10. التشبث بالمفاهيم العقدية الكبرى لتوحيد الصف الإسلامي وتأليف القلوب المتشاحنة (سنة وشيعة وأباضية وأشاعرة ...). لقد أصبح الصف ممزقا يتربص به العدو في كل حين، والعقل صار مذبذبا لا يستقر على حقيقة قادرة على إحياء حضارة قوية بعلمها وهديها. دور المعلم التحذير من الحِقْد والعَداوة والبَغْضاء؛ وإرساء أهم مبدأ للعزة وهو أن نقاط الاتفاق أعظم بكثير من نقاط الافتراق، وأن الخلاف بين الأشقاء لا يعني البغضاء والشحناء. إن المصلحة تقتضي أن يُزيلَ المسلم الشّحناءَ من قَلبِهِ ويزرع التسامح. يتفق المسلمون على آلاف المسلمات القرآنية خاصة المتعلقة بالله سبحانه فلم انصرفت العقول إلى عشرات المسائل التي تتفاوت فيها الأنظار وتضطرب فيها الأفكار وتركت وحدة الكلمة؟ لا نحتاج للأجنبي أن يعلمنا حق التعايش وآداب الاختلاف إذا وحدنا صفوفنا في الصلاة والحياة، وقامت التربية في أوطاننا بتقديم مقاصد الدين. لا بأس بدراسة مواطن الخلاف في المعاهد العلمية المتخصصة على أساس التقارب والتعايش الفاعل لا توسيع شقة الخلاف وتعميق مظاهر التفرق.
11. تنمية العقل الناقد على أساس أن الكمال لله وحده وأن الإنسان مهما علا قدره سما مقامه فهو عرضة للزلل وعمله يحتاج للزيادة والتجويد والإضافة. هذه معادلة منطقية إذ الشق الأول منه يقوم على التسليم لله والشق الثاني يقوم على نفي العصمة عن الجهود البشرية التي تتعرض للوهم والنسيان والنقص. قال تعالى {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } (النساء: 82). إن هذا النقص البشري يتطلب البحث الدائم، والشك المنظم، وإعمال العقل، والاستعانة بتجارب الآخرين كي يفهم الإنسان آيات الله سبحانه المسطورة في كتابه العظيم والمنظورة في كونه الفسيح.
12. ربط عظمة المخلوقات كلها بقدرة الله سبحانه والسعي الحثيث في عملية كشف أسرارها والإفادة منها في زيادة الإيمان وتحسين نمط المعيشة ماديا ومعنويا دون الإخلال بالتوازن البيئي فالله لا يحب المسرفين. إن استعراض آيات القرآن الكريم في ضوء الحقائق العلمية الحديثة من الآليات الفاعلة في زيادة التأمل في ملكوت الله سبحانه. قال تعالى وهو يصف عجيب قدرته وجميل أسمائه {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (سورة الروم: 54). وقال {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } (سورة الشورى: 4). لقد تواترت الآيات القرآنية الحاثة على النظر في النفس والآفاق وما ذلك إلا لصلاح النفس.
من شعر ابن قيم الجوزية
ذكر ابن قيم الجوزية[2] (691 - 751 هـ / 1292 - 1349 م) في نونيته:
وَهُوَ العَلِيُّ فَكُلُّ أنوَاعِ العُلُوِّ لَهُ فَثَابِتَةٌ بِلاَ نُكرَانِ
وَهُوَ العَظِيمُ بِكُلِّ مَعنَآ يُوجِبُ التَّ عظِيمَ لاَ يُحصِيهِ مِن إنسَانِ
وَهُوَ الجَلِيلُ فكُلُّ أوصَافِ الجَلاَ لِ لَهُ مُحَقَّقَةٌ بِلاَ بُطلاَنِ
وَهُوَ الجَمِيلُ عَلَى الحَقِيقَةِ كَيفَ لاَ وَجَمَالُ سَائِرِ هَذِهِ الأكوَانِ
مِن بَعضِ آثَارِ الجَمِيلِ فَرَبُّهَا أولَى وأجدَرُ عِندَ ذِي العِرفَانِ
فَجمَالُهُ بِالذَّاتِ وَالأوصَافِ وَال أفعَالِ والأسمَاءِ بِالبُرهَانِ
لاَ شَيءَ يُشبِهُ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ سُبحَانَهُ عَن إفكِ ذِي البُهتَانِ
وَهُوَ المَجِيدُ صِفَاتُهُ أوصَافُ تَع ظِيمٍ فَشَأنُ الوَصفِ أعظَمُ شَانِ
وَهُوَ السَّمِيعُ يَرى وَيسمَعُ كُلَّ مَا فِي الكَونِ مِن سِرٍّ وَمِن إعلاَنِ
وَلِكُلِّ صَوتٍ مِنهُ سَمعٌ حَاضِرٌ فَالسِّرُّ وَالإعلاَنُ مُستَوِيَانِ
وَالسَّمعُ مِنهُ وَاسِعُ الأصوَاتِ لاَ يَخفَى عَلَيهِ بَعِيدُهَا وَالدَّانِي
وَيرَى مَجَارِي القُوتِ فِي أعضَائِها وَيَرَى عُرُوقَ بَيَاضِهَا بِعِيَانِ
وَيَرَى خِيَانَاتِ العُيَونِ بِلَحظِهَا وَيَرى كَذَاكَ تَقَلُّبَ الأجفَانِ
وَهُوَ العَلِيمُ أحَاطَ عِلماً بِالذِي فِي الكَونِ مِن سِرٍّ وَمِن إعلاَنِ
وَبِكُلِّ شَيءٍ عِلمُهُ سُبحَانَهُ فَهوَ المُحِيطُ وَلَيسَ ذَا نِسيَانِ
وَكَذَاكَ يَعلَمُ مَا يَكُونُ غَداً وَمَا قَد كَانَ وَالمَوجُودَ فِي ذَا الآنِ
وَكَذَاكَ أمرٌ لَم يَكُن لَو كَان كَي فَ يَكُونُ ذَاكَ الأمر ذَا إمكَانِ
وَهُوَ الحَمِيدُ فَكُلُّ حَمدٍ وَاقِعٌ أو كَانَ مَفرُوضاً مَدَى الأزمَانِ
مَلأ الوُجُودَ جَمِيعَهُ وَنَظِيرَهُ مِن غَيرِ مَا عَدٍّ وَلاَ حُسبَانِ
مع قواعد التصور الإسلامي للعقيدة(243/12)
يقول سيد قطب وهو يفسر سورة الفاتحة "لقد جاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار . . يختلط فيها الحق بالباطل ، والصحيح بالزائف ، والدين بالخرافة ، والفلسفة بالأسطورة . . والضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يتخبط في ظلمات وظنون ، ولا يستقر منها على يقين .
وكان التيه الذي لا قرار فيه ولا يقين ولا نور ، هو ذلك الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها ، وصفاته وعلاقته بخلائقه ، ونوع الصلة بين الله والإنسان على وجه الخصوص .
ولم يكن مستطاعا أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون ، وفي أمر نفسه وفي منهج حياته ، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدته وتصوره لإلهه وصفاته ، وقبل أن ينتهي إلى يقين واضح مستقيم في وسط هذا العماء وهذا التيه وهذا الركام الثقيل ...
ومن ثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهه إلى تحرير أمر العقيدة ، وتحديد التصور الذي يستقر عليه الضمير في أمر الله وصفاته ، وعلاقته بالخلائق ، وعلاقة الخلائق به على وجه القطع واليقين .
ومن ثم كان التوحيد الكامل الخالص المجرد الشامل ، الذي لا تشوبه شائبة من قريب ولا من بعيد... هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام ، وظل يجلوها في الضمير ، ويتتبع فيه كل هاجسة وكل شائبة حول حقيقة التوحيد ، حتى يخلصها من كل غبش . ويدعها مكينة راكزة لا يتطرق إليها وهم في صورة من الصور . . كذلك قال الإسلام كلمة الفصل بمثل هذا الوضوح في صفات الله وبخاصة ما يتعلق منها بالربوبية المطلقة . فقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات والعقائد كما تخبط فيه الأوهام والأساطير . . مما يتعلق بهذا الأمر الخطير ، العظيم الأثر في الضمير الإنساني . وفي السلوك البشري سواء .
والذي يراجع الجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات الله وصفاته وعلاقته بمخلوقاته ، هذا الجهد الذي تمثله النصوص القرآنية الكثيرة . . الذي يراجع هذا الجهد المتطاول دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل في ذلك التيه الشامل الذي كانت البشرية كلها تهيم فيه . قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر ، وإلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير . . ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول ، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة - وتقوم في تحرير الضمير البشري وإعتاقه؛ وإطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب وشتى الأوهام والأساطير !
وإن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها . . كل هذا لا يتجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد والتصورات ، والأساطير والفلسفات! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم . . عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة. رحمة حقيقية للقلب والعقل ، رحمة بما فيها من جمال وبساطة ، ووضوح وتناسق ، وقرب وأنس ، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق" (انتهى كلام سيد قطب باختصار يسير) .
الخَاتِمَةُ
تشتمل أسماء الله الحسنى على كم هائل من المبادئ التربوية التي تسمو دائما بمعتقداتنا، وتسوق سلوكنا بثقة نحو مواطن الخير، وتقود عقولنا برفق تجاه البناء والسَّنَاء وفق تعاليم السماء. أسماء الله الحسنى تفيض بالبشرى لكل من يسعى نحو المعالي ولمثل تلك المعاني ينبغي أن نشمر عَنْ سَاعِدِ الْجِدِّ ونوجه الجهود ونحشد الطاقات، ونربي الجيل الجديد كي يمضي نحو غاياته النبيلة، ورائده شوق انبثق من شجرة الأسماء الحسنى.
الأسماء الحسنى منارات تكشف الطريق للسائرين ، وترشد الحائرين وتكرم عقول البشر وتصوغها صياغة صحيحة تصونها من شر الخرافات المتعلقة بالقبور أو الإلحاد وفصل الدين عن الحياة... إن الأسماء الحسنى تأخذ بيد كُلّ صَحِيْحِ الذِّهْنِ نحو الوحدانية وحدها، وتحرره من طوق التقاليد المادية، والغيبيات الخادعة التي نسبت زورا إلى الإيمان وما أنزل الله بها من سلطان.
دور المعلم هو الحث على التخلق بمقتضى صفات الله وأسمائه وتطبيق ذلك كلما سَنَحَت الفُرْصَةُ، وذلك بالنظر إلى الصفات التي يحسن من المخلوق أن يتصف بمقتضاها؛ "الصفات التي يحب الله من عباده أن يتصفوا بمقتضاها كالعلم والقوة والرحمة والحلم والكرم والجود والعفو . وأشباه ذلك، فهو سبحانه عليم يحب العلماء ، قوي يحب المؤمن القوي أكثر من حبه للمؤمن الضعيف ، كريم يحب الكرماء ، رحيم يحب الرحماء ، عفو يحب العفو . . الخ"[3].(243/13)
إن الإيمان قوة محركة تمحو التخلف محوا من جذوره بلا هوادة، وتحرر الطاقات تحريرا صحيحا بلا رهبة، وتكسر أغلال الكسل تكسيرا أكيدا بلا شفقة. لا بد من أن يتسلح المسلم بإيمان عميق يحثه على أداء دوره نحو تعمير الحياة عبادة، وعملا، وزراعة، وصناعة، وبحثا، وتعليما، وعطاء، وتسامحا، وعدالة، وإحسانا، وحبا. إن أسماء الله الحسنى مفردات ذات مضامين ضخمة تفتق الأفكار، وتوجه الأنظار، وتزكي النفوس فتدفعها نحو العمل المبدع لخدمة الأهل والوطن والإنسانية جمعاء لأن الله السميع البصير العليم الخبير ... يراها، ويراقبها ويحصي الأقوال والأعمال ولو كانت مثقال ذرة أو دون ذلك ويحاسبها ويثيبها فهو الشكور الغفور الرحيم .
كثير من البشر يبحثون عن خالقهم وتقطعت بهم سبل السعادة فمنهم من غرق في بحار الفلسفة ومنهم من ضاع في بيداء الغفلة والشك وأهم في حاجة ماسة للإرشاد فالحمد لله وحده الذي أرشدنا إلى معرفة الأسماء الحسنى وصفاته العلى وأكرمنا بالهدى كي لا نضِل وَلا نشْقَى.
وَاَللَّهَ نَسْأَلُ حُسْنَ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ ، وَأَنْ يَنْفَعَ بِهذه الرسالة كل من َقَرَأَها ونشرها وانتقى الخير منها ليعمل بها، وَأَنْ يَجْعَلَها عَامَّة النَّفْعِ ، شاملة الْبَرَكَةِ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ،
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً،
والْحَمْدُ لِلَّهِ "عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ"، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
أهم الْمَرَاجِع
ابن الْعَرَبِيّ. أَحْكَام الْقُرْآن. موقع الإسلام: http://feqh.al-islam.com
ابن تيمية. الْفَتَاوَى الْكُبْرَى. موقع الإسلام: http://feqh.al-islam.com
ابن مفلح، مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ . الآدَاب الشَّرْعِيَّة وَالْمِنَحِ الْمَرْعِيَّةِ. موقع الإسلام: http://feqh.al-islam.com
أبو سليمان، عبدالحميد (1425 هـ - 2004 م). أزمة الإرادة في الوجدان المسلم: البعد الغائب في مشروع إصلاح الأمة في إصلاح الثقافة والتربية: رؤية إسلامية معاصرة. ط1 ، دمشق : دار الفكر ومؤسسة تنمية الطفولة.
أدهمي، رياض (1420 هـ - 1999 م). الآثار السلوكية لمعاني أسماء الله الحسنى. قدم له: عبدالرزاق الحلبي ونور الدين قره علي. ط1، بيروت: المركز الإسلامي.
الأشقر، عمر سليمان عبدالله (1423 هـ - 2004 م). أسماء الله الحسنى الهادية إلى الله والمعرفة به. ط1، الأردن: دار النفائس.
الأنصاري، أمين بن الحسن (1423هـ). النور الأسنى فى شرح أسماء الله الحُسْنَى. قدم له فضيلة الشيخ محمد حسان وفضيلة الشيخ محمود المصري. موقع النور الأسنى (تاريخ الدخول 9-9-2005م): http://www.hinames.com/index.asp?doc=11&nodes=Kjgs
الترمذي، محمد بن عيسى السلمي. سنن الترمذي وشرح العلل. موقع المحدث: http://www.muhaddith.org
التميمي، محمد بن خليفة بن علي (1423 هـ - 2002م). الصفات الإلهية تعريفها وأقسامها. في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة . العدد 112. موقع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: http://www.iu.edu.sa/Magazine/112/2.htm
الحجار ، طارق بن عبد الله (1423 هـ - 2003 م). تاريخ المدارس الوقفية في المدينة النبوية. في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة . العدد 120. موقع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: http://www.iu.edu.sa/Magazine/120/11.htm
الخادمي، أبو سعيد . بَرِيقَةٌ مَحْمُودِيَّةٌ فِي شَرْحِ طَرِيقَةٍ مُحَمَّدِيَّةٍ وَشَرِيعَةٍ نَبَوِيَّةٍ فِي سِيرَةٍ أَحْمَدِيَّةٍ. موقع الإسلام: http://feqh.al-islam.com
الذهبي (2005). سير أعلام النبلاء ، موقع المحدث: http://www.muhaddith.org
الصنعاني. سبل السَّلام . موقع الإسلام: http://feqh.al-islam.com
عبدالقادر, سليم (1421هـ - 2000 م). طائر النورس. ط1, الجمهورية العربية السورية: دار الحافظ.
عبدالمعطي ، عبدالله محمد (1421 هـ - 2000م). أطفالنا: خطة عملية للتربية الجمالية سلوكا وأخلاقا. مصر: دار التوزيع والنشر الإسلامية.
العبيد، عبيد بن علي (1423 هـ - 2002م). تفسير أسماء الله الحسنى للشيخ عبد الرحمن السعدي. في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة . العدد 112. موقع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: http://www.iu.edu.sa/Magazine/112/3.htm
العثيمين، محمد بن صالح. القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى. موقع الشيخ محمد بن صالح العثيمين: http://www.ibnothaimeen.com/publish/cat_index_290.shtml
الْعَسْقَلانِي، ابن حجر. التَّلْخِيص الْحَبِير فِي تَخْرِيج أَحَادِيث الرَّافِعِيّ. موقع الإسلام: http://feqh.al-islam.com(243/14)
العلواني، طه جابر (1998 م). إصلاح الفكر الإسلامي - مدخل إلى نظام الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر. سلسلة (قضايا إسلامية معاصرة)- الكتاب الثاني عشر 1998م. موقع الوحدة الإسلامية (تاريخ دخول الموقع 13-9- 2005 م): http://www.alwihdah.com/
الغزالي, محمد (1420هـ 1999م). ركائز الإيمان بين العقل والقلب. ط 4, بيروت: الدار الشامية.
الغزالي, محمد (1421هـ- 2000م). فقه السيرة. ط1, القاهرة: دار الشروق.
الغزالي، محمد (1417 هـ - 1997 م). نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم. ط3، القاهرة دار الشروق.
فالح, عامر عبدالله (1320هـ =2000م). معجم ألفاظ العقيدة. ط2, الرياض: مكتبة العبيكان.
القحطاني، سعيد بن علي بن وهف. شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة. http://www.deentimes.com/index.php?p=right_list&f=names
قطب، سيد . في ظلال القرآن. موقع الخيمة العربية: http://www.khayma.com/islamissolution/iis/zelal/fhrszelal.htm
الماوردي. أدب الدنيا والدين. موقع الإسلام: http://feqh.al-islam.com
المناوي. فيض القدير. موقع المحدث: http://www.muhaddith.org
الموسوعة الشعرية (2003 م). (CD) أبوظبي: المجمع الثقافي.
الموسوعة العالمية العربية (2004 م). أعمال الموسوعة للإنتاج الثقافي 2004 م، السعودية: http://www.intaaj.net
الموسوعة الْفِقْهِيَّةِ (الكويتية). موقع الإسلام: http://feqh.al-islam.com
موقع صخر (معاجم وقواميس) (2005): http://ajeeb.sakhr.com
موقع صخر (معاجم وقواميس): http://ajeeb.sakhr.com/
النَّفْرَاوِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ غُنَيْمِ بْنِ سَالِمٍ. الْفَوَاكِهُ الدَّوَانِي عَلَى رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ. موقع الإسلام: http://feqh.al-islam.com
النووي ، محي الدين بن شرف. صحيح مسلم بشرح النووي. موقع المحدث: http://www.muhaddith.org
النَّوَوي. الأذْكَارُ النَّوَويَّة. موقع الإسلام: http://feqh.al-islam.com
النَّوَوي. رياض الصالحين. موقع المحدث: http://www.muhaddith.org
مواقع ذات صلة
برنامج لأسماء الله الحسنى : http://www.deentimes.com
محاضرات صوتية في موضوع الأسماء الحسنى : http://www.islamiyyat.com/allah-names-new.htm
مواقع عن أسماء الله الحسنى : http://www.asmaullah.com/index.htm
http://www.godnames.mohdy.com/
http://www.islamiyyat.com/allah-99-names.htm
http://www.nourallah.com/asmaa.asp
http://www.wael.de/ar/islam/alahnames/index.php
صور وخلفيات
http://www.eyelash.ps/mobile/pic_asmaa.htm
استمع إلى أسماء الله الحسنى بصوت المنشد عماد رامي:
http://www.eyelash.ps/names
[1] http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?pagename=IslamOnline-Arabic-Ask_Scholar/FatwaA/FatwaA&cid=1122528620980
[2] محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزُّرعي الدمشقي، أبو عبد اللّه، شمس الدين. قالت عنه الموسوعة الشعرية "من أركان الإصلاح الإسلامي، وأحد كبار العلماء، مولده ووفاته في دمشق، تتلمذ لشيخ الإسلام ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ما يصدر عنه. وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه، وسجن معه في قلعة دمشق، وكان حسن الخلق محبوباً عند الناس، أغري بحب الكتب ، وألف تصانيف كثيرة" (باختصار).
[3] انظر : الشيخ ابن باز مفتي السعودية- رحمه الله: http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?pagename=IslamOnline-Arabic-Ask_Scholar/FatwaA/FatwaA&cid=1122528621258(243/15)
الإجازة الصيفية والسفر
عبدالمحسن بن محمد القاسم ...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
الوقت مُنقض بذاته مُنصرم بنفسه ومن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظم فواته واشتدت حسراته، والأوقات سريعة الزوال وعلى المرء أن يعرف قيمة زمانه وقدر وقته فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، وللمسلم وقفات في مستهل إجازة العام:
الوقفة الأولى:
خير الأسفار ما كان في مرضاة الواحد الأحد، وقد كانت أسفار المصطفى هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ فكان إذا سافر خرج من أول النهار، وكان يستحب الخروج يوم الخميس، وأمر المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمروا أحدهم، ونهى أن يسافر الرجل وحده وأخبر أن الراكب الشيطان والراكبين شيطانان والثلاثة ركب.
الوقفة الرابعة:
لقد اسبغ الله عليك نعمة المال والعافية وغيرك حُرم ذلك، فلا يكن سفرك إلا لأمر مشروع أو مباح، واحذر سفر المعصية فصاحبه ينتقل فيه من الأنس إلى الوحشة ومن سرور الأسفار إلى هم مطاردة الأفكار، يقول محمد ابن الفضل رحمه الله: ( ما خطوت خطوة منذ أربعين سنة لغير الله عز وجل ). واشكر نعمة الله عليك بعدم التطلع إلى المعاصي وإياك والبذخ في الإنفاق والتباهي بمالك عند الفقراء المسلمين فالمال دُول.
الوقفة الخامسة:
تذكر وأنت تسافر للنزهة مشقة سفر العلماء لتدوين العلم وحفظ الدين وهداية الأمة فقد سطروا من الأخبار أعجبها ومن الأحداث أحلكها متعرضين للفقر والجوع والمخاطر رغبة في الثواب ونشر الحق، فقد رحل الإمام إسحاق بن منصور المروزي رحمه الله من نيسابور إلى بغداد سيراً على قدميه حاملاً كتبه على ظهره، يسأل عن مسائل فقهية، ورحل ابن مندة يطلب العلم وعمره عشرون عاماً ولم يرجع إلى بلده إلا وعمره خمسة وستون عاماً يدون الحديث في تلك السنين الطويلة، ويقول أبو العالية رحمه الله: ( كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ : { ومن استشرف إليها - أي الفتن - أخذته } [رواه البخاري].
وقد افتتن بعض الناس بالسفر إلى بلاد الكفار معرّضين دينهم وأرواحهم للهفوات والمخاطر ومصائد المحتالين، ولقد هيأ الله لبعض الناس السفر إلى هناك لقبض أرواحهم في تلك الديار، يقول النبي فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ تعدل ألف صلاة، رحلة إيمانية وظفر بالخير في الدنيا والآخرة، قال عز وجل: [العنكبوت:20].
موقع كلمات
...(244/1)
الإجازة الصيفية
وبناء الشباب
الحمد رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين–صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الغر الميامين. أما بعد:
فإن زينة الحياة الدنيا وعدة الزمان بعد الله-عزوجل-وأمل الأمة هم شبابها، فكيف يمكن بناءهم في الإجازة الصيفية؟
إن الأمة الإسلامية إذا أرادت إصلاح شبابها, ورغبت في أن تقر عينها بصلاحهم, ونجاحهم وتفوقهم في حياتهم فعليها أن تهتم ببنائهم بناءً صحيحاً. فتهتم بتربيتهم التربية الحسنة، وتسلحهم بسلاح الإيمان، وتحصنهم بدروع التقوى، وتأخذهم بجد وقوة إلى العلم النافع والعمل الصالح.
إن بناء الشاب والعناية بهم مسلك الأخيار, وطريق الأبرار، فلا تفسد الأمة وتهلك في الهالكين إلا حين يفسد أجيالها، ولا ينال الأعداء منها إلا إذا نالوا من شبابها وصغارها.
إن بناء الشباب وتربيتهم تبدأ بالدعاء لهم فهذا زكريا-عليه السلام-دعا ربه بأن يرزقه الذرية الطيبة فقال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران:38). ويقول إبراهيم عليه السلام:(وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (إبراهيم:35) وقال-عليه السلام-:(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (إبراهيم:40)، وكل رجل صالح من عباد الله يبتهل إلى ربه ويدعوا لذريته فيقول: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف: من الآية15)، فينشأ من هذا البناء علماء عاملون، وجنود مجاهدون، وصناع محترفون، وشباب صالحون، فتصلح وتسعدُ بهم أمتهم، وتقربهم أعين آباءهم وأمهاتهم، فيمتد نفعهم، وتحسن عاقبتهم(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد:23-24).
إن من خطوات البناء: التوجيه والإرشاد فقد رسم النبي-صلى الله عليه وسلم-منهجاً واضحاً في بناء الشباب فقال-عليه الصلاة والسلام-لابن عمه الغلام عبد الله بن عباس-رضي الله عنه-:" يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لوا اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام جفت الصحف"(1).
فكانت أول لبنة وضعها النبي-صلى الله عليه وسلم-في البناء هي لبنة العقيدة، ورسوخ الإيمان، وصدق التعلق بالله وحده والاعتماد عليه، فحفظ الله يكون بحفظ حقوقه وحدوده، ومن ثم الاستعانة به وحده في الأمور كلها، والتوكل عليه، واليقين، الجازم بأن بيده سبحانه الضر والنفع، فيأتي ذلك البناء ليكون دافعاً للشباب، وهم في فورتهم وطموحهم وتكامل قوتهم، ليكون الشاب قوي العزيمة عالي الهمة.
أن من لبنات البناء أن نهتم بالشباب الاهتمام المطلوب, وخاصة في أيام الإجازات والعطل, فالشباب اليوم بحاجة إلى تكاتف الجهود،وبذل المزيد من الأوقات، والتخطيط، لكي نحفظهم من رياح التغيير التي تعصف بالصغير والكبير، وتقتل الطفل والمرأة، لكي ننشئ جيلاً عالماً بدينه, معتزاً بعقيدته، عارف بواقعه، عاملاً بكتاب ربه وسنة نبيه، على بصيرة من أمره، وإن هذا البناء لم يكن إلا إذا عملنا على تكوين البناء في هذه الإجازة.
إن الإجازة تعمل على هدم البناء الذي حصل عليه الشباب في المدارس والجامعات والمعاهد فترت دراستهم إلا أن هناك دورات، وحلقات، ومراكز، ومخيمات تعمل على مواصلة البناء في هذه الإجازة فهي تعمل على بناء الشباب بناءً علمياً وذلك من خلال وضع المناهج المناسبة والملائمة لمستويات الشباب، فيدرسون منهجاً علمياً،يقوم على الفهم الصحيح الذي فهمه سلف الأمة. وتعمل على بناء الشباب بناء فكرياً، فكراً مستنيراً بكتاب الله وسنة رسوله، فكراً سليماً من البدع والخرافات والشركيات، فكراً خالياً من الشبه والضلالات، فكراً بعيداً عن القنوات الفضائية وما تمليه من شبهات, وطعونات, وشكوكات عن الإسلام وتعاليمه, وبعيداً عن تلبيسات الأعداء ومخادعاتهم.
فالبناء متواصلاً من قبل أهل الخير حيث تعمل هذه المراكز على بناء الشباب بناء صحياً وذلك من خلال الأنشطة الرياضة التي تمارس على مختلف أنواعها, ومن خلال التوعية بأسباب الأمراض وأضرارها ومن خلال الحث على النظافة وإقامة الدورات في الإسعافات الأولية وغيرها، وشعارهم في ذلك العقل السليم في الجسم السليم.(245/1)
ومن اللبنات التي تضعها هذه المراكز والدورات، لبنة بناء المستقبل المشرق، وذلك من خلال إقامة الدورات في الحاسوب، واللغات، والإدارة، والمحاسبة، والخطابة وغيرها من اللبنات التي تكون شباب المستقبل الزاهر، وذلك لن يكون إلا بأن يكون آباء الأنباء وأمهاتهم على علم بما تقوم به هذه المراكز من خدمات عديدة, فيدفعون أبناءهم إلى هذه المراكز والدورات فتكون الثمرة بناء جيل سليم العقيدة، مستنير الفكر بالكتاب والسنة، محصناً بالآداب الشرعية عنده طموحات عالية صالحاً في نفسه مصلحاً لغيره, هذا هو البناء الذي يتكون للشباب في الإجازة الصيفية لمن أدرك أهميتها وعمل على بناء نفسه وغيره.
إن للعمر أجل، وأن الآمال عريضة بحر لا ساحل له- ولذلك وجب المسارعة إلى العمل الصالح واحفظ لحظات العمر، واشغل الأوقات بما ينفع في العاجل والآجل.
إن الشاب إن لم ينشغل في مشروعات الخير والجهاد والمجاهدة والإنتاج المثمر نهبته الأوقات الطائشة، وعاش في دوامة من الترهات والمهازل.
إن شغل الأوقات وشحنتها بالأعمال والواجبات، والانتقال من عمل إلى عمل ومن مهمة إلى أخرى، ولو كانت خفيفة، يحمي المرء من علل البطالة, ولوثات الفراغ, والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
ثم إن الأمة تتخلص من مفاسد كبيرة، وشرور عريضة لو أنها عملت على بناء شبابها وتحكمت في أوقات الفراغ لأبنائها، وذلك بعمل جداول مهمة تعمل على حفظ هذه الأوقات وتعمل على البناء الصحيح(2).
اللهم اهدنا واهدنا بنا ويسر الهدى لنا، اللهم وفقنا في ديننا ووفقنا في دنيانا إنك سميع الدعاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين،،،
000000000000
1 - رواه الترمذي . وصححه الألباني في مشكاة المصابيح رقم(5302).
2 - راجع: كتاب توجيهات وذكرى صالح بن حميد(2/204).(245/2)
الإجازة من عمرك
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
كلُّ مفقودٍ عسى أن تسترجعه إلا الوقت.. فهو إن ضاعَ لم يتعلّق بعودته أمل، ولذلك كان الوقت أنفسَ ما يملكه إنسانٌ، وكان على العاقل أن يستقبلَ أيامّه استقبالَ الضنين بالثروة الرائعة، لا يفرّطُ في قليلها ناهيك عن كثيرِها، ويجتهد أن يضعَ كلَّ شيء- مهما ضَؤل- بموضعه اللائق به.
وما ماضي الشباب بمسترد *** ولا يوم يَمرُ بمستعاد
وقال آخر:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيع
فالمسلم الحق يغالي بالوقت مغالاة شديدة؛لأنّ الوقت عمره، فإذا سمح بضياعه، وترك العوادي تنهبه، فهو ينتحرُ بهذا المسلك الطائش.
إن الإنسانَ ليسيرُ حثيثاً إلى الله، وكلُّ دورة للفلك تتمخّضُ عن صباح جديد ليست إلا مرحلةً من مراحل الطريق الذي لا توقّف فيه أبداً، أفليسَ من العقل أنْ يدركَ المرءُ هذه الحقيقة، وأن يجعلها نُصبَ عينيه، وهو يستبينُ ما وراءه وما أمامه،ومِنَ الخداع أن يحسب المرء نفسه واقفاً والزمن يسير! إنه خداعُ النظر حين يخيل لراكب القطارِ أنَّ الأشياءَ تجري وهو جالسٌ. والواقع أنَّ الزمنَ يسيرُ بالإنسان نفسه إلى مصيره العتيدِ(1).
أخي الشاب: إن أيام الشباب هي زهرة العمر، فيها يحصد الشاب أكثر أعماله إما خيراً أو شراً، فالشباب يتمتع بحيوية كبيرة، وقوة عالية، فالذي يعمل الخير يعمل بنشاط وقوة، فالصلاة، والصوم والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعلم والتعلم، وغيرها من أعمال الخير، يؤديها بكل نشاط وقوة، فأيام الإجازة هي من عمرك، فإذا قضيتها في الخير والصلاح،والتعلم والتعليم،و في المراكز الصيفية، والمخيمات والرحلات المفيدة فإنه يحصل لك الخير الكثير، ففي الحديث الصحيح عن النبي-صلى الله عليه وسلم-:"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير"(2) والمؤمن أقوى ما يكون وهو شباب، واسمع أخي إلى الشيخ العلامة ابن باز وقد أوصى الشباب بوصايا عظيمة لاستغلال أوقاتهم في الإجازة الصيفية، فقال:"فإنه يسرني أن أوصي الشباب خاصة والمسلمين عامة بتقوى الله-عز وجل-أينما كانوا باستغلال هذه الإجازة فيما يرضي الله عنهم ويعينهم على أسباب السعادة والنجاة، ومن ذلك شغل هذه الإجازة بمراجعة الدروس الماضية والمذاكرة فيها مع الزملاء لتثبيتها والاستفادة منها في العقيدة, والأخلاق, والعمل، كما أوصي جميع الشباب بشغل هذه الإجازة بالاستكثار من قراءة القرآن الكريم بالتدبر والتعقل وحفظ ما تيسر منه؛ لأن هذا الكتاب العظيم هو أصل السعادة لجميع المسلمين، وهو ينبوع الخير ومنبع الهدى، أنزله الله-سبحانه-تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، وجعله سبحانه هادياً للتي هي أقوم ورغب عباده في تلاوته وتدبر معانيه كما قال سبحانه :{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ} وقال تعالى:{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}وقال عز وجل :{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}
فنصيحتي للشباب ولجميع المسلمين أن يكثروا من تلاوته وتدبر معانيه وأن يتدارسوه بينهم للعلم والاستفادة وأن يعملوا به أينما كانوا ، كما أوصيهم بالعناية بسنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وحفظ ما تيسر منها ولا سيما في هذه الإجازة مع العمل بمقتضاها . لأنها الوحي الثاني والأصل الثاني من أصول الشريعة.
كما أوصي جميع الشباب بالحذر من السفر إلى بلاد غير المسلمين لما في ذلك من الخطر على عقيدتهم وأخلاقهم . ولأن بلاد المسلمين في أشد الحاجة إلى بقائهم فيها للتوجيه والإرشاد والتناصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بينهم بالحق والصبر عليه.
وأوصي جميع المدرسين في هذه الإجازة باستغلالها في إقامة الحلقات العلمية في المساجد والمحاضرات والندوات لشدة الحاجة إلى ذلك، كما أوصيهم جميعاً بالتجول للدعوة إلى الله في البلدان المحتاجة لذلك حسب الإمكان ، وزيارة المراكز الإسلامية والأقليات الإسلامية في الخارج للدعوة والتوجيه، وتعليم المسلمين ما يجهلون من دينهم وتشجيعهم على التعاون فيما بينهم والتواصي بالحق والصبر عليه، وتشجيع الطلبة الموجودين هناك على التمسك بدينهم والعناية بما ابتعثوا من أجله والحذر من أسباب الانحراف، مع وصيتهم بالعناية بالقرآن الكريم حفظاً وتلاوةً وتدبراً ، وعملاً بالسنة المطهرة حفظاً ومذاكرةً وعملاً بمقتضاها(3).
إن هناك شباباً ليس لهم هدف يحققونه في الإجازة، ولا عمل يعملونه، بل هذا الصنف يتحرى الإجازة بلهف ليذهب في كل مذهب، أما الصلوات فلا تسأل عنها فقد ضيّعها،و أما القرآن فهجره، و أما الذكر فلا يعرفه، و أما المسجد فما اهتدى إليه .(246/1)
أما الصنف الآخر فهم شباب الإسلام ، و هم نجوم التوحيد ، وهم كوكبة محمد- صلى الله عليه و سلم-، و هم الفجر لهذا الدين.إنهم شباب عرفوا الحياة, و عرفوا أنهم سوف يقفون بين يدي علاَّم الغيوب، و عرفوا أن السلف الصالح استثمروا أوقاتهم في مرضاة الله .
هذا الشاب سابق بالخيرات، كتاب الله خِدنه, و رفيقه, و ربيع قلبه، لا تفوته الصلوات و لا تكبيرة الإحرام في جماعة .
حضرت الأعمش الوفاة فبكى أبناؤه . فقال لهم: ابكوا أو لا تبكوا ، والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام ستين سنة!.
لأنه يريد جنة عرضها السماوات و الأرض!.
هؤلاء الشباب مقبلون على العلم إقبالاً جازماً وعازماً على استثمار الوقت، دروسهم دعوة، جلساتهم إيقاظ وصحوة ، وحركاتهم طاعة . فهؤلاء الذين سبقوا بالخيرات(4) .
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}
أيها الإنسان: إن عمرَك رأس مالكَ الضخم، ولسوفَ تُسأل عن إنفاقك منه، وتصرفك فيه.فقد جاء عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنه قال:" لا تزولُ قدما عبدٍ يوم القيامةِ حتى يُسألَ عن أربع: ومنها عن عمرهَ فيم أفناه؟وعن جسمه فيم أبلاه؟.."5.
أخي الشاب الكريم: دعني أنقل إليك صوراً ونماذج للسلف في المحافظة على الأوقات والأعمار لعلها ترفع من همتك، وتغير من تصورك،وتعلي من عزيمتك فتغتنم وقتك وإجازتك فإنها من عمرك. يقول الإمام الحسن البصري-رحمه الله-:"أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم". وقال ابن مسعود-رضي الله عنه-: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي" . ، وقال حكيم :" من أمضى يوماً من عمره في غير حق قضاه ، أو فرض أداه ، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه".أما الإمام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي فكان يقول : "إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد ما كنت أجده وأنا ابن عشرين. وكان ابن الجوزي-رحمه الله-يستغل الوقت الذي يزوره فيه الناس في بري الأقلام وتقطيع الورق(6).
فهل آن لنا -نحن المسلمين وخاصة أنتم أيها الشباب- أن نستغل أوقاتنا، وأن نحافظ على أعمارنا، وأن نبني حياتنا، فإن الإجازة من أعمارنا الغالية.
اللهم وفق أبناء المسلمين وبناتهم إلى استغلال أعمارهم وأوقاتهم, وحياتهم فيما ينفعهم، آمين اللهم آمين..
________________________________________
1 - راجع : خلق المسلم للغزالي(227-228).
2 - صحيح مسلم.
3 - نشرت بمجلة الدعوة العدد 1023 الاثنين 25 ربيع الثاني 1406 هـ للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
4 - راجع : سياط القلوب للشيخ عائض القرني.
5 - سنن الترمذي(2417).وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم(13256).
6 - راجع: الوقت أنفاس لا تعود.. لعبد الملك القاسم.(246/2)
الإجازة وكيفية استغلالها
1582
موضوعات عامة
السياحة والسفر
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
26/6/1420
اللحيدان
ملخص الخطبة
1- عبادة المؤمن لله لا إجازة فيها. 2- الإجازة الصيفية فرصة لتدارك التقصير في عبادة الله. 3- فضل تلاوة القرآن وحفظه. 4- فضل صلة الرحم. 5- السفر إلى بلاد الكفار وبلاد الفساد. 6- جلب الفساد باسم التنشيط السياحي. 7- عظمة الخالق وضعف المخلوق.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الأخوة في الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي العاصم من القواصم، وهي المنجية من المهالك ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً.
أيها الأخوة المؤمنون:
إن هناك حقيقة واضحة قد غفلنا عنها أو نَسيناها أو نُسيناها، حقيقة هي أصل الحياة بل والهدف من هذا الكون كله، بإنسه وجنه وبهائمه وعقلائه، وسهله ووعره، وبحره وبره، إن هذه الخلائق كلها إنما خلقت لغاية عظمة ولهدف أسمى ولم يكن خلق السموات والأرض عفوياً دون معنى أو دون هدف يقول تعالى رداً لهذا الفهم: وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إنا كنا فاعلين.
ويقول تعالى: وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل.
إن الحكمة من خلق الخلق كلهم هي عبادة الله وحدهوما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.
فكل الخلق مأمورون بعبادة الله وحده لا شريك له، وتكييف جميع ما سخر لهم في هذه الدار ليكون عوناً لهم على عبادة الله.
أيها الأخوة:
إذا تقرر هذا المعنى في نفوسكم فلنعلم جميعاً أن الإنسان ما دام فيه روح تنطف، ونفس يتردد، وما دامت الروح بين جنبيه فهو في عبادة الله وحده.
ولا إجازة له في هذه الدنيا إلا بالموت، فإذا جاء الموت فقد بدأ ثواب الأعمال والجزاء عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وإنما الإجازة تكون في أعمال الدنيا وهي راحة وفترة استجمام يأخذها الموظف والطالب لينطلق بعدها لممارسة نشاطه من جديد بجد وحماس.
فالإجازة نعمة من نعم الله العظيم لم يرع كثير من الناس حقها، وما أدوا شكر هذه النعمة العظيمة، فإن الإجازة فرصة لمن فاته أثناء دوامه وعمله بعض الأعمال الصالحة، فإن الإجازة فرصة للقيام ببعض الأعمال التي قد لا يمكن عملها مع وقت الدوام كأداء العمرة مثلاً أو الدعوة إلى الله في مناطق مختلفة أو الصيام أو غير ذلك من الأعمال الصالحة.
ولكن بعض الناس وللأسف ظن أن الإجازة إجازة عن كل شيء، فهو بطر، فتجد عددا ليس بالقليل من المسلمين ما إن تُعلن الإجازة إلا وتزدحم المطارات للسفر لبلاد الكفر والانحلال، أو لتنزه فيما حرم الله تعالى.
أيها الأخوة في الله:
إننا لنجد في واقعنا بعض الموفقين الذين وفقهم الله تعالى لطاعته، وأحبهم واجتنباهم، فهم يتقلبون بين محاب الله، قائمين بأمر الله قد ملؤوا أوقاتهم بما يرضي الله، وتركوا معصيته، قد جعلوا الله نصب أعينهم، يتسابقون في الخيرات، ويتنافسون في الطاعات، فلله درهم ولله ما أحسنهم، وما أشد حبنا لهم، فبمثل هؤلاء يدفع البلاء وتزول البلوى، وتستجلب الخيرات وتدفع المنكرات.
فلمثل هؤلاء نقول جزاكم الله خيراً وثبتنا وإياكم على الطريق المستقيم وجنبنا الشيطان وسائر أعدائه، فها أنتم يا مؤمنون قد بدأتم إجازتكم بقراءة شيء من القرآن، وأراكم تعزمون على حفظ شيء منه، واعلم أنكم في قرارة أنفسكم تقولون، متى سيكرمنا الله ونحفظ كتابه الكريم.
وأراكم يا موفقون قد وضعتم جزءاً ليس بالقليل لكتاب الله، يستلهمون الدروس منه، وتحيون قلوبكم بكلام ربكم سبحانه وتعالى، وكأنكم تتمثلون قول المصطفى : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) وكأني بكم تطمحون لأن تكونوا من أولئك الذين قال الله فيهم، إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور الآية. ويحدوكم في طريقكم قول المصطفى : ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)) [رواه أبو داود والترمذي وأصحاب السنن].
ثم أنتم مع ذلك قد جعلتم وقتا لقراءة الكتب النافعة التي قد لا يتسنى لكم قراءتها مع أيام العمل والدراسة، وأراكم قد بدأتم بمشروع حفظ بعض متون أهل العلم ومدارستها وحضور بعض الدروس العلمية والمواظبة عليها.
وأراكم مع كل ذك لم تنسوا دعوة الناس والمشاركة في إصلاحهم فلكم مشاركات كثيرة في مجالات متعددة، إما بالكلمة أو بتوزيع شريط مفيد أو بتوزيع كتيب هادف، أو بأمر بالمعروف ونهي عن المنكر أو مشاركات في المراكز الصيفية وتربية الناشئة على كتاب الله وسنة رسوله وهدي السلف الصالح.(247/1)
ثم أنتم مع ذلك كله يا موفقون، ورغم ما كل ما تعملون لم تنسوا أن تستغلوا الإجازة الصيفية بزيارة الأقارب والأرحام، وكأني بكم تتمثلون حديث النبي حينما جاءه أعرابي فقال يا رسول الله أخبرني بأمر يدخلني الجنة وينجيني من النار؟ قال: فنظر إلى وجوه أصحابه وقال عليه السلام: ((لقد وفّق أو هُدي، لا تشرك بالله شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصل الرحم)) [أخرجه مسلم من حديث أبي أيوب].
وأنتم مشفقون وجلون من وقوع الوعيد بكم إن أنتم قصرتم في صلة رحمكم متذكرين قول النبي قال الله تعالى: ((أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم واشتققت له اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته)) [أخرجه الحاكم وأبو داود بإسناد صحيح].
ثم بعد ذلك تتوجون عملكم ودعوتك وصلتكم لأرحامكم بزيارة لبلد الله الحرام والطواف بالبيت العتيق واستلام الحجر والسعي بين الصفا والمروة، ولسان حالكم يقول: يا ربنا هذا جهد المقل نقدمه لك وأنت الذي تبارك القليل وتغفر الكثير، والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة إنهم إلى ربهم راجعون. وتحنون الجباه وتعفرون الوجوه لرب الأرض والسماء، وأنتم تدعون الله تقولون: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
والعجيب من أمركم رغم جدكم ونشاطكم وقد ملئت أوقاتكم بالعلم والعمل الصالح وبالدعوة إلى الله لم تنسوا أبناءكم وبناتكم، فها أنتم تأخذونهم لسفرة قريبة، ومتعة بريئة، لا مكان للحرام فيها، فأقول لأمثال هؤلاء أبشروا والله فأنتم على خير عظيم، واصبروا فإن الدنيا دار ممر لا دار مقر، وإن الدنيا مآلها إلى الفناء، وسوف يحمد القوم السُرى، وستوقف المطايا على أبواب الجنة برحمة أرحم الراحمين، وسوف تعلم أن هذه الدنيا وأهلها ما كانوا إلا في غرور.
وإنه لا ينبغي عند لله إلا العمل الصالح، وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً، فاثبتوا يا موفقون ولا يغرنكم كثرة الهالكين، ولا تتابع الساقطين، وصبراً صبراً فإن الموعد الله.
وأما أنتم يا من ضربتم في كل واد بذنب، قد ملأتم إجازتكم بما يغضب الله، وعزمتم على ارتكاب ما حرم الله، وكأنكم ستخلدون في الدنيا، وكأنكم لن تحاسبوا على أعمالكم ولن تجازوا على معاصيكم وذنوبكم.
أغركم حلم الله عنكم وستره عليكم، أغركم أنكم تعصونه ويرزقكم وتقعون في الحرام ويفتح عليكم من الدنيا، ألم يطرق أسماعكم قول النبي : ((إذا رأيت الله يعطي العبد وهو قائم على معصيته فإنما هو استدراج)).
ما لي أراكم قد قطعتم تذاكر السفر إلى بلاد الكفر والانحلال، لتمكثوا بين ظهراني المشركين والكافرين، وأنتم تسمعون قول المصطفى : ((أنا برئ من كل مسلم بات بين ظهراني المشركين)) وليس هذا فحسب بل ستأخذون أبناءكم وبناتكم معكم إلى تلك البلاد التي لا يردعها حياء ولا يمنعها دين، ليفتحوا أعينهم البريئة التي لم تألف المنكر بهذه البشاعة ولم تر الفساد بهذه الصورة، فبعد أن كانوا لا يرون إلا عماتهم وخالاتهم ومحارمهم المتحجبات، أصبحوا يرون المرأة بزيها الصارخ وبفسادها المتناهي، ليرجع لنا أبناؤك وبناتك بعد حين قد مسخوا من كل حياء ومن كل خلق، وينادون، ويطالبون بتقليد أولئك الفاجرات الكافرات.
قد يقول أحدكم: أنا لن اذهب إلى تلك البلاد الكافرة ولكن سأذهب إلى بعض البلاد العربية.
فأقول لك، قد علم كل عاقل أن أكثر هذه البلاد فيها من الفساد والشر مثل ما في البلاد الكافرة أو أشد.
فهاهي إعلاناتهم في الصحف والمجلات، لتنشيط السياحة، فحفلات غنائية صارخة، ومسرحيات وأفلام ساقطة، ومراقص ودور للفساد والبغاء.
كل هذا بحجة شيطانية قد زينها الشيطان لأصحابها وأسموها بغير اسمها، وظنوا أن تغيير الأسماء بغير الحقائق، فأسموها بالتنشيط السياحي.
وأدخلوا تحت هذه العنوان كل فاسد ومحرم، واستجلب الشر المستطير والوباء الخطير باسم التنشيط السياحي، وما علموا أنها تنشيط واستجلاب لعذاب الله جل جلاله، وسبب عظيم من أسباب غضب الجبار جل جلاله.
أيها المسلم: يا من تشهد ألا إله إلا الله، محمد رسول الله، كيف تجرؤ على المعصية ورب السموات والأرض ينظر إليك، أما تستحي من خالقك، والله لو قدرت الله حق قدره وعظمته حق تعظيمه لما سطوت على معصية، ولما تجرأت على محاربته بالذنوب والمعاصي.
لا إله إلا الله، سبحانك ما أحلمك، سبحانك ما أرحمك، تطاع فتشكر وتعصى فتغفر.
لا إله إلا الله وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه.
لا إله إلا الله ما أجرأنا على الله وهو يحلم عنا، وأشد تقصيرنا وهو يرزقنا ويعافينا.
لا إله إلا الله، كيف تتجرأ أيها الحقير المسكين على معصية الله، وكيف يجلس فيما حرم عليك وهو ينظر إليك، من أنت عند عظمة الله جل جلاله.(247/2)
فهذا جبريل الذي يقول النبي عنه: ((رأيت جبريل ماداً جناحه قد سد الأفق إلى السماء))، ويقول: ((إن لجبريل ستمائة جناح مخلوق عظيم)) ومع ذلك انظر ماذا يكون عند عظمة الله سبحانه وتعالى يقول رسول الله : ((لما كان ليلة أسري بي رأيت جبريل كالشن البالي من خشية الله تعالى))، وهذا إسرافيل عليه الصلاة والسلام لم يضحك منذ خلقت النار، لأنه عاين العذاب ورأى النار يحطم بعضها بعضاً ويأكل بعضها بعضاً.
إنهم ملائكة عرفوا الله فعظموه فكانوا كما سمعت، أرأيت يا أخي السموات السبع، والأرضون السبع، ما هي في كف الرحمن إلا كما لو ألقى أحدكم درهم في فلاة.
فكيف تجرؤ يا أخي على معصية الله، لقد أهلك الله أمماً بأكملها بسبب ذنوبها ومعاصيهم أفيعجزه سبحانه أن يهلكك وأنت الحقير المسكين، إنها الذنوب والمعاصي، إنها شؤم المعصية.
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح العظيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية.
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة، حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟ حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم. وما الذي رفع قرى اللوطية ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها.
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
إنها الذنوب والمعاصي، فالتوبة التوبة، والرجوع الرجوع، والإنابة الإنابة قبل حلول الآجال، وهجوم هادم اللذات ومفرق الجماعات، واعلموا أن الله يهلك الأمم إذا تتابعوا على المعصية ولم ينكر أحدهم على أحد.
ففي مسند الإمام أحمد من حديث أم سلمة قالت سمعت رسول الله يقول: ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده، فقلت يا رسول الله، هل فيهم يومئذ أناس صالحون؟ قال: بلى، قلت: كيف يُصنع بأولئك ؟ قال يصيبهم ما أصاب الناس بها، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان)).
واعلموا أن الناس والأمم لا تهون على الله حتى يخالفوا أمره، فإذا خالفوا أمره هانوا عليه فأهلكهم.
ففي مسند الإمام أحمد عن جبير بن نفير، قال: لما فتحت قبرص فُرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله فقال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة شاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر لله فصاروا إلى ما ترى.
وذكر ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك أنه دخل على عائشة هو ورجل آخر فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين حديثنا عن الزلزلة فقالت: ((إذا استباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف. غار الله عز وجل في سمائه، فقال للأرض تزلزلي بهم، فإن تابعوا ونزعوا إلا أهدها عليهم)).
وعن سهل سهل بن سعد أن رسول الله قال: ((سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقينات)).
وثبت في صحيح البخاري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ (الزنا) والحرير والخمر والمعازف، لينزلن أقوم إلى جنب علم (أي جبل) يروح عليهم بسارقة لهم يأتيهم – يعني الفقير – لحاجة فيقولوا: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله، و ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)). كل هذا أيها الأخوة لأنهم استحلوا ما حرم الله.
وإن المعصية تكون أقرب إلى المغفرة إذا ما كانت سراً، ولا تضر إلا صاحبها، ولكن البلاء كل البلاء أن يعلن المحرم وتعمل له الدعايات.
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا أخفيت الخطيئة فلا تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تغير تضر العامة)).
اللهم رد المسلمين إليك رداً جميلاً، الله عاملنا بصفحك وكرمك وجودك وحلمك، فنحن المذنبون والعصاة المقصرون، تبنا إليك ورجعنا إليك استغفر الله، استغفر الله، استغفر الله الحليم الكريم ذا الصفح الجميل والكريم العظيم يحلم عن عباده ويعفوا عنهم.
بارك الله لي ولكم..(247/3)
الإخطبوط اليهودي
ما يزال الكيد اليهودي كامناً في قلوب اليهود، هذا الكيد ليس على المسلمين فحسب؛ بل على دول العالم أجمع، وإن كان الكيد مركَّزاً على المسلمين أكثر، إن الصراع القائم اليوم والذي تقوده إدارة كبراء الكفر من أسبابه الكبرى أيادي الموساد اليهودي المسيطر على أخطر مواقع القرار فيها.
ويُريد اليهود من خلال السيطرة على مواقع القرار في تلك البلاد،، الهيمنة على العالم، وبالأخص العالم الإسلامي، وخصوصاً بلاد بيت المقدس؛ ليتحقق حلمهم الأكبر: مملكة إسرائيل الكبرى!. ويتم ذلك عن طريق الإخطبوط السري الذي يطلق عليه الماسونية، الذي يتجسس على شعوب العالم؛ ليأخذ نقاط الضعف على الدول؛ حتى يتمكن من ضرب أي دولة في الصميم متى ما شاءت الإدارة اليهودية.
وسنتطرق في موضوعنا هذا إلى بيان المخاطر العالمية للحركة السرية التي أنشأها اليهود لتخريب العالم، وهذه الحركة يُطْلَقُ عليها: الماسونية.
تُعتبر((1) الماسونية أو البنَّاؤون الأحرار(Freemasons)أقدم جمعية سرية في العالم وأعمقُها تأثيراً في مجرى أحداث التاريخ.ولقد اختلف المؤرِّخُون في تحديد تاريخ نشأتها، فمنهم مَنْ قال بأنها لا ترجعُ إلى ما وراء القرن الثامن عشر،ومنهم من ردَّها إلى عهد بناء هيكل سليمان.والمُؤرِّخُون الذين قالُوا بأنها لا ترجعُ إلى ما وراء القرن الثامن عشر أكَّدوا بأنَّ الماسونيَّة تكوَّنت مع بداية القرن الثامن عشر من مجموعةٍ من كبار المفكِّرين والعلماء الذين كفروا بتعاليم المسيحية، فجاءت حركتهم كردة فعل على سلطان الكنيسة الواسع آنذاك. فلقد كانوا يجاهرون بحرية الإنسان التامة، واستقلاله من كل سلطة عليا (كسلطة الكنيسة). وكانوا يبغضون كل البغض الشرائع وكل النظم للهيئة الاجتماعية وعلى الأخص القوانين الكنسية.
لقد حافظت الحركة الماسونية على سريتها منذ إنشائها ؛ فكانت تحرص على ألا تكشف سرها إلا للذين اختبرتهم زمناً طويلاً. وكانت تعمل في الخفاء جاهدة، مستغلة بعض الفلاسفة الملحدين، أمثال: فولتير وروسو ودلمار وفريدريك ملك بروسيا، الذين وجدت فيهم أنصاراً تكاتفوا في هدم أركان الدين، وتخريب الممالك والعروش. وهكذا استمرت بعملها المنظم موجهة أغلب اهتمامها لإضعاف سلطه الكنيسة؛ حتى تمكنت من ضرب وحدتها سنة 1717 وظهور البروتستنتين. عندئذٍ أعاد الماسُون تنظيمَ حركتهم وغيَّروا فيها لتناسبَ الجوَّ البروتستانتيَّ الذى قرروا أنْ يُؤيِّدُوه ضدَّ الكاثوليكية، تكملةً لمخططهم الذي وضعوه لضرب المسيحيين. فأسسوا في ذلك العام محفل بريطانيا الأعظم، وأطلقوا على أنفسهم البنائين الأحرار بعد أن كانوا فيما سبق يحملون اسم (القوة المستورة).
وجعلوا من أهداف الماسونية الجديدة أو شعارها: الحرية، الإخاء، المساواة..!!
ومن بريطانيا انتشرت الماسونية، فتأسس بإشراف محفل بريطانيا الأعظم:
- أول محفل ماسوني في جبل طارق سنة 1728.
- أول محفل ماسوني في باريس سنة 1732
- أول محفل ماسوني في ألمانيا سنة 1733 .
- أول محفل ماسوني في أمريكا سنة 1733 .
- أول محفل ماسوني في سويسرا سنة 1740 .
- أول محفل ماسوني في الهند سنة 1752 .
- أول محفل ماسوني في ايطاليا سنة 1763 .
- أول محفل ماسوني في روسيا سنة 1771 .
النورانية:
في منتصف القرن الثامن عشر كانت حالة اليهود في أوروبا يُرثى لها؛ ولقد لقي هؤلاء من المسيحيين ما لم يلقه أحد. فلقد كان الصراع بين اليهودية والمسيحية صراعاً عقائدياً ودموياً. فكان المسيحيون في أوروبا يضطهدون اليهود ويلاحقونهم ويطاردونهم في كل مكان وجدوا فيه؛ ولقد ذبحوهم عدة مرات ونشروا الرعب في صفوفهم وبخاصة في القرن الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر .. عندئذٍ-أي مع مطلع العقد السابع من القرن الثامن عشر-اجتمع عددٌ من كبار الحاخامين والمديرين والحكماء ، وقرروا أن يُؤسسوا مجمعاً سرياً يعملُ على تخليصهم من هذا الوضع المزري ويعيد إليهم حقَّهم المسلوبَ، وسلطانهم ومجدهم الموهوب من قبل الرب كما يزعمون! ولقد سموا هذا المجمع بالمجمع النوراني ( The illuminati)2. وكان المجلس الأعلى للمجمع النوراني مُؤلَّفاً من ثلاثة عشر عضواً.3
ويشكل هؤلاء اللجنة التنفيذية لمجلس الثلاثة والثلاثين4. وكان النورانيون يجبرون كل عضو جديد ينضم إلى صفوفهم على أن يحلف أيماناً مغلظة بالخضوع المطلق الشامل لرئيس مجلس الثلاثة والثلاثين والاعتراف بمشيئته مشيئة عُليا لا تفوقها أيةُ مشيئةٍ أُخرى على الأرض، كائنةً مَنْ كانت.
شعار النُّورانيين:
- الهرم: يرمز إلى المؤامرةِ الهادفةِ إلى تحطيمِ الكنيسةِ الكاثوليكيةِ (كممثلةٍ للمسيحيَّةِ العالميَّةِ) وإقامة حكم ديكتاتوري تتولاهُ حكومةٌ عالميَّةٌ على نمط الأُممِ المتحدةِ!.(248/1)
- العين: التي في أعلى الهرم ترسل الإشعاعات في جميع الجهات: ترمز إلى وكالة تجسس وإرهاب، أسسها وايزهاوبت على نمط الغستابو تحت شعار الأخوة! لحراسة أسرار المنظمة، وإجبار الأعضاء على الخضوع لقوانينها.
- الكلمتان المحفورتان في أعلى الشعار (Annuit Coeptis) تعنيان: مهمتنا قد تكللت بالنجاح.
- الكلمات المحفورة في أعلى الشعار (Novus Ordo Seclorum) معناها: النظام الجديد.
وأخيراً تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الشعار لم يتبنَّ من قبل الماسونية إلا بعد دمج أنظمتها بالأنظمة النورانية إبان مؤتمر فلمسباد سنة 1782 م.
ملاحظة: هذا الشعار هو الذي تبناه وايزهاوبت عندما أسس منظمة في أيار 1776 وهو نفسه الذي يظهر على أحد وجهي الدولار الأمريكي. والتاريخ الذي تعنيه الأرقام المحفورة على قاعدته بالحرف الروماني (MOCCLXXVI) تعني 1776 تاريخ إعلان إنشاء المنظمة وليس تاريخ إعلان وثيقة الاستقلال الأمريكي!.
النورانية تخترق الماسونية وتُسيطرُ عليها:
في عام 1773 دعا ماير روتشيلد اثني عشر رجلاً من كبار الأغنياء والمتنفذين لملاقاته في فرانكفورت، وكان الهدف من وراء هذا الاجتماع هو إقناع هؤلاء بضرورة تنسيق الأمور فيما بينهم، وتجميع ثرواتهم، وتأسيس مجموعة واحدة تمكنهم من تمويل الحركة الثورية العالمية، فيستخدمونها للوصول إلى الهدف الأسمى عندهم، ألا وهو السيطرة على الثروات والموارد الطبيعية واليد العاملة في العالم بأجمعه.. ولقد انتهى هذا الاجتماع بإقناع أغلبية المجتمعين بفكرة ماير. بعد ذلك أمد ماير رجلاً يدعى آدم وايزهاوبت بالمال ليضع مخططاً على أسس حديثة يستهدف تحقيق أهداف المجتمع النوراني وتطوير محافله. فقام هذا بمهمته (شرَّ) قيام إذ نظم سنة 1776 جماعة يبلغ عددهم نحو ألفي شخص، في محافل سماها محافل النورانيين، واختار وايزهاوبت أنصاره من علية القوم، زاعماً أن الهدف من ذلك هو إنشاء حكومة عالمية واحدة، من ذوي القدرات والكفاءة والذكاء؛ لتحكم العالم حكماً خيِّراً رشيداً، ووضع حد للحروب والعصبية والويلات. ولكن الهدف من ذلك كان درس التسلل إلى قلب الماسونية الأوروبية، والإفادة من تغلغلها وسريتها في التمهيد لكنيس الشيطان للسيطرة على العالم.
لقد قرر النورانيون محفل الشرق الأكبر في مدينة انغولدشتان بألمانيا، مركزاً لانطلاق حملة تغلغل المنظمة في قلب الماسونية الأوروبية في كل مكان.. في هذا الوقت ، كان وايزهاوبت قد وضع مخططه الذي كان يستدعي تدمير جميع الحكومات والأديان الموجودة، وذلك عن طريق خلق معسكرات متناحرة ومتصارعة في المجتمعات غير اليهودية التي يسمونها الجوييم (لفظة يطلقها اليهود على جميع البشر من الأديان الأخرى) وإبقائها في حالة حرب حتى تضعف جميعها وتكفر بكل القوانين والأديان ، فيصبح من السهل على هؤلاء الشياطين أن يسيطروا على تلك الشعوب المنهكة ويسيروها كيفما شاؤوا .. وكانت خطة وايزهاوبت تقتضي اتباع الخطوات الآتية:
1- استعمال الرشوة بالمال والجنس للوصول إلى السيطرة على الأشخاص الذين يشغلون المراكز الحساسة في جميع الحكومات، وفي مختلف مجالات النشاط الإنساني!!.
2- حث النُّورانيين على العمل كأساتذة في الجامعات والمعاهد العلمية ليتسنَّى لهم اصطياد الطلاب النابغين والمتفوقين من الأسر العريقة، فيغررونهم بأنفسهم بحكم تفوقهم، ويعطونهم الشهادات والرتب والألقاب والمنح!! ثم يقنعونهم بفكرتهم ويضمونهم إلى المحافل النورانية!.
3- تدريب الشخصيات ذات النفوذ، والطلاب المتفوقين الذين تم اصطيادهم، ومساعدتهم بكل الوسائل على تولي أخطر المراكز الحساسة لدى جميع الحكومات! بحيث يكون في إمكانهم توجيه سياسة تلك الحكومات بشكلٍ يخدم-على المدى البعيد- مخططات المجمع النوراني في القضاء على جميع الأديان والحكومات!.
وهكذا، وعلى هذا الأساس بدأت النورانية بتطبيق مخططاتها وترجمتها عملياً على الأرض، عاملة على جبهتين: الجبهة الأولى وهي جبهة الشعب، وتطبق فيها خطة وايزهاوبت الآنفة الذكر، والجبهة الثانية وهي جبهة الحركة الماسونية بالأجهزة النورانية، وذلك سنه 1782 وهكذا تمكنت النورانية اليهودية بإشراف موسى مندلسوهي، من النفاذ إلى قلب الماسونية الأوروبية الحرة على يد آدم وايزهاوبت، تحت ستار محفل الشرق الأكبر!.
أما بالنسبة للجبهة الأولى: فلمَّا كانت فرنسا وإنكلترا أعظم قوتين في العالم في تلك الفترة، أصدر وايزهاوبت أوامره بإثارة الحروب الاستعمارية من أجل إنهاك بريطانيا وإمبراطوريتها، والعمل على تنظيم ثورة كبرى يتم التخطيط لها؛ من أجل إنهاك فرنسا. ولكن في سنة 1784 ولسوء حظ وايزهاوبت، وقع مخططه الذي وضع على شكل وثيقة في أيدي رجال أمن تابعين لحكومة بافاري5، وذلك في منطقة راتسبون (RATTSBONO) في طريقها من فرانكفورت إلى عملاء وايزهاوبت في باريس، الذين أوفدهم إلى فرنسا لتدبير الثورة فيها.(248/2)
وعلى أثر اكتشافها تلك الوثيقة أمرت حكومة بافاريا بإغلاق محفل الشرق الأكبر عام 1785 واعتبرت جماعة النورانيين خارجين عن القانون.. ومنذ ذلك الوقت انتقل نشاط النورانية إلى الخفاء؛ وأصدر وايزهاوبت تعاليمه إلى أتباعه بالهجرة إلى سويسرا وفرنسا والعمل مع رفاقهم في الماسونية الحرة من أجل نجاح مخططه من هناك.. وبالتقاء ماسونية الشرق الأكبر النورانية مع الماسونية الغربية الحرة جرت منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا الأحداث الكبرى في أوروبا وأمريكا بصورة خاصة، وفي العالم كله بصورة عامة، وبشكلها الذي جرت وتجري فيه!!.
تحذيرات ضائعة والمؤامرة مستمرة:
عندما انتقل أتباع وايزهاوبت إلى سويسرا وفرنسا والتقوا برفاقهم في الماسونية الحرة، كانت النورانية في ذلك الوقت قد سيطرت سيطرة تامة على الماسونية ومحافلها كما ذكرنا، وفرضت عليها مبادئها وأدخلت إليها طقوسها الخاصة (تنظيمها الإداري، إدارة الاجتماعات، الدرجات والرتب والألقاب).
وهناك بدأ العمل المشترك بالخفاء لتنفيذ مخطط وايزهاوبت. لقد اتبع هؤلاء في عملهم هذا كل الأساليب، مستفيدين من كل الأوراق التي يمتلكونها، مستعملين أدنا الوسائل وأحقرها من أجل الوصول إلى أهدافهم، ذلك أن هؤلاء -ومن ورائهم موجهوهم حكماء النورانية- يؤمنون بمبدأ: الغاية تبرر الوسيلة.. وهكذا فلم يأت عام 1789 حتى اندلعت الثورة في فرنسا وسقط الملك، وسقطت الملكة ودفعا رأسيهما ثمن تجاهلهما لتحذيرات الحكومة البافارية 6. وكما حذرت حكومة بافاريا حكومات فرنسا وإنجلترا وروسيا من خطر هؤلاء فلقد حذر منهم حتى بعض الماسونيين الذين كانوا من رؤساء الماسونية الحرة؛ والذين أحسوا بخطر هؤلاء على حركتهم بشكل خاص وعلى العالم بشكل عام! تجرؤوا -وبدافع غيرتهم على بلادهم وشعبهم- على البوح بأسرار هؤلاء ومخططاتهم. ولطالما حذروا منهم,ففي عام 1789 عام انفجار الثورة في فرنسا حذَّر جون روبسون7 الزعماء الماسونيين من تغلغل جماعة النورانيين في محافلهم، ولكن تحذيره هذا لم يسمع.
وفي عام 1798 عمد روبسون إلى نشر كتاب أسماه (البرهان على وجود مؤامرة لتدمير كافة الحكومات والأديان)8 ولكن هذا التحذير تُجوهل كما تُجوهلت التحذيراتُ التي سبقتْهُ، وفي التاسع عشر من تموز 1798، أدلى دافيد باين، رئيس جامعة هارفارد، بنفس التحذير إلى المتخرِّجين في أمريكا. وفي عام 1826 حذَّر الكابتن وليام مورغان (أحد رؤساء ومنظمي الماسونية الحرة في أمريكا) بقية رفاقِهِ الماسونيين والرأي العام وأعلمهم وشرح لهم الحقيقة فيما يتعلَّقُ بالنُّورانيين ومخططاتهم السرية وهدفهم النهائي، ولكن النورانيين استطاعُوا أنْ يتخلَّصوا منه عن طريق أحد عملائهم، وهو الانجليزي ريتشارد هوارد، الذي تمكن من اغتيال مورغان على مقربة من وادي نياغارا على الحدود الكندية. وعلى الرغم من أن هذا الحادث أدى آنذاك إلى استياء وغضب ما يقرب من 40% من الماسونيين في شمالي أمريكا وهجرهم للماسونية، فلقد تمكن هؤلاء القائمون على تلك المؤامرة -بحكم نفوذهم- من طمس تلك الأحداث، والتشويش على كل التحذيرات التي كانت تصدر بين الحين والآخر، وحذف حوادث بارزة كثيرة من مناهج التدريس التي تدرس في المدارس الأمريكية وغيرها.. وهكذا تنسى التحذيرات والمحذرون وتتجاهل، وتبقى المؤامرة .9
تلك المخططات كانت في تلك الفترات، فأما في أيامنا هذه فقد حققوا كثيراً من أهدافهم خصوصاً في البلاد العربية والإسلامية، ولا أدل على ذلك من وثبة السرطان اليهودي على قلب العالم الإسلامي، وتحكمه في تلك الدول المجاورة والبعيدة إلى هذه اللحظة، ونجاحه في الضغط عليها بنقاط ضعف دبرت منذ زمن، ولا يزال العرب والمسلمون في غفلة وتجاهل لهذه المخططات، وكأنها في نظرهم أحلام ليل؛ ولا يحرك ذلك لحُكَّامِهم وزعمائهم ساكناً، كيف يُحرِّكُ ذلك لهم ساكناً وهم يتعاونون مع إسرائيل سِرَّاً وجهراً، وما أحداث الضغط على الدول العربية الحالية عنا ببعيدٍ، حيث تُلوِّح إسرائيل اليوم وتعلن في صحفها ووسائل إعلامها عن قرب الموعد من تطبيع دول عربية علاقات ودية! معها، بينما كان يعد ذلك في يوم من الأيام جريمة لا تغتفر!!..
إن مخططات اليهود ماضية في طريقها على قدم وساق، وحلمهم في تحقيق مملكتهم المزعومة جارٍ على خطة مدبرة تنفذ تنفيذاً دقيقاً، وكان حلمهم الوصول إلى الفرات ودجلة (بلاد الرافدين) ولقد وصلوا أخيراً وتحقق لهم ما يشاؤون، واحتلوا بغداد عاصمة الخلافة بمعاونة من الدول المختلفة -أو بالأصح المتخلِّفة- التي تسعى لذبح نفسها بيدها، وتتسابق لهدم بيوتها بأيديها، وأيدي أصدقائها وأشقائها من اليهود والنصارى!..(248/3)
وسيظل المخطط هذا قائماً ما دمنا لم نفقه حقيقته وأسراره، أو أنا عرفناه ولكنا لم نلق لذلك بالاً! وسيأتي الدور على الجميع، فبالأمس فلسطين، واليوم بغداد، وغداً سوريا وو..، وكل بطاح من الناس لهم يوم بطوح!، وما دامت الجيوش الأمريكية تسرح وتمرح في بلاد العرب فما الصعوبة في اللعب بنا متى ما شاءوا، وكيف شاؤوا؟ فلم يعد لنا من الأمر شيء ولا يسمع لقرارنا، فالأمر أمرهم، والقرار قرارهم، ونحن لم تعد لدينا القدرة الكافية لصد عدوانهم، أو لرد كيدهم إن هم كادوا بنا وانقلبوا على البلدان التي احتضنتهم وآوتهم وزودتهم، إلا مجرد ما نقوم به من عرض فخري لقواتنا الباسلة، وعضلاتنا الورقية!.. وما العزة والقوة والنصرة إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم.
نسأل الله أن يجنب بلاد المسلمين مكر اليهود، وأن يصد عنا كيدهم وعدوانهم، إنه هو القوي العزيز.
________________________________________
1- من هنا نقلاً عن مجلة البيان. العدد33 ص34.
The illuminati 2 أي المجمع النوراني : وكلمة نوراني مشتقة من كلمة ( لوسيفر ) Lucifer التي تعني حامل الضوء، وهكذا فإن المجتمع النوراني قد أنشئ لتنفيذ الإيحاءات التي يتلقاها كبار الحاخامين من لوسيفر خلال طقوسهم الخاصة.
3- تجدر الإشارة هنا بأن بني إسرائيل تتألف من ثلاث عشرة قبيلة.
4- وهي نسبة إلى الرتبة 33 ، وهي من أعلى الرتب التي يمكن أن يصل إليها النوراني .
5- كانت بافاريا حتى عام 1870 ، إحدى كبريات الدول الجرمانية المستقلة، ثم انضمت في عام 1870 إلى الاتحاد الذي أسسه بسمارك.
6- نخشى -لا سمح الله- من سقوط كثير من الدول العربية والإسلامية في أيدي اليهود كما سقطت فرنسا قديماً، بسبب تجاهل أصحاب القرار والسيادة التحذيرات المتكررة التي يرددها علماء الإسلام ودعاته وجميع المثققين والعاملين في الساحة العربية والإسلامية عن خطر الحركات السرية اليهودية التي تعمل في بلداننا، وبسبب ما تتسابق عليه تلك الدول من التقرب إلى اليهود عن طريق التطبيع معهم دونما خوف من الله أو حياء من بشر!. وهذا قد بدأ يلوح في الأفق، والأحداث الحالية لا يحسدنا عليها أحد!.
7- روبسون : أحد كبار الماسونيين في اسكتلندا وأستاذ الفلسفة الطبيعية في جامعة أدنبرة وأمين سر الجمعية الملكية فيها.
8- طبع هذا الكتاب في لندن، ولا تزال بعض المتاحف محتفظة بنسخ منه (المتحف البريطاني).
9- نقلا عن موضوع حركات سرية هدامة لمازن عبد الله في (مجلة البيان) عدد33 صفحة 34. بتصرف.(248/4)
الإخلاص وفوائده
الخطبة الأولى
أما بعد. . .
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه فإنه تعالى أمركم بذلك فقال: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?(1). أيها الإخوة الكرام إن الله تعالى خلق الخلق لعبادته وبعث الرسل إلى الناس ليعبدوه وحده لا شريك له قال تعالى: ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ?(2) وقال جل ذكره: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ?(3) وقال تعالى: ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?(4).
وعبادة الله سبحانه وتعالى لا تقوم إلا بالإخلاص له. فالإخلاص هو حقيقة الدين ولب العبادة وشرط في قبول العمل وهو بمنزلة الأساس للبنيان وبمنزلة الروح للجسد ولذلك لما كانت أعمال الكفار لا توحيد فيها ولا إخلاص جعلها الله تعالى هباءً منثوراً قال تعالى: ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً?(5) وهذا الإبطال والإحباط نصيب كل من لم يخلص العمل لله تعالى وقصد غيره قال تعالى: ?مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُون صدق الله العظيم أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?(6) فيا خيبة من جاء بأعمال مثل الجبال يجعلها الله هباء منثوراً ويكبه على وجهه في النار فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار))(7) نعوذ بالله من الخذلان.
فسبحان من لا تخفى عليه خافية بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فإن المرء مهما ضلل الناس وخدعهم ظاهره وصورته فإن هذه الظواهر والصور وهذا التزييف والتضليل لا يغني عنه شيئاً. أما عند الله تعالى فقد قال في كتابه: ?إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ?(8) وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))(9) أما الناس فسرعان ما ينكشف الستار وتبدو الحقيقة للأنظار إما في الدنيا أو في دار القرار قال الله تعالى: ?فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ?(10).
__________
(1) النساء: 1.
(2) البينة: 5.
(3) الأنبياء: 25.
(4) النحل: 36.
(5) الفرقان: 23.
(6) هود: 15-16.
(7) أخرجه مسلم في الإمارة برقم 1905.
(8) النساء: 142.
(9) أخرجه مسلم في البر والصلة برقم 2564.
(10) الرعد: 17.(249/1)
أيها المسلمون اعلموا أن من أعظم أسباب تخلف الإخلاص وغيابه في الأعمال هو طلب الدنيا أو محبة المدح والثناء قال ابن القيم رحمه الله: (لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت) قال رحمه الله: (فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك يقينك أنه ليس شيء يطمع فيه إلا هو بيد الله وحده لا يملكه غيره ولا يؤتي العبد منه شيئاً سواه وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده قال ذلك الأعرابي للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن مدحي زين وذمي شين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ذلك الله عز وجل))(1) فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذم من لا يشينك ذمه وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه.
فإذا جاهد العبد نفسه حتى زهد في الدنيا وفي مدح الناس وثنائهم وقصد الله في عمله كان من أهل الإخلاص الذين أعمالهم كلها لله تعالى وأقوالهم لله وحبهم لله وبغضهم لله فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده لايريدون بذلك من الناس جزاءً ولا شكوراً ولا ابتغاء الجاه عندهم ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم ولا هرباً من ذمهم وبهذا تكون أقوى الناس لأن وليك حينئذ هو مولاك القوي المتين وبهذا تكون من أهل الكرامة في هذه الدار وفي دار الجزاء.
الخطبة الثانية
أما بعد. . .
أيها المسلمون إن لإخلاص العمل لله تعالى فوائد كثيرة أذكر بعضها عسى أن تكون حافزة لنا إلى مزيد من الاجتهاد والعمل في تحقيق الإخلاص لله تعالى في الأقوال والأعمال. اعلموا أن من فوائد الإخلاص أن الأقوال و الأعمال لا تقبل إلا إذا صاحبها الإخلاص فالأعمال مهما حسن أداؤها إذا لم يصاحبها إخلاص لله تعالى فهي مردودة حابطة فعن أبي أمامة مرفوعاً: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه))(2) وكذلك الأقوال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصف من أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة: ((من قال: لا إله إلا الله خالصاًمن قلبه))(3).
ومنها: أن الإخلاص سبب لقوة القلب ورباطة الجأش وتحمل أعباء العبادة وتكاليف الدعوة ولو تأمل الواحد منا حال بعض المخلصين الصادقين لتبين له ذلك فمن ذلك رباطة جأش النبي صلى الله عليه وسلم وقوته مع توافر أسباب الهلاك عليه حيث قال لصاحبه وهو في الغار: ?إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا?(4) فالإخلاص والصدق مع الله تعالى يعين على النهوض بالحق ومجابهة الباطل مهما عظمت قوة الباطل فهذا نبي الله هود لم تكن له آية بارزة كما كان لغيره من الأنبياء دعا قومه إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه فجادله قومه وقالوا كما قص الله علينا نبأهم في كتابه: ?قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون صدق الله العظيم مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ?(5).
ومنها: أن من فوائد الإخلاص التخلص من كيد الشيطان وتسلطه قال الله تعالى إخباراً عما قاله إبليس لما طلب أن ينظره رب العالمين: ?إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ?(6).
ومنها أنه سبب لصرف السوء والفحشاء قال تعالى في قصة يوسف: ?وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ?(7).
__________
(1) الترمذي تفسير القرآن من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه بلفظ: " إن حمدي زين .." برقم 3267 وأخرجه أحمد في مسنده من حديث الأقرع بن حابس رضي الله عنه بلفظ: "إن حمدي زين .." برقم 15561.
(2) أخرجه النسائي في الجهاد برقم 3140.
(3) أخرجه البخاري في العلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم 99.
(4) التوبة: 40.
(5) هود: 53-55.
(6) الحجر: 40.
(7) يوسف: 24.(249/2)
ومنها أن العمل القليل مع الإخلاص سبب للفوز برضا الله تعالى ومن أمثلة ذلك قوله: - صلى الله عليه وسلم - ((اتقوا النار ولو بشق تمرة))(1) فشق التمرة مع الإخلاص يقي النار بمنة الكريم المنان وأطنان التمر مع الرياء تولج أسفل النيران قال تعالى: ?إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً?(2).
قال ابن القيم رحمه الله:
والله لا يرضى بكثرة فعلنا ... لكن بأحسَنه مع الإيمان
فالعارفون مرادهم إحسانه ... والجاهلون عموا عن الإحسان
بقي من الفوائد أن العبد ينصر بإخلاصه قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه النسائي عن مصعب بن سعد رأى سعد بن أبي وقاص أن له فضلاً على من دونه: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم))(3).
أيها الإخوة المؤمنون اعلموا وفقكم الله أن الأعمال والطاعات لا تتفاضل بصورها وعددها وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض والرجلان يكون مقامهما في الصف واحداً وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها))(4) فيا إخواني عليكم بتصحيح النيات والأعمال لله تعالى.
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه برقم 1417.
(2) النساء: 145.
(3) أخرجه النسائي في الجهاد برقم 3127.
(4) أخرجه أبو داود في الصلاة برقم 675.(249/3)
الإخلاص
1479
أعمال القلوب
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
ملخص الخطبة
1- لا يقبل الله العمل إلا إذا كان خالصاً. 2- ما هو الإخلاص. 3- النية مع العادة تجعلها عبادة. 4- تفاضل الأعمال بعمل القلوب. 5- خوف السلف الصالح من الرياء. 6- الأخفياء بصالح العمل. 7- المسمعون بأعمالهم المرءون بها. 8- ثلاث مسائل دقيقة في الرياء والإخلاص.
الخطبة الأولى
أيها المسلمون: إن الإخلاص هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة المرسلين قال تعالى: ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله قال الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه)) [رواه مسلم].
وقال : ((من تعلم علماً بما يبتغي به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة (يعني ريحها) يوم القيامة)) [رواه أبو داود]. والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً.
أيها الأخوة في الله: قد يقول قائلكم ما هو الإخلاص الذي يأتي في الكتاب والسنة واستعمال السلف الصالح رحمهم الله.
فأقول: لقد تنوعت تعاريف العلماء للإخلاص، ولكنها تصب في معين واحد ألا وهو أن يكون قصد الإنسان في حركاته وسكناته وعباداته الظاهرة والباطنة، خالصة لوجه الله تعالى، لا يريد بها شيئاً من حطام الدنيا أو ثناء الناس.
قال الفضل بن زياد سألت أبا عبد الله يعني الإمام أحمد بن حنبل عن النية في العمل، قلت كيف النية: قال يعالج نفسه، إذا أراد عملاً لا يريد به الناس.
قال أحد العلماء: نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا. أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى لا يمازجه نفسٌ ولا هوىً ولا دنيا.
أيها المسلمون: إن شأن الإخلاص مع العبادات بل مع جميع الأعمال حتى المباحة لعجيب جداً، فبالإخلاص يعطي الله على القليل الكثير، وبالرياء وترك الإخلاص لا يعطي الله على الكثير شيئاً، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله به كبائر الذنوب كما في حديث البطاقة، وحديث البطاقة كما أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله : ((يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مدّ البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقال: أفلك عذر أو حسنة فيها؟ فيقول الرجل: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها، أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة)) [صححه الذهبي].
قال ابن القيم رحمه الله: فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض. قال: وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مدّ البصر تثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب. ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه. أهـ. رحمه الله.
ومن هذا أيضاً أيها الأخوة حديث الرجل الذي سقى الكلب، وفي رواية: بغي من بغايا بني إسرائيل.
فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرجه فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفّه ماءً ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر)) [متفق عليه].
وفي رواية البخاري: ((فشكر الله له فغفر له فأدخله الجنة)).
ومن هذا أيضاً ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو أيضاً عن النبي قال: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين))، وفي رواية: ((مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأُدخل الجنة)).
قال شيخ الإسلام رحمه الله معلقاً على حديث البغي التي سقت الكلب وحديث الرجل الذي أماط الأذى عن الطريق قال رحمه الله: فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلباً يغفر لها.
فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال.
أيها الأخوة: وفي المقابل نجد أن أداء الطاعة بدون إخلاص وصدق مع الله، لا قيمة لها ولا ثواب فيها، بل صاحبها معرض للوعيد الشديد، وإن كانت هذه الطاعة من الأعمال العظام كالإنفاق في وجوه الخير، وقتال الكفار، وقيل: العلم الشرعي.(250/1)
كما جاء في حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به، فعرفه نعمته فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال: جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به يعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت؟ قال تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكن تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من صنوف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ألا أنفقت فيها قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)) [رواه مسلم].
أيها الأخوة في الله: ولذلك فقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله أشد الناس خوفاً على أعمالهم من أن يخالطه الرياء أو تشوبها شائبة الشرك. فكانوا رحمهم الله يجاهدون أنفسهم في أعمالهم وأقوالهم، كي تكون خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى.
ولذلك لما حدث يزيد بن هارون بحديث عمر : ((إنما الأعمال بالنيات)) والإمام أحمد جالس، فقال الإمام أحمد ليزيد: يا أبا خالد هذا الخناق.
وكان سفيان الثوري يقول: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي لأنها تتقلب علي.
وقال يوسف بن أسباط، تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
وقال بعض السلف: من سره أن يكمُل له عمله، فليحسن نيته، فإن الله عز وجل يأجر العبد إذا أحسنت نيته حتى باللقمة.
قال سهل بن عبد الله التستري: ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب.
وقال ابن عيينة: كان من دعاء مطرف بن عبد الله: اللهم إني استغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمت.
وهذا خالد بن معدان كان رحمه الله: إذا عظمت حلقته من الطلاب قام خوف الشهرة.
وهذا محمد بن المنكدر يقول: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت.
وهذا أيوب السختياني كان يقول الليل كله فإذا جاء الصباح (أي الفجر) رفع صوته كأنه قام الآن.
وكان رحمه الله إذا حدث بحديث النبي يشتد عليه البكاء (هو في حلقته) فكان يشد العمامة على عينه ويقول: ما أشد الزكام ما أشد الزكام.
وهذا عبد الواحد بن زيد يخبرنا بحدث عجيب حصل لأيوب، وقد عاهده ألا يخبر إلا أن يموت أيوب إذ لا رياء حينئذ، قال عبد الواحد كنت مع أيوب فعطشنا عطشاً شديداً حتى كادوا يهلكون، فقال أيوب: تستر عليّ؟ فقلت: نعم إلا أن تموت.
قال عبد الواحد فغمز أيوب برجله على حرّاء فنبع الماء فشربت حتى رويت وحملت معي.
*وقال أبو حازم: لا يحسن عبد فيما بينه وبين ربه إلا أحسن الله ما بينه وبين العباد.
ولا يعور ما بينه وبين الله إلا أعور الله ما بينه وبين العباد، ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها.
وهذا داود بن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان له دكان يأخذ طعامه في الصباح فيتصدق به فإذا جاء الغداء أخذ غداءه فتصدق به فإذا جاء العشاء تعشى مع أهله.
وكان رحمهم الله يقوم الليل أكثر من عشرين سنة ولم تعلم به زوجته، سبحان الله انظر كيف ربّوا أنفسهم على الإخلاص وحملوها على إخفاء الأعمال الصالحة، فهذا زوجته تضاجعه وينام معها ومع ذلك يقوم عشرين سنة أو أكثر ولم تعلم به، أي إخفاء للعمل كهذا، وأي إخلاص كهذا.
فأين بعض المسلمين اليوم الذي يحدث بجميع أعماله، ولربما لو قام ليلة من الدهر لعلم به الأقارب والجيران والأصدقاء، أو لو تصدق بصدقة أو أهدى هدية، أو تبرع بمال أو عقار أو غير ذلك لعلمت الأمة في شرقها وغربها، إني لأعجب من هؤلاء، أهم أكمل إيمانا وأقوى إخلاصاً من هؤلاء السلف بحيث أن السلف يخفون أعمالهم لضعف إيمانهم، وهؤلاء يظهرونها لكمال الإيمان؟ عجباً ثم عجباً، فإني أوصيك أخي المسلم إذا أردت أن يحبك الله وأن تنال رضاه فما عليك إلا بصدقات مخفية لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك فضلاً أن يعلمه الناس. وما عليك إلا بركعات إمامها الخشوع وقائدها الإخلاص تركعها في ظلمات الليل بحيث لا يراك إلا الله ولا يعلم بك أحد.
إن تربية النفس على مثل هذه الأعمال لهو أبعد لها عن الرياء وأكمل لها في الإخلاص. وقد كان محمد بن سيرين رحمه الله يضحك في النهار حتى تدمع عينه، فإذا جاء الليل قطعه بالبكاء والصلاة.
اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، واجعلها خالصة لك، صواباً على سنة رسولك آمين، قلت: ما قد سمعتم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الأخوة في الله: اعلموا أن الإخلاص ينافيه عدةُ أمورٍ من حب الدنيا والشهرة والشرف والرياء، والسمعة والعجب.(250/2)
والرياء هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس فيحمدوا صاحبها، فهو يقصد التعظيم والمدح والرغبة أو الرهبة فيمن يرائيه.
وأما السمعة فهي العمل لأجل سماع الناس.
وأما العجب فهو قرين الرياء، والعجب أن يعجب الإنسان بعبادته ويرى نفسه بعين الإعجاب وكل هذه من مهلكات الأعمال.
وهناك أيها الأخوة مسالك دقيقة جداً من مسالك الرياء يوقع الشيطان فيها العبد المؤمن من حيث يشعر أو لا يشعر، وسأذكر لك بعضها لأن الحديث عن الرياء والعجب وغيرهما مما ينافي الإخلاص حديث طويل جداً، ولكن حسبي في هذا المقام أن أورد لك ثلاثة من تلك المسالك الدقيقة للرياء، وهذه المسالك غالباً يقع فيها الصالحون إلا من رحمه الله.
أما أولها: فما ذكره أبو حامد الغزالي حيث قال أثناء ذكره للرياء الخفي: "وأخفى من ذلك أن يختفي العامل بطاعته، بحيث لا يريد الإطلاع، ولا يسّر بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدأوه بالسلام، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه، وأن ينشطوا في قضاء حوائجه، وأن يسامحوه في البيع والشراء، وأن يوسعوا له في المكان فإن قصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه.
ووجد لذلك استبعاداً في نفسه، كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها مع أنه لم يطلع عليه، ولو لم يكن قد سبق من تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه. وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر ولا يسلم منه إلا الصديقون".
وأما ثانيها: فهو أن يجعل الإخلاص لله وسيلة لا غاية وقصداً، فيجعل الإخلاص وسيلة لأحد المطالب الدنيوية.
وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على تلك الآفة الخفية فكان مما قال رحمه الله:- "حكى أن أبا حامد الغزالي بلغه أن من أخلص لله أربعين يوماً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه قال: فأخلصت أربعين يوماً فلم يتفجر شيء، فذكرت ذلك لبعض العارفين فقال لي: إنك إنما أخلصت للحكمة ولم تخلص لله تعالى".
وهذا مسلك خطير كما سمعت وقليل من يتفطن له.
والأمثلة عليه كثيرة من الواقع، فتجد بعض الناس يكثر من الأعمال الصالحة في أيام الاختبارات مثلاً كصيام النوافل وقيام الليل وكثرة الصلاة والخشوع، وقلبه منعقد على أنه إذا أكثر من العبادات سيوفق في اختباره أو سيفوز بوظيفة ما، فهذا بالحقيقة إنما أخلص للاختبارات وذلك أخلص للوظيفة.
ومن ذلك أيضاً أن بعض الناس يذهب إلى المسجد ماشياً أو يحج كل سنة أو غير ذلك من العبادات التي فيها رياضة.
ويكون قد انعقد في قلبه أنه يفعل ذلك لينشط جسمه أو يحرك الدورة الدموية كما يقولون.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء، مثل أخذ أجرة للخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهادهم ولم يبطل بالكيلة. أهـ.
بل اجعل مشيك للمسجد وحجك وعبادتك خالصة لله تعالى، وهذه الأشياء تحصل حتماً دون أن تعقد عليها قلبك.
وأما ثالث هذه المسالك الدقيقة وهو ما أشار اليد الحافظ ابن رجب رحمه الله بقوله: "ههنا نكتة دقيقة، وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس، يريد بذلك أن يري الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبه عليه السلف الصالح(250/3)
الإرجاء والمرجئة
الحمد لله الكريم الرحمن، جزيل العطايا والإحسان، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير الأنام، وعلى آله وصحبه الغر الكرام،وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم بإحسان.
أمَّا بعدُ :
إن من الصفات الذميمة في بعض المسلمين اعتمادهم على رحمة الله دون النظر إلى عقابه,وقد تبنت هذه العقيدة المنحرفة والتي تسمى – بالإرجاء- فئة منحرفة من الناس. وفي هذا الدرس – إن شاء الله نبين شيئاً من عوار تلك الفئة التي ما زالت جرثومتها خافية تارة، وظاهرة تارات بين صفوف المسلمين فتصيب ذلك الكيان الإسلامي بالضعف والوهن وفقدان القدرة على تمييز الخبيث من الطيب، ومعرفة المفسد من المصلح، وبالتالي يتوغل أثرها البالغ السوء في الواقع الإسلامي أخلاقياً وسياسياً. ونحن لا نعتزم الخوض في هذه العجالة في تفاصيل مذهب (الإرجاء) ومناقشة أصحابه فيما ذهبوا إليه، أو الإتيان على ذكر كافة فروع المرجئة التي انقسمت إليها، وإنما سنذكر اختصاراً ما ذهبت إليه المرجئة بشكل عام في بدعتهم، ثم نعرِّج على شيء من نقض تلك الأقوال وبيان وجه الحق فيها كما اختطَّه أهل السنة والجماعة...
فنقول: الإرجاء:
مصدر أرجأ بمعنى أخَّر، يقال: أرجأ الأمر أي أخَّره. وقد أطلق هذا الاسم على طائفة المرجئة لما قالوا بتأخير العمل عن الإيمان، أي فصله عنه وتأخير مرتبته في الأهمية كذلك لعدم حكمهم على الفاسق أو الكافر بما هو أهلٌ له، وادعاء إرجاء ذلك إلى يوم الحساب. وتدور عقائد المرجئة حول الإيمان؛ إذ ذهب أكثرهم إلى أنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان- عدا بعضهم ممن زعم أنه تصديق القلب ولم يشترط النطق بالشهادتين مع القدرة عليهما - ولم يُدخلوا العمل في مسمى الإيمان، فالإيمان عند هؤلاء متحقق كاملاً لمن صدق بالرسالة ونطق بالشهادتين، وإن لم يأتِ بعمل من أعمال الطاعات! وقد دخلت عليهم تلك البدع من أصل تصورهم للإيمان، وأنه واحد لا يتجزأ ولا يتبعَّض: أي لا يزيد ولا ينقص. وقد تمسكت المرجئة في أقوالهم تلك بما ادعوه من أن معنى الإيمان في اللغة: التصديق، كما في قوله –تعالى-:{ومَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا}1 ، أي: مصدق لنا. وكذلك بظواهر الأحاديث، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -، عن أبي هريرة قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)2 ، وفيما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة,قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-له:(فمن لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة)
3 . وقالوا: إن تلك الأحاديث تدلُّ على أنَّ الإيمان هو: تصديقُ القلب والتلفظ بالشهادتين،وهما كافيان لإثبات الإيمان ودخول الجنة دون العمل!.
وقد تجاوز بعض من ابتلاهم الله بشُبَهِ الإرجاء؛ فلم يكتفوا بإخراج أعمال الطاعات من الواجبات والمستحبات من مسمى الإيمان,بل كذلك الأعمال اللازمة لتحقيق التوحيد، كالحكم بما أنزل الله من الشرائع- والذي هو من معاني الشهادتين والمتعلق بتوحيد ألوهية الله عز وجل - ولم لا ؟! والإيمان محله القلب والتصديق متحقق؟! ومن يترك التحاكم مثله كمثل سارق البرتقالة، أو من يؤذي جاره؟!. فأتوا بما لم يأتِ به الأولون من أسلاف المرجئة،ومهَّدوا لما سنلقي عليه نظرة عاجلة في واقع المجتمع الإسلامي.
ونقض مذهب الإرجاء يكون بطريقين: أحدهما: عام، يتناول نقض مبادئهم في النظر إلى الشريعة - وهو ما اشتركت فيه معهم سائر أهل البدع والأهواء -، والآخر: خاص، يتناول الرد على أقوالهم قولاً قولاً، وبيان فسادها بالأدلة الشرعية.
أولاً الرد العام: سلك أهل البدع والأهواء طرقاً في دراستهم للنصوص الشرعية، أدت
بهم إلى النتائج التي وصلوا إليها، نُجملها فيما يلي:
1- عدم الجمع بين أطراف الأدلة،وذلك باتباعهم أول دليل يرونه دالاً – من جهة معينة - على ما أرادوه، فإذا صادفوا دليلاً آخر لم يجمعوا بينه وبين الأول، بل أوَّلوه أو ضعَّفوه أو أخفوه! بينما (مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المترتبة عليها، وعامها المترتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر بمبيِّنها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها).
2- الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، مع ترك الأحاديث الصحيحة وإغفالها، بينما مسلك أهل السنة هو اتباع الحديث الصحيح وما يصح الاحتجاج به في الأحكام الشرعية، سواء ما صح أو حسن حسب قواعدهم في ذلك.
3- التعويل على جزيئات الشريعة دون ربطها بالقواعد الكلية التي تحكمها وتنظمها.(251/1)
4 - تحريف الأدلة عن مواضعها، وهو نوع من تحريف الكلم عن مواضعه الذي ذمه الله- تعالى- في كتابه، وذلك بإيراد الدليل المقصود به مناط معين أو واقعة محددة لتطبيقه على مناط آخر - أو واقعة أخرى - وهي العملية التي تُسمَّى عند الأصوليين:(تحقيق المناط)،ولاشكَّ أن (من أقر بالإسلام,ويذم تحريف الكلام عن مواضعه,لا يلجأ إليه صُراحاً إلا مع اشتباهٍ يعرض له وجهلٍ يصده عن الحق، مع هوىً يعميه عن أخذ الدليل مأخذه فيكون بذلك السبب مبتدعاً).4.
ثانياً النقض الخاص: إن ما استدلت به المرجئة من أن الإيمان هو التصديق ليس بصحيح، والحق أن الإيمان اسم شرعي استعمله الشارع ليدل به على معاني محددة في الشرع، هي مجموعة الأقوال والأفعال التي يتركب منها، فلا مدخل للمعنى اللغوي إذ (مما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عُرِف تفسيرها وما أُريد بها من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة وغيرهم)5هذا إلا أن الإيمان لا يعني لغة التصديق من وجوه عدّة (فإنه يقال للمخبر إذا صدَّقْته: صدِّقْه، ولا يقال: آمِنْهُ وآمن به، بل يقال: آمن له، كما قال-تعالى-:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}6 وقال:{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ}7 "فإن تعدى باللام كقوله: آمن له، كان تصديقاً وإن تعدى بالباء كان الإيمان الشرعي المتضمن للعمل"8.
"كذلك فإن قسيم الإيمان ليس التكذيب بل الكفر، فيُقال لمن لم يصدق: قد كذب،ومن لم يؤمن: قد كفر. ووجه آخر في لفظ التصديق والتكذيب: يُطلق على ما هو غائب أو مشاهَدٌ،
أمَّا لفظُ الإيمان فلا يُستعمل إلا في الخبر عن الغيب"9.
والإسلام والإيمان اسمان يدلان على معنى واحد إن انفردا، وهو الاستسلام لله والعبودية له سبحانه ظاهراً وباطناً، لكنهما إن اجتمعا دلَّ كُلٌّ منهما على معنى غير الآخر، فدلَّ الإسلام على الأعمال الظاهرة من الصلاة والصوم والحج، ودلَّ الإيمان على الأعمال الباطنة، كالخشية والمحبة والخوف،من أعمال القلوب. وقد دلت الآياتُ والأحاديثُ على أنَّ الأعمال داخلة في مُسمَّى الإيمان – وعليه أجمعَ الصحابةُ والتابعون وسَلَفُ الأُمَّةِ - فهو: قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، قال-تعالى-:{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ}10وما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة,قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)11 . كذلك ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس في حديث وفد عبد القيس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدي خمساً من المغنم)12 . فالإيمان - إذن - قول وعمل، قول القلب وهو: التصديق، وعمل القلب: وهو: الإقرار والخضوع المستلزم للمحبة والانقياد، وقول اللسان: وهو: النطق بالشهادتين، وعمل اللسان والجوارح، وهو العمل بالطاعات، وترك المحظورات من الشريعة والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1- (17) سورة يوسف.
2- أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة برقم (25، مسلم كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله برقم (31).
3- أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب الدليل على أن مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً برقم(46).
4- الاعتصام 1/223.
5- الإيمان لابن تيمية: 245 .
6 - سورة العنكبوت: 26.
7 - سورة يونس (83).
8- الإيمان: 248 .
9- الإيمان: 249 .
10- سورة الفتح (4).
11-أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها فضيلة برقم (51).
12- أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب أداء الخمس من الإيمان برقم(51) ومسلم كتاب الإيمان باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله وشرائع الدين برقم (24).(251/2)
الإرهاب اليهودى
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله ، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة فكشف الله به الغمة ، وجاهد فى الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيا عن أمته ورسولا عن دعوته ورسالته.
وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحياكم الله جميعاً أيها الأخوة الفضلاء الأعزاء وأيتها الأخوات الفاضلات وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم تبأتم من الجنة منزلاً ، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعنا فى هذه الدنيا دائما وأبدا على طاعته أن يجمعنا فى الأخرة مع سيد الدعاة المصطفى فى جنته ودار مقامته إنه ولى ذلك والقادر عليه.
أحبتى فى الله …. الإرهاب اليهودى هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم فى هذا اليوم الكريم ، وكعادتى حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعا من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم فى هذا الموضوع الذى يجمع بين الآلام والآمال وبين الجراح والأفراح فى العناصر المحددة الآتية:
أولا: واقع ينزف .
ثانيا: اليهود هم اليهود.
ثالثاً: الكفر ملة واحدة.
رابعاً: فما الحل؟
وأخيراً : لا تيأسوا فمن رحم الظلام يولد الصباح فأعيرونى القلوب والأسماع والله أسأل أن يقر أعيننا فى ذل اليهود والأمريكان ونصرة الإسلام والمسلمين ، إنه ولى ذلك والقادر عليه.
أحبتى فى الله : واقع ينزف
آه يا مسلمون آه يا مسلمون متم
أى شئ فى عالم الغاب
نحن لحم للوحش والطير منا
وعلى المحصنات تبكى البواكى يا
قد هوينا لما هودت واعدوا
واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا
وإذا الجذر مات فى باطن
القدس تباد والعالم كله
القدس من دولة المجد
القدس من قلب مكة بالتو
تركوها وحولها من كلاب
قدمته الصلبان لليهود قربانا
ولو فعلنا فى اليهود ما فعلوها لرأينا
قد حفظنا للمرة الأف عنكم قرونا والمحاق الأعمى يليه محاق
نحن آدميون أم نعاج نساق
الجثث الحمر والدم الدفاق
لعرض الإسلام كيف يراق
واعدوا من الردى ترياق
علينا واسودت الأعماق
الأرض تموت الأغصان والأوراق
خزى وخيانة ونفاق
عثمان أبوها والفاتح العملاق
حيد يعلو لواءها الخفاق
اليهود وطوق من خلفه أطواق
ولليهود كلهم عشاق
مثل الذى رأه أفغان وعراق
عالم الغاب ما له ميثاق
واقع ينزف طفل لا يعرف أين ذهب أبوه ولا أين ذهبت أمه ولا أين ذهب إخوانه طفل فى الثانية من عمره ينظر إلى السماء التي حولها السلاح الأمريكى فى أيدى اليهود إلى نهار مشرق مضئ فهو يتساءل ما هذه الأنوار فى جو السماء فى ظلام الليل الدامس ما الذى ما الذى حول سماء فلسطين المظلمة إلى نهار مشرق إلى أنوار متأججة متوهجة وهو لا يدرى أن الصواريخ والطائرات والدبابات والمدافع قد حولت هذا الدامس الحالك إلى نور وإلى نهار مضئ ثم ينظر فيرى أشلاء أمه تتناثر ويرى أشلاء أبيه تتمزق ويرى دماء إخوانه تنساب فى كل واد فيخرج الطفل مذعوراً مفزوعاً يخرج إلى الشوارع والطرقات فيرى جنديا يهودياً يقابله بهذا المدفع الرشاش أو بهذه الدبابة بل بدبابات ومجنزرات حتى لا يبقى اليهود على بيت لا يبقى بيت ولا يبقى رجل ولا يبقى امرأة ولا يبقى طفل لا يحمل حتى حجر فى يده لأنه ما زال لا يقدر على حمل الحجر فى يده دكوا مخيم جنين وسووا هذا المخيم بالأرض ، وانبعث رائحة لا أقول الجثث بل رائحة خيانة العالم الغربى خيانة زعماء العالم كله فى الداخل والخارج فى الشرق والغرب لا أقول انبعثت روائح جثث إخواننا من الشهداء ، أسأل الله أن يتقبلهم عنده فى الشهداء بل ابنعثت روائح الخيانة ، من أين ؟! من تحت الأنقاض من المقابر الجماعية من الصنع اليهودى المحكم ما الذى فعله اليهودى إلى الآن لم تستطيع قوة على وجه الأرض أن تحصر عدد القتلى أو عدد الشهداء ، لأن اليهود دكوا المخيم دكا فى تسعة أيام متواصلة سووا المخيم بالأرض ودفنوا الجثث بصورة جماعية فى مقابر جماعية وهالوا على هذه الجثث الزكية التراب من رجال ونساء وأطفال حتى وصل بالأمس مبعوث الأمم المتحدة فى الشرق الأوسط وصرح تصريحات واضحة ، وقال : إن ما حدث فى مخيم جنين فاق كل التصورات ، هذا غربى فاق كل التصورات قال : حتى شممت رائحة الجثث فى الشوارع فى الطرقات بل ورأى على حد تعبيره مجموعة من الفلسطينيين ما زالوا إلى يومنا هذا يستخرجون الجثث من بين الأنقاض وبوش الظالم السفاح يقول بالأمس: شارون رجل سلام وعلى عرفات أن يفي بما وعد به من القضاء على الإرهاب.(252/1)
أمر يفجر الدم من الرأس أية إرهاب يا مسلمون أية إرهاب ، الدفاع عن العرض صار إرهابا صار الدفاع عن المقدسات إرهابا صار الدفاع عن الرجال والنساء والأطفال إرهابا ، قتل امرئ فى غاية جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر لو قتل غربى قام العالم كله ولو قتل شعب آمن أعزل لا يملك شيئا فإنها أمر عادى إنهم إرهابيون كما فعل هذا الإنجليزى الوقح الذى كان يذبح يوما مصرياً فى بلادنا فقام المصرى ليدفع الإنجليزى فعض المصرى الإنجليزى فى يده ، هذا هو كل ما استطاع أن يفعله فذبحه الإنجليزى بدم بارد ثم انطلق هذا المجرم السفاح لزميله ليقول له : إن المصرى عض يدى وأنا أذبحه ، إن الفلسطينيين هم الإرهابيون أما شارون السفاح المجرم مدير كل هذه المجازر من أول صبرا وشتيلا وحى الزعتر ودير ياسين وبحر البقر إلى آخر هذه المجازر فى مخيم جنين وستبدأ المجازر قريباً فى مخيم رفح ، لأنهم يريدون أن يدكوا الفليسطينيين دكا حتى لا يبقى فى هذا الأرض رجل أو امرأة ولا حتى طفل يرفع الراية من جديد راية الشرف راية الكرامة راية العزة على هذه لأرض التي تعطشت للشرف والكرامة منذ أمد بعيد إنا لله وإنا إليه راجعون.
أصرخ ولكن فى صحراء مقفرة ويصرح الأحرار والشرفاء فى الشوارع والطرق ولكن أين المعتصم.
عبثا دعوت وصحت يا أحرار
عبثا لأن عيوننا مملوءة بالوهم
عبثا لأن شئوننا ياقومنا
ولأننا خشب جامدة فلا
أما سقوط الأقصى فحال
هذه شئون القدس ليس لنا
ويحكم يا مسلمون قلوبكم ماتت
أنكرتم الفعل الشنيع بقولكم
عبثا لأن قلوبنا أحجار
تظلم عندها الأنوار
فى الغرب يفتل حبلها وتدار
ندرى ماذا يصنع المنشار
مألوفة تجرى بها الأقدار
بها شأن ولا للمسلمين خيار
فليست للخطوب تثار
شكراً لكم لن ينفع الإنكار
شكراً لقادة العرب
شكراً على تنظيم مؤتمراتكم
وعلى تعاطفكم فتلك مزية
وعلى القرار يصاغ منه قرار
فيكم تصاغ لمدحها الأشعار
يا ويحكم يا مسلمون
نساؤكم فى فلسطين نساؤكم
هذه تساق إلى سراديب الهوى
لو أن سائحة من الغرب اشتكت
أما الصغار فى فلسطين
تسل عن حالهم مرض
يسألن عنكم والدموع غزار
سوقا وتلك يقودها الجزار
فى أرضكم لتحرك الإعصار
أما الصغار فلا
وجوع وخوف قاتل وحصار
واليهود يذبحون ويقتلون رجالهم
ويقتلون رجالهم ونساءهم وما لهم
يا ويحكم يا مسلمون تنسون أن
هذه هى القدس يحرق ثوبها
تبكى وأنتم تشربون دموعها وعن
وهذا هو الأقصى يهود
هذا هو الأقصى يطحنه الأسى
من ناصر ودموع عيونهم مدرار
الضعف فى وجه العدو مذلة وصغار
عمداً ويهتك عرضها الأشرار
الحقائق زاغت الأبصار
جهرت وبجرحه تتحدث الأخبار
وجموعكم يا مسلمون تثار
مليارنا لا خير فيه
مليارنا لا خير فيه كأتنما
ما أجر اليهود إلا صمتنا
بنت سياسة أمة غاياتها
كتب وراء الواحد الأصفار
ولكم يذل بصمته المغوار
تحقيق ما يرضى به الكفار(252/2)
واقع ينزف متى سيفيق الحكام والزعماء ؟ فوالله الذى لا إله غيره إن المخطط اليهودى لا يقتصر على فلسطين لا بل اقرؤوا خريطة اليهود على الكنيست وقد صرح بهذا ابن غوريون فى أول يوم اعترفت فيه الدول الغريبة الظالمة بهذه الغدة السرطانية الخبيثة على الثرى الطاهر قال ابن غوريون : قد لا يكون لنا الحق فى فلسطين من منظور سياسى أو قانونى ولكن فلسطين حق لنا من منظور دينى عقدى فهى أرض الميعاد التي وعدنا الله بها من النيل إلى الفرات انظروا إلى خريطة وتاريخ اليهود لتعرفوا أن القوم يخططون ولن يقتصر اليهود على فلسطين لا ورب الكعبة بل إن لليهود هدفاً واحدا قد بينه لنا ربنا جل جلاله ألا وهو أن يخرج المسلمون من دينهم كما قال الله تعالى : وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة : 120] وهذا هو عنصرنا الثانى بإيجاز شديد اليهود هم اليهود مكمن الخطر والذي يؤلم القلب أن الحكام والزعماء والساسة ما زالوا يتفاوضون وهم لا يعرفون شيئاً ألبته عن طبيعة اليهود وما زلنا نسمع من يقول شارون رجل سلام اليهود حمائم السلام أمريكا هى الراعى الأوحد لعملية السلام فى المنطقة لابد من التدخل الأوروبى لابد أن نناشد هيئة الأمم ومجلس الأمن ، لابد من أن يتدخل بوتن السفاح الروسى الملحد حتى يتم التوازن فى المنطقة إلى آخر هذه الكلمات التي تنم على جهل فاضح بطبيعة اليهود بطبيعة من تفاوض ، لماذا لأن القرآن غيب عن الساحة ، فصار كل أحد يهرف بما لا يعرف ، أما لو ُظللت الساحة من جديد كلمات ربنا وكلمات الصادق نبينا لعلم المفاوض مع من يتفاوض لعلم الساسة مع من يتحدثون وعلى مائدة من يجلسون ، اليهود لا يعرفون سلاما ولن يعرفوا سلاما قط حتى ولو منحوا الفلسطينين أو الأمة هدنة لأنها للتجديد هدنة للتخطيط هدنة للإعداد فاليهود لا يعرفون ولن يعرفوا السلام قط هل تصدقون الله هل تصدق الأمة رسول الله اليهود ، ما ثبتوا على عهد قط ، هذا كلام ربنا إن كنا لا زلنا نصدق ربنا لا يقول زعيم !! ولا يقول عالم !! يبل يقول ربنا جل جلاله : الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ [ الأنفال : 56 ] هذا قرآن يا مسلمون وددت لو أسمعت زعماء الأمة هذا ربما كانوا لا يسمعون القرآن ولا يقرأ أحد منهم كلام الرحمن الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ ، قال تعالى : أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [ البقرة : 100 ] استحقوا أن يبتليهم الله بقسوة قلوبهم قال تعالى قال جل جلاله قال عز وجل ، قال الله : فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [ المائدة : 13 ] الله أكبر ولا تزال ترى خيانة منهم بعد خيانة
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [ المائدة : 13 ] .
فاليهود لا يعرفون عهداً ولا ميثاقاً ولا وفاء بإختصار اليهود نقضوا العهود مع الرسول والأنبياء بل ونقض اليهود العهود مع رب الأرض والسماء أفينقض اليهود العهود مع الرسول والأنبياء بل مع رب الأرض والسماء ثم يفي اليهود بالعهود اليوم مع الزعماء والحكام ؟! نعم قد يقع ذلك إذا تخلت الكلاب عن نباحها وتخلت الحمير عن نهيقها وتخلت الأفاعى عن سمها وتخلت الثعالب عن مكرها قد يفي اليهود بالعهود إذا استخرجنا من النار يوما ماء عذبا زلالا قد يفي اليهود بالعهود يوما إذا جنينا من الشوك يوما الورد والرياحين وإن استخرجنا من المستراح طيبا وإذا رأينا بأم أعيينا الجمل والفيل يدخل من سم الخياط ، هذه طبيعة القوم كيف ولا ينبئك عن اليهود مثل خيبر قال جل وعلا : أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [ الملك : 14 ] لابد أن تتأصل فى قلب كل رجل وكل امرأة وكل طفل من أطفالنا وأنا أتعجب غاية العجب ممن ينتظرون أن تنصر أمريكا القضية أو أن ينصر الغرب القضية فالكفر ملة واحدة وهذا هو عنصرنا الثالث بإيجاز شديد الكفر ملة واحدة.(252/3)
لابد من تكرار هذه المادة العقدية ولابد من تأصيلها الآن فى القلوب لا ينصر الشرك ايماناً ولا ينصر الكفر توحيداً قط يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ المائدة : 51 ] قال الله جل جلاله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [ آل عمران: 118 ] قال الله جل جلاله: ِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217 ] قال الله جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [ الممتحنة : 1 ]
هل تريد الأمة أدلة أكثر من ذلك متى نصر الكفر إيمانا لتنتظر الأمة أن تنصر أمريكا القضية .
فحال أمتنا حال عجيبة وهى لعمر الله بائسة كئيبة
يحتاجها الطوفان طوفان المؤامرة الرهيبة
ويخطط المتآمرون كى يغرقونها فى المصيبة
وسيحفرون لهم قبورا ضمن خطتهم رحيبة
قالوا : السلام .. قالوا السلام
قالوا السلام .. قلت : يعود الأهل للأرض السليبة
ويلبس الأقصى غدا أثوابا قشيبة
فإذا سلامهم هو التنازل عن القدس الحبيبة
فبئس سلامهم إذاً وبئس هذه الخطط المريبة
فالمسجد الأقصى فى الدماء له ضريبة
فالمسجد الأقصى فى الدماء له ضريبة
فالمسجد الأقصى فى الدماء له ضريبة
أين النظام العالمى أما له أثر ؟ ألم تنعق به الأبواق أين السلام العالمى لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق يا مجلس الأمن ..يا مجلس الامن ..أستغفر الله ، يا مجلس الخوف ، الذى فى ظله كسر الإيمان ، وضيع الميثاق أو ما يحركك الذى يجرى لنا أو ما يثيرك جرحنا الدفاق ، وحشية يقف الخيال أمامها متضائلا وتجمها الأذواق !!
قالوا لنا الغرب قلت صناعة
لكنة خاو من الإيمان لا
الغرب مقبرة المبادئ لم يزل
الغرب مقبرة العدالة كلما
الغرب يكفر بالسلام
الغرب يحمل خنجراَ ورصاصة
كفر وإسلام فأنى يلتقى
أنا لا الوم الغرب فى تخطيطه
وألوم فينا نخوة لم تنتفض ... وسياحة ومظاهر تغرينا
يرعى ضعيفا أو يسر حزينا
يرمى بسهم المغريات لدنيا
رفعت يدا أبدى لها السكينا
وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا
فغلام يحمل قومنا الزيتونا
هذا بذلك أيها اللاهونا
ولكن ألوم المسلم المفتونا
إلا لتضر بنا على أيدينا
يا مجلس الخوف ... إلى متى ترضى...
لقد أبرزت وجه حضارة غربية
يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا
يا مجلس الخوف إلى متى
إلى متى ترضى بسلب حقوقنا منا
إن كنت فى شك فسل فرعون
لبس القناع سنينا
سيريك ميزان الهدى وبربنا
تبقى لتجار الحروب رهينة
وتطلبنا ولا تعطينا
عن غرق وسل عن خسفة قارونا
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاد وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَاد ِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَاد الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاد فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَاد َفَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر : 6 - 13]
أيها الناس المظلوم صبرا لا تهن إن عين الله يقظى لا تنام ، نم قرير العين واهنأ ، فعدل الله دائم بين الأنام وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم : 42]
ورب الكعبة نؤمن بهذا إلى حد اليقين فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [إبراهيم : 47] الغرب لن ينصر لنا قضية لأن الكفر ملة واحدة والسؤال الآن ما الحل ؟
وهذا هو العنصر الرابع بإيجاز والحل على مستويين مستوى الأمة ومستوى الساسة والحكام وعلى مستوى الأفراد على مستوى الزعماء أول خطوة تجب عليهم أن يرجعوا إلى الله وأن يعلنوا توحيدهم لله وأن يحكموا فى البلاد والعباد شرعه وأن يمتثلوا أمره وأن يجتبوا نهيه ويقفوا عند حدوده وأن يرددوا مع شعوبهم المسلمة قول السابقين الأولين
]سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير [البقرة : 285] ونحن بهذا أمام حد الإيمان وشرط الإسلام قال تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما [النساء : 65](252/4)
فأنا لا أفهم من آية قرآنية أو سنة ربانية كونية أو كلمات نبوية لا أفهم البتة أن رب البرية ينصر أناسا قد خذلوا دينه وشريعته تبارك وتعالى ، فى الجملة لابد أن يرجعوا إلى الله ابتداء وأن يحكموا فى البلاد آيات الله ومنهج الصادق رسول الله حينئذ تكون الأمة مهيأة للخطوة التى لا كرامة لها الآن إلا بها ألا وهى أن ترفع راية الجهاد فى سبيل الله أنا أعى ما أقول ماذا لو اتخذت عبر قادتها قرارات سياسية ودبلوماسية فإن لم تجدى فنحن لا نحب الحرب ولا أحب سفك الدماء إطلاقا لكن لابد من أن تروى شجرة الدعوة بدماء الأطهار الأبرار لتظل هذه الشجرة مثمرة هذا أمر كونى قدرى قضاه الله تبارك وتعالى وقدره على أهل التوحيد لنفوز بإحدى الحسنين إما النصر وإما الشهادة ولا يكون هذا إلا أذا عدنا إلية سبحانه وتعالى إلا إذا اعتصمنا به وحده ولجأنا إليه وحده وجددنا الثقة فيه وحده ، ورجوناه وحده وقطعنا كل العلائق والروابط وارتبطت قلوبنا بالله سبحانه وتعالى قرارات سياسية دبلوماسية كطرد سفراء أو سحب سفراء وإن كنت أعلم أن هذا لا يغير من الواقع شيئاً ولكن لن تخطو الأمة خطوات إلا عن طريق القادة ثم سلاح المقاطعة للسلع التى تستغنى عنها الدول والشعوب وهى الكثير من السلع التى لا نحتاج إليها أو لن نموت بدونها ،أما السلع الرئيسية التى تحتاج إليها الشعوب والامم لا حرج فى ذلك ولا بأس وهذا أدعى الآن إلى أن تبدع الأمة وهى لا تفتقر إلى العقول والأدمغة لكنها الهزيمة النفسية التى منيت بها أمة سيد البشرية ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم تستثمر الأمة ما رزقها الله تبارك وتعالى من طاقات كالبترول ، فإن استخدمت الأمة كل هذه الخيارات السليمة ولن تجدى شيئا مع السفاح شارون ، وأنا أعلم أنها لن تجدى شيئاً ولكن هذا من باب الطرح فحينئذ لا خيار أمام الأمة إلى أن يفتح الباب لملايين الرجال والشباب ممن تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة فى سبيل الله لماذا لا ُيمكن العلماء اليوم والدعاة من تجييش طاقة الأمة لإحياء روح الجهاد فى سبيل الله فليمت مليون فأين يذهبون إن صحت النوايا إلى الفردوس الأعلى ، يا إخوة تصوروا أن رجلا قد أذنب ما قدر الله له من الوزر ، فنحن نؤمن بأن الخير والشر مخلوقان لله ومع أول قطرة دم تنبعث من جسده الطاهر فى ساحة الجهاد يغفر الله له كل ذنوبه أى مكسب هذا فى عالم المكسب والخسران أى مكسب هذا أى مكسب هذا إما عظماء فوق الأرض بكرامة وإما عظام تحت الأرض نسأل الله الشهادة أقسم بالله إن نساءنا سيسبقن إن أطفالنا سيسبقوننا لقتل كلاب الأرض من اليهود مهما كانت مجنزراتهم وأسلحتهم ورب الكعبة سيعلم شباب محمد كلاب الأرض من اليهود أن محمدا ما مات وما خلف بنات بل خلف رجالاً تشتاق وتحترق قلوبهم شوقا للشهادة فى سبيل الله . لو ُمكن العلماء من وسائل الإعلام لجيشوا والله ملايين من الشباب من الأمة يحترقون الآن للشهادة فى سبيل الله ولا خوف من هذا الشباب لا خوف منه لأنه سيرجع ليسمع ويطيع فشبابنا لا يبحث عن الزعامات ، ولا يبحث عن القيادات إنما يريد فقط أن يحكم بقال الله ورسول الله ، ولو حكمنا عبد حبشى مقطوع الأنف سنسمع له ونطيع سنكون سهاما فى كنانته يحركنا حيث يشاء ما دام لمرضاة الله تعالى أما على مستوى الأفراد فأنا أنكر أشد الإنكار على كل شاب مسلم يخرج فى مظاهرة ليحطم سيارة أو محلا لماذا ؟! نحطم بلادنا أرضنا لماذا نحطم سيارة لرجل يسير فى أمن وأمان لماذا نعتدى على محل لأخ من إخوتنا المطحونين أصلا؟ لماذا؟ نريد تعقلا نريد فهما نريد وعياً إسلامياً فى التفكير والسلوك .ما قيمة هذه المظاهرات التى تخر ب وتدمر ؟ أنا لا أنكر عليك أن تعبر عن غضبك وأن تعبر عن احتراقك لكن بأسلوب شرعى حضارى وأنا لا أستعير هذه الفظة من هؤلاء المجرمين لا إن الإسلام هو أول من أسس الحضارة وما انتشرت فى أوروبا الحضارة إلا من الأندلس وما عرفت فرنسا الطاقة الكهربائية إلا من المسلمين يوم رصفت شوارع الأندلس كانت فرنسا فى الوحل والطين ولما أضيئت شوارع الأندلس كانت فرنسا رائدة الحضارة فى ذلك الزمان وإنجلترا التى كانت لاتغيب عنها الشمس كانت تعيش فى الظلام الدامس ، فالإسلام هو الذى أسس الحضارة نريد أن نعبر عن غضبنا بأسلوب شرعى وحضارى يبتعد كل البعد عما يغضب الله جل وعلا وعما يفسد علينا أرضنا وبلادنا أنا لا أجامل بذلك مخلوقا إنما هذا ما أدين به ربى تبارك وتعالى.(252/5)
طريق النصر يا اخوة تصحيح العقيدة وتصحيح العبادة وتحكيم الشريعة وتصحيح ما فسد واعوج من الأخلاق وتهيئة جيل النصر بالتربية على القران والسنة كل هذا التأصيل يأتى بعده حتما رفع راية الجهاد فى سبيل الله سيسألنى طالب من طلابنا هل ستنتظر الأمة أيها الشيخ لتربى على العقيدة ، والإجابة الجهاد نوعان جهاد طلب وجهاد دفع ، أما جهاد الطلب فلا بد فيه من إعداد لابد فيه من تربية لابد من أن ترجع الأمة إلى هذه الشروط ، ولن تحقق الأمة نصراً فى هذا الميدان إلا بهذه الضوابط وهذه الشروط أما جهاد الدفع فهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة هذا بالإجماع إذا داهم عدو كاليهود مثلا أرضاً من أراضى المسلمين كأرض فلسطين صار جهاد الدفع فرض عين على كل مسلم ومسلمة فى أرض فلسطين لدفع العدو الظالم كل حسب قدرته واستطاعته ، ويحرم حينئذ على طلبة العلم أن يجلسوا ويتعلموا دون أن يخرجوا لساحة الجهاد فى سبيل الله جل وعلا لابد من هذا التأصيل لابد من فهم هذا الواقع ، فجهاد الدفع يجب عليك أم تدفع هذا العدو ويحم عليك أن تتقاعس عن الجهاد لأى سبب إن كنت قادرا على الجهاد فى حدود قدراتك واستطاعتك وإمكانياتك فأرجو من شبابنا أن يؤصلوا هذه المسائل الشائكة الدقيقة، لأن الحماس وحده لا يكفى ولأن الإخلاص وحده لا يكفى لكن لابد أن يكون الحماس والإخلاص منضبطين بضوابط الشرع حتى نرضى ربنا جل جلاله وحتى نكون بحق من أنصار نبينا فإذا لم تستطع أن تجاهد بنفسك مع أخواتك . فبمالك فقد ذكرت ذلك فى الأربعاء الماضى ، إننا لو استطعنا أن نتبرع بمائه جنيه وأنا أعلم يقيناً أنه لن يصل من المائة جنيه إلا عشرة جنيهات سأبذل المائة جنيه لتصل العشرة جنيهات ، إخواننا هناك فى حاجة إلى جنيه لا إلى عشرة جنيهات أنا أتحدث أيضا من خلال الواقع الذى نعرفه فجاهد بمالك فإن لم تستطع فبدعائك لا تحتقر الدعاء ولا تستهن به .
لا تحتقر الدعاء يا أخى ولا تستهن به بل إننى أقول : لقد خذلنا إخواننا فى الدعاء ، أسألكم بالله من منا دعا يوم الخميس الماضى فى كل سجدات صلواته لإخوانه فى فلسطين ، أقسم بالله لو قدمنا استمارة استبيان لهذا الحشد الهائل من الصفوة لرأينا قلة هى التى دعت لإخوانها فى فلسطين فى كل سجدة من سجدات الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء ، والله لن نرى إلا قلة فاسمحوا لى أن أقول : أمة بخلت بالدعاء فهل تجود بالأموال والدماء .
هذا التأصيل بعيد عن التنظير البارد ، أمة بخلت بالدعاء فهل تجود بالأموال والدماء ثم الجهاد بالكلمة بالحاضرات بالدروس فى الشوارع فى الطرقات فى المكاتب إن كنت تستطيع أن تتصل على مسؤول اتصل إن كنت تقدر أن تعبر فى جريدة من الجرائد افعل إن كنت تقدر أن تعبر برسم كريكاتيرى معبر افعل إن كنت لا تستطيع أن تتحدث عن هذه القضية إلا إلى أولادك وامرأتك افعل إن كنت لا تستطيع أن تتحدث عن هذه القضية إلا مع زملاء العمل فافعل ، المهم أن تشغل القضية عقولنا وقلوبنا وأن نجاهد بالكلمة ، فالكلمة ، فالكلمة من أعظم صور الجهاد فى سبيل الله ، ولن يسألنا الله تبارك وتعالى عن شىء لا نقدر عليه والله سبحانه وتعالى يعلم الصدق من الكاذب وبذلك يسقط الواجب بالعذر عنه.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحى قلوبنا وينصر إخواننا وأكمل فى عجالة بعد جلسة الاستراحة وأسأل الله لإخواننا الذين يجلسون قبل أن أرتقى المنبر فى حرارة الشمس أسأل الله أن يقيهم حر جهنم وأقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم..
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين واشهد أن لا إله واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصل الهم وزد وبارك عليه وعلى أله واصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من أهتدى بهديه واسنن بسننه واقتفى أثره إلى يوم الدين ..(252/6)
أما بعد.. فأخيراً أيها الأحبة الكرام لا تيأسوا ، فمن رحم الظلام يولد الصباح قد صرح جنرالات اليهود أن فلسطين سطروا ملحمة من أروع ملاحم البطولة والفداء فى مخيم جنين قرأت لضابط للجيش الصهيونى يقولون . لقد تحولت شوارع جنين إلى ألغام محرقة حتى نتصور ماذا فعل إخواننا فى جنين فهى عبارة عن مكان لا تزيد مساحته عن أربعة كم مربع فقط لا يزيد اتساع الشارع فى كل شوارع مخيمات جنين عن مترين فقط ، فخخ إخواننا أعمدة الكهرباء وضعوا العبوات الناسفة على أعمدة الكهرباء وعلى أغطية الصرف الصحى ، وفخخوا بعض اليهود وعجز الجيش اليهودى بأركانه وصواريخه وطائراته لمدة ثلاثة أيام متواصلة أن يقتحم هذا المخيم أمام هذا الصمود الباسل لإخواننا على أرض فلسطين فما كان من المجرم رئيس الأركان إلا أن يقود العملية بنفسه فبدأت الجرافات تهدم البيوت لتزيد أتساع الشوارع الذى لايزيد اتساعها عن مترين فقط ففتحوا مجموعة من الشوارع يزيد اتساع الشارع عن 20 مترا ، تصور معى حجم الهدم للبيوت ليجعلوا الشارع بهذا الاتساع وهدموا البيوت وصمد الأبطال إلى أخر طلقة فى بنادقهم التى لا يزيد مداها عن مائتى متر أما الطائرات الإف 16 صنع أمريكا أمام الدبابات الأباتشى الأمريكية أمام الرشاشات التى تعمل بالليزر ، صمد هؤلاء الذين يعلمون يقيناً أن الغرب والشرق لن ينصروا لهم قضية فراحوا واستعانوا برب البرية، سمعت أما قد تجاوز عمرها السبعين ترفع رأسها ويدها إلى السماء وهى تقول : النصر منك يارب . قلت : من هنا يأتى النصر إن شاء الله حينما تقطع كل العلائق بهؤلاء فى الدنيا وتتعلق القلوب بمن يدبر أمر الكون فيأتى النصر إن شاء الله ، وما يحدث الآن على أرض فلسطين ورب الكعبة إنه النصر مع هذه الدماء ؟! نعم مع هذه الأشلاء ؟! نعم لابد أن تروى شجرة الدعوة بالماء لابد ليذهب الشهداء فى جنات ونهر فى مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وليبقى ما قدر الله له أن يبقى فى عزة وكرامة هذا وعد الله جل وعلا وهذه سنة ربانية لا تتبدل ولا تتغير ، صمد إخواننا فى جنين إلى أخر طلقة رصاص فى بنادقهم الآلية وسطروا ملحمة من أروع ملاحم البطولة الأم الفلسطينية الطفل الفلسطينى الشاب الفلسطينى الذى لم يبلغ العشرين من عمره يعلم العالم كله الآن حقيقة التضحية وعظمة الفداء وشرف البطولة ، وإن الله الذى جعل الأقصى والقدس سكنا للرسل والأنبياء لن يديم القدس أبدا سكنا لقتلة الأنبياء قال تعالى : لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [ أل عمران : 111] هذه الأية فى اليهود لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بل ستنزل الخلافة الارض المقدسة كما قال الصادق المعصوم الذى لا ينطق عن الهوى فى الحديث الذى رواه أحمد بسند صححه الحكام والألبانى أن النبى وضع يده على رأس أبى حوالة الأزدى وقال:" يابن حوالة إذارأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدى هذه من رأسك .. "([1]) فستنزل الخلافة الأرض المقدسة بموعود الصادق الذى لاينطق عن الهوى لكن الله لا يعجل بعجلة أحد ومع ذلك ليس أحد أرحم بالمستضعفين من رب العالمين جل جلاله ، والحديث الذى ذكره أبو يعلى وذكره الهيثمى ورجاله الثقات من حديث أبى الدرداء أن النبى قال " لاتزال عصابة من أمتى يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله وعلى أبواب المقدس وما حوله ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة "([2]) وفى الحديث الذى رواه أحمد بسند صحيح عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى قال: "بينما أنا نائم إذا رأيت عمود الكتاب قد احتمل من تحت رأسى فظننت أنه مذهوب به فاتبعته بصرى فعمد به إلى الشام إلا أن الإيمان حيث تقع الفتن بالشام "([3]) ..
هذا وعد الله ووعد الصادق رسول الله وأنا لا أريد أن أشق على إخواننا خارج المسجد. الدعاء.
000000000000
(1) رواه أحمد فى (5/288) وقد سبق تخريجه.
(2) رواه أبو يعل (6386) وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد (10/60 ، 61) رجاله ثقات.
(3) رواه أحمد (4/198) عن عمرو بن العاص ، (5/198 / 199) عن أبى الدرداء.(252/7)
الإسبال
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن الله قد أنعم على خلقه بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، ولن يقدر أحد على أن يوفي الله عليها شكراً وحمداً: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} سورة إبراهيم(34). ومن هذه النعم التي أنعم الله بها على خلقه نعمة اللباس، يقول الله في معرض الامتنان: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} سورة الأعراف(26). وقال تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} سورة النحل(81).
ولقد جاءت النصوص مصرحة بحل جميع الألبسة إلا ما ورد الدليل بتحريمه، فالأصل في الألبسة الحل إلا ما جاء النص بمنعه إما لأنها محرمة في أصلها، أو لوجود صفة فيها كانت سبباً لتحريمها، أو ما أشبه ذلك؛ فمما جاء من النصوص في إباحة الألبسة؛ قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} سورة البقرة(29). وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} سورة الأعراف(32).
أيها المؤمنون: ولكن الله -سبحانه- قد نبهنا في قوله: {لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} إلى ثلاثة أنواع من الألبسة: نوعان حسيان، ونوع معنوي في (النفس)، فأما النوعان الحسيان فالأول: هو اللباس الذي يواري سوءاتكم، وهو: اللباس الضروري الذي يستر الإنسان به عورته. والنوع الثاني من الألبسة الحسية: لباس يجمل ليس بضروري، ولكنه تحسيني كما في قوله: {وريشاً}. والثالث لباس معنوي عظيم وهو رأس الألبسة وهو: لباس التقوى؛ قال تعالى: {ولباس التقوى ذلك خير}.
فلابد للإنسان لباس حسي يواري عورته، ولباس معنوي يواري به كذلك عورته الحسية في الدنيا والآخرة، وهذا اللباس أهم من اللباس الذي يواري العورات؛ لأن لباس العورات متيسر ويمكن لكل أحد من الناس الحصول عليه، بل الحصول على ما هو أكمل منه وهو ما عبر عنه القرآن: {وريشاً}؛ ولكن لباس التقوى عزيز ونادر الحصول عليه، فلربما تجد البعض يغير ملابسه الحسية في اليوم الواحد أكثر من ثلاث مرات، ولكنه بعيد كل البعد عن اللباس المعنوي لباس التقوى؛ ذلك اللباس الذي يدوم ويستمر مع الإنسان في دنياه وأخراه.
لباس التقوى لا يمكن الحصول عليه بالمال ولا بالسيارات ولا بالعقارات ولا بالوزارات، ولكن يمكن الحصول عليه بالرجوع إلى الله، والتوبة إليه، والندم على ما سبق من الذنوب والمعاصي، وفعل الخيرات والمسابقة في ذلك.
يمكن الحصول على لباس التقوى في قراءة القرآن بالتدبر، والمحافظة على فرائض الله، واجتناب ما حرم الله، ومن ذلك أن يلبس الإنسان ما أحل الله له، وأن يبتعد عن لبس ما حرم الله عليه، إما لأن في لبسه لذلك مشابهة لأعداء الله؛ لأنه من لباسهم الخاص، أو لأن النص قد ورد بتحريم لبس نوع معين من الملابس، أو أن لبسها على صفة تخالف النصوص الشرعية التي بينت كيفية ومقدار لبس المسلم..
ومن تلك المخالفات التي يرتكبها الناس في لباسهم: الإسبال، وهذا مما يتنافى مع التقوى لدلالة الآية على ذلك، ولما جاء في الأثر الطويل الذي أخرجه البخاري عن عمر أنه قال لذلك الغلام الذي كان إزاره يمس الأرض: "ابن أخي! ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك"1.
أيها الناس: إن الإسبال في الثياب تكبراً وفخراً وخيلاء أمر محرم شرعاً ومكروه طبعاً، بل إنه من كبائر الذنوب المتوعد صاحبها بالنار إن لم يتب منها في الحياة الدنيا، فإن مات ولم يتب منها، فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، وعدها من الكبائر هو ما صرح به العلماء، وهو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فقد عدها ابن حجر الهيثمي من الكبائر حيث قال: عد هذين من الكبائر (أي طول الإزار أو الثوب أو الكم أو العذبة خيلاء، والتبختر في المشي) هو ما صرحت به هذه الأحاديث لما فيها من شدة الوعيد عليهما. وذكرها الذهبي من الكبائر2.(253/1)
وقد عد العلماء الإسبال للثياب تكبراً وفخراً وخيلاء في حق الرجال من الكبائر استناداً إلى النصوص الصريحة التي ورد فيها الوعيد الشديد على من فعل ذلك، فمما جاء من الوعيد في حق من أسبل ثوبه أو إزاره قاصدا بِذلك الفخر والخيلاء أن الله لا ينظر إليه يوم القيامة، ولا يكلمه، ولا يزكيه، وله عذابٌ أليم؛ فعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مِرَارًا. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ)3. وفي رواية: (المسبل إزاره)4. والمسبل: هو الذي يطول ثوبه ويرسله إلى الأرض.
وأما من لَمْ يقصد الخيلاء فإنه قد ورد في حقه من العقوبة أنه يعذب بقدر ما نزل من الكعبين؛ فعن أبي هريرةَ أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار) رواه البخاري. ولم يقيد ذَلِكَ بالفخر والخيلاء بل أطلق.
وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بحجزة سفيان بن أبي سهل فقال: (يا سفيان لا تسبل إزارك، فإن الله لا يحب المسبلين)5.
وأما من احتج بحديث أبي بكرٍ وما جاء في استرخاء ثوبه عليه، كما جاء في حديث ابن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ)6. فيجاب عن ذلك فيقال أنه: ليس في هذه القصة حجة من وجهين:
الأول: أَنَّ أبا بكرٍ -رضي الله عنه- قال: (إِنَّ أحد شقي ثوبي يسترخي إِلاَّ أن أتعاهد ذَلِكَ منه) فَهُوَ لَمْ يرخِ ثوبه اختيالاً منه، بل كَانَ ذَلِكَ يسترخي ومع ذَلِكَ فَهُوَ يتعاهده، والذين يسبلون ويزعمون أَنَّهُمْ لَمْ يقصدوا الخيلاء يرخون ثيابَهم عن قصدٍ فنقول لَهُمْ: إن قصدتم إنزال ثيابكم إلى أسفل من الكعبين بدون قصد الخيلاء عذبتم على ما نزل فقط بالنار، وإن جررتم ثيابَكم خيلاء عذبتم بما هُوَ أعظم من ذَلِكَ لا يكلمكم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليكم، ولا يزكيكم، ولكم عذابٌ أليم.
الوجه الثاني: أَنَّ أبا بكرٍ -رضي الله عنه- زكَّاهُ النبي -صلى الله عليه وسلم- وشهد لَهُ أَنَّهُ ليس مِمَّنْ يصنع ذَلِكَ خيلاء، فهل نال أحدٌ من هؤلاءِ تلك التزكية والشهادة؟ ولكن الشيطان يفتح لبعض النَّاس اتباع المتشابه من نصوصِ الكتاب والسنة، ليبرر لَهُمْ ما كانوا يعملون، والله يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم7. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد بن عبد الله قائد الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان على يوم الدين.
أما بعد:(253/2)
أيها الناس: فإن الذي يجب علينا أن نتقي الله، وأن نراقبه في كل صغيرة وكبيرة من حركاتنا وسكناتنا، وأن نستقيم على شرعه، وذلك بأن نمتثل أوامره وأن نجتنب نواهيه، ومن ذلك ترك الإسبال، فإن ذلك مما حرمه الله، بل علينا أن نمتثل ذلك متى علمنا تحريمه، وقد سمعتم النصوص المحذرة من ذلك، ولنكن كما كان سلفنا الصالح فإنهم لما نصحوا في ذلك نفذوا تلك الوصية، ولم يتأولوا ولم يقولوا نحن لا نجر ذلك خيلاء، ولم يفهموا من نص النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما يفهمه اليوم بعض أصحاب الفطر المنتكسة التي تحاول تبرير ما حصل منها من الوقوع فيما حرم الله، وتصر على ذلك، وتعتبر أنها على الحق، وهي على شفا هلكة، بل على شفا حفرة من النار؛ لأنها لم تمتثل لأمر الله وأمر رسوله، بل خالفت وعصت -والعياذ بالله-، فهذا الصحابي الجليل عبد الله عمر لما دخل على النبي وعليه إزارا يتقعقع، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من هذا؟) فقال ابن عمر: فقلت عبد الله بن عمر، فقال: (إن كنت عبد الله فارفع إزارك). فرفعت إزاري إلى نصف الساقين فلم تزل أزرته حتى مات8. وهكذا ينبغي على أهل العلم ومن كان عنده علم بتحريم أمر من أمور الدين، وعلم بمن هو واقع فيه أن يوجه إليه النصيحة مباشرة إن كان موجوداً، أو يذهب إليه فينصحه بالإقلاع عن فعله ذلك، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)9. ولو أن الناس كلما رأوا منكراً أنكروا على فاعله أياً كان غنياً أو فقيراً رجلا أو امرأة لزالت كثير من المنكرات، ولما قدر من في قبله حب المنكر أن يظهره لأنه يعلم أن المجتمع سينكر عليه، وسيصبح نشازا بين أفراد المجتمع، وبذلك تصلح المجتمعات، وتحل البركات، وتجاب الدعوات.
وأما بالنسبة للنساء فإنهن لما سمعن حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- امتثلن لذلك؛ كما في حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعْنَ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ قَالَ: (يُرْخِينَ شِبْرًا) فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: (فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ)10. أما رجالنا اليوم فقد قلبوا هذا الحديث، وخالفوا أمر رسول الله، فأطال الرجال ثيابهم بل وسحبوها على الأرض!! وأما النساء في بعض الدول والبلدان الإسلامية فإنهن رفعن ثيابهن، واقتدين بالكافرات العاهرات، ولم يقتدين بفعل أمهات المؤمنين.
أيها المؤمنون: لقد حرم الله الإسبال في القميص وفي الإزار والعمامة؛ وما أشبه ذلك، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)11. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الإزار فهو في القميص)12.
وخلاصة القول -عباد الله- في حكم طول الثوب للرجل وقصره أن له أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يكون سنّة، وهو نصف الساق.
الحالة الثانية: أن يكون مباحاً، وهو ما دون نصف الساق إلى الكعبين.
الحالة الثالثة: أن يكون حراماً، وهو ما أسفل من الكعبين.
