها والغافلة عن المصير الذي ينتظرها.
وقد نفى الله عز وجل الإيمان عمن تولى عن طاعته وطاعة رسوله وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان ).
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://www.kalemat.org(/1)
الحجاب عبادة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، أما بعد :
أختي المسلمة!
لقد دأبت بعضُ الأقلام بين فينةٍ وأخرى على النيلِ من حجابك والهجوم عليه، واصفةً إياه بالتخلف والرجعية وعدم مواكبة التطور الذي نشهده، والقرن الذي نحن على مشارفه، حيث إننا نعيش عصر الفضائيات والاتصالات والعولمة وتلاقح الأفكار وغير ذلك من مظاهر التقدم العلمي والتكنولوجي .
وقد انقسم هؤلاء المبهورون بمدنية الغرب إلى أقسام عدة :
فمنهم من أنكر فرضية الحجاب بالكلية، وزعم أنه من خصوصيات العصور الإسلامية الأولى !! .
ومنهم من أنكر غطاء الوجه وراح يدعو إلى السفور والاختلاط، زاعماً أن ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تغطية وجه المرأة، وأن ذلك من قبيل العادات الموروثة التي فرضها المتشددون ! .
ومنهم من تخبَّط فقال : إن الحجاب سجن يجب على المرأة أن تتحرر منه حتى تستثمر طاقاتها في مواكبة العصر، ومشاركة الرجل مسيرته التقدمية نحو آفاق المدنية الحديثة ! .
ومنهم من طبق المثل القائل : "رمتني بدائها وانسلَّت" فزعم أن الذين يدعون إلى الحجاب ونبذ التبرج والسفور ينظرون إلى المرأة نظرة جسدية،ولو أنهم تركوا المرأة تلبس ما تشاء لتخلَّص المجتمع من هذه النظرة الجسدية المحدودة!! .
وهؤلاء جميعاً قد اشتركوا في الجهل والدعوة إلى الضلال، شاءوا أم أبوْا .
والأمر في ذلك كما قال الشاعر :
فإن كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ *** وإن كنت تدري فالمصيبةُ أعظمُ
أما حقيقة هؤلاء فلا تخفى على ذي عينين ! .
وأما كلامهم فباطل باطل، يبطل أولُه آخرَه، وآخرُه أولَه، قال تعالى : } وَلَتَعرِفَنهُم فِي لَحنِ القَولِ وَاللهُ يَعلَمُ أَعمالَكُم{ [ محمد : 30 ] .
وأما دعوتهم فمؤامرة مكشوفة على المرأة المسلمة، وعلى الأسرة والمجتمع والأمة بأسرها .
ومع ذلك فقد نجح هؤلاء في السيطرة على عقول بعض نسائنا، فأغروهن بكلامهم المعسول وعباراتهم البراقة التي تحمل في طيَّاتها الهلاك والدمار، فظننَّ أن هؤلاء هم المدافعون عن قضايا المرأة وحقوقها، وجهلن أن الإسلام قد صان المرأة أتمَّ صيانة، ورفع مكانتها في جميع مراحل حياتها، طفلةً وبنتاً وزوجة وأُمًّا وجدة .
ولما كان الأمر كما قال الشاعر :
لكلِّ ساقطةٍ في الحيِّ لاقطةٌ........... وكلُّ كاسدةٍ يوماً لها سوقُ
فقد تعيَّن الردُّ على هؤلاء ودحض شبهاتهم، وتفنيد كلامهم، وكشف عوار أحاديثهم وزيف أطروحاتهم، لعلهم يعودوا لرشدهم ويتخلوا عن باطلهم .
الحجاب عبادة
الحجاب عبادة من أعظم العبادات وفريضة من أهم الفرائض؛ لأن الله تعالى أمر به في كتابه، ونهى عن ضده وهو التبرج، وأمر به النبي صلى الله عليه و سلم في سنته ونهى عن ضده، وأجمع العلماء قديماً وحديثاً على وجوبه لم يشذّ عن ذلك منهم أحد، فتخصيص هذه العبادة – عبادة الحجاب – بعصر دون عصر يحتاج إلى دليل، ولا دليل للقائلين بذلك ألبتة . ولذلك فإننا نقول ونكرر القول : "لا جديد في الحجاب" .
ولو لم يكن الحجاب مأموراً به في الكتاب والسنة، ولو لم يرد في محاسنه أيُّ دليل شرعي، لكان من المكارم والفضائل التي تُمدح المرأة بالتزامها والمحافظة عليها، فكيف وقد ثبتتْ فرضيَّتُه بالكتاب والسنة والإجماع؟!.
أدلة الحجاب من الكتاب والسنة
وفي هذه الأدلة برهان ساطع على وجوب الحجاب، وإفحامٌ واضح لمن زعم أنه عادة موروثة أو أنه خاصٌّ بعصور الإسلام الأولى.
أولاً : أدلة الحجاب من القرآن :
الدليل الأول : قوله تعالى : { وَقُل للمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِن وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُن وَلاَ يُبدِينَ زِينَتَهُن إِلا مَا ظَهَرَ مِنهَا وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِن عَلَى جُيُوبِهِن وَلاَ يُبدِينَ زِينَتَهُن } إلى قوله: { وَلاَ يَضرِبنَ بِأَرجُلِهِن لِيُعلَمَ مَا يُخفِينَ مِن زِينَتِهِن وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيهَا المُؤمِنُونَ لَعَلكُم تُفلِحُونَ} [ النور:30 ] .
قالت عائشة رضي الله عنها : "يرحم الله نساء المهاجرات الأُول؛ لما أنزل الله : } وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِن عَلَى جُيُوبِهِن{ شققن مروطهن فاختمرن بها" [ رواه البخاري ] .
الدليل الثاني : قوله تعالى : { وَالقَوَاعِدُ مِنَ النسَاء اللاتي لاَ يَرجُونَ نِكَاحاً فَلَيسَ عَلَيهِن جُنَاحٌ أَن يَضَعنَ ثِيَابَهُن غَيرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَستَعفِفنَ خَيرٌ لهُن وَاللهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ } [ النور : 60 ] .
الدليل الثالث : قوله تعالى :{ يأَيهَا النبِي قُل لأزواجِكَ وَبَناَتِكَ وَنِسَاء المُؤمِنِينَ يُدنِينَ عَلَيهِن مِن جَلابِيبِهِن ذلِكَ أَدنَى أَن يُعرَفنَ فَلاَ يُؤذَينَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رحِيماً } [ الأحزاب : 59 ] .
الدليل الرابع : قوله تعالى :{ وقَرنَ فِي بُيُوتِكُن وَلاَ تَبَرَّجنَ تَبَرجَ الجاَهِلِيةِ الأولَى } [ الأحزاب : 33 ] .(/1)
الدليل الخامس : قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلتُمُوهُن مَتَاعاً فاسأَلُوهُن مِن وَرَاء حِجَابٍ ذلِكُم أَطهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِن} [ الأحزاب : 53 ] .
ثانياً : أدلة الحجاب من السنة :
الدليل الأول : في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله، احجب نساءك . قالت عائشة : فأنزل الله آية الحجاب . وفيهما أيضاً : قال عمر : يا رسول الله، لو أمرتَ أمهات المؤمنين بالحجاب . فأنزل الله آية الحجاب .
الدليل الثاني : عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : "المرأة عورة" [ الترمذي وصححه الألباني ] .
الدليل الثالث : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "من جرَّ ثوبه خُيَلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقالت أم سلمة رضي الله عنها : فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال : "يرخين شبراً" فقالت : إذن تنكشف أقدامهن . قال : "فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه" [ رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح ] .
أدلة سَتر الوجه من الكتاب والسنة
أولاً : قوله تعالى : { وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِن عَلَى جُيُوبِهِن} [ النور : 30 ] .
قال العلامة ابن عثيمين : "فإن الخمار ما تخمِّر به المرأة رأسها وتغطيه به كالغدقة، فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على جيبها كانت مأمورة بستر وجهها" .
ثانياً : قوله تعالى : { يأَيهَا النبِي قُل لأزواجِكَ وَبَناَتِكَ…} [ الأحزاب : 59 ] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلاليب" . قال الشيخ ابن عثيمين : "وتفسير الصحابي حجة، بل قال بعض العلماء إنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم ".
ثالثاً : عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : "لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين" [ رواه البخاري ] .
قال القاضي أبو بكر بن العربي : "قوله في حديث ابن عمر: "لا تنتقب المرأة المحرمة" وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها" .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وهذا مما يدلّ على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن" .
رابعاً : في قوله صلى الله عليه و سلم : "المرأة عورة" دليل على مشروعية ستر الوجه . قال الشيخ حمود التويجري : "وهذا الحديث دالّ على أن جميع أجزاء المرأة عورة في حق الرجال الأجانب، وسواءٌ في ذلك وجهها وغيره من أعضائها" .
جهل أم عناد؟!
إليكم يا من تزعمون أن حجاب المسلمة لا يناسب هذا العصر!!
إليكم يا من تدّعون أن تغطية الوجه من العادات العثمانية!!
إليكم يا من تريدون إخراج المرأة من بيتها واختلاطها بالرجال في كل مكان .
هذه آيات القرآن أمامكم فاقرءوها.. وهذه أحاديث النبي محمد صلى الله عليه و سلم بين أيديكم فادرسوها ... وهذا فهم أئمة الإسلام من السلف والخلف يدل على وجوب الحجاب وستر الوجه فاعقلوه . فإن كنتم جهلتم هذه الآيات والأحاديث في الماضي فها هي أمامكم، ونحن ننتظر منكم الرجوع إلى الحق وعدم التمادي في الباطل؛ فإن الرجوع إلى الحق فضيلة، والإصرار على الباطل شر ورذيلة .
أما إذا كنتم من الصنف الذي وصفه الله تعالى بقوله : } وَجَحَدُوا بِهَا وَاستَيقَنَتهَا أَنفُسُهُم ظُلماً وَعُلُواً { [ النمل : 14] فإنكم لن تنقادوا للحق، ولن ترجعوا إلى الصواب، وإن سردنا لكم عشراتٍ بل مئاتِ الآيات والأحاديث، لأنكم – بكل بساطة – لا تؤمنون بكون الإسلام منهج حياة، وبكون القرآن صالحاً لكلّ زمان ومكان . قال تعالى : } أَفَحُكمَ الجَاهِلِيةِ يَبغُونَ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللهِ حُكماً لقَومٍ يُوقِنُونَ { [المائدة : 50] .
الحجاب والمدنية
يرى دعاة المدنية أن الحجاب مظهر من مظاهر التخلف، وأنه يمنع المرأة من الإبداع والرقي، وهو عندهم من أكبر العقبات التي تحول بين المرأة وبين المشاركة في مسيرة الحضارة والمدنية، وفي عملية البناء التي تخوضها الدول النامية للوصول إلى ما وصلت إليه الدول المتقدمة من رقي وتمدن !!
ونقول لهؤلاء : ما علاقة الحجاب بالتقدم الحضاري والتكنولوجي؟ !
هل من شروط الحضارة والمدنية أن تخلع المرأة ملابسها وتتعرَّى أمام الرجال؟ !
هل من شروط الحضارة والمدنية أن تشارك المرأة الرجل متعته البهيمية وشهواته الحيوانية؟ !
هل من شروط الحضارة والمدنية أن تكون المرأة جسداً بلا روح ولا حياء ولا ضمير ؟ !
هل الحجاب هو السبب في عجزنا عن صناعة السيارات والطائرات والدبابات والمصانع والأجهزة الكهربائية بشتى أنواعها؟!
لقد تخلت المرأة المسلمة في معظم الدول العربية والإسلامية عن حجابها، وألقته وراء ظهرها، وداست عليه بأقدامها، وخرجت لتعمل مع الرجل، وشاركته معظم ميادين عمله !!.(/2)
فهل تقدمت هذه الدول بسبب تخلِّي نسائها عن الحجاب؟!
وهل لحقت بركب الحضارة والمدنية بسبب اختلاط الرجال بالنساء؟!
وهل وصلت إلى ما وصلت إليه الدولُ المتقدمة من قوة ورقيّ؟!
وهل أصبحت من الدول العظمى التي لها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ؟!
وهل تخلصت من مشاكلها الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والأخلاقية؟!
الجواب واضح لا يحتاج إلى تفصيل . فلماذا إذن تدعون إلى التبرج والسفور والاختلاط يا دعاة المدنية والحضارة؟!!
نعم للتعليم .. لا للتبرج
إن المرأة في هذه البلاد – ولله الحمد – وصلت إلى أرقى مراتب التعليم، وحصلت على أعلى الشهادات التعليمية، وهي تعمل في كثير من المجالات التي تناسبها، فهناك الطبيبة، والمعلمة، والمديرة، وأستاذة الجامعة، والمشرفة والباحثة الاجتماعية، وكلّ هؤلاء وغيرهن يؤدين دورهن في نهضة الأمة وبناء أجيالها، لم يمنعهن من ذلك حجابهن وسترهن وحياؤهن وعفتهن .
لقد أثبتت المرأة المسلمة – في هذه البلاد – أنها تستطيع خدمة نفسها ومجتمعها وأمتها دون أن تتعرض لما تعرضت له المرأة في كثير من البلدان من تبذُّلٍ وامتهان، ودون أن تكون سافرة أو متبرجة أو مختلطة بالرجال الأجانب .
إن هذه التجربة التي خاضتها المرأة في بلادنا تثبت خطأ مقولة دعاة التبرج والاختلاط : "إن النساء في بلادنا طاقات معطَّلة لا يمكن أن تُستَثمر إلا إذا خلعت حجابها وزاحمت الرجال في مكاتبهم وأعمالهم" .} كَبُرَت كَلِمَةً تَخرُجُ مِن أَفوَاهِهِم إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا{ [ الكهف : 5 ] .
ماذا يريدون؟!
إن هؤلاء لا يريدون حضارة ولا مدنية ولا تقدماً ولا رقياً .. إنهم يريدون أن تكون المرأة قريبة منهم .. يريدونها كلأً مباحاً لشهواتهم .. يريدونها سلعةً مكشوفةً لنزواتهم … يريدون العبث بها كلما أرادوا .. والمتاجرة بها في أسواق الرذيلة .. إنهم يريدون امرأة بغير حياء ولا عفاف .. يريدون امرأة غربية الفكر والتصور والهدف والغاية .. يريدون امرأة تجيد فنون الرقص .. وتتقن ألوان الغناء والتمثيل .. يريدون امرأة متحررة من عقيدتها وإيمانها وطهرها وأخلاقها وعفافها.
الرد على من اتهم الدعاة إلى الحجاب
أما هؤلاء، فحدّث عنهم ولا حرج .. إنهم يكذبون .. ويعلمون أنهم يكذبون .. يقولون : إن الدعاة إلى الفضيلة ينظرون إلى المرأة نظرة جسدية، أما إذا تُركت المرأة تلبس ما تشاء فسوف تختفي تلك النظرة وسوف يكون التعامل بين الرجل والمرأة على أساس من الاحترام المتبادل .
والحقيقة التي لا مراء فيها تكذِّب هذه الدعوى وتفضح تلك المقولة .
والدليل على ما أقول هو ما يحدث الآن في المجتمعات التي تلبس فيها المرأة ما تشاء، وتصاحب من تشاء .. هل خَفَّ في هذه المجتمعات سعار الشهوة؟ وهل كان التعامل فيها بين الرجل والمرأة على أساس من الاحترام المتبادل؟
يجيب على ذلك تلك الإحصائيات :
1- أظهرت إحدى الإحصائيات أن 19 مليوناً من النساء في الولايات المتحدة كُنَّ ضحايا لعمليات الاغتصاب !! [ كتاب : يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة ] .
2- أجرى الاتحاد الإيطالي للطب النفسي استطلاعاً للرأي اعترف فيه 70% من الإيطاليين الرجال بأنهم خانوا زوجاتهم [ تأملات مسلم ] .
3-في أمريكا مليون طفل كل عام من الزنا ومليون حالة إجهاض [ عمل المرأة في الميزان ] .
4-في استفتاء قامت به جامعة كورنل تبين أن 70% من العاملات في الخدمة المدنية قد اعتُدي عليهن جنسيًّا وأن 56% منهن اعتدي عليهن اعتداءات جسمانية خطيرة [ المرأة ماذا بعد السقوط ؟ ] .
5-في ألمانيا وحدها تُغتصب 35000 امرأة في السنة، وهذا العدد يمثل الحوادث المسجلة لدى الشرطة فقط أما حوادث الاغتصاب غير المسجلة فتصل حسب تقدير البوليس الجنائي إلى خمسة أضعاف هذا الرقم [ رسالة إلى حواء ] .
ألا تدل هذه الأرقام والإحصائيات على خطأ دعوى هؤلاء ومقولتهم ؟ أم أن هذه الأرقام والإحصائيات هي جزء من الاحترام المتبادل بين الرجل والمرأة الذي يريده هؤلاء ؟ !
فاعتبروا يا أولي الأبصار
يا فتاة الإسلام :(/3)
إن الحجاب أعظم معين للمرأة للمحافظة على عفَّتها وحيائها، وهو يصونها عن أعين السوء ونظرات الفحشاء، وقد أقرَّ بذلك الذين ذاقوا مرارة التبرج والانحلال واكتووا بنار الفجور والاختلاط، والحقُّ ما شهدت به الأعداء!! تقول الصحفية الأمريكية (هيلسيان ستاسنبري) بعد أن أمضت في إحدى العواصم العربية عدة أسابيع ثم عادت إلى بلادها : "إن المجتمع العربي كامل وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيّد الفتاة والشاب في حدود المعقول . وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأوربي والأمريكي، فعندكم أخلاق موروثة تحتِّم تقييدَ المرأة، وتحتم احترام الأب والأم، وتحتم أكثر من ذلك عدم الإباحية الغربية، التي تهدم اليوم المجتمع والأسرة في أوربا وأمريكا .. امنعوا الاختلاط، وقيّدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوربا وأمريكا" [ من : رسالة المرأة وكيد الأعداء ] .
فيا فتاة الإسلام :
هذه امرأة أمريكية تدعو إلى الحجاب بعد أن رأت التمزق الأسري والانحلال الخلقي يعصف بمجتمعها .
أمريكية توصينا بالتمسك بأخلاقنا الإسلامية الجميلة، وعاداتنا الحسنة .
أمريكية تحذرنا من مغبَّة الاختلاط والإباحية التي أدت إلى فساد المجتمعات في أوربا وأمريكا .
فأبشري يا فتاة الإسلام .. وقَرّي بحجابك عيناً .. واعلمي أن المستقبل لهذا الدين .. وأن العاقبة للمتقين ولو كره الكارهون.
إعداد
القسم العلمي بدار الوطن ...(/4)
الحجاب
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تحذير الله ورسوله للمؤمنين من اتباع أهل الكتاب ومشابهتهم. 2- الدعوة للسفور والرد عليها بنصوص الكتاب والسنة. 3- شرح آيات الحجاب. 4- الكشف بين الأقارب من غير المحارم. 5- تحذير النبي النساء. 6- النقاب والرد على دعاة كشف الوجه. 7- مصافحة الأجنبية. 8- آداب خروج المرأة من بيتها.
الخطبة الأولى
فلما انتهينا من أدب الاستئذان على البيوت، وأتبعناه بالأيتين الكريمتين الآمرتين بغض البصر وحفظ الفرج، وقفنا في الآية الثانية -وهي الخاصة بالنساء- على مسائل مهمة، منها: مسألة الحجاب، ولم يكن الوقت وافيًا بالكلام عليها، فأردنا أن نفردها بخطبة خاصة نظرًا لتكرر السؤال في حقها. ما هو الحق في هذه المسألة؟
ونظرًا لما شغلت به هذه المسألة مجالس بعض الناس مناظرة وجدالاً وكلامًا كثيرًا حولها.
والحق أن هذه المسألة لم تكن لتشغل الناس على النحو الذي شغلتهم به، لولا رؤوس أطلت على المسلمين في الأزمنة الأخيرة تدعوهم إلى التشبه بمن نهانا الله ورسوله عن مشابهتهم، فأما نهي القرآن فهو في آيات كثيرة، منها أنه تهددنا بالخسران إن أطعنا الذين كفروا، قال في الآية التاسعة والأربعين بعد المائة من سورة آل عمران.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ [آل عمران:149].
وقال في حق اليهود والنصارى خاصة في الآية الحادية والخمسين من سورة المائدة: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء [النساء:144].
وقال في الآية الموفية للمائة من سورة آل عمران: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100].
وأما السنة المطهرة: فلقد ثبت عن أبي سعيد في الصحيح عن النبي قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذوا القذة بالقذة ـ الخطوة بالخطوة والشبر بالشبر، وما إلى ذلك في أحاديث أُخر ـ حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن!)) من إذن؟ هم بأعينهم. أطلت هذه الرؤوس على المسلمين تدعوهم إلى مشابهة الكفار. وعلى أن نأخذ عنهم مبادئهم ومناهجهم. فكانت النتيجة ركامًا تافهًا ضحلاً من المبادئ التي أخذناها لنستر بها عُرينا فَعَرِينا، ومن المناهج التي اقتبسناها لننسج منها آمالنا فنسجنا منها أكفاننا. دَعَوْا المسلمات المؤمنات بحجة التحرر، وبحجة إطلاقها من عقالها، وما كان إلا عقال العفة والحياء، ما كان عقال ظلم ولا عقال أسر. ما كان إلا عقال عفة وحياء، دعوها إلى الخروج لتساهم في خضم الفتن التي أقبلت على المسلمين من كل صوب وحدب، فخرجت وما أدراك خروج المرأة تبرج وسفور، وجرأة على أحكام القرآن والسنة، فأصبحت تمشي مِشية الرجل، تتجرأ جرأة الرجل، وتتصرف تصرفات أصبحت وبالاً وعارًا وشناراً على الأمة الإسلامية.
ورحم الله القائل الذي رد على أحدهم فقال:
نص الكتاب على الحجاب ولم يُبح للمسلمين تبرج العذراء
ماذا يريبك من حجاب ساتر جيد المهات وطلعة الزلفاء
ما يريبك من إزار مانع وزر الفؤاد وضلة الأهواء
ما في الحجاب سوى الحياء فهل من التهذيب أن يهتكن ستر حياء؟
هل في مجالسة الفتاة سوى الهوى لو أصدقتك ضمائر الجلساء
شيّد مدارسهن وارفع مستوى أخلاقهن لصالح الأبناء
أسفينة الوطن العزيز تبطئ بالقعر لا يغررك سطح الماء
وقال آخر:
بأبي وأمي ضاعت الأحلام أم ضاعت الأذهان والأفهام
من حاد عن دين النبي محمد أله بأمر المسلمين قيام
إلا تكن أسيافهم مشهورة فينا فتلك سيوفهم أقلام
ودعت الحاجة والضرورة إلى ذكر الدليل من القرآن والسنة على وجوب الحجاب، ودعت إلى ذكر مناقشة العلماء لأدلة القائلين بكشف الوجه والكفين.
فأما أدلة القرآن الكريم فقد مر بنا أحدها قوله تعالى في الآية الحادية والثلاثين من سورة النور: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]. وستأتي بعض الأحاديث التي توضح كيف أن نساء المهاجرين والأنصار امتثلن لهذه الآية فبادرن سريعًا على مروطهن فشققنها فاختمرن بها.
ثم قال الله تعالى في الآية الثالثة والخمسين من سورة الأحزاب: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذالِكُمْ [الأحزاب:53].
الحاجة الجميع إلى أطهرية القلوب ودوامها وبقائها.
وللنساء المسلمات في نساء النبي أمهاتهن المسلمات أسوة حسنة في الآداب الكريمة والأخلاق المستقيمة المقتضية للطهارة التامة بعيدًا عن التدنس بأنجاس الريبة ثم قال الله تبارك وتعالى في الآية التاسعة والخمسين من نفس السورة: قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59].(/1)
والأمر بإدناء الجلابيب هو الأمر بستر الوجه كما فهمه غير واحد، منهم ابن مسعود وابن عباس وعبيدة السلماني[1] من صحابة رسول الله . ثم ممن بعدهم من التابعين فهموه، وقالوا: تستر وجهها وتبدي عينًا واحدة، هذا وقرينة أخرى في هذه الآية تدل على خلاف ما ذهب إليه المبيحون، حيث قالوا: لم تدل هذه الآية على وجوب ستر الوجه لغة، ولم ينهض نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع على أن الأمر بإدناء الجلابيب يقتضي ستر الوجه في الآية قرينة واضحة تدل على ذلك إذ قال الله لرسوله : قُل لاِزْواجِكَ ولم يقل ولا أحد من هؤلاء المبيحين المجيزين إن نساء النبي لم يؤمرن بستر الوجه. فلما ذكر الله تعالى أزواج النبي وبناته وأتبعهن بذكر النساء المسلمات فُهِم أنّ عليهن أن يكن على الوجه الذي عليه أزواج النبي وبناته من ستر الوجوه، ثم قالوا: أما قوله تعالى: ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]. فهو ظاهر في كشف الوجه، وإلاَّ فكيف تُعرف المرأة إن لم تُظهر وجهها، وليس الأمر كذلك فالصحابة والتابعون فسروا هذه الآية على أن النساء كن يخرجن بالليل لقضاء الحاجة، فكان بعض الفُسّاق بالمدينة يتعرضون للإماء بالأذى، ولما كان بعض نساء المؤمنين لا يتميزن في زيِّهن عن زيّ الإماء كن يتعرضن لبعض ما تتعرض له الإماء. فأمرت نساء المؤمنين والحرائر بأن يتميزن عن زي الإماء، وليس في ذلك موافقة على أذى الفساق للإماء، بل دفع ذلك له سبيل وأدلة أخرى. لكن أمرن أن يتميزن حتى لا يتعرض لهن الفساق، وكان الفساق لا يتعرضون للحرائر ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ بأنهن حرائر فَلاَ يُؤْذَيْن.
ثم قال الله تعالى كذلك في سورة النور في الآية الستين: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النّسَاء الَّلَاتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ [النور:60]. والقواعد أي العجائز اللاتي انقطع طمعهن في التزويج لا حرج عليهن، ولا جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ وهي في الأظهر من الأقوال ما يكون على الخمار، والقميص من الجلابيب، لا جناح عليهن أن يضعن الثياب عن الوجه غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ مع ذلك بِزِينَةٍ إن وضعن الثياب، فلا يتبرجن بزينة بالحلي والخضاب وما إلى ذلك مما نتزين به المرأة إن وضعت ثيابها فلا تكون سببًا في إغراء ولا فتنة ولا تحريض على فاحشة ودعوة إليها.
فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ [النور:60]. ثم قال لهن: وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ [النور:60]. وأن يبقين بالثياب على وجوههن خَيْرٌ لَّهُنَّ إلا أن القرآن رفع عنهن الحرج والمشقة إن كن يشعرن بها بعد بلوغ هذه السن، فإن أرادت ما هو أفضل من حيث العفة فلتُبقِ على ثيابها على خمارها وعلى وجهها، فإنّ ذلك كما قال القرآن: خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ [النور:60].
وكان من أظهر الأدلة قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]. لأن عائشة رضي الله عنها وهي التي فسرت هذه الآية كما في صحيح البخاري من طريق عروة مرة عليها ومن طريق صفية بنت شيبة أنها قالت: (يرحم الله النساء المهاجرات الأُول لما أُنزلت سورة النور: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]. قمن إلى مروطهن فشققنها فاختمرن بها)، شرح ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث فقال: تأتي بالخمار فتضعه على رأسها ثم ترمي بجانبه الأيمن على عاقتها الأيسر، -وهو التقنع- ترمي بجانب الخمار الأيمن على عاتقها الأيسر، وقالت كذلك في صحيح البخاري عن نساء الأنصار لمّا ذُكر نساء قريش، قالت: (إن لنساء قريش لفضلاً، ولكن ما رأيت أشد تصديقًا لكتاب الله وإيمانًا بالتنزيل من نساء الأنصار لما أُنزلت سورة النور انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أُنزل فيها فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين خلف رسول الله معتجرات (أن مختمرات) كأن على رؤوسهن الغربان.
هكذا كانت المسارعة والمبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى حتى ولو لم يكن عندهن ثياب تصلح للوفاء بما أُمرن به، قُمن فشققن ما عندهن من ثياب -هي لأغراض أخرى- فاتخذن منها خمرًا يسترن بها الوجوه. رضي الله عنهن وجزاهن خيرًا عن هذه المسارعة والمبادرة إلى امتثال أوامر الله خالقنا ورازقنا ومن له حق علينا، يأمرنا فنمتثل، وينهانا فننتهي تبارك وتعالى.(/2)
ثم إن في سنة رسول الله من التحذير من الدخول على النساء ما جاء عن عقبة ابن عامر في الصحيحين ما جاء عن رسول الله قال: ((إياكم والدخول على النساء)) هذا الأمر الذي فرطنا فيه كثيرًا وأصبح بيننا وبينه بونًا بعيدًا وفرقًا شاسعًا هائلاً، تنظر إلى أهل البيت الواحد فيهم من هو محرم، ومن ليس بمحرم، لكنهم ينظرون إلى البيت على أنه ما دامت الحياة فيه مشتركة فلا فرق. تكشف المرأة على زوج أختها وعلى أخ زوجها وغير ذلك، والحديث صريح؛ ((إياكم والدخول على النساء)) فقال رجل: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)).
والحمو هو قريب الزوج، كأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه وغيرهم.
وانظروا إلى الوعيد الشديد والتهديد البالغ، والتعبير الدقيق عن دخول هؤلاء النساء بأن هذا هو الموت، وهو أعظم مصيبة تأتي على الإنسان في حياته، قال: الموت، ((الحمو الموت))، دخول هؤلاء على من لا يحل من النساء هو الموت.
ثم جاء عند البزار وأخرجه الترمذي والطبراني وقال الهيثمي: رجاله موثوقون ما يدل أيضًا على وجوب الحجاب وعلى ضرورة إنكفاف المرأة في بيتها إلا لحاجة وضرورة.
عن ابن مسعود عن النبي قال: ((إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) وزينها للناظرين حتى ولو كانت محتجبة، فبقاءها في بيتها وانكفافها فيه أصون وأعون على العفة وعلى الحياء. هذا ما ورد في القرآن وفي السنة مما يوجب الحجاب على النساء المؤمنات. ثم جاءت بعد ذلك أدلة أخرى احتج بها المبيحون والمجيزون نذكرها بعد قليل إن شاء الله وقدّر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] عبيدة السلماني ليس معدوداً في الصحابة (الفريق العلمي).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
في صحيح مسلم، عن جابر رضي الله عنه قال: شهدت الصلاة مع رسول الله صلاة العيد بغير أذان ولا إقامة قبل الخطبة ثم قام متوكئا على بلال يعظ النساء، وأخذ في الحث على تقوى الله تبارك وتعالى وطاعته وقال: ((وتصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار)) فقامت امرأة من وسط النساء سفعاء الخدين، قالت: ولم يا رسول الله؟ قال: ((لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير)) تكثرن من الشكاية وتكفرن العشير.
فجعل النساء يتصدقن بالحلي فيلقين بأقراطهن وخواتمهن، وبلال يأخذ في طرف ثوبه، يفتدين أنفسهن من النار بمجرد أن علمن أنهن أكثر أهل النار بسبب ما يُقْدِمن عليه من كثرة الشكوى، ومن جحود فضل الزوج، والشاهد من الحديث الذي احتجوا به "سفعاء الخدين".
قالوا: لو لم يكن كشف الوجه جائزٌ لما رأى جابرًا خديها، وسفعاء الخدين: أي في وجهها سواد يعبر عنه أيضاً بالقبح.