الحالة الرابعة: أن يكون أشد حرمة، وهو أن يجرّه خيلاء وكبرا وبطراً، ودليل هذا التفصيل حديث أبي سعيد الخدري أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (إزْرَة المؤمن إلى نصف الساق، ولا حرج فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، من جرّ إزاره بطراً لم ينظر الله إليه)13.
فاتق الله -يا عبد الله-، وأن تكون ملابسك على السنة، وهذه هي الحالة الأولى، فإن لم تكن كذلك فكن من أصحاب الحالة الثانية، وأما أن تكون من أصحاب الحالة الثالثة أو الرابعة فهذا ما لا أرضاه لك، وهو ما لا يقرك عليه شرع ولا عقل مستقيم، وهو ما أردت تحذيرك منه؛ فاتق الله في ذلك، وما أردت إلا البيان، وإقامة الحجة، وإبراء الذمة، {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} سورة الأنفال(42). والله أسأل أن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معصيته، وأن يرزقنا التمسك بسنة نبيه، وأن يحبب إلينا الطاعة والسنة، وأن يكره إلينا المعصية والبدعة.
---
1 روه البخاري.
2 الكبائر(215). دار الندوة الجديدة – بيروت.
3 رواه مسلم وأبو داود.
4 رواه النسائي وابن ماجه وأحمد.
5 رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه واللفظ له، وقال الألباني: ( حسن لغيره)؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، (2039).
6 رواه البخاري.(253/3)
7 راجع: رسالة في صفة صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم-، صـ (42) لابن عثيمين، نقلاً عن كتاب: "فتاوى علماء البلد الحرام" صـ، (1138- 1140) إعداد خالد الجريسي. الطبعة الأولى. (1420هـ).
8 رواه أحمد ورواته ثقات، وقال الألباني: (صحيح) كما في صحيح الجامع، رقم(1436 ). وصحيح الترغيب والترهيب، رقم(2033 ).
9 رواه مسلم من حديث أبي سعيد.
10 رواه الترمذي وقَالَ: (حَسَنٌ صَحِيحٌ). والنسائي، وقال الألباني: (صحيح) كما في صحيح ابن ماجة ( 3580 - 3581 ).
11 رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وقال الألباني: (حسن) كما في (2035 ).
12 رواه أبو داود، وقال الألباني: ( حسن ) كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (2030 ).
13 روه أبو داود، وقال: الألباني: (صحيح) كما في صحيح الجامع، رقم(921)(253/4)
الإسراء والمعراج عرض وفوائد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أيده ربه بالبينات، والحجج القاطعات، فأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السموات، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}الإسراء: 1.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أُتيت بالبراق -وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه- قال: فركبته حتى أَتيت بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة1 التي يَرْبِطُ الأنبياء، قال: ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة..."2.
وفي حديث مالك بن صعصعة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان -وذكر يعني رجلا بين الرجلين- فأتيت بطست من ذهب ملئ حكمة وإيماناً فشق من النحر إلى مراق البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وإيماناً، وأتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار: البراق، فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا، قيل من هذا؟
قال: جبريل، قيل: من معك؟ قيل: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟
قال: نعم، قيل مرحباً ولنعم المجيء جاء، فأتيت على آدم فسلمت عليه، فقال: مرحباً بك من ابن ونبي، فأتينا السماء الثانية، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد -صلى الله عليه وسلم-، قيل: أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء، فأتيت على عيسى ويحيى، فقالاً: مرحباً بك من أخ ونبي، فأتينا السماء الثالثة، قيل: من هذا؟ قيل: جبريل، قيل: من معك؟ قيل: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء، فأتيت على يوسف فسلمت عليه، قال: مرحباً بك من أخ ونبي، فأتينا السماء الرابعة، قيل: من هذا؟ قيل: جبريل، قيل: من معك؟ قيل: محمد -صلى الله عليه وسلم-، قيل: وقد أرسل إليه؟ قيل: نعم، قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء، فأتيت على إدريس فسلمت عليه، فقال: مرحباً من أخ ونبي، فأتينا السماء الخامسة، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قيل: محمد، قيل: وقد أرسل إليه، قال: نعم، قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء، فأتينا على هارون، فسلمت عليه، فقال: مرحباً بك من أخ ونبي، فأتينا على السماء السادسة، قيل: من هذا؟ قيل: جبريل، قيل: من معك؟ قيل: محمد -صلى الله عليه وسلم- قيل: وقد أرسل إليه؟ مرحباً به ولنعم المجيء جاء، فأتيت على موسى، فسلمتُ عليه، فقال: مرحباً بك من أخ ونبي، فلما جاوزت بكى، فقيل: ما أبكاك؟ قال: يا رب هذا الغلام الذي بعث بعدي، يدخل الجنة من أمته أفضل مما يدخل من أمتي، فأتينا السماء السابعة، قيل: من هذا؟ قيل: جبريل، قيل: من معك؟ قيل: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ مرحباً به ونعم المجيء جاء، فأتيت على إبراهيم، فسلمت عليه، فقال: مرحباً بك من ابن ونبي، فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم، ورفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كأنه آذان الفيول، في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فسألت جبريل، فقال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران: النيل والفرات، ثم فرضت علي خمسون صلاة، فأقبلت حتى جئت موسى، فقال: ما صنعت؟ قلتُ: فرضت عليَّ خمسون صلاة، قال: أنا أعلم بالناس منك، عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا تطيق، فارجع إلى ربك فسله، فرجعت فسألته، فجعلها أربعين، ثم مثله، ثم ثلاثين، ثم مثله، فجعل عشرين، ثم مثله، فجعل عشراً، فأتيت موسى، فقال: مثله فجعلها خمساً، فأتيت موسى، فقال: ما صنعت؟ قلت: جعلها خمسة، فقال: مثله، قلتُ: سلمت بخيرٍ، فنُودِيَ: إني قد أمضيتُ فريضتي، وخففتُ عن عبادي، وأجزي الحسنة عشراً"3.
كانت حادثة الإسراء والمعراج قبل هجرته -عليه السلام- إلى المدينة، وقد اختلف في تعيين زمن هاتين الحادثتين على أقوال شتى:
1- فقيل: كان الإسراء في السنة التي أكرمه الله فيها بالنبوة، واختاره الطبري.
2- وقيل: كان بعد المبعث بخمس سنين، رجح ذلك النووي والقرطبي.
3- وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة.
4- وقيل: قبل الهجرة بستة عشر شهراً، أي في رمضان سنة 12 من النبوة.
5- وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، أي في المحرم سنة 13 من النبوة.
6- وقيل: قبل الهجرة بسنة، أي في ربيع الأول سنة 13 من النبوة.(254/1)
وردَّت الأقوال الثلاثة الأول بأن خديجة -رضي الله عنها- توفيت في رمضان سنة عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس. ولا خلاف أن فرض الصلوات الخمس كان ليلة الإسراء.4
فلما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من رحلته الميمونة أخبر قومه بذلك، فقال لهم في مجلس حضره المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة، فقال: "إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد، وصليت به الغداة، وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس، فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم، وموسى وعيسى، وصليت بهم وكلمتهم" فقال عمرو بن هشام كالمستهزئ به: صفهم لي، فقال: "أما عيسى، ففوق الربعة، ودون الطول عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد أشعر تعلوه صُهْبَة5، كأنه عروة بن مسعود الثقفي. أما موسى فضخم آدم طوال، كأنه من رجال شنوءة، متراكب الأسنان، مقلص الشفة، خارج اللثة، عابس، وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي، خَلقاً وخُلقاً"6.
فقالوا: يا محمد! فصف لنا بيت المقدس، قال: "دخلت ليلاً وخرجت منه ليلاً" فأتاه جبريل بصورته في جناحه، فجعل يقول: "باب منه كذا، في موضع كذا، وباب منه كذا، في موضع كذا".
ثم سألوه عن عيرهم، فقال لهم: "أتيت على عير بني فلان بالروحاء، قد أضلوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه، فاسألوهم عن ذلك" قالوا: هذه والإله آية: "ثم انتهيت إلى عير بني فلان، فنفرت مني الإبل، وبرك منها جمل أحمر، عليه جُوالِق7 مخطط ببياض، لا أدري أكسر البعير، أم لا، فاسألوهم عن ذلك" قالوا: هذه والإله آية "ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم، يقدمها جمل أورق8، وها هي تطلع عليكم من الثَّنِيَّة"9، فقال الوليد بن المغيرة: ساحر، فانطلقوا فنظروا، فوجدوا الأمر كما قال، فرموه بالسحر، وقالوا: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال10.
وسعى بعض الناس إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، فقالوا: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس.
قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟
قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر الصديق11.
فوائد ودروس وعبر:
1- بعد كل محنة منحة، فقد تعرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمحن عظيمة، فهذه قريش قد سدت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وفي ثقيف، وفي قبائل العرب، وأحكمت الحصار ضد الدعوة ورجالاتها، من كل جانب، وأصبح الخطر يحدق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاة عمه أبي طالب أكبر حُماته، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماض في طريقه، صابر لأمر ربه، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولاحرب محارب، ولا كيد مستهزئ، وحان الوقت للمحنة العظيمة، فجاءته حادثة الإسراء والمعراج، على قد من رب العالمين، فيعرج به من دون الخلائق جميعاً، ويكرمه على صبره وجهاده، ويكلمه دون واسطة، ويطلعه على عوالم الغيب دون الخلق كافة، ويجمعه مع إخوانه من الرسل في صعيد واحد، فيكون الإمام والقدوة لهم، وهو خاتمهم وآخرهم12.
2- إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان مُقدِماً على مرحلة جديدة، مرحلة الهجرة، والانطلاق لبناء الدولة، يريد الله تعالى للَّبِنات الأولى في البناء أن تكون سليمة قوية متراصة متماسكة، فجعل الله هذا الاختبار والتمحيص، ليخلص الصف من الضعاف المترددين، والذين في قلوبهم مرض، ويثبت المؤمنين الأقوياء الخلص، الذين لمسوا عياناً صدق نبيهم بعد أن لمسوه تصديقاً، وشهدوا مدى كرامته على ربه، فأي حظ يحوطهم وأي سعد يغمرهم، وهم حول هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- المصطفى، وقد آمنوا به، وقدموا حياتهم فداء له ولدينهم، كم يترسخ الإيمان في قلوبهم أمام هذا الحدث الذي تم بعد وعثاء الطائف، وبعد دخول مكة بجوار، وبعد أذى الصبيان والسفهاء13.
3- إن شجاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- العالية، تتجسد في مواجهته للمشركين، بأمر تنكره عقولهم، ولا تدركه في أول الأمر تصواراتهم، ولم يمنعه من الجهر به الخوف من مواجهتهم، وتلقي نكيرهم واستهزائهم، فضرب بذلك -صلى الله عليه وسلم- لأمته أروع الأمثلة في الجهر بالحق، أمام أهل الباطل، وإن تحزبوا ضد الحق، وجندوا لحربه كل ما في وسعهم، وكانت من حكمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في إقامة الحجة على المشركين، بأن حدثهم عن إسرائه إلى بيت المقدس، وأظهر الله له علامات تُلزم الكفار بالتصديق، وهذه العلامات هي:
- وصف النبي -صلى الله علي وسلم- بيت المقدس، وقد أقروا بصدق الوصف، ومطابقته للواقع الذي يعرفونه.
- إخباره عن العير التي بالروحاء.
- إخباره عن العير الثانية.(254/2)
- إخباره عن العير الثالثة التي بالأبواء، وقد تأكد المشركون؛ فوجدوا أن ما أخبرهم به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان صحيحاً، فهذه الأدلة الظاهرة كانت مفحمة لهم ولا يستطيعون معها أن يتهموه بالكذب، كانت هذه الرحلة العظيمة، تربية ربانية رفيعة المستوى، وأصبح -صلى الله عليه وسلم- يرى الأرض كلها، بما فيها من مخلوقات، نقطة صغيرة في ذلك الكون الفسيح، ثم ما مقام كفار مكة في هذه النقطة؟ إنهم لا يمثلون إلا حزءاً يسيراً جداً من هذا الكون، فما الذي سيفعلونه تجاه من اصطفاه الله -تعالى- من خلقه، وخصه بتلك الرحلة العلية الميمونة، وجمعه بالملائكة، والأنبياء -عليهم السلام-، وأراه السموات السبع وسدرة المنتهى، والبيت المعمور، وكلمه -جل وعلا-14.
يظهر إيمان الصديق -رضي الله عنه- القوي في هذا الحدث الجلل، فعندما أخبره الكفار، قال بلسان الواثق: لئن كان قال ذلك لقد صدق، ثم قال: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، وبهذا استحق لقب الصديق، وهذا منتهى الفقه واليقين، حيث وازن بين هذا الخبر، نزول الوحي من السماء، فبين لهم أنه إذا كان غريباً على الإنسان العادي، فإنه في غاية الإمكان بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم-15.
5- إن شرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللبن حين خيِّر بينه وبين الخمر، وبشارة جبريل -عليه الصلاة السلام- هُديت للفطرة، تؤكد أن هذا الإسلام دين الفطرة البشرية، التي ينسجم معها، فالذي خلق الفطرة البشرية، خلق لها هذا الدين، الذي يلبي نوازعها واحتياجتها، ويُحقق طموحاتها، ويكبح جماحها: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الروم: 30.
6- إن صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء دليل على أنهم سلموا له بالقيادة، والريادة، وأن شريعة الإسلام نسخت الشرائع السابقة، وأنه وَسعَ أتباعَ هؤلاء الأنبياء ما وسع أنبياءهم؛ أن يسلموا بالقيادة لهذا الرسول ولرسالته، التي لا يأتيها الباطل من بين يديه ولا من خلفها.
إن على الذين يعقدون مؤتمرات التقارب بين الأديان، أن يُدركوا هذه الحقيقة، ويدعوا إليها، وهي ضرورة الانخلاع من الديانات المحرفة، والإيمان بهذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورسالته، وعليهم أن يدركوا حقيقة هذه الدعوات المشبوهة، التي تخدم وضعاً من الأوضاع، أو نظاماً من الأنظمة الجاهلية.
7- إن الربط بين المسجد الأقصى، والمسجد الحرام وراءه حكم ودلالات وفوائد، منها:
- أهمية المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين، إذ أصبح مسرى رسولهم -صلى الله عليه وسلم، ومعراجه إلى السموات العلى، وكان لا يزال قبلتهم الأولى طيلة الفترة المكية، وهذا توجيه وإرشاد للمسلين، بأن يحبوا المسجد الأقصى، وفلسطين لأنها مباركة ومقدسة.
- الربط يشعر المسلمين بمسئوليتهم نحو المسجد الأقصى، بمسئولية تحرير المسجد الأقصى من أوضاع الشرك، وعقيدة التثليث، كما هي أيضاً مسئوليتهم تحرير المسجد الحرام من أوضاع الشرك وعبادة الأصنام.
- الربط يشعر بأن التهديد للمسجد الأقصى، هو تهديد للمسجد الحرام وأهله، وأن النَّيل من المسجد الأقصى، توطئة للنَّيل من المسجد الحرام، فالمسجد الأقصى بوابة الطريق إلى المسجد الحرام، وزوال المسجد الأقصى من أيدي المسلمين، ووقوعه في أيدي اليهود، يعني أن المسجد الحرام، والحجاز قد تهدد الأمن فيهما، واتجهت أنظار الأعداء إليهما لاحتلالهما.
والتاريخ قديماً وحديثاً يؤكد هذا، فإن تاريخ الحروب الصليبية، يخبرنا أن أرناط الصليبي صاحب مملكة الكرك، أرسل بعثة للحجاز للاعتداء على قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، على جثمانه في المسجد النبوي، وحاول البرتغاليون النصارى الكاثوليك في بداية العصور الحديثة، الوصول إلى الحرمين الشريفين، لتنفيذ ما عجز عنه أسلافهم الصليبيون، ولكن المقاومة الشديدة التي أبداها المماليك، وكذا العثمانيون، حالت دون إتمام مشروعهم الجهنمي، وبعد حرب 1967م التي احتل اليهود فيها بيت المقدس صرخ زعماؤهم بأن الهدف بعد ذلك، احتلال الحجاز، وفي مقدمة ذلك مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخيبر.
لقد وقف دافيد بن غوريون زعيم اليهود، بعد دخول الجيش اليهودي القدس، يستعرض جنوداً وشباباً من اليهود، بالقرب من المسجد الأقصى، ويلقي فيهم خطاباً نارياً، يختتمه بقوله: لقد استولينا على القدس ونحن في طريقنا إلى يثرب16.
وبعد ذلك نشر اليهود خريطة لدولتهم المنتظرة التي شملت المنطقة من الفرات إلى النيل، بما في ذلك الجزيرة العربية، والأردن، وسورية، والعراق، ومصر، واليمن، والكويت، والخليج العربي كله، ووزعوا خريطة دولتهم هذه بُعيد انتصارهم في حرب 1967م في أورب17.(254/3)
8- أهمية الصلاة وعظيم منزلتها: وقد ثبت في السنة النبوية أن الصلاة فرضت على الأمة الإسلامية في ليلة عروجه -صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات، وفي هذا كما قال ابن كثير: اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمته18، فعلى الدعاة أن يؤكدوا أهمية الصلاة، والمحافظة عليها، وأن يذكروا فيما يذكرون، من أهميتها، ومنزلتها، كونها فرضت في ليلة المعراج، وأنها من آخر ما أوصى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل موته19.
9- لا حجة لمن يحتفل بليلة الإسراء والمعراج، لإن هذه الليلة مختلف في تحديد زمانها، ولم يحتفل بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أمر بها، ولا فعل هذا الاحتفال الصحابة ولاسلف الأمة الصالحين، فالاحتفال بهذه الليلة من البدع المحدثة، التي ما أنزل الله بها من سلطان.
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، ويجنبنا معاصيه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد الله رب العالمين.
________________________________________
1 - الحلقة: المراد حلقة باب مسجد بيت المقدس.
2 - رواه مسلم.
3 - متفق عليه.
4 - راجع: الرحيق المختوم (صـ 160).
5 - صُهْبة: بياض بحمرة.
6 - انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/38، 39).
7 - الجوالق: هو العدل الذي يوضع فيه المتاع.
8 - أورق: أي لونه أبيض وفيه سواد.
9 - الثنية: الطريق الجبلي.
10 - المطالب العالية للحافظ ابن حجر (4/201- 204)، وعيون الأثر (1/140-142)، وابن هشام (2/11).
11 - المستدرك (3/62) قال الحاكم: هذا الحديث صحيح الإسناد، وأقره الذهبي.
12 - انظر التربية القيادية (1/447).
13 - انظر: التربية القيادية (1/451).
14 - انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/41، 42).
15 - انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/43).
16 - انظر السيرة النبوية لأبي فارس (صـ 214).
17 - جريدة الدستور الأردنية العدد (4313) بقلم: أميل الغوري، نقلاً عن السيرة النبوية لأبي فارس (صـ 214).
18 - تفسير ابن كثير (3/23).
19 - انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/93)، و السيرة النبوية للصلابي (1/273-277).(254/4)
... ...
الإسراء والمعراج ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- معنى الإسراء والمعراج. 2- كيفية الإسراء والمعراج وموقف المؤمن منه. 3- بعض ما رآه النبي في رحلة المعراج. 4- من دروس المعراج والإسراء وحدة الدين. 5- من دروس المعراج والإسراء تبليغ الأمانة والعلم كرهه الناس أم رضوه. 6- معية الله للمؤمنين ونصرته لهم. 7- درس في وجوب التضحية والعمل لدين الله. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
يقول رب العزة سبحانه: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [الإسراء:1].
شاء الله الذي لا راد لمشيئته سبحانه القادر الذي لا يعجزه شيء أن يمن على حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام برحلة مباركة طيبة هي الإسراء والمعراج.
فما الإسراء والمعراج ؟ وما صفته ؟ وما الدروس المستفادة منه ؟
أما الإسراء: فهي رحلة أرضية تمت بقدرة الله عز وجل لرسول الله عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس.
أما المعراج: فهي رحلة سماوية تمت بقدرة الله عز وجل لرسول الله عليه الصلاة والسلام من بيت المقدس إلى السماوات العلا ثم إلى سدرة المنتهى ثم اللقاء بجبار السماوات والأرض سبحانه.
وينبغي أن تعلم :
أن الإسراء والمعراج كان بالجسد والروح معه واستدل العلماء على ذلك بقول رب العزة سبحانه: سبحان الذي أسرى بعبده [الإسراء:1]. والتسبيح هو تنزيه الله عن النقص والعجز وهذه لا يتأتى إلا بالعظائم ولو كان الأمر مناما لما كان مستعظما ثم بقوله تعالى : بعبده والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح .
إن المؤمن الجاد في إيمانه لا ينكر أبدا إمكانية الإسراء وهو مؤمن بقدرة الله القادر المقتدر: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون [يس:82]. المؤمن الجاد في إيمانه لا ينكر أبدا إمكانية الإسراء والمعراج وهو يقرأ في كتاب الله عز وجل أن الله تعالى أنزل عبدين من عباده من السماء إلى الأرض ورفع عبدا من عبيده من الأرض إلى السماء أنزل آدم وزوجه: قلنا اهبطوا منها جميعا [البقرة:38]. ورفع عيسى عليه السلام: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي [آل عمران:55]. فكيف نستكثر على رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يعرج به مولاه ؟
المؤمن يقرأ في كتاب الله عز وجل أن الله تعالى وهب عبدا من عباده القدرة على نقل عرش ملكة سبأ من جنوب اليمن إلى أرض فلسطين في غمضة عين: يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر [النمل:38-40]. فإذا كانت هذه قدرة عبد فكيف بخالقه وإذا كانت هذه إمكانية موهوب فكيف بالواهب سبحانه ؟
إن من الحقائق العلمية أن القوة تتناسب تناسبا عكسيا مع الزمن فكلما زادت القوة قل الزمن فكيف إذا كانت القوة هنا هي قوة الحق سبحانه ؟ لذا جاء في بعض الروايات أن النبي عليه الصلاة والسلام أًسري به وعرج وعاد وفراشه لم يزل دافئا عليه الصلاة والسلام .
أما صفة الإسراء والمعراج :
فآلة الركوب كانت هي البراق ، ((أتاه به جبريل فكانت تضع حافرها عند منتهى طرفها صلى النبي عليه الصلاة والسلام بالأنبياء إماما في بيت المقدس صعد إلى السماوات العلا اطلع على أهل الجنة واطلع على أهل النار ، اطلع على أهل الجنة فأري رجالا يزرعون يوما ويحصدون يوما كلما حصدوا عاد الزرع كما كان قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء المجاهدون في سبيل الله يخلف الله عليهم ما أنفقوا))([1])، وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه [سبأ:39]. (( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما: ((اللهم أعط ممسكا تلفا)) ، ويقول الآخر : ((اللهم أعط منفقا خلفا))([2]).
وأمتنا عندما تركت الجهاد عندما ظنت على الله عز وجل بمالها بأنفسها سلط الله عليها ذلا ليس بعده ذل أن أراذل خلق الله عز وجل يسوقونها: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم [الأنعام:64]. قال ابن كثير: ((من فوقكم أي الصواعق ومن تحت أرجلكم أي أن يسلط عليكم أراذلكم))([3]).
((رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجالا وأقواما ترضخ رؤوسهم بالحجارة قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة))([4]).(255/1)
العقول والرؤوس التي كانت تحترم كل موعد بشرى يزيد من رصيدها ويزيد من مالها تخرج مبكرة وتعود في آخر ساعات الليل ولكنها تنسي موعدها مع الله عز وجل في موقف بين يدي الله في خمس صلوات مثل هذه الرؤوس لا وزن لها ولا كرامة لها عند الله وتستحق يوم القيامة الرمي بالحجارة ((ورأى النبي عليه الصلاة والسلام أقواما يسرحون كما تسرح الأنعام طعامهم الضريح (نبت ذو شوك) قال : من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم))([5]). وأي درك حيواني يبلغه الغني المسلم عندما يفتقد مشاعر الأخوة مشاعر الرحمة والرأفة بالضعيف الفقير ، ومثل هذا يستحق أن يحشر يوم القيامة على صورة الحيوان ، ((ورأى النبي عليه الصلاة والسلام رجالا يأكلون لحما نتنا خبيثا وبين أيديهم اللحم الطيب النضج قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء رجال من أمتك تكون عند أحدهم المرأة بالحلال فيدعها ويبيت عند امرأة خبيثة حتى يصبح))([6]) المؤمن ينأى بمائه أن يضعه إلا في الموضع الكريم الطاهر .
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه
أما النفس الهابطة أما النفوس العفنة فإنها لا تبالي أن يكون الفراش طاهرا أم نجسا: ((ورأى النبي عليه الصلاة والسلام نساءا معلقات من أثدائهن قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللواتي يدخلن على أزواجهن من ليس من أولادهن))([7]) أجمل ما في الرجل غيرته وأجمل ما في المرأة حياؤها ولكن من علامات قرب الساعة زوال ذلك كما جاء في الأثر: (إذا كان آخر الزمان رفع الله أربعة أشياء من الأرض رفع البركة من الأرض والعدل من الحكام والحياء من النساء والغيرة من رؤوس الرجال) جيل المستقبل المظلم الذي نعيشه في واقعنا والذي أصبح شغله الشاغل في ليله ونهاره أن يظفر بالنظرة الحرام وباللمسة الحرام وبالمتعة الحرام جيل سبق الجاهلية في جاهليتها عنترة الجاهلي يصف عفته فيقول:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يوارى جارتي مأواها
و ((عندما بايع النبي عليه الصلاة والسلام نساء مكة على ألا يزنين ولا يسرقن غطت هند بنت عتبة وجهها وقالت أو تزني الحرة يا رسول الله؟))([8])، استكثرت أن تبايع على هذا الأمر الذي تستقبحه المرأة الحرة فضلا عن أن تكون امرأة مسلمة .
الدروس المستفادة من حادثة الإسراء والمعراج!!! .
درس في النبوات ، صلاة النبي عليه الصلاة والسلام بالأنبياء إماما له دلالتان .
هي وحدة الأنبياء في دعوتهم فالكل جاء بالتوحيد الخالص من عند الله عز وجل ، الأنبياء إخوة ودينهم واحد: وما أرسلنا قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء:25]. وما جرى في اليهودية والنصرانية من الانحراف إنما هو بفعل أيديهم: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون [التوبة:30].
صلاة النبي عليه الصلاة والسلام بالأنبياء إماما لها دليل ولها دلالة أن النبوة والرسالة قد انقطعت فلا نبوة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا رسالة: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين [الأحزاب:40].
درس للدعاة إلى الله تعالى عاد النبي عليه الصلاة والسلام من رحلته الميمونة المباركة أراد أن يخرج للناس حتى يبلغهم فتشبثت به أم هانيء بنت أبي طالب تقول له: يا رسول الله إني أخشى أن يكذبك قومك فقال عليه الصلاة والسلام: ((والله لأحدثنهموه))([9])(سأخبرهم وإن كذبوني) درس للدعاة إلى الله عز وجل أن يبلغوا أمانة الله تعالى رضي الناس أم غضبوا ، رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه واسخط عليه الناس))([10])، وإذا كان أنبياء الله عز وجل يتهمون بالكذب والسحر والجنون فليس في ذلك غرابة بعد ذلك أن يتهم الدعاة إلى الله في واقعنا بالتطرف بالإرهاب والرجعية والتأخر.
3 – درس في بناء الرجال والرجال لا يمكن بناؤهم إلا من خلال المواقف عندما تحدث النبي عليه الصلاة والسلام بأمر الإسراء والمعراج طفق القوم بين مصفق وبين واضع يده على رأسه تعجبا يقول ابن كثير: ((وارتد ناس ممن آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام))([11]) فالأمر يحتاج إلى يقين ، يقين بقدرة الله ويقين بصدق المصطفى عليه الصلاة والسلام فالمحنة تفرز حقائق الرجال أفرزت هذا النموذج الذي لم يستطع أن يستوعب الأمر لضعف إيمانه وأفرزت رجالا كأبي بكر الصديق : (جاءته قريش يقولون له انظر ما قاله صاحبك إنه يدعي أنه أتى في بيت المقدس وعاد في ليلة ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهرا ذهابا وشهرا إيابا فقال أبو بكر: وهو قال ذلك، قالوا نعم ، قال: إن كان قد قال فقد صدق)([12]) إيمان ثابت إيمان لا تعبث به الدنيا ولا تزلزله الجبال إيمان قد استقام على حقيقة منهج الله عز وجل .(255/2)
4- درس في معية الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه طلبت قريش من النبي عليه الصلاة والسلام أن يصف لها بيت المقدس ورسول الله عليه الصلاة والسلام قد جاءه ليلا ولم يكن قد رآه من قبل يقول عليه الصلاة والسلام: ((فأصابني كرب لم أصب بمثله قط))، أي أن الأمر سيفضح أي النبي عليه الصلاة والسلام سوف يتهم بالكذب ولكن حاشا لله أن يترك أولياءه يقول عليه الصلاة والسلام : فجلى الله لي بيت المقدس فصرت أنظر إليه وأصفه لهم باباً بابا وموضعاً موضعا([13])، إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [غافر:51]. فجلى الله: أي فكشف الله .
درس لكل صاحب هم لكل صاحب قلب مكلوم ألا يلتفت قلبه إلا إلى الله عز وجل رسول الله عليه الصلاة والسلام رجل واحد يحمل هم الدنيا كلها رجل واحد يحمل أمانة تنوء بها الجبال ماتت زوجه خديجة التي كان يأوي إليها عند تعبه مات عمه أبو طالب الذي كان يحميه كان يبحث عن رجال صدق يعينونه في تبليغ أمر دعوة الله عز وجل ذهب إلى ثقيف ولكنها ردته رداً سيئا وأغرت به السفهاء فضربوه بالحجارة حتى أدميت قدماه الشريفتان لجأ النبي عليه الصلاة والسلام إلى حائط وأخذ يناجي رب العزة سبحانه: (( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس إلهي أنت رب المستضعفين أنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل علي غضبك أو أن تحل بي عقوبتك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله))([14]). يبرأ النبي عليه الصلاة والسلام من حوله وقوته إلى حول الله قوته ويأتي حادث الإسراء والمعراج إيناسا للمصطفى عليه الصلاة والسلام وإعلاما للنبي عليه الصلاة والسلام ولسان الحال يقول :
إن كان أهل الأرض لم يعرفوا قدرك فإن أهل السماء قد عرفوك
فأنت أنت إمام المرسلين وأنت أنت حبيب رب العالمين
درس في الجهاد رأى النبي عليه الصلاة والسلام البيت المعمور وهو بمنزلة الكعبة في السماء تحجه الملائكة هناك ((رأى النبي عليه الصلاة والسلام جند الله عز وجل من الملائكة يدخلون البيت المعمور في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة))([15]) ولله جنود السماوات والأرض ولا يعلم جنود ربك إلا هو . فلماذا إذاً فرض الله علينا الجهاد؟ وهو القادر بكلمة كن فيمكن أن يبدل الحال غير الحال ولله عز وجل جنود الأرض والسماء ؟ يريد الله تعالى ألا يتنزل نصره على تنابلة كسالى يبخلون على الله بأنفسهم إن الله تعالى يحب أن يرى الدماء تسيل لأجله ويحب الله تعالى أن يرى الأموال تبذل لأجله وهذا عبد الله بن جحش في غزوة أحد رفع يده بدعاء. وتأمل في دعائه يقول: ((اللهم إنك تعلم أنه حضر ما أرى (أي من التقاء الجيشين) فأسألك ربي أن تبعث إلي رجلا كافرا صنديدا قويا يقتلني ويجدع أنفي وأذني ويضعها في خيط (زيادة في النكال والتمثيل) ثم آتيك ربي بدمي فتقول: فيما ذاك يا عبد الله؟ فأقول: فيك يا رب ، فيك يا رب قد تمزق جسدي وسال دمي ))([16]). أمنية يتمناها المسلم عند الله عز وجل: (( من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه))([17])فنسأل الله الشهادة .
7 – درس في الصحوة الإسلامية تأمل العلماء الربط بين إسراء النبي عليه الصلاة والسلام من مكة البيت الحرام إلى بيت المقدس فذكروا أن مكة هي رمز للإسلام لدين الله عز وجل وبيت المقدس هو رمز لحال المسلمين فما يجري في تلك الأرض هي علامة صحوة المسلمين أو غفلتهم وجذوة الجهاد التي انطلقت من هناك دليل على أن أمر الغيرة ما زال في الأمة وأنه مازال فيها جيل وأن مازالت فيها الرغبة في أن تعود إلى الله عز وجل أن تعود إلى زعامة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وبيت الله عز وجل لا يتحرر إلا على أيد متوضأة طاهرة كريمة . أما الأيدي التي يحمل أصحابها أفكارا منحرفة وعقائد فاسدة وعلمانية كافرة مثل هذه الأيدي لا يبارك الله فيها وحاشى لله أن يكتب لها النصر والتأييد مصداقا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لتقاتلن اليهود فيختبأ اليهودي وراء الحجر أو الشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله))([18]).
([1])البيهقي .
([2])متفق عليه .
([3])مختصر ابن كثير مجلد ص 587 .
([4])البيهقي .
([5])البيهقي .
([6])البيهقي .
([7])البيهقي .
([8])صفوة التفاسير مجلد 2 ص 366 .
([9])البداية والنهاية لابن كثير ص 110 عن ابن اسحاق .
([10])ابن حبان في صحيحه .
([11])تهذيب سيرة ابن هشام ص 94 .
([12])فقه السيرة للبوطي ص 147.
([13])فقه السيرة للبوطي ص 147 .
([14])تهذيب سيرة ابن هشام ص 102 .
([15])رواه أحمد .
([16])فقه السيرة للغزالي ص 282 .
([17])مسلم .
([18])مسلم . ... ...
... ...
... ...
... ...(255/3)
الإسلام شفاء للبشرية ورحمة للعالمين ...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى أبيه سيدنا إبراهيم وعلى أخويه سيدنا موسى وسيدنا عيسى وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآل كلٍ وصحب كل أجمعين وبعد:
أرسل الله الرسل، وأنزل عليهم الكتب السماوية رحمة بالبشرية، من أجل سعادتها في هذه الحياة، ومن أجل راحة كل فرد وسعادته بعد موته، لذلك أوصى بكل ما ينفعهم، ونهى عن كل ما يضرهم، وأوصى أفراد الخليقة بعضهم ببعض، وجعل محبته مكافأة لكل من ينفع خليقته، يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ((الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله))(أخرجه أبو يعلى والبزار عن أنس، والطبراني عن ابن مسعود [كنز العمال 6/360] حديث رقم (16056).).
والإنسان الخام الذي لم تصقله التربية ولم يستقر الإيمان في قلبه، تصدر عنه أعمال كثيرة يسيء بها إلى نفسه، ويضر بها مجتمعه، لذلك جاءت الأديان لتلافي مثل هذا الخطر؛ بالسعي إلى تربية الأفراد والجماعات، حتى يصبحوا أعضاء نافعين لأنفسهم ومجتمعاتهم. ولما كانت علة نقص التربية واحدة في كل المجتمعات، وفي كل العصور، وعند كل الأجيال، تشابهت الأديان السماوية في كونها عقيدة توحيد لله، وتربية لمخلوقاته، وحثت على القيم والفضائل { شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}(سورة الشورى: [ الآية: 13 ].).
فكان كل نبي يأتي ليتمم ويكمل رسالة من سبقه من الأنبياء، وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم اللبنة الأخيرة التي اكتمل بها بناء الدين، مصداقاً لقول الله تعالى في القرآن الكريم: ((اليومَ أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً))(سورة الشورى: [ الآية: 13 ].).
ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً، فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع اللبنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء))(أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الفضائل حديث رقم (2287) ترقيم عبد الباقي.).
أما الشرائع فقد اختلفت باختلاف الأزمان(قال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً} سورة المائدة: [الآية: 48].)، والجميل أن الله عز وجل وضع لمخلوقاته على لسان أنبيائه برامج غطت كل شؤون حياتهم(قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}. سورة الأنعام: [الآية: 38].)، لكي تستقيم أمور هذه الحياة، وبالتالي تستقيم أمور المجتمعات، فالله خالق البشرية وهو أعلم بما يُصلحها.
وهذه البرامج أشبه بالأدوية التي تملأ الصيدلية، ولكن لا فائدة منها إلا إذا كان هناك الطبيب الحاذق الذي يُشخِّصُ علة كل مريض، ويصف الدواء المناسب، وتوصيات الله لعباده في تلك البرامج هي أدوية الأجسام والنفوس والقلوب والعقول عند بني البشر(قال سبحانه وتعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}. سورة الإسراء: [الآية: 82].)، وهي بحاجة إلى العالم المربي الحكيم الذي يزكي النفوس والقلوب حتى تُخيِّم السعادة على الجميع، وقد حاول كثير من المفكرين والفلاسفة أن يقدموا للبشرية أفكاراً ونظريات من أجل صلاح الناس وتنظيم حياتهم، ولكن كانت في معظمها تهتم بالحياة المادية دون العناية بالحياة الروحية، وقد ثبت بمرور الأيام وبالتطبيق العملي عدم كفاية تلك الأفكار لإشباع حاجات الناس أو عدم ملاءمتها للطبائع، فظلت حبيسة النظريات واندثرت وتلاشت، في الوقت الذي كانت فيه الرسالات السماوية المتممة لبعضها البعض والمتوَّجَةُ برسالة الإسلام متوافقة مع حاجات البشر المادية والروحية، متكاملة في طرائقها، لأنها تعتمد على بناء الفرد أخلاقياً وروحياً وتربوياً، وتأمره بأن يفتح عقله على آفاق الحياة العلمية والاقتصادية والصناعية(قال الله تعالى: {وفي الأرض قطع متجاورات.....} سورة الرعد: [ الآية: 4 ].)، ويتأمل في نفسه(قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}. سورة الذاريات: [الآية: 21].)، وفي كونه المحيط به(قال تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض...}. سورة يونس: [الآية: 101]، وقال أيضاً: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب}. سورة آل عمران: [الآية: 190].)، وبذلك يتم له التوازن بين حاجات الروح والجسد في الدنيا والآخرة قال تعالى: {وابتغِ فيما آتاك لله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا}. سورة القصص: [الآية: 77] وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حقٍّ حقه)). أخرجه البخاري في صحيحه في: كتاب [الصوم] رقم الحديث (1567).).(/1)
إن جفاف الينابيع الروحية عند كثير من الذين تصدوا لعملية التربية والتوجيه والتزكية، أفقدت الإنسان متعة الحياة الروحية، وجعلته يبحث عن المتع في ظل الحضارة المادية، من انغماس في شرب الخمر، ولعب القمار، وتعاطي المخدرات، وممارسة الجنس غير المشروع، دون أن تروي ظمأه للسعادة الحقيقية، بل زادته شقاءً وتعاسة بما جلبت له تلك الملذات من خسائر في المال والصحة والسمعة والضياع والأمراض(قال عز وجلَّ: ((ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً)). سورة طه: [الآية: 124].).
وأخذت كثير من المجتمعات التي تعيش في أتون تلك الموبقات تفيقُ على هول ما صارت إليه، وتسعى للبحث عن مصادر سعادة حقيقية في ينابيع الدين، وأخذ الكثير يدرك أن الأديان السماوية هي من مصدر واحد، وذات هدف واحد هو سعادة الإنسان الذي هو ركيزة بناء المجتمع السليم.
والقرآن الكريم - وهو الكتاب السماوي الأخير والذي اشتمل على خلاصة ما جاءت به الكتب السابقة وما نادى به الأنبياء - وصفه الله عز وجل بأنه بصائر للناس يعينهم على كشف حقائق الأمور وينفي باطلها(قال سبحانه وتعالى: {هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقومٍ يؤمنون}. سورة الأعراف: [الآية: 203].).
والقرآن الكريم كتاب توحيد لله يدعو لدين الإسلام فهو يقول: {إن الدين عند الله الإسلام}(سورة آل عمران: [الآية: 2].) أي: الاستجابة لله، لا التسمي باسم الإسلام والتوقف عند اللقب به، وهو دين شفاء البشرية(قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}. سورة الإسراء: [الآية: 82].)، ودين الرحمة للعالمين( قال عز وجلَّ: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين}. سورة الأنبياء: [الآية: 107].)، ولكنه في الوقت نفسه {لا يزيد الظالمين إلا خسارا}( سورة الإسراء: [الآية: 82].)، فكيف يمكن للقرآن أن يكون داءً ودواءً في وقت واحد؟
سنضرب لذلك مثلاً: فالطعام مصدر غذاء للجسم السليم يهضمه ويحوله إلى طاقة، بينما يرفضه الجسم المريض وربما لا يقوى على تناوله، وكذلك كلما ارتقت النفس البشرية وخلصت النوايا كلما كانت أكثر انتفاعاً بأنوار القرآن ومعانيه، فيكون فيه شفاءٌ من كثير من أمراض النفس والقلب {في قلوبهم مرض}(سورة البقرة: [ الآية: 10 ].)، كالأهواء والوسوسة والقلق والحيرة والاكتئاب، وفيه شفاء من الطمع والحسد، وفيه عصمة للعقل من الشطط في التفكير، ويطلق له الحرية في المجالات المثمرة ضمن منهج سليم، بالإكثار من التذكير والتبصير والتقويم والتوجيه
دعا القرآن الناس للتفكر وإعمال العقل، مع تنوع الخطاب القرآني في ذلك: فمرَّةً يستعمل لفظ النظر: {فلينظر الإنسان مم خُلق}. سورة الطارق: [الآية: 5]. ومرة يستعمل لفظ التبصر: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} سورة الذاريات: [الآية:21].
وأحياناً يستخدم التفكر: ((وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون)) سورة الجاثية: [الآية: 13]. وقد يستخدم لفظ التذكير: {قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون} سورة الأنعام: [الآية: 126].
وأحياناً يدعو إلى الاعتبار: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} سورة الحشر: [الآية: 2]. وأحياناً يحثًّ على التفقه: {انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون} سورة الأنعام: [الآية: 65]..
والتركيز على الإسلام والقرآن الكريم لا يعني إلغاء الديانات السماوية الأخرى، بل هو إحياء وتجديد للرسالات الإبراهيمية المصفاة من خلال القرآن الكريم.
فقد أرسل النبي محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى حاكم مصر (المقوقس)، فكان مما قاله ذلك الرسول للمقوقس: ((لسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به))(هذا من كلام حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في حواره مع المقوقس، وكان حاطبُ رسولَ نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى حاكمِ مصر، ليدعوه إلى الإسلام. انظر: زاد المعاد، لابن قيم الجوزية: 3/691، تحقيق: الشيخ شعيب والشيخ عبد القادر أرناؤوط، طبع مؤسسة الرسالة.) فقال المقوقس: (نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه)(المرجع السابق: 3/691.).
وفي حوار بين ملك البحرين، وبين رسول النبي محمد صلى الله عليه وسلم إليه، قال ملك البحرين: (قد نظرت في هذا الأمر الذي في يدي فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فرأيته للدنيا والآخرة، فما يمنعني من قبول دين فيه أمنيةُ الحياة وراحة الموت، ولقد عجبت أمس ممن يقبله، وأعجب اليوم ممن يردُّه) (الروض الأنف للسهيلي: 2/250 - طبعة دار الفكر، بيروت.)
والجدير بالذكر أنَّ الرسول الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك البحرين ليدعوه إلى الإسلام هو العلاء ابن الحضرمي، وقد كتب لله على يديه إسلام ملك البحرين (المنذر بن ساوى).
ومادام القرآن الكريم قد اشتمل على معظم ما جاءت به الرسالات الإبراهيمية، فدعونا نعرض برامجه التي فيها شفاء للبشرية ورحمة للعالمين.
أولا: على صعيد الأفراد والصحة العامة:(/2)
دعا الإسلام إلى عدم الإفراط في تناول الطعام والشراب(قال تعالى: {كلوا واشربوا ولا تسرفوا} سورة الأعراف: [الآية: 31].)، فقد قيل: (المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء)من كلام الحارث بن كلدة انظر: [ الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة للمُلا علي القاري] ص213 رقم ( 840 ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسِه))(رواه الترمذي في سننه، كتاب [الزهد] رقم الحديث (2380).) وحارب الرسول صلى الله عليه وسلم البدانة والسمنة لما فيها من أضرار على القلب والعمود الفقري والمفاصل، فرأى رجلاً تدلى بطنه أمامه، فأشار إليه وقال: ((لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك))(رواه أحمد والحاكم والبيهقي في الشُعب عن جعدة الجُشمي. (كشف الخفاء: 1/290).).
هذا وقد أحل الإسلام الطيبات من الغذاء، وحرّم الخبائث منه(قال تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}. سورة الأعراف: [الآية: 157].): كالميتة والدم ولحم الخنزير(قال تعالى: {إنما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير}. سورة البقرة: [الآية: 173].)، وأمر بذبح الحيوانات والطيور حتى تتخلص من الدماء(وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليُحدَّ أحدكم شفرته فليرح ذبيحته)). رواه مسلم، في كتاب [الصيد والذبائح] حديث رقم (1955).)، والثابت طبيّاً أن الدم مستودع لأمراض الجسم.
ومحافظة على الصحة العامة للإنسان أحل الله له الزواج(قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}. سورة الروم: [الآية: 21]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فيتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) رواه البخاري في صحيحه، في كتاب [النكاح]، حديث رقم (4779)، ومسلم في صحيحه، في كتاب [النكاح]، حديث رقم (1400).)، ودعاه إلى الامتناع عن الزنا والشذوذ الجنسي لوقايته من الأمراض الجنسية ؛ فقال تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا}( سورة الإسراء: [الآية: 32].)، وقد أثبت العلم المعاصر صحة تحذير القرآن الكريم من الزنا، وأيُّ سبيل أسوأ من سبيل انتهاء الزاني إلى مرض الإيدز الذي يعرف الجميع خطورته على البشرية والحياة الاجتماعية والنفسية.
ودعاه إلى اجتناب المسكرات والمخدرات يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}. سورة المائدة: [الآية: 90]
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر حرام))، رواه البخاري في صحيحه، في كتاب [المغازي] حديث رقم (4087)و (4088) كما رواه في كتاب [الأدب] و [الأحكام] ورواه مسلم في صحيحه، في كتاب [الأشربة] حديث رقم (977) و(1733) و(2002) و(2003).
ولقد (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر). رواه أحمد في مسنده، حديث رقم (26094) وأبو داود في سننه، في كتاب [الأشربة] حديث رقم (3686).)، وهي دعوة للحفاظ على العقل والمال، ودعوة لحماية النفس من الوقوع في الزنا والأمراض نتيجة للسكر ودعوة لحماية الفرد من الضياع الإنساني من تعاطي المخدرات، وتضييع المال وطلبه بالجريمة المنظمة، ودعوة لحماية الفرد من القتل والسجون(قال تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر....}. سورة المائدة: [الآية: 91].)، وأي سوء يمكن أن يلحق بالإنسان أكثر من انحداره إلى هوّة المخدرات والمسكرات.
ثانياً: على صعيد المجتمع:(/3)
خطط الدين لسعادة الإنسان وتماسك مجتمعه مبتدئاً بنواة المجتمع وهي الأسرة، فنظم الزواج بين الرجل والمرأة بشكل يحفظ حق المرأة من شطط الرجال، إذا وجد، وجعل بين الزوجين حقوقاً وواجباتٍ(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها....)). أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب [الجمعة] حديث رقم (853)، وفي كتاب [الاستقراض] رقم (2278)، وأخرجه أيضاً في كتاب [العتق] - [الوصايا] - [النكاح] - [الأحكام]. وأخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب [الإمارة]، حديث رقم (1829).)، إذا طبقها كل واحد منهما خيمت عليهما السعادة، وكذلك الأولاد فقد جعل لهم الحقوق على الوالدين وعليهم الواجبات تجاه الوالدين(قال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً}. سورة العنكبوت: [الآية: 8].)، وعند استحالة تعايش الزوجين جعل التفريق بينهما ضرورياً لحماية بقية الأسرة مع التحذير أن هذا التفريق أبغض شيء إلى الله(قال صلى الله عليه وسلم: ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق)) رواه أبو داود في سننه في كتاب [الطلاق]، حديث رقم (2178).)، وأنه قد يجر عواقب وخيمة على أطفال الأسرة، فالتزام الزوجين بالمخطط الإلهي فيه سعادتهما واستقرارهما وسعادة الأبناء، وفي غير ذلك الدمار والانهيار.
والتكافل الاجتماعي عامل من عوامل تماسك المجتمع، فعلى صعيد الأفراد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ((ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به))(رواه البزار والطبراني عن أنس. (كنز العمال: 9/53).)، أما على صعيد المجتمع فقد فرض الإسلام على كل مسلم ملك حداً معيناً من أيِّ نوع من أنواع الثروة أن يخرج ما يسُمى زكاة تلك الثروة(قال تعالى: ((خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)). سورة التوبة: [الآية: 103].) وهي في أقلها اثنان ونصف بالمائة (2.5%) من الأغنياء إلى الفقراء، وللحاكم أن يفرض حقوقاً أخرى ما دام المجتمع بحاجة إلى ذلك حتى تكون الكفاية(
إن لم تفِ الزكاة بحاجات المسلمين، فيجوز لولي الأمر أن يفرض في أموال الأغنياء حقوقاً أخرى بحيث تسد حاجات المستحقين فقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزكاة، فقال: ((إنَّ في المال لحقاً سوى الزكاة))، ثم تلا قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة....} سورة البقرة: [الآية: 177].
والحديث أخرجه الإمام الترمذي في سننه، كتاب [الزكاة] رقم الحديث (659).
ووجه الاستدلال في الآية الكريمة: هو أن الله تعالى ذكر أمرين معطوفين على بعضهما. الأمر الأول {آتى المال على حبه ذوي القربى...}، الأمر الثاني {آتى الزكاة}، فدلَّ ذلك على أن الأول غير الثاني، لأن العطف يقتضي المغايرة.
(للتوسع، انظر: فقه الزكاة، للدكتور يوسف القرضاوي. جـ1/244 وما بعدها - جـ2/963 وما بعدها.)
وإذا تخلَّف الأغنياء عن إخراج الزكاة ضاعت حقوق الفقراء(وفي هذا يقول سيدنا علي كرَّم الله وجهه: ?إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحقٌ على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليهس. المحلى لابن حزم: 6/158.)، فلجئوا إلى السرقة وقطع الطرقات والمافيات والجرائم المنظمة، هذا عدا الضياع وانتشار البطالة والأمراض في المجتمع.
وقديماً قيل عن الاشتراكية هي أن تعطى نصف الرغيف الذي معك بالقوة إلى غيرك وعينك عليه، أما في الدين فهي أن تعطي رغيفك إلى غيرك عن طيب نفس منك، وتبيت جائعاً وهو لا يعلم، وهي أعلى درجات العطاء وتسمى الإيثار، وقد وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة }( سورة الحشر: [الآية: 9].).
لذا يتوجب على جميع أقطار العالم الغنية، أن تعمل على مساعدة الأقطار الفقيرة، مادياً وعلمياً، وخصوصاً أن كرتنا الأرضية اليوم أصبحت كقرية عالمية صغيرة.
ومن العوامل التي تدفع إلى شفاء المجتمعات من تفككها صلةُ الرحم، وصلة الرحم أن تبحث عن الأبوين أولاً، والأخوات والإخوة وأبناهما، وعن الأعمام والعمات والأخوال والخالات وأولادهم، فتسعى في إصلاح الفاسد منهم، وتعين من يحتاج إلى معونة، وترعى من يحتاج إلى رعاية، وتزورهم، وتبقي على الصلة معهم، لا تمنعك مشاغل الحياة المادية عن هذه الواجبات، وكلما اشتدت درجة القرابة كان ذلك الواجب أشد، فتكسب بذلك رضاء الله ودعاء ذوي الأرحام، وقد جاء من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: ((من سرّه أن يُبسط له في رزقه أو يُنسأ له في أثره فليصل رحمه))(رواه البخاري في صحيحه، في كتاب [البيوع]، رقم الحديث (1961).).(/4)
والجيران كالأرحام، فيهم الجار القريب، والجار المجاور لك، والجار البعيد قال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانً وبذي القُربى واليتامى والمساكين والجار ذي القُربى والجار الجُنُب والصاحب بالجنب وابن السبيل...}. سورة النساء: [الآية: 36].)، تعينهم ما استطعت وتقيم معهم الصِّلات الاجتماعية، وتقدم لهم العون المادي والمعنوي، وترعى مَنْ يحتاج إلى الرعاية، وتسعى في إصلاح خلاف جيرانك(قال تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروف أو إصلاح بين الناس}. سورة النساء: [الآية: 114].)، فقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ((مازال يوصيني جبريل (روح القدس) بالجار حتى ظننت أنه سيورثه))(رواه البخاري في صحيحه، في كتاب [الأدب] رقم الحديث (5668) و (5669). ومسلم في صحيحه، في كتاب [البر والصلة والآداب] رقم الحديث (2625).).
والعدل والمساواة من عوامل سلامة المجتمع وصلاحه وتماسكه، فإقامة العدل على الضعيف، وترك القوي والغني يرتع في طغيانه، عامل من عوامل تفكك المجتمع، وقد أدرك النبي محمد صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: ((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))(أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب [أحاديث الأنبياء] حديث رقم (3288)، وكتاب [المغازي] رقم (4053). ومسلم في صحيحه، في كتاب [الحدود] حديث رقم (1688).).
والعلم من عوامل تماسك المجتمع ورقيِّه، فالمجتمع الجاهل لا يدرك قيمة التضامن الاجتماعي والتكافل الاجتماعي وتماسك المجتمع، والجاهل عبء على المجتمع في أحسن أحواله، هذا إذا لم يقده جهله إلى الجريمة والإخلال بسلامة المجتمع والعبث بأمنه، فدعا القرآن الكريم أفراد مجتمعه إلى العلم والتعلم بآيات كثيرة، ولا نبالغ إذا قلنا: إن أول ما نزل به روح القدس على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات كانت حول القراءة والكتابة والأقلام بقوله تعالى: { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم }(سورة العلق: [الآيات: 1-5].).
أما النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) (رواه ابن ماجه في سننه، في كتاب [المقدمة] رقم الحديث (224).)، والعلم ليس لمرحلة واحدة فقط أو لمحو الأمية فقط، بل طيلة الحياة، قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم))(رواه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، وابن عبد البر في العلم (تخريج الحافظ العراقي لأحاديث الإحياء: 1/13).) ويشدد في قوله: (( ليس مني إلا عالم أو متعلم ولا خير فيما سواهما)) (أخرجه ابن النجار والديلمي بلفظ: ((ليس مني إلا عالم أو متعلم)) (كنز العمال: 10/156) وأخرج نحوه ابن ماجه بلفظ ((العالم والمتعلم شريكان في الأجر، ولا خير في سائر الناس)) ابن ماجه [المقدمة] رقم (228).) وفي هذا شفاء للمجتمع من الجهل.
والتداوي وطلب الدواء ودراسةُ الطب من عواملِ قوة المجتمع ورقيّه وتماسكه، ولا خير في مجتمع يغلبُ على أفراده المرضُ، فقد قيل:(العقل السليمُ في الجسم السليم) ونحن متفقون على أن عطاء الصحيح أكثر بكثير من عطاء المريض.
فصحة المجتمع تعني القدرة على العطاءِ، ففي الحديث الشريف للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ((يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، أو قال دواءً إلا داءً واحداً قالوا: يا رسول الله وما هو، قال: الهرم))(رواه الترمذي، في كتاب [الطب]، رقم الحديث (2038).)، لذلك يجب على الحكومات أن تنشئ العيادات والمشافي لعامة الشعب، خاصة لمن لا يملكون أجور العلاج وقيمة الدواء، وقد عني الإسلام بالوقاية من الوباء وبالحجر الصحي(من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها)) رواه البخاري في صحيحه، في كتاب [الطب] حديث رقم (5396)، وأحمد في مسنده حديث رقم (1557).)، وقد أنشأ المسلمون المشافي المجانية، وجعلوا لكل أعمى قائداً، ولكل مُقْعَدٍ معيناً(انظر كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب) للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكة، ص33 وما بعدها.).
والأمراضُ أنواع مختلفة، أخفها مرض الأجسام الذي أشرنا إليه، أما أقساها على المجتمع وأخطرها عليه وعلى الأفراد فهي:
أولاً: الأمراض الروحية والنفسية: ومن أعراضها الغفلة عن الله، وفعل المعاصي، وظلمات النفس، وقسوة القلب، وموته، والعداوة والبغضاء، والخوف والنفاق والحسد واليأس،. وعلاج هذه الأمراض بذكر الله، وتنفيذ وصايا القرآن الكريم والأنبياء، والصدق مع الله، والتضرُّع والدعاء والتوبة والتقوى والرضا بالقضاء والقدر.
ومثل هذا العلاج واضح في آيات كثيرة من القرآن الكريم نكتفي بآية على سبيل المثال لا الحصر:(/5)
قال تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوبَ إلا الله، ولم يُصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}(سورة آل عمران: [الآية: 135]. ومن هديه صلى الله عليه وسلم في ذلك قوله: ((جددوا إيمانكم، قيل يا رسول الله، وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله)) رواه أحمد في مسنده، حديث رقم (8493)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لكلِّ شيء صقالة صاقل، وإن صقالة القلوب ذكر الله)) رواه البيهقي في الشعب عن ابن عمر (كنز العمال: 1/428).).
ثانياً: الأمراض الأخلاقية، ومن أعراضها:
فساد النفس وعلاجه في تزكية النفس.
الغرور وعلاجه بالتواضع.
الخيانة وعلاجها بالأمانة.
الجزع وعلاجه بالصبر.
والطمع وعلاجه بالقناعة.
والكذب وعلاجه بالصدق
اهتم الإسلام بالجانب الأخلاقي في تربية المسلم، وأولاه عناية فائقةً، لأن الجانب الأخلاقي هو الصورة العملية التي تظهر في تعامل المسلم مع غيره، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)). أخرجه الترمذي في كتاب [البر والصلة]، حديث رقم (2018).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإنَّ الله ليبغض الفاحش البذيء)) أخرجه الترمذي في كتاب [البر والصلة]، حديث رقم (2002).
ثالثاً: الأمراض الاجتماعية: ومن أعراضها:
تفرق الكلمة، والأناينة، وتفشي السخرية، وتفشي سوء الظن والغيبة والنميمة، وتفشي البهتان واتهام الأبرياء، وتفشي الظلم وشهادة الزور، وطمس الحقائق أو إخفاؤها، والإصرار على العقوبة وعدم المسامحة، وفسادُ الأمة وتشاحنها وتفككها، وعلاج هذه الأمراض بالعفو والمسامحة، وإصلاح مابين أفراد الأسرةِ، وتمسُّكهم بشرع الله من حقوق وواجبات(والنصوص الشرعية التي تتعلق بهذا الجانب كثيرة، وهي تشكل في مجملها تصوراً كاملاً لمجتمع متكاتف متعاون متراحم، سليم من البغضاء والشحناء والحقد والبغي... ومن هذه النصوص: قوله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم} سورة الإسراء: [الآية: 53]. وقوله: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} سورة النور: [الآية: 22].، وقوله: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميم} سورة فصلت: [الآية: 34]، وقوله: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} سورة الأنفال: [الآية: 1]. ويقول رسول لله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ إصلاح ذات البين، فإنَّ فساد ذات البين هي الحالقة)) رواه الترمذي في كتاب [صفة القيامة والرقائق والورع] حديث رقم (2509).).
ومما يقوي روابط المجتمع:
1- الكلمة الطيبة والتي قال عنها النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ((الكلمة الطيبة صدقة))(رواه البخاري في صحيحه، كتاب [الجهاد والسير] حديث رقم (2827)، وأول الحديث ((كل سلامى من الناس عليه صدقة...)). ومسلم في صحيحه كتاب [الزكاة]، حديث رقم (1009).)
2- التحية وتبادلها بين أبناء المجتمع(قال تعالى: {وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيباً} سورة النساء: [الآية: 86] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفشوا السلام تسلموا)). رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله ثقات: (مجمع الزوائد: 8/63). وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ فقال: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)). أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب[الاستئذان] حديث رقم (5882). ومسلم في صحيحه، في كتاب [الإيمان]، حديث رقم (39).).
3- الاستئذان في الدخول على البيوت( قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خيرٌ لكم لعلكم تذكرون}. سورة النور: [الآية: 27].).
4- لباقة الحديث وحُسْن الاستماع وأدب النجوى(قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ المتشدقين في النار)). رواه الطبراني عن أبي أمامة (كنز العمال: 3/561). وقال أيضاً: ((إن الله لا يحب كل فاحش متفحش)) رواه أحمد في مسنده، حديث رقم (21257) وقال في حديث آخر: ((إنَّ شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه)) أخرجه البخاري في كتاب [الأدب] حديث رقم (5077). ومسلم في كتاب [البر والصلة والآداب] حديث رقم (2591). وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً فقال: ((أوصيتك بتقوى الله وصدق الحديث ووفاء العهد وأداء الأمانة وترك الخيانة وحفظ الجار ورحمة اليتيم ولين الكلام وبذل السلام وخفض الجناح)) رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق والبيهقي في كتاب[ الزهد] وأبو نعيم في الحلية (تخريج الحافظ العراقي لأحاديث الإحياء: 2/291).).(/6)
5- التجمُّل وحسن المظهر(قال صلى الله عليه وسلم: ((السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة)). رواه الترمذي، في كتاب [البر والصلة] رقم الحديث (2010)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر، فقال رجل: إنَّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْر بطر الحق وغمط للناس)) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب [الإيمان] رقم الحديث (91).).
ومن عوامل تماسك المجتمع، أن تتحقق في أفراده آداب الإنفاق. ومنها:
1- الإكثار من الإنفاق في سبيل الله (وجوه الخير) بما فيه مصلحة المجتمع(قال تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} سورة البقرة: [الآية: 3]. وقال أيضاً: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} سورة البقرة: [الآية: 261].).
2- الحثُّ على الإقراض (القرض الحسن) بدون فوائد ربوية( قال تعالى: ((من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة)) سورة البقرة: [الآية: 245]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((رأيتُ ليلة أُسري بي على باب الجنة مكتوباً: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر، فقلتُ: يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة)) انفرد به ابن ماجه في كتاب [الأحكام] حديث رقم (2431). ).
3- عدم التبذير، فهو تضييع للثروة على غير طائل(قال تعالى: {ولا تبذر تبذيراً ` إنَّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفوراً} سورة الإسراء: [الآية: 26-27].).
4- عدم المن والأذى بالإنفاق(قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنِّ والأذى}. سورة البقرة: [الآية: 264].).
5- التحرِّي والتدقيق والبحث عمّن يستحق العون، فهناك أُسَرٌ متعفِّفَة ذكرها القرآن بقوله تعالى {يحسبُهم الجاهلُ أغنياءَ من التعفف}(سورة البقرة: [الآية: 273].).
6- التوزيع العادل للثروات على من يحتاج المساعدة(((من كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له....))).
7- عدم التعامل بالربا لما فيه من أضرار على المجتمع(قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ` فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون}. سورة البقرة: [الآية: 278-279].).
8- عدم أكل أموال الناس ظلماً وعدم تقديم الرشوة لاغتصاب حقوق الناس عن طريق الحكام(قال تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون}. سورة البقرة: [الآية: 188].).
9- ضرورة العناية بالمكاييل والموازين وإعطاء الحقوق كاملة لأَصحابها(قال تعالى: {ويل للمطففين ` الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ` وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون} سورة المطففين [الآيات: 1-3]. وقال تعالى: {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم}. سورة الإسراء: [الآية: 35]. وقال أيضاً على لسان شعيب عليه السلام: {ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم} سورة هود: [الآية: 85].).
10- من قام بتبذير المال وصرفه جزافاً دون فائدة يُسمى سفيهاً ويُحجَر عليه ويمنع من استخدام مالِه ويُعطى منه بقدر الحاجة(قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً} سورة النساء: [الآية: 5].).
أما على صعيد الدولة: فقد نقل الإسلام المجتمعات من الوثنية والآلام والحروب والجهل والفقر والأنانية إلى مجتمعات العلم والحكمة والغنى والأخوة والإنسانية والعالمية، ونقل المجتمعات من الجور إلى العدالة، ومن التمزّق إلى الوحدة، ومن الأنانية إلى الإيثار(قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها..} سورة آل عمران: [الآية: 103].).
لذلك استغرب نابليون بونابرت متسائلاً كيف استطاع الإسلام أن يوحّد نصف العالم في أقل من نصف قرن، فأصبحت الأمة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى(قال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب [البر والصلة والآداب] باب (تراحم المؤمنين وتعاطفهم).).(/7)
ونقل المجتمعات من جو التعصب الديني والمذهبي إلى حريّة العقيدة {لا إكراه في الدين}(سورة البقرة: [الآية: 256].)، فهاهو هرقل حاكم سورية الروماني يصادر أموال الكنائس التي ليست على مذهبه الديني، بينما كانت الكنسية ورجالها في ظل الإسلام آمنةً معافاةً ترفل بالرعاية والتكريم، في حين لم يترك الإسبان مسجداً واحداً من آثار المسلمين أو مقبرةً، عندما خرج المسلمون منها، ولا أنسى كيف كان المسلمون والمسيحيون يصلون في وقتٍ واحد في مسجد بني أميّة بدمشق، واستمروا على ذلك زمناً طويلاً(
كان أصل موضع هذا الجامع قديماً معبداً بنته اليونان الكلدانيون الذين كانوا يعمرون دمشق، ولم يزالوا على ذلك حتى دخلت النصرانية بلاد الشام، فحُوِّل المعبد إلى كنيسة وأطلقوا عليها0 اسم (كنيسة مريحنا)، حتى زمن الفتح الإسلامي حيث فتح المسلمون الشام؛ نصفه عنوةً ونصفه صلحاً، فكان أن وقعت الكنيسة بين المسلمين وبين النصارى. فحوِّل نصيب المسلمين إلى مسجد، وكان المسلمون والنصارى يدخلون من باب واحد فينصرف النصارى إلى جهة الغرب إلى كنيستهم، ويأخذ المسلمون يمنةً إلى مسجدهم، واستمر الأمر على ذلك من سنة (14هـ حتى سنة (86هـ) حيث ضاق المسجد بأهله ولم يعد يتسع للمصلين، فصالح الخليفة (الوليد بن عبد الملك) النصارى، على أن يتنازلوا عن حقهم في الكنيسة مقابل كنيسة توما وكانت واقعة في نصيب المسلمين. ورضي النصارى بذلك.. وعندها شرع الوليد في بناء الجامع الأموي.
انظر: (البداية والنهاية لابن كثير: 9/122-125 - طبعة دار الكتب العلمية).
ويوم أن زار وفد نصارى نجران النبيّ محمداً صلى الله عليه وسلم في عاصمته (المدينة) أنزلهم ضيوفاً مكرمين في مسجده ينامون ويتناولون طعامهم ويقيمون صلواتهم، حتى انتهت سفارتهم(انظر: السيرة النبوية لابن هشام: 2/222، زاد المعاد لابن القيِّم: 3/629.).
أما حقوق الإنسان في الإسلام: فقد بلغت القمة في تطبيق النبي محمد صلى الله عليه وسلم لدينه، فقد حدث أن مرّت جنازة يهوديّ فقام النبي احتراماً لها قائلاً: ((أليست نفساً)) (رواه البخاري في صحيحه في كتاب [الجنائز]، حديث رقم (1250). ومسلم في صحيحه، في كتاب [الجنائز]، حديث رقم (961).)، ويوم أن رفض أن يعطي يهودياً من مال كان يوزِّعه قائلاً له: ((ليس لك من صدقة المسلمين شيء))، نزل روح القدس فوراً على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأمره أن يرد ذلك اليهودي وأن يعطيه نصيباً من المال(
نزل روح القدس بقوله تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء، وما تنفقوا من خيرٍ فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله...} سورة البقرة: [الآية: 272] وورد أيضاً في سبب نزول هذه الآية، عن سعيد بن جبير مرسلاً، أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم)) فنزلت الآية: {ليس عليك هداهم...} مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام. قال القرطبي: قال علماؤنا: هذه الصدقات التي أُبيحت لهم حسب ما تضمنه هذه الآثار هي صدقة التطوع. (الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي: 3/338). ومن أراد الاستزادة في هذا الموضوع فليرجع إلى: تفسير القرطبي: 3/338-339، وفقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي: 2/702 وما بعدها.
والعدالة بلغت القمة في تطبيقها عندما أعلن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قائلاً: ((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))(أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب [أحاديث الأنبياء] حديث رقم (3388)، وفي كتاب [المغازي] حديث رقم (4053). ومسلم في صحيحه في كتاب [الحدود] حديث رقم (1688).)، وَسوَّى مرةً الصفوف بقضيب فأصاب أحد جنوده، فأعطاه حق القصاص من نفسه وبنفس القضيب(
روى ابن إسحاق أنَّ رسول لله صلى الله عليه وسلم عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يُعدل به القوم، فمرَّ بسواد بن غزية وهو مستنصلٌ [أي خارجٌ] من الصف، فطعن في بطنه بالقدح [قضيب صغير] وقال: استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل، قال: فأقدني، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقد يا سواد. قال: فاعتنقه فقبل بطنه، قال صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله حضر ما ترى، فأحببتُ أن يمسَّ جلدي جلدك. (سيرة ابن هشام: 2/278)
وقد روى المحدِّثون شبيهاً بهذه القصة عن أُسيد بن حضير (غير أنها لم تكن في معرض تسوية الصفوف)، انظر: سنن أبي داود، كتاب [الأدب] حديث رقم 05224)، كشف الخفاء 2/52-53.(/8)
ولم يكن الحق محفوظاً للإنسان العربي المسلم فقط، بل لأبناء وسائر الشعوب على اختلاف أجناسهم وأديانهم، فقد حدث أن جرى سباق للخيل في مصر فاشترك فيه ابن حاكم مصر العربي المسلم، وبعض المصريين المسيحيين، فسبق المسيحي المصريُّ ابنَ حاكم مصر، فضربه الأخير بالسوط قائلاً: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين، فشكاه المسيحي إلى خليفة المسلمين (عمر)، فاستدعى الخليفةُ حاكم مصر وولده، وأمر المسيحي أن يقتص لنفسه من ابن الحاكم قائلاً: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)(انظر: تاريخ عمر بن الخطاب، للإمام ابن الجوزي، ص120.).
بهذا العدل وبهذه الإنسانية وصل الإسلامُ بالدولة إلى نصف العالم محققاً الدولة العالمية، ولو وجد النبي في عصرنا الحاضر على ما فيه من وسائل مواصلات حديثة واتصالات سريعة، لَوَحَّد العالم أجمع في دولة واحدة، وقضى بها على الجهل والحروب والفقر؛ فيتحقق بذلك شفاء البشرية من كل ما تشكو.
ماذا قدمت الحضارة الإسلامية للعالم؟
كانت الحضارة الإسلامية أمينة على الحضارات التي سبقتها، رغم أن تلك الحضارات لم تكن غريبة عن المنطقة العربية، فحضارات مصر وبلاد الرافدين والشام هي المصدر الأساسي لحضارة بلاد اليونان، ورغم أن العرب شجعوا نقل التراث اليوناني والروماني فقد انطبق عليهم قول القائل: (بضاعتنا رُدّت إلينا)، فأعلام اليونان تردَّد معظمهم على مصر وبلاد الرافدين وبلاد الشام واقتبسوا منها الكثير، فقد نقلوا الأبجدية الفينيقية بين (850 - 750 ق.م)، كما أخذوا أسماء الأبراج السماوية والعلوم الفلكية من نجوم وكواكب وأيام الأسبوع عن البابليين، وأخذوا عنهم علوم الطب والرياضيات والأدوية والمعادن، وسائر العلوم التي كانت معروفة آنذاك.
ورغم كل ذلك فالعرب لم يغمطوا اليونان والرومان جهودهم، ولا بخسوهم حقهم فيما قدموه للحضارة، ولا انتحل العرب علومهم وكتبهم ونسبوها لأنفسهم كما فعل الأوروبيون.
فالحضارة العربية الإسلامية أحيت الحضارات القديمة، وجددتها، وصححت الكثير مما ورد فيها من أخطاء ودس، وبذل المسلمون جهوداً مضنيةً لتطويرها والخروج بها من الإطار النظري إلى العملي والتطبيقي، فقدموا للحضارة البشرية أضعاف ما وصلهم.
وليس بصحيح أن دور العرب كان لنقل التراث اليوناني إلى الغرب، فلم يكن العرب في يوم جسراً لذلك، ولا يرضون بذلك، وهذه دعوة طلع بها علينا بعض المستشرقين الأوروبيين، لطمس فضل العرب على الحضارة، وجعلهم دائماً على هامش التاريخ.
والمتتبع للحضارات القديمة يجد أنها لا تتعدى نقطة في بحر الحضارة العربية الإسلامية، وباعتراف معظم رجالات العالم المهتمين بالشؤون العلمية نجد أن التراث العربي الإسلامي هو أكبر تراث على وجه الأرض، وقد عجز المستشرقون خلال مئات السنين عن احتواء التراث العربي الإسلامي في دراساتهم، فكما قال المستشرق رودي بارت: (كانت دراسات المستشرقين جزءاً صغيراً من كلٍّ كبير لا سبيل لبلوغه، أو حتى الاقتراب منه في أحسن الأحوال إلا بخطى صغيرة)، ولم يحدث قط أن حجب العرب حضارتهم عن شعب من الشعوب، كما يفعل الغرب اليوم. هذا جزء من أهداف الرسالة الإسلامية لتحقيق الخير والنفع العام والرحمة بالبشرية.
فضل الحضارة العربية الإسلامية على أوروبة، وطرق انتقالها:
انتقلت الحضارة العربية الإسلامية إلى أوروبة عن طرق عدة:
1- طريق الأندلس (إسبانية حالياً)، فالأندلس هي قطعة من أوروبة، تجاور فرنسة، وهي قريبة من إيطالية و إنكلترة وغيرها من الأقطار الأوروبية. وقد أرسلت كثير من البلاد الأوروبية أبناءها على شكل بعثات ترعاها مستويات رسمية عالية، أرسلوا طلائعهم للدراسة في بلاد الأندلس، وتصدى كثيرٌ منهم للقيام بعملية ترجمة لأمهات كتب التراث العربي الإسلامي إلى اللاتينية وغيرها، وعلى رأس ذلك كله القرآن الكريم، وبدؤوا بدراسة العلوم، واستمر الانتفاع مما لدى أهل الأندلس من علوم نظرية وفلسفية وعلوم مادية وتطبيقية طيلة وجود العرب في الأندلس.
وعندما وقعت الأندلس في محنة الضعف والسقوط بادر بعض الإسبان إلى حرق ما وصلت إليه أيديهم من المكتبات العربية تنفيساً عن أحقادهم، ولكن البعض تدارك ذلك فيما بعد، وحفظ ما تركه العرب من تراث، في مستودعات الكنائس، ليحتل مركز الصدارة في مكتباتهم فيما بعد، وبذلك تعتبر المكتبة الإسبانية العامة في مدريد من المكتبات المهمة التي تحتوي على الكثير من المخطوطات العربية والإسلامية، التي تصدى الغرب لدراستها والانتفاع منها بعد نقلها إلى لغاتهم، وهكذا كانت بذور النهضة الأوروبية.(/9)
2- الحروب الصليبية: فقد وضعت الفرد الأوروبي في مواجهة مع الشرق وحضارته وعلومه وتقدمه، ورغم الإساءة في البداية إلى التراث العربي الإسلامي (إذ حرق الصليبيون في أنطاكية عند الاستيلاء عليها الكثير من المخطوطات العربية الإسلامية) فقد التفت الأوروبيون إلى ضرورة الانتفاع من هذا التقدم الذي يشاهدونه، فنقلوا في سفنهم كل ما استطاعوا نقله من كتب، وأدوات، ومحاصيل يمكن زراعتها في بلادهم، حتى الحِرَف المختلفة نقلوها إلى بلادهم، ونشطوا في إقامة المعاهد والجامعات وتدريس كتب العرب المسلمين في جامعاتهم، (فقد بقي كتاب القانون في الطب لابن سينا يُدرّس في بروكسل - بلجيكا - حتى 1909م)، وكذلك كتب الجبر، والرياضيات، وعلوم الطب، والصيدلة، وعلم الحيل (الميكانيك)، والكيمياء، والنبات، كل ذلك انتقل إلى جامعاتهم، واستمر تدريس تلك الكتب لعدة قرون، وبذل علماؤهم جهوداً كبيرةً في الدراسة التطبيقية والتجريبية حتى وضعوا بلادهم على عتبة الحضارة الحديثة والمعاصرة، وعجّت معاجمهم بالمفردات والمصطلحات العربية الإسلامية العلمية، على اختلاف أنواعها مع شيء من تطويع هذه المفردات لإدخالها في لغتهم.
3- صقلية وجنوب إيطالية:
فقد فتح العرب المسلمون صقلية في العهد العباسي، وحيثما حلّ العرب حلّت معهم رسالتهم وعلومهم، وحتى عندما غادر العرب جنوب إيطالية وصقلية على يد روجر النورمندي، حرص روجر على تشجيع العرب المسلمين للبقاء في صقلية، وذلك لعلمه بغزارة علومهم وعظمة حضارتهم، ومنهم الشريف الإدريسي الذي رسم العالم المعروف لديه على لوح من الفضة وأهداه للملك، كما أهداه كتاباً في الجغرافية هو (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)( انظر: الإسلام والحضارة العربية، محمد كرد علي: 1/284.)، كما شجع روجر ترجمة العلوم العربية الإسلامية إلى لغتهم، وسار على نهجه من بعده، أمثال فريدريك ملك صقلية، الذي بشّر بالحضارة الإسلامية في أوروبة، وبنى مدرسة للطب في سالرنو، وأسس جامعة نابولي... وهكذا وجدت الحضارة العربية الإسلامية طريقاً ثالثاً سلكته إلى أوروبة،.. فكانت ولادة الحضارة الأوروبية.
ومع الأسف فقد كان النقل الأوروبي للحضارة العربية الإسلامية نقلاً ناقصاً، لأنهم نقلوا الجانب العلمي المادي فقط، وتركوا الجانب الروحي الإنساني، وإذا استمرت الحضارة الأوروبية على هذا المنوال فإنها ستقضي على نفسها بنفسها لأنها غرقت بالمادية، بدليل فراغها الروحي.
كتب إسبانيٌّ زار كهف ميلوس في بلدة معلولا قرب دمشق يقول: (أنا من العرق العربي، صديق الشمس القديم، الذي ربح كل شيء ثم خسره).
وهكذا كانت الحضارة العربية الإسلامية رحمة للبشرية، ولن تكتمل هذه الرحمة إلا إذا أخذ العالم بالجانب الروحي منها ليتم التوازن بين جناحي الحياة.
والحمد لله رب العالمين
...(/10)
الإسلام والإرهاب
أ.د. جعفر شيخ إدريس
الخميس 2 ذو الحجة 1422 الموافق 14 فبراير 2002 ... ... ...
مقدمة لم يكتف بعض الكتاب والمفكرين الغربيين بما تبذله حكوماتهم من جهد للبحث عن من قاموا بعملية 11سبتمبر وعقابهم، ولم يرو غليلهم ما حدث من هجوم شرس على أفغانستان، بل بدؤوا يبحثون عن ما يسمونه بالأسباب الفكرية الجذرية لذلك الحدث الذي أطلقت عليه صفة الإرهاب، فادعى بعضهم أنها تكمن في التعاليم الإسلامية، ولا سيما ما يسمى بالوهابية. يدل على بطلان هذا الزعم أمران:
أولهما كما ذكر بعض المنصفين من الكتاب الغربيين أن كراهية الغرب، والاعتداء عليه ليس قاصرا على بعض الجماعات الإسلامية، بل هو أمر يشاركهم فيه أصحاب حضارات أخري يقول أحدهم في مقال له بجريدة نيويورك تايمز " إن نوع الاعتداء الجريء العنيف الذي نربطه الآن بالإسلاميين كان ـ بدلاً عن ذلك ـ مرتبطا منذ قرون بأماكن مثل اليابان وكوريا والصين" ثم يقول "والمسلمون ليسوا محتكرين للتكتيكات الانتحارية."[1] ويذكرهم بعضهم بأن جماعات أمريكية نصرانية أصيلة قامت بأول عمل إرهابي كبير على الولايات المتحدة.
وثانيهما: أنه حين يُعرَّف الإرهاب تعريفاً صحيحاً يربطه بالظلم والعدوان والإجرام، فإن الإسلام أبعد شيء عنه كما سنبين.
لكن المشكلة أن كلمة الإرهاب في استعمالها الحديث كلمة غامضة لا يتفق الناس على معنى محدد لها. فلنبدأ إذن باستعراض بعض تعريفات الإرهاب ومناقشتها، وبيان فضل المفهوم الإسلامي عليها.
تعريف الإرهاب تقول جماعة أمريكية معنية بدراسة الإرهاب[2]
إن الإرهاب بطبيعته أمر يصعب تعريفه ... ... حتى حكومة الولايات المتحدة لم تستطع أن تتفق على تعريف واحد. فالمثل السائر يقول إن الإرهابي عند شخص هو مناضل من أجل الحرية عند شخص آخر.
تعرف موسوعة Encarta الالكترونية الأمريكية الإرهاب بأنه
استعمال العنف، أو التهديد باستعمال العنف، من أجل إحداث جو من الذعر بين أناس معينين. يستهدف العنف الإرهابي مجموعات اثنية أو دينية، أو حكومات، أو أحزاب سياسية، أو شركات، أو مؤسسات إعلامية.
أما الكُنغرس الأمريكي فيعرف الإرهاب بأنه "عنف واقع عن قصد وترو وبدوافع سياسية تستهدف به منظمات وطنية، أو عملاء سريون جماعة غير محاربة يقصد منه في الغالب التأثير على مستمعين أو مشاهدين [3]
وأما وكالة التحقيقات الفدرالية F.B.I. فتقول عن الإرهاب إنه
استعمالٌ ـ أو التهديد باستعمال ـ غير مشروع للعنف ضد أشخاص أو ممتلكات لتخويف أو إجبار حكومة أو المدنيين كلهم او بعضهم لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية.[4]
في هذه التعريفات كلها خلل أساس هو نسيانها أو تناسيها للمعنى اللغوي الأصلي للكلمة وهو معنى تتفق عليه الكلمتان الإنجليزية والعربية.
يقول لنا أحد قواميس اللغة الإنجليزية إن كلمة terror تعني"استعمال العنف لتحقيق أغراض سياسية ثم يعطينا على هذا الاستعمال مثلا بجملة تقول " إن حركة المقاومة بدأت حملة من العنف terror ضد قوات الاحتلال."[5] فالإرهاب إذن قد يكون أمراً مشروعاً ومحموداً. وبهذا المعنى المحمود المشروع استعملت الكلمة في القرآن الكريم. قال تعالى
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60]
فكلمة الإرهاب هي إذن ككلمات القتال والحرب قد تدل على معنى محمود كما قد تدل على معنىُ مذموم بحسب نوع الإرهاب أو القتل أو الحرب. وعليه فلكي تؤدي المعنى المذموم الذي يراد لها أن تؤديه في الاستعمال الذي بدأ يشيع الآن، فلا بد من تقييدها بوصفٍ مثل العدواني أو الظالم. هذا أمر لازم ولا سيما للمسلمين. إنه لا يجوز أبداً أن نحصر كلمة الإرهاب في المعنى المذموم ما دام كتاب ربنا قد دل على أنها يمكن أن تستعمل بمعنى محمود.
لذلك أعود فاقترح أن نقيد المعنى المذموم للإرهاب بأنه الإرهاب العدواني. وآنذاك سيكون معناه الأساس واضحاً. أما الزيادات التي تجعل التعريف اصطلاحياً فيبدو أنه ليس من الصعب الاتفاق عليها، ولا سيما إذا قلنا كما يقول بعض دارسي الإرهاب في الولايات المتحدة إن التعريفات الاصطلاحية تختلف باختلاف الغاية منها. فتعريف الكنغرس يقصد منه إحصاء العمليات الإرهابية في العالم، وتعريف وكالة الاستخبارات يقصد منه تتبع المعتدين على الولايات المتحدة. نعم سيبقى هنالك اختلاف في ما يعد مشروعاً وما لا يعد. لكن هذا أمر يرجع إلى ثقافات الناس وأديانهم وفلسفاتهم، وهي أمور يمكن أن يدور فيها حوار عقلاني راشد. فمهمتنا إذن باعتبارنا مسلمين أن نبين للعالم ما الذي نعده إرهابا عدوانيا، وكيف نقي الناس شر هذا العدوان.
من العناصر التي لا بد من إضافتها إلى المعنى اللغوي كي يصير اصطلاحاً:(/1)
تحديد نوع القائمين بالارهاب ومع أن الناس يتكلمون أحيانا عن إرهاب الدولة إلا هنالك شبه إجماع على أن المقصود بالارهاب في المعنى الاصطلاحي هو ما تقوم به منظمات وجماعات لا حكومات.
تحديد من يقصدون بالعنف. وفي هذا اختلاف فبينما يرى البعض أن يحصر معنى الإرهاب في العنف الذي يقصد به إصابة أهداف أو جماعات غير عسكرية يرى بعضهم أن يكون شاملا لهذا كله.
تحديد الغرض منه وهو كونه وسيلة لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية.
نستطيع الآن وفي ضوء هذا الشرح لمفهوم الإرهاب أن نتبين موقف الإسلام منه
العلاج الإسلامي لمشكلة الإرهاب فنقول إذن وبالله التوفيق إن الإسلام هو أبعد شيء عن إرهاب الناس وترويعهم وقتلهم. إنه حين يفعل ذلك ببعضهم إنما يفعله ردا على عدوانهم أو إيقافا له أو عقابا على جرم ارتكبوه. وأن هذا الدين لا يكتفي بإدانة الإرهاب العدواني بل يتعدى ذلك إلى وضع وسائل لعلاجه. فهويعالجه علاجاً نفسيا علميا، وعلاجا تنظيميا، وعلاجا عقابيا، وعلاجا إصلاحيا.
العلاج النفسي العلمي العلاج النفسي هو العلاج الأساس وذلك لأن أعمال الناس خيرها وشرها إنما مبعثه تصوراتهم ومعتقداتهم وقيمهم وعلومهم. فالإسلام يعالج كل أنواع الظلم البشري بهداية الناس إلى الإيمان بالله تعالى الذي هو أساس كل خير فيها، والذي هو أهم مكون للفطرة التي فطر الله الناس عليها. فإذا ما ذاقت النفس حلاوة الإيمان سهل عليها العمل بالطاعات واجتناب المنهيات.
ثم تأتي العبادات التي هي أقوى داعم للإيمان، وأهمها الصلاة " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر"
فإذا ما تهيأ القلب هكذا لاستقبال أوامر الله ونواهيه، جاءته الأوامر التي تفصل له أعمال الخير كي يأتيها وتفصل له أعمل الشر كي يجتنبها. الهدى الإلهي المتمثل في هذه الأوامر والنواهي شامل لكل شأن من شؤون الحياة الإنسانية بما في ذلك شأن الإرهاب والقتال فنحن مأمورون بأن يكون جهادنا ـ الشامل للإرهاب والقتال ـ خالصا لإعلاء كلمة الله تعالى، وأن يكون لذلك في حدود القيم الرفيعة التي يحبها الله تعالى، وأن لا يتجاوزها إلى الوقوع في ما لا يرضي الله عز وجل من الظلم والبغي والكذب والغش والغدر، واتباع أهواء الغضب والانتقام للنفس، فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا.
قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ و لا الْهَدْيَ وَ لا الْقَلائِدَ وَ لا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَ لا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العقاب ) [المائدة: 2]
مما قاله الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية "أي ولا يحملنكم بغض من كانوا صدوكم عن المسجد الحرام وذلك عام الحديبية على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد... فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال. قال بعض السلف ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. والعدل به قامت السماوات والأرض."
هذ الموقف الإسلامي الداعي إلى العدل وإلى عدم العدوان ليس موقفا تكتيكيا مؤقتا وإنما هو موقف نابع من أصل هذا الدين وطبيعته، وذلك:
أولا: لأن هذا الدين ـ كغيره من أديان الحق التي بعث بها رسل الله تعالى ـ إنما هو دعوة إلى تعريف الناس بربهم وهدايتهم إلى عبادته، وأن يعيشوا بهذه العبادة سعداء في هذه الحياة الدنيا، وفي الدار الآخرة.
ثانيا: لكن الاهتداء الحقيقي أمر قلبي لا يجدي معه ترويع أو تهديد بإلحاق أذى أو بقتل، وإنما الذي يجدي معه ـ لمن كان مستعدا للهداية ـ أن يعرف الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة يستيقنها قلبه.
ثالثا: ولذلك كانت المهمة الأولى لرسل الله جميعا ـ بما فيهم رسولنا الكريم ـ ومهمة أتباعهم الراشدين من بعدهم هي تبليغ هذا الحق تبليغا بينا، والمجادلة عنه بالحجج والبراهين التي تزهق كل شبهة تثار حوله. وعليه كان الجهاد الأول والدائم هو الجهاد بالقرآن. قال تعالى: وجاهدهم به جهادا كبيرا
رابعا: ولهذا كان للمتسبب في هداية إنسان إلى هذا الحق أجر عظيم دونه أجر قتله حتى حين يكون القتل مشروعا. روى البخاري رضي الله عنه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال(/2)
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ فَقَالَ أَيْنَ عَلِيٌّ فَقِيلَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ فَقَالَ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَم
قال ابن حجر في الفتح معلقا على هذا الحديث:
يؤخذ منه أن تألف الكافر حتى يسلم أولى من المبادرة إلى قتله خامسا: وبما أن حال السلم حال أدعى إلى الاستماع والنظر والتفكر في الإسلام حين يعرض على من لم يسلم فإنها مفضلة في الإسلام على حال الحرب. قال تعالى:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله.
وسمى الله تعالى صلح الحديبية فتحا. فأي فتح كان؟ يجيبنا الزهري بقوله
فما فُتِحَ في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس. ولما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس كلّم بعضهم بعضاً، والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يُكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر[6]
قال ابن حجر مؤيداً الزهري:
فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام، جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية.[7]
وقال ابن هشام أيضاً مؤيداً للزهري:
ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم خرج في الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج بعد سنتين إلى فتح مكة في عشرة آلاف.[8]
نستخلص من كلام هؤلاء العلماء الثلاثة أن الفتح تمثل أساساً في كثرة عدد من دخلوا في الإسلام بسبب الصلح.
قد يسأل سائل: إذا كان السلم والصلح والموادعة هي خيار الإسلام فلماذا إذن يدعو إلى إعداد القوة الحربية ولماذا إذن يدعو للجهاد القتالي ويجعل للمجاهدين تلك الدرجات العالية التي نعرفها؟ الجواب يسير: إن الله تعالى الذي خلق الخلق يعلم أن بعضهم لا يكتفي بالكفر بالحق، بل إنه ليكرهه ويكره المستمسكين به ويبذل أقصى ما في وسعه لعدم انتشاره. لا بد للحق إذن من قوة مادية تحميه وتحمي المستمسكين به من مثل هذا العدوان. فالجهاد إنما شرع لمحاربة المعتدين، بل وحتى لمحاربة البغاة من مسلمين.
لكن الإسلام يضع حتى لمثل هذا القتال المشروع من الضوابط الخلقية ما لا يضعه الفكر الغربي لما يسميه بالحرب العادلة. من ذلك:
الأمربالعدل حتى مع الأعداء وعدم العدوان عليهم
وأنهم لا يقاتلون أو يقتلون بسبب كفرهم بل بسبب عدوان المعتدي منهم على الدين الحقِ، أو على المستمسكين به.
تشجيع المقاتلين على قبول السلم والمسارعة إلى قبوله إذا ما عرضوه.
عدم الغدر
العلاج التنظيمي إن المسلمين مأمورون بأن يجاهدوا عدو الله وعدوهم، وأن يدفعوا عن دينهم وأنفسهم. لكن الجهاد عمل جماعي لا يستقل به فرد أو بعض أفراد، ولا يؤتي ثماره إذا صار عملا فرديا ولا سيما جهاد عدو قوي يملك من العدد والعدة الشيء الكثير. لذلك كانت أمور الحرب في الإسلام مهمة الدولة المسلمة فهي التي تقرر زمانه ومكانه وهي التي تزن مضار القتال ومصالحه في كل حال من الحالات، في ضوء إمكاناتها وإمكانات عدوها. تفعل ذلك كله بعد استشارة الناس لأن أمر القتال يهمهم جميعا ويؤثر فيهم جميعا. هكذ كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده، ثم كثير ممن أتى بعدهم من ولاة أمور المسلمين. ولا يشترط في التعاون مع ولي الأمر الذي يؤدي هذه المهمة نيابة عن الأمة أن يكون حاكما عدلا صالحا، بل إنه ليقاتل معه وإن كان فاجرا.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه " لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة. قالوا هذه البرة قذ عرفناها. فما بال الفاجرة؟ فذكر من فوائد الفاجرة أنه يُجاهد بها العدو(/3)
لكن بعض إخواننا صاروا يفتون في السنين الأخيرة بأنه يجوز حتى للأفراد أن يتولوا قتال الأعداء مستقلين عن الحكام. وهم يستدلون على جواز ذلك بقصة أبي بصير. وهذا من عجائب الاستدلال الذي يوشك أن يكون من اتباع المتشابه. إذ كيف تؤخذ حادثة واحدة دليلاً على مخالفة أمر تضافرت على تقريره النصوص القولية والتطبيقات العملية؟ وكيف حين يجعل هذا قاعدة مطلقة لا استثناء مقيداً بشروط؟ على أن المتأمل في قصة أبي بصير رضي الله عنه يرى ـ بإذن الله تعالى ـ أنه لا دليل فيها على ما سيقت لتسويغه. فأبو بصير لم يكن ـ من الناحية الرسمية كما يقال اليوم ـ تابعا للمجتمع الإسلامي ولا خاضعا لسلطته، وإنما كان تحت سلطة كافرة منعته من حق من حقوقه وهو الانتقال إلى بلاد المسلمين التي هداه الله للدخول في دينهم. فلما منعوه من ذلك تمرد عليهم وأتعبهم حتى أجابوه إلى طلبه. فلما التحق بالمجتمع المسلم وصار تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم كف عن فعله. فالاستدلال الصحيح بقصة أبي بصير يكون على أفراد في مثل حاله تابعين لدول كافرة تمنعهم ظلماً وعدواناً من الهجرة إلى بلاد المسلمين، ويرون أنفسهم قادرين على إلحاق الأذي بدولتهم المعتدية إلحاقا يجبرها على الاستجابة لهم ولا يلحق بالمجتمع المسلم ضرراً. يقول بعضهم لكن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أشار لأبي بصير أن يفعل ما فعل وإن كانت إشارته بطريقة غير مباشرة. ونقول إنه ليس في هذا أيضا دليلاً على جواز أن يتولى الأفراد أمر القتال مستقلين عن الجماعة المسلمة متمثلة في ولاة أمورها. لأنه إذا كان أبو بصير قد فعل ما فعل بإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد فعله أمراً فردياً، لأن الذي يؤدي عملاً من أعمال الجهاد بأمر ولي الأمر يكون عمله ضمن خطة عامةِِ فلا يكون إذن عملا فردياً. يقول بعضهم ماذا إذا لم يكن الحكم في بلدنا إسلامياً. نقول انتقل إلى بلد يكون الحكم فيه إسلامياً، وإن لم تستطع فعد نفسك تابعا له حيثما كنت. يقول بعضهم ماذا إذا لم يكن على وجه الأرض كلها حاكم مسلم؟ نقول هذه إن صحت تكون مشكلة أكبر من قتال الكفار، فالعمل على علاجها يكون مقدما على القتال، اللهم إلا إذا كان القتال دفعا لعدو غزا المسلمين في عقر دارهم.
العلاج الحسي
وأعني به إجبار الإرهابي المعتدي على إيقاف اعتدائه ومعاقبته على الاعتداء. لعل أقرب مثال إلى الإرهاب العدواني بمعناه الاصطلاحي الحديث هو عدوان أهل البغي. فهؤلاء أيضا جماعة تخرج على الحاكم المسلم الشرعي وتقاتله بغرض إزالته، أو تقاتل جماعة أخرى من المسلمين. فالله تعالى يأمرنا بأن لا نقف مكتوفي الأيدي في مثل هذه الحال بل نقاتل الفئة الباغية حتى تكف عن بغيها امتثالا لأمر رسول اله صلى الله عليه وسلم "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" وبالطريقة التي فصلها لنا الله تعالى في قوله "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ... "
العلاج الإصلاحي
وأعني به فتح باب الأمل أمام مرتكب العدوان، وعدم تيئيسه من الكف الطوعي عن عدوانه وهذا يكون بأمرين: أولهما أن يكون العقاب عادلا لا يتجاوز الحد، وإلا كان هو نفسه ظلما وعدوانا، وثانيهما أن لا يكون العقاب نهاية المطاف، بل يعقبه استعداد للتفاوض مع المعتدي ومصالحته وقبوله.
إن إغلاق باب التوبة والأوبة على المعتدي من شأنه أن يغريه بالاستمرار في عدوانه إما دفاعا عن نفسه وإما يأسا من وجود مخرج. ولهذا فتح الله تعالى هذا الباب حتى للمفسدين في الأرض المحاربين لله ورسوله، فقال سبحانه "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم"
[1]NICHOLAS D. KRISTOF, Terrorism Beyond Islam, “The kind of defiant and violent antagonism to the West that we now associate with Islamists was for centuries linked instead to places like Japan, Korea and China. …But Muslims have no monopoly on suicide tactics; think of all the Japanese kamikaze pilots in World War II. NewYork Times. January 8, 2002
[2] http://www.terrorism.com/terrorism/def.shtml
[3] ..premeditated, politically motivated violence perpetrated against noncombatant targets by subnational groups or clandestine agents, usually intended to influence an audience” 22 U.S.C. 26.56f (d), quoted by Paul R. Pillar Terrorism and U.S. Foreign Policy, Brookings Institution Press, Washington, 2001, p. 13.
[4] http//www.terrorism.com/terrorism/def.shtml.
[5] Longman Dictionary of English Language and Culture, London, 1993.
[6] فتح الباري، المغازي، الحديبية، ج 7، ص 550، طبعة دار السلام،
[7] فتح الباري، الشروط، الشروط في الجهاد، ج 5، ص 427
[8] فتح الباري، المغازي، الحديبية، ج 7 ، ص 550
http://www.jaafaridris.com ... ... ...(/4)
الإسلام والحياة
بقلم أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
2 - القرآن والعقل:
من أوضح سمات القرآن الكريم، التي لفتت نظر الباحثين في القرآن من المسلمين وغير المسلمين، إشادة القرآن بالعقل وتوجيه النظر إلى استخدامه للوصول إلى الحقيقة، فقد دعا القرآن بطريق مباشر وغير مباشر، وصراحة وضمنا، وجملة وتفصيلا، إلى تعظيم العقل والرجوع إليه.
ويحرص القرآن على تأكيد هذا المعنى، حتى أنه ليكرر هذه الدعوة بشكل يلفت النظر ويثير الاهتمام.
ويشير القرآن إلى العقل بمعانيه المختلفة، مستخدما لذلك كل الألفاظ التي تدل عليه أو تشير إليه من قريب أو بعيد، من التفكر والقلب والفؤاد واللب والنظر والعلم والتذكر والرشد والحكمة والفقه والرأي، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تدور حول الوظائف العقلية على اختلاف معانيها وخصائصها وظلالها، مما يعتبر إيحاءات قوية بدور العقل الإنساني وأهميته في الحياة. وهذه الألفاظ في مجموعها تكوّن دائرة واحدة يتصل معناها جميعا بالعقل ووظائفه في أوسع معانيه.
هذا وكلمة العلم التي وردت في القرآن في أربعين وخمسمائة آية ليس المقصود بها في القرآن علم الدين وحسب، وإنما يقصد بها كل علم نافع يرفع من قدر الإنسان وينمي مواهبه العقلية، ويجعله أكثر خبرة ومعرفة بأمور الدنيا واستفادة منها وإفادة بها .
أثر القرآن في تنمية القوى العقلية:
نزل القرآن بين العرب وباللغة العربية، وكان العرب عند نزول القرآن مختلفين في عقائدهم ومعتقداتهم اختلافا كبيرا، منهم المشركون عبدة الأصنام، ومنهم من كان يعتنق النصرانية أو اليهودية، ومنهم الأحناف الذين ترجع عقيدتهم إلى ملة سيدنا إبراهيم عليه السلام، ومن هؤلاء وأولئك من كان يتطلع إلى دين جديد ونبي جديد، ولكن لا يدرون من أي قبيلة سيكون ذلك النبي وبأي دين سيأتي.
غير أن رأيا عاما كان منتشرا بينهم وهو قرب مقدم النبي الذي تحدثت عنه الكتب السماوية وملأ خبره أرجاء الجزيرة العربية.
وقد حدثنا القرآن عن هذه الأنماط المختلفة من العرب وذوي العقائد المتباينة وخاطبهم جميعا ومنهم من كان ينكر الخالق ويقول: {مَا هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}.
ومنهم من كان يعترف بوجود الخالق ولكنه ينكر البعث ويقول: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}. وكان معتنقو الأديان الكتابية على خلاف فيما بينهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}.
وعلى الرغم من وجود هذه المعتقدات والآراء، إلا أن التاريخ لم يثبت أن هذه المعتقدات والآراء كانت تقوم على منهج عقلي أو فلسفي واضح ولم يتح للعرب أن يبلوروا هذه المعتقدات في فلسفة فكرية ذات قواعد ومنهج محددين، بل كانت قاعدتهم الفكرية هي قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}. وهذه القاعدة من شأنها أن تحجر على الفكر: النظر والبحث والتأمل، وبالتالي توقف النمو العقلي عن الوصول إلى الحقائق المتصلة بالإنسان والكون والحياة ماديا وروحيا.
ويمكن أن نقول: إن العالم الإنساني كان مغمورا بموجة طاغية من فساد الاعتقاد. بعضه يهيم في عماء الجهل والتقليد الأعمى، وعبادة الأهواء؛ لأن الوثنية التي كانت من مواريث الجهل والتبعية العمياء استحوذت على العقول والأفهام وبعضه يرسف في أغلال الحجر العقلي ومضلته، ويقي هذا الفساد مستحكما في هؤلاء وهؤلاء، حتى جاء الإسلام لإصلاح هذه الأوضاع الفاسدة، وتحرير الإنسان من هذه الأغلال الجاثمة على عقله وفكره. كانت مهمة القرآن هي العمل على إبطال القاعدة الخاطئة {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}. وتحرير الإنسان من أغلال الحجر العقلي، وسيطرة التبعية العمياء، وتربيته على حرية الفكر واستقلال الإرادة، ليكمل بذلك عقله ويستقيم تفكيره وتتهذب قواه.
فوجَّه القرآن الفكر إلى كل ما من شأنه أن يدعو إلى استعمال العقل والتدبر والتأمل حتى تزول تلك الحجب الكثيفة التي تحول بين العقل والرؤيا الصحيحة للأشياء، وليخلق أمة جديدة هي أمة القرآن العاقلة المفكرة الباحثة الدارسة التي تعلي من شأن العقل وتستخدمه في مختلف شؤونها، وتفتح أمامه آفاقا غير محدودة لاستكناه حقائق الوجود في هذا العالم الكبير.
ولقد اشتملت توجيهات القرآن العقلية على أصول ومبادئ عامة صلحت لأن تكون منهجا فكريا سليما حدد المسلمون موقفهم من مشاكل الكون والحياة، وبالتالي مكنت هذه المبادئ والتوجيهات المسلمين من الاستفادة من تلك الدرة الإلهية التي منحها الله للإنسان وهي: (العقل) فنمته وجعلته يمارس الوظيفة الأساسية التي خلق من أجلها.(/1)
طالَب القرآن كل ذي عقل بالنظر في عوالم السموات والأرض وما فيهما من الدلائل الواضحة كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّه}، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض}، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}، {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
واستنهض العقول، ووجه الأفهام، وأيقظ الحواس، ونبه المشاعر، بالتعقيب على بيان الآيات الكونية والتشريعية بمثل قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهَى}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}، {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}، وبشر الذين يستمعون القول فينظرون إليه نظر البصير ويتبعون منه ما يدل على الحق ويرشد إلى طريق العلم والقوة.
ولم يكتف القرآن بهذا، بل ذم الغافلين، ونعى عليهم غفلتهم وإعراضهم عن الآيات الكونية التي يشاهدونها في كل لحظة وتطالعهم بدلائلها في كل آونة كما في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأََنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}.
وعاب القرآن على أسرى التقليد إعراضهم عن الحق وجمودهم على ما وجدوا عليه آباءهم كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}.
فالتقليد الأعمى من شر ما تبتلى به الأفراد والجماعات لأنه يميت مواهب الفكر والنظر ويوجب ركودها وجمودها.
والقرآن الكريم فوق هذا وذاك قرر حق الإنسان في حرية الفكر واستقلال الإرادة، وحرية الفكر التي جعلها الإسلام رائد للتفكير ونبراسا للعقول والأفهام؛ هي الحرية التي تطلق العقول الأفهام من أغلال الحجر العقلي والكبت الفكري، وتحررها من سيطرة التقليد والتبعية العمياء، وتجلي لها معالم الحقائق، وتجعل قيادة التوجيه قيادة بناء وإصلاح.
وزاد الإنسان ذلك بأن قرر تحرير الإنسان من أصفاد الجهل وظلمته؛ لأن الجهل يقتل مواهب الفكر والنظر، ويطفئ نور القلوب، ويعمي البصائر، ويميت عناصر الحياة والحركة والقوة في الأمم، ويفسد على الناس مناهج حياتهم.
فذم الجهل والجاهلين في مواطن كثيرة كما في قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة}، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}، {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
وعاب الذين يتبعون الظنون والأوهام كما في قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}، {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ}.
وعظم شأن العلم وحثَّ على طلبه والسعي إليه كما في قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}، {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من سلك طرقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة"، "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة".(/2)
ونوه بفضل الحكمة وما فيها من السمو والتألق والارتفاع كما في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس".
ورفع منزلة العلماء وجعلهم أهل خشيته وقرن شهادتهم بشهادته تعالى وشهادة الملائكة كما في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ}.
وجعلهم ينابيع العلم وموارد المعرفة ورواد الحق كما في قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلاَّ الْعَالِمُونَ}.(/3)
محاضرة
الإسلام يعلو
لفضيلة الشيخ
www.almosleh.com
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، أحمده سبحانه لا أحصي ثناءً عليه وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين رب العالمين ، يحكم ما يشاء ... لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه
رضينا به ربّاً ، وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيّاً ، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله وخيرته من خلقه - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد أيها الإخوة الكرام ، إن الله سبحانه وتعالى بعث محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - على حين فترة من الرسل ، على حين انقطاع من النذر ، بعثه وقد ملأ العالم الظلمات ، وتشتتت فيه الأهواء وتفرقت فيه الأديان ، حتى إن الله جلّ وعلا مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا نفراً قليلاً من أتباع الرسل ، ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?(1). روى الإمام مسلم في صحيحه فيما رواه عياض بن حمار - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم في خطبته : (( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب )) وقال : (( إنما بعثتك – أي يا محمد – لأبتليك وأبتلي بك ))(2) بعثه الله سبحانه وتعالى رحمة للعالمين ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم بعثه بنور أشرقت له الظلمات وملأ الدنيا بالخيرات ، لم يترك طريقاً يدل إلى الله ويقرب إليه إلا بينه ، ولا طريقاً يبعد عن الآخرة ويصد عن سبيل الله إلا حذر منه - صلى الله عليه وسلم - وقد وعده الله سبحانه وتعالى بالظهور والعلو والسناء والرفعة وأنه ظاهر على كل من عانده وخاصمه كما قال جل وعلا : ? هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ?(3) ليظهره ويعليه على كل دين وملة ولو كره المشركون فالحمد لله أن جعلنا من أهل الإسلام ونسأله سبحانه أن يثبتنا عليه إلى الممات وأن يجمعنا برسولنا محمد- صلى الله عليه وسلم - في جنات عدن.
أيها الإخوة الكرام ، دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - ظاهر عليّ لا يرتاب في ذلك إلا منافق يقول : ? وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً?(4). أما أهل الإيمان الذين صدقوا وعد الله وخبره فهم يوقنون أن الله سبحانه وتعالى قد أعلى أمر هذا الدين وأظهره منذ أن بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشيرته الأقربين ودعاهم إلى دين رب العالمين فما زال هذا الدين في علو وارتفاع وغيره في سفول وانحسار ، والله لا يخلف الميعاد ، ? وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ?(5) حتى في أيام الضعف وفي مراحل النكبات ، وفي أيام الأزمات والانتكاسات كان هذا الدين عالياً شامخاً يخرج من تلك الأزمات ومن تلك النكبات قد اكتسب جمعاً كثيراً من الناس ،فإن الله سبحانه وتعالى أعلى أمر هذا الدين .
الحق يعلو ولا يعلى عليه فمن ... ... ناواه كانت جنود الله منتصرة
جنود الله التي لا حصر لها ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ، يثبت بها أهل الإيمان ويعلي بها شأن أهل الإسلام ، ويرفع الله بها دينهم وعملهم بقدر ما يكون معهم من الصدق .
__________
(1) المائدة:19.
(2) أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها برقم 5109. ...
(3) التوبة: 33. ...
(4) الأحزاب: 12.
(5) الزمر: 20.(/1)
أيها الإخوة ، إن الله سبحانه وتعالى قد أخبر في كتابه مؤكداً في مواضع عديدة أنه لا يخلف الميعاد ، فإن إخلاف الوعد ليس من شأن الرب ، قال الله جل وعلا : ? فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ?(1) ?وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ?(2) فالله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد ، كما قال سبحانه وتعالى في آيات متعددة ، إلا أننا مع هذا الوعد ومع هذه البشارة نحتاج إلى أن نقف وقفات أول هذه الوقفات ، أيها الإخوة ، أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا العلو وهذا الظهور لأهل الدين خاصة دون غيرهم ، فالعلو الذي جاء للإسلام إنما هو لأهله فبقدر ما يتحقق لهؤلاء من وصف الإسلام ويكون معهم من خصاله وأعماله بقدر ما يكون لهم من العلو والارتفاع ، ?وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ?(3). وإنما ذكر المنافقين دون غيرهم لأنهم مندسون في أهل الإسلام ، بينهم ، يعيشون معهم ، يأكلون ويشربون معهم يشيعون بينهم الأراجيف وفينا من يسمع أقوالهم ، ولذلك قال: ?وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ? صدق خبر الله جل وعلا ، وأن الله سبحانه وتعالى قد كتب العزة لكل من كان من هذا الدين متحققاً بأوصافه عاملاً به ، لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه كما في الصحيحين في غزوة بني المصطلق ، جرى خلاف بين بعض الصحابة فاعتزى كل منهم إلى رهطه وطائفته ، فقال المهاجري : يا للمهاجرين ، وقال الأنصاري : يا للأنصار . فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألهم ما الذي جرى ؟ ما هذه الدعاوى ؟ إنها دعوى الجاهلية .رفع المنافق عبدالله بن أبي ابن سلول رأسه لما سمع هذه المقالة ، قال : ليخرجن الأعز منها الأذل(4). يريد بالأذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من أهل الإيمان من المهاجرين إلى المدينة ، فجاءه الجواب من رب العالمين ، قال الله تعالى: ?يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ? هذا الضمان وهو العلو والارتفاع والعزة لا تكون إلا لأهل الإيمان بإيمانهم وأعمالهم وما يقوم في قلوبهم من صالح العمل ، فإن العمل الصالح أيها الإخوة من الجند الذي ينصر الله به أهل الإسلام ، فإنها من جنود الله تعالى التي يحصل بها حفظ أهل الإسلام ويقي بها أهل الإسلام شروراً كثيرة ، ويقي بها مكراً عظيماً قد لا ندركه ولا نتخيله ، قال الله تعالى في وصف مكر أعداء الدين لأهل الإسلام: ? وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ?(5) أي مكراً عظيماً تزلزل منه الجبال وتزول من أماكنها لكن الله جل وعلا لهم بالمرصاد وهو جلّ وعلا من ورائهم محيط وقد قال الله سبحانه وتعالى للمؤمنين وهم في حال ضعف في غزوة أحد لما أصيبوا وقتل منهم من قتل وجرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته وسقط في الحفرة وأصابه ما أصابه: ? وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ?(6) أيها الإخوة إن الإيمان علوه لا ينكسر في هزيمة عسكرية ولا بانحسار مادي ولا بضعف في صناعة أو غير ذلك أهل الإيمان لا يرتفعون ولا يعلو شأنهم ولا يكون لهم الدولة دون غيرهم إلا بالإيمان الذي علق الله به العلو ? كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ?(7) ? وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ? فهذا العلو لا يكتسب من انتصار في معركة ولا يكتسب من إتقان صناعة آلة أو غير ذلك وان كان ذلك من الأسباب التي يظهر فيها العلو لكنهم عالون ولو لم يكونوا كذلك ، وانظر إلى شأن العرب عندما خرجوا يقاتلون الروم وفارس ، كيف كانت حالهم ؟ إنهم كانوا من أهل الردى في الصناعة وفي القتال وفي معرفة فنون التقدم ، لكنهم فاقوا خصومهم أكبر الدول في ذلك الوقت الروم وفارس ، فاقوهم بإيمانهم وما معهم من اليقين ، ولقد حقق الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - علو الدين ، وظهوره وارتفاعه على كل ملة بدت بشائر ذلك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يمت عليه الصلاة والسلام إلا وقد دانت لهم أهل الجزيرة كلهم حتى لم يبقَ فيها من يعبد غير الله ، ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم واصلوا المسيرة وقد بدأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجيش الذي عقده قبل وفاته ، جيش أسامة ،
__________
(1) البقرة: 80.
(2) الحج: 47.
(3) ... المنافقون: 8.
(4) ... أخرجه البخاري في المناقب برقم 3257 وأخرجه مسلم في البر والصلة برقم 4682.
(5) ... ابراهيم:46.
(6) ... آل عمران:139
(7) ... آل عمران: 110(/2)
فأمضاه أبو بكر - رضي الله عنه - فكان ذلك فاتحة النصر وفاتحة ظهور الدين في مشارق الأرض ومغاربها ، طبق دين الإسلام مشارق الأرض ومغاربها ، سار مسير الشمس في الآفاق ، بلغ مبلغ الليل والنهار بعز أعز الله به أهل الإسلام وذلك أذل الله به أهل الكفر، ? وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ?(1).
أيها الإخوة الكرام إننا إذا تحققنا في أي زمان وفي أي مكان ، بهذا الوصف وهو وصف الإيمان فإننا موعودون بالنصر ، والله لا يخلف الميعاد ، موعودون بالعلو وإن كنا متأخرين في صناعة المواد ، وإن كنا متأخرين في إتقان فنون الحرب وغير ذلك ، فإن الله سبحانه وتعالى لم ينصر أهل الإسلام في موقع من المواقع إلا بما معهم من صدق الإيمان وعظيم الرغبة فيما عند الله عز وجل وبذل النفيس والغالي في سبيله سبحانه وتعالى ، إذا صدقنا مع الله فلنرقب الفرج ، إذا صدقنا مع الله
فليعلم الجمع منهم أننا نجب ... ... في أرضنا الصدق والإسلام قد ولدا
ذاك الفرات وذاك النيل يرفده ... ... نعم الرفادة والإرواء يابردى
وماء زمزم ما ينفك ذا عبق ... ... يروي الجموع إذا ما الماء قد نفدا
? وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ?(2).
الوقفة الثانية .. وعد الله أيها الإخوة لأهل الإيمان بالعلو والظهور ،لا يلزم منه ولا يستفاد منه ، أنه لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ، بل سيصيبهم كما قال تعالى : ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ?(3) فلابد من البلاء ليتميز الصالح من غيره ، لابد من البلاء ، فالبلاء سنة الله جل وعلا في عباده وأوليائه وأعدائه ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ?(4) إن الذين يدعون الصدق والإيمان و الصلاح في وقت السعة والرخاء كُثر ، لكنهم يمحصون وتخلى ذنوبهم وتمحص سيئاتهم وتقلل عنهم ما حملوه من أوزار الخطايا بسبب ما يصيبهم من هذا البلاء فيصفو معدنهم ويصفو ما في قلوبهم من الإيمان بتلك البلايا ? ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ?(5).
أيها الإخوة .. إن البلاء الذي يبتلي الله به أهل الإسلام من ضعف أو هزيمة ، إنما هو لحكمة بالغة ولغاية عالية لا تتحقق بغير هذا السبيل ، ولذلك كان ابتلاء الله لعباده الصالحين من دلائل الصدق الذي يخص الله به أصفياءه ، الناس يبتلون ويمتحنون على حسب إيمانهم الأمثل فالأمثل ، الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على قد ما معه من الإيمان .
أيها الإخوة ، هذا البلاء له حكم بالغة أشار الله جلّ وعلا منبهاً الصحابة في وقعة بدر إلى بعضها قال سبحانه وتعالى : ? مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ?(6).
ثالث الوقفات .. أن سنة الله جلّ وعلا في الأيام والدول والأحوال أنها لا تقر على أمر دائم بل هي سريعة التقلب والزوال فالشدة تؤذن بالفرج والله سبحانه وتعالى قد قال :?وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ?(7) فتلك الأيام لا تقر على حال ، بل من المحال دوام الحال فالحال تتقلب وتتغير وهذه من سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه وهي سنة كونية اجتماعية أجراها الله سبحانه وتعالى في الناس ، فالناس لا تستمر حالهم على حال واحدة بل هم في مناوبة وتعاقب بين المصائب والمواهب بين المسار والمضار ?إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ?(8).
__________
(1) ... يوسف: 21
(2) ... يوسف: 21.
(3) ... البقرة:155.
(4) ... محمد:31.
(5) ... محمد: 4.
(6) ... آل عمران:179.
(7) ... آل عمران: 140.
(8) ... آل عمران:140.(/3)
أيها الإخوة ، إن الله سبحانه وتعالى جعل البلاء موصلاً إلى رحمته ، ? أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ?(1).
اصبر قليلاً فبعد العسر تيسير ... وكل وقت له أمر وتدبير
وللمهيمن في حالتنا قدر ... وفوق تدبيرنا لله تدبير
? وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ?(2). نرى الأمور ونكرهها ، نرى الأمور على غير ما نهوى ويخرج الله من رحم الظلام فجراً تشرق به الوجوه ، وتسر به النفوس ويحقق الله به الوعد الذي وعده هذه الأمة ، فكلما اشتدت الكربة رقبنا الفجر ، جاء رجل إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -–في وقت خلافته - فقال له: يا أمير المؤمنين أجدبت الأرض وقحط المطر وقنط الناس. قال : إذاً مطرتم . فجعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اشتداد الحال من قحط المطر وجدب الأرض وقنوط الناس علامة على قرب المطر ، قال رحمه الله بعد قوله له مطرتم ، تلا قول الله تعالى: ? وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ?(3) والله قريب مجيب ، الله سبحانه وتعالى يبتلي العباد بما يبتليهم به ليميز الخبيث من الطيب ثم بعد ذلك يأتي فرج الله جلّ وعلا .
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكنت أظنها لا تفرج
أيها المؤمنون ، انه مهما كان من انهزام وانكسار ، فلن يخلف الله وعده ، وهذا رابع المواقف التي يجب أن نقفها مع الله عز وجل ، وعد الله لا يزيد المؤمنين عند اشتداد الكرب إلا ثباتاً ?وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً?(4) لما اشتد الأمر على صحابة رسول الله فجاءهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنون ، قال المنافقون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ، ما وعدنا إلا أمراً لا تحصيل له ،كذباً لا سبيل إلى إدراكه ، وأما المؤمنون الثابتون المصدقون لوعد الله عز وجل فمهما اسودت الدنيا في وجوههم لا يتزلزل الإيمان في قلوبهم ، بل هم مصدقون لوعد الله ورسوله ?وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً?(5) وعد الله أيها الإخوة لا يخلف، ?فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ?(6) ?كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ?(7) ? إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ?(8) ?وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ?(9) وقال الله تعالى: ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ? قال الله جلّ وعلا مبشراً أهل الإيمان بعد هذا التهديد: ? فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ صدق الله العظيم وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ?(10).
نسأل الله جلّ وعلا أن نكون من أهل وعده الذين يظفرون بالنصر على أعداء الإسلام ، عاجلاً غير آجل .
أيها الإخوة الكرام إن اليأس يدب في بعض النفوس ، إن الناظر في أحوال الأمة الإسلامية يجد أن المآسي والنكبات قد اتسع نطاقها وبدأت تتناثر هنا وهناك ، فلا تكاد تخف وطأة الكفر على بلد من البلدان حتى تفجع الأمة بنكبة أو نكبات جديدة يرقق بعضها بعضاً كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في نبأ الفتن في حديث عبد الله عمرو في صحيح مسلم: ( تأتي الفتنة فيقول المسلم: هذه مهلكتي ثم تنكشف ثم تأتي الأخرى فيقول المؤمن: هذه مهلكتي )(11).
__________
(1) ... البقرة:214.
(2) ... يوسف: 21.
(3) ... الشورى:28.
(4) ... الأحزاب:22.
(5) ... الأحزاب:22.
(6) ... إبراهيم: 47.
(7) ... المجادلة:21.
(8) ... غافر:51.
(9) ... الأنبياء:105.
(10) ... إبراهيم:13-14.
(11) ... أخرجه النسائي في البيعة برقم 4120 وأخرجه ابن ماجه في الفتن برقم 3946.(/4)
أيها الإخوة إن آلام الأمة لو تتبعناها لطال بنا المقام ولطال بنا الكلام ، ولسنا في شأن تعداد الآلام إنما في شأن التعامل مع هذه الآلام ،كيف يتعامل المؤمن مع هذه الآلام ؟ إن الواجب على المؤمن أيها الإخوة أن يتعامل مع هذه الآلام بإيمان جازم ويقين راسخ وعقد صالح وعمل يرفع به درجته ويثبت به قدمه ، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال لنا فيما رواه الإمام مسلم في حديث عبدالله بن عمرو بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح المسلم فيها مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي كافراً ويصبح مؤمناً يبيع دينه بعرض من الدنيا )(1) فالواجب على المؤمن أن يستقبل هذه النوازل بصبر ثابت وإيمان راسخ وأن يرجع إلى هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن في هديه ما ليس في غيره من الكتب والآثار وغير ذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - جعله الله أسوة لأهل الإيمان ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً?(2). أيها الإخوة إننا بحاجة في ظل هذه الأزمة التي كشرت عن أنيابها على الأمة الإسلامية في بقاع الأرض فأمس أفغانستان واليوم العراق وغداً سوريا وبعدها الله إعلم ، هذه الهجمة التي يقودها الغرب الصليبي الصهيوني إنما تقابل بإيمان راسخ وعمل جازم ويقين ثابت فإنه لا سبيل إلى تفادي هذه الكربات واستقبال هذه النكبات إلا بما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شدة اللجأ إلى الله عز وجل والاعتماد عليه وعدم النظر إلى هذه القوة المادية فإن الشيطان يخوف أولياءه ، يخوفنا بهذه القوة ، ونحن معنا قوة لا تهزم ، معنا الله الذي قد قال: ? إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?(3) فلنكن من الذين اتقوا والذين هم محسنون فإن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد كتب أحد الصحابة لقريش في وصف مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، قال : (( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جاءكم بجيش كالليل يمشي كالسيل فأحذركم إياه فوالله لو جاءكم وحده لهزمكم )) فكيف ولو جاء بهذا الجيش الكثيف ،فالمراد أن وعد الله لا يتخلف والصحابة أيقنوا بذلك ، فجاءتهم البشائر وحققوا النصر وهذا الفتح المبين والنشر الكبير لدين الإسلام إنما كان لصدق إيمانهم وعظيم توكلهم واعتمادهم على ربهم .
أيها الإخوة إننا بحاجة إلى نظرة متفائلة ، نظرة تنظر إلى المستقبل بإشراق ترقب وعد الله عز وجل وتعمل على تحقيقه ، إننا بحاجة إلى أن ننظر إلى المستقبل بنظرة متفائلة ، فالبشائر كثيرة التي تدل على أن الأمة قد أقبلت على خطوة يرتفع بها دينها ويعلو بها شأنها ، إن الخصوم أعداء الإسلام لم يخرجوا من الاستعمار الذي غلب ديار الإسلام إلا وقد أيقنوا أنهم خلّفوا في بلاد الإسلام ما يأمنون به على مصالحهم ويقوم به شأنهم ويقوم به ما يريدون تحقيقه في بلاد الإسلام ،فلما رأوا أن الأمة قد عادت إلى ربها على وجه العموم فالخير انتشر في الأمة والدعوة إلى الله عز وجل سادت وانقلبت عليهم الموازين وأصبحوا يرون في الذين خلّفوهم بعدهم لا يحققون مقاصدهم ولا يحققون مآربهم عادوا بجيوشهم ليسيطروا على الأمة ويمنعوها من تحقيق العلو والنصر ? وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ?(4) كل هذا السعي إنما هو لتمكين اليهود وإفشال كل من يدعو إلى الله ورسوله ولو كان يدعو بالكلمة الحسنة ويدعو بالحكمة والموعظة الحسنة إنهم لا يريدون أن تعلو كلمة الله في مكان من الأرض كما جاء في دعاء عمر - رضي الله عنه - على هؤلاء لما كان يدعو عليهم يقول : ((اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك )) هذا الوصف منطبق على الصهاينة الصليبيين الذين يحتلون بلاد العراق ويحتلون غيرها من بلاد المسلمين نسأل الله جلّ وعلا أن يكشف الكربة عن هذه الأمة وأن يعز الإسلام وأهله وأن يذل الكفر وملله وان يخرج هؤلاء الكافرين من بلاد الإسلام أذلة صاغرين إنه ولي ذلك والقادر عليه .
أيها الإخوة إننا بحاجة إلى أن نرجع إلى كتاب الله عز وجل نقرأ فيه السنن ونطالع فيه ما ذكره الله سبحانه وتعالى من سبل النجاة في الكربات والمدلهمات ، نتأمل فيه من الخير الذي يخرجنا من هذه الأزمات والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير وقد قال سبحانه وتعالى في خصوم الدين : ? فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً?(5).
__________
(1) ... أخرجه مسلم في الإيمان برقم 169.
(2) ... الأحزاب:21
(3) ... النحل:128
(4) ... يوسف: 21
(5) ... مريم:84(/5)
وقد جعل الله لكل شيء قدراً والله لا تعجله الأماني ولا تعجله دعوات الناس فالله جعل لكل شيء قدراً إذا جاء الكتاب وبلغ أجله فإن الله سبحانه وتعالى منجز وعده لا إله إلا هو وحده نصر عبده وهزم الأحزاب وحده وأظهر دينه ، نسأل الله بأسمائه وصفاته أن يقر الجميع بنصر الإسلام وأن يحقن دماء إخواننا في العراق وفي سائر بلاد الإسلام إنه ولي ذلك والقادر عليه و صلى الله وسلم على نبينا محمد.(/6)
الإسماعيلية
مراد القدسي
... ...
1522
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب
ملخص المادة العلمية
1- تعريف بالطائفة وظروف نشأتها وجذورها. 2- عقائد الإسماعيلية. 3- صورة في تاريخهم الأسود. 4- دخول الإسماعيلية اليمن. 5- أسلوب الدعوة إلى الإسماعيلية. 6- التأويل الباطني للنصوص الشرعية. 7- إسقاط التكاليف الشرعية.
أ- التعريف: فرقة باطنية تسمى إسماعيلية نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق.
ب- النشأة:
1- ظهروا في العراق، وكان ظهورهم كدولة في البحرين فالمغرب، فمصر، فاليمن.
2- مؤسسهم عبد الله بن ميمون بن ديصان القداح ظهر في جنوبي فارس 260هـ ثم ظهر أمره في المغرب وفي اليمن.
3- حمدان قرمط بن الأشعث، وسموا قرامطة نسبة إليه، ومعنى قرمط: أي رجل يمشي مقارب الخطى.
وفي اليمن منهم: الإسماعيلية البهرة:يعترفون بالإمام المستعلي بن سعد بن نزار، وينتسب إلى عبد الله المهدي القداح ويعرفون بالطيبية وبالدود نسبة إلى داود أو الداودية وينسبون إلى قطب شاه داود وهم في الهند وباكستان.
ومنهم السليمانية نسبة إلى سليمان بن حسن، ومركزهم في اليمن ويسمون المكارمة، سموا مكارمة نسبة إلى مكرم بن فلان اليامي، من ناحية همدان.
ج- الجذور:
نشأ مذهبهم في العراق ثم فروا إلى فارس وخراسان، وما رواء النهر، فخالط مذهبهم عقائد الفرس، والأفكار الهندية واختلطوا بالبوذيين.
ولهم أصول يهودية نسبة إلى ميمون، وقبله عبد الله بن سبأ.
ولهم اتصال بالفلاسفة اليونانية عن طريق كتاب إخوان الصفا وخلان الوفاء.
د- عقائدهم:
1- في الإمامة:
- ضرورة وجود إمام معصوم منصوص عليه من نسل محمد بن إسماعيل.
- يرفعون أئمتهم إلى درجة الإله ويخصونه بعلم الباطن.
- الأرض لا تخلو من إمام ظاهر أو إمام باطن.
- الإمام عندهم هو وارث الأنبياء جميعاً.
2- في الله:
- يصفونه بما وصفهم به غلاة الجهمية بأن لا داخل العالم ولا خارج العالم.
- يشركون معه في عبادته.
- يزعمون أن الأئمة أولياء الله.
3- في الرسول:
- كلهم لا يعتقدون بنبوته إلا تقية في بعض الأحيان.
- يرون النبوة تؤخذ بالاكتساب عن طريق الرياضة الروحية.
- يجعلون النبوة نوعان ناطق كمحمد، وصامت كعلي.
- ادعى منهم النبوة كثير، منهم المعز الفاطمي، جعفر بن إبراهيم المنافي، علي بن الفضل.
4- في الجنة والنار والمعاد:
- لا يؤمنون بجنة ولا نار ولا معاد، ويرون أن الجنة هي نعيم الدنيا، والنار شقاء الدنيا.
5- في العبادة:
- يجعلون لكل عبادة ظاهرة معنىً باطناً.
- الصلاة الدعاء إلى أئمتهم، الزكاة ولاية علي، والصلاة ولاية محمد .
- الصوم: الكتمان في وقت استتارهم خوفاً من الظالمين.
- الحج:الكعبة رمز على الإمام.
- الجنابة: هي الجهل بعلم الباطن، فلابد من العلم والطهارة.
- وقبل تحريف معاني العبادات يسقطون العبادات عن أصحابها وسيأتي بيان ذلك.
6- في المعاصي والذنوب:
- يستبيحون كل المحرمات يقولون: (لا حقيقة في الوجود، وكل شيء مباح).
قال الغزالي: المنقول عنهم الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباق المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع، إلا أنهم بأجمعهم ينكرون ذلك إذا نسب إليهم.
وقال الشاعر ابن الفضل:
خذي الدف يا هذه والعبي وغني حفرايك ثم ألهزي
قولي نبي بني هاشم وهذا نبي بني يعرب
لكل نبي مضى شرعة وهذه شرائع هذا النبي
فقد حط عنا فروض الصلاة وحط الصيام ولم يتعب
إذا الناس صلوا فلا تنهضي وإن صاموا فكلي واشربي
ولا تطلبِ السعي عند الصفا ولا زورة القبر في يثرب
ولا تمنعي نفسك المعرسين من الأقربين مع الأجنبي
فكيف تحليِ لهذا الغريب وصرت محرمة للأب
أليس الغراس لمن ربه وسقاه في الزمن المجدب
وما الخمر إلا كماء السماء حلالاً فقدست من مذهب
7- تعاملهم مع المسلمين:
- التقية في العقائد - البطش والقتل
- الخداع والغدر بكل الوسائل
أبو سعيد الجنابي قتل الحجيج في مكة عام 317هـ.
وقال شعراً:
ولو كان هذا البيت لله ربنا لصب علينا النار من فوقنا صباً
لأنا حججنا حجة جاهلية مجللة لم تبق شرقاً ولا غرباً
وأنا تركنا بين زمزم والصفا جنائز لا تبغي سوى ربها ربا
هـ- كيف جاءت الدعوة إلى اليمن:
- علي بن الفضل رافضي خرج إلى الحج وزار قبر النبي ثم رحل إلى زيارة قبر الحسين.
- وجد ميمون وابنه عبد الله، وسرهما بكاؤه على القبر فكان مدخله إليهما في الدعوة.
- قال علي بن الفضل: (إن الفرصة ممكنة باليمن، وإن الذي تدعو إليه جائز هنالك وناموسنا يمشي عليهم، وذلك ما أعرف فيهم من ضعف الأحلام وتشتيت الرأي وقلة المعرفة بالأحكام الشرعية المحمدية).
- فالتقيا بالمنصور الحسن بن زاذان لتبدأ بعده الدعوة إلى الإسماعيلية.
و- درجاتهم:
- الداعي الأكبر.
- الداعي المأذون.
- المكلب.
ز- طريقة استدراجهم للمسلمين حيث يمر المدعو إلى دينهم بمراحل:
- يأمرون الرجل بالمحافظة على العبادة لمدة سنة وينظرون صبره.(/1)
- ويدخلون عليه روايات عن النبي محرفة وأقوال مزخرفة، ويتلون القرآن على غير وجهه ويحرفون الكلم عن مواضعه.
- فإن قنع أمروه بكشف السرائر وألا يرضى بنفسه بالظواهر.
- يعرفونه بما يزعمون معاني الصلاة والطهارة.
- وكل شيء له باطن وظاهر ويحتجون باطلاً بقوله تعالى: وذروا ظاهر الإثم وباطنهقل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر وما بطن.
ويقولون: البيضة ظاهر وباطن، والباطن لا يعرفه إلا قليل.وما آمن معه إلا قليل وقليل ما هم، وقليل من عبادي الشكور.
تأويل الصلاة والزكاة: محمد وعلي
- ثم يأمرونه بدفع القربة 12 دينار وتسقط عنه الصلاة.
- ثم يقرأ الداعي قوله: ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
- ثم يقولون: الحمد لله الذي وضع عنك وزرك الذي أنقض ظهرك.
- ثم يأمره بالسؤال والبحث، فيأمره بسؤال عن الخمر والميسر.
- ويجيبه بأنهما أبو بكر وعمر، وأن الخمر والميسر حلال، يقرأ قوله تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق هي للذين آمنوا وقوله ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا.
- تأويل الصوم بالكتمان
- ثم يأمره بدفع النجوى 12 ديناراً فيضع عنه الصوم.
- ثم يبن له الطهارة وغسل الجنابة.
- ثم يأمره بالنجوى 12 ديناراً – يسقط عنه غسل الجنابة.
- ثم يقول له عرفت أربع درجات ولابد من الخامسة الأمر المستتر.
- ويأمره بدفع 12 دينار، فيأمره الداعي بالدخول على امرأة المكلِّب درجة من درجات دعاتهم).
- ثم يقرب 12 دينار ويجيز له الدخول على نساء الطائفة، ثم على زوجة المقتدي.
- فيشكر المدعو المخدوع الإسماعيلي،فيقول له الداعي: هذا ليس من فضلي هذا من فضل مولانا أمير المؤمنين، فاشكره ولا تكفره على ما أطلق وثاقكم، ووضع عنكم أوزاركم، وحط عنكم آصاركم. . وضع عنكم أثقالكم، وأحل لكم بعض الذي حرم عليكم جهالكم. أ.هـ.(/2)
الإصلاح بين الناس
162
الآداب والحقوق العامة
محمد بن علي السعوي
بريدة
جامع الراشد
ملخص الخطبة
1- تأليف القلوب وإزالة الشحناء مقصد شرعي 2- الواجب على المسلمين السعي في الإصلاح 3- الخصومة بين المسلمين تمنع نزول المغفرة على المتخاصمين 4- جواز الكذب في الإصلاح بين المسلمين 5- وجوب قبول اعتذار المخاصم 6- رسول الله يصلح بين المتخاصمين 7- الله جلّ وعلا يصلح بين بعض المتخاصمين في الآخرة
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى: وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [سورة الأنفال:1].
معشر المسلمين: كثير ما يكون بين الناس منازعات وخصومات، وذلك نتيجة لاختلاف الأهواء والرغبات والاتجاهات، ومن ثم فإن المنازعات والخصومات تسبب البغضاء والعداوات، وتفرق بين المسلمين والقرابات، ومطلوب منا أن نسعى إلى الإصلاح بكل الوسائل والإمكانات، قال الله تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [سورة الحجرات:10].
أيها المسلمون: لقد أرسل الله تعالى نبيه محمدا رحمة للعالمين؛ ليجمع على الإيمان قلوب المؤمنين، ويزيل من قلوبهم كل أسباب الشحناء، ويطهر نفوسهم من كل أسباب البغضاء، ليكونوا إخوانا متحابين، فإذا وجد بين بعضهم خصومة وشحناء ونزاع وبغضاء أمروا أن يتقوا الله، وأن يصلحوا ذات بينهم، وعلى المسلمين أن يسعوا في الإصلاح ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري : ((رد الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن))، (من تفسير القرطبي :ج5 ص384).
وقد قال تعالى: وأصلحوا ذات بينكم ، أي أصلحوا ما بينكم من أحوال الشقاق والافتراق حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، ليكون المسلمان المتشاحنان متعرضين لمغفرة الله والجنة.
عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس لكل عبد لا يشرك بالله شيئا وفي رواية: تعرض الأعمال في كل يوم خميس وإثنين فيغفر الله – عز وجل – في ذلك لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)) (رواه مسلم – رحمه الله - :ص1987ج4).
أيها المسلمون: لقد اهتم الإسلام بإصلاح ذات البين حفاظا على وحدة المسلمين، وسلامة قلوبهم، وإن الإصلاح يعتبر من أعظم وأجل الطاعات، وأفضل الصدقات، فالمصلح بين الناس له أجر عظيم، وثواب كريم، إذا كان يبتغي بذلك مرضاة الله تعالى، فأجره يفوق ما يناله الصائم القائم، المشتغل بخاصة نفسه، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة)) (رواه أبو داود وغيره :ص929ج3) ومعنى الحالقة: أي تحلق الدين.
وعن أبي هريرة قال :قال رسول الله : ((كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم يعدل بين الناس صدقة)).
رواه البخاري – رحمه الله – وفي رواية لمسلم قال: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، قال: والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة. (ص699ج2 مسلم ). قوله تعدل بين الاثنين أي تصلح بينهم بالعدل.
أيها المسلمون: إن الإصلاح بين الناس تفضل فيه النجوى، وهي السر ودون الجهر والعلانية، ذلك أنه كلما ضاق نطاق الخلاف كان من السهل القضاء عليه، لأن الإنسان يتأذى من نشر مشاكله أمام الناس، فالسعي في الإصلاح يحتاج إلى حكمة، وإلا فإن الساعي أحيانا قد يزيد من شقة الخلاف وحدته، قال تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً [سورة النساء:114].
أيها المسلمون: ولأهمية الإصلاح بين الناس رخص فيه الكذب، وذلك إذا كان سبيلا للإصلاح ولا سبيل سواه، عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا)) (رواه البخاري: فتح الباري ج5ص299)، قوله: ((ينمي خيرا)) أي: ينقل الحديث على وجه الإصلاح، وفي صحيح مسلم: قال ابن شهاب – رحمه الله -: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها (ج4ص2011)، فأما الكذب في الحرب فإن الحرب خدعة، ومن ثم فإن الأمر يستدعي التمويه على الأعداء، ويتحدث بما يقوي به أصحابه ويكيد به عدوه مثل أن يقول جيش المسلمين كبير وجاءهم مدد كثير.(/1)
وأما الكذب في الإصلاح بين الناس، فمثل أن يحاول المصلح تبرير أعمال كل من المتخاصمين وأقوالهما بما يحقق التقارب، ويزيل أسباب الشقاق والخلاف، وأحيانا ينفي بعض أقوالهما السيئة فيما بينهما، وينسب إلى كل منهما من الأقوال الحسنة في حق صاحبه مما لم يقله مثل أن يقول: فلان يسلم عليك ويحبك، وما يقول فيك إلا خيرا ونحو ذلك، وأما الكذب بين الزوجين، فقد قال ابن حجر – رحمه الله -: المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها، وذلك أن الكذب بينهما قد يحتاج إليه أحيانا بحيث يخفي كل واحد منهما عن الآخر ما من شأنه أن يوغر الصدور، أو يولد النفور، أو يثير النزاع والفتن، ويزرع الشقاق والإحن، فمثلا لكل واحد منهما أن يخاطب الآخر بمعسول القول ما يزيد الحب، ويسر النفس، ويجمل الحياة يبنهما، وإن كان ما يقال كذبا، قال الخطابي – رحمه الله -: كذب الرجل على زوجته مثل أن يعدها ويمنيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه؛ ليستديم بذلك صحبتها، ويصلح بها خلقها.
أسأل الله أن يجعلنا من الصالحين المصلحين، وأن يوفقنا لحسن العمل وصالح الأخلاق، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بين سبل الفلاح، ورتب الرحمة على التقوى والإصلاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه وبحمده بالغدو والرواح، والمساء والصباح، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، جعله الله أسوة في الصلاح والإصلاح، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين سعدوا بالفلاح والنجاح، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى: وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله رسوله إن كنتم مؤمنين .
أيها المؤمنون: إن أطيب حياة يعيشها المؤمن والمؤمنة في هذه الدنيا، هي حينما يكون مراقبا لله حسن الطوية لعباد الله. فأصلح – أيها المسلم – ما بينك وبين الله يصلح الله ما بينك وبين الناس، واحذر أسباب الشحناء والبغضاء، وإذا جاء إليك أخوك معتذرا فأقبل معذرته ببشر وطلاقة؛ بل ينبغي أن تسعى أنت إلى إنهاء الشحناء وإن كان لك الحق، قال عمر – -: أعقل الناس أعذرهم لهم، وقال الحسن بن علي – رضي الله عنهما -: لو أن رجلا شتمني في أذني هذه واعتذر إلي في أذني الأخرى لقبلت عذره. (ص 340 ج1/الآداب الشرعية لابن مفلح)، وروي أن الحسين بن علي كان بينه وبين أخيه محمد بن الحنفية خصومة – عليهم رضوان الله – وبعد أيام كتب محمد بن الحنفية رسالة ضمنها اعتذاره منه، فما إن وصل الكتاب إلى الحسن حتى قام لساعته وذهب إلى أخيه محمد، فالتقلا به في منتصف الطريق، فتعانقا وبكيا وتصالحا. (ص 501/الحلال والحرام لأحمد عساف بتصرف).
أيها المسلم: إذا علمت أن بين اثنين من إخوانك أو قرابتك أو أرحامك أو أصحابك أو جيرانك شحناء أو قطيعة، فعليك أن تبذل وسعك وغاية جهدك في الإصلاح بينهما، وإياك أن تتكاسل عن هذا العمل الجليل من أجل الاستماع إلى إيحاءات الشيطان، وأقوال المخذولين الذين يقولون: أنت في عافية فلا تكلف نفسك فيما لا شأن لك به، بل عليك – وأنت تقدر على ذلك – أن تسعى لإزالة أسباب التفرق والشحناء بين أخويك، فالصلح خير وذلك رحمة بهما وشفقة عليهما وطمعا في فضل الله ورحمته التي وعدها من أصلح بين الناس، قال تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون .
أيها المسلمون: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فلقد كان يسعى بنفسه للصلح بين المتشاحنين مؤكدا بذلك أهمية الإصلاح بين الإخوة المؤمنين، فعن سهل بن سعد أن ناسا من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي في أناس من أصحابه يصلح بينهم. (فتح الباري ج5 ص297) حتى أوشك أن تفوته صلاة الجماعة، وفي رواية قال: ((اذهبوا بنا نصلح بينهم)).(/2)
أيها المسلمون: بل إن الله تعالى ليصلح بين عباده يوم القيامة، قال ابن كثير – رحمه الله – عند قوله تعالى: وأصلحوا ذات بينكم ، قال: ولنذكر هاهنا حديثا أورده أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس قال: بينما رسول الله جالس إذا رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة - تبارك وتعالى – فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله تعالى: أعط أخاك مظلمته. قال: يا رب لم يبق من حسناتي شيء. قال: رب فليحمل عني من أوزاري، قال: ففاضت عينا رسول الله بالبكاء، ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى الطالب: ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه، فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال هذا لمن أعطى ثمنه، قال: رب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت تملكه قال: ماذا يا رب؟ قال: تعفو عن أخيك، قال: يا رب قد عفوت عنه، قال الله تعالى: خذ بيد أخيك فادخلا الجنة، ثم قال : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة.