لكن الإجابة على هذا الدليل تتلخص في أن النبي لم يسكت أبدًا، وليس في مُكنة المبيحين أن يدعوا ذلك، لم يكن النبي ليرى ذلك. ما رآه ولا أقره ولا وافق عليه، إنما الذي ثبت أن جابرًا رأى ذلك، ويُحتمل أن يكون ذلك مما يحدث لبعض النساء من سقوط الخمار أحيانًا، وهذا وارد.
قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
قد يسقط ولا تريد إسقاطه، ثم إنّ هذا الحديث رواه أبو سعيد وابن عباس وابن عمر كما أخرجه مسلم رحمه الله فلم يذكروا ما ذكره جابر، فلعل ذلك وقع لجابر ولم يقع لهن. ثم لعل هذا القبح وهذا السواد في الخدين موافق ومقارن لتقدم في السن وطعن فيه. فلم يؤبه له ولم ينكر ذلك عليها، والله أعلم.
وأمّا حديث ابن عباس رضي الله عنهما في المرأة الخثعمية أن الفضل بن عباس جعل ينظر إليها وتنظر إليه، وكان الفضل رجلاً وضيئًا، وكانت المرأة وضيئة ففيه ما في الحديث الماضي، وزيادة على ما فيه أن النبي لما لاحظ أن الفضل ينظر إليها جعل يصرف وجهه إلى الشق الآخر، ويكفي ما في ذلك من عدم موافقة النبي على تبادل النظرات بين الرجل الأجنبي والمرأة الأجنبية، وربما كان الفضل يعرفها قبل ذلك كما قال العلماء، أو وقع لها ما وقع للمرأة الأخرى، أو لأجل أن إحرام المرأة في وجهها وكفيها، وعلى المرأة أن تفعل كما فعلت عائشة وغيرها من النساء أن يكشفن إذا لم يمر بهن رجال أجانب، فإذا مروا بهن فليسترن وجوههن.
هذا ثابت عن عائشة رضي الله عنها وعن غيرها من النساء، فهذا هو ما في هذا الحديث.
وأما حديث أسماء فقد مر بنا في الأسبوع الماضي.
والكلام للمُنصفين، هل يقاوم ذلك ما في الأحاديث الثلاثة: حديث أسماء وحديث جابر وحديث ابن عباس؟ هل يقاوم الأوامر الصريحة في القرآن الكريم في غير ما آية وفي سنة رسول الله في أحاديث صحيحة مفهومها، واضح من النهي عن الدخول على النساء والنظر إليهن والاختلاط بهن، وما إلى ذلك.(/3)
المنصف يقول: لا والله لا تقاوم هذه هذه، التي احُتج بما فيها. وليس في واحد منها أن رسول الله رأى ذلك. هل نسب أحد الصحابة شيئاً من ذلك إلى النبي وأفاد بأنه أقر النساء على ذلك. أبدًا ما وقع ذلك.
ثم إن هناك بعض الأحكام نُشير إليها لتأخذ بها النساء المسلمات المؤمنات:
فعلى النساء والرجال الذين بينهم حُرمة، نساء أجانب ورجال أجانب ألا يصافح الرجل المرأة الأجنبية لما ثبت عن النبي أنه قال: ((إني لا أصافح النساء)).
وقال الله في الآية الحادية والعشرين من سورة الأحزاب: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
فالتأسي به يقتضي ألا يمس الرجل الأجنبي بشيء من بدنه بدن المرأة الأجنبية، وكذلك شاع في بعض البلاد الإسلامية، وعند بعض المسلمين أن الرجل يُقبل أخت زوجته في فمها، ويُسمى هذا التقبيل الحرام بالإجماع سلامًا، فينبغي التباعد عن كل ما من شأنه إباحة وتعدي حرمة بين الرجل الأجنبي والمرأة الأجنبية.
وكذا على المرأة إذا خرجت ألا تتطيب وألا تستعطر لما جاء عند الترمذي من حديث أبي موسى بسند حسن صحيح عن النبي : ((إذا خرجت المرأة فاستعطرت ومرت بمجالس القوم فهي كذا وكذا)) يعني زانية.
وثبت عن أبي هريرة أنه أمر امرأة كما عند أبي داود أن ترجع فتغتسل، لأنها خرجت فاستعطرت ومرت بالقوم وقال لها: يا أُمية الجبار هل جئت المسجد؟ فقال: نعم. هل تطيبت؟ قالت: نعم. فقرأ عليها أنه سمع رسول الله نهى عن ذلك.
ومما ينبغي أن تراعيه المرأة أيضًا كما ثبت عند أبي داود من حديث أبي أسيد النصاري أن عليها ألا تمشي في وسط الطريق إن خرجت إلى الشارع فإن ذلك من التبرج كما قال العلماء بل عليها أن تأخذ حافة الطريق، فعن أبي أسيد النصاري أنه سمع النبي وقد خرج من المسجد، واختلط الرجال بالنساء، فقال النبي للنساء: ((استئخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق، عليكن بحافة الطريق)) فكانت المرأة تلتزم بحافة الطريق حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
هذه بعض الأحكام التي ينبغي أن تأخذ بها المرأة، وينبغي أن تتحلى به حتى تلحق بالخُيِّرات من نساء المسلمين والمؤمنين الأوائل.
أسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.(/4)
... ... ...
الحجر ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- عظمة الله تعالى في خلقه وأن كل شيء مسخر له وجند من جنوده 2- استخدام ابراهيم عليه السلام للحجر في صد الشيطان ووساوسه 3- انفجار الحجر لموسى عليه السلام ليخرج منه اثنتا عشرة عيناً 4- عقاب قوم لوط بقذفهم بالحجارة بعد إسقاطهم من الأعلى 5- إهلاك الله أصحاب الفيل بالحجارة 6- أطفال الحجارة في فلسطين 7- فضل الحجر الأسود الذي يوجد في ركن الكعبة 8- بعض المسائل التي تتعلق بالحجر ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
قال الله تعالى: ولله جنود السموات والأرض . ويقول سبحانه: وما يعلم جنود ربك إلا هو
أيها المسلمون: إن الله جلت قدرته بيده ملكوت كل شيء وبيده مقاليد كل شيء ،كل ما في هذا الكون مسخر لله جل وعلا، بل أن الكون كله جند من جنود الله جل وتعالى، يسخره كيف يشاء.
فالريح مثلاً جند من جنود الله، يهلك الله به من أراد من الأقوام والمجتمعات التي طغت عن أمر ربها وكذبت رسله، قال الله تعالى: فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية .
والماء كذلك جند من جنود الله، أهلك الله جل وعلا بهذا الماء الذي نراه سهلاً يسيراً، عذباً زلالاً، أغرق الله جل وعلا بهذا الماء أقواماً تمردوا على شرع الله، وفسقوا وظلموا فكان عاقبتهم أن سلط الله عليهم هذا الجندي من جنوده، فأغرق القوم قال الله تعالى: وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي الى جبل يعصمني من الماء قال لاعاصم اليوم من أمر الله إل من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين .
هذا الماء كان وبالاً على الظالمين الكافرين، وكان أيضاً جنداً من جنود الله ووقف في صف الجيوش المسلمة في غزوة بدر إذ يغشيكم الله النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به ويذهب عنكم رجس الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام .
ومن جنود الله أيضاً أيها الأخوة والذي يكون عوناً من الله تبارك وتعالى للفئة المؤمنة "الحجر".
نعم الحجر يسخره الله سبحانه وتعالى لمن شاء من عباده نصراً وتأييداً لهم، وللحجر قصة طويلة عبر التاريخ مع المسلمين والمؤمنين. من قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فلنمضى معكم أيها الأحبة لنتعرف على قصة هذا الحجر.
نبدأ بابراهيم خليل الرحمن عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة والسلام حين يلاحقه إبليس محاولاً اقناعه بالتمرد على أمر ربه حين أمره بذبح ولده اسماعيل، محركاً في نفسه عاطفة الأبوة، ماذا فعل ابراهيم عليه السلام؟ التقط حجراً، أخذها من بطحاء مكة وقذفها في وجه الشيطان، ويعاود إبليس المحاولة مرة ثانية وثالثة، في ثلاثة أماكن مختلفة طمعاً في النجاح في إقناع الخليل، لكن ابراهيم عليه السلام يعاود رجمه في كل مرة حتى يأس، ثم تصبح هذه سنة خالدة واجباً يؤديه الحاج في ذلك المكان إلى يوم الدين، اقتداءً بسنة إبراهيم الخليل عليه السلام، وتعبيراً عن العداء الأبدي بين المسلم وبين الشيطان.
ثم مع موسى عليه الصلاة والسلام، طلب موسى صلى الله عليه وسلم من ربه السقيا لقومه وهم في الصحراء، فئة مؤمنة أصابهم العطش وهم في وسط صحراء قاحلة مع نبيهم، فتوجه موسى لله رب العالمين، فيستجيب الله له، ويأمره أن يضرب بعصاه حجراً. فينفجر من ذلك الحجر بأمر الله جل وعلا، اثنتا عشرة عينا، بعدد أسباط بني اسرائيل. فالحجر الذي لايتوقع عاقل أن يخرج منه الماء، يستجيب لأمر خالقه، ويتفجر منه ذلك الماء العذب الغزير كما قال تعالى: وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل اناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين .
فهل استطاعت عصا موسى إختراق الحجر والنفاذ الى أعماق الأرض وتفجير الماء؟ كلا، فليس ذلك من خواص العصا. أم أن الحجر تأثر بضربة عصا موسى؟ كلا، فليس من صفات الحجر أن يتأثر بضربة عصا، ولكنها قدرة الله ومعجزته سبحانه، يجريها على يد نبيه، فيأمر جل وعلا بكلمة كن، فتتغير خواص الأشياء، ويتفجر ذلك الماء الزلال في تلك الصحراء الجرداء القاحلة من ذلك الحجر الأصم الصلب، بفعل ضربة عصا. وهي العصا نفسها التي ضرب بها موسى البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم.
ومع كل هذا تقسو قلوب بني اسرائيل حتى تصبح كالحجارة أو أشد قسوة مع ما رأوا من الآيات البينات، بسبب لجاجتهم والتواء طبعهم ومغالطاتهم ومماحكاتهم المتكررة.(/1)
ثم مع قوم لوط عليه السلام، عندما ارتكب قوم لوط تلك الجريمة البشعة التي تنافي الدين والخلق والكرامة والمروءة، تلك الجريمة الشنعاء التي تتعارض مع الفطرة السليمة، ويقال بأن أولئك القوم هم أول من أحدث هذه الفعلة، ولم يكن لها سابق في هذا الأمر، فبعدما دعاهم نبيهم لوط عليه السلام، وحذرهم بل وعرض عليهم بناته لينكحوهم عن طريق الزواج الشرعي، رفضوا الزواج وأصروا على مقارفة الجريمة، أرسل الله ملائكته وأمرهم أن يمطروهم بحجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين، فكانت الحجارة سلاحاً إلهياً فتاكاً ومدمراً في يد الملائكة. قال الله تعالى: ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ماسبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فانجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين وقال تعالى: قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولايلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هى من الظالمين ببعيد .
ويدور الزمان دورته، ويغزو أبرهة مكة بجيش جرار تتقدمه الفيلة، وهو يريد هدم بيت الله العتيق، ويعجز العرب عن التصدي لهذا الزحف الهائل، أو التحرش به، لضآلة مكانتهم، وتفرقهم الى قبائل متناحرة لايجمعها دين، ولا توحدها عصبية الجنس، ويقفون موقف المترقب العاجز، الذي لايحرك ساكناً، والذي لا يدري ما يفعل، وما يُفعل به ولا ما يراد له، كحالهم هذه الأيام، لايدرون ما يفعلون وما يُفعل بهم، وما يراد لهم، كالريشة في مهب الريح، يقلبها الريح كيف يشاء فلا يجد حيلة زعيم قريش في ذلك الوقت عبدالمطلب، إلا التعلق بأستار الكعبة وهو يردد أرجوزته المشهورة: -
لاهُمّ إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك لايغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك
وبعد أن يصل الأمر بقريش مبلغاً عظيماً، حيث بلغت القلوب الحناجر، وشخصت الأبصار، وتركوا الديار وخرجوا من مكة لاحول لهم ولاقوة ولاحيلة. عندها يرسل الله جل وعلا بعضاً من جنوده، طيور تنزل من السماء تحمل حجارة من طين، فترسل هذه الطيور تلك الحجارة الصغيرة، فتنزل على ذلك الجيش كالقنابل فتحرقهم وتتركهم كأوراق الشجر الجافة المحترقة، ويحفظ الله بيته، ويسجل القرآن الكريم وقائع هذه الحادثة في سورة كريمة، يذكّر الناس بأن الكون وما فيه يأتمر بأمر خالقه ويتحرك بمشيئته. ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول [الفيل].
تأملوا رحمكم الله هذه القصة العجيبة، لو لم يخبرنا الله بها في كتابه، ثم جاء أحد وقص علينا هذه القصة، بأن أحجاراً صغيرة يمكن أن تدمر جيشاً جراراً كاملاً بخيله ورجله، ماصدقه أحد، لأننا نعلم ضعف الأحجار الصغيرة أمام قوة الجيوش وعتاد الدول، لكن عندما نعلم بأن هذا الحجر هو الآن جندي من جنود الله يؤثر بأمر الله جل وعلا، ندرك بأنه يمكن بهذه الحجارة فعل الشيء الكثير.
وأظن أنكم تذكرون قبل سنوات، وفي الأرض التي بارك الله فيها، أرض فلسطين التي بيعت بثمن بخس دراهم معدودة، لا شك أنكم سمعتم بأطفال الحجارة، أطفال لم يبلغوا سن الرشد، يقذفون اليهود بالحجارة، بعد أن لم يجدوا حيلة، انتظروا طويلاً نجدة الأهل والعشيرة، ونخوة العروبة والقبيلة، فلم يصلهم منهم سوى عبارات الاستنكار والتنديد، والوعود الجوفاء، وانتظروا المنظمات الدولية، وهيئات حقوق الإنسان، فلم يصلهم منهم أيضاً سوى القرارات الورقية، والوعود الكاذبة، فاذا بهم يلتقطون حجارة من الأرض، يرمون بها اليهود وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى فكانت لتلك الحجارة وقع ودويّ تحدّث عنه الإعلام العالمي في وقته، وخافه اليهود أشد الخوف وهم يملكون القنابل المحرقة والأسلحة الفتاكة، لأن الحجر الآن جندي من جنود الله، مأمورة بأمره، فأثارت الرعب والفزع في نفوس اليهود الجبناء ومن ورائهم من الغرب الصليبي الحاقد، فعقدت مؤتمرات وتحركت المؤسسات ونشطت الدراسات في وقته، لدراسة هذه الظاهرة، حتى تناقلت وكالات الأنباء العالمية خبر أطفال الحجارة، لأنهم يعلمون بأن القضية ليست أحجار في أيدي أطفال، إنها أيد متوضئة مؤمنة، لو تحركت فعلت الأفاعيل، ولو من غير حجارة، والعدو قد جرب المواجهة مع المسلمين الصادقين، ويعلم النتيجة مسبقاً.
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا
وليس على الله بعزيز أن يهلك هذه العصابة الظالمة المتعدية من يهود بحجارة، كما أهلك أبرهة وجنوده بحجارة الطير الأبابيل.(/2)
إن الحجر الذي كان في يوم من الأيام سلاحاً مع اليهود عندما فجّر لهم الماء مع نبيهم موسى وذلك حين كان فيهم بقية من خير، هذا الحجر يصبح اليوم لعنة تطاردهم، وشبحاً يخيفهم، وأخطبوطاً يرعبهم.
وهل ينتهي دور الحجر في مطاردة اليهود عند هذا الحد، لا، إننا نحن المسلمون، لنا جولات قادمة مع اليهود وبالحجر نفسه، وإننا في انتظار حار أن يأتي الوعد الذي أخبرنا به الصادق المصدوق المتحقق بلا شك في نطق الحجر على أرض فلسطين ليدلّ المسلم على مكان اليهودي، ليأتي المسلم فيقتل اليهودي عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ)) رواه البخاي.
سيتعاون الحجر والشجر في إرشاد المسلمين، ودلالتهم على اليهود في أرض فلسطين، وستكون الحجارة من جند الله تعين عباد الله المؤمنين، وتكشف مخابيء اليهود وأماكن إختفائهم وصدق الله العظيم إذ يقول: فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علو تتبيرا وحينئذ سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وسيعلم الذين قبضوا أي دركات سينزلون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
بارك الله لي ولكم. . . ونفعني وإياكم. . . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:
إن أشرف حجر على وجه الأرض الآن هو الحجر الأسود، وهو من أحجار الجنة، وأول ما نزل كان أشد بياضاً من الثلج فسودته خطايا بني آدم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحجر الأسود من حجارة الجنة)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((والله ليبعثنه الله يوم القيامة – يعني الحجر – له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق)) حديث صحيح.
إن إماطة حجر من طريق المسلمين لك به صدقة أخرج الترمذي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وارشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، واماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وافراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)).
إن الحجر يشهد للمؤذن يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني أراك تحب الغنم والبادية، فاذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع صوت المؤذن جنّ ولا إنس ولا حجر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)).
إن الحجر سيكون أيضاً نوع من عقوبات الله يوم القيامة لنوع خاص من أهل الكبائر وهم أكلة الربا والعياذ بالله ففي حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه عندما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه ليلة أسري به قال: ((وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر فانه آكل الربا)).
أيها المسلمون: قال الله تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون .
عجباً لقلوب البعض فهي أشد من الحجارة في القسوة، لاتلين لذكر الله ولا تخشع لوحي الله، كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن ماء أو يتردى من رأس جبل كل ذلك من خشية الله، والبعض من عباد الله قلوبهم أقسى من الحجر والعياذ بالله، وما الله بغافل عما تعملون.
نسأل الله جل وتعالى أن يلين قلوبنا لذكره وشكره وحسن عبادته. . ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/3)
الحداثة في الأدب
مفهومها ـ نشأتها ـ روادها
مفهوم الحداثة :
قبل أن نخوض في مفهوم الحداثة الاصطلاحي ، نرى من المفيد أن نعرج على مضمونها اللغوي ، فهي مصدر من الفعل " حَدَثَ " ، وتعني نقيض القديم ، والحداثة أول الأمر وابتداؤه ، وهي الشباب وأول العمر .
وبهذا المفهوم اللغوي سطعت شمس الحداثة في عالمنا العربي المعاصر ، وتوافقت مع ما يحمل عصرنا من عقد نفسية ، وقلق ذاتي من القديم الموروث ، ومحاولة الثورة عليه ، والتخلص منه ، والبحث عن كل ما هو جديد يتوافق وروح عصر التطور العلمي والمادي ، ويواكب الايدولوجيات الوافد على عالمنا العربي .
أما ما تعنيه الحداثة اصطلاحا فهي : " اتجاه فكري أشد خطورة من اللبرالية والعلمانية والماركسية ، وكل ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات هدامة ، ذلك أنها تضمن كل هذه المذاهب الفكرية ، وهي لا تخص مجالات الإبداع الفني ، والنقد الأدبي ، ولكنها تخص الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على حد سواء " ، وهي بهذا المفهوم الاصطلاحي
" اتجاه جديد يشكل ثورة كاملة على كل ما كان وما هو كائن في المجتمع " . الحداثة في الأدب المعاصر ـ هل انفض سامرها ، د . محمد مصطفى هدارة ، مجلة الحرس الوطني ربيع الآخر 1410 هـ .
ويقول أحد الباحثين في معرض حديثه عن الحداثة كمنهج فكري يسعى لتغيير الحياة " إن من دعاوى أهل الحداثة أن الأدب يجب أن ينظر إليه من الناحية الشكلية والفنية فقط بغض النظر عما يدعوا إليه ذلك الأدب من أفكار ، وينادي به من مبادئ وعقائد وأخلاق ، فما دام النص الأدبي عندهم جميلا من الناحية الفنية ، فلا يضير أن يدعو للإلحاد أو الزنا أو اللواط أو الخمريات أو غير ذلك " عوض القرني ، الحداثة في ميزان الإسلام ص 47 .
ويقول د . عدنان النحوي في كتابه الحداثة من منظور إسلامي ص 13 : " لم تعد لفظة الحداثة في واقعنا اليوم تدل على المعنى اللغوي لها ن ولم تعد تحمل في حقيقتها طلاوة التجديد ، ولا سلامة الرغبة ، إنها أصبحت رمزا لفكر جديد ، نجد تعريفة في كتابات دعاتها وكتبهم ن فالحداثة تدل اليوم على مذهب فكري جديد يحمل جذوره وأصوله من الغرب ، بعيدا عن حياة المسلمين ن بعيدا عن حقيقة دينهم ، ونهج حياتهم ، وظلال الإيمان والخشوع للخالق الرحمن " .
فالحداثة إذن من منظور إسلامي عند كثير من الدعاة تتنافى مع ديننا وأخلاقنا الإسلامية ، وهي معول هدم جاءت لتقضي على كل ما هو إسلامي دينا ولغة وأدبا وتراثا ، وتروج لأفكار ومذاهب هدامة ، بل هي أخطر تلك المذاهب الفكرية ، وأشدها فتكا بقيم المجتمع العربي الإسلامية ومحاولة القضاء عليه والتخلص منه ، وإحلال مجتمع فكري عربي محله يعكس ما في هذه المجتمعات الغربية من حقد وحنق على العالم الإسلامي ، ويروجون بكل اهتمام وجديه من خلال دعاتها ممن يدعون العروبة لهذه المعتقدات والقيم الخبيثة بغرض قتل روح الإسلام ولغته وتراثه .
وتقول الكاتبة سهيلة زين العابدين في مقالة نشرت لها في جريدة الندوة السعودية الغدد 8424 في 14 / 3 / 1407 هـ ص 7 : " الحداثة من أخطر قضايا الشعر العربي المعاصر لأنها أعلنت الثورة والتمرد على كل ما هو ديني وإسلامي وأخلاقي ، فهي ثورة على الدين على التاريخ على الماضي على التراث على اللغة على الأخلاق ، واتخذت من الثورة على الشكل التقليدي للقصيدة الشعرية العربية بروازا تبروز به هذه الصورة الثورية الملحدة " .
ويذكر د . محمد خضر عريف في معرض حديثه عن الحداثة وتعليقه على بعض الدراسات التي صدرت حولها من غير مفكريها وروادها في الوطن العربي في كتابه الحداثة مناقشة هادئة لقضية ساخنة ص 11 و 12 قائلا : " إننا بصدد فكر هدام يتهدد أمتنا وتراثنا وعقيدتنا وعلمنا وعلومنا وقيمنا ، وكل شيء في حاضرنا وماضينا ومستقبلنا " ، ويفرق الدكتور / خضر عريف في كتابة الحداثة مناقشة هادئة لقضية ساخنة بين مصطلح الحداثة والتجديد والمعاصر فيقول : " والذي يدفع إلى ذلك الظن الخاطئ هو الخلط بين مصطلح الحداثة ( modernism ) ، والمعاصرة ( modernity ) ، والتحديث ( modernization ) وجميع تلك المصطلحات كثيرا ما تترجم إلى " الحداثة " على ارعم من اختلافها شكلا ومضمونا وفلسفة وممارسة . والواقع أن الاتجاه الفكري السليم يتفق مع التحديث ، ولكنه لا يتفق مع الحداثة . وإن يكن مصطلحا modernity و modernization يمكن الجمع بينهما ليعنيا المعاصرة أو التجديد ، فإن مصطلح modernism يختلف عنهما تماما . إذ ينبغي أن نفرق بين مصطلحين أجنبيين ، من المؤسف أن كليهما يترجم ترجمة واحدة وهي ( الحداثة ) أما المصطلح الأول فهو : modernity الذي يعني إحداث تجديد وتغيير في المفاهيم السائدة المتراكمة عبر الأجيال نتيجة وجود تغيير اجتماعي أو فكري أحدثه اختلاف الزمن .(/1)
أما الاصطلاح الثاني فهو modernism ويعني مذهبا أدبيا ، بل نظريه فكرية لا تستهدف الحركة الإبداعية وحدها ، بل تدعو إلى التمرد على الواقع بكل جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية . . . وهو المصطلح الذي انتقل إلى أدبنا العربي الحديث ، وليس مصطلح modernity الذي يحسن أن نسميه المعاصرة ، لأنه يعني التجديد بوجه عام دون الارتباط بنظرية ترتبط بمفاهيم وفلسفات متداخلة متشابكة .
ونحن في تعريفنا لمفهوم الحداثة لا نريد أن نتوقف عند ما قال به خصومها ، ولكن لا بد أن نتعرف عليه مما قال به أصحابها ومفكروها وسدنتها أيضا . يقول على أحمد سعيد الملقب بأودنيس وهو من رواد الحداثة العربية ومفكريها رابطا بينها وبين الحرية الماسونية : " إن الإنسان حين يحرق المحرم يتساوى بالله " . ثم يتنامى المفهوم الماسوني لكلمة الحرية إلى صيغته التطبيقية الكاملة في قوله " : إن التساوي بالله يقود إلى نفيه وقتله ، فهذا التساوي يتضمن رفض العالم كما هو ، أو كما نظمه الله ن والرفض هنا يقف عند حدود هدمه ، ولا يتجاوزها إلى إعادة بنائه ، ومن هنا كان بناء عالم جديد يقتضي قتل الله نفسه مبدأ العالم القديم ، وبتعبير آخر لا يمكن الارتفاع إلى مستوى الله إلا بأن يهدم صورة العالم الراهن وقتل الله نفسه " محاضرة الحداثة والتراث د . محمد هدارة .
وقد عرف رولان بارت الحداثة بأنها انفجار معرفي لم يتوصل الإنسان المعاصر إلى السيطرة عليه فيقول : " في الحداثة تنفجر الطاقات الكامنة ، وتتحرر شهوات الإبداع في الثورة المعرفية مولدة في سرعة مذهلة ، وكثافة مدهشة أفكارا جديدة ، وأشكالا غير مألوفة ، وتكوينات غريبة ، وأقنعة عجيبة ، فيق بعض الناس منبهرا بها ، ويقف بعضهم الآخر خائفا منها ، هذا الطوفان المعرفي يولد خصوبة لا مثيل لها ، ولكنه يغرق أيضا " محاضرة الحداثة والتراث د . محمد هدارة .
ويتابع الدكتور هدارة قائلا : كما يصفها بعض الباحثين الغربيين " بأنها زلزلة حضارية عنيفة ، وانقلاب ثقافي شامل ، وأنها جعلت الإنسان الغربي يشك في حضارته بأكملها ، ويرفض حتى أرسخ معتقداته الموروثة " .
جذور الحداثة في الغرب
ظهر تيار الحداثة في الغرب نتيجة للمد الطبيعي الذي دخلته أوروبا منذ العصور الوثنية في العهدين اليوناني والروماني ، امتدادا إلى عصر الظلمات ، مرورا بالعصور المتلاحقة التي تزاحمت بكل أنواع المذاهب الفكرية ، والفلسفات الوثنية المتناقضة والمتلاحقة ، وقد كان كل مذهب عبارة عن ردة فعل لمذهب سابق ، وكل مذهب من هذه المذاهب كان يحمل في ذاته عناصر اندثاره وفنائه .
لقد عشق الغرب شتى المذاهب والتيارات الفكرية بدءا من اعتناق الوثنية ، وانتهاء بالانفجار الفكري اليائس الذي عرف بالحداثة ، مرورا بالمسيحية وما ترتب عليها من مفاسد الكنيسة وظلمها وظلامها ، وبالطبيعة التي هجرها شعراؤها وكتابها ليعشقوا الواقعية المزيفة التي ما لبثوا أن هجروها هربا إلى الكفر والإلحاد بالله كفرا صريحا جاهرا ، ثم تحولوا بكفرهم حاملينه من بعد يأس على كواهلهم باحثين عن الخلاص الذي ينتشلهم من غرقهم الإلحادي ليجدوا أنفسهم يغوصون في وحول المادية التاريخية ، والجدلية السفسطائية ، غير أنهم لم يجدوا ضالتهم فيما بحثوا عنه فارتدوا هاربين ليلقوا بأنفسهم في أحضان الفن للفن ، ولكنهم لم تستقر لهم حال فتخبطوا خبط عشواء حتى استقر بهم السبيل إلى مهاوي الوجودية التي كشفت عن كل شيء فجعلت الحرية فوضى ، والالتزام تفلتا ، والإيمان بالأشياء كفرا " فلم يعد في حياة الغربي إلا أن تنفجر هذه المذاهب انفجارا رهيبا يحطم كل شيء ، يحطم كل قيمة ، لتعلن يأس الإنسان الغربي وفشله في أن يجد أمنا أو أمانا " الحداثة من منظور إيماني ص 17 .
وقد جاءت الحداثة لتمثل هذا الانفجار الفكري الرهيب اليائس ، انفجار الإنسان الذي لا يعرف الأمن والأمان في ذاته آلاف السنين .
وقد اختلف كثير من الذين أرخوا ونظروا للحداثة الغربية حول بداياتها الأولى ، وعلى يد من من كتابهم ظهرت ونشأت ، ورغم ذلك يتفق بعضهم على أن إرهاصاتها المبكرة بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي على يدي " بودلير " الفرنسي صاحب ديوان " أزهار الشر " . ولكنها لم تنشأ من فراغ ، بل هي امتداد لإفرازات المذاهب والتيارات الفكرية ولاتجاهات الأدبية والايدلوجية المتعاقبة التي عاشتها أوروبا في القرون الخوالي ، والتي قطعت فيها صلتها بالدين والكنيسة وتمردت عليه ، وقد ظهر ذلك جليا منذ ما عرف بعصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي ، عندما انسلخ المجتمع الغربي عن الكنيسة وثار علي سلطاتها الروحية ، التي كانت بالنسبة لهم كابوسا مخيفا ، وسيفا مسلطا على رقابهم محاربا لك دعوة للعلم الصحيح ، والاحترام لعقل الإنسان وتفكيره ، وفكره .(/2)
وكان من الطبيعي أن نرى تخبط الغرب ، وتقلباته وثوراته على كل شيء من حوله ، ما دام لا توجد أرضية صلبة مستوية ينطلق منها ، لتصور مقبول للحياة والإنسان والكون عامة ولا توابث قوية لهم لتكون مرتكزا يتكئون عليه نحو تقدمهم المادي ، ورقيهم الفكري والحضاري ، مما أدى إلى ظهور كثير من المتناقضات والتضاد ، وأن يهدموا اليوم بمعاول التمرد والثورة ما بنوه بالأمس ، إضافة إلى انعدام الروابط المتينة بين هذه الأفكار على اختلاف مشاربها وتباين اتجاهاتها سوى أنها تلتقي في مستنقع المادية الملحدة ، لذا نجدهم يتقلبون خلال المذاهب الفكرية والأدبية التي ووسمتهم بخاتمها ، وطبعتهم بطابعها ، ولونتهم باتجاهاتها فتولدت عندهم الكلاسيكية التي كانت امتدادا طبيعيا لنظرية المحاكاة والتقليد التي أطلقها أرسطو ، والتي تعني أن الإنسان محدود الطاقات ، متمسك بأهداب التقليد ، مع الميل إلى التحفظ واللياقة ، ومراعاة المقام ، والخيال المركزي المجند في خدمة الواقع .