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي. . . .(/3)
... ...
الإصلاح بين الناس ... ...
محمد صالح المنجد ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- حث الشارع وترغيبه في الإصلاح بين الناس 2- أن الإنسان لو حلف على ما فيه إفساد ذات البين فعليه أن يُكَفّر عن يمينه ويأت الذي هو خير 3- ذِكر ما يدل على التعامل بحكمة مع الخلافات الزوجية وغيرها من الخلافات بين الناس 4- ما يدل على جواز الكذب للإصلاح ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
فقوله تعالى: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم أي واتقوا الله في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه وأطيعوا الله ورسوله أي في قسمه بينكم على ما أراده الله فإنه إنما يقسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف وقال ابن عباس هذا تحريض من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم وكذا قال مجاهد وقال السدي فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم أي لا تستبوا.
ولنذكر ههنا حديثا أورده الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي رحمه الله في مسنده فإنه قال: حدثنا مجاهد بن موسى حدثنا عبدالله بن بكير حدثنا عباد بن شيبة الحبطي عن سعيد بن أنس عن أنس رضي الله عنه "قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: ((رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله تعالى:أعط أخاك مظلمته قال: يا رب لم يبق من حسناتي شيء قال: رب فليحمل عني أوزاري قال: ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ. لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى ثمنه قال: يا رب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت تملكه قال: ماذا يا رب؟ قال: تعفو عن أخيك قال: يا رب فإنى قد عفوت عنه قال الله تعالى: خذ بيد أخيك فادخلا الجنة". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة)).
قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا .
فقوله تعالى: لا خير في كثير من نجواهم يعني كلام الناس إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس أي إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث حدثنا محمد بن زيد بن حنيش قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده فدخل علينا سعيد بن حسان فقال له الثوري الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح ردده علي فقال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله عز وجل أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر)) فقال سفيان: أو ما سمعت الله في كتابه يقول: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فهو هذا بعينه أو ما سمعت الله يقول: يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا فهو هذا بعينه أو ما سمعت الله يقول في كتابه: والعصر إن الإنسان لفي خسر الخ فهو هذا بعينه.
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين قال: وفساد ذات البين هى الحالقة)) ورواه أبو داود والترمذي من حديث أبي معاوية وقال الترمذي حسن صحيح.
ولهذا قال: ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله أي مخلصا إلى ذلك محتسبا ثواب ذلك عندالله عز وجل: فسوف نؤتيه أجراً عظيماً أي ثوابا جزيلا كثيرا واسعا.
قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .(/1)
قوله تعالى: فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي الجنف الخطأ وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها بأن زادوا وارثا بواسطة أو وسيلة كما إذا أوصى ببيعة الشيء الفلاني محاباة أو أوصى لابن ابنته ليزيد أو نحو ذلك من الوسائل إما مخطئا غير عامد، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر أو متعمداً آثما في ذلك، فللوصي والحالة هذه أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعا بين مقصود الموصي والطريق الشرعي، وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء ولهذا عطف هذا فبينه على النهي عن ذلك ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل والله أعلم.
قال تعالى: ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
المعنى: لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها كقوله تعالى: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم . فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:- ((والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه)) وهكذا رواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به. ورواه أحمد عنه به ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا يحيى بن صالح حدثنا معاوية هو ابن سلام عن يحيى وهو ابن أبي كثير عن عكرمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:– ((من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما ليس تغني الكفارة)). وقال علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم قال: لا تجعلن عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير.
ويؤيد ما قاله هؤلاء الجمهور ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:– ((إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها)) وثبت فيهما أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لعبدالرحمن بن سمرة: ((يا عبدالرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك)) وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير)).
التدخل الحكيم من أهل الزوجين:
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: ((جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ عَمِّك؟ِ قَالَت:ْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي. فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِنْسَان:ٍ انْظُرْ أَيْنَ هُوَ فَجَاءَ فَقَال:َ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ وَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ. قُمْ أَبَا تُرَابٍ)).
قوله: (أين ابن عمك) فيه إطلاق ابن العم على أقارب الأب لأنه ابن عم أبيها لا ابن عمها, وفيه إرشادها إلى أن تخاطبه بذلك لما فيه من الاستعطاف بذكر القرابة, وكأنه صلى الله عليه وسلم فهم ما وقع بينهما فأراد استعطافها عليه بذكر القرابة القريبة التي بينهما. قوله: (فلم يقل عندي) بفتح الياء التحتانية وكسر القاف, من القيلولة وهو نوم نصف النهار, وفي حديث سهل هذا من الفوائد أيضا جواز القائلة في المسجد, وممازحة المغضب بما لا يغضب منه بل يحصل به تأنيسه, وفيه التكنية بغير الولد وتكنية من له كنية, والتلقيب بالكنية لمن لا يغضب, وفيه مدارة الصهر وتسكينه من غضبه, ودخول الوالد بيت ابنته بغير إذن زوجها حيث يعلم رضاه.(/2)
أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَقَال:َ هَذَا فُلانٌ لأَمِيرِ الْمَدِينَةِ يَدْعُو عَلِيًّا عِنْدَ الْمِنْبَرِ قَالَ فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ يَقُولُ لَهُ: أَبُو تُرَابٍ فَضَحِكَ قَال:َ وَاللَّهِ مَا سَمَّاهُ إلا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كَانَ لَهُ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُ فَاسْتَطْعَمْتُ الْحَدِيثَ سَهْلا وَقُلْتُ يَا أَبَا عَبَّاسٍ كَيْفَ ذَلِكَ قَالَ دَخَلَ عَلِيٌّ عَلَى فَاطِمَةَ ثُمَّ خَرَجَ فَاضْطَجَعَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ ((أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ قَالَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَوَجَدَ رِدَاءَهُ قَدْ سَقَطَ عَنْ ظَهْرِهِ وَخَلَصَ التُّرَابُ إِلَى ظَهْرِهِ فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ فَيَقُولُ اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ مَرَّتَيْنِ)).
قوله: (فاستطعمت الحديث سهلا) أي سألته أن يحدثني, واستعار الاستطعام للكلام لجامع ما بينهما من الذوق للطعام الذوق الحسي وللكلام الذوق المعنوي, وفي رواية الإسماعيلي " فقلت يا أبا عباس كيف كان أمره".
قوله: (أين ابن عمك؟ قالت: في المسجد) في رواية الطبراني كان بيني وبينه شيء فغاضبني. قوله: (وخلص التراب إلى ظهره) أي وصل, في رواية الإسماعيلي "حتى تخلص ظهره إلى التراب" وكان نام أولا على مكان لا تراب فيه ثم تقلب فصار ظهره على التراب أو سفى عليه التراب.
قوله: (اجلس يا أبا تراب. مرتين) ظاهره أن ذلك أول ما قال له ذلك.
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: إِنْ كَانَتْ أَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَيْهِ لأبو تُرَابٍ وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ يُدْعَى بِهَا وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إلا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَاضَبَ يَوْمًا مِنْ فَاطِمَةَ فَخَرَجَ فَاضْطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ في الْمَسْجِدِ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْبَعُهُ فَقَالَ هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِي الْجِدَارِ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامتلأ ظَهْرُهُ تُرَابًا فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ وَيَقُول: ((اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ)).
قال ابن بطال: وفيه أن أهل الفضل قد يقع بين الكبير منهم وبين زوجته ما طبع عليه البشر من الغضب, وقد يدعوه ذلك إلى الخروج من بيته ولا يعاب عليه. قلت: ويحتمل أن يكون سبب خروج علي خشية أن يبدو منه في حالة الغضب ما لا يليق بجناب فاطمة رضي الله عنهما فحسم مادة الكلام بذلك إلى أن تسكن فورة الغضب من كل منهما. وفيه كرم خلق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه توجه نحو علي ليترضاه, ومسح التراب عن ظهره ليبسطه, وداعبه بالكنية المذكورة المأخوذة من حالته, ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عنده, فيؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار وترك معاتبتهم إبقاء لمودتهم, لأن العتاب إنما يخشى ممن يخشى منه الحقد لا ممن هو منزه عن ذلك.
وقد ذكر ابن إسحاق عقب القصة المذكورة قال: "حدثني بعض أهل العلم أن عليا كان إذا غضب على فاطمة في شيء لم يكلمها, بل كان يأخذ ترابا فيضعه على رأسه, وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ذلك عرف فيقول: مالك يا أبا تراب؟" فهذا سبب آخر يقوي التعدد, والمعتمد في ذلك كله حديث سهل في الباب والله أعلم.
فضّ الخصومة بين المتنازعين المتداينين.
عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ: ((يَا كَعْبُ فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه.ِ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ فَقَالَ كَعْب:ٌ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ فَاقْضِه))ِ.
قوله: (عن كعب) هو ابن مالك, أبوه. قوله: (دينا) وقع في رواية زمعة بن صالح عن الزهري أنه كان أوقيتين أخرجه الطبراني. قوله: (في المسجد) متعلق بتقاضى. قوله: (سجف) بكسر المهملة وسكون الجيم وحكى فتح أوله وهو الستر.
قوله: (أي الشطر) بالنصب أي ضع الشطر, لأنه تفسير لقوله: "هذا " والمراد بالشطر النصف وصرح به في رواية الأعرج. قوله: (لقد فعلت) مبالغة في امتثال الأمر. وقوله: "قم" خطاب لابن أبي حدرد, وفيه إشارة إلى أنه لا يجتمع الوضيعة والتأجيل.(/3)
وفيه الاعتماد على الإشارة إذا فهمت, والشفاعة إلى صاحب الحق, وإشارة الحاكم بالصلح وقبول الشفاعة, وجواز إرخاء الستر على الباب.
قوله: (تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد, فارتفعت أصواتهما) معنى تقاضاه طالبه به, وأراد قضاءه. وحدرد بفتح الحاء والراء. وفي هذا الحديث جواز المطالبة بالدين في المسجد, والشفاعة إلى صاحب الحق, والإصلاح بين الخصوم, وحسن التوسط بينهم , وقبول الشفاعة في غير معصية, وجواز الإشارة واعتمادها قوله: (فأشار إليه بيده أن ضع الشطر).
ومن الإصلاح ما يكون بالموعظة:
عن عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ وَهُوَ يَقُول:ُ وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَقَالَ أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ)).
اقتراح ما فيه مصلحة الطّرفين مشكلتنا أننا إذا تدخّلنا أحيانا نضرّ أكثر مما ننفع:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأرْضُ إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ أَلَكُمَا وَلَدٌ قَالَ أَحَدُهُمَا لِي غُلامٌ وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ قَالَ أَنْكِحُوا الْغُلامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا)).
صنيع البخاري يقتضي ترجيح ما وقع عند وهب لكونه أورده في ذكر بني إسرائيل. قوله: (عقارا) قال عياض: العقار الأصل من المال, وقيل المنزل والضيعة, وقيل متاع البيت فجعله خلافا. والمعروف في اللغة أنه مقول بالاشتراك على الجميع والمراد به هنا الدار, قوله: (فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب, فقال له: خذ ذهبك فإنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع الذهب) وهذا صريح في أن العقد إنما وقع بينهما على الأرض خاصة, فاعتقد البائع دخول ما فيها ضمنا, واعتقد المشتري أنه لا يدخل. وأما صورة الدعوى بينهما فوقعت على هذه الصورة وأنهما لم يختلفا في صورة العقد التي وقعت, والحكم في شرعنا على هذا في مثل ذلك أن القول قول المشتري وأن الذهب باق على ملك البائع, ويحتمل أنهما اختلفا في صورة العقد بأن يقول المشتري لم يقع تصريح ببيع الأرض وما فيها بل ببيع الأرض خاصة, والبائع يقول وقع التصريح بذلك, والحكم في هذه الصورة أن يتحالفا ويستردا المبيع، وهذا كله بناء على ظاهر اللفظ أنه وجد فيه جرة من ذهب, لكن في رواية إسحاق بن بشر أن المشتري قال إنه اشترى دارا فعمرها فوجد فيها كنزا, وأن البائع قال له لما دعاه إلى أخذه ما دفنت ولا علمت, وأنهما قالا للقاضي: ابعث من يقبضه وتضعه حيث رأيت, فامتنع, وعلى هذا فحكم هذا المال حكم الركاز في هذه الشريعة إن عرف أنه من دفين الجاهلية, وإلا فإن عرف أنه من دفين المسلمين فهو لقطة, وإن جهل فحكمه حكم المال الضائع يوضع في بيت المال, ولعلهم لم يكن في شرعهم هذا التفصيل فلهذا حكم القاضي بما حكم به. قوله: (وقال الذي له الأرض) أي الذي كانت له, ووقع في رواية أحمد عن عبد الرزاق بيان المراد من ذلك ولفظه: "فقال الذي باع الأرض: إنما بعتك الأرض".
وقوله: "فتحاكما" ظاهره أنهما حكماه في ذلك , لكن في حديث إسحاق بن بشر التصريح بأنه كان حاكما منصوبا للناس, فإن ثبت ذلك فلا حجة فيه لمن جوز للمتداعيين أن يحكما بينهما رجلا وينفذ حكمه, وهي مسألة مختلف فيها: فأجاز ذلك مالك والشافعي بشرط أن يكون فيه أهلية الحكم وأن يحكم بينهما بالحق سواء وافق ذلك رأي قاضي البلد أم لا واستثنى الشافعي الحدود, وشرط أبو حنيفة أن لا يخالف ذلك رأي قاضي البلد, وجزم القرطبي بأنه لم يصدر منه حكم على أحد منهما, وإنما أصلح بينهما لما ظهر له أن حكم المال المذكور حكم المال الضائع, فرأى أنهما أحق بذلك من غيرهما لما ظهر له من ورعهما وحسن حالهما وارتجى من طيب نسلهما وصلاح ذريتهما.(/4)
ووقع في روايته عن أبي هريرة: "لقد رأيتنا يكثر تمارينا ومنازعتنا عند النبي صلى الله عليه وسلم أيهما أكثر أمانة". قوله: (ألكما ولد)؟ بفتح الواو واللام, والمراد الجنس, لأنه يستحيل أن يكون للرجلين جميعا ولد واحد, والمعنى ألكل منكما ولد؟
قوله: ((أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا)).
وقد وقع في رواية إسحاق بن بشر ما يشعر بذلك ولفظه: "اذهبا فزوج ابنتك من ابن هذا وجهزوهما من هذا المال وادفعا إليهما ما بقي يعيشان به".
فيه: فضل الإصلاح بين المتنازعين, وأن القاضي يستحب له الإصلاح بين المتنازعين كما يستحب لغيره.
التدخل لإزالة القطيعة بين الأقارب:
عن عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الطُّفَيْلِ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمِّهَا أَنَّ(( عَائِشَةَ حُدِّثَتْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لأحْجُرَنَّ عَلَيْهَا فَقَالَتْ أَهُوَ قَالَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَم.ْ قَالَتْ: هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتْ الْهِجْرَةُ فَقَالَتْ: لا وَاللَّهِ لا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا وَلا أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَقَالَ لَهُمَا أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ فَإِنَّهَا لا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَال:ا السَّلامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ أَنَدْخُل؟ُ قَالَتْ عَائِشَة:ُ ادْخُلُوا. قَالُوا كُلُّنَا. قَالَت:ْ نَعَم ادْخُلُوا كُلُّكُمْ. وَلا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إلاَّ مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ وَيَقُولانِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنْ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنْ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا وَتَبْكِي وَتَقُول:ُ إِنِّي نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ فَلَمْ يَزَالا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتْ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا)).
ففي رواية الأوزاعي عنه: "حدثني الطفيل بن الحارث وكان من أزد شنوءة وكان أخا لها من أمها أم رومان".
قوله: (أن عائشة حُدّثت) كذا للأكثر بضم أوله وبحذف المفعول, ووقع في رواية الأصيلي: "حدثته" والأول أصح, ويؤيده أن في رواية الأوزاعي: "أن عائشة بلغها", ووقع في رواية معمر على الوجهين, ووقع في رواية صالح أيضا: "حدثته". قوله: (في بيع أو عطاء أعطته عائشة) في رواية الأوزاعي: "في دار لها باعتها, فسخط عبد الله ابن الزبير بيع تلك الدار". قوله: (لتنتهين عائشة) زاد في رواية الأوزاعي: "فقال: أما والله لتنتهين عائشة عن بيع رباعها" وهذا مفسر لما أبهم في رواية غيره, وكذا لما تقدم في مناقب قريش من طريق عروة قال: "كانت عائشة لا تمسك شيئا, فما جاءها من رزق الله تصدقت به" وهذا لا يخالف الذي هنا لأنه يحتمل أن تكون باعت الرباع لتتصدق بثمنها, وقوله: "لتنتهين أو لأحجرن عليها " هذا أيضا يفسر قوله في رواية عروة " ينبغي أن يؤخذ على يدها".
قوله: (لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا) في رواية عبد الرحمن بن خالد "كلمة أبدا" وفي رواية معمر "بكلمة" وفي رواية الإسماعيلي من طريق الأوزاعي بدل قوله أبدا "حتى يفرق الموت بيني وبينه".
قوله: (فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة).(/5)
زاد في رواية الأوزاعي: "فطالت هجرتها إياه فنقصه الله بذلك في أمره كله, فاستشفع بكل جدير أنها تُقبل عليه" في الرواية الأخرى عنه: "فاستشفع عليها بالناس فلم تقبل" وفي رواية عبد الرحمن بن خالد "فاستشفع ابن الزبير بالمهاجرين" وقد أخرج إبراهيم الحربي من طريق حميد بن قيس بن عبد الله بن الزبير قال فذكر نحو هذه القصة قال: "فاستشفع إليها بعبيد بن عمير فقال لها: أين حديث أخبرتنيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الهجر فوق ثلاث". قوله: (فقالت لا ولله لا أشفع) بكسر الفاء الثقيلة. قوله: (فيه أحدا) في رواية الكشميهني: "أبدا ".
قوله: (ولا أتحنث إلى نذري) في رواية معمر: "ولا أحنث في نذري" وفي رواية الأوزاعي: "فقالت والله لا آثم فيه" أي في نذرها.
قوله: (فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وهما من بني زهرة).
"فاستشفع إليها برجال من قريش وبأخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة" وقد بينت هناك معنى هذه الخؤولة وصفة قرابة بني زهرة برسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه وأمه. قوله: (أنشدكما بالله لما) بالتخفيف و"ما" زائدة ويجوز التشديد حكاه عياض, يعني ألا, أي لا أطلب إلا الإدخال عليها.
وفي رواية الكشميهني: "ألا أدخلتماني" زاد الأوزاعي فسألهما أن يشتملا عليه بأرديتهما.
قوله: (لا يحل لها أن تنذر قطيعتي) لأنه كان ابن أختها وهي التي كانت تتولى تربيته غالبا. قوله: (فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته) في رواية معمر: "فقالا السلام على النبي ورحمة الله" فيحتمل أن تكون الكاف في الأول مفتوحة. قوله: ( أندخل؟ قالت: نعم. قالوا: كلنا؟ قالت: نعم) في رواية الأوزاعي: "قالا: ومن معنا؟ قالت: ومن معكما".
قوله: (فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي) في رواية الأوزاعي: "فبكى إليها وبكت إليه وقبلها" وفي روايته الأخرى عند الإسماعيلي: "وناشدها ابن الزبير الله والرحم". قوله: (ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عما قد علمت من الهجرة وإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال).
(تنبيه): ادعى المحب الطبري أن الهجران المنهي عنه ترك السلام إذا التقيا, ولم يقع ذلك من عائشة في حق ابن الزبير.
ولا يخفى ما فيه, فإنها حلفت أن لا تكلمه والحالف يحرص على أن لا يحنث, وترك السلام داخل في ترك الكلام, وقد ندمت على سلامها عليه فدل على أنها اعتقدت أنها حنثت, ويؤيده ما كانت تعتقه في نذرها ذلك.
قوله: (فلما أكثروا على عائشة من التذكرة) أي التذكير بما جاء في فضل صلة الرحم والعفو وكظم الغيظ.
قوله: (والتحريج) بحاء مهملة ثم الجيم أي الوقوع في الحرج وهو الضيق لما ورد في القطيعة من النهي, وفي رواية معمر "التخويف".
قوله: (فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير) في رواية الأوزاعي "فكلمته بعدما خشي أن لا تكلمه, وقبلت منه بعد أن كادت أن لا تقبل منه".
قوله: (وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة) في رواية الأوزاعي "ثم بعثت إلى اليمن بمال فابتيع لها به أربعون رقبة فأعتقتها كفارة لنذرها" ووقع في رواية عروة المتقدمة "فأرسل إليها بعشر رقاب فأعتقتهم" وظاهره أن عبد الله بن الزبير أرسل إليها بالعشرة أولا, ولا ينافي رواية الباب أن تكون هي اشترت بعد ذلك تمام الأربعين فأعتقتهم , وقد وقع في الرواية الماضية "ثم لم تزل حتى بلغت أربعين".
قوله: (وكانت تذكر نذرها) في رواية الأوزاعي: "قال عوف بن الحارث ثم سمعتها بعد ذلك تذكر نذرها ذلك". ووقع في رواية عروة أنها قالت: "وددت أني جعلت حين حلفت عملا فأعمله فأفرغ منه", وبينت هناك ما يحتمله كلامها هذا.
الإصلاح بين الجماعات والقبائل:
عن أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبَ حِمَارًا فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((إِلَيْكَ عَنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِك.َ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأنْصَارِ مِنْهُم:ْ وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْك.َ فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَشَتَمَه،ُ فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأيْدِي وَالنِّعَالِ فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا )).(/6)
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: ((اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ)).
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ بِلال،ٌ فَأَذَّنَ بِلالٌ بِالصَّلاة،ِ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَال:َ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبِسَ وَقَدْ حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ فَقَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَأَقَامَ الصَّلاةَ فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الأوَّلِ.
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: ((اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ)).
بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:((إن ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)).
جواز الكذب للإصلاح:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: ((لَيْسَ الْكَذابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا)).
قوله: (فينمي) بفتح أوله وكسر الميم أي يبلغ, تقول نميت الحديث أنميه إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير, فإذا بلغته على وجه الإفساد والنميمة قلت نميته بالتشديد كذا قاله الجمهور.
قال العلماء: المراد هنا أنه يخبر بما علمه من الخير ويسكت عما علمه من الشر ولا يكون ذلك كذبا لأن الكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به, وهذا ساكت, ولا ينسب لساكت قول.
وما زاده مسلم والنسائي من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه في آخره "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث" فذكرها, وهي الحرب وحديث الرجل لامرأته والإصلاح بين الناس.
قال الطبري: ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح وقالوا: إن الثلاث المذكورة كالمثال, وقالوا: الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة, أو ما ليس فيه مصلحة. وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء مطلقا، وحملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض كمن يقول للظالم: دعوت لك أمس, وهو يريد قوله اللهم اغفر للمسلمين. ويعد امرأته بعطية شيء ويريد إن قدر الله ذلك.
واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها, وكذا في الحرب في غير التأمين. واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار, كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم. والله أعلم.
قال ابن القيم رحمه الله: فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى الله سبحانه ورضى الخصمين فهذا أعدل الصلح وأحقّه وهو يعتمد العلم والعدل فيكون المصلح عالما بالوقائع عارفا بالواجب قاصدا للعدل فدرجة هذا المصلح من درجة الصائم القائم. ... ...
... ...
... ...
... ...(/7)
... ...
الإصلاح ... ...
هاشم محمدعلي المشهداني ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- الإصلاح واجب. 2- الأنبياء يقومون بواجب الإصلاح. 3- المفسدون يدّعون الإصلاح. 4- أنواع من الفساد تنبأ رسول الله بظهورها. 5- الإصلاح يقي الأمة غضب الله والتقصير فيه يعرضها للمقت. 6- إصلاح عقائد الأمة. 7- إصلاح سلوك الأمة. 8- صفات المصلحين. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [الحجرات:10].
العداوة والبغضاء داء مدمر، يعصف بالإيمان والدين، وهنا تظهر فضيلة الإصلاح والمصلحين في سبيل نيل رحمة الله تعالى.
فما الإصلاح؟ ولماذا؟ وما الذي ينبغي في المصلحين إصلاحه؟ وما صفات المصلحين؟
الإصلاح لغة: ضد الإفساد .
اصطلاحا: إرادة الخير وتقويم العوج .
وينبغي أن تعلم:
أن الأنبياء ومن سار على دربهم بصدق هم المصلحون الحقيقيون قال تعالى حكاية عن شعيب: إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله [هود:88].
والمصلحون يحتسبون وجه الله سبحانه فيما ينالهم في سبيل إصلاح الفاسدين من إيذاء وإيلام وكيد وقتل قال تعالى في بيان ما تفنن به المشركون في محاربتهم لرسول الله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [الأنفال:30].
وما تعرض له النبي من خنق في جوف الكعبة، ووضع لفضلات الجزور على ظهره وهو ساجد وحبس في شعب أبي طالب حتى شد الحجر على بطنه من الجوع والسخرية والاستهزاء ووضع لجائزة لمن يأتي برسول الله حيا أو ميتا .
وأدعياء الإصلاح كثيرون فالكلام صنعة يتقنها الصادق كما يتقنها الكاذب، بل إن المفسدين لا يتحرجون من أن يصفوا فسادهم وإفسادهم بالصلاح والإصلاح بلا حياء ولا خجل قال تعالى: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون .
وقد أخبر النبي بظهور مفاسد في الأمة منها ما هو واقع بل كلها واقعة.
أ- فساد أمني: ففي الحديث: ((لا تقوم الساعة حتى يقتل الرجل أخاه لا يدري فيم قتله))([1]).
ب- فساد سياسي ففي الحديث: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة قالوا: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة))([2]).
ج- فساد خلقي :
1- للحديث: ((لا تقوم الساعة حتى يتسافد الناس في الطرق كما تتسافد البهائم))([3]).
2- وشرب الخمور ففي الحديث: ((ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالقينات والمعازف يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير))([4]).
د – فساد اجتماعي :
1- إهانة للأمهات والآباء ففي الحديث ((وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وأدنى صديقه وجفا أباه))([5]).
2- فقدان الأمانة وفي الحديث: ((يصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: أن من بني فلان رجل أمين))([6]).
وأما لماذا الإصلاح ؟
فلابد من الإصلاح حتى تحيا الأمة حياة كريمة، تأمن فيها على دينها وأعراضها وأموالها، لقد أثبتت كل النظريات التربوية فشلها كالتربية الوطنية وربط الإنسان بالأرض والطين بدل أن يربط بإسلامه ودينه الذي يبعث فيه الخشية والحياء .
يرى عمر غلاما يرعى غنما فيقول له: يا غلام بعني واحدة، فيقول الغلام: هي ليست ملكي إنما هي لسيدي، فيقول عمر - مختبرا -: يا غلام بعني واحدة وخذ ثمنها وقل لسيدك: الذئب أكلها فقال الغلام: فأين الله؟ أي أين أكون من الله إن قلت هذا؟ فاهتز عمر لهذه الكلمة واشتري الغلام وأعتقه وقال له: هذه كلمة أعتقتك في الدنيا أسأل الله أن يعتق بها رقبتك يوم القيامة([7]) .
حتى تنجوا الأمة من غضب الله ومقته، لابد أن تكون الصلة بين إيمان الناس وأحوالهم قوية فإذا بدلوا في إيمانهم بدل الله عليهم أحوالهم فأبدلهم بدل الأمن خوفا وبدل الرزق جوعا، إن الله يحفظ الأمة بالصالحين، والمنفقين والساعين إلى الخير لما ينالونه من دعوات صالحة من كل منكوب ومحتاج ومجاهد وفقير قال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [الرعد:11].
جرى زلزال في المدينة زمن عمر فجمع الناس وقال لهم: (ما كان هذا ليحدث إلا بذنب، والله لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدا)([8]). وقال تعالى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون [هود:117]. فصلاح الأمة خير عاصم لها من عذاب الله ومقته .
وأما الذي ينبغي على المصلحين إصلاحه:
أولا: إصلاح الأمة في عقيدتها :
أ- بإفراد الله وحده بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، أما توحيد الربوبية، فالعرب تقول: (أنا رب الدار) أي صاحبها القائم على شؤونها، والله هو رب العالمين القائم على شؤون خلقه سبحانه من خلق ورزق وإحياء وإماتة.
وتوحيد الألوهية: تقول العرب (أله الفصيل إلى أمة) أي لجأ ولد الناقة إلى أمة من مفزع أفزعه والمعنى إفراد الله وحده بالرهبة والرغبة والاستغاثة والدعاء والاستعانة .(/1)
ب – نبذ كل مظاهر الشرك: والشرك هو أن تجعل لله ندا وهو خلقك، ومن صور الشرك: الذبح لغير الله للحديث: ((لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه))([9]). ودعاء غير الله شرك والله تعالى هو النافع الضار قال تعالى: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [الأنعام:17]. وللحديث: ((أنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله))([10]).
والتقرب لغير الله ولو بشيء تافه شرك للحديث: ((دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا: لأحدهما قرب قال: ما عندي شيء. قالوا: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر قرب: قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله، فضربوا عنقه فدخل الجنة))([11]).
ثانياً: إصلاح الأمة في وعيها وفهمها:
أ - أن الإسلام عقيدة وشريعة: عقيدة تتضمن الإيمان بالله والأنبياء والبعث والجزاء وشريعة تتضمن العبادات والمعاملات والآداب، والأحوال الشخصية والعقوبات الجنائية، والعلاقات الدولية، فإسلامنا دين ودولة عقيدة ونظام، مصحف وسيف ولن يكون العبد مسلما إلا أن يعتقد شمولية الإسلام. قال تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء [الأنعام:38]. ولن يكون العبد مسلما حتى يعتقد بأن الإسلام هو الحل لكل ما تعانيه البشرية وإلا فالله تعالى يقول: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة:44].
ب – أن تعي الأمة أعداءها من يهود ونصارى وشيوعيين وفرق باطنية ظاهرها الإسلام وباطنها الكفر كالبابية والبهائية والقاديانية والرافضة والعلوية وغيرهم .
ج – أن تعي الأمة معنى الولاء وأنه لا يكون إلا لله ورسوله والمؤمنين. والولاء معناه المحبة والنصرة قال تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم [المجادلة:22]. يقول عبد الله بن مسعود : والله لو قام رجل بين الكعبة والمنبر يعبد الله سبعين سنة إلا حشر يوم القيامة مع من أحب. وقد بلغ من جهل البعض من المسلمين أنهم يعتقدون أن موالاة أعداء الله ونصرتهم وخذلانهم المسلمين وإخوانهم قمة الفهم والتصرف الحكيم فتأمل .
ثالثا: إصلاح الأمة في قلوبها وسلوكها:
أ - ذلك لأن القلوب هي موضع نظر الحق سبحانه للحديث: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))([12]). فلابد من تطهير للقلوب من الغل والحسد والحقد والانتقام والتشفي والعجب والتي أصبحت سمة ظاهرة في المصلحين وقد قيل :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
ب – أن تكون للمسلم شخصية واحدة في بيته وعمله ومسجده، وقد سمى الله تعالى اختلاف الشخصيات وأن يلبس المسلم لكل حالة ما يناسبه خيانة قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون [الأنفال:27]. يقول عروة بن الزبير: أي (لا تظهروا لرسول الله من الحق ما يرضى به منكم ثم تخالفوه في السر إلى غيره فإن ذلك هلاك لأماناتكم وخيانة لأنفسكم )، قال رسول الله : ((لأعلمن أقواما يأتون يوم القيامة بأعمال كجبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا، أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون لكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها))([13]).
وأما صفات المصلحين فيما بينهم:
الإخلاص: بأن يتجردوا إلى الله وحده في كل أقوالهم وأفعالهم من غير التفات إلى رتبة أو منصب أو تقدم أو ظهور وقديما قيل: (حب الظهور كم قصم الظهور) وإذا فقد الإخلاص تحول العمل من أن يكون لله تعالى إلى دعوة لشخوص أرضية وذوات بشرية أحاطت أنفسها بهالة من القدسية حيث لا تقبل النقد والتقويم ورحم الله عمر عندما قام إليه رجل فقال: اتق الله، فقيل للرجل: كيف تقول لأمير المؤمنين إتق الله؟ فقال لهم عمر: دعوه والله لا خير فيكم إن لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم. صدقت يا سيدي الفاروق ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم، لقد رحل الخير برحيل الرجال ولم يبق إلا أشباه الرجال الذين لا يرجى خيرهم بل يخشى شرهم ومكرهم من الذين لا تتسع قلوبهم لإخوانهم فلا يجدون إلا القمع والأساليب الجبانة سبيلا للانتقام مع الاستعانة ببعض المبررات الشرعية تحايلا وزورا.(/2)
التعاون فيما بين المصلحين: وصف رب العزة أعداءه بولاية بعضهم لبعض فقال: والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير [الأنفال:73]. وأي فتنة أعظم وأي فساد أكبر من أن يكون المصلحون بحاجة إلى من يصلحهم ويهذبهم ويعلمهم، إن على المصلحين أن يعوا حقيقة تغيب عن أذهان الكثيرين هي أن بناء الشخصية الإسلامية لا يتم إلا ببناء عقيدته ووعيه وقلبه وسلوكه، وأن الاقتصار على العقيدة فقط أو الوعي فقط أو القلب فقط يجعل البناء هشا معوقا منفرا، ضره أكبر من نفعه لما يعطيه، من صورة ناقصة قاصرة لهذا الإسلام العظيم، فحاجة المصلحين بعضهم إلى بعض حقيقة تستلزم فتح أبواب الحوار والتنسيق والتعاون وهذا هو المحك الذي يعرف من خلاله صدق المصلح من كذبه وإخلاصه لله سبحانه أو لهوى نفسه.
3 – الحركة: إسلامنا لا يعرف الجمود، وآيات الله بالأمر بالدعوة والحركة واضحة، قال تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [النحل:125]. وجعل سمة إتباع النبي الدعوة إلى الله قال تعالى: قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين [يوسف:108].
بل إن الداعية لا يفتر عن الدعوة وفي أشد الحالات كالسجن مثلا قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار [يوسف:39].
([1])رواه الحاكم .
([2])رواه البخاري .
([3])رواه الطبراني .
([4])أبو نعيم .
([5])رواه الترمذي .
([6])متفق عليه .
([7])قبسات من حياة الرسول ص 190 .
([8])الجواب الكافي ص46.
([9])رواه مسلم .
([10])رواه الطبراني .
([11])رواه الطبراني .
([12])رواه مسلم .
([13])ابن ماجة . ... ...
... ...
... ...
... ...(/3)
الإمام الرباني ابن تيمية الحراني
المشكاة ...
... اشتهر الإمام ابن تيمية كعالم فذ، غزير العلم، واسع المعرفة، قوي الحجة، ساطع البرهان، غير أن الكثيرين لا يعرفون أنه صاحب مقامات عالية، وأحوال سامية، وأذواق روحية راقية يقول الشيخ أبو الحسن الندوي" ما ذكره الحافظ ابن قيم الجوزية في مدارج السالكين من أحواله و أقواله بمناسبات شتى و كذلك ما ذكره العلامة الذهبي وأمثاله في ترجمته عن أخلاقه و أذواقه و عاداته و شمائله و أشغاله وأعماله فيدل دلالة واضحة على أن شيخ الإسلام ابن تيمية يستحق بكل جدارة أن يعد من العارفين و رجال الله في هذه الأمة وهناك ينشرح كل صدر للاعتراف بأنه كان يتبوأ تلك المكانة " 1. وفي ما يلي من كلمات، نسلط بعض الضوء على هذا الجانب ـ من صفات الإمام ابن تيمية ـ الذي يغفل عنه الكثيرون. عبادته:
يقول عنه ابن عبد الهادي " والأحوال التي عاش فيها شيخ الإسلام ابن تيميه تشهد بأنه كان متحلياً باليقين والمشاهدة التي بعثت فيه صفة الافتقار والاضطرار والعبودية والإنابة وقد روي أنه إذا أشكلت عليه مسألة أو صعب فهم آية التجأ إلى جامع في مكان موحش ووضع جبهته على التراب و ردد قوله : يا معلم إبراهيم فهمني " 2 .
ويقول العلامة الذهبي: " لم أر مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجهه " و يقول ابن تيمية " إنه ليقف خاطري في المسألة أو الشيء أو الحالة التي تشكل علىّ فاستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر وينجلي إشكال ما أشكل " .
ولا يحول دون هذه الحالة نوع من الجلوة والمجالس وصخب الأسواق يقول : " و أكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو الدروب أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي "3 .
وكان له ذوق خاص في العبادة والمناجاة والخلوة، قيل عنه " كان في ليله منفرداً عن الناس كلهم خاليا بربه عز وجل ضارعاً إليه، مواظباً على تلاوة القرآن العظيم مكرراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية وكان إذا دخل في الصلاة ترتعد فرائصه وأعضاؤه حتى يميل يمنة ويسرة " 4.
" وكان إذا صلى الفجر يجلس في مكانه حتى يتعالى النهار جداً يقول هذه غدوتي لو لم أتغد هذه الغدوة سقطت قواي"5. ويقول عنه الذهبي " له أوراد و أذكار يدمنها بكيفية وجمعية" 6.
زهده وتواضعه:
ومع عبادته ومكانته العلمية كان متواضعاً هاضماً لنفسه منكراً لذاته يقول ابن القيم " كان كثيراً ما يقول ما لي شيء ولا مني شيء ولا فيّ شيء " وان مدحه أحد في وجهه قال " والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت وما أسلمت بعد إسلاما جيداً " . وكان ينشد :
أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي و جدي
يقول ابن القيم " سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – يقول : العارف لا يرى له على أحد حقاً ، ولا يشهد له على غيره فضلاً ولذلك لا يعاتب ولا يطالب ولا يضارب "7 .
كما كان شيخ الإسلام ابن تيمية زاهداً في الدنيا مقبلاً على الآخرة يقول زميله في الدراسة ومعاصره الشيخ علم الدين البرازلي " و جرى على طريقة واحدة من اختيار الفقر و التقلل من الدنيا ورد ما يفتح عليه "8.
و رُوِى أن الملك الناصر قال له ذات مرة: " سمعت أن الناس أطاعوك وأنت تفكر في الحصول على الملك، فرد عليه الشيخ قائلاً بصوت عالٍ سمعه الناس الحاضرون كلهم: " أنا أفعل ذلك ؟ والله إن ملكك و ملك المغل لا يساوي عندي فلساً " 9.
وهذا الزهد في الدنيا أورثه الجود والسخاء حتى قيل عنه " وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يضرب بهم المثل"10، وكانت تأتيه القناطر المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة و الأنعام والحرث فيهب ذلك بأجمعه ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه لا يأخذ منه شيئاً إلا ليهبه ولا يحفظه إلا ليذهبه "11.
ويقول عنه الحافظ ابن فضل الله " كان يتصدق حتى إذا لم يجد شيئاً نزع بعض ثيابه فيصل به الفقراء ".
سلامة صدره:
كان الإمام ابن تيمية لا يحمل في صدره على أحد من المسلمين حتى الذين عادوه وألبوا عليه، يقول عنه تلميذه ابن القيم " كان يدعو لأعدائه ما رأيته يدعو على واحد منهم، وقد نعيت إليه يوماً أحد معارضيه الذي كان يفوق الناس في إيذائه و عدائه فزجرني و أعرض عني و قرأ { إنا لله و إنا إليه راجعون }12، وذهب لساعته إلى منزله فعزى أهله وقال : اعتبروني خليفة له ونائباً عنه أساعدكم في كل ما تحتاجون إليه وتحدث معهم بلطف وإكرام بعث فيهم السرور فبالغ في الدعاء لهم حتى تعجبوا منه "13.
أنسه بالله وطمأنينة نفسه:
ونتيجة للإيمان الصحيح واليقين الثابت والتحرر من قيود الشهوات كان الإمام ابن تيمية مطمئن النفس، منشرح الصدر، (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).(/1)
يقول ابن القيم أن شيخ الإسلام قال مرة: " إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة "14، وقال " ما يصنع أعدائي بي ؟ إن جنتي وبستاني في صدري أنّى رحت فهي معي لا تفارقني "15. يقول الإمام ابن القيم " زرته ذات ليلة في الرؤيا و ذكرت له بعض الأعمال القلبية فقال: أما أنا فطريقي الفرح والسرور به "16.
وكتب في سجنه رسائل كثيرة يبين الحالة الطيبة التي هو فيها، فقال:(( كتابي إليكم عن نعم عظيمة و منن كريمة و آلاء جسيمة، نشكر الله عليها و نسأله المزيد من فضله، و نِعم الله كلما جاءت في نمو و ازدياد و أياديه جلت عن التعداد))، وقال:(( فقد فتح الله من أبواب الخير و الرحمة و الهداية و البركة مالم يكن يخطر على بال و لا يدور في خيال ))
و قال (( تعلمون أنا-بحمد الله – في نعم عظيمة و منن جسيمة و آلاء متكاثرة و أيادٍ متظاهرة لم تكن تخطر لأكثر الخلق ببال و لا تدور لهم في خيال ))
خاتمة:
إزاء هذه المحاسن الباهرة، والفضائل الظاهرة،لم يجد رجال العلم وأصحاب الصلاح في عصره والعصور التي تليها بداً من الثناء عليه والالتفاف حوله والاجتماع على محبته والدعاء له يقول الإمام الذهبي " وأخيف في نصر السنة المحفوظة حتى أعلى الله تعالى مناره وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له " 17.فلا زال المنصفون في كل زمان و مكان يعرفون للشيخ قدره، و ينزلونه منزلته، غفر الله له من عالم عابد زاهد مجاهد، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.
1 ربانية لا رهبانية ص 75 .
2 العقود الدرية ص 6 .
3 الكواكب الدرية ص 145 .
4 الكواكب الدرية ص 156.
5 الرد الوافي ص 36 .
6 المصدر السابق ص 18 .
7 تهذيب مدارج السالكين ص 496 .
8 الرد الوافي ص 65 .
9 الكواكب الدرية ص 65 .
10 الكواكب الدرية ص 146 .
11 المصدر السابق ص 158 .
12 البقرة 156 .
13 مدارج السالكين ص 496 .
14 الرد الوافي ص 36 .
15 اغاثة اللهفان .
16 الوابل الطيب ص 66 .
17 جلاء العينين ص 7 . ... ...(/2)
الإمام القدوة مطرف بن الشخير
إعداد/ مجدي عرفات
اسمه ونسبه: هو أبو عبد اللَّه مطرف
بن عبد اللَّه بن الشخير بن عوف بن كعب بن يزيد بن الحريش بن عامر الحَرَشِيِّ
العامري البصري.
مولده: ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
شيوخه: روى عن
أبيه وعلي وعمار وأبي ذر وعثمان وعائشة ومعاوية وعمران بن حصين وغيرهم من
الصحابة رضي اللَّه عنهم.
تلامذته: حدث عنه الحسن البصري وأخوه يزيد بن عبد
اللَّه بن الشخير وثابت البناني وقتادة وحميد بن هلال وسعيد الجريري وخلق
كثير.
ثناء العلماء عليه:
1- ذكره ابن سعد فقال: روى عن أبي بن كعب وكان ثقة له
فضل وورع وعقل وأدب.
2- وقال العجلي: كان ثقة لم ينج بالبصرة من فتنة ابن
الأشعث إلا هو وابن سيرين ولم ينج منها بالكوفة إلا خيثمة بن عبد الرحمن
وإبراهيم النخعي.
وقال: بصري ثقة من كبار التابعين رجل صالح.
وقال ابن حجر: ثقة
فاضل.
من أحواله وأقواله:
قال مهدي بن ميمون: حدثنا غيلان بن جرير أنه كان بينه
وبين رجل كلام فكذب عليه فقال: اللهم إن كان كاذبًا فأمته، فخر ميتًا مكانه،
قال: فرفع ذلك إلى زياد فقال: قتلت الرجل، قال: لا ولكنها دعوة وافقت
أجلاً.
وعن غيلان أن مطرفًا كان يلبس المطارف والبرانس ويركب الخيل ويغشى
السلطان ولكنه إذا أفضيت إليه أفضيت إلى قرة عين.
قال مسلمة بن إبراهيم: حدثنا
أبو طلحة بشر بن كثير قال: حدثتني امرأة مطرف أنه تزوجها على ثلاثين ألفًا
وبغلة وقطيفة وماشطة، وروى مهدي بن ميمون أن غيلان قال: تزوج مطرف امرأة على
عشرين ألفًا.
قال الذهبي: كان مطرف له مال وثروة وبزة جميلة ووقع في النفوس،
وروى أبو خلدة أن مطرفًا كان يخضب بالصفرة.
وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن
أحمد، حدثنا إسحاق، أنبأنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن قتادة قال: كان مطرف بن
عبد اللَّه وصاحب له سَرَيَا في ليلة مظلمة فإذا طرف سوط أحدهما عنده ضوء فقال:
أما إنه لو حدثنا الناس بهذا كذبونا، فقال مطرف المكذب أكذب، يقول: المكذب
بنعمة اللَّه أكذب.
عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن مطرف قال: لقيت عليًا رضي
الله عنه فقال لي: يا أبا عبد اللَّه ما بطأ بك ؟ أَحُب عثمان ؟ ثم قال: لئن
قلت ذاك لقد كان أوصلنا للرحم وأتقانا للرب.
وقال أبو نعيم أيضًا: حدثنا عمارة
بن زاذان قال: رأيت على مطرف بن الشخير مِطْرَف خز أخذه بأربعة آلاف درهم.
وقال
حميد بن هلال: أتت الحرورية مطرف بن عبد اللَّه يدعون إلى رأيهم، فقال: يا
هؤلاء لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما وأمسكت الأخرى فإن كان الذي تقولون هدى
أتبعتها الأخرى وإن كان ضلالة هلكت نفسي وبقيت لي نفسي ولكن هي نفس واحدة لا
أغرر بها.
قال سليمان بن حرب: كان مطرف مجاب الدعوة.
قال سليمان بن المغيرة:
كان مطرف إذا دخل بيته سبحت معه آنية بيته.
قال مهدي بن ميمون عن غيلان بن حرير
قال: حبس السلطان ابن أخي مطرف فلبس مطرف خلقان ثيابه وأخذ عكازًا وقال: استكين
لربي لعله أن يشفعني في ابن أخي.
أقواله:
كان يقول: الناس على قدر زمانهم.
وروى
قتادة عن مطرف بن عبد اللَّه قال: فضل العلم أحب إليَّ من فضل العبادة وخير
دينكم الورع.
وفي الحلية روى أبو الأشهب عن رجل قال مطرف بن عبد اللَّه لأن
أبيت نائمًا وأصبح نادمًا أحب إليَّ من أن أبيت قائمًا وأصبح معجبًا.
وعن ثابت
البناني عن مطرف قال: لأن يسألني اللَّه تعالى يوم القيامة فيقول: يا مطرف ألا
فعلت. أحب إلي من أن يقول لم فعلت ؟
جرير بن حازم حدثنا حميد بن هلال قال: قال
مطرف بن عبد اللَّه: إنما وجدت العبد ملقى بين ربه وبين الشيطان فإن استشلاه
ربه واستنقذه نجا وإن تركه والشيطان ذهب به.
جعفر بن سليمان حدثنا ثابت قال:
قال مطرف: لو أخرج قلبي فجعل في يساري وجيء بالخير فجعل في يميني ما استطعت أن
أولج قلبي منه شيئًا حتى يكون اللَّه يضعه.
حماد بن يزيد عن داود بن أبي هند عن
مطرف بن عبد اللَّه قال: ليس لأحد أن يصعد فيلقي نفسه من شاهق ويقول: قدر لى
ربي ولكن يحذر ويجتهد ويتقي فإن أصابه شيء علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب اللَّه
له.
وقال أيوب: قال مطرف: لأن آخذ بالثقة في القعود أحب إليَّ من أن التمس فضل
الجهاد بالتعزيز.
وعن محمد بن واسع قال: كان مطرف يقول: اللهم ارض عنا فإن لم
ترض عنا فاعف عنا فإن المولى قد يعفو عن عبده وهو عنه غير راض.
وعن مطرف أنه
قال لبعض إخوانه: يا أبا فلان إذا كانت لك حاجة فلا تكلمني واكتبها في رقعة
فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال.
وقال مهدي بن ميمون: قال مطرف: لقد كاد
خوف النار يحول بيني وبين أن أسأل اللَّه الجنة.
قال قتادة: قال مطرف: لأن
أعافى فأشكر أحب إليَّ من أن أُبتلى فأصبر.
روى ابن عساكر بسنده إليه أنه قال:
إني لاستلقي من الليل على فراشي فأبتدر القرآن كله فأعرض نفسي على أعمال أهل
الجنة فأرى أعمالهم شديدة كانوا قليلا من الليل ما يهجعون <<،
يبيتون لربهم سجدا وقياما <<، أمن هو قانت آناء(/1)
الليل ساجدا وقائما <<، فلا أرى صفتي منهم، وأعرض نفسي على أعمال أهل
النار قالوا: ما سلككم في سقر (42) قالوا لم نك من
المصلين (43) ولم نك نطعم المسكين (44) وكنا نخوض
مع الخائضين (45) وكنا نكذب بيوم الدين (46) حتى
أتانا اليقينفأرى القوم مكذبين فلا أراني فيهم فأمر بهذه الآية
وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر
سيئا عسى الله أن يتوب عليهمفأرجو أن أكون أنا وأنتم يا
إخوتاه منهم.
وقال: يا إخوتاه؛ اجتهدوا في العمل فإن يكن الأمر كما نرجو من
رحمة اللَّه وعفوه كانت لنا درجات في الجنة، وإن يكن الأمر شديدًا كما نخاف
ونحاذر لم نقل: ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا
نعمل <<، نقول: قد عملنا فلم ينفعنا ذلك.
وقال: القبر منزل بين الدنيا
والآخرة من نزله بزاد ارتحل منه إلى الآخرة إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
قال:
ما مدحني أحد قط إلا تصاغرت إلي نفسي.
قال: لو أتاني آت من ربي فخيرني بين أن
يخيرني أفي الجنة أنا أم في النار وبين أن أصير ترابا لاخترت أن أصير
ترابا.
وكان يقول: لو أن رجلا رأى صيدا والصيد لا يراه يختله أليس يوشك أن
يأخذه ؟ قالوا: بلى قال: فإن الشيطان هو يرانا ونحن لا نراه وهو يصيب
منا.
وقال: من صفا عمله صفا لسانه، ومن خلط خلط له.
وقال لابنه: يا بني إن
العلم خير من العمل، وإن الحسنة بين السيئتين، وإن خير العمل أوساطه، قال
الله عز وجل: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم
يقتروا وكان بين ذلك قواما <<، وقال: ولا تجعل يدك
مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد
ملوما محسوراوقال: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها
وابتغ بين ذلك سبيلا <<، وقال: خير الأمور أوسطها والحسنة بين
السيئتين وشر السير الحقحقة.
قال الأصمعي: قوله: «الحسنة بين السيئتين» يعني:
أن الغلو في العبادة سيئة، والتقصير سيئة والاقتصاد بينهما حسنة. وقوله: «شر
السير الحقحقة» هو أن يلج في شدة السير حتى تقوم عليه راحلته وتعطب فيبقى
منقطعا به، وهذا مثل ضربه للمجتهد في العبادة حتى يخسر.
وكان يقول: صلاح قلب
بصلاح عمل، وصلاح عمل بصلاح نية.
قال: كأن القلوب ليست منا، وكأن هذا الحديث
يعني به غيرنا.
قال: إني إنما وجدت ابن آدم كالشيء الملقى بين الله عز وجل
وبين الشيطان فإن أراد الله أن ينعشه اجتره إليه وإن أراد به غير ذلك خلى
بينه وبين عدوه.
قال: إن أقواما يزعمون أنهم إن شاءوا دخلوا الجنة وإن شاءوا
دخلوا النار فأبعدهم الله إن دخلوا النار (هؤلاء هم القدرية الذين ينفون عن
الله التقدير لكل شيء وأن لهم مشيئة مستقلة لا مشيئة لله عليهم)، ثم قال:
والله الذي لا إله إلا هو - ثلاثا مجتهدا - لا يدخل الجنة عبد أبدا حتى
يدخله الجنة ربه.
قال: إن أقواما يزعمون أن الله عز وجل لم يخلق الشر، لشر
هو أشر من الشيطان، خلق الله الشيطان وخلق النار وخلق الشر، والشيطان قائد
لكل شر حتى يكبه في النار.
قال: نظرت في بدو هذا الأمر ممن هو ؟ فإذا هو من
الله، ونظرت على من تمامه ؟ فإذا تمامه على الله، ونظرت ما ملاكه ؟ فإذا
ملاكه الدعاء.
قال: إن الله لم يوكل الناس إلى القدر وإليه يعودون.
قال: ما
أوتي رجل بعد الإيمان بالله خير من العقل.
قال قتادة: كان مطرف إذا كانت الفتنة
نهى عنها وهرب، وقال مطرف: لبثت في فتنة ابن الزبير تسعا أو سبعا ما أخبرت
فيها بخبر ولا استخبرت فيها عن خبر.
قال مطرف: إن من أحب عباد الله إلى
الله الصبار الشكور الذي إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر.
قال ثابت: كان عبد
الله بن مطرف بن عبد الله بلغ في الدنيا حتى استعمل فمات فخرج مطرف وعليه
ثياب من صالح ما كان يلبس، فقالوا له: يموت عبد الله وتلبس مثل هذه الثياب؟
قال مطرف: أستبكي وقد وعدني الله عليها ثلاث خصال أحب إلي من الدنيا كلها ؟
قال الله تعالى: الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا
لله وإنا إليه راجعونإلى قوله: هم مهتدونفقد
استرجعت كما أمرني ربي وكل واحدة من هذه الخصال أحب إليَّ من الدنيا كلها.
ذكر
له أهل الدنيا فقال: لا تنظروا إلى خفض عيشهم ولين رياشهم ولكن انظروا إلى سرعة
ظعنهم وسوء منقلبهم.
وكان مطرف يقول: اللهم إني أعوذ بك من شر السلطان، ومن شر
ما تجري به أقلامهم، وأعوذ بك أن أقول بحق أطلب به غير طاعتك، وأعوذ بك أن
أتزين للناس بشيء يشينني عندك، وأعوذ بك أن أستعين بشيء من معاصيك على خير نزل
بي، وأعوذ بك أن تجعلني عبرة لأحد من خلقك، وأعوذ بك أن تجعل أحدًا أسعد بما
علمته مني، اللهم لا تخزني فإنك بي عالم، اللهم لا تعذبني فإنك عليّ قادر.
قال
مطرف: أفسد الموت على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيمًا ليس فيه موت.
وفاته:
توفي رحمه اللَّه سنة ست وثمانين وقيل غير ذلك في أول ولاية الحجاج.
فوائد
الترجمة:
1- الزينة والجمال في الثياب والبدن لا ينافي التقوى والورع.
2- إجابة
الدعاء منوطة بالتقوى والورع.
3- احرص على نفسك فلا تهلكها بالبدع والشبهات.
4-
العلم أفضل من العبادة بجهل.(/2)
5- الإعجاب بالعمل يفسده.
6- وما بكم من
نعمة فمن اللهفهو الذي يوفقك ويهديك لا بقدرتك.
7- الشكر على
النعمة أقرب من الصبر على البلاء وكلاهما من الابتلاء.
المراجع:
تاريخ دمشق -
حلية الأولياء - سير أعلام النبلاء - تهذيب التهذيب - تقريب
التهذيب.(/3)
الإمام الكبير والحافظ المجود صاحب الصحيح مسلم بن حجاج
إعداد/ مجدي عرفات
اسمه ونسبه: هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري نسبًا النيسابوري بلدًا.
مولده: ولد سنة أربع ومئتين.
صفته: كان تام القامة حسن الوجه والثياب أبيض الرأس واللحية، يرخي طرف عمامته بين
كتفيه.
شيوخه: كثيرون يزيدون عن المئتين وقد جمعتهم في مصنف وسميته (إسعاف المحتاج) نذكر من هؤلاء الإمام أحمد ابن حنبل، أحمد بن يونس، إسحاق بن راهويه، إسحاق بن منصور، حرملة بن يحيى، الحسن الخلال، خلف بن هشام، زهير بن حرب، سعيد بن منصور، والإمام الدارمي عبد الله بن عبد الرحمن، عبد الملك بن شعيب بن الليث، علي بن حجر السعدي، محمد بن بشار بندار، محمد بن رمح، محمد بن عبد الله بن نمير، أبو كريب، محمد بن المثنى العنزي، محمود ابن غيلان، يحيى بن معين، يحيى بن يحيى، يونس بن عبد الأعلى، وأبو الربيع الزهراني، أبو زرعة، أبو كامل الجحدري وغيرهم رحمهم الله، ولم يرو في الصحيح عن ابن المديني والذهلي وعلي بن الجعد.
الرواة عنه: روى عنه صالح بن محمد جزرة، الترمذي في الجامع، إبراهيم بن أبي طالب رفيقه، إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه راوي (الصحيح)، عبد الرحمن بن أبي حاتم، أبو بكر بن خزيمة يحيى بن محمد بن صاعد، الحافظ أبو عوانة وغيرهم.
ثناء العلماء عليه: قال إسحاق بن راهويه له: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين.
قال أحمد بن سلمة: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلمًا في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما.
قال ابن أبي حاتم كان مسلم ثقة من الحفاظ كتبت عنه بالري.
قال محمد بن بشار حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري ومسلم بنيسابور وعبد الله الدارمي بسمرقند ومحمد بن إسماعيل ببخارى.
قال محمد بن عبد الوهاب الفراء: مسلم بن الحجاج من علماء الناس ومن أوعية العلم.
قال الحافظ بن عقدة وقد سئل عن البخاري ومسلم: كان محمد عالمًا ومسلم عالمًا.
أما صحيحه ففي الرتبة الثانية من الصحة بعد صحيح البخاري قال عنه: صنفت هذا (المسند الصحيح) من ثلاث مئة ألف حديث مسموع.
قال أحمد بن سلمة: كنت مع مسلم في تأليف صحيحه خمس عشرة سنة، قال: وهو اثنا عشر ألف حديث.
قال الذهبي يعني بالمكرر بحيث إذا قال حدثنا قتيبة وأخبرنا ابن رمح يعدان حديثين اتفقا في لفظيهما أو اختلفا في كلمة.
وقال النووي أيضًا: وأجمعوا على جلالته وإمامته وعلو مرتبته وحذقه في هذه الصنعة وتقدمه فيها وتضلعه منها ومن أكبر الدلائل على جلالته وإمامته وورعه وحذقه وقعوده في علوم الحديث واضطلاعه منها وتفننه فيها كتابه الصحيح الذي لم يوجد في كتاب قبله ولا بعده من حسن الترتيب وتلخيص طرق الحديث بغير زيادة ولا نقصان والاحتراز من التحويل في الأسانيد عند اتفاقها من غير زيادة، وتنبيهه على ما في ألفاظ الرواة من اختلاف في متن أو إسناد ولو في حرف واعتنائه بالتنبيه
على الروايات المصرحة بسماع المدلسين وغير ذلك مما هو معروف في كتابه، ثم قال: وعلى الجملة فلا نظير لكتابه في هذه الدقائق وصنعة الإسناد وهذا عندنا من المحققات التي لا شك فيها للدلائل المتظاهرة عليها ومع هذا فصحيح البخاري أصح
وأكثر فوائد، هذا هو مذهب جمهور العلماء وهو الصحيح المختار لكن كتاب مسلم في دقائق الأسانيد ونحوها أجود كما ذكرنا وينبغي لكل راغب في علم الحديث أن يعتني به ويتفطن في تلك الدقائق فيرى فيها العجائب من المحاسن وإن ضعف عن الاستقلال باستخراجها استعان بالشرح المذكور (يعني شرحه).
ثم قال: واعلم أن مسلمًا رحمه الله أحد أعلام أئمة هذا الشأن وكبار المبرزين فيه وأهل الحفظ والاتقان والرحالين في طلبه إلى أئمة الأقطار والبلدان والمعترف له بالتقدم فيه بلا خلاف
عند أهل الحذق والعرفان والمرجوع إلى كتابه والمعتمد عليه في كل الأزمان، ثم قال: وصنف مسلم في علم الحديث كتبًا كثيرة منها هذا الكتاب الصحيح الذي منّ الله الكريم وله الحمد والنعمة والفضل والمنة به على المسلمين أبقى لمسلم به ذكرًا جميلا وثناءً حسنا إلى يوم الدين مع ما أعد له من الأجر الجزيل في دار القرار وعم نفعه المسلمين قاطبة. أهـ
قال الخطيب: كان أحد الأئمة من حفاظ الحديث.
قال ابن منده: سمعت أبا علي النيسابوري الحافظ يقول: ما تحت أديم السماء كتابا أصح من كتاب مسلم، قلت: وهذا خلاف ما عليه أهل الحديث، قال النووي رحمه الله: اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز: (الصحيحان) البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صح أن مسلمًا كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث، وهذا الذي ذكرناه من ترجيح كتاب البخاري هو المذهب المختار الذي قاله الجماهير وأهل الإتقان والحذق والغوص على أسرار الحديث. قلت:
ولترجيح صحيح البخاري على مسلم وجوه لها ذكر في كتب مصطلح الحديث:
قال النووي:(/1)
ذكر مسلم رحمه الله في أول مقدمة صحيحة أنه يقسم الأحاديث إلى ثلاثة أقسام الأول: ما رواه الحفاظ المتقنون، والثاني: ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والاتقان، والثالث: ما رواه الضعفاء والمتروكون وأنه إذا فرغ من القسم الأول أتبعه الثاني أما الثالث فلا يعرج عليه فاختلف العلماء في مراده بهذا التقسيم ثم اختار ما قاله القاضي عياض: فعندي أنه أتى بطبقاته الثلاث في كتابه وطرح الطبقة الرابعة أهـ قال الذهبي: بل خرج حديث الطبقة الأولى وحديث الطبقة الثانية إلا النزر القليل مما يستنكره لأهل الطبقة الثانية، ثم خرج لأهل الطبقة الثالثة أحاديث ليست بالكثيرة في الشواهد والاعتبارات والمتابعات وقل إن خرج لهم في الأصول شيئًا، ولو استوعبت أحاديث أهل هذه الطبقة في (الصحيح) لجاء الكتاب في حجم ما هو مرة أخرى، ولنزل كتابه بذلك عن الاستيعاب عن رتبة الصحة وهم كعطاء بن السائب وليث، ويزيد بن أبي زياد، وأبان بن صَمْعَةَ ومحمد بن إسحاق ومحمد بن عمرو بن علقمة، وطائفة أمثالهم فلم يخرج لهم إلا الحديث بعد
الحديث إذا كان له أصل، وإنما يسوق أحاديث هؤلاء ويكثر منها أحمد في مسنده وأبو داود والنسائي وغيرهم، فإذا انحطوا إلى إخراج أحاديث الضعفاء الذين هم أهل الطبقة الرابعة اختاروا منها ولم يستوعبوها على حسب آرائهم واجتهاداتهم في ذلك. أهـ
قلت: ولم يترجم مسلم لأبواب كتابه إنما ترجم للكتب واعتنى في ترتيب أحاديث كل كتاب بالتناسب بينها وترتيبها دون ترجمة فوضع الإمام النووي لكل جملة من هذه الأحاديث ترجمة تناسبها ولذلك ربما طالت تراجمه بحسب ما في الأحاديث من فوائد، بخلاف البخاري الذي ترجم للكتب ولأبواب كل كتاب ووضع فيها فقهه والله أعلم.
قال ابن حجر: ثقة حافظ إمام مصنف عالم بالفقه.
قال الذهبي: وهو كتاب نفيس كامل في معناه فلما رآه الحفاظ أعجبوا به ولم يسمعوه لنزوله (أي لطول أسانيده) فعمدوا إلى أحاديث الكتاب فساقوها من مروياتهم عالية بدرجة وبدرجتين ونحو ذلك حتى أتوا على الجميع هكذا وسموه «المستخرج على صحيح مسلم».
قال مسلم: لو أن أهل الحديث يكتبون الحديث مئتي سنة فمدارهم على هذا «السند» يعني السند الكبير. وقال: ما وضعت في هذا «المسند» شيئًا إلا بحجة ولا أسقط شيئا منه إلا بحجة.
من أحواله وأقواله: وكان مسلم من أهل الجرح والتعديل، قال مكي بن عبدان: سألت مسلمًا عن
علي بن الجعد فقال: ثقة ولكنه كان جهميًا، وسألته عن محمد بن يزيد فقال: لا يكتب عنه: وسألته عن محمد بن عبد الوهاب وعبد الرحمن بن بشر فوثقهما، وسألته عن قطن بن إبراهيم فقال: لا يكتب حديثه.
وعيب عليه حديث أحمد بن عبد الرحمن الوهبي فقال: إنما نقموا عليه بعد خروجه من مصر، أي أنه سمع منه قبل التغير، قال مسلم: إذا قال ابن جريج حدثنا وأخبرنا وسمعت فليس في الدنيا شيء أثبت من هذا.
قال الحاكم: كان متجر مسلم خان محمش ومعاشه من ضياعه بأستوا (من نواحي نيسابور،
رأيت من أعقابه من جهة البنات في داره.
قال الحاكم عن طاهر بن محمد عن مكي بن عبدان: كان مسلم بن الحجاج يظهر القول باللفظ (أي لفظي بالقرآن مخلوق، ويعني حركة اللسان والهواء الخارج ونغمة الصوت) ولا يكتمه ولما استوطن البخاري أكثر مسلم الاختلاف إليه حتى هُجر، وسافر من نيسابور قال: فقطعه أكثر الناس غير مسلم فبلغ محمد بن يحيى فقال يومًا، إلا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم رداءه فوق عمامته فقام على رؤوس الناس ثم بعث إليه بما كتب عنه على ظهر جمال، وقال: وكان مسلم يظهر القول باللفظ ولا يكتمه.
قال الخطيب: كان مسلم يناضل عن البخاري حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى بسببه.
وفاته: توفى مسلم في شهر رجب سنة إحدى وستين ومئتين بنيسابور عن بضع وخمسين سنة.
فوائد ملتقطه من الترجمة:
1 ـ الرحلة في طلب العلم سنة عن سلفنا ولذلك استكثر مسلم بسببها من الشيوخ.
2 ـ الصبر في طلب العلم ونشره يورث الرفعة في الدنيا والآخرة.
3 ـ صحيح مسلم من أصول دواودين الإسلام التي يجب الرجوع إليها.
4 ـ الجرح والتعديل من علوم الشرع الهامة ولا يتعاطاها إلا العلماء وليس كل أحد.
5 ـ الوفاء سمة العلماء فهذا مسلم هجر الجميع وفاءًا لشيخه الإمام البخاري.
المراجع:ـ تاريخ
بغداد. ـ تهذيب الكمال.
ـ سير أعلام النبلاء. ـ تقريب
التهذيب.(/2)
الإنابة والرجوع إلى الله
1613
الكبائر والمعاصي, فضائل الأعمال
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
ملخص الخطبة
1. كل بني آدم خطاء.2. معرفة الله وأسمائه وصفاته سبب في علاج زلاتنا.3. دعوة لتدارك التفريط خاصة في موضوع الصلاة والزكاة.4. التفريط في الكسب الحلال والوقوع في الحرام.5. الوقوع في آفات اللسان.6. النظر الحرام.7. دعوة للتوبة والاستغفار.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله: إن الله جل جلاله وتقدست أسماؤه يحب المنيبين من عباده، يحب الذين إذا فعلوا أمراً فيه مخالفة أو تفريط أو تضييع للواجب أنهم يرجعون إليه سريعاً وأنهم يقبلون على ربهم بتوبة وإنابة صالحة، فإن الله جل وعلا يحب التوابين ويحب المتطهرين، ونبيكم صلى الله عليه وسلم بين أن كل ابن آدم خطاء وقال فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام: ((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون))[1].
وذلك أن ابن آدم يغلبه ظلمه لنفسه، وربما غلبته شهوته وحبه للدنيا حتى ينصرف عن الآخرة ويقبل على دنيا دون نظر إلى ما ينفعه وإلى ما يصلح حاله وإلى ما يصلح حاله في المآل، وفي العاجل والآجل وهذا من ضعف البشر.
أيها المؤمنون: ما منا إلا وعنده غلط وعنده خطأ وربما عنده تضييع للواجبات وربما انتهاك للمحرمات، كل منا فيه تقصير بحسبه، كل منا تعرض له الغفلة بحسب حاله، كل منا له من التقصير ما له، يعرف ذلك من نفسه، وهل يجوز لنا أن نبقى على أخطائنا وعلى تقصيرنا وعلى إعراض كثير منا دون إصلاحٍ للأنفس ودون إصلاحٍ لما حولنا ودون أن يوطن المرء المسلم نفسه على طاعة الله فكلنا خطاء ولكن خير الخطائين التوابون.
ولهذا قال أهل العلم: أن علاج الغلط وإن علاج التفريط بالأوامر وإن علاج ارتكاب المنهيات يكون بأمور منها: أن يتعلم المرء ما يجب عليه وأن يعلم حق الله جل وعلا عليه، فإذا علم حق الله عليه وعلم ما يجب عليه تجاه ربه فإنه لن يعصي الله ولن يفرط في أمره إذ معرفة الله بأسمائه وصفاته تلين القلب وتحمل المرء على أن يجل الله جل وعلا ثم يلزم العمل الصالح، فإذا لزم العمل الصالح فإنه ييسر له أن يتجنب المحرمات وييسر ويوفق إلى الإقبال على الطاعات، ولا شك أنه لا يجوز أن يسترسل المرء مع هوى نفسه وأن يجتنب الطاعات وهو مأمور بإتيانها وأن يقبل على المناهي وهو مأمور بتركها، وهو مأمور بترك المنهيات والإقبال على الواجبات، إذ حق الله جل وعلا أعظم وأجل وأرفع من حق النفس، ولذلك كان واجباً علينا أن نسعى في إصلاح أنفسنا وأن نقبل على أن يتعرف كل منا على خطأ نفسه وعلى ما فيها من العيوب كي يصلحها، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيب الناس ثم إن من أسباب العلاج النافع ومن أسباب الإقبال على الله أن يرى المؤمن ما يقربه من جنات عدن، فيأتيه وهو محب لأننا إذا علمنا الثواب والعقاب حملنا ذلك على الإقبال على الطاعة وعن الابتعاد عن كل منهي عنه وإن لكل إعراض سبباً، وحق على المسلم أن يباعد نفسه عن أسباب الردى وعن أسباب الإعراض وعن أسباب ترك الإقبال على ما فيه صلاحه في الدنيا والآخرة.
عباد الله: منا المفرط في الصلاة، منا المفرط في ذلك الركن الأعظم، بل أعظم الأركان العملية في دين الإسلام، ألا وهو الصلاة، فربما أخرجها عن أوقاتها، وربما بعض منا لم يؤدها في المساجد مع الجماعة كما أمر الله جل وعلا وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يجب عليه أن يتفطن في أسباب ذلك، فإن كان لا يعلم فضل الصلاة وفضل أدائها في الجماعة فليتعرف إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي منها قوله: ((الصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر))[2]، ثم ليتعرف على قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه))[3]، يعني لو يعلم الناس ما في التبكير إلى الصف الأول والتبكير إلى الصلاة بعد سماع النداء من الأجر العظيم ثم لم يجدوا إلا أن يعملوا شركة ويتشاركوا فيما بينهم في ذلك الأجر ويزدحموا على الصف الأول لفعلوه، فإذا كان منا من يفرط في الصلاة فليراع نفسه بما جاء من فضل الصلاة وبأنها حق الله وبأنها واجب من واجبات الإسلام وركن من أركان الإسلام، ثم ليبتعد عن أسباب ترك الصلاة وعن أسباب التهاون بها من عدم أدائها مع الجماعة في المساجد فإن المرء إذا ترك الأسباب المفضية إلى غير الحق والهدى فإنه ييسر له أن يقبل على الخير والهدى وما فيه صلاحه.(/1)
كذلك المرء إذا كان صاحب مال وترك أداء الزكاة وترك حق الله جل وعلا في المال فإنه يجب عليه أن يتعرف إلى ما أوجب الله من حق المال، فإذا عرف ذلك وعرف الوعيد العظيم في تارك الزكاة، ومن لم يؤدها وعرف أن الزكاة قرينة الصلاة وما أعد الله جل وعلا للمتصدقين وأن الصدقات طهرة تزكي المال وتزكي صاحب المال، وهي طهرة للقلب وطهرة للمال وطهرة للنفس كما قال الله جل وعلا: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم [التوبة:103]إذا علم ذلك ثم تخلص من شح النفس، وعلم الأسباب التي تصرفه عن أداء حق الله في الزكاة أتى مطيعاً سريعاً فأدى حق الله في المال، طيبةً بذلك نفسه، مقبلاً غير مدبر، محباً للإنفاق لا مبغضاً له، لأنه يعلم قول الله جل وعلا: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم [التوبة:34-35]. نعم إن وعيد مانع الزكاة لشديد، كذلك من رأى المال وأنه كل شيء في حياته يقبل على المال وعلى اكتسابه، سواء كان من غش في البيوعات أو كان من أكل الربا الذي توعد الله فاعله بحرب من عنده أو كان بأكلٍ للرشوة وغش للأمانة أو كان بغير ذلك من أكل مال اليتيم أو أكل الأموال ظلماً أو التعدي على حقوق الناس بالغصب وبأكل أموالهم، إذا زينت له نفسه حب المال وغشي قلبه حب المال وحب الدنيا فليعلم أنه مسؤول عن ماله وأن المال الحرام إذا نبت منه جسده ونبت منه جسد أولاده من أولاد أو بنات وأطعمه أهله فإن ذلك وبال عليه وعلى من بعده لأن المال الحرام يرفع صاحبه يديه إلى الله فلا تستجاب له دعوة، ويخذل في أيام حاجته من مرض أو فاقة وإن عاقبة المال الحرام إلى قلة، في عدده وفي صنفه، إذا تبين للمرء ما أوجب الله جل وعلا من اكتساب المال في المباحات ومن المباحات وأنه يجب عليه أن يبتعد عن المحرمات وأن المال الحرام يعذب به صاحبه يوم القيامة أمام الناس وأنه لا نفع فيه، فليحذر ذلك، فإنه مع العلم بذلك إنه مع العلم ومع ترك أسباب محبة المال الباطلة التي تحمل صاحبها على كسب المال من الحرام يرجى أن يصلح غلطه وأن يتوب من ذنبه وأن يقبل على اكتساب المال المباح، فإن المال إنما هو في بركته لا في عدده، فكم من أناس بلغت أموالهم كذا وكذا، فلم تنفعهم وربما كانت وبالاً عليهم.
كذلك إذا رأى المرء في نفسه ومن نفسه تقصيراً في حقوق أهله وفي حقوق ولده وفي رعايته لأمانة بيته، إذا رأى ذلك فليسرع إلى تصحيح ذلك وليسرع إلى مجانبة الأسباب التي تحمله على أن يضيع بيته وأن يضيع تربية أهله وتربية ولده وليتذكر قوله عليه الصلاة والسلام: ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته))[4]، وإنه لا يجوز لنا أن نرى تقصير أنفسنا وأخطاءنا ثم لا نتبع ذلك بإصلاح، من كان شحيحاً في بيته فليعلم أنه مسئول وأن الله أوجب عليه الإنفاق فليسارع في الإنفاق بما أوجب الله عليه، ومن كان مبذراً مسرفاً في بيته فليتذكر قول الله جل وعلا: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [الإسراء:29] فنهى جل وعلا عن الطرفين، طرف التفريط والإفراط، طرف الإسراف وطرف الشح، فلنحمل أنفسنا ولنعتبر بأخطائنا ولنتدبر حالنا، فإننا إذا كنا راغبين في دار الخلد وراغبين في رضى الله فإننا سنسرع حتماً في إصلاح أخطائنا وفي إصلاح ما يجعلنا نفرط في أوامر الله أو نقبل على محرمات الله.
كذلك إذا رأى المرء منا نفسه مسرعة في اغتياب الناس لا يرعى المرء لسانه ولا يرعى للسانه إحصاناً فإنه إذا كان كذلك يجب عليه أن يتفكر في لسانه وأن اللسان صغير جِرمه ولكن جُرمه كبير، نعم إن اللسان يوقع المرء في المهالك ويوقع المرء في الموبقات، فقد سأل الصحابي الجليل معاذ رضي الله عنه نبينا صلى الله عليه وسلم فقال أوإنا يا رسول الله لمؤاخذون بما نقول؟ قال: ((ثكلت أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم)) أو قال: ((على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم))[5] فليتذكر كل منا ممن أطلق لسانه في غيبة الناس وجعل مجالسه مع أصحابه في غيبة ونميمة، بل جعل مجالسه في إظهار النفس واحتقار الآخرين، يحتقر عباد الله المؤمنين ويحتقر الناس ويغتاب هذا ويقذف هذا ويشتم ذاك ويطعن ذاك، ويعتقد أن هذا فيه سلوةٌ للنفس وإنما ذلك مكتوب عليه، يكتب عليه كل ما تلفظ به من خير أو شر فيأتي يوم القيامة بحسناتٍ ولكن يعطى منها من اغتابه أو من شتمه أو من تعرض له بقذف ونحو ذلك، فيبقى يوم القيامة فقيراً مسكيناً، واللسان هو أحق ما يكون بطول صمتٍ إلا فيما ينفع لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس [النساء:114].(/2)
نعم أيها المؤمنون: منا من يجعل مجالسه في غيبة ونميمة، وربما كان في أمور أعظم، وهذا مما يجب أن نتوب منه وأن نحصن أنفسنا وأن نجعل لساننا وألسنتنا تنطق فيما يعود علينا نفعه فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين والوزن يومئذ الحق [الأعراف:7،8] من كان منا يرسل نظره ويرسل طرفه في رؤية النساء ويتبع النظرة النظرة ولا يرعى لنساء المسلمين حرمة ولا يرعى ذلك، ويعرف ذلك من نفسه ويعرف أن ذلك النظر يجلب عليه الموبقات ويجلب عليه أموراً منكرة ليعلم أن النظر سهم مسموم من سهام إبليس، فإن لم يحصن نفسه وإن لم يردع نفسه عن ذلك فإنه لا شك سيقع فيما بعد في أمور حرمها الله جل وعلا، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية))[6] ، وسأله جرير رضي الله عنه، سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: ((اصرف بصرك))[7] لأن النظرة لا يستهان بها، فمن كان مريضاً بالنظر يتتبع النساء وينظر إلى هذه إلى تلك فليعلم أن ذلك مرض في النفس فليبادر بعلاجه، فهذا أحق بالعلاج من أمراض البدن، وكذلك النظر إلى النساء في الأجهزة المختلفة فإنها تزين للقلب الفواحش وتزين للقلب المنكرات يعلم ذلك من علمه.
أيها المؤمنون: إن كلاً منا ولا شك عنده قصور وعنده تقصير وعنده غلط وعندنا جميعاً غفلة نسأل الله جل وعلا أن يجنبنا ذلك وأن يقيمنا على الحق والهدى، لكن لا يجوز أبداً أن نسترسل مع أخطائنا دون أن نحدث توبة وأن نحدث استغفاراً، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يأمر الناس بقوله: ((يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة))[8]، وهو المعصوم عليه الصلاة والسلام الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما يفعل منا من هو مسترسل مع إعراضه يفرط في الواجبات ويغشى المحرمات ولا يحدث نفسه بتوبة نصوح بتوبة ونزاهة وقرب إلى ربه وأن يتأمل ما أعد الله للمؤمنين في جنات الخلد، فهل نعرض عما أعد الله وهل لا نستجيب إلى ما أمر الله، وهل لا نجعل الله جل وعلا أحب إلينا من أنفسنا ونجعل أمره مقدماً عندنا على أوامر النفس وشهوات النفس اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً ودلنا على الخير والهدى يا أكرم الأكرمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة:281].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه الترمذي عن أنس ح (2499) ، وابن ماجه (4251).
[2] رواه مسلم بلفظ (الصلوات الخمس) ح (233).
[3] رواه البخاري ح (615) ، ومسلم ح ( 437).
[4] رواه البخاري ح (893) ، ومسلم ح (1829).
[5] رواه الترمذي عن معاذ ح (2616) وابن ماجه (3973).
[6] رواه الترمذي عن علي ح (277) ، وأبو داود ح (2149).
[7] رواه أبو داود ح (2148) عن جرير.
[8] رواه أحمد عن ابن عمر ح (17391)، ونحوه في مسلم ح (2702).
الخطبة الثانية
الحمد لله حق حمده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم تقول الله فإن بالتقوى الفخار لنا والسعادة لنا والرفعة في هذه الدنيا والآخرة، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله: إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته تعظيماً لما أمره، وتشريفاً لمن أمر بالصلاة عليه فقال قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء وعن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.(/3)
الإنسان بين العبودية والطغيان
إعداد/ سعود بن إبراهيم الشريم
إمام الحرم المكي
الحمد لله رب
العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين، أما بعد:
اتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه في السر والنجوى
والخلوة والجلوة، فإن الله لا يخفى عليه شىء في الأرض
ولا فى السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء
لا إلاه إلا هو العزيز الحكيم[آل عمران:5، 6]، أما بعد:
فيا
عباد الله، إن الباريَ سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه خلق هذا الكون عُلويَّه
وسفليّه ظاهره وباطنه، وأودعه من الموجودات الملائكة والإنسَ والجن، والحيوانَ
والنبات والجمادات، وغيرها من الموجودات التي لا يعلمها إلا هو. كلُّ ذلك لأجل
أمرٍ واحد لا ثاني له، ولأجل حقيقةٍ كبرى لا حقيقة وراءَها، إنه لأجل أن تكون
العبودية له وحده دون سواه، ولأجل أن تعترف هذه الموجودات بربوبيته وتحقِّق
ألوهيتَه، وتُقرَّ بفقرها واحتياجها وخضوعها له جل شأنه. ومن ثمَّ فإن تحقيق
العبودية لا يمكن أن يبلغ مكانَه الصحيح إلا بتحقيق الطاعة والاستقامة ولزوم
الصراط المستقيم، ليكون الدين لله والحكم لله والدعوة إلى الله. كلُّ ذلك يقوم
به من جعلهم الله مستخلَفين في الأرض مستعمَلين فيها، ومثل هذا لا يتم لبني
الإنسان من بين سائر المخلوقات إلا من خلال قول اللسان والقلب وعمل القلب
والجوارح على حدٍّ سواء. كما أنه لا يمكن إتمام العبودية على أكمل وجه إلا
بتكميل مقام غاية الذل والانقياد مع غاية المحبة لله سبحانه وتعالى. فأكملُ
الخلق عبودية لله هو أكملهم له ذلاً وانقيادًا وطاعةً.
وجماع العبودية ـ عباد
الله ـ أنها هي الدين، فالدين عند الله الإسلام، ومن يبتغ غير
الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من
الخاسرين[آل عمران:85]، وهذا هو سرّ خلق الله للخلق، وغايةُ إيجاده لهم
على هذه البسيطة، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات:56]، أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم
إلينا لا ترجعون[المؤمنون:115]، أيحسب الإنسان أن
يترك سدى[القيامة:36].
أيها المسلمون، يقول الله تعالى: أولم
ينظروا فى ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من
شىء[الأعراف:185]، ويقول عائبًا فئة من البشر غافلةً ساهية لم تأخذ العبرة
والعظة مما تشاهده ليلاً ونهارًا في أنحاء هذا الكون المعمور: وكأين من
ءاية فى السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها
معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم
مشركون[يوسف:105، 106].
فيا سبحان الله، أفلا يرون الكواكب الزاهرات
والأفلاك الدائرات والجميع بأمره مسخرات؟! وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق
وجنات وجبال راسيات وبحارٍ زاخرات وأمواج متلاطمات وقفارٍ شاسعات، ثم هم يجعلون
لله البنات، ويعبدون من دونه من هو كالعزى واللات، فسبحان الواحد الأحد خالق
جميع المخلوقات. وثمَّ أمرٌ لذي اللبِّ المتأمّل يجعل العجب يأخذ من نفسه كلَّ
مأخذ حينما يرى أمرَ هذا الكائن البشري وهو ينكص على عقبيه ويولِّي الدّبر،
منصرفًا عن عبودية خالقه ومولاه، منشغلاً بالأولى عن الأخرى والفاني عن الباقي،
يتقلَّب بين الملذات والشهوات، ملتحفًا بأكنافها بعد أن أكرمه الله وكرّمه
وحمله في البر والبحر وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وبعد أن أسبغ عليه نعمه
ظاهرةً وباطنة، وبعد أن خلقه وصوّره وشقَّ سمعه وبصره، وآتاكم من كل ما
سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها
[إبراهيم:34]، ومع ذلك يستكبر الإنسان، ويكفر الإنسان، ويجهل الإنسان، ويقتر
الإنسان، ويجادل الإنسان، فيقول الله عنه: إن الإنسان لظلوم
كفار[إبراهيم:34]، إنه كان ظلوما جهولا[الأحزاب:72]،
قتل الإنسان ما أكفره[عبس:17]، وكان الإنسان قتورا
[الإسراء:100]، وكان الإنسان أكثر شىء جدلا[الكهف:54]،
كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى[العلق:6، 7]،
بل يريد الإنسان ليفجر أمامه[القيامة:5]، إن
الإنسان لفى خسر[العصر:2].
وقد كان الأجدر بهذا الإنسان وقد كَرَّمه
الله ونعّمه أن يكون عابدًا لا غافلاً، طائعًا لا عاصيًا، مقبلاً إلى ربه لا
مدبرًا، شكورًا لا كفورًا، محسنا لا ظالمًا.
إن المتأمِّل في كثير من المخلوقات
في هذا العالم المشهود ليرى أنها لم تُعطَ من العناية والرعاية والعمارة
والاستخلاف كما أُعطي الإنسان، ولا كُلِّفت كتكليف ابن آدم، بل جعلها الله
خادمة مسخرةً له، هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا
[البقرة:29]، بل حتى الملائكة سخرها الله لابن آدم، فجعل منهم الكتبةَ عليهم
والدافعين عنهم من معقّبات من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم من أمر الله، وجعل
منهم المسخَّرين لإرسال الريح والمطر، كما جعل الله من أكبر وظائفهم الاستغفار
لبني آدم، والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون
لمن فى الأرض[الشورى:5].
ومع ذلك ـ عباد الله ـ فإن هذه المخلوقات عدا
ابن آدم قد كمُلت في عبوديتها لله جل شأنه، وخضوعها له، وذلِّها لقهره وربوبيته(/1)
وألوهيته، إلا بعض المخلوقات العاصية كالشياطين وعصاة الجن وبعض الدواب كالوزغ
والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «اقتلوا الوزغ، فإنه كان ينفخ النار
على أبينا إبراهيم». [رواه أحمد](1).
غير أن أولئك مع عصيانهم إلا أنهم لا
يبلغون مبلغَ عصيان بعض بني آدم، وما ذاك إلا لأنه قد وُجد في بني آدم من يقول:
أنا ربكم الأعلى، ووُجد فيهم من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم، وإن الله
ثالث ثلاثة، ووُجد فيهم من يقول: أنا أحيي وأميت، ووُجد من يقول: اجعل لنا
إلهًا كما لهم آلهة، ووُجد فيهم من يقول عن القرآن: إنْ هذا إلا قول البشر، ومن
يقول: إنْ هذا إلا أساطير الأولين، ناهيكم ـ عباد الله ـ عمن يقول: يد الله
مغلولة، ومن يجعل الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا، فكيف إذًا بمن يقول:
إن الله فقير ونحن أغنياء.
وهكذا ـ عباد الله ـ تمتدّ حبال الطغيان والجبروت في
بني الإنسان إلى أن يخرج من يقول: إن الشريعة الإسلامية غيرُ صالحة لكل زمان
ومكان، أو من يقول بفصل الدين عن الدولة، فلا سياسة في الدين ولا دين في
السياسة، أو من يقول: الدين لله والوطن للجميع، أو من يقول: دع ما لله لله، وما
لقيصر لقيصر، أو من يصف الدين بالرجعية، والحدود والتعزيرات بالهمجية والغلظة،
أو أن يصفه بالمقيِّد للمرأة والظالم لها والمحجِّر على هويَّتها، أو من يرى
حريتَها وفكاكها من أسرها إنما يتمثَّل في خروجها من حدود ربها، وإعلان عصيانها
لشريعة خالقها ومولاها، وجعلِها نهبًا لكل سارق وإناءً لكل والغ ولقيطًا لكل
لاقط، جسدًا للإغراء والمتاجرة، وحُبَّ شيوع الفاحشة في الذين آمنوا.
هذه هي
بعض مقولات بني الإنسان، فهل من التِفاتةٍ ناضجةٍ إلى مواقف إبليس اللعين في
كتاب ربنا لتروا: هل تجدونه قال شيئًا من ذلك غير أنه وعد بالغواية؟! بل إن
غاية أمره أنه فضّل جنسه على جنس آدم، فاستكبر عن السجود لمن خُلق طينًا، بل
إنه قد قال لبعض البشر: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد
العقاب.
فلله ما أعظمَ عصيان ابن آدم، وما أشد استكبارَه ومكره السيئ، ولا
يحيق المكر السيىء إلا بأهله فهل ينظرون إلا
سنة آلأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد
لسنة الله تحويلا[فاطر:43].
ويؤكد الباري جل شأنه حقيقةَ عصيان
بعض بني آدم من بين سائر المخلوقات واستنكافَهم أن يكونوا عبيدا لله الذي خلقهم
وفطرهم فقال سبحانه: ألم تر أن الله يسجد له من فى
السماوات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم
والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير
حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم
إن الله يفعل ما يشاء[الحج:18]، فدل على أن أكثر بني آدم عصاةٌ
مستكبرون ضالون، وإن تطع أكثر من فى الأرض يضلوك عن
سبيل الله[الأنعام:116]، وقليل من عبادى الشكور
[سبأ:13]، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين
[يوسف:103].
أيها المسلمون، من أجل أن نصل وإياكم إلى غايةٍ واحدة، وهي استشعار
عبوديتنا لله سبحانه وتعالى، وأن منا مفرّطين ومستنكفين، وأن من أطاع الله بشيء
من العمل أخذه الإعجاب بنفسه كلَّ مأخذ، وأقنع نفسه ومجتمعَه بأنه يعيش أجواءَ
الأمن والأمان والاستقامة والهداية وأنه أدى ما عليه، فليس هناك دواعٍ معقولةٌ
للتصحيح والارتقاء بالنفس إلى البُلغة المرجوَّة، إنه لأجل أن نعلم ذلك، ولأجل
أن نزدري عملَنا مهما كان صالحًا في مقابل أعمال المخلوقات الأخرى من جمادٍ
ونباتات وحيوان، فإن من المستحسن هنا أن نسلط الحديث على بعض أمثلة متنوعة
لمخلوقات الله سبحانه، لنبرهن من خلالها على الهُوَّةِ السحيقة بيننا وبينهم في
كمال العبودية لله والطاعة المطلقة له.
فمن ذلك ـ عباد الله ـ ما أودعه الباري
سبحانه بعض الجمادات من الغيرة على دينه والتأذي من انتهاك ابن آدم لحرمات الله
سبحانه، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فقال:
«مستريحٌ ومستَراحٌ منه»، فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح؟ وما المستراح
منه؟ قال: «إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى،
والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب». [رواه
البخاري](2).
انظروا ـ يا رعاكم الله ـ كيف يتأذى الشجر والدواب من الرجل
الفاجر وما يحدثه في الأرض من فساد وتخريب، وإعلانٍ لمعصية الله تعالى، والتي
لا يقتصر شؤمُها على ابن آدم فحسب.
وفي مقابل ذلك فإن بعض الدواب تفرح
بالتديُّن، وتشعر بأثره في ابن آدم، وببركته على وجه الأرض، ولذلك فهي تدعو له،
وتصلي عليه، وتستغفر له، فقد روى الترمذي في جامعه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت،
ليصلُّون على معِلّم الناس الخير»(3).
بل إن الدواب جميعًا لتشفِق من يوم
القيامة وتفرَق من قيام الساعة خوفًا من هولها وعرصاتها، فقد قال النبي صلى(/2)
الله عليه وسلم: «ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشيةَ أن تقوم الساعة».
[رواه أحمد(4) والمصيخة هي المنصتة]
ولقد ورد أيضًا ما يدل على عبودية الديك
لله ودعوتِه للخير والفلاح، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا
الديك، فإنه يدعو إلى الصلاة».
[رواه أحمد وأبو داود](5).
وقد روى الإمام أحمد
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه ليس من فرسٍ عربيٍّ إلا يؤذَن له مع
كل فجر يدعو بدعوةٍ يقول: اللهم إنك خوّلتني من خوّلتني من ابن آدم، فاجعلني من
أحب أهله وماله إليه»، فيقول: «إن هذا الفرس قد استجيب له دعوته» [رواه
أحمد](6).
وأما النمل ـ يا رعاكم الله ـ فتلك أمةٌ من الأمم المسبحة لله
سبحانه، مع صغر خلقتِها وهوان حالها وازدراء البشر لها، وهي التي قال الله
عنها: حتى إذا أتوا على وادى النمل قالت نملة
ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم
سليمان وجنوده وهم لا يشعرون[النمل:18].
هذه النملة يقول
النبي صلى الله عليه وسلم عنها: «قرصت نملةٌ نبيًا من الأنبياء، فأمر بقريةِ
النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أنْ قرصتك نملة أحرقتَ أمةً من الأمم
تسبِّح لله؟!» [رواه البخاري](7).
وأما الشجر وهو من النبات عباد الله، فقد قال
الله عنه: والنجم والشجر يسجدان[الرحمن:6]، وروى ابن ماجه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ملبٍّ يلبي إلا لبى ما عن يمينه
وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا»(8).
وأما
ولاءُ الحجر والشجر للمؤمنين ونصرتُه لدين الله حينما يستنطقه خالقه فيُنبئ عن
عمق عبوديته لربه وغيرته على دينه، فإن رسول الله قد قال عنه: «لا تقوم الساعة
حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر
والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال
فاقتله» رواه البخاري(9).
فانظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى هذه المخلوقات الآنفة،
إضافةً إلى الجبال الراسيات والأوتاد الشامخات، كيف تسبح بحمد الله، وتخشع له،
وتشفق وتهبط من خشية الله، وهي التي خافت من ربها وخالقها إذ عرضَ عليها
الأمانةَ فأشفقت من حملها، وكيف أنه تدكْدك الجبل لما تجلى ربنا لموسى عليه
السلام، فهذه هي حال الجبال، وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتُها وخشيتها
وتدكدُكُها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر الله أنه لو أنزل عليها القرآن
لتصدعت من خشية الله.
فيا عجبا من مضغةِ لحم أقسى من صخر صلب، تسمعُ آيات الله
تتلى عليها ثم تصرُّ مستكبرة كأن لم تسمعها، كأن في أذنيها وقرًا، فهي لا تلين
ولا تخشع، ولا تهبط ولا تصدّع، ولو وعظها لقمان أو تليت عليها آيات القرآن،
ولكن صدق الله: أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب
يعقلون بها أو ءاذان يسمعون بها فإنها لا تعمى
الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور
[الحج:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من
الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
أيها
الناس، تكلّم ذئبٌ كلامًا عجيبًا إبانَ حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كلاما
يفيد بأن الذئب يؤمن بأن الرزق من عند الله، بل قد أمر هذا الذئب راعيَ الغنم
بتقوى الله سبحانه، إضافةً إلى علم هذا الذئب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
ورسالته.
فلقد أخرج أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
عدا ذئبٌ على شاة فأخذها، فطلبه الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه
قال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقا ساقه الله إلي؟! فقال: يا عجبي، ذئبٌ مقعٍ
على ذنبه يكلمني كلامَ الناس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجبَ من ذلك؟! محمدٌ
بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق... الحديث(01) وفي رواية للبخاري: فقال
الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم! فقال: «فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر
وعمر»(11).
فاتقوا الله أيها المسلمون، واقدروه حقَّ قدره، واستشعروا أثرَ
عبودية الجماد والنبات والحيوان، وكمالها لله تعالى، وهي أقل منكم فضلاً
وتكريمًا.
واعلموا أنكم مقصِّرون مهما بلغتم، وظالمون لأنفسكم مهما ادعيتم
القصدَ أو الكمال، فإن بُعد البشر عن المعرفة الحقيقية، وضعفَ يقينهم بالآمر
الناهي، وغلبةَ شهواتهم مع الغفلة، تلك كلها تحتاج إلى جهاد أعظمَ من جهاد
غيرهم من المخلوقات الطائعة المسبِّحة لله تعالى.
يصبح أحدنا وخطابُ الشرع يقول
له: استقم في عبادتك، واحذر من معصيتك، وتنبَّه في كسبك، وقد قيل قبلُ للخليل
عليه السلام: اذبح ولدك بيدك، واقطع ثمرةَ فؤادك بكفِّك، ثم قم إلى المنجنيق
لتُرمى في النار، ويقال للغضبان: اكظم، وللبصير: اغضض، ولذي القول: اصمت،
ولمستلِذِّ النوم: تهجّد، ولمن مات حبيبه: اصبر، وللواقف في الجهاد بين
الغمرات: لا يحلُّ لك أن تفرّ، وإذا وقع بك مرض فلا تشْكُ لغير الله.
فاعرفوا ـ
أيها المسلمون ـ شرفَ أقدار بني آدم بهذا الاستخلاف، وصُونوا هذا الجوهر(/3)
بالعبودية الحقة عن تدنيسها بشؤم الذنوب ولؤم التفريط في الطاعة، واحذروا أن
تحطَّكم الذنوب إلى حضيض أوهد، فتخطفكم الطير أو تهوي بكم الريح في مكان سحيق.
ذالك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب
[الحج:32].
والعجب ـ يا عباد الله ـ ليس من مخلوقاتٍ ذُلِّل لها الطريق فلا
تعرف إلا الله، ولا من الماء إذا جرى، أو من منحدِر يُسرع، ولكن العجب من
متصاعِد يشقُّ الطريق شقا، ويغالب العقبات معالجة، ويتكفّأ الريح إقبالاً، ولا
عجب فيمن هلك: كيف هلك؟ ولكن العجب فيمن نجا: كيف نجا؟ وما يلقاها
إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم
[فصلت:35].
والعبد كلما ذل لله وعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له كان أقربَ له،
وأعزَّ وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله، يقول النبي صلى الله عليه
وسلم: «قال الله سبحانه وتعالى: يا ابن آدم، تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى
وأسُدَّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدَّ فقرك» رواه ابن
ماجه(21).
هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية، محمد بن
عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه
بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال عز من قائل
عليم: ياأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا
تسليما[الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...(/4)
الإنسان بين العبودية والطغيان
2584
الألوهية, مخلوقات الله
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
24/4/1423
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- الغاية من خلق الكائنات. 2- السبيل إلى تحقيق العبودية لله تعالى. 3- جماع العبودية. 4- ذم الغفلة عن الآيات الكونية. 5- طغيان الإنسان. 6- تسخير الله تعالى المخلوقات للإنسان. 7- صور من عظم عصيان بني آدم. 8- التحذير من العلمنة والتغريب. 9- عبودية الجمادات والحيوانات والنباتات. 10- قصة الذئب الذي تكلّم. 11- التذكير بالتفريط والتقصير.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه في السر والنجوى والخلوة والجلوة، فـ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لا اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:5، 6].
عباد الله، إن الباريَ سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه خلق هذا الكون عُلويَّه وسفليّه ظاهره وباطنه، وأودعه من الموجودات الملائكة والإنسَ والجن، والحيوانَ والنبات والجمادات، وغيرها من الموجودات التي لا يعلمها إلا هو. كلُّ ذلك لأجل أمرٍ واحد لا ثاني له، ولأجل حقيقةٍ كبرى لا حقيقة وراءَها، إنه لأجل أن تكون العبودية له وحده دون سواه، ولأجل أن تعترف هذه الموجودات بربوبيته وتحقِّق ألوهيتَه، وتُقرَّ بفقرها واحتياجها وخضوعها له جل شأنه. ومن ثمَّ فإن تحقيق العبودية لا يمكن أن يبلغ مكانَه الصحيح إلا بتحقيق الطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم، ليكون الدين لله والحكم لله والدعوة إلى الله. كلُّ ذلك يقوم به من جعلهم الله مستخلَفين في الأرض مستعمَلين فيها، ومثل هذا لا يتم لبني الإنسان من بين سائر المخلوقات إلا من خلال قول اللسان والقلب وعمل القلب والجوارح على حدٍّ سواء. كما أنه لا يمكن إتمام العبودية على أكمل وجه إلا بتكميل مقام غاية الذل والانقياد مع غاية المحبة لله سبحانه وتعالى. فأكملُ الخلق عبودية لله هو أكملهم له ذلاً وانقياداً وطاعةً، إذ هذه هي الذلة لله ولعزّته وقهره وربوبيته وإحسانه وإنعامه على ابن آدم.
وجماع العبودية ـ عباد الله ـ أنها هي الدين، فالدين عند الله الإسلام، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، وهذا هو سرّ خلق الله للخلق، وغايةُ إيجاده لهم على هذه البسيطة، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36].
أيها المسلمون، يقول الله تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْء [الأعراف:185]، ويقول عائباً فئة من البشر غافلةً ساهية لم تأخذ العبرة والعظة مما تشاهده ليلاً ونهاراً في أنحاء هذا الكون المعمورة: وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:105، 106].
فيا سبحان الله، أفلا يرون الكواكب الزاهرات والأفلاك الدائرات والجميع بأمره مسخرات؟! وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات وجبال راسيات وبحارٍ زاخرات وأمواج متلاطمات وقفازٍ شاسعات، ثم هم يجعلون لله البنات، ويعبدون من دونه من هو كالعزى واللات، فسبحان الواحد الأحد خالق جميع المخلوقات. وثمَّ أمرٌ لذي اللبِّ المتأمّل يجعل العجب يأخذ من نفسه كلَّ مأخذ حينما يرى أمرَ هذا الكائن البشري وهو ينكص على عقبيه ويولِّي الدّبر، منصرفاً عن عبودية خالقه ومولاه، منشغلاً بالأولى عن الأخرى والفاني عن الباقي، يتقلَّب بين الملذات والشهوات، ملتحفاً بأكنافها بعد أن أكرمه الله وكرّمه وحمله في البر والبحر وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وبعد أن أسبغ عليه نعمه ظاهرةً وباطنة، وبعد أن خلقه وصوّره وشقَّ سمعه وبصره، وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، ومع ذلك يستكبر الإنسان، ويكفر الإنسان، ويجهل الإنسان، ويقتر الإنسان، ويجادل الإنسان، فيقول الله عنه: إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]، قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس:17]، وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء:100]، وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً [الكهف:54]، كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى [العلق:6، 7]، بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القيامة:5]، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ [العصر:2].(/1)
وقد كان الأجدر بهذا الإنسان وقد أكرمه الله ونعّمه أن يكون عابداً لا غافلاً، طائعاً لا عاصيًا، مقبلاً إلى ربه لا مدبراً، شكوراً لا كفوراً، محسنا لا ظالماً.
إن المتأمِّل في كثير من المخلوقات في هذا العالم المشهود ليرى أنها لم تُعطَ من العناية والرعاية والعمارة والاستخلاف كما أُعطي الإنسان، ولا كُلِّفت كتكليف ابن آدم، بل جعلها الله خادمة مسخرةً له، هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29]، بل حتى الملائكة سخرها الله لابن آدم، فجعل منهم الكتبةَ عليهم والدافعين عنهم من معقّبات من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم من أمر الله، ومنهم المسخَّرين لإرسال الريح والمطر، كما جعل الله من أكبر وظائفهم الاستغفار لبني آدم، وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأَرْضِ [الشورى:5].
ومع ذلك ـ عباد الله ـ فإن هذه المخلوقات عدا ابن آدم قد كمُلت في عبوديتها لله جل شأنه، وخضوعها له، وذلِّها لقهره وربوبيته وألوهيته، إلا بعض المخلوقات العاصية كالشياطين وعصاة الجن وبعض الدواب كالوزغ والذي قال عنه النبي : ((اقتلوا الوزغ، فإنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم)) رواه أحمد[1].
غير أن أولئك مع عصيانهم إلا أنهم لا يبلغون مبلغَ عصيان بعض بني آدم، وما ذاك إلا لأنه قد وُجد في بني آدم من يقول: أنا ربكم الأعلى، ووُجد فيهم من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة، ووُجد فيهم من يقول: أنا أحيي وأميت، ووُجد من يقول: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، ووُجد فيهم من يقول عن القرآن: إنْ هذا إلا قول البشر، ومن يقول: إنْ هذا إلا أساطير الأولين، ناهيكم ـ عباد الله ـ عمن يقول: يد الله مغلولة، ومن يجعل الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، فكيف إذًا بمن يقول: إن الله فقير ونحن أغنياء.
وهكذا ـ عباد الله ـ تمتدّ حبال الطغيان والجبروت في بني الإنسان إلى أن يخرج من يقول: إن الشريعة الإسلامية غيرُ صالحة لكل زمان ومكان، أو من يقول بفصل الدين عن الدولة، فلا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، أو من يقول: الدين لله والوطن للجميع، أو من يقول: دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، أو من يصف الدين بالرجعية، والحدود والتعزيرات بالهمجية والغلظة، أو أن يصفه بالمقيِّد للمرأة والظالم لها والمحجِّر على هويَّتها، أو من يرى حريتَها وفكاكها من أسرها إنما يتمثَّل في خروجها من حدود ربها، وإعلان عصيانها لشريعة خالقها ومولاها، وجعلِها نهباً لكل سارق وإناءً لكل والغ ولقيطاً لكل لاقط، جسداً للإغراء والمتاجرة، وحُبَّ شيوع الفاحشة في الذين آمنوا.
هذه هي بعض مقولات بني الإنسان، فهل من التِفاتةٍ ناضجةٍ إلى مواقف إبليس اللعين في كتاب ربنا لتروا: هل تجدونه قال شيئاً من ذلك غير أنه وعد بالغواية؟! بل إن غاية أمره أنه فضّل جنسه على جنس آدم، فاستكبر عن السجود لمن خُلق طيناً، بل إنه قد قال لبعض البشر: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب.
فلله ما أعظمَ عصيان بني آدم، وما أشد استكبارَه ومكره السيئ، وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
ويؤكد الباري جل شأنه حقيقةَ عصيان بعض بني آدم من بين سائر المخلوقات واستنكافَهم أن يكونوا عبيدا لله الذي خلقهم وفطرهم فقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَاواتِ وَمَن فِى الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء [الحج:18]، فدل على أن أكثر بني آدم عصاةٌ مستكبرون ضالون، وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].(/2)
أيها المسلمون، من أجل أن نصل وإياكم إلى غايةٍ واحدة، وهي استشعار عبوديتنا لله سبحانه وتعالى، وأن منا مفرّطين ومستنكفين، وأن من أطاع الله بشيء من العمل أخذه الإعجاب بنفسه كلَّ مأخذ، وأقنع نفسه ومجتمعَه بأنه يعيش أجواءَ الأمن والأمان والاستقامة والهداية وأنه أدى ما عليه، فليس هناك دواعٍ معقولةٌ للتصحيح والارتقاء بالنفس إلى البُلغة المرجوَّة، إنه لأجل أن نعلم ذلك، ولأجل أن نزدري عملَنا مهما كان صالحاً في مقابل أعمال المخلوقات الأخرى من جمادٍ ونباتات وحيوان، فإن من المستحسن هنا أن نسلط الحديث على بعض أمثلة متنوعة لمخلوقات الله سبحانه، لنبرهن من خلالها الهُوَّةَ السحيقة بيننا وبينهم في كمال العبودية لله والطاعة المطلقة له.
فمن ذلك ـ عباد الله ـ ما أودعه الباري سبحانه بعض الجمادات من الغيرة على دينه والتأذي من انتهاك ابن آدم لحرمات الله سبحانه، ففي الحديث أن النبي مُرَّ عليه بجنازة فقال: ((مستريحٌ ومستَراحٌ منه))، فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح؟ وما المستراح منه؟ قال: ((إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)) رواه البخاري[2].
انظروا ـ يا رعاكم الله ـ كيف يتأذى الشجر والدواب من الرجل الفاجر وما يحدثه في الأرض من فساد وتخريب، وإعلانٍ لمعصية الله تعالى، والتي لا يقتصر شؤمُها على ابن آدم فحسب.
وفي مقابل ذلك فإن بعض الدواب تفرح بالتديُّن، وتشعر بأثره في ابن آدم، وببركته على وجه الأرض، ولذلك فهي تدعو له، وتصلي عليه، وتستغفر له، فقد روى الترمذي في جامعه أن النبي قال: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلُّون على معِلّم الناس الخير))[3].
بل إن الدواب جميعاً لتشفِق من يوم القيامة وتفرَق من قيام الساعة خوفاً من هولها وعرصاتها، فقد قال النبي : ((ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشيةَ أن تقوم الساعة)) رواه أحمد[4]. والمصيخة هي المنصتة.
ولقد ورد أيضاً ما يدل على عبودية الديك لله ودعوتِه للخير والفلاح، فقد قال النبي : ((لا تسبوا الديك، فإنه يدعو إلى الصلاة)) رواه أحمد وأبو داود[5].
وقد روى الإمام أحمد عن النبي أنه قال: ((إنه ليس من فرسٍ عربيٍّ إلا يؤذَن له مع كل فجر يدعو بدعوةٍ يقول: اللهم إنك خوّلتني من خوّلتني من ابن آدم، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه))، فيقول : ((إن هذا الفرس قد استجيب له دعوته)) رواه أحمد[6].
وأما النمل ـ يا رعاكم الله ـ فتلك أمةٌ من الأمم المسبحة لله سبحانه، مع صغر خلقتِها وهوان حالها وازدراء البشر لها، وهي التي قال الله عنها: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [النمل:18].
هذه النملة يقول النبي عنها: ((قرصت نملةٌ نبياً من الأنبياء، فأمر بقريةِ النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أنْ قرصتك نملة أحرقتَ أمةً من الأمم تسبِّح لله؟!)) رواه البخاري[7].
وأما الشجر وهو من النبات عباد الله، فقد قال الله عنه: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6]، وروى ابن ماجه عن النبي أنه قال: ((ما من ملبٍّ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا))[8].
وأما ولاءُ الحجر والشجر للمؤمنين ونصرتُه لدين الله حينما يستنطقه خالقه فيُنبئ عن عمق عبوديته لربه وغيرته على دينه، فإن رسول الله قد قال عنه: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله)) رواه البخاري[9].
فانظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى هذه المخلوقات الآنفة، إضافةً إلى الجبال الراسيات والأوتاد الشامخات، كيف تسبح بحمد الله، وتخشع له، وتشفق وتهبط من خشية الله، وهي التي خافت من ربها وخالقها إذ عرضَ عليها الأمانةَ فأشفقت من حملها، وكيف أنه تدكْدك الجبل لما تجلى ربنا لموسى عليه السلام، فهذه هي حال الجبال، وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتُها وخشيتها وتدكدُكُها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر الله أنه لو أنزل عليها القرآن لتصدعت من خشية الله.
فيا عجبا من مضغةِ لحم أقسى من صخر صلب، تسمعُ آيات الله تتلى عليها ثم تصرُّ مستكبرة كأن لم تسمعها، كأن في أذنيها وقراً، فهي لا تلين ولا تخشع، ولا تهبط ولا تصدّع، ولو عظها لقمان أو تليت عليها آيات القرآن، ولكن صدق الله: أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ [الحج:46].(/3)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
[1] أخرجه أحمد (6/200) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو أيضا عند ابن راهويه في مسنده (1103)، والنسائي في المناسك (2831)، وابن ماجه في الزهد (3231)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2616)، ويشهد له حديث أم شريك رضي الله عنها عند البخاري (3359).
[2] أخرجه البخاري في الرقاق (6512) من حديث أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في الجنائز (950).
[3] أخرجه الترمذي في العلم (2685) من طريق القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة رضي الله عنه، وقال: "حديث حسن غريب صحيح"، وهو أيضا عند الطبراني في الكبير (8/234)، وذكره الهيثمي في المجمع (1/124) وقال: "فيه القاسم أبو عبد الرحمن وثقه البخاري وضعفه أحمد". والحديث في صحيح الترغيب (81).
[4] أخرجه أحمد (2/486) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند أبي داود في الصلاة (1046)، والنسائي في الجمعة (1430)، وصححه ابن خزيمة (1727)، وابن حبان (2772)، والحاكم (1030)، والضياء في المختارة (396)، وهو في صحيح النسائي (1354).
[5] أخرجه أحمد (5/192)، وأبو داود في الأدب (5101) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، وهو أيضا عند النسائي في الكبرى (10782)، والطبراني في الأوسط (3620) والكبير (5/240)، وصححه ابن حبان (5731)، وكذا النووي في الأذكار، ورمز له السيوطي بالحسن، وجود إسناده العجلوني في الكشف (2/478)، وهو في صحيح الترغيب (2797).
[6] أخرجه أحمد (5/170) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وهو أيضا عند النسائي في الخيل (3579)، والبزار (3893)، والبيهقي (6/330)، وصححه الحاكم (2457، 2638)، وهو في صحيح الجامع (2414). وليس فيه أن النبي قال: ((إن هذا الفرس قد استجيب له دعوته)).
[7] أخرجه البخاري في الجهاد (3019) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه ابن ماجه في المناسك (2921) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، وهو أيضا عند الترمذي في الحج (828)، وصححه ابن خزيمة (2634)، والحاكم (1656)، وهو في صحيح الترغيب (1134).
[9] أخرجه البخاري في الجهاد (2926) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في الفتن (2922) واللفظ له.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
فيا أيها الناس، تكلّم ذئبٌ كلاماً عجيباً إبانَ حياة النبي ، كلاما يفيد بأن الذئب يؤمن بأن الرزق من عند الله، بل قد أمر هذا الذئب راعيَ الغنم بتقوى الله سبحانه، إضافةً إلى علم هذا الذئب بنبوة محمد ورسالته.
فلقد أخرج أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: عدا ذئبٌ على شاة فأخذها، فطلب الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه قال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقا ساقه الله إلي؟! فقال: يا عجبي، ذئبٌ مقعٍ على ذنبه يكلمني كلامَ الناس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجبَ من ذلك؟! محمدٌ بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق... الحديث[1]. وفي رواية للبخاري: فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم! فقال : ((فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر))[2].
فاتقوا الله أيها المسلمون، واقدروه حقَّ قدره، واستشعروا أثرَ عبودية الجماد والنبات والحيوان، وكمالها لله تعالى، وهي أقل منكم فضلاً وتكريماً.
واعلموا أنكم مقصِّرون مهما بلغتم، وظالمون لأنفسكم مهما ادعيتم القصدَ أو الكمال، فإن بُعد البشر عن المعرفة الحقيقية، وضعفَ يقينهم بالآمر الناهي، وغلبةَ شهواتهم مع الغفلة، تلك كلها تحتاج إلى جهاد أعظمَ من جهاد غيرهم من المخلوقات الطائعة المسبِّحة لله تعالى.
يصبح أحدنا وخطابُ الشرع يقول له: استقم في عبادتك، واحذر من معصيتك، وتنبَّه في كسبك، وقد قيل قبلُ للخليل عليه السلام: اذبح ولدك بيدك، واقطع ثمرةَ فؤادك بكفِّك، ثم قم إلى المنجنيق لتُرمى في النار، ويقال للغضبان: اكظم، وللبصير: اغضض، ولذي القول: اصمت، ولمستلِذِّ النوم: تهجّد، ولمن مات حبيبه: اصبر، وللواقف في الجهاد بين الغمرات: لا يحلُّ لك أن تنفر، وإذا وقع بك مرض فلا تشْكُ لغير الله.
فاعرفوا ـ أيها المسلمون ـ شرفَ أقدار بني آدم بهذا الاستخلاف، وصُونوا هذا الجوهر بالعبودية الحقة عن تدنيسها بشؤم الذنوب ولؤم التفريط في الطاعة، واحذروا أن تحطَّكم الذنوب إلى حضيض أوهد، فتخطفكم الطير أو تهوي بكم الريح في مكان سحيق. ذالِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].(/4)
والعجب ـ يا عباد الله ـ ليس من مخلوقاتٍ ذُلِّل لها الطريق فلا تعرف إلا الله، ولا من الماء إذا جرى، أو من منحدِر يُسرع، ولكن العجب من متصاعِد يشقُّ الطريق شقا، ويغالب العقبات معالجة، ويتكفّأ الريح إقبالاً، ولا عجب فيمن هلك: كيف هلك؟ ولكن العجب فيمن نجا: كيف نجا؟ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:35].
والعبد كلما ذل لله وعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له كان أقربَ له، وأعزَّ وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله، يقول النبي : ((قال الله سبحانه وتعالى: يا ابن آدم، تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسُدَّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدَّ فقرك)) رواه ابن ماجه[3].
هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال عز من قائل عليم: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه أحمد (3/83)، وهو أيضا عند عبد بن حميد (877)، قال الهيثمي في المجمع (8/291): "رجال أحد إسنادي أحمد رجال الصحيح". وانظر: السلسلة الصحيحة (122).
[2] أخرجها البخاري في المزارعة (2324)، ومسلم في فضائل الصحابة (2388) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه ابن ماجه في الزهد (4107) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند أحمد (2/358)، والترمذي (2466) وقال: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (393)، والحاكم (3657)، وهو في صحيح ابن ماجه (3315).(/5)
الإنفاق في سبيل الله
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه واستن بسنته إلى يوم الدين وبعد:
يقول الله تعالى :[ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقنا كم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ]؛ ويقول الله تعالى : [ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ] .
عباد الله: إن عملية الإنفاق في سبيل الله هي من اعظم التحديات التي تواجه النفس الإنسانية , خاصة أن طبيعة البشر أنهم حريصون كل الحرص على المال ؛ محبون له أشد الحب, { وتحبون المال حبا جما } , {وانه لحب الخير لشديد} , فالذي يستطيع أن يكون المال في يده لا في قلبه فقد نجا من فتنة قدرها الله تعالى أصلا على البشر حيث قال الحق جل جلاله:{إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم }, ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : [إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي بالمال ], فمن الناس من افتتن بالمال فتنة عظيمة حتى أنه أصبح عبدا لذلك المال وللدرهم والدينار فانطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم :[تعس عبد الدينار والدرهم ], فلم يعد لهم هم إلا جمع المال دون النظر من أي طريق يجمع وفي أي طريق ينفق, فترك دينه وتفرغ لدنياه, فابتعد عن ذكر الله وترك صلاته وعبادته , وانشغل بالأدنى عن الذي هو خير , واستعمل ماله في سخط الله فتعس وانتكس , وبخل بما أعطاه الله ظانا أن ذلك خيرا له ,ولم يسمع قول الله تعالى : {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير }.
ومن الناس عباد الله من علم أن المال الذي بين يديه إنما هو أمانة وأنه مستخلف فيه , وعلم أنه ابتلاء من الله امتحنه فيه , فاتقى الله فيما بين يديه وحافظ على توازنه ما بين ماله ودينه , فأدى الحقوق المطلوبة وقام بالواجبات المفروضة , فبارك الله له في ماله في دنياه وضاعف له أجره في الآخرة , وصدق فيه قول الله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط } .
عباد الله : إن الإنفاق في سبيل الله سبحانه هو أحد أهم الأمور التي يقاس بها العبد من ناحية صدقه مع الله تعالى وعبوديته له خاصة أن كثيرا من الناس يدّعون الإيمان و العبادة , ويتذرعون أن أبواب الخير موصدة في وجوههم, فكم من الناس يتمنى أن يفتح باب الجهاد حتى ينال شرف الجهاد والشهادة , وقد يقول قائل : لئن فتح الله لنا باب الجهاد ليرين الله ما نصنع ؛ أما علم هؤلاء أن الله تعالى قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس؛ لأن الذي لا يقدم ماله لن يقدم نفسه من باب أولى في اللحظة الحرجة , ومن هنا ليسأل كل واحد منا نفسه هل أنا ممن يقولون ما لا يفعلون؟ أم أنني من الصادقين مع نفسي ومع الله ؛ الذين يصدق فعلهم قولهم .
اخوة الإسلام إن الله تعالى لما أمرنا بالجهاد ودلنا على طريقه في كتابه الحكيم , أمرنا أن نجاهد بأموالنا بداية وفي ذلك تهيئة للنفس كي تجود بما هو أكبر من ذ لك , فقال الله تعالى : {يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}؛ ومن هنا فهم سلفنا الصالح من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن سار على هديهم من بعدهم هذا الأمر جيدا , فهذا عمر رضي الله عنه قدم نصف ماله وهذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه قدم ماله كله ؛ يقول عمر رضي الله عنه أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر فجئت بنصف مالي , فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك ؟ فقلت مثله ؛ وأتى أبو بكر بكل ما عنده , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله, قلت لا أسابقك إلى شئ أبدا؛ وهذا أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه كان من أغنى الأنصار , قدم لله أحب ماله عنده وهي بئر كانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء
فيها طيب وهي(بيرحاء) .
وهذا أبو الدحداح الأنصاري الذي اشترى ببستانه نخلة في الجنة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم :كم من عذق دوّاح لأبي الدحداح في الجنة --- مرارا .
عباد الله :إن الإنسان الذي عجز عن الجهاد بنفسه لسبب أو لغيره وكانت الفرصة أمامه ليجاهد بماله , ثم قصر بعد ذلك فوالله لا نجد له عذرا أمام الله عند السؤال يوم القيامة ؛ فالإنفاق الإنفاق عباد الله , ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول :[ قال الله تعالى : يا ابن آدم أنفق ينفق عليك] , فالله الله على من زاد ماله وباركه بالإنفاق في سبيل الله وانتظر الجزاء من الله في الدنيا والآخرة , متيقنا بقول الله تعالى : {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه}.(/1)
إخوة الإسلام :إن أحبة لنا في فلسطين يضحون بالغالي والنفيس , فتراق دماؤهم وتهدم عليهم بيوتهم ويزج في المعتقلات أبناؤهم ؛ هؤلاء الذين يقومون بواجب الجهاد بالنفس , ويقومون مقام الأمة بالدفاع عن عرضها و مقدساتها؛ فبالله عليكم هل من العدل أن نتركهم فريسة سهلة لأعدائنا ونسلمهم لظلم الحاجة والفقر مع قدرتنا مساندتهم والوقوف إلى جانبهم لنسد شيئا من معاناتهم ؟! أيها المسلمون :إن دماء المسلمين تراق على ثرى فلسطين الطهور , وعلى أرض الرافدين في العراق وعلى تراب الشيشان وعلى جبال أفغانستان , فمن لكل هؤلاء الصامدين في وجه الكفر الذي توحد اليوم في مواجهتهم يدا واحدة وملة واحدة ؛ فمتى يا أمة الإسلام سيشعر المجاهد بالطمأنينة على أهله ومن يعول من ورائه حتى يقدم على جهاده واثقا لا يشغل فكره هم ولا غم مع أننا متيقنين أن المجاهد ربط نفسه بالله ونذر روحه لله واستخلفه على أهله وماله ؛ إلا أن الأولاد مجبنة مبخلة , أما سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : [من خلف غازيا في أهله فقد غزا].
أين نحن من قول النبي صلى الله عليه وسلم : [ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان, فيقول أحدهم : اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا].
عباد الله : إن من العجيب إن ترى بعض أغنياء المسلمين ينفق ماله في بناء المساجد وترميمها وزخرفتها- على فضل ذلك - في حين ترى كثيرا من المسلمين هم في أمس الحاجة لأمور أساسية لا يكادون يجدونها, خاصة من المجاهدين الذين يقاومون عدوا شرسا يملك كل يخطر بالبال من الدعم المادي وغيره , فبالله عليكم من أولى بالنفقة الأبنية وتشييدها أم المجاهد الذي يقف في وجه الطغيان الصليبي التوراتي الحاقد على كل ما هو إسلامي أو يتصل بالإسلام , مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ربى جيلا يعظم حرمة دم المسلم على الكعبة؛ إخوة الإسلام ليت مساجدنا القائمة تمتلئ بالمصلين الصادقين العاملين فعندها لن يبقى لأعدائنا سبيل علينا.
واسمع أخي في الله قول النبي صلى الله عليه وسلم [ما منكم من أحد إلا سيكلم الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان , فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه , فاتقوا النار ولو بشق تمرة , ولو بكلمة طيبة ] .
عباد الله : يقول الله تعالى : {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وانتم الفقراء وان تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}؛ فمن يقصر بشيء من الإنفاق فإنما يذهب الخير عن نفسه , واسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم [ أيكم مال وارثه احب إليه من ماله ؟ قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله احب إليه من مال وارثه, قال صلى الله عليه وسلم فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما آخر ] .
فيا أخي في الله قدم لآخرتك في حياتك فانك لا تدري ما يحدث ورثتك بمالك بعدك ولا تستقلنّ عملا أو جهدا أنت باذله أو نفقة أنت منفقها , فالنبي صلى الله عليه وسلم قال :[ من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب فان الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل ] .
وقد حذر الإسلام من البخل والشح فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم, حملهم على أن يسفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم ] .
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا بالإنفاق لأمته ففي صحيح مسلم عن صفوان بن أمية قال : لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وانه لمن أبغض الناس إليّ فما برح يعطيني حتى انه لأحب الناس اليّ , قال ابن شهاب : أعطاه يوم حنين مائة من النعم ثم مائة ثم مائة؛ وفي مغازي الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان يومئذ واديا مملوءا إبلا ونعما فقال صفوان : أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي.
عباد الله :إن العبد الذي يستطيع أن يخرج سيطرة المال من قلبه حيث يعطي ويعيل من يستحق , وخاصة الجهاد والمجاهدين في هذه الأيام التي بات المجرمون وأعوانهم يحاصرون المجاهدين ويضيقون عليهم في كل سبيل ؛ هذا العبد من أعظم الناس درجات عند الله والناس أيضا, فهو الذي يدخل السرور على قلب الأمة كلها ,لأن الأمة عطشى لرؤية عدوها وهو يذوق من كأس المرارة الذي يجرع الأمة منه ليلا ونهارا .(/2)
أخوة الإسلام : لئن حرمنا الله بابا من أبواب الجهاد , فإنه جل جلاله فتح لنا أبوابا أخرى , أوسع هذه الأبواب وأعظمها باب الإنفاق في سبيل الله جهادا بالمال ؛ وكما قال الحق تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وصفة المؤمن أنه إذا دعاه الله ورسوله لأمر كان من المسارعين للاستجابة لذلك الأمر ولا يقول إلا سمعنا وأطعنا مصداقا لقوله تعالى : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } , والله تعالى هو الذي أمرنا بالإنفاق وأوجبه علينا نصرة لإخواننا فقال تعالى : { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم بيع فيه ولا خلال }.
ومن هنا عباد الله , وجهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الخلق فقال: [لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار] .
وصدق الله تعالى إذ قال : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا } . فنسأل الله سبحانه أن يجعل القرآن العظيم ربيع صدورنا ونور قلوبنا انه وحده القادر على ذلك , اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ؛ نفعنا الله وإياكم بالقرآن العظيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم , والحمد لله رب العالمين .(/3)
الإيمان بأنبياء الله ورسله
أولا: تعريفات:
1- النبي.
2- الرسول.
3- الفرق بين الرسول والنبي.
4- الآية والمعجزة.
5- الكرامة.
ثانيا: قواعد في هذا الباب:
1- النبوة لا تثبت إلا بدليل صحيح.
2- ما من نبي إلا ورعى الغنم.
3- كل الأنبياء بلَّغوا ما أرسلوا به.
4- الكفر بنبي واحد كفر بجميع الأنبياء.
ثالثا: الإيمان بالأنبياء والرسل:
1- الأنبياء والرسل المذكورون في القرآن.
2- الأنبياء والرسل المذكورون في السنة.
3- المختلف في نبوتهم.
رابعا: خصائص الأنبياء والرسل:
1- الوحي.
2- العصمة.
3- البشرية.
4- خيرية النسب.
5- أحرار بعيدون عن الرق.
6- لا يكونون إلا رجالاً.
7- تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
8- تخيير الله لهم عند الموت.
9- لا تأكل الأرض أجسادهم.
10- يكونون أحياء في قبورهم.
11- يقبرون حيث يموتون.
خامسا: دلائل النبوة:
1- الآيات والمعجزات.
2- بشارة الأنبياء السابقين باللاحقين.
3- النظر في أحوال الأنبياء.
4- النظر في دعوة الأنبياء.
5- نصر الله وتأييده لهم.
سادسا: وظائف الأنبياء والرسل:
1- البلاغ المبين.
2- الدعوة إلى توحيد الله تعالى.
3- التبشير والإنذار.
4- إصلاح النفوس وتزكيتها.
5- تقويم الفكر المنحرف والعقائد الزائفة.
6- إقامة الحجّة.
7- سياسة الأمّة.
سابعا: فوائد متنوعة:
1- أنواع الوحي.
2- عدد الأنبياء والرسل.
3- أولو العزم من الرسل.
4- الأنبياء العرب.
5- حاجة العباد إلى بعث الرسل وإرسالهم.
6- مقتضى بشرية الأنبياء والرسل.
7- الخطأ في إصابة الحقّ منهم لا ينقض عصمتهم.
8- اليهود والنصاري ينسبون القبائح إلى الأنبياء.
9- كرامات الأولياء.
ثامنا: مسائل:
1- تفضيل الأنبياء والرسل بعضهم على بعض.
2- نبوة النساء.
تعريفات:
1- النبي:
النبيُّ مأخوذٌ من النبأ، أي: الخبر، ومنه: قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1، 2]، قال ابن جرير الطبريُّ: "يعني: عن الخبر العظيم"([1]).
والنبيُّ مُخْبَرٌ ومُخْبِرٌ:
فهو مخبَرٌ أوحى الله تعالى إليه بالخبر، قال تعالى: {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3]، قال البغويُّ: "أي: مَن أخبرك بأنِّي أفشيت السر؟"([2]).
وهو مخبِرٌ عن الله تعالى فيما يبلِّغه للنّاس، قال تعالى: {نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49]، قال ابن كثير: "أي: أخبر ـ يا محمد ـ عبادي أنِّي ذو رحمة وعذاب أليم"([3]).
فعليه يكون الأصل في النبيِّ الهمز، قال النحويُّون: "أصله الهمز، فتُرِك همزه"([4])، ومنه قراءة نافع: {يَاأَيُّهَا النَّبِيءُ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، قال الشاطبيُّ:
وجمعًا وفردًا في النبِيءِ وفي النبو ءَةَ الهمزَ كلٌّ غيرَ نافعٍ ابدلا
قال أبو شامة: "وتقدير البيت: كلّ القراء غير نافع أبدل الهمز في لفظ النبيء مجموعًا ومفردًا، فالمجموع نحو: {الأنبياء}، {النبيين}، {النبيُّون}، والمفرد نحو: {النبيُّ} و{نبيّ} و{نبيًّا}، وفي لفظ النبوءة أيضًا، يريد قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إِسْراءيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الجاثية:16]، فلهذا كانت في البيتِ منصوبة على الحكاية"([5]).
وأمّا الحديث المروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال لمن قال له: يا نبِيء الله: ((لستُ بنبِيء الله، ولكني نبيُّ الله))؛ فلا يصحُّ([6]).
وقيل: النبيُّ مأخوذٌ من الرِفعة، سُمِّيَ نبيًّا لرِفعة محلِّه عن سائر النّاس، قال تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:57]، ممّا جاء في تفسير هذه الآية قول أبِي السعود: "هو شرف النبوة والزلفى عند الله عز وجل"([7]).
2- الرسول:
قال الراغب الأصفهانِي: "أصل الرَّسل: الانبعاث على التؤدة... وتصوِّر منه تارة الرفق، فقيل: على رسلك، إذا أمرته بالرِّفق، وتارة الانبعاث فاشتق منه الرسول"([8]).
قال الجرجانِي: "الرسول: إنسانٌ بعثه الله إلى الخلق لتبليغ الأحكام. والرسول في الفقه: وهو الذي أمره المرسل بأداء الرسالة بالتسليم أو القبض"([9]).
قال ابن منظور الإفريقي: "الإرسال: التوجيه، وقد أرسل إليه. والاسم: الرِّسالة، والرَّسالة، والرسول، والرسيل"([10]).
فإذا بعثت شخصًا في مهمة فهو رسولك، ومنه: قول ملكة سبأ: {مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]، قال قتادة: "قالت: إنِّي باعثة إليهم بِهدية..."([11]).
وعليه سُمِّي من بلَّغوا عن الله رسلَ الله؛ لأنّهم موجَّهون ومُبعَثون من قِبل الله تعالى، مكلَّفون بحمل الرسالة وتبليغها ومتابعتها، قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [يونس: 74]، قال البيضاويُّ: "{ثُمَّ بَعَثْنَا}: أرسلنا"([12]).
3- الفرق بين الرسول والنبي:(/1)
دلَّت الآية الكريمة: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءايَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:52] على الفرق بين الرسول والنبي؛ لأنّ الله عزّ وجلّ عطف بينهما بالواو وذلك تقتضي المغايرة.
وأمّا ما روي عن أبِي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، كم وفَى عدة الأنبياء؟ قال: ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًّا غفيرًا))([13])؛ ففي ثبوته نزاعٌ بين أهل العلم.
وأخذ بدلالة الآية في التفريق بين الرسول والنبيِّ جمهور أهل العلم من المفسرين وغيرهم.
قال البيضاويُّ: "الرسول من بعثه الله بشريعة مجدّدة يدعو الناس إليها، والنبيّ يعمُّه ومَن بعثه لتقرير شرعٍ سابقٍ، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام. ولذلك شبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم علماءَ أمته بِهم، فالنبيُّ أعمُّ من الرسول... وقيل: الرسول من جمع إلى المعجزة كتابا منَزَّلا عليه، والنبيّ غير الرسول مَن لا كتاب له. وقيل: الرسول من يأتيه الملك بالوحي، والنبيّ يقال له ولِمَن يوحى إليه في المنام"([14]).
وقال القرطبيُّ: "الرسول والنبيّ اسمان لمعنيين؛ فإنّ الرسول أخصّ من النبيّ، وقدَّم الرسول اهتمامًا بمعنى الرسالة، وإلاَّ فمعنى النبوة هو المتقدّم، ولذلك ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء حين قال: (وبرسولك الذي أرسلت) فقال له: ((قل: آمنت بنبيِّك الذي أرسلت))خرَّجه في الصحيح([15]). وأيضًا فإنّ في قوله: (برسولك الذي أرسلت) تكرير الرسالة، وهو معنى واحد، فيكون كالحشو الذي لا فائدة فيه، بخلاف قوله: ((ونبيِّك الذي أرسلت)) فإنّهما لا تكرار فيهما، وعلى هذا فكلّ رسولٍ نبيٌّ، وليس كلُّ نبيٍّ رسولاً؛ لأنّ الرسول والنبيَّ قد اشتركا في أمر عام هو النبأ، وافترقا في أمرٍ خاصٍ وهي الرسالة، فإذا قلت: محمدٌ رسولٌ من عند الله؛ تضمن ذلك أنّه نبيٌّ ورسول الله، وكذلك غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم"([16]).
وقال النسفيُّ: "والفرق بينهما أنّ الرسول من جمع إلى المعجزة الكتاب المنَزَّل عليه، والنبىّ من لم ينْزل عليه كتابٌ، وإنّما أُمِر أن يدعو إلى شريعة مَن قبله. وقيل: الرسول واضع شرع، والنبيُّ حافظُ شرع غيره"([17]).
وقال الشوكانِي: "قيل: الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانًا ومحاورته شفاهًا، والنبيّ الذي يكون إلهامًا أو منامًا. وقيل: الرسول من بعث بشرع وأُمِر بتبليغه، والنبيّ من أُمِر أن يدعو إلى شريعة مَن قبله ولم ينْزل عليه كتاب، ولا بدَّ لهما جميعًا من المعجزة الظاهرة"([18]).
فهذا هو المشهور؛ أنّ الرسول أخصّ من النبيّ، فالرسول هو من أوحي إليه بشرعٍ وأُمِر بتبليغه، والنبيُّ من أُوحي إليه ولم يؤمر بتبليغه، وعلى ذلك فكلّ رسول نبيِّ، وليس كل نبيِّ رسولاً([19]).
ولكن هذا التفريق مدفوعٌ بعدّة أمور:
1- أنّ الله نصّ على أنّه أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ} [الحج:52]، فإذا كان الفارق بينهما هو الإبلاغ فالإرسال يقتضي من النبيِّ البلاغ.
2- أن ترك البلاغ كتمان لوحي الله تعالى، والله لا يُنْزِل وحيَه ليكتَم ويدفَن في صدر واحد من الناس، ثم يموت هذا العلم بموته.
3- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((عُرضت عليَّ الأمم فرأيتُ النبيَّ ومعه الرهط، والنبيَّ ومعه الرجل والرجلان، والنبيَّ وليس معه أحد...))([20])؛ فدلّ هذا على أنّ الأنبياء مأمورون بالبلاغ، وأنّهم يتفاوتون في مدى الاستجابة لهم.
واختار البعض أنّ الرسول من أوحي إليه بشرعٍ جديدٍ، والنبيُّ هو المبعوث لتقرير شرع مَن قبله([21]).
وقد كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما مات نبيٌّ قام نبيٌّ، كما ثبت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّ بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلَّما مات نبيٌّ قام نبيٌّ، وإنَّه ليس بعدي نبيٌّ))([22]).(/2)
وأنبياء بني إسرائيل كلهم كانوا مبعوثين بشريعة موسى التوارة، وكانوا مأمورين بإبلاغ قومهم وحيَ الله إليهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرءيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246]، فالآية تفيد أنّ النبيّ يوحى إليه ويوجب على قومه أمورًا، وهذا لا يكون إلاّ مع وجوب التبليغ.
ولكنّ هذا التفريق كذلك مدفوعٌ بقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ مّمَّا جَاءكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} [غافر:34]، فيوسف عليه السلام نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل، لم يأتِ بشرعٍ جديد، ومع ذلك فهو رسولٌ بنصِّ هذه الآية.
وعليه فإنّ التفريق المختار أن الرسول: هو من بُعِث إلى قومٍ مخالفين فدعاهم إلى دين الله، سواءٌ دعاهم بشرعٍ جديدٍ أو بشرع مَن قبله، والنبيّ: هو من بُعِث إلى قومٍ موافقين فأقام فيهم دين الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "النبيّ: هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأ الله به، فإن أُرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلّغه رسالة من الله إليه فهو رسول. وأمَّا إذا كان إنّما يعمل بالشريعة قبله، ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالته؛ فهو نبيّ وليس برسول، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]... فذكر إرسالاً يعمُّ النوعين، وقد خصَّ أحدَهما بأنّه رسول، فإنّ هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح، وقد ثبت في الصحيح أنّه أول رسول بُعِثَ إلى أهل الأرض، وقد كان قبله أنبياء كشيث وإدريس، وقبلهما آدم كان نبيًا مكلَّمًا"([23]).
فيوسف أُرسِل إلى أقوامٍ مخالفين مشركين، فبلَّغهم دينَ الله بشريعةِ مَن قبله.
4- الآية والمعجزة:
الآية: هي العلامة، قال نبي الله زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبّ اجْعَل لِّى ءايَةً قَالَ ءايَتُكَ أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} [آل عمران:41]، قال القرطبيُّ: "طلب آية أي: علامةً يُعرف بِها صحةُ هذا الأمر"([24]).
المعجزة: اسم فاعل مأخوذ من العجز الذي هو زوال القدرة عن الإتيان بالشيء من عمل أو رأي أو تدبير([25]).
5- الكرامة:
قال سليمان بن عبد الله آل الشيخ: "الكرامة: أمرٌ يجريه الله على يد عبده المؤمن التقي، إمّا بدعاء أو أعمال صالحة، لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها"([26]).
وقال عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: "وكل من يذكر تعريف الكرامة وحدَّها يقول: هي خرق الله العادةَ لوليه، لحكمة أو مصلحة تعود عليه أو على غيره"([27]).
وفي فتاوى اللجنة الدائمة: "الكرامة: أمرٌ خارق للعادة يظهره الله تعالى على يد عبد من عباده الصالحين حيًّا أو ميتًا؛ إكرامًا له، فيدفع عنه ضرًا، أو يحقق له نفعًا، أو ينصر به حقًّا"([28]).
([1]) تفسير الطبري (30/1).
([2]) تفسير البغوي (4/364).
([3]) تفسير ابن كثير (2/554).
([4]) انظر: مفردات الراغب مادة (نبى).
([5]) إبراز المعانِي من حرز الأمانِي (2/295).
([6]) أخرجه الحاكم في مستدركه (2/231) من حديث أبِي ذرّ، وقال: "حديث صحيحٌ على شرط الشيخين"، قال الذهبيُ: "بل منكر، لم يصحّ، قال النسائي: حمران بن أعيَن ليس بثقة. وقال أبو داود: رافضي، روى عن موسى بن عبيدة، وهو واهٍ. ولم يثبت أيضًا عنه عن نافع عن ابن عمر قال: ما همز رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا الخلفاء، وإنّما الهمز بدعة ابتدعوها من بعدهم" التلخيص (2/231). وأخرجه العقيليّ في الضعفاء (3/81)، والصيداوي في معجم الشيوخ (ص266) من حديث ابن عبّاس به، وفي سنده مجهولٌ.
([7]) تفسير أبو السعود (5/271).
([8]) المفردات مادة (رسل).
([9]) التعريفات (ص: 115).
([10]) لسان العرب مادة (رسل).
([11]) أخرجه عنه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: الدرّ المنثور (6/357).
([12]) تفسير البيضاوي (3/209).(/3)
([13]) هو جزءٌ من حديث طويل، أخرجه أحمد في مسند أبِي أمامة عنه به (5/265)، والطبرانِي في الكبير (7871)، وفيه علي بن يزيد الألهانِي، قال الهيثميّ في المجمع (1/159): "ومداره على علي بن يزيد، وهو ضعيف"، قال البخاريُّ في التاريخ الكبير (6/301): "علي بن يزيد أبو عبد الملك الألهاني الدمشقي منكر الحديث". وأخرجه ابن حبّان في صحيحه من غير طريق علي بن يزيد (2/77)، وفيه إبراهيم بن هشام الغسانِي، قال أبو حاتم في الجرح والتعديل (2/142): "كذاب"، وقال الذهبيّ في الميزان (1/73): "متروك، وكذَّبه أبو زرعة". وقد أطال الألبانِي في تخريجه في الصحيحة، وانتهى إلى صحته لغيره (2668)، والله أعلم.
([14]) تفسير البيضاوي (4/133).
([15]) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع (2710) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
([16]) تفسير القرطبيّ (7/298).
([17]) تفسير النسفي (3/108).
([18]) فتح القدير (3/461).
([19]) انظر: شرح الطحاوية (ص: 167)، ولوامع الأنوار البهيّة (1/49).
([20]) أخرجه مسلم في الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف الجنة بغير حساب ولا عذاب (220).
([21]) انظر: تفسير الألوسي (17/157)، اختاره د/ عمر الأشقر في كتابه الرسل والرسالات (ص: 15).
([22]) أخرجه ابن حبان (الإحسان 10/418).
([23]) النبوات (ص: 281).
([24]) تفسير القرطبي (4/80).
([25]) انظر: لوامع الأنوار البهية (2/289-290).
([26]) تيسير العزيز الحميد (413).
([27]) الدرر السنية (11/211).
([28]) فتاوى اللجنة الدائمة 1/388).
ثانيا: قواعد في هذا الباب:
1- النبوة لا تثبت إلا بدليل صحيح:
يذكر علماء التفسير والسِّيَر أسماءَ كثيرٍ من الأنبياء نقلاً عن بني إسرائيل، أو اعتمادًا على أقوالٍ لم تثبت صحتها، فهذا كله لا يُثبت ولا ينفى؛ لأنّ أخبار بني إسرائيل تحتمل الصدق والكذب.
أمّا إذا خالفت هذه الأقوال شيئًا ممّا ثبت عند المسلمين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذه ترفَض جملة وتفصيلاً، كقول من قال: إنّ جرجيس وخالد بن سنان([1]) كانا نبيين بعد عيسى([2]).
فقد ثبت في الحديث الصحيح أنّه ليس بين عيسى بن مريم وبين رسولنا صلوات الله وسلامه عليهما نبيٌّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى النّاس بابن مريم، والأنبياء أولاد علاَّت، ليس بيني وبينه نبيّ))([3]). قال ابن كثير: "فيه ردٌّ على من زعم أنَّه بعث بعد عيسى نبيٌّ يقال له: خالد بن سنان"([4]).
2- ما من نبي إلا ورعى الغنم:
وردت الأحاديث الصحيحة في أنّ هذا الأمر أشبه بالقاعدة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعث الله نبيًّا إلاَّ رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة))([5]).
قال ابن حجر: "قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء رعيَ الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلَّفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأنّ في مخالطتها ما يحصِّل لهم الحلمَ والشفقة؛ لأنَّهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة أَلِفُوا من ذلك الصبرَ على الأمة، وعرفوا اختلافَ طباعها، وتفاوتَ عقولها، فجبروا كسرَها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهدَ لها، فيكون تحمُّلهم لمشقَّة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخُصَّت الغنم بذلك لكونِها أضعف من غيرها، ولأنّ تفرّقها أكثر من تفرّق الإبل والبقر؛ لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونَها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادًا من غيرها. وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه، والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء"([6]).
3- كل الأنبياء بلَّغوا ما أرسلوا به:
هذه قاعدة في جميع الأنبياء، أنّهم بلَّغوا رسالة ربّهم، قال تعالى: {وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
جاء في تفسير الآية قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا ربّ، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير؟ فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتشهدون أنّه قد بلَّغ))([7]).
قال محمد خليل هرّاس: "ويجب الإيمان بأنّهم بلَّغوا ما أرسلوا به على ما أمرهم الله عزّ وجلّ، وبيَّنوه بيانًا لا يسع أحدًا ممّن أُرسلوا إليه جهله"([8]).
4- الكفر بنبي واحد كفر بجميع الأنبياء:(/4)
الكفر برسول واحدٍ كفرٌ بجميع الرسل، قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:160]، ومن المعروف أنّ كلَّ أمّة كذَّبت رسولها، إلاّ أن التكذيب برسول واحدٍ يعدّ تكذيبًا بالرسل كلهم، ذلك أنّ الرسل حملة رسالة واحدة، ودعاة دين واحدٍ، ومرسلهم واحد، فهم وِحدة يبشر المتقدم منهم بالمتأخر، ويصدِّق المتأخر المتقدم([9]).
قيل للحسن البصري: يا أبا سعيد، أرأيتَ قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، و{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، و{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]، وإنَّما أرسل إليهم رسولٌ واحدٌ؟! قال: إنّ الآخِر جاء بِما جاء به الأول، فإذا كذَّبوا واحدًا فقد كذَّبوا الرسل أجمعين([10]).
قال الثعالبيّ: "إن تكذيب نبي واحد يستلزم تكذيب جميع الأنبياء؛ لأنَّهم كلهم يدعون الخلق إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر"([11]).
وقد وسم الله من هذا حاله بالكفر، قال تعالى: {الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} [النساء:150، 151].
ومدح سبحانه وتعالى الذين يؤمنون بجميع الرسل، قال تعالى: {ءامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
قال الفراء: "أي: لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، كما فعلت اليهود والنصارى"([12]).
وقال ابن كثير: "المؤمنون يؤمنون بأنّ الله واحد أحد فرد صمد، لا إله غيره، ولا ربّ سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنَزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارّون راشدون مهديون هادون إلى سبيل الخير. وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله؛ حتى نسخ الجميع بشرع محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي تقوم الساعة على شريعته، ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين"([13]).
([1]) أخرج الحاكم بعضًا من أخباره في المستدرك (2/655)، وردّ نبوته لمعارضته لحديث البخاري الصحيح.
([2]) انظر: فتح الباري (6/489).
([3]) البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا? (3442).
([4]) تفسير ابن كثير (2/36).
([5]) البخاري في الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط (2262).
([6]) فتح الباري (4/441).
([7]) البخاري في التفسير، باب قول الله تعالى: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا? (4487) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([8]) شرح العقيدة الواسطية (ص: 64).
([9]) انظر: الرسل والرسالات، د/ عمر الأشقر (ص: 24-25).
([10]) انظر: تفسير البغوي (3/392).
([11]) تفسير الثعالبي (3/151).
([12]) انظر: تفسير القرطبي (2/141).
([13]) تفسير ابن كثير (1/343).
ثالثا: الإيمان بالأنبياء والرسل:
الإيمان بالرسل والأنبياء أصلٌ من أصول الدين، ولا يتمّ إيمانُ أحدٍ إلاّ بالإيمان بجميعهم على سبيل الإجمال، وبمن عرفنا اسمه منهم على وجه التفصيل.
قال محمّد خليل هرّاس: "وعلينا أن نؤمن تفصيلاً بمن سمَّى الله في كتابه منهم، وهم خمسة وعشرون، ذكرهم الشاعر في قوله:
فِي {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} منهم ثمانية من بعد عشرٍ ويبقى سبعة وهمُ
إدريسُ هودُ شعيبٌ صالحٌ وكذا ذو الكفلِ آدمُ بالمختارِ قد خُتِمُوا
وأمّا ما عدا هؤلاء من الرسل والأنبياء فنؤمن بِهم إجمالاً على معنى الاعتقاد بنبوتِهم ورسالتهم، دون أن نكلِّف أنفسنا البحثَ عن عدَّتِهم وأسمائهم، فإنّ ذلك ممّا اختصّ الله بعلمه؛ قال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164]"([1]).
1- الأنبياء والرسل المذكورون في القرآن:
تقدَّم أنّ الله ذكر في كتابه خمسةً وعشرين نبيًّا بأسمائهم، وهم: آدم ونوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وإدريس وذو الكفل وداود وسليمان وأيوب ويوسف ويونس وموسى وهارون وإلياس واليسع وزكريا ويحيى وعيسى ومحمّد عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام.(/5)
2- الأنبياء والرسل المذكورون في السنة:
1- شيث:
قال ابن كثير: "وكان نبيًّا بنصّ الحديث الذي رواه ابن حبّان في صحيحه عن أبِي ذرّ مرفوعًا أنّه أنزل عليه خمسون صحيفة"([2]).
2- يوشع بن نون:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غزا نبيٌّ من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجلٌ قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بِها ولَمَّا يبْنِ، ولا آخر قد بنى بنيانًا ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنمًا أو خلِفاتٍ، وهو ينتظر أولادها، فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: أنتِ مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها عليَّ شيئًا))([3]).
والدليل على أنّ هذا يوشع بن نون قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الشمس لم تحبس إلاّ ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس))([4]).
3- المختلف في نبوتهم:
1- ذو القرنين:
ورد ذكر ذي القرنين في آخر سورة الكهف، وممّا أخبر الله به أنّه خاطبه فقال تعالى: {قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} [الكهف: 86]، فكيف كان هذا الخطاب: هل كان معه نبيٌّ؟ أو كان هو نبيًّا؟ اختلف أهل العلم في ذلك:
فجزم بنبوته الفخر الرازي، قال ابن حجر: "وهو مرويٌّ عن عبد الله بن عمرو، وعليه ظاهر القرآن"([5]).
وذهب إلى أنّ ذا القرنين ملِكٌ صالحٌ وليس بنبيٍّ عليّ بن أبِي طالب رضي الله عنه([6]).
والراجح فيه أن يتوقَّف في القول بنبوتِه؛ لأنّه صحّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((ما أدري ذا القرنين نبيًّا أم لا؟...)) الحديث([7]).
2- تُبَّع:
ورد ذكر تبَّع في القرآن الكريم، قال تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [الدخان:37]، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [قّ:12-14]، فقوم نوح وإخوان لوط نسبة أقوامٍ إلى أنبيائهم، فهل قوم تبّع من نفس الباب، فيكون تبَّع نبيًّا من الأنبياء بعث إلى قومٍ فكذبوه فأهلكهم الله أم أنّ الإضافة فيه كالإضافة في قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان:17]؟
والراجح أنّه لم يكن نبيًّا، وقد حصل الشكّ فيه من النبيّ صلى الله عليه وسلم: هل لُعِن كما لُعِن قومُه أم لا؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((ما أدري أتبعٌَّ لَعِينا كان أم لا؟)) الحديث([8]).
3- الخضر:
الخضر هو العبد الصالح الذي رحل إليه موسى ليطلب منه علمًا كما حكى الله ذلك في سورة الكهف([9])، ذهب عددٌ من أهل العلم إلى أنّ الخضر نبيٌّ من الأنبياء، وقالوا بأنّ سياق القصة يدلّ على نبوته من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا ءاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا} [الكهف:65]، والرحمة هي النبوة، قال ابن عبّاس: (أعطيناه الهدى والنبوة)([10])، قال البيضاويّ: "{ءاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا} هي الوحي والنبوة"([11])، وقال القرطبيّ: "الرحمة في هذه الآية: النبوة. وقيل: النعمة"([12]).
الثانِي: قول موسى له: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف:66-70]، فهذا موسى ـ من عصمه الله بالنبوة ـ لا يرضى أن يتبع الخضر اتباعًا مطلقًا إلاّ إذا كان يعلم أنّ الخضر نبيٌّ معصوم، لا يفعل إلاّ بوحيٍ من الله.
الثالث: قتل الخضر للغلام، ففيه إزهاق نفس، والفِراسة ليست حجّة لقتل النفس، فلا بدّ أنّ ذلك كان بوحيٍ من الله تعالى.
الرابع: تفسير الخضر لموسى بأنّ أفعاله كانت بوحيٍ من الله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى} [الكهف:82]، قال الطبريّ: "يقول: وما فعلت ـ يا موسى ـ جميع الذي رأيتني فعلته عن رأيي ومن تلقاء نفسي، وإنّما فعلته عن أمر الله إياي به"([13]).
4- الأسباط:
ذكَر الله تعالى الأسباطَ وهم أبناء يعقوب، وهم اثنا عشر رجلا، ولم يخبر بأسمائهم، ولا يُعرف منهم أحدٌ باسمه جزمًا غير يوسف عليه السلام، قال تعالى: {قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136].(/6)
قال الحافظ ابن حجر: "إخوة يوسف: رُوبِيل وهو أكبرهم, وشمعون، ولاوي, ويهوذا, وداني, ونفتالي، وكاد, وأشير، وأيساجر, ورايلون, وبنيامين، وهم الأسباط. وقد اختلف فيهم فقيل: كانوا أنبياء, ويقال: لم يكن فيهم نبيّ وإنّما المراد بالأسباط قبائل من بني إسرائيل, فقد كان فيهم من الأنبياء عدد كثير"([14]).
([1]) شرح العقيدة الواسطية (ص: 63-64).
([2]) البداية والنهاية (1/99).
([3]) البخاري في فرض الخمس، باب قول «أحلت لي الغنائم...» (2892)، ومسلم في الجهاد والسير، باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة (3287).
([4]) أحمد في المسند (2/325)، وإسناده صحيحٌ على شرط البخاري؛ فمِن رواته أبو بكر بن عيّاش من رجال البخاري دون مسلم، وباقي رجاله رجال الشيخين. قال ابن كثير في البداية (1/323): "انفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط البخاري".
([5]) فتح الباري (6/382).
([6]) انظر: فتح الباري (6/382).
([7]) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/92)، وقال: "صحيحٌ على شرط الشيخين، ولا أعلم له علّة، ولم يخرجاه".
([8]) أبو داود في السنة، باب التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (4054)، والحاكم في المستدرك (2/17)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (8/329) من حديث أبِي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألبانِي في صحيح سنن أبِي داود (3908). وقع في بعض روايات الحاكم (1/92)، «ما أدري أتبع نبيًّا كان أم لا؟»، ولعله تصحيف، فهو معارض للرواية الأخرى، والتي أخرجها البيهقي من طريقه على الصواب كرواية أبِي داود: «ما أدري تبع ألَعينًا كان أم لا؟». انظر: السلسلة الصحيحة (5/253).
([9]) أخرج أحمد (5/122) من حديث ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «بينما موسى جالس في ملإ من بني إسرائيل، فقال له رجل: هل أحد أعلم بالله تبارك وتعالى منك؟ قال: ما أرى. فأوحى الله إليه: بلى عبدي الخضر. فسأل السبيل إليه...» الحديث.
([10]) أخرجه عنه ابن أبِي حاتم في تفسيره (7/2377)، وانظر: الدر المنثور (5/425).
([11]) تفسير البيضاوي (3/510).
([12]) تفسير القرطبي (11/16).
([13]) تفسير الطبري (16/7).
([14]) فتح الباري (6/419).
رابعا: خصائص الأنبياء والرسل:
1- الوحي:
خصّ الله الأنبياء دون سائر البشر بوحيه إليهم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا الهكُمْ اله وَاحِدٌ} [الكهف:110].
2- العصمة:
الأنبياء معصومون في تبليغ ما أمرهم الله عز وجل بتبليغه، وهم معصومون أيضا من الدنيَّات المخلَّة بالمروءة، ومعصومون كذلك من كبائر الذنوب وقبائحها، ويقع منهم عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم صغار الذنوب، كأكل آدم من الشجر التي نُهي عنها قال تعالى: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى ءادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، وتسرَّع داود في الحكم قبل سماع قول الخصم الثانِي، فأسرع إلى التوبة، فغفر الله له ذنبه قال تعالى عنه: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذالِكَ} [ص: 24، 25]، وقد عاتب الله نبيَّنا صلى الله عليه وسلم على تحريمه على نفسه ما أباحه الله له: {ياأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التحريم:1].
ولا يتنافى وقوع الصغيرة من النبيِّ في كونِهم أسوةً وقدوة، لأنّه يسارع إلى التوبة، فيكون قدوة وأسوة للعاصين بأن يسارعوا إلى التوبة والاستغفار، فالأنبياء لا يُقَرُّون على المعصية، ولا يؤخِّرون التوبة، وهم بعدَ التوبة أكملُ منهم قبلها.
وهذه الصغائر من أدلِّ الدلائل على بشريتهم، وهي صغائر نادرة معدودة، لا تقدح في عصمتهم، ولا سبيل فيها إلى النيل منهم والطعن فيهم.
3- البشرية:(/7)
الذين يستعظمون ويستبعدون اختيار الله بعض البشر لتحمُّل الرسالة لا يقدرون الإنسان قدره، فالإنسان مؤهَّل لتحمّل الأمانة العظمى قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]. وهم عندما استعظموا ذلك لم ينظروا إلى أنّ الرسول ليس جسدًا فقط يأكل ويشرب وينام ويمشي في الأسواق لحاجته، {وَقَالُواْ مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الأسْوَاقِ} [الفرقان:7]، بل له جوهرٌ متمثل في نفخة الله له من روحه، {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} [الحجر: 29]، ثم إنّ الرسول يُعدّ للرسالة إعدادًا، قال الله تعالى مخاطبا موسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} [طه:41]، وأحاط نبيَّه محمّدًا صلى الله عليه وسلم برعايته من صغره قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:6-8]، وعن أنس ابن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمِّه ـ يعني ظئره ـ فقالوا: إنّ محمدًا قد قتل، فاستقبلوه، وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره([1]).
والبشر أقدر على القيادة والتوجيه، وهم الذين يصلحون أن يكونوا قدوة وأسوة، وإنّها لحكمة تبدو في رسالة واحدٍ من البشر إلى البشر، واحد من البشر يحسُّ بإحساسهم، ويتذوَّق مواجدهم، ويعانِي تجاربَهم، ويدرك آلامهم وآمالهم، ويعرف نوازعهم وأشواقهم، ويعلم ضروراتِهم وأثقالهم، ومن ثم يعطف على ضعفهم ونقصهم، ويرجو قوتَهم واستعلاءهم، ويسير بِهم خطوة خطوة، وهو يفهم ويقدِّر بواعثهم وتأثراتِهم واستجاباتِهم، لأنّه في النهاية واحدٌ منهم، يرتاد بِهم الطريق إلى الله، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق. وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة، لأنّه بشر مثلهم، يتسامى بِهم رويدًا رويدًا، ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أنّ الله قد فرضها عليهم، وأرادها منهم، فيكون بشخصه ترجمة حيّة للعقيدة التي يحملها إليهم، وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم، ينقلونَها سطرا سطرًا، ويحققونَها معنى معنى، وهم يرونَها بينهم، فتهفو نفوسهم إلى تقليدها، لأنّها ممثلة في إنسان([2]).
4- خيرية النسب:
الرسل ذوو أنساب كريمة، فجميع الرسل بعد نوحٍ من ذريته، وجميع الرسل بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد:26]، ولذلك فإنّ الله يصطفي لرسالته من كان من خيار قومه نسبًا، عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسمعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم))([3]).
وهذا أمر مشتهر معروف قال هرقل ملك الروم: "فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها"([4]).
5- أحرار بعيدون عن الرق:
لا يكون الأنبياء والرسل أرقاء أبدًا، فالرقّ نقص بشري، رفع الله أنبياءه عنه، وما حدث ليوسف عليه السلام إنّما هو رقٌّ خارجٌ عن الأصل، فالأصل حريته، والرق طارئ عليه ظلمًا وعدوانًا، وكان نوعًا من أنواع البلاء من الله عليه، ولم يستمر، قال السفاريني: "الرقّ وصف نقصٍ لا يليق بمقام النبوة، والنبيّ يكون داعيًا للنّاس آناء الليل وأطراف النهار، والرقيق لا يتيسر له ذلك، وأيضًا الرِقِّيّة وصف نقصٍ يأنف منه النّاس، ويستنكفون من اتباع من اتصف بِها، وأن يكون إمامًا لهم وقدوة، وهي أثر الكفر، والأنبياء منَزَّهون عن ذلك"([5]).
6- لا يكونون إلا رجالاً:
ومن خصائص الأنبياء وسنة الله فيهم أن جعلهم رجالاً، قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7].
7- تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم:
هذه خاصية ليست لغير الأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنّ عيني تنامان، ولا ينام قلبي))([6])، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الإسراء: والنبي صلى الله عليه وسلم نائمة عيناه، ولا ينام قلبه. وكذلك الأنبياء تنام أعينهم، ولا تنام قلوبُهم([7]).
8- تخيير الله لهم عند الموت:(/8)
خصّهم الله بِهذه الخاصية، فيخيّرون عند الموت، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من نبيّ يمرض إلاّ خُيِّر بين الدنيا والآخرة))، وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذتْه بحَّة شديدة، فسمعته يقول: ((مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين))، فعلمت أنّه خُيِّر([8]).
9- لا تأكل الأرض أجسادهم:
والأرض لا تأكل أجساد الأنبياء كرامة لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله عز وجل قد حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام))([9]).
فمهما طال الزمان وتقادم العهد تبقى أجسادهم محفوظة من البلى.
10- يكونون أحياء في قبورهم:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((مررتُ على موسى ليلة أسري بِه عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره))([10]).
11- يقبرون حيث يموتون:
وهذا ممّا خُصّ به الأنبياء بعد موتِهم أنّهم لا يقبرون إلاّ حيث يموتون، ولذلك قُبر صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها، تحت فراشه الذي مات عليه، فعن ابن جريج قال: أخبرنِي أبِي أنّ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يدروا أين يقبرون النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لن يقبر نبيٌّ إلاَّ حيث يموت))، فأخَّرُوا فراشه، وحفروا له تحت فراشه([11]).
([1]) مسلم في الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم (162).
([2]) انظر: في ظلال القرآن (19/2553).
([3]) مسلم في الفضائل، باب فضل نسب النبيِّ صلى الله عليه وسلم (2276).
([4]) البخاري في بدء الوحي، باب بدء الوحي (7).
([5]) لوامع الأنوار البهية (2/265).
([6]) البخاري في الجمعة، باب قيام النبيّ صلى الله عليه وسلم بالليل (1147)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبيّ صلى الله عليه وسلم (738) من حديث عائشة رضي الله عنها.
([7]) البخاري في المناقب، باب كان النبيّ صلى الله عليه وسلم تنام عينه، ولا ينام قلبه (3570).
([8]) البخاري في التفسير، باب {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (4586).
([9]) أحمد (4/8)، والنسائي في الجمعة، باب إكثار الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم (1374)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب فضل الجمعة (1085)، والحاكم (1/413) من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه، قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1301).
([10]) مسلم في الفضائل، باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم (2375).
([11]) أخرجه أحمد (1/7) بسندٍ منقطع. وأخرجه الترمذي (108) من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر، عن ابن أبي مليكة عن عائشة عن أبي بكر، وابن أبي بكر ضعيف. وأخرجه الترمذي في الشمائل (378)، والطبراني في الكبير (6366) بإسناد صحيح عن سالم بن عبيد الأشجعي أنّ النّاس قالوا لأبي بكر: أين يُدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: في المكان الذي قبض فيه روحه، فإنّ الله لم يقبض روحه إلاّ في مكان طيّب. فعلموا أنّه صدق.
خامسا: دلائل النبوة:
لأجل أن يصدَّق من يأتِي قومَه قائلاً: إني رسول الله إليكم، لا بدّ أن يؤيِّده الله بدلائلَ وحجج وبراهين مبيّنة تدلّ على صدقه. وهذه الدلائل يمكن تقسيمها إلى خمسة أقسام:
1- الآيات والمعجزات:
وهي متنوعة، فمنها ما يكون إخبارًا بالمغيَّبات الماضية والآتية، كإخبار عيسى قومه بما يأكلون ويدَّخرون في بيوتِهم، وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأخبار الأمم السابقة. ومنها ما يكون من باب خرق العادة الدالّ على كمال القدرة كتحويل عصا موسى عليه السلام إلى ثعبان. ومنها ما يكون من باب الاستغناء بالله تعالى والتوكل عليه في حفظه لرسله من أعدائهم، مع تحدِّيهم لهم، ومن أمثلة هذه الآيات والمعجزات:
أ- آية نبيِّ الله صالح عليه السلام:(/9)
دعا صالح قومه إلى عبادة الواحد الأحد، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} [النمل:45]، فكَذبوه وطلبوا منه آية تدلّ على صدقه، {قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:153-154]، قالوا له: إن أنتَ أخرجتَ لنا من هذه الصخرة ـ وأشاروا إلى صخرة عندهم ـ ناقة عشراء، وتعنَّتوا في وصفها، فقال لهم صالح: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئت به وتصدقونِي بما أرسلت به؟ قالوا: نعم. فسأل صالحٌ ما طلبه قومه، فأمر الله تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء على الوجه الذي طلبوا، فآمن كثير من قومه، واستمرّ أكثرهم على كفرهم. قال لهم صالح: {هَاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء} [الأعراف:73]، ولكن أشقى الأولين قام إلى هذه الناقة فعقرها، قال تعالى: {فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [لأعراف:77]، فأتاهم ما يوعدون، {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء:158].
ب- الإخبار بالأمور الغيبية:
النبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك أخبر عن الأمم الماضية إخبار من وقف عليها، قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، فأخبر عن اختصام الملأ في كفالة مريم قال تعالى: {ذالِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44]، وقصّ قصة تكليم الله لموسى عليه السلام في الطور قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَاكِن رَّحْمَةً مّن رَّبِكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:46]، كل ذلك آيات ودلائل على صدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ج- كفّ الله الأعداء عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
وظهر ذلك في الهجرة النبوية، فقد أدرك سراقة بن مالك النبيَّ صلى الله عليه وسلم أثناء سيره، طامعًا في جائزة قريش، فلما دنَا منهم عثرت به فرسه، فخرَّ عنها، فقام فركب فرسه، فلما دنا منهم خرّت به فرسه، يُفعل به ذلك ثلاثًا، فوقع في نفسه أنّ الرسول ظاهرٌ بدينه، فسأله أن يكتب له كتابًا، فكتب له الرسول صلى الله عليه وسلم، فكفاه سراقة الطلب، وصرف عنه خيل قريش([1]).
ومن ذلك: أنّ المسلمين انْهزموا يوم حنين، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلّة من المؤمنين، أولئك الذين بايعوا تحت الشجرة، فلمّا حمي الوطيس، أخذ صلوات الله وسلامه عليه حصيات، فرمى بِهنّ وجوه الكفار، ثمّ قال: ((انْهزموا وربّ محمّد))، يقول العبّاس راوي الحديث: فوالله ما هو إلاّ أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدّهم كليلاً، وأمرهم مدبرًا([2]).
ومن ذلك: أنّ أبا جهل حلف باللات والعزى أنّه لو رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد حيث مجامع قريش أن يطأ على رقبته، أو ليعفِّرنّ وجهه في التراب، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ساجدًا أراد أن يفعل ما أقسم عليه، فلما اقترب منه ما فجأهم منه إلاّ وهو ينكص على عقبيه، ويتَّقي بيديه، فقيل له: ما لك؟ فقال: إنّ بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا))([3]).
2- بشارة الأنبياء السابقين باللاحقين:
قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِى إِسْراءيلَ} [الشعراء:197]، فالآية تبيِّن أنّ من الآيات البيِّنات الدالّة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصدق ما جاء به علمُ علماء بني إسرائيل بذلك، وهو علمٌ مسجلٌ محفوظ مكتوبٌ في كتبهم التي يتداولونَها، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196].(/10)
ومن هذه البشارات بشارة موسى عليه السلام بنبينا صلى الله عليه وسلم، وقد دلّ القرآن الكريم نصًّا على وجود هذه البشارة في التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأمّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]، وقد بقي من هذه البشارة بقية في التوراة، ففي سفر التثنية الإصحاح (18)، فقرة (18-19) قال الله لموسى: (أقيم لهم ـ أي لبني إسرائيل ـ نبيًّا من وسط إخوتِهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه).
قال الدكتور عمر الأشقر: "ودلالة هذه البشارة على رسولنا صلى الله عليه وسلم بيِّنة، ذلك أنّه من بني إسماعيل، وهم إخوة بني إسرائيل، فجدّهم هو إسحاق، وإسماعيل وإسحاق أخوان، ثم هو أوسط العرب نسبًا، وقوله (مثلك) أي: صاحب شريعة مثل موسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الله كلامه في فمه، حيث كان أميًّا لا يقرأ من الصحف، ولكنّ الله يوحي إليه كلامه فيحفظه ويرتله، وهو الرسول المرسل إلى النّاس كافة، وبنو إسرائيل مطالبون باتباعه وترك شريعتهم لشريعته، ومن لم يفعل فإنّ الله معذبه (ويكون أنّ الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه)"([4]).
3- النظر في أحوال الأنبياء:
إنّ النظر في حال الرجل وسيرته يفصح عن صدقه، ويشفّ عن باطنه، ولقد أرشد القرآن إلى هذا النوع من الاستدلال قال تعالى: {قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس:16]، يقول لهم: لقد مكثت فيكم زمنًا ليس باليسير قبل أن أخبركم بأنني نبيّ، فكيف كانت سيرتِي فيكم؟ وكيف كان صدقي إيَّاكم؟ أفأترك الكذب على النّاس، وأكذب على ربّ النّاس؟! {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}؟! ألا تعملون عقولكم لتهديكم إلى الحقّ؟
قال ابن كثير: "أي: هذا إنّما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على أنِّي لستُ أتقوله من عندي ولا افتريته أنّكم عاجزون عن معارضته، وأنَّكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأتُ بينكم إلى حين بعثني الله عزّ وجلّ، لا تنتقدون عليَّ شيئًا تغمصونِي به، ولهذا قال: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي: أفليس لكم عقول تعرفون بِها الحقّ من الباطل؟! ولهذا لَمَّا سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومَن معه فيما سأله من صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال هرقل لأبِي سفيان: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: فقلت: لا، وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ومع هذا اعترف بالحق، والفضل ما شهدت به الأعداء، فقال له هرقل: فقد أعرف أنّه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله([5]). وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة: بعث الله فينا رسولاً، نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة"([6]).
وبعض النّاس لم يحتج إلى برهان ودليل ليستدلَّ بذلك على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنّ شخصه وحياته وسيرته هي أعظم دليل، ومن هؤلاء أبو بكر الصديق، فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دعاه لم يتردد، ونظر عبد الله بن سلام في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة واحدة، ولكنها كانت كافية لتدلّه على أنّ هذا وجه صادق ليس بكاذب، قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة، وخرج عبد الله بن سلام عالم اليهود مع الخارجين ينظر في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: لما رأيتُ وجهه علمتُ أنّ وجهه ليس بوجهٍ كذّاب([7]).
وقالت خديجة رضي الله عنها عندما فزع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الوحي في الغار: كلا ـ والله ـ لا يخزيك الله أبدًا، إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ([8]).
وممّا يدل على صدق الرسل من خلال التأمل في سيرتِهم، أنّ الرسل أزهد النّاس في متاع الدنيا وعرضها الزائل وبَهرجها الكاذب، لا يطالبون النّاس الذين يدعونَهم أجرًا ولا مالاً، فهم يبذلون لهم الخير لا ينتظرون منهم جزاءً ولا شكورًا، قال نوح عليه السلام: {وَياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} [هود:29]، وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً} [الفرقان:57].
4- النظر في دعوة الأنبياء:(/11)
إنّ التكامل في المنهج لإصلاح الإنسان ولإصلاح المجتمع الإنسانِي، ودينًا كهذا يقول الذين جاؤوا به إنّه منَزَّلٌ من عند الله لا بدّ أن يكون في غاية الكمال، خاليًا من النقائص والعيوب، لا يتعارض مع فطرة الإنسان وسنن الكون، وقد وجهنا القرآن إلى هذا النوع من الاستدلال حيث قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً} [النساء: 82]، فكونُه وحدة متكاملة يصدق بعضه بعضًا، لا تناقض فيه ولا اختلاف دليلٌ واضحٌ على صدق الذي جاء به.
سئل أعرابِيّ: بم عرفتَ أنّ محمدًا رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيءٍ فقال العقل: ليته نَهى عنه، ولا نَهى عن شيءٍ فقال العقل: ليته أمر به([9]).
وهذا الرسول الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب صلى الله عليه وسلم يأتِي بما يعجز عنه الإنس والجنّ، وقد حوى الأخبار الماضية والآتية، وما تحار منه العقول قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]. فكلّ من أنكر رسالته فهو مكابرٌ أعظم المكابرة، كما كانت قريشٌ تجحد صدق الرسول، وهم موقنون بأمره قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِئَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، ووصلت بِهم السفاهة إلى الزعم بأنّ الذي يأتِي محمدًا صلى الله عليه وسلم بِهذا العلم حدادٌ رومي كان بمكة فقال تعالى: {لِسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَاذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].
5- نصر الله وتأييده لهم:
تأييد الله لرسله ونصرته لهم وحفظه إيّاهم دليلٌ يحيل أيّ احتمال لكذبِهم، فإنّ العقول لا تقبل أن تتصوَّر مدعيًا للنبوة كاذبًا في دعواه وهو مع ذلك يرسل الله ملائكته لنصرته، ويستجيب دعاءه إذا دعاه، إنّ هذا لا يتصور من ملِك من الملوك، فكيف بخالق الأرض والسموات، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع من الاستدلال حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [يونس:69] فحكم بعدم فلاحه، وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ r لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ s ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46].
وهذا مسيلمة والأسود العنسي قطع الله دابرهما، وانتقم منهما، وانظر إلى المسيح الدجال، كيف كان الأنبياء يحذرون منه، فهو رجلٌ أعور، مكتوبٌ بين عينه كافر.
([1]) البخاري في المناقب، باب هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه (3906) من حديث عائشة رضي الله عنها.
([2]) مسلم في الجهاد والسير، باب غزوة حنين (1775) من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
([3]) مسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب قوله تعالى: ?إنّ الإنسان ليطغى? (2797).
([4]) الرسل والرسالات (ص: 166).
([5]) البخاري في بدء الوحي، باب بدء الوحي (7).
([6]) تفسير ابن كثير (2/411).
([7]) الترمذيّ في صفة القيامة والرقائق والورع، باب منه (2485)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل (1334).
([8]) البخاري في بدء الوحي، باب بدء الوحي (4)، ومسلم في الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله (160).
([9]) انظر: مفتاح دار السعادة (2/6-7).
سادسا: وظائف الأنبياء والرسل:
1- البلاغ المبين:
الرسل سفراء الله إلى عباده وحملة وحيه، ومهمتهم الأولى هي إبلاغ هذه الأمانة التي تحمَّلوها إلى عباد الله قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39].
ومن البلاغ أن يوضح الرسول ما أنزله الله لعباده، لأنّه أقدر من غيره على التعرف على معانيه ومراميه، وأعرف من غيره بمراد الله من وحيه، وفي ذلك يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]، وكان الرسل يبيِّنون وحيَ الله تعالى بأقوالهم وأفعالهم، حتى تمثل ما جاؤوا به في أفعالهم، وقد أجابت عائشة مَن سألها عن خلق النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بقولها: ألستَ تقرأ القرآن؟! قال: بلى، قالت: فإنّ خلق نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن([1]).
وهم لا يملكون حمل النّاس على قبول دعوتِهم، وإنّما عليهم البلاغ المبين، قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، وقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92].
2- الدعوة إلى توحيد الله تعالى:(/12)
لا تقف مهمة الرسل عند بيان الحقِّ وإبلاغه، بل عليهم دعوة النّاس إلى الأخذ بدعوتِهم والاستجابة لها، وتحقيقها في أنفسهم اعتقادًا وقولاً وعملاً([2])؛ لأنّه لا بدّ من تعليم النّاس الطريقة الصحيحة لعبادة الله تعالى كما شرعها سبحانه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقد بذلت الرسل في سبيل دعوة النّاس جهودًا عظيمة جدًا، وهذا نبيُّ الله نوح قضى تسعمائة وخمسين سنة يدعو قومه إلى عبادة الله، واستخدم في دعوته لهم كل الطرق وشتّى الوسائل، قال تعالى: {قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً (6) وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى ءاذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً (7) ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8) ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:5-9]، ومع ذلك أخبر الله أنّه لم يؤمن معه إلاّ قليل: {وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود:40].
3- التبشير والإنذار:
التبشير والإنذار اقترنا بدعوة الرسل، قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [الأنعام: 48].
وتبشير الرسل وإنذارهم دنيوي وأخروي، فهم في الدنيا يبشرون الطائعين بالحياة الطيبة، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، ويعدونَهم بالعزّ والتمكين والأمن {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً} [النور:55].
ويُخوِّفون العصاة بالشقاء الدنيوي، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124]، ويخوِّفون المجرمين والعصاة عذاب الله في الآخرة: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء:14].
4- إصلاح النفوس وتزكيتها:
بعث الله الرسل ليخرجوا النّاس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 5]، ولا يتحقق ذلك إلاّ بتعليمهم تعاليم ربِّهم وتزكية نفوسهم بتعريفهم بربِّهم وأسمائه وصفاته، وتعريفهم بملائكته وكتبه ورسله، وتعريفهم ما ينفعهم وما يضرّهم، ودلالتهم على السبيل التي توصلهم إلى محبته، وتعريفهم بعبادتِه.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ} [الجمعة:2].
قال القرطبيّ: "أي يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان"([3]).
وقال البيضاويّ: "يطهرهم من دنس الطباع، وسوء الاعتقاد والأعمال"([4]).
5- تقويم الفكر المنحرف والعقائد الزائفة:
الأصل في فطرة الإنسان أنّه قابل للتوحيد، لو تُرك لم يختر سواه، ولكن النّاس انحرفوا لأسباب شتّى، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، وفي الحديث: ((وإنِّي خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين))([5]).
قال ابن عبّاس: (كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)([6]).
6- إقامة الحجّة:
من الغايات التي أرسل الله الرسل لأجلها إقامة الحجّة على عباده، حتى لا يبقى للنّاس حجّة يوم القيامة قال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
قال ابن كثير: "أي: أنّه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة، وبيَّن ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه لئلا يبقى لمعتذر عذرٌ، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]"([7]).
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((وليس أحد أحبَّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب، وأرسل الرسل))([8]).
7- سياسة الأمّة:(/13)
الذين يستجيبون للرسل يكوِّنون أمّة تحتاج إلى من يسوسها ويقودها ويدبِّر أمورها، والرسل هم خير من يقومون بِهذه المهمة في حال حياتِهم، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:48]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلّما هلك نبيٌّ قام نبيٌّ))([9]).
ولذلك أوجب الله طاعة رسله والتحاكم إليهم، والرضا بقضائهم قال تعالى: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء:65].
قال ابن كثير: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنّه لا يؤمن أحد حتى يُحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور. فما حكم به فهو الحقّ الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا، ولهذا قال: {لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً} أي: إذا حكَّموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلِّمون لذلك تسليمًا كليًّا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة"([10]).
([1]) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنها أو مرض.
([2]) انظر: الرسل والرسالات. د/ عمر الأشقر (ص: 45).
([3]) تفسير القرطبي (18-92).
([4]) تفسير البيضاوي (2/111).
([5]) أخرجه ابن حبّان في صحيحه (الإحسان 2/423).
([6]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (2/334).
([7]) تفسير ابن كثير (1/589).
([8]) جزء من حديث أخرجه مسلم في التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش (2760) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
([9]) جزء من حديث أخرجه مسلم في الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (1842) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([10]) تفسير ابن كثير (1/251).
سابعا: فوائد متنوعة:
1- أنواع الوحي:
الوحي يأتي على صور هي:
أ- الإلقاء في الروع:
الإلقاء في روع النبيِّ الموحى إليه ـ بحيث لا يمتري النبيّ في أنّ الذي ألقي في قلبه من الله تعالى ـ نوعٌ من أنواع الوحي، كما جاء في صحيح ابن حبّان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((إنّ روح القدس نفث في روعي: إنّ نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب))([1]).
ب- الرؤيا الصادقة:
رؤيا الأنبياء وحي، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (رؤيا الأنبياء وحي)([2])، وقال عبيد بن عمير: "رؤيا الأنبياء وحي، ثم قرأ: {إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]"([3]).
وقال القرطبيُّ: "كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظًا ورقودًا، فإنّ الأنبياء لا تنام قلوبُهم، وهذا ثابت في الخبر المرفوع، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّا معاشر الأنبياء تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا))([4])، وقال ابن إسحاق: رؤيا الأنبياء وحيٌّ. واستدل بِهذه الآية"([5]).
وممّا أوحي إلى النبيِّ صلى الله عليه سلم في المنام من القرآن سورة الكوثر، عن أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: ((أًنزِلت علي آنفًا سورةٌ))، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [سورة الكوثر]، ثم قال: ((أتدرون ما الكوثر؟)). فقلنا: الله ورسوله أعلم. قال: ((إنّه نَهر وعدنيه ربِّي عزّ وجلّ عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: ربِّ إنّه من أمتي. فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك))([6]).
قال النوويُّ: "قوله: (أغفى إغفاءة) أي: نام"([7]).
وقال الثعالبيُّ: "الإغفاء هو النوم الخفيف"([8]).
ج- تكليم الله لرسله من وراء حجاب:(/14)
وهو الذي عناه الله بقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} [الشورى: 51]، وقد كلَّم الله آدم عليه السلام قال تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ V قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وكلَّم موسى عليه السلام قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يامُوسَى (11) إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا اله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصلاةَ لِذِكْرِى} [طه:11-14]، وكلَّم نبيَّنا محمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَمَّا عُرِج به إلى السماء([9]).
د- الوحي عن طريق الملك:
وهو ما عناه الله تعالى في قوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} [الشورى: 51]، ولهذه الصورة ثلاث أحوال:
الحال الأولى: أن يراه الرسول على هيئته التي خلقه الله عليها، قال جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي: ((فبينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري قِبَل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء، قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي، فقلت: زملوني زملوني فزملوني. فأنزل الله تعالى: {ياأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}))([10]).
الحال الثانية: أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس، فيذهب عنه وقد وعى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال، وهو أشد ما كان يلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي، قال الحارث بن هشام رضي الله عنه: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدُّه علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني فأعي ما يقول))، قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينْزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإنَّ جبينه ليتفصد عرقًا([11]).
الحال الثالثة: أن يتمثل له الملك رجلاً، فيكلمه ويخاطبه، ويعي عنه ما قال، وهذه أخف الأحوال على الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث عائشة في بدء الوحي([12])، وكما في حديث جبريل المشهور في سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان.
2- عدد الأنبياء والرسل:
لم يرد في الباب إلاّ حديث أبِي ذر المتقدم: ((ثلاثمائة وبضعة عشر جمًّا غفيرًا))، وفي رواية: ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك: خمسة عشر جمًّا غفيرًا))، وهو متنازع في صحته([13]).
وأمّا أنّهم جمٌّ غفيرٌ لا يحصيهم إلاّ الله فهو الحقّ الذي لا مرية فيه، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78].
3- أولو العزم من الرسل:
قال محمد خليل هرّاس: "المشهور أنّهم محمّد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح؛ لأنّهم ذُكِروا معًا في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7]، وقوله: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى:13]"([14]).
4- الأنبياء العرب:
جاء في حديث أبِي ذر الطويل: ((وأربعة من العرب: هود وشعيب وصالح ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم))([15]).
والحديث لا يصحّ، والله أعلم.
5- حاجة العباد إلى بعث الرسل وإرسالهم:(/15)
الحاجة إلى إرسال الرسل وبعثهم عظيمة، قال ابن القيّم: "فإنّه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلاَّ على أيدي الرسل. ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلاَّ من جهتهم. ولا ينال رضا الله ألبتة إلاَّ على أيديهم. فالطيِّب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلاَّ هديُهم، وما جاءوا به. فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال. وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال. فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتِها. فأيُّ ضرورة وحاجة فُرِضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير، وما ظنّك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة. فحال العبد عند مفارقه قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم. ولكن لا يحسّ بِهذا إلاّ قلب حي، و ما لجرح بميت إيلام، وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بِهدي النبيّ فيجب على كل من نصح نفسه، وأحبّ نجاتَها وسعادتَها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه. والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"([16]).
6- مقتضى بشرية الأنبياء والرسل:
أنبياء الله ورسله بشر كسائر البشر، اصطفاهم الله تعالى وفضلهم وكرمهم بالوحي إليهم، ومن مقتضى بشريتهم:
أ- أنهم يتعرضون للبلاء كسائر البشر:
فيتعرضون للسجن كما سجن يوسف عليه السلام قال تعالى: {فَلَبِثَ فِى السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42]، ويُقتَلون كما كانت بنو إسرائيل تفعل بأنبيائها قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، وتصيبهم اللأواء والأدواء كما ابتلى الله نبيَّه أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، بل هم أشدّ النّاس بلاءً، فعن سعد بن أبِي وقاص قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه. فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة))([17]).
ب- أنهم يشتغلون بأعمال البشر:
كانوا يمارسون الأعمال التي يمارسها البشر، فاشتغل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالتجارة قبل البعثة، واشتغل كذلك برعي الغنم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكَبَاث([18])، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم بالأسود منه، فإنّه أطيبه)). قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: ((وهل من نبيٍّ إلاَّ وقد رعاها؟!))([19]).
وكان داود عليه السلام حدادًا يصنع الدروع قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80].
ج- ليس فيهم شيء من خصائص الألوهية والملائكية:
من مقتضيات كونِهم بشرًا أنّهم ليسوا بآلهة، وليس فيهم من صفات الألوهية شيءٌ، ولذلك فإنّ الرسل يتبرؤون من الحول والطول ويعتصمون بالله الواحد الأحد، ولا يدَّعون شيئًا من صفات الله تعالى قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّىَ الهيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]، وقال الله تعالى لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء:93].
7- الخطأ في إصابة الحقّ منهم لا ينقض عصمتهم:
الأنبياء والرسل يجتهدون في حكم ما يعرض عليهم في القضاء من وقائع، ويحكمون وفق ما يبدو لهم، فهم لا يعلمون الغيب، وقد يخطئون في إصابة الحقّ، فمن ذلك عدم إصابة داود عليه السلام في الحكم، وتوفيق الله لابنه سليمان في تلك المسأٍلة، عن أبِي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب، فذهب بابن إحداهما. فقالت صاحبتها: إنّما ذهب بابنك. وقالت الأخرى: إنّما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقُّه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل ـ يرحمك الله ـ هو ابنها. فقضى به للصغرى))([20]).(/16)
وعن أم سلمة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنّما أقطع له قطعة من النار))([21]).
ولا يناقض هذا القولَ بعصمة الأنبياء من الخطأ في التبليغ عن لله تعالى، لأنهم لا يقَرُّون على ذلك.
8- اليهود والنصاري ينسبون القبائح إلى الأنبياء([22]):
ينسب اليهود إلى الأنبياء والمرسلين أعمالاً قبيحة، فمن ذلك:
ـ أنّ نبيّ الله هارون صنع عجلاً، وعبده مع بني إسرائيل. (إصحاح 32/1 من سفر الخروج).
والقرآن يقصّ علينا أنّ من صنع ذلك هو السامريّ، وأنّ هارون أنكر ذلك أعظم الإنكار قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَانُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُواْ أَمْرِى} [طه:90].
ـ أنّ إبراهيم خليل الرحمن قدّم امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها. (إصحاح 12/14 من سفر التكوين).
وقد قصّ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القصة عن إبراهيم عند دخوله مصر، وفيها أنّ ملك مصر كان طاغية، وكان إذا وجد امرأة جميلة ذات زوجٍ قتل زوجها، وحازها لنفسه، فلما سئل إبراهيم عنها قال: هي أخته، يعني أخته في الإسلام، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ الله حفظ سارة عندما ذهبت إلى الطاغية، فلم يمسها بأذى، وأخدمها جارية، هي هاجر أم العرب المستعربة([23]).
ـ ومن ذلك أنّ لوطًا عليه السلام شرب خمرًا حتى سكر، ثم قام على ابنتيه فزنا بِهما الواحدة بعد الأخرى. (إصحاح 19/30 من سفر التكوين).
ومعاذ الله أن يكون هذا النبيّ الكريم على الله أن يفعل ذلك، وهو قضى عمره يدعو إلى الفضيلة ويحارب الرذيلة.
ـ وورد في إنجيل متى أنّ عيسى من نسل سليمان بن داود وأن جدهم فارض الذي هو من نسل الزنَا من يَهوذا بن يعقوب. (إصحاح متى الأول/10).
ـ وفي إصحاح يوحنا الإصحاح الثانِي/4 أنّ يسوع أهان أمّه في وسط جمعٍ من الناس، فأين هذا ممّا وصفه القرآن: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّا} [مريم:32].
9- كرامات الأولياء:
من أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات([24]).
وقد أنكر الإمام أحمد على الذين نفوا كرامات الأنبياء ولم يصدقوا بِها، وضلَّلهم([25]).
ومن حكمة إجراء الله هذه الأمور الخارقة للعادة إكرامًا لهم لصلاحهم وقوة إيمانِهم، وقد يكون سدًا لحاجاتِهم، أو نصرة لدينه، ورفعةً لكلمته، وإحقاقًا للحقّ وإبطالاً للباطل.
قال شيخ الإسلام: "وأمَّا كرامات الأولياء؛ فهي أيضًا من آيات الأنبياء، فإنّها إنّما تكون لمن تشهد لهم بالرسالة، فهي دليل على صدق الشاهد لهم بالنبوة. وأيضًا فإنّ كرامات الأولياء معتادة من الصالحين، ومعجزات الأنبياء فوق ذلك، فانشقاق القمر والإتيان بالقرآن وانقلاب العصا حية وخروج الدابة من صخرة لم يكن مثله للأولياء. وكذلك خلق الطير من الطين، ولكن آياتِهم صغار وكبار، كما قال تعالى: {فأراه الآية الكبرى} [النازعات:20]، فلله تعالى آية كبيرة وصغيرة، وقال عن نبيِّه محمّد: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم:18]، فالآيات الكبرى مختصة بِهم، وأمَّا الآيات الصغرى فقد تكون للصالحين، مثل تكثير الطعام، فهذا قد وجد لغير واحد من الصالحين، لكن لم يوجد كما وُجِد للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه أطعم الجيش من شيء يسير"([26]).
وقال: "ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء، وما يُجري اللهُ على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات"([27]).
ومن ذلك: تسخير الله فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء لمريم عليها السلام: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].
والنور الذي جعله الله في عصا كلٍّ من أسيد بن الحضير وعباد بن بشر، تحدثا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم([28]).
والأمر الخارق للعادة ليس دليلاً على الكرامة، ولا فضيلة من جرت على يديه، قال أبو علي الجوزجانِي: "كن طالبًا للاستقامة، لا طالبًا للكرامة، فإنّ نفسك منجبلة على طلب الكرامة، وربّك يطلب منك الاستقامة، قال بعض من فهم قوله: وهذا أصلٌ عظيمٌ كبيرٌ في الباب، وسرٌّ غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلاب"([29]).(/17)
وهذه الاستقامة هي الفيصل بين الكرامة والأحوال الشيطانية، وإلاّ فإن الخوارق قد تظهر علي يد الفسّاق والفجّار، كما تظهر على أيدي السحرة والمشعوذين، وللمسيح الدجال في آخر الزمان نصيب كبير من ذلك ولذا قال غيو واحد من السلف: رأيتم الرجل يمشي على الماء، ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة([30]).
([1]) أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (2/185) من حديث أبِي هريرة رضي الله عنه، والحاكم (2/4) من حديث ابن مسعود مطولاً.
([2]) الحاكم (2/468)، قال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
([3]) البخاري في الوضوء، باب التخفيف في الوضوء (138).
([4]) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/171) عن عطاء مرسلاً، وأخرج الحاكم (2/468) عن أنس رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه، ولا ينام قلبه، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه".
([5]) تفسير القرطبيّ (15/102).
([6]) مسلم في الصلاة، باب حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة (400).
([7]) شرح مسلم (4/113).
([8]) فقه اللغة (ص: 161).
([9]) انظر: حديث المعراج عند مسلم (1/148).
([10]) البخاري في التفسير، باب قوله: ?والرجز فاهجر? (4926).
([11]) البخاري في بدء الوحي، باب بدء الوحي (2)، ومسلم في الفضائل، باب عرق النبيِّ صلى الله عليه وسلم في البرد (2333).
([12]) البخاري في بدء الوحي، باب بدء الوحي (4)، ومسلم في الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (160)، وانظر: الحديث السابق.
([13]) تقدم تخريجه.
([14]) شرح العقيدة الواسطية (ص: 64).
([15]) تقدم تخريجه.
([16]) زاد المعاد (1/69-70).
([17]) الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء (4926)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (143)
([18]) الكَباث نوع من أنواع ثمر الأراك.
([19]) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب يعكفون على أصنام لهم (3406).
([20]) البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: ?وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ? (6769)، ومسلم في الأقضية، باب بيان اختلاف المجتهدين (1720).
([21]) البخاري في الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم (7169)، ومسلم في الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن والحجّة (1713).
([22]) نصوص هذه الفائدة مأخوذة من كتاب محمد نبيُّ الإسلام (ص: 145)، انظر: الرسل والرسالات (ص: 104-106).
([23]) انظر: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في البخاري في النكاح، باب اتخاذ السراري ومن أعتق جارية ثم تزوجها (5084)، ومسلم في الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم (2371).
([24]) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (3/156).
([25]) انظر: الأنوار البهية (2/393).
([26]) النبوات (211).
([27]) مجموع الفتاوى (3/156).
([28]) انظر: تفسير ابن كثير (1/79).
([29]) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (11/320).
([30]) انظر: تفسير ابن كثير (1/79).
ثامنا: مسائل:
1- تفضيل الأنبياء والرسل بعضهم على بعض:
الأنبياء أفضل خلق الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ((هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلاَّ النبيين والمرسلين. لا تخبرهما يا عليُّ))([1]).
فيؤخذ من الحديث أنّ الأنبياء والمرسلين أفضل الخلق، وأنّ أفضل رجلين بعدهم أبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما.
ومن هنا يُعرف ضلال قول من قال: إنّ خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، وهو قولٌ ساقطٌ تغني حكايته عن مناقشته([2]).
والرسل بلا شكّ أفضل من الأنبياء، وهم بعد ذلك متفاضلون فيما بينهم قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253]، وأفضل الرسل هم أولو العزم الخمسة: محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، وقد ذكرهم الله في أكثر من موضع فقال: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13] وقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7]، وأفضل هؤلاء كلهم محمد بن عبد الله الرسول الأمي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد القوم يوم القيامة)) ([3])، وفي رواية عند مسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)).(/18)
وهو صاحب الشفاعة العظمى كما في حديث أبِي هريرة وفيه: ((فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟!))([4])، فيشفع فيهم، فيشفعه الله تعالى.
وقد وردت في السنة نصوصٌ تنهى عن التفضيل بن الأنبياء لا تعارض النصوص القرآنية التي تدلّ على أنّ الله فضّل بعض الأنبياء على بعض وبعض المرسلين على بعض؛ لأنّ النهي في هذه الأحاديث ينبغي أن يحمل على التفضيل الذي يكون على وجه الحميّة والعصبية والانتقاص، أو كان مؤديًا إلى شيء من ذلك، برهان ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: استبَّ رجلان: رجلٌ من المسلمين ورجلٌ من اليهود. قال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين. فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهوديّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمَ، فسأله عن ذلك، فأخبره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تخيرونِي على موسى، فإنّ الناس يصعقون يوم القيامة، فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله))([5]).
قال ابن حجر: "قال العلماء في نَهيه صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء: إنّما نَهى عن ذلك مَن يقوله برأيه لا من يقوله بدليل، أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقيص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع. أو المراد: لا تفضلوا بجميع أنواع الفضائل، بحيث لا يترك للمفضول فضيلة"([6]).
وقال الحليمي: "الأخبار الواردة في النهي عن التخيير إنّما هي في مجادلة أهل الكتاب، وتفضيل بعض الأنبياء على بعض بالمخايرة؛ لأنّ المخايرة إذا وقعت بين أهل دينين لا يؤمن أن يخرج أحدهما إلى الازدراء بالآخر فيفضي إلى الكفر. فأمّا إذا كان التخيير مستندًا إلى مقابلة الفضائل لتحصيل الرجحان فلا يدخل في النهي"([7]).
2- نبوة النساء:
ذهب أبو الحسن الأشعري وابن حزم الظاهري وغيرهما إلى نبوة مريم عليها السلام، واختلفوا فيما بينهم في نبوة غيرها من النساء الوارد ذكرهنّ في القرآن كحواء وسارة وهاجر وأمّ موسى وآسية امرأة فرعون([8]).
وأجابوا عن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7] بأنّهم لا يخالفون مفهومها، فالرسالة للرجال، أمّا النبوة فلا يشملها النصّ القرآنِي، وليس لازمًا من النبوة التبليغ، بل النبوة تكون قاصرة على صاحبها يعمل بِها، ولا يحتاج إلى أن يبلغها إلى الآخرين.
واستدلّ أصحاب هذا الرأي بأدلة، منها:
- أنّ الله أوحى إلى بعض النساء، فأوحى إلى أمّ موسى قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليَمّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، وأرسل جبريل إلى مريم فبلَّغها عن الله أمره قال تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً Q قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً R قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لأهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً} [مريم:17-19]. فأبو الحسن يرى أنّ كل من جاءه الملك عن الله تعالى بحكم من أمر أو نَهي أو بإعلام فهو نبيّ، وقد تحقق في أمّ موسى ومريم شيءٌ من هذا.
- واستدلوا باصطفاء الله تعالى لمريم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ } [آل عمران:42].
- واستدلوا أيضًا بحديث أبِي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلاَّ آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران. وإنَّ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام))([9]). قالوا: الذي يبلغ مرتبة الكمال هم الأنبياء.
وأجيبوا بأنّ هذه الأدلة لا تنهض لإثبات نبوة النساء، وذلك من وجوه:
الأول: أننا لا نسلم أنّ النبيّ غير مأمور بالتبليغ والتوجيه ومخالطة النّاس، والمحتار أن لا فرق بين النبيّ والرسول في هذا، وأنّ الفرق واقعٌ في كون النبيّ مرسل بتشريع رسول سابق، وإذا كان ذلك كذلك فإنّ أعباء التبليغ لا تقوى عليها النساء، فلا تقوم بحقّ النبوة.
الثانِي: قد يكون وحي الله إلى هؤلاء النساء أم موسى وآسية إنّما وقع منامًا، فقد علمنا أنّ من الوحي ما يكون منامًا، وهذا يقع لغير الأنبياء.(/19)
الثالث: لا نسلم قولهم أنّ كل من خاطبته الملائكة فهو نبيّ، ففي حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تربُّها؟ قال: لا، غير أنّي أحببته في الله عزّ وجلّ. قال: فإنِّي رسول الله إليك بأنّ الله قد أحبَّك كما أحببته فيه([10]).
الرابع: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم توقف في نبوة ذي القرنين مع إخبار القرآن بأنّ الله أوحى إليه: {قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} [الكهف: 86].
الخامس: لا حجّة لهم في النصوص الدالة على اصطفاء الله لمريم، فالله قد صرّح بأنّه اصطفى غير الأنبياء: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْراتِ} [فاطر: 32]، واصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ومن آلهما من ليس بنبي جزمًا فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33].
السادس: لا يلزم من لفظ الكمال الوارد في الحديث الذي احتجّوا به النبوة، لأنّه يطلق لتمام الشيء، وتناهيه في بابه، فالمراد بلوغ النساء الكاملات النهاية في جميع الفضائل التي للنساء، وعلى ذلك فالكمال هنا كمال غير الأنبياء.
السابع: ورد في بعض الأحاديث النصّ على أنّ خديجة من الكاملات([11])، وهذا يبيِّن أنّ الكمال هنا ليس كمال النبوة.
وهذا هو الراجح في المسألة أنّه لم يثبت نبوة أحدٍ من النساء، والأدلة الواردة غير كافية، والآية نصّ في عدم إرسال الله لأي امرأة أبدًا، والتعريف المختار للنبيّ لا يتحقق في المرأة، وقد قال الحسن البصري رحمه الله: "ليس في النساء نبيّة، ولا في الجنّ"([12]).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) أحمد (1/80)، والترمذي في المناقب، باب في مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه (3664)، وابن ماجه في المقدمة، باب فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (95)، قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبّان من حديث أبي جحيفة (6904).
([2]) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (2/222)، (11/221)، ولوامع الأنوار البهية (2/300).
([3]) البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} (3340)، ومسلم في الفضائل، باب تفضيل نبيِّنا على الأنبياء (2278).
([4]) البخاري في التفسير، باب قول الله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُورًا} (4712).
([5]) البخاري في الخصومات، باب ما جاء في الإشخاص والخصومة بين المسلم وغيره (2411).
([6]) فتح الباري (6/446).
([7]) انظر: فتح الباري (6/446).
([8]) انظر: فتح الباري (6/447-448)، (6/473)، ولوامع الأنوار البهية (2/226).
([9]) البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} (3411)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أمّ المؤمنين (2431).
([10]) مسلم في البر والصلة والآداب، باب فضل الحبّ في الله (2567).
([11]) أخرج البخاري في الأنبياء، باب {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} (3432) عن عليّ رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة».
([12]) انظر: فتح الباري (6/473,471).(/20)
الإيمان بالدين كظاهرة غيبية.. وهم أم يقين؟
* محمد مهدي الآصفي
للدين في حياة الإنسان طرفان:
طرف منه يتصل بعقيدة الإنسان ويقينه، وطرف آخر منه يتصل بسلوكه وحياته الاجتماعية.
وليس من شك أن ظاهرة التدين والإيمان بالغيب كان أقدم ما عرفه الإنسان في حياته، ومن أكثر الظواهر ثباتاً وشيوعاً في حياة الإنسان.
ورغم اختلاف مظاهر التدين في حياة الانسان فقد كان الانسان يؤمن في هذه الحالات جميعاً بوجود مبدع غيبي ما وراء الطبيعة، وما وراء المظاهر المادية.
ورغم ان الحواس لا تباشر غير المادة والطاقة، فإن الانسان يؤمن بحقيقة ثالثة، ليس هو بمادة ولا طاقة، وإنما هو مبدأ للمادة والطاقة معاً، وذلك هو الغيب الذي يؤمن به الانسان، دون أن يقع له عليه حس، ودون أن يباشره بشيء من حواسه.
* * *
والسؤال الذي نود أن نطرحه هو أن الإيمان بالدين كظاهرة غيبية هل هو شيء أصيل في حياة الانسان، نابع من أعماق شخصية الانسان وفطرته، أم هو شيء طارئ على حياة الانسان، نتيجة بعض الظروف والأوضاع الاجتماعية؟
وهل يؤمن الانسان حقاً بالدين، أم هو وهم، يبدو للانسان على شكل يقين؟
وهل الإيمان بالغيب أمر ثابت في حياة الانسان، ثبات الغرائز والنوازع الأصيلة، أم هو مرحلة في حياة الانسان، كما يقول (أوجست كنت)، حيث يرى أن الانسانية مرت بثلاث مراحل في حياتها، دور الفلسفة الدينية، ودور الفلسفة التجريدية، ودور الفلسفة الواقعية؟
ومرد هذه التساؤلات جميعاً إلى التساؤل عن أصالة التدين في شخصية الانسان.
ولا شك أن اكتشاف هذه النقطة الجوهرية ينفعنا كثيراً في فهم حقيقة الدين وإثبات واقعية التدين والإيمان بالغيب، وإثبات واقعية الدين في حد ذاته أيضاً.
* * *
وبذلك فإن أصالة النزوع الديني في الشخصية يكشف عن حقيقتين جوهريتين في هذا المجال:
الحقيقة الأولى أن التدين حقيقة ثابتة في شخصية الانسان، وأن النزوع الديني نزوع صادق، وليس وهماً أو سراباً في النفس.
وصدق هذا النزوع وأصالته في الشخصية وإن كان لا يثبت الواقعية الموضوعية للدين إلا أنه يكشف بلا شك عن واقعية التدين الذاتية في نفس الانسان.
كما يكشف عن أن التنكر للدين شيء طارئ على الشخصية، وعرض من الأعراض النفسية والروحية التي تصيب الانسان، وشذوذ في الشخصية وليس حالة عامة في الانسان.
والحقيقة الثانية ان هذا النزوع بهذا الشكل من القوة والأصالة لا يمكن أن يكون خاطئاً. فلا يمكن أن تنزع الفطرة عبثاً وراء غيب لا حقيقة له.
فإننا لو أثبتنا أصالة هذا النزوع في الشخصية.. فلا يمكن أن ينفك عن واقعية هذا الغيب الذي ينزع إليه الانسان.
والواقعية هنا، بخلاف الصورة الأولى، واقعية موضوعية وإن كان الطريق إلى إثبات هذه الواقعية الموضوعية طريقاً ذاتياً وجدانياً.
ولذلك فإن النظريات الدينية تقع في اتجاه معاكس للاتجاهات المادية في تسير الدين دائماً.
فإن النظريات الدينية تفسر هذه النزعة دائماً بالفطرة، وتؤكد صلتها الوثيقة بالكينونة الانسانية وأصالتها في الشخصية، بينما تحاول النظريات المادية توجيه هذا النزوع بعوامل خارجة عن شخصية الانسان وطارئة عليه.(/1)
الإيمان بالغيب.. بين الدين والعلم
* د. عبدالمنعم النمر
كيف يقتصر الانسان في عمله على ما تهديه إليه حواسه، أو التجارب في المختبرات؟
لو لم يكن من الفطرة الإيمان بالغيب، لا نحصر الانسان ذهنياً وعقلياً في الدائرة، التي يوجد فيها.. ولما صدق بوجود عالم لم يره، ولم يلمسه، ولم يتذوقه..
إيمان الانسان بما غاب عن حواسه ضروري له كانسان. وإلا فهل كان يصدق بوجود هذا العالم، ومَن فيه وما فيه وهو لم يعرفه عن طريق الحواس.. وهذا أولى درجات السلم في ضرورة أن يؤمن الانسان بما غاب عنه..
ونحن فيما ينقل إلينا مثلاً: من أمور غيبيةنثق بالقائل، أو الناقل فما في ذلك من ضير؟
ثم هل يتجرأ عالم يحترم نفسه فينكر، أو يجحد كل ما لم يصل إليه علمه، عن طريق الحواس.. أليس من بسائط العقل واحترامه ألا يتجرأ الانسان على إنكار ما لم يحسه؛ لأنه أي الانسان محدود ومغلق داخل حواسه وقدراتها المحدودة ألسنا بعد اكتشاف الذبذبات الصوتية والكرهبية، ونقل الصوت من مكان بعيد وكذلك الصورة؟ ألسنا الآن نهزأ بأي عالم مضى وتطاول فأنكر أنه لا توجد أصوات ولا صور في هذا الأثير غير ما يسمعه ويراه؟
فهل يمكن لانسان يحترم نفسه وعقله، أن يقول إن عدم رؤيتي لشيء دليل على عدم وجوده، وعدم سماعي لصوت دليل على عدم وجوده..
إذن لابد أن يكون هناك استعداد وقبول في الانسان للإيمان بالغيب..
وهذا الإيمان هو الذي دفع العلماء إلى الكشف عن المجهول، وأغراهم بمتابعة البحث وراءه، حتى وصلوا إلى ما لم يكن يدركه الانسان بحواسه.. ولو لم يفترض العلماء، أو لم يؤمنوا بأن هناك أشيا وراء حواسهم، لما سعوا واجتهدوا وتعبوا.. أقصد من هذا كله: أن فكرة الإيمان بالغيب بقطع النظر عن هذا الغيب ما هو، هي أصل من أصول الفطرة، وأصل أيضاً من أصول العلم، الذي يتشدق به هؤلاء..
استهواني حديث الشيخ عن الإيمان بالغيب، أي غيب، وعن أنه أمر ضروري في الحياة، لا يمكن أن يحدث تقدم إلا على أساس إيمان بغيب، يحلم الانسان به، ويعمل للوصول إليه، وتحويله إلى حقيقة واقعة، ويتجدد الإيمان بالغيب، وتتجدد أحلام الانسان في المستقبل. ويجري الانسان وراء هذا الغيب، وهذه الأحلام، وتظل هكذا مسيرته في الحياة؛ ليعمل ويتقدم.
استهواني هذا الحديث القصير، فانصرفت من مجلسه، وأخذت أفكر فيه، لأنه فعلاً يفتح طاقة جديدة للتفكير، هل ينكر هؤلاء الشيوعيون الغيب، الذي حدثنا الله عنه في كتبه السماوية وآخرها القرآن بحكم الصنعة، أي بحكم أنهم لا يؤمنون بدين، أو أنهم ينكرون الإيمان بكل غيب أي غيب، تمشياً مع مطقهم في إنكار الغيب الذي جاءت به الرسل؛ لحملتهم على الأديان؟
إنهم لو فرقوا بين غيب وغيب فآمنوا بهذا وكفروا بذاك، يكونون مهتوكي الأستار، مفضوحي الوجود، ولو كفروا بكل غيب وأنكروه، لأنه غيب صادموا بذلك كثيراً من واقع الحياة حتى حياتهم هم.
وشغلني هذا التفكير طويلاً، وأدخلني في دوامة فرأيت أن أعود للشيخ لأبدأ معه حديثاً حول هذا لعله يزيدني علماً، ويدخل على قلبي السكينة، وعند الشيخ دائماً أنتظر السكينة، السكينة في الحياة، التي تصيبنا باترجاج مخي من كثرة صدماتها، والسكينة في العلم..
وزرت الشيخ صباحاً في حجرته بالفندق العريق، الذي يظل شامخاً بعراقته على ساحة البرج.. فوجدته منكباً على الورق، فخجلت وترددت أن أقطع عليه تفكيره، وأحس بي.. فقال: تعال لقد انتهيت من كتابة ما أريد..
وبدأت حديثي معه أقص عليه ما شغلني منذ تركته بعد حديثه معي، فضحك كثيراً.. وقال: لا بأس.. فهذا هو ما شغلني أيضاً حتى أقلقني. وهأنت تراني الآن وأنا مستريح تماماً؛ لأنني انتهيت من كتابة ما كنت أريد، وصببت ما شغلني، وحال بيني وبين النوم على هذه الأوراق..
قال الشيخ:
إن هؤلاء الذين ينكرون الغيبيات من الشيوعيين، ليسوا وحدهم الذين ينكرونها ولكن الماديين جميعاً ينكرونها، باعتبار أن وسائلهم الحسية للمعرفة لا تدركها، وهم لا يؤمنون إلا بالوسائل الحسية، وبالتجارب العلمية، وهم لذلك يغلقون على أنفسهم النوافذ، ويتناقضون مع أنفسهم، بل مع الواقع أيضاً؛ ولو تجردوا من تعصبهم لماديتهم؛ لفتحوا النوافذ، وتمتعوا بهواء المعرفة، وتخلصوا من التناقض.. وحرروا علمهم من الخضوع لماديتهم، أو لمذهبهم المادي، الذي يتعصبون له.. وصاروا كغيرهم من العلماء المعتدلين، الذين يتقبلون الهواء الطيب من كل نافذة. ما لم يكن يدركه الانسان بحواسهز. ولو لم يفترض العلماء، أو لم يؤمنوا بأن هناك أشياء وراء حواسهم، لما سعوا واجتهدوا وتعبوا.. أقصد من هذا كله: أن فكرة الإيمان بالغيب بقطع النظر عما هو، هي أصل من أصول الفطرة، وأصل أيضاً من أصول العلم، الذي يتشدق به هؤلاء..(/1)
فقد تحدث كثير من العلماء باسم العلم أيضاً، بوجود وسائل للمعرفة غير هذه الحواس، وهي وسائل غير محسة، ولا تتوفر لكل انسان فكيف نقصر المعرفة إذن على حواسنا، المحدودة. ومن العجيب أن يغتر الانسان بحواسه، وبمختبراته، وهناك من الحيوانات ما يدرك بحواسه ما لا يدركه الانسان بهذه الحواس نفسها، والذي يطلع على خصائص الحيوانات، والطيور، يدرك الكثير من عجائب حواسها، مما لا يعهده الانسان من حواسه هو..
ثم إن الانسان نفسه بطاقته المحدودة، التي خلقه الله عليها، لا يتحمل إدراك كل والمحسوسات إلا لصعق، ولما استطاع الحياة، فيكون من حكمة الله إذن ـ حجب كثير من الموجودات عن حواسه، أو جعلها غائبة، أو غيبية عليه حتى يمكن مواصلة الحياة..
يقول البروفسور ب.كدريا فستف في كتابه "أصوات لا تسمع" (ويعتبر عدم حساسية الأذن البشرية للاهتزازات ذات الترددات المنخفضة من النعم العظيمة التي يتمتع بها الانسان، فهي تحول دون سماعه لضربات قلبه، ولولا ذلك لكان لضربات القلب ضجيج لا ينقطع) فلا يستطيع تحمل الحياة.. نسوق هذا لكي يشعر الانسان أن حجب الكثير من الحياة عنه هو من رحمة الله به، ولا ينبغي من خلال هذه الرحمة التي يجب شكرها أن يتطاول فينكرها كلية..
وهذا الذي ينكر الغيبيات ماذا لو كشف لكل انسان معرفة ما غاب عنه؟ بل ماذا لو عرف كل انسان ما في نفس كل انسان أمامه من الأمور الغيبية عليه؟ هل يمكنه أن يعيش؟
وهل عدم معرفة الانسان بما في نفس الانسان الذي أمامه يعني أنه لا يحمل في نفسه شيئاً؟
مبدأ إيمان الانسان بالغيب، أو بالأمور الغيبية مبدأ طبيعي، ولابد منه في حياة الانسان، وعدم إحاطة الانسان بهذه الأمور الغيبية بواسطة حواسه أو معاملته، رحمة من الله بالانسان وضرورة من ضرورات وجوده.
فهل ينكر الشيوعيون هذا؟ أعتقد أنهم لا يستطيعون.
وإذا كانوا يسلمون بمبدأ الإيمان بالغيبيات فلماذا يعمدون إلى مهاجمة ما جاء به الدين منها؟ ماذا يضر الحياة وسيرها لو آمن الانسان بوجود مخلوقات أخرى غيره تسمى الجن أو الملائكة؟ وماذا يعطل ذلك من سير الحياة العلمية أو العملية؟
وهل الذين فكروا ودبروا للوصول إلى القمر تخلوا أولاً عن إيمانهم بالله والملائكة والجن حتى أمكنهم أن يفعلوا ما فعلوا؟ أعتقد لا.. كما أعتقد أن كل واحد منهم مؤمن بالله وملائكته وبرسوله الذي يعتقد فيه.. فتمحك الشيوعيين بهذه المسائل إنما هو من قبيل التهريج على الشباب، وضعاف الإيمان باسم العلم.
وهم في هذا يعطون العلم مجالاً فوق طاقته. إذن العلم التجريبي لا يمكن أن يتناول إلا الأشياء، التي يمكن إجراء التجربة عليها.. وليست المخلوقات كلها من هذا النوع، الذي يخضع للتجربة الحسية، بل فيها وفيها. فيها الروحيات التي هي فوق طاقة العلم ومجاله.. ولا يمكن للانسان العاقل المتزن، أن ينكر أن هناك روحيات، وهي غير الأشياء المحسوسة..(/2)
الإيمان بالقدر وأثره
1622
الإيمان
القضاء والقدر
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
ملخص الخطبة
1. الإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة.2. علم الله بما يكون سابق على خلقه المخلوقات.3. لا يحصل أمر لا وقد علمه جل وعلا ورضي حدوثه.4. الفرق بين القضاء والقدر.5. المطيع يوفقه الله لطاعته ، والعاصي يخذله الله ويبعده عن مراضيه.6. عقيدة القضاء والقدر تورث المؤمن اطمئناناً ويقيناً.7. المرء من بين مخافتين: الخوف من السابق والخوف من الخواتيم.
الخطبة الأولى
فيا أيها المؤمنون: وصية الله لكم أن اتقوا الله، ووصيتي إليكم أن تتمسكوا بتقوى الله عز وجل وأن لا تلهينا الدنيا عن مقتضى تقواه ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله[النساء:131]، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون[آل عمران:102].
أيها المؤمنون: إن الله جل وعلا جعل الإيمان به وهذا الدين مبنياً على أركان ستة عظام ألا وهي أركان الإيمان المعروفة، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
فهذا الإيمان إذا اكتمل جعل العبد مؤمناً حقاً وإذا نقص من الإيمان ما نقص من جهة اليقين أو من جهة الأعمال فإنه ينقص من الإيمان بحسبه وإن من تلكم الأركان التي بها برد اليقين والتي بها اطمئنان المؤمن لكل ما يجري في هذه الحياة، إن من تلكم الأركان ركن الإيمان بقدر الله تعالى خيره وشره منه جل وعلا.
وهذا الركن الأعظم من أركان الإيمان به يحصل المؤمن على الطمأنينة وعن إجابة كثير من الأسئلة لأن العجز عن الإدراك إدراك قال جل وعلا: إنا كل شيء خلقناه بقدر[القمر:49] وقال سبحانه: سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى[الأعلى:1-3] وقال جل وعلا: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً[الفرقان:1-2] وقال جل وعلا أيضاً في آخر سورة الحج: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير[الحج:70] وقال أيضاً جل وعلا: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور[الحديد:22-23].
والآيات في هذه المعنى عديدة وثبت في الصحيح أن النبي كان في أصحابه فجاءه جبريل عليه السلام يسأله عن الدين في غير صورته، في صورة رجل من الناس فسأله أسئلة فقال منها: أخبرني عن الإيمان فقال عليه الصلاة والسلام: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، قال جبريل: صدقت)) وفي آخر الحديث قال عليه الصلاة والسلام للناس حوله: ((أتدرون من السائل؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم))[1]، فدل على أن تعلم هذه الأركان وتعلم ما اشتمل عليه هذا الحديث إنما هو من الدين، وهل خطب الجمع وهل وعظ الواعظ وهل تعليم المعلم إلا لأمر الدين.
لهذا أيها المؤمنون: إن من أعظم الأركان كما ذكرنا الإيمان بالقضاء والقدر، وقد اختلفت الناس في أمر القضاء والقدر، والذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وكان عليه صحابة رسول الله أن القدر هو علم الله السابق بالأشياء قبل وقوعها، علم الله السابق الأزلي بالأشياء قبل وقوعها، وكتابته للأشياء مفصلة التي تقع، وذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعموم مشيئته النافذة في خلقه، وعموم خلقه جل وعلا للأشياء كلها، فهذا هو القدر عند الصحابة رضوان الله عليهم، وهو القدر عند أهل السنة والجماعة لهذا سار الإيمان بالقدر بأن تؤمن بعلم الله السابق الأزلي بالأشياء قبل وقوعها، فيؤمن المؤمن أن الله سبحانه لا يقع في ملكه شيء استئنافاً لم يكن علمه بل هو سبحانه علمه بالأشياء أزلي أول، لم يسبق ذلك جهل منه جل وعلا بما يقع، أراد الأشياء وعلمها فوقعت في ملكوته كما علم سبحانه وتعالى، ويؤمن المؤمن أن الله جل وعلا كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وكما أخبر بذلك ربنا جل وعلا في قوله: إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ويؤمن المؤمن بالقدر يعني يؤمن أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن الناس لو اجتمعوا على أن ينفذوا أمراً لم يشأه الله جل وعلا في ملكوته لم يقع إلا كما شاءه الله جل وعلا، ما أراده كوناً فلابد أن يقع، ومشيئة العبد تحت مشيئة الله وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً يدخل من يشاء في رحمته[الإنسان:30-31] الآية فما شاء الله كان، ما شاءه العباد لا يكون إلا إذا أذن الله به فوقع كوناً لمشيئة الله جل وعلا له.(/1)
ومن الإيمان بالقدر وهو ركن من أركانه أن يؤمن المؤمن أن الله جل وعلا خالق لكل شيء كما قال سبحانه: الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل[الزمر:62] والآيات في هذا المعنى كثيرة، فيؤمن المؤمن أنه لا يحصل شيء إلا والله تعالى خالقه، الحياة خلقها الله، والموت خلقه الله، والمرض خلقه الله يعني قدره، والحياة بأنواعها وبما اشتملت عليه خلقها الله جل وعلا وقدر ذلك، وكذلك كل ما ترى من أفعال العباد ومن الطاعات ومن المعاصي فإنه ليس شيء في الدنيا إلا والله جل وعلا خالقه: الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل.
إذا علمت ذلك أيها المؤمن وآمنت بذلك تبين لك أن الإيمان بالقضاء والقدر هو إيمان على مرتبتين:
إيمان بشيء سبق، وهو علم الله جل وعلا للأشياء وكتابته للأشياء في اللوح المحفوظ، وشيء حاضر تؤمن به، وهو أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، إذا أصابتك سراء علمت أنها من الله وإذا أصابتك ضراء علمت أنها من الله لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم وما يحصل إنما هو بمشيئة الله وبخلقه، ولهذا يسأل كثيرون ما الفرق بين القضاء والقدر؟ فيجيب أهل العلم أن القضاء هو ما قضي من القدر ووقع، لأن قضاء الشيء يعني انتهاءه كما قال سبحانه: فلما قضينا عليه الموت[سبأ:14] وكما قال جل وعلا: فاقض ما أنت قاض[طه:72] ونحو ذلك من الآيات التي تدل على أن القضاء هو وقوع الشيء وانتهاؤه.
وأما القدر فهو لما سبق في علم الله ولما كتب، فإذا وقع القدر صار قضاء، وهو قدر باعتبار الماضي، وهو قضاء باعتبار ما وقع وحل، إذا تبين لك هذا أيها المؤمن فاعلم أنه لا مكان في الإسلام لعقيدة الجبر، لا الجبر الظاهر ولا الجبر الباطن، بل الإنسان في الشريعة الإسلامية وفي عقيدة المسلم: الإنسان مخير، وليس مسيراً في الأمر والنهي، بل يختار: إما أن يختار طريق الخير وهديناه النجدين[البلد:10] وإما أن يختار طريق الشر قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها[الشمس:9-10] وعلم الله السابق وكتابته السابقة ليست جبراً، وإنما هي لقيام الحجة على العباد، وأنه لا يحصل شيء إلا والله جل وعلا عالم به لكمال علمه سبحانه: وكان الله بكل شيء عليماً[الأحزاب:40].
أيها المؤمن: المؤمن المسدد موفق يوفقه الله جل وعلا، والعاصي يخذله الله جل وعلا، ولهذا يرى المؤمن الصالح أن كل خير عمله مع أنه اختاره، لكن الله وفقه إليه، أعانه عليه وسدده ويسر له سبيله، فيرى العبد المؤمن أنه مختار وأن الله أعانه ووفقه على عمل الصالحات، وأما غير المسدد، أما العاصي، وأما الفاجر، وأما المنافق، وأما الكافر فكل بحسبه فإن الله تركهم لأنفسهم ولم يعنهم لحكمته ولما اشتملت عليه أنفسهم من أمور وما اشتملت عليه أعمالهم كما قال سبحانه: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل[النساء:160-161] إذاً التوفيق جزاء للصالحات، والخذلان وترك المرء لنفسه وعدم إعانته للخير جزاء للسيئات، وما كان الله ليظلم العباد وما ربك بظلام للعبيد[فصلت:46] سبحانه وتعالى.
إذا تبين هذا لنا علمت أن عقيدة القضاء والقدر تجعل في قلوبنا برداً وطمأنينة بحيث إن المؤمن لا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه الله كما قال الله جل وعلا: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير[الحديد:22].
لكي لا يعني ذلك العلم بأن الأمور سابقة بقدر وأن المصائب بقدر وأن الكتاب سابق لم نؤمن به؟ ولم أوجب الله الإيمان به؟ أولاً لحق الله تعالى وللإيمان بأسمائه وصفاته ثم لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم[الحديد:23] فالذي يؤمن إيماناً حقيقياً بالقضاء والقدر لا يأسى على ما فاته من الدنيا لا يأسى على موت الناس لا يأسى على ذهاب المال لا يأسى على ذهاب المنزلة لا يأسى على الأذى لأنه يعلم أن الأمور بقضاء وقدر، وأن ما شاء الله كان، وأن ما لم يشأ لم يكن، وأن المؤمن إذا أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإذا أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، ثم إنه لا يفرح بما أوتي لأن الفرح بغير الحق ذلك من خصال غير المؤمنين، فالمؤمن إذاً بقضاء الله وقدره يثمر إيمانه بالقضاء والقدر أنه في هذه الدنيا ليس بذي أسى وحزن على ما فاته وليس بذي فرح واختيال وفخر على ما آتاه الله تعالى، وتأمل ختام الآية حيث قال تعالى: ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور[الحديد:23] لأن الفرح بغير الحق يوجب الاختيال ويوجب الفخر وكما ترى في حال كثيرين من الأغنياء فإن غناهم أوجب لهم فخراً واستطالة واستغناء، وهذا والعياذ بالله ليس من خصال المؤمنين حقاً.(/2)
أيها المؤمن: إيمانك بقضاء الله وبقدره يثمر لك أنك مخاطب بالعمل ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له))[2]، وتأمل قول الله جل و علا: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى[الليل:5-7] فرتب التيسير على العمل الصالح، على الإعطاء والتصديق، وكذلك رتب التعسير على التكذيب والاستغناء وعدم البذل، وهذا يعطيك أن إيمانك بقضاء الله وقدره لا يجعلك لا تعمل، بل تعمل وتتوكل على الله جل وعلا، ثم بعد ذلك أنت مؤمن بقضاء الله وبقدره.
ومن ثمرات إيمان المؤمن بقضاء الله وبقدره أن يعلم المؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهذا يجعله في طمأنينة وبرد وسلام فيما يحدث له.
ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر أن يعلم المؤمن أن حكمة الله ماضية، وأن الأمور لا يجرها حرص الحريص، وأن عمل الناس لا يجر الأشياء، وإنما العمل سبب، وقضاء الله وقدره نافذ، وحكمته بالغة، فيجعل المؤمن يعمل كما أمره الله، ثم هو يرى الأمور بأن قضاء الله وقدره نافذ لا محالة.
فمثلاً ينظر إلى ما فيه المسلمون مثلاً اليوم بما هم فيه من نكبات وما هم فيه من ضعف وعدم عزة وما هم فيه من هوان ينظر إلى ذلك أنه يوجب عليه أن يعمل لنصرة الإسلام ولنصرة دين الله ولإعلاء كلمة الله، لكنه لا يسوغ له حال المسلمين أن يكون يائساً، وأن يكون متخاذلاً، أو أن يعمل أشياء لم يوجبها الشرع، لأن ذلك ليس مقتضى الإيمان الصحيح وليس مقتضى الشريعة وأيضاً ليس مقتضى الإيمان بحكمة الله تعالى.
فإذاً المؤمن إذا آمن فهو متوازن في عقيدته، متوازن في أعماله، متوازن في نظرته للأمور وهو مع ذلك كله يخاف لإيمانه بالقضاء والقدر، يخاف من الخواتيم، ويخاف من السوابق، وقد قال بعض السلف: ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق. ينظر المؤمن إلى ما سبق أن كتبه الله فيبكي لا يدري ماذا كتب له، هل هو من أهل السعادة أم هو من أهل الشقاوة، فينظر إلى ذاك فتدمع عينه، ويسأل الله الثبات ويجاهد نفسه على الصلاح، وقال آخر من علماء السلف: ما أبكى العيون ما أبكاها سر الخواتيم. وقال آخر: قلوب الأبرار معلقة بالسوابق يقولون ماذا سبق لنا، وقلوب المحسنين معلقة بالخواتيم يقولون بماذا يختم لنا. وهذا هو حال المؤمن فإنه بقضاء الله وقدره بين مخافتين، بين أمر قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله خالق فيه.
وهذا من عجاب إيمان المؤمن بقضاء الله وقدره.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل الإيمان في قلوبنا يقينا وأن يجعلنا مطمئنين بالإيمان و أنه في قلوبنا كأمثال الجبال الراسيات، اللهم نسألك صدقاً في الإيمان وصدقاً في الأقوال وصدقاً في الأعمال اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً واجعلنا في أقوالنا وفي أعمالنا على ما تحب وترضى، واسمعوا قول الحق جل وعلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير[الحج:70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
---
[1] أخرجه البخاري ح (50) مختصراً عن أبي هريرة ، وأخرجه مسلم ح (8) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] رواه البخاري ح (4949) ، ومسلم (2647).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: إن أحسن الحديث كتاب الله، فخذوا العلم من كتاب الله، وإن خير الهدي هدي محمد بن عبد الله فاقتدوا بالمصطفى عليه الصلاة والسلام، وإن شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة وعليكم بلزوم التقوى أينما كنتم، فبالتقوى رفعتكم وبالتقوى نجاتكم ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً[الطلاق:4].
أيها المؤمنون: كثيرة الأسئلة التي يطرحها المسلمون حول القضاء والقدر، والذي يجب على المؤمن أن يسلم لقضاء الله وقدره قال علي : (القدر سر الله فلا تكشفه) أي لا تحاول كشفه فإنك لن تصل إلى شيء، القدر سر من أسرار الله ولا يمكن للمرء أن يصل إليه، فبهذا عليه أن يؤمن بما أوجب الله الإيمان به عليه أن يؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره، وأن لا ينازع القدر بقيل وقال وبسؤال، فإن كثرة السؤال منهي عنها، وإن الوساوس إذا كانت وساوس فإنها ربما كانت من الشيطان، فليدفعها المؤمن بقوة حتى يبقى له يقينه قوياً ثابتاً حتى لا يتردد ولا يكون في ريب لأن أمر القدر الأسئلة فيه كثيرة، وقد تردد أناس فيه فضلوا لأنه لا يمكن أن يعلموا حقيقة قدر الله وقضائه فهذا سر الله جل جلاله والأمر لله من قبل ومن بعد.(/3)
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمرنا أن نصلي على نبيه فقال سبحانه قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً[الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم على الأربعة الخلفاء، والأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.(/4)
الإيمان بالقدر وأثره
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1. الإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة.2. علم الله بما يكون سابق على خلقه المخلوقات.3. لا يحصل أمر لا وقد علمه جل وعلا ورضي حدوثه.4. الفرق بين القضاء والقدر.5. المطيع يوفقه الله لطاعته ، والعاصي يخذله الله ويبعده عن مراضيه.6. عقيدة القضاء والقدر تورث المؤمن اطمئناناً ويقيناً.7. المرء من بين مخافتين: الخوف من السابق والخوف من الخواتيم.
الخطبة الأولى
فيا أيها المؤمنون: وصية الله لكم أن اتقوا الله، ووصيتي إليكم أن تتمسكوا بتقوى الله عز وجل وأن لا تلهينا الدنيا عن مقتضى تقواه ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله[النساء:131]، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون[آل عمران:102].
أيها المؤمنون: إن الله جل وعلا جعل الإيمان به وهذا الدين مبنياً على أركان ستة عظام ألا وهي أركان الإيمان المعروفة، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
فهذا الإيمان إذا اكتمل جعل العبد مؤمناً حقاً وإذا نقص من الإيمان ما نقص من جهة اليقين أو من جهة الأعمال فإنه ينقص من الإيمان بحسبه وإن من تلكم الأركان التي بها برد اليقين والتي بها اطمئنان المؤمن لكل ما يجري في هذه الحياة، إن من تلكم الأركان ركن الإيمان بقدر الله تعالى خيره وشره منه جل وعلا.
وهذا الركن الأعظم من أركان الإيمان به يحصل المؤمن على الطمأنينة وعن إجابة كثير من الأسئلة لأن العجز عن الإدراك إدراك قال جل وعلا: إنا كل شيء خلقناه بقدر[القمر:49] وقال سبحانه: سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى[الأعلى:1-3] وقال جل وعلا: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً[الفرقان:1-2] وقال جل وعلا أيضاً في آخر سورة الحج: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير[الحج:70] وقال أيضاً جل وعلا: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور[الحديد:22-23].
والآيات في هذه المعنى عديدة وثبت في الصحيح أن النبي كان في أصحابه فجاءه جبريل عليه السلام يسأله عن الدين في غير صورته، في صورة رجل من الناس فسأله أسئلة فقال منها: أخبرني عن الإيمان فقال عليه الصلاة والسلام: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، قال جبريل: صدقت)) وفي آخر الحديث قال عليه الصلاة والسلام للناس حوله: ((أتدرون من السائل؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم))[1]، فدل على أن تعلم هذه الأركان وتعلم ما اشتمل عليه هذا الحديث إنما هو من الدين، وهل خطب الجمع وهل وعظ الواعظ وهل تعليم المعلم إلا لأمر الدين.
لهذا أيها المؤمنون: إن من أعظم الأركان كما ذكرنا الإيمان بالقضاء والقدر، وقد اختلفت الناس في أمر القضاء والقدر، والذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وكان عليه صحابة رسول الله أن القدر هو علم الله السابق بالأشياء قبل وقوعها، علم الله السابق الأزلي بالأشياء قبل وقوعها، وكتابته للأشياء مفصلة التي تقع، وذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعموم مشيئته النافذة في خلقه، وعموم خلقه جل وعلا للأشياء كلها، فهذا هو القدر عند الصحابة رضوان الله عليهم، وهو القدر عند أهل السنة والجماعة لهذا سار الإيمان بالقدر بأن تؤمن بعلم الله السابق الأزلي بالأشياء قبل وقوعها، فيؤمن المؤمن أن الله سبحانه لا يقع في ملكه شيء استئنافاً لم يكن علمه بل هو سبحانه علمه بالأشياء أزلي أول، لم يسبق ذلك جهل منه جل وعلا بما يقع، أراد الأشياء وعلمها فوقعت في ملكوته كما علم سبحانه وتعالى، ويؤمن المؤمن أن الله جل وعلا كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وكما أخبر بذلك ربنا جل وعلا في قوله: إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ويؤمن المؤمن بالقدر يعني يؤمن أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن الناس لو اجتمعوا على أن ينفذوا أمراً لم يشأه الله جل وعلا في ملكوته لم يقع إلا كما شاءه الله جل وعلا، ما أراده كوناً فلابد أن يقع، ومشيئة العبد تحت مشيئة الله وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً يدخل من يشاء في رحمته[الإنسان:30-31] الآية فما شاء الله كان، ما شاءه العباد لا يكون إلا إذا أذن الله به فوقع كوناً لمشيئة الله جل وعلا له.(/1)
ومن الإيمان بالقدر وهو ركن من أركانه أن يؤمن المؤمن أن الله جل وعلا خالق لكل شيء كما قال سبحانه: الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل[الزمر:62] والآيات في هذا المعنى كثيرة، فيؤمن المؤمن أنه لا يحصل شيء إلا والله تعالى خالقه، الحياة خلقها الله، والموت خلقه الله، والمرض خلقه الله يعني قدره، والحياة بأنواعها وبما اشتملت عليه خلقها الله جل وعلا وقدر ذلك، وكذلك كل ما ترى من أفعال العباد ومن الطاعات ومن المعاصي فإنه ليس شيء في الدنيا إلا والله جل وعلا خالقه: الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل.
إذا علمت ذلك أيها المؤمن وآمنت بذلك تبين لك أن الإيمان بالقضاء والقدر هو إيمان على مرتبتين:
إيمان بشيء سبق، وهو علم الله جل وعلا للأشياء وكتابته للأشياء في اللوح المحفوظ، وشيء حاضر تؤمن به، وهو أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، إذا أصابتك سراء علمت أنها من الله وإذا أصابتك ضراء علمت أنها من الله لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم وما يحصل إنما هو بمشيئة الله وبخلقه، ولهذا يسأل كثيرون ما الفرق بين القضاء والقدر؟ فيجيب أهل العلم أن القضاء هو ما قضي من القدر ووقع، لأن قضاء الشيء يعني انتهاءه كما قال سبحانه: فلما قضينا عليه الموت[سبأ:14] وكما قال جل وعلا: فاقض ما أنت قاض[طه:72] ونحو ذلك من الآيات التي تدل على أن القضاء هو وقوع الشيء وانتهاؤه.
وأما القدر فهو لما سبق في علم الله ولما كتب، فإذا وقع القدر صار قضاء، وهو قدر باعتبار الماضي، وهو قضاء باعتبار ما وقع وحل، إذا تبين لك هذا أيها المؤمن فاعلم أنه لا مكان في الإسلام لعقيدة الجبر، لا الجبر الظاهر ولا الجبر الباطن، بل الإنسان في الشريعة الإسلامية وفي عقيدة المسلم: الإنسان مخير، وليس مسيراً في الأمر والنهي، بل يختار: إما أن يختار طريق الخير وهديناه النجدين[البلد:10] وإما أن يختار طريق الشر قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها[الشمس:9-10] وعلم الله السابق وكتابته السابقة ليست جبراً، وإنما هي لقيام الحجة على العباد، وأنه لا يحصل شيء إلا والله جل وعلا عالم به لكمال علمه سبحانه: وكان الله بكل شيء عليماً[الأحزاب:40].
أيها المؤمن: المؤمن المسدد موفق يوفقه الله جل وعلا، والعاصي يخذله الله جل وعلا، ولهذا يرى المؤمن الصالح أن كل خير عمله مع أنه اختاره، لكن الله وفقه إليه، أعانه عليه وسدده ويسر له سبيله، فيرى العبد المؤمن أنه مختار وأن الله أعانه ووفقه على عمل الصالحات، وأما غير المسدد، أما العاصي، وأما الفاجر، وأما المنافق، وأما الكافر فكل بحسبه فإن الله تركهم لأنفسهم ولم يعنهم لحكمته ولما اشتملت عليه أنفسهم من أمور وما اشتملت عليه أعمالهم كما قال سبحانه: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل[النساء:160-161] إذاً التوفيق جزاء للصالحات، والخذلان وترك المرء لنفسه وعدم إعانته للخير جزاء للسيئات، وما كان الله ليظلم العباد وما ربك بظلام للعبيد[فصلت:46] سبحانه وتعالى.
إذا تبين هذا لنا علمت أن عقيدة القضاء والقدر تجعل في قلوبنا برداً وطمأنينة بحيث إن المؤمن لا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه الله كما قال الله جل وعلا: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير[الحديد:22].
لكي لا يعني ذلك العلم بأن الأمور سابقة بقدر وأن المصائب بقدر وأن الكتاب سابق لم نؤمن به؟ ولم أوجب الله الإيمان به؟ أولاً لحق الله تعالى وللإيمان بأسمائه وصفاته ثم لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم[الحديد:23] فالذي يؤمن إيماناً حقيقياً بالقضاء والقدر لا يأسى على ما فاته من الدنيا لا يأسى على موت الناس لا يأسى على ذهاب المال لا يأسى على ذهاب المنزلة لا يأسى على الأذى لأنه يعلم أن الأمور بقضاء وقدر، وأن ما شاء الله كان، وأن ما لم يشأ لم يكن، وأن المؤمن إذا أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإذا أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، ثم إنه لا يفرح بما أوتي لأن الفرح بغير الحق ذلك من خصال غير المؤمنين، فالمؤمن إذاً بقضاء الله وقدره يثمر إيمانه بالقضاء والقدر أنه في هذه الدنيا ليس بذي أسى وحزن على ما فاته وليس بذي فرح واختيال وفخر على ما آتاه الله تعالى، وتأمل ختام الآية حيث قال تعالى: ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور[الحديد:23] لأن الفرح بغير الحق يوجب الاختيال ويوجب الفخر وكما ترى في حال كثيرين من الأغنياء فإن غناهم أوجب لهم فخراً واستطالة واستغناء، وهذا والعياذ بالله ليس من خصال المؤمنين حقاً.(/2)
أيها المؤمن: إيمانك بقضاء الله وبقدره يثمر لك أنك مخاطب بالعمل ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له))[2]، وتأمل قول الله جل و علا: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى[الليل:5-7] فرتب التيسير على العمل الصالح، على الإعطاء والتصديق، وكذلك رتب التعسير على التكذيب والاستغناء وعدم البذل، وهذا يعطيك أن إيمانك بقضاء الله وقدره لا يجعلك لا تعمل، بل تعمل وتتوكل على الله جل وعلا، ثم بعد ذلك أنت مؤمن بقضاء الله وبقدره.
ومن ثمرات إيمان المؤمن بقضاء الله وبقدره أن يعلم المؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهذا يجعله في طمأنينة وبرد وسلام فيما يحدث له.
ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر أن يعلم المؤمن أن حكمة الله ماضية، وأن الأمور لا يجرها حرص الحريص، وأن عمل الناس لا يجر الأشياء، وإنما العمل سبب، وقضاء الله وقدره نافذ، وحكمته بالغة، فيجعل المؤمن يعمل كما أمره الله، ثم هو يرى الأمور بأن قضاء الله وقدره نافذ لا محالة.
فمثلاً ينظر إلى ما فيه المسلمون مثلاً اليوم بما هم فيه من نكبات وما هم فيه من ضعف وعدم عزة وما هم فيه من هوان ينظر إلى ذلك أنه يوجب عليه أن يعمل لنصرة الإسلام ولنصرة دين الله ولإعلاء كلمة الله، لكنه لا يسوغ له حال المسلمين أن يكون يائساً، وأن يكون متخاذلاً، أو أن يعمل أشياء لم يوجبها الشرع، لأن ذلك ليس مقتضى الإيمان الصحيح وليس مقتضى الشريعة وأيضاً ليس مقتضى الإيمان بحكمة الله تعالى.
فإذاً المؤمن إذا آمن فهو متوازن في عقيدته، متوازن في أعماله، متوازن في نظرته للأمور وهو مع ذلك كله يخاف لإيمانه بالقضاء والقدر، يخاف من الخواتيم، ويخاف من السوابق، وقد قال بعض السلف: ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق. ينظر المؤمن إلى ما سبق أن كتبه الله فيبكي لا يدري ماذا كتب له، هل هو من أهل السعادة أم هو من أهل الشقاوة، فينظر إلى ذاك فتدمع عينه، ويسأل الله الثبات ويجاهد نفسه على الصلاح، وقال آخر من علماء السلف: ما أبكى العيون ما أبكاها سر الخواتيم. وقال آخر: قلوب الأبرار معلقة بالسوابق يقولون ماذا سبق لنا، وقلوب المحسنين معلقة بالخواتيم يقولون بماذا يختم لنا. وهذا هو حال المؤمن فإنه بقضاء الله وقدره بين مخافتين، بين أمر قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله خالق فيه.
وهذا من عجاب إيمان المؤمن بقضاء الله وقدره.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل الإيمان في قلوبنا يقينا وأن يجعلنا مطمئنين بالإيمان و أنه في قلوبنا كأمثال الجبال الراسيات، اللهم نسألك صدقاً في الإيمان وصدقاً في الأقوال وصدقاً في الأعمال اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً واجعلنا في أقوالنا وفي أعمالنا على ما تحب وترضى، واسمعوا قول الحق جل وعلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير[الحج:70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري ح (50) مختصراً عن أبي هريرة ، وأخرجه مسلم ح (8) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] رواه البخاري ح (4949) ، ومسلم (2647).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: إن أحسن الحديث كتاب الله، فخذوا العلم من كتاب الله، وإن خير الهدي هدي محمد بن عبد الله فاقتدوا بالمصطفى عليه الصلاة والسلام، وإن شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة وعليكم بلزوم التقوى أينما كنتم، فبالتقوى رفعتكم وبالتقوى نجاتكم ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً[الطلاق:4].
أيها المؤمنون: كثيرة الأسئلة التي يطرحها المسلمون حول القضاء والقدر، والذي يجب على المؤمن أن يسلم لقضاء الله وقدره قال علي : (القدر سر الله فلا تكشفه) أي لا تحاول كشفه فإنك لن تصل إلى شيء، القدر سر من أسرار الله ولا يمكن للمرء أن يصل إليه، فبهذا عليه أن يؤمن بما أوجب الله الإيمان به عليه أن يؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره، وأن لا ينازع القدر بقيل وقال وبسؤال، فإن كثرة السؤال منهي عنها، وإن الوساوس إذا كانت وساوس فإنها ربما كانت من الشيطان، فليدفعها المؤمن بقوة حتى يبقى له يقينه قوياً ثابتاً حتى لا يتردد ولا يكون في ريب لأن أمر القدر الأسئلة فيه كثيرة، وقد تردد أناس فيه فضلوا لأنه لا يمكن أن يعلموا حقيقة قدر الله وقضائه فهذا سر الله جل جلاله والأمر لله من قبل ومن بعد.(/3)
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمرنا أن نصلي على نبيه فقال سبحانه قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً[الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم على الأربعة الخلفاء، والأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.(/4)
الإيمان بالقدر والقضاء .. وجوبه وثمرته
140
القضاء والقدر
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
ملخص الخطبة
1- الدنيا دار بلاء 2- الحكمة من وقوع البلاء على المؤمن 3- جزاء الصبر في الآخرة
الخطبة الأولى
أما بعد، أيها الناس، اتقوا الله، واعملوا صالحاً يحبه ربكم ويرضاه، وخذوا من دنياكم الحذر، وآمنوا بكل ما يجري به القدر، ولا تستبدلوا ما هداكم الله له من الطاعة بالمعصية فتحل بكم الغير، ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53]. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ % جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [إبراهيم:28-29].
أيها المسلمون، إن دنياكم هذه مليئة بالمصائب والرزايا والمحن والبلايا، إلى جانب ما فيها من كريم المنح وجليل العطايا، وأنواع ما يجود الله به من تنفيس الكروب وتيسير العسير وصرف المنايا؛ فهي دار شدة ورخاء، وسراء وضراء، ومرح وترح، وضحك وبكاء، تتجدد فيها الحادثات، وتتنوع فيها الابتلاءات، ويبتلى أهلها بالمتضادات؛ ليعتبر بها المعتبرون، ويغتنمها الموفقون، وليغتر بها المغترون، ويهلك بها الهالكون: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما ءاتاكم والله لا يحب كل مختال فخور [الحديد:23]. لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [محمد:31]. فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]. ولذا فكم ترون في الدنيا من أصناف الشاكين وأنواع الباكين، فهذا يشكوا علة وسقماً، وذاك يشكو حاجة وفقراً، وثالث يبكي على فراق حبيب أو وفاة قريب، أو فوات نصيب من دنياه، غير مؤمن بما قدره الله وقضاه.
أيها المسلمون، إن شكوى الله على الخلق والبكاء على الغائب من أمارات وموجبات ضعف الإيمان، ومن مظاهر اليأس من روح الملك الديان، ومن دواعي القنوط من رحمة الله الرحيم الرحمن، وتلكم من خصال شر البرية الذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية؛ ولهذا تجدون بعض هؤلاء إذا نزلت بأحدهم النازلة أو حلت به الكارثة ضاقت عليه المسالك، وترقب أفجع المهالك، فضاق صدره، ونفد صبره، واضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرت همومه، وتوالت غمومه، فصد عن الحق، وتعلق بمن لا يملك نفعه ولا ضره من الخلق؛ يأساً من روح الله وقنوطاً من رحمته، وذلك هو الخسران المبين في الدارين؛ فإن التعلق بالمخلوقين والإعراض عن رب العالمين شرك بنص الكتاب المبين: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:106-107].
أيها المؤمنون، أما من آمن بالله وعرف حقيقة دنياه، وسلم لربه فيما قدره وقضاه، فإنه يصبر على الضراء ويشكر على السراء، ويطيع ربه في حالتي الشدة والرخاء، ويذكره في جميع الآناء؛ لعلمه أن الله ـ تعالى ـ مع عبده ما ذكره، وأنه عند ظنه به، وأنه يبتلي العبد بالخير وضده؛ ليختبر صبره ويستخلص إيمانه، ويظهر توكله على ربه وحسن ظنه به، وليجزل مثوبته ويعلي درجته، ويظهر للناس في الدنيا والآخرة أن هذا العبد أهل لكرامته، وصالح لمجاورته في جنته.
وفي صحيح مسلم ـ رحمه الله ـ عن النبي قال: ((عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له))[1].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة وأبي سعيد ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي قال: ((ما يصيب المؤمن نصب ـ أي: تعب ـ ولا وصب ـ أي: مرض ـ ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه))[2]. وفيهما أيضا عنه قال: ((ما من مسلم يصيبه أذى؛ شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها من سيئاته، وحط عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها))[3].
وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله ـ تعالى ـ وما عليه خطيئة)) [4]، وفيه أيضا عن أنس قال: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بعبده خيرا عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة)) [5].(/1)
وقال النبي : ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله ـ تعالى ـ إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) [6]، وفيه أيضا عنه قال: ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه)) [7].
وفي المسند وغيره عن رسول الله قال: ((إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل، ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده، ثم صبر على ذلك حتى يبلغ المنزلة التي سبقت له من الله ـ عز وجل ـ))[8].
عباد الله، كم من محنة في طيها منح ورحمات، وكم من مكروه يحل بالعبد ينال به رفيع الدرجات وجليل الكرامات، وصدق الله العظيم إذ يقول: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]. ويقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ، واصبروا وأمِّلوا يثبتكم الله، واكلفوا من العمل ما تطيقون تحمدوا عقباه، ولا تطغينكم الصحة والثراء والعثرة والرخاء، ولا تضعفنكم الأحداث والشدائد والمصيبات والبليات؛ فإن فرج الله آت ورحمته قريب من المحسنين، وما عند الله لا ينال إلا بطاعة، مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والبيان.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه يحب التوابين وهو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم ح (2999).
[2] صحيح البخاري ح (5318) ، صحيح مسلم ح (2573).
[3] صحيح البخاري ح (5324) ، صحيح مسلم ح (2572).
[4] صحيح ، سنن الترمذي ح (2399) وقال : حديث حسن صحيح.
[5] صحيح ، المصدر السابق ح (2396).
[6] حسن ، المصدر السابق ح (2396) وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه.
[7] صحيح ، المصدر السابق ح (2398).
[8] صحيح ، أخرجه أحمد (5/272) وأبو داود (3090).(/2)
الإيمان بالقضاء والقدر
أولاً: التعريف:
أ- تعريف القضاء والقدر لغةً وشرعا وبيان العلاقة المعنيين.
ب- هل هناك فرق بين القضاء والقدر؟
ثانياً: إثبات القضاء والقدر:
أ- الأدلة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر.
ب- النصوص الدالة على تقدير الله تعالى لأفعال العباد.
ج- مراتب القدر.
د- حدود نظر العقل في القدر.
ثالثاً: أهمية الإيمان بالقضاء والقدر:
أ- منزلة الإيمان بالقضاء والقدر بين بقية أركان الإيمان.
ب- الإيمان بالقدر في الأديان السماوية.
رابعاً: القضاء والقدر واعتقاد الناس:
أ- مذاهب الناس في القضاء والقدر.
ب- منشأ ضلال القدرية والجبرية.
ج- مناقشة الجبرية والقدرية إجمالاً.
د- محاورة أهل السنة للقدرية.
هـ- من أقوال السلف والأئمة في الإيمان بالقدر.
خامساً: مسائل متفرقة:
أ- حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي.
ب- شبهة من استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: ((فحج آدم موسى)).
ج- هل نحن مأمورون بالرضا بقضاء الله وقدره؟
سادساً: مذهب أهل السنة في مسائل تتعلق بالقضاء والقدر:
أ- التحسين والتقبيح.
ب- وجوب فعل الأصلح.
ج- الاستطاعة.
د- الحكمة والتعليل.
هـ- تكليف ما لا يُطاق.
و- معنى الظلم.
سابعاً: ثمرات الإيمان بقضاء الله وقدره.
أولاً: التعريف:
أ- تعريف القضاء والقدر لغة وشرعا وبيان العلاقة بين المعنيين:
تعريف القضاء والقدر:
القضاء لغة: الإحكام والإتقان وإتمام الأمر.
قال ابن فارس: "القاف والضاد والحرف المعتلّ أصلٌ صحيح يدلّ على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته".
وقال ابن الأثير: "القضاء في اللغة على وجوه، مرجعها انقطاع الشيء وتمامه".
ويأتي أيضاً بمعنى القدر.
وقد ورد لفظ القضاء في القرآن كثيراً فمن المعاني التي ورد بها:
1- معنى الأمر، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ...} [الإسراء:23].
قال قتادة: "أي: أمر ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه، فهذا قضاء الله العاجل".
2- معنى الإنهاء، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ} [الحجر:66] أي: تقدمنا وأنهينا، قال الجوهري: "أي: أنهيناه وأبلغناه".
3- معنى الفراغ، ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاواتٍ فِى يَوْمَيْنِ} [فصلت:12].
قال الطبري: "فرغ من خلقهن سبع سموات في يومين".
6،5،4- ويأتي أيضاً بمعنى الأداء، والإعلام، والموت، وغيرها.
القدر لغة: يطلق على الحكم والقضاء والطاقة.
قال ابن فارس: "القاف والدال والراء، أصلٌ صحيح يدلّ على مبلغ الشيء كنهَه ونهايته".
ويأتي على معان:
1- معنى الطاقة.
2- التضييق، ومنه قوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7]، قال الراغب الأصفهاني: "أي: ضيّق عليه، وقدرت عليه الشيء ضيقته، كأنما جعلته بقدرٍ".
ويأتي لمعاني أُخر.
القضاء والقدر شرعاً:
قال الشيخ محمد خليل الهرّاس: "والمراد به في لسان الشرع: أن الله عز وجل علم مقادير الأشياء وأزمانها أزلاً، ثم أوجدها بقدرته ومشيئته على وفق ما علمه منها، وأنه كتبها في اللوح قبل إحداثها".
وقيل: "هو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمُه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابتُه سبحانه لذلك، ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدّرها، وخلقُه لها".
العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي:
يتبين مما سبق أن بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي لكل من القضاء والقدر ترابطًا قويًّا، فمعاني القضاء في اللغة ترجع إلى إحكام الأمر وإتقانه وإنفاذه، ومن معانيه: الأمر والحكم والإعلام، كما أن معاني القدر ترجع إلى التقدير والقدرة، والله سبحانه وتعالى قدّر مقادير الخلق، فعلمها وكتبها وشاءها وخلقها، وهي مقضيّة ومقدّرة فتقع حسب أقدارها كما أمر الله تعالى أن تقع، وهذا كله لا يخرج عن المعاني اللغوية للكلمتين.
ب- هل هناك فرق بين القضاء والقدر؟
انقسم العلماء في ذلك إلى فريقين:
الفريق الأول: قالوا: إنه لا فرق بين القضاء والقدر، فكل واحد منهما في معنى الآخر، فإذا أطلق التعريف على أحدهما شمل الآخر، ولذلك إذا أطلق القضاء وحده فسّر بالقدر، وكذلك القدر، فلا فرق بينهما في اللغة، كما أنه لا دليل على التفريق بينهما في الشرع.
الفريق الثاني: قالوا بالفرق بينهما، لكنهم اختلفوا في التمييز بينهما على أقوال:
القول الأول: قول أبي حامد الغزالي أن هناك بالنسبة لتدبير الله وخلقه ثلاثة أمور:
1- الحكم: وهو التدبير الأول الكلّي والأمر الأزلي.
2- القضاء: وهو الوضع الكلي للأسباب الكلية الدائمة.
3- القدر: وهو توجيه الأسباب الكلية بحركاتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة المحدودة بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص".
القول الثاني: ما نقله الحافظ ابن حجر عن بعض العلماء أنهم قالوا: القضاء هو الحكم الكلّي الإجمالي في الأزل، والقدر: جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله.(/1)
القول الثالث: ما نقله الراغبُ الأصفهاني: أن القدر بمنزلة المعِدّ للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل، وهذا كما قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنه لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: أتفرّ من القضاء؟ قال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله، تنبيهاً على أن القدر ما لم يكن قضاءً فمرجوٌ أن يدفعه الله، فإذا قضي فلا مدفع له.
القول الرابع: قول الأشعرية: إن القضاء إرادة الله الأزلية المتعلقة بالأشياء على وفق ما توجد عليه وجودها الحادث، كإرادته تعالى الأزلية بخلق الإنسان في الأرض. والقدر هو إيجاد الله الأشياء على مقاديرها المحدّدة بالقضاء في ذواتها وصفاتها وأفعالها وأطوالها وأزمنتها وأمكنتها وأسبابها، كإيجاد الله الإنسان فعلاً على وجه الأرض طبق ما سبق في قضائه سبحانه.
القول الخامس: قول الماتريدّية: إن القضاء راجع إلى التكوين كخلق الله الإنسان على ما هو عليه طبق الإرادة الأزلية. والقدر هو التقدير، وهو جعل الشيء بالإرادة على مقدار محدد قبل وجوده، ثم يكون وجوده في الواقع بالقضاء على وفق التقدير، كإرادته تعالى في الأزل إيجاد الإنسان على وجه مخصوص وصورة مخصوصة محددة المقادير.
خلاصة الأقوال:
1- الذين فرّقوا بينهما ليس لهم دليلٌ واضح من الكتاب والسنة، يفصل في القضية.
2- عند إطلاق أحدهما يشمل الآخر، وهذا يوحي بأنه لا فرق بينهما في الشرع؛ ولذا فالراجح أنه لا فرق بينهما.
3- ولا فائدة من هذا الخلاف؛ لأنه قد وقع الاتفاق على أن أحدهما يطلق على الآخر، وعند ذكرهما معاً، فلا مشاحة من تعريف أحدهما بما يدل عليه الآخر. والله أعلم.
مقاييس اللغة (5/99).
النهاية في غريب الحديث (4/78).
انظر: لسان العرب (15/186) مادة: قضى.
تفسير الطبري (17/413).
انظر: الصحاح للجوهري (6/2463)، ولسان العرب (15/187) مادة: قضى.
انظر: تفسير ابن كثير (2/575).
الصحاح (6/2464).
المصدر السابق (6/2464).
تفسير الطبري (21/440).
انظر: الصحاح (6/2464).
لسان العرب (15/187).
الصحاح (6/2463)، ولسان العرب (15/187).
مقاييس اللغة (5/62).
التكملة والذيل والصلة للصغاني (3/159-160).
مفردات القرآن (ص 659).
شرح العقيدة الواسطية (ص 65).
القضاء والقدر للدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود (ص 39-40).
انظر: القضاء والقدر للدكتور المحمود (ص 39).
القضاء والقدر للدكتور عبد الرحمن المحمود (ص 40-41).
الأربعين في أصول الدين للغزالي (ص 24)، وانظر: الدين الخالص لصديق حسن خان (3/154).
فتح الباري (11/486).
مفردات القرآن (ص 675-676). وانظر: إرشاد الساري للقسطلاني (9/343).
العقيدة الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن حبنكة (ص 626) باختصار.
المصدر السابق. وانظر: الماتريدية دراسةً وتقويماً لأحمد الحربي (ص 435-437).
القضاء والقدر للمحمود (ص 44).
ثانياً: إثبات القضاء والقدر:
أ- الأدلة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر:
قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].
قال الشوكاني: "إن كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه متلبساً بقدرٍ قدّره، وقضاءٍ قضاه سبق في علمه، مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه".
وقال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} [الأحزاب:38].
قال الحافظ ابن كثير: "أي: وكان أمره الذي يقدّره كائناً لا محالة، وواقعاً لا محيد عنه، ولا معدل، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن".
وقال صديق حسن خان: "أي: قضاء مقضياً، وحكماً مبتوتاً، وهو كظل ظليل، وليلٍ أليل، وروض أريض في قصد التأكيد".
ومن السنة حديث جبريل المشهور وفيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: ((أن تؤمن بالله ملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره)).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيره وشرّه من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)).
قال الحافظ ابن حجر: "الإيمان بالقدر من أركان الإيمان، ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى كما قال تعالى: {وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر:21]".
ب- النصوص الدالة على تقدير الله أفعال العباد:
1- أعمال العباد جفت بها الأقلام وجرت بها المقادير:
عن سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله، بيّن لنا ديننا، كأنا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؛ أفيما جفّت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قال: ((لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير))، قال: ففيم العمل؟ فقال: ((اعملوا فكلٌ ميسَّرٌ))، وفي رواية: ((فكلٌ ميسرٌ لما خلق له)).
2- علم الله بأهل الجنة وأهل النار:(/2)
عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصره فنكّس، فجعل ينكت بمخضرته، ثم قال: ((ما منكم من أحدٍ، ما من نفسٍ منفوسةٍ إلاّ كُتب مكانها من الجنة والنار، وإلاّ كُتب شقيّة أو سعيدة))، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، قال: ((أما أهل السعادة فيُيسّرون لعمل السعادة، وأمّا أهل الشقاوة فييسّرون لعمل أهل الشقاوة))، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى E وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}.
3- استخراج ذريّة آدم من ظهره بعد خلقه، وقسمهم إلى فريقين: أهل الجنة، وأهل النار:
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان ـ يعني: عرفة ـ فأخرج من صلبه كل ذريّة ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذّر، ثم كلمهم قِبلا قال: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172-173])).
وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذريته بيضاء كأنهم الذّر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذريّة سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي)).
4- كتابة أجل الإنسان وعمله ورزقه وشقي أو سعيد وهو جنين في رحم أمّه:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويُقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقيٌ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل النار فيدخل النار)).
ج- ومراتب القدر:
الإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً، وعلم جميعَ أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، ((فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة))، فما أصاب الإنسانَ لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام، وطويت الصحف، كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاء وَالأرْضِ إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] وقال: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].
وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملةً وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ونحو ذلك، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدريّة قديماً، ومنكره اليوم قليل.
وأما الدرجة الثانية: فهو مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلاّ بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلاّ ما يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات.
فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلاّ الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره ولا رب سواه. ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة؛ والله خالقهم، وخالق قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ b وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29].
فهي إذاً أربع مراتبٌ وهي إجمالاً:
الأولى: العلم، أي: أن الله علم ما الخلق عاملون بعمله القديم.
الثانية: الكتابة، فالله كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ.(/3)
الثالثة: المشيئة، أي: أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ليس في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئته سبحانه، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد.
الرابعة: الخلق والتكوين، فالله خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد كما دلت على ذلك النصوص.
الأدلة على هذه المراتب:
أولاً: العلم:
قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ اله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:22].
قال النسفي: "أي: السرّ والعلانية في الدنيا والآخرة، أو المعدوم والموجود".
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن أولاد المشركين قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)).
وبوّب البخاري في كتاب القدر: "باب جفّ القلم على علم الله".
قال الحافظ: ابن حجر معلقاً: "أي: على حكمه لأن معلومه لا بدّ أن يقع، فعلمه بمعلوم يستلزم الحكم بوقوعه".
ثانياً: الكتابة:
قال تعالى: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68].
قال العلامة ابن سعدي: "{لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ} به القضاء والقدر، أنه أحلّ لكم الغنائم، وأن الله رفع عنكم ـ أيتها الأمة ـ العذاب، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}".
والدليل من السنة على هذه المرتبة حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة))، قال: ((وكان عرشه على الماء)).
قال النووي: "قال العلماء: المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له، وقوله ((وعرشه على الماء)) أي: قبل خلقه السماوات والأرض".
ثالثاً: المشيئة:
ودليلها من القرآن قوله تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ b وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28، 29].
قال القرطبي: "فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق الله، ولا شرا إلا بخذلانه، وقال الحسن: والله، ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه الله لها، وقال وهب بن منبه: قرأت في سبعة وثمانين كتابا مما أنزل الله على الأنبياء: من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر. وفي التنزيل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} [الأنعام:111]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100]، وقال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء} [القصص:56]، والآي في هذا كثيرة، وكذلك الأخبار وأن الله سبحانه هدى بالإسلام وأضل بالكفر كما تقدم في غير موضع".
قال ابن كثير: "أي: ليست المشيئة موكولةً إليكم فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله تعالى رب العالمين، قال سفيان الثوري عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى: لما نزلت هذه الآية: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله تعالى: {وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}".
ومن السنة ما رواه أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دعوتم الله فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم: إن شئت فأعطني، فإن الله لا مستكره له)).
قال الحافظ ابن حجر: "قوله: ((لا مستكره له)) أي: لأن التعليق يوهم إمكان إعطائه على غير المشيئة، وليس بعد المشيئة إلا الإكراه، والله لا مكره له".
هذا وقد بوّب الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد "باب: في المشيئة والإرادة"، قال ابن بطال: "معنى هذا الباب: إثبات المشيئة والإرادة لله تعالى".
رابعاً: الخلق:
قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95-96].
قال الحافظ ابن كثير: "يحتمل أن تكون (ما) مصدرية، فيكون تقدير الكلام: خلقكم وعملَكم، ويحتمل أن تكون بمعنى (الذي) تقديره: والله خلقكم والذي تعلمونه، وكلا القولين متلازم، والأول أظهر".
ومن السنة حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله بن قيس، ألا أدلّك على كنز من كنوز الجنة؟)) فقلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل: لا حول ولا وقوة إلا بالله)).
قال النووي في بيان سبب كون هذه الكلمة كنزا من كنوز الجنة: "قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا رادّ لأمره، وإن العبد لا يملك شيئاً من الأمر".
د- حدود نظر العقل في القدر:(/4)
ينبغي للعقل أن يستنير في هذا الباب بالوحي وإلا ضلّ ضلالا مبينا.
قال أبو المظفّر السمعاني: "سبيل المعرفة في هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضلّ وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء العين ولا ما يطمئن به القلب، لأن القدر سرٌ من أسرار الله تعالى اختصّ العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرّب".
وقال الطحاوي: "وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمّق في ذلك ذريعة الخذلان وسُلَّم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه كما قال تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء:23]".
ويقول الإمام أحمد: "من السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقبلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها. لا يقال: لم؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق والإيمان بها. ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كُفي ذلك وأحكم له. فعليه بالإيمان به والتسليم له، مثل حديث الصادق المصدوق، وما كان مثله في القدر".
وهذا الذي قرّره أهل العلم في القدر يضع لنا عدة قواعد في غاية الأهمية:
الأولى: وجوب الإيمان بالقدر.
الثانية: الاعتماد في معرفة القدر وحدوده وأبعاده على الكتاب والسنة، وترك الاعتماد في ذلك على نظر العقول ومحض القياس؛ فالعقل الإنساني لا يستطيع بنفسه أن يضع المعالم والركائز التي تنقذه في هذا الباب من الانحراف والضلال، والذين خاضوا في هذه المسألة بعقولهم ضلوا وتاهوا، فمنهم من كذّب بالقدر، ومنهم من ظن أن الإيمان بالقدر يستلزم القول بالجبر، ومنهم من ناقض الشرع بالقدر، وكل انحراف من هذه الانحرافات سبَّب مشكلات في واقع البشر وحياتهم ومجتمعاتهم، فالانحراف العقائدي يسبب انحرافاً في السلوك وواقع الحياة.
الثالثة: ترك التعمّق في البحث في القدر، فبعض جوانبه لا يمكن للعقل الإنساني مهما كان نبوغه أن يستوعبها، وبعضها الآخر لا يستوعبها إلاّ بصعوبة كبيرة.
قد يُقال: أليس هذا النهج حجرًا على العقل الإنساني؟
والجواب: إن هذا ليس بحجر على الفكر الإنساني، بل هو صيانة لهذا العقل من أن تتبدَّد قواه في غير المجال الذي يحسن التفكير فيه.
إن السؤال عن الكيفية هو الذي أتعب الباحثين في القدر، وجعل البحث فيه من أعقد الأمور وأصعبها، وهو سبب الحيرة التي وقع فيها كثير من الباحثين.
ولذا فقد نصّ جمعٌ من أهل العلم على المساحة المحذورة التي لا يجوز دخولها في باب القدر كما تقدم النقل عن الإمام أحمد.
فتح القدير (5/129).
تفسير ابن كثير (3/783).
فتح البيان في مقاصد القرآن (7/375).
رواه مسلم في الإيمان (8) من حديث عمر رضي الله عنه.
رواه الترمذي في القدر، باب: ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشرّه (2144) وقال: "هذا حديث غريب لا تعرفه إلاّ من حديث عبد الله بن ميمون، وعبد الله بن ميمون منكر الحديث"، ولكن الحديث له شواهد تؤيده، وصححه الألباني كما في صحيح الترمذي (1143) والسلسلة الصحيحة (2439).
فتح الباري (11/478).
رواه مسلم في القدر، باب: كيفية خلق الآدمي (2649).
رواه البخاري في الجنائز، باب: موعظة المحدث عند القبر (1362)، ومسلم في القدر، باب: كيفية خلق الآدمي (2647).
رواه أحمد (3451)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/43).
رواه أحمد (26942)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/42-43).
رواه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته (3332)، ومسلم في القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه (2643).
رواه أبو داود في باب في القدر (4700)، والترمذي في تفسير القرآن، باب: سورة نوح والقلم (3319)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3/123) والصحيحة (133).
مجموع الفتاوى (3/148-150) باختصار.
القضاء والقدر للمحمود (ص40)، وانظر: شفاء العليل لابن القيم (1/91)، ومعارج القبول للحكمي (3/920-940).
تفسير النسفي (4/244).
رواه البخاري في القدر، باب: الله أعلم بما كانوا عاملين (6597)، ومسلم في القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة (2660).
فتح الباري (11/500).
تيسير الكريم الرحمن (ص 326). تحقيق عبد الرحمن اللويحق.
رواه مسلم في القدر، باب: حجاج آدم موسى (2653).
شرح صحيح مسلم (16/203).
الجامع لأحكام القرآن (19/243).
تفسير القرآن العظيم (4/481).
رواه البخاري في التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة (7464).
فتح الباري (13/459).
شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/477).
تفسير ابن كثير (4/15).
رواه البخاري في القدر، باب: لا حول ولا قوة إلا بالله (6610)، ومسلم في الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر (2704).(/5)
شرح صحيح مسلم (17/26).
انظر: فتح الباري (11/486).
شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص 276).
انظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/241-242).
القضاء والقدر للدكتور عمر الأشقر (ص48-49) باختصار.
ثالثاً: أهمية الإيمان بالقضاء والقدر:
أ- منزلة الإيمان بالقضاء والقدر بين بقية أركان الإيمان:
ترجع أهمية هذا الركن ومنزلته بين بقية أركان الإيمان إلى عدة أمور:
الأول: ارتباطه مباشرة بالإيمان بالله تعالى، وكونه مبنياً على المعرفة الصحيحة بذاته تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته الكاملة الواجبة له تعالى. وقد جاء في صفاته سبحانه صفة العلم والإرادة والقدرة والخلق، ومعلومٌ أن القدر إنما يقوم على هذه الأسس.
ولا شك أن الإقرار بتوحيد الله وربوبيته لا يتم إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فمن زعم أن هناك خالقاً غير الله تعالى فقد أشرك، والله تعالى خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد.
الثاني: حين ننظر إلى هذا الكون ونشأته وخلق الكائنات فيه ومنها هذا الإنسان نجد أن كل ذلك مرتبط بالإيمان بالقدر فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ربّ، وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، والإنسان يوجد على هذه الأرض، وينشأ تلك النشأة الخاصة، ويعيش ما شاء الله في حياة متغيّرةٍ فيها الصحة والسقم، والغنى والفقر، والقوة والضعف... وينظر الإنسان من حوله فيرى تفرّق هذه الصفات على الناس؛ فلا يجد إلا العقيدة الصحيحة، وعلى رأسها الإيمان بالقدر.
الثالث: الإيمان بالقدر هو المحكّ الحقيقيّ لمدى الإيمان بالله تعالى على الوجه الصحيح، وهو الاختبار القويّ لمدى معرفة الإنسان بربّه تعالى، وما يترتب على هذه المعرفة من يقين صادق بالله، وبما يجب له من صفات الجلال والكمال.
وقد كثر الاختلاف حول القدر، وتوسع الناس في الجدل والتأويل لآيات القرآن الواردة بذكره، بل وأصبح أعداء الإسلام في كل زمان يثيرون البلبلة في عقيدة المسلمين، ودسّ الشبهات حوله، ومن ثم أصبح لا يثبت على الإيمان الصحيح واليقين القاطع إلاّ من عرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، مسلِّماً الأمر لله، مطمئنَّ النفس، واثقاً بربه تعالى، فلا تجد الشكوك والشبهات إلى نفسه سبيلاً، وهذا ولا شك أكبر دليل على أهمية الإيمان به بين بقيّة الأركان.
ب- الإيمان بالقدر في الأديان السماوية:
لم يختصّ المسلمون أتباع محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالقدر، بل كان الإيمان به قديماً في الأديان السماوية، وهذه بعض صوره كما ورد في القرآن الكريم.
1- في قصة نوح عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى: {قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:32-34].
فقوله: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَاء} أي: إن اقتضت مشيئته وحكمته أن ينزله بكم فعل ذلك، وأنا ليس بيدي من الأمر شيء. وقوله: {إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ}: أي: إرادة الله غالبة، فإنه إذا أراد أن يغويكم لردكم الحق، فلو حرصتُ غاية مجهودي، ونصحت لكم أتمَّ النصح، وهو قد فعل عليه السلام، فليس ذلك بنافع لكم شيئاً، {هُوَ رَبُّكُمْ} يفعل بكم ما يشاء، ويحكم فيكم بما يريد.
2- وفي قصة إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام لما أراد ذبحه بأمر بالله، يقول تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يابُنَىَّ إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، فقوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ}: أي العمل كما قال ابن عباس، أو المشي. والمعنى: مشى مع أبيه كما قاله قتادة. وقوله: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} قال ابن سعدي: "أخبر أباه أنه موطِّن نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة الله تعالى؛ لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله تعالى".
3- وفي قصة يوسف عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ يأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السّجْنِ وَجَاء بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100].(/6)
قال ابن كثير: "{إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء}، أي: إذا أراد أمراً قيّض له أسباباً ويسره وقدّره، {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بمصالح عباده، {الْحَكِيمُ} في أفعاله وأقواله وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده".
فيوسف عليه السلام كان مؤمناً بالقدر، موقناً أن ما جرى ويجري له ولغيره إنما هو بقضاء الله وقدره.
4- وموسى عليه الصلاة والسلام، ذكر الله عنه إيمانه بأن الهداية والإضلال بيد الله وهما تحت مشيئته فقال تعالى في معرض قصته: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:155].
فقوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ} ذكر ابنُ جُزي احتمالين في تفسيره، الاحتمال الثاني: أن يكون قال ذلك على وجه التضرع والاستسلام لأمر الله، كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل ذلك لفعلت، فإنا عبيدك وتحت قهرك، وأنت تفعل ما تشاء.
5- ويقول تعالى عن زكريا ومريم: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37].
فقوله: {إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} الراجح أنه من كلام مريم.
وهو يفيد التقرير بأن الله قد يرزق بعض عباده بغير حساب، وأن ذلك مرتبط بمشيئته سبحانه.
6- قصة الرجل صاحب الجنتين، قال تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ...} [الكهف:39].
قال الزجاح والفراء: "الأمر ما شاء الله، أو هو ما شاء الله، أي: الأمر مشيئة الله تعالى".
7- قصة خسف قارون، قال تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82].
فقوله: {يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} إقرار منهم بأن الله تعالى هو الذي يبسط الرزق لبعض عباده ويضيّقه على بعضهم، فله الأمر، يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى.
فهذه النصوص تدل على عدّة أمور:
أحدها: أن الأصل في البشرية التوحيد خلافاً لنظريّة تطوّر الأديان.
الثاني: أن الإقرار بالقدر جزء من هذا التوحيد الذي هو دين أبينا آدم، ودين الرسل من بعده.
الثالث: وحدة دين الرسل من جهة العقيدة وإن اختلفت شرائعهم، والإيمان بالقدر جزء من هذه العقيدة.
القضاء والقدر للمحمود (ص 83-85) باختصار، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص 304).
تيسير الكريم الرحمن للسعدي (ص 381).
زاد المسير (6/303).
تفسير ابن سعدي (ص 706).
تفسير ابن كثير (2/509).
القضاء والقدر للمحمود (ص 127).
تفسير الواحدي (التسهيل لعلوم التنزيل) (2/46).
انظر: روح المعاني للألوسي (3/144).
القضاء والقدر للمحمود (ص 130-131).
انظر: تفسير القرطبي (10/407).
القضاء والقدر للمحمود (ص 130)، وانظر: تفسير السعدي (ص 624).
القضاء والقدر للمحمود (ص 131-132).
رابعاً: القضاء والقدر واعتقاد الناس:
أ- مذاهب الناس في القضاء والقدر:
أشهر المذاهب في باب القضاء والقدر ثلاثة:
المذهب الأول: مذهب الجهمية الجبريّة.
وخلاصة قولهم أن العباد مجبورون على أعمالهم، لا قدرةَ لهم ولا إرادة ولا اختيار، والله وحده هو خالق أفعال العباد، وأعمالهم إنما تنسب إليهم مجازاً.
يقول البغدادي عن الجهم: "وقال: لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز، كما يقال: زالت الشمس ودارت الرحى، من غير أن يكونا فاعلين أو مستطيعين لما وصفتا به".
فالإنسان عند الجهم يختلف عن الجمادات، لأن الله خلق للإنسان قوة كان بها الفعل، كما خلق له إرادة للفعل، واختياراً منفرداً له، لكن هذه الإرادة كاللون والطول ونحوهما مما لا إرادة للإنسان فيه ولا قدرة.
المذهب الثاني: مذهب المعتزلة القدرية.
وخلاصة قولهم أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، وإنما العباد هم الخالقون لها.
فهم ينكرون الدرجة الثانية من درجات القدر، والتي تشمل مرتبتي الإرادة والخلق، فينفونها عن الله تعالى، ويثبتونها للإنسان.(/7)
يقول عبد الجبار الهمذاني: "اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله جل وعزّ أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأن من قال: إن الله سبحانه خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه".
ويقول القاسم بن إبراهيم الرسي راداً على من قال: إن الله هو الخالق لأفعال العباد: "ولو كان هو الفاعل لأعمالهم الخالق لها لم يخاطبهم ولم يعظهم، ولم يلمهم على ما كان منهم من تقصير، ولم يمدحهم على ما كان منهم من جميل وحسن".
المذهب الثالث: مذهب السلف.
يلخّصه شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: "مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد.
وأنه سبحان ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو القادر على كل شيء، ولا يشاء شيئاً إلا وهو قادرٌ عليه.
وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم؛ قدّر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة.
فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها، وكتابته إياها قبل أن تكون".
ب- منشأ ضلال القدرية والجبريّة:
قال ابن أبي العزّ الحنفي: "ومنشأ الضلال من التسوية بين المشيئة والإرادة وبين المحبّة والرضا، فسوّى بينهما الجبريّة والقدريّة، ثم اختلفوا، فقالت الجبريّة: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله، ولا مرضيّة له، فليست مقدّرة ولا مقضّية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.
وقد دلّ على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنّة والفطرة الصحيحة".
ج- مناقشة الجبريّة والقدريّة إجمالاً:
يقول ابن أبي العزّ الحنفي في معرض ردّه على هؤلاء وهؤلاء: "وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اخلفوا فيه من الحقّ بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فكلّ دليل صحيح يقيمه الجبريّ فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يدلّ على أن العبد ليس بفاعلٍ في الحقيقة، ولا مريد ولا مختار، وأن حركاته الاختياريّة بمنزلة حركة المرتعش وهبوب الرياح وحركات الأشجار.
وكل دليل صحيح يقيمه القدري فإنما يدلّ على أن العبد فاعل لفعله حقيقةً، وأنه مريدٌ له مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدلّ على أنه غير مقدورٍ لله تعالى، وأنه واقعٌ بغير مشيئته وقدرته.
فإذا ضممت ما مع كل طائفةٍ منهما من الحق إلى حقِّ الأخرى فإنما يدلُّ ذلك على ما دلَّ عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقةً، وأنه يستوجبون عليها المدح والذمّ.
وهذا هو الواقع في نفس الأمر، فإن أدلّة الحق لا تتعارض، والحقّ يصدّق بعضه بعضاً. ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدّلة الفريقين، ولكنها تتكافأ وتتساقط، ويُستفاد من دليل كل فريقٍ بطلان قول الآخرين".
د- محاورة أهل السنة للقدريّة:
1- وقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد، فقال: يا هؤلاء، إن ناقتي سُرقت فادعوا الله أن يردَّها عليّ، فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم تُرد أن تُسرق ناقته فسُرقت فارددها عليه، فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك، قال: ولم؟ قال: أخاف كما أراد أن لا تُسرق فسُرقت، أن يريد ردّها فلا تُرد.
2- وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال، ثم عذّبني، أيكون منصفاً؟! فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء.
3- ودخل القاضي عبد الجبار الهمذاني ـ أحد شيوخ المعتزلة ـ على الصاحب ابن عباد، وعنده أبو إسحاق الإسفراييني ـ أحد أئمة السنة ـ، فلما رأى الأستاذ قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، فقال الأستاذ فوراً: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال القاضي: أيشاء ربنا أن يُعصى؟! قال الأستاذ: أيُعصى ربنا قهراً؟! فقال القاضي: أرأيت إن منعني الهدى وقضى عليّ بالردى أحسن إليّ أم أساء؟! فقال الأستاذ: إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء. فبُهت القاضي عبد الجبار.
4- وقال غيلان لميمون مهران بحضرة هشام بن عبد الملك الذي أتى به ليناقشه: أشاء ربنا أن يُعصى؟! فقال له ميمون: أفعُصي كارهاً؟!.(/8)
5- وقد وضع الإمام الشافعي مسلكاً قوياً في مناظرة القدريّة، فقال: "ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقرّوا به خُصموا، وإن أنكروا كفروا".
وكان السلف رضوان الله عليهم يناظرون القدرية بهذا المسلك كثيراً.
6- عن عمرو بن مهاجر قال: أقبل غيلان ـ وهو مولى لآل عثمان ـ وصالح بن سويد إلى عمر بن عبد العزيز، فبلغه أنهما ينطقان في القدر، فدعاهما، فقال: أعِلمُ الله نافذٌ في عباده أم منتقض؟ قالا: بل نافذ يا أمير المؤمنين، قال: ففيم الكلام؟! فخرجنا، فلما كان عند مرضه بلغه أنهما قد أشرفا، فأرسل إليهما وهو مغضب فقال: ألم يك في سابق علمه حين أمر إبليس بالسجود أنه لا يسجد؟! فقال عمرو: فأومأتُ إليهما برأسي: قولا: نعم. فقالا: نعم. فأمر بإخراجهما.
7- وعن أبي جعفر الخطمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه عنه في القدر فقال له: ويحك يا غيلان، ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يُكذب عليّ يا أمير المؤمنين ويُقال علي ما لا أقول، قال: ما تقول في العلم؟ قال: نفذ العلم، قال: أنت مخصوم، اذهب الآن فقل: ما شئت. يا غيلان: إنك إن أقررت بالعلم خُصِمت، وإن جحدته كفرتَ، وإنك أن تقرّ به فتخصم خيرٌ لك من أن تجحد فتكفر.
8- بلغ هشام بن عبد الملك أن رجلاً قد ظهر يقول بالقدر، وقد أغوى خلقاً كثيراً، فبعث إليه هشام فأحضره، فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: وما هو؟ قال: تقول: إن الله لم يقدر على خلق الشرّ؟ قال: بذلك أقول، فأحضِر من شئت يحاجني فيه، فإن غلبته بالحجة والبيان علمتُ أني على الحق، وإن غلبني بالحجة فاضرب عنقي. قال: فبعث هشام إلى الأوزاعي فأحضره لمناظرته، فقال له الأوزاعي: إن شئتَ سألتك عن واحدة، وإن شئتَ عن ثلاث، وإن شئتَ عن أربع؟ فقال: سل عما بدا لك، قال الأوزاعي: أخبرني عن الله عز وجل هل تعلم أنه قضى على ما نهى؟ قال: ليس عندي في هذا شيء، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة. ثم قلت له: أخبرني هل تعلم أن الله حال دون ما أمر؟ قال: هذه أشدّ من الأولى، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه اثنتان. ثم قلت له: هل تعلم أن الله أعان على ما حرّم؟ قال: هذه أشدّ من الأولى والثانية، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه ثلاث قد حلّ بها ضرب عنقه. فأمر به هشام فضربت عنقه. ثم قال للأوزاعي: يا أبا عمرو، فسّر لنا هذه المسائل، قال: نعم يا أمير المؤمنين. سألته: هل يعلم أن الله قضى على ما نهى؟ نهى آدم عن أكل الشجرة ثم قضى عليه بأكلها. وسألته: هل يعلم أن الله حال دون ما أمر؟ أمر إبليس بالسجود لآدم، ثم حال بينه وبين السجود. وسألته: هل يعلم أن الله أعان على ما حرّم؟ حرّم الميتة والدم، ثم أعاننا على أكله في وقت الاضطرار إليه. قال هشام: والرابعة ما هي يا أبا عمرو؟ قال: كنت أقول: مشيئتك مع الله أم دون الله؟ فإن قال: مع الله فقد اتخذ مع الله شريكاً، أو قال: دون الله، فقد انفرد بالربوبية، فأيهما أجابني فقد حلّ ضرب عنقه بها، قال هشام: حياة الخلق وقوام الدين بالعلماء.
هـ- من أقوال السلف والأئمة في الإيمان بالقدر:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كل شيء بقدر حتى وضعك يدَك على خدّك).
وقال يحيى بن سعيد: ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون: "إن أفعال العباد مخلوقة"، قال أبو عبد الله: حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة.
وقال الإمام أبو حنيفة: "وكان الله تعالى عالماً في الأزل بالأشياء قبل كونها، وهو الذي قدّر الأشياء وقضاها، ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلاّ بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره وكتابته في اللوح المحفوظ".
وقال الإمام مالك لرجل: سألتني أمس عن القدر؟ قال: نعم، قال: "إن الله تعالى يقول: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لأمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، فلا بدّ أن يكون ما قال الله تعالى".
وقال الإمام الشافعي: "إن مشيئة العباد هي إلى الله تعالى، ولا يشاؤون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين، فإن الناس لم يخلقوا أعمالهم، وهي خلقٌ من خلق الله تعالى... وإن القدر خيره وشره من الله عز وجل".