تم تأسس الاتجاه الرومانسي على أنقاض الكلاسيكية التي وقفت عاجزة أمام تحقيق ما كان يصبو إليه الغرب من التخلص من آثار القديم ومحاكاته ، فوجدوا ضالتهم في مذهب توري متمرد على كل أشكال القديم وآثاره ، فقدست الرومانسية الذات ، ورفضت الواقع ، وثارت على الموروث ، وادعت أن الشرائع والعادات والتقاليد هي التي أفسدت المجتمع ، ويجب العمل على تحطيمها ، والتخلص منها ، ولكن الأمر غير المتوقع مع ما نادت به الرومانسية ، وجاهدت من أجل تحقيقه أنها قد فشلت فشلا ذريعا في تعيير الواقع ، فأوغل دعاتها في الخيال والأحلام ، والتحليق نحو المجهول .
وقد تحول الغرب كما هي طبيعته فرارا من المجهول إلى المجهول ، ومن الضلال إلى الضلال ، ومن اللاواقع إلى ما هو أبعد من اللاواقع وكان ذلك ديدنهم على مدى قرون طوال يبحثون عن لا شيء لعلهم يجدون ذواتهم الضائعة في اتجاه جديد يخلصهم من معاناتهم وضياعهم وتيه نفوسهم ، فاتجهوا نحو ما عرف بالبرناسية ، ثم فروا منها لإلى ما عرف بالواقعية التي تطورت فيما بعد إلى الرمزية التي كانت حلقة الوصل بين تلك المذاهب الفكرية والأدبية وبين ما عرف اليوم بالحداثة ، وعلاقتها بالجانب الأدبي على أقل تقدير ، وكان على رأس المذهب الرمزي الكاتب والأديب الأمريكي المشهور " إدغار آلان بو " الذي تأثر به رموز الحداثة وروادها في العرب أمثال مالاراميه ، وفاليري ، وموبسان ، كما كان المؤثر الأول والمباشر في فكر وشعر عميد الحداثيين في الغرب والشرق على حد سواء الشاعر الفرنسي المشهور " بودلير " كما ذكرنا آنفا .
وقد نادى إدغار بأن يكون الأدب كاشفا عن الجمال ، ولا علاقة له بالحق والأخلاق ، وهذا ما انعكس على حياته بشكل عام ، حيث كان موزعا بين القمار والخمر والفشل الدراسي والعلاقات الفاسدة ، ومحاولة الانتحار . وعلى خطا إدغار سار تلميذه بودلير ممعنا في الضلال ومجانبا للحق والفضيلة .
ويعد بودلير مؤسس تيار الحداثة من الناحية الفنية الأدبية ، والذي نادى بالغموض في الأحاسيس والمشاعر ، والفكر والأخلاق ، كما قام المذهب الرمزي الذي أراده على تغيير وظيفة اللغة الوضعية بإيجاد علاقات لغوية جديدة تشير إلى مواضع لم تعهدها من قبل . . . ويطمح أيضا إلى تغيير وظيفة الحواس عن طريق اللغة الشعرية ، لذا لا يستطيع القارئ ، أو السامع أن يجد المعنى الواضح المعهود في الشعر الرمزي . كما يذكر د . عبد الحميد جيدة في كتابه الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر ص 121 .
ومما لا جدال فيه أن الحداثة كمذهب أدبي تجديدي قامت في أساسها الأول على الغموض وتغيير اللغة ، والتخلص من الموروث بكل أشكاله ، وأجناسه ، وتجاوزهم للسائد والنمطي .
وكان بودلير الذي نمت وترعرعت على يديه بذرة الحداثة من أسوأ ما عرفت الآداب العالمية خلقا وإمعانا في الرذيلة ، وممارسة لكل ما يتنافي مع الأخلاق والعقيدة . يقول عنه مصطفى السحرتي في مقدمة ترجمة ديوان أزهار الشر لبودلير " لقد كانت مراحل حياته منذ الطفولة نموذجا للضياع والشذوذ ، ثم بعد نيل الشهادة الثانوية قضى فترة في الحي اللاتيني ، حيث عاش عيشة فسوق وانحلال ، وهناك أصيب بداء الزهري ، وعاش في شبابه عيشة تبذل ، وعلاقات شاذة مع مومسات باريس ، ولاذ في المرحلة الأخيرة من حياته بالمخدرات والشراب " .
ويقول عنه الشاعر إبراهيم ناجي مترجم ديوان أزهار الشر " لإن بودلير كان يحب تعذيب الآخرين ويتلذذ به ، وكان يعيش مصابا بمرض انفصام الشخصية " .(/3)
ولم يكن الطعن على شخصية بودلير متوقفة على بعض الشعراء والنقاد العرب الذين عرفوه من خلال شعره ، وعايشوه في مرحلة زمنية معينة في النصف الأول من القرن العشرين ، بل كان لأبناء جلدته أقوالا وآراء كثيرة حول هذه الشخصية الحية الميتة ، يقول عنه أحد كتاب الغرب : " إن بودلير شيطان من طراز خاص " . ويقول عنه آخر : " إنك لا تشم في شعره الأدب والفن ، وإنما تشم منه رائحة الأفيون " عوض القرني : الحداثة في ميزان الإسلام ص 23 .
وقد عرف بودلير إضافة إلى ما عرف عن شخصيته الذاتية بنزعته الماركسية الثورية الفردية التي لا تنسجم مع المثل والمبادئ التي ينادي بها عصره آنذاك . يقول عنه محمد برادة في مجلة فصول العدد الثالث ص 13 ، 14 : " إن الخيبة التي انتهى إليها بودلير من مراهنته على حداثته ، ليس فقط أنه يعاني موت الجمال ويبكيه ، بل يعاني كذلك غيابا ، لا غياب الله ، أو موته ، بل أكثر من ذلك ، فالحداثة تغلف ، وتقنّع غياب البراكسيس وإخفاقه بمعناه الماركسي ، الباركسيسي الثوري الشامل ، وأنها تكشف هذا الغياب ، وستكون الحداثة داخل المجتمع البرجوازي هي ظل الثورة الممكنة " . كما يقول عنه غالي شكري في كتابه شعرنا الحديث إلى أين ص 16 " وقديما كان بودلير نبيا للشعر الحديث ، حيث تبلور إحساسه المفاجئ العليل بحياة فردية لا تنسجم مع المثل الذي ينادي بها العصر الذي يعيش فيه " .
ثم أعقب بودلير رائد من رواد الحداثة في الغرب وهو رامبو الذي لا يقل شأنا عنه في المناداة إلى الهدم العقلاني لكل الحواس ، وأشكال الحب والعذاب والجنون ، ودعا إلى أن يكون الشعر رؤية ما لا يرى ، وسماع ما لا يسمع ، وفي رأيه أن الشاعر لا بد أن يتمرد على التراث ن وعلى الماضي ، ويقطع أي صلة مع المبادئ الأخلاقية والدينية ، وتميز شعره بغموضه ، وتغييره لبنية التراكيب ، والصياغة اللغوية عما وضعت عليه ، وتميز أيضا بالصور المتباعدة المتناقضة الممزقة كما يذكر د . عبد الحميد جيدة في كتابه الاتجاهات الحديثة في الشعر العربي المعاصر ص 148 .
وقد تعاقب ركب الحداثيين في الغرب ، وسلكوا نفس الطريق الذي بدأه بودلير ، ورامبو ، وساروا على نهجهما ، ومن هؤلاء مالارمييه ، وبول فاليري ، حتى وصلت الحداثة الغربية شكلها المتكامل النهائي على يد الأمريكي اليهودي عزرا باوند ، والإنجليزي توماس اليوت .
وغدت الحداثة الغربية سلسلة متصلة الحلقات يتناقلها اللاحقون عن السابقين ، وهي إلى جانب ذلك متصلة شديدة الاتصال بما سبقها من وجودية ورمزية وسريالية ومادية جدلية ومادية تاريخية وواقعية واشتراكية علمية وبرناسية ، ورومانسية ، وبكثير من الأفكار والمبادئ والتيارات التي كانت قاعدة لها ، ومنطلقا فكريا مدها بكل ما حملته تلك المذاهب من فكر وأيدلوجيات ، وتمرد على كل ما هو سائد وموروث ، وتجاوزت حدود الأدب واللغة ليطال الدين والأخلاق والقيم والعلم . فهي تحطيم للماضي والحاضر والمستقبل .
وهكذا نمت الحداثة الغربية وترعرعت في أوحال الرذيلة ، ومستنقعات اللاأخلاق ، وأينعت ثمارها الخبيثة على أيدي الشيوعيين من أمثال نيرودا ، ولوركا ، وناظم حكمت ، وفتشنكو ، والوجوديين أمثال سارتر ، وسيمون دي بوفوار ، وألبير كامو ، وآتت أكلها على أيدي الجيل المنظر والداعم لها والمحفز على السير في ركابها من أمثال ألوي أراجون ، وهنري لوفيفر ، وأوجين جراندال ، ورولان بارت ، ورومان ياكوبسون ، وليفي شترواس ، وبياجيه ، وغيرهم كثر .
الحداثة العربية
تسللت الحداثة الغربية إلى أدبنا ولغتنا العربية وفكرنا ومعتقداتنا وأخلاقياتنا كما تتسلل الأفعى الناعمة الملمس لتقتنص فريستها ، أن تشعر الفريسة بها إلا وهي جثة هامدة تزدردها رويدا رويدا ، هكذا كان تسلل الحداثة إلى عقول معتنقيها وروادها وسدنتها من أدباء ونقاد ومفكرين على امتداد الوطن العربي . وهي كغيرها من المذاهب الفكرية ، والتيارات الأدبية التي سبقتها إلى البيئة العربية كالبرناسة ، والواقعية ، والرمزية ، والرومانسية ، والوجودية ، وجدت لها في فكرنا وأدبنا العربي تربة خصبة ، سرعان ما نمت وترعرعت على أيدي روادها العرب ، أمثال غالي شكري ، وكاهنها الأول والمنظر لها على أحمد سعيد المعروف " بأدونيس " ، وزوجته خالدة سعيد من سوريا ، وعبد الله العروي من المغرب ، وكمال أبو ديب من فلسطين ، وصلاح فضل ، وصلاح عبد الصبور من مصر ، وعبد الوهاب البياتي من العراق ، وعبد العزيز المقالح من اليمن ، وحسين مروة من لبنان ، ومحمود درويش ، وسميح القاسم من فلسطين ، ومحمد عفيفي مطر ، وأمل دنقل من مصر ، وعبد الله القذامي ، وسعيد السريحي من السعودية ، وغيرهم .(/4)
وقد أشار غالي شكري في كتابه الشعر الحديث إلى أين إلى الروافد التي غذت بذرة الحداثة العربية فقال : " كانت هذه المجموعة من الكشوف تفصح عن نظرة تاريخية تستضيء بالماضي لتفسر الحاضر ، وتنبئ بالمستقبل . فالمنهج الجدلي ، والمادية التاريخية يتعرفان على أصل المجتمع ، ثم يفسران أزمة العصر ، أو النظام الرأسمالي ، ثم يتنبآن بالمجتمع الاشتراكي الذي ينعدم فيه الصراع الطبقي " .
ويقول أدونيس في كتابه التابث والمتحول كما ذكر الدكتور محمد هدارة في مقال له نشر في مجلة الحرس الوطني السعودي : " لا يمكن أن تنهض الحياة العربية ، ويبدع الإنسان العربي إذا لم تنهدم البنية التقليدية السائدة للفكر العربي ، ويتخلص من المبنى الديني التقليدي الاتباعي " . وهذه الدعوة الصريحة والخبيثة في حد ذاتها دعوة جاهرة للثورة على الدين الإسلامي ، والقيم والأخلاق العربية الإسلامية ، والتخلص منها ، والقضاء عليها .
ثم يقول أدونيس أيضا في مقابلة أجرتها معه مجلة فكر وفن عام 1987 م : " إن القرآن هو خلاصة ثقافة لثقافات قديمة ظهرت قبله . . . وأنا أتبنى التمييز بين الشريعة والحقيقة ، إن الشريعة هي التي تتناول شؤون الظاهر ، والحقيقة هي التي يعبرون عنها بالخفي ، والمجهول ، والباطن ، ولذلك فإن اهتمامي بالمجهول ربما يأتي ، ويتغير باستمرار ، وهذا ما يتناقض مع الدين " .
مما سبق يتضح أن رواد الحداثة لم يكونوا دعاة للتجديد بمفهومه المتعارف عليه في اللغة ولا يعني بالأدب والشعر كما يدعون ، وإنما هم دعاة للهدم والتخريب ، كما يعلنون عن ذلك صراحة في كتبهم النقدية ودواوينهم الشعرية ومؤلفاتهم بشكل عام . فقد ضل كثير منهم يخلط بين الحداثة كمنهج فكري ، يدعو إلى الثورة والتمرد على الموروث والسائد والنمطي بأنواعه المختلفة عقيدا ولغة وأدبا وأخلاقا ، وبين المعاصرة والتجديد الذي يدعو إلى تطوير ما هو موجود من ميراث أدبي ولغوي ، والإضافة عليه بما يواكب العصر ، ويتواءم مع التطور ، منطلقا من ذلك الإرث الذي لا يمكن تجاوزه بحال من الأحوال ، فهو عنوان الأمة ، ورمز حضارتها ، والأمة التي لا موروث لها لا حضارة لها ، وجديدها زائف ممجوج .
وقد تسللت الحداثة الغربية إلى فكرنا العربي في غفلة دينية لدى الكثيرين من المثقفين العرب المسلمين ، وإن كان القلة منهم هم الذين تنبهوا لهذا الخطر الداهم للغتهم وعقيدتهم وأدبهم على حد سواء ، فحاولوا التصدي لها بشتى الطرق والوسائل المتاحة والممكنة ، ولكن سدنتها كانوا أسرع إلى التحايل على الجهلة وأنصاف المثقفين ممن يدعون أنهم منفتحون على الفكر الغربي وثقافته ، ولا بد أن يواكبوا هذا التطور ويتعاملوا معه بما يقتضيه الواقع ، وإن كان واقعا مزيفا لا يخطف بريقه إلا عقول الجهلاء والأتباع . فأخذ دعاتها على عواتقهم تمرير هذه البدعة الجديدة ، وجاهدوا في الوصول إلى أغراضهم الزائفة حتى استطاعوا أن يقنعوا الكثيرين بها باعتبارها دعوة إلى التجديد والمعاصرة تهدف إلى الانتقال بالأدب العربي المتوارث نقلة نوعية جديدة تخلصه مما علق به من سمات الجمود والتخلف ليواكب التطور الحضاري الذي يفرضه واقع العصر الذي نعيشه ، والذي تفرضه سنن الحياة . لذلك نجد أدونيس يقول في كتابه الثابت والمتحول ج 3 ص 9 : " ومبدأ الحداثة هو الصراع القائم بين السلفية والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام ن وقد تأسس هذا الصراع في أثناء العهدين الأموي والعباسي ، حيث نرى تيارين للحداثة : الأول سياسي فكري ، ويتمثل من جهة في الحركات الثورية ضد النظام القائم ، بدءا من الخوارج ، وانتهاء بثورة الزنج ، مرورا بالقرامطة ، والحركات الثورية المتطرفة ، ويتمثل من جهة ثانية في الاعتزال والعقلانية الإلحادية وفي الصوفية على الأخص " .
ثم يواصل أدونيس حديثة قائلا : " هكذا تولدت الحداثة تاريخيا من التفاعل والتصادم بين موقفين وعقليتين في مناخ تغير ، ونشأت ظروف وأوضاع جديدة ، ومن هنا وصف عدد من مؤسسي الحداثة الشعرية بالخروج " المرجع السابق ج3 ص11 .(/5)
ويعتبر أدونيس المنظر الفكري للحداثيين العرب الذي أخذ على عاتقه نبش كتب التراث ليستخرج منها كل شاذ ومنحرف من الشعراء والأدباء والمفكرين من أمثال بشار بن برد وأبي نواس ، لأن في شعرهم كثير من المروق على الإسلام ، والتشكيك في العقائد ، والسخرية منها ، والدعوة للانحلال الجنسي كما يذكر عوض القرني في كتابه الحداثة في ميزان الإسلام ص 28 . ويواصل القرني حديثه : " وهكذا بعد أن حاول الحداثيون العرب أن يوجدوا لهم جذورا تاريخية عند فساق وزنادقة ، وملاحدة العرب في الجاهلية والإسلام ، انطلقت سفينتهم غير الموفقة في العصر الحديث تنتقل من طور إلى آخر متجاوزة كل شيء إلى ما هو أسوء منه ، فكان أول ملامح انطلاقتهم الحديثة هو استبعاد الدين تماما من معاييرهم وموازينهم بل مصادرهم ، إلا أن يكون ضمن ما يسمونه بالخرافة ، أو الأسطورة ، ويستشهد على صحة قوله بما نقله عن الكاتبة الحداثية خالد سعيد في مجلة فصول بعنوان الملامح الفكرية للحداثة حيث تقول : " إن التوجهات الأساسية لمفكري العشرينات تقدم خطوطا عريضة تسمح بالمقول إن البداية الحقيقية للحداثة من حيث هي حركة فكرية شاملة ، قد انطلقت يوم ذاك ، فقد مثل فكر الرواد الأوائل قطيعة مع المرجعية الدينية والتراثية كمعيار ومصدر وحيد للحقيقة ، وأقام مرجعين بديلين : العقل والواقع التاريخي ، وكلاهما إنساني ، ومن ثم تطوري ، فالحقيقة عن رائد كجبران ، أو طه حسين لا تلمس بالعقل ، بل تلمس بالاستبصار عند جبران ، والبحث المنهجي العقلاني عند طه حسين " الحداثة في ميزان الإسلام ص 29 ، 30 عوض القرني .
ومن دعاة الحداثة العربية ـ وهم كثر ـ نذكر منهم على سبيل المثال ، علي أحمد سعيد " أدونيس " وزوجته خالدة سعيد ، وعبد الله العروي ، وكمال أبوديب ، وصلاح فضل ، وصلاح عبد الصبور ، وعبد العزيز المقالح ، وحسين مروة ، ومحمد عفيفي مطر ، وأمل دنقل وعبد الوهاب البياتي ، واحمد مطر ، ومحمود درويش ، وسميح القاسم ، وعبد الله الغذامي ، وسعيد السريحي ، وعبد الله الصيخان ، ومحمد التبيتي ، وأحمد نائل فقيه من المملكة العربية السعودية ، وهؤلاء منهم الشعراء ، ومنهم النقاد ، والكاتبون .
إعداد
الدكتور / مسعد محمد زياد
دكتوراه في الأدب الحديث والنقد
جامعة الخرطوم
مشرف ومطور تربوي
ومحاضر في العلوم اللغوية والتربوية
ومستشار تربوي لمنتديات الحصن النفسي(/6)
... ...
الحذر ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- الحذر في اللغة والاصطلاح. 2- الأمر بالحذر في الكتاب والسنة. 3- لا يغني حذر من قدر. 4- الحذر من أعداء الدين وأذنابهم. 5- أنواع الحذر. 6- وسائل في أخذ الحذر. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
يقول رب العزة سبحانه: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63]. طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام طاعة لله تعالى، ومعصية الرسول عليه الصلاة والسلام معصية له تعالى، وفي الآية تحذير من الله عز وجل للأمة من أن تعصي رسولها عليه الصلاة والسلام، لأن في معصية رسول الله فتنة وعذاب، فتنة في القلوب بالكفر والنفاق، وعذاب في الدنيا والآخرة.
فما الحذر؟ ولماذا؟ وما أنواعه؟ وما وسائل الحذر في إسلامنا؟
أما الحذر لغة: فهو اليقظة والتأهب .
اصطلاحا: هو أخذ الحيطة للأمر قبل وقوع المكروه.
وينبغي أن تعلم :
أن الحذر ثابت في الكتاب وثابت في السنة، ثابت في الكتاب قول رب العزة سبحانه: يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا [النساء:71]. وفي السنة فعل النبي عليه الصلاة والسلام، عندما أراد الهجرة جاء إلى دار أبي بكر في الهاجرة، أي في وقت الظهيرة، ولما دخل دار أبي بكر قال: ((أخرج عني من عندك، فقال أبو بكر: إنما هما ابنتاي، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله أذن لي في الخروج والهجرة))، وهذا يدل على حذر النبي عليه الصلاة والسلام، في الزمان وفي المكان، مجيئه وقت الهاجرة وقت الظهيرة، حيث سكون الحركة، واطمئنان النبي عليه الصلاة والسلام أن المكان آمن بقوله: ((أخرج عني من عندك))([1]).
وينبغي أن تعلم أن الحذر من صفات المؤمنين، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((المؤمن كيس فطن)) يقول عمر بن الخطاب : (لست بالخب ولا الخب يخدعني)، لست بالخب أي المخادع، ولا يستطيع مخادع أن يخدعني .
ينبغي أن تعلم أيضا أنه لا ينبغي للمؤمن أن يكون ساذجا، لا يعتبر بالأحداث تدور حوله، فإذا ما خانك إنسان فلا ينبغي أن تثق به مرة أخرى، فتلك هي السذاجة، وإذا ما جربت فساد أمر فلا ينبغي أن تعود مرة ثانية وتجرب التجربة مرة أخرى، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين))([2]).
وينبغي أن تعلم أيضا أنه لا يغني حذر من قدر، مشيئة الله نافذة، وعند البلاء ينبغي أن تعلم أنك المقصود فيه، فإذا نجوت فإنما تنجو بقدر الله عز وجل، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك))([3]). لذا يعلمنا رسول الله عليه الصلاة والسلام عند البلاء أن لا نكثر من اللوم لأنفسنا بل أن نرضى بقضاء الله، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((فإن أصاب أحدكم شيئا فلا يقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل))([4]).
وأما لماذا الحذر؟
فلابد من الحذر، لأن أعداء الله تعالى حريصون على إبادة هذا الدين وأهله، يرفعون لواء وشعار: "دمروا الإسلام أبيدوا أهله"، وهم لا يتحرجون من أن يستخدموا أي أسلوب لتحقيق هدفهم قط بالقتل، قال تعالى حكاية عن فرعون: ذروني أقتل موسى وليدع ربه [غافر:26] بالإخراج والنفي عن البلاد: أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [الأعراف:82]. جريمة لوط عليه السلام أنه كان عفيفا، والعفيف لابد أن يخرج من البلاد، فالبلاد أرض الأرجاس فقط، ثم بالسخرية أيضا: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين [المطففين :28-31]. أو أن يلبس المفسدون ثوب الإصلاح: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون [البقرة:11-12].
ولابد من الحذر أيضا، لماذا؟ لأن الناس ليسوا سواء، فمن الناس الوفي ومنهم الغادر، ومنهم الطيب ومنهم الخبيث، ومنهم الصالح ومنهم الطالح، إن من النفوس نفوسا تبلغ في خستها أنها لا تنتقم إلا ممن يحسن إليها ويتفضل، يذكر لنا من سبقنا علما وفضلا في حادثة جرت أن رجلا ارتكب جرما، فأوى إلى بيت كرام فآووه، ورب الدار يطعمه ويسقيه ويكرمه في بيته شهورا طويلة حتى هدأت العيون وسكت الناس عن طلبه، بعد هذا يقوم الجاني فيقتل رب الدار، يقتل رب الدار الذي أحسن إليه، يسأله الناس بعد ذلك: لم فعلت هذا؟! فقد أحسن إليك كل الإحسان! فيقول لهم: إني كلما نظرت إليه تذكرت إحسانه علي، فيضيق صدري، فأردت أن أقتله حتى أستريح، نفوس كنفوس الوحش من الحيوان.
ذكر أن امرأة رأت جرو ذئب فكانت ترضعه من شاة عندها، لما كبر الذئب قام إلى الشاة فقتلها وأكلها وهرب، عادت العجوز تقول:
بقرت شويهتي و فجعت قلبي وكنت لها ابن ربيب
غذيت بدرها وعشت معها فمن أدراك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع ذئب فلا أدب يفيد ولا أديب(/1)
وأيضا لابد من الحذر، لأن من الناس من يعيشون على هفوات الآخرين وأخطائهم، بل قل يعيشون على كلمة الحق إذا قيلت، فيكتبون ويتجسسون والتجسس لا يكون في محيط المسلمين، ولا يكون إلا على أعداء الله عز وجل، ورب العزة يقول: ولا تجسسوا [الحجرات:12]. ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة نمام))([5])، وهو الذي ينقل الحديث حتى يوقع الأذى بمن يريد، مر النبي عليه الصلاة والسلام على قبرين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يتنزه من البول)) أي لا يتحفظ من بوله([6]).
وقد جاء في الأثر: ((لا تقوم الساعة حتى لا يأمن فيه المرء جليسه)).
وأما أنواع الحذر:
أولا: فأول الحذر حذر العبد من ذنوبه، إن للحسنة خيرا وبركة كما أن للسيئة غضبا من الله ولعنة، لقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((إني إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإذا عصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد))([7])، وعلى العبد أن يحذر الذنب وأثر الذنب بعد ذلك، على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة.
على مستوى الفرد يقول رب العزة سبحانه: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفس محمد بيده ما يصيب العبد من خدش عود أو اختلاع عرق أو نكبة بحجر أو عثرة بقدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر))([8])
ب – وعلى مستوى الأمة، هلاك الأمة بمعاصيها يكون، وصدق الله العظيم: فأهلكناهم بذنوبهم [الشورى:30]. عندما فتح المسلمون قبرص وسبي أهلها، بكى أبو الدرداء ، قيل له: أتبكي في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله ؟! قال: (دعك من هذا، إنما أبكي لهوان الخلق على الله، فبينما هي أمة قاهرة قادرة، إذ عصت أمر ربها فصارت إلى ما ترى) .
ثانيا: ومن الحذر أن يحذر العبد إمهال الله واستدراجه: إن من أسماء الله الحليم، كما أن من أسماء الله الصبور، كما أن من أسماء الله المنتقم، من حلم الله عز وجل أنه لا يعجل العقوبة للظالم أو لغيره، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته))([9])، ليملي، يمد للظالم في ظلمه .
بل إن الله عز وجل ينعم على العاصي حتى يوغل في المعصية، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأيت الله يعطي العبد على معاصيه فاعلم أنه استدراج))، ثم تلى قوله تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ([10]).
ثالثا: ومن الحذر، حذر العبد من نفسه، وصف رب العزة النفس فقال: إن النفس لأمارة بالسوء [يوسف:53]، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))([11])، ما تكرهه النفس من بذل وعطاء وجهاد هو الطريق إلى الجنة، وما ترغبه النفس من فحش وحرام هو السبيل إلى النار، وعلى العبد أن يحذر نفسه في حال ضعفها أو قوتها، ففي حال ضعفها أن لا يسيء الظن بالله عز وجل فلا يأس مع الله: ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون [يوسف:87]. وفي حال قوتها: ((إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك))، رأى النبي عليه الصلاة والسلام أبا مسعود وهو يضرب غلاما عنده، قال عليه الصلاة والسلام مغضبا: ((اتقِ من هو أقدر عليك منك عليه))، يقول: فالتفت فإذا رسول الله غاضب، فقلت: هو حر لوجه الله يا رسول الله، قال: ((والله لو لم تقلها لمستك النار))([12]). أصحاب النفوس العلية الكريمة إذا وسّع الله عليهم لم يزدادوا إلا تواضعا وذلة لله وللمؤمنين، عمر بن الخطاب على جلالة قدره، ويدمر رب العزة دولة كسرى وفارس تحت قدمه، ويحكم ثلث العالم في وقته، وقف على المنبر والناس عند قدمه، فتعجبه نفسه فيقول – مخاطبا لنفسه -: (لقد كنت تسمى عميرا، ولقد كنت ترعى غنميات لآل الخطاب، على تمرات تأكلها وتسد بها جوعتك، ثم أصبحت تسمى عمرا، ثم أصبح يقال لك: أمير المؤمنين)، ثم ترك المنبر ونزل، سأله الناس، لماذا قلت هذا يا أمير المؤمنين ؟! قال: (أعجبتني نفسي فأردت أن أذلها)، إن الذين تفاجئهم النعمة، ولم يكن عندهم من الدين ما يحفظ لهم تماسك عقولهم وإيمانهم، طغوا وتكبروا واستكبروا ونظروا إلى الخلق نظر احتقار وسخرية واستهزاء، يريد من الناس أن يحترموه ولا يحترم، يريد من الناس أن يقدروه ولا يقدر، نفوس وضيعة لفقدانها الحذر من هذا الأمر.(/2)
رابعا: ومن الحذر أيضا حذر العبد من أهله: من أن يحولوا بينه وبين طاعة الله أو الجهاد، كان عبد الرحمن بن مالك الأشجعي كلما أراد الجهاد قامت إليه زوجته وولده يقولون له: إلى من تتركنا، كيف لو قتلت، ماذا نفعل بالحياة من بعدك؟ فيرق لحالهم ويجلس ولا يجاهد، فأنزل رب العزة قوله: يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم [التغابن:14]. عدوا لكم يفعلون فعل العدو في أن يحولوا بينكم وبين طاعة الله سبحانه، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [المنافقون:9]. وليكن واضحا في ذهنك كيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة؟ يقول رب العزة سبحانه: يوم يفر المرء من أخيه % وأمه وأبيه % وصاحبته وبنيه % لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [عبس:34-37].
يقول عكرمة: (يلقى الرجل زوجته يوم القيامة يقول لها: أي زوج كنت لك؟ تقول: نعم الزوج، فيقول لها: فإني أسألك حسنة واحدة أنجو بها مما أنا فيه، فتقول له: ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مما تتخوف منه، أنا أخاف عذاب الله كما أنك تخاف، فتبخل عليه بالحسنة، يلقى الوالد ولده، يقول له: أي والد كنت لك؟ فيقول: نعم الوالد، فيقول: فإني أسألك اليوم حسنة واحدة أنجو بها مما أنا فيه، فيقول: ما أيسر ما طلبت ولكني أتخوف مما تتخوف منه)([13]). فمن الغباء بمكان أن يضيع العبد آخرته بدنيا غيره.
خامسا: ومن الحذر حذر العبد في صحبته: أوصانا رب العزة سبحانه أن نصحب الصالحين فقال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة:119]. ورسول الله عليه الصلاة والسلام يوضح لنا أثر الصحبة الخيرة والفاسدة فيقول: ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يعطيك وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة))([14]). إما أن يوقعك في مهلكة وإما أنك لن تسمع منه الكلمة الطيبة، يقول الشاعر:
احذر عدوك مرة و احذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة
لذا كان لابد من التجربة والمحك قبل أن يكون بينك وبينه صحبة، يقول أحد الصالحين: (إذا أردت أن تصحب أحدا فأغضبه، فإذا ذكرك بالخير وحفظ سرك فاحرص عليه فإنه أخوك، وإذا ذكرك بالسوء وكشف سرك فلا تحرص عليه فإنه لئيم).
سادسا: ومن الحذر أخيرا أن تحذر أعداء الله تعالى، رب العزة بقدرته بعلمه يقول: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا [المائدة:82]. رسول الله عليه الصلاة والسلام، رسولنا قدوتنا يقول: ((ما خلا يهودي بمسلم إلا همّ بقتله))([15])، إعلام كامل بعداوة اليهود لنا، تاريخهم الأسود وأنهم لا يربطهم عهد ولا ميثاق، وتجد في الأمة من يصف اليهود بأنهم أبناء العمومة، لعنة الله على أبناء العمومة وعلى من ينتسب إليهم، أو أنه يقول لابد أن يكون بيننا وبينهم مواثيق وعهود، وينسى الغبي ما كان من عهودهم ومن تاريخهم مع الأنبياء ومعنا، في واقعنا الحاضر، ويقف منهم موقف الخادم من سيده، والله يقول: قل أأنتم أعلم أم الله .
إن الذي يعرض عن منهج الله سبحان يفوته السداد والتوفيق، كما وتتقاذفه الوساوس وتعبث به الأهواء فيزن الأمور بموازين الأرض لا السماء، ويزيد الأمر ضلالا وجود علماء السوء الذي يحللون ما حرّم الله ورسوله، فنسأل الله العافية.
وأما وسائل الحذر في إسلامنا فهي كثيرة:
منها التخفي والاستتار: فقد كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام إذا أرادوا الصلاة ذهبوا إلى شعب الجبال، شقوق الجبال، يصلون هناك يوم كانوا بمكة خوفا من بطش الكفار بهم([16]).
ومن وسائل الحذر أيضا هو التفرق وعدم التجمع، أخذا من قول رب العزة سبحانه: وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة [يوسف:67]. وصية يعقوب عليه السلام لبنيه، قال العلماء: وفي الآية تفسيران، التفسير الأول أنه خشي عليهم من العين، فكلهم إخوة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((العين حق))([17])، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر)) وقيل: هو خوفا من أن يلفتوا النظر إليهم لتجمعهم.
ومن وسائل الحذر أيضا هو استخدام المعاريض، هو أن تقول كلاما تقصد به أمرا ويفهم السامع غير الذي تريد، عندما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام ومعه أبو بكر ، وفي الطريق مروا بقوم يعرفون أبا بكر ولكنهم لا يعرفون النبي عليه الصلاة والسلام، فقالوا لأبي بكر: من هذا الذي معك؟ لو قال إنه رسول الله فقريش قد وضعت جائزة لمن يأتي برسول الله حيا أو ميتا، مائة ناقة لمن يأتي برسول الله حيا أو ميتا، فقال لهم أبو بكر: إنه دليلي يدلني على الطريق، ويقصد بالدليل أن رسول الله هو دليله إلى الإسلام، بل هو الدليل للأمة كلها إلى الله عز وجل، ولكن القوم فهموا أنه يعرفه بمعاريج الطريق وسبل السير فيها .(/3)
ومن وسائل الحذر أيضا هو الكذب، يجوز للمسلم أن يكذب في أحوال ثلاث، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((عند اصلاح ذات البين))، كأن تقول لفلان: والله إن فلان يذكرك بالخير، وتقول مثل هذا لصاحبه حتى تقرب بين القلوب، مع أن كليهما لم يذكرا ذلك: ((وعند الحرب وقول الرجل لزوجته وقول الزوجة لزوجها))([18])، أن يذكرها بأنها أجمل النساء وليست كذلك، أو أنه أشجع الناس وهو ليس كذلك.
ومن الوسائل أخيرا، التشبه بالكفار للمصلحة: صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه وأرضاه، عندما أراد فتح بيت المقدس كان من الوسائل التي استخدمها أن يأمر بعض المسلمين أن يتشبهوا بزي أعداء الله من الأفرنجة، فيحلقوا لحاهم ويلبسوا زيهم، ويدخلون بيت المقدس يتعرفون على مواضع الضعف فيها وإيصال تلك المعلومات، بعد ذلك، مما كان لها الأثر في الفتح المبين.
([1])تهذيب السيرة لابن هشام ص 122 .
([2])متفق عليه .
([3])رواه أحمد.
([4])رواه مسلم .
([5])متفق عليه .
([6])رواه الجماعة .
([7])رواه أحمد .
([8])ابن أبي حاتم عن الحسن البصري مرسلا .
([9])متفق عليه .
([10])رواه أحمد / الآية الأنعام : 44 .
([11])رواه مسلم .
([12])رواه مسلم .
([13])مختصر ابن كثير مج2 ص 602 .
([14])رواه البخاري ومسلم .
([15])الحفظ ابن مردويه .
([16])تهذيب سيرة ابن هشام ص 51-52 .
([17])رواه أحمد .
([18])رواه مسلم . ... ...
... ...
... ...
... ...(/4)
الحراسة في سبيل الله
تعتبر الحراسة في سبيل الله من أعظم القربات وأعلى الطاعات وهي أفضل أنواع الرباط وكل من حرس المسلمين في موضع يخشى عليهم فيه من العدو فهو مرابط , ومع أن هذه الطاعة العظيمة باتت من المفقودات في هذا الزمان , حتى أنه أصبح القائم بها متهما ومطلوبا في زمن الذلة والمهانة والاستسلام , وما ذلك إلا لعلم العدو قبل الصديق أهمية وجود الخطوط المتقدمة للأمة ومكانة القائمين على هذه الخطوط!!.
ولا يعني ترك المسلمين لهذه العبادة عدم أهميتها أو انتقاص شأنها في ديننا بل إن المر خلاف ذلك تماما وقد نبه الله تعالى إلى هذا الأمر فقال جل جلاله : { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } وقال تعالى : { ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } .
وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { تعِس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله , أشعث رأسه مغبرة قدماه , إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع }.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : لأن أبيت حارسا خائفا في سبيل الله عز وجل أحب إلي من أن أتصدق بمائة راحلة .
وللحراسة في سبيل الله فضائل عديدة كثيرة منها : -
أولا : النار لا تمس عينا حرست في سبيل الله .
روى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :{ عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله }.
روى النسائي وأحمد والحاكم عن أبي ريحانة الأزدي رضي الله عنه قال :{ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأتينا ذات يوم على شرف فبتنا عليه فأصابنا برد شديد حتى رأيت من يحفر في الأرض حفرة يدخل فيها ويلقي عليه الحجفة ( الترس) فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس قال : من يحرسنا الليلة ؟ وأدعو له بدعاء يكون فيه فضل , فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله , قال ادن , فدنا , فقال من أنت ؟ فتسمى له الأنصاري , ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء , فأكثر منه , قال أبو ريحانة : فلما سمعت ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم , قلت: أنا رجل آخر , قال: ادن , فدنوت , فقال : من أنت ؟ قلت: أبو ريحانة, فدعا لي بدعاء هو دون ما دعا للأنصاري ثم قال : حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله }.
ثانيا : شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حرس في سبيل الله أنه من أهل الجنة :
روى أبو داود وأبو عوانة والبيهقي والحاكم عن سهل ابن الحنظلية رضي الله عنه {أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كان عشية فحضرت صلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فارس فقال : يا رسول الله : إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين ! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله , ثم قال : من يحرسنا الليلة ؟ قال أنس بن مرثد الغنوي : أنا يا رسول الله , قال له : اركب فركب فرسا له , وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم : استقبل هذا الشعب حتى نكون أعلاه ولا نُغرّنّ من قبلك الليلة ! فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال : هل أحسستم فارسكم ؟ قالوا يا رسول الله ما أحسسناه ! فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب , حتى إذا قضى صلاته وسلم قال : ابشروا فقد جاء فارسكم , فجعلنا ننظر إليه خلال الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا ... , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل نزلت الليلة ؟ قال : لا إلا مصليا أو قاضي حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجبت , فلا عليك ألا تعمل بعدها } .
ثالثا : حراسة ليلة في موضع يخاف على نفسه أفضل من ليلة القدر .
روى البيهقي والحاكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ألا أنبئكم ليلة أفضل من ليلة القدر ؟ حارس حرس في أرض خوف لعله إن لا يرجع إلى أهله }.
رابعا : حراسة ليلة أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها.(/1)
أخرج ابن عساكر عن أرطأة بن المنذر : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لجلسائه : أي الناس أعظم أجرا؟ فجعلوا يذكرون له الصوم والصلاة ويقولون : فلان وفلان بعد أمير المؤمنين ! فقال ألا أخبركم بأعظم الناس أجرا ؟ ممن ذكرتم ومن أمير المؤمنين ؟ قالوا : بلى , قال : رويجل بالشام آخذ بلجام فرسه يكلأ ويحرس من وراء بيضة المسلمين لا يدر : أسبع يفترسه ؟ أم هامة تلدغه ؟ أم عدو يغشاه ؟ فهذا أعظم أجرا ممن ذكرتم ومن أمير المؤمنين ...!!(/2)
الحساب
إن من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها – الحساب- ومعناه أن الله - سبحانه وتعالى - سيعدد على الخلق أعمالهم من إحسان وإساءة، ويعدد عليهم نعمه، ويشمل الحساب ما يقوله الله لعباده، وما يقولونه له، وما يقيمه عليهم من حجج وبراهين، وشهادة الشهود، ووزن الأعمال.
والحساب منه العسير، ومنه اليسير، ومنه التكريم، ومنه التوبيخ والتبكيت، ومنه الفضل والصفح، ويتولى ذلك أكرم الأكرمين1.
ولنعش سوياً مع الإمام القرطبي - رحمه الله -حيث يصور لنا مشهد الحساب فيقول: فإذا بعثوا – أي العباد- من قبورهم إلى الموقف، وقاموا فيه ما شاء الله، حفاة عراة، وجاء وقت الحساب الذي يريد الله أن يحاسبهم فيه، أمر بالكتب التي كتبها الكرام الكاتبون، بذكر أعمال الناس فأتوها، فمنهم من يؤتى كتابه بيمينه، فأولئك هم السعداء، ومنهم من يؤتى كتابه بشماله أو وراء ظهره، وهم الأشقياء، فعند ذلك يقرأ كل كتابه؛ وأنشدوا:
مثل وقوفك يوم العرض عرياناً ... ***** ... مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنق ... ***** ... على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل ... ***** ... فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
لما قرأت ولم تنكر قراءته ... ***** ... إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي ... ***** ... امضوا بعبد عصى للنار عطشانا
المشركون غداً في النار يلتهبوا ... ***** ... والمؤمنون بدار الخلد سكانا
فتوهم نفسك - يا أخي- إذا تطايرت الكتب، ونصبت الموازين، وقد نوديت باسمك على رؤوس الخلائق: أين فلان بن فلان؟ هلم إلى العرض على الله - تعالى-، وقد وكلت الملائكة بأخذك، فقربتك إلى الله، لا يمنعها اشتباه الأسماء باسمك واسم أبيك، إذا عرفت أنك المراد بالدعاء، إذا قرع النداء قلبك، فعلمت أنك المطلوب، فارتعدت فرائصك، واضطربت جوارحك، ونغير لونك، وطار قلبك؛ خطى بك الصفوف إلى ربك للعرض عليه والوقوف بين يديه، وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم، وأنت في أيديهم وقد طار قلبك واشتد رعبك لعلمك أين يراد بك.
فتوهم نفسك وأنت بين يدي ربك في يدك صحيفة مخبرة بعملك لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأة خبأتها، وأنت تقرأ فيها ما فيها بلسان كليل، وقلب منكسر، والأهوال محدقة بك من بين يديك ومن خلفك، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكركها، وكم من سيئة قد كنت أخفيتها قد أظهرها وأبداها، وكم من عمل أملك فيه عظيماً، فيا حسرة قلبك ويا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} فعلم أنه من أهل الجنة {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} وذلك حين يأذن الله فيقرأ كتابه.
فإذا كان الرجل رأساً في الخير يدعو إليه ويأمر به ويكثر تبعه عليه، ودعي باسمه واسم أبيه فيقدم؛ حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض في باطنه السيئات وفي ظاهره الحسنات، فيبدأ بالسيئات فيقرؤها فيشفق ويصفر وجهه، ويتغير لونه، فإذا بلغ آخر الكتاب، وجد فيه هذه سيئاتك وقد غفرت لك، فيفرح عند ذلك فرحاً شديداً، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته، فلا يزداد إلا فرحاً شديداً، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته، فلا يزاداد إلا فرحاً، ويؤتى بتاج فيوضع على رأسه، ويكسى حلتين، ويحلى كل مفصل فيه، وبطول ستين ذراعاً هي قامة آدم، ويقال له: انطلق إلى أصحابك فبشرهم وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا؛ فإذا أدبر قال: {هاؤم اقرؤوا كتابيه إني ظننت أني ملاقٍ حسابية} قال الله: {فهو في عيشةٍ راضية} أي مرضية قد رضيها{في جنة عالية}في السماء {قطوفها} ثمارها وعناقيدها {دانية} أدنيت منهم، فيقول لأصحابه هل تعرفونني؟ فيقولون: قد غمرتك كرامة الله من أنت؟ فيقول: أنا فلان ابن فلان يبشر كل رجل منكم بمثل هذا {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية}أي قد متم في أيام الدنيا.(/1)
وإذا كان الرجل رأساً في الشر يدعو إليه ويأمر به، فيكثر نبعه عليه، ونودي باسمه واسم أبيه، فيتقدم إلى حسابه فيخرج له كتاب أسود بخط أسود في باطنه الحسنات وفي ظاهره السيئات، فيبدأ بالحسنات فيقرؤها ويظن أنه سينجوا، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه: هذه حسناتك وقد ردت عليك، فيسود وجهه ويعلوه الحزن، وتقنط من الخير، ثم يقلب كتابه فيقرأ سيأته فلا يزداد إلا حزناً ولا يزداد وجهه إلا سواداً، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه: هذه سيئاتك وقد ضوعفت عليك، أي يضاعف عليه العذاب، وليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل.. فينظر إلى النار وتزرق عيناه، ويسود وجهه، ويكسي سرابيل القطران، ويقال له: انطلق إلى أصحابك فأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا فينطلق وهو يقول: {يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية}يعني الموت {هلك عني سلطانيه}.. {خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه}2 . والله أعلم بأي ذراع.. وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فتخلع كتفه اليسرى، فتجعل يده خلفه فيأخذ بها كتابه، قال مجاهد: يحول وجهه في موضع قفاه فيقرأ كتابه كذلك.
فتوهم نفسك إن كنت من السعداء، وقد خرجت على الخلائق مسرور الوجه، قد حلّ لك الكمال والحسن والجمال، كتابك بيمينك، آخذ بضبعك ملك ينادي على رؤوس الخلائق: هذا فلان بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً.
أما إن كنت من أهل الشقاوة، فيسود وجهك، وتتخطى الخلائق، كتابك في شمالك أو من وراء ظهرك، تنادي بالويل والثبور، وملك آخذ بضبعك ينادي على رؤوس الخلائق: إلا أن فلان بن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً 3.
ويصف ذلك الموقف الرهيب الإمام حافظ حكمي –رحمه الله - فيقول:
واحضروا للعرض والحساب ... وانقطعت علائق الأنساب
وارتكمت سحائب الأهوال ... وانعجم البليغ في المقال
وعنت الوجوه للقيوم ... واقتص من ذي الظلم للمظلوم
وساوت الملوك للأجناد ... وجيء بالكتاب والأشهاد
وشهدت الأعضاء والجوارح ... وبدت السوآت والفضائح
وابتليت هنالك السرائر ... وانكشف المخفي في الضمائر
ونشرت صحائف الأعمال ... توخذ باليمن والشمال
طوبى لمن يأخذ باليمين ... كتابه بشرى بحور عين
والويل للآخذ بالشمال ... وراء ظهر للجحيم
أخي الحبيب اعلم - علمني الله وإياك - أن الحساب يكون على أمور كثيرة منها:
1- الفرائض من صلاة وزكاة، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال :" إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، قال يقول ربنا - جل وعز - لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوع قال أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم "4.
2- الدماء وسفكها بغير حق، فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:" أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء""5.
وعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركا أو يقتل مؤمنا متعمدا"6.
3- العمر والمال والجسم والعلم، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه ما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه"7.
4- النعم وشكرها، قال الله تعالى:{ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} 8.وعن عبد الله بن الزبير بن العوام عن أبيه قال لما نزلت { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم}. قال الزبير: وأي نعيم نسأل عنه وإنما هو الأسودان التمر والماء؟ قال أما إنه سيكون9.
5- الحواس واستعمالها، قال تعالى:{ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}10.
6- المسؤولية والأمانة، قال تعالى:{ وقفوهم إنهم مسؤولون } 11.
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال:" ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم وهو مسئول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"12.
7- الكلمة القبيحة، قال صلى الله عليه وسلم:"إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب"13.
وقال أحد الشعراء:
و ما من كاتب إلا ستبقى ... *** ... كتابته وإن فنيت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء ... *** ... يسرك في القيامة أن تراه(/2)
8- الحقوق والمظالم، لحديث: " يقول الله – تعالى-: أنا الديان، أنا الملك لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة "14.أسأل الله حسن الخاتمة. ولتعلم - أخي في الله - أن هناك قواعد يحاسب العباد على أساسها، ولو عذب الله جميع خلقه لم يكن ظالماً لهم؛ لأنهم عبيده وملكه، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء، ولكنه - عز وجل – يحاكمهم محاكمة عادلة، وفق القواعد التالية:
1. العدل التام الذي لا يشوبه ظلم، قال الله: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }15. وقال: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا }16. وقال:{{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}17.
2. لا يؤخذ أحد بجريرة غيره؛ كما قال الله - تعالى-: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}18. وهذا هو العدل الذي لا عدل فوقه، فالمهتدي يقطف ثمار هدايته، والضال ضلالة على نفسه، {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}19.
3. إطلاع العباد على ما قدموه من أعمال، قال الله- تعالى- : {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ}20.
4. مضاعفة الحسنات دون السيئات، قال الله- تعالى-: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}21. وقال: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}22. وهذا مقتضى عدله - تبارك وتعالى -.
5. إقامة الشهود على الكفرة والمنافقين، وأعظم الشهود يوم المعاد على العباد هو خالقهم ومالك أمرهم، الذي يعلم السر وأخفى، ولا تخفى عليه خافية، قال الله: {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}23. وقال: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}24.
ولكن الله يحب الإعذار إلى خلقه، وقد أشارت أكثر من آية إلى الشهداء الذين يشهدون على العباد كقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}25.
وأول من يشهد على الأمم رسلها: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا}26. وفال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا}27
وأمة محمد تشهد على الأمم، ونبيها يشهد عليها وعلى غيرها من الأمم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}28.
أضف إلى ذلك أن الجوارح تشهد بما علمت فاللسان والعينان واليدان والرجلان ، وسائر الجواح يتكلمون كل بما فعل، قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}29. وقال: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}30. وهذه القواعد ذكرنا منها ما ظهر لنا من الكتاب والسنة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وأله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
________________________________________(/3)
1- انظر التذكرة للقرطبي ص256. ط: دار الريان للتراث. والقيامة الكبرى للدكتور عمر الأشقر ص193 ط: دار النقاش.
2 - هذه الآيات التي ذكرها القرطبي من سورة الحاقة19- 30.
3- التذكرة ص294- 297.
4 - رواه أب داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم(770).
5 - رواه البخاري مسلم.
6 - رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم( 3588).
7 - رواه الترمذي وفال حديث حسن.وذكره الألباني في الصحيحة رقم(946).
8 - التكاثر.
9 - رواه ابن ماجة وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة رقم(3354).
10 - الإسراء36.
11 - الصافات24.
12 - متفق عليه.
13 - متفق عليه.
14 - رواه أحمد.
15 - البقرة281.
16 - النساء40.
17 - الزلزلة7- 8.
18 - الأنعام 146.
19 - الإسراء 15.
20 - آل عمران 30.
21 - التغابن 17.
22 - الأنعام 160.
23 - يونس61.
24 - النساء 33.
25 - غافر 51.
26 - النساء41.
27- النحل89. وانظر القيامة الكبرى للدكتور الأشقر ص203- 215.
28 - البقرة 143.
29 - يس 65.
30 - فصلت 19-20-21.(/4)
الحسد أسبابه وعلاجه
إعداد/ صلاح نجيب الدق
الحلقة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وبعد:
فقد تحدثنا في العدد الماضي عن الحسد في القرآن والرد على من ينكر الحسد
وأنواعه ومراتبه، واليوم نستكمل - بحول الله وقوته - ما بدأناه في العدد
الماضي:
ثانيًا: الحسدُ المحمودُ: المقصود بالحسد المحمود هو أن يرى الإنسان
نعمة على غيره، فيتمنى أن يكون له مثلها دون أن يكرهها أو يتمنَّى زوالها عن
ذلك الغير.
[النهاية لابن الأثير جـ1 ص383]
ويُسمى هذا النوع من الحسد المحمود
بالغِبْطة أو المنافسة، ومن المعلوم أن المنافسة في عمل الخيرات وطلب الآخرة
أمر حثنا عليه الله في كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة.
قال
تعالى: سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها
كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله
ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل
العظيم[الحديد: 21]، وقال سبحانه: وفي ذلك فليتنافس
المتنافسون[المطففين: 26].
روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل عَلَّمه الله القرآن فهو يتلوه
آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثلما أُوتي فلان،
فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يُهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني
أُوتيتُ مثل ما أُوتي فلان فعملت مثل ما يعمل».
[البخاري حديث 5026]
عمر ينافس
أبا بكر الصديق رضي الله عنهما
روى أبو داود عن عمر بن الخطاب قال: أمرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبقُ
أبا بكر إن سبقته يومًا. قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» قلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال: «يا أبا
بكر، ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلتُ: والله لا أسابقك إلى
شيء أبدًا.
[صحيح أبي داود للألباني حديث 1472]
المؤمن حقًا لا يحسد أحدًا:
من
صفات عباد الرحمن أنهم لا يحسدون أحدًا على نعمة أَنْعَمَ الله بها عليه.
قال
تعالى: والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم
يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة
مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم
خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون
[الحشر: 9].
قال ابن كثير - رحمه الله -: قوله تعالى: ولا يجدون في
صدورهم حاجة مما أوتواأي: ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين
فيما فَضَّلَهم الله به من المنزلة والشرف والتقدير في الذِّكر والرتبة.
[تفسير
ابن كثير جـ13 ص489]
العين حق:
إن الحسد بالعين ثابت بالكتاب والسنة ولا ينكره
إلا جاحدٍ.
معنى العين:
نظرٌ باستحسان مشوبٌ بحسد من خُبْث الطبع يحصلُ للمنظور
إليه ضرر منه.
[فتح الباري لابن حجر جـ10 ص210]
قال تعالى: وإن يكاد
الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر
ويقولون إنه لمجنون (51) وما هو إلا ذكر
للعالمين <<
[القلم: 51، 52].
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما:
ليزلقونك بأبصارهمبمعنى يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله
لك وحمايته إياك منهم. وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق
بأمر الله عز وجل.
[تفسير ابن كثير جـ14 ص102]
عن ابن عباس أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: «العين حق، ولو كان شيء سابق القَدَر لسبقته العين، وإذا
استغسلتم فاغسلوا». [مسلم حديث 2188]
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين يقول: أُعيذكما بكلمات الله
التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة، ويقول: كان أبوكم إبراهيم يعوِّذ
بهما إسماعيل وإسحاق».
[البخاري حديث 3371]
عن عائشة قالت: «أَمَر النبي صلى
الله عليه وسلم أن نسترقي من العين».
[البخاري حديث 5738، ومسلم حديث 2195]
عن
أسماء بنت عُمَيْس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لي أرى أجسام
بني أخي (أبناء جعفر بن أبي طالب) ضارعة (نحيفة) تُصيبهم الحاجة (الجوع). قالت:
لا، ولكن العين تسرعُ إليهم. قال: ارقيهم». [مسلم حديث 2198]
مقارنة بين الحاسد
والعائن:
الحاسد والعائن يشتركان في الأثر، وهو أن كل منهما يقع منه الضرر،
ويختلفان في الوسيلة، فالعائن مصدر حسده العين، والحاسد مصدر حسده القلب حيث
يتمنى زوال النعمة عن الغير. [بدائع الفوائد لابن القيم جـ2 ص231]
كيف تؤثر
العين في المحسود ؟
قال ابن القيم رحمه الله: قالت طائفة: إن العائن إذا تكيفت
نفسه بالكيفية الرديئة، انبعث من عينيه قوة سُمْيَّة تصل المَعِين (المحسود)
فيتضرر. قالوا: ولا يُستنكر هذا، كما لا يُستنكر انبعاث قوة سُميَّة من الأفعى
تتصل بالإنسان فيهلك، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها
على الإنسان هلك، فكذلك العائن. وقالت فرقة أخرى: لا يُستبعدُ أن ينبعث من عيون
بعض الناس، جواهر لطيفة، غير مرئية فتصل المَعِين وتتخلل مسام جسمه فيحصل له
الضرر.(/1)
[زاد المعاد جـ4 ص165، 166]
الوقاية من حسد العين:
يجب على المسلم الذي
يريد أن يتجنب الحسد عن طريق العين أن يبتعد عن مواجهة الإنسان المعروف بداء
حسد العين وسَتْر محاسن الشيء الذي يخاف عليه الحسد.
[زاد المعاد لابن القيم
جـ4 ص173]
علاج حسد العين:
إذا تأكدنا أن أحد الناس حسد آخر بالعين، فإننا نطلب
من الحاسد أن يتوضأ في إناء ثم نأخذ هذا الماء ونصبه على رأس وظهر المحسود من
خَلْفه، فيبرأ بإذن الله تعالى.
[التمهيد لابن عبد البر جـ9 ص352، ومسلم بشرح
النووي جـ7 ص427]
عن سهل بن حنيف - وذلك عندما نظر عامر بن ربيعة إلى سهل فحسده
- قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرًا فتغيظ عليه، وقال: «عَلاَمَ
يقتلُ أحدُكُم أخاه ! هلا إذا رأيت ما يعجبك بَرَّكت ( أي قلت: اللهم بارك له).
ثم قال له: اغتسل له. فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة
إزاره في قدح ثم صب ذلك الماء عليه. يَصُبه رَجُلٌ على رأسه وظهره من خَلْفه،
ثم يكفئ القدح وراءه، ففعل ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس».
[حديث صحيح:
مسند أحمد جـ2 ص486]
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يُؤمر بالعائن، فيتوضأ،
ثم يغتسل منه المَعِين». [صحيح أبي داود للألباني حديث 3286]
الوقاية من
الحسد:
ذكر الإمام ابن القيم عشرة أسباب للوقاية من الحسد، يمكن أن نوجزها فيما
يلي:
الأول: التعوذ بالله وحده من شر الحسد: فإن الله تعالى سميع لمن استعاذ به
وعليم بما يستعيذ العبد منه.
الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه: فمن اتقى
الله، تولى الله حفظه ولم يكله إلى غيره. قال تعالى: وإن تصبروا
وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا[آل عمران: 120].
الثالث:
الصبر على عدوه: فلا يقاتله ولا يشكوه ولا يُحَدِّث نفسه بأذاه أصلاً، فما نُصر
على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه.
الرابع: التوكل على الله: فإنه من أقوى
الأسباب التي يدفع بها العبد عن نفسه ما لا يطيق من أذى الخَلْق وظلمهم
وعداوتهم. قال تعالى: ومن يتوكل على الله فهو حسبه
[الطلاق: 3]، أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه
لعدوه.
الخامس: فراغ القلب من الاشتغال بالحسد: يجب على المسلم أن يمحو الحسد
من قلبه كلما خَطَرَ له، ولا يلتفت إليه ولا يخافه ولا يملأ قلبه بالفكر
فيه.
السادس: الإقبال على الله وإخلاص العمل له: فالإخلاص هو سبب انتصار العبد
على الشيطان الرجيم، قال تعالى حكاية عن الشيطان: قال فبعزتك
لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين
[ص: 82، 83]، فمن دخل في حصن الإخلاص، لم يخْلُص إليه أحد من الجن
والإنس.
السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب: وليعلم العبد أن ما يصيبه
إنما هو من ذنوبه، قال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما
كسبت أيديكم[الشورى: 30]، وقال سبحانه لأصحاب نبيه صلى الله عليه
وسلم: أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها
قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم[آل عمران: 165]،
فكلما تاب العبد من ذنوبه، كلما كان ذلك سببًا لتجنبه الحسد من الناس.
الثامن:
الصدقة والإحسان إلى الناس: لكي يتجنب المسلم الحسد ينبغي له أن يكثر من
الصدقات في السر والعلانية، ويحسن إلى الناس، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع
البلاء عن المؤمن ودفع الحسد كذلك.
وهذا واقع ملموس فمن النادر أن يتسلط الأذى
والحسد على صاحب صدقة خالصة لله تعالى وإن أصابه شيء من الحاسد فإن الله يَلْطف
به جزاء ما قدَّم لله وحده.
التاسع: الإحسان إلى الحاسد: إن من أعظم الأسباب
لدفع الحسد، والتي لا يوفق إليها إلا من وفقه الله، إطفاء نار الحاسد والباغي
والمؤذي بالإحسان إليه، قال تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا
السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك
وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34) وما يلقاها إلا
الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم[فصلت: 34،
35].
العاشر: تجريد التوحيد: يجب على العبد أن يشغل فكره دائمًا بالله تعالى
فهو وحده مسبب الأسباب، ولا يحدث شيئ في هذا الكون إلا بإرادته ومشيئته، قال
تعالى: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن
يردك بخير فلا راد لفضله[يونس: 107]، فإذا جرد العبد
التوحيد لله تعالى فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن
يخافه مع الله؛ فالتوحيد حصن الله الأعظم من دخله كان من الآمنين.
[بدائع
الفوائد لابن القيم جـ2 ص238، 245]
علاج الحسد: إذا وقع الحسد لأحد المسلمين،
فإنه يمكن أن يعالج نفسه أو يعالجه آخر بالرُّقْية الشرعية الثابتة في كتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويجب على المسلم أن يعتقد أن هذه الرقية
الشرعية لا تأثير لها إلا بإذن الله وحده، وعلى المسلم أن يعلم كذلك أنه لا
علاج للحسد الذي أصابه إلا بالقرآن والسنة.
ويمكن أن نوجز علاج الحسد فيما
يلي:
1- قراءة المعوذات: وهما سورة قل أعوذ برب الفلقوسورة
قل أعوذ برب الناس <<، هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[صحيح(/2)
ابن ماجه حديث 2830]
2- يقول المعالج للمحسود: «باسم الله أرقيك من كل شيء
يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله
أرقيك».
[مسلم 2186]
3- الإكثار من الدعاء: وخاصة عند السجود وفي ثلث الليل
الآخر، وبين الأذان والإقامة ويوم الجمعة ويوم عرفة وعند إفطار الصائم وغير ذلك
من الأوقات الفاضلة.
وعلى المسلم أن يوقن بأن الله سيجيب دعاءه، قال تعالى:
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم[غافر: 60]، قال تعالى:
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع
إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم
يرشدون[البقرة: 186]، وقال سبحانه: أمن يجيب المضطر إذا
دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع
الله قليلا ما تذكرون[النمل: 62].
4- المحافظة على الصلوات
المفروضة: جماعة في المساجد والإكثار من الاستغفار وتلاوة القرآن ونوافل
الصلوات والصيام والصدقات والأذكار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا
كله من الأدوية النافعة بإذن الله تعالى لعلاج الحس(/3)
الحسد أسبابه وعلاجه
إعداد/ صلاح نجيب الدق
غلاف التوحيد العدد 53
غلاف التوحيد العدد 53
الحمد لله والصلاة والسلام على
رسول الله، أما بعد: فقد اعتاد الناس أن يذهبوا إلى الأطباء لعلاج أبدانهم من الأمراض التي أصابتهم، وذلك لأنهم يشاهدون آثار تلك الأمراض، ومع ذلك يغفل الكثير منهم عن نوعٍ آخر من الأمراض، التي هي أكثر ضررًا من أمراض الأبدان، وهي أمراض القلوب، وهل التأثير حقيقة إلا على الروح والقلب ! فما البدن إلا تابع لهما. ومن هذه الأمراض: الحَسَدُ، وهو من الأمراض الخطيرة، وهو سبب لضياع الدين والدنيا معًا، من أجل ذلك أحببت أن أُذَكر نفسي وإخواني الكرام بأسباب الحسد وعلاجه، فأقول وبالله التوفيق:
معنى الحَسَدُ:
الحسد هو أن يرى الرجلُ لأخيه نعمة، فيتمنى أن تزول عنه، وتكون له دونه.