وقال الإمام أحمد: "والقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومرّه، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيّئه، وأوله وآخره من الله قضاءً وقدراً، قدّره عليهم لا يعدو واحد منهم مشيئة الله عز وجل، ولا يجاوز قضاءه، بل هم كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم لا محالة، وهو عدل منه عزّ ربنا وجلّ".
وقال الإمام أحمد أيضا: "أجمع سبعون رجلاً من التابعين وأئمة المسلمين وأئمة السلف وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولها الرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله، والصبر تحت حكمه، والأخذ بما أمر الله، والنهي عما نهى عنه، وإخلاص العمل لله، والإيمان بالقدر خيره وشره، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين".(/9)
وقال أبو بكر الحميدي: "السنة عندنا أن يؤمن الرجل بالقدر خيره وشرّه، حلوه ومرّه، وأن يعلم أن ما أصابهُ لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ذلك كله قضاءٌ من الله عز وجل".
وقال أبو عثمان الصابوني: "ويشهد أهل السنة ويعتقدون أن الخير والشرّ والنفع والضرّ والحلو والمرّ بقضاء الله تعالى وقدره، ولا مردّ لهما ولا محيص ولا محيد عنهما، ولا يصيب المرء إلاّ ما كتب له ربّه، ولو جهد الخلق أن ينفعوا المرء بما لم يكتبه الله له لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضرّوه بما لم يقضه الله عليه لم يقدروا".
وقال البغوي: "الإيمان بالقدر فرضٌ لازم، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد، خيرها وشرها، كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وقال عز وجل: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَىْء} [الرعد:16]، وقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فالإيمان والكفر والطاعة والمعصية كلها بقضاء الله وقدره، وإرادته ومشيئته، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة، ووعد عليهما الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية، وأوعد عليهما العقاب...".
وقال ابن قدامة المقدسي: "من صفات الله تعالى أنه الفعّال لما يريد، لا يكون شيء إلاّ بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلاّ عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خطّ في اللوح المحفوظ".
انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 302) وما بعدها.
الفرق بين الفرق للبغدادي (ص 211). وانظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/87).
انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (1/338)، والقضاء والقدر للمحمود (ص 304).
انظر: مجموع الفتاوى (3/148-150).
انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 305).
المغني في أبواب التوحيد والعدل، وانظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 305).
كتاب العدل والتوحيد ونفي التشبيه عن الله الواحد الحميد للرسي (1/118)، وانظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 307).
مجموع الفتاوى (8/449)، وانظر: (8/452،459) منه.
شرح العقيدة الطحاوية (ص 324) ط الرسالة، وانظر: مدارج السالكين لابن القيم (1/165).
انظر مناقشة الأدلة تفصيلاً في شفاء العليل لابن القيم (2/127-255)، والقضاء والقدر للمحمود (ص346-367).
شرح العقيدة الطحاوية (ص640-641) ط الرسالة. وانظر: شفاء العليل (1/150).
شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص 250-251).
المصدر السابق (ص 251).
انظر التعليق على المصدر السابق (ص 251) وفتح الباري.
انظر: تاريخ الطبري (8/125).
أي: بصفة العلم التي اتصف الله تعالى بها.
شرح الطحاوية (ص 354) ط الرسالة.
الشريعة للآجري (ص 232).
شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (4/789).
شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/795).
خلق أفعال العباد للبخاري (ص 34).
المصدر السابق.
الفقه الأكبر المنسوب إلى أبي حنيفة، وشرحه لملاّ علي قاري (ص 63-64).
حلية الأولياء لأبي نعيم (6/326).
مناقب الشافعي للبيهقي (1/415).
طبقات الحنابلة (1/25).
مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 228).
مسند الحميدي (2/546).
عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص 78-79).
شرح السنة (1/142-144).
لمعة الاعتقاد (ص 19-20).
5- مسائل متفرقة:
أ- حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي:
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن أقوام يحتجّون بالقدر ويقولون: إنه قد مضى الأمر، والشقي شقيّ، والسعيد سعيد، محتجين بقول الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] قائلين بأن الله قدّر الخير والشرّ، والزنا مكتوب علينا، وما لنا في الأفعال قدرة وإنما القدرة لله...
فأجاب: "الحمد لله رب العالمين، هؤلاء القوم إذا أصرّوا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى؛ فإن اليهود والنصارى يؤمنون بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، لكن حرّفوا وبدّلوا، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} [النساء:150، 151] فكيف بمن كفر بالجميع، ولم يقر بأمر الله ونهيه ووعده ووعيده؟! بل ترك ذلك محتجاً بالقدر، فهو أكفر ممن آمن ببعض وكفر ببعض".
ب- شبهة من استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: ((فحجّ آدم موسى)):(/10)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احتجّ آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما، فحجّ آدم موسى؛ قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطتّ الناس بخطيئتك إلى الأرض؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقرّبك نجياً، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أُخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً، قال آدم: فهل وجدت فيها: وعصى آدم ربّه فغوى؟ قال: نعم، قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟!)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فحجّ آدم موسى)).
وبه يحتج الجبرية الذين عطلوا الأمر والنهي، والجواب الصحيح فيه كما قال ابن أبي العزّ: "إن آدم لم يحتجّ بالقضاء والقدر على الذنب، وهو كان أعلم بربه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتجّ بالقدر، فإنه باطل، وموسى عليه السلام أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم عليه السلام على ذنبٍ قد تاب منه، وتاب الله عليه، واجتباه وهداه، وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم عليه السلام بالقدر على المصيبة، لا على الخطيئة، فإن القدر يُحتجّ به عند المصائب، لا عند المعايب.
وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث، فما قُدّر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا بالله رباً، وأمّا الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب عند المعايب، ويصبر على المصائب".
ج- هل نحن مأمورين بالرضا بقضاء الله وقدره؟
قال ابن أبي العزّ: "الجواب أن يقال:
أولاً: نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدّره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة، بل من المقضي ما يُرضى به، وفيه ما يسخَط ويمقت، كما لا يرضى به القاضي سبحانه، بل من القضاء ما يُسخط، كما أن من الأعيان المقضيّة ما يغضب عليه، ويُمقت ويُلعن ويُذم.
ويقال ثانياً: هنا أمران: قضاء الله، وهو فعلٌ قائمٌ بذات الله تعالى، ومقضيّ وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء كله خير وعدل وحكمة، فيُرضى به كلّه، والمقضيّ قسمان: منه ما يُرضى به، ومنه ما لا يُرضى به.
ويقال ثالثاً: القضاء له وجهان:
أحدهما: تعلّقه بالرب تعالى ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يُرضى به.
والوجه الثاني: تعلّقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يُرضى به، وإلى ما لا يُرضى به.
مثال ذلك: قتل النفس، له اعتباران: فمن حيث قدّره الله وقضاه وكتبه وشاءه، وجعله أجلاً للمقتول، ونهاية لعمره، نرضى به، ومن حيث صدر من القاتل وباشره وكسبه، وأقدم عليه باختياره، وعصى الله بفعله، نسخطه ولا نرضى به".
مجموع الفتاوى (8/262-263).
رواه البخاري في القدر، باب: تحاجّ آدم وموسى عند الله (6614)، ومسلم في القدر، باب: حاج آدم موسى عليهما السلام (2652) واللفظ له.
شرح العقيدة الطحاوية (ص 135-136)، وانظر: مجموع الفتاوى (8/108، 178) ومنهاج السنة (2/10).
شرح العقيدة الطحاوية (ص 336) ط الرسالة.
سادساً: مذهب أهل السنة في مسائل تتعلق بالقضاء والقدر:
أ- التحسين والتقبيح:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع:
أحدهما: أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدةٍ ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه أثبت للفعل صفةً لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد الشرع بذلك، وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث الله إليهم رسولاً، وهذا خلاف النص قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15].
النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيءٍ صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.(/11)
والنوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن به العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] حصل المقصود، ففداه بالذبح، وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة، فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك فإنما ابتليتم، فرضي عنك وسخط على صاحبيك، فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به، وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلاّ لما هو متّصف بذلك، بدون أمر الشارع، والأشعريّة ادّعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع، وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة وهو الصواب".
ب- وجوب فعل الأصلح:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ذهب جمهور العلماء إلى أنه إنما أمر العباد بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وأن فعل المأمور به مصلحة عامة لمن فعله، وأن إرسال الرسل مصلحة عامة، وإن كان فيه ضرر على بعض الناس لمعصيته، فـ((إن الله كتب في كتاب فهو عنده موضوع فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي))، فهم يقولون: فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه مصلحة لكل فاعل وتارك، وأما نفس الأمر وإرسال الرسل فمصلحة عامة للعباد، وإن تضمّن شراً لبعضهم، وهكذا سائر ما يقدّره الله تغلب فيه المصلحة والرحمة والمنفعة، وإن كان في ضمن ذلك ضرر لبعض الناس، فلله في ذلك حكمة أخرى. ويقولون: وإن كان في بعض ما يخلقه ما فيه ضرر لبعض الناس، أو هو سبب ضرر كالذنوب، فلا بدّ في كل ذلك من حكمة ومصلحة لأجلها خلقها الله، وقد غلبت رحمته غضبه".
ج- الاستطاعة:
وقول أهل السنة فيها التفصيل:
1- هناك استطاعة للعبد بمعنى الصحة والوسع، والتمكّن وسلامة الآلات، وهي التي تكون مناط الأمر والنهي، وهي المصلحة للفعل، فهذه لا يجب أن تقارن الفعل، بل قد تكون قبله متقدمة عليه، وهذه الاستطاعة المتقدمة صالحة للضدين، ومثال هذه الاستطاعة قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]، فهذه الاستطاعة قبل الفعل، ولو لم تكن إلاّ مع الفعل لما وجب الحج إلاّ على من حجّ، ولا عصى أحدٌ بترك الحج، ولا كان الحج واجباً على أحد قبل الإحرام، بل قبل فراغه، ومن أمثلتها قوله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]. فأمر بالتقوى بمقدار الاستطاعة، ولو أراد الاستطاعة المقارنة لما وجب على أحدٍ من التقوى إلاّ ما فعل فقط؛ إذ هو الذي قارنته تلك الاستطاعة.
وهذه الاستطاعة هي مناط الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وعليها يتكلم الفقهاء، وهي الغالبة في عُرف الناس.
2- وهناك الاستطاعة التي يجب معها وجود الفعل، وهذه هي الاستطاعة المقارنة للفعل الموجبة له، ومن أمثلتها قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هود:20]، وقوله: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لّلْكَافِرِينَ عَرْضاً v الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً}[الكهف:100-101]، فالمراد بعدم الاستطاعة مشقة ذلك عليهم، وصعوبته على نفوسهم لا تستطيع إرادته، وإن كانوا قادرين على فعله لو أرادوه، وهذه حال من صدّه هواه أو رأيه الفاسد عن استماع كتب الله المنزلة واتباعها، وقد أخبر أنه لا يستطيع ذلك، وهذه الاستطاعة هي المقارنة الموجبة له.
وهذه الاستطاعة هي الاستطاعة الكونية، التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل.
د-الحكمة والتعليل:
يقول ابن القيم: "إنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئاً عبثاً، ولا لغير معنىً ومصلحة، وحكمته هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرةٌ عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دلّ كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى".
فأهل السنة أثبتوا لله حكمة في كل ما خلق، والحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه سبحانه، يحبها ويرضاها، وهي التي أنكرها المعتزلة.
والثاني: حكمة تعود إلى عباده، وهي نعمة يفرحون بها، ويلتذون بها، وهذه تكون في المخلوقات والمأمورات.
هـ- تكليف ما لا يطاق:
تكليف ما لا يطاق على وجهين:
أحدهما: ما لا يقدر على فعله لاستحالته، وهو نوعان:
1- ما هو ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران، وكالمقعد الذي لا يقدر على القيام، والأخرس الذي لا يقدر على الكلام.
2- ما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، وجعل المحدث قديماً، والقديم محدثاً، ونحو ذلك، فهذا اتفق حملة الشريعة على أن مثل هذا ليس بواقع في الشريعة، وأنه لا يجوز تكليفه، وذلك لأن عدم الطاقة فيه ملحقة بالممتنع والمستحيل، وذلك يوجب خروجه عن المقدور فامتنع تكليف مثله.(/12)
والثاني: ما لا يقدر عليه، لا لاستحالته، ولا للعجز عنه، لكن لتركه والاشتغال بضده، مثل تكليف الكافر بالإيمان في حال كفره، فهذا جائز خلافاً للمعتزلة، لأنه من التكليف الذي اتفق المسلمون على وقوعه في الشريعة، لكن: هل يطلق على هذا بأنه تكليف ما لا يطاق؟
جمهور أهل العلم منعه وهو الراجح، وإن كان بعض المنتسبين إلى أهل السنة قد أطلقه في ردّهم على القدريّة.
و- معنى الظلم:
قال أهل السنة: إن الله تعالى حكَمٌ عدل يضع الأشياء مواضعها، فلا يضع شيئاً إلاّ في موضعه الذي يناسبه، ولا يفرّق بين متماثلين، ولا يسوي بين مختلفين.
وعلى هذا فالظلم الذي حرّمه الله على نفسه وتنزّه عنه فعلاً وإرادة هو ما فسّره به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمِّل المرء سيئات غيره، ولا يعذبه بما لم تكسب يداه، وأنه لا ينقص من حسناته فلا يجازى بها أو ببعضها، وهذا هو الظلم الذي نفى الله خوفه عن العبد بقوله: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} [طه:112]، قال المفسّرون: لا يخاف أن يحمَّل عليه سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، وقيل: يظلم بأن يؤاخذ بما لم يعمل، وقيل: لا يخاف ألاّ يجزى بعمله.
والله سبحانه وتعالى قادرٌ على الظلم، وإنما استحقّ سبحانه الحمد والثناء لأنه ترك الظلم وهو قادرٌ عليه، والمدح إنما يكون بترك المقدور عليه لا بترك الممتنع، وعلى هذا فعقوبة الإنسان بذنب غيره ظلم ينزَّه الله عنه، وأما إثابة المطيع ففضلٌ منه وإحسان، وإن كان حقاً واجباً بحكم وعده باتفاق المسلمين، وبما كتبه على نفسه من الرحمة، وبموجب أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.
وهم المعتزلة ومن وافقهم.
رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: حديث أبرص وأعمى وأقرع (3464)، ومسلم في الزهد والرقائق (2964).
مجموع الفتاوى (8/434-436) باختصار.
الحديث رواه البخاري في التوحيد، باب: وكان عرشه على الماء (7422).
منهاج السنة لابن تيمية (1/462-463) باختصار.
انظر: مجموع الفتاوى (8/372).
انظر: مجموع الفتاوى (8/129، 290، 373).
انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 268-270)، وانظر أيضاً: شرح الطحاوية لابن أبي العزّ (ص 637-639)، ودرء التعارض (1/61).
شفاء العليل (2/87).
تقريب وترتيب شرح العقيدة الطحاوية للشيخ خالد بن فوزي (2/1069)، وانظر أيضاً: مجموع الفتاوى (8/35-36).
القضاء والقدر للمحمود (ص 277-278).
انظر: زاد المسير لابن الجوزي (5/224).
القضاء والقدر للمحمود (ص 285-286)، وانظر: منهاج السنة (2/236) ومفتاح دار السعادة (2/107)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 659-660).
سابعاً: ثمرات الإيمان بقضاء الله وقدره:
للإيمان بقضاء الله وقدره فوائد عظيمة، منها:
1- أنه يعرِّف الإنسانَ قدرَ نفسه، فلا يتكبّر ولا يبطر، ولا يتعالى أبداً؛ لأنه عاجز عن معرفة المقدور، ومستقبل ما هو حادث، ومن ثمّ يقرّ الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه تعالى دائماً، وهذا من أسرار خفاء المقدور.
2- يقول الشوكاني: "ومن فوائد رسوخ الإيمان بهذه الخصلة أنه يعلم أنه ما وصل إليه من الخير على أيّ صفة كان وبيد من اتفق فهو منه عز وجل، فيحصل له بذلك من الحبور والسرور ما لا يقدر قدره، لما له سبحانه من العصمة التي تضيق أذهان العباد عن تصوّرها، وتقصر عقولهم عن إدراك أدنى منازلها... وما أحسن ما قاله الحربي: من لم يؤمن بالقدر لم يتهنّ بعيشه".
3- الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات وتزرع الأحقاد بين المؤمنين، فالمؤمن يسعى لعمل الخير، ويحب للناس ما يحبّ لنفسه، فإن وصل إلى ما يصبو إليه حمد الله وشكره على نعمه، وإن لم يصل إلى شيء من ذلك صبر ولم يجزع، ولم يحقد على غيره ممن نال من الفضل ما لم ينله؛ لأن الله هو الذي يقسم الأرزاق فيعطي ويمنع، وكل ذلك ابتلاء وامتحان منه سبحانه وتعالى لخلقه.
4- الإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة على مواجهة الشدائد، ويقوّي فيها العزائم، فيثبت صاحبه في ساحات الجهاد ولا يخاف الموت؛ لأنه موقن أن الآجال محدّدة لا تتقدم ولا تتأخر لحظةً واحدة.
5- الإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سبباً في استقامة المسلم، وخاصة في معاملته للآخرين، فحين يقصِّر في حقّه أحدٌ أو يسيء إليه أو يردّ إحسانه بالإساءة أو ينال من عرضه بغير حق تجده يعفو ويصفح لأنه يعلم أن ذلك مقدّر، وهذا إنما يحسن إذا كان في حقّ نسفه، أمّا في حقّ الله فلا يجوز العفو ولا التعلل بالقدر، لأن القدر إنما يحتج به في المصائب لا في المعايب.
6- الإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعدّدة، فهو دائم الاستعانة بالله، يعتمد على الله ويتوكل عليه مع فعل الأسباب، وهو يغرس أيضاً في نفس المؤمن الانكسار والاعتراف لله تعالى حين يقع منه الذنب، ومن ثم يطلب من الله العفو والمغفرة.(/13)
7- ومن آثار الإيمان بالقدر أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته، ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، لا يخاف في الله لومة لائم، يبيّن للناس حقيقة الإيمان، ويوضح لهم مقتضياته، ويكشف الباطل وزيفه ودُعاته وحماته، ويقول كلمة الحقّ أمام الظالمين، ويفضح ما هم فيه من كفر وظلم، وإذا كان الأمر هكذا فكيف يبقى في نفس المؤمن الداعية ذرّة من خوف وهو يؤمن بقضاء الله وقدره؟! فما قدّر سيكون، وما لم يقدر لن يكون، وهذا كله مرجعه إلى الله، والعباد لا يملكون من ذلك شيئاً.
8- الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك، وهو مفرق طريق بين التوحيد والشرك، فالمؤمن بالقدر يُقرّ بأن هذا الكون وما فيه صادر عن إله واحد، ومعبود واحد، ومن لم يؤمن هذا الإيمان فإنه يجعل من دون الله آلهة وأرباباً.
9- وهو يفضي إلى الاستقامة على منهجٍ سواءٍ في السّراء والضرّاء، لا تبطره النعمة، ولا تيئسه المصيبة، فهو يعلم أن كل ما أصابه من نعم وحسنات فمن الله لا بذكائه وحسن تدبيره، وإذا أصابه الضراء والبلاء علم أن هذا بتقدير الله ابتلاءً منه، فلا يجزع ولا ييأس، بل يحتسب ويصبر، فيسكب هذا الإيمان في قلب المؤمن الرضا والطمأنينة.
10- المؤمن بالقدر دائماً على حذر من أن يأتيه ما يضله، كما يخشى أن يختم له بخاتمة سيئة، وهذا لا يدفعه إلى التكاسل والخمول، بل يدفعه إلى المجاهدة الدائبة للاستقامة، والإكثار من الصالحات، ومجانبة المعاصي والموبقات، كما يبقى قلب العبد معلقاً بخالقه، يدعوه ويرجوه ويستعينه، ويسأله الثبات على الحقّ كما يسأله الرشد والسداد.
11- إذا آمن المؤمن بالقدر فإنه يقبل على أمر الله وإن قلَّت الرفقة، ويقبل على الجهاد وإن كان وحده.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
انظر: لمحات في وسائل التربية الإسلامية وغاياتها للدكتور محمد أمين المصري (ص 186).
انظر: قطر الولي على حديث الولي للشوكاني (ص 396)، ضمن ولاية الله والطريق إليها. دراسة وتحقيق الدكتور: إبراهيم هلال.
انظر: لمحات في وسائل التربية (ص 178)، والإيمان باليوم الآخر وبالقضاء والقدر للشيخ أحمد البيانوني (ص144-145)، والقضاء والقدر للمحمود (ص 453).
انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 454).
انظر: مجموعة بحوث فقهيّة، بحث الإيمان بالقضاء والقدر للدكتور عبد الكريم زيدان (ص 236)، والقضاء والقدر للمحمود (ص 456).
انظر: مجموعة بحوث فقهية بحث الإيمان بالقضاء والقدر (ص 240-244) والقضاء والقدر للمحمود (ص457).
انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 457-458).
انظر: القضاء والقدر للأشقر (ص 109-110).
المصدر السابق (ص 110-111)، وانظر: العقيدة الإسلامية لعبد الرحمن حبنكة (ص 686).
المصدر السابق (ص 111).
انظر: ترتيب وتقريب شرح العقيدة الطحاوية للشيخ خالد بن فوزي عبد الحميد (2/1021).(/14)
الإيمان والأمان في مواجهة العدوان
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ...
ونحن نعيش هذه الظروف العصيبة ، والتكالب الرهيب ، والعدوان الظالم نحتاج إلى مثل هذه الوقفات والحق أن الخواطر كثيرة ، وأن المشاعر متداخلة وأن الواجبات والمواقف والتنبيه والتوجيه حاجتنا إليه ماسة ومتشعبة ، وحسبنا - بمشيئة الله تعالى - أن نذكر هنا ما عسى أن يكون الأهم فالأهم ، وما سأذكره إنما أذكر خلاصته وأسسه معرضا عن كثير من التفاصيل والتشعبات التي يستحق معها كل قسم من أقسام حديثنا وموضوعنا أن يفرد في محاضرة خاصة به ، ولعلي أشير الإشارات التي ألخص بها ما سيأتي في حديثنا بعون الله :
سنبدأ بوقفة مع حقيقة الإيمان ، ثم نعرج على أثر الإيمان بالأمن والأمان ، وننتهي ونخلص إلى أثر الإيمان والأمان في مواجهة العدوان .
حقيقة الإيمان :
أمره مهم وعظيم ؛ لأن قضية الإيمان هي القضية الكبرى والمسألة العظمى في حياة البشرية كلها .. قضية الإيمان لأجلها خلق الله الخلق ، وخلق السماوات والأرض ، وأنزل الكتب ، وأرسل الرسل ، ونصب الموازين ، وجعل الحساب والثواب والعقاب ، وخلق الجنة والنار .. قضية الإيمان هي قضية الوجود الدنيوي وما بعد الوجود الدنيوي .. هي قضية الحياة الدنيا وما وراءها في الحياة الأخرى .. هي قضية تتعلق بالإنسان في أعماق نفسه ، وسويداء قلبه ، وخواطر عقله ، وكلمات لسانه ، وأفعال جوارحه ، وطموحات نفسه ، تتناول الإنسان في علاقاته وصلاته ومعاملاته وتشريعاته ، تتناول الإنسان في سائر جوانب حياته المختلفة ، وفي سائر ظروف وتقلبات حياته وأحواله المتنوعة ، ومن ثم فإنه القضية الكبرى التي لابد من العناية بها ، والتذكير بها ، والتعلم لحقائقها ، والتذكير بثوابتها ، والإشاعة لمعانيها ، والتقوية لها في النفوس والقلوب ؛ لأنها هي محور الحياة وجوهرها .
وكما قلت لعل هذا يكون كذلك موضوعا كاملا قائما برأسه ولكنا نشير إلى المهم منه :
الإيمان ليس مجرد نطق اللسان وإعلان الشهادة وحده فحسب ؛ فإن الله - جل وعلا - قد نفى ذلك بقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة:8 ] ، فأثبت إعلانهم للإيمان ونفى حقيقته عنهم .
وليس الإيمان كذلك هو قناعة العقل بصحة البرهان وقوة الحجة على وجود الله أو وحدانيته ؛ فإن ذلك قد كان ظاهراً جلياً لكفار قريش لم يكن عندهم شك في صدق محمد – صلى الله عليه وسلم - ولم يكن عندهم نقص في البراهين والأدلة على ثبوت نبوته ، ومع ذلك كفروا وجحدوا ، وقد أخبر الحق - سبحانه وتعالى - بذلك فقال : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل: من الآية14] ، قد كانت الحقائق عندهم في درجة اليقين من حيث وضوح الأدلة ومن حيث قيام الحجة ومع ذلك جحدوا ، والجحد هو الإنكار بعد المعرفة ، لماذا ظلما وعلوا ؟ وقال سبحانه وتعالى : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام: من الآية33 ] ، وقصها وبينها أبو جهل عليه لعنة الله عندما قال: " كنا نتنافس وبنو هاشم الشرف والسيادة ؛ فإن كانت لهم سقاية كانت لنا رفادة ، وإن كان لهم كذا كان لنا كذا ، حتى إذا تساوينا وتجاثينا على الركب قالوا : منا نبي فمن أين لنا بنبي ؟ فوالله لا نصدقه الدهر كله " .
فليست القضية مجرد قناعة العقل ولا تسليم القلب بصدق أو بحقيقة هذه المعرفة الإنسانية .
وليس الإيمان كذلك هو مجرد العمل أو القيام بأداء الفرائض وحدها مجردا ؛ فإن المنافقين - كما نعلم -خلت قلوبهم من الإيمان ، قال تعالى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ الفتح: 11] ، ويشاركون أهل الإيمان في صلاتهم ، وربما يخرجون أموالاً من زكاة وغير ذلك ، ونفى الله - سبحانه وتعالى - عنهم الإيمان كما بينت آياته - جل وعلا - في مثل قوله سبحانه وتعالى : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلا }[ النساء: من الآية142 ] .
وأخبر - سبحانه وتعالى - أنهم يتخذون ما ينفقون مغرماً إلى غير ذلك مما هو معلوم .
فإذا لم يكن الإيمان نطق اللسان ، وإذا لم يكن هو اعتقاد الجنان وحده ، ولم يكن هو عمل الأركان فما هو ؟!.
إنه مجموع ذلك كله ، ومن ثم قال أهل العلم في تعريفه أنه: " اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالأركان " .(/1)
وهذا الجمع - لاشك - أنه يحتاج إلى تأمل ، إنه حينئذ يصور لنا شمول هذا الإيمان وعمقه وانتظامه للإنسان في كل خصائصه وانعكاسه من بعد على كل تفاعلاته وأحواله ؛ فإن هذا الإيمان هو اعتقاد القلب ، وهو خفقة القلب بالمشاعر والعواطف ، وهو كذلك كلمات اللسان وضبطها وهو كذلك خواطر العقل والفكر ، وهو كذلك ممارسات الجوارح كلها .
وإذا أردنا أن نعمق هذا المعنى ونوضحه ، فالأمثلة فيه كثيرة ، لكنني أشير إلى المعنى وأضرب مثالاً واحداً فنقول :
إن الإيمان صبغة جديدة ينصبغ بها صاحبها فتكون له صورة وهوية تنقض كل ما سبقها ، وتخالف كل ما يعارضها ، وتنشئه نشأة جديدة ، قاعدتها وأساسها التوحيد والإيمان ولا إله إلا الله محمد رسول الله ، فيختلف حينئذ عن كل الناس في سائر أحواله .. في أقواله وكلماته .. في آماله وطموحاته .. في أعماله وأفعاله .. في علاقاته وصلاته .. في ولائه وبرائه .. في محبته وبغضه .. في كل شيء ؛ لأن هذا الإيمان يغير فيه إذا كان صادقاً وحقيقياً كل شيء ويجعله منضبطا بهذا الإيمان ، ومنه ينطلق وإليه يرجع ، وفي ضوءه يقيس ، وعلى هداه يسير ، فيحكم الإيمان حينئذ كل شيء في حياته بدءاً من داخله ، وانتهاءً بأعماله وانتهاءً بعلاقاته كذلك .
وهذا مثالٌ نضربه من القرآن ، قصه الله - عز وجل - علينا في قصة موسى - عليه السلام - وما كان مع بني إسرائيل ، والقصة باختصار شديد تعرفون كثيرا من تفاصيلها نقف فيها عند المواجهة التي كانت بين موسى داعية الإيمان وفرعون داعية الكفر والطغيان استعان فرعون بالسحرة وأراد أن يكونوا وسيلة له لإظهار الحق وإطفاء نوره وتشويه صورته وصرف الناس وردهم عنه فقال للسحرة يوم جاء بهم وأرادهم أن يقوموا بهذه المهمة نريد أن ننظر إلى هؤلاء السحرة صورتهم أفكارهم أقوالهم قبل وبعد الحدث الذي وقع لننظر فعلا إلى ما هو التغير لندرك به حقيقة الإيمان جاء السحرة إلى فرعون أول شيء قالوه وأول خاطر خطر لهم وأول أمل تعلقت به نفوسهم. { أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ }[ الشعراء: 41]. ذلك كان مطلبهم ومطمحهم وهذا هو أملهم وأمنيتهم.{ أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِين }[الشعراء: 41].
لم يسألوا هل القضية حق أو باطل ؟ .. عدل أو ظلم ؟ هل تترتب عليها مفسدة أو مصلحة ؟ هل يتضرر بها أحد أو ينتفع بها أحد ؟ لم يكن ذلك يعنيهم في شيء لأنه ليست عندهم مبادئ ولا قيم ولا مرتكزات ولا معتقدات كانت أهواؤهم تسيرهم كان خضوعهم لفرعون وعبوديتهم وذلتهم له تسيرهم ولذلك قالوا هذا القول فقال لهم فرعون، { قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } [لأعراف:114]. سيزيدهم فوق العطاء المادي عطاء معنوياً بأن يكونوا من أصحابه وخلصائه والمقربين منه .
ثم وقعت الواقعة - كما نعلم - ألقوا عصيهم وحبالهم .. سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وكانوا هم صفوة السحرة وأعلم العلماء بالسحر ليس أحد فوقهم وليس أحد أقدر منهم عليه وفي لحظة واحدة وربما ثانية وحدة، { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } (الشعراء:45)، مباشرة في هذه اللحظة عرف أولئك أن هذا ليس بسحر وأنها ليست قوة بشر أدركوا من واقع خبرتهم وعرفوا من حقيقة تجربتهم هذه الحقيقة فمباشرة وصفت آيات القرآن ما الذي وقع { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ , قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ , رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [الشعراء 46 , 47 , 48 ] .
وذكر هارون هنا مثير للسؤال لمَ ذِكَروا هارون وهو لم يذكر في تلك القصة والمواجهة ، ولم يلق عصا مع موسى ، ولم يكن له في هذا شأن مذكور ؟ أرادوا أن يقولوا قد آمنا بالمعتقد والمبدأ لا بالصورة الظاهرة والعمل الملموس ، فنحن أدركنا الحقيقة التي وراء ذلك ، وأدركنا المفهوم الذي وراء ذلك، { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ , رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ }[ الشعراء:47 , 48 ] .
نريد الآن لنقف لنرى كيف أصبحت مواقفهم ؟ كيف تغيرت كلماتهم ؟ ما هي الآن طموحاتهم وآمالهم ؟ فرعون كان مجرد ذكر اسمه تنخلع له القلوب ، وتصتك له الركب ، وتدور الأعين في محاجرها خوفاً وهلعاً .. هذا فرعون الذي يعرفون بطشه وجبروته وطغيانه قال: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه: 71 ] .(/2)
ماذا قالوا له؟ قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [ طه: 72 ]، افعل ما بدا لك ، فلا خوف في قلوبنا منك ، ولا شيء يردنا عن ما أخذنا به من الإيمان والاعتقاد ، لماذا ؟ لأن الأمر قد اختلف ، والتصور قد اتسع ، واليقين قد عظم ، والإيمان قد رسخ ، فنحن لم تعد حياتنا هي الدنيا ، بل أصبحت أعظم من ذلك .. افعل ما تشاء ؛ فإن ما تفعله لا يتجاوز هذه الدنيا وما فيها من الأسباب التي قد يكون بعضها ميسراً لك ، {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [ طه: 72 ] ، ثم ماذا؟ قالوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [ الشعراء:51] .
كانوا يريدون المال ، واليوم يقولون : نحن يكفينا وأملنا وطموحنا وأعظم ما تتعلق به قلوبنا ، وتشرئب إليه أعناقنا أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول السابقين إلى الإيمان والإسلام .. لقد اختلفت مقالتهم ، واختلفت مشاعرهم ، واختلفت مواقفهم ، وظهرت قوتهم وتجلى ثباتهم ما الذي تغير؟ ما الذي طرأ؟ ما الذي جد؟.
ليس إلا الإيمان حينئذ نقول الفرق ما بين هذا وهذا في لحظات هو الإيمان الذي أنشأهم نشأة جديدة ، وصبغهم صبغة جديدة ، حولتهم في كل جانب من جوانب حياتهم ظاهرها وباطنها ، فإذا بهم حينئذ ينشؤون ويقفون ويتكلمون ويشعرون ويواجهون بغير ما كانوا عليه من قبل ، هذه صورة موجزة لحقيقة الإيمان .
وأجلى منها وأوضح وأكثر أمثلة ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء إلى العرب وهم في جاهلية جهلاء ، وعماية ظلماء ، وفي كل ما هو معروف من سخف عقولهم ، ومن همجيتهم وحميتهم في الباطل وغير ذلك .
ولم يغير فيهم شيئا من اقتصاد ولا سياسة ، ولا اجتماع ، إنما جاءهم بهذا الإيمان والإسلام فأنشأهم نشأة أخرى ، وصاغ منهم أمة فريدة لا نظير لها في تاريخ البشرية والإنسانية .. هذه إطلالة وخلاصة سريعة وليس هذا موضوعنا.
ننتقل إلى جوهر مهم في موضوعنا وهو:
أثر الإيمان في الأمان
ونحن نعلم أن الظروف العصيبة تصيب الناس في مكامن ومقاتل مختلفة ، لكن أعظمها وأشدها خطراً أن تصيب يقينهم وإيمانهم فتسلب أمنهم وأمانهم ، لننظر أثر الإيمان القوي الصحيح الراسخ في الإيمان ، ونذكر في ذلك نقاطاً أربع :
الأثر الأول: صحة النهج وصواب الفكر
الإيمان يورث رشد العقل ونور البصيرة يصبح المؤمن على بينة من أمره .. يعرف الحق من الباطل ويعرف الحق معرفة جلية واضحة .. لا يلتبس فيها معه غيره من الباطل ويثبت على ذلك ؛ لأنه يرجع إلى أصل وركن ركين وأساس متين مرتبط بما لا يتغير ولا يتبدل من كتاب الله - عز وجل - وسنة رسله – صلى الله عليه وسلم - وهذا يسمونه اليوم بـ [ الأمن الثقافي والفكري ] لا تتبدل أفكارنا ولا تتغير تصوراتنا ، حتى وإن عظم القائلون بما يخالفنا ، وإن أكثروا منه ، وإن نوعّوا أساليب عرضه ، وإن تفننوا بالإغراء به ، وإن شددوا أو أرهبوا في ضرورة التزامه ؛ فإن ذلك عند أهل الإيمان لا يغيرهم مطلقاً ، لا يمكن يوما من الأيام أن يغير شيئا مما هو ثابت قاطع في حقائق الإيمان من آيات القرآن وهدي المصطفى العدنان – صلى الله عليه وسلم - ولعلي أشير إلى معنى تتجلى به هذه الحقيقة في آية من كتاب الله عز وجل : { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } [ الأنعام:57 ] .
تأملوا أيها الأخوة الأحبة في هذه الآية : {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } [الأنعام: من الآية57].
وضوح وبيان ومنهج سديد .. ليس من أفكار عقولنا ، ولا من اجتهاد علمائنا ، ولا من مجامع فقهائنا ..كلا ! بل هو من الله - عز وجل - معصوم .. كامل لا نقص فيه .. صحيح لا باطل معه .. ثابت لا شك يعتريه مطلقا .. {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ } [ الأنعام : من الآية57 ] .
إن كذبت الدنيا كلها وخالفت ، فلا يعني أن نعود لنراجع أو نبحث لنصحح ، أو نجتمع لنرى هل هذا ما زال عاملاً ، وما زال فاعلاً ، وما زال صحيحاً ؟ أم أنه - كما يقولون - نحتاج إلى إعادة النظر في مناهجنا وإعادة النظر في ثوابتنا وغير ذلك ..{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِه} [ الأنعام: من الآية57 ] .(/3)
قد يقول القائلون - وهذا يقال الآن - : هؤلاء المسلمون .. هؤلاء المؤمنون ما بالهم لا ينصرون؟ هؤلاء الكافرون .. هؤلاء المعتدون ما بالهم يسيطرون ويهيمنون ، ويمد لهم في أسباب العدوان أو في أسباب القوة والهيمنة والسيطرة ؟ كأن بعض الناس ربما يخالط عقله ويخامر نفسه شيء من الاضطراب والحيرة والشك أو التبديل والتغيير ، والله - عز وجل - يقول على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام : {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام: من الآية 57] .
إن كانت عندكم أفكار وأشياء قد اضطركم إليها أو قذف بها إليكم واقع معين ؛ فإن الثوابت هي التي تحكم عليه ، وهي التي تضبطه وقد جاء خباب بن الأرت -كما نعلم - وقال لرسول الله عليه الصلاة والسلام : " ألا تدعوا لنا ألا تستنصر لنا؟ " وقد بلغ الأمر مبلغه في البلاء والإيذاء الذي حل به وبعض الصحابة - رضوان الله عليهم - فأخبرهم النبي - عليه الصلاة والسلام - بمن كان قبلهم ممن تعرضوا إلى العذاب الشديد .
ثم قال- عليه الصلاة والسلام - : ( والله ليبلغن هذا الدين حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون ) .
لم يجبهم إلى عواطفهم ..لم يوافقهم على ضرورتهم وإن كان يدعو - عليه الصلاة والسلام - لكن المنهج واضح .. لكن الرؤية جلية ليس فيها غبش .. ليس في أجزائها شيء من التراب مطلقاً ، ولذلك الأمر الفكري نحن لن نؤمن أبداً لا اليوم ولا غداً ولا بعد غد بالديموقراطية الغربية التي يبشرون بها .. لن نغير أبدا في أسس بناء حياتنا الاجتماعية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله ؛ لنوافق - كما يقولونه - من أفكار في تحرير الشعوب ، أو حقوق الإنسان ، أو حرية المرأة على مناهجهم المختلة ، وعلى تصوراتهم الفاسدة ، وعلى مناهجهم الزائغة ؛ لأننا لسنا في شك من ديننا ، بل نحن على بصيرة ، وهذا أمر مهم ؛ فإن الأمن الفكري والثقافي هو صمّام الأمان الأول ، وهو خط الدفاع الأول إذا وقع فيه الاضطراب ما جاء بعده .
كما نرى - نسأل الله عز وجل السلامة - ممن يتقاذفون هذه المقالات ، ويروجون هذه الشائعات ، ويزينون هذه المفتريات والمبتدعات ؛ لأنهم ليسوا على بينة من أمرهم كما قال الله عز وجل هنا: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [ الأنعام: من الآية57 ]، وكما قلت ليس حديثنا مستفيض في كل نقطة وإنما هي ومضات .
الأثر الثاني: سكينة النفس وطمأنينة القلب
فإن الذي تتضح رؤيته الفكرية ، ويعرف الإجابة عن الأسئلة العظمى - كما يقولون - من أين وإلى أين ولماذا ؟ نحن نعرف لماذا خلقنا ؟ وما هو دورنا في هذه الحياة ؟ وما يكون بعد هذه الحياة ، نعرف كذلك أن الكون كله مسير بأمر الله ، وأنه لا ينفذ فيه شيء إلا بقضاء الله ، وأنه لا يغير ولا يدبر شيء في هذا الكون إلا الله ، فنفوسنا حينئذ مطمئنة ، وسكينتنا مستقرة ، وقلوبنا ليس فيها حيرة ولا شك ولا خوف ولا هلع ، ونحن نعلم أن تقلبات الظروف والبلايا والرزايا والمحن والفتن تحيط بالناس ؛ فإن لم يكن عندهم يقين راسخ ، وإيمان ثابت ؛ فإن ذلك يصيبهم بجزع يجعلهم ينكصون على أعقابهم.. { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ } [ الحج: من الآية11 ] .
وقد وصف الله - عز وجل - ذلك بأنه الخسران المبين ، ولذلك نبقى على هذه الطمأنينة والسكينة ؛ لأنها هي التي تفيض هذه المعاني النفسية الباطنية القلبية في الإنسان المؤمن . يقول الحق جل وعلا : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد: من الآية28 ] .
والله - سبحانه وتعالى - بيّن أن القين والإيمان هو الذي يجعل الإنسان ثابتاً في وجه المشكلات .. كم من الناس تحل به نكبات أو مشكلات فينزلها على إيمانه يقول : " لا حول ولا قوة إلا بالله " ، يردد : " إنا لله وإنا إليه راجعون " ، يلهج : " حسبنا الله ونعم الوكيل " فإذا به يعر بالطمأنينة والسكينة ، وتتبدد أمامه تلك المخاطر ، ويتيسر أمامه العسير ، ويصغر العظيم بما يفيض في قلبه - سبحانه وتعالى - من السكينة والطمأنينة ، وغيره مرتجف .. مضطرب .. متحير .. متشكك .. خائف .. جزع .. متراجع .. متخاذل ؛ لأنه يفتقد قوة إيمانه ويقينه ، ولو أردنا أن نفيض في الأمثلة لوجدنا عجباً في سيرة النبي - عليه الصلاة والسلام - .. في سيرة أصحابه - رضوان الله عليهم - وهذا أمره مهم ، وخاصة في وقتنا وظروفنا هذه .(/4)
في غزوة الأحزاب بين الله - عز وجل - الكرب العظيم ، والخطب الجسيم ، والهول الفظيع الذي حلّ برسول الله - عليه الصلاة والسلام - وصحابته فقال جل وعلا : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً } [ الأحزاب: 10 , 11 ] .
ماذا قال أهل الإيمان في هذه الحادثة العصيبة والمحنة الرهيبة ؟ .
{ وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } [ الأحزاب:22 ].
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا } [ الأحزاب:23].
والمواقف كثيرة فيما بعد أحد كما أخبر الله عز وجل : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ }[ آل عمران: 173 , 174 ]، إنما يطمئن القلوب ويسكن النفوس هذا الإيمان ، فلا تضطرب ولا تجزع بإذن الله .
الأثر الثالث: يقظة الضمير واستشعار المراقبة
إن الأمن الذي يفرض بقوة العساكر ، أو دقة المراقبة ، أو دوام المتابعة أمن هش ضعيف مهما بلغت أسبابه ؛ لأنه لا يمكن أن يراقب كل أحد ، ولا أن يتابع كل شخص ، ولا أن يعرف ما في خفايا القلوب وفي طوايا النفوس ، لكن الأمن الحقيقي هو الذي ينبع من داخل النفس هو الذي فيه الإيمان ، يردع صاحبه عن المحرمات والمنكرات والعدوان على الحرمات ، ويدفعه إلى القيام بالواجبات وأداء المهمات والمسارعة إلى الخيرات .
هذا الإيمان هو مملكة الضمير الحية ، التي عندما غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في أمته وأصحابه لم يكن في ذلك المجتمع من المفاسد والمنكرات والجرائم إلا ما يعد على أصابع اليد أو اليدين دون أن يكون في زمانه عليه الصلاة والسلام ولا في زمان من بعده عليه الصلاة والسلام لم تكن هناك بطاقات ممغنطة ، ولا كاميرات تصور ، ولا شرطة تجوب الشوارع والطرقات ، ولا شيء من ذلك ، ومع ذلك ما هي الجرائم التي وقعت ؟ وما هي الاعتداءات التي تحققت ؟ ثم ماذا وقع ما الذي وقع ؟ وكيف اكتشف عندما وقعت بعض هذه المحرمات والفواحش ؟ هل اكتشفتها المتابعات الأمنية ؟ أو توصلت إليها الأدلة الجنائية ؟ أم أن الذي أخرجها إلى حيّز الوجود الحس الإيماني ، واليقظة الشعورية ، والمراقبة لله - عز وجل - والخوف منه - سبحانه وتعالى - إذا أحيينا الإيمان في القلوب فقد نشرنا الأمان في المجتمعات .
ماعز الأسلمي ..قصته في الصحيح ، في لحظة غفلة هوى ، واستزلال شيطان ن وضعف نفس ، وتبرج زينة ، وإغراء شهوة .. وقع في جريمة الزنا ..لم يره أحد ولم تضبطه شرطة ، فأي شيء وقع ؟ تحرك الإيمان في قلبه .. ندم يعتصر نفسه .. أسى يقطع قلبه ألماً ، فيندفع إلى رسول الله - عليه الصلاة والسلام - مقراً معترفاً :"يا رسول الله زنيت فطهرني " ، فيعرض عنه الرسول - عليه الصلاة والسلام - لعله أن ينصرف ، فيأتيه قِبَل وجهه ويكرر ، فينصرف عنه النبي ثانية وثالثة أربع مرات ، لعل به شيئاً يعني لعله شارب للخمر لا يدرك ما يقول فاستنهكوه ، قالوا يا رسول الله :" ما به بأس " قال : ( لعلك قبّلت ! لعلك فاخذت ! ) حتى أقر فأمر النبي - عليه الصلاة والسلام - برجمه فرجم .
هل يسجل التاريخ مثل هذا في غير وجود الإيمان ؟ وهل يمكن أن يظهر مثل هذا في غير أثر الإيمان ؟ .(/5)
وأبلغ من هذا وأظهر قصة المرأة الغامدية .. جاءت إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - تقر بما أقر به ماعز ، وحديثها في الصحيح كذلك ، فأعرض عنها رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ، فقالت : "يا رسول الله لعلك تعرض عني !كما أعرضت عن ماعز ؛ فإني حبلى من الزنى " ، المرأة وضعها مختلف ، فقال - عليه الصلاة والسلام - يقر حقوق الإنسان الصحيحة ، والرأفة والرحمة الكاملة على وجهها العظيم في سيرته وشمائله عليه الصلاة والسلام : ( اذهبي حتى تضعي حملك ) ، وذهبت دون كفالة حضورية ، ودون بصمات ، ودون صور ، ودون متابعة ، ورجعت بعد تسعة أشهر كاملة ، ما الذي أعادها ؟ كان بإمكانها ألا ترجع .. كان بإمكانها أن تهرب .. رجعت ومعها غلامها رضيع صغير وليد ، فقال لها عليه الصلاة والسلام : ( اذهبي حتى ترضعيه فتفطميه ) ، وهذه رحمته وإنسانيته - عليه الصلاة والسلام - فذهبت به حولين كاملين عامين ، وقبلهما تسعة أشهر ، وهي مصرة رجعت ثانية ومعها غلامها في يده كسرة خبز - دليل على فطمه - فأمر بها النبي عليه الصلاة والسلام فرجمت ، فجاء بعض دمها على أحد الصحابة فلعنها ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( لا تلعنها فإنها تابت توبة لو قسمت على سبعين منكم لوسعتهم) ، هذا هو الإيمان .
نحن نقول : عمقوا الإيمان في النفوس يشيع الأمن في المجتمع ، وتشيع الرحمة ، وينتشر الخير ، ويعمّ السلام الحقيقي ، لا المفروض بقوة الأسلحة ولا بكثرة الشرط ولا بغير ذلك.
الأثر الرابع: حرية الإرادة وقوة المواجهة
ما الذي يضعف الناس خوفهم ؟ ما الذي يجعلهم يغيرون مواقفهم ، ويبدلون آراءهم ، ويغيرون مواقعهم فيكونون مع هذا فيصيرون مع ذاك ، وربما يخونون أمتهم ويبيعون أهلهم ، ويضحون ببلادهم ؟ أي شيء ذلك ؟ إنه لأمرين اثنين يؤثران في حياة الناس: خوف على الحياة، وخوف على الرزق.
خوف على الحياة: إذا هدد بحياته غيّر موقفه وغيّر منهجه وغيّر متابعته وولاءه وبراءه ، ما الذي يعصم من ذلك ؟ ما الذي يؤمن الأمة من أن تخترق من داخل صفوفها ومن أن يكون من بين أبنائها من هو عدو لها وممالئ لعدوها؟ إنه الإيمان .. لماذا؟ لأن الأيمان هو حرية عظيمة أتدركون لماذا؟ لأنه يوّحد الإنسان وقلبه واعتقاده ، وكل شيء في داخله في أمر واحد معلق بالله سبحانه وتعالى .. إنه لا يخشى إلا الله ، ولا يرجو إلا الله ، ولا يذلّ إلا لله ، ولا يسأل إلا الله ، ولا يستعين إلا بالله ، كل أمره معلق بالله ، والناس وقوى الدنيا كلها لا يلتفت إليها ، ولا يكترث بها ، ولا تنال من عزمه ويقينه وتصميمه وإيمانه مطلقاً، وغيره على عكس ذلك ، من لم يخف من الله خاف كل أحد سواه ، ومن لم يذل لله ذل لكل أحد سواه ، ومن لم يستعن بالله استعان وطلب معونة كل أحد سواه، ونرى ذلك واضحاً جلياً في واقع حياتنا ، ولعلنا عندما نستحضر الأمثلة في ذلك ندرك حقيقة الأمر .
إن حقيقة الإيمان ترسخ أنه لا أحد ينفع ولا يضر ولا يقدم ولا يؤخر إلا الله .. قال النبي – صلى الله عليه وسلم - لغلام صغير لم يطر شاربه بعد ، وهو ابن عباس غلام صغير كان مرافقاً ورديفاً للنبي- تعلمون وصية النبي له – ومنها : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف ) .
من يستطيع أن يؤثر على من هذا إيمانه ويقينه .. من يستطيع أن يؤثر على من يؤمن ويوقن بقول الله - عز وجل - : {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: من الآية34].
أنس بن النضر - رضي الله عنه -لم يشهد بدراً فقال : " والله لأن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع ! " . وهذا قول ممكن أن أقوله أنا وأنت ، لكن لا صدق للقول إلا عند الفعل .. جاءت أُحد وشارك فيها أنس بن النضر ، ووقع ما وقع من التفاف ابن الوليد -رضي الله عنه - واضطراب المسلمين ، ووقوع القتل فيهم وإذا بأنس حينئذ يقول: " واها لريح الجنة والله إني لأجد ريحها دون أحد " كأنما يشم رائحتها .. كأنما قضايا الإيمان تجلت ..كأنما هي حقيقة منظورة ملموسة ، وليست مجرد غيب غير معروف ولا ملموس .. " والله إني لأجد ريحها دون أحد " ، ثم انطلق يعانق الموت ويلتمسه ، ويخترق صفوف الكفار والمشركين ، ويقاتل وتخترطه السيوف ، وتتناوله السهام ، في صحيح البخاري :لم يعرف أو لم يعرفه أحد إلا أخته بشامة أو بنانة له ، قال : وفي جسده بضعة وثمانون ما بين ضربة وطعنة ليس فيها واحدة في ظهره .
هل كان هذا يخشى الموت ؟ هل مثل هذا يمكن أن يساوم على حياته ؟(/6)
ولعلنا نتذكر الموقف العظيم الذي يجمع بين هذا وذاك في قصة عبد الله بن حذافة السهمي - رضي الله عنه - الذي كان مأسورا عند الروم فسأله ملكهم : أترجع عن دينك وأعطيك شطر ملكي ؟ قال: لا ، قال : وأعطيك كل ملكي ؟ قال: لا قال: ولو أعطيتني الدنيا وما فيها ، فأراد أن يأتيه بجانب آخر ، جاءوا بقدر كبير وزيت أشعلوا ناراً فصار الزيت مغلياً ، وأتوا ببعض أسرى المسلمين يغمسونهم في هذا الزيت ، يدخل أحدهم لحماً ويخرج عظماً ، وعبد الله ينظر وبعد واحد واثنين وثلاثة دمعت عينه - رضي الله عنه - فأخبر الملك ، فقال: علي به ، ظن أنه قد لان وهان وذل وتابع وغيّر وبدل ، فلما جاءه وجده على ما هو عليه ، قال : فما بكاؤك ؟! قال : لقد علمت أن لي نفسا واحدة تغمس في هذا القدر فتزهق في سبيل الله ، ووددت لو أن لي بعدد شعر رأسي أنفسا تزهق كلها في سبيل الله .
كان يفكر في ميدان آخر ..كانت مشاعره غير ما يفكر به ألئك الدنيويون الخائفون الجبناء الأذلاء .
ولذلك يقول علي رضي الله عنه:
أي يومي من الموت أفر **** يوم لا يقدر أو يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ومن **** المقدور لا ينجوا الحذر
ونعرف في هذا أمثلة كثيرة ، لعلي أختم بمثال حبيب بن زيد - رضي الله عنه - يوم بعثه الرسول إلى مسيلمة الكذاب ، فكان يقول له : " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله " ، فيعيد عليه مسيلمة يريد أن يقول : " وأن مسيلمة رسول الله " ، فيقول : لا أسمع .. لا أسمع ، فيكرر عليه ، فيقول : لا أسمع ، فيبدأ بقطع أعضائه .. يقطع أذنه ، ثم يقطع أنفه ، فقطع أوصاله حتى سمت روحه إلى بارئها .. لن يغير موقفه ، ولن يبدل ، ولم يكن ذلك الذي يمكن أن يساوم على دينه ، ولذلك قوة الإيمان حرية لا يستطيع أحد أن يملك بها شيئا تغير به معتقدك.
قد تملك سوطا يكويني **** وتحز القلب بسكيني
لكن سلطانك لن يرقى**** لذرى إيماني ويقيني
وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم.
وكذلك التحرر من الخوف على الرزق:
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات:58].
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذريات:22].
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: من الآية6].
أفإذا أعطينا غيرنا أو منعنا بدلنا ؟ أفلا نرى المواقف اليوم وهي تباع وتشترى بالدرهم والدينار ، أو بالجنيه والدولار ؟ أفلا نرى ذلك الضعف والاختراق الأمني الخطير في صفوف الأمة الإسلامية ؟ منشؤه عدم وجود هذا الإيمان.
كعب بن مالك - رضي الله عنه - من المخلفين الثلاثة .. قوطعوا .. منع الحديث معهم ، قال عن نفسه : "حتى ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت " عندما كان هذا التغير في هذا الفرد علمت الدولة العظمى بذلك ، وكانت تعلم أن الصف متماسك ، ولسان حالها : " لعل هذه لبنة يمكن أن يكون الاختراق منها .. لعل هذا الغاضب الآن على أهله وقبيلته أو عشيرته أو أمته أو أهل ملته .. لعله الآن يكون مهيأ لينتقل إلى صفوفنا ، وليكون من أوليائنا ، ولنجعله سهماً ورمحاً نطعن به في خاصرة أعدائنا " فأرسلوا إليه ، وكعب يقص القصة قال: " فإذا رجل من الأنباط يسأل عني فأشاروا إلي فجاءني فأعطاه رسالة ، ماذا فيها ؟ " قد علمنا أن صاحبك قلاك ـ يعني محمد صلى الله عليه وسلم، قلاك: يعني هجرك ـ فالحق بنا نواسك ، ولم يجعلك الله بأرض مضيعة " .
تعال إلينا .. أقبل علينا سوف نعطيك ونعطيك ونجعلك ونقدم لك .. والذي يبيع موقفه يباع كما باع ،والذي يذل لا يلقى شيئا لا من دنياه والعياذ بالله ولا من أخراه وهذه قضية مهمة لعلنا نجعلها في أولى الأولويات في قضية هذه الآثار الإيمانية وللشافعي رحمه الله مقالة جميلة يقول فيها:
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً **** وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي **** نفس حر ترى المذلة قهرا
من كان يوقن بذلك لا يبيع نفسه بدرهم ولا دينار،
الفضل بن دكين من علماء الإسلام عندما جاءت فتنة خلق القرآن كان هو ممن يدرسون ويأخذون أجراً من بيت المال ، فلما دعي إلى هذه الفتنة امتنع منها قالوا: إذن نقطع عنك جرايتك ، فأي شيء صنع وفعل ؟ قال: " ما دنياكم التي عليها تحرصون إلا كزر قميصي هذا " ثم خلعه ورمى به في وجوه القوم .. هذه قوة تستعصي على أي انجذاب أو تغيير أو تمييع أو استمالة .(/7)
وكما قال الذهبي في ترجمته: وكان في بيته أربعين نفساً - يعني أسرته ومن يعولهم أربعين نفساً - لم يفكر كيف سيأكلون ؟ كيف يؤمن حياتهم ؟ لأن يقينه بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين قال: فما جاء الليل هو يقص كما ذكر الذهبي في السير قال: فما جاء الليل إلا وطارق يطرق ففتحت فإذا رجل شبهته بسمان يعني مهنته كأن في يديه شيئا من السمن قال: وإذا به يدفع لي كيسا فيه ألف دينار ثم يقول: ثبتك الله كما ثبت هذا الدين ، وإذا كان آخر كل شهر كان مثل ذلك .. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [الطلاق:3-4]
وهذه قضايا إيمانية مهمة في أحوالنا الملمة ، نحتاج إلى أن نتأملها وأن نتدبرها ، والآن وإن كان الوقت قد طال بنا في هذا لكنني أراه مهماً ، وما سيأتي أكثر أهمية لعلنا نستطيع - إن شاء الله - أن نذكر بالمهم من المسائل والتوجيهات التي نحتاجها في هذه المصيبة والملمة ، التي نسأل الله عز وجل أن يكشفها عن الأمة وأن يفرج عنها بإذنه سبحانه.
أولاً نريد الجوانب المتعلقة بالجهة الإيجابية للعمل ، وقبل ذلك لابد من معرفة الحقائق ، وبينهما لابد من الاجتناب والارتكاز على المبادئ : إن المواقف لا تبنى على المصالح ، وإن الأحكام لا تؤخذ من الأهواء وإنما ترجع إلى الأصول الثابتة الجامعة ، والجمل الجامعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
حقائق العمل الإيجابي
أول الحقائق أيها الأخوة : معرفة حقيقة أعدائنا
وهذا أمر مهم ؛ فإن أمريكا وغير أمريكا ليس عداؤها للإسلام اليوم ، وليست مواجهتها لأمة الإسلام في هذا العدوان على العراق ، بل هو أعظم من ذلك وأشمل وأوسع ، ولابد أن ندرك هذا وأن نعرف من التاريخ الحديث قبل القديم هذه الحقائق ، ولعلنا نشير إشارات سريعة إلى بعض ما يدل على ذلك ويوضحه ويكشفه حتى نكون على صورة بينة واضحة.
هذه القيادة المعاصرة للقوة العظمى - كما يسمونها -صرح رئيسها عند توليه مقاليد الحكم أي قبل أن تحدث الأحداث التي يرجعون إليها هذه التوجهات والحرب التي يزعمونها على الإرهاب يقول في حديثه: " إن لأمريكا زمن القوة العسكرية التي لا منافس لها ، وطريق الأمل الاقتصادي والنفوذ الثقافي ، إنه السلام الذي يأتي بعد الانتصار الساحق " . هذا هو المفهوم ، وهذا هو التوجه .. وفي وثيقة السياسة الخارجية التي اتخذها هذا الرئيس أيضاً يقولون في وصفها والذي قدمها بين يدي ركنه " إنها يمينية من حيث الأديولوجية أي العقيدة ببعديها السياسي والديني ، تسعى لتحقيق مصلحة قومية عليا كونية اقتصادياً وثقافياً ، وتتجاوز كل تحرك أمريكي من أجل هذا على مدى القرون الماضية ، إنها الحركة التي تعكس كياناً إمبراطورياً يسعى للوجود في كل بقعة من بقاع الأرض " .(/8)
وفي تصريح لمدير مكتب التخطيط للسياسة الخارجية الأمريكية يقول : " الهدف الأمريكي للسياسة الخارجية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين ما هو؟ هو إدماج بلدان ومنظمات أخرى في الترتيبات التي ستدعم عالماً يتسق مع المصالح الأمريكية وغطرستهم وطغيانهم واضحة في كل ما هو معلن ، مما يحتاج أن نكشفه ، وأن نقرأه ، وأن نعرف به استراتيجية الأمن القومي التي عرضت على الكونجرس الأمريكي التي تقول: أمريكا ستعمل على حسم المعركة مع العالم الإسلامي ، وأمريكا لا زالت مستمرة للحصول على دعم المجتمع الدولي ، إلا أننا لن نتردد في اتخاذ خطوات من جانب واحد إذا لزم الأمر ، وسنشن حرب أفكار لننتصر في المعركة " . ويقول نائب وزير الدفاع: " ينبغي منع أي قوة معادية من السيطرة على مناطق يمكن لثرواتها أن تجعل هذه القوة قوة عظمى ، كما ينبغي تثبيط عزيمة الدول المتقدمة إزاء أي محاولة لتحدي زعامتنا ، كما علينا التنبه والتوقع لأي بروز يحتمل منافسة لنا على مستوى العالم " . وحتى ندرك طريقة الهجوم والعداء ، وأنه لا يتعلق بالجانب العسكري نضيف نصاً من استراتيجية الأمن القومي: " إن هناك نظاما للقيم الأمريكية لا يمكن المساومة عليه ، وهذه هي القيم التي نتمسك بها " . ويقول هذا النص: " وإذا كانت هذه القيم خيرة لشعبنا فهي خيرة لغيرنا ، ولا نعني أننا نفرضها بل نعني أنها قيم الهيبة " . يعني أيضا تفرض بالقوة التي يزعمون أنها حرية الشعوب وغير ذلك وأما الجانب الآخر فإن كل ما يقولونه من الديموقراطية وحقوق الإنسان وغير ذلك مما يخدع وللأسف بعض المسلمين .. هو قضية مكذوبة ليس بقولنا وليس من عندنا ولا بأدلة كتابنا وسنة رسولنا ، فذلك لا يقبلونه ولكنه بواقع الأمم والدول المختلفة التي لا تدين دين الإسلام ، وهي تشكو من هذه القوة الباغية الطاغية هناك مجال لذكر كثير من هذه الحقائق ، ولكننا نقول والأمر واضح وبين في التجربة القريبة لأفغانستان الحبيبة ، كل ما يقولونه اليوم قالوه من قبل فهل تحقق شيء منه ؟ وهل رفرف الرخاء الاقتصادي ؟ وهل ظلل الأمن الاجتماعي ؟ وهل شاعت العدالة ؟ وهل ملك الأفغان أمرهم ؟ وهل رحلت عنهم القوات الأجنبية ؟وهل ..وهل.. وهل؟
سبحان الله ! كيف يغتر الناس ويصدقون الكاذب رغم قرب كذبه وظهور كذبه بأمر واضح بين لا يحتمل لبسا ؟ حتى الديموقراطية التي يزعمونها قد نقضوها حتى في مجتمعاتهم ، وبالأمس أمريكا دولة الحرية والديموقراطية تعتقل اثنين من الحاصلين على جائزة نوبل للسلام ، لأنهم عارضوا الحرب ووقفوا معارضين لها في مظاهرت داخل أمريكا ، ونحن نسمع ونسمع الكثير من العجائب والغرائب ، ومع ذلك من بني جلدتنا ومن المسلمين من لا يزال يكذّب كل هذا ، ويكذّب شعوب الأرض ، ويكذّب حتى الأمريكان الذين يستقيل بعض مسؤوليهم كما سمعنا هذا اليوم الكبار معترضين على أمور هنا وهناك ، ونرى بعد ذلك الشعوب كلها وهي تعارض ، وبعد ذلك يقولون : إن هذا يفعل باسم الديموقراطية ، وباسم القوانين الدولية ، وأنه يسعى إلى تحرير الشعوب المضطهدة للحفاظ على ثرواتها ، وإلى تقديم الخير لها ، فلابد من تجلية هذه الحقائق ومعرفتها ، ولابد من كشف الزيف والزيغ الذي قد يكون ملتبساً عند بعض الناس ؛ لأن معرفة الحقائق هي الأساس الذي نلجأ إليه أو نعتمد عليه في التصورات التي تأتي بعد ذلك .
ولعلنا ننتبه أيضا إلى نقطة أخرى تتبع هذه القضية وهي: ما الذي نرجع إليه؟ ما الذي نستند إليه في معرفة هذه الأحوال والحكم عليها؟ وهنا أشير إلى ثلاث نقاط إشارة موجزة مختصرة :
الأول: المرجعية العليا المطلقة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهي الحاكمة على القوانين والشرائع الوضعية ، وهي الحاكمة على الأحوال والوقائع الحياتية ، ونرجع فيها إلى الجمل الثابتة والثوابت القاطعة من كتاب الله ن وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا نختلف على أمور فرعية . إن القاطع الواضح البيّن - كما سنذكر لاحقاً - من الأمور التي ليس فيها قولان كما يقولون ، تستطيع الأمة أن تجتمع عليها وأن تأخذ بها .
الأمر الثاني: تقدير وتغليب المصالح على المفاسد بالمقياس الشرعي لا بمقياس الأهواء والمصالح الذاتية(/9)
وهذا أمر معتبر كما قال شيخ الإسلام: " ليس المسلم الذي يعرف الخير من الشر ولكنه الذي يعرف خير الخيرين وشر الشرين " ، وقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أموراً لم يتركها لحرمتها ، بل ربما كان الداعي لها موجوداً ، ولكنه تركها ؛ لأنه قد يترتب عليها مفسدة أعظم كما صح في الحديث عنه - عليه الصلاة والسلام - عند البخاري من حديث عائشة أنه قال: ( لولا أن قومك حديثو عهد بإسلام لأمرت بنقض البيت وبناءه وجعلته على بابين على بناء إبراهيم الخليل عليه السلام ) وترجم البخاري لهذا الحديث باب ترك الأمر لدرء المفسدة أو قريبا من هذا العنوان . وهذا من فقه الإسلام وقواعد الشريعة تضبطهم ، والقواعد الكلية والمقاصد الشرعية مرعية في ذلك ومراعاة فيه ، ويرجع فيها إلى هذه الأصول والقواعد الثابتة ، وإلى أهل العلم الراسخين المخلصين الثابتين على الحق ، الذين يحرصون أن يكونوا على حق ، وأن يخلصوا لهذه الأمة ولدينها ولثوابتها .
الأمر الثالث: مراعاة المآلات والنظر في العواقب بحسب الاجتهادات
فإن بعض المآلات قد يكون ظاهراً بيّناً ، وقد بنى أهل العلم كثيراً من الأحكام على ذلك وبينوها ، وقد جاء كذلك في أصول آيات القرآن وسنة النبي - عليه الصلاة والسلام - ما يشير إلى ذلك ، وإذا كان على سبيل المثال كما قال الفقهاء: إذا كان الجرح مما يكون فيه السراية يلزم القطع ، هناك جرح أو مرض بالظاهر ، وغالب الظن أنه سوف يمتد ليتلف العضو كله فهل ننتظر حتى يقع ذلك ، ثم نقطع أو نعالج يمكن المبادرة إذا كان الأمر ظاهراً في هذه المآلات ، وذلك يحتاج إلى بصيرة بالواقع وعلم به ، إذا عرفنا ذلك عرفنا كيف نتخذ المواقف الصحيحة .
وقفتان أخيرتان
الأولى: في المواقف المهمة التي يكثر السؤال عنها.
والثانية: في التوجيه للعمل والإرشاد إلى الواجب في هذه الأحداث الملمة.
أما الأول: فهو الحكم المتعلق بالاعتداء على المسلمين وعلى بلادهم خاصة ، و نعني بهذا الحكم الحكم على أهل البلاد - أي أهل العراق - هنا أمر واضح قد قال العلماء بالقطع والجزم به والإجماع عليه وهو: إذا اعتدى الكافرون على بلد مسلم وأهله المسلمين ؛ فإنه يجب جهادهم وقتالهم ودفعهم ، وهذا معروف عند العلماء بجهاد الدفع والنوع الآخر هو جهاد الطلب : أي الذي يطلب فيه المسلمون غيرهم وينتقلون إلى البلاد لينشروا رحمة الله - عز وجل - ونور الإسلام ، فمن منعهم جاهدوه وقاتلوه ، قال ابن عبد البر رحمه الله: " والفرض في الجهاد ينقسم إلى قسمين: أحدهما فرض يتعين على كل أحد ممن يستطيع الدفاع ، والقتال ، وحمل السلاح من البالغين الأحرار ، وذلك بأن يحل العدو بدار الإسلام محارباً لهم ، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الديار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً ، وشباباً وشيوخاً ، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل ومكثر " . وقال النووي رحمه الله : " وإن دخل بلدة أي العدو يتعين على أهلها - أي الجهاد - وأما أهل غير تلك الناحية فمن كان منهم على دون مسافة القصر فهو كبعضهم حتى إذا لم يكن في أهل البلدة كفاية وجب على هؤلاء أن يطيروا إليهم واستشهدوا بذلك ي قول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [ التوبة: من الآية123] . وبقوله جل وعلا: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: من الآية120] " .
ثمت أسئلة أو اعتراضات قد ترد على هذا ، ومنها: أن نظام العراق نظام بعثي والبعث في عقائده كفر صريح ، لكننا لن نحكم على أعيان الناس بكفرهم ، ونقول إن أهل العراق كلهم أهل بعث ، كلا ! أكثرهم أهل إسلام وإيمان ، وجهاد الدفع لا تطلب فيه الراية ، بل لأنه يدافع عن نفسه ، وعن عرضه ، وعن ماله ، وعن داره ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( من قاتل دون عرضه فهو شهيد، من قاتل دون ماله فهو شهيد ) فلا يقال : إن هذا القتل يكون تحت راية عونية أو كافرة ، وحتى لو كان ذلك فإن فيه أمران:
الأمر الأول: أنه ليس كل أحد من أولئك ، حتى الحزبيون يقولون بكل هذه الأقوال الحزبية الكفرية ، بل كثيرهم أو بعضهم ، كما وقع في السنوات الأخيرة قد أصبحوا يصلون ويصومون ويتلون القرآن ويحفظون أشياء منه.(/10)
الأمر الثاني: أنه قد تكون تقديرات المفاسد والمصالح ، فهذا وإن كان كفراً لكننا نعلم أن عداء أمريكا أعظم ، وقوتها أوسع ، وأن الضرر الناجم عن ما يكون من وراء ذلك أخطر وأشد فتكاً ، ونحن نسمع ونعلم ويقال ذلك صراحة ، إن هذه إنما هي خطوة ، وإن الحرب العسكرية إنما عي صورة من الصور ، وأن المطلوب - كما هو مذكور - أن يغيروا سياسات واقتصاديات واجتماعيات ومناهج وتعليم وكل شيء في هذه المنطقة ليهبوهم الحرية على تصوراتهم و.. و.. إلى آخر ما هو معلوم ومذكور في مثل هذا ، ولابد أن ننتبه إلى هذا المعنى .
موالاة الكفار
الذي يكثر الحديث عنه أيضا - وهو مهم جداً - وهو الموالاة والمحاربة مع الكفار ضد المسلمين ، وهذه قضية مهمة وخطيرة ، وللقرآن فيها نصوصه واضحة وجلية وصريحة كما في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة: من الآية51 ] .
وكما في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [ التوبة:23 ] .
وكما في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [ الممتحنة:1 ] .
قال ابن جرير في تفسيره على الآية الأولى : " من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم ؛ فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه ، وما هو عليه راض وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه " ، ويرد على ذلك ما قد يقوله بعض الناس : إنهم ليس لهم خيار ، وإنهم مضطرون ، أو محتاجون أو غير ذلك من التبرير .. نقول : المسألة هنا فيها قضية مهمة فاصلة ، وهي أن هذا الاضطرار المزعوم والإكراه إن وجد يترتب عليه سفك دم المسلم ، وهذه قضية مختلفة لو كان الإكراه أو الاضطرار فيه ثم دون ذلك يمكن أن يكون موضعاً للأخذ والرد ، أما وإنه يترتب عليه بشكل واضح قاطع سفك دماء المسلمين وإزهاق أرواحهم فإنه لا يسوغ ولا يجوز ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " إذا كان المكره على القتال في الفتنة ليس له أن يقاتل بل عليه إفساد سلاحه ، وأن يصبر حتى يقتل مظلوماً ، فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام " ، ثم قال : " لا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكره على الحضور ألا يقاتل " قال : " ولو أكره رجل رجلا على قتل مسلم معصوم - أي معصوم الدم - فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين وإن أكرهه بالقتل فإنه ليس له حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس " .
وحسبنا في ذلك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه) والأمر كما قلنا في هذا أيضا واضح ومهم جداً .
الموقف ممن يقاومون من إخواننا العراقيين(/11)
نحن نقول : إن هؤلاء في صورتهم الحالية يدافعون عن من جاء إلى بلادهم واعتدى عليهم وغزاهم في عقر دارهم ، وهم يدفعون بذلك عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم .. نقول : إن هذا في حد ذاته ولو لم يكن من أهل إسلام وإيمان يستحق من أهل الإسلام أن ينصروا ، وأن يؤيدوا ، وأن يثبتوا ، وأن يعينوا ؛ لأن نصر المظلوم قد كان حتى في الجاهلية ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر فقال كما في الصحيح عند مسلم : (لقد شهدت في بيت عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت) ما هو هذا الحلف ؟ حلف الفضول لما تداعت قريش أن لا يكون في مكة مظلوم له حق إلا انتصروا لظلمه ، وردوا حقه .. جاهليون مشركون كانوا إعظاماً لحرمة البيت يرون نصرة المظلوم ، ثم إننا نقول : كثير من أهل العراق ، وخاصة في الآونة الأخيرة قد حسن إقبالهم على الله ، وتوبتهم إليه ، وكثرة طاعتهم ، والمساجد ممتلئة ، والقرآن حلقاته وحفظه منتشر ، وغير ذلك كثير ، ولكننا نقول : في الوقت نفسه نحن لا نؤيد البعث ، ولا نقرّ به ، ولا نقرّ عقائده ، ولا نقرّ من يتبنى هذه العقائد أو يحملها أو يرفعها ، ولذلك نقول لهم : نحن معكم ، ونذكرهم فنقول : أخلصوا دينكم لله ، واجعلوا جهادكم أو مقاومتكم ابتغاء مرضات الله ، فتنالون حينئذ خيري الدنيا والآخرة .. لا ترفعوا راية بعثية ، ولا تكونوا مع جهة حزبية لا تدين لله - عز وجل - ولا تؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا تغلب مصلحة الإسلام ، ولا ترفع رايته ، ولا تستحضر أن المواجهة بين الكفر والإسلام ، وإنما هي مواجهة مصالح أو مطامح أو قوى أو نحو ذلك ، فهذا أيضاً مما ينبغي أن نذكره ، وأن ننبه عليه ، وأن نستشعره بإذن الله عز وجل ، ولا شك - كما قلت - أن الذي يعين على هذا ويوضحه كثيرا قضية : معرفة ما وراء هذا الهجوم من أهداف اقتصادية ، وسياسية ، وفكرية ، ومنهجية ، وخطؤها المتعدي على العراق إلى سائر البلاد ، ولا نشك أبداً أن أكثر البلاد استهدافاً هي هذه البلاد لما فيها من الحرمين الشريفين ، ولما فيها أصلاً من صبغة إسلامية أكثر ، وأوضح ، وأظهر ، وأشهر من كل البلاد ، ونحن نعلم أن النظم وأن السياسات المقرة المعتمدة كلها صيغتها إسلامية ، لا يعني أننا قد نلنا كمالاً ، وأنه ليس هناك تقصير ، وأنه ليس هناك تفريط ، وأنه ليست هناك مخالفات ، ولكن نحن نعلم أن هذا الخير الموجود مستهدف أكثر من كل شيء ، فلا ينبغي أن يكون نظرنا إلى النقص أو القصور مانعاً لنا أو صاداً لنا على أن ننظر إلى الخطر الداهم ، بل بالعكس ينبغي لهذا الخطر الداهم أن يجعلنا نتحد في مواجهته ، وأن نحسن التناصح والتدارك لما نحن عليه من شيء القصور أو التفريط ؛ لأننا سنذكر الآن جملة من هذه الأمور التي نحتاجها .
الأمر الأول : ضرورة الاعتصام بالكتاب والسنة والرجوع إليهما والإكثار من الصلة بهما
فبهما - كما قلنا - نور البصيرة ، وسكينة النفس ، وطمأنينة القلب ، وبهما وضوح المواقف ، وبهما جلاء الأحكام والمفاصل التي يحتاج إليها المسلم مع استعانته بعد الله - عز وجل - بأقوال أهل العلم الراسخين من المخلصين بإذن الله عز وجل .
الأمر الثاني : الحرص على الوحدة والائتلاف ونبذ الفرقة والاختلاف
إن أحسن هدية ، وأعظم فرصة تقدم للأعداء أن تختل صفوف المجتمعات والدول والبلاد الإسلامية من داخلها ، وأن يكون بينها تنابز بالألقاب ، وتباعد في الآراء ، واختلاف في المواقف يتطور أحياناً إلى أن يكون خصومة ونزاعاً ، أو أن يصل إلى أن يكون قتالاً واقتتالاً ، وهذا هو الذي يقر أعين الأعداء ، ولذلك نقول : قد يختلف اجتهادي مع اجتهادك ، وقد يكون لك رأي ولي رأي في بعض المسائل ، وقد يكون ثمة طريق للإصلاح تراه آخر يرى غيره ، وقد يكون لعالم تصور في درء هذه المفاسد ولآخر غير ذلك .
ينبغي أن يكون هذا الاختلاف في مثل هذا سبباً لأن نثير الفتنة والبلبلة ، وأنه نعظم الشقة ، ونكثر من الاختلاف والخلاف ، حتى ولو رأينا ما نظنه قصوراً ؛ فإن حسن التأتي مهم ، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم الأحزاب كتم ما علمه يقيناً من نقض قريظة للعهد ؛ حتى لا يثير البلبلة ، وحتى لا يكون هناك إشكال في داخل المجتمع .
الأمر الثالث: الحذر من الإرجاف وترويج الشائعات(/12)
وكثيرة هي الأقوال التي تقال ليس لها خطام ولا زمام ، وليس لها دليل ولا برهان ، لا تنقل شيئا ما لم يكن بينّاً واضحاً ، وحتى لو كان بينّاً واضحاً إن لم تكن في نقله مصلحة واضحة ينبغي أن تفعل ؛ فإن النبي - عليه الصلاة والسلام – قال : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) ، قيل : حتى ولو كان الكلام حقاً ، إن ترتبت عليه مفسدة في سوء فهم الناس ، أو صدهم وإعراضهم عنه ؛ فإنه يكون السكوت عنه هو المطلوب ، وقد قال علي بن أبي طالب كما ورد عند البخاري في الصحيح : " حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكذّب الله ورسوله " ، لا تأتي للناس بما لا تحتمله عقولهم فيصدون ويعرضون ، وينكرون ثابتاً من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه – قال : " ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " قال الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات : " هذا من الابتداع " ، يعني تحديث الناس بما لا يعرفون .. قوم من العوام لا يحسنون هذا تأتيهم بكلام يفهمونه على غير وجهه ! لا ينبغي لنا أن ننقل الكلام وأن نشيعه وأن نسمع طرفاً من القول فنردده ، وهذا من البلايا ، وقد ورد في التاريخ أن عثمان - رضي الله عنه - لمّا سمع بعض ما يقال عليه من بعض هذه الشبهات قال في يوم موسم الحج : " لأقومن مقاماً حتى أبيّن وأجلّي كل شيء " ، يعني أراد أن يتكلم في الناس ، ويقول يقولون كذا وكذا ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : " يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس ورب كلمة يطيرها عنك مطير " من يفقه مع هؤلاء الناس ؟ لابد أن نحسن أين نضع الكلام ؟ وأين نقوله ؟ ولمن نقوله ؟ لا يكون همّنا هو النقل ، وكثرة هذا النقل بعضه مغلوط ، وبعضه مغشوش ، وبعضه ليس بصحيح ، وبعضه قد يكون صحيحاً لكنه ليس نافعاً ، لهذا إذا سمعت قولاً فتحرّى فيه ، وتثبت منه ، وأرجعه إلى بعض من تثق بعلمه ، وحسن حكمته وسياسته ودرايته ، لا ينبغي لنا أن نكون نحن من أسباب البلبلة التي تثار ، كما جاء في بعض الأسئلة من انتقادات يسألون عن انتقادات العلماء أو معارضة الولاة ، هذا لا ينفع في هذا الوقت ، وهذه أمور من الأمور التي يلبس بها الشيطان على الناس ، لا يعني أن تقر خطأ ، ولا يعني أن توافق على باطل ، كلا ! ليس ذلك ، لكن ثمة خطر أكبر لابد أن نئتلف على مواجهته ، ولابد أن نراجع أنفسنا بالحكمة والبصيرة والدعوة وحسن التأتي ؛ حتى نحقق المصالح ، وندفع المفاسد بإذن الله سبحانه وتعالى .
الأمر الرابع: عدم إشاعة ما يدخل الرعب أو اليأس في قلوب الناس
وقد جاء هذا في الأسئلة عظموا هذه القوة الأمريكية .. عندها كذا من الصواريخ ، والأسلحة النووية ، والتسنط ، والتجسس ، والرصد والبث ، وغير ذلك ، حتى لو كان صحيحاً لمَ نقوله ؟ حتى نجعل الناس يكون في نفوسهم شيء من التهويل أو التعظيم لأعداء الله ، كلا ! والله إنهم أحقر وأدحر وأرذل وأحقر من أن يكونوا أصحاب قوة وهيبة وقد خلا الإيمان من قلوبهم ، وذهبت الاستقامة والفطر السليمة من نفوسهم ، وإنهم - والله - لأحقر من ذلك ، وينبغي لنا أن نشيع غيره ، وعكسه أن نشيع ما رأيناه بأعيننا ، وما نسمع عنه من اضطرابهم ، ومن تغير خططهم ، ومن ترددهم ، ومن كونهم كانوا يأملون سرعة فإذا هم في بطء وسهولة ، وإذا هم في عسر .. وائتلافٌ فإذا هم في اختلاف ، وإذا بنا نرى ما نرى مما قيل وإن كان صحيحا أو غير صحيح على وجه الدقة لكن الجملة ترشدنا إلى ذلك فتاة تدمر دبابة أو بندقية تعطب طائرة حتى لو كان ذلك صحيحاً أو لم يكن صحيحاً نقول إن الواقع كله برمته لاشك أنه غير طبيعي ، وإننا نقول إن كان في أهل القتال والمقاومة إخلاص وإسلام ، فنسأل الله أن يكون ذلك ؛ لأنهم كذلك وبدعاء المسلمين أمثالكم في شرق الأرض وغربها ، وذلك خير وأمر مهم لابد أن نحرص عليه .
الأمر الخامس: الدعاء والالتجاء إلى الله - عز وجل - وهذا أمر بين والله عز وجل قال: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْض } [ النمل: من الآية62 ].
لا أحد سوى الله - عز وجل - ليس لنا من دونه كاشف .. أخلصوا لله - عز وجل - وادعوه ، والتجئوا إليه ؛ فإن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، وفي معاركه كان الدعاء أمراً ظاهراً ، كما صنع في يوم بدر : ( اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلها وخيلائها تحاد الله ورسوله ، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا ) وظل يدعو حتى سقط رداءه عن منكبه الشريف ، فقال له أبو بكر: "حسبك فإن الله منجز لك ما وعد " .(/13)
ولابد أن نكثر من هذا الدعاء في صلاتنا ، وفي ليلنا ، وفي كل أحوالنا بإذن الله عز وجل ، وأيضا الإصلاح والتغيير : فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .. { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا }[ الأحقاف: من الآية13] .
نحتاج إلى استقامة أحوالنا ، وصلاح أعمالنا ، ونبذ المخالفات الشرعية والمعاصي الآثمة ، وغير ذلك ، ونحن نعلم من أنفسنا قبل أن ننظر إلى غيرنا أننا مقصرون ومفرطون ، وأنه بسبب ذنوبنا وبسبب تقصيرنا وبسبب تفريطنا وعدم أداء واجباتنا سلط الله علينا ما سلط من هذا البلاء ، الذي يمحص فيه أهل الإيمان من أهل النفاق ، وقد قال سبحانه وتعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } [ الروم:41 ] .
{ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير } [الشورى: من الآية30 ] .
وكما قال الله - عز وجل - للمسلمين من أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - الذين كانوا مع سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ثم خالفوا أمرا من أوامره : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } [ آل عمران: من الآية165] .
أصلحوا أنفسكم يصلح الله أحوالكم ، وهذه قضية مطّردة .. مواجهة أعدائنا بأمور كذلك مهمة من أهمها : المعرفة والتعريف : اعرف ما يجري ، واعرف حقيقة الأعداء ، وعرّف بذلك بدلاً من أن تنقل البلبلة والمشاكلة انقل فضائح الأعداء .. انقل مكرهم وكيدهم الذي يتربصون به بأهل الإسلام .. عرّف بأحوال المسلمين .. بأرض فلسطين ، وفي العراق ، وفي كشمير .. اجعل كل أحد يعيش مآسي المسلمين ، ويعيش مع إخوانه .. اقذف في القلوب العزة الإيمانية ، والقوة اليقينية ، واقذف في قلبه كذلك المشاركة الشعورية ، والأخوة الإيمانية ، والرابطة الإسلامية ؛ حتى نحيي هذه المعاني ، ونستحضر ما كان عليه الإسلام في عزه يوم قالت امرأة في أقاصي الأرض : " وامعتصماه " فسيّر لها المعتصم جيشا أوله عند الروم وآخره في بلاد المسلمين ، متى يكون ذلك إذا لم نحيي هذه المعاني .. إذا لم نعرف .. إذا لم نؤكد .. إذا لم نربط إذا لم نوثق نحتاج إلى هذا بقوة.
الأمر السادس : المقاطعة لأعداء الله
وهي مقاطعة شاملة مقاطعة اقتصادية بترك الشراء لبضائعهم ومنتجاتهم ، ولعل هذا من أقل القليل ، ويعجب المرء عندما يقول : إن هذا لا ينفع ، ويخذل عن هذا : أخي لو لم يكن فيه نفع إلا أنك كلما أردت أن تشتري فامتنعت .. تذكرت أن هؤلاء أعداءك ، وتذكرت أنهم بأموالهم يقتلون إخواننا في فلسطين وفي العراق أو هنا أو هناك ، يكفي هذا فكيف إذا قلنا : إن ثلاثمائة وألف مليون مسلم إذا قاطعوا لا يؤثرون ؟ والعجيب اليوم وأنتم تقرؤون في صحف هذا اليوم من يدعوا للمقاطعة ؟ شعوب غربية ، وشعوب آسيوية بوذية ، ومن كل ملل ونحل الأرض تدعوا إلى مقاطعة أمريكا ؛ لأنها ظالمة وجائرة ؛ ولأنها معتدية على حقوق الإنسان ؛ ولأنها مخالفة للشرائع والقوانين الدولية ، ألذلك أمره يدعو إلى العجب أن يكون في غير أهل الإسلام وأهل الإسلام لا يفعلونه.
ومن ذلك عدم السياحة في بلادهم ، والاستثمار والمتاجرة في بلادهم ؛ حتى يكون لذلك أثر في أن يكون لهذه العلائق كلها بين أهل الإسلام ، وفي بلاد الإسلام فيها تكافل اقتصادي فتته وقطعه سيطرة هؤلاء .
نقطة مهمة - أيها الاخوة - أمران مهمان لابد من ذكرهما: الرؤى والأحلام والحديث عن أحاديث الفتن وآخر الزمان أمران مهمان لابد من التنبيه عليهما .. الرؤى والأحلام ليست أدلة شرعية ، ولا تبنى عليها أحكام عملية ، فمن رأى رؤيا خير فليحمد الله ، ومن رأى غير ذلك فليستعذ بالله ، أما أن يجعل رؤيته منهجاً ليسير عليه المسلمين ، ويقول رأى فلان كذا فافعلوا كذا وكذا ، ما علمنا هذا من قبل ، وليس هذا من أصول الشرع ، ولا من ثوابته .. من رأى خيرا استأنس به أو عمل ببعضه في خاصة نفسه مما هو من أصول الشريعة العامة فلا بأس ، لكن أن نجعل الآن الرؤى وفلان رأى وفلان سيقع وكذا .
ومثل ذلك أحاديث آخر الزمان ثابتة صحيحة ، لكن تفسير معانيها وتطبيقها على الواقع لا يمكن الجزم به ، ولذلك يجزمون به .. ما الذي يحصل ؟ يحصل أمر مهم وهو غير مناسب مادام سيحصل هذا فلننتظر لا تعمل شيئاً .. كل واشرب وانتظر حتى يقع كذا ، أو يقع كذا ، أو تأتي كذا ، أو يحصل كذا .. ما هذا ؟ إن الإسلام طلب منا أن نعمل.. { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } [ التوبة: من الآية105].
لا ينبغي أن ننتظر أنه سيكون مقتلة شرقي النهر وغربي النهر .. نؤمن بما ثبت من الأحاديث الصحيحة ، لكن من الذي سيفعله ؟ إذا لم أفعل أنا ولم تفعل أنت من الذي يقوم بهذا ؟ كل الناس ! هؤلاء إذا شاعت هذه الأمور قالوا انتظروا سوف يحصل كذا وكذا .. سننتظر ولا نعمل .. ما هذا ؟ هذا غير مقبول ..(/14)
وأمر آخر أحيانا يدخل الإحباط إلى النفوس ، ويقولون ليس هناك أبدا حل ، ولا يمكن عمل شيء انتظر حتى يأتي شيء من الله ، وكأن الله - سبحانه وتعالى -لم يجعل سنة ماضية تطبقت على رسول الله - عليه الصلاة والسلام - لو كان الأمر ينصر بالخير لنصر الرسول صلى الله عليه وسلم من غير قتال ، فينبغي أن نتنبه لهذا ، وأن نلتفت إليه ، ولعلنا - كما قلت - هناك أمور كثيرة ينبغي الآن أن نستفرد منها ، ومنها وهي أمر مهم : الدعوة والإعلام لابد من أن ننشط الدعوة إلى الخير والإصلاح فيما بيننا ، وأن ننتبه وأن نحرص عليه ، وأن نتواصى به ، وكما قلت : ربما تكون الأمور كثيرة في مثل هذا ، وبعض الناس يسألون : أخي اصنع شيئا لنفسك أصلح نفسك وأصلح بيتك وأصلح إخوانك وبصر بقضايا المسلمين نحن معركتنا مع أعدائنا ليست هي المعركة في العراق وليست هي المعركة العسكرية أليسوا يريدون أن يغيروا مناهج التعليم فمن يتصدى لهم أليسوا يريدون أن يحرروا المرأة لتكون امرأة منحلة لا حشمة لها ولا حياء من يتصدى لهذا أليسوا يريدون أن يجعلوا أنظمة حكمنا لا تحكم شرع الله عز وجل من يقف في وجه هذا إن كل من يعمل في هذه الأبواب هو مجاهد في سبيل الله ومرابط كمرابطة الجهاد ليست الأمة كلها تندفع إلى ميدان واحد كما قال الله عز وجل: { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }(التوبة: من الآية122).
هذا التنبيه الرباني قال فيه الخطيب البغدادي في مقدمة الفقيه والمتفقه قال: " فكانت الأمة طائفتان أمة تجاهد ، وأمة تعلم وتدعو ، وبيّن أن كل طائفة تكمل الأخرى ، فلا يعني أن تكون في ميدان دعوة وإصلاح وعمل وبيان أنك متخاذل ، أو أنك نائم ينبغي لنا أن نحصر نصرة الإسلام في حال واحد ، وصورة واحدة .. إما أن تقاتل ، وإما أنك لا تعمل شيئا بين ذلك القتال المباشر في الميادين في سبيل الله وبين البلوغ إليه خطوات كثيرة ، وأعمال عظيمة ، ومن نظر إلى ما قاله ابن القيم في مقدمة زاد المعاد قال: " إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاهد المشركين باللسان والبيان قبل أن يجاهدهم بالسنان " وبيّن أن جهاده في الميادين الأخرى غير الجهاد كان أبلغ وأقوى وأكبر كما قال الله عز وجل : {َ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيرا } [ الفرقان: من الآية52 ] .
جاهدوا بأنفسكم .. جاهدوا بأموالكم .. جاهدوا بإصلاح أنفسكم ..جاهدوا بالدعوة إلى الله عز وجل .. جاهدوا بهذه الميادين كلها ، وجاهدوا حينئذٍ تكونون مهيئين أن تجاهدوا عدوكم في ميادين القتال ؛ لأننا نرى أن الناس يقولون افعل كذا وإلا فليس فيك خير ، من يصنع هذا يخذل الأمة ، ويضعّف من طاقاتها ، ونحن نريد غير ذلك ، والحمد لله رب العالمين .(/15)
... ... ...
الابتلاء بالأمراض ... ... ...
سعود الشريم ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- البلاء يكون بالخير والشر. 2- سبق في قدر الله وقضائه كل ما يقع من مصائب . 3- البلاء كفارة للذنوب. 4- فرح السلف بالمصيبة والمرض. 5- مرض أيوب عليه السلام. 6- أنواع الأدوية التي يتداوى بها الناس. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ، التي هي معتصم عند البلايا، وسلوان في الهم والرزايا، واعلموا ـ حفظكم الله ورعاكم ـ أن الابتلاء سنة ربانية ماضية، هي من مقتضيات حكمة الله ـ سبحانه ـ وعدله، متمثلا وقعه بجلاء، في الفقر والغنى، والصحة والمرض، والخوف والأمن، والنقص والكثرة، بل وفي كل ما نحب ونكره، لا نخرج من دائرة الابتلاء وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168]. وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال.
عباد الله، العاقل الحصيف يجب عليه حتما أن يوقن، أن الأشياء كلها قد فرغ منها، وأن الله سبحانه، قدر صغيرها وكبيرها، وعلم ما كان وما سيكون وأن لو كان كيف يكون، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْء [الأنعام:38]. قال رسول الله : ((أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب قال: رب وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)) [رواه أبو داود][1].
فالمقادير عباد الله كائنة لا محالة، وما لا يكون فلا حيلة للخلق في تكوينه، وإذا ما قدر على المرء حال شدة، وتكنّظته الأمور، فيجب عليه حينئذ أن يتزر بإزار له طرفان: أحدهما الصبر، والآخر الرضا، ليستوفي كامل الأجر لفعله ذلك، فكم من شدة قد صعبت، وتعذر زوالها على العالم بأسره، ثم فرج عنها بالسهل في أقل من لحظة.
قيل للحسن: يا أبا سعيد، من أين أتي هذا الخلق؟ قال: من قلة الرضا عن الله؟ قيل: ومن أين أتى قلة الرضا عن الله؟ قال: من قلة المعرفة بالله.
ولما جيء بسعيد بن جبير إلى الحجاج ليقتله، بكى رجل فقال له سعيد: ما يبكيك؟ قال: لما أصابك. قال سعيد: فلا تبك إذا، لقد كان في علم الله أن يكون هذا الأمر، ثم تلا: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا [الحديد:22].
وما يصيب الإنسان، إن كان يسره فهو نعمة بينة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة؛ من جهة أنه يكفر خطاياه ويثاب عليه، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216]. وصدق رسول الله إذ يقول: ((عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له؛ ولا يكون ذلك إلا للمؤمن)) [رواه مسلم][2].
أيها الناس، إن البشر قاطبة مجمعون إجماعا لا خداج فيه، على أن الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء، لا يراه إلا المرضى، وأن الصحة والعافية، نعمة مغبون فيهما كثير من الناس الأمراض والأسقام ـ عباد الله ـ، أدواء منتشرة انتشار النار في يابس الحطب، لا ينفك منها عصر، ولا يستقل عنها مصر، ولا سلم منها بشر ولا يكاد إلا من رحم الله؛ إذ كلها أعراض متوقعة، وهيهات هيهات أن تخلو الحياة منها، وإذا لم يصب أحد بسيلها الطام، ضربه رشاشها المتناثر هنا أو هناك.
ثمانية لابد منها على الفتى ولابد أن تجري عليه الثمانيه
سرور وهمّ واجتماع وفرقة ويسر وعسر ثم سقم وعافيه
الأمراض والأسقام، هي وإن كانت ذات مرارة وثقل، واشتداد وعرك، إلا أن الباري ـ جل شأنه ـ، جعل لها حكما وفوائد كثيرة، علمها من علمها وجهلها من جهلها.
ولقد حدث ابن القيم ـ رحمه الله ـ عن نفسه في كتابه ((شفاء العليل)) أنه أحصى ما للأمراض من فوائد وحكم، فزادت على مائة فائدة، وقال أيضا: ((انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض، أمر لا يحس به إلا من فيه حياة، فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها)). انتهى كلامه ـ رحمه الله ـ.(/1)
إن الابتلاء بالأمراض والأسقام، قد يكون هبة من الله ورحمة، ليكفر بها الخطايا ويرفع بها الدرجات، فلقد استأذنت الحمى على النبي فقال: ((من هذه؟)) قالت: أم مِلْدَم – وهي كنية الحمى – فأمر بها إلى أهل قباء، فلقوا منها ما يعلم الله، فأتوه فشكوا ذلك إليه فقال: ((ما شئتم؟ إن شئتم أن ادعوا الله لكم فيكشفها عنكم، وإن شئتم أن تكون لكم طهورا)) قالوا: يا رسول الله، أو تفعل؟ قال: ((نعم)) قالوا: فدعها. [رواه أحمد والحاكم بسند جيد][3].
وقال : ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها )) [رواه البخاري ومسلم][4].
وقال رجل لرسول الله : أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا مالنا بها؟ قال: ((كفارات))، قال أبي بن كعب، وإن قلّت قال: ((وإن شوكة فما فوقها)) [رواه أحمد][5].
ولقد عاد رسول الله مريضا من وعك كان به فقال : ((أبشر، فإن الله ـ عز وجل ـ يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا، لتكون حظه من النار من الآخرة)) [رواه أحمد وابن ماجة][6]. والوعك: هو الحمى.
فمن هنا عباد الله، نعلم النتائج الإيجابية التي يثمرها المرض، ونعلم أن مذاقه كالصبر، ولكن عواقبه أحلى من الشهد المصفى، فعلام ـ إذاً ـ يَمْذَلُ أحدنا من المرض يصيبه، أو يسبه ويشتمه، أو يعلل نفسه بليت وليت، وهل ينفع شيئا ليت؟!.
ألا فاعلموا أن رسول الله دخل على أم السائب فقال: ((مالك يا أم السائب تزفزفين؟)) قالت: الحمى، لا بارك الله فيها فقال: ((لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد)) [رواه مسلم][7].
ولقد أصاب أحد السلف مرضٌ في قدمه فلم يتوجع ولم يتأوه، بل ابتسم واسترجع فقيل له: يصيبك هذا ولا تتوجع؟! فقال: إن حلاوة ثوابه أنستني مرارة وجعه.
وبعدُ ـ عباد الله ـ فلا يظن مما سبق، أن المرض مطلب منشود، لا وكلا، فإنه لا ينبغي للمؤمن الغر أن يتمنى البلاء، ولا أن يسأل الله أن ينزل به المرض؛ فلقد قال رسول الله : ((سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية)) [رواه النسائي وابن ماجه][8].
وقال مطرف: (لأن أُعافى فأَشكر أحب إلي من أن أُبتلى فأَصبر).
ومن هنا نعلم جيدا، أن المرض ليس مقصودا لذاته، وإنما لما يفضي إليه من الصبر والاحتساب وحسن المثوبة، وحمد المنعم على كل حال. قال شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ: "المصائب التي تجري بلا اختيار العبد، كالمرض، وموت العزيز عليه، وأخذ اللصوص ماله، إنما يثاب على الصبر عليها، لا على نفس ما يحدث من المصيبة، لكن المصيبة، يكفر بها خطاياه، فإن الثواب إنما يكون على الأعمال الاختيارية وما يتولد عنها" اهـ. كلامه ـ رحمه الله ـ.
ومن هذا المنطلق ـ عباد الله ـ، اجتمع الكافر والمسلم والبر والفاجر في مصيبة المرض على حد سواء، وافترقا في الثمرة والعاقبة، ولا يسوي بينهما في ذلك إلا أليغُ أرعن، واقع فيما قال ابن مسعود : (إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسما، وأمرضهم قلبا. وتلقون المؤمن من أصح الناس قلبا وأمرضهم جسما، وايم الله، لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم، لكنتم أهون على الله من الجُعلان).
ودخل سلمان الفارسي على مريض يعوده فقال له: (أبشر، فإن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتبا، وإن مرض الفاجر كالبعير؛ عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عُقِل ولم أرسل).
عباد الله، إن الإسلام حين يرغب في الصبر على البلوى، ويبين ما تنطوي عليه الأسقام من آثار شافية، وحكم كافية، فلا يفهم مخطئ أنه يمجد الآلام، ويكرم الأوجاع والأوصاب، إنما يحمد الإسلام لأهل البلوى وأصحاب الأسقام، رباطة جأشهم وحسن يقينهم مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً [النساء:147].
اشتكى عروة بن الزبير الآكلة في رجله، فقطعوها من ركبته، وهو صامت لم يئن، وفي ليلته تلك سقط ولد له من سطح فمات، فقال عروة: اللهم لك الحمد، كانوا سبعة من الولد فأخذت واحدا وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، فإن كنت أخذت فلقد أعطيت، ولئن كنت قد ابتليت لقد عافيت.
فرحم الله عروة وغفر له، فلقد كان بعض المرض عنده أخف من بعض، وبلاؤه أهون من بلاء غيره، فهان عليه مرضه، وهانت عليه بلواه.
وهذا هو ديدن المؤمن، ينظر بعين بصيرته فيحمد الله على أمرين:
أولهما: دفع ما كان يمكن أن يحدث من هَنِيْزَةٍ أكبر؛ حيث علم أن في الزوايا خبايا، وفي البرايا رزايا.
وثانيهما: بقاء ما كان يمكن أن يزول، من صحة غامرة وفضل جزيل، فهو ينظر إلى النعمة الموجودة، قبل أن ينظر إلى النعمة المفقودة .(/2)
عباد الله، إن الأسقام إذا استحكمت وتعقدت حبالها، وترادفت حلقاتها وطال ليلها، فالصبر وحده هو العاصم بأمر الله من الجزع عند الريب، وهو الهداية الواقية من القنوط عند الكرب، فلا يرتاع المؤمن لغيمة تظهر في الأفق، ولو تبعتها أخرى وثالثة، بيد أن الإنسان إبان طبيعته، يتجاهل الحقائق، فيدهش للصعاب إذا لاقته، فينشأ له من طبعه الجزوع، ما يبغض إليه الصبر، ويجعله في حلقه مر المذاق، فيتنجنج ويضيق، ويحاول أن يخرج من حالته على نكظ، فينسى قول خالقه: خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءايَاتِى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37].
واستمعوا ـ رعاكم الله ـ إلى ما قصه رسولنا عن مرض أيوب ـ عليه السلام ـ، قال : ((إن أيوب نبي الله، لبث في بلائه ثمان عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه، كانا من أخص إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله، لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثمان عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به .
فلما راح إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقول، غير أن الله يعلم، أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله، فأرجع إلى بيتي، فأكفر عنهما، كراهية أن يذكر الله إلا في حق، قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته، أمسكت امرأته بيده.
فلما كان ذات يوم، أبطأ عليها، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42]. فاستبطأته فبلغته، فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء فهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي ـ بارك الله فيك ـ هل رأيت نبي الله هذا المبتلى، والله على ذلك ما رأيت أحدا .
كان أشبه به منك إذ كان صحيحا قال: فإني أنا هو، وكان له أندران؛ أندر القمح وأندر الشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح، أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض)) [رواه ابن حبان والحاكم وصححه الذهبي][9].
فانظروا ـ عباد الله ـ، وانظروا إليها ـ أيها المرضى ـ إلى أيوب وصبره، فلقد صدقت الحكمة ولقد صدق قائلها: ((الصبر صبر أيوب)) ثمان عشرة سنة، وهو يتقلب في مرضه لتكون عاقبة صبره يسرا .
وكثيرا ما تكون الآلام طهورا يسوقه الله بحكمته إلى المؤمنين الصادقين لينزع منهم ما يستهوي ألبابهم من متاع الدنيا، فلا يطول انخذاعهم بها أو ركونهم إليها، ورب ضارة نافعة، بل كم من محنة محوية في طيها منح ورحمات مطوية.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة.
[1] صحيح، سنن أبي داود (4700).
[2] صحيح مسلم ح (2999).
[3] مسند أحمد (3/363)، مستدرك الحاكم (1/346) وصححه ووافقه الذهبي.
[4] صحيح البخاري ح (5648)، صحيح مسلم ح (2571).
[5] مسند أحمد (3/23). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/302): رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله ثقات.
[6] صحيح، مسند أحمد (2/440)، سنن ابن ماجه ح (3470).
[7] صحيح مسلم ح (4575).
[8] صحيح، أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (879 ـ 888)، وابن ماجه (3849).
[9] صحيح ابن حبان (الإحسان ح (2898)، مستدرك الحاكم (/581 ـ 582) وصححه ووافقه الذهبي. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ثمة أمور يجب أن يعرفها المرضى، فمنها: البشرى لكل مريض أعاقه مرضه عن القيام بالسنن والنوافل التي كان يواظب عليها إبان صحته، بأنها مكتوبة له لا يضيع أجرها، قال رسول الله : ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيما صحيحا)) [رواه البخاري][1].
كما ينبغي التنبه إلى ما يقع فيه بعض المصابين بالمرض النفسي، من العلاج بالمعازف والغناء الذي حرمه الله ورسوله ، فإن شفاء الأمة لم يك قط فيما حرمه الله عليها، ومعلوم أن الأدوية ثلاثة: دواء مشروع، كالرقية والعسل وزمزم ونحوها. ودواء مباح، وهو ما لم يحرمه الشارع. وأدوية محرمة، لا يجوز التداوي بها. وإن لكل داء دواءً علمه من علمه وجهله من جهله.
ثم ليعلم المرضى، أنه لا ينبغي التهاون بالصلاة حال المرض، فيجب أن يصلى الصلوات الخمس في وقتها إن استطاع، فإن لم يستطع جمع بين الظهر العصر، وبين المغرب والعشاء رخصة من الشارع الحكيم، كما يجب عليه أن يتطهر للصلاة التطهر الشرعي، فإن لم يستطع فإنه يتيمم، فإن لم يستطع فإنه يصلي على حاله ولا يدع الصلاة تفوت عن وقتها؛ لأن الله يقول: فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ويقول: لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [الأنعام:152].
ثم ليعلم المرضى أن الأنين والتوجع له حالتان:-(/3)
الأولى: أنين شكوى فيكره.
والثانية: أنين استراحة وتفريج، فلا يكره. بذلك قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ.
والعلم عند الله ـ تعالى ـ.
[1] صحيح البخاري ح (2996). ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
الاستجابة لنداء العلماء المصلحين
محمد بن منصور
برج أم نايل
1/11/1354
محمد بن منصور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- بيان سُنة الله في عباده ببعثة أئمة هداة دعاة يُجدّدون للناس أمر دينهم 2- أن الله عز وجل جعل لهؤلاء الدعاة الهداة أنصاراً أحراراً يشدّ بهم أزرهم ويُقوّي بهم ظهرهم 3- وجّه نداءً إلى المؤمنين بأن يجتهدوا في العمل الصالح وأن يَسْعَوا في اتخاذ الأسباب مع مراقبة تحقيق التوكل على الله عزّ وجل 4- ذكّر بوصية لقمان الحكيم لابنه وبيّن أهميتها 5- حضّ على التمسّك بالقرآن الكريم وتدبّر آياته 6- أوصى بالعناية بتزكية النفس وتطهيرها من الشرك والمعاصي والإكثار من الطاعات والعمل الصالح للفوز بالجنة والنجاة من النار
الخطبة الأولى
جرت سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا أنهم كلما بعدوا عن الهدى وحادوا عن الصراط السوي لطول الأمد وقساوة القلوب بعث إليهم أئمة يهدون بأمره، ودعاة يدعون إلى دينه القويم، وصراطه المستقيم، بالبراهين الساطعة، والحجج الدامغة، وجعل لهم في كل وقت أنصاراً، رجالا أحرارا، يعشقون الفضيلة، ويتباعدون عن الرذيلة، ولا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا تقهقرهم ملاكمة ملاكم، يشد الله بهم أزر الهداة، ويقوّي بهم ظهر الدعاة، ليزدادوا بذلك نشاطا إلى نشاطهم وقوة إلى قوتهم الموهوبة التي خلقها الله فيهم، وجعلها ممزوجة بلحومهم ودمائهم، لا تغيرها الحوادث، ولا تزعزعها الكوارث، بل تجدهم آناء الليل وأطراف النهار مثابرين على الدعوة إلى الله وإلى توحيده والمحبة فيه، بإظهار آياته الكونية الدالة على كمال قدرته، وعجائب صنعته، وواسع رحمته، تنبيها للقلوب الغافلة، والأفكار الراكدة، ولا عجب ولا بدع أن قيّض الله لأهل هذا العصر الحاضر رجالا من أهل العلم الصحيح أخذتهم الغيرة الدينية، والعاطفة القومية حين رأوا الناس في اضطراب شديد، واختلاف ما عليه من مزيد؛ شرّه متفاقم، وموجه متلاطم، فأسرعوا إلى تلافي هذا الخطر المحدث بكيان هذه الأمة المسكينة التي رميت من كل صوب بمصائب لو نزلت على الجبال لدكّتها دكّا، أو على الجمال لحثّتها حثّا، ونادوا بصوت واحد سمعه أهل القبور في قبورهم: ألا هبّوا أيها النائمون، تنبّهوا من منامكم، وقوموا على أقدامكم، فهذا وقت وعصرٌ تحرّك فيه كل شيء حتى الجماد، فكيف لا تستيقظون أيها العباد، فقام من نومه من قام، وهب ينفض عن نفسه التراب، ويقول: هل من توبة لمن تاب؟ فقيل له: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده [ الشورى: 25]، فقم الآن للعمل وتباعد عن داء الكسل، ونبّه من غفل، ولا تكن في الأمة عضوا أشلّ فقد ورد: ((إن الله يحب العبد المحترف، ويبغض العبد البطال)).
فاعمل اليوم لتفوز غدا، وتنجو من الهلاك والردى، وتعاط الأسباب، وتوكل على الملك الوهاب، ولا تتكل على عمل غيرك، ظنًا منك أنه ينجيك، أو يقرّبك إلى الله ويدنيك، هل رأيت أحدا صعد إلى سطح دار بغير سلّم؟ هل رأيت أحدا علم من غير أن يتعلّم؟ هل رأيت أحدا حصد ما لم يزرع؟ هل رأيت أحدا بأكل غيره يشبع؟ هل رأيت أحدا وُلد له من غير أن ينكح؟ هل يُعدّ الرجل صالحا من غير أن يصلِح؟ إن الله سبحانه وتعالى ربط المسببات بأسبابها، وأمرنا أن نأتي البيوت من أبوابها، فإذا فعلنا ذلك كنّا ممتثلين أمره راجين وعده، وكان وعده مفعولا، وفضله مأمولا.
وتذكّر أيها العاقل وصية لقمان الحكيم لابنه، فقد ذكرها الحكيم العليم في كتابه الكريم بقوله: وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه.. [ لقمان: 13-14] إلى أن قال: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ّ [ لقمان: 15] ثم قال: يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردك فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور [ لقمان: 16-17].
فلو تمسّك الناس بهذه الوصية لأفلحوا وفازوا بكل خير من خيري الدنيا والآخرة، ومهما تأمّل الإنسان في أي آية من آيات القرآن إلا وجدها جمعت فأوعت.
و الله لو قام به العباد لارتفعوا إلى السما و سادوا
لكنهم قد تركوا القرآن و طلبوا سواه حيث كان
فصار حظهم حضيض الجهل و كثرة القول بدون فعل
واختلط السقيم بالصحيح هل يجدْهم بيان من فصيح
عليك بالقول الصحيح يا فتى فهو الذي عن الصحابة أتى
و أخذ الأئمة الأعلام به على حسب ما يرام
ومخضوا الألفاظ مخضا فبدا لكل واحد طريق الاهتدا
فما أتى عنهم فذاك الدين دين الإله حبْله المتين
فلازم درسه و بادر للعمل وجد في الطلب واحذر الكسل(/1)
فعليك أيها العاقل بالعمل في هذه الدار التي هي دار عمل لا دار قعود وكسل، وامش ساعيا في مناكب الأرض وكل مما رزقك ربك، وأحسن إلى عباد الله كما أحسن إليك، ولا تبغ بنعمة الله الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين، قال عز وجل: فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور [ الملك: 15]، وقال: ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين [ القصص: 77].
وأعلم أن الآخرة دار جزاء للعالمين، ولا يغرّنّك المغرورون فتترك طاعة ربك وتطيعهم، فإن من يبخل ويشحّ ولا تسمح له نفسه أن يدفع إليك اليوم درهما كيف يمنحك غدا جنّة واسعة الأطراف والمدى؟ فالجنة خلقها الله للعاملين الذين يقول لهم: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، وأعد لهم عنده م لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرأوا إن شئتم، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ، فالأعمال الحسنة جعلها الله سببا في تطهير النفوس وتزكيتها، والأعمال السيئة بضدّ ذلك: وما تعمل في هذه الدار تجده هنالك، فطهّر نفسك وزكّها بالأعمال الصالحة، قال الله عز وجل: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها أي نجا من الناس وفاز بالجنة من زكى نفسه وطهرها من الشرك والمعاصي، وكمّلها وصفّاها بالإيمان والأعمال الصالحة، وقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة من دسّاها أي دسّ نفسه ونقصها وأخفاها في ظلمات الشرك ودياجير الكفر والمعاصي، فإن الأعمال الصالحة تكميل للنفس، وتزكية لها، وضدّها نقصان وإخفاء لها، جعلني الله وإياكم ممّن أنار الإيمان مشكاة قلوبهم، وألان اليقين من لبّهم، فالتذوا بالطاعة، وعملوا بقدر الاستطاعة(/2)
الاستطالة في أعراض العلماء والدعاة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (70) (71) سورة الأحزاب، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد عباد الله:
أيها المسلمون:
العلماء، حملة الدين وورثة الأنبياء وهم سبب عصمة للأمة من الضلال، وهم سفينة نوح من تخلف عنها لا سيما في زمن الفتن كان من المغرقين، وهم أولياء الله الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أولياء الله: الذين إذا رؤوا ذكر الله)1
قال الإمام أبو حنيفة: إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي.
وقال الشافعي: إن لم يكن الفقهاء أولياء الله في الآخرة فما لله ولي.2 وقال عكرمة - رضي الله عنه -: إياكم أن تؤذوا أحداً من العلماء، فإن من آذى عالماً فقد آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والعلماء هم حراس الدين وحماته من الابتداع والتزييف فعن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم – منهم علي بن أبي طالب ومعاذ وابن عمر وغيرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين). وقد قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟!! فقال: يعيش لها الجهابذة)3. وعن ابن علية قال: أخذ هارون الرشيد زنديقاً فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي؟ قال له: أريح العباد منك.
قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – كلها ما فيها حرف نطق به؟! فقال الرشيد: فأين أنت يا عدو الله من إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها نخلاً فيخرجونها حرفاً حرفاً.4
أيها المسلمون:- إن العلماء صمام أمان الأمة وإن بقاؤهم نجاة الأمة وهلكتهم وهلكتها.
قال هلال بن خباب: سألت سعيد بن جبير؛ قلت: يا أبا عبد الله ما علامة هلاك الناس؛ قال: إذا هلك علماؤهم. هذه هي منزلة العلماء ومكانتهم في الدين. ويجب على كل مسلم أن يتأدب معهم أشد الأدب قال الطحاوي - رحمه الله -: (وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر – لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل)5
قال الشاعر:
أفضل أستاذي على فضل والدي وإن نالني من والدي المجد والشرف
فهذا مربي الروح والروح جوهر وذاك مربي الجسم والجسم كالصدف
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (من حق العالم عليك إذا أتيته أن تسلم عليه خاصة، وعلى القوم عامة، وتجلس قدامه، ولا تشر بيديك، ولا تغمز بعينيك، ولا تقل: قال فلان خلاف قولك,ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه في السؤال، فإنه بمنزلة النخلة المُرطبة التي لا يزال يسقط عليك منها شيء.6
وعن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه – قال أيضاً: إن من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال، ولا تعنته في الجواب، وألا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفضي له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته, وعليك أن توقره وتعظمه لله ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته.7
وقال طاووس بن كيسان: إن من السنة أن توقر العالم.8(/1)
وعن الحسن قال: رئي ابن عباس يأخذ بركاب أبي بن كعب فقيل له: أنت ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم – تأخذ بركاب رجل من الأنصار؟! فقال: إنه ينبغي للحبر أن يعظم ويشرف وعن الشعبي قال: صلّى زيد بن ثابت على جنازة، ثم قربت له بغلة ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ بركابه فقال له زيد: خل عنك يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال ابن عباس: هكذا يفعل بالعلماء والكبراء. وفي رواية عنه قال: أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت فقال: أتمسك لي وأنت ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إنا هكذا نصنع بالعلماء.9
أيها المسلمون: انظروا إلى الأدب الذي ينبغي أن يكون من العلماء ورثة الأنبياء، واليوم نرى عكس ما كان من احترام العلماء وتقديرهم إذ نرى أناساً انسلخوا من أخلاق السلف كما تنسلخ الحية من جحرها، لا يراعون لشيخ حرمة، ولا يوجبون لطالب ذمة. وهاك صوراً من عدوانهم وتطاولهم: فهذا أحدهم يعير العلماء بأنهم: فقهاء الحيض والنفاس! وآخر يخاطبهم قائلاً: متى تخرجون من فقه المراحيض ودورات المياه؟! وثالث يصف لجنة الفتوى في السعودية بأنها فاتيكان المسلمين! ويتكلم على أساس أن تكفير العلامة ابن باز من البديهيات التي لا تحتاج إلى نقاش!!!, ورابع ينكر في أحد المؤتمرات على من يصفهم بأنهم: العلماء من عينة المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع!. وخامس يضع نفسه في صف الحافظ ابن حجر العسقلاني ويقول متهكماً: هو ابن حجر وأنا ابن زلط! وسادس يمارس التكفير المقنَّع باتهام هذا العالم بأنه ماسوني!، وذاك الداعية بأنه عميل كذا!، أو جاسوس كذا! مما يرجفون.
وكم نرى من الصحف العلمانية الخبيثة الطاعنة في الإسلام والخادمة للكفر والإلحاد؛ نراها تطعن في العلماء وتسخر منهم. وقد هالني صورة رأيتها في إحدى هذه الجرائد لشيخ علم مشهور يجلس على كرسي وبجواره امرأة تغزل ثوباً من لحيته، إن ذلك استهزاء بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم –قبل أن يكون استهزاء بذلك الشيخ.وقد قال تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبين}. (الأحزاب: 58).
ولقد كفر الله جماعة من المنافقين إذ سخروا من مجموعة من الصحابة القراء: ووصفوهم بالجبن وكبر البطن فأنزل الله - تعالى- قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}(التوبة 65- 66).
أيها المسلمون: إن الجناية على العلماء خرق في الدين، احذر أخي المسلم: الوقيعة في أهل العلم وإلا حشرت نفسك في خندق واحد تظاهر أعد الإسلام الذين يحاولون تحطيم قمم الإسلام باعتبار ذلك أقصر طريق لطعن الإسلام نفسه، فلا تكونن ظهيراً للمجرمين، واستحضر قول موسى الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم {قال رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين} القصص: 17.
وإن محاولة (هدم القمم) للتوصل بذلك إلى هدم الدين وإطفاء نوره هي سياسة قديمة قِدم الكائدين لهذا الدين: فمن محاولاتها الأولى: ما جرى من حديث الإفك في حق الصديقة بنت الصديق، الطاهرة البتول، المبرأة من فوق سبع سماوات أم المؤمنين - رضي الله عنها -، فقد كان الإفك طعنة موجهة في المقام الأول إلى صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم – ثم للرجل الثاني في الإسلام أبوبكر ثم لعائشة الصديقة التي ُحمل عنها ربع الشريعة.
ومن هذه المحاولات: اجتهاد أعداء السنة والتوحيد من المستشرقين، وأذنابهم من الذين نافقوا في الطعن في راوية الإسلام أبي هريرة - رضي الله عنه -، وهو أكثر الصحابة رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا عين ما يقال في المحاولات الخائبة للطعن في صحيح البخاري باعتباره أصح كتاب بعد القرآن العظيم. ومن ذلك ما يدأب فيه الرافضة- قبحهم الله,ونكس رايتهم – من الطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصويرهم -إلا خمسة منهم- في أشنع صورة وأقبحها، وكلما عظم بلاء الصحابي في رفع راية الإسلام ونصرته بالعلم والعمل والجهاد، عظم حظه من تطاولهم وأحقادهم كالخلفاء الثلاثة، والمجاهدين الفاتحين الذين أطفأوا نار المجوسية، وكسروا ظهر الكسروية.
ومن ذلك: حرص الأبواق المنافقة على الطعن في المجددين الذين بَعثوا سنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم – وذبوا عن دعوة التوحيد كشيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب؛ وغيرهم من المجددين إلى يومنا هذا. فمن وافق القوم في تطاولهم على رموز الإسلام، فقد أعانهم من حيث لا يدري أو من حيث يدري على تحقيق غاياتهم الخبيثة، وشمّت بنا أعداء الدين,
كل المصائب قد تمر على الفتى وتهون غير شماتة الأعداء.(/2)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما في من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر له شكراً شكراً، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
معاشر المسلمين:
لقد أدرك أعداء الله - عز وجل – أهمية صلة الأمة بعلمائها, فسعوا ليل نهار إلى تشويه صورة العلماء أمام الأمة حتى يفقد الناس ثقتهم بعلمائهم.
وسنتكلم عن هذه أسباب ظاهرة التطاول على العلماء؛ وسنذكر هذه الأسباب سبباً سبباً.
أول هذه الأسباب: هم أعداء الله - عز وجل – المنافقون ومن ورائهم اليهود والنصارى.
وأنهم يسعون ليل نهار في ذلك عبر وسائل الإعلام والصحف والمجلات، وأنى لهم ذلك ولن يستطيعوا بإذن الله فالأمة متمسكة وواثقة بعلمائها بإذن الله - تعالى-.
ومن الأسباب: التأثر بفوضوية الغربيين ونعراتهم ويتضح هذا في سلوك بعض الشباب الذين يبتلون بالإقامة في ديار الغرب، فيتشربون منهم بعض القيم، وبخاصة سلوكهم إزاء أكابرهم وعظمائهم، بحجة حرية الرأي والتعبير، واعتزازاً بما يدينون به من الفوضوية، التي يسمونها (ديمقراطية) دون أن يتفطن هؤلاء الشباب إلى الفروق بين القيم الإسلامية، وبين القيم الغربية. فمن مظاهر الديمقراطية (تحكيم) رجل الشارع، في قضايا الأمة المصيرية حتى لو كان ساقط العدالة، أو غارقاً في الجهالة, يحتاج ليتعرف على مرشحه أن يوضع له الرمز الانتخابي كالساعة والسيارة والنخلة، في حين أن الإسلام يجعل الحكم في ذلك إلى أولي الأمر، أهل الحل والعقد المؤهلين للنظر في هذه القضايا دون غيرهم، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (83) سورة النساء. وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يسمي رجل الشارع هذا بالرويبضة، ويجعل إقحامه في القضايا العامة المصيرية من أشراط الساعة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة). قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه، يتكلم في أمر العامة.10
ومن الأسباب: التعصب الحزبي، والبغي، وعقد الولاء على غير الكتاب والسنة؛ فبعض الناس يربون أتباعهم على الولاء لأشخاصهم والانتماء لذواتهم، أو جماعاتهم، ويوالون في ذلك ويعادون دون اعتبار لمبدأ الحب في الله والبغض في الله، وفي هؤلاء يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته ويعادي على ذلك، بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان، ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحداً بمزيد موالاة إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه فيقدم من قدم الله ورسوله عليه، ويفضل من فضله الله ورسوله."11 أ.هـ
ونذكر بقية الأسباب سرداً للاختصار. ومنها: تشييخ الصحف وافتقاد القدوة. وكذلك: استعجال التصدر قبل تحصيل الحد الأدنى من العلم الشرعي بحجة الدعوة. وكذلك التعالم وتصدر الأحداث (الصغار) وكذلك: الاغترار بكلام العلماء بعضهم في بعض.
ومن الأسباب الرئيسية: جهل المنتقدين بأقدار من ينتقدونهم من العلماء. ومنها عدم التثبت في النقل؛ وكذلك: التحاسد والتنافس والرياسة والفراغ، والجحود وعدم الإنصاف. وأخيراً من الأسباب استثمارالمغرضين لزلات العلماء.
ألا ياعباد الله اقدروا للعلماء قدرهم,واعرفوا لهم فضلهم, وتمسكوا بهم فذاك قوتكم وعزكم وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المراجع/ الإعلام بحرمه أهل العلم والإسلام. بتصرف.
________________________________________
1- أخرجه الطبراني وانظر السلسلة الصحيحة رقم (1733).
2- الفقيه والمتفقه (1/36).
3- اللآلئ المصنوعة للسيوطي (2/472).
4- تذكرة الحفاظ (1/252).
5- شرح الطحاوية (2/740).
6- جامع بيان العلم وفضله (1/580).
7- إرشاد الطالب ص(8/792).
8- جامع بيان العلم وفضله (1/459).
9- جامع بيان العلم (1/456).
10- مجموع الفتاوى (11/512).
11- مجموع الفتاوى (11/512).(/3)
الاستقامة على الطاعة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الخطبة الأولى:
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، حياةُ المؤمِنِ كلُّها لله وفي سبيلِ الله، حياةُ المؤمنِ كلُّها سعيٌ فيما يقرِّبه إلى اللهِ، حياةُ المؤمِن كلُّها مَعمورَة بطاعةِ الله بأقوالِه وأعمالِه، حياةُ المؤمنِ كلّها حياةُ خيرٍ وهدى، لا انفصالَ بينها وبين العمَل، بل العمَل دؤوب ومستمرّ ومتواصِل ما دامتِ الروحُ في الجسَد.
إنّ المؤمنَ حقًّا أيقَن بأنّ اللهَ خلَقَه لعبادتِه واستَعمَره في الأرضِ ليقومَ بما أوجَبَ الله عليه، لذا فَهو يغتَنِم حياتَه فيما يقرِّبه إلى الله، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}"1".
حقًّا أخِي المسلِم، فحياةُ المؤمنِ للهِ وفي سبيلِ الله، حياةٌ لا تنفصِل عنِ الخيرِ أبَدًا، ما بَينَ أقوالٍ يقولها، ذِكرٌ لله وتسبيح وتكبير وتحميدٌ وثناء على الله بما هو أهلُه، ويتذكّر قولَ الله في ملائكَتِه: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}"2" ، إذًا فاللِّسان مَعمور بذِكر الله والثناءِ عليه، استغفارًا وتوبَةً وتعظيمًا لله، وأعمال ببقية الجوارح من صلاة، من صدقةٍ، من صوم، من حجٍّ، من برّ وصِلَة، من أمرٍ بخير ونهي عن شرّ، من دعوةٍ إلى الخير وتحذير من الشرّ، من نصيحَة وتوجيهٍ، من أخلاقٍ كريمة وسِيرة عظيمة.
أيّها المسلم، إنّ المؤمنَ حقًّا يعلَم أنّ حياته حياةُ العمَل واكتسابِ الفَضَائل، وأنّ هذا العمَل سينقضِي إذا فارقت الروح الجسد، ينقضي العمل ويبقى الإنسانُ يجني كلَّ ما مضى، إما خيرًا وإما شرًّا، نعوذ بالله من سوء الحال. أعمالُنا في حَياتنا، وبعدَ موتِنا تُطوَى صحائف أعمالِنا، ويبقَى العبد مرتهنًا في لحدّه بما قدّم مِن خيرٍ أو ضدِّه، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}"3".
أيّها المسلم، في هذِه الدّنيا يتفاوَت العِباد، فمِن ساعٍ في زَكاةِ نفسِه وتخليصِها من عذابِ الله وإسعَادِها في دارِ القَرار، ومِن سَاعٍ في إِباقِها وإِذلالها وإلقائِها في عذابِ الله، في الحديثِ: ((كلّ الناسِ يغدو؛ فبائعٌ نَفسَه فمُعتِقُها أو موبِقها))"4".
أيّها المسلم، إنَّ ربَّنا جلّ وعلا قال لنبيّنَا : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}"5" ، فمُحَمّد أَكملُ الخلقِ خَشيةً لله، وأكمَل الخَلق معرفةً بِالله، وأكمَلُ الخلقِ خَوفًا من الله، وأَكمَل الخلقِ رجاءً لله، ولذا قال الله له: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، استَمِرَّ على العِبادَة واستقِم على الطاعة ولا تَدَعها إلى أن يوافِيَك الأجَل المحتوم، فليَكن المسلمُ كذلك، يعمُر حياتَه بطاعَةِ الله؛ لتَكونَ حياته لله وفي سبيل الله.
أيّها المسلم، إنَّ الله يقول لنبيّنا في آياتٍ من كتابِه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}"6" ، وقال له في آية أخرى: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}"7" ، وأثنى على المستقيمين بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}"8" ، وقال فيهم أيضًا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}"9".
أيّها المسلم، فما معنى الاستقامة في هذه الآياتِ؟ إنّ الاستقامةَ الحقّة لزومُ المؤمِن للطّريق المستقيم، استمرارُه على الطريق الواضِح. إنّ المؤمن عرف الحقَّ، واستبان له الرشدُ والهدى، وميَّز بين الحقّ والباطل والهدى والضّلال، عرف الطريقَ المستقيم الموصِل إلى الله وإلى جنّتِه ومغفرته ورضوانِه، فلمّا عرَف الحقَّ واستبان له الهدَى ووضَح له السبيل استقَام على هذا ولازَمه ملازمةً دائمة؛ لأنّ هذا دليلٌ على رسوخِ الإيمان في قلبه، فالمستقيمُ على الطريق المستقيم يدلّ على أنّ في القلب إيمانًا حقًّا، أمّا المتذَبذِب يستقيم يومًا وينحرف يومًا، ويصلح يومًا ويفسدُ يومًا، إنّ هذا دليلٌ على أنّ الإيمانَ غير مستقرٍّ وثابت في القلب، أما الإيمان الثابت الإيمانُ القويّ الإيمان الذي استنار به القلبُ فصاحبُه يستقيم على العمَل ولا يهمِل ولا يُضيِّع، كلّما تقدَّم به العمُر ازداد في العمَل ورغِب في الخير.(/1)
أيّها المسلم، والله يقول لنا محذِّرًا من الانحراف: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}"10".
امرأةٌ بمكّة تبرم غزلَها أوَّلَ النهار وتنقضُه آخرَ النهار، إذًا الذي يستقيمُ يومًا أو شَهرًا ثم ينحرِف عن الحقّ قد هدَم صالحَ عمله، وقضى على صالح عمَله، وأحرقَ أوراقَه، فأصبح شبيهًا بتلكمُ المرأة.
أخي المسلم، لا أشكُّ ولا تشكّ أيضًا أنّ هناك مواسمَ خيرٍ يتضاعَف فيها الجهدُ ويعظم فيها الأجر، وهذا لا إشكالَ فيه، لكن هذا الجهدُ والثوابُ في ذلك الموسِم هل معناه أنّه إذا مضَى الموسِمُ انقضَى الخير وطُوِيت صحائِفُ الخير وعادَ الإنسان إلى سَفَهه، وعاد إلى غيِّه، ونسِي ما قدَّم من عملٍ صالح؟! هذا تصوُّر خاطِئ لا يليق بالمسلم. المسلمُ في مواسِم الخير يضاعِف الجهدَ ويزيد في الخير وتَقوَى رغبتُه في الخير، لكن هذا الجهدُ لا ينقطِع منه، تبقَى آثارُه عليه؛ لأنّ هذا ترويض للنّفس في المستقبل، ولذا يقول : ((الصلواتُ الخمس والجمعةُ إلى الجمعة ورمضانُ إلى رمضانَ مكفِّراتٌ لما بينهنّ ما اجتُنِبت الكبائر)) "11".
أيّها المسلم، فما بَين رمضانَ هذا ورمضانَ الآتي ـ إن شاء الله ـ صغائرُ أعمالِك يكفِّرها ما بين الرمَضانين، كلُّ هذا فضلٌ منَ الله عليك، فإيّاك ـ يا أخي ـ وأن تنتكسَ على عقبك، إيّاك أن تهجرَ الطاعة، إياك أن تزهدَ في الأعمال الصالحة، إيّاك عَنِ التقاعُس عن الخير. واصِلِ الجدَّ بالجدّ، واستقِم على الهدَى، وما فعلتَ من خيرٍ فإيّاك ونسيانَه.
كنت ـ يا أخي ـ في رمضانَ تؤمُّ المسجدَ في الأوقاتِ الخمسة وترغَب في صلاةِ الجماعة: فجرًا ظهرًا عصرًا مغربًا عِشاءً، فهل هذا العمَل الصالح بقيتَ عليه أم أردتَ أن تهجرَ المسجدَ وتهمِل الصلاةَ وتضيِّعها وتهمِل الجماعةَ بعدما ذُقتَ لذّة الطاعة؟! تلوتَ كتابَ الله، وتصفَّحته، ووقفتَ على الآيات وما فيها من وعدٍ ووعيد وترغيبٍ وترهيب وقصَص وغير ذلك، فهل زهِدتَ في القرآن وأعرضتَ عنه؟! كنتَ تحافِظ على النوافلِ في رمضان، فإياك وهجرانها، تخلَّقتَ بالحِلم والصفحِ والإعراض عن الجاهلين، وتحمَّلت مساوئَ أخلاق الآخرين فليَكُن ذلك خلُقًا لك على الدّوام.
أخي المسلم، جادَت يدُك بالخير وسحّت يدُك بالخير والعطاء، فهل تكون بعدَ رمضان قابضًا لها عن الخير؟! لا، كن على ما أنتَ عليه من خيرٍ وإن قلّ، فأحبُّ الأعمال إلى الله ما داوَم العبدُ عليه وإن قلَّ.
لتكُن آثارُ رمضان مصاحبةً لنا، ولتكن دروس رمضان تذكِرةً لنا ويَقظةً لنا من غفلتنا وسِنَتنا، ولنتذكَّر رمضانَ في بقيّة شهورنا إلى أن يأتيَ رمضانُ ـ إن شاء الله ـ ونحن نزدَادُ خيرًا إلى خير وعملاً صالحًا لعمَل صالح.
أسأل الله أن يتقبَّل منّا أعمالنا، وأن يوفِّقنا في مستقبَل أمرنا لكلّ عملٍ يحبّه ويرضاه، وأن يجعلنا ممن ذاقَ حلاوةَ الإيمان واستقرَّ الخيرُ في نفسه واستمرَّ على صالح العمَل، إنّه على كلّ شيءٍ قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إذا كانَ صِيام رمضانَ مُكفِّرًا لما مضَى من الذّنوب وقيامُ رمضان مكفِّرًا لما مضى من الذّنوب وهذا من فضلِ الله ورحمته فاعلم ـ أيها المسلم ـ أنّ نبيَّك شرعَ لك أنواعًا من الطّاعات مِن نوافلِ الطاعات تستمرّ عليها لتكونَ تلك النّوافلُ جابرةً لنقصِ فرائضك مكمِّلةً لنقصِها، تعود عليك بالخير في عَاجِل أمرِك.
يا أخي المسلم، انظر إلى نوافلِ الصلاة، فنبيُّنا كان يحافِظ على الرّواتب التي قَبل الصلاةِ وبَعدها، هذا عبدُ الله بن عمَرَ بنِ الخطاب رضي الله عنهما يقول لنا: حفِظت عن رسولِ الله رَكعتين قبلَ الظهر وركعَتين بعد الظهر ورَكعتين بعدَ المغرب وركعتين بعد العشاء، قال: وأمّا الفجرُ فأخبرتني حفصة أنّ النبي كان إذا ختَم المؤذِّن أذانَه صلّى ركعتين قبلَ أن يخرجَ إلى المسجد، وكانت ساعةً لا أدخلُ على النبي فيها"1".
فانظر إلى هذه الرواتب: ركعتين قبلَ الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرِب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر، يسمّيها العلماءُ الرواتبَ القبليّة والبعدية، ويوم القيامَةِ إذا حوسِبنا عن أعمالنا ووجِد في فريضتنا نقص كمَّلَها الله ـ فضلاً منه ـ مِن نوافلِ العباد.(/2)
وجاء في حديثِ أمّ حبيبة: ((من حافظ على ثِنتي عشرة ركعة في يومه وليتِه حرَّمَه الله على النّار: أربعًا قبل الظّهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر))"12"، وجاء في اللفظ الآخر: ((من حافَظ على أربعٍ قبل الظهر وأربعٍ بعدها بنى الله له بيتًا في الجنة))"13". وكان نبيّكم يحافظ على الوتر حضرًا وسفرًا، ما كان يدَع الوترَ ولا ركعتَي الفجر لا حضرًا ولا سفراً، ويقول في ركعتي الفجر: ((هي خيرٌ من الدنيا وما عليها))"14"، ويحافظ على الوترِ دائمًا وأبدًا حضرًا وسفرًا. وكان نبيّكم إذا دخَل بيتَه بعد العشاء لم ينَم حتى يصليَ إمّا أربعَ ركعات أو ستَّ ركعات؛ ليكونَ نومه عقِبَ طاعةٍ وعبادة.
أيّها المسلم، وكان نبيّكم يحثّ على الإحسانِ العامّ والصدقةِ العامّة، ويرغّب فيها ويقول: ((من تصدَّقَ صدقةً مِن كسبٍ طيّب بعدلِ تمرة فإنّ الله يتقبَّلها بيمينه، ويربّيها لصاحِبِها كما يربِّي أحدُكم فلُوَّه حتى تكونَ مثلَ الجبل العظيم))"15".
وشرَع لكم نبيُّكم نوافلَ الصيام، فيقول أبو هريرةَ رضي الله عنه: أوصاني خليلي بثلاث: أن أوترَ قبل أن أنام، وأن أصليَ ركعتَي الضحَى، وأن أصومَ من كلّ شهر ثلاثةَ أيام، وقال في صيامِ يومِ الاثنين: ((ذاك يومٌ ولِدتُ فيه، وذاك يومٌ أوحِيَ إليّ فيه))"16"، واستحبَّ لنا صيامَ الاثنين مع الخميس، وأخبرَ أنّ أعمالَنا تعرَض على ربِّنا في هذين اليومين، فكان يحبّ أن يُعرَض عملُه وهو صائم. واستُحِبَّ لنا صيام تِسع ذي الحجة، وأُكِّد يومُ عرفة ويوم عاشوراء، كلّ هذا ممّا يدل على أنّ نوافلَ الطاعات لا ينقطِع منها المسلم أبدًا، فأعمال الخير والقُرُبات المسلمُ يسعى فيها جاهدًا، ويعمُر حياتَه بها، وسيجد ذلك مدَّخرًا له أوفرَ ما يكون، { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا }"17" ، { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه }"18".
أعمالٌ صالحة يسيرة لمن يسَّرَها الله عليه، وسيَجِد لذَّتها وراحتَها عند قُرب انتقالِه ومفارقةِ الروح للجَسَد، عندما يمثَّل له مقعَدُه منَ الجنة، فيشتاق ويحِبّ لقاءَ الله ويحبّ الله لقاءه، وعندما يوضَع في لحدِه فيُبشَّر بالبشرَى الخيِّرة ويستأنس بصالحِ عمله، وعندما يقوم يومَ القيامة للعَرض بين يدَيِ الله، قال بعض الصحابة: (تصدَّقوا بصدقةِ السّرّ ليومٍ عسير، صلُّوا في ظلمَة الله لظلمَةِ القبور، صوموا يَومًا شديدًا حرُّه ليومِ النّشور).
هذه الأعمالُ الصالحة يعمُر بها المسلِم حياتَه؛ لتكونَ حياةَ خير وحياةَ بركةٍ وحياةً طيبة، إنها الحياةُ الطيّبة التي يقول فيها الله: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }"19".
أسأل الله أن يعينني وإيّاكم على شكرِه وعلى ذكرِه وعلى حسنِ عبادته، وأن يجعلَنا ممن عمَر أوقاته بالخَير وتقرَّب إلى الله بما يُرضيه، إنّه ولي ذلك والقادِر عليه.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمّد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسولِه سيّدِ ولد آدم محمّد امتثالاً لأمرِ ربّكم القائل: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }"20".
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الراشدين والأئمّة المهديّين...
________________________________________
"1" سورة الأنعام آية:162، 163
"2" سورة الأنبياء آية:20
"3" سورة المدثر آية:38
"4" أخرجه مسلم في الطهارة (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
"5" سورة الحجر آية:99
"6" سورة هود آية:112
"7" سورة الشورى آية:15
"8" سورة الأحقاف آية:13
"9" سورة فصلت آية:30، 32
"10" سورة النحل آية:92.
"11" أخرجه مسلم في الطهارة (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
"12" أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل السنن الراتبة (728).
"13" أخرجه أحمد (6/325، 326، 426)، وأبو داود في الصلاة، باب: الأربع قبل الظهر وبعدها (1269)، والترمذي في الصلاة، باب منه آخر (427، 428)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار، باب: الاختلاف على إسماعيل بن خالد (1812، 1813، 1814، 1815، 1816، 1817)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: ما جاء فيمن صلى قبل الظهر أربعا وبعدها (1160)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب", وصححه ابن خزيمة (1190، 1191، 1192)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1130).(/3)
"14" أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي الفجر (725) من حديث عائشة رضي الله عنها.
"15" أخرجه البخاري في الزكاة، باب: الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (1014) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
"16" أخرجه مسلم في الصيام (1162) في حديث طويل عن أبي قتادة رضي الله عنه.
"17" سورة آل عمران آية:30
"18" سورة الزلزلة آية:7
"19" سورة النحل آية:97.
"20" سورة الأحزاب آية:56.(/4)
الاستلقاء والنوم في المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه ربه رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الاستلقاء في المسجد من الأمور الجائزة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- استلقى في المسجد، فعن عن عباد بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى1.
أما النوم في المسجد فإنه يجوز على أن يحافظ على حرمة المسجد، وآدابه، ولكن لا يتخذ ذلك عادة. ولا يصبح المسجد فندقاً بحجة الجواز.
ويجوز للمرأة أن تنام في المسجد، ولكن هذا إذا أُمنت الفتنة؛ كأنْ جُعل مكان خاص للنساء، أو خيمة خاصة للنساء، فلا يدخل عليهن الرجال، فقد ذكر البخاري -رحمه الله تعالى- باباً بعنوان "نوم المرأة في المسجد" وذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها... فجاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلمت، قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش2.
أما نوم الرجال فأدلة ذلك كثيرة: فقد بوب البخاري في صحيح "باب نوم الرجال في المسجد" وأتى بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-"3.
وقد نام علي ابن أبي طالب في المسجد، وأيقظه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن سهل بن سعد قال: جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت فقال: "أين ابن عمك؟"، قالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني فخرج فلم يَقِل عندي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإنسان: "انظر أين هو؟"، فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسحه عنه ويقول: "قم أبا تراب قم أبا تراب"4.
فيؤخذ منه جواز نوم الرجال في المسجد إذا أمن انكشاف العورة، ولم يكن هناك فتنة ولا مفسدة فإن النوم في المسجد ليس حراماً ولا خطيئة.
والنبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان يعتكف"5" في العشر الأواخر من رمضان"6، وكان اعتكافه – صلى الله عليه وسلم- في المسجد ولا شك أنه يحتاج إلى النوم، وأهل الصفة كانوا ينامون في المسجد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أما النوم أحياناً للمحتاج مثل الغريب والفقير الذي لا مسكن له فجائز وأما اتخاذه مبيتاً ومَقِيلاً فينهون عنه"7.
وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء باللمملكة العربية السعودية: ما هو حكم الذي يضع رجليه ويوجهها إلى القبلة في المسجد، وهل يجوز الأكل والنوم في المسجد؟
فأجابت اللجنة: "لا حرج على المسلم أن يمد رجليه أو رجله إلى القبلة، سواء كان بالمسجد أم في غيره، ولا حرج عليه أن يأكل بالمسجد أو ينام به إذا احتاج إلى ذلك، وينبغي له أن يحافظ على نظافة المسجد، وإذا احتلم وهو نائم به أسرع بالخروج منه حين يستيقظ ليغتسل من الجنابة"8.
اللهم فقهنا في ديننا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله صحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - متفق عليه.
2- هو البيت الصغير الضيق، انظر فتح الباري (7/186) ط: دار الريان للتراث. والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (1/407) ط: دار الفكر.
3- أخرجه البخاري – الفتح- (404).
4 - متفق عليه.
5- الاعتكاف لغة: الحبس والمكث واللزوم. وفي الشرع: المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة.
6- أخرجه مسلم (2/830) رقم (1171) عن ابن عمر ورقم (1172) عن عائشة.
7 - مجموع الفتاوى (22/200).
8 - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء رقم السؤال (5795).(/1)
الاسلام والبيئة ..خطوات نحو فقه بيئي
نزار دندش
تعتبر الأزمة التي تعيشها البيئة في عصرنا المشكلة العالمية الأهم التي تجمع حولها شرائح بشرية من مختلف الأطياف وتشكل اهتماما مشتركا لأوسع حركة اعتراضية في العالم. لذلك نجد كل الأحزاب السياسية في العالم وكل الحركات الاجتماعية التوعوية تحجز لنفسها أمكنة في حركات الاعتراض البيئية خوفا من ان تصبح غريبة عن التاريخ.
ولحماية بيئتهم يتسلح الغربيون بقوة القانون حيث يلجأ أصدقاء البيئة الى تنظيم حملات الضغط على حكوماتهم لسن التشريعات التي تحد من التلوث وتمنع الاستغلال المفرط للطبيعة معوّلين في ذلك على دور القوانين الوضعية التي تأخذ طريقها الى التطبيق في ردع المخالفين. ويختلف الأمر في الدول النامية حيث الاستنسابية في تطبيق القوانين، فإلى جانب الاعتماد على القانون تحتاج مهمة حماية البيئة الى صحوة الضمير وفعل الرقابة الذاتية الجدية. والدين الذي ينظم علاقة الانسان بخالقه وينظم علاقته بالمجتمع (بالآخر) ينظم أيضا علاقته بالطبيعة المحيطة به بكل ما فيها من كائناتت وموجودات. ولا شك في أن لقوانين الدين في المجتمعات الشرقية قوة رادعة تفوق مثيلاتها في الغرب وتتفوق على قوة القوانين الوضعية (التي لا يُطبق الكثير منها) في الشرق، لا سيما أنها مشفوعة بحوافز احساس المتدين بالرقابة الإلهية الدائمة وحساب الآخرة المؤكد.
وإذا كانت فلسفة الدين المسيحي لا تمنحه الطواعية الكافية لسن قوانين حياتية مستجدة كقوانين حماية البيئة ومنع تلوثها، فإن التشريعات الاسلامية تدخل في صلب حياة المسلم اليومية <فكل واقعة او حادثة لها في الاسلام حكم (حتى أرش الخدش) كما ورد في الحديث الشريف>. لذلك يعول أنصار البيئة على هذه التشريعات للجم عمليات التعدي على الطبيعة واغتصابها. ويلاحظ أنه رغم توفر النصوص والتعاليم والقواعد الاسلامية الصالحة فإن فقهاء الدين الاسلامي قد تأخروا في استنباط وسن القوانين البيئية من الكتاب والسنة وفي تشكيل فقه بيئي وسن قوانين اسلامية بيئية، كما تأخر رجال الدين المسلمون والمسيحيون في ادخال البيئة مادة في خطبهم ومواعظهم في الكنائس والمساجد.
الشيخ حسين الخشن هو أحد رجال الدين المسلمين الذي يتصدى لموضوع الفقه البيئي الموسع والممنهج، وقد صدر له مؤخرا كتاب بعنوان <الاسلام والبيئة خطوات نحو فقه بيئي> استعرض فيه أهم المشاكل التي تعاني منها البيئة، كما استعرض موقف الاسلام الداعم للبيئة وتاريخ تعاطيه معها وتبنيه مسألة احتضانها والحفاظ عليها على مر العصور مدعماً أقواله بكثير مما جاء في الكتاب والسنة والأحاديث ومما جاء على ألسنة الخلفاء والأئمة. فالقرآن الكريم يدعو الى المحافظة على الطبيعة والتمتع بجمالها ويحرم الافساد في الأرض (وأحسن كما أحسن الله اليك ولا تبغ الفساد في الأرض...) <ومن مصاديق الفساد المنهي عنه الأعمال المضرة بالبيئة والثروة الحيوانية كاستئصال الغابات والأحراج واتلاف المزروعات وتسميم المياه بما يؤدي الى القضاء على الثروة الحيوانية فيها...>. <والاسلام لا يكتفي بتحميل الانسان، وهو خليفة الله على الارض، المسؤولية عن حماية البيئة وحفظها، بل يدعوه الى الاقتراب منها ومصادقتها وإحيائها. فالنبي (ص) يدعو الى الاهتمام بالنخل كما بالأرحام (أكرموا عمتكم النخلة)>.
ويلاحظ المؤلف <أن وضع البيئة في تاريخنا الاسلامي كان أفضل حالا مما عليه الآن...> حيث ان المسلمين قد اعتنوا بالبيئة وعملوا على رعايتها لا سيما في عصور الازدهار. وقد شرح في كتابه <نظام الحسبة> الذي <بدأت ملامحه في عهد النبي> <وهو نظام يجمع بين الارشاد والرقابة والقضاء والتنفيذ>. ويوضح الشيخ حسين الخشن مسألة تسخير الأرض للانسان الذي <لا يمنح ولا يعطي الانسان سلطة على تخريب الكون وإفساده... فالتسخير في الحقيقة يشكل دعوة لاستثمار نِعم الكون بعد اكتشافها والتلذذ والاستمتاع بها والاحساس بجمالها... أما العبث بنواميس الكون وسننه وتغيير معالمه فإنه يضاد النعمة ويقابلها بالكفر بدل الشكر>.
وفي كتابه <الاسلام والبيئة> يذكرنا المؤلف بعدة أحكام شرعية ومفاهيم وآداب اسلامية تصب في خانة الحفاظ على البيئة نذكر منها ما يلي:(/1)
ويرى المؤلف ان حفظ البيئة مسؤولية خاصة <تقع على عاتق الدولة> ومسؤولية عامة <تقع على جميع أفراد المجتمع>. ويخلص الى <ان كل عمل يعمله الانسان في البيئة والمحيط العام ويكون له انعكاسات سلبية على صحة البشر وراحتهم بحيث يوقعهم في الضرر او المرض او الحرج فهو محرم من الناحية الشرعية>، و <... لا يجوز للانسان ان يعمر بيته بما يؤدي الى تخريب بيوت الآخرين...، ولا ان يرفع صوت جهاز التلفاز او الراديو بما يؤدي الى اقلاق راحة جيرانه وازعاجهم، ولا ان يلقي المواد السامة ومخلفات التصنيع او النفايات الطبية السامة في الأنهار او البحار او على اليابسة بما يؤدي الى تضرر البشر نتيجة تلوث مصادر المياه او المزروعات. ويدخل في هذا ايضا على رأي بعض الفقهاء ان يشعل السجائر في الأماكن العامة بما يؤدي الى تضرر الآخرين صغارا أو كبارا>.
(?) أستاذ جامعي
الكتاب: الإسلام والبيئة
تأليف: الشيخ حسين الخشن(/2)
الاصلاح في البناء الاجتماعي
تجديد آفاق الوعي
المجتمعات الواعية هي التي تندفع لتيسير سبل الإصلاح والبحث عن الوسائل والآليات التي تأخذ بيدها لتصحيح مناهجها ومفاهيمها، وتجديد فكرها وثقافتها، لتنهض بها في ركب التقدم والانطلاق، أما المجتمعات الخاملة فإنها تركن إلى الانطواء والخنوع لموروثاتها وتقاليدها التي تكرس فيها ارتفاع نسبة الجمود والكسل، والقبول بالهزيمة والانكسار.
ولن تكون هذه المعايير من خصائص مجتمع دون أخر، فقد تستولد عند كل مجتمع إذا أعتمد فهم وإدراك القوانين والسنن التي تعينه على الانطلاق والتقدم في غمار ميادين الحياة.
وما نشير إليه من تجديد آفاق الوعي لا يعني قصور في المنهج المتبع، أو ما يلحقه من شوائب، لكنه يعني سبر غور الفهم لتجديد الفهم القائم، لتكون المفاهيم القيمية أكثر قدرة استحصال استنزال الحلول الملائمة والمنسجمة مع متطلبات الواقع الراهن.
ومن جانب أخر لكي لا يلحق تلك المناهج العقم والجمود فتصبح عاجزة عن جاهزيتها وفاعليتها في استنبات مناخ أكثر عافية وسلامة، فتعطل مفاهيمها وقيمها الخلاقة عن النمو والانسجام مع معطيات الحاضر، بما يعيش من هموم وقضايا مستحدثة.
ولكي نقوم على صياغة منهجية متجددة في منظومة المعالم الثقافية والفكرية فإننا بحاجة إلى تهيئة مساحات حوارية شاملة لكافة التخصصات والمجالات، لترفد المجتمع بالرؤى والمفاهيم التي يلبي لها احتياجاتها، ولعل ذلك يتمحور حول مجموعة ركائز، ومن أهمها:
1/ إتاحة الفرصة للنقد:
ولا يعني ذلك خرق الضوابط وإشاعة الفوضى من خلال نقد المنهج وتوجيه التهم والإساءة إليه، وإنما إزاء ما نواكب من مجريات مستحدثة، ونواقص متعددة في جنبات واقع الأمة المعاش، نحن أحوج ما نكون لاستحداث وسائل النقد بالبحث والمدارسة للوصول إلى نتائج ترقى بنا إلى مرحلة راقية، تدفعنا إلى التقدم والتطور في كافة الميادين المهنية والعلمية.
ويتجلى لنا في الأسلوب القرآني اتخاذه منهج النقد في معالجة إصلاح أوضاع الرعية، وكان البعد التربوي الإصلاحي يشغل مساحة واسعة في آيات الذكر الحكيم، رغم ما كان يتربى عليه جيل النشء الأول، حيث كان المعلم فيها أعظم شخصية على ظهر الوجود، وكان منهله أرقى صور الحقيقة وبصائرها، غير أن الكتاب العزيز كشف عن ضرورة هذا البعد الإصلاحي النقدي لتقويم مسارات المجتمع وتصحيح مسيرته.
2/ رفد مسيرة الإبداع المعرفي:
لا يخفى بحال من الأحوال أن العالم الغربي في عصرنا الراهن قطع شوطاً كبيراً في نهضة الإبداع والاكتشاف، ولقد بذل جهوداً كبيرة لتتواصل عطاءات المبدعين، ثم إنه لم يقصر الأمر ضمن أطر وأدوات محدودة، وإنما سخر وسائله وإمكانياته لتشمل الجوانب العلمية والمهنية والاجتماعية والسياسية والصحية إلى غيرها من أمور ضرورية تشمل مرافق ميادين الحياة لبناء نهضة مدنية حديثة.
وفي ظل هذه النهضة التي تقدم العالم فيها وطور من وسائله وقدراته لا زال عالمنا العربي والإسلامي بعيداً عن تهيئة السبل والإمكانيات التي تحتضن المبدعين والمفكرين، بل أضحت تلك القدرات غير قادرة على التكيف والانطلاق ضمن المعطيات التي تواكبها، وهو الأمر الذي دفع الكثيرين منهم لأن يرتحل إلى العالم الغربي ليتاح له تفجير طاقاته وقدراته، ومنذ أن أصبح ضعف هذا الاهتمام وعجز دوائره عن استثمار تلك القدرات، تصاعدت نسبة العقول المهاجرة، وهو مما يثير الدهشة والاستغراب إذ أن ثقافتنا ومعارفنا لم تغفل هذا الصعيد بل كان التأكيد عليه ملازماً منذ نشأها الأول، ولقد دفعت في هذا الاتجاه بشكل كبير جداً، وكان للعلماء مكانة راقية جعلت ذلك الواقع مزدهراً بتطور العلم والمعرفة في كافة المجالات.(/1)
الاعتبار بمصارع الأمم
أولاً: مقدمة .
ثانياً: التحذير من سنن الله الماضية في الأمم والاعتبار بمصارعها.
ثالثاً: هل يصيب هذه الأمة عذاب الأمم السابقة؟
رابعاً: صور العذاب.
خامساً: أسباب وقوع العذاب على الأمم.
أولاً: مقدمة:
يقف العالم اليوم في منعطف خطير، خطير لما وصل إليه الكفر من عنجهية واستكبار وكفر بالله الواحد القهار، وخطير لما وصل إليه حال المسلمين اليوم من ذلة وفرقة واختلاف.
والناظر في هذا الحال يبحث عن السبب والمخرج، ما الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه من ضروب الذلة؟ وما مصير الأمة الكافرة الباغية المتجبرة؟ وهل هي أشد على الله من الأمم التي أهلكها؟ ومتى يصيبها ما أصاب السابقين؟
في هذه السطور نقف مع مصارع الأمم الغابرة وصور العذاب الأليم الذي أنزله الله بها، ليكون لنا في هذه الوقفة صرخة نذير أن يصيبنا ما أصابهم، وبشارة بشير بقرب هلاك الظلم والطغيان، {وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
ثانياً: التحذير من سنن الله الماضية في الأمم والاعتبار بمصارعها:
يقص القرآن علينا أمة الإسلام مصارع الأمم الغابرة، لنقرأ سيرهم فنحذر ما أحل بهم العذاب، ولكي نرى ما ينتظر الأمم التي تقع في أمثال هذه المعاصي والآثام، وجاء هذا التحذير في كثير من آيات القرآن الكريم، ومنه:
1- {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا} [الإسراء:17].
قال القرطبي: "ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم" [تفسير القرطبي 6/391].
قال الطبري: "وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قروناً كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به وتكذيب رسله على مثل الذي أنتم عليه، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم لأنه لا مناسبة بين أحد وبين الله جل ثناؤه، فيعذب قوماً بما لا يعذب به آخرين أو يعفو عن ذنوب ناس فيعاقب عليها آخرين" [تفسير الطبري 15/57].
2- {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَال} [الروم:41]، وقال تعالى: {ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأنفال:53، 54].
قال الشوكاني: "والمعنى أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم" [فتح القدير 2/318].
3- {قُلْ سِيرُواْ فِى الأرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} [الروم:42].
قال ابن تيمية: "وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا فنشبه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان" [العقود الدرية 1/137].
4- {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188].
قال الطبري: "فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعده لأعدائه في الدنيا من الخسف والمسخ والرجف والقتل وما أشبه ذلك من عقاب الله ولا هم ببعيد منه" [تفسير الطبري 4/209].
وذكرت الآيات أن المصائب والمهالك عقوبات تصيب الأمم بسبب ذنوبهم وآثامهم، فالله حكم عدل لا يظلم أحداً، ومن هذه الآيات:
1- {وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم فبما كسبت أيديكم يقول فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما اجترحتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم، ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم فلا يعاقبكم بها" [الطبري 25/32].
2- {أَلَم يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [التوبة:70].
3- {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [يونس:44].(/1)
قال ابن مسعود: لو آخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في جحرها ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل كما قال: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]" [تفسير القرطبي10/120].
والعذاب والعقوبة التي أوعد الله بها الأمم لها موعد صدق يأتيها وإن طال على سبيل الاستدراج أو الإمهال، إذ هو سنة كونية يعذب الله بها الأمم أمة تلو أمة، وهذه السنن لا تحابي أمة، ولا تتجاوز مستحقاً للعذاب، وإن تأخر ذلك إلى حين أجله، وقد قال الله: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. أي أجل موتهم ومنتهى أعمارهم لا يستأخرون ساعة ولايستقدمون" [تفسير القرطبي10/120].
وقال: {فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} [ن:44-45]. قال القرطبي: "واعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم بل سنة الله إمهال العصاة مدة" [تفسير القرطبي 9/376].
فالعقوبة الإلهية سنة من سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل، كما قال الله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الأرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ} [آل عمران:137]. قال القرطبي: "المعنى قد خلت من قبلكم سنن يعني بالهلاك فيمن كذب قبلكم كعاد وثمود والعاقبة آخر الأمر وهذا في يوم أحد يقول فأنا أمهلهم وأملي لهم وأستدرجهم حتى يبلغ الكتاب أجله يعني بنصره النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهلاك أعدائهم الكافرين" [تفسير القرطبي 4/216].
وقال: {اسْتِكْبَاراً فِى الأرْضِ وَمَكْرَ السَّيّىء وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلاْوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]. قال القرطبي: "سنة الله في خلقه يرفع من تخشع، ويضع من ترفع" [تفسير القرطبي 9/42].
ثالثاً: هل يصيب هذه الأمة عذاب الأمم السابقة؟
ابتلى الله الأمم الغابرة بأصناف العذاب البالغة، وهذا العذاب على ضربين:
أولهما: عذاب الاسئئصال، وهو الذي يودي بجميع الأمة فلا يبقي منها ولا يذر، كما حصل مع قوم نوح عاد وثمود.
والثاني: هو ذلكم العذاب الشديد الذي يصيب الأمة ويزلزلها كالطواعين والطوفان والكوارث من خسف ومسخ، وقد عذب الله به فرعون وبني إسرائيل، وهذا النوع من العذاب لا يؤدي إلى فناء الأمة المعذبة برمتها.
وقد ذهب أهل العلم إلى أن النوع الأول قد رفعه الله عن البشرية ببالغ رحمته، ولو عذبهم به كان عادلاً جل وعلا: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [فاطر:45]. ولم يرفع من هذا العذاب أصل جنسه، إذ من الممكن أن يسلط الله الريح أو الحاصب على أمة من الأمم من غير أن يستأصلهم به.
قال الحافظ المقدسي: "وتأمل حكمته تعالى في عذاب الأمم السالفة بعذاب الاستئصال لما كانوا أطول أعماراً وأعظم قوى وأعتى على الله وعلى رسوله، فلما تقاصرت الأعمار وضعفت القوى رفع عذاب الاستئصال، وجعل عذابهم بأيدي المؤمنين، فكانت الحكمة في كل واحد من الأمرين ما اقتضته في وقته" [مفتاح دار السعادة 1/255].
ويبين شيخ الإسلام أن الاستئصال إنما رفع برسالة موسى عليه السلام فيقول: "وكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب الاستئصال عذاباً عاجلاً، يهلك الله به جميع المكذبين كما أهلك قوم نوح وكما أهلك عاداً وثمود وأهل مدين وقوم لوط وكما أهلك قوم فرعون،.... إذ كان بعد نزول التوراة لم يهلك أمة بعذاب الاستئصال، بل قال تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى} [القصص:43]. بل كان بنو إسرائيل لما يفعلون ما يفعلون من الكفر والمعاصي يعذب بعضهم، ويبقى بعضهم، إذ كانوا لم يتفقوا على الكفر، ولهذا لم يزل في الأرض أمة من بني إسرائيل باقية" [الجواب الصحيح 6/442].
ويقول رحمه الله مبيناً الصورة الجديدة التي أرادها الله لردع أعدائه، ألا وهي الجهاد لهؤلاء الكفار ومراغمتهم حتى لا تبقى فتنة ويكون الدين لله: " المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعمهم كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم، بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار كما أمر بني إسرائيل على لسان موسى بقتال الجبابرة" [الجواب الصحيح 2/251].(/2)
ولما بعث رسول الله كان رحمة للبشرية جمعاء كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. قال ابن عباس: "كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس، فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق" [القرطبي 11/350]. ومقصوده الخسف الشامل، وإلا فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوع بعضه فيما بينه وبين الساعة-كما سيأتي في حينه-.
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه دعا الله أن لا يهلك أمته بسنة عامة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((وإني سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة... وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة)) [رواه الطبري في تفسيره 7/226، قال ابن حجر: إسناده صحيح. فتح الباري 8/293].
لكنه صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوع أصناف من العذاب العميم الذي يصيب بعض الأمة دون بعض كما في أحاديث المسخ والقذف والخسف الذي يكون بين يدي الساعة.
وأما حديث جابر لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ بوجهك))، قال: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: ((أعوذ بوجهك)) {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا أهون أو هذا أيسر)) [البخاري ح4628]. ففيه قال ابن حجر: "الإعاذة المذكورة في حديث جابر وغيره مقيدة بزمان مخصوص، وهو وجود الصحابة والقرون الفاضلة، وأما بعد ذلك فيجوز وقوع ذلك فيهم" [فتح الباري 8/293]. أي وقوع العذاب لبعض الأمة دون بعض.
قال شيخ الإسلام: "وكان من حكمته ورحمته سبحانه وتعالى لما أرسل محمداً أن لا يهلك قومه بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم، بل عذب بعضهم بأنواع العذاب كما عذب طوائف ممن كذبه بأنواع من العذاب" [الجواب الصحيح 6/443].
كما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمان لأمته، حين سأل الله أن يرفع عنهم العذاب، فقال: ((وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها وعشرون عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم وعشرون عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً)) [مسلم ح2889].
قال شيخ الإسلام: "هذا الدعاء استجيب له في جملة الأمة و لا يلزم من ذلك ثبوته لكل فرد، وكلا الأمرين صحيح، فإن ثبوت هذا المطلوب لجملة الأمة حاصل، و لولا ذلك لأهلكوا بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم" [مجموع الفتاوى 14/150].
رابعاً: صور العذاب:
يورد القرآن والسنة في عشرات المواضع التي يتحدث الله فيها عن عذابه ورجزه الذي أنزله في الأمم السابقة، وكيف تنوعت صورة انتقام الله العظيم من أعدائه المجرمين والكافرين.
وقد تفاوتت العقوبات التي أصابت الأمم بتفاوت جرائمهم وعصيانهم لله عز وجل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم و جرائمهم، فعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية التي لا يقوم لها شيء، وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب لم يعذب بها أمة غيرهم، فجمع لهم بين الهلاك والرجم بالحجارة من السماء وطمس الأبصار وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها، والخسف بهم إلى أسفل سافلين، وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان، وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة فماتوا في الحال... ومن اعتبر أحوال العالم قديماً وحديثاً وما يعاقب به من يسعى في الأرض بالفساد وسفك الدماء بغير حق، وأقام الفتن واستهان بحرمات الله علم أن النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون" [مجموع الفتاوى 16/249].
قال السعدي: "فكل من هؤلاء الأمم المكذبة أخذنا بذنبه على قدره وبعقوبة مناسبة له" [تيسير الكريم 4/60].(/3)
كما أن هذه العقوبات الإلهية كانت - في كثير من صورها - صورة لما ارتكبته الأمم من جرائم وقبائح، فكان الجزاء من جنس العمل، يقول ابن القيم: "وقد جعل الله سبحانه أعمال البر والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بد منه، فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سبباً لمنع الغيث من السماء والقحط والجذب، وجعل ظلم المساكين والبخس في المكاييل والموازين وتعدي القوي على الضعيف سبباً لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون إن استرحموا، ولا يعطفون إن استعطفوا، وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم، فإن الله سبحانه بحكمته وعدله يظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها، فتارة بقحط وجدب، وتارة بعدو، وتارة بولاة جائرين، وتارة بأمراض عامة، وتارة بهموم والآم وغموم تحضرها نفوسهم، لا ينفكون عنها، وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم، وتارة بتسليط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزاً، لتحق عليهم الكلمة وليصير كل منهم إلى ما خلق له، والعاقل يسّير بصيرته بين الأقطار العالم فيشاهده، وينظر مواقع عدل الله وحكمته" [زاد المعاد 4/363].
ومن صور العذاب الكثيرة نتوقف مع هذه الصور:
1. الغرق والطوفان:
وهو أول عذاب استئصال عذب الله به الكافرين من قوم نوح {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14].
{مّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ} [نوح:25]. قال ابن كثير: "من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم أغرقوا فأدخلوا ناراً" [تفسير ابن كثير 8/263].
ثم عذب الله فرعون وجنوده بالغرق في اليم {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمّ} [الأعراف:136]. {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:77].
كما عذب بالسيل والطوفان مملكة سبأ {فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:16-17].
وهدد الله الآمنين من مكره بعذاب الغرق فقال: {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مّنَ الرّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء:69].
2. الريح:
وهو عذاب الله عذب به قوم عاد لما كفروا بربهم.
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة:6]. ويقول: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} [فصلت:16].
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24].
وقد كان نبينا إذا رأى ريحاً خاف وظهر ذلك في وجهه، وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان إذا عصفت الريح يقول: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)) [مسلم ح(889)].
تقول عائشة رضي الله عنها: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ فقال: ((يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، ورأى قوم العذاب فقالوا: {هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا})) [البخاري ح(4829)، مسلم ح (889)].
3. الصيحة:
والصيحة هي كما قال القرطبي في تفسيرها: "صيح بهم فماتوا، وقيل صاح بهم جبريل، وقيل غيره. وقال أيضاً: كانت صيحة شديدة خلعت قلوبهم" [تفسير القرطبي 7/42، 9/61].
وهي عذاب الله الذي عذب به قوم صالح {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67]. وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:31].
ويهدد الله المشركين بمثل هذا العذاب فيقول: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} [ص:15].
4. الحاصب:
والحاصب كما قال أبو عبيدة: الحجارة وقال ابن حجر: الحصباء في الريح. [انظر تفسير القرطبي 17/143، فتح الباري 8/391].
وهو العذاب الذي عذب الله به قوم لوط لما كفروا وارتكبوا الموبقات فقال: {فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} [العنكبوت:40] وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ الَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} [القمر:34].
وهو قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ d مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82، 83].(/4)
ونقل القرطبي في تفسيره {وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]. عن مجاهد أنه قال: ما الحجارة من ظالمي قومك يا محمد ببعيد.
وقال قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة، والله ما أجار الله منها ظالماً بعد. [تفسير القرطبي 9/83].
وهو العذاب الذي عذب الله به أصحاب الفيل {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ} [الفيل:1-4].
ومن جنسه الحد الذي جعله الله عقوبة للزاني المحصن، وهو الرجم.
والحاصب هو العذاب الذي حذر الله قريشاً به فقال: {أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:17].
وقال: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الإسراء:68].
5. الخسف:
والخسف هو كما عرفه القرطبي هو "الذهاب في الأرض" [تفسير القرطبي13/318] وهو ذهاب المكان ومن عليه وغيبوبته في بطن الأرض.
وهو عذاب الله به قارون لما بغى وأفسد فقال: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ} [القصص:81]. {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ} [العنكبوت:40].
وهو أحد أنواع العذاب التي تكون في آخر الزمان كما في حديث عمران بن حصين حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، إذا ظهرت القينات والمعازف، وشرب الخمور)) [الترمذي ح(2138) ونحوه في أبي داود].
وقد حذر الله العصاة من هذا العذاب {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [النحل:45]. وقال: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السَّمَاء إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [سبأ:9].
ومن صور الخسف الزلازل التي تميد بالأرض فتخرب المدن بعد عمارها، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أن الزلازل تكثر بين يدي الساعة قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تقتل.... وتكثر الزلازل)) [البخاري ح(7121)].
قال ابن حجر: "وقد وقع في كثير من البلاد الشمالية والشرقية والغربية كثير من الزلازل، ولكن الذي يظهر أن المراد بكثرتها شمولها ودوامها" [فتح الباري 13/87].
6. الجوع والعطش وضيق الأرزاق:
وهو ما عذب به قوم سبأ حيث قال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112].وقال أيضا:{وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:16، 17].
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [العنكبوت:41].
قال ابن كثير: "بان النقص في الثمار والزروع بسبب المعاصي ليذيقهم بعض الذي عملوا". وقال: "يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه على صنيعهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي عن المعاصي" [تفسير ابن كثير 6/327].
وقال صلى الله عليه وسلم محذراً من وقوع بعض هذا البلاء: ((يا معشر المهاجرين. . خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن. .. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)) [ابن ماجه ح(4019)، والحاكم (4/540) ووافقه الذهبي على تصحيحه].
7. الخوف والفرقة وتسليط الأعداء والذل وكثرة القتل والحروب:
وهذا النوع من العذاب عذب الله به بني إسرائيل فجعلهم فرقاً كثيرة وأضاف إلى ذلك الهوان والذلة إلى يوم القيامة {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء الْعَذَابِ} [الأعراف:167].
وقد صدق الله فكانوا أذل الأمم وأرذلها، وما نراه اليوم من عز وسؤدد فإنما هو بسبب تخاذل المسلمين عن قتالهم، ومصانعة النصارى لهم بحجة أنهم الشعب المبارك، وذلك قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النَّاسِ} [الأعراف:112].(/5)
ومنه قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} [الأنعام:65].
وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن:....، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) [ابن ماجه ح(4019)، والحاكم (4/540) ووافقه الذهبي على تصحيحه].
8. المسخ:
وهو كما عرفه المباركفوري التغير في الصورة [تحفة الأحوذي 3/151].
وقد عذب الله بني إسرائيل عندما اعتدوا في السبت {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65]. وقال: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة:60].
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا العذاب يكون في هذه الأمة، ووصف ذنب أولئك الممسوخين والذي بسببه يمسخهم الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسف أو مسخ أو قذف في أهل القدر)) [الترمذي ح(2152)، ابن ماجه (4061)].
وعن عمران بن حصين مرفوعاً: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف فقال رجل: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور)) [الترمذي ح(2138) ونحوه في أبي داود].
وعن ابن حبان: ((لا تقوم الساعة حتى يكون في أمتي خسف ومسخ)) [صحيح ابن حبان ح (1890) بإسناد حسن].
قال ابن تيمية: "المسخ واقع في هذه الأمة ولا بد، وهو واقع في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، الذين قبلوا دينه، والمجاهرين المنهمكين في شرب الخمر والمحارم...".
وقال: "إنما يكون الخسف والمسخ إذا استحلوا هذه المحرمات بتأويل فاسد فإنهم لو يستحلوها مع اعتقاد أن الشارع حرمها كفروا ولم يكونوا من أمته، ولو كانوا معترفين بحرمتها لما عقبوا بالمسخ كسائر من يفعل هذه المعاصي، مع اعترافهم بأنها معصية".
9. الأمراض والبلايا والطواعين:
وهو نوع آخر من العذاب يصبه الله على الأمم المتجبرة الكافرة أو المسلمة العاصية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون رجسٌ أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم)) [البخاري ح3214، مسلم ح4108].
وقد توعد الله فيه عصاة الأمم فيما جعل الطاعون رحمة وشهادة لهذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) [ابن ماجه ح(4019)، والحاكم (4/540) ووافقه الذهبي على تصحيحه].
قال القرطبي: "الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة". [تفسير القرطبي 9/292].
خامساً: أسباب وقوع العذاب على الأمم:
أسباب العذاب والمهالك التي تحيق بالمجتمعات كثيرة، ومنها:
1. الظلم والكفر:
والظلم هو تجاوز الحد، وله صور أعظمها الشرك كما قال الله: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، قال ابن حجر: "تفسير الظلم بالشرك على إطلاقه , وإن فسر بما هو أعم فيحمل كل على ما يليق به".[فتح الباري 8/355]
ومما يوقفنا على عظم جريمة الشرك والكفر قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً} [مريم:89-91].
قال تعالى محذراً من الشرك الذي أحل العقوبة بالأمم السابقة: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لما ظلموا} [الكهف:59]. قال ابن كثير: "الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم... وكذلك أنتم أيها المشركون: احذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي، ولستم بأعز علينا منهم، فخافوا عذابي ونذر". [تفسير ابن كثير 4/169].
وقال تعالى يحكي عن مصارع الأمم المعذبة بسبب كفرها: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر:18-20].
وقال عن قوم فرعون وغيرهم: {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} [آل عمران:11].(/6)
يقول ابن كثير: "فعل هؤلاء من المشركين المكذبين بما أرسلت به يا محمد كما فعل الأمم المكذبة قبلهم فقلنا بهم ما هو دأبنا أي عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل" [تفسير ابن كثير 2/320].
وقد جعل الله العقوبة للأمم الكافرة سنة له في خلقه، فقال: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد إلا سنة الله بهم في عاجل الدنيا على كفرهم به أليم العقاب، يقول: فهل ينتظر هؤلاء إلا أن أحل بهم من نقمتي على شركهم بي وتكذيبهم رسولي مثل الذي أحللت بمن قبلهم من أشكالهم من الأمم" [الطبري 22/146].
وقد جاءت الآيات تتوعد الأمم الكافرة بسنة الله الماضية في أهل الشرك والكفر {وَإِن مّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الإسراء:58].
قال ابن كثير: "هذا إخبار من الله عز وجل بأنه قد حتم وقضى بما قد كتب عنده في اللوح المحفوظ أنه ما من قرية إلا سيهلكها بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم عذاباً شديداً إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم كما قال تعالى عن الأمم الماضين {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} [هود:101]. وقال تعالى: {وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق:8، 9]" [تفسير ابن كثير 3/47].
وهذه السنة لا مهرب منها ولا محيص عنها، إذ هي قدر الله الذي لا يغلب، وقد يؤخره الله ليبلغ أجله، لكن {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]. قال القرطبي: "أي: أجرى الله العذاب على الكفار، ويجعل ذلك سنة فيهم، فهو يعذب بمثله من استحقه لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره" [تفسير القرطبي 14/360].
2. الطغيان وظلم العباد:
ومن الأسباب التي تحل العذاب في الأمم استضعاف العباد وظلمهم كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف:59].
والظلم من المعاصي التي يعجل الله عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنبٍ أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) [أبو داود ح4902، الترمذي ح2511، أحمد ح19861]. قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) [أبو داود ح4338، الترمذي ح2168، أحمد ح30].
وقد تتأخر عقوبة الظلم إلى حين وأجل يعلمه الله، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) قال ثم قرأ: {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] [البخاري ح4409].
وحكى الله عن مصارع الأمم الظالمة الطاغية كقوم عاد وثمود وفرعون، فقال: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:9-14]. وقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءاخَرِينَ} [الأنبياء:11]. وقال: {فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج:45].
3. كثرة المعاصي والمنكرات وقلة الأمر بالمعروف:
ومن الأسباب التي تحل العذاب العاجل في الأمم فشو المنكرات وشيوعها، وذلك عندما تقصر الأمة بواجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]. وعن زينب بنت جحش أنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فزعًا يقول: ((لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحشٍ: فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)) [البخاري ح3346، مسلم ح2880].(/7)
يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا فإذا فشا فيهم ولد الزنا فيوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقاب)) [أحمد ح2629، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح 10/193].
والمنكرات إنما تفشو وتظهر حين تقصر الأمة عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتصبح المعصية في المجتمع ظاهرة مألوفة، وحينها تعم العقوبة الجميع ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) [ الترمذي ح2169، وقال: هذا حديث حسن، أحمد ح22790]
وعن عبد الله بن عمر قال أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن:لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) [ابن ماجه ح4019، وصححه الألباني ح3246 ].
قال القرطبي: "وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع". [تفسير القرطبي 1/401].
يقول صلى الله عليه وسلم: ((ما من قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقابٍ)) [أبو داود ح3775، أحمد ح16]. قال أبو الطيب الآبادي: "قال القاري: إذا كان الذين لا يعملون المعاصي أكثر من الذين يعملونها فلم يمنعوهم عنها عمهم العذاب. وقال العزيزي: لأن من لم يعمل إذا كانوا أكثر ممن يعمل كانوا قادرين على تغيير المنكر غالبًا، فتركهم له رضًا به" [عون المعبود 11/329].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تعمل الخاصة بعمل تقدر عليه العامة أن تغيره ولا تغيره، فذاك حين يأذن الله تعالى في هلاك العامة والخاصة)) [أحمد ح،17267، الطبراني 17/138، ورجاله ثقات، قال ابن حجر: إسناده حسن، فتح الباري 13/4]. قال المباركفوري: "تصيبكم عامة بسبب مداهنتكم" [تحفة الأحوذي 6/329].
قال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكرين أظهرهم، فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم" [تفسير البغوي 2/241].
والعقاب الدنيوي الذي ينزل بالجميع لا يعني الاشتراك في العذاب في الآخرة، بل كل يحاسب عن عمله، فعن أم سلمة مرفوعاً: ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله عز وجل بعذاب من عنده فقلت: يا رسول الله أما فيهم يومئذ أناس صالحون؟ قال: بلى، قالت: فكيف يصنع أولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان)) [أحمد ح26056].
قال القرطبي: "فإن قيل فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم قيل يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاءا وهلاك المؤمن معوضاً بثواب الآخرة وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أراد الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم))" [تفسير القرطبي10/120].
4. العتو والكبر والغرور:
والأمة العاتية المغرورة المستكبرة أمة تعرضت لعقوبة الله ونازعت الله ما يستحقه من الكبرياء والعظمة قال تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} [النجم:50-52].
قال الطبري: " يقول تعالى ذكره: وأنه أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، إنهم كانوا هم أشد ظلماً لأنفسهم وأعظم كفراً بربهم وأشد طغياناً وتمرداً على الله من الذين أهلكهم من بعد من الأمم، وكان طغيانهم الذي وصفهم الله به، وأنهم كانوا بذلك أكثر طغياناً من غيرهم من الأمم" [تفسير الطبري 27/78].
{أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:9].
قال ابن كثير: "كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم. . وأكثر أموالاً وأولاداً، وما أوتيتم معشار ما أوتوا، ومكنوا في الدنيا تمكيناً لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها أعماراً طوالاً، فعمروها أكثر منكم، واستغلوها أكثر من استغلالكم" [تفسير ابن كثير3/428].(/8)
وقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم قصة بني إسرائيل عندما أصابهم شيء من العزة بالكثرة والعدد، فجاءتهم العقوبة من الله، وأصابتهم سنن الله العادلة التي تحيق بمن أصابه شيء من الكبر أو الغرور أو العزة بغير الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((إني ذكرت نبياً من الأنبياء أعطى جنوداً من قومه فقال: من يكافئ هؤلاء؟ أو من يقوم لهؤلاء؟ - أو غيرها من الكلام - فأوحى إليه أن اختر لقومك إحدى ثلاث أما أن نسلط عليهم عدواً من غيرهم أو الجوع أو الموت، فاستشار قومه في ذلك، فقالوا: أنت نبي الله، فكل ذلك إليك، خر لنا، فقام إلى الصلاة، كانوا إذا فزعوا فزعوا إلى الصلاة، فصلى ما شاء الله.
قال ثم قال: أي رب، أما عدو من غيرهم فلا، أو الجوع فلا، ولكن الموت.
فسلط عليهم الموت، فمات منهم سبعون ألفاً، فهمسي ـ أي: همس النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في صدر الحديث ـ الذي ترون أني أقول: اللهم بك أقاتل وبك أصاول، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) [أحمد ح23972].
5. الغلو في الدين:
((يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) [أحمد ح3238، ابن ماجه ح3029،الحاكم 1/456] قال المناوي: "إياكم والغلو في الدين أي التشديد فيه ومجاوزة الحد والبحث عن غوامض الأشياء والكشف عن عللها "[فيض القدير 3/125]
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) [البخاري ح6744، مسلم ح2380].
قال النووي: "المراد بهلاك من قبلنا هنا هلاكهم في الدين بكفرهم , وابتداعهم , فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل فعلهم".
قال ابن حجر عن المسائل الوارد ذمها في الحديث: "ما كان على وجه التعنت والتكلف" [فتح الباري 13/263].
ويفسر ابن تيمية الاختلاف على الأنبياء بالمخالفة لما فيه، قال ابن تيمية: "فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللاً ذلك بأن سبب هلاك الأولين ما كان إلا لكثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة التي أمرهم بذبحها لكن هذا الاختلاف على الأنبياء هو والله أعلم مخالفة للأنبياء، كما يقال: اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه" [اقتضاء الصراط المستقيم1/36]. ومن غلو أهل الكتاب إطراؤهم المسيح وقولهم أنه ابن الله، ومثله طاعتهم المطلقة لأحبارهم ورهبانهم.
6. كفران النعم:
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
يقول الطبري في بيان معنى الآية: "ولئن كفرتم أيها القوم نعمة الله فجحدتموها بترك شكره عليها وخلافه في أمره ونهيه وركوبكم معاصيه إن عذابي لشديد، أعذبكم كما أعذب من كفر بي من خلقي" [تفسير الطبري 13/186].
وحكى الله مصارع الأمم التي كفرت نعم الله فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112]. قال المناوي: "ما زال شيء عن قوم أشد من نعمة لا يستطيعون ردها، وإنما ثبتت النعمة بشكر المنعم عليه للمنعم، وفي الحِكم: من لم يشكر النعمة فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها. وقال الغزالي: والشكر قيد النعم، به تدوم وتبقى، وبتركه ينعقد وتتحول، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]" [فيض القدير 3/41].
وكما قال الله: {ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53].قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: إن الله لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضاً واعتداء بعضهم على بعض، فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره" [ تفسير الطبري 13/121].
7. التنافس في الدنيا والشح بما فيها:
ومن أسباب العذاب الركون إلى الدنيا والتسابق فيها، وهو الداء الذي أهلك الأمم السابقة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)) [أبو داود ح1698، أحمد ح2753، الحاكم ح1516، ووافقه الذهبي].
قال ابن حجر: "فيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين" [فتح الباري6/263].(/9)
وهو ما حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منه حين حذرها من فتنة الدنيا والتسابق فيها فقال: ((فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم)) [البخاري ح4015، مسلم ح2961]. وقال: ((إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) [البخاري ح1465، مسلم ح1052].
فبسطة الدنيا على العباد سبب طغيانهم كما قال الله: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6، 7]. قال الطبري: "إن الإنسان ليتجاوز حده ويستكبر على ربه فيكفر به لأن رأى نفسه استغنت" [تفسير الطبري30/253].
قال الله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْق لبغوا في الأرض ولمن ينزل بقدر ما يشاءَ} [الشورى:27]. قال ابن كثير: "أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً" [تفسير ابن كثير 4/116].(/10)
الاعتزاز بالإسلام
1820
فضائل الإيمان
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
ملخص الخطبة
1- عبودية المسلم لله شرف له. 2- اعتزاز عبد الله بن أم مكتوم. 3- شرف جليبيب بالإسلام. 4- عزة عمر وهو يستلم مفاتيح بيت المقدس. 5- ضرورة تنشئة أبنائنا على الاعتزاز بالدين.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أحبابنا في الله: الإسلام هو الدين القيم الذي فيه صلاح البلاد والعباد، وهو أعظم المنن التي منّ بها الكريم الوهاب، وقد تكفل الله لمن سلكه بسعادة الدنيا والآخرة، فيه المبادئ السامية، والأخلاق العالية، والنظم العادلة. إنه الدين الذي ينبغي لنا أن نفتخر به، وأن نتشرف بالانتساب إليه، فمن لم يتشرف بهذا الدين ويفخر به ففي قلبه شك وقلة يقين.
إن الحق يخاطب حبيبه قائلاً: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]. أي: شرف لك وشرف لقومك وشرف لأتباعك إلى يوم القيامة.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بإخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
إن الشرف أن تكون من عباد الله الصالحين، وأن تعمل الصالحات وتجتنب المحرمات.
إن الشرف أن تدعو لهذا الدين، وأن تتبع سنة خير المرسلين ، لقد أدرك سلفنا الأول عظمة هذا الدين، فقدموا أنفسهم وأموالهم رخيصة لهذا الدين.
لقد كان الإسلام هو شرفهم الأول وغاية آمالهم، فهذا عبد الله بن أم مكتوم – رضي الله عنه الذي يقول له النبي : ((مرحباً بالذي عاتبني فيه ربي)) – لما أتى داعي الجهاد في سبيل الله، وارتفعت راية الإسلام، ونادى النفير للجهاد، فيقول له الصحابة: إنك معذور، أنت أعمى، وذلك لقوله تعالى: لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى [الفتح:17]. فيجيبهم: لا والله، والله يقول: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة:41].
فلما حضرت المعركة أعطوه الراية، وقالوا: إياك أن نؤتى من قبلك فقال رضي الله عنه: بئس حامل القرآن إن أتيتم من قبلي، فوقف مكانه حتى قتل، فكان قبره تحت قدميه رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا فارس آخر من فرسان الإسلام العظام، الذين تربوا على يد محمد ، فقدموا للبشرية الشرف العظيم في انتمائهم للإسلام وتشرفهم به، إنه جليبيب رضي الله عنه، ذلك الصحابي الذي لم يكن يملك من الدنيا إلا الإيمان الذي ملأ قلبه، فأضاء له الدنيا.
جاء جليبيب إلى رسول الله ، فتبسم عليه الصلاة والسلام لما رآه، وقال: ((يا جليبيب أتريد الزواج))؟ فقال: يا رسول الله، من يزوجني ولا أسرة عندي ولا مال ولا دار ولا شيء من متاع الدنيا؟! فقال عليه الصلاة والسلام: ((اذهب إلى ذلك البيت من بيوت الأنصار، فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إن رسول الله يأمركم أن تزوجوني))، فذهب وطرق عليهم الباب، فخرج رب البيت، ورأى جليبيباً، فقال له: ماذا تريد؟ فأخبره الخبر، فعاد إلى زوجته، فشاورها، ثم قالوا: ليته غير جليبيب، لا نسب ولا مال ولا دار، فشاروا الفتاة، فقالت: وهل نرد رسول رسول الله فتزوج بها.
وحضر النبي غزوة من الغزوات، فلما كتب لهم النصر قال النبي لأصحابه: ((هل تفقدون من أحد))؟ قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثم قال : ((لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه))، فطلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبي فوقف عليه، فقال: ((قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه))، ثم وضعه على ساعديه، ليس له إلا ساعدا النبي ، ثم حفر له ووضع في قبره. [المسند: 4/422، مسلم: 4/1918].
فانظروا – رحمكم الله – إلى هذا الرجل الذي يفتخر به النبي ، ويضع ساعده الشريف وسادة له حتى يحفر له القبر إكراماً له، مع أنه من الفقراء في المال، لكنه من الأعزاء بالإسلام المتشرفين بالانتساب له.
إنهم عظماء؛ لأنهم عاشوا في كنف محمد .
واستمعوا إلى قصة عظيمة، إنها قصة عمر رضي الله عنه حينما خرج إلى القدس ليتسلم مفاتيح بيت المقدس – أسأل الله أن يعيده إلينا – يخرج عمر على حاله المعروفة، فيستعرض الجيش الإسلامي العظيم، ويقول قولته المشهورة: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. ثم يقترب من أبي عبيدة فيعانقه، ويبكي طويلاً، فيقول عمر: يا أبا عبيدة، كيف بنا إذا سألنا الله يوم القيامة ماذا فعلنا بعد رسولنا ؟ فيقول أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، تعالى نتباكى، ولا يرانا الناس، فانحرفا عن الطريق والجيوش تنظر إليهما، فاتجها إلى شجرة، ثم بكيا طويلاً رضوان الله عليهم أجمعين.
ترى هل سأل أحد منا نفسه ماذا فعلنا بعد رسول الله ؟ هل حافظنا على سنته؟ هل اتبعنا ملته؟ ألم نفرط أو نضيع؟ ومع ذلك لا نرى فينا باكياً.
اللهم إنا نشكو إليك قسوة قلوبنا، فارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
إخوة الإسلام أتباع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام:
لقد عرف سلفنا – رضوان الله عليهم – أن الحياة إنما تصرف في مرضاة الله وطاعته، وأن عزهم في دينهم وتمسكهم به، وأن ارتباطهم إنما هو بالله الواحد الأحد.(/1)
حج هشام بن عبد الملك، فلما كان في الطواف رأى سالم بن عبد الله وهو يطوف وحذاؤه في يديه، وعليه ثياب لا تساوي ثلاثة عشر درهماً، فقال له هشام: يا سالم، أتريد حاجة أقضيها لك؟ قال سالم: أما تستحي من الله، تعرض عليّ الحوائج وأنا في بيت من لا يُعوز إلى غيره؟! فسكت هشام، فلما خرجا من الحرم قال له: هل تريد شيئاً؟ قال سالم: أمن حوائج الدنيا أو الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا. فقال سالم: والله الذي لا إله إلا هو ما سألت حوائج الدنيا من الذي يملكها تبارك وتعالى، فكيف أسألها منك؟
إنه الإيمان الذي ربى القلوب على التعلق بالله والنزول في حماه والالتجاء إليه والاعتصام به.
إخوة الإسلام: هذه نماذج رائعة أذكرها لكم لكي يكون لنا فيها الأسوة والقدوة في التشرف بالإسلام، والاعتزاز به، والاعتماد على الله، والتوكل عليه، والسير على نهجه، والالتزام بسنة نبيه ، فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا الإسلام حق المعرفة، واسلكوا طريقه تفلحوا وتسعدوا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً. .. أما بعد:
إخوة الإسلام:
لكي ينشأ أبناؤنا على تعاليم الإسلام وشرائعه، يجب علينا أن نعظم شعائر الله في قلوبهم، يجب أن نربي أبناءنا على تعظيم الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأن نشعرهم بأن الخير من الله، ولا يدفع الشر سواه، وأن أمورنا إنما تكون بأمره سبحانه، فهو المتصرف كيف يشاء، وأن ننزل حاجاتنا به فهو المؤمل سبحانه، يأكل باسم الله، يخرج متوكلاً على الله، يدرس ابتغاء مرضاة الله.
كما يجب أن نعظم في قلوبهم القرآن الكريم حفظاً وتلاوة، ونشعرهم بعظمة هذا القرآن وما فيه من خير وسعادة.
ومما يجب أن يعظم في نفوسهم حب رسول الله ، وذكر سيرته وجهاده ورحمته وشفقته وشفاعته وإحسانه، وأنه الرحمة المهداة، وذلك بكثرة الصلاة والسلام عليه، وتقديم حبه على كل شيء.
إن المسئولية في هذا ملقاة على عواتق أولياء الأمور، فليتقوا الله في ذلك، وليحسنوا التربية حتى تخرج الثمار المباركة. اللهم وفقهم لما تحبه وترضى.
ثم صلوا على الحبيب المصطفى والنبي المجتبى، فقد أمركم بذلك مولانا في محكم التنزيل فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].(/2)
... ... ...
الاعتزاز بالإسلام ... ... ...
رضا محمد السنوسي ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- عبودية المسلم لله شرف له. 2- اعتزاز عبد الله بن أم مكتوم. 3- شرف جليبيب بالإسلام. 4- عزة عمر وهو يستلم مفاتيح بيت المقدس. 5- ضرورة تنشئة أبنائنا على الاعتزاز بالدين. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
أحبابنا في الله: الإسلام هو الدين القيم الذي فيه صلاح البلاد والعباد، وهو أعظم المنن التي منّ بها الكريم الوهاب، وقد تكفل الله لمن سلكه بسعادة الدنيا والآخرة، فيه المبادئ السامية، والأخلاق العالية، والنظم العادلة. إنه الدين الذي ينبغي لنا أن نفتخر به، وأن نتشرف بالانتساب إليه، فمن لم يتشرف بهذا الدين ويفخر به ففي قلبه شك وقلة يقين.
إن الحق يخاطب حبيبه قائلاً: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]. أي: شرف لك وشرف لقومك وشرف لأتباعك إلى يوم القيامة.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بإخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
إن الشرف أن تكون من عباد الله الصالحين، وأن تعمل الصالحات وتجتنب المحرمات.
إن الشرف أن تدعو لهذا الدين، وأن تتبع سنة خير المرسلين ، لقد أدرك سلفنا الأول عظمة هذا الدين، فقدموا أنفسهم وأموالهم رخيصة لهذا الدين.
لقد كان الإسلام هو شرفهم الأول وغاية آمالهم، فهذا عبد الله بن أم مكتوم – رضي الله عنه الذي يقول له النبي : ((مرحباً بالذي عاتبني فيه ربي)) – لما أتى داعي الجهاد في سبيل الله، وارتفعت راية الإسلام، ونادى النفير للجهاد، فيقول له الصحابة: إنك معذور، أنت أعمى، وذلك لقوله تعالى: لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى [الفتح:17]. فيجيبهم: لا والله، والله يقول: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة:41].
فلما حضرت المعركة أعطوه الراية، وقالوا: إياك أن نؤتى من قبلك فقال رضي الله عنه: بئس حامل القرآن إن أتيتم من قبلي، فوقف مكانه حتى قتل، فكان قبره تحت قدميه رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا فارس آخر من فرسان الإسلام العظام، الذين تربوا على يد محمد ، فقدموا للبشرية الشرف العظيم في انتمائهم للإسلام وتشرفهم به، إنه جليبيب رضي الله عنه، ذلك الصحابي الذي لم يكن يملك من الدنيا إلا الإيمان الذي ملأ قلبه، فأضاء له الدنيا.
جاء جليبيب إلى رسول الله ، فتبسم عليه الصلاة والسلام لما رآه، وقال: ((يا جليبيب أتريد الزواج))؟ فقال: يا رسول الله، من يزوجني ولا أسرة عندي ولا مال ولا دار ولا شيء من متاع الدنيا؟! فقال عليه الصلاة والسلام: ((اذهب إلى ذلك البيت من بيوت الأنصار، فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إن رسول الله يأمركم أن تزوجوني))، فذهب وطرق عليهم الباب، فخرج رب البيت، ورأى جليبيباً، فقال له: ماذا تريد؟ فأخبره الخبر، فعاد إلى زوجته، فشاورها، ثم قالوا: ليته غير جليبيب، لا نسب ولا مال ولا دار، فشاروا الفتاة، فقالت: وهل نرد رسول رسول الله فتزوج بها.
وحضر النبي غزوة من الغزوات، فلما كتب لهم النصر قال النبي لأصحابه: ((هل تفقدون من أحد))؟ قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثم قال : ((لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه))، فطلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبي فوقف عليه، فقال: ((قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه))، ثم وضعه على ساعديه، ليس له إلا ساعدا النبي ، ثم حفر له ووضع في قبره. [المسند: 4/422، مسلم: 4/1918].
فانظروا – رحمكم الله – إلى هذا الرجل الذي يفتخر به النبي ، ويضع ساعده الشريف وسادة له حتى يحفر له القبر إكراماً له، مع أنه من الفقراء في المال، لكنه من الأعزاء بالإسلام المتشرفين بالانتساب له.
إنهم عظماء؛ لأنهم عاشوا في كنف محمد .
واستمعوا إلى قصة عظيمة، إنها قصة عمر رضي الله عنه حينما خرج إلى القدس ليتسلم مفاتيح بيت المقدس – أسأل الله أن يعيده إلينا – يخرج عمر على حاله المعروفة، فيستعرض الجيش الإسلامي العظيم، ويقول قولته المشهورة: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. ثم يقترب من أبي عبيدة فيعانقه، ويبكي طويلاً، فيقول عمر: يا أبا عبيدة، كيف بنا إذا سألنا الله يوم القيامة ماذا فعلنا بعد رسولنا ؟ فيقول أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، تعالى نتباكى، ولا يرانا الناس، فانحرفا عن الطريق والجيوش تنظر إليهما، فاتجها إلى شجرة، ثم بكيا طويلاً رضوان الله عليهم أجمعين.
ترى هل سأل أحد منا نفسه ماذا فعلنا بعد رسول الله ؟ هل حافظنا على سنته؟ هل اتبعنا ملته؟ ألم نفرط أو نضيع؟ ومع ذلك لا نرى فينا باكياً.
اللهم إنا نشكو إليك قسوة قلوبنا، فارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
إخوة الإسلام أتباع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام:(/1)
لقد عرف سلفنا – رضوان الله عليهم – أن الحياة إنما تصرف في مرضاة الله وطاعته، وأن عزهم في دينهم وتمسكهم به، وأن ارتباطهم إنما هو بالله الواحد الأحد.
حج هشام بن عبد الملك، فلما كان في الطواف رأى سالم بن عبد الله وهو يطوف وحذاؤه في يديه، وعليه ثياب لا تساوي ثلاثة عشر درهماً، فقال له هشام: يا سالم، أتريد حاجة أقضيها لك؟ قال سالم: أما تستحي من الله، تعرض عليّ الحوائج وأنا في بيت من لا يُعوز إلى غيره؟! فسكت هشام، فلما خرجا من الحرم قال له: هل تريد شيئاً؟ قال سالم: أمن حوائج الدنيا أو الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا. فقال سالم: والله الذي لا إله إلا هو ما سألت حوائج الدنيا من الذي يملكها تبارك وتعالى، فكيف أسألها منك؟
إنه الإيمان الذي ربى القلوب على التعلق بالله والنزول في حماه والالتجاء إليه والاعتصام به.
إخوة الإسلام: هذه نماذج رائعة أذكرها لكم لكي يكون لنا فيها الأسوة والقدوة في التشرف بالإسلام، والاعتزاز به، والاعتماد على الله، والتوكل عليه، والسير على نهجه، والالتزام بسنة نبيه ، فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا الإسلام حق المعرفة، واسلكوا طريقه تفلحوا وتسعدوا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً. .. أما بعد:
إخوة الإسلام:
لكي ينشأ أبناؤنا على تعاليم الإسلام وشرائعه، يجب علينا أن نعظم شعائر الله في قلوبهم، يجب أن نربي أبناءنا على تعظيم الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأن نشعرهم بأن الخير من الله، ولا يدفع الشر سواه، وأن أمورنا إنما تكون بأمره سبحانه، فهو المتصرف كيف يشاء، وأن ننزل حاجاتنا به فهو المؤمل سبحانه، يأكل باسم الله، يخرج متوكلاً على الله، يدرس ابتغاء مرضاة الله.
كما يجب أن نعظم في قلوبهم القرآن الكريم حفظاً وتلاوة، ونشعرهم بعظمة هذا القرآن وما فيه من خير وسعادة.
ومما يجب أن يعظم في نفوسهم حب رسول الله ، وذكر سيرته وجهاده ورحمته وشفقته وشفاعته وإحسانه، وأنه الرحمة المهداة، وذلك بكثرة الصلاة والسلام عليه، وتقديم حبه على كل شيء.
إن المسئولية في هذا ملقاة على عواتق أولياء الأمور، فليتقوا الله في ذلك، وليحسنوا التربية حتى تخرج الثمار المباركة. اللهم وفقهم لما تحبه وترضى.
ثم صلوا على الحبيب المصطفى والنبي المجتبى، فقد أمركم بذلك مولانا في محكم التنزيل فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/2)
الاعتصام بالكتاب والسنة نجاة
يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا
فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة
منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما {النساء آية:173-174}
من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام ست من شوال
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر". {صحيح مسلم}
زكاة الفطر قبل صلاة العيد
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو و الرفث و طعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة و من أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات". {صحيح الجامع}
من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم
إخبار الشاة النبي أنها مسمومة
عن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية (أي مشوية) سمتها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأكل القوم فقال: "ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة" (أي الشاة) فمات بشر بن البراء بن معرور الأنصاري فأرسل إلى اليهودية: "ما حملك على الذي صنعت"؟ قالت إن كنت نبيًا لم يضرك الذي صنعت، وإن كنت مَلِكاً أرحتُ الناس منك! {سنن آبى داود}
من درر التفاسير
قال ابن كثير في تفسيره في قوله تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة . قال: هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحًا وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة، والحياة الطيبة تشتمل وجوه الراحة من أي جهة كانت، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسرها بالقناعة و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنها هي السعادة، والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه". {تفسير ابن كثير}
حكم ومواعظ
دخل رجل على عمر بن عبد العزيز فجعل يشكو إليه رجلاً ظلمه ويقع فيه فقال عمر: "إنك إن تلقي الله ومظلمتك كما هي خير لك أن تلقاه وقد اقتصصتها". {نضرة النعيم}
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ثلاث يصفين عليك من ود أخيك، أن تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحسن أسمائه إليه. {شعب الإيمان}
عن صالح بن عبد الكريم، قال: مثل القلب مثل الإناء إذا ملأته ثم زدت فيه شيئاً فاض، وكذلك القلب إذا امتلأ من حب الدنيا لم تدخله المواعظ. {ذم الدنيا ابن ابي الدنيا}
المسلم يحمد الله علي قضاء الله
عن شريح قال : إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات، أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، و أحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع (أي يقول إنا لله وانا إليه راجعون) لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني. {شعب الإيمان}
ما الزهد ؟
عن سفيان قال: سئل الزهري عن الزهد فقال: من لم يغلب الحرام صبره و لم يمنع الحلال شكره. قال أبو سعيد: الصبر عن الحرام والشكر على الحلال الاعتراف لله عز و جل واستعمال النعمة في الطاعة.. {شعب الإيمان}
تحمل العناء في طلب العلم
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طلبت العلم، فلم أجده أكثر منه في الأنصار، فكنت آتي الرجل فأسأل عنه، فيقال لي نائم، فأتوسد ردائي ثم أضطجع حتى يخرج إلى الظهر، فيقول: متى كنت هاهنا يا ابن عم رسول الله؟ فأقول: منذ زمن طويل. فيقول بئس ما صنعت، هلا أعلمتني؟ فأقول: أردت أن تخرج إلي وقد قضيت حاجتك. {سنن الدارمي}
من أخلاق السلف
عن عبد الله بن هاشم بن حيان قال: كان لرجل على خالد بن الحارث خمسون ديناراً فألح عليه فجاء إلى يحيى بن سعيد صاحب له فقال: كلم فلاناً يوفر عنا أياماً فسكت يحيى فلما خرج خالد من عنده بعث إلى غريمه فأعطاه الخمسين دينارًا و لم يخبر خالداً أني أديته عن. {شعب الإيمان}
نصائح لبناتنا !
عن أبي بشر أن أسماء بن خارجة الفزاري لما أراد أن يهدي ابنته إلى زوجها قال لها: يا بنية كوني لزوجك أمة يكن لك عبداً، و لا تدني منه فَيَمَلُّك، و لا تباعدي عنه فتثقلي عليه، و كوني كما قلت لأمك:
خذي العفو مني تستمدي مودتي
و لا تنطقي في سورتي حين أغضبُ
فإني رأيت الحب في الصدّ والأذى
إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهبُ
{شعب الإيمان}
من آثار المعصية الوهن في العبادة
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جزاء المعصية الوهن في العبادة، و الضيق في المعشية، و النقص في اللذة، قيل: و ما النقص في اللذة؟ قال: لا ينال شهوة حلال إلا جاءه ما ينغصه إياها.
{تاريخ الخلفاء}(/1)
من مفردات الأحاديث
الحِبُّ بالكسر: المحبوب للرجل حِبَّة - للأنثى. في حديث فاطمة رضي الله عنها (عند آبي داود وضعفه الألباني) قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة : "إنها حِبَّة رسول الله" ومنه الحديث "من يجترئ علي ذلك إلا أسامة حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي محبوبه.
{النهاية في غريب الحديث لابن الاثير}
من نوادر العلماء
عاد الربيع الشافعي فدعا له: قوَّى الله ضعفك، فقال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني. قال: والله ما أردت إلا الخير، قال: أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير. "وإنما أراد الشافعي مباسطة الربيع".(/2)
الافتخار والاعتزاز بالإسلام
من طبيعة البشر وفطرتهم التي فطرهم الله عليها أن يعتزوا دائما بنسب أو مال أو جاه أو غيره, فالإنسان مجبول على حب البحث عن العزة بأي سبب من الأسباب .
عباد الله إن الناس أقسام؛ أول قسم منهم الكفار : هؤلاء الذين يعتزون بكفرهم وشركهم وقديما اعتز المشركون بعبادتهم للأوثان , فقال تعالى {واتخذوا من دون آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا}, وهؤلاء سحرة فرعون ظنوا أن العزة بيد فرعون فتحدوا موسى بذلك , فقال تعالى :{ وقالوا بعزة فرعون إنّا لنحن الغالبون} وهذا القسم من الناس عباد الله خائب في الدنيا خاسر في الآخرة .
والقسم الثاني : هم المنافقون الذين يطلبون العزة من موالاة الكفار والترامي في أحضان أعداء الأمة ظانين أن الغلبة لهؤلاء الكافرين أن حالهم بالعلو دائم متجاهلين سنن الله في الكون فقال تعالى في وصف هؤلاء { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} . وتجد هؤلاء القوم يصرون على موقفهم مع أن الله سبحانه أخبرنا في كتابه خطأ ظنهم , وحسم العزة لنفسه جل جلاله , فقال تعالى : {بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا }. وهذا القسم خائب أيضا في الدنيا وخاسر في الآخرة والعياذ بالله .
أما القسم الثالث : عباد الله فهم المؤمنون الصادقون الذين ارتضوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا هؤلاء الذين علموا وتيقنوا أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين , وساروا طلبا للعزة منطلقين من قوله تعالى : { من كان يريد العزة فلله العزة جميعا }.
فالمؤمن عباد الله يعلم أن الله سبحانه هو الذي يعز ويذل , وهو الذي يؤتي الملك وينزعه ولا يقوم بذلك إنس ولا جن لا ملك ولاحاكم ولا طاغوت ولا سواهم ؛ مصداقا لقوله تعالى { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير }.ومن هنا اعتز هؤلاء النفر بالله وبدينهم وبإسلامهم , لم يلتفتوا للباطل ولا لأهله , ولم ينظروا للظلم وجولته , وإنما زرعوا في قلوبهم قول الله تعالى :{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } .
فلم ينظروا إلى المجرمين من الكفار واستكبارهم في الأرض , ولم يلتفتوا إلى علو الطغاة الظالمين , ولم يأبهوا بالهجمة الحاقدة على هذا الدين , وبالترصد الغادر للمجاهدين , فلم ينحنوا إلا لله ولم يقبلوا الدنية في دينهم بحجة الواقع , كما فعل البعض فتبرأ من دينه وعقيدته وكال التهم والشتائم للجهاد والمجاهدين , مبرئا نفسه من الإرهاب وأهله كما يدعون .
عباد الله :إن الاعتزاز بالإسلام والانتساب إليه إنما هو من أهم أسباب الرفعة للأمم , وهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يسطر هذه القاعدة خالدة إلى يوم الدين فقال : كنا أذلة فأعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة في غير الإسلام أذلنا الله ؛ فإلى اللاهثين وراء الطواغيت وإلى الراكعين لأعدائهم وإلى الراكضين وراء المال والجاه هلا تمعنتم في قول الفاروق الذي لم يكن في قومه في الجاهلية ذليلا ولم يكن عبدا مهانا وإنما كان سيدا مهابا ورجلا عزيزا ومع ذلك يقول هذه المقولة عن تجربة وخبرة وعلم ؛ فيا ليت قومي يفقهون !!.
أخوة الإسلام : إن العزة بالإسلام إنما هي قوة وشدة على أعداء الله وجهادا لهم وثباتا وصبرا على أذاهم وإرغاما لأنوفهم بكل وسيلة شرعها الله و سنتها قوانين العدل , وهي في الوقت ذاته رحمة للمؤمنين ولين عليهم وألفة لهم وبهذا يقول الحق تعالى :{محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم }, ويقول تعالى : {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله}, فالعزة طريق النصر ولا يمكن لمرء يخجل من دينه وانتمائه لهذا الإسلام أن يكون قويا مدافعا عن فكرته ومبادئه لأن فاقد الشيء لا يعطيه , فالذي دخل الوهن والضعف في قلبه أنى له أن يقنع الآخرين بما يحمل من أمانة ورسالة !؟
عباد الله : لو رجعنا إلى تاريخنا وسيرتنا وماضي أمتنا لوجدناه يمضي على نسق واحد , أنه كلما رجعت الأمة إلى دينها وتمسكت به , سادت الأمم ووصلت إلى القمة , وكلما حادت عن الطريق وابتعدت عن الإعتزاز و الافتخار بهذا الدين سقطت في أودية الذل لا يرفعها إلا عودتها لدينها وتمسكها به واعتزازها به .(/1)
كيف لا يكون ذلك والإسلام دين رضيه الله لنا وهو جل جلاله الذي خلقنا وهو أعلم بما يصلح حالنا فقد قال الله تعالى :{اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا}, ويقول تعالى :{ إن الدين عند الله الإسلام }, وهو القائل سبحانه :{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلت يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
إذن لا بد لكل مسلم أن يعلنها بكل صراحة , مدويا أن ديني الذي أحمل هو الإسلام وبكل فخر , فهو الدين الذي سينقذ البشرية من ظلام ظلم الظالمين , ويرفعها من الهوان والذل الذي تغرق فيه وإنه لقادر على ذلك بإذن الله .
أخوة الإسلام يقول الله تعلى :{ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}, قالها بكل افتخار واعتزاز, رافعا رأسه بدينه عقيدة وسلوكا ودستورا ومنهاج حياة , وهذا ما أخبر الله تعالى به عن حال الأنبياء السابقين كيف أنهم دانوا بالإسلام وأعلنوا ذلك إلى قيام الساعة , فهذا نوح عليه السلام قال الله تعالى على لسانه :{وأمرت أن أكون من المسلمين}, وهذا إبراهيم عليه السلام جاء قومه بالإسلام ووصاهم به فقال تعالى :{ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون}, وهذا يوسف عليه السلام يدعو ربه دعاءه المعروف بقوله تعالى :{توفني مسلما وألحقني بالصالحين}, وهذا موسى عليه السلام يؤكد لقومه الالتزام بالإسلام فقال تعالى :{وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}, وهذا عيسى عليه السلام قرر قومه بالإسلام فقال تعالى :{فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنّا مسلمون}, وهذا خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم يعلنها لكل البشرية قائدا معتزا بإسلامه حيث قال الله تعالى :{قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين}.
عباد الله : ما دامت هذه دعوة الأنبياء جميعا وهذا حالهم وافتخارهم , فلماذا يستحي البعض من أن يظهر أنه مسلم أو يطبق بعض شعائره علنا ! بل الأدهى والأمرّ أنك تجد في الأمة من يصر على تحويل كل قضاياها وأمورها إلى شرقية وغربية وقومية وحزبية وغيرها من الشعارات واللافتات والتفاهات التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولا يتجرأ أبدا أن يتفوه بإسم الإسلام على لسانه وليته مضطرا لفعل ذلك , لهان الأمر قليلا ولكنه الجهل أحيانا والخبث والمكر أحيانا أكثر ؛ أيها المسلمون , ألم ينصر الله سبحانه عباده الصالحين ويعدهم بميراث الأرض فقال تعالى :{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحين}, وقال تعالى :{إنّا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد }.
و قال تعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني و لا يشركون بي شيئا}.
فيا من تبحثون عن المجد, يا من تبحثون عن الأمن, أيها الراكضون وراء الملك و الجاه إن الطريق واضح لمن كان له قلب, وإن السبيل بيّن لمن كان له لب إن طريقكم إلى المجد والعلا و الأمن و الأمان و حكومة الأرض بأسرها إنما هو بالسير على هدي كتاب الله و سنة نبيه مفتخرين معتزين بهذا الإسلام رغم كيد الكائدين و رغم ضعف المنهزمين؛ فالإسلام الإسلام عباد الله؛ الإسلام الذي ترجمه رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) ؛ والذي قال تعالى في وصف أهله :{إنما المؤمنون أخوة}, ووصف النبي صلى الله عليه و سلم المسلمين به كالجسد الواحد فقال:(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمّى).
و لنعلم أخيراً عباد الله أن الافتخار و الاعتزاز بهذا الدين لا يكون بالكلام و حسب وإنما يحتاج إلى دليل و برهان و أعظم دليل على الافتخار بهذا الدين مواجهة أعداء الله و طغيانهم به جهاداً واستشهاداً؛ فلكي يرتفع هذا الأمر و يتم لا بد له من تضحية و جهاد , و لا بد له من دماء تراق و تسيل في سبيل الله تعالى, وتكون النتيجة عندها مرضية في الدنيا و الآخرة.
و من هنا عباد الله لا يحق لنا أبداً أن ننسى إخواننا المجاهدين في كل مكان و خاصة على أرض فلسطين الرسل و الأنبياء أولى قبلة المسلمين و فيها ثالث المسجدين. هؤلاء الذين ترجموا الإعتزاز بالدين على أرض الواقع بدمائهم حتى شهد لهم القاصي والداني.(/2)
ومن اعتز بغير الإسلام ذل في الدنيا و خسر في الآخرة, قال النبي صلى الله عليه و سلم : (انتسب رجلان على عهد موسى عليه السلام فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان حتى عد تسعة ,فمن أنت لا أم لك؟ قال: أنا فلان بن فلان ابن الإسلام, قال : فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن قل لهذين المنتسبين:أما أنت أيها المنتمي أو المنتسب لتسعة في النار أنت عاشرهم ؛ وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة ) .
ورحم الله من قال :
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا اعتزوا بقيس أو تميم
أخوة الإسلام : إن الله سبحانه سمانّا المسلمين فإياكم والخجل مما سماكم الله تعالى به حيث قال :{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} .
صدق الله العظيم والحمد لله رب العالمين(/3)
الالتفات في الحيعلتين إذا أذّن المؤذن
عبر مكبّر الصوت
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد :
قبل أن نبدأ في الكلام على مسألة الالتفات في الحيلعتين في أذان المؤذن عبر مكبر الصوت، فإننا سنتكلم عليها من حيث هي كمسألة تكلم فيها العلماء الأوائل وفعلها مؤذنوا رسول الله، وكذلك من جاء بعدهم في عصر الصحابة، والتابعين.
فأقول: اتّفق جمهور الفقهاء القائلون بسنية الالتفات في الحيعلتين على أن المؤذن إذا التفت في الحيعلتين، يجعل وجهه يميناً وشمالاً. واختلفوا في كيفية ذلك على صفتين:
الأولى: أنه يقول:(حي على الصلاة) مرتين عن يمينه، ثم يقول عن يساره مرّتين:(حيّ على الفلاح).
وهو الصحيح عند الحنفية، والأصح عند الشافعية، ومذهب الحنابلة.
الثانية: يقول عن يمينه:(حي على الصلاة)مرّة، ثم مرّة عن يساره، ثم يقول:(حيّ على الفلاح) مرّة عن يمينه، ثم مرّة عن يساره. وهو رأي لبعض الحنفية ووجه للشافعية، ورأي لبعض الحنابلة(1).
ويمكن أن يستدلّ للصفة الأولى بأنها أقرب إلى لفظ الحديث في قوله:( يقول يمينا وشمالا يقول حي على الصلاة حي على الفلاح).والحديث في مسلم برقم(777).
وللصفة الثانية بأن يكون لكل جهة نصيب منهما(2).
وبعد أن تبين لنا قول الجمهور بسنية الالتفات في الأذان عند الحيعلتين، إلا أنها تبقى مسألة، وهي كيف يكون ذلك مع مكبر الصوت، هل ستبقى سنيتها؟ أم أن السنية تنتهي بإنتهاء العلة التي وجدت من أجله ألا وهو تبليغ الناس؟ هذا ما سوف نتكلم عليه في هذه العجالة:
إن هذه المسألة هي من المسائل المستجدة(النازلة) وذلك لحداثة مكبّر الصوت، فإذا أُذّن عبر هذا المكبّر فهل تستمر سنية الالتفات في الحيعلتين حينئذ أم أنها تزول؟ سيأتي ذكر الخلاف في ذلك.
منشأ الخلاف: يعود إلى أن الالتفات في الحيعلتين هل هو سنّة الأذان مطلقاً، أم لعلّة وهي إسماع مَنْ عن اليمين والشمال، فيكون أبلغ في الإعلام، فمن يرى أنه سنّة في الأذان مطلقاً كما هو الصحيح عند الحنفية، حيث قالوا بالالتفات في الحيعليتن في الأذان، ولو في حق المنفرد أو في من يؤذن المولود(3). وعلى قولهم هذا تخرج هذه المسألة فيسنّ عندهم الالتفات عبر مكبّر الصوت.
ومن يرى أن الالتفات لعلّة، قال بالقاعدة المشهورة:" الحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً"(4)، وعليه فالعلّة منتفية إذا أذن عبر مكبّر الصوت؛ لأن صوته يتوزّع في جميع الجهات عبر مكبّر الصوت، بل إنه إذا التفت فإنه يضعف الصوت فيؤدّي إلى نقيض مقصود الشارع، وهو زيادة الإعلام.
ويلاحظ أن العلة هنا لم ينصّ عليها الشارع بل هي مستنبطة، وهو أحد مسالك العلّة المعتبر عند جمهور العلماء(5).
وقد أفتى بعض العلماء المعاصرين بعدم الالتفات عبر مكبّر الصوت، وعلّلوا ذلك بما تقدم(6).فمن هؤلاء العلماء أعضاء اللجنة الدائمة فقد قدم إليهم هذا السؤال برقم(9854). وهو:
هل يجوز تحريك الجسم أثناء كلمة حي على الصلاة؟ أم تحريك الرأس فقط، أفيدونا جزاكم الله خيرا؟
الجواب: يشرع للمؤذن الذي يؤذن في غير ميكرفون أن يلتفت يميناً وشمالاً عند الحيعلة مع ثبوت قدميه؛ لأن ذلك ثبت من فعل مؤذن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-بحضرته –صلى الله عليه وسلم-، ولأنه أبلغ في إسماع النداء للصلاة لمن بعد عن المسجد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو، نائب رئيس اللجنة، الرئيس
عبد الله بن غديان، عبد الرزاق عفيفي، عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
أما الشيخ الألباني-رحمه الله- فقد قال في "الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة": "ولا بد من التذكير هنا بأنه لا بد للمؤذنين من المحافظة على سنة الالتفات يمنة ويسرة عند الحيعلتين ، فإنهم كادوا أن يُطبِقوا على ترك هذه السنة ؛ تقيداً منهم باستقبال لاقط الصوت، ولذلك نقترح وضع لاقطين على اليمين واليسار قليلاً بحيث يجمع بين تحقيق السنة المشار إليها ، والتبليغ الكامل .
ولا يقال : إن القصد من الالتفات هو التبليغ فقط، وحينئذ فلا داعي إليه مع وجود المكبر؛ لأننا نقول : إنه لا دليل على ذلك ، فيمكن أن يكون في الأمر مقاصد أخرى قد تخفى على الناس، فالأولى المحافظة على هذه السنة على كل حال"(7) .
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل,
والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - راجع: فتح القدير(1/244).
2 - فتح الباري(2/136).
3 - البحر الرائق(1/272).
4 - شرح مختصر الروضة للطوقي(3/315).
5 - المصدر السابق(3/381).
6 - انظر فتاوى ابن إبراهيم(2/123).، وفتاوى اللجنة الدائمة(6/58). رقم (9854).
7 - الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة الجامعة ص(17).(/1)
الالتزام
"أحمد سعد الدين"
والالتزام لغة:
الاعتناق، ( مختار الصحاح ) وفى المعجم الوجيز: لزِمَ لُزُما : ثبت ودام لزم الشيء فلاناً: وجب عليه. لزم العمل: داوم عليه. ألزم الشيء : أثبته وأدامه لازمه ملازمة، لِزَما : داوم عليه. التزم الشيء أو الأمر : أوجبه على نفسه. اللِّزام : الملازم جدا، وفى القرآن : { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } الفرقان: 77، اللُّزَمَة : من يلزم الشيء فلا يفارقه ..
و إن معنى الالتزام الحقيقي ليثير في نفس كل منا شجون و تساؤلات .. و يجعله يسأل نفسه سؤالاً مباشراً: هل أنا ملتزم ؟ فما هو الالتزام و ما هي علاماته ؟
إن الالتزام الحقيقي ـ أخي الفاضل ـ ما هو إلا تحقيق لمعنى الإسلام الذي نلتزم به ، و إن من أعظم معانيه الاستسلام لله عز وجل .. الاستسلام الكامل في كل شئون الحياة فيجدنا حيث أمرنا ولا يرانا حيث نهانا .. فالفرد الملتزم مستسلم لأمر ربه في عقيدته و عبادته و سلوكه و معاملاته بين الناس . و الأمة الملتزمة مستسلمة لأمر ربها في شرعها و حكمها و علاقتها بسائر الأمم . فالالتزام الحقيقي هو تحقيق قول الله عز وجل : { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ، الأنعام:162-163، هو تحقيق رسالة الإنسان في هذه الحياة : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }، الذاريات:56. هو الاستسلام الكامل لأمر الله و رسوله صلى الله عليه و سلم :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } ، الأحزاب:36، و من علامات هذا الالتزام الاستسلام لأمر الله عز وجل في الظاهر و الباطن .. ففي الباطن : يلتزم المسلم بتوحيد الله عز وجل و بتقوى الله عز وجل و الخوف منه و الرجاء في رحمته .. إلخ و في الظاهر : يلتزم المسلم بأداء ما افترض الله عز وجل عليه من صلاة وصيام و حجاب للمرأة المسلمة ..... إلخ وعلى هذا فمن أظهر للناس صلاحاً و هو غير ذلك في خلوته فالتزامه ناقص .. و من أظهرت للناس صلاة و صياماً للنوافل وهي غير مرتدية للحجاب الشرعي فالتزامها ناقص .. و من أظهر للناس ذهاباً و إياباً للمساجد ولسانه غير منضبط فتارة يغتاب و أخرى ينم و ثالثة يكذب فالتزامه ناقص .... لكن هذا الالتزام لا يأتي في يوم وليلة بل يحتاج مجاهدة و محاولة تلو المحاولة و فشل يعقبه نجاحات بفضل الله وعلى قدر إخلاص الإنسان وعلى قدر إرادته وبذله يترقى في مقامات الالتزام بدين الله عز وجل .
و أثناء هذه المحاولات المتتالية يعتري الإنسان شيء من الفتور و الإحساس بالملل، و هذا شعور طبيعي ليس بغريب، فقد أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : " إن لكل عمل شرة، وإن لكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح وأنجح، ومن كانت فترته إلى معصية فقد خاب وخسر". ففي بداية الالتزام تكون " الشرة " و العنفوان و القوة كإنسان ظامئ وجد الماء أمامه فشرع ينهل منه الكثير و الكثير ، ثم يعقب هذا " الفترة " و هي الفتور و الشعور بالكسل و الملل . فالواجب علينا كما أوضح لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا نجعل فترات الفتور تصل بنا إلى المعصية أي أن نجعل لأنفسنا حداً أدنى من العلاقة مع ربنا لا ننزل عن هذا الحد أبداً ... قد نعلو عنه في أوقات " الشرة " لكن لا ننزل عن هذا الحد أبداً في أوقات " الفترة " .
و على طريق الالتزام وحين يتملك من الإنسان الفتور يحتاج الإنسان أعواناً على الخير و يكون في أشد الاحتياج إلى صاحب يقوي من عزمه، و يشد من أزره، و يذكره بربه، و لذا أرشدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصحبة الصالحة فقال لنا : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " . فلابد من مصاحبة الأخيار الأطهار الذين يعينون على طاعة الله عز وجل و البعد عن مصاحبة الفجار الذين ينسى الإنسان معهم دينه و خلقه فالصاحب ساحب . فالمصاحبة تكون للأخيار الأطهار الملتزمون بدينهم، أما غيرهم من غير الملتزمين فالواجب دعوتهم بالحكمة و الموعظة الحسنة و أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر، و جذبهم إلى طريق الالتزام لا الانجذاب معهم إلى طريق المعصية . فديننا يأمرنا ألا يكون أحدنا إمعة يقول: أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنا، و إن أساءوا أسأنا، و لكن علينا أن نوطن أنفسنا إن أحسن الناس أحسنا ، و إن أساءوا أن نجتنب إساءتهم...(/1)
الامتحان الرهيب
تعيش البيوت المسلمة أزمةً طاحنةً من جرَّاء الامتحانات التي تطرق الأبواب بين الفينة والأخرى ...
وحالما يقترب موسم الاختبارات حتَّى ترى كثيراً من البيوت قد أعلنت عن حالة التأهب القصوى والاستعداد الكامل والاستنفار المتحفِّز ، لدخول معمعة الامتحان التي يكرم المرء فيها أو يهان !
وهذا جهدٌ مشكور ، وعملٌ مأجور إذا صلُحت النيَّة ، وخلُص المقصِد لله ربِّ العالمين .
ولكننا لو تأملنا هذا الاهتمام المبالغ فيه من أجل هذا الامتحان الهيِّن الدُّون ، ثمَّ قلَّبنا البصر إلى ضعف الاستعداد وقلَّة الاهتمام وشدَّة الغفلة عن ذلك الامتحان الرهيب الذي خلقنا الله تعالى من أجله وأنشأنا له ، لرأيت البصر ينقلب إليك خاسئاً وهو حسير .
قال تعالى : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا )
وقال تعالى : ( ولنبلونَّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ..)
وقال تعالى : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّر الصابرين )
والفرق واسع والبون شاسع بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة ..
وإليك أوجهاً من ذلك التباين والاختلاف بين الامتحانين ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم )
الموضوع
امتحان الدنيا في جزءٍ من كتاب ، وفي ورقاتٍ معدوداتٍ من دفتر ، في مجالٍ من مجالات الحياة ، وضربٍ من ضروب العلم . أمَّا امتحان الآخرة ففي كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها ، قد حوى الأقوال ، وأحصى الأفعال ، وأحاط بالحركات والسَّكنات ، وألمَّ بالخطرات والهنَّات والزلاَّت !
قال تعالى : ( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاَّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحدا )
فالصغائر مسجلة به ، كما أنَّ الكبائر مدوَّنة فيه .
قال تعالى : ( وكلُّ صغير وكبير مستطر )
فالعباد يقولون ويعملون ، والكُتَّاب يكتبون، ويوم القيامة يخرجُون ما كانوا يحصون و يستنسخون.
قال تعالى : ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقِّ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون )
فتنشر الفضائح ، وتظهر القبائح ، ويبدو ما كان مخبوءاً من ذنوبٍ وعصيان ، تحت ركام الغفلة والنسيان !
( يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كلِّ شيء شهيد )
الأسئلة
امتحان الدنيا أسئلته محدودة في بعض مفردات الكتاب ، فلا يمكن للمعلِّم أن يسأل الطالب عن كلِّ دقيق وجليل من محتويات المنهج ، وربما تدركه الشفقة فيختار له من أسهل الأسئلة وأيسرها ، ولعلَّه يراجع مع الطالب الإجابة قبيل الامتحان بأيام مساعدةً له وتيسيراً عليه .
أما امتحان الآخرة فالأسئلة حاويةٌ لأطراف الحياة ، شاملة لدقائق العمر ..
أسئلة عن الأفعال ..
و أسئلة عن الأقوال ..
وأسئلة عن الأموال ..
وأسئلة عن النيَّات ..
وأسئلة عن المعتقدات ..
وأسئلة عن الأوقات ..
وأسئلة عن الأمانات ..
سؤال خطير ؛ جِدُّ خطير ، عن كلِّ كبير وصغير وعظيم وحقير !
قال تعالى : ( فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون )
إنه موقف السؤال والحساب بين يدي ملك الملوك وربِّ الأرباب !
قال تعالى ( وقفوهم إنَّهم مسئولون )
عن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :" لا تزُولُ قدَما ابن آدم مِن عند ربِّه حتَّى يُسألَ عن خمس : عن عُمرِه فيما أفناه ، وعن شَبابِه فيما أبلاه ، وعن مالِه من أين اكتسَبَه وفيما أنفَقَه ، وماذا عمِلَ فيما عَلِم "
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :" ألا كُلُّكُم راعٍ وكُلُّكُم مسؤُلٌ عن رعيَّتهِ ، فالإمامُ الذي على النَّاسِ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيَّته ، والرَّجلُ راعٍ على أهلٍ بيتِه وهو مسؤولٌ عن رعيَّته ، والمرأةُ راعيةٌ على أهلِ بيتِ زوجِها وولده وهي مسؤولةٌ عنهُم ، وعبدُ الرَّجلِ راعٍ على مالِ سيِّده وهو مسؤولٌ عنهُ ، ألا فكُلُّكُم مسؤولٌ عن رعيَّتِه "
وعن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنَّ الله تعالى سائلٌ كلّ راعٍ عمَّا استرعاه : أحفِظَ ذلِك أم ضَيَّع ؟ حتَّى يسأل الرَّجل عن أهلِ بيتِه "
ولو أنَّا إذا مِتنا تركنا ..... لكان الموتُ غاية كلَّ حيٍّ
ولكنَّا إذا متنا بعثنا ..... ونُسأل بعده عن كلِّ شيءٍ
المكان
امتحان الدنيا في جوٍّ مهيأ ، ومكانٍ معدٍّ ، فالكراسي مريحة ، والأنوار ساطعة ، والمكيفات باردة ، والأمن والأمان يبسطان رداءهما على المكان .
أما امتحان الآخرة ففي جوٍّ رهيب ، وموقفٍ عصيب ، ومكانِ عجيب ..
قال تعالى : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار )
أهوالٌ عظيمة ، وكرباتٌ جسيمة ، وأحوالٌ مفجعةٌ ، ومناظر مدهشةٌ ، ترتعد منها الفرائص ، وتقشعرُّ منها الجلود ، وتنخلع لهولها القلوب ، وتشيب منها مفارق الولدان !(/1)
قال تعالى : ( .. يوماً يجعل الولدان شيباً )
يوم يجمع الله الأولين والآخرين ، فإذا هم بالساهرة ، حفاةً بلا أحذية ، عراةً بلا أردية ، غرلاً بدون ختان .
قال تعالى : ( كما بدأنا أوَّل خلقٍ نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين )
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تُحشَرُونَ حُفاةً عُراةً غُرلاً " قالت عائشةُ : فقلتُ : يا رسولَ الله الرِّجالُ والنِّساءُ ينظُرُ بعضُهُم إلى بعضٍ ؟ فقال :" الأمرُ أشدُّ مِن أن يُهِمَّهُم ذلك "
القبور تبعثرت ، والأفلاك تفجَّرت ، والنجوم تكدَّرت ، والسماء تفطَّرت، والجبال سيِّرت ، والبحارسعِّرت ، والشمس كوِّرت ، والجحيم بُرِّزت ، والوحوش جُمعت وعلى أرض المحشرحشرت ...
قال تعالى : ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنَّ عذاب الله شديد )
القلوب واجفة ، والأبصار خاشعة ، والأعناق خاضعة ، والأمم جاثية على الرُّكب تخشى العطب ، لِما ترى وتسمع من مهلكات وخطوب ، فالميزان منصوب ، والصراط مضروب ، والشهود تشهد ، والجوارح تفضح ، والصحائف تنشر !
وإلى الله يومئذِ المستقر ! فأين المفر ؟!
مثِّل لنفسِكَ أيُّها المغرورُ ......... يوم القيامةِ والسَّماءُ تمورُ
قد كُوِّرت شَمسُ النَّهارِ وأُضعِفَت حَرَّاً على رأس العبادِ تفُورُ
وإذا الجِبالَ تقلَّعت بأُصُولها ....... فرأيتَها مِثلَ السَّحابِ تسيرُ
وإذا النُّجُومُ تساقَطت وتناثَرت ........ وتبدَّلت بعدَ الضياءِ كدُورُ
وإذا العِشارُ تعطَّلت عن أهلِها .... خَلَت الدِّيارُ فما بها معمُورُ
وإذا الوحوشُ لدى القيامةِ أحضرت وتقولُ للأملاكِ أين نسيرُ
فيقالُ سيروا تشهدُونَ فضائحاً ..... وعجائباً قد أُحضِرت وأُمُورُ
وإذا الجنينُ بأُمِّهِ مُتعَلِّقٌ ....... يخشى الحِسابَ وقلبهُ مذعُورُ
هذا بلا ذنبِ يخافُ لهولِهِ .... كيفَ المُقيمُ على الذُّنوبِ دُهُورُ ؟!
قال تعالى : ( يوم تجد كلُّ نفسٍ ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودُّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذِّركم الله نفسه والله رؤوفٌ بالعباد )
الزمان
امتحان الدنيا إن طال زمانه وامتدَّ أوانه فهو في ساعةٍ من نهار ، وربما أكثر من ذلك بقليل .
أما امتحان الآخرة فهو في ( يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )
وعندما يعيش المجرمون ذلك اليوم الطويل بما فيه من خطبٍ جليل ، يقسمون الأيمان المغلظة ما لبثوا إلاَّ قليلاً ولا عاشوا إلاَّ يسيراً .
قال تعالى : ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون ) فيفزعون نادمين ، وعلى أعمارهم متحسِّرين : إنما هو زمنٌ يسير ! وعمرٌ قصير! ثُمَّ كان إلى الله المصير !
قال تعالى : ( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلاَّ يسيراً لو أنكم كنتم تعقلون * أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وإنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق ..)
والعاقل الحصيف يعلم علم اليقين أنَّما هي بضع سنين أو أقلُّ من ذلك أو أكثر ، ثمَّ يقبر ، ثمَّ ينشر ، ثمَّ يحشر ، فإذا به واقفٌ بين يدي ربّه في يوم العرض الأكبر!
فيستعدَّ لما أمامه من أهوال يوم القيامة ، فيغنم أيامه ولياليه فيما يقرِّبه من خالقه ومولاه .. بالمبادرة إلى الطاعات ، والأعمال الصالحات ، والمسابقة في الخيرات ، قبل أن تأتيه المنيَّة ، ويصاح في قافلة الهلكى : الرحيل ! الرحيل !
ويبلسُ هنالك الغافلون !
قال تعالى : ( كأنَّهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاَّ عشيَّة أو ضحاها )
المراقب
المراقب في الدنيا مخلوقٌ مثلك ، محدود القدرات ، معدود الإمكانات ، ينسى ويغفل ، ويسهو ويتنازل ، وليس بالإمكان أن يحيط بقاعة الامتحان !
أمَّا الرقيب على امتحان الآخرة ـ وله المثل الأعلى ـ فهو الذي لا يضلُّ ولا ينسى ، قد أحاط بكلِّ شيءٍ علماً ، لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرَّة ، ولا يغيب عن بصره شيءٌ من الأشياءٍ في الأرض ولا في السَّماء .
قال تعالى : ( الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيًّوم لا تأخذه سنةٌ ولا نوم ...)
عن أبي موسى رضي الله عنه ، قال : قامَ فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسِ كلماتٍ فقال :" إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا ينامُ ، ولا ينبغي له أن ينامَ ، يخفِضُ القِسطَ ويرفَعُهُ ، يُرفَعُ إليهِ عَملُ الليلِ قبلَ عَملِ النَّهار وعملُ النَّهارِ قبلَ عملِ الليل ، حجابُهُ النُّورُ لو كشَفَهُ لأحرَقَت سُبُحاتُ وجههِ ما انتهى إليهِ بصَرُهُ مِن خلقِهِ "
فأين تغيب عن سمعه وبصره ؟! وهو السَّميع البصير !
وأين تهرب عن علمه ونظره ؟! وهو العليم الخبير !
وأيُّ حجابٍ يواريك منه ويحجبك عنه ؟!
نسبة النجاح(/2)
امتحان الدنيا نسبة النجاح فيه عاليةٌ جداً ! فربما بلغت ثمانين بالمائة ، وربما وصلت إلى تسعين بالمائة ، بل وربما بلغت النسبة إلى أعلاها والدرجة إلى منتهاها !
أما امتحان الآخرة فنسبة النجاح فيه قليلة جداً !
فلا أقول : واحدٌ في العشرة ! ولا أقول : واحدٌ في المائة ! وإنما هي : واحدٌ في الألف !! فيا للهول ! تسعمائة وتسعةُ وتسعون إلى النَّار بعدلٍ من الله وحكمة ! و واحدٌ إلى الجنَّة بفضلٍ من الله ورحمة ! اللهُمَّ لطفك ! يا لطيف .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يقولُ الله يا آدمُ ، فيقولُ : لَبَّيكَ وسعدَيكَ والخيرُ في يدَيكَ ، قالَ : يقُولُ أخرِج بَعثَ النَّارِ ، قالَ : وما بعثُ النّارِ ؟ قالَ : مِن كُلِّ ألفٍ تِسعمِائَةٍ وتسعةً وتِسعِينَ ، فذلكَ حِين يشِيبُ الصَّغيرُ وتَضعُ كُلُّ ذاتِ حملٍ حملَها ، وترى النَّاس سكارى وما هم بسكارى ، ولكنَّ عذابَ الله شديدٌ "
يا جنَّة الرحمن ليس ينالها ..... في الألف إلاَّ واحدٌ لا اثنانِ
فرحماك اللهُمَّ وفضلك !
وجودك اللهُمَّ وكرمك !
النجاح
النجاح في امتحان الدنيا مؤدَّاه أن يرتقي العبد في مراتبها ويعتلي في درجاتها ..
وأيُّ درجة هذه ؟! وأيُّ مرتبة تلك ؟! والدنيا بما فيها من نعيم ولذَّة منذ خلقها الله تعالى وإلى أن يرثها وهو خير الوارثين نعيمها لا يساوي في نعيم الآخرة إلاَّ كقطرة أخذت من بحرٍ لُجيٍّ .
عن المستورد ـ أخا بني فهر ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" و الله ما الدنيا في الآخرة إلاَّ مثلُ ما يجعَلُ أحدُكُم إصبَعهُ هذه ـ وأشار بالسَّبَّابة ـ في اليَمِّ ، فلينظر بم ترجعُ ؟ "
وقال صلى الله عليه وسلم :" .. ولقابُ قَوسِ أحدِكُم ، أو موضِعُ قدَمٍ مِنَ الجنَّةِ خيرٌ مِن الدُّنيا وما فيها ، ولو أنَّ امرأَةً مِن نساءِ أهلِ الجنَّةِ اطَّلعت إلى الأرضِ لأضاءَت ما بينهُما ، ولملأَت ما بينهُما ريحاً ، ولنَصيفُها ـ يعني الخمار ـ خيرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها "
أمَّا نجاح الآخرة فهو الزحزحة عن النَّار ، والدخول إلى الجنَّة ، فضلاً من الله ومِنَّة !
قال تعالى : ( فمن زحزح عن النَّار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلاَّ متاع الغرور )
وتأمَّل فرحته العارمة ، وسعادته الغامرة عندما يثقل بالصالحات ميزانه ، وتثبت على الصراط أقدامه ، فيأمن يوم الفزع الأكبر جنانه ، ويُلقَّى حجَّته ، فيرفع كتابه فوق رأسه ، وينشره بين الخلائق ، ويستعلي بصوته ، وينادي على رؤوس الأشهاد في فرحٍ وسرور ، وبهجة وحبور : ( هاؤوم اقرؤوا كتابيه * إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنَّة عالية )
وكما أنَّ النجاح يتفاوت في الدنيا ما بين مقبولٍ ، وجيد ، وجيد جداً ، وممتاز ، ومراتب الشرف ، وأوسمة التفوُّق ...
فالنجاح درجاتٌ بعضها فوق بعض ...
كذلك يوم القيامة ، فدخول الجنَّة لا يكون إلاَّ بفضل الله ورحمته ، ثُمَّ يكون التفاوت في الدرجات والتمايز بين أهلها في النعيم والخيرات ، على حسب أعمالهم الصالحة في الدنيا ، فكلَّما زادت حسناتهم زادت درجاتهم ..
وكلما كثرت طاعاتهم ارتقوا في منازلهم وعظمت كرامتهم ..
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :" في الجنَّةِ مائةُ دَرجةٍ ما بينَ كلِّ درجتين كما بينَ السَّماء والأرض ، والفردوسُ أعلاها دَرجة ، ومنها تُفجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ الأربعة ، ومِن فَوقِها يكونُ العرشُ ، فإذا سألتُم الله فاسألوه الفِردوس "
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ؛ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قال :" إنَّ أهلَ الجنَّةِ ليتراءونَ أهلَ الغُرفِ مِن فوقِهم ، كما تتراءَونَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ مِن الأُفقِ من المشرِق أو المغرب ، لتفاضُلِ ما بينهم " قالوا : يا رسول الله ! تلك منازِلُ الأنبياءِ لا يبلُغُها غيرهم . قال: "بلى . والذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقوا المُرسلين"
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : أُصيبَ حارثة بن سراقة رضي الله عنه في بدرٍ وهو غُلامٌ ، فجاءَت أُمُّهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسولَ الله قد عَرفتَ مَنزِلةَ حارثةَ مِنِّي فإن يكُ في الجنَّة أصبِر وأحتَسِب وإن تكنِ الآخرى ترى ما أصنعُ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" ويحَكِ أوَ هَبلتِ ؟! أوَ جَنَّةٌ واحدةٌ هِيَ ؟ إنَّها جِنانٌ كثيرةٌ وإنَّهُ لفي الفردوسِ "
فجدَّ ، واجتهد ، ولا يسبقنَّك إلى الجنَّة ـ مِمَّن عرفت ـ أحد !
الرسوب
الاخفاق في امتحان الدنيا هيِّنٌ سهلٌ ، فهو خسارةٌ لدرجة أو مرحلة أو مرتبة من دنيا لا تساوي عند الله الذي خلقها وسوَّاها جناح بعوضة .(/3)
عن سهل بن سعد رضي الله عنه ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحُليفَةِ ، فإذا هو بشاة ميتة شائلة برجلها ، فقال : " أتُرونَ هذهِ هيِّنَةً على صاحبِها ؟ فوالذي نفسي بيده ! للدنيا أهوَنُ على الله ، مِن هذِهِ على صاحِبها ، ولو كانتِ الدُّنيا تَزِنُ عِند الله جَناحَ بعُوضَةٍ ، ما سقى كافراً مِنها قطرة أبداً "
وحسب الدنيا حقارةً ودناءة أن الله تعالى جعلها دار بلاءٍ وامتحان ، وموطن غفلةٍ ونسيان ، وموقع خطيئة وعصيان ، ولو كانت نعمة لساقها بين يدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان عيشه منها كفافاً .
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أنَّ السَّلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها ..... إلاَّ التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه ............... وإن بناها بشرٍّ خاب بانيها
أمَّا الرسوب في امتحان الآخرة ، فخسارة الأبد ، وحسرةُ السَّرمد ، وألم لا ينفذ ، وندم لا ينقطع ، وعذاب لا ينتهي ، وعقاب لا ينقضي .
يوم يُكبُّ المجرم على وجهه إلى نارٍ تلظَّى ، لا يصلاها إلاَّ الأشقى ، فيخسر نفسه وأهله وماله .
قال تعالى : ( قل إنَّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين )
وأيُّ خسارةٍ أكبر من أن يرى العبد غيره يساق ـ في سعادة ومسرَّة ـ إلى جنَّةٍ عرضها السموات والأرض ، لينعم بما تلذُّ به العين ، وما تشتهيه النَّفس ، ويطرب له السمع ، ويسعد به القلب ، ثُمَّ يقاد هو ـ في ذِلَّةٍ وصغار ومهانةٍ وانكسار ـ إلى نارٍ وقودها النَّاس والحجارة ، حيثُ العقاب والعذاب ، والبلاء والشَّقاء ، والنَّكال والأغلال ، مما لا يخطر على البال ، ولا يوصف بحالٍ من الأحوال !
قال تعالى : ( وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذلِّ ينظرون من طرفٍ خفيٍّ . وقال الذين آمنوا إنَّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة . ألا إنَّ الظالمين في عذابٍ مقيم )
والخسارة الأكبر ، والحرمان الأعظم ، أن يحرم العبد من لذَّة النظر إلى وجه الله الكريم في الجنَّة يوم المزيد والنظر إلى وجه العزيز الحميد .
قال تعالى : ( كلاَّ إنَّهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون ثمَّ إنَّهم لصالوا الجحيم )
وكما يرجع الطالب الخائب باللوم لنفسه ، والتقريع والتوبيخ لها ، والندم على تفريطها ، ينقلب الحال بأهل الرسوب في الآخرة إلى الأماني العقيمة، ويركنون إلى الأحلام السقيمة ، ويتمنون أن يعودوا ليجدُّوا ويجتهدوا ...
قال الله تعالى عنهم : ( يوم تقلَّب وجوههم في النَّار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرَّسولا )
فرصة للتعويض
امتحان الدنيا أسوأ ما يمكن أن يحصل فيه أن يرسب الطالب ، ويخفق في الامتحان ..
وغالباً يكون لديه فرصةٌ أخرى وكرَّة ثانية ، بدورٍ ثان أو بإعادة المحاولة سنة أُخرى حتَّى يتمَّ له النجاح ، أو بتغيير مجال الدراسة والبحث ، ولعلَّ في ذلك خيراً كثيراً لا يدركه ، وفضلاً عظيماً لا يعلمه ...
فكم من بابٍ أغلق في وجه صاحبه ، وكان الخير في غلقه ، ولو أنَّه ولج فيه لوقع في البلايا والمحن ، والرزايا والفتن .
قال تعالى: ( وعسى أن تكرهو شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )
أمَّا امتحان الآخرة فلا فرصة ثانية ولا كرَّة آتية ..
وإنما هي رحلة عمل تنتهي لحظاتها ، وتنقضي أوقاتها ، ثمَّ تحين ساعة الانتقال إلى العظيم المتعال !
قال تعالى : ( ثمَّ ردُّوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين )
وعند ذلك ينادي المفرِّط المخلِّط في كمد ونكد ( ربِّ ارجعون )
لِمَ أيُّها الغافل ؟! ( لعلي أعمل صالحاً فيما تركت )
فهل يجاب له سؤله ويحقق له أمله ؟!
( كلاَّ . إنَّها كلمةٌ هو قائلها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون )
وعندما يخفقون في الاختبار ، ويدخلون النَّار ، يُعذَّبون بها ، ويصلون سعيرها ، ويحرَّقون بحرارتها ..
ينادون ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل غير الذي كنَّا نعمل )
فيأتيهم التقريع والتوبيخ الذي يزيد في حسراتهم ، ويضاعف من لوعاتهم : ( أولم نعمرِّكم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير )
والجزاء في يوم الجزاء : ( فذوقوا فما للظالمين من نصير )
رحلة العمر انتهت ، وفرصة الزرع انقضت ، وقد حان أوان الحصاد !
فوا بشرى للزارعين بما حصدوا ..!
ووا أسفاه على الخاملين يوم جدَّ المشمِّرون وهم رقدوا ..!
وفاز بالغنائم طُلاَّبها ، وبالمعالي أربابها !
أمَّا أولئك البطَّالون فقد حيل بينهم وبين ما يشتهون ، فإنَّ الله الذي يعلم ما كان ، وما هو كائن ، وما سيكون ، وما لم يكن لو كان كيف يكون ، يعلم أنَّهم لو ردوا إلى الدنيا ، وفسح لهم في الأجل ، لعادوا لما نُهوا عنه من المعاصي والموبقات والخمول والكسل !
قال تعالى : ( ولو ردُّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنَّهم لكاذبون )(/4)
فيا لهذا الإنسان ؛ ما أشدَّ ظلمه لنفسه ! وما أعظم جهله بعاقبة أمره !
( إنَّه كان ظلوماً جهولاً )
الخاتمة
... وبعد :
أعتقد جازماً أنَّه لم يبق لنا بعد هذه النِّذارة إلاَّ أن نستشعر أننا في امتحانٍ رهيب ، في كلِّ ما نأتي ونذر ، وفيما نحبُّ ونكره ، ونعتقد وننوي ، ونرى ونسمع ، ونعطي ونمنع ، ونأكل ونشرب ، ونسكن ونركب ، ونقول ونعمل ، وذلك على مدى الدَّهر ، وبطول مسيرة العمر .
واليوم عملٌ ولا حساب ، وغداً حسابٌ ولا عمل !
فلنُرِ اللهَ منَّا خيراً ، نُسرُّ به يوم أن نُعرض عليه ، ونقف بين يديه ، حيث تُعطى الجوائز لكلِّ فائز ، ويزج بقفا كلِّ خاسر إلى نار السَّموم ، ( يوم يأتِ لا تكلَّمُ نفسٌ إلاَّ بإذنه فمنهم شقيٌّ وسعيد * فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلاَّ ما شاء ربك إن ربك فعَّال لما يريد * وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلاَّ ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ )
وفي هذا بلاغٌ لقوم عابدين !
اللهُمَّ اجعلنا ـ بفضلك ـ من السُّعداء الفائزين ، ولا تجعلنا من الأشقياء الخاسرين ، والحمد لله ربِّ العالمين ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عبد اللطيف الغامدي ـــــــ(/5)
الانتصار للنبي المختار »
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
يحار المرء فيما يجري في هذا العالم، ويزداد حيرة في بعض أحوال أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأترك هذه الكليمات في مقدمة حديثي لتجول خواطركم في سببها وعلتها ؛ لأننا نحتاج حقيقة إلى كثير وكثير من الوقفات مع أنفسنا ؛ نبحث فيها عن حقائق إيماننا ، وصدق إسلامنا ، وقوة غيرتنا، وكثير من المعاني المهمة في حياتنا ..
رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ، الرسول الأكرم النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام الذي جعل الله له من الخصائص ما لم يجعل لغيره من البشر مطلقا ، بل فضله على سائر رسله وأنبياءه من صفوة خلقه وأصفياءه، فقال جل علا : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } .
وأخبر سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أنه : ( ما من نبي إلا وأخذ عليه الميثاق أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وينصره إن أدركه يوم ) .
والله سبحانه وتعالى قد عظّم شأن المصطفى صلى الله عليه وسلم بما لا مزيد لأحد عليه من البشر مهما عظم في ثناءه ومدحه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .. ألسنا نقرأ : { إنا فتحنا لك فتحا مبيناً * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيز } .
ألسنا نتنبه وندرك كثيرا من هذه الآيات العظيمة في شأن رسولنا صلى الله عليه وسلم
{ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك } .
فذكره مع ذكر الله عز وجل في أساس إيماننا وتوحيدنا وشهادتنا بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .. أليس ذلك في آذاننا وفي صلاتنا وتحياتنا .. أليس ذلك في كل ما هو متعلق بديننا وشأننا في إسلامنا .. ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع شأنه وتوقيره .
نبي الرحمة كما أخبر الحق سبحانه وتعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ، { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } .
نبي الصدق صلى الله عليه وسلم { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون }
النبي الذي وصفه الله سبحانه وتعالى بالصفات العظيمة فقال : { إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً } .
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أحد أن يذكر أو أن يلمّ بكل ما جاء في تعظيمه وتوقيره وإجلاله ورفعة مكانته عليه الصلاة والسلام.
أليس في دنيا الناس بل في الآخرة بين يدي الهول الأعظم والحشر الأكبر { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } .
والمقام المحمود كما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع ) رواه مسلم في صحيحه .
وخوطبت أنت وأنا وكل مسلم مؤمن بهذا الدين العظيم وبالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم خطوبنا بالأدب اللازم معه { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } ، { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } ، { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } .
ومضات لها دلالات أعظم وآيات أكثر ونصوص أكثر فقهها المؤمنون الخلص من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدواتنا وأسواتنا المحبون المعظمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
زيد بن الدخنة رضي الله عنه أسر عند كفار قريش، جيء به ليصلب، اللحظات الأخيرة من حياته الأنفاس الأخيرة في دنياه، خاطبه أبو سفيان وكان إذ ذاك على شركه وكفره، فقال: " أتحب أن محمداً مكانك وأنت سليم معافى في أهلك ؟ "
فنطق زيد بلسان الحب الصادق والتعظيم الخالص والإيمان المستقر المستكن في نفسه وبقدر ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقال رضي الله عنه وأرضاه: ( والله لا أحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي ) .
وليس ذلك قول بلاغة ولا قول ثناء فارغ، بل كان بين يدي الموت، وكان عند معاينة انتهاء حياة، قال ذلك زيد رضي الله عنه وقاله بفعله بعد قوله عندما صلب ومضى إلى الله عز وجل شهيدا.
وعندما سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه كيف كانت محبتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( والله كان أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وأمهاتنا والماء البارد على الظمأ )(/1)
وروى البخاري هذه القصة الفريدة التي نطق بها شاهد من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعداء الإسلام والمسلمين، عروة بن مسعود الثقفي عندما ذهب مفاوضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية ثم رجع فقال لقريش : " أي قومي والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف أحد منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوءه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له " .
ولما نزلت الآية في قول الله جل وعلا : {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي}
أقسم أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " والله لا أحدثك إلا كأخ السرار " أي كأنما أسر لك سراً بصوت خفيض .
ونعلم قصة ثابت بن قيس خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه كان جهوري الصوت امتنع عن حضور مجلس النبي عليه الصلاة والسلام .. لما ؟ خوف أن يتحدث فيعلو صوته فوق صوت النبي فيحبط عمله فيهلك كما قال بنفسه رضي الله عنه وأرضاه.
وروى أنس في تعظيم وتوقير ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أصحابه ما هو عجيب في غاية العجب قال: ( كانت أبواب بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم تقرع بالأظافير )
قرعا خفيفا غير مزعج ؛ تعظيماً وتوقيراً وإجلالاً وهيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك أمر عجيب في دنيا الناس لكنه ليس عجيباً في دنيا المؤمنين المسلمين الصادقين المحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الطبراني في معجمه بسند قال فيه الهيثمي رجاله ثقات إلا واحدا لا يعرفه، عن أنس: أن أهل المدينة يوم أحد حاصوا حيصة أي بعدما جرى عليهم من قدر الله عز وجل، وطارت الصوارخ وبعض الناس يقول مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت امرأة من الأنصار محتزمة تشق الصفوف ، فاستقبلت بابنها وزوجها وأبيها وأخيها - أي كلهم تخبر أنهم ماتوا - قال لا أدري بأيهم استقبلت أولا ، وهي تقول كلما رأت واحداً ، وقيل هذا أبوك وهذا أخوك: " ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ " فلما رأته بخير قالت: " كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله " أي هينة يسيرة.
تلك هي القلوب المحبة الصادقة المخلصة والتي كانت كذلك متبعة.
وهذه أم حبيب بنت أبي سفيان يوم جاء أبوها قبل إسلامه ودخل عليها لتكون شفيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نقض قريش لعهدها، طوت عنه فراش النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابنتي أصابك بعدي شر ! أطويته رغبة بي عنه أم رغبة عنه بي ! فقالت: " إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنك مشرك نجس، فطوت عنه فراش رسول الله "
كما ذكر هذا ابن كثير في البداية وابن حجر في الإصابة.
لكن هذا الأمر لم يكن وحده أم لم تكن مشاعر المحبة والتعظيم والإجلال مقتصرة على تلك العواطف لكنها كانت في المواقف الصعبة تظهر لنا صورة الغيورين المدافعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يفديه بروحه ونفسه في أقل ما يمكن أن يعرض له عليه الصلاة والسلام.
روى الطبري في تفسيره عند قول الله جل وعلا في شأن ما أقسم به أو ذكره المنافقون ورأسهم عبد الله بن أبي بن سلول { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } .
قال: فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول فجاءه فقال: ألا ترى ما يقول أبوك قال: ما يقول يا رسول الله، فأخبره قال: والله يا رسول الله لقد صدق يا رسول الله، إنك والله الأعز وهو الأذل، أما والله إن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لآتينهما به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، فلما مضى إلى المدينة وقف شاهراً سيفه، وعندما أراد أبوه أن يدخل اعترضه وقال له رضي الله عنه وأرضاه: والله لا يؤويك ظله ولا تأوي إليه - أي إلى بيته- أبداً إلا بإذن من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فصاح أبوه : يا آل الخزرج ابني يمنعني مسكني، يا آل الخزرج ابني يمنعني مسكني ، فجاء إليه وثار إليه رجال يراجعونه قال: حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسعوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأرسل إليه فقال: ائذن له في مسكنه فقال: أما وقد جاء الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنعم.
وفي رواية الترمذي قال: " والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز " .
هكذا كان الحال مع الابن مع أبيه، لأن مقام ومكان وقدر وعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس المؤمن أعظم من كل أحد في الوجود حتى وإن كان من أهل الإسلام فضلا عن أن يكون من غير المسلمين.(/2)
وهذا الحديث المتفق عليه من رواية أنس رضي الله عنه نرى فيه الصور التي بعثت الصحابة رضوان الله عليهم لمثل هذا في هذه الرواية يروي أنس رضي الله عنه: أن ابن خطل كان متعلقاً بأستار الكعبة في يوم فتح مكة فجاء من يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه متعلق بأستار الكعبة فقال عليه الصلاة والسلام: اقتلوه، فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة .
لماذا؟
روى ابن إسحاق تفصيل قصته :
كان بعثه النبي في الصدقة مع رجل من المسلمين فغضب عليه لأنه أمره أن يهيئ له طعامه فلم يفعل فلما غضب قام فقتله، ثم خشي من العودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارتد ثم سلب إبل الصدقة ثم مضى مرتدا ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتلوه) .
وفي مثل هذه الحادثة كذلك تأتي قصة عبد الله بن سعد بن أبي السرح وقد كان كذلك ممن نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن اجترءوا على مقامه عليه الصلاة والسلام، كما روى ذلك أبو داود والنسائي في سننهما والحاكم في مستدركه فلما جاء به عثمان رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله بايع عبد الله، أي على الإسلام فأعرض عنه الرسول فقال: يا رسول الله بايع عبد الله فأعرض عنه الرسول، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فبعد الثالثة بايعه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال لأصحابه أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت عن بيعته فيقتله، قالوا: يا رسول الله ما علمنا لو أشرت إلينا بعينك، قال: ( إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ) .
والشاهد هنا ظاهر في أن من نال من النبي صلى الله عليه وسلم أو اجترأ عليه أو انتقص من فدره ومقامه فهذا حكمه في دين الإسلام، وهكذا نرى الأمر واضحا جليا في شواهد عديدة وكثيرة.
فعن علي : ( أن يهودية كانت تشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل من المسلمين فماتت فأطل النبي صلى الله عليه وسلم دمها ) أي أهدر دمها
والقصة في رواية أخرى فيها توصيل واضح، لرجل أعمى من المسلمين كان يأوي إلى امرأة يهودية فتطعمه وتساعده وتعينه، ولكنها تنال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اشتد عليه ذلك قام إليها فخنقاها فأصبح الناس ينشدون عنها أي يسألون عن قاتلها، فقام الرجل وقال: أنا يا رسول الله، فأطل النبي صلى الله عليه وسلم دمها أي أهدره لما كانت تنال من رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والقرآن يثبت ذلك {والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم}
والحق جل وعلا يخبرنا بذلك، ليس في آية ولا آيتين ولا ثلاث بل في أكثر من ذلك
{وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده إن ذلكم كان عند الله عظيما}
ويخاطبنا الحق جل وعلا بنداء الإيمان
{يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا}
بمجرد كلمة كان يمكن أن يكون فيها التباس أن فيها سوء أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عنها أهل الإيمان وذلك من عجائب الأمور في تعظيم وتوقير النبي صلى الله عليه وسلم وتأديب الأمة بذلك، وغرس هذا التعظيم والمحبة والإجلال والغيرة والحمية له عليه الصلاة والسلام في نفس كل مؤمن ومسلم.
وروى ابن سعد عن عمر رضي الله عنه وأنتم تعرفون من هو - لنرى المدى الذي ذهب إليه الصحابة رضوان الله عليهم، وهو مدى عظيم - رأى رجلا اسمه محمد وكان يسب فيقول له الذي يسبه: فعل الله بك يا محمد وفعل بك وصنع بك يا محمد، فالتفت عمر إلى ابن أخيه محمد بن زيد بن الخطاب، فقال رضي الله عنه: " لا أرى محمداً صلى الله عليه وسلم يسب بك، والله ما تدعى محمداً ما حييت وسماه عبد الرحمن، وأراد أن يمنع الناس من تسمية بأسماء الأنبياء ثم أمسك رضي الله عنه وأرضاه " .
غيّر اسم ابن أخيه لئلا يكون ذلك فيه نوع على الاجتراء على اسم النبي صلى الله عليه وسلم ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: ( تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي ) ؛ لأن نداءه عليه الصلاة والسلام لم يكن باسمه ولكن بالنبوة والرسالة، يا أيها النبي، يا أيها الرسول، ما سمي ولا نودي محمد صلى الله عليه وسلم في النداء باسمه المباشر، وذلك تمييز له عن غيره، فلما بقيت الكنية التي يمكن أن يشترك معه غيره فيها، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكنى المرء بكنيته، لئلا يساء الأدب بهذا ولو كان على سبيل النداء كما ورد في الرواية أن رجلا قال: يا أبا القاسم ! فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: لم أردك وإنما أردت هذا ..
فلئلا يكون في ذلك شيء مما قد يمس جناب النبوة العظيم عنده صلى الله عليه وسلم ورد النهي بذلك.
فماذا بعد ذلك ؟ وهل هناك ما يمكن أن يكون أكثر من ذلك ؟والجواب نعم.
وقد ثبت ذلك في صحيح البخاري وفقهه المسلمون وطبقوه وعرفوه في حياتهم.(/3)
روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: أنه كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانيا وصار يقول: لا يدري محمد صلى الله عليه وسلم إلا ما كتبت له - يدعي أنه هو الذي أدخل الدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه كان يفعل ذلك ويمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس من القرآن أو ما ليس من الدين- قال: فأماته الله عز وجل، فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض فقال أهله: فعل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه نبشوه فأخرجوه فحفروا له أعمق ما يستطيعون فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس فتركوه .
وفي لفظ مسلم : فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب فرفعوه -أي فعظموه- وقالوا: هذا يكتب لمحمد فأعجبوا به فما لبث أن قصم الله عنقه، فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجه فتركوه منبوذا .
واستنبط المسلمون من ذلك أن كل متعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم له عقوبة معجلة أو مؤجلة قطعا ويقينا بل إنهم طبقوا ذلك في واقع عملهم كما نقلوا ذلك ابن تيمية رحمه الله، قال: " في بعض معارك المسلمين مع بني الأصفر أي الروم قال: كنا –بعضهم يروون- كنا ربما نحاصر المدينة أو الحصن شهرا أو شهرين ويستعصي علينا فينال أهله من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشتمونه فلا يلبثوا يوما أو يومين إلا ويفتح علينا ونوقع بهم ما هم أهله "
حتى قال بعضهم: " كنا نستبشر بذلك ونحن نكره منهم لما يكون من النصر عليهم والانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم " .
تلك صور حقيقية واقعية تصور المشاعر النفسية والمحبة القلبية والتعظيم الحقيقي الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تصور الغيرة والحمية والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تبلغ أن يقف المسلم في وجه أبيه أو من هو أقرب إليه منه وأن يقف في وجه الدنيا كلها انتصارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بل أن يزهق نفسه وروحه فداء وحماية لرسول الله عليه الصلاة والسلام، كما فعل الأصحاب يوم أحد عندما اجتمع عليه المشركون فأحاط به الأنصار رضوان الله عليهم، وقضى بين يديه سبعة منهم شهداء واحدا إثر الآخر، وإلى جواره طلحة بن عبيد الله أيضا، ينافح عنه رضي الله عنه وأرضاه، أراد النبي أن يرتقي صخرة فلم يستطع، فجعل طلحة رضي الله عنه ظهره موطئا لقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرتفع وجاء أبو طلحة وكان النبي يأمر الصحابة أن ينثروا له السهام لينافح عن النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يكبر ويثني عليه ثم يشرف إلى القوم فيقول: " يا رسول الله لا تشرف على القوم فيصيبك سهم .. نحري دون نحرك يا رسول الله " .
لم يكن قول لم تكن عواطف كانت مواقف عظيمة وكانت أمة الإسلام مجمعة إجماعا ليس فيه أدنى شك بأن النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الانتقاص من قدره أو الاستهزاء به أنه إن صدر من مسلم، فهو كافر بالإجماع مباح الدم، بل قد قال بعض الفقهاء: ( إنه لا تصح له توبة ).
وأحسب أننا نعلم اليوم ما الذي يدعونا إلى هذا الحديث، وقد صورنا شيئا من العظمة الربانية التي جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بآيات القرآن الخالدة إلى قيام الساعة وصورنا صور انعكاس ذلك في قلوب ونفوس ومشاعر الأصحاب رضوان الله عليهم، وفي مواقفهم وغيرتهم، وعلمنا ونعلم كذلك تلك الأوامر الربانية التي تدعونا إلى التعظيم والتوقير من جهة وتدعونا إلى ترك الأذى من جهة وتحملنا تبعا لذلك كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم وكما أمرت بذلك سنته أن تكون لنا الغيرة الإيمانية التي ندرأ بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما يتعلق بالانتقاص منه أو الاستهزاء به أو النيل من مقامه وقدره عليه الصلاة والسلام.
وأمة المليار تحتاج اليوم إلى الانتصار للنبي المختار صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الناس جميعا اليوم في هذه القرية الصغيرة كما يقولون قد علموا وسمعوا وربما رأوا بأعينهم ما نشر من رسوم الاستهزاء وكلمات البذاءة التي وجهت إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما أحسب أنا رأينا صورة من هذه الصور التي أوردتها وهي قليل من كثير، لا قولا ولا شعورا ولا عملا كما كان في هذه المواقف العظيمة الجليلة لأولئك المؤمنين الصادقين ونحن نملأ الكون إدعاء بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وربما نكتفي بذكر الكلمات أو القصائد والأشعار، نرنمها ونرددها ونتغنى بها ونزعم أنا قمنا بحق النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان الاعتداء يمسنا في أشخاصنا أو يمس من يعز علينا ممن له قدر أو مقام عندنا لكان حالنا ربما على غير هذه الحال وللأسف الشديد.
وربما لو نظرنا إلى الأمة الإسلامية كلها لقلنا لو أن النيل جاء لدولة من دولها أو قائد من قادتها لرأينا كيف تحمر الأنوف وكيف ترتعد الفرائص وكيف تكون المواقف فكأن مقام وقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهون من ذلك والعياذ بالله.(/4)
ومن هنا فإن هذه المسألة في غاية الخطورة أحبتي الكرام، إنها ليست مسألة إعلامية وليست مسألة سياسية، يكفي فيها بيان هناك أو استنكار هنا، إنها مسألة عقدية إيمانية، إنها مسألة الإيمان والتوحيد والإسلام، إنها مسألة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إنها مسألة التزام واستسلام وقيام وأداء بأحكام شريعة الإسلام، إنها امتثال لما كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم إنها دلالة على حب وحيوية وقوة وغيرة وإيمان وصدق في الأمة أو على عكس ذلك وضعفه وذهابه في كثير من أبناءها.
لا أود أن أطيل ولا أحسب أني أحسن القول الذي تذرف به الدموع لكني أضع نفسي وإياكم أمام هذه النصوص القرآنية والنبوية وأمام هذه الأحداث والوقائع الفريدة وأقول لكم ولنفسي من قبل، ماذا نحن صانعون؟ وهل سنكتفي بالحوقلة؟ وهل يبرئ ذلك ذمتنا يوم القيامة بين يدي الله؟ وهل سترتفع رؤوسنا يوم القيامة عندما يكون في المشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل سنشرف أمتنا وتاريخنا ونحن قد عقدنا ألسنتنا فلم نتكلم، وطأطأنا رؤوسنا فلم نجابه، ولم يكن لنا حتى ربما اعتصار أسى وألم في النفوس ولا هم ولا غم في القلوب.
نسأل الله عز وجل أن يتداركن برحمته، وأن يغيث قلوبنا بالإيمان، وأن يعظم في نفوسنا محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يسلك بنا سبيل المنتصرين له والمنافحين عنه بكل ما نستطيع ولو بذلنا في ذلك أرواحنا ومهجنا، نسأله عز وجل أن يلزمن دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا القول واستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم ..
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
وإن حقيقة التقوى لتحقيق الإيمان بالله عز وجل والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم والغيرة لحرمات الله والانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بدأت حديثي بسؤال أردته أن يكون مثار خواطري وتفكير في خواطر العقل، وثنيت من بعد أن ذكرت هذه النصوص والوقائع بمواجهة وضعت فيها نفسي وإياكم مع هذه النصوص والوقائع، وأريد من ذلك أن ننتبه إلى أننا أمام مسألة خطيرة في إيماننا واعتقادنا ومشاعرنا وفي ما هو عليه الأمر في سلوكنا وحياتنا والتزامنا بإسلامنا وديننا، وقد يقول قائل : ماذا تريد منا أن نعمل ؟
وقد قلت مرارا في مثل هذه المواقف، إن من يريد أن يعمل وقد اشتعلت الغيرة في نفسه واضطرمت نار الحمية في قلبه وتأججت في مشاعره عظمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته ؛ فإنه لن يسأل هذا السؤال لن يسأل ماذا تريد أن أعمل سيلتمس طريقا سيعرف شيئا، ولكننا مع ذلك نوصي ونتواصى ونقول ما يذكرنا بالواجب العملي في كل الجوانب التي نحتاجها:
أولا: محبة حقيقية لا زائفة
فلنصدق الله في محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها محبة الفداء محبة التعظيم محبة الإجلال التي جعلت بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن عمرو بن العاص يقول إنه لا يستطيع أن يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يستطع مرة أن يملأ عينه من وجه الرسول عليه الصلاة والسلام هيبة وإجلالا.
ليست المحبة دعوى، وليست مبالغة ولا هرطقات إنها حقيقة مستقرة في النفس باعثة على العمل.
وثانيا: غيرة صادق لا كاذبة
لا نريد أن تكون مجرد استعراض عضلات وقد كنت أسائل نفسي قبل أن أقف بين يديكم في هذا المقام، هل تريد أن تثير الناس وأن تحمسهم وأن يقولوا خطب فقال وقال وأثر وأبكى أو صنع وقال، فرأيت أن أكون أول من يطلب من نفسه ذلك، فجمعت هذه النصوص لأجعلها نصب عيني وأعينكم، إنها آيات لا نستطيع أن نكون عنها في انفكاك مطلقا، إنها آيات نتلوها كل يوم إنها نداءات ربانية، إنها سيرة عطرة التي تمر بنا إنها الحقيقة العملية الواقعية في تاريخ أمتنا، وفي الصادقين المؤمنين المخلصين في كل زمان ومكان من أهل هذا الدين العظيم .
وثالثة أضيفها: نصرة عملية لا دعائية(/5)
لا نريد أن يصدر بيان من هنا أو من هناك أو يكون اجتماع مع تلك الدولة فيقال إننا وقفنا عن الاجتماع، أي نصرة هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم لا تقاطع البضائع التجارية، لم لا يسحب السفراء لم لا تكون هناك إجماع من أمم ودول الإسلام كلها أن تقف وقفة واحدة كما قال زعماءها في مكة ونصوا على ذلك في بياناتهم التي لم يجف حبرها بعد، يوم قالوا إنهم ينظرون إلى الكراهية المتنامية ضد الإسلام وإلى السخرية والانتقاص من رسوله صلى الله عليه وسلم وأن منظمة المؤتمر الإسلامي معنية بمتابعة ذلك والعناية بالرد عليه ومواجهته بما يناسب، ثم لا يكون إلا قليل من أشياء لا تقدم ولا تؤخر، ولئن كان هذا على مستوى الدول والأمم فعلى مستوى كل فرد يستطيع أن ينطق بلسانه، أن يكتب بقلمه، أن يرسل إلى كل مسئول فالأبواب مشرعة وأن يصل بقوله ولسانه إلى أولئك في عقر دارهم، تلك المجلات معروفة عناوينها وهواتفها وإمكان الكتابة إليها والصدع بالحق في آذانها وعلى صفحاتها وأن يكون ذلك مثيرا لأهل الإسلام كلهم لا إثارة عابرة وإنما لمراجعة صادقة في صدق الانتماء لهذا الدين والارتباط بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لنجعل من مثل هذه الأحداث تصحيحا للمسار فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ينظرون إلى كل أمر متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر الدين وأمر الحياة وأمر ما بعد هذه الحياة حتى قال سعد بن الربيع رضي الله عنه عند آخر لحظة من لحظات حياته وآخر نفس من أنفاسه: " أبلغ قومي أنه لا خير فيكم قط إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف " .
هكذا ينبغي أن يكون الأمر، وثمة وسائل كثيرة يمكن أن نترجم فيها ما ينبغي أن يكون أولا قبل هذه الأعمال.
ينبغي أن نراجع المشاعر القلبية والعواطف النفسية والقناعة العقلية والمعرفة العلمية أن نجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعظمه حق التعظيم من خلال معرفتنا لقدره في نصوص القرآن والسنة وأن ننذر وندرس ونعلم أجيالنا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس أحد في الخلق كلهم كمقامه أو منزلته عليه الصلاة والسلام.
وإذا صدقنا في ذلك ترجمنا بعد هذا ما ينبغي أن يكون عمليا والوسائل كثيرة غير أنه لا ينبغي لك أن تنام قرير العين وأنت لم تشعر بألم ولا حزن ولا أسى ولم تنطق بكلمة ولم تكتب سطرا ولم تعبر عن هذا السخط والانتصار للنبي المختار صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله عز وجل أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا وأن لا يؤاخذنا بتقصيرنا وأن يجعلنا أصدق في الإيمان به وفي محبة رسوله صلى الله عليه وسلم من حب دنيانا ومصالحنا.(/6)
البأساء والضراء
1500
حقيقة الإيمان
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
ملخص الخطبة
1- الابتلاء يكون بالخير وبالشر. 2- الابتلاء بالضراء يكشف حقيقة القلب ومقدار قسوته. 3- الابتلاء بالضراء أهون منه في السراء. 4- قصة صحبي الجنتين. 5- أصناف الناس عند حلول البلاء بين راضٍ وساخط ، منتفع ومتشاؤم.
الخطبة الأولى
اللهم لك الحمد ملء السموات وملء الأرض, وملء ما بينهما, وملء ما شئت من شيء بعد ـ أهل الثناء والمجد ـ أحق ما قال العبد ـ وكلنا لك عبد ـ, لا مانع لما أعطيت, ولا معطي لما منعت, ولا ينفع ذا الجد منك الجد, يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله وهو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز .
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً وإن الله تعالى كما يبتلي عباده بالسراء كذلك يبتليهم بالضراء, وإن الإبتلاء بالسراء والنعم أشد والله على النفس من الابتلاء بالضراء والنقم, فالله سبحانه وتعالى كما سمى الموت فتنة وعذاب القبر فتنة كذلك سمى المال فتنة ـ والمال نعمة ـ, وسمى الولد فتنة, وسمى الحياة فتنة, قال سبحانه وتعالى: واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم [الأنفال: 28], فالله عز وجل إذا ابتلى العباد إبتلاهم بالأدنى ثم بالأعلى, فالله عز وجل لا يبتلي العباد بالنعماء أولاً وإنما يبتليهم بالضراء أولاً, فإن ابتلاهم بالأدنى ولم ينتبهوا ابتلاهم بعد بالأعلى, كما قال سبحانه وتعالى : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون [الأنعام: 42، 43].
البأساء والضراء كفيلان بالكشف عن نوعية القلب الذي يحمله ذلك المبتلى, البأساء والضراء كفيلان ببيان هذا المبتلى أمام عدوه الأكبر الشيطان الرجيم, إن قسوة القلب لا تظهر بالابتلاء بالنعم, وإنما تظهر بالابتلاء بالنقم, كذلك أدنى درجات تسلط الشيطان على الإنسان إنما يكون عند قلة النعم, ويبلغ هذا التسلط ذروته عند فتح أبواب كل شيء, فمن أغواه الشيطان عند حلول البأساء بأن زين له سوء عمله فهو من التخلص عند النعمة أبعد, ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى ينزل البأساء والضراء لكي يكشف عن حقيقة القلب, ومن ثم كذلك لكي يكشف عن صلابة ذلك المبتلى أمام الشيطان.
وهذا هو التسلسل الصحيح فإنه لو كان هناك ابتلاء بالنعم لا يظهر من قلبه لين ومن قلبه قاسٍ ولا يظهر كذلك من كان الشيطان متسلطًا عليه تسلطًا كاملاً ومن كان الشيطان متسلطًا عليه تسلطًا قليلاً والله سبحانه وتعالى أخبرنا أيضًا عن خطورة الابتلاء بالسراء فقال عز وجل: وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض , إذا أنعمنا عليه أعرض وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض, أي لله سبحانه وتعالى فإذا كان الرجوع مؤملاً فيه فإنه سيرجع عند البأساء ولن يرجع عند النعماء, إذا لم يرجع عند البأساء والله سبحانه وتعالى قد صور لنا ذلك في سورة الكهف في قصة صاحب الجنتين فقال عز وجل:
واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعًا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئًا وفجرنا خلالهما نهرًا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرًا [الكهف: 32 ، 34].
انظر لما منحه الله جنتين كفر بالله تعالى وتكبر على المؤمن قائلاً: أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرًا , وقال أيضًا: وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرًا منها منقلبًا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً لكنّا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدًا كفر بالنعمة فقال له صاحبه: ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترنِ أنا أقل منك مالاً وولدًا فعسى ربي أن يؤتيني خيرًا من جنتك ويرسل عليها حسبانًا من السماء فتصبح صعيدًا زلقًا [الكهف: 39، 40], وصار ما قاله ذلك المؤمن: فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدًا [الكهف: 42].
وإذا نظرنا في أصناف الناس عند البلاء لوجدنا أنهم يتنوعون أنواعًا, فهم رغم أن البلاء الذي حَلّ بهم واحد إلا أن أصنافهم مختلفة, متباينة, فليس كلهم يستقبل البأساء والضراء بصورة واحدة بل بصور شتى, إذا تأملنا في أصناف الناس لوجدنا هذه الفرق الآتية:(/1)
الفريق الأول: هو صنف ينتفع بالهزات, ينتفع بالمصائب لا يرجع المصائب إلى الظواهر الخارجية, إلى الأسباب الخارجية, بل يرجع المصائب إلى أسبابها الحقيقية فيعرف مكان الداء ومن ثمّ يكون عليه العلاج, مثال هذا الصنف الحي ما قاله الله عز وجل ـ في سورة القلم ـ: إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذا أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون [القلم: 17، 18], جنة كان لها صاحب صالح إذا حان وقت الجذاذ وقت القرّ, وقت القطف ترك المساكين يأخذون حقهم من هذه الجنة فخلفه أبناء لم يقيموا وزنًا للمساكين بل قبضوا على أيديهم فماذا قالوا, قال هؤلاء الذين ابتلاهم الله عز وجل: إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذا أقسموا ليصّرمنها مصبحين ولا يستثنون تقاسموا بينهم, حلف كل واحد منهم أن يذهبوا مبكرين إلى الجنة فيصرمونها ويأخذون قطفها قبل أن يأتي المساكين فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون [القلم: 19] بينما هم في المنام نزلت آفة من السماء فأصبحت الجنة الخضراء بقعة سوداء, وعندما قاموا من نومهم قاموا مسرعين إلى جنتهم فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون [القلم: 21 ـ 23]ـ يتخافتون فيما بينهم والله تعالى يعلم السر وأخفى ـ أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين فلما رأوها ـ أي فلما رأوا الجنة على تلك الصورة السوداء ـ قالوا إنا لضالون ـ قد أخطأنا الطريق إلى جنتنا ـ بل نحن محرومون .
لما استبانوا الطريق مرة أخرى وعرفوا أنها الجنة التي هي لهم, قالوا ليس الأمر كذلك, لم نضل عن جنتنا بل نحن محرومون من ثمر هذه الجنة, وعندها ـ وهذا هو الشاهد على الصنف الذي ينتفع بالمصائب ـ قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون [القلم: 28], قال أخيرهم, قال أعدلهم, قال أكثرهم إيمانًا: ألم أقل لكم لولا تسبحون , قال المفسرون: ألم أقل لكم لولا تشكرون نعمة الله عليكم فتعطون المساكين حقهم في هذه الجنة.
ألم أقل لكم ولا تسبحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ـ أخذ يلوم بعضهم بعضًا على التقصير في حق الله عز وجل ـ قالوا يا ويلينا إنا كنا طاغين عرفوا خطيئتهم فقالوا لقد طغينا وبغينا ولذلك حرمنا الله عز وجل هذه الجنة إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيرًا منها إنا إلى ربنا راغبون احتسبوا كل ذلك عند الله في الآخرة وذكروا أنهم راغبون في الله تعالى, قال عز وجل: كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون [القلم: 33], وهذا الصنف إذا نزلت البأساء والضراء لا ينقص إيمانه بل يزداد، ما قال الله تعالى عن المؤمنين في سورة الأحزاب: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا [الأحزاب: 22], لما رأوا البأساء ـ الجنود التي أتت من كل حدب وصوب, لمّا زلزلت القلوب قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وذكر القرآن أن إيمانهم ما نقص بل وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا .
هذا الصنف المبارك, هذا الصنف الخيِّر هو الذي ينتفع بالمصائب فيرجع إلى الله تعالى ويقلب صفحات أعماله فينظر فيها فإذا كان فيها الشر استغفر الله تعالى, وإذا كان فيها الخير استزاد إن هذا هو الذي ينتفع.
الصنف الثاني: الصنف الثاني شيء عجيب, هذا الصنف صنف متشائم عند نزول العذاب, يتشاءم من الصالحين يتشاءم من الذين يبغون الصلاح في الأرض, فهو لا يرد المصائب إلى سيئاته بل يرد البأساء والضراء إلى حسنات الصالحين, وهذا متثمل في قول فرعون كما ذكر تعالى في سورة الأعراف: ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون [الأعراف: 130], أخذهم الله تعالى بالجوع ونقص الزروع بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون لعلهم أن يتذكروا ما هم فيه من الباطل, فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه , وهذا هو الشاهد: هذا بسبب أعمالنا وبسبب تصرفاتنا وحُسن تفكيرنا قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه يتشاءموا من موسى سبحان الله! يتشاءمون من المصلح, قال تعالى: ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون [الأعراف: 131].
وهذا أيضًا متمثل في قصة أصحاب أنطاكية الذين ذكرهم الله تعالى في سورة (يس) لما أرسل الله تعالى إليهم المرسلين الثلاثة: قالوا إنا تطيرنا بكم [يس: 18] تشاءمنا بكم, نزل علينا الضر, حلت بنا المجاعة وكل ذلك بسببكم, قال المرسلون: قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم [يس: 19] كما قال الله تعالى أيضًا عن قوم صالح: بل أنتم قوم تفتنون [النمل: 47].(/2)
هذا الصنف المتشائم الذي لا يضع الأمور في مواضعها, بدل من أن يتشاءم من ذنوبه يتشاءم من حسنات غيره, هذا الصنف لا ينتفع بالبأساء والضراء, وربما كان هذا الصنف صنفًا مراوغًا في نهاية الأمر, فهو إن نزلت البأساء أبرم العهود والعهود ووعد الناس أن يرجع إلى الله تعالى, وعدهم خيرًا, فإذا ذهبت البأساء والضراء عاد إلى ما كان عليه, نكث العهود والوعد, وهذا متمثل في قوم فرعون كما قال تعالى عنهم: وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد ـ على محاصيلهم ـ والقُّمل ـ في ثيابهم ورؤسهم ـ والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قومًا مجرمين ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عنك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ـ أبرموا العهد والوعد ـ فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون [الأعراف: 132 ـ 135].
ماذا قال الله تعالى عن هذا الصنف, قال تعالى: يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون [يونس: 22]هذا متاع, أتغترون بهذه الحياة الدنيا, هذا البغي, هذه المراوغة التي تسلكونها إنما هي على أنفسكم, تجرون الويلات عليكم أنتم إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا .
ولذلك فإن موسى عليه السلام جأر إلى ربه تعالى منهم فقال: ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم [يونس: 88], فأجابه الله تعالى قائلا: قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون [يونس: 89] فهذا موسى عليه السلام طلب أن لا يبتليهم بعد ذلك بالحسنات؛ لأن ابتلاءهم بالحسنات لا يزيدهم إلا غيًا إلى غيهم فلذلك أهلكهم الله, قال عز وجل: فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين [الأعراف: 136].
فأسأل الله عز وجل أن لا يجعلنا من الغافلين, وأن ينفعنا بالقرآن العظيم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين لنعمه وآلائه, وأصلي وأسلم على خير خلق الله الرحمة المهداة محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
فريق ثالث: صنف ثالث أيضًا لا ينتفع بالبأساء والضراء, هذا الصنف هم المنافقون هؤلاء يستوي عندهم الفتنة وعدمها كما قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ـ : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانًا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسًا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون , فقال سبحانه وتعالى عن موقفهم من المصائب والبلايا: أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون يفتنون كل عام ولا ينتفعون في المصائب والبلايا كما أنهم لا ينتفعون في السراء كما أخبر سبحانه وتعالى عمن طلب المال من المنافقين ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون .
هذه الأصناف من الناس هي التي تظهر حين حلول البأساء والضراء, فإذا أردنا أن نكون من الموفقين من الذين يمدحهم الله تعالى في كتابه ويمدحهم الرسول في سنته لنكن من الصنف الأول, الصنف الذي إذا أنزلت به البأساء والضراء قلبّوا صحائف أعمالهم وعرفوا بأنه ما نزلت مصيبة إلا بذنب ولا رفعت إلا بتوبة.
وعلينا أن نعلم يا إخواني بأن كشف الضراء والبأساء ليس دليلاً على الرضا, وليس دليلاً على القبول, وإنما العبرة في ذلك بما عليه الناس من الأعمال, فإن كانوا على الخير فإن الابتلاء بالضراء يزيدهم خيرًا إلى خير وإن حلول النعماء يزيدهم خيرًا إلى خير, وأما إذا كانت الأعمال كما هي فإن الله سبحانه يقول: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين , وهذا مسطر في سنة النبي وفي سيرته عندما يرى عليه الصلاة والسلام النعمة, لما دخل عليه الصلاة والسلام مكة منتصرًا فاتحًا طأطأ عليه الصلاة والسلام رأسه حتى كادت لحيته تصيب وسط راحلته, دخل متواضعًا, مخبتًا, خاشعًا, فهو يحمد الله تعالى يقول: ((لا إله إلا الله وحده, أنجز وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده )) سبحانه وتعالى وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا , فهو يشكر الله تعالى بأن يتواضع له, يشكر الله بأن يعمل الصالحات. هؤلاء هم الذين حُق لهم أن يكونوا من العباد الذين يرثون الأرض بعد أهلها.(/3)
البراء من الكفار واستقدام العمالة منهم
96
الولاء والبراء
عبد العزيز بن عبد الرحمن المقحم
غير محدد
غير محدد
ملخص الخطبة
1- نصوص في البراء من الكافرين 2- نماذج من مكر الكافرين بالمسلمين 3- تصحيح مفاهيم خاطئة في البراء 4- شُبُهات يُردّدها البعض حول موضوع البراء
الخطبة الأولى
أما بعد :
فاتقوا الله – عباد الله – فإن تقواه هي النجاة ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70،71].
عباد الله: إنه لابد من التفريق بين حزب الله وحزب الشيطان لأن عدم التفريق بينهما فتنة عظيمة وفساد كبير أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35،36]، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28]، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].
إنك حيث آمنت بالله ورسوله أصبحت واحدًا من المسلمين، لك ما لهم، وعليك ما عليهم، والمؤمنون هم حزب الله وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68]. وأصبح لك أعداء لم يؤمنوا بالله ولا برسوله ولم يدينوا دين الحق الذي ارتضاه الله لنفسه فكان لزامًا عليك أن تبغضهم وتتبرأ منهم لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْء إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28].(/1)
هل كان هذا الأمر غفلاً لم تعرف عنه شيئًا ولم تسمع فيه قولاً؟ ألم تقرع مسامعك الآيات البينات من كتاب الله؟ أليس الله أعلم بما يصلح عباده وبما يفسدهم؟ أوليس الله بأرحم بالمؤمنين أمَا قال سبحانه: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [التوبة:23]، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاء مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ [الممتحنة:1]، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ آل عمران:118-120].
هذه أوامر الله ونواهيه تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:129]، وهي نصوص من الوحي لا تختلف باختلاف الزمان، ولا تتغير بتغير الأسماء والألوان، فما كان منها عن الكفار فهو شامل لجميعهم، إلا ما استثني بالدليل، أما تغير الوجوه والأسماء واختلاف الدول والممالك، وتقادم العهد فلا يغير من أمر الله شيئًا .
وإن التاريخ ليشهد بذلك والواقع شهيد عليه … فقل لي بالله عليك : من كان يجالد المسلمين بالسيوف يوم بدر يريد ذلة الإسلام وأهله؟ أليس المشركون؟ ومن كسر رباعية رسول الله وشق وجنته يوم أحد؟ أليس المشركون؟ ومن حاصر المسلمين في المدينة حتى زاغت أبصارهم وبلغت قلوبهم الحناجر وزلزلوا زلزالاً شديدًا؟ ومن صادم المسلمين في القادسية واليرموك ليصدهم عن نشر دين الله والتمكين له ودعوة الناس إليه؟ أوليس المشركون ؟! وما أخرج التتار من الشرق وساق الصليبيين من الغرب ليحطموا المسلمين ويستبيحوا بيضتهم؟ أليس الشرك بالله وعداوة عباده المؤمنين؟ وما دفع المستعمر الأوربي الحاقد أن يفسد بلاد المسلمين ثم يمكن فيها للمفسدين؟ أليس عداوتهم لله ولعباده المؤمنين؟ بلى والله !!
تلك شهادة التاريخ فبأي شيء يشهد الواقع؟ هل يخفى عليك – أيها الفطن – ما يلاقي المسلمون من صنوف الأذى في مشارق الأرض ومغاربها على أيدي أعدائهم؟ أما أنا فلا أظن ذلك خافيًا على مثلك أليسوا يقدمون لنا كل يوم دليل عداوتهم وبغضهم لنا وحقدهم علينا بالاغتصاب والسلب والنهب والتقتيل والتشريد ؟!!
أما إنهم لا يقدمون ذلك في خطابات شديدة اللهجة، ولا في خطبهم ومحاضراتهم بل يُرْضُونَكُم بِأَفْواهِهِمْ [التوبة:8]. ولكنهم يقدمونه بقطع رءوس الرجال وبقر بطون الحوامل: وافتضاض الأبكار من بنيات المسلمين أمام ذويهن وزرع أجنة الكلاب في أرحام المسلمات:
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
ثم نجد – من المسلمين – من يؤويهم، ويمكن لهم، ويثني عليهم، ويدافع عنهم، بل ربما سب المسلمين من أجلهم، فإلى الله المشتكى:
ملأ الأرض هتافًا بحياة قاتليه يا له من ببغاء عقله في أذنيه(/2)
هذا ما يقدمونه بالفعل، أما القول فلا … إذ ربما تسمع من بعضهم كلامًا يرضي السذج من المسلمين، وما يكفي ليكون مادة للاستهلاك الإعلامي لتغرير شعوب مسلمة بأكملها لكن أصدق القائلين يقول: يُرْضُونَكُم بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة :8] وربما لم يسعهم أن يرضونا بأفواههم فتغشى أحقادهم مرونة اللسان وتغلبه فينفث مما في صدره قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران :118].
عباد الله: ما كان المسلمون في وقت من الأوقات أحوج إلى بغض الكفار ومنابذتهم ومنهم في هذا الوقت، إذ لا ينفك المسلمون يلْقون منهم العنت والمحادة في كل قطر من أقطارهم، ومصر من أمصارهم، وبكل وسيلة يغزون بها شبابهم ونساءهم وأفكارهم وأراضيهم! أيبقى بعد لبس؟! أو لم يزل بيننا أبرياء مغفلون لم يتبين لهم الأمر بعد؟ أفينا من يحتاج خطبة كاملة – أو أكثر من ذلك – ليعرف واجبه نحو إخوانه المسلمين وأعدائه الكافرين؟! وهل بيننا من لم يزل يبغض الكفار في الجملة ويوالي أفرادًا منهم؟! فإذا قيل له (الكفار) استشاط غضبًا وتأوه من أعمالهم في المسلمين أو إذا قيل له (المشركون والأعداء)! طفق يشتم ويلعن .. أما إذا قيل له .. عاملك الذي اسمه (جورج) أو مكفولك الذي اسمه (إدوارد) ؟! قال: هذا مسكين هذا طيب ذروني وهذا فاني لا استغني عنه، وهل وقف الأمر على هذا المسكين؟ … يالله للمسلمين! بل أنت المسكين وأنت الطيب وأنت الذي وقف الأمر عليك، فما الأمة إلا أنت وأمثالك، ولو أجبتم داعي الحق لاستقامت السبل .
عباد الله : إن بعض المسلمين يرى أن الكفار أعداء الله، ولكنه لا يستشعر أن كل كافر هو بعينه عدو الله، يجب بغضه والبراءة منه، لذلك كما قال الله في إبراهيم وأبيه: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة :114].
صحيح – يا أخي الحبيب – إن إبليس عدو الله، وكذا فرعون، وماركس، وأضرابهم، وكل الكفار و: مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة :98]، ولكن ما رأيك في سائقك الكافر؟! أو خادمة جيرانك الكافرة أو عامل المحل أو المصنع الذي استقدمته أنت تحت كفالتك ومكنته من أرض المسلمين التي حرمها عليهم رسول الله وهيأت له الفرصة الجميلة إذ يسرت له سبل العيش وكفلت أسرته وأطفاله وهم شر على دينك وأمتك حاضرًا ومستقبلاً وقدمته على أخيك المسلم في بلاده نفسها وتركت أخاك يصارع آلام الحياة ويتكبد الماسي هو وأهله؟!!.. اسمح لي أن أجيبك على الملأ ! فأقول بملء فمي: إنه كافر .. نعم كافر وليس هذا سرًا نخفيه فما يوم حليمة بسر وليس يرضى (هو) أن يقال عنه مسلم وهو (بعينه) عدو لله والله عدو له فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة :98]، ولكنك تسامحت معه إلى أبعد الحدود... سامحك الله وغفر لك ونجاك من زلتك!
أرأيت لو كان عدوا لأبيك – ولو كان مسلمًا – أو عدوًا لبلدك؟! ألا تخاف مكر الله يا غافل وأنت تؤوي أعداءه وتمكن لهم وتسهل لهم سبل المعيشة دون إخوانك المسلمين مع شدة حاجتهم وقد أمرت ونهيت فما ائتمرت ولا انتهيت؟!!
أيها المسلم الحبيب: إني سائلك فمشدد عليك فاستمع لما أقول: أرأيت لو أن أحدًا يبارز دولتك بالعداء، هل تجد عاقلا لبيبًا يؤويه؟ بل لو كانت ورقة تنضح بالعداوة والإفساد لدولتك، هل تجد عاقلاً لبيبًا يجعلها في داره فضلاً عن أن يحملها جهرة؟!! إنما جوابك الذي لا جواب غيره : لا .. ثم لا. وكلنا نقول ذلك فما بالك مع عدو الله الذي بارز الله بالعداء، أليس أولى لهذا الخوف أن يكون من الله؟! أو ليس أولى لهذه الحيطة أن تكون من مكر الله أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].(/3)
هذا هو الحق وأنت أدرى به، ولكنك تتغافل عنه، أو تحب أن تتغافل عنه، أما تعترف أن مكفولك الكافر هو بعينه عدو لله ؟ إنك إذًا لمن الظالمين! أو يخدعك برقيق كلامه وصفيق تملقه أو تظن أن هذا الكافر الذي عندك قد استثني (لشخصه) من قول الله سبحانه: إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً [النساء:101]، أو من قوله سبحانه : لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء [الممتحنة:1]، أو من قوله: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة :82]، بجميع دياناتهم! ألا تظن أنه يتمنى لك أن تكفر أم قد تستثنيه (بشخصه) من قول خالقه: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]، أم قد استثني من قوله سبحانه: مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ [البقرة :105]، أو من قوله سبحانه إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا [آل عمران :120]؟! أين أنت من هذه النصوص الصحيحة الصريحة، التي تخاطبك صباح مساء وأنت مؤمن بها؟!
إنك ملزم ببغضه والبراءة منه، وعدم موالاته لو كان أبًا لك أو أخًا، فكيف وليس كذلك؟! أما قال الله سبحانه: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ [التوبة:23]. أما قال الله لنبيه نوح عن ولده: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود :46]؟ أيطلب شيء بعد هذا؟! تَلْكَ ءايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية :6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم …
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقواه، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار، ثم اعلموا أن الله تعالى أمركم بالصلاة والسلام على رسوله المختار، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا))[1]، اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمدٍ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
أيها السلم الكريم: لقد كان عليك أن تنصر المسلمين بنفسك ومالك، فيراق دمك، ويعقر جوادك في سبيل الله، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، ولقد يظن بك الخير من يرى منك بوادره، وأنت له أهل إن شاء الله، فإن لم يكن منك ذلك، فليسلم منك المسلمون – على الأقل –فلا تؤذهم بالتمكين لعدوهم، واستقدامه دونهم، فإن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده:
وأنت امرؤ منا خلقت لغيرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع
لقد تكالب الأعداء على إخواننا في بلدانهم، فهل نكون عليهم فيمن عليهم؟! إن أشق ما يواجه المسلمون في الهند أن تدفق الأموال على كفرة الهندوس يأتي من الخليج!
فواعجبًا لمن ربيت طفلاً ألقمه بأطراف البنان
أُعلّمُه الرماية كل يوم فلما أشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني
أتدعو لإخوانك المسلمين في صلواتك، وتبكي على مآسيهم، أمَّا كفالتك وأموالك وأعمالك فهو للكفار أعدائهم؟! أي تناقض أنت فيه؟!
كم من المسلمين في أصقاع بعيدة يتمنى بكل حرقة أن يقدم إلى هذه البلاد لعله يحج، فكانت الفرصة على يديك، ويمكنك أن تستقدم من تلك البلاد واحدًا أو أكثر، فحرمت أخاك الذي يتمنى المجيء والحج، واستقدمت بدله كافرًا عدوًا مبينًا لا يحبك ولا يحب الحج، ومع ذلك تزعم محبة إخوانك وتدعو لهم ؟!
لا أعرفنك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادي
أرأيت لو أن مكفولك الكافر في مثل موقفك، وهمّ أن يستقدم عاملاً أو خادمًا، أتراه يترك أخاه الكافر الذي على دينه، ويستقدم مسلمًا ويمكّن له؟! هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران :119].(/4)
أيها المسلمون: إن هناك شبهات ثلاثاً لابد من الرد عليها؛ لأن الشيطان سوّل بها وأملى: الأولى قولهم: إن هؤلاء الكفار أحسن عملاً من المسلمين، والثانية قولهم :أستقدم كافرًا وأدعوه للإسلام، والثالثة قولهم: إن تغيير الديانة في البطاقة سهل، فإذا اشترطنا الإسلام كتبه في بطاقته، ولو لم يسلم! والحقيقة أن هذه كلها ليست حجة يقولها صاحب حق، ولكنها خدعة يقولها متورط، وهو أول المخدوعين … فلما صار في قلبه مرض، واستقدم عدو الله وخالف وصية رسوله اضطر أن يدافع عن خطئه، فجعل يلتمس أعذارًا أوهن من بيت العنكبوت، وربما زل بكلام خطير لا يعرف مداه، وهو يدافع عن خطئه، ويمدح الكفار، ويثني على أخلاقهم وعملهم، ويسب المسلمين، ويرميهم بكل نقيصة!، والأحناف يقولون: من قال: النصارى خير من المسلمين. كفر!!
والحقيقة أن المسلمين هنالك فرض عليهم الجهل ولم يمكنوا من الفرص وضيق عليهم في الاستقدام، فتركناهم وجئنا بالكفرة فتعلموا على حسابنا ثم قلنا : هم أتقن عملاً … ربما استقدم المسلم مسلمًا فلم يرضه، فآلى على نفسه ألا يستقدم مسلمًا أبدًا عياذًا بالله من ذلك؛ لأنه كان على حرف فابتلي كَذالِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163]، فليس في الشرع أن تفاضل بين الكافر والمسلم، فتستقدم المتقن، ولكن الشرع يحرم موالاة الكفار، واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، ويحرم استقدامهم إلى جزيرة العرب، كما صح عن رسول الله وكما أفتى بذلك العلماء الأثبات.
أما قولك: أستقدم كافرًا وأدعوه للإسلام، فإن ما نراه ليس من الدعوة في شيء ثم: كم أسلم على يديك من كافر؟ وكم يكفيك من الوقت لتعرف نتيجة دعوتك معه؟ وماذا صنعت لمن لم يسلم ؟
وأما القول بسهولة تغيير الديانة: فلو أن رجلاً أراك في بطاقته أنه مسلم ما صح لك أن تتهمه بالكفر، حتى ترى منه كفرًا وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النساء:94]، ثم إنك إذا استقدمت من كتب في ديانته (مسلم) فقد برئت ذمتك أنت إن شاء الله، وعليك التحري ما استطعت، أما أن تقول: إن تغيير الديانة في البطاقة سهل، وأنت تدافع عن استقدامك لعدو الله، وتركك لأخيك المسلم المحتاج، فهذه حجة خارج قضية النزاع، فليس صحيحًا أن تشرب الخمر لأن جعل العنب خمرًا سهل، والعقلاء لا يقبلون هذا .. والله أعلم بما تصفون:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقًا وكل كاسر مكسور
أيها المسلمون: إن هذا الحديث ليس مقصورًا على من استقدم كافرًا، بل هو لكل من سمعه، فإذا استيقظت غيرتك، وثُبْت إلى رشدك، وتُبت إلى ربك، وعزمت أن تخرج كل كافر أدخلته بلاد المسلمين، (مهما كلف الأمر)، وألا تستقدم كافرًا آخر، (مهما يكن من شيء)، وأن تناصح كل من استقدم كافرًا، (ولو لم تستقدم أنت) فإذا كان ذلك .. فإياك ثم إياك وأن تحملك العاطفة عندي على عزمك هذا ثم تنساه قبيل صلاة العصر، وتبرد همتك!! أو يبقى في نفسك ولكنك تسوف فيه!! أو تعزم عليه فإذا تذكرت مكاتب الاستقدام ومشاكلها ومشاكل العمل تراجعت!! إياك ثم إياك (فإن الجنة حفت بالمكاره، والنار حُفت بالشهوات) وإني أشهد الله عليك بما سمعت وأسأله سبحانه أن يعيننا وإياكم على طاعته، ويجنبنا أسباب سخطه .
[1] رواه مسلم (الصلاة :577).(/5)
البرامج العملية لحفظ القران الكريم
د. علي بن عمر بادحدح
المحتويات :
• المقدمة .
• برنامج التصحيح .
• برنامج الحفظ .
• برنامج التمكين .
• برنامج المراجعة .
البرامج العملية لحفظ القران الكريم
المقدمة
ولسنا بحاجة إلى بيان فضيلة هذا العمل وأثره في النفوس والقلوب ، وما يجري الله به على فاعله من الخيرات والبركات ، فذلك معلوم مشهور من جهة .
وليس هو مقصدنا في هذا المقام من جهة أخرى ، وقد سبق أن طرحة موضوعاً شبه متطابق مع هذا الموضوع ، وعندما نظرت إلى تاريخه وجدت أنه مضى على إلقاء الموضوع الأول أكثر من سبع سنوات ، ثم إن هذا الموضوع يتميز عن الأول بمزيد من التفصيل والبرمجة العملية التي تحدثنا عنها في الإلقاء الأول بالأسبوع الماضي ،ولعلنا نحاول أيضاً أن نضيف كثير من التوجيهات والتنبيهات التي تذلل الصعاب ، وتعين على تحقيق المراد بعون الله - جلا وعلا - وسنتحدث في هذا الموضوع من خلال تمهيد مختصر ، ثم نفصل القول في أربعة برامج :
1 - برنامج التصحيح
2 - برنامج الحفظ
3 - برنامج التمكين
4 - برنامج المراجعة
أما التمهيد ففيه نقطتان :
الأولى : قبل البداية .
والثانية : عند البداية .
وقبل البداية نحتاج إلى ثلاثة أمور :
أ - إخلاص النية.
ب - وإصلاح العمل.
ج - وإذكاء الأمل.
إخلاص النية
فكل عمل بلا إخلاص هباء، وكل عمل لا يراد به وجه الله - عز وجل - لا يكتب له التوفيق ، ولا ينتهي إلى الغاية المحمودة ، ولا يصيب الأمل المنشود ونحن نعلم ذلك وتدل عليه نصوص كثيرة.
وأما إصلاح العمل
فإن الله - جلا وعلا - قد قال : { واتقوا الله ويعلمكم الله }، ونحن نعلم أن العمل الصالح هو الذي يورث نور القلب، وانشراح الصدر، وسكينة النفس، وحدة الذهن، وقوة الحافظة، وسلامة الجوارح ؛ فإن الله - جلا وعلا - يمنُّ على من استخدم جوارحه في طاعته ومرضاته ، وسخر بدنه وملكاته فيما يحب الله ويرضى .. يمنُّ الله - جلا وعلا - عليه بحفظ حواسه وسلامتها له ويزيده فيها ما يميزه عن غيره بإذن الله - عز وجل - وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال : " إن العبد ليحرم العلم بالذنب يصيبه " ، وكما قال الله جلا وعلا : { واتقوا الله ويعلمكم الله }؛ فإن من أراد أن يتهيأ لحفظ القرآن، وطلب العلم، ومعرفة الحق والاستزادة من الفقه في الدين فإن طريقه أن يتطهر قلبه ويزكي نفسه بإصلاح العمل وإصلاح القصد لله سبحانه وتعالى.
وأما إذكاء الأمل
فنعني به الثقة بالله - سبحانه وتعالى - والأمل في عطائه ومنته وجوده ، فلا يتسرب اليأس إلى نفسك في هذا الأمر - أي حفظ القرآن - ولا في غيره من الأمور ؛ فإن بعض الناس يغلق على بعضه أبواب الأمل وما يزال يسرب على نفسه ويجلب إليها المثبطات والمحبطات ويكثر ويعظم لها العوائق فحينئذً لا يكون عنده اندفاع ولا حماس ولا تهيؤ نفسي ولا قوة عملية لحفظ ولا لغيره من الأعمال ، ولقد كان من تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ولأمته أن يبعث الأمل دائماً حتى يكون ذلك موقد لشعلة العمل ومذكي لنار الحماسة ومعلياً لمعالي الهمم بإذن الله - سبحانه وتعالى - فلا بد لنا من إخلاص وصلاح وأمل حتى نتهيأ لهذا العمل الصالح ولغيره.
وأما عند البداية فنحتاج أيضاً إلى ثلاثة أمور :
1- ملائمة الابتداء.
2- ومواصلة الارتقاء.
3- وكفاءة الأداء.
أما ملائمة الابتداء
فنعني بها ألا تأخذنا الحماسة ، فنبدأ بدية مندفعة لا تتناسب مع مقدرتنا وطاقاتنا أو إمكاناتنا ولا تتوافق مع ظروفنا ومشاغلنا وبيئتنا وهذا يحصل كثيراً عندما يستمع المرء إلى تفضيل لأمر من الأمور ، أو ثواب في عمل من الأعمال ، فتتحمس نفسه ويشتاق إلى ذلك الأجر والثواب ، فيبدأ بدايةً قوية شديدة أخذاًً فيها بأقصى طاقته بالغاً فيها غاية جهده فلا لبث بعد قليل أن تقعده العوائق ، وتصرفه الصوارف ؛ لأن واقع الحال يختلف مع ما أخذ به نفسه من الشدة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ) ، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع ولا نريد أن نطلق مع العواطف دون أن نقدر الأقدار ونحسب الحساب ألازم لكل عمل وما يحتاجه من وقت وما ينبغي تهيئته له من ظرف وما يحتاج إليه أيضاً من طاقة وبذل وعمل.
وأما مواصلة الارتقاء(/1)
فنعني بها الاستمرارية التي تتحقق به النتائج والتي تعظم بها الحصيلة والتي تجنى بها الثمار ؛ فإن المرء قد يحن الأمر ويتقنه ويبدأ فيه ويحصله ، ثم لا يلبث أن ينقطع فيضيع ما قد حصله ، ويتبدد ما قد جمعه فيعود مرةً أخرى كأنما يبدأ من الصفر من جديد ، فيجمع ويكسب ويحصّل ، ثم لا يستمر ولا يبني على ما سبق ، فلا يزال في مكانه يسير دون أن يتقدم ، ودون أن يرتقي ، ودون أن يضيف إلى رصيده مكتسبات حقيقية لها صفة الدوام والاستمرار ، ولها صفة الحفظ والاستقرار ؛ فإن كثير من الناس في هذا الشأن كمن يحرث في ماء البحر - كما يقال - والذي يحرث ماء البحر لا يخرج بنتيجة ولا يحصل على ثمرة مطلقة.
وأما كفاءة الأداء
فإننا لا نريد أن نستمر بعمل ناقص وبإتقان مختل ؛ فإن هذا يشبه الذي يمشي بالعرج ؛ فإنه ما يزال يتعثر ويتأخر وإن كان مستمراً ثم إنه كذلك يجد أنه يحتاج في كل مرةً أن يرمم عمله الذي أنجزه وأن يصلح ويكمل ثمرته الذي زرعها على أكمل وأتم وجه ؛ فإن الكمال والتمام يريح الإنسان ويوفر وقته ويوفر جهده ، وأما الذي يعمل العمل فيتمه من غير إحكام ؛ فإنه كأنه في بعض الأحوال لم يصنع شيء فيكون كحال الذي توقف وانقطع مثله مثل الذي يستمر على خلل ونقص دون أن يراعي الكفاءة والكمال المنشود.
وبعد ذلك نبدأ أحبتي الكرام بالبرامج التي نريد أن نأخذ بها لكي نحصل هذه الثمرة العظيمة.
أولاً : برنامج التصحيح
ونحن بهذا التصحيح تصحيح التلاوة والقراءة القرآنية لأنه لا يصلح ولا يمكن ولا ينفع الحفظ بدون هذا التصحيح قد قال الحق جلا وعلا عن القرآن : {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربياً مبين }، فلا بد من إتقان القراءة وتصحيحها وفصاحتها العربية وبلاغتها القرآنية والحق جلا وعلا يقول : { قرآناً عربياً غير ذي عوجاً }، فلا ينبغي أن يكون خلل في هذه القراءة من وجوهها المتعددة ويبين الحق جلا وعلا الفرق فيقول : { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين }، وفي حديث عائشة رضي الله عنها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم كما أنه قال : ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران أجر التلاوة وأجر المشقة ) ، فهو يشق عليه لكنه يعالج ويغالب ويجتهد حتى يستقيم لسانه بقراءة صحيحة فصيحة متقنة ، فحينئذٍ إذا حفظ حفظ هذه الصحة وحفظ ذلك الإتقان وإلا يفعل ذلك كذلك ؛ فإنه يحفظ قرآن فيه أخطاء لا ينبغي أن يأخذ بها ولا تصح تلاوته بها وإذا أردنا أن نعرف ما الذي يشتمل عليه هذا التصحيح ؛ فإننا نجد نقاط كثيرة تتركز في ثلاثة مجالات :
1- معرفة النطق بالحروف. أي تصحيح المخارج ونطقها أي الحروف صحيحة فصيحةً.
2- معرفة الضبط بالشكل ؛ فإن كثير من الناس قد يحسن نطق الحروف ، لكنه يخطئ في قراءتها فلا يضبط حركاتها فيرفع منصوباً ويجر مضموماً ونحو ذلك.
3- والثالث معرفة القراءة بالرسم - أي الرسم القرآني - لأن القرآن برسمه ليس كغيره من الكتابات ، فيه كتابة خاصة بهذا الرسم العثماني الذي انعقد عليه الاجماع يحتاج المرء معه إلى تدرب.
ننتقل الآن إلى الطريقة العلمية ثم إلى البرنامج كيف؟ أو ما هي الطريقة التي يمكن بها لمن لا يحسن التلاوة القرآنية ولا يصححها ، ويخطئ فيها ويتتعتع ، ولا يكاد يستطيع أن يقرأ قراءةً مسترسلة ، وإذا قرأ قراءة مسترسلاًً أخطأ فيها كثيراً ، وتوقف فيها كثيراً ! نقول هناك الطريقة تتعلق بمبدأين اثنين :
1- التلقين.
2- الاستماع.
والتلقين له مرحلتان :
المرحلة الأولى : التي تعنى بصحة المخارج وإتقان الحركات والشدة والمدود .
وهذه الطريقة قد لا يقرأ فيها آيات قرآنية أو سور قرآنية ، بل الأصل والأغلب أنه يتعلم ويتعلق بالحروف فيرددها منفردة ، ثم يرددها مرة أخرى بحركاتها المختلفة - فتحةً أو كسرةُ أو ضمةً - ثم يرددها موصلة مع غيرها من الحروف - وسيما حروف المد - ثم يرددها ثالثاً وهي مشددة في سياق كلمات قرآنية مختارة ، وهنا يحصل له هذا الأمر بطريقتين اثنتين :
1- الترديد والتفريق
يردد هذه الحروف مفرقة ومجتمعة فيتقنها ، ثم يفرق فيما بينها ، فيفرق بين الحروف التي تختلط عند بعض الناس أو لا يحسنون نطقها مثل الذال والثاء والطاء على سبيل المثال ، وبين الزاي والسين والصاد ، وبين الشين والجيم وغيرها من الحروف المختلطة ؛ فإنه إذا ردد هذه الأحرف - كما سنذكرها - على منهج معين أتقن الحرف من جهة ، وميز وفرّق بينه وبين الحرف الآخر من جهة أخرى.
2- التجريب والتوصيل(/2)
بحيث يجرب نطق هذه الأحرف في كلمة أو كلامات موصولة فيضبطها نطقاً وحركةً وتشديداً ومداً ، ويضبطها كذلك رسماً ؛ لأنه على هذه الطريقة يأخذ الكلمات في هذا التطبيق من كلمات القرآن الكريم برسمه المعروف ، فحينئذً يكون قد تجاوز المرحلة الأولى وهي أن يعرف الحروف وحركاتها وصلاتها وينطق ويلفظ الكلمات القرآنية صحيحة نحن في دائرة الكلمات فحسب هذا يتلقاه في المناهج أو الكتب المنشورة المعروفة في هذا الباب مثل " القاعدة البغدادية " ، و" القاعدة النورانية " وغيرها ..
هذه تعتمد على الحروف التي ربما بعض الناس يرون أنها لا تصلح ، ولكننا نقول إنها تصلح وتصلح وتصلح ، وهي التي تقيم الألسن وتعودها على صحة النطق .
هذه الأحرف التي يرددها الصغار فيقولون : " باء فتحة باء ، وباء كسرة بي ، وباء ضمة بو " ، ثم يصلونها بكلمات أخرى أو بحروف أخرى ، ثم ينطقون كلمات قرآنية .. هذه تلين الألسنة للقرآن وتحسن إتقان الحروف من مخارجها وضبطها بحركاتها ووصلها بغيرها، والقاعدة النورانية مضبوطة في طبعة جيدة بحروف كبيرة وملونة ، بحيث تعين الذي يدرسها ، ومعها شريط مسجل يطبق هذه القاعدة ، ويطبق هذه الحروف بصوت ، فيجتمع مع القراءة الصوت ، قد يقول البعض : " إن هذا يعني كأننا لا نعرف القراءة ؟! " نقول : نحن نقول ذلك لمن لا يحسن ولا يتقن تلاوة القرآن ، وكثير من الناس لا يكاد يحسن إلا قصار السور ، وإذا قرأ قصار السور أيضاً أخطأ فيها فهذا أنفع.
المرحلة الثانية في التلقين هي : مرحلة قراءة النصوص القرآنية
يعني يقرأ من القرآن وهنا يحصل به أيضاً أن ينتقل أو يبدأ بمرحلتين :
1- قصار السور
فيحرص على أن يردد وأن يتلقن ممن يعلمه ويلقنه من المتقنين القراء ؛ بحيث يتلقن قصار السور في أول الأمر استماع وترديد ومطالعة وتأكيد ، يستمع ويردد حتى يتقن اللفظ ويطالع ويأكد على سماعه قراءته حتى يتأقلم ويألف رسم القرآن ويعرف إشاراته ومختصراته المعروفة ، ثم يقرأ أيضاً في السور المتوسطة بعد ذلك قليلاًً حتى ينطلق لسانه ، وفي هذه المرحلة يبدأ بالاستماع والترديد ، لكنه بعدها يأخذ بالابتداء والتجديد ، يعني يبدأ بالقراءة من عند نفسه والشيخ يستمع له ويصحح ، هذا بالنسبة للطريقة الأولى في التصحيح وهي التلقين ، وهي الأتم الأكمل ، وهي لمن كان مستواه في غاية الضعف أو في مبتدأ الأمر.
2- طريقة الاستماع
يستمع ويردد مباشرةً بدون أن يبدأ بالحروف ، وبدون أن يبدأ بالحركات ، وهذا يكون غالباً لمن هو في مرحلةً جيدة يعرف القراءة وينطلق لسانه بها إلى حدٍ كبير ، لكنه يحتاج إلى إقامة اللسان ولينه بالقرآن ، وهذا يفيده المصاحف المسجلة بطريقة المصحف المعلم الذي يقرأ ثم يسكت حتى تردد ما قرأه على نفس الطريقة ، وبنفس الإجادة والإتقان ، ومن هذا مصحفٌ للشيخ الحصري - رحمه الله - اسمه " المصحف المعلم " كاملاً بهذه الطريقة ، وفي إذاعة القرآن " كيف تقرأ القرآن " للشيخ عبدالباري محمد - وهو أيضاً الآن مصحف كامل يباع في الأسواق - يفيدك ، إذ هو يقرأ ثم يقرأ بعده جملة من التلاميذ يرددون وراءه بإتقان جيد ، وصوت واحد ، فإذا رددت معهم أو إذا استمعت للشيخ ولترديد التلاميذ كان ذلك أعون لك على معرفة القراءة ، وتستمع وأنت تمسك المصحف ، فتجمع إلى حسن السماع والإتقان المخارج ، وتجمع إلى ذلك معرفة القراءة وضبط الرسم الذي يعينك بعد هذا أن تقرأ قراءتك دون معين خارجياً إلى حداً ما ، هذا بالنسبة للطريقة العملية.
نأتي إلى البرنامج ، وماذا نعني بالبرنامج ؟
قلنا في الدرس الذي مضى أننا نريد أن نوزع الأوقات وأن نحسبها ، ونتذكر ما قلناه بأن الجمع إضافة ، وأن الضرب مضاعفة ، وأن القسمة تجزئة .. نريد أن نجعل برنامجاً مجدولاً يمكن أن نوزعه على الأيام وعلى الأشهر والأعوام ، وبالتالي نلتزمه ونأخذ به ، فنصل إلى نتيجة .
هنا - على سبيل الإجمال - مرحلة التلقين الأولى التي فيها هذه القاعدة النورانية أو غيرها ، إن كان سيعطي لنفسه ساعةً في كل يوم ؛ فإنه يحتاج إلى نحو شهرين ونصف ليتقن هذه الحروف وطريقة أدائها بشكل جيد جداً ، وإذا أخذ بساعة كل يومين - يعني ثلاثة أيام في الأسبوع - فإنه يحتاج إلى نحو أربعة أشهر ، وليس لمضاعفة شهران ونصف خمسة أشهر ، لماذا؟ لأنه وإن كان المدة أقل لكنه مع السير سوف يختصر كثيراً مما يحتاج إليه في البداية .
وإن اختار أن يكون درسه أو وقته لا يتيح له إلا ساعة في الأسبوع ؛ فإنه يحتاج إلى ثمانية أشهر حتى يتقن ذلك بإذن الله ، وقد يقول قائل : إن هذه مدة طويلة ! فنقول : خذ بها ستنتهي ، وكم من الناس عنده هذه المشكلة ، وهو إلى الآن قد مضى عليه خمس أو عشر سنوات ، وهو لم ينتقل من مرحلة إلى أخرى ! خذ نفسك ببرنامج وإن طال ؛ فإن ثمرته في أخر الأمر ملموسة محسوسة .
أما مرحلة التلقين الثانية وهي : قراءة السور وترديدها(/3)
فإنه كما قلنا يأخذ السور القصار من سورة الضحى - مثلاً - إلى الناس ، وعدد هذه السور اثنان وعشرون سورة ، لو أخذ أيضاً ساعةً في كل يوم ؛ فإنه يحتاج إلى أسبوعين ، وإن أخذ ساعة في كل يومين ؛ فإنه يحتاج إلى شهر ، وإن أخذ ساعة في الأسبوع ؛ فإنه يحتاج إلى شهرين برنامجه إذا أخذ الساعة في اليوم في المرحلة الأولى ، والثانية في شهرين ينتهي من الأمر كله من حيث الحروف ومن حيث تلاوة هذه السور ، وإن أخذ ساعة في كل يومين فخمسة أشهر ، وإن أخذ الثالث فعشرة أشهر الحد الأقصى الذي يتقن فيه هذا .
لكن هل هذا يكفي ؟ نقول : كلا ! إن الذي يريد أن يحفظ ولا زال بعد هذا يحتاج إلى إلى أن يقرأ ختمةً كاملةً قراءةً مصححة وهذا أتم وأفضل ؛ لأن القراءة تلقين ، وبعض المواطن قد يحتاج فيها إلى معرفة قراءتها ؛ لأن قراءتها تختلف عن ما هو ظاهر في القرآن من الكتابة ، فبعضه فيه الإمالة مثل " مَجْرَاهَا " ، وبعضه فيه كلمات تنطق بزيادة أو بنقص أو نحو ذلك يتعلمها وإن كان هذا ليس بالضرورة لكل أحد ، قد يقرأ خمسة أجزاء ثم يكون قادراً على أن يقرأ بعد ذلك قراءة صحيحة ، ومع ذلك وضعنا الجدول والبرنامج لمن يريد أن يختم ختمةً كاملة قراءة تصحيح ؛ فإنه لو أخذ صفحةً واحدةً يقراءه على الشيخ أو يقرؤه الشيخ إياها في كل يوم ؛ فإنه يحتاج في البداية إلى نصف ساعة في كل يوم ، لكنه حينئذ هذا الوقت سيكون معين له على قوة وجودة القراءة من بعد ، وبهذا سيحتاج الجزء - وهو عشرون صفحة - عشرين يوماً ، فإذا أخذ خمسة أجزاء سيحتاج إلى ثلاثة أشهر إذا اكتفى بذلك ، وإلا يأخذ خمسة أجزاء أخرى ستكون عدتها أو مدتها شهر ونصف لماذا ؟ لماذا شهر ونصف وليست ثلاثة أشهر؟ القراءة تحسنت فأصبحت النصف ساعة التي يقضيها في كل يوم يقرأ فيها صفحتين لا صفحة واحدة ، ثم إذا أخذ بعد ذلك وأراد أن يستمر ؛ فإنه سينهى عشرة أجزاء ، إذا أراد العشرة الثانية فإنه بتجربة إن شاء الله ينهي في النصف الساعة خمس صفحات قراءة مصححة ، وبالتالي العشرة أجزاء الثانية سيأخذها في شهرين ، وإذا استمر وأراد أن يتم العشرة الأجزاء الأخيرة ؛ فإنه سيقرأ في النصف ساعة عشرة صفحات ، ومعنى ذلك أنه سيقرأ العشرة أجزاء في شهر واحد ، إذ المصحف كاملاً ثلاثون جزءاً يتمه بهذه الطريقة في ستة أشهر ونصف ، يكون قرأ قراءة صحيحة كاملة ، وهذه هي الخطوة الأولى أو البرنامج الأول.
البرنامج الثاني : برنامج الحفظ
الله جلا وعلا يقول : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون * بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآيتنا إلا الظالمون }، فحفظ القرآن في الصدور من أعظم النعم ومن أعظم الأعمال الفاضلة التي يعظم بها الأجر من كثرة القراءة أثناء الحفظ ومن تيسر القراءة بعد الحفظ ، إضافة إلى ما يكون من جراء ذلك كما قلنا من أثر محمود على القلب والنفس ، ولقد امتدح الحق - جلا وعلا - أولئك فقال : { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارةً لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفورً شكور } ، وقد قال الحق - جلا وعلا - ليكون ذلك معين لنا على العمل : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } ، إنه ميسر والدعاء والترغيب والحث والحظ قائم بقوله : {فهل من مدكر }، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِى الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا ) .
إذاً هذه مقدمتنا التي نحث فيها ونشجع ، أما الطرقة العملية فقد أشرت من قبل إلى أنها يمكن أن تكون على وجهين ولا أحبذ هنا قبل أن نبدأ في ذكر الطريقتين لا أحبذ تكثير الطرق في عرض حفظ القرآن لأن بعض الناس قد صنع في ذلك كتباً أو توجيهاً ذكر فيها أكثر من عشرين طريقة وأحسب أن الحفظ ملكة ومهارة لا تحتاج إلى كثير من هذه الطرائق ، بل بعض هذه الطرائق في الحقيقة وإنما هو وسيلة لطريقة حقيقية ، فلذلك نحن نقول عندنا طريقتان :
الأولى : طريقة الحفظ بالصفحة والمقطع
وهي التي قد بينها من قبل التي يقرأ فيها المرء صفحته الكاملة أو مقطعه المقرر للحفظ ، يقرأه قراءة متأنية مضبوطة ، ويعيد هذه القراءة مرة ثانية وهو متأمل مستحضر ذهنه ، ويعيدها ثالثة وهو مؤكد على محاولة حفظها ورسمها في ذهنه ، ويعيدها رابعة أو خامسةً إن شاء ، لكنه يمكن أن يبدأ بعد القراءة الثالثة .(/4)
وأفضّل لعموم الأخوة أن يبدأوا في التسميع بعد الخامسة – أي بعد خمس مرات – يقرأ الواحد قراءة للصفحة ، يبدأ بعد الخامسة يغلق مصحفة ويقرأ صفحته من حفظه ، فهل ترونه يحفظها ويسمعها بعد ذلك كاملة؟ الجواب : لا ! سيقف وقفةً أو وقفتين أو ثلاثة ، والغالب أنه لا يزيد عن ثلاث أو أربع وقفات ، كلما وقف فتح المصحف ونظر حيث وقف أو حيث تعثر وواصل فيعيد بعد ذلك تسميع هذه الصفحة مرةً أخرى ، فالمواطن التي وقف فيها ونظر لن يعيد الخطأ فيها ، قد يبقى من هذه الثلاثة أو الأربع خطئان يتوقف عندهما ثم إذا جاءت الثالثة ؛ فإنها في غالب الأحوال يكون حفظه للصفحة قد كان متقناً ومجوداً وجيداً فيعيدها في مقامه ذاك ثلاث مرات أو خمس مرات بهذه الطريقة يحفظ الصفحة كاملة كأنها لوح كامل .
وهذه الطريقة عموماً نقولها هنا وقلناها أيضاً في التصحيح ، عندما قلنا في قضية الاستماع بدل تلقين الجزء الأفضل الاستماع لكامل الآية وترديدها ، هذه الطريقة الكلية التي تنظر إلى الشيء كله ولا تجزئه أجزاءً هي الأقوى والأكثر استقراراً حتى في تعلم اللغات " التعلم بالحروف " إذا أردت أن تتعلم لغة وتبدأ تتعلمها بالأحرف المفردة ، يطول أمد تعليمك ولا يكون تعلمك لها بالقوة ، لو أنك بدأت بتعلم الكلمات والأساليب مباشرة ؛ لأنها مع بعض المساعدات تجعلك تفهم الكلمة في سياقها وتفهم مع السياق الأساليب والتراكيب والجمل الرابطة ونحو ذلك وليس هذا مقصودنا الآن.
إذاً حفظ الصفحة على هذا النحو له مزايا عديدة منها أنه يكون الحفظ أقوى ربطاً ، فالآيات مترابطة ليس بين الآيات توقف أو تلكأ لماذا ؟ لأنه حفظها كلها كلوح واحدٍ وكنص واحد فهو يسترسل من أول الصفحة إلى أخرها بدون توقف.
والثاني : أن هذه الطريقة أوضح تصوراً ، فهو يتصور الصفحة كاملة من مبتدأها إلى منتهاها ، وإلى تجزئة آياتها ؛ لأنه أعادها مراراً في صورة ذهنية واحدة ، فيعين ذلك مع الحفظ على التصور كلهما يخدم بعضه بعضاً ؛ فإنه قد يقرأ الصفحة وفي ذهنه أنه بقي منها آية ، في الأسطر الثلاثة يحفظ الصفحة التي بعدها لكنه الآن لا يستحضر هذه الآية ، ولا يستطيع أن يتجاوزها ؛ لأنه يعرف أن هناك نقصاً ساعده على استحضار هذا النقص ، وربما يقوده التصور إلى أن يستذكر ويواصل حينئذٍ هذا المقطع أو تلك الآية دون حاجة أن يرده أحد.
الطريقة الثانية : طريقة الآية
أن يجعل الوحدة للحفظ هي الآية ، فالذي يقرأه ويردده بالطريقة التي سبقت ليس الصفحة كاملة ، وإنما الآية واحدة يقرأها مرةً وثانية وثالثة ثم يعيدها ، وإذا أخطأ يعيدها حتى يحفظها ، ثم يقرأ الثانية ويفعل بها كذلك ، لكن لا بد أن يربط الأولى بالثانية ، وإذا حفظ الثالثة أعاد الأولى والثانية والثالثة ولا يقول إنني قد حفظت الأولى جيداً فلا أحتاج إلى إعادتها ؛ فإن هذا وهم يظنه لأنه قد سمعها أو رددها قريباً لكن لا يثبت الحفظ إلا إذا ماتم التكرار ، وهذا أمر بيّن عيب هذه الطريقة لمن لا يعتني بوصل الآيات أنه عند أخر كل آية يقف ؛ لأنه حفظ هذه الآية وحدها ما التي بعدها إن لم يجد الربط يقف حتى تلقيه أول كلمة من الآية فينطلق حتى أخر الآية ، ثم يقف حتى تعطيه الكلمة فينطلق فلا يعرفه الطلاب الذين يحفظون بهذه الطريقة في كل مرةً يقف يأخذ أول الآية ، والذي لا يحسن ربط الصفحات أيضاً في الطريقة الأولى يقف عند نهاية الصفحة حتى تعطيه كلمة من الصفحة التي تليها فينطلق ، لكننا نحن نقول : في السطر طريقة الصفحة إذا بدأ في الصفحة الثانية فليبدأها من الآية الأخيرة من الصفحة الأولى حتى يربط فيما بينهما ربطاً ، وسنرى ذلك أيضاً في برنامج التمكين والمراجعة إن شاء الله.
هناك مساعدات لهذه الطريقة منها :
1- الكتابة
لمن أراد فإن تعاضض الحواس على النص الواحد يجعله أقوى في الحفظ ؛ فإنه يقرأ بعينه ويحسن به أن يرفع صوته بالقراءة ليسمع نفسه ، فهذا يعين على تواطئ القلب واللسان ، فإذا زاد إلى ذلك أنه كتب هذه الآيات كما نرى بالذات في أفريقيا وفي غيرها يكتبون على الألواح ما الغرض من الكتابة هو أن يحفظ وأن يكتب فيكون هذا الكتاب كأنما هو ينقش الآيات في قلبه وصدره ، ولذلك ماذا يصنعون بهذه الألواح في الغالب ؟ عندهم ألواح يكتبون عليها بنوع من الحبر الذي يزال ، فإذا انتهى من ألواح انتهى من الفرض اليومي ماذا يصنع؟ يغمس ألوح في الماء فيمحوه لماذا؟ يمحوه من ألوح لأنه قد حفظه في لوح قلبه وانتهى بهذا لا يمحو ألوح حتى يكون ما فيه قد سطر ونقش في قلبه فلا يكاد ينسى منه شيئاً.
2- السماع : كثرة السماع استمع للقرآن الذي تحفظه استمع للأشرطة وأنت ذاهب وأنت قادم ؛ فإن كثرة السماع مع الحفظ تعضضه وتقويه وتثبته بإذن الله عز وجل.
3- التسميع :(/5)
لا تقنع بأن تقرأ لنفسك وتصحح ؛ فإنك أحياناً تغفل ، وإنك أحياناً تظن أنك مصيب وأنت مخطئ ، وإنك تنتقل في الآيات إلى موضع آخر دون أن تنتبه فإذا استطعت بين فينة وأخرى أن يستمع لك غيرك فهذا مما لاشك فيه أنه نافع ومفيد.
ننتقل إلى الجدول الجدول الزمني وتقسيم الأجزاء وهذه الجداول لمن أراد أن يأخذ البرنامج ويلتزمه فيصل إلى النتيجة في آخر الأمر ، وإذا وصل يدعو لمن أعانه بأن يشاركه في الأجر ، وأن يمن الله - عز وجل - عليه بالمثوبة .
هذا البرنامج لم أشأ أن أفصل فيه كثيراً جعلته في جانبيين أو برنامجين إما أن يكون قد قرر على نفسه نصف صفحة في اليوم أو صفحة لأن نصف الصفحة سبعة أسطر ونصف ، ونحن نتوقع الذي يبدأ بالحفظ يكون قد أتم التصحيح ، فقراءته إذاً سلسة وليست صعبة ، وصحيحة وليست خاطئة ، وسبعة أسطر ونصف يعني ليست بشيء كثير ، كم يستغرق في حفظ نفس الصفحة بالطريقة التي قلناها لا أقول للمستوى المتوسط بل حتى دون المتوسط يستغرق نحو عشرين دقيقة ، لا يقولن أحد إن عشرين دقيقة قليلة !
أقول هذا وقت كافي لمن أراد أن يحفظ ، أما إذا كان مسك المصحف يسمع هنا ، ويتكلم مع هذا ، وينظر إلى هذا ، ويكتب كلاماً ، ويرد على الهاتف ، فهذا يحتاج إلى أربعمائة دقيقة وليس إلى عشرين دقيقة ؛ لأنه لم يتفرغ لهذا الحفظ ..
لذلك عشرين دقيقة كافية لنصف صفحة في اليوم ، إذاً كم يحتاج الجزء - الذي هو عشرين صفحة - منه من الدقائق ، وكم يحتاج من الأيام ، انظر الرياضيات وجدول الضرب .. قلنا نصف صفحة عشرين دقيقة ، العشرين صفحة ( 800 ) دقيقة ، ليست هناك مشكلة ، إذن كم هي الأيام ؟ إذا كان يحفظ نصف صفحة في يوم ففي كم يوم يحفظ عشرين صفحة التي هي الجزء ؟ أربعين يوماً لكنهم نسوا ما قلناه في الدرس الذي مضى ، قلنا: الطرح احتياط ، نطرح أيضاً مدة من الزمن ، ونقول يحتاج إلى شهر ونصف خمسة وأربعين يوماً ، خمسة أيام زايدة للني لم يؤدي المطلوب ، وهناك أيام جمعة ، هذا احتياط حتى لا يبدأ في برنامج ثم يخرب هذا البرنامج ويحطمه من المرة الأولى ، لا بد أن يكون هناك حساب دقيق واحتياطيات حتى لا تنخرم هذه الميزانية ، ولتكون دقيقة بإذن الله عز وجل ، إذاً أنهى جزءًا في شهر ونصف ، المرحلة التي يريدها أربعة أجزاء يريد أن يحفظها بالطريقة التي قلنا " نصف صفحة في عشرين دقيقة " ، يحتاج إلى ستة أشهر ونصف للأربعة أجزاء ، وعنده شهر ونصف من قبل الجزء الأول ، أصبحت الخمسة أجزاء في كم؟ في ثمانية أشهر هذه المرحلة الأولى.
ثم نأخذ مرحلة ثانية وهي : عشرة أجزاء
بنفس المعدل إذا أخذناها بالدقائق تحتاج إلى ثمانية آلاف دقيقة ، يقسمها على الستين حتى تعرف الساعات ، لكن يهم من الأيام عشرة أجزاء ستستغرق منه مع الإضافة مع الاحتياط ستة عشر شهراً - سنة وربع السنة – لا حظوا إذا حسبتم ستلاحظون أن هذه المدة أكثر قليلاً من المدة التي سبقت ، لو أخذناها بنفس الحساب لماذا ؟ لأن الرصيد يكثر الآن ، فلو جعلنا نفس المعدل سوف نجعل عملنا كالقربة المخروقة نحفظ من هنا ويخرج من هنا ،ولا نخرج بنتيجة ، لا بد أن نزيد في المدة بقدر يدخل معه برنامج المراجعة الذي سيأتي ذكره لاحقاً ، حتى لا يأتيني أحد في اللقاء القادم - مثلاً – ويقول : أنا حسبت ووجدت أن هناك فرق في المدة المدة الزائدة مقصودة لذاتها .
إذاً العشرة الأجزاء في المرحلة الثالثة بعد هذه العشرة الأجزاء .
خمسة عشر جزءاً في الأولى ، نأخذ الآن عشرة أجزاء أيضاً ، وبنفس الطريقة والمعدل لا نعطيها ستة عشر شهراً ، ولكن ثمانية عشر شهراً - سنةً ونصف السنة - زيادة شهرين كاملين ؛ لأننا نعلن أن هذا يحتاج إلى ذلك الخمسة أجزاء الأخيرة ، ولماذا نقول خمسة أجزاء أخيرة ؟ لأن منطقة الوسط منطقة قوة في آخر الأمر يريد أن ينتهي ، ويريد أن يعجل ، فلو جعلنا له الأخيرة طويلة لربما فتر ، أو ربما تعجل ، ننظر إلى هذا حتى في مناهج مقررات مدارس التحفيظ ، يجعلون القدر أحياناً متناسقاً بهذه الطريقة ، الخمسة الأجزاء الأخيرة يحتاج فيها إلى ثمانية أشهر بالمعدل الذي ذكرناه مع الزيادة والاحتياط ، طيب .. ثلاثون جزءاً عدتها بالدقائق أربع وعشرون ألف دقيقة ( أربعمائة ساعة ) ، هل تعتقدوا أن أربعمائة ساعة كثير ، لو قسمتها على أربع وعشرين ساعة ستعطيك أياماً محدودة ، فجملة الزمن ليس كثيراً لمن تأمل ، لكن تفريقه مهم حتى يتشرب ويحفظ شيئاً فشيئاً ، المدة كاملة بهذا الحساب أربع سنوات .
ونحن نضيف عليها أيضاً نصف سنة ، فنقول : إن المجموع أربع سنوات ونصف ، إذا كان يحفظ نصف صفحة هل نصف صفحة قليل أم كثير ؟ ليست كثير ، ومع ذلك - كما قلت - قد يقول بعض الناس نصف صفحة قليل ، خذ نصف صفحة وأربع سنوات ونصف وتختم .(/6)
وكنت قد طلبت من أحد مدرسي التحفيظ أن يساعد في وضع الجداول فصنع شيئاً لكنه لم يصلني ، و أخبر عن قصة رجل في السبعين من عمره ، عزم على حفظ القرآن ، ونحن نعرف أن رجلاً في السبعين ممكن أن نقول يتزوج يقع منه ، أراد أن يسافر يقع ، لكن في السبعين يفكر يحفظ ماذا يقول الناس ؟ يقولون : لا يمكن ..
فوضع برنامجاً وحفظ وأتم الحفظ وهو ابن خمسة وسبعين عاماً ، أي في خمس سنوات ، وهذا واقع وهو حقيقة ليس خيالاً.
البرنامج الثاني هو : إذا أراد أن يحفظ صفحة في اليوم
والصفحة أيضاً ليست كثيرة ، وهذا ربما يكون للطلاب ولصغار السن .. الفروق موجودة الكبير حدة ذهنه أقل ، وكثرة مشاغله أكثر ، الصفحة في اليوم الواحد تستغرق ثلاثين دقيقة - كما قلنا - بحد زايد ودون المتوسط .
ثلاثون دقيقة على الطريقة التي قلناها في كل يوم ، الجزء عشرون صفحة مفترض أن يأخذ عشرين يوماً ، نحن نقول يأخذ شهراً كاملاً ، حتى يكون هناك احتياط ، أو خمسة وعشرون يوماً ، الأربع الأجزاء التي تلي هذا الجزء الأول ستأخذ كم من المدة؟
المفترض عشرون صفحة تأخذ عشرين يوماً ، لكن جعلناها خمسة وعشرين ، وإن أردت شهراً فلا بأس ، ثم الأربعة أجزاء من المفترض أن تأخذ ثلاثة أشهر ونصف ، نحن نجعلها أربعة أشهر ، ويكون مع ما مضى المجموع أربعة أشهر ونصف كاملاً للأجزاء الأولى ، ثم يأخذ المرحلة الأولى عشرة أجزاء ، لكن - كما قلنا - سنزيد فيها من حيث المدة .
العشرة أجزاء من المفترض لو أخذنا جزء في الشهر وأجملنا أو رأينا الإجمال فهناك يكون عشرة أشهر ، لكننا نقول أحد عشر شهراً ، والعشرة الأجزاء الثالثة اثنا عشر شهراً ، يعني سنة كاملة - يزيد على المدة المعتادة شهرين - الأجزاء الخمسة الأخيرة مفترض في خمسة أشهر ، نحن نقول في ستة أشهر ونصف ، إجمالي الجدول ثلاثون جزءاً في ثمانية عشر ألف دقيقة ( ثلاثمائة ساعة ) ، ( أربعة وثلاثين شهراً ) ، ( سنتان وعشرة أشهر ) بالتمام والكمال ، وإن أردت أن تضيف الشهرين ستكون في ثلاث سنوات ، وهذا يكون كاملاً بإذن الله عز وجل.
البرنامج الثالث : برنامج التمكين
ونعني به تمكين الحفظ والنصوص أيضاً فيه كثيرة ؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول : ( تعاهدوا القرآن ؛ فإنه أشد تفلتاً من الإبل في عقلها ) وفي رواية : ( تفصياً ) يعني يتفلت ويهرب .
والنبي عليه الصلاة والسلام أخبر فقال : ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ) ، فلا بد من أن يكون الحفظ متيناً وجيداً من البداية ، وإن لم يكن ذلك كذلك ؛ فإن هناك عرج دائم وخللٌ مستمر ، وتصدعٌ ظاهر ، كالذي يبني البيت بسرعة ؛ فإنه يتصدع ، والسباكة تخرب ، والنجارة تتعطل ، فما يزال يصرف عليه في صيانته ، وما يزال يتعب ويقلق ويتنكد من هذا ، مما لو أنه زاد في الوقت ، أو زاد في المال أو أتقن في العمل لارتاح من ذلك كله ، وهذا مطرد في سائر أعمال الحياة.
الطريقة العملية عندنا أيضاً فيها مرحلتان :
المرحلة الأولى :مرحلة ضبط الحفظ في موضعه
يعني في الحصة التي يحفظها في القدر الذي قرره في هذا اليوم ، بعيداً عن التمكين الذي يجمع الأجزاء الكثيرة أو الكم الكبير هذه الطريقة تحتاج منه إلى عدة أمور :
1- المتانة الأولية
ونعني بها أن لا يقبل في حفظه الأول لمقطعه أو صفحته أي خطأ أبداً ، وأن لا يعد نفسه قد حفظ حتى يكون محفوظة الجديد مثل حفظه وإتقانه للفاتحة ، ولا يرضى بدون ذلك ، طلاب التحفيظ يحفظون الصفحة وفيها خطأ أو خطأين يقولون : لا بأس ، غداً أو في المراجعة لا نريد أن يكون كذلك ؛ فإن الخلل في الأصل يبقى أثره ممتداً.
2- المطابقة التقابلية
وأعني بذلك الحفظ الجديد ، يحسن أن تقابله مع غيرك فتسمّع له ؛ لأنه أحياناً يسبق النظر مع العجلة ، فتقرأ الكلمة وتحفظها وتسمعها بنصها أو بضبطها بطريقة خاطئة وأنت لا تشعر ، وكثيرون ممن حفظوا يعلمون أن هناك مواطن حفظوها مع العجلة على غير صوابها ، فما يزالون كلما مروا بهذا الموضع أخطأوا ذلك الخطأ .
ولذلك لا يجبر هذا الخطأ ويصحح إلا من البداية ، إذا جعلت غيرك يستمع لقراءتك وإلى حفظك صوبك في أول الأمر وسدد لك ذلك مباشرةً.
3- المداومة التتابعية
ونعني بها أن الحفظ الجديد لا بد أن يدمن قراءته وتسميعه لنفسه في يومه ذاك ما استطاع من المرات ، الصفحة التي حفظها صباح هذا اليوم أو ضحى هذا اليوم خلال الأربعة وعشرين ساعة التي بعد حفظه لا بد أن يكررها ما استطاع أن يقرأها ، في صلاة نافلته ، أو وهو سائر يقرأها ، أو عند نومه يقرأها عند يقظته ولا يقرأ غيرها في ذلك اليوم ، يدمنها حتى تكون عندها أحفظ شيء ، وأتقن شيء في الحفظ .وهذا لا بد منه في التمكين .(/7)
النصف ساعة التي قلناها ذلك هو الحفظ الأول ، لكن هذا التمكين يأخذ من الوقت مالا يحتاج إلى جهد ، ولا يحتاج منك أن تمسك المصحف ، ولا أن تغلق الباب ، ولا أن تتفرغ ، ولكن وأنت ذاهب وأنت آتٍ ، وأنت رايح وأنت غاد ، اقرأ وأنت تصلي في نافلتك ، وأنت تصلي في وترك ، وأنت تصلي في قيام ليلك ، في كل وقت اقرأ واقرأ واقرأ وأعد ، حتى تصبح هذه المواصلة جيدة.
4- المواصلة المنهجية
وهو أن يواصل هذا التمكين والتمتين أولاً بأول ، مع محاولته قدر الاستطاعة أن يربط هذا التمكين بما يستطيع من تأمل وفهم للمعاني ، وهذا منهج جيد لأنه يعينه على هذا كثيراً.
العوامل المساعدة لهذه الطريقة في هذه المرحلة الأولى هي :
القراءة في النوافل
كما قلنا القراءة المستمرة القراءة المحرابية ، أن يصلي بغيره إمام ؛ لأن صلاة المحراب لا بد أن تكون فيها متقناً وحافظاً والقراءة الجهورية أن يرفع صوته بالقراءة إذا خلا بنفسه ، وأن يعيد هذه الآيات بالصوت العالي ؛ فإن هذا أيضاً يتقن وكذلك السماع المستمر إذا استمع إلى الآيات التي حفظها ، والسورة التي حفظها ، وهو يستمع لها كثيراً ؛ فإن ذلك يضبط بإذن الله - عز وجل - هذه المرحلة الأولى للحفظ الأدني.
أما الحفظ الشامل فهناك مرحلة ثانية وهي : التي تتعلق بأمرين اثنين المتشابهات والمنفردات
المتشابهات نحن نعلم أن الله عز وجل قال : { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } ، من معاني هذه الجملة في التفسير أنه يشبه بعضه بعضاً ، وكثيرة هي الآيات التي لا يختلف بعضها عن بعض إلا في حرف واحد ، أو في تقدّم كلمة على كلمة ، وليس هذا موضوع حديثنا.
وقد خرجت كتب كثيرة تجمع الآيات المتشابهة بنفس رسم المصحف في مكانها ، هذا بعد أن تحفظ الأجزاء أو تحفظ السور الطوال ، وتبدأ عندك متشابهات ما بين سور البقرة وما بين سورة الأعراف ، ومتشابهات ما بين التوبة وما بين الصف ، تبدأ حينئذٍ تنظر إلى هذه الكتب ، وهي تجمع لك الآيات المتفرقة في موضع واحد مع اختلافها ، حتى تتقنها وتميز الفرق بينها وتعرفها .
والمنفردات نعني بها الآية التي هي في القرآن على سياق واحد ، لكنها في موضع واحد انفردت بصياغة أو بسورة مختلفة عن غيرها ، كقوله تعالى : { جنات تجري تحتها الأنهار } ، موضع واحد في القرآن في سورة التوبة ، وكذلك { ما أهل به لغير الله به } في موطن واحد ، وهكذا يعرف الموطن الواحد فيعرف موضعه من السورة فيضبطه فلا يكاد يخطئ فيه بإذن الله - عز وجل - الوقت يدركنا ، ولذلك نختصر في هذا ، وربما بعض التفاصيل قد سبق ذكرها كما قلت في ذلك الدرس السابق .
البرنامج الأخير الذي نريد أن نقف عنده : برنامج المراجعة
وقبل أن أبدأ فيه أقول : خذوا ما ذكرناه في السابق ، أي في هذه البرامج الثلاثة بقوة ؛ فإن أخذتم به بقوة كانت المراجعة أيسر ما يكون من أتقن التلاوة تصحيحاً ، ومن ضبط الحفظ إيجادة ، ومن مكنه توفيقاً وتمتيناً لا يحتاج بعد ذلك من المراجعة إلا إلى شيء يسير بإذن الله عز وجل .
وفي المراجعة أيضاً نصوص ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( عرضت علي ذنوب أمتي فرأيت من أعظمها رجل حفظ شيئاً من القرآن ثم نسيه ) ، والمعاهدة التي ذكرت في الحديث أيضاً تدل على هذا ( تعاهدوا القرآن ؛ فإنه أشد تفلتاً - أو تفصياً - من الإبل في عقلها ) ، والمعاهدة أن يبقى الإنسان على العهد فيرد ويرجع مرة بعد مرة المراجعة على مراحل .
المرحلة الأولى : المراجعة المبدئية الأولية
أي في أوائل بداية الحفظ ، عندما يبدأ يحفظ الصفحة والثانية ، وكذا نقول لا بد أن يربط وأن يراجع الصفحة الأولى مع الثانية ، والأولى والثانية مع الثالثة ، والأولى والثانية والثالثة مع الرابعة ، والأولى والثانية والثالثة والرابعة مع الخامسة ، خمس صفحات لا ينبغي له أن يتنازل عن ربطها ببعضها ، وصلتها ببعضها عند حفظه الجديد .
ومعنى ذلك أنه إذا حفظ خمس صفحات في كم يوم سيعيدها ويسمعها ويراجعها ؟ يوم واحد ؛ لأننا قلنا أنه لا بد أن يكررها ، فإذن هذه الخمسة لو توقف عنها بعد ذلك وبدأ في خمس جديدة فلا بأس ، ثم سيراجع العشر صفحات في كم ؟ في يومين ، ثم سيراجع العشرين في كم ؟ إذن الجزء الأول ينبغي أن يعيده في كل أربعة أيام مرة ، ماذا سيكون حال هذا الجزء في الحفظ والسهولة ؟ قوياً متيناً سهلاً واضحاً حاضراً في الذهن كل ذلك الإجابة عليها : نعم .. لا تستكثر وقتاً في ذلك ، ولا تقل الخمس كثيرة ، الآن سمعتها " نعم " أعدها ؛ فإن الحفظ يحتاج إلى الإعادة والمراجعة وهذه المرحلة الأولى .
المرحلة الثانية : التي كم قلنا يبدأ فيها بعشر صفحات بدل خمس صفحات(/8)
هذه عشر صفحات تصبح جدوله اليومي في القراءة والمراجعة عشر صفحات ، ففي كل يوم في الأسبوع ستة أيام سيراجع ستين صفحة ، إذن الحد الأجزاء الثلاثة مع الأول أربعة أجزاء ، يكفيه عشر صفحات في اليوم بحيث في كل أسبوع سوف يراجع كل ما حفظه إلى أربعة أجزاء تقريباً ، لا يتجاوز الأسبوع إلا وقد أعاد كل ما حفظه ، ما يمر الأسبوع من السبت إلى الجمعة إلا وقد كرر وراجع وسمع كل ما حفظه بدون ذلك .
خذوا البرنامج وطبقوه تجدوا النتيجة ، أم تريدوا النتيجة بدون ذلك ؟ أظن في غالب الأحوال أن لا تحصل إلا للمنفردين من الناس الذين ربما أتاهم الله - عز وجل - ملكات أو صدق في نيته فأعطاه الله عز وجل هبة لا يعرف لها تدبيراً ولا سبباً إلا إنها من نعم الله عز وجل عليه .
المرحلة الثالثة : خمسة أجزاء " مائة صفحة "
يكون حفظه أو مراجعته فيها خمسة عشر صفحة في كل يوم ، وفي سبعة أيام مائة وخمسة ، يعني هناك زيادة أيضاً عندنا احتياطية ، ففي الأسبوع أيضاً سيراجع الأجزاء الخمسة في مرحلته الثالثة ، خمسة مع الأربعة الأولى - التي قلناها - يضبط فيها ذلك .
المرحلة الثالثة إذا وصل العشرة أجزاء يكون حصته من القراءة والتسميع في كل يوم عشرين صفحة يعني جزء ، والعشرة أجزاء في عشرة أيام .
المرحلة الرابعة : إذا كان عشرين جزءاً
ينبغي أن تكون مراجعته وقراءته في اليوم ثلاثين صفحة ، يعني جزء ونصف ، بعض الناس يقول : هذا كثير ! نقول : كثير إذا أردت تتصور أنك ستفتح المصحف وتقرأ وتجد نفسك قد نسيت ، لكن إذا كنت قد سرت على الطريق ، فإن الثلاثين هذه كشربة الماء ؛ لأنك قد أدمنتها في أول التصحيح ، وفي الحفظ ، وفي التمكين ، وفي المراجعات السابقة .
إذا فإنها ستكون أيسر من اليسر نفسه ، سيأخذ في العشرين جزء ثلاثين صفحة يومياً ، في أربعة عشر يوماً سيكون أتم هذه العشرين جزءاً ، يعني في كل أسبوعين يمر على ما حفظه كله ، إذا أتمّ الثلاثين جزءاً حصته تكون أربعين صفحة يتمها في خمسة عشر يوماً - أي في أسبوعين - ثم ينبغي له إذا صنع ذلك كذلك أن يبقى وأن يختم قدر استطاعته على أقل تقدير خمس ختمات ، بمقدار هذا المعدل ؛ فإنه حينئذٍ - إن شاء الله - يكون قد أتم الحفظ على الوجه الصحيح التام لهذه البرامج الأربعة التي أشرنا إليها ، وأحببت أن يكون عندنا تركيز فيها حتى لا نتشتت .
وهناك طبعاً أمور كثيرة تعين على هذا - كما قلنا - الإمامة في الصلوات عموماً ، والاشتراك في برامج التحفيظ ومسابقاته الكبرى والصغرى ؛ لأن هذا يعين على ذلك ، وقيام الليل الذي هو دأب الصالحين ؛ فإنه من أعون الأمور على هذا من حيث إنه طاعة ، ومن حيث أنه في وقت مناسب وملائم .
وبقي أن أشير إلى أنسب الأوقات
أنسب الأوقات ما كان فيه المرء خالياً بنفسه من جهة ، وليس متصلاً بعمل سابق من جهة أخرى ، مثلاً عند الاستيقاظ من النوم - أي بعد الفجر - ليس هناك شيء شاغل له من قبل ، ولا شيء قد شغل فكره ، فيكون مهيأ لذلك أو عند النوم ؛ فإنه يكون قد أزاح كل ما سبق ، فعنده وقت قبل النوم في هدوءه وسكينته ، فكذلك يكون كذلك أو في منتصف النهار لمن يأتي إلى بيته ويقيل فقيلولته تكون فترة انقطاع عن الخلق ، وراحة وهدوء يمكن أن يستغل فيها نصف الساعة أو الساعة التي قلناها .(/9)
... ... ...
البركة ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- البركة هبة إلهية اختص الله بها بعض خلقه. 2- القرآن كلام الله وذكر بعض بركات هذا البركات. 3- بركة النبي . 4- بركة أولياء الله الآمرين بالمعروف الدعاة إليه. 5- بركة مكة والمدينة والشام واليمن. 6- بركة النخلة والتمر والخيل. 7- البركة في الصدق والسحور. 8- التمييز بين العطاء المحض والبركة فيه. 9- البركة لا يعطيها الله إلا للمتقين. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
البركة هي شيء من خير يجعله الله تعالى في بعض مخلوقاته.
والبركة كلها لله تعالى ومنه ،وهو المبارِك جل وعز بيده الخير كله ،والبركة كلها له ،وهو سبحانه يختص بعض خلقه بما يشاء من الخير والفضل والبركة كالرسل والأنبياء والملائكة وبعض الصالحين. قال تعالى: إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين وقال تعالى عن عيسى عليه السلام: قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وكذلك فضل الله بعض الأماكن على بعض وبارك فيها كمكة والمدينة والمسجد الأقصى ،وفضل بعض الأزمنة على بعض وبارك فيها ،كشهر رمضان وليلة القدر وعشر ذي الحجة ويوم الجمعة ،وأيضاً فقد أوجد جل وتعالى البركة في الأشياء كالمطر والسحور ونحوها. وإليك أخي المسلم تفصيل هذا الإجمال:
فالقرآن ،كله بركة قال تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون وقال سبحانه: وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون قال ابن القيم رحمه الله: "وهو أحق أن يسمى مباركاً من كل شيء لكثرة خيره ومنافعه ووجوه البركة فيه". ويقول صاحب الظلال رحمه الله وهو يصف بركة القرآن:
إنه مبارك في أصله ،باركه الله وهو ينزله من عنده ،ومبارك في محله ،الذي علم الله أنه له أهل، وهو قلب محمد ، ومبارك في حجمه ومحتواه، فإن هو إلا صفحات قلائل ولكنه يحوي من المدلولات والإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات في كل فقرة منه ما لا تحتويه عشرات الكتب. وإنه لمبارك في أثره وهو يخاطب الفطرة البشرية بجملتها خطاباً مباشراً عجيباً لطيف المدخل ،فيفعل فيها ما لا يفعله قول قائل. انتهى كلامه رحمه الله.
ومن بركات القرآن أنه رقية ،وأنه دواء وشفاء، ولكن كثيراً من عباد الله حرموا أنفسهم هذا الخير.
يقول ابن القيم عن نفسه: مكثت بمكة مدة يعتريني أدواء ولا أجد طبيباً ولا دواءً فكنت أعالج نفسي بالفاتحة ،فأرى لها تأثيراً عجيباً ،فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألماً فكان كثيراً منهم يبرأ سريعاً.
ثم يقول رحمه الله: ولكن هاهنا أمر ينبغي التفطن له ،وهو أن الآيات والأدعية التي يستشفى بها ويرقى بها هي في نفسها نافعة شافية ،ولكن تستدعى قبول المحل وقوة همة الفاعل وتأثيره. فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل أو لعدم قبول المنفعل. انتهى (الجواب الكافي ص5).
أيها المسلمون: أما عن بركة الأشخاص فهناك أشخاص مباركون، ففي مقدمتهم وعلى رأسهم أفضل الأنبياء وسيد الأولين والآخرين نبينا محمد فإنه سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع روى مسلم في صحيحه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله اصطفى كنانة ،واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بين هاشم)) فله عليه الصلاة والسلام فضائل عظيمة ومزايا كريمة أنعم الله تعالى عليه بها ،فزادته شرفاً وفضلاً وبركة.
ومن أعظم بركاته عليه الصلاة والسلام هذا الدين الذي بعث به ،فمن قبلها سعد في الدنيا والآخرة ،ومن ردّها خسر الدنيا والآخرة ،قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وما هذا النكد وهذا الشقاء الذي تعيشه البشرية إلا لبعدها عن هذه الرسالة الخالدة.
أضف إلى ذلك صوراً من بركاته الحسية: من تكثيره الطعام ،ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة وإبراؤه المرضى وبركته في إجابة الله تعالى لدعائه صلوات ربي وسلامه عليه.
وهناك أيها الأحبة الصالحون من البشر ،الذين هم أولياء الله عز وجل. وهؤلاء أيضاً بركة على أنفسهم وعلى غيرهم. وفي مقدمة هؤلاء العلماء والدعاة وطلاب العلم العاملين المخلصين ،هؤلاء هم صفوة المجتمع ،فهم مستقيمون في جميع أحوالهم وهم مطيعون لربهم ،أخلاقهم حسنة ،نفوسهم طيبة ،فكيف يكون هؤلاء بركة على المجتمع؟ يكون ذلك من وجوه عديدة :
منها أنهم هم الدعاة بين الناس إلى الخير، وهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ،وهم الذين يقومون بواجب النصيحة. وكل هذا بركة على الناس.
ومنها: أنهم يعرفون الناس بدينهم وبأحكامه وتشريعاته وآدابه ،فهم ورثة الأنبياء في هذا الباب.
ومن بركتهم الدعاء للناس ،فهم يدعون للفساق والمنحرفين بالهداية ،ويدعون للمؤمنين المستقيمين بالتوفيق والمغفرة ،ونحو ذلك. ولا يخفى الأثر العظيم النافع للدعاء دنيا وآخرة.(/1)
يقول ابن القيم: "النافع هو المبارك ،وأنفع الأشياء أبركها ،والمبارك من الناس أينما كان هو الذي يُنتفع به حيث حل".
فيا أخي المسلم: احرص أن تلحق بركب هؤلاء ،فإن لم يكن فلا أقل من أن تدافع عنهم وتدعو لهم ولا ترضى بأية أذية تلحق بهم ،فهم بركة المجتمع ،وما يدريك أن الله دفع عنا ألواناً من الشرور والنقم والعذاب بسبب هؤلاء وبركتهم وصلاحهم ودعائهم قال الله تعالى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون . ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)) وفي رواية: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيّروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)). والحديث واضح ،وهو أن من أسباب رفع العقاب عن الناس ،الأخذ على يد الظالم وتغيير المنكر فالسؤال الآن: تغيير المنكرات ومقاومتها ومدافعتها والنصح والأخذ على يد الظالم ،هذه من سمات من؟ هل هي من سمات المغنيين ،أم من خصائص اللاعبين والرياضيين ،أم تغيير المنكرات من صميم عمل الممثلين؟
إنه كما نعلم جميعاً من سمات الصالحين ،ومن أخص خصائص الدعاة وطلاب العلم. بل إن رفع العذاب عن الناس ببركة هؤلاء قد يشمل حتى الكفار إذا كانوا بين أظهر المؤمنين. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قد يدفع الله العذاب عن الكفار والفجار لئلا يصيب من بينهم من المؤمنين ممن لا يستحق العذاب" ،ثم استدل رحمه الله على كلامه هذا بقوله تعالى: ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم. لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً "فلولا الضعفاء – والكلام ما يزال لشيخ الإسلام - فلولا الضعفاء المؤمنين الذين كانوا بمكة بين ظهراني الكفار عذب الله الكفار". انتهى.
فلنتق الله أيها المسلمون ، ولنحافظ على هذه الثلة الخيرة بيننا ،فهم بركة المجتمع، ولنفخر بكثرة وجوه الصالحين في مجتمعنا، فببركتهم ودعوتهم سينصر الله هذه الأمة ،روى البخاري في صحيحه أن النبي قال: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)) وفي رواية النسائي: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها وبدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)) قال أهل العلم: سبب تخصيص الضعفاء لأنهم أشد إخلاصاً في الدعاء وأكثر خشوعاً في العبادة ،لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا.
نعم أيها الأحبة: إن علماءنا ودعاتنا وطلاب العلم فينا ،والأُناس الطيبين الصالحين هم بركة مجتمعنا ولله الحمد ،إن منافعهم عديدة ،وخيرهم كثير ،ونفعهم مستمر، فنسأل الله جل وتعالى أن يكثر سوادهم وأن يحفظهم وأن يزيدهم عدداً وإيماناً وعلما وتوفيقا. ونحن وإن لم نصل إليهم بعلمهم وجهادهم وبلاءهم ،فنسأله سبحانه أن يحشرنا معهم بحبنا لهم.
أيها المسلمون: ومما جاء الشرع أيضاً ببركته مكة إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين ووجه البركة ،أن الطواف بالبيت فيه مغفرة للذنوب فهذه بركة ،والصلاة فيه بمئة ألف صلاة ،وأي بركة أعظم من هذا، وجعله سبحانه مباركاً لتضاعف العمل فيه ،بل قد صح عنه عليه الصلاة والسلام قوله: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)). وقال: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) فأي بركة أكثر وأعظم من هذا بل قد ذكر بعض أهل العلم بأن من بركات الحرم قول الله تعالى: يجبى إليه ثمرات كل شيء .
وأيضاً مدينة رسول الله مدينة مباركة الصلاة في مسجدها بألف صلاة ،وفيها روضة من رياض الجنة. وصلاة ركعتين في مسجد قباء كأجر عمرة. وينبت بين لابتيها تمر العجوة ،من تصبّح بسبع تمرات منها لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر ،وعلى أنقابها ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال وكيف لا يكون للمدينة كل هذه البركة وقد دعا لها رسول الله ص كما في البخاري: ((اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة)) بل من بركتها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة أو شهيداً)). قال العلماء: في هذا الحديث دلالات ظاهرة على فضل سكنى المدينة ،والصبر على شدائدها وضيق العيش فيها، وأن هذا الفضل باق مستمر إلى يوم القيامة.
وأيضاً مما ورد في الشرع بركته أرض الشام، فأرض الشام أرض مباركة قال جل وتعالى في شأن انتقال بني إسرائيل إلى الشام: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وقال تعالى مخبراً عن هجرة إبراهيم ولوط عليهما السلام إلى الشام ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين فأرض الشام أرض مباركة ولا عبرة بالفترة الحالية من عمر الزمن ،سواء كان فيمن يحكمها أو يعش فيها أو حتى وجود اليهود على أرضها ،فكل هذا فترة مؤقتة.(/2)
وكذلك أرض اليمن أرض مباركة بدعاء النبي : ((اللهم بارك لنا في يمننا)) ،ولا عبرة أيضاً بوضعها الحالي وما تعيشه من أوضاع ،روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي أنه قال: ((أتاكم أهل اليمن ،هم أرق أفئدة ،وألين قلوباً ،الإيمان يمان والحكمة يمانية)).
وأيضاً مما ورد في الشرع أن فيه البركة: المطر: ونزلنا من السماء ماء مباركا .
وأيضاً: شجرة الزيتون قال تعالى: يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم يمسسه نار .
وأيضاً: الخيل قال : ((البركة في نواصي الخيل)) [البخاري].
وهذه البركة لارتباطها بالجهاد في سبيل الله: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم قال : ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ،الأجر والمغنم)) [رواه البخاري].
وأيضاً النخل قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم)). والمراد بها النخلة.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر ،فإنه بركة)) [رواه أبو داود].
وأيضاً: الاجتماع على الطعام فإن الله يبارك فيه وأيضاً لعق الأصابع قال : ((إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة)) وأيضاً بركة السحور: ((تسحروا فإن في السحور بركة)) وأيضاً ماء زمزم خير ماء على وجه الأرض قال : ((إنها لمباركة هي طعام طُعم وشفاء سقم)).
وأيضاً التبكير قال : ((بورك لأمتي في بكورها)) ألا فليعلم أولئك الذين ينامون إلى نصف النهار أنهم قد حرموا أنفسهم بركة ذلك اليوم.
وأيضاً يا معاشر التجار الصدق في البيع ((فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)).
فنسأل الله جل وتعالى أن يبارك لنا في أموالنا. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:
البركة أيها الأحبة يمنحها ويسلبها المولى جل تعالى، إن العبرة ليست بما تملك من مقومات المادة ،وليست العبرة بما تملك من طاقات وقُدرات ،إذا سلبت البركة من كل ذلك ،بل إن القليل من المادة ،والقليل من الطاقات مع بركة الله ،تفعل الأعاجيب.
فأنت قد تُعطى الملايين ،لكن تنزع منها البركة ،تجد شقاءها في الدنيا قبل الآخرة ،تملك الملايين ،لكن لا تتمتع بها لأن البركة منزوعة ،وقد لا يكون معك إلا راتبك الذي لا يوصلك لآخر الشهر ،لكن يبارك الله في هذا القليل فتعيش حياة الملوك أنت وأولادك.
رجلان ،الأول له عشرة من الولد ،والثاني ليس له إلا بنت واحدة.
تُنزع البركة من الأول ،فهؤلاء العشرة لا ينفعونه بشيء ،بل ربما عانوا هم سبب المتاعب التي يعيشها ،والنكد الذي يعيشه ،ربما مَرِضْ ولا أحد من العشرة يُحس به ،أو يلتفت إليه يمر اليومان والثلاثة والأسبوع ،ولا أحد يسلم عليه.إنهم عشرة ،لكن بدون بركة.
والثاني يطرح الله البركة في هذه البنت ،فتكون قرة عينيَ والديها في الدنيا ،تقوم بحقهما ،وترعى شؤونهما مع أنها متزوجة ولها بيتها ومسئولياتها ،ومع ذلك هي على صلة مستمرة بهما يومياً ،على الأقل ترفع سماعة الهاتف كل ليلة قبل أن تنام لكي تطمئن عليهما ،إنها المنحة الإلهية التي لا تُشترى بالمال ،ولا يجلبها الملك والسلطان وإنما هي بيد من بيده ملكوت كل شيء.
ثم هناك رجلان آخران:
الأول: محسوب على كبار العلماء.
والثاني: طالب علم في أول الطريق.
تجد أن الأول مع ما أوتي من مكانة علمية واجتماعية ،وربما عمّر خمسين أو ستين بل ربما سبعين سنة ،لكن لم يستفد منه أحد لا أثر له ،لا وجود له في الوسط الذي يعيش فيه حتى الحارة التي هو يسكنها لم يستفيدوا من علمه ،نعم إنه مكانه ،ومنصب لكن بدون بركة.
والثاني: طالب العلم هذا لم يعرفه الناس إلا من سبع أو ثمان سنوات، لو ألقى درساً بسيطاً هنا ،لوزعت أشرطته بعد ثلاثة أيام في الصين وكندا ودول أوربا وانتفع الناس بها شرقاً وغرباً. إنها البركة الإلهية التي لا تشترى بالمال ،ولا تكسبها القبيلة ولا العشيرة ولا تجلبها المناصب والهيئات.
اعلم يا عبد الله أن هذا الباب لو أغلقه الله عليك ثم فتح لك كل أبواب الدنيا ،من مال وولد وجاه وسلطان وصحة.فوالله ما هو بنافعك بشيء إنما يكون معها الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء.
واعلم يا عبد الله ،بأن الله لو فتح لك باب البركة فابشر بكل خير ،مع قلة الراتب ،وضيق المسكن ،وانعدام الولد ،وضعف الجاه.
أيها المسلمون: وبعد كل هذا كيف نحصل على البركة؟ إن طريقها واحد لا يتعدد ،والحصول عليه لا يتغير قال الله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون .
من أراد البركة فعليه بالإيمان ،الإيمان الحقيقي لا الإيمان الصوري. من أراد البركة في رزقه وماله وولده وعلمه فعليه بتقوى الله عز وجل في كل شيء.
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم .(/3)
ولو أراد أهل قرية أن يُعطوا من بركات الأرض وبركات السماء فعليهم بالإيمان والتقوى. أما أن يستمر أهل القرية على المعاصي ،ويستمر أهل القرية على الغناء واللهو واللعب فمن أين يأتي البركة؟
كيف يريد أهل القرية البركة في حياتهم ومعاشهم، وما يزال الربا قائماً بين أظهرهم.
كيف يريد أهل القرية بركات من السماء والأرض وما يزال هناك مظلومون ،وما يزال الغش وما يزال البدع قائماً.
كيف يحصل البركة لأهل هذه القرية، وفساقها أكثر من صالحيها. ومنكرها أكثر من معروفها. من أين يأت البركة لأهل هذه القرية. وما يزال هناك نقص كبير في عدد المصلين وعدد المزكين ،وعدد التائبين.
فإن لم يتغمد الله هذه القرية برحمته ،فإنها مُقدمة والعياذ بالله على دمار وهلاك.
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
البركة المفقودة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
أيها الأحبة: إننا نسمع الكثير يتحدث بأسى عن ضياع البركة وقلتها، وإذا تحدث الآباء والأجداد فإنهم يخبرونا كيف كانت البركة في كل شيء في الأعمار والأبدان والأموال على الرغم من قلة تلك الأموال وكيف هي اليوم قد ضاعت أو محقت، فهم لا يرون ما كانوا يرون.
إن المسلم يطمع أن يزاد في وقته1، وعمره، وماله، وأبنائه، وجميع محبوباته، ويدعو الله عز وجل أن يبارك له فيها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بالبركة في أمور كثيرة.
والبركة هي: ثبوت الخير الإلهي في الشيء؛ فإنها إذا حلت في قليل كثرته، وإذا حلت في كثير نفع، ومن أعظم ثمار البركة في الأمور كلها استعمالها في طاعة الله عز وجل.
ومن تأمل في حال الصالحين والأخيار من العلماء، وطلبة العلم، والعباد يجد البركة ظاهرة في أحوالهم. فتجد الرجل منهم دخله المادي في مستوى الآخرين لكن الله بارك في ماله ؛ فهو مستقر الحال لا يطلبه الدائنون، ولا يثقله قدوم الزائرين، والآخر: بارك الله في ابنة وحيدة تخدمه وتقوم بأمره، وأنجبت له أحفادا هم قرة عين له، والثالث: تجد وقته معمورا بطاعة الله ونفع الناس وكأن ساعات يومه أطول من ساعات وأيام الناس العادية! وتأمل في حال الآخرين ممن لا أثر للبركة لديهم، فهذا يملك الملايين، لكنها تشقيه بالكد والتعب في النهار، وبالسهر والحساب وطول التفكير في الليل،والآخر له من الولد عشرة لكنهم في صف واحد أعداء لوالدهم والعياذ بالله، لا يرى منهم براً، ولا يسمع منهم إلا شراً، ولا يجد من أعينهم إلا سؤالاً واحداً. متى نرتاح منك؟.
وأما البركة في العلم فجلية واضحة، فالبعض زكى ما لديه من العلم - وهو قليل - فنفع الله به مدرساً، أو داعية، أو موظفاً، أو غير ذلك، وضدهم من لديه علم كثير لكن لا أثر لنفع الناس منه. و البركة إذا أنزلها الله عز وجل تعم كل شيء: في المال، والولد، والوقت، والعمل، والإنتاج، والزوجة، والعلم، والدعوة، والدابة، والدار، والعقل، والجوارح، والصديق ولهذا كان البحث عن البركة مهما وضرورياً. فكيف نستجلب البركة؟
أولاً: تقوى الله عز وجل: فهي مفتاح كل خير، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}الأعراف:96، وقال تعالى:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}الطلاق:3،2، أي من جهة لا تخطر على باله. وعرف العلماء التقوى: بأن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
قيل لأحد الصالحين: إن الأسعار قد ارتفعت. قال: انزلوها بالتقوى. وقد قيل: ما احتاج تقي قط. وقيل لرجل من الفقهاء:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}الطلاق:3،2، فقال الفقيه: والله، إنه ليجعل لنا المخرج، وما بلغنا من التقوى ما هو أهله، وإنه ليرزقنا وما اتقيناه، وإنا لنرجو الثالثة:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}الطلاق:5 .
ثانياً: قراءة القرآن: فإنه كتاب مبارك وهو شفاء لأسقام القلوب ودواء لأمراض الأبدان: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}ص:29 والأعمال الصالحة مجلبة للخير والبركة.
ثالثاً: الدعاء: فقد كان النبي يطلب البركة في أمور كثيرة، فقد علمنا أن ندعو للمتزوج فنقول:{بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير }رواه أبو داود برقم 2130 وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم 1866، وكذلك الدعاء لمن أطعمنا:{اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم، وارحمهم } رواه مسلم برقم2042.
رابعاً: عدم الشح والشره في أخذ المال: قال صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه: {يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع } رواه البخاري 1361.
خامساً: الصدق في المعاملة من بيع وشراء قال صلى الله عليه وسلم:{البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما}رواه البخاري برقم1973
سادساً: إنجاز الأعمال في أول النهار؛ التماساً لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دعا عليه الصلاة والسلام بالبركة في ذلك: فعن صخر الغامدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:{اللهم بارك لأمتي في بكورها} رواه أحمد وقال الشيخ الألباني:( صحيح) انظر حديث رقم:1300 في صحيح الجامع
قال بعض السلف: عجبت لمن يصلي الصبح بعد طلوع الشمس كيف يرزق؟!(/1)
سابعاً: اتباع السنة في كل الأمور: فإنها لا تأتي إلا بخير. ومن الأحاديث في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:{البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه} رواه الترمذي برقم1805، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم2123.
وأمر صلى الله عليه وسلم بلعق الأصابع والصحفة، وقال:{إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة} رواه مسلم برقم 2034 .
ثامناً: حسن التوكل على الله عز وجل:قال تعالى:{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}الطلاق:3وقال:{لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً} أخرجه ابن ماجة برقم 4164 ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم 3359.
تاسعاً: استخارة المولى عز وجل في الأمور كلها، والتفويض والقبول بأن ما يختاره الله عز وجل لعبده خير مما يختاره العبد لنفسه في الدنيا والآخرة، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الاستخارة:{إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم فإن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجله، وآجله فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال عاجله، وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به}أخرجه البخاري برقم 1109
عاشراً: ترك سؤال الناس؛ قال صلى الله عليه وسلم:{من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمناً أن لا تسهل حاجته، ومن أنزلها بالله تعالى أتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل}رواه أحمد برقم 3696 وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن على خطأ في اسم أحد رواته وهو سيار أبو الحكم صوابه سيار أبو حمزة.
الحادي عشر: الإنفاق والصدقة؛ فإنها مجلبة للرزق كما قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} سبأ:39
وفي الحديث القدسي: قال الله تبارك وتعالى:{يا ابن آدم أنفق، أُنفق عليك}رواه مسلم برقم 993.
الثاني عشر: البعد عن المال الحرام بشتى أشكاله وصوره: فإنه لا بركة فيه ولا بقاء والآيات في ذلك كثيرة منها قوله تعالى:{يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}البقرة:276، وغيرها كثير.
الثالث عشر: الشكر والحمد لله على عطائه ونعمه؛ قال تعالى:{وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} آل عمران:144، وقال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} إبراهيم:7 .
الرابع عشر: أداء الصلاة المفروضة؛ قال تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} طه:132 .
الخامس عشر: المداومة على الاستغفار؛ لقوله تعالى:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} نوح:10-12 .
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا واجعله عوناً على طاعتك، وصلى الله وسلم على نبينا وآله وصحبه أجمعين.
00000000000000
1 - هذه الكلمة مستفادة من مقال بعنوان: البركة لعبد الملك القاسم بتصرف.(/2)
البطل الفريد والشهيد القعيد
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
" البطل الفريد والشهيد القعيد رحمه الله تعالى " لا بد أن يكون موضوع حديثنا !
وأحب باديء ذي بدء أن أشير إلى أن خطيب المنبر يتعرض لضغوطٍ نفسيةٍ كثيرة ، ما عسى أن يقول في الأحداث العظيمة والأمور ليست على ما يحب المرء ويرضى ! وكيف يلبي ما قد يجول في خواطر ونفوس السامعين ؟ وكيف يتلقى قبل خطبته وبعدها من الناس ما يقولونه من مشاعرهم ، أو ما يطلبونه من توجيهٍ وإرشادٍ ، أو حثٍ وحضٍ وتحريضٍ على ما يرونه فيما يحبون أن يكون عليه الحال .
وثمة أمرٍ آخر - لا يجهله أحد – وهو : أن المقام الذي يكون فيه الحديث محزن ومؤلم ، ومن جهةٍ أخرى يجب أن يكون مؤثراً ومحركاً يقع فيه من تأثير العواطف ، ومن ضبط العقل وحكمته ما يكون غير يسيرٍ إلا بتيسير الله سبحانه وتعالى .
ولسنا - أحبتي الكرام - في مقامٍ نريد فيه مرة أخرى أن نثير العواطف ، ونهيّج المشاعر ، ونذرف الدموع ، ثم نمضي مرةً أخرى نرجع سيرتنا الأولى ، ونعود على أعقابنا ننشغل بدنيانا ، وننسى واقع أمتنا ، ونتغافل عن سوء حالنا ، ونتجاهل شدة هجمة أعداءنا .
من الممكن أن يتحدث الخطيب فتلتهب مشاعره فيبكي ويُبكي ، وقد قلت مراراً أني لا أجيد هذا ولا أحبذه ، وأحسب أن كل مؤمنٍ غيور قد اعتصر قلبه حزناً وأساً ، وما أحسب أحداً إلا وقد بكى ما شاء الله أن يبكي ، لكن الأمر ليس على ما نريد من هذه المشاعر التي تسكّن بها بعض أحزاننا وآلامنا .
فرأيت أن أتنحى عن مقام هذا الحديث إليكم ؛ لأنني أجد صعوبةً فيه فرأيت أن يتحدث إليكم في هذا المقام بمسيرة حياته ومجموع متفرقةٍ من كلماته الرجل الذي نتحدث عنه اليوم ؛ لأن حديثه إليكم أبلغ من حديثي ، ولأن كلماته أوقع في النفوس وأعظم تأثيراً في القلوب ؛ لأنها ليست كلمات بلاغة وإنشاء ولكنها كلمات صدقٍ وإخلاص ، صدّقتها الأفعال ، وروتها الدماء ، وشمخت بها إلى المراتب العليا من استعلاء الإيمان ، وثبات اليقين الذي نسأل الله عز وجل أن لا يحرمنا وإياكم منه.
مسيرة حياته في ومضات يرويها لكم ، ويقصها عليكم دون أن أعلق إلا باليسير :
في العاشرة أو الثانية عشر من عمره حلّت النكبة العظمى باحتلال اليهود - عليهم لعائن الله - لأرض الإسراء عام ثمانيةٍ وأربعين ، وخرج مع أهله وأسرته طريداً مهاجراً كآلافٍ ومئات آلافٍ وبضعة ملايين من أهل أرض الإسراء .
وانتقل إلى الضفة والقطاع - كما انتقل كثير من هؤلاء الناس - وهناك كانت قسوة العيش ومرارته وشدته ، حتى إن الغلام الصغير الذي كان يدرس في المرحلة الابتدائية اضطر إلى أن يقطع دراسته وأن يعمل في أحد المطاعم ؛ ليسهم في إعالة أسرةٍ كانت تتكون من سبعة أفراد .. لقد رأى الحياة المرّة ، والظلم والطغيان في أشد صوره وأقساها منذ لحظات حياته الأولى ، فارتسمت على صفحات قلبه ، وسطرت في مخيلته ، وجرت مع دماءه في عروقه ، وسكبت في نفسه ما سكبت من لفظ الظلم والعدوان ، وقوة المواجهة للطغيان ، ومضى بعد ذلك ليكمل مراحل تعليمه في صغره ونعومة أظفاره .
ومنذ فترة شبابه الأولى أراد الله عز وجل أن يكون في حياته عبرةً عظيمة ، وأن يكون في مواقفه وفي هيئته ما يجعله فريداً يلفت الأنظار ، وقعيداً يشد الأبصار .. في السادسة عشر من عمره تعرض لحادثةٍ كسرت فيها بعض فقرات من عنقه ، وأصبح شليلاً مشلولاً قعيداً لا يتحرك إلا في قليل من الحركة ، لم تلبث بعد فترات اعتقالٍ وتعذيبٍ وإجرام أن زادت حتى صار لا يتحرك منه إلا رأسه ، ولكن رأسه إذا تحرك أقام الدنيا وأقعدها ، وحرّك الجماهير وألهبها ، وأوقع في الأعداء ما يوقع من رعبٍ وخوف ، وما ينزل بهم من خسائر فادحةٍ في أرواحهم وممتلكاتهم رحمه الله رحمةً واسعة .
في هذه الفترات من عمره لم يكن ذلك الفتى الشاب رغم هذه الحادثة ورغم الظروف القاسية قانعاً بأن يكون كغيره قعيد فراشه ، وطريح كرسيه ! بل كان في تلك الفترات من عمره داعيةً متحركاً ، ومشاركاً في مواجهة الظلم والطغيان ، فقد شارك في المظاهرات الاحتجاجية على العدوان الثلاثي على مصر في عام خمسة وستين ، وكان له دور ومشاركة دعوية .
وعندما تخرّج من الثانوية - وقد تعلّم أيضاً عند الشيوخ في المساجد - تقدّم إلى مهمة التعليم ؛ ليكون معلماً وكادت أحواله الصحية أن تمنعه من ذلك ، ولكن تيسر له ذلك فعلّم في التربية الإسلامية واللغة العربية ، وبثّ روح العزة والمقاومة والجهاد ، وبيّن حقائق الأعداء وطرائقهم في حرب الإسلام وأهله ، ثمّ - وهذا من عجائبه - صار يخطب في الجماهير ، وكان خطيباً مؤثراً معبراً بحاله قبل مقاله ، وكان في العشرين من عمره خطيباً للمسجد العباسي في غزة ، وشهد له المنبر بالمواقف العظيمة التي كان يؤثر فيها في الناس .(/1)
في هذه الفترات والمراحل الأولى قبل أن يكون هناك في تلك الفترات الزمنية دعوة أو صحوةً إسلامية كان التزام الإسلام غريب يوم كان مدّ اليسارية والقومية والاشتراكية والبعثية قد مدّ في أمة الإسلام والعرب على وجه الخصوص مدً كاد ألا يسلم منه أحد .
في تلك الفترة اعتقل في العشرين من عمره أول اعتقالٍ في زنزانة منفردةٍ شهراً كاملاً ، ثم خرج من بعد وواصل مسيرة الدعوة وتحريك الناس وتربية الشباب الذين لم يأتوا من فراغ ، ولم يكن استشهاده ولا استشهاد أبناءه حماس أمراً جاء فلتة من الزمان ! أو جاء في اندفاعٍ عاطفيٍ ، بل كان ثمرة تربيةٍ إسلاميةٍ إيمانيةٍ دعويةٍ جهاديةٍ ، كان فيها هو الرائد القائد ، ثم معه صحبه الكرام الذين قطعوا مراحل وعقوداً من الزمن قبل أن تأتي بطولاتهم ، وقبل أن يسطروا بدمائهم تلك المآثر العظيمة والمواقف الجليلة .
مضى - رحمه الله تعالى - حتى نشط في الدعوة نشاطاً ، كان فيه المبرز ومن هنا جاء اعتقاله ومحاكمته بتهمةٍ عجيبة تدمير دولة إسرائيل .
الرجل الذي كان يوم ذاك لم يتجاوز إلا منتصف الثلاثينات من عمره أو قريباً من الأربعين ، وهو على حاله المعروفة يواجه بهذا الاتهام ، ويحكم عليه بالسجن ثلاثة عشر عاماً ، ثم في السجن - مع التعذيب - تذهب عينه اليمنى ويضعف بصره في عينه اليسرى ، وتزداد آلامه في أحشاءه - رحمه الله - ويأبى الله عز وجل لهذا الرجل إلا أن تكون حياته فريدة ، وأن تكون أيضاً شهادته فريدة ، فيخرج رغم هذا الحكم في صفقةٍ في تبادل الأسرى في عام خمسة وثمانين .. فهل تاب من فعلته ؟ وهل أقعدته أمراضه مع شلله ؟ كلا ! فقد تحرّك حركةً أعظم مما كان يتحركها من قبل ، وتحرّك حينئذٍ وقد رأى ثمرة جهده وجهد إخوانه وهي تزهر بالمساجد التي امتلأت بالشباب ، وفي الرجوع والأوبة إلى الله - سبحانه وتعالى - فرأى الوقت مناسباً أن يجيش هذا الزخم الدعوي الإيماني ؛ ليكون فعلاً حركياً عملياً في مقاومة أعداء الله ، فنشأت حركة المقاومة الإسلامية " حماس " ، وحينئذٍ - وبهذه الجهود العظيمة التي تحرك فيها الشيخ - أعيد اعتقاله بعد عامين اثنين تقريباً ، ثم سجن نحواً من عامين ، وحكم عليه بحكمٍ فريدٍ غريب ! حكم عليه بالسجن مدى الحياة وزيادة خمسة عشر عاماً ؛ لنرى كيف هو الطغيان والعنصرية اليهودية البغيضة ؟ كيف يحكم على امرئٍ بمدى الحياة وزيادة خمسة عشر عاماًً ؟ وهل سيعتقل بعد موته خمسة عشر عاماً ؟!
قد خيب الله أملهم ، فلم يكن لم تكن وفاته وموته في سجونهم .
ومرةً أخرى - وبقدر الله عز وجل - وبسببٍ من أحد أبناءه وأبطاله ورجاله ، يخرج الشيخ مرةً أخرى بعد سنواتٍ غير قصيرةٍ ، عام سبعةٍ وتسعين ، ويخرج حينئذٍ وهو قائدٌ عظيم ، وهو الذي أخذ السمة العظيمة في تأسيس حركة الجهاد والمقاومة الإسلامية .
ومضى رحمه الله على هذه المسيرة ، حتى تعرض بعد الاعتقال إلى محاولة الاغتيال ، التي لم تكن بينها وبين استشهاده إلا نحو ستة أشهرٍ ، ثم جاءت الخاتمة الحسنة بإذن الله - عز وجل - في يوم الاثنين ، وبعد صلاة فجرٍ ، وبعد فريضة ووسيلة وورد ذكرٍ ؛ ليكون على موعدٍ مع ما أراده له الله - عز وجل - وتمناه هو لنفسه بهذه الشهادة ، التي تمثل قمة الشموخ والإيمان ، وعظمة المسلم المجاهد ، إذ كيف لهذا الرجل الضعيف الواهي الواهن أن يُضرب بثلاثة صواريخ من طائراتٍ ، تعضدها طائراتٍ مقاتلة لا تستخدم إلا في حروب الدول، ولا تستخدم إلا في القصف المدمر العنيف !!
لأنهم كانوا يدركون عظمة هذا الرجل ، وعظمة حركة رأسه ، وعظمة كلماته ، وعظمة حركة كرسيه ، ولقد كان في تدبيرهم حتفٌ لهم بإذن الله عز وجل ، إذ أعطوه ما تمناه ، وإذ جعلوا من شهادته وقوداً محركاً للأمة بإذن الله ، وجعلوه يختم هذه الحياة بما صدق كل كلمةٍ من كلماته ، وكل موقفٍ من مواقفه ، وجعلوا شهادته الأخيرة هي قمة عطاءه ، وأعظم جهاده ، وأسمى درجات تضحياته ، وفداءه في سبيل الله عز وجل ، وفي سبيل نصرة دينه وأمته وفي سبيل مواجهة أعداءه من أعداء الدين والأمة .
ثم أنتقل بكم - أيها الاخوة - بعد هذه المسيرة إلى وقفات :
إن واحداً منا إذا أصابه شيءٌ من زكامٍ يسير ربما تخلّف عن الصلوات ، والشيخ القعيد - بأمراضه التي يحملها - إلى آخر يومٍ من أيام حياته ، وهو يشهد الصلاة في المسجد ويؤدي الفجر في الجماعة ، دون أن يتخلف بأعذارٍ كثيرةٍ ، ربما يكون له فيها ممدوحةً شرعيةً عند الله سبحانه وتعالى .
ثم انظروا – كذلك - إلى مواصلة المسيرة التي لا تتوقف لأجل الظروف العصيبة والممانعة الرهيبة التي مرت بها مسيرة حياته .. لم يثنه عن مضيه في دعوته ورفع راية الإسلام اعتقال ولا تعذيب ، فضلاً عن أصل ما هو فيه من الإعاقة الظاهرة البينة .(/2)
ثم لننظر إلى الأهم الأهم ، وهو أن وقود كل قوةٍ إسلامية ، وكل عزةٍ إيمانية وكل انتصارٍ في ميادين المعارك وانتصارٍ في ميادين النفس المثبطة ، إنما هو من منهج التربية والدعوة .
الدعوة إلى الله والتربية على الإسلام ، وتنشئة الأجيال على القيم والمبادئ والمفاهيم والعقائد الإسلامية هي الركيزة الأساسية والقاعدة المتينة التي يشاد عليها حينئذٍ كل بناءٍ قوي ، وكل شموخٍ عالٍ ، وكل عزةٍ قعساء ، وكل مقاومةٍ قوية ، وكل قضيةٍ يراد لها أن تستمر لا يمكن بحالٍ من الأحوال ، إلا أن نوقن بما كان عليه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم .
إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج إلى معركةٍ وغزوةٍ جهاديةٍ إلا بعد مضي خمسة عشر عاماً من بدء دعوته ، هل كان فيها نائماً عليه الصلاة والسلام ؟ هل كان فيها لا يؤدي دوراً ؟ كان يسكب الإيمان في القلوب ،وكان يغرس اليقين في النفوس ،وكان يصحح المسار في الأفكار ،كان يقوم الممارسة في السلوك ،كان يبين التصورات والمبادئ والعقائد والعلائق كيف تكون ، كان يعلم شموخ الإيمان وقوة اليقين فلما خرج إلى ميدان الدولة بعد الدعوة ، ولما خرج إلى ميدان الجهاد بعد التربية أخرج أمةً عظيمةً من أصحابه - رضوان الله عليهم - فشرّقوا وغرّبوا ، وانتصروا أعظم انتصارٍ في كل ميدان .. تلك هي القضية الأساسية في أمة الإسلام .
قبل حديثي إليكم جاءني من يقول : ماذا نعمل ؟ إن الطريق الطويل الذي رسمه سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ورسمه كل قادة الأمة وأبطالها إنما يمر عبر هذه التربية والتعليم والدعوة الإيمانية الإسلامية التي لا بد أن نأخذ بها ، وأن نأخذ بالحظ الأوفى والأوفر منها ، وأن نشيعها في أبناءنا ومجتمعاتنا ، وأن نغيّر بها القلوب والعقول ؛ لتكون قلوباً إيمانية ، وعقولاً إسلامية ، فحينئذٍ ستكون حينئذٍ بإذنه عز وجل مقاومةً إيمانية ، وجهاداً إسلامياً ، ومنهجيةً شرعية ، ورؤيةً واضحة ، ومواقفاً مشرفة ، ليست القضية انفعال عابر !
حدثني أحد الاخوة قبل الخطبة - وهو يريد أن يؤسس لهذا المعنى - قال : قد حزّنا وتفاعلنا يوم مقتل الدرة - ذلك الغلام الصغير - ورأيناها جريمةً بشعة ، تحرّكت لها القلوب ، وتحرّكت لها العواطف ، ثم مرت أيام وعدنا إلى ما كنا عليه ! قال : وسيكون هذا مثل هذا ! وأقول : بإذن الله عز وجل لن يكون هذا .
لكن لا بد أن ندرك أن معركتنا هي معركة الإصلاح في أعماق النفس أولاً ، ومعركة الإصلاح في واقع المجتمع ثانياً ، ومعركة التغيير في مجموع أحوال الأمة ، فإذا توفر ذلك تحقق الوعد الرباني ، قال تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } .
وتحققت النتيجة التي لا يشك فيها مؤمن ، قال تعالى : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } .
أما أن نقول : ماذا نصنع ؟ ونصيح : ما الذي يمكن أن نفعله ؟ ونشعر بأننا مقيدون ! فأقول : إن من يقول ذلك عنه أمران ينبغي أن ينتبه لهما : تفريط وقعود عن ميادين عملٍ كثيرةٍ مفتوحةٍ أمامه ، ويريد أن يخفف عن نفسه بهذه العاطفة الجياشة ، فنقول له : انتبه ! كن صادقاً مع نفسك إن كنت مؤمناً مسلماً تريد خدمة أمتك ، فأنت أعلم بما تقيمه في نفسك وأهلك .
انظروا إلى أنفسكم واسألوها : كم منّا صلى الفجر اليوم في جماعة وفي مسجد ؟ وكم تخلف ؟ ثم يقول : ماذا أصنع ؟ ويقول : كيف أنصر ديني وأمتي ؟
كيف تنصر دينك وأمتك وأنت واحدً من أسباب ضعفها ، وأنت سبب من أسباب بلاء الله عز وجل عليها ورزاياه التي يقدّرها لها بسبب تخلفها عن أمره أو ارتكابها لنهيه ؟! وهذا أمر واضح بيّن .
وثانية - وهي قضية أخرى من القضايا المتعلقة بالعاطفة – وهي : أن الناس يريدون أن ينفسوا عاطفتهم لو أنني صحت لهم أو بكيت لهم وبكوا لخرجوا وهم مطمئنين مرتاحين كلا لا نريد ذلك نريد أن تترجم كل شعورٍ بالرغبة في خدمة الدين ، وكل شعورٍ بالنقمة على أعداء الدين أن تترجمه إلى عملٍ طويل ، وإلى التزامٍ صادق ، وإلى تغيرٍ حقيقيٍ في حياتك ، إلى أن تبذل لدينك من وقتك وقولك وفعلك وحالك ومالك وولدك ما تستطيع ..
إن المسألة أعظم من ذلك أي أعظم من مثل هذه العواطف العابرة واستمعوا لقول الله سبحانه وتعالى : { قل إن كان آبائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٍ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } .
أين كفة الأزواج والأبناء والعشيرة والأموال والدور والقصور والتجارة ؟ وأين كفة محبة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ومنهج الإسلام ، والجهاد في سبيله وإعجازه والتضحية لأجله ؟
إذا تساوت الكفتان فلا فائدة ولا نفع ، إن لم ترجح كفة الإيمان والإسلام في نفسك على خاصة حضوضك الدنيوية وحياتك اليومية فلا نفع من ذلك ؛ فلذلك حاسبوا أنفسكم .(/3)
وأنتقل إلى كلماتٍ أتمم بها حديث الشيخ إليكم ، فقد كان ذلك حديث حياته ، وإليكم حديث كلماته ..
بعد محاولة اغتياله الأولى كان مما قاله رحمه الله : " ألا تستحي هذه الأمة من نفسها وهي تُطعن في طليعة الشرف لديها ؟!
ألا تستحي دول هذه الأمة وهي تغضُّ الطرف عن المجرمين الصهاينة والحلفاء الدوليين دون أن يعطفوا علينا بنظرة تمسح عنّا دمعتنا وتربت على أكتافنا ؟!
لا تنتظروا منّا أن نستسلم أو أن نرفع الراية البيضاء !!
لأننا تعلمنا أننا سنموت أيضاً إن فعلنا ذلك فاتركونا نمت بشرف المجاهد .. إن شئتم كونوا معنا بما تستطيعون .. فثأرنا يتقلده كل واحد منكم في عنقه .. ولكم أيضاً أن تشاهدوا موتنا وتترحموا علينا ..
وعزاؤنا أن الله سيقتص من كل من فرّط في أمانته التي أعطيها .. ونرجوكم ألا تكونوا علينا : بالله عليكم لا تكونوا علينا يا قادة أمتنا ويا شعوب أمتنا ..
اللهم نشكو إليك .. نشكو إليك .. نشكو إليك .. نشكو إليك ضعف قوتنا .. وقلة حيلتنا .. وهواننا على الناس .. أنت رب المستضعفين وأنت ربنا .. إلى من تكلنا .. إلى بعيد يتجهمنا .. أم إلى عدو ملكته أمرنا ؟
اللهم نشكو إليك دماء سفكت وأعراضاً هتكت .. وحرماتٌ انتهكت .. وأطفالاً يتّمت .. ونساءٌ رمّلت .. وأمهات ثكّلت .. وبيوتاً خُرّبت .. ومزارع أتلفت .. نشكو إليك .. تشتّت شملنا .. وتشرذم جمعنا .. وتفرّق سبلنا .. ودوام الخُلف بيننا .. نشكو إليك ضعف قومنا وعجز الأمة حولنا وغلبة أعدائنا " .
كلماتٌ فيها منهج لا يتسع المقام لتعليق عليه .
ثم أنقل إليكم ما يريده منكم الشيخ وأمثاله من قادة الأمة ودعاتها وأبطالها :
إن القرآن هو منهج المسلمين ، جهاد بالنفس والمال ، وبالعلم والتربية ، فإذا تخلف المسلمون وتركوا العمل بهذا المنهج استبدلهم الله بقومهم يحبهم ويحبونه ، وهو يشير إلى قول الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } ، { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومه لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } .
ويقول لكم الشيخ أيضاً : " أؤكد لكم أن الله غالبٌ على أمره ، وأن ثقتنا في الله أولاً ،ثم في شعوب أمتنا المسلمة .. الشعوب المؤمنة كبيرة وعالية ، وأننا بفضل الله ثم بدعائكم ودعمكم سننتصر ، وسيجعل الله لنا ولكم بعد عسرٍ يسرى "
وهاهو يؤكد لكم قائلاً في ثباتٍ يبثه في أرواحنا وأنفسنا : " سنسير على الدرب حتى الوصول إلى التحرر والعودة ، وإقامة الدولة الفلسطينية المسلمة وعاصمتها القدس الشريف ، مستعينين بالله أولاً ، ومهتدين بمبادئنا الإسلامية ، وعقيدتنا الغراء ، ومطمئنين على الوصول للحرية والنصر ؛ لأن معركتنا نهايتها إما النصر وإما الشهادة ، قال تعالى : { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } " .
كانت رؤيته واضحة ، وكان يقينه كاملاً ، وكان فهمه لمبادئ الإسلام ، ولسنن الله - عز وجل - عظيمةً .
ثم هاهو يقول لنا في ثباتٍ عظيم عندما سؤل بعد المحاولة الأولى لاغتياله : هل أخذت الاحتياطات الازمة ؟
فأجاب إجابةً فيها شيء من الاستهزاء بمثل هذا المعنى والسؤال فقال : بالتأكيد ! قد أخذت الاحتياطات إلى أقصى درجة الحيطة والحذر ، ودليل ذلك أنني أجلس في بيتي ولم أغادره " ، ولقد كان كذلك رحمه الله .
ثم هو يقول لهذه الحادثة : " المقاومة وحماس ستسير في حياتنا وبعد مماتنا ، واغتيالي لم يؤثر على مسيرة الحركة ولا على مسار المقاومة ، وهذه التهديدات تزيد من قوة وإيمان هذا الشعب والتفافته حول خيار المقاومة " .
ويقول في كلماتٍ - كأنما يقولها وهو يعلم هذه العاقبة - : " لا أخشى الموت ، وشهادتي لا تعني نهاية المعركة مع الإسرائيليين " ولذلك هذه الكلمات أسوقها إليكم وهي غنية عن التعليق .
وأما ما قاله فيه بعض الناس ممن يعرفونه فهو كذلك موضع درسٍ وعبرةٍ واتعاظ ؛ لأننا نحتاج إلى أن نعرف الرجال ليس في آخر مشهدٍ من حياتهم ، ولكن في مسيرة حياتهم .. في مبادئهم ، في أعمالهم ، في منهجيتهم في طريقة تأثيرهم وتغييرهم فيما أنشئوه وعملوه .
قد سؤل رحمه الله سؤالً هل ألفت كتباً ؟ فقال : لا لست كاتباً ، ولا أؤلف كتباً ، لكنني كنت لا أعلم شيئاً إلا عملته وعلّمته ، فما من آيةٍ أعلمها أو من حديث إلا عملت بها جهدي وعلمتها " .
هكذا كان هذا منهجه ، ولذلك سيذكر الشيخ لا بطبعاتٍ من الكتب يعاد طبعها ! وإنما بأجيالٍ تتوالى على طريق الجهاد والاستشهاد ، كما سبقه من أبناءه سيلحقهم من أبناءه من يجدد سيرته وذكره رحمه الله .
أحد المقربين منهم يقول : " لم أرى إنساناً في حياتي فوّض أمره إلى الله مثل الشيخ رحمه الله ، كان عظيم التوكل على الله - عز وجل - والاعتماد عليه " .(/4)
ويقول آخر : " القعيد الذي أقام العالم حين تراه وتسمع عن إنجازاته تدرك تماماً قول الله - جل وعلا - في الحديث القدسي : ( فإذا أحببته كنت بصره الذي يبصر به ، وسمعه الذي يسمع به ، ويده الذي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها ) " .
وهو الذي يقول كما قال بعضهم بلسان حاله : " إن الروح إذا سمت فعلت الأفاعيل ولو كانت قعيدة كرسي متحرك ، وإن كانت حديثة شللٍ بيّن ؛ فإن الروح وسموها يرتفع إلى الله عز وجل ، ولم يقطع حبلها بربها أحد ، ولم يمنعها من الانتصار حبس .. انتصر الرجل - والله - رغم هزيمة الأمة فحق أن يقال عنه إنه كان وحده أمة تقبل الله الشهيد في الشهداء " .
نسأل الله - عز وجل - أن يتقدمه في الشهداء ، وأن يسكنه فسيح جناته ، وأن يجعل دماءه لعنة على الظالمين والطغاة المجرمين من اليهود وأعوانهم أجمعين ، وأن يجعله وقود حركةٍ وإيمانٍ وغيرةٍ ووحدةٍ ونصرة وعزة ومقاومة في أمة الإسلام والمسلمين .
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زادٍ يقدم به العبد على مولاه ، وإن أمتنا الإسلامية أمةً عظيمة ولم ينقطع خيرها ولا أبطالها ولا رجالها .
وقد أكدّت الأحداث الماضية - وتؤكد حادثة استشهاد الشيخ - هذا المعنى ، وكلنا مدعوون إلى أن يكون لنا إسهام ودور ، أرجو أن لا يسأل عنه أحدٌ سؤال التائه المتحير بعد كل هذه المعاني .
ثم أيضاً أحب أن أشير إلى أن هذا الفعل هو يجلي كثيراً من المعاني والدروس - والمقام لا يتسع لها - لكنه يظهر بوضوحٍ وجلاءٍ الخسة والدناءة والإجرام والإرهاب لشذاذ الأرض وأفاكيها من عصبة الإجرام من الصهاينة في أرض الإسراء .
ثم هو يكشف - كذلك - التآمر والتأييد المطلق لهذا الكيان الصهيوني الباغي بدعمه مالياً ، وإعطاءه الأسلحة التي يفتك بها ، ثم بالتستر والتأييد على جرائمه حتى لا يكون هناك أدنى شكٍ في مواقف أمريكا وما تقوله وما تزعمه لدى أي إنسانٍ مسلمٍ مؤمنٍ عاقلٍ رغم كل الحوادث التي سبقت ومثل هذه الحادثة التي وقعت .
ثم ثالثة ألا تعويل على ما يقال من الرأي العالمي ، ومن الموقف الدولي ، ومن الضغوط الدولية رباعيةً أو سداسيةً أو سباعيةً أو أهراميةً أو ثلاثيةً كما نسمع حتى مللنا السماع .
وأيضاًً ؛ فإن هناك وضوحٌ في أن هذه المسيرة السلمية التي مازال الحديث عنها رغم كل شيءٍ يتكرر .. إنها محاولة لإحياء ميتٍ قد نزعت روحه ، وفاضت إلى بارئها ؛ فإن كان بالإمكان إحياء الميت فبالإمكان أن نصدق أن هذا الأمر حقيقيٌ وواقعٌ كما يقال ويروّج له .
وأيضاًً ؛ فإن هذا ليس دليل قوةٍ عند تلك الدولة الباغية ، بل هو دليل ضعفٍ وهلعٍ وخوفٍ وجزعٍ من أولئك القوم الذين تحركوا ونهضوا .
وأخيرً - أيها الاخوة الكرام - وليس آخراً ؛ فإن الدروس الكثيرة التي نحتاج إليها في هذا المعنى عظيمة جداً ؛ لعلي أشير إلى أن الاعتزاز بالإيمان ، والالتزام بالإسلام هو الذي يعطي لصاحبه القيمة العظمى والمكانة الكبرى ، والقدر الكبير في الدنيا والنجاة والفوز في الآخرة - بإذن الله - وإلا فما قيمة رجلٍ مشلول اليدين والرجلين ، أعمى إحدى العينين ، قعيد لا يتحرك ، لكن الدنيا كلها حتى الدول العظمى تحدثت عنه سلباً أو إيجاباً فرض نفسه ووجوده على العالم كله ، أما في قلوب المؤمنين والمسلمين فكأنما فقدوا أعز من آبائهم وأبناءهم ، وكأنما فقدوا أملاً عظيمً لكنه على هذا النحو الذي أجراه الله عز وجل وقدّره .. أصبح مساراً جديداً ونوراً على الطريق .. نسأل الله - عز وجل - أن يكون له أثره الميمون والمبارك ، وهكذا ينبغي أن يكون منا جميعاً .
هلل الشعب وكبر *** قائلاً الله أكبر
شرعة الحق لها *** نصرٌ من الله مؤزر
فلتعد أيام مجدٍ *** وليعد تاجي المؤزر
قد دنى يوم جهادٍ *** دربه صعب مغبر
كرم الله شهيداً *** جاد بالروح وشمر
لم يكن يخشى الأعادي *** لا ولا في الحرب أدبر
فهو في جنات عدنٍ *** بنعيم الله يفخر
ينبغي لنا أن نعظم يقيننا بإيماننا وإسلامنا ، وشموخنا واستعلائنا بعزتنا الإيمانية والإسلامية ، ولن ترهبنا القوى العظمى ولا الصغرى ، ولا التحالفات ولا التصنيفات الإرهابية التي توزع يميناً ويساراً ؛ فإن كذبها وفضحها قد صار ظاهراً لكل ذي بصرٍ وبصيرة ..
فنسأل الله - عز وجل - أن يخلف الأمة في شهيدها خيراً ، وأن يجعل في شهادة نفعاً وأثراً ، وأن يلحقنا به وبغيره من الصالحين والدعاة والمجاهدين على خير ما يحب ربنا ويرضى ، وأن يسلك بنا سبيل الصالحين ، وأن يستخدمنا في نصرة الدين ، وأن يكتبنا في ركب المجاهدين ، وأن يجعلنا من ورثة جنةٍ النعيم ..(/5)
نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يوفقنا لما يحب ويرضى ، وأن يردنا إلى البر والتقوى ، وأن يجعلنا من عباده الذين يحبهم ويرضى ، ونسأله - سبحانه وتعالى - أن يحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها ، وأن يجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .نسألك اللهم أن ترد كيد الأعداء في نحورهم ، وأن تجعل كل جريمة عليهم شؤماً ولعنةً وزلزلةً وهزيمةً نكراء بإذنك وعونك وقوتك ونصرك وتأييدك يا رب العالمين .
اللهم نسألك أن تدمر قوتهم ، وأن تخالف كلمتهم ، وأن تستأصل شأفتهم ، وأن تجعل بأسهم بينهم ، وأن ترد كيدهم في نحرهم .(/6)
البطل صلاح الدين الأيوبي
تاريخ النشر: السبت 04 أغسطس 2001
صلاح الدين الأيوبي
المقدمة
هناك مناطق في تاريخنا مظلمة
نشأة البطل صلاح الدين الأيوبي
صلاح الدين يعيد الناس إلى صراط الحق
هكذا كان صلاح الدين
مثل على شجاعته
معركة حطين
معركة فتح بيت المقدس
المعركة لم تنته بحطين وبفتح بيت المقدس
تدخلات أضاعت الثمرة والأمال
عقدت المؤتمرات لحماية إسرائيل ومحاربة الإرهاب
محطة أخرى لإجهاض المقاومة
يراد مرة أخرى إطفاء هذه الانتفاضة
الخاتمة
المقدمة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خصنا بخير كتاب أنزل وأكرمنا بخير نبي أرسل، وأتم علينا النعمة بأعظم منهاج شرع منهاج الإسلام (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا وقائد دربنا محمد عبد الله ورسوله، أرسله ربه بالهدى ودين الحق، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على المحجة البيضاء، على الطريقة الواضحة الغرّاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فمن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا، اللهم صل وسلم وبارك على هذا الرسول الكريم، وعلى آله وصحابته وأحينا اللهم على سنته، وأمتنا على ملته واحشرنا في زمرته، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، أما بعد
هناك مناطق في تاريخنا مظلمة
فيا أيها الأخوة المسلمون، تحدثنا في الجمعة الماضية عن أحد قادة التحرير الإسلامي، قادة الجهاد في سبيل الله، عن البطل الإسلامي الملك العادل المجاهد الزاهد الشجاع الصالح العالم المربي، عن نور الدين محمود الذي كان يلقب بالشهيد وإن لم يستشهد لرغبته في الشهادة في سبيل الله، واليوم أيها الأخوة نتحدث عن قادة آخر، من قادة تحرير الأرض المقدسة، هو أكثر شهرة من نور الدين محمود وإن كان تلميذاً في مدرسة نور الدين محمود، هذا البطل هو صلاح الدين الأيوبي، وهو رجل كردي، ونور الدين محمود رجل تركي، أي أن كليهما لم يكن عربياً إنما عربهما الإسلام، ونفخ فيهما الإسلام من روحه، وجعل كلاً منهما بطلاً من أبطال التاريخ الإسلامي، ما أحوجنا أيها الأخوة إلى أن نتعرف على تاريخنا، إلى أن نستكشف هذا التراث وأن نزيح التراب الذي غطى هذا التاريخ، فأصبح الكثير منا يجهلون هذا التاريخ، هناك مناطق في تاريخنا مظلمة، ينبغي ألا ننكر هذا، وهناك مناطق مضيئة، من المناطق المظلمة حينما أقبل الفرنجة أو الصليبيون من بلاد الغرب والمسلمون في غفلة، والمسلمون في تفرق وتناحر، وأمراءهم خانوا أنفسهم وأمتهم ودينهم، هذه محطات مظلمة في تاريخنا، ولكن الظلام لا يستمر أبداً، هذا الإسلام قادر على أن يهيئ من أبنائه مني جعل الظلام نوراً ومن يجعل بعد الليل فجراً، طبيعة الحياة وطبيعة سنن الله في الكون أن مع العسر يسرا وأن بعد الليل فجرا، وأن أحلك ساعات الليل ظلاماً وسواداً هي السويعات التي تسبق الفجر، أشد ما تكون حلكة وظلاماً هي هذه الساعات، وفي هذه الحالة يهيئ الله رجالاً يصنعهم على عينه ويربيهم لمهمة ويعدهم لرسالة، كان من هؤلاء نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي.
نشأة البطل صلاح الدين الأيوبي(/1)
صلاح الدين في مدرسة نور الدين، كان أبوه نجم الدين أيوب من رجال نور الدين، من رجال الجهاد، وكان عمه أسد الدين شيركوه من رجال الجهاد عند نور الدين، ونشأ يوسف صلاح الدين، نشأ في هذا المناخ الجهادي وأشرب هذه الروح، أشربها من أبيه وعمه وأشربها من نور الدين محمود، تعلم من نور الدين محمود حسن القيادة وحسن الإدارة والعدل في الناس وحب العدل وإقامة الحق والتعصب للحق، تعلم في هذه المدرسة فلما أتيحت له الفرصة حينما ذهب مع عمه أسد الدين شيركوه في حملة إلى مصر وكانت مصر في ذلك الوقت يحكمها العبيديون الذين يسمون في التاريخ بالفاطميين، والمحققون من العلماء يقولون إنهم لم يكونوا فاطميين، ولم يكونوا أشرافاً وليس لهم صلة بنسب علي ولا بفاطمة ولا بالحسن ولا بالحسين رضي الله عن الجميع، ولكنهم ذهب رئيسهم إلى بلاد المغرب، أماكن بعيدة وادعى أنه شريف وأنه حسيني وأنه منسب، وراجت مقولته عند الناس حتى صارت له أتباع وأنصار واستطاع أن يقيم له دولة امتدت من بلاد المغرب إلى مصر وإلى بلاد الشام أحياناً، وظلت أكثر من مائتي وثمانين عاماً تحكم هذه البلاد، وللأسف حينما جاء الصليبيون تحالف هؤلاء مع الصليبيين، وكانوا على المذهب الإسماعيلي لم يكونوا كالشيعة الجعفرية كالذين نعرفهم في العراق أو في إيران أو في لبنان، بل كانوا على المذهب الإسماعيلي الباطني، ونحن نعلم ما فعله الحاكم وغيره، وكانوا في أيام دولتهم يحاربون السنة ورجال السنة ورجال الحديث وعلماء المسلمين، ويؤيدون كل من سب الصحابة، حتى أنه كان عندهم شعار يقول في مصر (من لعن وسب فله دينار وإردب) من لعن الصحابة وسبهم يأخذ ديناراً من الذهب وإردباً من القمح، حتى اضطر كثير من علماء السنة أن يهجروا مصر إلى بلاد أخرى فراراً من هذه البدع التي أطلت برؤوسها وأصبحت شائعة ولا يستطيع أحداً أن يردها أو يطفئ فتنتها، في هذا الجو جاء صلاح الدين إلى مصر ومكن الله له حتى زال سلطان الفاطميين تماماً أو العبيديين هؤلاء وكان آخرهم ملكاً يسمى العاضد، كما قال ابن كثير، العاضد معناه القاطع، لا يعضد شجرها أي لا يقطع شجرها، فقطع الله به دولتهم وانتهت إلى الأبد.
صلاح الدين يعيد الناس إلى صراط الحق
جاء صلاح الدين وأحيا السنة بعد أن كادت تموت وأقام معالمها وأعاد لعلم السنة وعلماء السنة الحياة تجري في شرايين مصر من جديد وفي كل أنحاء هذه البلاد. بدأ صلاح الدين يعيد الناس إلى صراط الحق، ينفخ فيهم من روح الإيمان ويهيئ الصناع لصناعة السلاح، فلابد للأمة حينما تريد أن تلاقي عدوها من أمرين، أمر مادي وأمر روحي، لابد من هذين العنصرين أن يكتملا معاً، لابد من العنصر المادي، أن تعد لملاقاة أعدائك ما تستطيع من قوة، وهذا ما أمر الله تعالى به (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)، (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) ومن فضل الله تعالى أنه لم يأمر المؤمنين أن يعدوا لأعدائهم مثل ما عندهم من قوة، فقد يكون ذلك في غير مقدورهم، إنما أمروا أن يعدوا لهم ما استطاعوا من قوة، كل ما في استطاعتهم عليهم أن يبذلوه ليعدوا لهم العدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى يثيب في السهم الواحد ثلاثة، صانعه يحتسب في صنعته الخير، ومنبله (أي الذي يضع السهم في مكان الرمي)، والرامي به" هؤلاء الثلاثة يشتركون في الأجر.
هكذا كان صلاح الدين(/2)
أعد صلاح الدين رجاله وهيأ الجو العام للجهاد في سبيل الله، وكان الرجل مشغوفاً بالجهاد، من أراد من الناس أن يتقرب إليه وأن يتحدث له، حدثه عن الجهاد، فإذا حدثه عن الجهاد انشرح صدره وانفرجت أساريره وذهب عنه الهم والتعب والمعاناة، فكان يعشق الجهاد عشقاً، هكذا كان صلاح الدين، وكان رجلاً مصلياً لله، لم يدع الصلاة في جماعة عدة سنين، كان لا يصلي إلا في جماعة حتى أنه إذا أصابه مرض أو إعياء يطلب الإمام في خيمته التي ينزل بها أو في بيته الذي يسكن فيه ليصلي به إماماً وهو مريض، حتى لا يدع الجماعة، وكان رجلاً عادلاً يقيم مجلساً للنظر في مظالم الخلق وفي إنصاف المظلومين كل يوم اثنين ويوم خميس من كل أسبوع ويجتمع وحوله القضاة والعلماء والصالحون ويأتي الناس من كل حدب وصوب، الكبير والصغير، والغني والفقير، والرجل والمرأة، كل من عنده مظلمة يأتي ليشكو إليه مظلمته، فيرفع عنه الظلم ويعيد إليه الحق، ولو كان عند أقرب الناس إليه أو آثر الناس لديه أو أعز الناس عليه، يرغمه على أن يعطي الحق لأهله، وكان رجلاً عفيفاً عن المال الحرام، حتى إنه حينما توفي نظروا في خزانته فلم يجدوا فيها إلا سبعة وأربعين درهماً من الفضة وقطعة ذهبية واحدة، وجدوها في خزانة هذا الرجل الذي فتح الفتوح وغنم الغنائم من الصليبيين في بلاد شتى، فتح نحو مائة مدينة من المدن، ولا شك أنه غنم فيها الكثير وغنم منها الكثير، ولكنه أنفق ذلك كله في الجهاد في سبيل الله وفي تجهيز الجيوش والجنود، فحينما مات لم يجدوا في خزانته إلا هذا المبلغ الضئيل وكان هذا الرجل رجلاً حليماً لا يغضب إذا أسيء إليه، وكم من مرة تناوله بعض الناس بما يغضب أو ربما وقع عليه شيء يحسب الناس أنه سيطير من الغضب ويفزع ولكنه كان حليماً متأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم
مثل على شجاعته
وكان رجلاً شجاعاً لا يهاب الموت، لا يخشى أن يموت بل إنه في وقت من الأوقات ركب البحر وكان كاتبه العماد الأصفهاني يخاف من البحر ولكنه وجد هذا القائد لا يبالي بالبحر وقد هاج فحدثه بما في نفسه أنه خاف فكيف لا تخاف أنت، فقال له : ما هي أشرف الميتات، قال أشرف الميتات الموت في سبيل الله، قال فهذه هي غايتي، غايتي أن أموت أشرف الميتات، لا أموت على فراشي أحسن ما أموت عليه أن أموت في سبيل الله، أن تصيبني ضربة بسيف أو رمية برمح أو طعنة بسهم فأقتل في سبيل الله (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)، كان يلاقي جيوش الفرنجة أو الصليبيين وهم بعشرات الألوف ولكنه لم يكن يبالي بهذه الكثرة، مؤمناً بقول الله تعالى (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)،
كان رجلاً سمحاً كريم الخلق
في معركته الفاصلة مع الصليبيين، معركة حطين، هذه المعركة كان الصليبيون أكثر من ستين ألفاً وكان جيش صلاح الدين اثني عشر ألفا من الجنود المجندين غير بعض آلاف من المتطوعة، كان جيش صلاح الدين لا يساوي ربع جيش الصليبيين ولكنه توكل على الله عز وجل وحينما أراد أن يلقاهم عند هذه البلدة، الصغيرة أو القرية الصغيرة التي نعرف اسمها حطين، اجتمع الصليبيون وتصالحوا فيما بينهم، زال الخلاف بينهم، كان بعضهم مختلفين مع بعض، ولكن عندما يجدون العدو القوي ينسون الخلافات، وهذا هو شأن العقلاء من الناس، نسوا الخلافات وتجمعوا بقضهم وقضيضهم أو كما قال ابن كثير في البداية والنهاية، بحدهم وحديدهم وفي مقدمتهم الصليب الكبير، صليب الصلبوت كما يسمونه يحمله منهم عباد الطاغوت وضلال الناسوت كما يقول ابن كثير، اجتمعوا كلهم.
أمير طرابلس وأمراء البلدان الأخرى وكان أشدهم على المسلمين أمير الكرت، حتى أن أمير طرابلس هذا قال له أن المسلمين أشداء فقال له لا أشك أنك تحب المسلمين وتخوفنا من كثرتهم وسترى عند النزال من تكون له العاقبة، هذا رجل فاجر، أمير الكرت هذا، وحينما كانت المعركة فر أمير طرابلس ووقع أمير الكرت أسيراً في يد صلاح الدين، وكان صلاح الدين رجلاً سمحاً كريم الخلق، كان يعامل الناس معاملة حسنة، فأجلس هؤلاء الملوك والأمراء بعضهم عن يمينه وبعضهم عن يساره، كبيرهم أقعده عن يمينه، وأعطاه كأس من اللبن فشرب منه ثم أعطاه لهذا الرجل أمير الكرت، فغضب صلاح الدين وقال له إنما أعطيتك لتشرب ولم آذن تعطيه هذا، ثم دخل خيمة أخرى ودعا بهذا الرجل كان يسمى رياض، وعرض عليه الإسلام ليعفيه من القتل فأبى فقال له إذن ليس لك عندي إلا القتل انتصاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان كثير السب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله وأرسل برأسه إلى الملوك في الخيمة الكبرى ليروا عاقبة هذا الإنسان الفاجر الذي لا خلق له ولا دين له.
معركة حطين(/3)
كانت معركة حطين من معارك التاريخ الحاسمة انتصر فيها المسلمون انتصاراً هائلاً في ذلك اليوم كان صلاح الدين بين قادته وجنوده، يرغبهم في الجهاد في سبيل الله ويكبر فيكبرون وراءه وفي أثناء المعركة أمر أحد العلماء أن يقرأ عليه بعض أحاديث صحيح البخاري، وقال أنا أول من قرأ الحديث بين الصفين، أراد أن يطلب العلم وهو بين الصفين وأن يقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد الانتصار خطب خطبة عظيمة وقال أيها الناس هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه البغي ولا الفخر، اسجدوا لله شاكرين وأمرهم أن يلتزموا التقوى وأن يتحروا أمر الله تعالى فيمتثلوه ونهي الله تعالى فيجتنبوه، وكان هذا يوماً من أيام الله حقا، حتى أن بعضهم رأى بعض الفلاحين يأسر نيفاً وثلاثين أسيراً وربطهم في حبل خيمة، بعض الفلاحين المصريين الذين كانوا في الجيش لم يجد شيئاً ليربط الأسرى فربطهم في حبل خيمة، كذا وثلاثين أسيراً، وسيرهم كالأغنام حوله وفدا بعضهم بنعله، لم يكن معه نعل يلبسه فأخذ منه نعله فداء وتركه، يعني كان الواحد لا يساوي نعلاً، هكذا كان هذا اليوم يوماً من أيام الله.
معركة فتح بيت المقدس
بعد ذلك ظل صلاح الدين يفتح البلاد بعد البلاد، يفتح المدن المختلفة، بيروت وصيدا وعكا وعسقلان وغزة ونابلس، كل هذه البلاد صار يفتحها بلداً بلداً، ومن كان فيها من أسرى المسلمين أطلقهم وأكرمهم وهكذا، إلى أن تهيأ صلاح الدين للمعركة الثانية بعد معركة حطين، هذه المعركة هي معركة فتح بيت المقدس، فتح القدس وإنقاذ المسجد الأقصى، لقد عاث الصليبيون فساداً خلال هذه السنين، حينما فتح صلاح الدين عكا أقام فيها صلاة الجمعة وقد حرمت فيها صلاة الجمعة أكثر من سبعين عاماً، لم تصلى فيها جمعة، وهنا أراد أن يفتح بيت المقدس وعلم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بنية هذا السلطان العادل أن يفتح بيت المقدس ويحرره من أيدي الصليبيين، فجاءه العلماء والصلحاء والزهاد والأتقياء من كل مكان، يريدون أن ينالوا شرف المشاركة في هذا الجهاد العظيم، القدس، معركة القدس خاصة إنها معركة يهواها كل مسلم، كل مسلم يود أن يكون ممن يحرر القدس، يوم يفتح الباب للجهاد، حينما علم الناس بنية صلاح الدين أنه بعد حطين لابد أن يفتح القدس جاءه الناس من كل مكان، كبار الناس من العلماء والصلحاء من بلاد الإسلام جاءوا لينضموا إلى جيشه وفعلاً حاصر القدس وكان فيها أكثر من ستين ألفاً من المقاتلين الأشداء المدربين، وقد حصنوها تحصيناً بليغاً ولكن الله سبحانه وتعالى قوى قلب صلاح الدين وحاصر هذه المدينة واستطاع أن ينقض جزء من سورها وأن يهدد من كان في داخلها وجاءه قادة هؤلاء الصليبيين يستعطفونه ويطلبون منه الصفح والعفو، هؤلاء الذين دخلوا هذه المدينة فقتلوا سبعين ألفاً من أهلها أو أكثر من ذلك، وسالت الدماء أنهاراً وغاص الناس في الدماء إلى الركب حين دخل الصليبيون القدس الشريف، منذ اثنتي وتسعين عاماً هجرية، ولكن هؤلاء اليوم جاءوا يطلبون العفو والصفح ورفض صلاح الدين في أول الأمر ثم نظر في العاقبة ووجد أن في هذا العفو خيراً وعفا عن هؤلاء على أن يتركوا ويذهبوا إلى مكان أمنهم في صور في لبنان، وكل واحد منهم يدفع 25 ديناراً للرجل وخمسة دنانير للمرأة ودينارين لكل صغير وصغيرة فدية بسيطة معظمها أخذوها من مال المسلمين حينما احتلوا هذه الديار.
ونصر الله عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب الكافرة المغيرة وحده ودخل المسلمون بيت المقدس بعد اثنتين وتسعين سنة، ظل في أيدي الصليبيين، دخلوه في السابع والعشرين من رجب سنة 583 هجرية، دخلوا وكان يوم جمعة ولكنهم لم يصلوا الجمعة في ذلك اليوم لأنهم كانوا مشغولين ولم يسعفهم الوقت ليعدوا المسجد، فالمسجد مليء بالصلبان والقذارة والخنازير ولذلك لم يصلوا إلا في الجمعة التالية، أخذ المسلمون المسجد الأقصى وأصبح في أيديهم، في الجمعة التالية كانت خطبة عظيمة، خطبة التحرير، خطبة الصلاة بعد الحرمان هذه المدة الطويلة.