[النهاية لابن الأثير جـ1 ص383]
كلمة الحسد في القرآن:
جاءت كلمة الحسد في القرآن الكريم بمشتقاتها المختلفة خمس مرات.
[المعجم المفرس لألفاظ القرآن ص201]
الرد على من ينكر الحسد:
قال الإمام ابن القيم رحمه اللَّه: لا ريب أن اللَّه سبحانه خَلَقَ في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة، وجعل في كثير منها خواص، وكيفيات مُؤَثرة، ولا يمكن لعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام، فإنه أمرٌ مُشَاهَد محسوس. فأنت ترى الوجه كيف يَحْمرُّ حُمْرة شديدة إذا نظر إليه من يستحي منه ويصْفر صُفْرة شديدة عند نظر من يخافه إليه. وقد شاهد الناس من يَسْقم من النظر وتضعف قواه، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح ولشدة ارتباطها بالعين يُنسبُ الفعل إليها وليست هي الفاعلة، وإنما التأثير للروح.
والأرواح مختلفة طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذًى بَيْنًا، ولهذا أمر اللَّه سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ به من شره، وتأثير الحسد في أذى المحسود أمرٌ لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين، فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة، وتقابلُ المحسود، فتؤثر فيه بتلك الخاصية، وأشبه الأشياء بذلك الأفعى، فإن السُّمَّ كامن فيها بالقوة، فإذا قابلت عدوها انبعثت منها قوة غضبية وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية، فمنها ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين، ومنها ما تؤثر في طَمْس البصر.
روى الشيخان عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اقتلوا الحيَّات، واقتلوا ذا الطفيتين (خطان أبيضان على ظهر الحية) والأبتر (قصير الذنب أو مقطوع الذَنَب)، فإنهما يطمسان البصر ويُسقطان الحَبَلَ» (الجنينُ في بطن أمه). [البخاري حديث 3297، ومسلم 2233، زاد المعاد لابن القيم جـ4 ص166]
أنواع الحسد:
الحسد نوعان: حسد مذموم، وحسد محمود، وسوف نتحدث عنهما بإيجاز.
أولاً: الحسد المذموم: المقصود بالحسد المذموم هو أن يرى الإنسان نعمة على إنسان آخر فيكره ذلك ويتمنى زوالها عنه وانتقالها إليه. وهذا النوع من الحسد ذَمَّه اللَّه وحَرَّمه في كتابه وحذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة.
قال تعالى: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير [البقرة: 109].
قال ابن كثير رحمه اللَّه: يحذر اللَّه تعالى عباده المؤمنين من سلوك الكفار من أهل الكتاب، ويُعْلِمُهم بعداوتهم لهم في الظاهر والباطن، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين. [تفسير ابن كثير جـ2 ص18]
وقال سبحانه: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما
[النساء: 54].
قال القرطبي: قوله تعالى: أم يحسدون يعني: اليهود، وقوله تعالى: الناس يعني النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: حسدوه على النبوة، وأصحابه على الإيمان به.
[تفسير القرطبي جـ5 ص252]
وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الحسد المذموم لما يترتب عليه من مفاسد في الدين والدنيا، وذلك من خلال أحاديثه الشريفة، والتي سوف نذكر بعضًا منها:
روى الشيخان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد اللَّه إخوانًا».
[البخاري حديث 6076، ومسلم حديث 2559]
روى الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دَبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تَحْلِقُ الشعر ولكن تحلق الدين». [صحيح الترمذي 2038]
روى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمعان في قلب عبدٍ: الإيمان والحسد». [صحيح النسائي 2912]
مراتب الحسد المذموم: ذكر أهل العلم مراتب للحسد المحرم، سوف نذكرها فيما يلي:(/1)
المرتبة الأولى: أن يحب الإنسان زوال النعمة عن الغير، وأن تنتقل إليه، ولذا يسعى بكافة السُّبُل المحرَّمة إلى الإساءة إليه ليحصل على مقصوده، كأن يحصل على داره، أو يجعله يطلِّق امرأته ليتزوجها، أو يكون صاحب منصب، فيحب أن يحصل عليه بدلاً من ذلك الغير. وهذه المرتبة هي الغالبة بين الحُساد.
المرتبة الثانية: أن يحب الإنسان زوال النِعْمة عن الغير، وإن كانت هذه النعمة لا تنتقل إليه، وهذه المرتبة في غاية الخُبْث ولكنها دون المرتبة الأولى.
المرتبة الثالثة: أن لا يحب الإنسان نفس هذه النعمة لنفسه، ولكنه يشتهي أن يكون لديه مثلها، فإن عجز عن الحصول على مثلها، أحب زوال هذه النعمة عن الغير كي لا يظهر التفاوت بينهما. [الإحياء للغزالي جـ3 ص298]
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.(/2)
الحسد
تعريف الحسد و حقيقته:
قالت طائفة من الناس: إنّ الحسد هو تمني زوال النعمة عن المحسود ، وإن لم يصر للحاسد مثلها. بخلاف الغبطة فإنها تمني مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط. والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود. وهو نوعان:أحدهما كراهة للنعمة عليه مطلقاً فهذا هو الحسد المذموم وإذا أبغض ذ لك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه فيكون ذلك مرضاً في قلبه ، ويلتذ بزوال النعمة عنه وإن لم يحصل له نفع بزوالها. والنوع الثاني: أن يكره فضل ذلك الشخص عليه فيحب أن يكون مثله أو أفضل منه فهذا حسد وهو الذي سموه الغبطة وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حسداً في الحديث المتفق عليه من حديث ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما قال:(لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق). ورواه البخاري من حديث أبي هريرة ولفظه(لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار فسمعه رجل فقال: يا ليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا فعملت فيه مثل ما يعمل هذا. ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: يا ليتني أوتيت ما أوتي هذا فعملت فيه ما يعمل هذا).فهذا الحسد الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلا في موضعين هو الذي سماه أولئك الغبطة ، وهو أن يحب مثل حال الغير ويكره أن يفضل عليه.وقد يشكل هنا تسميته حسداً ما دام همه أن ينعم الله عليه بمثل ما أنعم على صاحبه؟ فيقال: مبدأ هذا الحب هو نظره إلى إنعامه على الغير وكراهيته أن يفضل عليه.ولولا وجود ذلك الغير لم يحب ذلك ، فذلك كان حسداً لإنه كراهة تتبعها محبة. واما من أحب أن ينعم الله عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس فهذا ليس عنده من الحسد شىْ. ولهذا يبتلى غالب الناس بهذا القسم الثاني.وحقيقة الحسد شدة الأسى على الخيرات تكون للناس الأفاضل وهو غير المنافسة.قال صاحب اللسان:إذا تمنى أن تتحول إليه نعمته وفضيلته أو يسلبهما هو.وقال الجوهري: تمني زوال النعمة عن المنعم عليه وخصه بعضهم بأن يتمنى ذلك لنفسه والحق أنه أعم.وقال النووي: قال العلماء: هو حقيقي: تمني زوال النعمة عن صاحبها وهذا حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصريحة ، ومجازي: هو الغبطة وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها فإذا كانت من أمور الدنيا كانت مباحة وإذا كانت طاعة فهي مستحبة.وقيل :الحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها سواء كانت نعمة دين أو دنيا.وقيل: أن تكره النعم على أخيك وتحب زوالها ، فحد الحسد: كراهة النعمة وحب وإرادة زوالها عن المنعم عليه، والغبطة:ألاّ تحب زوالها ، ولا تكره وجودها ودوامها ، ولكن تشتهي لنفسك مثلها.والمنافسة: هو أن يرى بغيره نعمة في دين أو دنيا ، فيغتم ألا يكون أنعم الله عليه بمثل تلك النعمة ، فيحب أن يلحق به ويكون مثله ، لا يغتم من أجل المنعم عليه نفاسة منه عليه ، ولكن غمّاً ألا يكون مثله. وفي الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله ، فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله ويحب زوالها والله يكره ذلك فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته و لذلك كان إبليس عدوه حقيقة لإن ذنبه كان عن كبر وحسد.وللحسد حد وهو المنافسة في طلب الكمال والأنفة أن يتقدم عليه نظيره فمتى تعدى صار بغياً وظلماً يتمنى معه زوال النعمة عن المحسود ويحرص على إيذائه ، ومن نقص عن ذلك كان دناءة وضعف همة وصغر نفس.(/1)
وقد اُبتلي يوسف بحسد إخوته له حيث قالوا(لَيوسف وأخوه أحب إلى أبينا منّا ونحن عصبة إنَّ أبانا لفي ضلال مبين) فحسدوه على تفضيل الأب له ولهذا قال يعقوب ليوسف ( لاتقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدو مبين) ثم إنهم ظلموه بتكلمهم في قتله وإلقائه في الجبّ وبيعه رقيقاً لمن ذهب به إلى بلاد الكفر فصار مملوكاً لقوم كفار ، وقد قيل للحسن البصري: أيحسِد المؤمن ؟ فقال: ما أنساك إخوة يوسف لا أبا لك؟! ولكن غمه في صدرك فإنه لايضرك ما لم تعد به يداً ولساناً. وقال تعالى في حق اليهود(ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمنكم كفرا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) يودون أي يتمنون ارتدادكم حسدا ، فجعل الحسد هو الموجب لذلك الودّ ، من بعد ما تبين لهم الحق لإنهم لمّا رأوا أنكم قد حصل لكم من النعمة ما حصل - بل ما لم يحصل لهم مثله حسدوكم. وكذلك في الآية الأخرى( أم يحسدون الناس على ما ءاتهم الله من فضله فقد ءاتينا آل إبراهيم الكتب والحكمة وآتينهم ملكاً عظيماً فمنهم من ءامن به ومنهم من صدّ عنه وكفى بجهنم سعيراً) وقال تعالى( قل أعوذ برب الفلق من شر ماخلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد) وقد ذكر طائفة من المفسرين أنها نزلت بسبب حسد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم حتى سحروه ، سحره لبيد بن الأعصم اليهودي. وقال الله تعالى( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أُوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) أي مما أُوتي إخوانهم المهاجرون . قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم حاجة أي حسداً وغيظاً مما أُوتي المهاجرون. ثم قال بعضهم: من مال الفئ ، وقيل: من الفضل والتقدم ، فهم لا يجدون حاجة مما أُوتوا من المال ولا من الجاه ، والحسد يقع على هذا. وكان بين الأوس والخزرج منافسة على الدين ، فكان هؤلاء إذا فعلوا ما يفضلون به عند الله ورسوله أحب الآخرون أن يفعلوا نظير ذلك ، فهي منافسة فيما يقربهم إلى الله كما قال تعالى( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). والحسد يبقى إلى لحظة نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان قبيل قيام الساعة، وهذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ففي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (والله لينزلن ابن مريم حكماً عادلا، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص نوع من أشرف أنواع الإبل فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد).
مراتب الحسد:(/2)
ومراتبه: الأولى: يتمنى زوال النعمة عن الغير، ويعمل ويسعى في الوسائل المحرمة الظالمة ويسعى في اساءته بكل ما يستطيع وهذا الغاية في الخبث والخساسة والنذالة وهذه الحالة هي الغالبة في الحسّاد خصوصاً المتزاحمين في صفة واحدة ويكثر ذلك في طلاب المناصب والجاه. الثانية: يتمنى زوال النعمة ويحب ذلك وإن كانت لا تنتقل إليه ، وهذا في غاية الخبث ، ولكنها دون الأولى. الثالثة: أن يجد من نفسه الرغبة في زوال النعمة عن المحسود وتمني عدم استصحاب النعمة سواء انتقلت إليه أو إلى غيره ولكنه في جهاد مع نفسه وكفها عن ما يؤذي خوفاً من الله تعالى وكراهية في ظلم عباد الله ومن يفعل هذا يكون قد كفي شر غائلة الحسد ودفع عن نفسه العقوبة الأخروية ولكن ينبغي له أن يعالج نفسه من هذا الوباء حتى يبرأ منه. الرابعة: أن يتمنى زوال النعمة عن الغير ، بغضاً لذلك الشخص لسبب شرعي ، كأن يكون ظالماً يستعين على مظالمه بهذه النعمة فيتمنى زوالها ليرتاح الناس من شره. ومثل أن يكون فاسقاً يستعين بهذه النعمة على فسقه وفجوره فيتمنى زوال المغل هذا عنه ليرتاح العباد والبلاد من شره القاصر والمتعدي فهذا لايسمى حسداً مذموماً وإن كان تعريف الحسد يشمله ، ولكنه في هذه الحالة يكون ممدوحاً لا سيما إذا كان يترتب عليه عمل يرفع هذا الظلم والعدوان ويردع هذا الظالم. الخامسة: ألاّ يتمنى الشخص زوال النعمةعن غيره ولكن يتمنى لنفسه مثلها فإن حصل له مثلها سكن واستراح ، وإن لم يحصل له مثلها تمنى زوال النعمة عن المحسود حتى يتساويا ولايفضله صاحبه.السادسة: أن يحب ويتمنى لنفسه مثلها فإن لم يحصل له مثلها فلا يحب زوالها عن مثله فهذا لابأس به، إن كان من النعم الدنيوية كالمال المباح والجاه المباح ، وإن كان من النعم الدينية كالعلم الشرعي والعبادة الشرعية كان محموداً كأنّ يغبط من عنده مال حلال ثم سلطه على هلكته في الحق من واجب ومستحب فإن هذا من أعظم الأدلة على الإيمان ومن أعظم أنواع الإحسان وكذا من آتاه الله الحكمة والعلم فوفق لنشره كما في الحديث (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها). فهذان النوعان من الإحسان لا يعادلهما شىء ؛ إلا أن ترتب عليه وساوس شيطانية وخواطر نفسانية تجر الإنسان إلى مواضع الخطر التي تفسد عمله كأن يقول في نفسه: أنا أحق منه بهذا ، فهذا اعتراض على حكمة الله وقسمته ولايجوز ذلك.
الفرق بين المنافسة والحسد(/3)
وإذا لم ينظر إلى أحوال الناس فهذه منافسة في الخير لا شىء فيها فيتنافس الأثنان في الأمر المطلوب المحبوب كلاهما يطلب أن يأخذه وذلك لكراهية أحدهما أن يتفضل عليه الآخر كما يكره المستبقان كل منهما أن يسبقه الآخر. والتنافس ليس مذموماً مطلقاً ، بل هو محمود في الخير.قال تعالى(إن الأبرار لفي نعيم.على الأرائك ينظرون . تعرف في وجوههم نظرة النعيم . يسقون من رحيق مختوم. ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) وهذا موافق لحيث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه نهى عن الحسد إلا فيمن أوتي العلم فهو يعمل به ويعلمه، ومن أوتي المال فهو ينفقه. فأما من أوتي علماً ولم يعمل به ولم يعلمه ، أو أوتي مالاً ولم ينفقه في طاعة الله فهذا لايحسد ولا يتمنى مثل حاله ، فإنه ليس في خير يرغب فيه ، بل هو معرّض للعذاب. وحال أبي بكر الصديق رضي الله عنه أفضل فهو خال من المنافسة مطلقاً لا ينظر إلى حال غيره وكذلك موسى صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج حصل له منافسة وغبطة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى لما تجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: ما يبكيك؟ قال:أبكي لإن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي) رواه البخاري ومسلم. قاعدة: أن من عنده همة الخير وليست لديه منافسة وغبطة أفضل ممن لديه تلك المنافسة والغبطة مثل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ونحوه فقد كانوا سالمين من الغبطة والمنافسة وإن كان ذلك مباحاً ولهذا استحق أبو عبيدة رضي الله عنه أن يكون أمين هذه الأمة ؛ فإن المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة مما ائتمن عليه كان أحق بالأمانة ممن يخاف مزاحمته. وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة قال: فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من الوضوء .... )إلى آخر الحديث. رواه أحمد. فالحاسد المبغض للنعمة على من أنعم الله عليه بها ظالم معتد ، والكاره لتفضيله المحب لمماثلته منهي عن ذلك إلا فيما يقربه إلى الله ، فإذا أحب أن يعطى مثل ما أعطي مما يقربه إلى الله فهذا لا بأس به ، وإعراض قلبه عن هذا بحيث لا ينظر إلى حال الغير أفضل. وربما غلط قوم فظنوا أن المنافسة في الخير هي الحسد وليس الأمر على ما ظنوا لإن المنافسة طلب التشبه بالأفاضل من غير إدخال الضرر عليهم والحسد مصروف إلى الضرر لإن غايته أن يعدم الأفاضل فضلهم من غير أن يصير الفضل إليه فهذا الفرق بين المنافسة والحسد. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:المؤمن يغبط والمنافق يحسد.
حكم الحسد:(/4)
الحسد مرض من أمراض النفوس وهو مرض غالبٌ فلا يخلص منه إلا القليل من الناس ؛ ولهذا قيل: ما خلا جسد من حسد. ، لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه. والحسد ذميم قبيح حيث أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من شر الحاسد كما أمر بالاستعاذة من شر الشيطان .قال الله تعالى(ومن شر حاسد إذا حسد) وناهيك بحال ذلك شراً. فبالحسد لُعن إبليس وجعل شيطاناً رجيماً. ومن أجل أن الحسد بهذه الدرجة ورد فيه تشديد عظيم حتى قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب). وإن قوي ذلك الحسد فيك حتى بعثك على إظهاره بقول أو فعل بحيث يُعرف ذلك من ظاهرك بأفعالك الأختيارية فأنت حسود عاص أما الفعل فهو غيبة وكذب وهو عمل صادر عن الحسد وليس هو عين الحسد ويجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح وإن كففت ظاهرك بالكلية إلا أنك بباطنك تحب زوال النعمة وليس في نفسك كراهة لهذه الحالة فأنت حسود عاص لأن الحسد صفة القلب لا صفة الفعل قال الله تعالى(ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا) وقال عز وجلّ(ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وقال تعالى(إن تمسسكم حسنة تسؤهم). والحسد الذي محله القلب دون الجوارح ليس بمظلمة يجب الاستحلال منها بل هو معصية بينك وبين الله تعالى. وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يأثم إذا لم يظهر الحسد على جوارحه ولما روي عن الحسن أنه سئل عن الحسد فقال: غمه فإنه لا يضرك مالم تبده. والأولى أن يحمل على أن يكون فيه كراهة من جهة الدين والعقل في مقابلة حب الطمع لزوال نعمة العدو وتلك الكراهة تمنعه من البغي والإيذاء فإن جميع ما ورد من الأخبار في ذم الحسد يدل ظاهره على أن كل حاسد آثم ، ثم إن الحسد عبارة عن صفة القلب لا عن الأفعال فأما إذا كففت ظاهرك وألزمت مع ذلك قلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة. وفي الحسد إضرار بالبدن وإفساد للدين وفيه تعدي وأذى على المسلم نهى الله ورسوله عنه. والحسد حرام بكل حال إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين وإيذاء الخلق فلا يضرك كراهتك لها ومحبتك لزوالها فإنك لا تحب زوالها من حيث هي نعمة بل من حيث هي آلة الفساد ولو أمنت فساده لم يغمك بنعمته ، و لاعذر في الحسد ولا رخصة وأي معصية تزيد كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة. وقال بعض السلف: الحسد أول ذنب عُصي الله به في السماء يعني حسد إبليس لآدم عليه السلام وأول ذنب عُصي الله به في الأرض يعني حسد أبن آدم لأخيه حتى قتله.
بعض الأسباب التي تؤدي إلى الاتصاف بالحسد:
قد تجتمع أسباب الحسد المذكورة هنا في شخص واحد أو أكثرها.
1 - العدواة والبغضاء والحقد (هذا السبب من الحاسد): وهذا من أشد أسباب الحسد وأصل المحاسدات العدواة وأصل العدواة التزاحم على غرض والغرض الواحد لا يجمع متباعدين بل متناسبين فلذلك يكثر الحسد بينهما.والحسد نتيجة من نتائج الحقد وثمرة من ثمراته المترتبة عليه فإن من يحقد على إنسان يتمنى زوال نعمته ويغتابه وينمّ عليه ويعتدي على عرضه ويشمت به لما يصيبه من البلاء ويغتّم بنعمة إن أصابها ويسر بمعصية إن نزلت به وهذا من فعل المنافقين والعياذ بالله.
2 - التعزز والترفع(هذا السبب من الحاسد): فإذا أصاب أحد زملائه ولاية أو مالاً خاف أن يتكبر عليه وهو لا يطيق تكبره وافتخاره عليه. ومن التكبر والتعزز كان حسد أكثر الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قالوا: كيف يتقدم علينا غلام يتيم فنطأطئ رؤوسنا له فقالوا(لولا نزّل هذا القران على رجل من القريتين عظيم).
3 - الكبر(هذا السبب من المحسود): وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عل الحاسد ويستحقره ويستصغره ويستخدمه فإذا نال ولايةً خاف ألاّ يحتمل تكبره.
4 - التعجب(هذا السبب من الحاسد): كما أخبر الله عن الأمم الماضية إذ (قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا) فتعجبوا أن يفوز برتبة الرسل والوحي والقرب من الله بشر مثلهم فحسدوهم وأحبوا زوال النعمة عنهم.(/5)
5 - الخوف من المزاحمة وفوات مقصد من المقاصد بين النظراء في المناصب والأموال: وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد وذلك مثل الضرات عند زوجهن والتلاميذ عند الأستاذ والإخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلوب الأبوين ليتوصل بها إلى مقاصد الكرامة والمال وخدّام الملك في نيل المنزلة من قلبه. والتاجر يحسد التاجر والصانع يحسد الصانع والنجار يحسد النجار والفلاح يحسد الفلاح وأرباب الجاه يحسدون أرباب الجاه والمناصب الحكومية يحسد بعضهم بعضاً، ومن الأمثال المتدوالة قولهم: عدو المرء من يعمل عمله. والحسد يقع كثيراً بين المتشاركين في رئاسة أو مال إذا أخذ بعضهم قسطاً من ذلك وفات الآخر.ويكون بين النظراء لكراهة أحدهم أن يفضل عليه الآخر ، كحسد إخوة يوسف وكحسد ابني ءادم أحدهما لأخيه فإنه حسده لكون الله تقبل من قربانه ولم يتقبل قربان هذا ، فحسده على ما فضله الله من الإيمان والتقوى كحسد اليهود للمسلمين ، وقتله على ذلك.و لهذا قيل: أول ذنب عصي الله به ثلاثة: الحرص والكبر والحسد. فالحرص من ءادم ، والكبر من إبليس ، والحسد من قابيل حيث قتل هابيل. والحسد يكثر في المناصب والأموال ، ويقع لما يحصل للغير من السؤدد والرياسة وإلا فالعامل في العادة ولو كان تنعمه بالأكل والشراب والنكاح أكثر من غيره.بخلاف نوعي العلم والمال فإن صاحبيهما يُحسدان كثيراً ، ولهذا يوجد بين أهل العلم الذين لهم أتباع من الحسد مالايوجد فيمن ليس كذلك ، وكذلك فيمن له أتباع بسبب إنفاق ماله فذلك ينفع الناس بقوت القلوب، وهذا ينفعهم بقوت الأبدان والناس محتاجون إلى ما يصلحهم من هذا وهذا. ولهذا كان الناس يعظّمون دار العباس: كان عبدالله يعلم الناس وأخو يطعم الناس، فكانوا يعظّمون لذلك.و رأى معاوية الناس يسألون ابن عمر عن المناسك وهو يفتيهم فقال: هذا والله الشرف.أو نحو ذلك. هذا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه نافس أبا بكر رضي الله عنه الإنفاق كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي ، فقلت:اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً .فقال :فجئت بنصف مالي، قال: فقال لي رسول صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك؟ فقلت: مثله.وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده ، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله فقلت: لا أسابقك إلى شىء أبداً.رواه الترمذي. وكما جرى لزينب بنت جحش رضي الله عنه رضي الله عنها فإنها كانت هي التي تسامي عائشة رضي الله عنها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وحسد النساء بعضهن لبعض كثير غالب لا سيما المتزوجات بزوج واحد، فإن المرأة تغارعلى زوجها لحظها منه، فإنه بسبب المشاركة يفوت بعض حظها.
6 - حب الرياسة وطلب الجاه لنفسه من غير توصل به إلى مقصود ومن غير قصد شرعي صحيح وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون إذا غلب عليه حب الثناء والمدح واستفزه الفرح بما يمدح به، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى أقطار الأرض لساءه ذلك وأحب موته أو زوال تلك النعمة التي عند الذي يشاركه بها في المنزلة من شجاعة أو علم أو صناعة أو جمال أو ثروة أو نحو ذلك.
7 - خبث النفس وحبها للشر وشحها بالخير لعباد الله: فتجد المتصف بذلك شحيحاً بالفضائل بخيلاً بالنعم وليست إليه فيمنع منها ولابيده فيدفع عنها لإنها مواهب قد منحها الله من شاء فيسخطه على الله عز وجلّ في قضائه ويحسد على ما منح من عطائه وإن كانت نعم الله عز وجلّ عنده أكثر ومنحه عليه أظهر، وإذا ذكر له اضطراب ونكبات تصيب الناس وكذلك إدبارهم وفوت مقاصدهم وتنغيص عيشهم استنار وجهه وفرح به وصار يبثّه وربما أتى بإشاعة في صورة الترحم والتوجع فهوأبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأن ما أعطاهم الله يؤخذ من ماله وخزانته على أنه ليس بينه وبينهم عدواة وهذا ليس له سبب إلا التعمق في الخبث والرذالة والنذالة والخساسة في الطبع اللئيم ولذلك يعسر معالجة هذا السبب لإنه ظلوم جهول وليس يشفي صدره ويزيل حزازة الحسد الكامن في قلبه إلا زوال النعمة فحينئذ يتعذر الدواء أو يعزّ ومن هذا قول بعضهم:
وكلٌ أدوايه على قدر دائه------- سوى حاسدي فهي التي لاأنالها
وكيف يدواي المرء حاسد نعمة------- إذا كان لايرضيه إلا زوالها
وهذا النوع من الحسد أعمها وأخبثها إذ ليس لصاحبه راحة ولا لرضاه غاية. فإن اقترن بشر وقدرة كان بوراً وانتقاماً وإن صادف عجزاً ومهانة كان جهداً وسقاماً. وقال عبدالحميد: الحسود من الهمّ كساقي السم فإن سرى سمه زال عنه همّه.أما الأسباب الأخرى فيتصور إزالتها في المعالجة .(/6)
8 - ظهور الفضل والنعمة على المحسود: بحيث يعجز عنه الحاسد فيكره تقدمه فيه واختصاصه به فيثير ذلك حسداً لولاه لكفّ عنه وهذا أوسطها لإنه لا يحسد إلا كفاء من دنا وإنما يختص بحسد من غلا وقد يمتزج بهذا النوع ضرب من المنافسة ولكنها مع عجز فصارت حسداً.وأعلم أنه بحسب فضل الإنسان وظهور النعمة عليه يكون حسد الناس له فإن كثر فضله كثر حسّاده وإن قلّ قلّوا لإن ظهور الفضل يثير الحسد وحدوث النعمة يضاعف الكمد ولذك قال رسول صلى الله عليه وسلم (استعينوا عى قضاء الحوائج بسترها فإن كل ذي نعمة محسود).وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما كانت نعمة الله على أحد إلا وجّه الله لها حاسداً فلو كان الرجل أقوم من القدح لما عدم غامزاً . وقد قال الشاعر:
إن يحسدوني فإني غير لائمهم ------- قبلي من الناس أهل الفضل قد حُسدوا
فدام لي ولهم مابي ومابهم ------- ومات أكثرنا غيظاً بما يجد
9 - حب الدنيا : فمنشأ التزاحم حب الدنيا فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين أما الآخرة فلا ضيق فيها.
10 - حب تسخير البشر للنفس 11 - المجاورة والمخالطة 12 - شدة البغي وكثرة التطاول على العباد(هذا السبب من المحسود) 13 - شدة البخل (هذا السبب من المحسود) 14 - أن يكون له الرفعة والرياسة 15 - ألاّ يكون الحاسد تابعاً لغيره 16 - أن يقبل قول الحاسد منه ويتبع 17 - محبة الحاسد أن يزول غيره عن الرفعة 18 - كراهية رفعة المنزلة للمحسود 19 - الرياء وحب المنزلة والرياسة أن يعلوالحاسد غيره 20 - التعزز و الترفع 21 - الغضب
آثار الحسد واضراره على الحاسد والمجتمع:
1 - حلق الدين: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: دبّ إليكم داء الأمم قبلكم البغضاء والحسد هي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر والذي نفسي بيده لا تؤمنوا حتى تحابّوا ألا أنبئكم بأمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم).
2 - انتفاء الإيمان الكامل: قال صلى الله غليه وسلم(لا يجتمع في جوف عبد غبار في سبيل الله وفيح جهنم ، ولا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد) رواه ابن حبان والبيهقي. والذي يجب أن يُفهم من هذا الحديث أن الإيمان الصادق الكامل الذي يستحضر صاحبه أن كل أفعال الله لحكمة لايجتمع هذا الإيمان مع الحسد الذي يعترض على فعل الله وحكمته.وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن الحسد يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل.
3 - رفع الخير وانتشار البغضاء في المجتمع: يقول صلى الله عليه وسلم(لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا) رواه الطبراني. والمعنى والله أعلم أنهم إذا تحاسدوا ارتفع الخير منهم وكيف لايرتفع منهم الخير وكلٌ منهم يتمنى أن يزول الخير الذي عند صاحبه.
4 - إسخاط الله وجني الأوزار:يسخط الله في معارضته ويجني الأوزار في مخالفته إذ ليس يرى قضاء الله عدلاً ولا من الناس لنعمه أهلاً. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم(الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) وقال عبدالله بن المعتز: الحاسد مغتاظٌ على من لاذنب له بخيلٌ بما لا يملكه طالبٌ مالا يجده.
5 - مقت الناس للحاسد وعدواتهم له: حتى لا يجد فيهم محباً ولا يرى فيهم ولياً فيصير بالعدواة مأثوراً وبالمقت مزجوراً ولذك قال النبي صلى الله عليه وسلم(شر الناس من يبغض الناس ويبغضونه).
6 - انخفاض المنزلة وانحطاط المرتبة للحاسد: لانحراف الناس عنه ونفورهم منه وقد قيل في منثورالحكم:الحسود لا يسود.
7 - الحسرات على الحاسد والسقام والغمّ الغير منقطع وقصر العمر: ثم لا يجد لحسرته انتهاء ولا يؤمل لسقامه شفاء. قال ابن المعتز:الحسد داء الجسد. وقال الأصمعي: قلت لأعرابي:ماأطول عمرك؟ قال: تركت الحسد فبقيت. والحاسد يُقتل غمّاً بصبر المحسود. قال بعض الحكماء: يكفيك من الحاسد أنه يغتمّ في وقت سرورك. وقيل في منثور الحكم: عقوبة الحاسد من نفسه. وقال بعض الأدباء: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحسود نفس دائم وهمّ لازم وقلب هائم فأخذه بعض الشعراء فقال:
إنّ الحسود الظلوم في كرب ------- يخاله من يراه مظلوماً
ذا نفس دائم على نفس ------ يظهر منها ما كان مكتوماً
قال معاوية رضي الله عنه: ليس في خصال الشر أعدل من الحسد يقتل الحاسد قبل أن يصل للمحسود.وقال عبدالله ابن المعتز رحمه الله تعالى:
اصبر على كيد الحسو------- د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها-------- إن لم تجد ما تأكله
8 - عدم نفع الحاسد: قال رجل لشريح القاضي: إني لأحسدك على ما أرى من صبرك على الخصوم ووقوفك على غامض الحكم. فقال: ما نفعك الله بذلك ولاضرني.(/7)
9 - الحسد نوع من معاداة الله في الاعتراض على قسمته وفعله10- الحاسد مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته 11- الحاسد قد أبغض كل نعمة قد ظهرت على غيره 12- الحاسد سخط لقسمة الله تعالى 13- الحاسد ضنّ بفضله عز وجلّ 14- الحاسد خذل ولي الله تعالى 15- الحاسد أعان عدوه إبليس لعنه الله 16- الحاسد لا ينال في المجالس إلا مذمة وذلاً ولا ينال من الملائكة إلا لعنةً وغضباً ولا ينال في الخلوة إلا جزعاً وهمّاً ولا ينال عند النزع إلا شدةً وهولاً ولا ينال في الموقف إلا فضيحةً ونكالاً ولا ينال في النار إلا حراً واحتراقاً 17- الحاسد متشمت بما أصاب المحسود من بلاء 18- الحاسد يهجر المحسود ويصارمه وينقطع عنه وإن طلبه وأقبل عليه 19- الحاسد يعرض عن المحسود استصغاراً له 20- الحاسد يتكلم في المحسود بما لايحل من كذب وغيبة وإفشاء سرّ وهتك ستر وغيره 21- الحاسد يحاكي المحسود استهزاءً به وسخرية منه 22- الحاسد يؤذي المحسود بالضرب وما يؤلم البدن 23- الحاسد يمنع المحسود من قضاء دين أو صلة رحم أو ردّ مظلمة 24- الحاسد في مصيبة لا يُؤجر عليها 25- وفي مذمة لا يُحمد عليها 26- يسخط الله على الحاسد 27- تُغلق أبواب التوفيق على الحاسد.
موقف المحسود من الحاسد:
1 - الرجوع إلى الله وتجديد التوبة مع الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه. 2 - التوكل على الله وقول: حسبنا الله ونعم الوكيل. 3 - الاستعاذة بالله تعالى وقراءة الأذكار والأوراد الشرعية. 4 - الدعاء والتضرع إلى الله بأن يقيك الله ويحفظك من شر أعدائك وحسّادك. 5- العدل مع الحاسد وعدم الإساءة إليه بالمثل وإنصاف حقه وعدم ظلمه بسبب فعله. 6 - الإحسان إالى الحاسد. 7 - مداراة الحاسد والتودد إليه. 8 - التعوذ بالله من شر الحاسد والتحصن بالله واللجأ إليه. 9 - تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه. 10 - الصبر على العدو وألاّ يقاتله ولا يشكوه ولا يحدّث نفسه بأذاه أصلاً. 11 - فراغ القلب من الاشتغال به والفكر. 12 - الإقبال على الله والإخلاص له وجعل محبته ورضاه والإنابة إليه في محل خواطر النفس وأمانيها. 13 - الصدقة والإحسان ما أمكنه. 14 - تجريد التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبِّب العزيز الحكيم. 15 - عدم إخبار الحاسد بنعمة الله عليه. 16 - اغتسال الحاسد وصبّ ماءه على المحسود. 17 - الرقيّة.
وإذا بُلي الإنسان بأحدٍ من الحسّاد استعاذ بالله من شره وتوقى مصارع كيده وتحرز من غوائل حسده وأبعد عن ملابسته وادنائه لعضل دائه وإعواز دوائه ، فقد قيل: حاسد النعمة لايرضيه إلا زوالها.وقال بعض الحكماء: من ضرَّ بطبعه فلا تأنس بقربه فإن قلب الأعيان صعب المرام. وقال عبدالحميد: أسدٌ تقاربه خيرٌ من حسود تراقبه. وقال محمود الورّاق:
أعطيت كل الناس من نفسي الرضا ------- إلا الحسود فإنه أعياني
ما إن لي ذنباً إليه علمته ------- إلا تظاهر نعمة الرحمن
وأبى فما يرضيه إلا ذلتي ------- وذهاب أموالي وقطع لساني
الدواء المزيل للحسد من الحاسد نفسه:
1 - التقوى والصبر: فمن وجد في نفسه حسداً لغيره فليستعمل معه الصبر والتقوى فيكره ذلك في نفسه.
2 - القيام بحقوق المحسود: بعض من الناس الذين عندهم دين لا يعتدون على المحسود ، فلا يعينون من ظلمه ، ولكنهم أيضاً لا يقومون بما يجب من حقه ، بل إذا ذمه أحدٌ لم يوافقوه على ذمه ولا يذكرون محامده ، وكذلك لو مدحه أحدٌ لسكتوا وهؤلاء مدينون في ترك المأور في حقه مفرطّون في ذلك لا معتدون عليه، وجزاؤهم أنهم يبخسون حقوقهم فلا ينصفون أيضاً في مواضع ولا ينصرون على من ظلمهم كما لم ينصروا هذا المحسود. أما من اعتدى بقول أو فعل فذلك يعاقب ، ومن اتقى الله وصبر فلم يدخل في الظالمين نفعه الله بتقواه.
3 - عدم البغض: في الحديث(ثلاثٌ لا ينجو منهن أحد:الحسد والظن والطيرة وسأحدثكم بما يخرج من ذلك :إذا حسدت فلا تبغض وإذا ظننت فلا تحقّق وإذا تطيّرت فامض) رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة.(/8)
4 - العلم بإن الحسد ضرر على الحاسد في الدين والدنيا ومنفعته للمحسود في الدين والدنيا: فلا ضرر به على المحسود لا في الدنيا ولا في الدين بل ينتفع به فيهما جميعاً. أما ضرره في الدين فلأنه سخطٌ لقضاء الله وقدره وكراهة لنعمته على عبده المؤمن وانضم إليه غش المسلم وترك نصحه وترك العمل بقول النبي صلى الله عليه وسلم(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وانضم أيضاً إلى ذلك أنه شارك أبليس وهذه خبائث تأكل الحسنات.وأما ضرره في الدنيا فإنه الألم النقد الحاضر والعذاب الأليم وأما كونه لا ضرر على المحسود فواضحٌ لإن النعمة لا تزول بالحسد. وأما منفعته في الدين فهو أن المحسود مظلوم من جهة الحاسد لا سيما إذا أخرج الحسد صاحبه إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكر مساويه فهذه هدايا تُهدى إليه ، وأما منفعته في الدنيا للمحسود فهو أن أهم مقاصد أكثر أبناء الدنيا إيصال الضرر والهمّ إلى أعدائهم وهو متوفر في الحسد وقد فعل الحاسد بنفسه مرادهم. فأنت إذا حسدت بالحقيقة عدوٌ لنفسك صديق لعدوك ومع هذا كله فقد أدخلت السرور على أبليس وهو أعدى عدو لك ولغيرك ولو عقلت تماماً لعكست وكلفت نفسك نقيض الحسد إذ أن كل مرض يعالج بضده كمثلً:
5 - الثناء على المحسود وبرَّه: فيكلف نفسه الثناء عليه من غير كذب ويلزم نفسه بره إن قدر ، فهذه الأفعال تعمل مقاربة تطِّيب قلب المحسود ويحب الحاسدَ ويصير ما يتكلفه أولاً طبعاً آخراً. ولا يعمل بوساوس الشيطان أنَّ هذا عجزٌ ونفاق وخوف لإن ذلك من خدعه ومكائده فهذا الدواء إلا أنه مرٌّ قلَّ من يقدر عليه .قال تعالى(ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه ولي حميم). والعمل النافع فيه عدم البغي وكذلك أن يحكم الحسد فكل ما يتقاضاه الحسد من قول وفعل فينبغي أن يكون نقيضه فإن بعثه الحسد على القدح في محسوده كلَّف لسانه المدح له والثناء عليه ، وإن حمله على التكبر عليه ألزم نفسه التواضع له والاعتذار إليه ، وإن بعثه على كفّ الإنعام عليه ، فمهما فعل ذلك عن تكلف وعرفه المحسود طاب قلبه وأحبه ومهما ظهر حبه عاد الحاسد فأحبه وتولَّد من ذلك الموافقة التي تقطع مادة الحسد لإن التواضع والثناء والمدح وإظهار السرور بالنعمة يستجلب قلب المنعَم عليه ويسترقه ويستعطفه ويحمله على مقابلة ذلك ثم ذلك الإحسان يعود إلى الأول فيطيب قلبه.وإنما تهون مرارة هذا الدواء أعني التواضع للأعداء والتقرب إليهم بالمدح والثناء بقوة العلم بالمعاني التي ذكرنا وقوة الرغبة في ثواب الرضا بقضاء الله تعالى وحب ما أحبه وعزة النفس وترفعها عن أن يكون في العالم شيء عى خلاف مراده.
6 - إفشاء السلام : قال صلى الله عليه وسلم(أفشوا السلام بينكم) فأخبر صلى الله عليه وسلم بحال الحسد وأن التحابب ينفيه وأن السلام يبعث على التحابب فصار السلام إذن نافياً للحسد. وقد جاء كتاب الله تعالى يوافق هذا القول في قوله تعالى (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه ولي حميم) قال مجاهد: معناه ادفع بالسلام إساءة المسىء . قال الشاعر:
قد يلبث الناس حيناً ليس بينهم ------- ودٌّ فيزرعه التسليم واللطف
7 - القناعة بعطاء الله: قال بعض الحكماء: من رضي بقضاء الله تعالى لم يسخطه أحد ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد ، فيكون راضياً عن ربه ممتلئ القلب به.ويتيقن بأن الحرمان أحيانا للإنسان خيرا من العطاء، وأن المصيبة قد تكون له نعمة، وأن الإنسان احيانا يحب ما هو شر له ويكره ما هو خير له .
8 - نقل الطباعة(الطبع): أما يستعمله من كان غالباً عليه الحسد وكان طبعه إليه مائلاً لينتفي عنه ويكفاه ويسلم من ضرره وعدواه فأمور هي له حسمٌ إن صادفها عزم ، فمنها: اتباع الدين في اجتنابه والرجوع إلى الله عز وجل في آدابه فيقهر نفسه على مذموم خلقها وينقلها عن لئيم طبعها وإن كان نقل الطباعة عَسِراً لكن بالرياضة والتدرج يسهل منها ما استصعب ويحبب منها ما أتعب وأن نقدِّم قول القائل : من ربّه خلقه كيف يخلي خلقه ، غير أنه إذا عانى تهذيب نفسه تظاهر بالتخلق دون الخلق ثم بالعادة يصير كالخلق . قال أبو تمام الطلئي:
فلم أجدِ الأخلاق إلا تخلقاً ------- ولم أجدِ الأفضال إلا تفضلاً
9 - العقل: الذي يستقبح به من نتائج الحسد مالا يرضيه ويستنكف من هجنة مساويه فيذلل نفسه أنفة ويطهرها حمية فتذعن لرشدها وتجيب إلى صلاحها. وهذا إنما يصح لذي النفس الأبية والهمة العلية وإن كان ذو الهمة يجلّ عن دناءة الحسد الذي يريد بعقله - بما استودعه الله عز وجل من المعرفة بضرر الحسد - على منازعة الطبع ودعاء العدو.
-10 استدفاع ضرر الحسد وتوقي أثره: ويعلم أن مكانته في نفسه أبلغ ومن الحسد أبعد فيستعمل الحزم في دفع ما أكدّه وأكمده ليكون أطيب نفساً وأهنأ عيشاً . وقد قيل: العَجَب لغفلة الحسّاد عن سلامة الأجساد.(/9)
11 - رؤية النفور الناس منه(أي الحاسد) وبعدهم عنه: فيخافهم إما على نفسه من عدواة أو على عرضه من ملامة فيتألفهم بمعالجة نفسه ويراهم إن صلحوا أجدى نفعاً وأخلص ودّاً. وفي الحديث عند ابن ماجة عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أفضل؟ قال: (كل مخموم القلب، صدوق اللسان), قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: (هو التقي النقي لا أثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد).
12 - مساعدة القضاء والاستسلام للمقدور: ولايرى أن يغالب قضاء الله فيرجع مغلوباً ولا أن يعارضه في أمره فيُرَدَّ محروماً مسلوباً ، وقد قال أردشير بن بابك:إذا لم يساعدنا القضاء ساعدناه. وفال محمود الورّاق:
قدر الله كائنٌ ------- حين يقضي وروده
قد مضى فيك علمه ------- وانتهى ما يريده
وأخو الحزم حزمه ------- ليس مما يزيده
فأرِد ما يكون إن ------- لم يكن ما تريده
13 - قمع أسباب الحسد: فأما الدواء المفصَّل فهو تتبع أسباب الحسد من الكبر وغيره وعزة النفس وشدة الحرص على مالا يغني ، فهو مواد المرضى ولا يقمع المرض إلا بقمع المادة.
14 - كراهة القلب لحب زوال النعمة: أما إذا ألزمت نفسك وقلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة الطبع ، فقد أديت الواجب عليك ولا يدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من ذلك.
15 - العلم بأضرار الحسد على الحاسد في الآخرة: بإن : الحاسد معترض على أقدار الله - الحاسد متشبه بالكافرين - الحاسد جنديٌ من جنود إبليس - الحاسد مفارقٌ للمؤمنين - الحاسد معَذَّب في الآخرة - حسنات الحاسد تذهب للمحسود.
16 - العلم بأضرار الحسد على الحاسد في الدنيا : بإن: الحاسد دائماً في الهمّ والحزن - الحاسد قد يتمنى لنفسه البلاء - الحاسد تنزل عليه البلايا.
17 - أن يعلم الحاسد أنه قد غشَّ من يحسده من المسلمين وترك نصيحته وشارك أعداؤه:إبليس والكفار في محبتهم للمؤمنين زوال النعم عنهم وكراهةما أنعم عليهم به ، وأنه قد سخط قضاء الله عز وجلَّ الذي قسم لعباده.
18 - أن يعلم الحاسد أنه لو كان الذي يحسده أبغض الناس إليه وأشدهم عدواة له ، أنه لا تزول النعمة عنه بحسد الحاسد له.
19 - أن يعلم الحاسد أنَّ الحسد في الدين والدنيا من حسد إبليس.
20 - أن يعلم الحاسد أنه لو كان حسد الحاسد يضر المحسود فيزيل عنه بحسده له النعم ، لدخل على الحاسد أعظم الضرر ؛ لإنه لا يعرى أن يحسده غيرُه.
21 - العلم بإنه خلق دنئ يتوجه نحو الأكفاء والأقارب ويختص بالمخالط والمصاحب.
22 - الإخلاص
23 - قراء القران وتدبره
24 - تذكر الحساب والعقاب
25 - الدعاء والصدقة
26 - تذكر الحاسد أن من ينفث سمومه عليه من إخوانه ويناله بسهمه ، هو أخٌ مسلم ليس يهودياً ولا نصرانياً.
فإن أظفرته السعادة بأحد هذه الأسباب وهدته المراشد إلى استعمال الصواب سلم من سقامه وخلص من غرامه واستبدل بالنقص فضلاً واعتاض من الذم حمداً.
موقع أعمال القلوب
http://www.heartsactions.com/s6.htm(/10)
الحسن البصري
...
خالد بن محمد الشارخ
...
الرياض
اللحيدان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية دراسة سير الصالحين. 2- أقوال لأهل العلم في الحسن البصري. 3- نشأة الحسن البصري. 4- طلبه للعلم ولقياه عدداً من الصحابة. 5- شمائل الحسن البصري. 6- خشية الحسن البصري. 7- من أقواله رحمه الله.
الخطبة الأولى
أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فإنها الزاد إلى الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
أيها الأخوة الأعزاء: إن النفوس البشرية يصيبها الملل والسآمة والفتور، فكلل عن العمل وفتور عن الطاعة، لكنها ما إن يحدوها الحادي ويقودها الساعي ويذكرها الذاكر سير أولئك الأفذاذ وأخبار الأتقياء وإخبات الصالحين وخشوع الناسكين إلا وتنشط. ويبدأ عملها من جديد.
فإذا الفتور يصبح حماساً، والكلل يصير عملاً، ولذلك قال أبو حنيفة النعمان بن ثابت: لسير الصالحين أحب إلينا من كثير من الفقه.
ذلك لأن الفقه وحده ودراسة العلوم وحدها دون مواعظ تلين لها القلوب أو تذكرة ترق لها الأسماع. تصبح القلوب أدعية للعلم ولا عمل، تصبح القلوب قاسية كالحجارة أو أشد قسوة فما أحوجنا أيها الأخوة وخاصة طلبة العلم لسير الصالحين وآدابهم واتباع سيرهم والاقتداء بسمتهم ودلّهم.
كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي.
أيها المسلمون: وسنتذاكر في هذه الخطبة المباركة سير علم من أعلام الصالحين وإماماً من أئمتهم ورجلاً من رجالتهم، ما إن يذكر اسمه إلا ويذكر الزهد – وما إن يذكر الزهد إلا ويذكر اسمه.
رجل هو الزهد، والزهد هو.
غير أنه لم يدرك النبي وإنما كان على درجة من الفطنة والزكاة، والخشية والإنابة والعقل والورع، والزهد والتقوى ما جعله يشبه الصحابة الكرام بل قال عنه علي بن زيد لو أدرك أصحاب رسول الله وله مثل أسنانهم ما تقدّموه.
قال عنه أحد العلماء: كان جائعاً عالماً عالياً رفيعاً فقيها ثقة مأموناً عابداً ناسكاً كبير العلم فصيحاً جميلاً وسيماً.
قال عنه أحد الصحابة: لو أنه أدرك أصحاب رسول الله لاحتاجوا إلى رأيه.
كانت أمه خيرة مولاة لأم سلمة زوج النبي وكان مولده قبل نهاية خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بسنتين.
وكانت أمه تخرج إلى السوق أحياناً فتدعه عند أم سلمة فيصيح جوعاً فتلقمه أم سلمة ثديها لتعلله به، إلى أن تجيء أمه – وإذا برحمة الله تنزل على الثدي فيدر لبناً فيرضع الطفل حتى يرتوي.
فإذا هو يرتوي حكمة وفصاحة وتقى، فما إن شب صاحبنا إلا وينابيع الحكمة تنبع من لسانه وجمال الأسلوب ورصانة العبارة وفصاحة اللسان تتحدر من كلامه.
إنه الحسن بن أبي الحسن يسار، الإمام شيخ الإسلام أبو سعيد البصري المشهور بالحسن البصري، يقال: مولى زيد بن ثابت، ويقال: مولى جميل بن قطبة.
وأمه خيرة مولاة أم سلمة، نشأ إمامنا في المدينة النبوية وحفظ القرآن في خلافة عثمان. وكانت أمه وهو صغير تخرجه إلى الصحابة فيدعون له، وكان في جملة من دعا له عمر بن الخطاب.
قال: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس.
فكان الحسن بعدها فقيهاً وأعطاه الله فهماً ثابتاً لكتابه وجعله محبوباً إلى الناس.
فلازم أبا هريرة وأنس بن مالك وحفظ عنهم أحاديث النبي ، فكان كلما سمع حديثاً عن المصطفى ازداد إيماناً وخوفاً من الله.
إلى أن أصبح من نساك التابعين ومن أئمتهم ومن وعاظهم ودعاتهم، وصار يرجع إليه في مشكلات المسائل وفيما اختلف فيه العلماء، فهذا أنس بن مالك ، سُئل عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن، قالوا: يا أبا حمزة نسألك، تقول: سلوا الحسن؟ قال: سلوا مولانا الحسن. فإنه سمع وسمعنا فحفظ ونسينا.
وقال أنس بن مالك أيضاً: إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخين الحسن البصري ومحمد بن سيرين.
وقال قتادة: وما جالست رجلاً فقيهاً إلا رأيت فضل الحسن عليه، وكان الحسن مهيباً يهابه العلماء قبل العامة، قال أيوب السختياني: كان الرجل يجالس الحسن ثلاث حجج (سنين) ما يسأله عن مسألة هيبة.
وكان الحسن البصري إلى الطول أقرب، قوي الجسم، حسن المنظر، جميل الطلعة مهايباً.
قال عاصم الأحول: قلت للشعبي: لك حاجة؟ قال: نعم، إذا أتيت البصرة فأقرئ الحسن مني السلام، قلت: ما أعرفه، قال: إذا دخلت البصرة فانظر إلى أجمل رجل تراه في عينيك وأهيبه في صدرك فأقرئه مني السلام، قال فما عدا أن دخل المسجد فرأى الحسن والناس حوله جلوس فأتاه وسلّم عليه.
وكان الحسن صاحب خشوع وإخبات ووجل من الله، قال إبراهيم اليشكري: ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، وما رأيته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبة.
وقال علقمة بن مرثد: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، فأما الحسن بن أبي الحسن البصري. فما رأينا أحداً من الناس كان أطول حزناً منه، وكان يقول أي الحسن: نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا.(/1)
فقال: لا أقبل منكم شيئاً، ويحك يا ابن آدم، هل لك بمحاربة الله طاقة؟ إن من عصى الله فقد حاربه، والله لقد أدركت سبعين بدرياً، لو رأيتموهم قلتم مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب.
قال مطر الوراق: الحسن كأنه رجل كان في الآخرة ثم جاء يتكلم عنها، وعن أهوالها. فهو بخبر عما رأي وعاين.
وقال حمزة الأعمى: وكنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه فقلت له يوماً: إنك تكثر البكاء، فقال: يا بني، ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة. فإن استطعت أن تكون عمرك باكيا فافعل، لعله تعالى أن يرحمك.
ثم ناد الحسن: بلغنا أن الباكي من خشية الله لا تقطر دموعه قطرة حتى تعتق رقبته من النار.
وقال حكيم بن جعفر قال لي من رأى الحسن: لو رأيت الحسن لقلت: قد بث عليه حزن الخلائق، من طول تلك الدمعة وكثرة ذلك النشيج.
قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهماً.
وعن حفص بن عمر قال: بكى الحسن فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا يبالي. لله ما أطهر هذه القلوب، ولله ما أزكى هذه النفوس، بالله عليك قل لي: هل أرواحهم خلقت من نور أم أطلعوا على الجنة وما فيها من الحور أو عايشوا النار وما فيها من الدثور أم إنه الإيمان يكسى ويحمل فيكون كالنور نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.
سبحان الله لا إله إلا الله، ما الذي تغيّر هل لهم كتاب غير كتابنا أم أرواح غير أرواحنا أم لهم أرض غير أرضنا، لا والله لكنها القلوب تغيرت والنفوس أمنت والأجساد تنعمت، غيرتها الذنوب وقيدتها المعاصي حتى أصبحنا لا نرى هذه الصور الإيمانية ولا النفوس القرآنية وصرنا نذكرها كفقير يذكر غناه أو بئسٍ ينادي فرحة دمناه، أين إخبات الصالحين، أو خشوع المؤمنين أو دموع التائبين أو أنين الخائفين.
أين أهل الإيمان، كمدتُ ألا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب.
بارك إله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه.
أيها المسلمون: وكان الحسن البصري صاحب مواعظ وتذكير، ولكلامه أثر في النفوس وتحريك للقلوب.
قال الأعمش: ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها.
وكان أبو جعفر الباقي إذا ذكره يقول: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء.
ومن كلامه رحمه الله:
روى الطبراني عنه أنه قال: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، رجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة.
يقول أحدهم: إني لحسن الظن بالله وأرجو رحمة الله، وكذب، ولو أحسن الظن بالله لأحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة، يوشك من دخل المفازة (الصحراء) من غير زاد ولا ماء أن يهلك.
عن حميد قال: بينما الحسن في المسجد تنفس تنفساً شديداً ثم بكى حتى أرعدت منكباً ثم قال: لو أن بالقلوب حياةً، لو أن بالقلوب صلاحاً لأبكتكم من ليلةٍ صبيحتها يوم القيامة، إن ليلة تمخض عن صبيحة يوم القيامة ما سمع الخلائق بيوم قط أكثر من عورة بادية ولا عين باكية من يوم القيامة.
وجاء شاب إلى الحسن فقال: أعياني قيام الليل (أي حاولت قيام الليل فلم استطعه)، فقال: قيدتك خطاياك.
وجاءه آخر فقال له: إني أعصي الله وأذنب، وأرى الله يعطيني ويفتح علي من الدنيا، ولا أجد أني محروم من شيء فقال له الحسن: هل تقوم الليل فقال: لا، فقال: كفاك أن حرمك الله مناجاته.
وكان يقول: من علامات المسلم قوة دين، وجزم في العمل وإيمان في يقين، وحكم في علم، وحسن في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة (جوع) وإحسان في قدرة، وطاعة معها نصيحة، وتورع في رغبة، وتعفف وصبر في شدة.
لا ترديه رغبته ولا يبدره لسانه، ولا يسبقه بصره، ولا يقلبه فرجه، ولا يميل به هواه، ولا يفضحه لسانه، ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نغيته.
وقال له رجل: إن قوماً يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلاً (أي يتصيدون الأخطاء).
فقال: هون عليك يا هذا، فإني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطعمتها في النجاة من النار، فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم؟
وسُئل الحسن عن النفاق فقال: هو اختلاف السر والعلانية، والمدخل والمخرج، ما خافه إلا مؤمن (أي النفاق) ولا أمنة إلا منافق، صدق من قال: إن كلامه يشبه كلام الأنبياء.
توفي الإمام الحسن البصري وعمره 88 سنة عام عشر ومائة في رجب منها. بينه وبين محمد سيرين مائة يوم.
رحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جنانه وجمعنا وإياه في دار كرامته.
اللهم أعز الإسلام والمسلمي(/2)
... ... ...
الحسن البصري ... ... ...
خالد الشارخ ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- أهمية دراسة سير الصالحين. 2- أقوال لأهل العلم في الحسن البصري. 3- نشأة الحسن البصري. 4- طلبه للعلم ولقياه عدداً من الصحابة. 5- شمائل الحسن البصري. 6- خشية الحسن البصري. 7- من أقواله رحمه الله. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فإنها الزاد إلى الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى .
أيها الأخوة الأعزاء: إن النفوس البشرية يصيبها الملل والسآمة والفتور، فكلل عن العمل وفتور عن الطاعة، لكنها ما إن يحدوها الحادي ويقودها الساعي ويذكرها الذاكر سير أولئك الأفذاذ وأخبار الأتقياء وإخبات الصالحين وخشوع الناسكين إلا وتنشط. ويبدأ عملها من جديد.
فإذا الفتور يصبح حماساً، والكلل يصير عملاً، ولذلك قال أبو حنيفة النعمان بن ثابت: لسير الصالحين أحب إلينا من كثير من الفقه.
ذلك لأن الفقه وحده ودراسة العلوم وحدها دون مواعظ تلين لها القلوب أو تذكرة ترق لها الأسماع. تصبح القلوب أدعية للعلم ولا عمل، تصبح القلوب قاسية كالحجارة أو أشد قسوة فما أحوجنا أيها الأخوة وخاصة طلبة العلم لسير الصالحين وآدابهم واتباع سيرهم والاقتداء بسمتهم ودلّهم.
كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي.
أيها المسلمون: وسنتذاكر في هذه الخطبة المباركة سير علم من أعلام الصالحين وإماماً من أئمتهم ورجلاً من رجالتهم، ما إن يذكر اسمه إلا ويذكر الزهد – وما إن يذكر الزهد إلا ويذكر اسمه.
رجل هو الزهد، والزهد هو.
غير أنه لم يدرك النبي وإنما كان على درجة من الفطنة والزكاة، والخشية والإنابة والعقل والورع، والزهد والتقوى ما جعله يشبه الصحابة الكرام بل قال عنه علي بن زيد لو أدرك أصحاب رسول الله وله مثل أسنانهم ما تقدّموه.
قال عنه أحد العلماء: كان جائعاً عالماً عالياً رفيعاً فقيها ثقة مأموناً عابداً ناسكاً كبير العلم فصيحاً جميلاً وسيماً.
قال عنه أحد الصحابة: لو أنه أدرك أصحاب رسول الله لاحتاجوا إلى رأيه.
كانت أمه خيرة مولاة لأم سلمة زوج النبي وكان مولده قبل نهاية خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بسنتين.
وكانت أمه تخرج إلى السوق أحياناً فتدعه عند أم سلمة فيصيح جوعاً فتلقمه أم سلمة ثديها لتعلله به، إلى أن تجيء أمه – وإذا برحمة الله تنزل على الثدي فيدر لبناً فيرضع الطفل حتى يرتوي.
فإذا هو يرتوي حكمة وفصاحة وتقى، فما إن شب صاحبنا إلا وينابيع الحكمة تنبع من لسانه وجمال الأسلوب ورصانة العبارة وفصاحة اللسان تتحدر من كلامه.
إنه الحسن بن أبي الحسن يسار، الإمام شيخ الإسلام أبو سعيد البصري المشهور بالحسن البصري، يقال: مولى زيد بن ثابت، ويقال: مولى جميل بن قطبة.
وأمه خيرة مولاة أم سلمة، نشأ إمامنا في المدينة النبوية وحفظ القرآن في خلافة عثمان. وكانت أمه وهو صغير تخرجه إلى الصحابة فيدعون له، وكان في جملة من دعا له عمر بن الخطاب.
قال: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس.
فكان الحسن بعدها فقيهاً وأعطاه الله فهماً ثابتاً لكتابه وجعله محبوباً إلى الناس.
فلازم أبا هريرة وأنس بن مالك وحفظ عنهم أحاديث النبي ، فكان كلما سمع حديثاً عن المصطفى ازداد إيماناً وخوفاً من الله.
إلى أن أصبح من نساك التابعين ومن أئمتهم ومن وعاظهم ودعاتهم، وصار يرجع إليه في مشكلات المسائل وفيما اختلف فيه العلماء، فهذا أنس بن مالك ، سُئل عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن، قالوا: يا أبا حمزة نسألك، تقول: سلوا الحسن؟ قال: سلوا مولانا الحسن. فإنه سمع وسمعنا فحفظ ونسينا.
وقال أنس بن مالك أيضاً: إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخين الحسن البصري ومحمد بن سيرين.
وقال قتادة: وما جالست رجلاً فقيهاً إلا رأيت فضل الحسن عليه، وكان الحسن مهيباً يهابه العلماء قبل العامة، قال أيوب السختياني: كان الرجل يجالس الحسن ثلاث حجج (سنين) ما يسأله عن مسألة هيبة.
وكان الحسن البصري إلى الطول أقرب، قوي الجسم، حسن المنظر، جميل الطلعة مهايباً.
قال عاصم الأحول: قلت للشعبي: لك حاجة؟ قال: نعم، إذا أتيت البصرة فأقرئ الحسن مني السلام، قلت: ما أعرفه، قال: إذا دخلت البصرة فانظر إلى أجمل رجل تراه في عينيك وأهيبه في صدرك فأقرئه مني السلام، قال فما عدا أن دخل المسجد فرأى الحسن والناس حوله جلوس فأتاه وسلّم عليه.
وكان الحسن صاحب خشوع وإخبات ووجل من الله، قال إبراهيم اليشكري: ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، وما رأيته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبة.
وقال علقمة بن مرثد: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، فأما الحسن بن أبي الحسن البصري. فما رأينا أحداً من الناس كان أطول حزناً منه، وكان يقول أي الحسن: نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا.(/1)
فقال: لا أقبل منكم شيئاً، ويحك يا ابن آدم، هل لك بمحاربة الله طاقة؟ إن من عصى الله فقد حاربه، والله لقد أدركت سبعين بدرياً، لو رأيتموهم قلتم مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب.
قال مطر الوراق: الحسن كأنه رجل كان في الآخرة ثم جاء يتكلم عنها، وعن أهوالها. فهو بخبر عما رأي وعاين.
وقال حمزة الأعمى: وكنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه فقلت له يوماً: إنك تكثر البكاء، فقال: يا بني، ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة. فإن استطعت أن تكون عمرك باكيا فافعل، لعله تعالى أن يرحمك.
ثم ناد الحسن: بلغنا أن الباكي من خشية الله لا تقطر دموعه قطرة حتى تعتق رقبته من النار.
وقال حكيم بن جعفر قال لي من رأى الحسن: لو رأيت الحسن لقلت: قد بث عليه حزن الخلائق، من طول تلك الدمعة وكثرة ذلك النشيج.
قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهماً.
وعن حفص بن عمر قال: بكى الحسن فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا يبالي. لله ما أطهر هذه القلوب، ولله ما أزكى هذه النفوس، بالله عليك قل لي: هل أرواحهم خلقت من نور أم أطلعوا على الجنة وما فيها من الحور أو عايشوا النار وما فيها من الدثور أم إنه الإيمان يكسى ويحمل فيكون كالنور نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء .
سبحان الله لا إله إلا الله، ما الذي تغيّر هل لهم كتاب غير كتابنا أم أرواح غير أرواحنا أم لهم أرض غير أرضنا، لا والله لكنها القلوب تغيرت والنفوس أمنت والأجساد تنعمت، غيرتها الذنوب وقيدتها المعاصي حتى أصبحنا لا نرى هذه الصور الإيمانية ولا النفوس القرآنية وصرنا نذكرها كفقير يذكر غناه أو بئسٍ ينادي فرحة دمناه، أين إخبات الصالحين، أو خشوع المؤمنين أو دموع التائبين أو أنين الخائفين.
أين أهل الإيمان، كمدتُ ألا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب.
بارك إله لي ولكم... ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله على إحسانه.
أيها المسلمون: وكان الحسن البصري صاحب مواعظ وتذكير، ولكلامه أثر في النفوس وتحريك للقلوب.
قال الأعمش: ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها.
وكان أبو جعفر الباقي إذا ذكره يقول: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء.
ومن كلامه رحمه الله:
روى الطبراني عنه أنه قال: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، رجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة.
يقول أحدهم: إني لحسن الظن بالله وأرجو رحمة الله، وكذب، ولو أحسن الظن بالله لأحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة، يوشك من دخل المفازة (الصحراء) من غير زاد ولا ماء أن يهلك.
عن حميد قال: بينما الحسن في المسجد تنفس تنفساً شديداً ثم بكى حتى أرعدت منكباً ثم قال: لو أن بالقلوب حياةً، لو أن بالقلوب صلاحاً لأبكتكم من ليلةٍ صبيحتها يوم القيامة، إن ليلة تمخض عن صبيحة يوم القيامة ما سمع الخلائق بيوم قط أكثر من عورة بادية ولا عين باكية من يوم القيامة.
وجاء شاب إلى الحسن فقال: أعياني قيام الليل (أي حاولت قيام الليل فلم استطعه)، فقال: قيدتك خطاياك.
وجاءه آخر فقال له: إني أعصي الله وأذنب، وأرى الله يعطيني ويفتح علي من الدنيا، ولا أجد أني محروم من شيء فقال له الحسن: هل تقوم الليل فقال: لا، فقال: كفاك أن حرمك الله مناجاته.
وكان يقول: من علامات المسلم قوة دين، وجزم في العمل وإيمان في يقين، وحكم في علم، وحسن في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة (جوع) وإحسان في قدرة، وطاعة معها نصيحة، وتورع في رغبة، وتعفف وصبر في شدة.
لا ترديه رغبته ولا يبدره لسانه، ولا يسبقه بصره، ولا يقلبه فرجه، ولا يميل به هواه، ولا يفضحه لسانه، ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نغيته.
وقال له رجل: إن قوماً يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلاً (أي يتصيدون الأخطاء).
فقال: هون عليك يا هذا، فإني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطعمتها في النجاة من النار، فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم؟
وسُئل الحسن عن النفاق فقال: هو اختلاف السر والعلانية، والمدخل والمخرج، ما خافه إلا مؤمن (أي النفاق) ولا أمنة إلا منافق، صدق من قال: إن كلامه يشبه كلام الأنبياء.
توفي الإمام الحسن البصري وعمره 88 سنة عام عشر ومائة في رجب منها. بينه وبين محمد سيرين مائة يوم.
رحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جنانه وجمعنا وإياه في دار كرامته.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/2)
الحسنات والسيئات
1964
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الطائف
سعيد الجندول
ملخص الخطبة
1 ـ مضاعفة الحسنات وتفاوت ذلك. 2 ـ السيئة لا تضعف وقد تعظم في الأماكن أو الأزمنة الفاضلة. 3 ـ الهم بالحسنة والهم بالسيئة. 4 ـ دور النية في العمل.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن مما ينبغي للعبد إدراكه ومعرفته هو عظيم لطف الله بعباده وواسع رحمته عز وجل وعظيم مغفرته وتكثير الحسنات ومضاعفتها إلى أضعاف كثيرة، حتى مجرد الهمّ والتفكير في العمل الصالح يكتبه الله عز وجل حسنات، وفوق ذلك كله منة عظيمة وفضل واسع، قليل من يتدبره ويفقهه، لو همّ هذا العبد بسيئة ولكنه لم يعملها خوفاً من الله فإنه سبحانه وتعالى يكتبها عنده حسنة كاملة، فلله الحمد والمنة لا نحصي ثناء عليه سبحانه وتعالى، فهل يهلك بعد ذلك على الله إلا هالك؟
وما الذي جعل المسلمين ينشغلون عن آخرتهم بدنياهم وبما لا فائدة فيه، إنه الشيطان الرجيم، العدو المبين الذي حذرنا منه ربنا تبارك وتعالى، ولكننا ننسى أو نتناسى الإكثار من عمل الصالحات التي سوف نكون في أشد الحاجة إلى حسنة واحدة منها في يوم تشخص فيه الأبصار، يوم لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات و السيئات، يوم لا تنفع ساعات الندم والحسرة، فهل أحد منا جعل هذا الحديث الشريف التالي ذكره وغيره نصب عينيه في جميع أقواله وأعماله للازدياد من عمل الخيرات ومضاعفة الحسنات؟ وهل أدركنا اللطف الإلهي بنا؟ وهل تأملنا في واسع مغفرة الله ورحمته بنا؟
قال تعالى: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]. فهذه الآية الكريمة جاءت مفصلة لما أجمل في قوله تعالى: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [القصص:84]. وفي قوله تعالى: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:89-90].
روى الإمامان الجليلان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة تبارك وتعالى قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ،وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة)). وفي رواية للإمام مسلم زيادة في آخر الحديث بعد قوله: ((وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة أو محاها ولا يهلك على الله إلا هالك)). وروى الإمام البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله للملائكة: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإن أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف)).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي)). وفي رواية مسلم بعد قوله: ((إلى سبعمائة ضعف))، ((إلى ما يشاء الله)).
وقد وردت أحاديث متعددة في هذا المعنى، وتضمنت نصوصها كتابة الحسنات والسيئات والهم بالحسنة والسيئة. فهذه أربعة أنواع وهي كما يلي:
النوع الأول: عمل الحسنات فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ،ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها ملازم لكل الحسنات أياً كانت من صلاة أو ذكر أو دعاء أو قراءة للقرآن أو برٍّ أو إحسان مهما كان قليلاً أو كثيراً. ودليله قوله تعالى: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]. وأما الأحاديث فكثيرة، منها ما سبق ذكره، ومنها ما لا يتسع المقام لإيراده.(/1)
وأما الزيادة والمضاعفة على العشر حسنات لمن شاء الله أن يضاعف له إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فدل عليه قوله تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]. فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والشاهد قوله تعالى: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وكذلك أحاديث منها ما تقدم ومنها ما ورد في صحيح مسلم رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله هذه في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة مخطومة)).
والنوع الثاني: هو عمل السيئات فتكتب السيئة بمثلها من غير مضاعفة في العدد بل تكتب سيئة واحدة مثل التي عملت. قال تعالى: وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]. وكما ورد في عدة أحاديث بألفاظ مختلفة منها: ((وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة)) وفي الحديث الآخر: ((فإن عملها فاكتبوها بمثلها)). وفي رواية أخرى: ((فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة)). وفي هذه الأحاديث والآية إشارة واضحة إلى أنها غير مضاعفة العدد وإنما تكتب سيئة واحدة مثل التي عملت. وقد تكون السيئة عظيمة لشرف الزمان والمكان مثل رمضان، والأشهر الحرم، ومثل السيئة في مكة المكرمة، لقول الله عز وجل: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]. فالسيئة عظيمة في مكة والحرم وليست مضاعفة العدد، أما الصلاة والحسنات عموماً في المسجد الحرام فهي مضاعفة العدد كما ورد بذلك عدة أحاديث، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((صلا ة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)). وفي رواية صحيحة أخرى: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة)). وهذا إثبات للمائة ألف صلاة المذكورة في الأحاديث الأخرى من حيث مضاعفة العدد، أما السيئات في مكة والحرم فلا تضاعف، وإنما تكون عظيمة كالتي عملت، صغيرة كانت أو كبيرة كما ورد في الآية السابقة لشرف المكان.
وقد يضاعف العدد في الحسنات والسيئات نظراً لشرف فاعلها وقوة معرفته بالله وقربه منه، مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أزواجه رضي الله عنهن كما ورد ذلك في القرآن الكريم قال تعالى: وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحياةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:74-75]. وقال تعالى: يانِسَاء النَّبِىّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب:30-31].
النوع الثالث: هو الهم بالحسنات فتكتب حسنة كاملة وإن لم يعملها، ولننظر إلى التأكيد في الحديث بكلمة ((كاملة)) لإثبات أن النية الصالحة والهم بفعل الحسنة وإن لم يعملها فسوف تكتب له حسنة كاملة بإذن الله. فالأجدر بنا أن نتسابق إلى الهمّ والحرص على الحسنات إذا لم نعملها أو لم نستطع القيام بها فإن أجرها ثابت إن شاء الله، والهمّ معناه: العزم الصادق والتصميم والحرص على العمل الصالح لا مجرد الخطرة التي تخطر على البال ثم تنفسخ من غير عزم ولا تصميم ولا صدق بحيث لو تمكن من ذلك لم يعمله، والله أعلم. كما ورد في حديث أبي كبشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم أن لله فيه حقاً فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية فيقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يتخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم فيه لله حقاً، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً وهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء)). وكذلك الحديث: ((من سأل الله الشهادة بصدق نية بلّغَه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه)).(/2)
ولا ننسى الدلالة على عمل الخيرات وطرق كسب الحسنات لأي عمل من أعمال الخير والبر والإحسان التي يُبتغى بها وجه الله وما عنده سبحانه وتعالى من الثواب ورفعة الدرجات، فالدال على الخير كفاعله، كما ورد بذلك الخبر عن سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وفضل الله واسع وخزائنه ملأى، فلله الحمد والمنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدال على الخير كفاعله)) وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)). وفي حديث آخر: ((من فطر صائماً كان له من الأجر مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء)).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده عز وجل وأشكره وأثني عليه الخير كله وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله صحبه.
أما بعد:
فإن النوع الرابع الوارد في الحديث هو الهمّ بالسيئات من غير عمل لها، وإن كان هذا الترتيب في توضيح هذه الأنواع غير مرتب على ألفاظ الحديث، ولكن المهم هو الإيضاح، وأوجز ما سبق فيما يلي:
أولاً: الهمّ بالحسنات مع العمل.
ثانياً: الهم بالسيئات مع العمل.
ثالثاً: الهمّ بالحسنات مع عدم العمل.
رابعاً: الهمّ بالسيئات مع عدم العمل بها.
وهذا النوع يكتبه الله عز وجل عنده حسنة كاملة، ولكن تارك السيئة ليس على كل حال تكتب له حسنة كاملة، وإنما ذلك على تفصيل وأقسام، منها: إما أن يكون تركه لها لله خوفاً منه، فهذا تكتب له حسنة كاملة لارتداعه وكفّه عنها خوفاً من الله تعالى، فهذا عمل ونية، ولذلك ورد في بعض ألفاظ الحديث ومنها رواية أبي هريرة رضي الله عنه: ((إنما تركها من جرائي)) يعني من أجلي كما ورد في الرواية الأخرى. وهذا يدل على أن المراد من قدر على ما هم به من المعصية فتركه لله تعالى، وهذا لا ريب في أنه يكتب له بذلك حسنة كاملة، لأن تركه للمعصية بهذا القصد عمل صالح، وهذا قد يبلغ به خوفه من الله تعالى وتركه لعمل السيئة بعد مقدرته العمل بها مرتبة الإحسان، ويدخل في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ومعلوم حديث السبعة الأصناف في ذلك، ومنهم: ((رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين)) وحديث الثلاثة الذين توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم عندما سدت عليهم الصخرة فتحة الغار وفيهم الرجل الذي تمكّن وقدر على فعل الزنا بابنة عمه، وعندما ذكّرته بالله تعالى ترك ذلك خوفاً من الله، فعمله ذلك كان سبباً ووسيلة وعملاً صالحاً أنقذه مع زميليه في الغار الذي سُدّت عليهم فتحته بالصخرة.
والقسم الثاني: تارك السيئة نسياناً وذهولاً عنها فهذا لا له ولا عليه لأنه لم يعمل شراً ولم يتكلم به. لما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل)).
أما القسم الثالث لتارك السيئة: فهو الذي يتركها عجزاً وكسلاً عنها بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها ولكنه لم يتمكن من فعلها، فهذا بمنزلة فاعلها، لأنه كان حريصاً على فعلها وإن لم يفعلها، وحرصه إما أن يكون بنيته في قلبه على عملها أو تكلم بها، ودليل ذلك كما ورد في عدة أحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)). وكذلك الحديث الذي تقدم ذكره والذي تمنى فيه منزلة الذي رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فتخبط في ماله بغير علم ولم يتق فيه ربه ولم يصل فيه رحمه ولم يعلم أن لله فيه حقاً، فهو بأخبث المنازل، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذي تمنى ذلك بقوله: ((وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً وهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء)).
فعلى كل مسلم أن يحرص على عمل الحسنات وإن لم يعملها ليكتب له الأجر مثل فاعلها، ويدل على الخير، فالدال على الخير له من الأجر كفاعله، وَلْيَسْعَ في أبواب الخير المتعددة وإن لم يتمكن منها،فحسبه نيته الصالحة وحرصه الحسن، ففضل الله واسع، وما عند الله خير وأبقى، وإن همّ بسيئة فليرتدع عنها ولا يتكلم بها وليتركها مخافة الله عز وجل حتى تكتب له حسنة كاملة، فما أكثر أبواب الخير وما أعظم أبواب كسب الحسنات حيث يستطيع المسلم أن يأتي بالملايين من الحسنات في يوم واحد نظراً لمضاعفة الأجر. نعم الملايين وليست الألوف ومضاعفاتها.(/3)
فما أعظم لطف الله بعباده وسعة رحمته بهم حيث ضاعف لهم الأجر إلى عشر حسنات إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، حتى عندما يرتدع عن عمل السيئة يكتبها الله له حسنة كاملة. فلنتدارك أنفسنا ونحاسبها وَنَنْوِ فعل الحسنات و المسابقة إلى الخيرات أياً كانت وَنَنْتَهِ عن السيئات والمنكرات. ونعلم أن عمل الحسنات سبب في دخول الجنة، ولن يدخل الجنة أحد بعمله إلا أن يتداركه الله برحمته، وإنما هي الأسباب المأمور بها والتي قال الله عنها في عدة آيات: وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]. وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]. أي بسبب ما كنتم تعملون من الحسنات. وذلك كله برحمته عز وجل. حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يدخل الجنة أحد بعمله)) وفي رواية: ((لن يُدْخِل أحداً عملُهُ الجنةَ)). قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتداركني الله برحمته)).
إن الخسارة العظيمة يوم القيامة لمن غلبت سيئاته حسناته وثقل ميزان سيئاته حتى رجح على ميزان حسناته فذلك الخسران المبين مع خسران الأهل والبنين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، قال تعالى: فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:6-11]. فالثقل المراد في الآيات الكريمة هو ثقل كفة الميزان بالحسنات حتى ترجح على السيئات، والخف في الميزان هو العكس بحيث تقل الحسنات في الكفة المقابلة للسيئات الكثيرة، وتلك هي الخسارة نعوذ بالله من الخسران ونسأل الله من فضله.
قال تعالى: فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:102-108]. وَأَقِمِ الصلاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114-115].(/4)
الحصن الحصين
د. علي بن عمر بادحدح
المحتويات :
• المقدمة .
• أولاً : الحصن الحصين الدلالة والمعنى .
• ثانياً : الأسرة في ضوء الإسلام .
• ثالثاً: الأسرة وقاية .
• رابعاً : معاول هدم الأسرة .
• خامساً: النداءات .
محاضرة الحصن الحصين
المقدمة :
أما بعد - أيها الأخوة الكرام - سلام الله عليكم ورحمته وبركاته إنه ومن أعظم النعم وأجلها بعد إعزازنا بالإيمان وإكرامنا بالإسلام، معرفتنا بحقائق ديننا ووقوفنا على محاسن شريعتنا ، وإدراكنا بالثمار يانعة والمنافع الواسعة التي نجنيها في دنيانا ونرجوها في أخرانا عندما نفقه ديننا ونتمسك بأحكامه ونتحلى بآدابه ونعتصم بما جاء في كتاب الله وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم .
الحصن الحصين
كلكم يعلم دلالة هذه الكلمة ومعناها .
الحصن فيه معنى الحصانة والحماية والوقاية وكل ما نعلم أن الحكم فيه الأمن والأمان والسلامة والسعادة والهدوء والاستقرار .
وفيه البعد عن الشرور والآثام والسلامة من الحيرة والإطراب والأمن من العدوان والاجتراء على الحرمات هذا هو الحصن ، فكيف إن كان الحصن حصيناً، والحصين صفة في هذا المقام، يمكن أن يكون الحصن أميناً أو جميلاً ؛ فإن كان حصيناً فهي مبالغة فيما يتصل بأسباب السلامة والحماية التي يوفرها هذا الحصن .
والأسرة التي نتحدث عنها إذا رجعنا حتى إلى معانيها الغوية في الأصول الغوية القديمة وفي المعالم الحديثة على وجه الخصوص وجدنا أنهم يقولون عن الأسرة " الدرع الحصينة " .
والأَسْر له التقاء بالقوة والمتانة التي يصعب هدمها واختراقها قال تعالى : { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم } .
والأَسْر والأسرة الممتدة نوع من العلائق المتينة والسدود الحصينة التي يكون لها أثرها في الحماية والوقاية، ولا بد أن ندرك أننا من الصعب أن نمن بهذا الموضوع لكي نجلي أوجه الحماية والوقاية والسلامة فيه، لكثرة جوانبها وتنوع مسالكها .
ثم من جهة أخرى يزيد الأمر ويزيد في هذا صعوبة هذا الأمر أنه لا بد لنا أن نتطرق إلى الواقع الذي تسرب فيه الخلل وجاث الأعداء خلال الحصون .
وكيف يمكن من بعد أن نعيد تأمين الحصون لأن الحصن إذا سقط فتلك بداية الهزيمة ومبشرات ومقدمات الاحتلال وإذا تصدعت الحصون فإن تلك نذر الخطر وشرر الضرر التي إن لم يكن ثمة انتباه لها وحذر من تواليها وتتابعها فإنها كالنار التي لا تبقي أخضر ولا يابس .
الأسرة في ضوء الإسلام
أول حديثنا في مجالات متنوعة نبدأها بالعناية الفائقة ونمر من بعد على أسس التكوين ، ونعرج على أسس التعامل ، ونقف بعد ذلك عند أسس الامتداد والتوسع والانتشار والنماء ، وننتهي إلى الأسس حتى عند الاختلاف والافتراق، ثم بعد ذلك ننظر إلى هذا أن النسق الكامل المحكم ؛ لأنه تشريع الله جل وعلى وهدي رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم ننظر إلى الوجوه الكثيرة التي نحمى بها ونتقي من خلال هذا تلك الشرور التي سنسرد بعضاً منها ؛ لنقف في آخر حديثنا عند معاول الهدم التي بدأت تصدع بنيان الحصون وتفتت لبناتها وتتسلل بين تلك الشقوق والصدوع وتنذر بخطر التهدم الذي معه تهدم في الإيمان والأخلاق وغير ذلك مما يأتي ذكره .
أولاً : العناية الفائقة
التي جاءت بها شريعتنا السمحاء ، وديننا الكامل لهذه الأسرة ، وحسبي في كل ما سنعرض له إلى ومضات سريعة وخلاصات موجزة مركزة ؛ لأننا نريد رسم صورة كاملة ؛ فإنها على الوجازة والاختصار أحسب أنها أعظم نفعاً، وأكثر في التأثير والمعرفة التي تنبهنا على حقيقة هذا الموضوع ، وأهمية وما يتعلق بخطورته من أن نفيض في الجوانب التفصيلية والفرعية العناية ، الفائقة تظهر من وجوه كثيرة :
أ - التشريعات التفصيلية
لقد جاء القرآن الكريم والسنة النبوية مشتملة على تشريعات تفصيلية كثيرة فيما يتعلق بالأسرة وأحكامها من الزواج والطلاق والعدد والإحداد ونحو ذلك من المواريث وما يلحق بهذا ، إلى أحكام الرضاعة والحضانة ، في تفصيلات كثيرة ربما كان حجم هذه النصوص وتشعباتها وكثرتها ليس بأقل من أمور نحن نعدها عظيمة وأعظم وهي كذلك ، لكن لا يلفت نظرنا أن نحل النصوص في هذا الجانب من الكثرة بحيث تعلي قيمة وتنبهنا إلى عظمة الاعتناء الذي جاء في الشريعة به فليس هذا بأقل من آيات العقيدة والتوحيد ، وليس هو بأقل من آيات الأخلاق والآداب ، وليس هو بأقل من آيات الأحكام التفصيلية في المعاملات المالية ، بل من تأمل وجد التفصيل في هذه الأبواب أكثر وأظهر وأشهر مما يلفت النظر إلى هذه العناية .
ب - الدعوة الترغيبية
لهذه الأسرة وتأسيسها وبنائها وكما قلت حسبنا الومضات .
قال تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإيمائكم } .(/1)
دعوة قرآنية ، ونداءات ربانية ، وآيات تتلى إلى يوم الساعة في هذا النهج والحث عليه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( النكاح من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني )، كما روى الطبراني في معجمه والإمام أحمد في مسنده وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة .
ج - الإعانة الإلهية
تكفل بها الله - سبحانه وتعالى - لكل سالك في هذا السبيل ، وآخر في هذا الطريق طالبٌ التزام الشرع ، واقتفاء الهدي النبوي ، طالبٌ عفة تمنعه من الحرام ، وحياء يجعله في كمال من الإنسانية ، والفطرة السوية كما جاء في تلك الآيات كذلك ، قال تعالى : {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإيمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } .
إن الأمر المادي قد وردت به الإعانة الربانية وورد في ذلك عند النسائي في سننه : ( ثلاثة حق على الله أن يعينهم - وذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم - الناكح يريد العفاف ) .
فهذا ليس بعده شيء أظهر في شأن العناية من هذا .
د : المثوبة الربانية .
عجباً لهذه الشريعة العظيمة كيف تجعل قضاء الوطر وأداء حظوظ النفس ومتعة وشهوة الغريزة إذا كانت على النهج السديد والشرع الحكيم أمراً تكتب به الحسنات وترفع به الدرجات وكذلك قال : النبي صلى الله عليه وسلم وتعجب الصحابة في أول الأمر عندما قال عليه الصلاة والسلام :( وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ) عجباً كيف يسعى الإنسان إلى شيء تميل إليه نفسه ويهفوا إليه قلبه وتدعوه إليه غرائزه ثم يكتب له أجر تعجب الصحابة وظهرت مزية الشريعة السمحاء فقال عليه الصلاة والسلام : أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟! قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : كذلك إن وضعها في حلال أن يكون له الأجر .
فما هذه الصورة إلا تجلية للعناية الفائقة بهذا الحصن الحصين كي تسعى إليه الأمة راغبة في مثوبة الله مقتفية هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم راغبة فيما اختاره الله لها مما يعصمها ويقيها من الشرور والمصائب .
أما الشق الثاني فهو : الأسس المختلفة في هذا الحصن ؛ لأن الحصن إذا أردنا أن يكون محققاً لغايته وهدفه فلا بد أن يكون راسخاً في أسسه وقواعده وأن يكون قوياً في عمره وأركانه وأن يكون متماسكاً في لبناته وجدرانه وإلا فإنه لا يكاد يغري شيئاً .
ثانياً : أسس البناء والتكوين
إنها ليست أساساً واحداً بل أسس متنوعة شاملة لكل ما يتصل بالإنسان وما يؤثر في حياته ؛ ليقوم هذا البناء على ذلك الأثاث الراسخ .
أ- الأساس الإيماني
فإن هذا العقد في الزواج وتأسيس الأسرة ليس عقداً مادياً ولا دنيوياً ولا مصلحياً ، ولا له أغراض في أساسها كلها لا تنصرف إلا لهذه المعاني ، بل هو عقد شرعي يكون فيه الالتقاء على منهج الله ، وعلى هدي رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن هنا ندرك عظمة ما جاء في الآيات المتصلة بالأسرة عموماً في الزواج أو الطلاق ، وكيف جاءت مشبعةً بذكر التقوى لله - عز وجل - وألفت النظر هنا ؛ لتنظروا وتخرجوا إلى سورة الطلاق وكلها أحكام وعدد الطلاق وأحكام تفصيلية .
ولكن كل ما يستشهد به في آيات التقوى فتجدونه هناك قال تعالى : { ومن يتقي الله يجعل له مخرجا } ، إلى آخر الآيات المعروفة مشبعة ، لماذا ؟ لأن هذا العقد وكل توابعه - حتى عند فصله - القلوب فيه معلقة بالله الذي آمنت به وراقبته ، واستحثت الحياة من مخالفة أمره ، واستعظمت أن تتجرأ على حدوده ومحارمه سبحانه وتعالى .
ومن ذلك أيضاً يأتينا حديث النبي صلى الله عليه وسلم معظماً هذا المعنى عندما خاطب الناس لينبههم إلى حقوق النساء ورعاية الأسرة: ( استحللتم فروجهن بكلمة الله) .
إنها كلمة الله .. إنه دين الله إنه أساس إيماني إسلامي يراعي فيه الإنسان هذا المعنى قال تعالى : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنا شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله } .
ب - الأساس الفطري
هذه فطرة مستكنة في النفوس غريزة مستقرة تجري مع الدماء في العروق ، والإسلام دين فطرة بل إن سنة الكون كلها كما جاء في آيات قرآنية مبنية على نظرية الزوجية ، قال تعالى : { ومن كل شيء خلقنا زوجين اثنين } .
حتى الذرة أدنى وأقل ما يعرفه الإنسان من المخلوقات مبنية على معنى الزوجية والتجاذب بين الطرفين من أن هذه هي سنة الحياة وتلك هي فطرة الإنسان ، وجاء هذا الدين ليجعل هذه الفطرة حقيقة واقعية في منهج طاهر نظيف سامي رفيع لا ينحدر إلى الدنايا البهيمية ، ولا إلى الغرائز الشهوانية المفرطة بل يجعلها في مسارها الصحيح .
ج - الأساس القانوني
فإن هذا الإناء لا بد أن يكون محكم لا تكفي فيه حتى الأساس الإيماني والفطري فجاء ليكون عقداً وله شروطه وعليه شهود ن وله تبعات ليس أمراً هيناً .
ولذلك ما وصف العقد والميثاق في القرآن بالغلظ إلا في أمرين اثنين في عقد النبوة وميثاقها ، وفي عقد وميثاق الزواج
قال تعالى : { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذنا منكم ميثاق غليظاً } .(/2)
ولذلك جعل هذا العقد شريعة ماضية ، وسنةً هادية .. لا نكاح إلا بولي وشاهدين ، والنصوص كثيرة والأحكام الفرعية عديدة ويكفينا هذا .
د - الأساس المالي
فإن الحياة الدنيا فيها أمور واقعية لا بد من مراعاتها ، ولا بد من استحضارها ، ولا بد من تأمينها ، ومن ثم جاء هذا العقد وهذا الأساس متضمناً فيه ، فهناك مهر هو من شروط عقد النكاح ، وهناك نفقة هي من واجبات ما يتوجب على عقد هذا النكاح ؛ فإنه دليل في أول الأمر على الجنسية فيه ودليل في آخره على تحمل المسئولية الناشئة عنه .
هـ - الأساس العاطفي
فإن المحبة القلبية ، وإن الميل النفسي هو ترجمة لحقيقة تلك المعاني التي أسلفناها كلها ، وقد جعل الله - سبحانه وتعالى - ذلك آيةً من آياته ، كآيات الخلق العظيمة .. الكون وآياته التي أقامها من الحجج والبينات الظاهرة على وحدانيته وعظمته سبحانه وتعالى ، فقال تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } .
ذلك هو ماء الحب والوصل الذي يعقد بين القلبين ، ويؤلف بين النفسين ، ويمزج بين الروحين فتفيض حينئذٍ من مياه المودة وبحار المحبة ما يجعل تلك الأسرة تعيش في تلك الأسس كلها في نوع من الأمان والأمن ، والتماسك والترابط ،إن قلّت الأموال أو شحت ضلت تلك المحبة تروي وتتغلب على الصعوبات، وإن توفرت الأموال وجاء شيء من الاختلاف فيما يقع بين الأزواج والزوجات ، جاء التذكر لمراقبة الله والمعرفة بأن هذا ميثاق غليظ عند الله.
وهكذا نجد كل هذه الأسس توفر بناء قوياً راسخاً متيناً في أسسه وقواعده يرجى إذا قام البناء أن يكون الأساس الراسخ سبباً في البناء الشامخ وأساس بذلك البناء الشامخ .
ثالثاً : أسس التعامل والتمثيل
بعد البناء والتكوين لو تترك هذه الشريعة وهذا الدين العظيم الأمر لمجريات الحياة ، بل جاءت الحقوق وجاءت الواجبات وجاءت الإرشادات القرآنية والنبوية في ذلك نذكرها في ومضات سريعة أيضاً ؛ حتى نكمل صورة القوة والإحكام لننتقل إلى ما وراء ذلك من هذه المعاني والمعالم :
1- حسن العشرة
الذي هو بمثابة الزيت الذي يسلك ويجعل الأمور منسابةً وسهلةً وفيها مرونة ، كما قال الله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف ولهن مثل الذي عليهن من معروف ولرجال عليهن درجة } .
حتى في آخر المراحل وعند أوقات الاختلاف أو الافتراق { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } .
هذا المعنى المهم ، وهذه الحقوق اللازمة لكلا الطرفين تجعل هذا المعنى يذكرنا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) .
ولست أفيض - كما قلت - وإنما أذكر في كل معنى خلاصته حتى نستكمل الصورة ونستجليها في جميع جوانبها .
2- تحقيق المتعة
وذلك مما جاءت به الآيات ، كما قال الله عز وجل : { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } .
ولما جاءت وافدة النساء تسأل وتذكر ما فضل الله به الرجال على النساء في بعض التشريعات كالجهاد والجمع وغيرها ، قال عليه الصلاة والسلام : ( إن حسن تبعل إحداكن لزوجها يعدل ذلك كله ) .
وليس هذا منه عليه الصلاة والسلام كلامً عاطفياً لاسترضاء النساء فهو عليه الصلاة والسلام : { لا ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى } .
إنها الأسس التي تديم هذا البناء متماسكاً وتجعل الحياة رغم تقلباتها وظروفها الصعبة مستمرةً على هذا النهج الذي يمثل العلاقة في أثناء التعامل ويواجه المشكلات والصعوبات .
ورأينا كذلك فيما قد يحصل من الخلل حتى وإن كان هذا الخلل تغليباً لبعض الجوانب الذي قد يحبها المؤمن ويقبل عليها من العبادات .
كما ثبت في الصحيح عند البخاري وغيره من قصة أبي الدر داء وسلمان الفارسي عندما جاء سلمان رضي الله عنه فرأى أم الدر داء في هيئة مبتذلة فسأل بعد أن سلّم فقالت : أخوك أبو الدرداء ليس لنا منه نصيب ، قد تفرغ للطاعة والعبادة ، فتزل عليه ضيفاً - كما هي القصة المشهورة - فلما حلّ به ضيفاً دعاه إلى الطعام فقال له سلمان : كلْ معي ! قال : إني صائم ، قال : عزمت عليك إلا أكلت ، حتى جعله يفطر ؛ لأنه كان متطوعاً في صومه ، ثم أراد أن يقوم في الليل بعد العشاء قال له : نم ، ثم أراد أن يقوم ليصلي فقال له ، نم ، ثم بعد فترة قال له : نم ، حتى إذا بقي الثلث الأخير قال له : الآن فقم ، ثم قال : له إن لربك عليك حقاً ، ولنفسك عليك حقاً ، ولزوجك - وفي رواية لأهلك - عليك حقاً ، وإن لزوارك - أي ضيفك - عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه " ، فمضى أبوا الدرداء يذكر هذا لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال عليه الصلاة والسلام : صدق سلمان .
تلك أيضاً قضية في التعامل ليس مجال تفصيلها وإنما سيأتي ذكر بعض ذلك أيضاً
3- الطاعة والقوامة :(/3)
للرجل كما قال جل وعلا : { ولرجال عليهن درجة } ، وهذه الدرجة درجة القوامة كم في سوء فهمها من مضلات أفهام ؟ وكم فيها من مشكلات ومعضلات ؟ وكم فيها من الأقوال - حتى عند أهل التفسير وأهل الفقه - والآراء ، أكتفي بأن أذكر ترجيحاً لطبري في تفسير نفيس بعد أن ذكر أقوالاً مختلفة رجح قولاً أحسب أن أكثرنا لا يخطر بباله هذا الترجيح : " {للرجال عليهن درجة } ، أي في عدم استنفاء حقهم من النساء وغضهم عما يقع منهن من الإخلال بالواجبات ، فالدرجة هي أن المرأة قد تقصّر وأنت تعفو ، والدرجة هي أن المرأة قد تخطئ وأنت تغض الطرف ، تلك هي الدرجة " .
وهذا تفسير حسن بليغ ؛ لأن الرجل إذا كان رجلاً حقيقياً برزانة عقله وبقوة شخصيته ليس هو الذي ينتفع مع ما قد يضنه من قوة له أو قدرة له على ضعف المرأة فيمارس ما يضنه قوامةً وهو تسرح وتعسف ، ولننظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
كانت امرأة عمر بن الخطاب تحدثه في أمر ثم علا صوتها على عمر - وعمر هو من هو يفرق منه الرجال الأشداء وهذه امرأة تغالبه وتجادله ويعلو صوتها على صوته - فقال منكراً عليها ومشتداً : كيف يعلو صوتكِ ؟ قالت : والله إنك لست خيراً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن نسائه ليراجعنه ، ويعلوا صوتهن عليه في بعض الأحيان ! فاستنكر عمر ذلك واستعجب ! فمضى إلى ابنته حفصة يسألها : أتراجعن رسول الله ؟! قالت : نعم إنا والله لنراجعه .
يعني يكون هناك أخذ ورد ، ليست هذه القوامة سلطة عسكرية ، ولا قانون طوارئ ، وليست قوة عضلية أو ملاكمة أو مصارعة ، كما قد يصنع بعض الرجال فيما نسمع ونرى ونعلم من واقع الحال .
ولذلك هذا الأمر يدلنا على أن هذه الطاعة التي هي تابعة للقوامة ليست مجرد واجب يقدم دون مسؤوليةٍ وحقٍ يبذل !
مسؤولية الرجل تترتب عليها واجبات المرأة ، ولا بد كذلك للمرأة أن تفقه أن هذه القوامة والطاعة جزء من دين الله - عز وجل - وأنها سبيل من سبل التكامل وحسن التعاون في هذه الأسرة وبنائها ، وحسبنا التذكير ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) .
وفي سنن الترمذي من حديث النبي عليه الصلاة والسلام وهو كذلك عند الإمام أحمد في مسنده : ( إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها ن وحفظت فرجها ، وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت ) .
هذا معنى مهم ، وهو - كما قلنا - من الأسس في التعامل ، ومنه أيضاً ننطلق لنخاطب المرأة المسلمة خطاب دينها .
4- الخطاب الديني
إنه ليس شيء من ذوات أنفسنا وليس شيء من تحكم الرجال أو من رغبتهم في تحقيق مرادهم ! بل هو من دين الله - عز وجل - وقد جاءت فيه نصوص قد يعجز منها بعض الناس وقد يتأملون كثيراً ليدركوا حكمتها ، وهاهو النبي - صلى الله عليه وسلم - يصرح تصريحاً في أدب جمٍ رفيع وهو يذكر أن المرأة إذا دعاها زوجها لفراشها فأبت باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح .
ويدعوها مؤكداً فيقول : ( المرأة لا تؤدي حق الله عليها حتى تؤدي حق زوجها حتى لو سألها وهي على ظهر قتب لم تمنعه نفسها ) ، وفي بعض الروايات : ( على تنور ) ، لماذا ؟ لأن هذا مقصد عظيم من مقاصد الزواج ، وبه يقع الائتلاف ، وبدونه تأخذ أسباب الانحراف بدايتها لتصل إلى مداها .
ومن هنا كان - عليه الصلاة والسلام - واضحاً وصريحاً رغم ما نقوله من الأدب والعفة في قوله عليه الصلاة والسلام يقول : (فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله ؛ فإن معها مثل الذي معها ) .
إنها قضية حقيقية لا ينبغي أن نغمض العيون عنها ، والمرأة المسلمة والزوجة الصالحة ينبغي أن تعي ذلك ، وأن تدرك أهميته في هذا الواقع الذي يغزو بكل شهواته وإغراءاته الناس في عقر بيوتهم ، يصم آذانهم ، ويواجه عيونهم ، ويفتن قلوبهم ، ويخطف ألبابهم ، ويغري بأساليب ؛ لعلنا لو بالغنا نقول إن الشيطان - عليه لعنه الله - لا يخطر له ما يصنعه بعض أبالسة الإنس من هذه الأساليب ، وكلنا يسمع من ذلك ويدرك بحسب .
ولذلك نقول : الإسلام دين واقعي وهو دين يدرك كيف تبنى هذه الأسرة في التعامل اليومي ، وفي الحياة المستمرة حتى تبقى الأواصر وتبقى هذه الحمه وتبقى تلك الأسس التي في البناء مستمرة دائمة وهذا أمر واضح وبيّن .
5- الخدمة والرعاية
وكم في هذا من الوصايا ؟ وكم فيه من الأقوال والاختلافات الفقهية الفرعية ؟ فإن مبنى الأسرة في محبتها وفي رعاية مصالحها أكثر من أن تثار فيه مثل هذه المسائل .
هل تجب على الزوجة أن تخدم في بيت زوجها ؟ وكيف ستكون العلاقة بعد ذلك ؟
حياة نصبح فيها نسدد فواتير ، ونسدد حقوق ، ونسجل نقاط ، كأنما نحن في منافسة تلك حياة لا يمكن أن تدوم على الوجه الصحيح والنافع والمفيد ، ومن جهة للزوج كذلك أمور أخرى منها .
6- النفقة والحماية(/4)
والنفقة ليست مجرد نفقة مالية وإنما معها الإكرام والإعداد والإشعار بالإحسان ، وهذا قول الله جل وعل : { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } .
إنه خطاب رباني ؛ حتى يدرك الزوج أن ما قد يراه من خلل أو وهن أو تقصير لا ينبغي أن ينسي كثير الخير وعظيم المنة بنعمة الله عز وجل عليه بهذه الزوجة ، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام : ( لا يفرق مؤمن مؤمنة - أي لا يبغض مؤمن مؤمنة - إن ساء منها خلق رضي منها آخر ) .
فما بالنا لا نرى إلا بمنظار أسود ! وما بالنا لا نتوجه إلا إلى الزاوية التي فيه المشكلات والخلافات ! نسأل الله عز وجل أن يجيبنا إياها .
ثم انظر كذلك إلى هذه المعاني المتعلقة بالحماية ومنها الغيرة الصحيحة ؛ فإن الدياثة لون من ألوان ضعف الإيمان ، ومن قلة الدين ، وهي ضرب من ضروب الفساد الخلقي والانحلال في الشخصية ، وذلك أمر لا يليق بالمسلم في عموم حياته فضلاً عن أهله وزوجه وعرضه الذي ينبغي أن يكون عليه حريص .
7 - التعليم والإرشاد
لأن الله قال : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } .
كم تخلى عنها الأزواج ثم شكوا من آثار أخرى ؟ لم يعلّم ولم يرشد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وجاءت التعليمات من الجارات وجاءت الإرشادات من الفضائيات وجاءت البلايا من كل هذه الجوانب
وإذا به يشكو ويصيح أين أنت من دورك وواجبك في أن تقيم أهلك وأبنائك على منهج الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم أين نحن من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين ، وكم نقلنا من العلم والحديث والهدي حتى عجب الصحابة ! كما روى عروة ابن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قال : ما أعجب من علمك بالقرآن وبهدي النبي عليه الصلاة والسلام ولكني أعجب من علمك بالطب - لأنها كانت تصف للناس الدواء ويأتيها المرضى - قالت : يا ابن أختي إن الوفود كانت تفذ على رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ويشكوا بعضهم فينعت لهم النعوت - يعني يصف لهم الأدوية - فأحفظها عنه .
وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - حريصاً كما ورد عند ابن حجر في الإفاضة في ترجمة الشفاء بنت عبد الله أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لها : ( خذي حفصة فعلميها الكتابة ) ، هذا التعليم والتوجيه ضيعناه وقصرنا فيه ! وهو خلل شرع إليها منه شرر وضرر كبير
وهذا كما جاء في كتاب الله . قال تعالى : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } .
وهذا أمر واضح
الرابع : أسس الامتداد والنماء
عندما يأتي الأبناء وعندما تقام هذه الأسرة ما هي هذه الامتدادات
أ - العلاقات الاجتماعية
ووصائل الرحم وعلاقات المصاهرة هذا المجتمع من خلال هذه الأسرة تقوى أواصره ، وتمتد جسوره ، وتزداد رحمته ، ويعظم تكافله ، وتقوى وشائجه ، ويكون لنا ذلك المجتمع المسلم المتراحم الذي لا يكاد أحد إلا ويجد له سكباً أو صلة من هنا أو هناك بهذا أو بذاك ، فيكون لنا أثر في هذا المعنى المهم والعظيم .
ثم نجد هذه الرحم التي جاءت الوصية بها كثيراً في كتاب الله ، قال تعالى : { وتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام } .
وقال تعالى : { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } .
وفي حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في شأن الرحم ، وأن الله اشتق لها اسماً من اسمه وقال : ( جعلت لكي أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ) .
وهذا لا يحصل إلا من خلال هذه الأسرة التي سنذكر الآن كيف يراد لها أن تمحى أو أن تضعف في فئات مجتمعات المسلمين
ب - تربية الأبناء
إن أجيال الأمة وقوتها المستقبلية وأملها المشرق يكمل في أطفالها الذين عندما نتأمل في التشريعات الإسلامية ندرك أن تربيتهم تبدأ ليس منذ ولادتهم ! بل قبل ولادتهم ، ونحن لا ندرك هذا أو لا نلتفت له .
لو قلت لأحد : أنت تربي ابنك منذ أن يولد ؟ يقول لك : ماذا تريدني أن أقول لطفل رضيع ؟!
إنك من المفترض أن تربيهم قبل أن يولد ، بل قبل أن تتزوج أمه ، وهذا يكمن في أصل الاختيار فاظفر بذات الدين سلمت يداك .
وأخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نبي من الأنبياء أتى عدداً من نسائه وقال : تلد كل واحدة منهن فارساً مجاهداً من سبيل الله ، ولم يقل " إن شاء الله " ولو قال لوقع .
ويدعو النبي - عليه الصلاة والسلام - ويذكرنا ويعلمنا الذكر والدعاء الذي يقال عند إرادة معاشرة الرجل أهله ؛ حتى يكون للنية أثرها الإيجابي .
نحن ديننا يثبته أن التوجه والنية في أنك تقصد من الزواج ذرية صالحة تعبد الله تجاهد في سبيل الله هذا له أثره .
ثم عند الولادة تؤذن في اليمنى وتقيم في اليسرى هذا له أثر .
واليوم تثبت العلوم الحديثة أن هذا يبقى في وعي الطفل ، وأنه يكون له أثره مستقبلي إلى غير ذلك من الوجوه الكثيرة .(/5)
هذه الأسرة التي يوم ضيعت اليوم مهمتها العظمى مصنع الأجيال فيها فإذا أخرجت لنا صناعة فاسدة وبضاعة بائرة فإن سوقنا من بعد كاسداً ، وأن مستقبلنا - نسأل الله عز وجل السلامة - مظلم ، وإن الأمل الذي ننتظره ونحن نواجه الصعوبات في حياه أمتنا سيكون من الصعوبة الشديدة أن نواجهه ونحن قد كشفت ظهورنا وغزينا في عقر دارنا ، وأصبح في مجالس بيوتنا ما يعارض نهجنا ، وما يعارض قوة إيماننا وإسلامنا ونصرة أمتنا وغير ذلك وهذا أمره كبير .
الخامس :أسس الاختلاف والاختراق
ليس كل شيءٍ يتم الاتفاق فيه ، وليس كل قلبين أو نفسين يمكن أن يجتمعا فيبقى الود دائماً والمحبة عامرة ، لكن هذا المنهج الفريد والشرع الحكيم يجعل علاجاً وإحكاماً في كل ناحية من النواحي .
1- أسباب الاختلاف
اليوم ربما تجذب الاختلاف ؛ لأن برودة ما قلت ، أو لأن مقدار ملح الطعام نقص ، أو لأن أشياء من هذا أو ذاك ! لكن أريد أن أوجز في سرعة هذه المراحل التي نثرت بنصوص في كتاب الله ليست قضية اجتهادية فيها آيات تتلى وفيها تطبيقات عملية .
أعند وجود الاختلاف كما قال تعالى : { واللاتي تخافون نشوزهن }
عندنا درجات ، ليس هناك تهور واندفاع كما يسمع كثير من الرجال اليوم في غضب وفي غباء وحمق يستحق أن يكون موصف فيه هذا الوصف .
فقه الخلاف الأسري:
ذكّر بالله ، ومارس الدعوة مع أقرب الأقربين إليك ، وأوفق الناس بك ، زوجك وأبنائك ، لماذا نحسن القول مع الآخرين ونرغبهم ، ونستميل قلوبهم ، ونقنع عقولهم ، ونحرك مشاعرهم ، ونكون قدوة لهم ، فإذا انقلبنا إلى بيوتنا نسينا القول الحسن ، ونسينا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولم يكن منا إلا المواقف المتصلبة ، والأقوال المتشنجة ، والأصوات المرتفعة ،والأيدي اللاطمة ؟!والنيجة بطبيعة الحال جحيم لا يطاق ، ومشكلات دائمة كبيرة .
ثم انظر بعد هذه العظة ، قال تعالى : { وهجروهن في المضاجع } .
وهو أمر تأديب وتذكيري ، وله أثر في نفس المرأة التي من أقوى أسلحتها أنوثتها وقدرتها على استماله زوجها ، فإذا تمنع منها وهجرها أدركت أنها قد أخطأت ، حتى إن سلاحها قد بطل مفعوله ، فتفيء إلى الحق إن كانت مخطئة ، وترجع إلى مد حبال الوصل إن كانت مقاطعة ، وهكذا يكون للرجل قدرة نفسية وغريزية جيدة حتى يحقق هذا الأمر .
فإن لم يكن من بعد : {فاضربوهن }
وهنا بعض الخطوط الحمراء ، لا تسمع إلى أن هذا فيه إهانة للمرأة ،وأن الإسلام لا يراعي حقوق الإنسان ، هذا كلام ليس وارداً عندنا .
لكنني أقول : ما هو الضابط ؟ وماذا قال أهل التفسير فيه ؟ هل ترونه ملاكمة حرة ، أو مصارعة في الحلبة ، أو ركلاً بالأقدام ؟
قال أهل التفسير : " أن يضرب بالسواك ونحوه "، وقال القرطبي : " بالمنديل ونحوه " ، إن المقصد منه هو لفت النظر إلى أن الأمر قد بلغ مبلغة ، وإنه لا ينبغي أن يكون إلا من مثل هذا التأديب الذي هو بالإشارة أكثر منه بالعبارة .
والإنسان الحر - الرجل والمرأة - يكفيه من التعبير المؤثر أكثر مما يكفيه أو مما يؤثر فيه من المباشرة التي في آخر الأمر لا تزيد الأمر إلا عمقاً ، ولا تزيد الشرخ إلا تصدعاً ، ولا تزيد القلوب إلا نفرة ، ولا تزيد النفوس إلا خصاماً .
والنبي - عليه السلام – كما ورد عنه ما معناه قال : يضرب أحدكم زوجة ضرب أمته ، أو في بعض الروايات ضرب بهيمته ، ثم يأتي في آخر الليل فيعاشرها ؟!
أين شهامته ؟ أين كرامته ؟ أين رجولته ؟ هذا ينبغي أن يفقه هذه مراتب إن استعصى الحل .
أين هو الطلاق لم يرد بعد حتى الآن ؟
قال تعالى : { فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما } .
أين هذا الامتداد الأسري الذي فقدنا شيئاً منه ؟ أين الآباء الحكماء والأمهات المراعيات لمصالح البنات ؟
الآن يتدخل الأهل ليقولوا له : طلقها فلا خير فيها !
وتأتي التدخلات الأخرى : ماذا تريدين منه ؟ وأي شيء تريدين فيه ؟ ولماذا يتسلط عليك ؟ ونحو هذا ..
2- أحكام الطلاق في الشرع :
ثم بعد ذلك إن أراد أن يفصل العلاقة فهناك أحكام وتفصيلات وسنة .. ليس الطلاق هو طلقات رصاص طائشة ، فإذا أصابت المقتل أو أصابت الجرح جاء ليقول : كيف العلاج ؟ وكم من الناس يقول طلقت ثلاثاً .. طلقت عشراً .. طلقت ستين مرة !! وكأن هذا الأمر لعب ، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال - والحديث فيه رواية عند أهل السنن : ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد .. وذكر منها الطلاق ) ، ليس فيه مزاح لكن انظروا إلى حكمة التشريع .
أولاً : أن يطلق في طهرٍ لا يجامع زوجته فيه .
لو كل واحدٍ التزم هذا التشريع ؛ فإن أراد أن يطلق فكثيراً ما يكون إما في حال عدم طهر الزوجة فيحتاج أن ينتظر ، فإذا انتظر ذهبت طيشة الغضب العارضة .. إن لم يكن ثمة شيء أساسي وإن كان في طهر ، فينتظر حيض ثم ينتظر طهراً .. أما الآن فلا شيء من ذلك يسن كثيراً من الناس به ! مع أن هذا هو الطلاق السنة وغيره عند الفقهاء يسمى بطلاق البدعة .(/6)
ثم أيضاً إذا طلق الطلقة الأولى ماذا يصنع الناس ؟ تمثيليات وأفلام عند سماع الكلمة متاعها وإلى بيتها ، وكأنه ليس عندنا قرآن يتلى ! وكأنه ليس عندنا تشريع !
الأصل أنها تبقى في بيت زوجها ، ولا تغيب عنا الحكمة التي قال الله فيها : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } ، وكم يحدث إذا كانت موجودة وتراه ويراها وتراجع نفسه ويراجع نفسها ؟
ثم إذا وقع الطلاق فهناك عدة تمتد أشهر ؛ ليكون هناك ما يكون ، ثم بعد هذا كله ما وقع وأصر ووصل إلى آخر الأمر ، فلا شك أن الفصال والفراق حينئذٍ هو الخير .
ثم يأتينا التشريع فلا يترك الأسرة تتصدع هكذا للتنازع والشقاق قال تعالى : { إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } .
ثم أحكام في الحضانة ، ثم رضاعة تعهد إلى الأم ؛ حتى لا يفقد هذا الطفل الحنان ، ولا يفقد روحاً من التجانس حتى مع الافتراق .
هذه كلها تقودنا إلى أن ندرك كيف هذا الحصن في بنائه وأسسه في تعامله في امتداده حتى عند توقفه أو عند افتراقه .
الأسرة والوقاية
باختصار أقف هنا الوقفة المهمة ، وهذا كله مما يقيننا - أيها الأخوة - ويحصننا من بلايا وشرور كثيرة ، ولو أننا أردنا أن نلم ببعضها فهذا يتطلب منا أن نقضي فيها وقتاً كاملاً ومحاضرات ليست محاضرة ً واحدة .
أولاً : الانحراف والانحلال الخلقي وشيوع الفواحش في المجتمع
وكم في هذا من البلايا والرزايا ؟ وكم فيه من المأسي والأحزان ؟ وكم نشكو اليوم من بعض ويلاته بقدر ما فرطنا وقصرنا في دين الله وهذا يحصننا من ذلك .
فلا يعود عندنا الشباب الذي نشكو منه ، ولا الفتيات اللواتي نتعجب من أحوالهن ، لماذا ؟ لأن الطريق إذا أخذ مساره الصحيح وقع به ما يسكن الغرائز ، ويطمئن النفوس ، ويملأ القلوب بالحب على المنهج المشروع وفي ظلال التراحم والتكامل.
ويعفى بعد ذلك المحصن من الأمراض النفسية ، وما أدراك ما الأمراض النفسية ! من الشعور بالكف أو من الاندفاعات العدوانية أو من الشعور بالشذوذ والانحراف الذي نشكو منه ، وكم في أهوال وأعماق نفوس الشباب والشابات من علل وأدواء أدت ببعضهم حتى إلى الجنون والهلوسة ؛ لأن الأمر إذا لم يكن في مساره الصحيح لا بد أن تكون له آثاره السلبية .. وكل شقاء العالم موجود في شطر آية من كتاب الله :{ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } .
قطعاً سيكون الضنك والتنكير - مع التنوين هنا - لدلالة على العموم .. ضنك في النفس والقلب ، وضنك في الفكر والعقل ، ضنك في الأبدان والصحة والسلامة ، ضنك في الأموال ورغد العيش والمعيشة ، ضنك في كل شيء في الحياة . نسأل الله - عز وجل – السلامة .
ونسلم من الأمراض الصحية
وحسبك في هذا ما تعلمونه من الإيدز والأمراض الجنسية الفتاكة المهلكة التي تحصد الأرواح والنفوس ، والتي تحصد من الأموال ومن الاستهلاك ما هو معلوم .
وكذلك الجرائم الأمنية تؤمننا منها هذه الأسرة ، فليس هناك عدوان ، وليس هناك اغتصاب ، وليس هناك - والعياذ بالله - زنا ولا لواط ، ولا ما يترتب على ذلك من أبناء السفاح ، ووجود الأحداث هؤلاء الذين لا يعرفون لهم أبٌ أو أم ، واللقطاء الذين يخرجون في المجتمع ليكونوا قنابل موقوتة تنفجر في أي لحظة لتهلك نفسها وتهلك من حولها .. الأسرة تؤمننا من ذلك .
وكم في واقعنا اليوم بقدر الخلل الذي وقع ما هو كثير ، أما في واقع غير المسلمين ، وفي واقع الفئات الإسلامية الأخرى فحدث ولا حرج ، كأن بعض الأحوال من سوئها ومن ضررها ومن خطرها أن الموت ربما يكون أحياناً خيراً منها .
ويضاف إلى ذلك السلامة من الخسائر الاقتصادية
الأسرة تؤمننا من كل هذه البلايا ، وما يترتب عليها من ذلك ، وينتج عندنا أزواج صالحون ، وزوجات قانتات ، وأبناء أبرار .
أعظم ثروة أن هذه الأسرة تجعل هناك نفوساً سوية ، وفطراً سليمة ، وسلوكيات مستقيمة ، وأذواق رفيعة ، وآداب سامية وراقية .. كل هذا مع نشأة عاطفية فيها حنان الأمومة ، وفيها رعاية الأبوة للأبناء .. لا ينشأون اليوم كما ينشأ أبناء نيدو ، وأبناء هذه الزجاجات الحليبية لا ينشأون أبناء الخادمات من آسيا أو من غير آسيا .. لا ينشأون وهم أبناء الفرقة والشتات ، فلا يكون من وراء ذلك إلا الخسائر الحقيقية على جميع المستويات .
إننا نأمل هذا كله بإذن الله إذا كان هذا الحصن قائماً على تلك الأسس التي ذكرناها وأوجزناها إنجازاً عظيماً .
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يكاد المرء يعدّ فيه الحالات التي وقع فيها الانحراف عليها أصابع اليد الواحدة ، ولم تكن تعرف إلا بوقدة الإيمان الذي قاد أصحابها إلى الإقرار كما تعلمون في قصة ماعز الأسلمي ، وفي قصة المرأة الغامدية .
وهذا نهج فيه طهارة المجتمعات وسلامتها من سعار الشهوات ، ومن رداء الغريزة الذي أوقع من ساروا وراءه إلى البهيمية ، حتى صاروا عبيداً لشهواتهم ، وصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم … ) .(/7)
وتلك الشهوات أدنى من تلك الشهوة التي قال : فيها عليه الصلاة والسلام ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) .
معاول هدم الأسرة
ثم أيها - الأخوة الأحبة - وقفة وللأسف ستكون قصيرة مع معاول الهدم التي خربت تلك الحصون ، وزعزعت لبناتها ، وضعضعت أركانها ، وجعلت في خلالها شقوقاً وصدوعاً خطيرة ، أحسب أن أعظمها وأكثرها شرر وأوسعها ضرراً الإعلام .
الإعلام الذي ينزع الحياء من النفوس ، والذي يغرس الفسق والفجور ، ويزرع بذرةً يغذيها بالخنا والفجور في قلوب الشباب والشابات .
ذلك الذي رقق الدين ، وأنزل بمستوى الورع ، وكاد أن يقتل الحياء ويئده في النفوس ؛ حتى خشينا أو نخشى أن يتحقق فينا ذلك التوجيه الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا لم تستحي فصنع ما شئت ) .
واليوم نعجب ونقول : كيف يحصل هذا وننسى هذا الحديث وننسى الرواية القريبة في معناها .. عند الحاكم في مستدركه : ( الإيمان والحياء قرناء جميعا فإذا نزع أحدهما نزع الآخر ) .
وأقول ليس هذا للشباب والشابات .. فكم تشبب شيوخ وكم تصابت عجائز من أثر هذه القنوات ؟ كم رأينا العجائز وهن يفعلن ما يندى له الجبين ؟ وكم رأينا شيوخ قد وخص الشيب لحاهم ورؤوسهم وهم يقولون ويفعلون ما يندى لهم الجبين ؟!
هذا الإعلاء ليس له حل إلا مقاطعته مقاطعة تسلم منها النفوس والقلوب .
وكلنا يعلم ، وكلنا يعرف ما يقال في الإحصاءات والدراسات ، يكاد المرء لا يفرق اليوم في شيء .
حتى الأخبار أصبحت من مواطن الفتنة ، وحتى نشرات الطقس ، تأتي المرأة فتذكر الدرجات الحرارة الباردة المنخفضة ، والناس والمشاهدون درجة حرارتهم مرتفعة وملتهبة من أثر من يقدم أو من تقدم هذه النشرات وغير ذلك مما لا يحسن ذكره .
ومن وسائل الخطر والانتشار الشبكة العنكبوتية التي تقول الإحصاءات على المستوى العالمي
: أن أول وأكثر استخدام للمواقع والدخول عليها أولاً : الجنس ،وثانياً : الدين .
ولكم أن تعجبوا من هذا ثم في دراسة إحصائية 70% من الشباب في منطقة الخليج استخدامهم لهذه الشبكة في هذا المجرى وذلك السبيل .
وقد كنا من قبل نقول : إن هناك معاكسات هاتفية وتبلّغ ، وتكون هناك مراقبة !!
واليوم على صفحات الجرائد الإعلام كيف تهدي الأغاني العاطفية ؟ وكيف ترسل الرسائل والصور التي فيها أشياء عجيبة ؟ ويسمع المرء ما يكاد عقله يذهب من رأسه لهول ما يسمع ويقال .
وأصبحت هذه الأمور لا يمكن أن تراقب ، ولا أن تحاصر ؛ إلا أن تكون التربية الإيمانية في القلوب ، والتربية الأسرية ترعى وتحفظ وتراعي وتنتبه لهذا النشء لا أن يضيق ويحفر في هذه المهالك .
التربية الأسرية الغائبة أو الضعيفة أو المنحرفة
التي أصبحت فيها بعض الأسر تعلم الأبناء والبنات بدايات نهاياتها الفسق والفجور ، ثم يلطمون خدودهم ، ويخمشون وجوههم ، ويرفعون أصواتهم مما وقع من الخطر والضرر .. وهم الذين كانوا السبب ، وهم الذين مهدوا طريقه ، وهم الذين أعانوا على الخطوات الأولى المفضية إليه .
ولا نشك أننا نعلم أن هذه الأمور خاصة في سن الشباب قضية متلاحقة متتابعة ، من خاض خطوتها الأولى وزلت فيه قدمه غالباً ما يسلم إلا أن تتداركه رحمة الله سبحانه وتعالى
التعليم وبيئاته ومناهجه
وحسبنا أيضاً من وراء ذلك الأمر العظيم وهو المؤسسات الدولية ، التي تستهدف المجتمعات الإسلامية باتفاقيات وبقوانين تصبح دولية وملزمة للأمم والدول الإسلامية .. اتفاقيات تجني ضد المرأة ، ومؤتمرات هنا وهناك ، ويقولون " الحرية الجنسية " ويقولون ما يسمونه بـ " الرعاية الصحية للمراهقين " ، وهو كيف يمارسون الانحراف بدون أن يكون هناك تبعات في الأمراض ونحو ذلك !
وهذا من أعجب الفسق ويقولون هناك أنماط من الأسر ، وليس هناك أسرة التي يعرفها الناس منذ فجر الخليقة وأنه أسر مثلية ، وهذا قد نتعجب منه أو نضحك منه ، ولكنه يروج في مجتمعات المسلمين ، ويتسلل أيضاً إلى ديارنا ، ويكتب أحياناً على صفحات صحفنا وهذه كلها قضايا خطيرة .
الخاتمة
أختم بأن العبرة في أمرين اثنين ؛ إن لم نعتبر بالأول منهما فلنعتبر بالثاني .
العبرة قلتها أن كل مخالفة لأمر الله وهدي رسوله لا بد أن نستيقن أنها تعود علينا بضرر في جوانب كثيرة مختلفة ، أحياناً نقول : " نحن بحمد الله أحسن من غيرهم " .. ونظل نقول ذلك حتى نصبح في حال نسأل الله عز وجل أن يعيذنا منها .
وأحياناً نقول : " إننا بخير وإن الآثار مازالت محدودة " . ولا ندرك أن الآثار في نواه القلوب وفي ذهاب حساسية وشفافية الإيمان والقلب الذي قال الله عز وجل : {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً } .(/8)