المعركة لم تنته بحطين وبفتح بيت المقدس(/4)
وهكذا أيها الأخوة لابد للحق أن ينتصر ولابد للباطل أن ينكسر (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) ولكن أحب أن أقول لكم أن المعركة لم تنته بحطين ولم تنتهي بفتح بيت المقدس، فسرعان ما انتقض الصليبيون على صلاح الدين وعادوا إلى عكا بعد أن حررت منهم، جاءوا من البر والبحر ألوف، جاء ملك ألمانيا وكان معه مائة وخمسون ألفا معظمهم ماتوا في الطريق ولم يصل إلا بخمسة آلاف، ثم جاء ملك الإنجليز ريتشارد قلب الأسد، جاءوا لم يستسلموا وظل القتال بقية عمر صلاح الدين ومع أولاده ثم بعد ذلك مع المماليك أيام الظاهر بيبرس البندقداري المملوك الذي حكم مصر والشام، بل ظل ذلك بعده أيضاً أيام القلاونيين، نحن نعرف الملك لويس التاسع الذي كان يسمى القديس لويس، الصليبيون جاءوا في حملات متتالية، ثمان حملات أو تسع حملات بعضها وراء بعض، يحاولون أن يحتلوا هذه البلاد واحتلوها وأقاموا فيها ممالك وإمارات بالفعل ولكن الله هيأ لهم الرجال الذين استطاعوا أن ينتزعوها من أيديهم وهذا هو وعد الله حينما قال (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) النصر للمؤمنين والنصر بالمؤمنين ، كما قال عز وجل (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) إنما يتم النصر بالمؤمنين المؤتلفة قلوبهم أما المؤمنون المختلفون الذين يشرق أحدهم ويغرب الآخر ويقاوم أحدهم ويستسلم الآخر فهؤلاء لا ينتصرون إنما النصر للمؤمنين المترابطين المؤتلفين، (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم)، نسأل الله عز وجل أن يفتح لنا فتحاً مبيناً، وأن يهدينا صراطاً مستقيماً وأن ينصرنا نصراً عزيزاً، اللهم آمين، ادعوا الله تعالى يستجب لكم.
تدخلات أضاعت الثمرة والأمال
الحمد لله، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، واشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يسبح له ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا محمداً عبدالله ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه الذين آمنوا به ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه ورضي الله عمن دعا بدعوته واهتدى بسنته وجاهد جهاده إلى يوم الدين، أما بعد،،،
فيا أيها الأخوة المسلمون، في تاريخ الجهاد الفلسطيني محطات كثيرة كان يمكن للأخوة الفلسطينيين أن ينتصروا فيها وأن يجهض المشروع الصهيوني ولكن للأسف حدثت تدخلات مختلفة أضاعت الثمرة والآمال، في سنة 1936 أعلن الفلسطينيون إضراباً عاماً أشبه بحركة عصيان مدني شمل كل المدن والقرى، أغلقت المحلات والمتاجر وكل شيء وظل هذا شهوراً عدة، واحتار الإنجليز الذين كانوا يحكمون فلسطين في ذلك الوقت منتدبين من عصبة الأمم، ليحققوا وعدهم الذي وعد به وزير خارجيتهم المعروف بلفور الذي وعد اليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، احتار الإنجليز ماذا يفعلون أمام هذا الإجماع الذي قل أن يوجد له نظير فاستعانوا على إخماد هذه الوقفة التاريخية بالقادة العرب، وكان الإنجليز يحكمون كثيراً من البلاد العربية، استعانوا بالزعماء العرب ليتوسطوا لدى الأخوة الفلسطينيين ليفكوا هذا الإضراب واستطاع الزعماء العرب أن يؤثروا على الفلسطينيين وأن ينزلوا عند رغبتهم ورأيهم وأن يفكوا هذا الإضراب، وهذا كان في صالح الحركة الصهيونية من غير شك، تنفست الصعداء واستطاع الإنجليز أن يمدوا لها في حبالها ويهيئوا لها السلاح والعتاد حتى أصبح لها شأن بعد ذلك، العصابات الإرهابية المعروفة، هذه محطة.
محطة أخرى لإجهاض المقاومة
ومحطة أخرى كاد المشروع الصهيوني فيها أن يجهض عندما دخلت الجيوش العربية السبعة في سنة 1948 حينما جلا الإنجليز وانتهى مدة انتدابهم ثلاثون عاماً، دخلت الجيوش وعلى رغم ما كان في هذه الجيوش من خلل ومن عيوب وبعضها كان يقودها إنجليز من أمثال كلود باشا وغيره، ولكن كان في هذه الجيوش وطنيون ومسلمون ورجال متحمسون واستطاعوا أن ينزلوا ضربات موجعة بالحركة الصهيونية وبجماعاتها المسلحة، وهنا بعد أن كاد المشروع الصهيوني أن يجهض استعانوا أيضاً بالقادة العرب وكانت الهدنة التاريخية المعروفة باسم هدنة رودس، فرض على الجيوش وعلى المتطوعين أن يلقوا السلاح، بل أخذ المتطوعون من ميدان القتال إلى ميدان الاعتقال، ذهبوا وراء الأسلاك ووراء القبضان معتقلين في جبل الطور، نفذ ذلك النقراشي باشا في مصر وعدد من رؤساء الحكومات العرب في ذلك الوقت.
عقدت المؤتمرات لحماية إسرائيل ومحاربة الإرهاب(/5)
ومن قريب منذ سنوات قامت انتفاضة مباركة هائلة زلزلت الكيان الصهيوني، أطفال الحجارة، ثورة المساجد التي انطلقت من غزة انطلاقاً تلقائياً، لم يكن في تخطيط أحد ولكن حدث حادث حرك الناس كما في الانتفاضة الأخيرة، واستمرت السنوات وكان لها صداها، وانتقلت من الحجارة إلى الرصاص وإلى العمليات الاستشهادية داخل القدس الغربية وداخل تل أبيب، وزلزلت الأرض تحت أقدام إسرائيل ولكن سرعان ما عقدت المؤتمرات لحماية إسرائيل ومحاربة الإرهاب، الإرهاب هو أن تدافع عن أرضك وعن عرضك وعن أهلك وعن حرماتك، هذا إرهاب يجب أن تقعد له المؤتمرات، وأوقفت الانتفاضة وأوقفت هذه الحركات.
يراد مرة أخرى إطفاء هذه الانتفاضة
وحينما حدث ما حدث من تدنيس المسجد الأقصى انطلقت الانتفاضة الجديدة، انتفاضة تلقائية، لم يخطط لها أحد ولم يحركها أحد، تحرك تلقائي من أبناء فلسطين غيرة على المسجد الأقصى، وضيقاً بهذه المحادثات والمفاوضات التي طال طريقها ولم يجن الناس من ورائها ثمرة ولم يحصلوا على شيء إلا على السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، انطلقت هذه الانتفاضة التي قدمت المئات من الشهداء والآلاف من الجرحى، الجرحى الذين معظمهم معاقون يعيشون بعاهات في أجسامهم طوال حياتهم، الآن يراد مرة أخرى إطفاء هذه الانتفاضة، إطفاء هذه الشعلة والعودة من جديد إلى دائرة المفاوضات محلك سرك، حلقة مفرغة لا يدرى أين طرفاها، عدنا إلى ما كنا فيها، أوسلو وواي ريفر وكامب ديفد الثانية وشرم الشيخ .. و .. و، عدنا إلى ما كنا، أخشى إذا أوقفت هذه الانتفاضة واحتاج ياسر عرفات وإخوانه إلى انتفاضة جديدة ألا يجدوها، فقد يئس الناس من هذه الانتفاضات التي لا توصل إلى شيء، إلا ضحايا من غير ثمن، ضحايا لا مقابل لها.
إلى متى نظل هكذا أيها الأخوة، إلى متى نظل نسير ونسير كالثور في الساقية والمكان الذي انتهينا إليه هو الذي ابتدأنا منه، ألا نحدد هدفنا، ألا نعرف عدونا، أما آن لنا أن نعرف هذا العدو الذي جربناه طوال تلك السنين، فلم نعرف عنه إلا نكث العهود وإخلاف الوعود وتعدي الحدود وانتهاك الحرمات، والاستهانة بالمقدسات.
الخاتمة
أسأل الله تبارك وتعالى أن ينير طريقنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويوفقنا لاجتنابه، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصرنا علينا، واهدنا ويسر الهدى إلينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم إنا نسألك الهدى والتقوى، اللهم لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، وارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم أكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، اللهم عليك باليهود المعتدين المجرمين، اللهم عليك باليهود المعتدين المجرمين، اللهم رد عنا كيدهم، وفل حدهم، وأذهب عن أرضك سلطانهم، ونكس أعلامهم، ولا تجعل لهم سبيل على أحد من عبادك المؤمنين، اللهم أنزل عليهم غضبك وأحل بهم سخطك وأنزل عليك بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم خذهم ومن ناصرهم أو وادهم أو عاونهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم انصر أخوتنا المجاهدين في فلسطين، اللهم أيدهم بروح من عندك وأمدهم بملأ من جندك واحرسهم بعينك التي لا تنام واكلأهم في كنفك الذي لا يضام، اللهم افتح لهم فتحاً مبينا، واهدهم سراطاً مستقيماً، وانصرهم نصراً عزيزاً، وأتم عليهم نعمتك، وأنزل في قلوبهم سكينتك وانشر عليهم فضلك ورحمتك، اللهم اجمع كلمة هذه الأمة على الهدى وقلوبها على التقى ونياتها على الجهاد في سبيلك وعزائمها على عمل الخير وخير العمل، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)، قبل أن نقيم الصلاة أذكركم بأن هناك أخوة من جمعية قطر الخيرية يجمعون التبرعات من أجل الانتفاضة (وما أنفقتم من خير فهو يخلفه وهو خير الرازقين)، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون(/6)
البغي والعدوان
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
مكر وكيد الكافرين الظالمين صورة أخرى نقف معها ؛ لنتبصر في ضوء القرآن والسنة الواقع الذي نعيشه بعد أن وقفنا في الجمعة الماضية مع صورة البغي والعدوان والظلم والطغيان ورأينا وصفهما في القرآن ورأينا مآلهما في آيات ربنا الرحمن ، وفي سيرة المصطفى العدنان - صلى الله عليه وسلم – رأينا إن البغاة الطغاة الذين اعتزوا بقوتهم واغتروا بما لديهم من كثرة عدد وعدة ووسائل أعلنوا غطرستهم ، وأظهروا هيمنتهم ، وداسوا - كما أشرنا - على القوانين ، وتجاوزوا كل المبادئ والأعراف الدولية أو البشرية أو الإنسانية !
إلا أنهم مع ذلك لهم مكر خفي ، وكيد عالمي ، يمكرون به ويكيدون للإسلام وأهله ، وكثيراً ما يروج هذا الكيد ، ويمر هذا المكر بغفلة وسذاجة من كثير من أهل الإسلام ، بل ربما تروج الحيل حتى يتبناها من بني جلدتنا والناطقين بألسنتنا من يروجون لها ، ومن يرون فيها حقاً وصواباً ، بل من يندفعون إليها متحمسين غير مدركين لتلك الألاعيب والحيل التي تسيّرها وتروّجها آلة إعلامية ضخمة ، تغير الحقائق ، وتجعل البريء - ليس متهماً - بل مدانا مجرماً ، وتجعل الباطل - ليس بريئاً ولا نزيهاً - بل هو الحق الناصع ، والعدل التام !!
وكذلك يستخدمون في المكر والكيد أساليب التجسس والاستخبارات ، وجمع المعلومات ، ورصد الصور ، وتسجيل الأصوات فيما يتتبعون به الأنفاس ويلاحقون به الناس شرقاً وغرباً ، ويذل لهم من يذل ، ويتوافق معهم من يتوافق ، ويغترّ بهم من يغترّ ؛ ليمضي الله أمره ، ويجري قدره ، ويظن القوم أنهم قد أحاطوا بكل شيء علماً ، وأنهم قد أحكموا لكل شيءٍ تدبيراً : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ الأنفال: من الآية30].
لننظر إلى المكر والكيد - ونحن نعلم أنه يحيق بنا ويحيط بنا من سائر جوانب حياتنا ، وفي كل مجتمعاتنا ، وفي سائر ديارنا ، وفي جميع مجالات حياتنا حتى أراد ولا يزال يريد ويسعى أن يتلصص على الكتب التي يقرؤها أبناؤنا في المدارس ، بل يريد أن يدخل إلى عقر بيوتنا ليرى ما نتحدث به مع أبنائنا .. إنه مكر عظيم كبير .. إنه كيد خطير وجليل ، فهل يرعبنا ذلك معاشر المؤمنين ؟ وهل يفتّ في عضدنا معاشر المسلمين ؟ وهل يجعلنا في حيرة من أمرنا وفي شك من ديننا ؟ وهل يفعنا إلى أن نلتمس الخلاص منه في شرق أو غرب أو استعانة بهذا أو ذاك ؟ أو لين وذلّ لا يتفق مع الإسلام لأجل مداراة أو مداهنة ؟
انظر إلى هذه الحقائق نستجليها في الضوء الساطع المبين في كتابنا القرآن المبين ..
المكر هو : الخديعة والاحتيال ، وكما عرّفه بعض علمائنا في صورتين اثنتين نراهما بأم أعيننا في سائر هذه الأحوال ، إيصال المكره إلى الإنسان من حيث لا يشعر صورة من صور الكيد .
والصورة الأخرى : صرف الغير عما يقصده بحيلة .. نقصد كثيرا من الخير فيأتي الكيد ليرينا إياه على غير صورته ؛ فننصرف عنه إلى غيره ، ونظن أننا نحسن صنعاً ، وأننا نتقن عملاً !
وكثيرا ما يكون ذلك عن غير ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن ؛ فإن المؤمن كيّس فطن ، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، ورحم الله الفاروق عندما قال: " لست بالخب ولا الخب يخدعني " كم مرة دار هذا الكيد على أمة الإسلام ؟ وكم مرة تزخرفت ألوان المكر وتلونت وفي كل مرة يظهر لنا بصورة ويخرج علينا باسم ؟ ما أنكرناه بالأمس من هذا الطريق يجيئنا من طريق آخر فنرحب به ونقبله ولا نتعظ ولا نعتبر ، ولا ندرك الحقائق كما كشفتها آيات القرآن الكريم ، والذي أحب أن ننتبه له أن كل هذا المكر والكيد لا يغني عن أهله شيئاً ، ولا يضر أهل الإيمان إن صدقوا إيمانهم وأخلصوا إسلامهم شيئاً .
هذه صورة قرآنية لأولئك الكفرة الفجرة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، ويعيثون فيها فساداً وإن زعموا غير ذلك : { اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } [ فاطر:43 ].
صورة قرآنية واضحة المعالم للمستكبرين في الأرض الطاغين المعتدين الظالمين : {اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ } [ فاطر: من الآية43].
قال أهل التفسير ،كما ذكر السعدي في تفسيره: " المكر الذي مقصوده سيئ ومآله ومرامه سيئ " ، هذا المكر السيئ عاقبته كما أخبر الله - سبحانه وتعالى - أنه لا يحيق إلا بأهله ، والإحاقة : " الإحاطة المتعذرة عن الامتناع " ، ستكون العاقبة أن المكر يعود عليهم ، وأن الكيد يحيط بهم ، وأن من حفر حفرة لأخيه أو لعدوه أو لمن كان فإنه يقع فيها .(/1)
ومن كلام محمد بن كعب القرظي رحمه الله - من التابعين - قال : " ثلاث من فعلهن لم ينجح حتى ينزل به : من مكر أو بغى أو نكث " وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } [ فاطر: من الآية43] .
وقوله: { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } [ يونس: من الآية23].
وقوله: { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } [ الفتح: من الآية10].
فهل نحن في شكٍ من قرآننا ؟ ينبغي أن نوقن بذلك لكن أن نعرف واجبنا ومهمتنا ، هل نبقى في لهونا ولعبنا وغفلتنا ؟ هل نستمر في غينا وضلالنا وفسادنا وإفسادنا ؟ هل نبقى نظن أو نحسن الظن بمن كادنا مرارا وتكراراً ؟ ومن ظهر على فلتات ألسنتهم معاقد ما في قلوبهم ، وخفايا ما في نفوسهم ؟ أليسوا قد أعلنوها في فلتة لسان تلتها اعتذارات بأنها حروب صليبية ؟ أليست صدرت التقارير والدراسات التي أعلنت بأن هذه الديار هي أساس الشر ومنبع الضر في العالم كله ، وينبغي أن تحارب وأن تكون العدو الأول ؟ ثم تنصل هذا وقال : " ذاك لا نعنيه " ، وقال : " ذاك يعبر عن رأي صاحبه " !!
إنها القضايا التي لا تروج ولا تمر إلا على المغفلين والحمقى الذين لا ينبغي أن يكون المسلم واحداً منهم .. استمع إلى هذا التفسير وإلى هذا البيان في قوله : {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } [ فاطر: من الآية43].
فبَانَ خزيهم ، وظهرت فضيحتهم ، وتبينَ قصدهم السيئ ، فعاد مكرهم في نحورهم ، وردّ الله كيدهم في نحورهم ، فلم يبق لهم إلا الانتظار لما يحل بهم من العذاب ، الذي هو سنة الله في الأولين التي لا تبدل ولا تغير : أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد أن تحلّ به نقمته ، وأن تسلب منه نعمته ، فليترقب هؤلاء ما فعل بأولئك ! سنة الله ماضية لا تتخلف ..
وتأمل هذا الربط : { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } [ فاطر: من الآية43].
فهل بعد هذا التأكيد من تأكيد ؟ وهل بعد هذا البيان من بيان ؟ أم أن العقول لا تعي ؟ وأن القلوب لا تفقه ؟ وأن النفوس قد أصابها من المرض والضعف ما يشبه أن تكون به مواتاً لا حياة فيها ؟! إنها آيات القرآن التي ينبغي أن نقرأها وأن نعقلها ، وأن نحيي بها قلوبنا ونفوسنا ، وأن نعرف بها كيف نواجه أعداءنا .. لا أن نكون أغراراً وسذجاً .. لا أن تكون وسائل إعلامنا أبواقاً تردد ما نسمعه في النهار بالليل وما نسمعه بالليل في النهار .. إنها قضايا قرآنية عظمى تكشفها لنا الآيات وتبينها .. { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ } [ فاطر:10].
وتأمل أيضا هذه الآية والآيات كثيرة والقرآن كله أنوار تضيء الطريق ، وحقائق تكشف الباطل والزيغ والشبهات : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } [ فاطر: من الآية10].
أقوال كثيرة لأهل التفسير منها كما قال القرطبي في تفسيره : " يريد سبحانه أن ينبه ذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أين تستحق؛ فتكون الألف واللام للاستغراق، وهو المفهوم من آيات هذه السورة. فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذل، وسكون وخضوع، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعة ولا محجوبة عنه؛ قال صلى الله عليه وسلم : (من تواضع لله رفعه الله). ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده. " .
ولذلك أيضا قال الشاعر في هذا المعنى :
وإذا تذللت الرقاب تواضعا **** منا إليك فعزها في ذلها
وهو مطلب يأتينا ليرسم لنا الطريق الصحيح الذي نستطيع به أن نكون مؤهلين لمواجهة الكيد والمكر :{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } [ فاطر: من الآية10].
علّق القلب بالله ، واربط المقصد بالله ، ولا تذل لغير الله ، ولا تطلب عزةً ولا نصرة إلا من الله ، وذلك قول قد نقوله ، وكلام قد نردده .. فأين تصديقه في الواقع ؟
استمع للآية وهي تربط المعاني ربطاً محكماً معجزاً : { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر: من الآية10].
ذلك المعنى الذي يربط بين القول والعمل ، الذي يجعلنا ندرك أن الطريق الصحيح هو أن نترجم أقوالنا إلى أعمال ؛ سيما في القضايا الكبرى المصيرية ، وفي الحقائق التي ينبغي أن نكشفها في مواجهة أعدائنا .. في المزالق والكيد الذي يخفى على كثير من أبنائنا ينبغي أن ننتبه إلى ذلك .
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }[فاطر: من الآية10].(/2)
مما ذكره أهل التفسير : أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إذا صدقه الكلم الطيب ، إن كان من نوع الوعد والجزم بالفعل ، ثم لم يتبعه الفعل لا يكون ارتفاع له ، بل ربما يكون القول حجة لك لا عليك ، كما قال ابن العربي رحمه الله في هذا المعنى : " الكلم الطب بمعنى الذكر ، والقول الحسن يؤجر عليه صاحبه ؛ فإن عمل سيئا أثم من جهة ، وكان الوزن للصلاح والعمل ، أما القول الذي يرتبط بالعمل ؛ فإنه إن صدقه العمل ورفع وزكي عند الله - عز وجل - وإن كان غير ذلك كان وبالاً على صاحبه " .
فكم من قول وكم من راية نرفعها ؟ وكم من شعار نعليه أين حقيقته في واقع أمتنا وفي مجتمعاتنا ودولنا ؟ وأين حقيقته في أفرادنا في أنفسنا ؟ ألسنا نقول : إننا أهل إيمان وإسلام ؟ ألسنا نقول : إننا أهل ولاء وبراء ؟ ألسنا نقول إننا أهل دعوة ورسالة؟ ألسنا نقول : إننا أهل غاية في هذه الحياة الدنيا لإعلاء كلمة الله .. فأين تصديق ذلك ونحن نجعل أنفسنا مطية يرتحلها كل ظالم وباغ ليصل إلى مراده بكثير من غفلتنا وكثير من سذاجتنا ؟ أليسوا ينتجون ونستقبل ،ويبثون ونشاهد ، ويروجون ونتقبل ، ويصنعون ونشتري ، دون أن يكون عندنا شيء من وعي أو انتباه لما يحيق بنا من مكر ، وما يقرر لنا من كيد في كل هذه الأمور التي نتعامل معها ؟
ليس المر قطيعة ومقاطعة ليس لها فقه ولا وعي ؛ وإنما هو إدراك ينبغي أن نعيه ، وأن ندركه ، وأن نتبع أقوالنا بأعمالنا ، وأن نعمم وعينا في سائر دوائر أمتنا وأوساطنا ، في كل المجالات التي ينبغي أن نوصل فيها مثل هذه المعاني القرآنية إلى كل مسلم ينبغي أن ينتبه لها وأن يعيها :{ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام: من الآية124].
آيات قاطعة في معانيها - والسين للاستقبال - سيكون ذلك حتماً لازماً ، وقدراً واقعاً أن المجرمين الماكرين الكائدين سيصيبهم هذا الذل والصغار عند الله سبحانه وتعالى ، قال ابن كثير في تفسيره - في بيان ذكر العذاب الشديد مقترنا بالمكر ، والمكر خفي غير ظاهر ، والعذاب الشديد معلنا على رؤوس الأشهاد - قال : " لما كان المكر غالباً إنما يكون خفياً وهو التلطف في التحيل والخديعة قوبلوا بالعذاب الشديد من اللّه يوم القيامة جزاء وفاقاً {ولا يظلم ربك أحداً}، كما قال تعالى: {يوم تبلى السرائر} أي تظهر المستترات والمكنونات والضمائر " .
ولذلك استشهد هنا ابن كثير بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ( ينصب لكل لواء غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان) ، والغدر كيد مخفي ، ولذلك جاءت عقوبته معلنة يوم تبلى السرائر أي: تكشف وتعلن ، ومن رحمته وحكمته سبحانه وتعالى أنه يعجّل من ذلك ما يثبت به أهل الإيمان ويبصرهم به ، ويزيدهم يقينا ، بما في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. وكل ما جاء في القرآن من شأن المكر والكيد الكافر الظالم الباغي الموجه لأهل الخير والحق والعدل ، كله مآله إلى الذوبان وإلى الدمار والهلاك حتى كيد الشيطان { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً }[النساء: من الآية76 ].
متى يكون ضعيفا ؟ يوم يكون في القلب إيمان ، يوم يكون في العقل إدراك ، يوم يكون في السلوك إسلام ، يوم يكون في الصفوف وحدة ، يوم لا نسمح أن تتسلل شياطين الإنس والجن من بين أظهرنا ، وتكون من وراء ظهورنا في صفوفنا ، يوم نمنع تلك الوساوس التي تخالط العقول ، وتخامر القلوب ، وتشكك في حقائق إيمانية مهمة في شأن حقائق الأعداء ، وحقائق الأولياء ، وما ينبغي أن يكون عليه المسلم من ثبات في إيمانه ، ويقين في معتقده .. والأمر في هذا واضح تحكيه لنا الآيات وترويه لنا مواقف السنة.
{ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا }[ آل عمران: من الآية120].
سبحان الله ما أوجز هذه الآيات ! وما أعمق وأوسع معانيها ! أليست تصور واقعنا اليوم {إن تمسسكم حسنة تسؤهم} ؟ أليس غيظ قلوبهم في ثروات المسلمين ؟ أليس سوؤهم في استقامة أبناء المسلمين ؟ أليس غيظهم في تكاثر المسلمين في المساجد ، وفي المصاحف التي تقرأ آناء الليل والنهار ؟ أي شيء يضيرهم في ذلك ؟ أي إرهاب في هذا ؟ أي عنف أو ظلم كما يدعون ؟
{ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا }[ آل عمران: من الآية120].
ما أفرحهم بما يروج على أبنائنا ويتقبلونه من كيدهم ومكرهم ! ما أسعدهم بمن يوافقهم رأيهم ! ما أسعدهم وأفرحهم بمن يسير في ركابهم ويعينهم على أبناء الإسلام من إخوانهم وبني جلدتهم والناطقين بألسنتهم !
{ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا }[ آل عمران: من الآية120].(/3)
صبرٌ زاده تقوى الله .. صبر منبعه ومنبع قوته الاستمداد من الله عز وجل ، ماذا يصنع أهل الأرض ؟ ماذا يصنع أهل البغي ؟ ماذا يستطيع أهل الباطل ؟ ماذا تستطيع قوى الأرض كلها {لا يضركم كيدهم شيئا}.
وكما قال تعالى في موضع آخر :{ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ }[ الأنفال: من الآية18].
لكنه لا يكون ذلك إلا بتحقيقكم - معاشر المؤمنين - لإيمانكم وإسلامكم ، فاعلموا أن التقصير إنما هو منا ، وأن البلاء إنما هو بذنوبنا ، وأن تسلّط أعدائنا إنما هو بحبال ، وليس بحبل واحد منا ، فلنرجع إلى كتاب ربنا ، ولنتدبر ما كان من أحداث سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ لندرك هذه الحقائق ، ولنعلم يقينا ما جاء في كتاب ربنا.. { وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } [غافر: من الآية25].
{ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق:15،16،17 ].
ذلك وعد الله الذي لا نشك فيه.
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه .
وإن من أعظم تقوى الله أن نواجه أعداء الله عز وجل باعتصامنا بكتاب ربنا ، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وائتلاف قلوبنا على الحق والهدى ، واجتماع صفوفنا في نصرة الإسلام وأهله بكل ما يستطاع بإذن الله عز وجل.
{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّه }[ الأنفال: من الآية30 ].
فمكر الله وكيده مما ثبت من صفاته سبحانه وتعالى إلا أنها صفات كمال له - جل وعلا - لا تلتبس بما يكون من أبالسة الجن والإنس الماكرين الكائدين ، فهو - أي المكر - من الخلْق الحِيلة السيئة ، ومن الله سبحانه وتعالى التدبير بالحق مجازاة على أعمال الخلق ، وكما قال ابن القيم رحمه الله: " مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن ، فيكون المكر منهم أقبح شيء ومنه سبحانه وتعالى أحسن شيء ؛ لأنه مجازاة على مكرهم ".
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال:30].
نعرف تلك الصفحة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، يوم اجتمع كفار قريش يأتمرون به ويتآمرون عليه ، ويدبرون كيدهم ، ويحكمون مكرهم ، ويتشاورون فيما بينهم ، ويتزعمهم طاغيتهم أبو جهل .. ضربوا الآراء أخماسا بأسداس ، وانتهوا إلى رأي أملاه عليهم إبليس ، فائتمروا وصنعوا وفعلوا كل شيء .. فهل كان صلى الله عليه وسلم غافلا ؟ وهل كان عن مثل هذا غائبا ؟ لقد أخذ للأمر عدته وأسبابه التي بيده ، وجاءت قدرة الله عز وجل ورعايته وعنايته ، التي جسدها عندما كان في الغار مع أبي بكر بعد هذا الحدث فقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام بلسان اليقين : ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) .
خرج من بين أظهرهم وحفا بالتراب فوق رؤوسهم .. أذلهم إذلالاً مادياً واضحاً ملموساً ليبدي لهم أن ما يمكرونه وما يكيدونه ، ثم ما هو أعظم منه وأجلّ وهو مكر الله وكيده المبطل لكل كيد يحاق بأهل الإيمان والإخلاص عاجلا أو آجلا - بل في الدنيا قبل الآخرة - كما هي وعود الله عز وجل .
وكما نرى في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه كان دائما يتتبع أحوال أعدائه ويترصدهم ، ويعرف ما يدبروه ، ويتتبع ما يمكرون .. وكم هي الغزوات التي كانت أسبابها علمه عليه الصلاة والسلام بما جمع من الأخبار أنهم يعدون له ، أو أنهم يتهيئون لحربه ، فيبدأهم قبل أن يبدؤوه ، ويفاجئهم قبل أن يفاجئوه .. وذلك دليل اليقظة التامة ، والحذر الشديد ، والمعرفة اليقينية .
ولسنا - معاشر المسلمين - أهل قتل وأهل بغي وعدوان أبداً ، ولكننا أهل حق ورسالة وعدالة وإنسانية ، فإذا جاء البغاة والطغاة والظلمة ليفسدوا البشرية كلها ، وليعمموا هذا الظلم والجور على الخلق ويسيطروا عليهم ، ويقبضوا على رقابهم ، ويحنوا ظهورهم ، ويتصرفوا في شؤونهم ، وينهبوا ثرواتهم .. أفليس من العدل والحق والإنصاف أن يرد ذلك عليهم ، وأن يمنعوا من هذا الفساد والإفساد ؟
وانظر إلى هذا المكر الذي يكيدونه إنهم اليوم يذهبون بنا شرقا ، ويسلطون الضوء على قضية يصمون بها آذاننا صباح مساء ؛ لتنصرف الأنظار عن أرض فلسطين .. عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. عن ما يحلّ هناك في المسجد الأقصى ؛ لتنصرف الأفكار عن ما يجري في كشمير ؛ لينصرف الأمر كله عن ما يدبر في مناهج المسلمين هنا وهناك ؛ ولينصرف - أيضا - الأمر عن كيدهم وظلمهم في بلاد المسلمين ، وما دمروا فيها وأفسدوا ، وما تحكموا في مقاليد أمورها ..(/4)
والسعيد من وعظ بغيره ، والعاقل من أدرك حكمة العرب في قولهم : " أكلت يوم أكل الثور الأبيض " كم داهنا أو وافقنا أو ظننا أن في ذلك خيراً ولم نفقه حيل أعدائنا ومكرهم أنهم يتوصلون من أول الطريق ليكون طريقهم إلى ثانية أو إلى ثالثة أو إلى رابعة !
وكثيراً ما يكون ذلك كذلك في سائر الأحوال ، والقضية الكبرى التي يراد لها أن تكون في ضمن هذا المكر والكيد هي إقرار هذا البغي والعدوان ، والتصرف في شؤون الأمم والدول ، والاستيلاء على ثرواتها ، والتمهيد والتمكين لأعدائها - وخاصة من اليهود في أرض فلسطين على وجه الخصوص وفي بلاد الإسلام والمسلمين على وجه العموم - وذلك أمر لا يستطيع أن يغفله أحد ، وهي قضايا يتلاعبون بها ، وربما يأتوننا بقضية رجل واحد أو حادثة صغيرة فيضخمونها ويروجون عليها ويبهرجونها بالإعلام ، وننسى ما هو أعظم وأجلّ وأكبر ، وهذا جزء من الكيد والمكر فلا نغفل عن حقيقة إيماننا ، وعن حقيقة إسلامنا ، وعن حقيقة ما تكشفه لنا الآيات والأحاديث ، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم والأمر في ذلك واضح بين.(/5)
البقاء لله وحده ...
فضيلة الشيخ عبد الحميد كشك ( رحمه الله)
الرقائق
لو كان أحد سيخلد في هذه الدنيا لكان الأولى بالخلود سيد البشر صلى الله عليه وسلم، ولكنه لحق بالرفيق الأعلى، وانتقل من دار الفناء إلى دار الخلود والبقاء. والمتأمل لآيات القرآن الكريم يجدها في هذه القضية قضية الموت موجبة كلية. اسمع إلى قوله جل شأنه: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور). وقوله تبارك اسمه: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون). وقوله سبحانه وتعالى: (ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون). وقوله جل وعز: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). فسبحان صاحب العزة القائمة، والمملكة الدائمة. وسبحان ذي الملك والملكوت. والعزة والجبروت. والبقاء للحي الذي لا يموت.
تزود من التقوى فإنك لا تدري ***إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكاً***وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من عروس زينوها لزوجها***وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم ***وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من صحيح مات من غير علة***وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر(/1)
فالحمد لله المستحق لغايات التحميد، المتوحد في كبريائه من غير تكيف ولا تحديد. العلي القوي الولي الحميد. الغني المغني المبدئ المعيد، المعطي الذي لا يفنى عطاؤه ولا يبيد، المانع فلا معطي لما منع، ولا راد لما يريد، خلق الخلائق وسلكهم أحسن الطريق، إلى الأمر الرشيد، وصورهم فأحسن صورهم وبشرهم في الجنة بالنعيم والتخليد. وبصرهم بعين الاعتبار، وحذرهم من عذاب النار والوعيد، وألزمهم شكره، وضمن لهم كنز فضله المزيد، وحكم عليهم بالموت فما لأحد عنه محيص ولا محيد. فكم أبكى خليلاً بفراق خليله، وكم أيتم وليداً وشغله ببكائه وعويله، فلم يغنه ذلك شيئاً عن أمر من يبدئ ويعيد، ومن هو فعال لما يريد. فسبحان من أذل بالموت من الجبابرة كل جبار عنيد، وكسر به من الأكاسرة كل بطل صنديد. أخرجهم من سعة القصور إلى ضيق القبور. وقطع حبل أمدهم المديد. أخذ به الآباء والجدود، والأطفال من المهود. فأسكنهم اللحود. وعفر وجوههم في الصعيد. وسوى في الموت بين الصغير والكبير. والغني والفقير، والمأمور والأمير، والولد والوليد. أفنى به الذكور والإناث. فهم في سجن الأجداث إلى يوم الوعيد. أفلا يعتبر الغافل بمصرعهم. وقد أفناهم الموت بأجمعهم، وفرق شملهم بالتبديد؟ فكيف يغتر الإنسان وهو يعلم أن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ولم يكن عند محيد. أما كانت نفوسهم بذلك عالمة، وهي من الموت غير سالمة (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد). أين أهل المدن والحصون؟ أين أرباب المعاني والفنون؟ أين المحصنون بكل حصن منيع. وقصر مشيد؟ أين الأمم؟ أين أرباب القصور العالية؟ حق عليهم الوعيد. فلو عاينتهم في قبورهم، لعجبت من أمرهم. قد غير البلى أحوالهم، ومزق أوصالهم، ولم يعرف منهم الأحرار من العبيد. أما أصبح منهم ذو الشدة والبأس بعد القرب والإيناس، في ظلمة اللحود وحيد؟ ما وعظهم الموت بمن أخذ من شقي وسعيد، وقريب وبعيد؟ أما أنذرهم قول الملك الحميد (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد). عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة، فقال رجل من الأنصار يا رسول الله من أكيس الناس؟ قال: أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً. أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرم الآخرة". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. فقلت يا رسول الله: أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت؟ فقال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه. والكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله فكره الله لقاءه". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه. قال: فإن كان لابد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي". فاجتهد أيها العبد في العمل الصالح. وأشفق من كأس لابد أنك ذائقه. وازهد في عيش لابد أنك مفارقه. فما أنت بعد الموت إلا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الميت في قبره إلا كالغريق المتعب ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديق له، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها". إن القبر يناديك بلسان حاله ويقول: "ويحك يا ابن آدم ما غرك بي ألم تعلم أني بيت الفتنة، وبيت الظلمة، وبيت الوحدة، وبيت الدود، وبيت التراب؟. فإذا زرت القبور يا أخي فلا تقل إلا خيراً، فإن الميت يتأذى بما يتأذى منه الحي. فما من رجل يمر على قبر أخيه المؤمن كان يعرفه فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام. يا بن آدم: تناجيك أموات وهن سكوت ***وسكانها تحت التراب خفوت أيا جامع الدنيا لغير بلاغة*** لمن تجمع الدنيا وأنت تموت وإنكمو إذ ما علينا تسلموا***نرد عليكم واللسان صموت نقلا من كتاب أصحاب النفوس المطمئنة للشيخ عبد الحميد كشك -رحمه الله -(/2)
البهائية حرب على الإسلام وموقف مصر منها
غلاف التوحيد العدد 51
غلاف التوحيد العدد 51
* مجلة التوحيد / الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه... وبعد:
فقد ظهرت البابية أو البهائية في بلاد فارس بدعة نشرها نفر من الخارجين على الإسلام،. وقد حمل وزرها رجل يدعى: "ميرزا علي محمد الشيرازي" الذي أطلق على نفسه لقب (الباب) أي الواسطة الموصلة إلى الحقيقة الإلهية، وكان هذا اللقب من قبل شائعا عند الشيعة التي ظهرت بينها هذه البدعة مأخوذة من حديث الترمذي: "أنا مدينة العلم وعلي بابها".
ومن ثم أطلق على هذه البدعة (البابية). ثم كان من خلفاء هذا المبتدع رجل اسمه (حسين نوري) أطلق على
نفسه لقب (بهاء الله) وأطلق على هذه البدعة اسم (البهائية).
والبابية أو البهائية فكر خليط من فلسفات وأديان متعددة، ليس فيها جديد تحتاجه الأمة الإسلامية لإصلاح شأنها وجمع شملها، بل وضح أنها تعمل لخدمة الصهيونية والاستعمار، فهي سليلة أفكار ونحل ابتليت بها الأمة الإسلامية حربًا على الإسلام وباسم الدين. ومبادئ هذه البدعة كلها منافية للإسلام ومن أبرزها:
* 1- القول بالحلول بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى بعد ظهوره في الأئمة الاثني عشر وهم أئمة الشيعة ظهر في شخص اسمه (أحمد الأحسائي) ثم في شخص الباب ثم في أشخاص من تزعّموا هذه الدعوة من بعده.
ولقد ادعى "بهاء الله" أولا: أنه الباب، ثم ادعى أنه المهدي، ثم ادعى النبوة الخاصة، ثم ادعى النبوة العامة، ثم الألوهية. وذلك كله باطل ومخالفة صريحة لنص القرآن الكريم.
* 2 - جحود البهائيين (يوم القيامة) المعروف في الإسلام، ويقولون إن المراد به ظهور المظهر الإلهي، وأن
الجنة هي الحياة الروحانية. وأن النار هي الموت الروحاني.
* 3 - ادعاء بعضهم نزول الوحي عليهم وأن بعضهم أفضل من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ووضعهم كتبا تعارض القرآن، وادعاء أن إعجازها أكبر من إعجاز القرآن. وتلك قضايا يضللون بها الناس، ويصرفونهم عما جاء به القرآن في شأن كل أفاك أثيم.
* 4 - ادعاء أن بدعتهم هذه بتطوراتها منذ نشأت ناسخة لجميع الأديان.
* 5 - الإسراف في تأويل القرآن والميل بآياته إلى ما يوافق مذهبهم، حتى شرعوا من الأحكام ما يخالف ما أجمع عليه المسلمون من ذلك أنهم:
1 - جعلوا الصلاة تسع ركعات والقبلة حيث يكون بهاء الله. وهم يتجهون إلى حيفا بدلا من المسجد الحرام مخالفين قول الله سبحانه: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره.
2 - إبطال الحج إلى مكة، وحجهم حيث (بهاء الله) إلى حيفا مخالفين بهذا صريح القرآن الكريم في شأن فريضة الحج.
3 - تقديسهم العدد 19
ووضع تفريعات كثيرة عليه فهم يقولون: الصوم تسعة عشر يوما بالمخالفة لنصوص القرآن في الصوم وأنه مفروض به صيام شهر رمضان.
ويقولون: إن السنة تسعة عشر شهرا، والشهر تسعة عشر يوما، مخالفين قول الله سبحانه: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض" وقول الله تعالى: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ومخالفين الأمر المحسوس المحسوب أن الشهر القمري إما تسعة وعشرون يوما وإما ثلاثون يوما، وهو أيضا ما أنبأ به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
4 - إلغاؤهم فريضة الجهاد ضد الأعداء الثابتة بصريح القرآن، وصحيح السنة النبوية ودعوتهم هذه قضاء على الأمة الإسلامية، بل وعلى كل دولة من دولها. إذ في الاستجابة لها قضاء على روح الكفاح ودعوة إلى الاستسلام للمستعمرين والمغامرين، وهذا ما يؤكد انتماءهم للصهيونية العالمية، بل وإنهم نبت يعيش في ظلها وبأموالها وجاهها.
موقف مصر والأزهر من البهائية
* وحين وفدت هذه البهائية إلى مصر قاومتها كل السلطات على الوجه التالي:
أولا:
1 - أفتى الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر بكُفْرِ (ميرزا عباس) زعيم البهائيين ونشرت هذه الفتوى في جريدة مصر الفتاة في 27-12-1910 بالعدد 692.
2 - صدر حكم محكمة المحلة الكبرى الشرعية في 30-6-1946 بطلاق امرأة اعتنق زوجها البهائية باعتباره مرتدا.
3 - أصدرت لجنة الفتوى بالأزهر في 23-9-1947، وفي 3-9-1949 فتويين بردة من يعتنق البهائية.
4 - صدرت فتاوى دار الإفتاء المصرية في 11-3-1939، وفي 25-3-1968، وفي 13-4-1950 بأن البهائيين مرتدون عن الإسلام.
5 - وأخيرا أجابت أمانة مجمع البحوث الإسلامية على استفسار نيابة أمن الدولة العليا عن حكم البهائية، بأنها نحلة باطلة لخروجها عن الإسلام بدعوتها للإلحاد وللكفر، وأن من يعتنقها يكون مرتدا عن الإسلام.
القرار الجمهوري(/1)
* صدر القرار الجمهوري رقم 263 لسنة 1960م ونص في مادته الأولى على أنه: تُحل المحافل البهائية ومراكزها الموجودة في الجمهورية ويوقف نشاطها، ويحظر على الأفراد والمؤسسات والهيئات القيام بأي نشاط مما كانت تباشره هذه المحافل والمراكز.
إن مصر يجب أن تذكر دائما أنها قامت بالدفاع عن الإسلام وعن أرض المسلمين منذ دخلت فيه، وأنها سبق أن استردت القدس وحررت فلسطين باسم الإسلام. ولنفكر أن مصر إنما حاربت في رمضان سنة 1393هـ - أكتوبر 1973. تحت نداء الإسلام "الله أكبر" وبهذا النداء وتحت لوائه انتصرت، وأن عليها أن تطهر أرضها من هذه الأرجاس، وأن تنفي عنها هذا الخبث ليستقيم بها الأمر وتظل باسم الإسلام، رائدة ناهضة.
والأزهر ليهيب بالمسئولين في جمهورية مصر العربية أن يقفوا بحزم ضد هذه الفئة الباغية على دين الله وعلى النظام العام لهذا المجتمع، وأن ينفذوا حكم الله عليها... بالقانون الذي يستأصلها ويهيل التراب عليها، وعلى أفكارها، حماية للمواطنين جميعا من التردي في هذه الأفكار المنحرفة عن صراط الله المستقيم.إن هؤلاء الذين أجرموا في حق الإسلام والوطن يجب أن يختفوا من الحياة لا أن يجاهروا بالخروج على الإسلام.إن الأمر جد يدعو إلى المسارعة النشيطة من السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية لإعمال شئونها ولنذكر دائما أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. إن هذه الفتنة لم تحظ بالاهتمام المناسب مع أنها جريمة الجرائم ومن الكبائر فلنبادر إلى الدفاع عن حقوق الله التي تنتهك وتستباح، وعن دين الله الإسلام الذي يفتن الناس عنه بباطل من القول وزور. وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم.
ألا هل بلغ الأزهر. اللهم فاشهد..
* شيخ الأزهر ورئيس مجمع البحوث الإسلامية (جاد الحق علي جاد الحق).(/2)
البيت العتيق
إعداد/ شوقي عبد الصادق
الحمد لله بارئ الأكوان خالق الزمان والمكان، والصلاة والسلام على نبينا، وآله وصحبه الذين سبقونا بالإيمان وبعد..
لقد شاء الله أن يختار مكة لتكون أُمًا لكل القرى على وجه هذه البسيطة وأن يضع فيها بيته فقال تعالى: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين (96) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
[آل عمران:69-79]
ويقول الشوكاني في تفسيرها وقد اختلف في الباني له في الابتداء فقيل الملائكة وقيل آدم وقيل إبراهيم ويجمع بين ذلك بأول من بناه الملائكة ثم جدده آدم ثم إبراهيم. وبكة علم للبلد الحرام وكذا مكة وهما لغتان، وقيل إن بكة اسم لموضع البيت، ومكة اسم للبلد الحرام، وقيل بكة للمسجد ومكة للحرم كله، وقيل سميت بكة لازدحام الناس في الطواف، وقيل سميت بذلك لأنها كانت تدق أعناق الجبابرة ـ ومباركًا: أي كثرة الخير الحاصل لمن يستقر فيه أو يقصده، أي الثواب المتضاعف، والآيات البينات مثل الصفا والمروة، ومنها أثر القدم في الصخرة الصماء، ومنها الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني كان الخصب في اليمن وإن كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام وإذا عم البيت كان الخصب في جميع البلدان، ومنها هلاك من يقصده من الجبابرة وغير ذلك.
[فتح القدير 1/263 بتصرف]
ونقول إن البيت بنص الآية هدى للناس فأيُ هدى في هذه الحجارة المرصوصة؟ إنه الهدى في التوجه إليه في الصلاة لأن غير المسلمين ضلوا عنه وتوجهوا إلى غيره ففقدوا الهدى فقال تعالى مبينًا أن الاهتداء في التوجه إليه في الصلاة والدعاء وغير ذلك فقال تعالى: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون [البقرة:051].
والبيت هدى في ذاته لأنه الرمز الحسي لحبل الله الذي يعتصم به المؤمنون فقد قال الله سبحانه وتعالى عن القران: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وقال عنه أيضًا: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وقال: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، وقال: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، فالقرآن هدى في ذاته والبيت العتيق هدى كذلك للعالمين لأنه قبلتهم في الأرض كما أن البيت المعمور قبلة أهل السماء ولا تصح صلاة الفريضة لأهل الأرض بحرًا أو أرضًا أو جوًا إلا بالتوجه إليه إلا في بعض الحالات مثل القتال والمواجهة مع الأعداء مثلا.
والبيت العتيق أسس على التوحيد الخالص لله، والتطهير من كل صور الشرك قال تعالى: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود [الحج:62] وهكذا يجب أن تكون كل البيوت والمساجد تُبنى على اسم الله وتُطهر لله فلا تبنى على اسم أحد ولا يذكر فيها إلا اسم الله ولا طواف إلا ببيت الله لأن الطواف عبادة وصلاةُ قال تعالى: ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق [الحج:92].
ولما رواه ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطواف صلاة إلا أن الله تعالى أحل فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير». [رواه الترمذي والحاكم وصححه] فالطواف حول البيت عبادة وحول أي ضريح أو قبر أو أي شيء في الأرض خلاف البيت شرك. فالطواف بالبيت هو ترجمة عملية للفظة لبيك لا شريك لك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ثم هو ربط بين القلب والبيت برباط من سبعة عُقد يعقدها القلب بالبيت حِسًا ومعنى فيكون البيت حسًا على يسار الطائف وقمة قلب الطائف حسب وضعها في الصدر تميل إلى ناحية اليسار حيث يوجد البيت فكأن البيت عمود والقلب حبل تم لفه وربطه حول البيت سبع لفات، وهذه اللفات السبع ما هي إلا إحكام لعُرى التوحيد، فمن الخزي نقض هذه العُرى بشيء من الشرك مثل الطواف حول الأضرحة كما يفعل بعض الناس عندما يعود من حجه أو عمرته يذهب إلى ضريح البدوي فيطوف حوله كأنه يوثق حجه أو عمرته أو يعتمدها منه وربط القلب بالبيت معناه أنك لا تسمع من الطائفين إلا دعاء الله سبحانه فلا تسمع دعاء لأحد المخلوقين.
ولا استغاثه بهم ولا طلب للمدد من أحد سوى الله سبحانه ويتحقق عند البيت قوله تعالى: فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف فعلى المسلمين أن يستمروا على ذلك كما في قوله تعالى: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين [النمل:19] فإذا نكصوا على أعقابهم وعادوا إلى شركياتهم في أمصارهم سلبهم الله الأمن وذاقوا الجوع والخوف.
البيت قيام للناس(/1)
قال الشوكاني: أنه مداد لمعاشهم ودينهم أي يقومون فيه بما يصلح دينهم، ودنياهم يأمن فيه خائفهم ويُنصر فيه ضعيفهم ويربح فيه تجارهم ويتعبد فيه متعبدهم. [فتح القدير 2/97] ونقول يظل المسلمون والإسلام بخير ما بقي هذا البيت بخير فهو قوام وحدة المسلمين رغم اختلافهم كما أخبر نبيهم فهم في طوافهم حوله وصلاتهم إليه متحدون رغم ما بينهم من اختلاف في العبادات والعقائد. حتى إذا زال هذا الخير وكثر الشر وأهله في آخر الزمان مَكن الله من هذا البيت رجلا ضعيفًا فخربه، ونسمع بين الحين والآخر من يقول من أعداء هذا الدين دمروا الكعبة أو انسفوها بقنبلة أو صاورخ، ونقول هذا لا يمكن أن يكون لأسباب وهي:
أولها: أن الله سبحانه يحفظ بيته، وحَفِظه وكان سدنته مشركين من أبرهه وجيشه وفيله إن شاء الله يحفظه وسدنته موحدون ويقصده موحدون من حين إلى حين من نسف وتفجيرات الملحدين الكافرين.
ثانيها: لو كان هذا ممكنًا لأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخبر أنه يتم نسفه أو تفجيره وإنما أخبر بالتخريب الذي يقع في آخر الزمان وكذلك الجيش الذي يغزونه وما يحدث لهم لما رواه مسلم عن حفصة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليَؤُمَنَّ هذا البيت جيش يغزونه حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأوسطهم وينادي أولهم آخرهم ثم يخسف بهم فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم». ولما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» وكل هذا يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج لما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليُحَجَّنَّ البيتُ وليُعْتَمَرَنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج».
ثالثها: أنه لن يستحل هذا البيت إلا أهله لما رواه أحمد بسند صححه الألباني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُبايع لرجل بين الركن والمقام ولن يستحل البيت إلا أهلُهُ فإذا استحلوه فلا يُسأل على هلكة العرب ثم تأتي الحبشة فيخربونه خرابًا لا يُعمر بعده أبدًا وهُمُ الذين يستخرجون كنزه». [الصحيحة برقم 975] ويكون هذا بطريقة بدائية كما في البخاري عن ابن عباس يصوره الرسول صلى الله عليه وسلم: «كأني به أسود أفحَجَ يَقلَعُها حجرًا حجرًا» ويقول ابن حجر تعليقًا على الحديث الأخير: ذلك محمول على أنه يقع في آخر الزمان قرب قيام الساعة حيث لا يبقى في الأرض من يقول الله الله كما في صحيح مسلم: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله» ولهذا جاء قوله عليه السلام: «لا يُعمر بعده أبدًا» وقد وقع قبل ذلك فيه من القتال وغزو أهل الشام في زمن يزيد بن معاوية ثم من بعده وقائع كثيرة من أعظمها وقعة القرامطة بعد الثلاثمائة فقتلوا من المسلمين في المطاف من لا يحصى كثرة وقلعوا الحجر الأسود فحولوه إلى بلادهم ثم أعادوه بعد مدة طويلة، ثم غزى مرارًا بعد ذلك وكل ذلك لا يعارض قوله تعالى: أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا لأن ذلك إنما وقع بأيدي المسلمين فهو مطابق لقوله عليه السلام «ولن يستحل هذا البيت إلا أهله». [فتح الباري 3/935] فالبيت يُحج بعد خروج يأجوج ومأجوج حتى إذا خربه ذو السويقين كان هذا دليلا على قرب الساعة لحديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: «لا تقوم الساعة حتى لا يُحجَّ البيتُ».
[الصحيحة برقم 0342 سنده صحيح]
من هذه الأحاديث والأقوال يتبين أن البيت محفوظ إن شاء الله من أي نسف أو تفجير مهما قال وتوعد الكافرون والمجرمون ولن يقع له إلا ما أخبر به النبي الأمين في الوقت الذي أخبر به والكيفية ولذلك قال فيما رواه ابن عمر مرفوعًا بسند صححه الألباني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استمتعوا من هذا البيت فإنه قد هُدِمَ مرتين ويرفع في الثالثة». [الصحيحة برقم 1541] وسيظل مرفوعًا بإخبار من لا ينطق عن الهوى فاستمتعوا به عباد الله بالحج والعمرة والطواف والعكوف والاعتكاف عنده.
الآيات البينات في البيت
1 ـ مقام إبراهيم عليه السلام:(/2)
يقول تعالى: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود [البقرة:521] ويقول ابن كثير في تفسيرها: الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه مثابة للناس، أي محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ولا تقضي منه وطرًا ولو ترددت إليه كل عام استجابة من الله لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ، وفي قوله تعالى واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال مستشهدًا بحديث جابر: استلم رسول ا لله صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا ثم نفذ إلي مقام إبراهيم فقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين وكذا عن البخاري عن ابن عمر قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعًا وصلى خلف المقام ركعتين فهذا كله يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحَجرُ الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار وكلما كمَّل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه، وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ولم يزل معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها ولهذا قال أبو طالب:
وموطئُ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيا غير ناعل
وكان المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من البناء وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ولهذا ـ والله أعلم ـ أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف وإنما أخره إلى موضعه ... عمر بن الخطاب أحد الأئمة المهديين قال فيه رسول الله: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». [1/642 بتصرف]
وهذا الأثر لقدم الخليل في الحجر يقول عنها ابن حجر في الفتح: وأن أثر قدميه في المقام كرقم الباني في البناء ليذكر به بعد موته فرأى الصلاة عند المقام كقراءة الطائف بالبيت اسم من بناه وهي مناسبة لطيفة. [فتح الباري 8/91]
2 ـ الحجر الأسود:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسانٍ ينطق به ليشهد على من استلمه بحق». [صحيح الجامع 2225 وسنده صحيح] وعنه مرفوعًا «والله ليَبعثنه الله يوم القيامة ـ يعني الحجر ـ له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق». [صحيح الجامع 5796 سنده صحيح] وعند الترمذي «أن الحجر الأسود نزل من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن فسوّدته خطايا بني آدم». [3/712 حسن صحيح] ويقول ابن حجر في الفتح تعليقا على الحديث الأخير اعترض بعض الملحدين على الحديث بقولهم كيف سودته خطايا المشركين ولم تبيضه طاعات أهل التوحيد؟! والجواب لو شاء الله لكان ذلك وإنما أجرى الله العادة بأن السواد يصبغ ولا ينصبغ، على العكس من البياض.
وقال الطبري في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة فإن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد. [فتح الباري 3/145] وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن حديث [الحجر الأسود يمين الله في الأرض] فقال: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت والمشهور إنما هو عن ابن عباس قال: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه». وقال ومن تدبر اللفظ المنقول يتبين له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره فإنه قال: «يمين الله في الأرض» فقيده بقوله (في الأرض) ولم يطلق فيقول يمين الله وحكم اللفظ المقيد خالف حكم اللفظ المطلق ومعلوم أن المشبه غير المشبه به وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله تعالى كما جعل للناس بيتًا يطوفون به جعل لهم ما يستلمونه ليكون ذلك بمنزلة تقبيل يد العظماء فإن ذلك تقريب للمقبِل وتكريم له كما جرت العادة. [مجموع الفتاوى (6/793-893)] ويقول ابن عثيمين رحمه الله: وتقبيل الحجر عبادة، حيث يقبل الإنسان حجرًا لا علاقة له به سوى التعبد لله سبحانه وتعالى بتعظيمه واتباع رسوله كما في حديث عمر عند البخاري «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك».
[فتح الباري 3 برقم 7951]
3 ـ زمزم:(/3)
روى الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم وشفاء من السقم وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برْهوت بقية حضرموت كرجل الجراد من الهدام يصبح يتدفق ويمسي لا بلال له». [الصحيحة 3 برقم 6501، سنده حسن] وماء زمزم ينبع من أقدس بقعة على وجه الأرض وتقع البئر شرقي الكعبة المشرفة، وفي نشره للرئاسة العامة لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي جاء فيها خلصت الدراسة إلى أن بئر زمزم تستقبل مياهها من صخور قاعية عبر ثلاثة تصدعات صخرية تمتد من تحت الكعبة المشرفة ومن جهة الصفا والمروة وتلتقي في البئر وتضخ ما بين (11 - 5،81) لترًا في الثانية فقس على هذا كم ضخت البئر منذ نبشها جبريل عليه السلام بعقبه لإسماعيل وأمه هاجر عليهما السلام؟!
ونقول: زمزم من أعظم الآيات في البيت ففي أعلى البيت هدي وتحت أساسه شفاء وطعام وسقيا تكفي الأنام وتداوي بإذن الله من الأسقام فعن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحمل ماء زمزم في الأداوي والقرب وكان يصب على المرضى ويسقيهم». [الصحيحة برقم 31/8 سنده جيد] ومن الإعجاز فيها أنها لو شربت الملايين منها كفتهم وإذا توقفوا عن الشرب توقفت عن الضخ ولم تجر على وجه الأرض وتفور. وعند مسلم لما جاء أبو ذر ودخل الحرم ولقيه رسول الله فقال له: «متى كنت هنا؟» قال منذ ثلاثين بين ليلة ويوم قال: «فمن كان يطعمك؟» قال: قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فَسمنتُ حتى تكسرت عُكَنُ بطني وما أجد على كبدي سخفة جوع قال: «إنها مباركة إنها طعامُ طعم» وعند أحمد وابن ماجة عن جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له».وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/4)
التأني
بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - الوليد بن عقبة إلى قبيلة بني المصطلق ليجمع منهم الزكاة وأموال الصدقات، فلما أبصروه قادمًا، أقبلوا نحوه لاستقباله؛ فظن الوليد أنهم أقبلوا نحوه ليقتلوه، وأنهم ارتدوا عن الإسلام. ورجع إلى المدينة دون أن يتبين حقيقة الأمر، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ومعه جيش من المسلمين، وأمرهم بالتأني، وألا يتسرعوا في قتال بني المصطلق حتى يتبينوا حقيقة الأمر، فأرسل خالد إليهم بعض الرجال، ليعرف أحوالهم قبل أن يهاجمهم؛ فعاد الرجال، وهم يؤكدون أن بني المصطلق لا يزالون متمسكين بالإسلام وتعاليمه، وقد سمعوهم يؤذنون للصلاة ويقيمونها، فعاد خالد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - دون قتال، ليخبره أن بني المصطلق ما يزالون على إسلامهم.
ونزل قول الله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6].
*بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد إلى أقوام رفضوا دعوة الإسلام، فحاربهم أسامة ومن معه حتى هزمهم، وفرَّ رجل منهم؛ فتبعه أسامة ورجل من الأنصار؛ ولمَّا اقتربا من هذا الرجل الفارِّ، وأوشكا على قتله. قال الرجل: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري وتركه، أمَّا أسامة فظن أنَّه قال: لا إله إلا الله خوفًا من القتل، فطعنه برمحه، فقتله.
ولما قدموا المدينة بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حدث، فقال: (يا أسامة، أقتلتَه بعدما قال: لا إله إلا الله؟!). فأجاب أسامة: يا رسول الله، إنما كان متعوذًا (أي: قالها لينجو بها من القتل)؛ فكرر الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوله: (أقتلتَه بعدما قال لا إله إلا الله؟).
قال أسامة: فما زال يكررها، حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم. [مسلم].
*وقع سُهَيْل بن عمرو أسيرًا في أيدي المسلمين يوم بدر، وكان خطيبًا مفوَّهًا بليغًا، فأراد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يقتلع أسنانه الأمامية حتى لا يخطُب في الكفار، ويحرِّض المشركين على القتال، فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلا: دعني أنزع ثنيتي سهيل؛ فلا يقوم علينا خطيبًا؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دعها؛ فلعلها أن تَسُرَّك يومًا).
وفي فتح مكة أسلم سهيل، وحسن إسلامه، ولما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بعض أهل مكة أن يرتدوا عن الإسلام، فقام سهيل - رضي الله عنه - يخطب فيهم، ويذكرهم بالله، ويحثهم على الثبات، والتمسك بالدين، فسمعوا له وأطاعوا.
*ما هو التأني؟
التأني هو التَّثَبُّت والتمهُّل وعدم التعجُّل. والمسلم يحرص على التأني والتمهل في أموره كلها، فهو لا يهمل في عمله، وإنما يؤدي ما عليه بتأنٍّ وإخلاص وإتقان، وقد قال الإمام علي - رضي الله عنه -: لا تطلب سرعة العمل، واطلب تجويده، فإن الناس لا يسألون في كم فرغ، وإنما ينظرون إلى إتقانه وجودته.
والطالب يتأنى في مذاكرته، ويفهم دروسه جيدًا، وقد قال بعض الحكماء: من أسرع في الجواب حاد عن الصواب. وقال آخر: من تأنَّى نال ما تمنى.
والمسلم يخشع في عبادته، ويؤديها بتمهل وتأنٍّ وإتقان؛ فإن كان مصليَّا صلى في خضوع وخشوع لله رب العالمين، وإن كان يدعو ربه دعاه في تضرع وتذلل، يبدأ دعاءه بحمد الله وتمجيده، والصلاة على رسوله، فقد سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يدعو في صلاته، ولم يمجد الله - سبحانه - ولم يصلِّ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: (عَجِلْتَ أيها المصلي).
وسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يصلى فمجَّد الله وحمده، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: (ادعُ تُجَبْ، وسل تُعْطَ) [النسائي].
وعلى المسلم ألا يتعجل إجابة الدعاء، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يُسْتَجَابُ لأحدكم ما لم يَعْجَل؛ يقول: دعوتُ، فلم يُسْتَجَبْ لي) [متفق عليه].
فضل التأني:
قال - صلى الله عليه وسلم -: (السَّمْتُ الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة) [الترمذي].
وقال - صلى الله عليه وسلم - لأحد الصحابة: (إنَّ فيك خصلتين يُحِبُّهُما الله: الحلم، والأناة) [مسلم].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (الأناة من الله، والْعَجَلَةُ (التسرع في غير موضعه) من الشيطان) [الترمذي].
العجلة:
أمرنا الله -تعالى- بعدم الاستعجال؛ فقال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الأنبياء: 37].
وقيل: إن المُنْبَتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى (أي الرجل الذي يستعجل دابته؛ فيضربها لكي يصل سريعًا، فإنه باستعجاله لا يصل إلى مراده، ولا يريح دابته، وقد تهلك منه).
وقيل: من ركب الْعَجَلَ أدركه الزلل.
العجلة في الخيرات:(/1)
المسلم إذا أراد أن يفعل خيرًا، فإنه يقدم على فعله، ولا يتأخر، فإذا أراد أن يتصدق بصدقة، فعليه أن يسرع في إخراجها. كذلك إذا فعل طاعة معينة فعليه أن يبادر بها، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (التُّؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة) [أبو داود].
كما أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بتعجيل الفطر عند الصيام؛ فقال: (لا يزال الناس بخير ما عَجَّلوُا الفطر) [متفق عليه].
ويتضح من هذا أنه ليس هناك تأنٍّ في فعل الخيرات، والدخول فيها، قال - تعالى -: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} [آل عمران: 133].
وهنا تكون العجلة في سبيل الفوز بالجنة، أما ما سوى ذلك من أمور الدنيا، فالمسلم يتأنى فيها ويتمهل.(/2)
التباكي على الآثار
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
تكاثرت ـ هذه الأيام ـ أصوات المطالبين بتعظيم ما يسمّى «الآثار الإسلامية»، والمنادين بالعناية والاحتفاء بها وتشييدها، وأن تكون معالم سياحية يؤمّها القاصي والداني مع أن الكثير منها لم يصح تاريخياً.
تباكى أولئك على «الآثار النبوية»، وأظهروا العويل والنحيب على اندراس هذه المقدسات والآثار، بل إن صحفاً أجنبية شاركت القوم في هذا «التأبين» فوصفتْ إزالة هذه الآثار والمشاهد بأنها مأساة تاريخية إنسانية لا مثيل لها(1)!
بل أفضى الأمر بهؤلاء المولعين بالآثار إلى تأليب الحكومات على من خالفهم، واتّهموهم بأنهم «وهابية جفاة»! أو «طالبان» والذين هدموا الأوثان في بلاد الأفغان(2)!
ولنا مع هذه الظاهرة المتزايدة التعليقات الآتية:
ـ إن هذا النشاط المحموم في سبيل إحياء ونبش الآثار الإسلامية ربما كان سبيلاً إلى إحياء الوثنية الجاهلية من جديد؛ فشياطين الإنس والجن يزيّنون الشرك، ويخرجونه في قوالب برّاقة، فأول شرك وقع في الأرض كان باعثه الغلو في الصالحين والإفراط في محبتهم، فإنّ وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً رجال صالحون من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً(3)، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبِدت(4).
وفي بعض الروايات أن التشوق إلى عبادة الله هو الباعثُ على اتخاذ هذه الأوثان(5).
وتعظيم الآثار وتقديسها في هذه الأيام يحاكي تعظيم الصالحين والغلو فيهم عند قوم نوح ـ عليه السلام ـ، فالانحراف والضلال قد يُسمّى بغير اسمه، كما أنه يأتي متدرجاً خطوة تلو خطوة كما حصل في قوم نوح وأشباههم.
ـ يدعو بعضهم إلى المحافظة على الآثار وحمايتها عن جهل بالموقف الشرعي من تلك الآثار، فلا يعلم هؤلاء أن للشرع نصوصاً وأحكاماً تجاه هذه الآثار، ولسان حالهم: أن الأمم الأخرى تحافظ على آثارها؛ كالحمامات الرومانية، والملاعب الإغريقية، والتماثيل الأثرية، والأصنام المنحوتة... فعلينا أن نحافظ على آثارنا كشأن الأمم المجاورة.
فالكثير من المهتمين بسياحة الآثار، ومن أساتذة أقسام الآثار في الجامعات يجهلون الأحكام العقدية والفقهية المتعلقة بتلك الآثار، بل إن بعضهم لا يظن أن للدين موقفاً أو صلة بتلك الآثار.
ـ أن الآثار الإسلامية منها ما اعتبره الشارع وبيّن فضله ورفع قدره؛ كالمساجد الثلاثة (المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى)، وكذا الأعياد المكانية المشروعة؛ كمنى، وعرفة، ومزدلفة. وأما سائر الآثار الأخرى فلم يكن السلف الصالح يحتفون بها، ولم يشتغلوا بتجديدها فضلاً عن تشييدها أو صيانتها، فلم يُنقل عنهم مع توفر دواعي النقل شيئاً من الاحتفاء أو الإكرام.
ولما رأى عمر الفاروق ـ رضي الله عنه ـ أقواماً يبتدرون مسجداً، فقال: ما هذا؟ قالوا: مسجد صلى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعاً، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له الصلاة فليمضِ(1).
وكان إمام دار الهجرة (مالك بن أنس) وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة ما عدا قباء وأحد، كما أخرجه (ابن وضاح).
يقول (ابن تيميّة): «إن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يبنوا قط على قبر نبي ولا رجل صالح، ولا جعلوه مشهداً أو مزاراً، ولا على شيء من آثار الأنبياء مثل؛ مكان نزل فيه أو صلَّى فيه، أو فعل شيئاً من ذلك»(2).
ويقول ـ أيضاً ـ: «كل ما عظم بالباطل من مكان أو زمان أو حجر أو شجر أو بُنية، يجب قصد إهانته كما تهان الأوثان المعبودة»(3).
ـ لا يزال تجديد هذه الآثار «المفتعلة» والمشاهد المحدثة محلّ شك كبير ونزاع كثير بين المؤرخين، مما يؤكد أن ليس من دين الإسلام التعرّفُ على تلك المواطن، وإذا كانت آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- كالشَّعَرَات ونحوها؛ والتي يُشرع التبرك فيها تحتاج إلى برهان واضح في إثبات بقائها، لا سيما مع مرور مئات السنين على تلك الآثار، وكثرة الدعاوى في شأنها، فكيف الشأن بتحديد أماكن محدثة أعرض السلف الصالح عن الاحتفاء أو الاشتغال بها؟!
يقول العلامة (أحمد تيمور) ـ عن الآثار النبوية ـ: «لا يخفى أن بعض هذه الآثار محتمل الصحة؛ غير أنّا لم نرَ أحداً من الثقات ذكرها بإثبات أو نفي، فالله أعلم بها. وبعضها لا يسعنا أن نكتم ما يخامر النفس فيها من الريب ويتنازعها في الشكوك»(4).(/1)
وكتب علامة الجزيرة العربية الأستاذ المؤرخ (حمد الجاسر) بحثاً بعنوان «الآثار الإسلامية في مكة المشرَّفة»(5)، وبيَّن اختلاف المؤرِّخين وتعدد أقوالهم في تحديد موطن مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وساق الأستاذ الجاسر مقالة الرحالة (العياشي، ت 1037هـ) ـ في هذا العدد ـ: «والولادة وقعت في زمن الجاهلية، وليس هناك من يعتني بحفظ الأمكنة، سيما مع عدم تعلق غرض لهم بذلك بعد مجيء الإسلام؛ فقد عُلِم من حال الصحابة وتابعيهم ضعفُ اعتنائهم بالتقيد بالأماكن التي لم يتعلق بها عمل شرعي؛ لصرفهم اعتنائهم ـ رضي الله عنهم ـ لما هو أهم من حفظ الشريعة، والذب عنها بالسّنان واللسان، وكان ذلك هو السبب في خفاء كثير من الآثار الواقعة في الإسلام، فما بالك بما وقع في الجاهلية؟!».
وحكى (الجاسر) أن قبر أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ كان مجهولاً لدى مؤرخي مكة حتى القرن الثامن الهجري، ثم أصبح معروفاً محدد المكان في القرون المتأخرة حتى ذلك اليوم، بعد أن رأى أحد العارفين في النوم! كأن نوراً ينبعث من مقبرة (المعلاَّة)، ولما علم أمير مكة آنذاك بخبر تلك الرؤيا أمر ببناء قُبَّة فوق المكان الذي رأى ذلك العارف أن النور ينبعث منه، جازماً ذلك الأمير أن ذلك المكان هو قبر خديجة! وهكذا تُصيّر الخرافات إلى حقائق بيّنات. والله المستعان.
ـ الولع بالآثار المكانية و «الهيام» بالموالد والمشاهد، أضحى ذلك كله سبيلاً إلى التفلت من الشرائع، والتنصل من سنن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، واتباع الهوى، وصَدَقَ الله ـ تعالى ـ القائل: {فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]، فترى القوم عاكفين على موالد محدثة، متعبدين عند آثار مبتدعة، قد عمروا المشاهد وهجروا المساجد... فإن في النفوس ميلاً إلى الانحلال من الاتباع.
وكما قال (أبو الوفاء ابن عقيل): «لمّا صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم كفار عندي بهذه الأوضاع؛ مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى الشرع عنه، وخطاب الموتى بالألواح، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي! افعل بي كذا وكذا، وأَخْذِ التراب تبركاً...»(6).
وقال شيخ الإسلام (ابن تيميّة): «إن النفوس فيها نوع من الكبر، فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع بحسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابوري ـ رحمه الله ـ: «ما ترك أحد شيئاً من السنة إلا لكبر في نفسه»، ثم هذه مظنة لغيره، فينسلخ القلب عن حقيقة اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يفسد عليه دينه أو يكاد، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً»(7).
وأخيراً فإن إظهار السنن وتبليغ رسالات الله كفيل بدحض شبهات دعاة الآثار على الاطلاق.
كما أن إظهار الأبحاث التاريخية الجادة التي تكشف عوار هذه الدعاوى العريضة من أرباب الآثار، والسعي إلى تحرير العقول من رقِّ التقليد والعواطف الساذجة، والاحتساب على هذه الدعاوى وفق القدرة والمصالح الشرعية. كفيل بإذن الله بايضاح الحقيقة التي هي رائد الجميع.
والله حسبنا ونعم الوكيل.
____________
(ü) أستاذ مساعد في قسم (العقيدة والمذاهب المعاصرة) في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.
(1) انظر: صحيفة الإندبندت البريطانية للكاتب دانيال هودن 1/9/2005م.
(2) هدم الأوثان والأبنية على القبور ونحوها من شعائر الشرك هو سبيل المؤمنين تأسياً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ألاَّ تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته» أخرجه مسلم.
(3) الأنصاب: الأصنام. (4) أخرجه البخاري، ح (4920).
(5) انظر: تفسير الطبري (29/98).
(1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وعبد الرزاق في مصنفه.
(2) مجموع الفتاوى (17/466).
(3) اقتضاء الصراط المستقيم (1/477).
(4) الآثار النبوية، ص 78.
(5) انظر: مجلة العرب، السنة السابعة عشر، الجزء الثالث والرابع.
(6) تلبيس إبليس، ص 455.
(7) اقتضاء الصراط المستقيم (2/612).(/2)
التبذير وعواقبه
الحمد لله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على المصطفى المجتبى وعلى آله وصحبه ومن سار على منهجهم إلى يوم الدين، أما بعد:
اعلموا أيها الإخوة الأفاضل: أن التبذير سبب من أسباب الهلاك ومحق البركات وزوال النعم؛ وذلك لأنه تفريق المال على وجه الإسراف، وهو أيضاً: أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه ، ولا تبذير في عمل الخير.
والمراد بالتبذير هنا: مجاوزة حد الاعتدال في الطعام والشراب واللباس والسكن ونحو ذلك من الغرائز الكامنة في النفس البشرية, وتصيير ذلك في معصية الله -تبارك وتعالى-.
1- من مضار التبذير وعواقبه:
• فيه طاعة للشيطان ومعصية للرحمن: أي إن المبذر أخ للشيطان.
• في التبذير رجوع إلى الجاهلية وعاداتها القبيحة وفيه مفاخرة ممقوتة.
• في التبذير اتباع للهوى وبعد عن الحق.
• علة البدن: التي تقعد بالمسلم عن القيام بالواجبات الشرعية والتمادي في العصيان.
• قسوة القلب.
• خمول الفكر.
2- حكم التبذير:
نقل عن الإمام ملك -رحمه الله- أن التبذير حرام لقوله -تعالى-: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (الإسراء:27).1
وقال القرطبي: من أنفق درهماً في حرام فهو مبذر، ويحجر عليه في نفقته الدرهم في الحرام، ولا يحجر عليه إن بذله في الشهوات إلا إذا خيف عليه النفاد.2
وأبو حنيفة -رحمه الله- لا يرى الحجر للتبذير، وإن كان حراماً منهياً عنه.
قال ابن العربي في تفسير قوله -تعالى-: (ولا تبذر تبذيراً):
(قال أشهب عن مالك: التبذير هو منعه من حقه، ووضعه في غير حقه، وهو أيضاً تفسير الحديث: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال. وكذلك روي عن ابن مسعود، وهو الإسراف، وذلك حرام بقوله: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) وذلك نص في التحريم).3
قال ابن كثير -رحمه الله-: وقوله (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) أي في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته؛ ولهذا قال: (وكان الشيطان لربه كفوراً) أي جحوداً؛ لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته، بل أقبل على معصيته ومخالفته أ.ه4
3- الآيات الواردة في التبذير:
أ- (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (الإسراء:27-28).
ب- (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:31).
ج- (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67).
د- (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29).
4- الأحاديث الواردة في ذم التبذير:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه قال: أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني فقير ليس لي شيء، ولي يتيم، قال: (كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل) 5
وعن عمرو بن عوف -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (.. أبشروا، وأمِّلوا ما يسرُّكم، فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم) 6
5- من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذم التبذير:
عن عطاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لا تنفق في الباطل فإن المبذر هو المنفق في غير حق)7
قال عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- (المَرَّان: الإمساك في الحياة، والتبذير عند الموت).
عن وهب بن منبه -رحمه الله تعالى- قال: من السرف أن يلبس الإنسان ويأكل ويشرب مما ليس عنده, وما جاوز الكفاف فهو التبذير).8
قال أبو حيان -رحمه الله-: (نهى الله -تعالى- عن التبذير، وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر في أشعارها, فنهى الله- تعالى- عن النفقة في غير وجوه البر، وما يقرب منه -تعالى-).9
قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: (ومن البلية أن يبذر في النفقة ويباهي بها ليكمد الأعداء، كأنه يتعرض بذلك -إن أكثر- لإصابته بالعين، وينبغي التوسط في الأحوال، وكتمان ما يصلح كتمانه).10
6- الطريق لعلاج التبذير:
1- التفكر في الآثار والعواقب المترتبة على التبذير.
2- قوة الإيمان وزيادته الباعثة للحزم مع النفس، وذلك بفطمها عن شهواتها ومطالبها، وحملها على الأخذ بالطاعة والاتباع.
3- دوام النظر في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته.. قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)11.(/1)
4- الانقطاع عن صحبة المبذرين والمسرفين، والاقتراب من ذوي الهمم العالية، والنفوس الكبيرة.
5- دوام التفكر في الموت وما بعده من شدائد وأهوال.12
اللهم اهدنا واهدِ بنا، وأصلحنا وأصلح بنا، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها..
وصلى الله على الرسول الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - تفسير القرطبي( 10/247).
2 - تفسير القرطبي (10/247).
3- أحكام القرآن (3| 1203).
4 - (تفسير ابن كثير 3/40).
5 - تأثل المال: جمعه. رواه النسائي (2/216) وأبو داود (2872) وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
6 - أخرجه البخاري – الرقاق – 8/112 ومسلم 1274 رقم (2961)واللفظ لمسلم.
7 - الدرر المنثور (5/275).
8 - الدر المنثور (5/274-275).
9 - تفسير البحر المحيط (6/27).
10 - صيد الخاطر (610). وانظر (موسوعة نظرة النعيم 6/4003) بتصرف.
11 - أخرجه الترمذي في السنن 4 \509 وقال: حسن صحيح.
12 - انظر آفات على الطريق لمحمد نوح 1|46. بتصرف.(/2)
التبصير والتحذير من الغلو والتكفير
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
التبصير والتحذير من الغلو والتكفير موضوع مهم تتجدد أهميته مع تجدد أحداث مؤلمة محزنة تنتهك فيها حرمة البلد الحرام والدم الحرام والمال الحرام ، ولقد أسلفنا شيئا من الحديث من قبل وأشرت إلى أن بعض الاخوة رأى أن المضي فيه قد لا يكون ذا حاجة للناس ، وأحب أن أنبه إلى أننا نريد تبصيراً وتحذيراً معاً ؛ فإن مجرد التحذير والتخطئة والتجريم وحده لا يكفي في علاج هذه المشكلة الخطيرة ، وإنما التبصير المتناول من بعد ذلك وقبله لأسبابها وآثارها وطرق علاجها هو الأمر المهم الذي يكون له أثره في أمرين وجانبين مهمين:
جانب العلاج ومن قبله جانب الوقاية والحماية .
ولعلنا ننبه في مطلع حديثنا على القضايا المهمة والرئيسية ، وليس مقامنا مقام تفصيل ؛ فإن مثل هذا المقام لا يكفيه ولا يقتضيه وإنما نؤكد على المهم الذي يتجلى واضحا في آيات الله وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، لقد قرر الإسلام العظيم النهج القويم المخالف للغلو والمجافاة وذلك من وجوه عدة:
أولها: الاعتدال والوسطية:
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة: من الآية 143 ] .
وقد تكر ر ذلك المعنى في صور متعددة في القرآن الكريم تتناول أموراً كثيرة في سائر أحوال الناس دقيقها وجليلها ..
{ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً } [ الإسراء:29 ] .
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان:67 ] .
{ وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } [ الإسراء: من الآية 110].
عندما نتأمل نجد هذا معلما واضحا اليسر والسماحة واله جل وعلا يقول:
{ طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } [ طه:1-2 ] .
ليس في الشريعة مشقة بالمعنى الصحيح الشرعي وليس فيها عناء ولا عنت وإنما هي عين اليسر وذات السماحة:
{ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [ النساء: من الآية 29 ] .
{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة: من الآية 185 ] .
{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج: من الآية 78 ] .
وذلك أمره بين وواضح الرحمة والرفق ؛ فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين :
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء:107].
هو الرحمة المهداة وشريعته وسنته هي هذه الرحمة التي خلصت الناس والأمم والبشرية جميعاً من إصر الأغلال التي كانت عليهم ، وجاءت بكمال الرحمة الحافظة للنفوس الموفرة للأمن القاضية بعصمة الأرواح والدماء إلا بحق التشريع في الاعتداء والظلم والعدوان وغير ذلك مما وردت به النصوص ، ثم تأمل ما جاء عن رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم الناس إيماناً وأشدهم غيرة وأعظمهم حمية وأجرؤهم شجاعة وأعظمهم جهاداً في سبيل الله عز وجل وهو يلقن الأمة القواعد الجامعة الضابطة المضطردة وسائر الأحوال والأزمان فيقول عليه الصلاة والسلام:
( إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه ).
ويقول كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام :
( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه ) .
وهي قواعد مضطردة قالها المعصوم - صلى الله عليه وسلم - إنها ليست عبارات بلاغية ولا جمل ولا أساليب حسنة وإنما هي حقائق مقرة وقواعد ثابتة أخبرنا بها من بلغنا هذا الدين ومَن علّمنا القرآن ؟ ومن أقام لنا من حياته وهديه وسنته معلّم الهدى الراشد إلى طريق رضوان الله سبحانه تعالى.
القدرة والاستطاعة فالله - جل وعلا – يقول :
{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } [ البقرة: من الآية 286] .
{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا } [ الطلاق: من الآية 7 ] .
وتأتينا الآيات في قواعد مضطردة كما في قوله:
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم } [ التغابن: من الآية 16] .
وتأتي التشريعات كثيرة في تطبيقات عديدة تؤكد هذا في الصور المختلفة والشعائر بل والفرائض المفروضة:
( صلّ قائماً ؛ فإن لم تستطع فجالساً ؛ فإن لم تستطع فعلى جنب ) ولو أن تومئ إيماءً .(/1)
ذلكم هو الأمر الظاهر البين في أصل هذا الإسلام أ ترون له بالغلو سبباً أو نسباً ؟ أ ترون له في الشدة صورة أو مظهراً ؟ أترون له في لعناء والمشقة غير المشروعة مأخذاً أو مطلباً نبهوا لذلك واعرفوا حق الدين وأساسه وقواعده وأصوله ومقاصده الكلية ؛ فإن فهم هذه الأمور العظيمة هو الذي يؤدي إلى فعم دقائق التشريع وحكم العبادات من بعد ذلك .
وصورة أخرى نجلي بها تكميلاً في التبصير والتحذير في مبدئه وأوله وهي الآيات والنصوص الشرعية التي جاءت لتكشف لنا صورا أساسية في حقيقة الغلو:
أولها: الغلو كذب وافتراء أي يؤدي إلى ذلك ويقود إليه ويفضي في آخر الأمر إليه فالله - سبحانه وتعالى - قال:
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقّ } [ النساء: من الآية 171] .
ومفهوم الآية ظاهر أن الغلو مفض إلى القول على الله بغير الحق والآية تتناول الحديث عن أهل الكتاب لكنه حديث موجه إلى أمة الإسلام لتعصم نفسها مما وقعت فيه الأمم من قبلها من التحريف والغلو أو الجفاء والقصور ، وقال السعدي رحمه الله في تفسيره :
" هذا الكلام يتضمن ثلاثة أشياء أمرين منهي عنهما وهما القول الكذب على الله والقول بغير علم في أسمائه وصفاته وشرعه ورسله ، والثالث مأمور به وهو قول الحق في هذه الأمور ولا يقول الحق من غلا ولا يقوله كذلك من جفا وإنما يقوله من توسط واعتدل " .
والغلو ضلال وإضلال ؛ فإنه في آخر الأمر قول على الله بغير علم ورجم بالغيب بأي بينة وضلال في الفهم على غير أصل ومن هنا جاء قوله سبحانه وتعالى:
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (المائدة:77).
أ فرأيتم كيف تكثف الوصف بالضلال والإضلال والاستقرار على الضلال؟ إنها غاية مفضي إليها ذلك الغلو الذي لا يرضى ولا يقبل بما تنزلت به الآيات وثبتت به السنن الهاديات المرشدات إنها قضية واضحة كذلك وأمر بين لابد من معرفته.
والغلو كذلك خلل واضطراب يقع به فساد في النفس تجنح ما بين تشديد واعتناء بأمر يفرط في مقابله بأمور أخرى ، ويقع فيه كذلك في الصلات والعلاقات غلو في محبة أو تعظيم يخرج عن حد المشروع إلى تأليه أو إلى ادعاء عصمة أو غير ذلك من تهوينٍ وبخسٍ للمقادير ، وإلغاء لحقائق الإيمان أو صفة الإسلام أو نحو ذلك وكل هذا ضروب مختلفة وصور متنوعة من الاضطراب الخطير الذي تقع به في واقع الأمر مآس كثيرة وجرائم عظيمة لعل من أخطرها: أن يكون الفاعل لها مدعيا أنها من دين الله أو أنها تحقق المقاصد الشرعية التي أرادها الله - عز وجل - أو هدى إليها رسوله صلى الله عليه وسلم :
{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ هود:1121] .
فإن لم تكن ثمة استقامة فلابد أن يكون طغيان ، والطغيان زيادة عن الحق سيقابله تقصير في غيره ، وقد أسلفنا القول من قبل في قصة أبي الدرداء وسلمان الفارسي - رضي الله عنهما - وما انتهى إليه تقرير المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إن لربك عليك حقاً وإن لنفسك عليك حقاً وإن لزورك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه ، ولقد قال - عليه الصلاة والسلام - في شأن هذا الاختلال ما هو أعظمه وأقصاه في المدى عندما وصف الخوارج بقوله : ( يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ) .
والغلو تلف وهلاك أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أوجز في بليغ كلامه وهو الذي أتي جوامع الكلم أوجز تاريخ البشرية وتاريخ الانحراف في الديانات والشرائع السماوية عندما قال :
( إنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ) .
إنه السبب الأساس والرئيس أ فلا يستحق أن نتحدث عنه ؟ وقد هون بعض إخواننا من ذلك لأنهم ربما لا يعرفون كثيرا من الأحوال والظروف والملابسات ليس في هذه البلاد فحسب بل في بلاد الإسلام كلها ، وقد رأينا بأمّ أعيننا وشهدنا وعلمنا أحوالا كثيرة اضطربت واختلت فيها الأمور ، وسفكت فيها الدماء ، وانتهكت الأعراض ، وسلبت الأموال ، واختلّ الأمن ، وضاع الأمان وما تحصلت مصالح كان يدعيها أولئك أو يتوهمونها وما قام شرع وما انتصبت أحكام إسلامية ولا عمت أخلاق ولا فضائل إيمانية ولا حصلت تربية إسلامية ذلك أن الطريق لم يكن صحيحاً ، وأن النهج لم يكن مستقيما وأن الفقه كان معلولا سقيما وأن الجهل كان مستحكماً مكيناً وذلك جزء من الأسباب لعله يأتينا الحديث عنه .(/2)
وهذه قضية واضحة بيّنة ، وأما التكفير فهو المدى الأعلى والغاية العظمى والمنتهى في شأن هذا الغلو ، فدونه مراتب قد تكون أخف ضرراً وأهون شراً وأما التكفير فالحكم بكفر المسلم وسلب اسم الإيمان والإسلام عنه يترتب عليه استحلال دمه وعرضه وماله وتنزيله منزلة الكافرين ، بل ما هو أشد لأنه ينزل منزلة المرتدين الذين كفروا بعد إسلامهم والعياذ بالله، واستمع لنداء الإيمان في الحال التي يتصور أنها حال القتل والقتال التي قد يظن أنها أبعد ما تكون عن البحث والتثبت والاستفصال، يقول الحق جل وعلا:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ النساء: من الآية 94 ] .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } ، إذا خرجتم في الجهاد والقتال في سبيل الله والأصل أن خروجكم هذا لغرض مواجهة الكفر وأهله ؛ فإن أعرضوا عن الإسلام وأبوا الخضوع له قاتلوهم ومع ذلك فتبينوا وتثبتوا واحرصوا على ألا توقعوا القتل على من لا يستحقه وصفاً وعملاً ، ويقول الحق - عز وجل - في هذا المعنى:
{ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً } [ النساء: من الآية 94 ] .
قال المفسرون: السلام يعني الإسلام بدليل قوله لست مؤمناً ، لا تقولوا لمن أظهر الإسلام لست مؤمناً تسلبون عنه صفة إسلامه وإيمانه ، وقيل السلام تحية الإسلام وهي السلام فمن ألقى عليكم السلام وأظهر بذلك شعار المسلمين فلا تقولوا لست مؤمناً ، أو الاستسلام أيكون السلام بمعنى الاستسلام ؟ أي الخضوع لسلطان الإسلام وإن لم يدخل فيه ؛ فإن الإسلام يحقن دمه ويحفظ عرضه وماله ويعظم له حقه بل ويحافظ عليه وهذا أمر مهم ، وقد قال أهل التفسير في ذلك: اطلبوا بيان الأمر وثباته ووضوحه في حال قتلكم وقتالكم وإذا قاتلتم فتبينوا حال من تقتلون..
بأهل إيمان وإسلام يظهرون شرائعه وشعائره في بلاد الإسلام والمسلمين لاشك أن الأمر ظاهر البطلان واضح الفساد لا يحتاج إلى بسط أدلة على حرمته وجرمه والأمر في هذا أوسع من أن نحيط به .
وقد روى أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية روايات كثيرة كلها يدور على أنه قد وقع من بعض الصحابة اجتهاد بسلب اسم الإسلام ممن أظهر مشاعره أو شعائره أو أقواله ومظاهره فنزلت الآية في هذا .
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه بسند حسن قال: مرّ رجل من بني سليم بنفر من الصحابة كان يرعى له غنماً فسلم عليهم وكانوا في سرية، فقالوا: لا يسلم علينا إلا ليتعوّذ منا ، فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فنزلت الآية.
ونعرف ما مضى ذكره في حديث أسامة بن زيد في صحيح مسلم في بعث الحرقات يوم أهوى بسيفه على ذلك الرجل قال: لا إله إلا الله ، فأجهز عليه وقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: ( أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ أ قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ ) قال أسامة : فوددت أني لم أسلم إلا يومئذ .
وفي رواية أنه قال له عليه الصلاة والسلام : ( أفلا شققت عن قلبه فعرفت أقالها خوفاً أم لا ).
وهذا أمر واضح بيّن .
وفي التحذير وردت نصوص كثيرة لعلّ بعضها يغني عن سرد كثير منها ومن ذلك :
حديث أبي ذر - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين واللفظ لمسلم عنه عليه الصلاة والسلام:
( من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه ) .
أي إلا رجع عليه ذلك الوصف .
وحديث أنس أشمل وأوضح يقرر القواعد الأصيلة والوقاية ، والحماية المبنية على أصل العصمة بالإسلام والإيمان عن رسول الله عليه الصلاة والسلام :
( ثلاث من أصل الإيمان: الكف عن من قال: لا إله إلا الله لا يكفره بذنب ولا يخرجه من الإسلام والجهاد ماض إلى يوم القيامة منذ أن بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل والإيمان بالقدر ) رواه الترمذي في سننه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وصححه .
( الكف عمن قال: لا إله إلا الله لا يكفر بذنب ولا يخرج من الإسلام ) وقال العلماء في ذلك: مقالات كثيرة ملئت بها كتبهم وهم أهل العلم والبصيرة والفقه في دين الله ليسوا أمثالنا وأمثال كثيرين غيرنا ممن لا يحسنون تلاوة القرآن ، ولم يقرؤوا إلا النزر اليسير أو يعرفوا النزر اليسير من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم إذا بهم يفتون في الدماء والأعراض ويفتون في أمور الأمة كلها ويفتئتون عليها وعلى من يتولى أمرها فيقومون بكل ما من حقه ألا يكون إلا بإجماع العلماء من الأكابر أو باجتماع الولاة والعلماء على أمر من الأمور العظيمة المتعلقة بالأمة .
قال ابن أبي العز رحمه الله : واعلم رحمك الله وإيانا أن باب التكفير عظمت الفتنة والمحنة فيه وكثر فيه الافتراء وتشتت فيه الأهواء والآراء .(/3)
وقال ابن تيمية: أما من في قلبه الإيمان بالله الإيمان بالرسول وما جاء به وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع فهذا ليس بكافر أصلاً والخوارج من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها ، ولم يكن في الصحابة من كفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره بل حكموا فيهم بحكمهم للمسلمين الظالمين المعتدين .
وهذا أمره بين ظاهر .
والمخاطر - أيها الأخوة - كثيرة ولكننا في مقام الإشارة الجامعة الموجزة ، فأقف وقفتين مختصتين موجزتين اذكرهما ولعل وقتاً أو مقاماً آخر قد يتاح فيه تفصيلهما.
أولهما: ما يؤدي إليه التكفير من استحلال الدماء والأعراض والأموال ، وهو الخطر العظيم الجسيم الذي إذا ابتدأ أمره وترخص الناس فيه وفتحوا له أبواب التأويل واعتسفوا في فهم النصوص .
فإنه لا تبقى عصمة لنفس مؤمنة ولا دم حرام وينفرط عقد ذلك ، ويحصل به من الفساد ما الله - عز وجل - به عليم .
وينبغي ألا ننسى أن أعظم المنن التي منّ الله بها على العباد في سياق آياته وعلى البلد الحرام على وجه الخصوص نعمة الأمن والرزق وينزعها ويبطلها ويفسدها ويذهبها أن يصل الحد إلى التكفير الذي لا يأبه لذلك كله ، ولا يقيم له حرمة ولا يرعوي من هول وعيد الآيات العظيمة :
{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } [ النساء:93 ] .
وعيد يكاد ألا يكون له مثيل في شدته وقوته حتى قال بعض أهل العلم وينسب ذلك كذلك إلى ابن عباس : " أنه لا توبة لقاتل " .
وإن كان الصحيح أنه له توبة لكن القول الذي قيل بعدم توبته يدل على عظمة الجرم الذي قضى من بعض أعل العلم أن يقولوا بمثل هذا القول.
وفي حديث بريدة - رضي الله عنه - كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال غي شأن القتل والجهاد والقتال:
( اغزو باسم الله في سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً ) رواه مسلم في صحيحه .
إن كان هذا في شأن القتال وفي ميادينه مع أهله المستحقين له فكيف يكون غدر ؟ وكيف يكون غير ذلك في أهل الإسلام ؟
ولعلنا نشير إلى قول جامع في هذا الأمر يبين الخلل الذي يستند إلى هذا في مقال ابن تيمية رحمه الله قال :
" طريقة أهل البدع يجمعون بين الجهل والظلم فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ويبنون على هذا التكفير قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان " ، ثم قال : " يكفرون الناس ابتداء ويبنون على ذلك استحلال الدماء والأموال ، فاستحلالهم دماء المسلمين نتيجة لغلوهم وابتداعهم إذ يرون من ليس على طريقتهم خارجاً عن الدين حلال الدم وهذا شأن المبتدعة " .
قال أبو قلابة رحمه الله: ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف.
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
والمسألة الثانية الخطيرة - وحقيق أن يكون لها حديث مستفيض ولكنه الإيجاز الذي نؤكد به أصول هذه المسائل - وهي قضية: الخروج على الأئمة ونقض الطاعة في بلاد مسلمة تعلن الإسلام أو تظهره وترفع شعائره وتقيّم أحكامه .
وهذا لا يعني أن الكمال فيها أي في هذه البلاد ولا في غيرها من البلاد تاماً ولا يعني أنه ليس فيها نقص أو خلل أو ليس فيها معصية أو إثم أو ليس فيها مخالفة أو منازعة لما ثبت بأصل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
لكن لذلك كله أحكاماً وله ما يتعلق به من سبل الإصلاح والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك .
وهذا مقام يطول الحديث فيه .
ولعلنا نستحضر الحديث العظيم حديث عبادة بن الصامت : " بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم عليه من الله برهان .
وقد تكلم أهل الإسلام وعلماؤه في جمهورهم : أنه ينبغي مراعاة المصالح والمفاسد حتى وإن تعين أو ثبت الكفر البواح ؛ فإن معالجته ومناهضته بالقتل والقتال إذا كان يفضي إلى المفاسد الأعظم من اختلال الأمن وإزهاق الأنفس وسفك الدماء وعدم تحقق المقصود أنه منهي عنه شرعاً لما يترتب عليه من الفساد .
وهذا أمره كثير وعظيم .
وقد قال فيه العلماء مقالات نفيسة أختم بها في هذا المقام من ذلك قول ابن أبي العز رحمه الله : " وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلأنه يترتب على الخروج عن طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم لما في الصبر على جورهم مع ما في الصبر على جورهم من تكفير السيئات ومضاعفة الأجور" .(/4)
وفي قول ابن تيمية: " وإن ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم وترك الخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد ، وأن من خالف ذلك متعمداً أو مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح بل فساد " .
وقال : " ولا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا كان ذلك من الفساد لا من الصلاح " .
وهذا أمره عظيم والأحاديث التي وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كثيرة وبعض الناس يفهمها فهماً خاطئاً كما في الحديث المشهور قال : ( وإن جلد ظهرك وأخذ مالك ) .
أي تصبر ولا تنزع يداً من طاعة فيقولون : هل يدعوا الإسلام إلى الاستسلام والسلبية ؟
ونقول: لا إنما هو منع لمسألة بعينها في التغيير وهي نزع الطاعة والمقاتلة ؛ لأن مفاسدها في الجملة أعظم وأن في أكثر الأحوال لا يحصل بها المقصود الذي يزعمه أو يظنه صاحبه .
وأما ما وراء ذلك من الإنكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح والإرشاد والتعليم وقول الحق ؛ فإنه مطلوب ولقد كان الأئمة كلهم قد قالوا بأقوال وخالفوا في مسائل لكنهم لم يخرجوا عن سلطان الأئمة ماداموا مظهرين للإسلام ورافعين لرايته وظاهرة في بلادهم شعائره .
كما كان من ابن تيمية - رحمه الله - فإنه قد سجن وإنه قد خولف وكذلك الإمام أحمد والشافعي وغيرهم من الأئمة - رضوان الله عليهم - وهذا ليس من ضعفهم ولا من عجزهم ولكنه من إيمانهم وفقههم .
ولعلنا نعود إلى مثل هذا .(/5)
التبكير بالعمامة والسجادة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله:
لا يشك عارف بكتاب الله وسنة نبيه أن ما يفعله بعض المسلمين في المساجد من حجز أمكنة لهم في الصفوف الأولى، أو أي بقعة من المسجد، لأداء العبادة فيها؛ أن ذلك من الأمور التي نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم- ولم تكن معروفة في زمن السلف الصالح، الذين كانوا أحرص الناس على الصف الأول، وعلى تكبيرة الإحرام، وما لم يفعله السلف الصالح مع وجود المقتضي وعدم المانع، فهو بدعة، والنبي - صلى الله عليه وسلم – قال:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " رواه البخاري ومسلم.
وما عسى أن ينفعك أيها الحاجز للمكان في المسجد بقطعة قماش أو سجادة، أو ما أشبه ذلك، وأنت مشتغل بدنياك، أو قابع في بيتك تسرح وتمرح مع أهلك وأولادك، أو جالس مع أصدقائك وأقرانك تتحدث معهم وعن عملك ووظيفتك؟!.
لا شك أنه لا ينفعك ذلك شيئاً، بل الذي ينفعك هو التبكير إلى المسجد وبقاؤك فيه؛ كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟" قالوا: بلى يا رسول الله! قال:" إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط".رواه مسلم
ثم إن في حجزك مكاناً في المسجد عدة مفاسد، منها:
1- تخطي رقاب الناس، وذلك بعد عودتك من بيتك أو من شغلك وحاجتك.
2- اغتصاب المكان الذي من سبق إليه فهو أولى به، وأنت سبقت بثوبك ولم تسبق بجسمك!.
3- مخالفة ما كان عليه السلف الصالح – رضوان الله عليهم- فإنهم لم يؤثر عنهم فعل ذلك.
4- أن في حجز المكان في المسجد منظراً غير لائق، وذلك لو أن الصف الأول مثلاً محجوز بقطع القماش، وما أشبه ذلك، ثم يأتي الناس فيجلسون في الصف الثاني، فهذا لا يليق ببيوت الله.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - عمن يحتجز موضعاً من المسجد بسجادة أو بساط و غير ذلك هل هو حرام؟ وإذا صلّى إنسان في ذلك المكان بغير أذن مالكه هل يكره أم لا؟.
فأجاب: ليس لأحد أن يحتجز من المسجد شيئاً، لا سجادة يفرشها قبل حضوره، ولا بساطاً ولا غير ذلك، وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه، لكن يرفعها ويصلي مكانها في أصح قولي العلماء، والله أعلم1.
وقال أيضاً: وأما ما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش إلى المسجد يوم الجمعة أو غيرها، قبل ذهابهم إلى المسجد؛ فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين بل هو حرام، وهل تصح صلاته بذلك المفروش؟ فيه قولان للعلماء؛ لأنه غصب بقعة في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها. ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان.
ثم قال: والمشروع في المسجد أن الناس يتمون الصف الأول، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟" قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال:" يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصفوف " رواه مسلم وأحمد... والمأمور به أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد، فإذا قدم المفروش وتأخر هو فقد خالف الشريعة من وجهين: من جهة تأخره، فهو مأمور بالتقدم. ومن جهة غصبه لطائفة في المسجد، ومنع السابقين إلى المسجد إن يصلوا فيه، وأن يتموا الصف الأول فالأول.
تم إنه يتخطى الناس إذا حضروا... قال النبي - صلى الله عليه وسلم- لرجل: "اجلس فقد آذيت" 2.
ثم إذا فرش هذا، فهل لمن سبقه إلى المسجد أن يرفع ذلك ويصلي موضعه؟ فيه قولان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه. والثاني: وهو الصحيح أن لغيره رفعه والصلاة مكانه؛ لأن هذا السابق يستحق الصلاة في ذلك الصف المقدم، وهو مأمور بذلك أيضاً، وهو لا يتمكن من فعل هذا المأمور واستيفاء هذا الحق إلا برفع ذلك المفروش، ووضعه هناك على وجه الغصب، وذلك منكر، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم..
لكن ينبغي أن يراعى في ذلك أن لا يؤول إلى منكر أعظم منه، والله –تعالى- أعلم، والحمد لله وحده3.
ولكن ينبغي أن يعلم أن ما سبق ذكره هو فيمن اتخذ ذلك عادة، وطال حجزه لذلك المكان.
أما إذا كان المصلي الحاجز من الحريصين على الصف الأول، ولم يطل حجزه لذلك المكان؛ كأن كان جالساً في الصف ثم حجز مكانه بثوب ثم ذهب ليتوضأ، أو حصل له ظرفٌ طارئ، فلا بأس من الحجز لما ذكرناه، وهو أحق بمكانه، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم – أنه قال: " الرجل أحق بمجلسه، وإن خرج لحاجته ثم عاد فهو أحق بمجلسه" رواه الترمذي وصححه الألباني.(/1)
وفي مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: "إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به". فدلت هذه الأحاديث بعمومها على أن المصلي الذي يقوم من مجلسه لحاجة يسيرة كوضوء أو شرب، أوما أشبه ذلك، ثم يرجع إليه فإنه أحق بالمجلس من غيره.
وهل لصاحب المكان أن يقيم من جلس بمكانه في هذه الحالة؟ نعم له أن يقيم من جلس في مكانه بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى فتنة ومنكر أعظم، ولكن يجب على الجالس في مكان من سبق ولكنه خرج لحاجة يسيرة أن يقوم وجوباً كما نص على ذلك العلماء.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد على آله وصحبه وسلم
________________________________________
1 - مجموع الفتاوى 22/ 193.
2- رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع.
3 - مجموع الفتاوى 22/189.(/2)
التجسس في الميزان الشرعي
الحمد لله رب العالمين، الواحد القهار، والصلاة والسلام على رسول الله، الجامع لمكارم الأخلاق وعلى آله وصحبه الأطهار الأبرار. أما بعد:
فإن التجسس عمل وضيع نهى الله -عز وجل- عنه لأسباب، منها أنه تتبع للعورات، وفضح لأسرار الناس، ومن تتبع عورة المسلم فضحه الله ولو في جوف بيته..
والتجسس: هو تتبع عورات الناس وهم في خلواتهم، إما بالنظر إليهم وهم لا يشعرون، وإما باستراق السمع وهم لا يعلمون. وإما بالاطلاع على مكتوباتهم ووثائقهم وأسرارهم وما يخفونه عن أعين الناس دون إذن منهم.
وقد نهى الإسلام عن التجسس على المسلمين، ما داموا ظاهري الاستقامة غير مجاهرين بمعاصيهم، وكان ما يخفونه من أمورهم من السلوك الشخصي الذي يخصهم ولا يتعلق بكيد للمسلمين.
والتجسس مما يولد في المجتمع الأحقاد، ويورث العداوات والبغضاء ، إذ يشعر المتجسس عليه بأنه مشكوك بأمره غير موثوق.
وهما يكشفان عورات الناس، ويتسببان بإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا. وسوف نلقي الضوء على هذا الموضوع من خلال الآتي:
أولاً: التجسس اصطلاحاً:
قال ابن الأثير: (التجسس: التفتيش عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر)1 . وذكر في معنى التجسس: (هو أن تتبع عين أخيك فتطلع على سره)2. وقيل: (هو أن يتتبع الإنسان أخاه ليطلع على عوراته سواء كان ذلك عن طريق مباشر بأن يذهب هو بنفسه يتجسس، أو كان عن طريق الآلات المستخدمة في حفظ الصوت أو غير ذلك فهو محرم.
ثانياً: الفرق بين التجسس والتحسس:
أكثر العلماء يقولون بوجود الفرق بينهما، قال ابن كثير -رحمه الله-: (التجسس غالباً يطلق في الشر ومنه الجاسوس، وأما التحسس فيكون غالباً في الخير، كما قال -عز وجل- إخباراً عن يعقوب أنه قال: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف / 87).
وقد يستعمل كل منهما في الشر، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: (ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا)3.
وقال القرطبي -رحمه الله-:
(التجسس بالجيم هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس، إذا كان يبحث عن الأمور، والتحسس هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه)4.
ثالثاً:- النصوص الشرعية الواردة في ذم التجسس:
قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} 5.
قال ابن جرير -رحمه الله تعالى- قوله: (ولا تجسسوا) يقول: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره .. ثم ذكر أثر ابن عباس: نهى الله المؤمن من أن يتتبع عورات المؤمن.
وقال قتادة: هل تدرون ما التجسس، أو التجسس؟ هو أن تتبع، أو تبتغي عيب أخيك لتطلع على سره) أ . ه6
ومن الأدلة: قول الله -عز وجل-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}7.
دلت الآية على حرمة أذية المؤمنين والمؤمنات ومن الأذية تتبع عوراتهم والتجسس عليهم.. قال قتادة بن دعامة: إياكم وأذى المؤمن، فإن الله يحوطه، ويغضب له. 8
وقال -تعالى-: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (47) سورة التوبة. قال مجاهد في قوله -تعالى-: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ): وفيكم مخبرون لهم يؤدون إليهم ما يسمعون منكم وهو الجواسيس.9
وقد وردت أحاديث شريفة تدل على حرمة التجسس، فمنها:
أ - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً).10
ب - عن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتَبّع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)11.
(ج) وعن معاوية -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم)12.
رابعاً: من الآثار وأقوال العلماء الواردة في ذم (التجسس):(/1)
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: (إنا قد نُهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به).13
قال أبو حاتم البستي -رحمه الله-: (التجسس من شعب النفاق، كما أن حسن الظن من شعب الإيمان، والعاقل يحسن الظن بإخوانه وينفرد بهمومه وأحزانه، كما أن الجاهل يسيء الظن بإخوانه، ولا يفكر في جناياته وأشجانه).14
خامساً: أضرار التجسس:
1- التجسس دليل على ضعف الإيمان وفساد الخلق.
2- وهو دليل دناءة النفس وخستها.
3- يوغر الصدور ويورث الفجور.
4- يؤدي إلى فساد الحياة وكشف العورات.
5- يستحق صاحبه غضب الله ودخول النار، والعياذ بالله -تعالى-.
فائدة:
يستثنى من النهي عن التجسس ما لو تعين طريقاً إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلاً: كأن يخبر ثقة بأن فلاناً خلا بشخص ليقتله ظلماً, أو بامرأة ليزني بها، فيشرع في هذه الصورة التجسس والبحث عن ذلك حذراً من فوات استدراكه). نقله النووي عن (الأحكام السلطانية) للماوردي واستجاده.
والله ولي التوفيق..
________________________________________
1 - النهاية (1/272) .
2 - الدر المنثور للسيوطي (7/567) .
3 - تفسير ابن كثير ( 4/213) .
4 - تفسير القرطبي ( 16/218) .
5 - (12) سورة الحجرات.
6 - الحجرات : 12 .
7 - جامع البيان للطبري 13/165.
8 - جامع البيان للطبري 12/58.
9- (تفسير البغوي: 10 / 298).
10 -رواه البخاري ومسلم.
11 -رواه أحمد والترمذي. وصححه الألباني في صحيح الجامع (7984).
12 - قال النووي في رياض الصالحين: (حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح ) أ . هـ.
13 - قال النووي في ( رياض الصالحين ) : حديث حسن صحيح . رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم) .
14 - روضة العقلاء (ص 212) .(/2)
التحذير من أذية المؤمنين والناس أجمعين
137
الآداب والحقوق العامة
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
ملخص الخطبة
1- القصاص يوم القيامة من الظالمين 2- حرمة المسلم والتحذير من أذيّته 3- أعظم الأذى قتل النفس المحرّمة 4- حرمة لعن المسلم وهجره وسِبابه 5- انتهاك حرمة أموال المسلمين 6- انتهاك حرمة أعراض المسلمين
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله ـ تعالى ـ واحذروا أذية المؤمنين، والإساءة إلى الناس أجمعين، إلا بحق ظاهر، قام عليه الدليل البين السالم من المعارض من الكتاب والسنة، والمأثور عن السلف الصالح من هذه الأمة؛ ليكون لكم برهاناً قاطعاً وحجة دافعة حين تختصمون عند ربكم، فتؤدى الحقوق إلى أهلها، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، وتؤخذ المظالم من الظالمين فترد إلى أهلها في يوم لا درهم فيه ولا دينار، بل إن كان للظالم عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، ((وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) [رواه البخاري][1].
وفي رواية عند مسلم: ((فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) [2].
وحينئذ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُوِيهِ وَمَن فِى الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:11-14].
عباد الله، إن أذية المؤمنين والناس أجمعين بغير حق من أشد المظالم، وأعظم المآثم التي توعد الله أهلها بالوعيد الأكيد، وتهددهم بالعذاب الشديد، في مثل قوله ـ سبحانه ـ: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58]. وقوله ـ سبحانه ـ في الحديث القدسي الصحيح: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)) [3] الحديث، أي أعلمته أني محارب له. وما ثبت في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله ـ أي في أمانه وضمانه ـ فلا تسيئوا إليه بغير حق، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يكبه على وجهه في نار جهنم)) [4].
فالذي يؤذي المؤمنين خاصة والناس عامة بغير حق على خطر من غضب الله وانتقامه، وما توعد به الظالمين في الدنيا ويوم القيامة، حتى ولو كان المؤذي من أفاضل الناس وخيارهم؛ فقد ثبت في صحيح مسلم أن أبا سفيان مر – في حال كفره – على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها. فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي فأخبره، فقال : ((يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك)). فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا. يغفر الله لك يا أخي[5]. وثبت في الصحيحين أن النبي قال لمعاذ وقد بعثه إلى اليمن: ((واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) [6].
أيها المسلمون، وإيذاء المؤمنين وغيرهم من الناس بغير حق له صور منصوص عليها من القرآن وما أثر عن النبي من بيان، ويعظم الإيذاء ويتضاعف الإثم وتشتد العقوبة، كلما عظمت حرمة الشخص، أو الزمان ، أو المكان، أو المناسبة.
ولقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من غير وجه أن البني قال للناس في يوم النحر في أشرف زمان ومكان وجمع حضره ، وبعد أن قرر الناس على حرمة البلد والشهر واليوم: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم – وفي رواية قال: وأبشاركم – عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب)) الحديث[7].
فمن أعظم أذية المؤمنين والناس بغير حق قتلهم بغير حق، قال تعالى: مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32]. وقال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93].
وقال ـ تعالى ـ: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [ النساء:29-30]. وصح عن النبي أنه قال: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) [رواه البخاري].(/1)
أيها المسلمون، وإذا كانت هذه حرمة دم المسلم فإن لعنه وهجره وتفسيقه ورميه بالكفر بغير حق فهو كقتله، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي قال: ((ولعن المؤمن كقتله))، وفي سنن أبي داود عن النبي قال: ((إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبوابها دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً فإذا لم يجد مساغا رجعت إلى الذي لُعن فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها))، وصح عن النبي أنه قال: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) [متفق عليه].
وفي البخاري عن أبي ذر أنه سمع رسول الله يقول: ((لا يرمي رجل رجلاً بالفسق والكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) وفي صحيح مسلم عنه : ((المتسابان ما قالا فعلى البادي منهما حتى يعتدي المظلوم))، وفي سنن أبي داود عن أبي خراش السلمي أنه سمع النبي يقول: ((من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه))، وفيه أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار)).
أيها المسلمون، أما أذية المسلمين بأخذ أموالهم فهي من أعظم الظلم وأكبر موجبات الإثم. قال : ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) وقال : ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة)). فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ فقال : ((وإن كان قضيباً من أراك)).
أيها المسلمون، ثبت في صحيح البخاري عن النبي قال: ((إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة))، وقال : ((إنكم تختصمون ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته – يعني أوضح وأبين – من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإني أقطع له قطعة من النار)) [متفق عليه].
وقال : ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حرامًا)) [رواه البخاري].
وأخبر أن الدَّيْنَ لا يكفره القتل في سبيل الله وذلك لأنه من حقوق الناس.
فمن أخذ للناس شيئا بغير حق فهو ظلم جزاؤه النار، سواء أخذه من طريق القوة والقهر، أو عن طريق الخديعة والحيلة، أو عن طريق الرشوة، أو بواسطة اليمين الفاجرة، أو بحكم القاضي إذا أخطأ اجتهاده، والمدعي يعلم أنه مبطل، أو كان عن طريق ظلم الناس في الاعتداء على أبدانهم وانتهاك حرماتهم، فكل ذلك ظلم يكون الظالم به عرضة لعقوبة ظلمه في الدنيا والآخرة أو فيهما معا. فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الظلم ؛ فإنه حسرة وندامة وظلمات يوم القيامة.
ومن ذلك الاستطالة في أعراض الناس بالغيبة والبهت والنميمة والتعدي عليهم بالضرب والشتم وأنواع انتهاك الحرمات، فكل هذه من الظلم التي لا تكفرها الصلاة ولا الصدقة ولا الصوم، بل لا يغفر للظالم حتى يغفر له المظلوم، فإن ديوان الظلم من الدواوين التي لا يترك الله منها شيئا بل يؤاخذ بها إلا إذا تنازل عنها أصحابها، فكم من شخص يظن أنه كثير الحسنات ثم يأتي يوم القيامة مفلسا من بين البريات بسبب ما تحمل من الظلامات، جاء في الحديث عن النبي أنه قال: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) [8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري ح (2449).
[2] صحيح مسلم ح (2581).
[3] أخرجه البخاري ح (6502).
[4] صحيح مسلم ح (657).
[5] المصدر السابق ح (2504).
[6] صحيح البخاري ح (2448) ، صحيح مسلم ح (19).
[7] صحيح البخاري ح (67 ، 7078) ، صحيح مسلم ح (1679).
[8] أخرجه مسلم ح (2582).
الخطبة الثانية
لم ترد.(/2)
التحذير من البدع والمواسم المحدثة
البدع والمحدثات
سليمان بن سيدي محمد بن عبد الله
الرباط
1/1/1355
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أمر الله بالمحافظة على السنة والجماعة 2- أشار إلى حق الراعي على الرعيّة وإلى حقهم عليه 3- حال المسلمين الأليم حيث فشت فيهم البدع , وانتشرت بينهم المنكرات 4- التحذير من ذلك كله 5- أوصى بلزوم طريق السّنة 6- نهى عن بدع المواسم وحذّر من رؤوس أهل البدع وكشف تلبيسهم وتدليسهم على الناس وعلى دينهم 7- أشار إلى بدعة تزويق المساجد والأضرحة وأن ذلك ليس من هَدْي السلف 8- حذّر من التقليد الأعمى الذي هو ديْدَن أهل البدع بل دينهم 9- صوّر الأصل العظيم ألا وهو كمال الدين وتمام الشريعة 10- بيّن الفرق بين الذكر النبوي المشروع وبين الذكر المبتدع الممنوع 11- أوصى بالتوبة والاستغفار وحذّر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 12- بيّن العمل الصالح الذي يتقبّله الله تعالى والذي يَتقرّب به الأولياء الصالحون والمتقون المفلحون إلى الله تعالى 13- وجّه نداءً إلى أولياء الأمور أن يمنعوا هذه البدع وأن يمنعوا أهلها من الحضور في المساجد 14- بيّن مغبة انتشار البدع والمنكرات 15- الوصية بلزوم السنة والجماعة والحذر من البدعة والفُرقة
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها الناس، شرح الله لقبول النصيحة صدورَكم، وأصلح بعنايته أمورَكم، واستعمل فيما يرضيه آمرَكم ومأمورَكم، فإن الله قد استرعانا جماعتَكم، وأوجب لنا طاعتَكم، وحذَّرنا إضاعتَكم، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، سِيَما فيما أمر الله به ورسوله، أو هو محرّمٌ بالكتاب والسنة النبوية، وإجماع الأمة المحمدية، الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ أَقَامُواْ الصلاةَ وَآتَوُاْ الزكاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].
ولهذا نرثي لغفلتكم أو عدم إحساسِكم، ونغار من استيلاء الشيطان بالبدع على أنواعكم وأجناسِكم، فألقوا لأمر الله آذانَكم، وأيقظوا من نوم الغفلة أجفانَكم، وطهّروا من دنس البدع إيمانَكم، وأخلصوا لله إسراركم وإعلانَكم، واعلموا أن الله بفضله أوضح لكم طرقَ السنة لتسلُكُوها، وصرَّح بذمّ اللهو والشهوات لتملِكُوها، وكلَّفكم لينظر عملَكم، فاسمعوا قوله في ذلك وأطيعوه، واعرِفوا فضلَه عليكم وعُوه.
اترُكوا عنكم بدعَ المواسم التي أنتم بها متلبّسون، والبدعَ التي يزيّنها أهلُ الأهواء ويلبّسون، وافترقوا أوزاعًا، وانتزعوا الأديان والأموالَ انتزاعًا، بما هو حرامٌ كتابًا وسنة وإجماعًا، وتسمَّوْا فُقرَا، وأحدثوا في دين الله ما استوجبوا به سقرَا، قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً % الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، وكل ذلك بدعةٌ شنيعة، وفِعلةٌ فظيعة، وسبَّة وضيعةٌ، وسُنةٌ مخالفة لأحكام الشريعَة، وتلبيسٌ وضلال، وتدليس شيطاني وخبَال، زيّنه الشيطان لأوليائه فوقَّتوا له أوقاتًا، وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك دراهمَ وأقواتًا، وتصدّى له أهل البدع من عيساوة وجلالة، وغيرِهم من ذوي البدع والضلالة، والحماقة والجهالة، وصاروا يترقَّبون لِلَهوِهِمُ الساعات، وتتزاحم على حبال الشيطان وعِصِيِّه منهم الجماعات، وكلُّ ذلك حرامٌ ممنوع، والإنفاق فيه إنفاق في غير مشروع.
فأنشدكم الله عباد الله، هل فعل رسولُ الله لِعمّه سيد الشهداء موسما؟! وهل فعل سيدُ هذه الأمة أبو بكر لسيد الأرسال صلى الله عليه وعلى جميع الصحابة والآل موسمًا؟! وهل تصدّى لذلك أحدٌ من التابعين رضي الله عنهم أجمعين؟! ثم أنشدكم الله، هل زُخرِفت على عهد رسول الله المساجد؟! أم زُوِّقت أضرحةُ الصحابة والتابعين الأماجد؟!(/1)
كأني بكم تقولون في نحو هذه المواسم المذكورة وزخرفةِ أضرحة الصالحين وغير ذلك من أنواع الابتداع: "حسبُنا الاقتداء والاتباع، إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون"، وهذه المقالة قالها الجاحدون، هيهات هيهات لما توعدون، وقد ردَّ الله مقالتَهم، ووبَّخهم وما أقالهم، فالعاقل من اقتدى بآبائه المهتدين، وأهل الصلاح والدين، ((خير القرون قرني...)) الحديث[1]، وبالضرورة إنه لن يأتيَ آخرُ هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أوَّلُها، فقد قُبِض رسولُ الله وعقْدُ الدين قد سُجِّل، ووعْد الله بإكماله قد عُجِّل، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على منبر رسول الله بحضرة الصحابة رضي الله عنهم: (أيها الناس، قد سُنّت لكم السنن، وفُرِضت الفرائض، وتُرِكتم على الجادة، فلا تميلوا بالناس يمينا ولا شمالا)، فليس في دين الله ولا فيما شرع نبيُّ الله أن يُتقرّبَ بغناء ولا شطح.
والذكرُ الذي أمر الله بِه، وحثَّ عليه ومدح الذاكرين بِه، هو على الوجه الذي كان يفعله ، ولم يكن على طريق الجمع ورفع الأصوات على لسان واحد، فهذه سنة السلف، وطريقة صالحي الخلف، فمن قال بغير طريقهم فلا يُستَمَعْ، ومن سلك غيرَ سبيلِهم فلا يُتَّبعْ، وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً [النساء:115]، قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
فما لكم ـ يا عباد الله ـ ولهذه البدع؟! ءأمْنًا من مكر الله؟! أم تلبيسًا على عباد الله؟! أم منابذةً لمن النواصي بيديْه؟ أم غرورًا لمن الرجوع بَعدُ إليْه؟ فتوبوا واعتبِروا، وغيِّروا المناكرَ واستغفروا، فقد أخذ الله بذنب المترَفين مَن دونهم، وعاقب الجمهورَ لمَّا أغضُّوا عن المنكر عيونَهم، وساءت بالغفلة عن الله عُقبى الجميع؛ ما بين العاصي والمداهن والمطيع.
أفيُزِلُّكم الشيطان وكتاب الله بين أيديكُم؟! أم كيف يضلُّكم وسنةُ نبيِّكم تناديكُم؟ فتوبوا إلى رب الأرباب، وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ [الزمر:54].
ومن أراد منكم التقرّبَ بصدقةٍ، أو وُفِّق لمعروفٍ أو إطعام أو نفقةٍ، فعلى من ذكرَ اللهُ في كتابِه، ووعدكم فيهم بجزيل ثوابِه، كذوي الضرورة غير الخافيَة، والمرضى الذين لستم بأولى منهم بالعافيَة، ففي مثل هذا تُسَدُّ الذرائِع، وفيه تُمتثَلُ أوامرُ الشرائع، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللَّهِ [التوبة:60].
ولا يُتقرَّب إلى مالك النواصي بالبدع والمعاصي، بل بما يَتقرَّب به الأولياء والصالحون، والأتقياء المفلحون: أكل الحلال، وقيام الليال، ومجاهدةُ النفس في حفظ الأحوال بالأقوال والأفعال؛ البطن وما حوى، والرأس وما وعى، وآياتٌ تُتلَى، وسلوكُ الطريقةِ المثلى، وحجٌّ وجهادٌ ورعاية السنة في المواسم والأعياد، ونصيحةٌ تُهدَى، وأمانةٌ تؤَدَّى، وخلقٌ على خلق القرآن يُحدَى، وصلاةٌ وصيام، واجتنابُ مواقعِ الآثام، وبيعُ النفس والمال من الله، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ الآية [التوبة:111]، وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153]. الصراط المستقيم كتاب الله وسنة رسول الله ، وليس الصراط المستقيم كثرة الرايات، والاجتماع للبيات، وحضور النساء والأَحداث، وتغيير الأحكام الشرعية بالبدع والإِحداث، والتصفيق والرقص، وغير ذلك من أوصاف الرذائل والنقص، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً [فاطر:8].
عن المقداد بن معديكرب [2]: سمعت رسول الله يقول: ((يُجاء بالرجل يوم القيامة، وبين يديه راية يحملها، وأناسٌ يتبعونها، فيُسأل عنهم، ويُسألون عنه))، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ % وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا [البقرة:166 ،167].(/2)
فيجب على مَن ولاَّه الله من أمر المسلمين شيئًا من السلطان والخلائف أن يمنعوا هذه الطوائف من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، أو يعينهم على باطلهم. فإياكم ثم إياكم والبدع، فإنها تترك مراسمَ الدين خاليةً خاوية، والسكوتُ عن المناكر يحيل رياضَ الشرائع ذابلةً ذاوية، فمن المنقول عن الملل، والمشهورِ في الأواخر والأول، أنَّ المناكر والبدعَ إذا فشت في قوم أحاط بهم سوءُ كسبِهم، وأظلم ما بينهم وبين ربِّهم، وانقطعت عنهم الرحمات، ووقعت فيهم المثُلات، وشحَّت السماء، وحلَّت النقماء، وغِيضَ الماء، واستولت الأعداء، وانتشر الداء، وجفّت الضروع، ونقعت بركةُ الزروع؛ لأن سوءَ الأدب مع الله يفتح أبوابَ الشدائد، ويسدّ طرقَ الفوائد، والأدبُ مع الله ثلاثةٌ: حفظُ الحرمة بالاستسلام والاتباع، ورعايةُ السنة من غير إخلال ولا ابتداع، ومراعاتها في الضيقِ والاتساع، لا ما يفعله هؤلاء الفقراء، فكلُّ ذلك كذبٌ على الله وافتراء، قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله موعظةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، كأنَّ هذه موعظةُ مودّع فما تعهَد إلينا؟ أو قال: أوصنا، فقال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة لمن وُلّي عليكم وإن عبدًا حبشيًا، فإنه من يعِش بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة))[3].
وها نحن ـ عبادَ الله ـ أرشدناكم وحذَّرناكم، فمن ذهب بعدُ لهذه المواسم أو أحدَثَ بدعةً في شريعة نبيِّه أبي القاسم، فقد سعى في هلاك نفسِه، وجرّ الوبال عليه وعلى أبناء جنسِه، وتلّه الشيطان للجبين، وخسِر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
[1] أخرجه البخاري في الشهادات (2652)، ومسلم في فضائل الصحابة (2533) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: ((خير الناس قرني...)).
[2] جاء في حاشية جريدة البصائر المنقول منها هذه الخطبة ما نصّه: "كذا في الأصل المنقول عنه (المقداد بن معديكرب)، ولا يوجد في الإصابة هذا الاسم، إنما الموجود المقداد بن الأسود والمقدام بن معديكرب، ولعله هو الصواب هنا، راجع ج3 من الإصابة، ص 454-455. وبعدُ فانظر من خرَّج الحديث وما رتبته فإني لم أقف عليه". وما استظهره المحشِّي هو الصواب، فقد أخرج هذا الحديث ابن أبي عاصم في السنة (1099)، والطبراني في الكبير (20/275) عن المقدام رضي الله عنه، وعزاه الهيثمي في المجمع (5/207-208) إلى الطبراني في الأوسط وقال: "فيه محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف"، وبه أيضا ضعفه الألباني في ظلال السنة.
[3] أخرجه أحمد (4/126 - 127) وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95 - 96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد، من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).(/3)
... ... ...
التحذير من الربا وخطره ... ... ...
عبدالعظيم بدوي الخلفي ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- الفرق بين الربا والصدقة. 2- تعريف الربا وأدلة تحريمه. 3- شرح الآيات التي ورد فيها ذم الربا وبين حال أهل الربا في الدنيا والآخرة. 4- كيف يتوب المتعامل بالربا من الربا. 5- فضل إنظار المعسر. 6- تعريف نوعي الربا: ربا الفضل وربا النسيئة. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله : ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله تعالى من ستة وثلاثين زنية)).
إن الصدقة هي الوجه المشرق الصالحة للمعاملة التي يتعامل بها الناس، ويقابلها الوجه الكالح الطالح وهو الربا، وشتّان بين الوجهين:
فالصدقة عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل.
والربا شح وقذارة ودنس، وأثرة وفردية.
والصدقة نزول عن المال بلا عوض ولا رد.
والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه، من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لعمله هو وكده، ومن لحمه إن كان لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئا.
ولهذا تحدث القرآن عن الصدقة ثم أتبعها بالحديث عن الربا، الوجه الآخر الكالح الطالح، وكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة، ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع، وفساد في الأرض وهلاك للعباد.
ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا، ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ من التهديد في أمر الربا.
ولما كان الربا قد شاع في عصرنا هذا شيوعا كثيرا جعل السلامة منه من الصعوبة بمكان، كان لابد من الحديث عن الربا وبيان خطره وخطر عقوبته لعل المرابين يتقون أو يحدث لهم ذكرا، فنقول وبالله التوفيق:
الربا في اللغة: الزيادة
قال تعالى: وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت [الحج:5].
وهو في الشرع: الزيادة في الدين على رأس المال قلّت أو كثرت، وهو حرام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة [آل عمران:130].
وليس القيد هنا لإفادة الشرطية، ولكنه لبيان الواقع فلا يعتد به، بدليل قوله تعالى: وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم [البقرة:279].
وقال النبي : ((اجتنبوا السبع الموبقات...)) وعدّ منها الربا.
وقال : ((الربا بضع وسبعون بابا، أهونها مثل إتيان الرجل أمه)).
وقال : ((ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة)).
وفي حديث الرؤيا الطويل عند البخاري: ((أن النبي أتى على نهر أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا، فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، كلما رجع فغر له فاه فألقمه حجرا، فقال : ما هذا؟ فقيل له: إنه آكل الربا)).
ولقد شن القرآن الكريم حملة شديدة عنيفة على المرابين نسوقها بلفظها ثم نأتي عليها بالبيان.
قال تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة:275-281].
إنها الحملة المفزعة، والتصوير المرعب الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس مبلغ هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة، صورة الممسوس المصروع وهي صورة معروفة معهودة للناس. والنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس لاستجاشة مشاعر المرابين، وهزّها هزّة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة.
والذين يأكلون الربا ليسوا هم الذين يأخذون الفائدة الربوبية وحدهم، إنما هم كل المتعاونين على إجراء العملية الربوية:
عن جابر بن عبد الله قال: ((لعن رسول الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه وكاتبه، وقال: هم سواء)).
والقرآن يصفهم بأنهم لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس .(/1)
إنهم لا يقومون في الحياة ولا يتحركون إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا ينال استقرارا ولا طمأنينة ولا راحة، وهذا أمر أصبح مشاهدا في هذا العصر، فالناس مع الحضارة والرقي والتقدم والرخاء قلقون خائفون مضطربون، قد فشت فيهم الأمراض العصبية والنفسية، والسبب هو خواء الأرواح من زاد الإيمان، الذي هو سبب الطمأنينة والسكينة والهدوء والراحة الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [الرعد:28].
وحين يشقى العالم وهو في رخاء مادّي لابد أن يعلم أن السبب هو فقد الغذاء الروحي، الذي سببه الإعراض عن ذكر الله، كما قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى [طه:124].
ولكن القوم لا يستحضرون هذا السر، ولا يهتدون إليه سبيلا، لأن لهم قلوب لا يفقهون بها [الأعراف:179].
ولقد اعترض المرابون في عهد رسول الله على تحريم الربا وتحليل البيع ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وكانت الشبهة التي ركنوا إليها هي أن البيع يحقق فائدة وربحا، كما أن الربا يحقق فائدة وربحا، وهي شبهة أوهى من بيت العنكبوت.
فالعمليات التجارية قابلة للربح والخسارة، أما العمليات الربوية فهي محدودة الربح في كل حالة، هذا هو مناط التحريم والتحليل: إن كل عملية يضمن فيها الربح على أية وضع هي عملية ربوية محرمة، بسبب ضمان الربح وتحديده، ولا مجال للمماحلة في هذا ولا للمداراة، ولذا أحل الله البيع وحرم الربا .
ولما كان الله تعالى لا يؤاخذ إلا بعد إقامة الحجة قال: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ، فمن سمع موعظة من ربه فلا يكلّف بردّ ما أخذ من الناس قبل ذلك، وحسبه أن لا يزيد عليهم بعد الموعظة، لكن انظر إلى خطر الأمر وهو قوله تعالى: وأمره إلى الله ليظلّ متوجّسا من الأمر خائفا منه يقول: كفاني ما مضى، ولعل الله أن يغفر لي إذا تبت وأنبت ولم أقع فيه بعد ذلك.
(ومن عاد) بعد بيان الله وتذكيره وتوعّده لأكلة الربا فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . وفي هذا التصريح بأن أكلة الربا في النار خالدون إلا من مات منهم على التوحيد، فإن خلوده ليس كخلود الكافرين، وإنما ينفعه التوحيد يوما ما، كما عُلم من النصوص الأخرى.
ولما علم الله أن من عباده من لا يقيم وزنا ليوم الحساب، ويسقطه من حسابه، فقد أنذرهم بالمحق في الدنيا يمحق الله الربا .
والمحق: هو محو الشيء والذهاب به، وقد اشتهر هذا حتى عرفه العامة، فكم من آكل ربا حل به البلاء فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون [النحل:26].
ذلك لهم خزي في الدنيا [المائدة:33].
ثم يوم القيامة يخزيهم [النحل:27].
فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا [النمل:52].
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [الحج:46].
والله سبحانه يعقّب على هذا الوعيد فيقول: والله لا يحب كل كفار أثيم والكفار هو الذي كفر نعمة الله وجحد منّة ربه. والأثيم من أثم بإصراره على المعصية، وفي هذا النص إشارة إلى أن الله يحب الشاكرين ويحب التوابين.
ثم أدخل هذه الآية وهي قوله: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون أدخلها بين آيات الربا ليبين أن أكبر الأسباب التي تعين على ترك الربا الإيمان، وأن آكل الربا لا يأكل الربا وهو مؤمن، قال تعالى: إن الذين آمنوا أي: صدّقوا إذعان بما جاء من عند الله في هذه المسألة وغيرها وعملوا الصالحات التي تصلح بها نفوسهم وشأن من يعيش معهم، ومنها مواساة المحتاجين، والرحمة بالبائسين وإنظار المعسرين وأقاموا الصلاة التي تذكّر المؤمن بالله فتزيد في إيمانه وحبّه لربه، حتى تسهل عليه طاعته في كل شيء وآتوا الزكاة التي تزكي النفس من رذيلة البخل والحرص وتمرّنها على أعمال البر حتى تسهل عليها ويكون ترك أكل أموال الناس بالربا أسهل.
وإنما ذكر الصلاة والزكاة لأنهما أعظم العبادة النفسية والمالية، فمن أتى بهما كاملتين سهل عليه كل عمل صالح.
والله يعدهم بأن لهم أجرهم عند ربهم يحفظه لهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون فهو وعد بالأمن فلا يخافون، وبالسعادة فلا يحزنون، في القوت الذي يتوعد فيه أكلة الربا بالمحق والسحق، وبالتخبط والضلال، وبالقلق والخوف.(/2)
وفي ظل هذا للرخاء الآمن الذي يعد الله به الجماعة المسلمة التي تنبذ الربا من حياتها فتنبذ الكفر والإثم، وتقيم هذه الحياة على الإيمان والعمل الصالح والصلاة والزكاة، في ظل هذا الرخاء الآمن يهتف بالذين آمنوا بالهتاف الأخير ليحولوا حياتهم عن النظام الربوي الدنس المقيت، وإلا فهي الحرب المعلنة من الله ورسوله بلا هوادة ولا إمهال ولا تأخير: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فوصفهم بالإيمان، وذكّرهم بالتقوى، ثم انتقل إلى الأمر بترك ما بقي من الربا لمن كانوا يرابون.
ثم وصل ذلك بقوله: إن كنتم مؤمنين أي إن كان إيمانكم تاما شاملا لجميع ما جاء به محمد من الأحكام فذروا بقايا الربا.
ويؤخذ من هذا أن من لم يترك ما بقي من الربا بعد نهي الله تعالى عنه وتوعده عليه فلا يعدّ من أهل هذا الإيمان التام الشامل.
وهكذا يأخذهم بالترغيب أولا، ثم ثنىّ بالترهيب الذي يقصم الظهور، ويزلزل القلوب: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله .
أي: إن لم تتركوا ما بقي لكم من الربا كما أمرتم فاعلموا واستيقنوا بأنكم على حرب من الله ورسوله.
ويا للهول: حرب من الله ورسوله!! إن الخصم ليعرف أن عدوّه يعدّ العدة ليشن الغارة عليه فلا يهدأ ولا ينام، مع احتمال أن يدفع عن نفسه، وأن يكون هو المنتصر. فكيف إذا أعلم بالحرب من الله ورسوله؟! وهي حرب رهيبة معروفة المصير، مقررة العاقبة، لا هوادة فيها، وأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القدرة الجبّارة الساحقة الماحقة؟!.
وهذه الحرب المعلنة أعمّ من القتال بالسيف والمدفع. إنها حرب على الأعصاب والقلوب، وحرب على البركة والرخاء، وحرب على السعادة والطمأنينة، حرب يسلط الله فيها بعض العصاة على بعض، حرب المطاردة والمشاكسة، حرب الغبن والظلم، حرب القلق والخوف، وأخيرا حرب السلاح بين الأمم والجيوش، والدول، إنها الحرب المشبوبة دائما، وقد أعلنها الله على المرابين، وهي مسعرة الآن تأكل الأخضر واليابس، والبشرية غافلة عما يفعل بها.
ثم عرّض بالتوبة فقال: وإن تبتم يعني من المعاملات الربوية فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون الناس بأخذ الربا ولا تظلمون ببخسكم رؤوس أموالكم. فكل من تاب من الربا: فإن كانت معاملات سالفة فله ما سلف لا يكلّف ردّه ولا إضاعته، وأمره إلى الله ينظر فيه.
وإن كانت معاملات موجودة وجب عليه أن يقتصر على رأس ماله، فإن أخذ زيادة فقد تجرأ على الربا.
ثم يرشد صاحب المال إلى ما يجب عليه نحو الذي عليه الدين فيقول: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون .
إنها السماحة النديّة التي يحملها الإسلام للبشرية. إنه الظل الظليل الذي نادى إليه البشرية المتعبة في هجير الأثرة والشح والطمع والتكالب، إنها الرحمة للدائن والمدين، وللمجتمع الذي يظل الجميع.
إن المعسر في الإسلام لا يطارد من صاحب الدين أو من القانون والمحاكم، إنما ينظر حتى يوسر، ثم إن المجتمع المسلم لا يترك هذا المعسر وعليه دين، فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه إن تطوع بهذا الخير، وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين، وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكالفة ولو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر.
وقد كثرت الأحاديث في الترغيب في إنظار المعسر والتجاوز عنه، ومنها: قوله : ((من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظلّه)).
وعن حذيفة قال: قال رسول الله : ((أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال: ماذا عملت لي في الدنيا؟ فقال: ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها – قالها ثلاث مرات – ثم قال عند آخرها: يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال، وكنت رجلا أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر. فقال الله عز وجل: أنا أحق من ييسر، أدخل الجنة)).
ثم يجئ التعقيب العميق الإيحاء الذي ترجف منه النفس المؤمنة وتتمنى لو تنزل عن الدين كله ثم تمضى ناجية من الله يوم الحساب: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله فأنجع شيء لمرض القلوب تذكر يوم الدين وهو يوم عسير، له في قلب المؤمن وقع شديد، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون .
كان هذا التحذير من ربا النسيئة: وهو الزيادة في الثمن من أجل الزيادة في الأجل.
ومن باب سد الذرائع حرّم الإسلام نوعا آخر من الربا وهو ربا الفضل.
وربا الفضل معناه: بيع جنس بجنسه متفاضلاً.
وهو محصور في أصناف ستة، بيّنها قوله : ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيدا)).
فهذه الأصناف الستة لا يجوز بيع الجنس منها بجنسه متفاضلا: فلا يجوز بيع مائة جرام ذهبا قديما بتسعين جراما ذهبا جديدا، وكذلك الفضة.
ولا يجوز بيع كيلتين من قمح رديء بكيلة من قمح جيد، وهكذا بقية الأصناف.(/3)
ولا يجوز التأخير في القبض وإن كان هناك تماثل، بل لابد من التقابض في المجلس.
فإن اختلفت الأجناس والعلة جاز البيع والشراء متفاضلا وجاز التأخير، كأن تشتري قمحا بنقد، أو ملحا بنقد.
وإن اختلفت الأجناس واتحدت العلة جاز التفاضل دون التأخير: فيجوز أن تشتري عشرين جراما ذهبا بمائة فضة مثلا. أو تشتري كيلتين قمحا بأربع شعيرا، أو تشتري مائة ريال سعوديا بتسعين جنيها مصريا، فهذا التفاضل جائز شريطة التقابض في المجلس. فلا يجوز أن تشتري مائة ريال بتسعين جنيها وتبقى لك أو عليك بقية.
وكذلك لا يجوز أن تشتري ذهبا بنسيئة، ولا أن تدفع بعض القيمة ويبقى عليك بعضها، بل لابد من دفع القيمة كلها نقدا قبل مغادرة المجلس. ومن الخطأ الذي يقع فيه كثير من الناس عند استبدال الذهب القديم بجديد أنهم يبيعون القديم ولا يقبضون ثمنه، ثم يشترون الجديد ويدفعون الفرق، وهذا داخل في ربا الفضل، والصحيح أن تبيع ما معك وتقبض ثمنه، ثم تشتري الجديد وتدفع ثمنه.
فاعتبروا يا أولي الأبصار وخذوا حذركم، وتفقهوا في دينكم، فإنه ((من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين)). ... ... ...
... ... ...
... ... ...
... ... ...(/4)
... ... ...
التحذير من دعوة الجاهلية ... ... ...
رضا محمد السنوسي ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- الأخوة في الدين هي آصرة التجمع بين المسلمين. 2- درس نبوي في صرف العصبية الجاهلية. 3- ذم التفاخر بالآباء. 4- الناس لآدم وآدم من تراب. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
أحبابنا في الله: لقد حرص الإسلام على إقامة العلاقات الودية بين الأفراد والجماعات المسلمة، ودعم هذه الصلات الأخوية بين القبائل والشعوب، وجعل الأساس لذلك أخوة الإيمان، لا نعرة الجاهلية ولا العصبيات القبلية، ورسولنا أقام الدليل القاطع على حقيقة الأخوة الإيمانية وتقديمها على كل أمر من الأمور الأخرى، فها هو رسول الله يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج، وأخذ ينمي هذه الأخوة، ويدعمها بأقوال وأفعال منه تؤكد هذه الحقيقة الغالية ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) [مسلم (45)، البخاري (13)]. وقوله : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [مسلم (2586)]. إلى غير ذلك من الأحاديث التي تقوي هذه الرابطة.
ولقد أينعت هذه الأخوة وآتت أكلها أضعافاً مضاعفة، وكان المسلمون بها أمة واحدة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، فكانوا قوة يوم اعتصموا بحبل الله المتين، ولم تلن لهم قناة لمغامز الأهواء المضللة والأنانيات الفردية.
لكن أعداء الإسلام لم يرق لهم هذا التماسك بين المسلمين، فحاولوا إثارة النعرات القبلية، والعصبيات الجاهلية، وجاهدوا لتمزيق وحدة المسلمين أمما وجماعات، فنجحوا في ذلك، واستجاب ضعاف الإيمان من أبناء الإسلام لهذه المكيدة، فأثيرت النعرات وعادت العصبيات الجاهلية وأصبح الافتخار بالقبيلة التي ينتمي إليها وباللون الذي يحمله أو الأحزاب التي يأوي إليها، وضعفت الأخوة الإيمانية، وقويت العصبية الجاهلية التي حذرنا نبينا منها، وأمرنا بالبعد عنها وعدم الركون إليها.
[أخرجه مسلم (2584)] بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي في غزاه، فكسع رجل من المهاجرين – أي ضرب – رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله : ((ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة)).
نعم إنها منتنة كريهة قبيحة مؤذية؛ لأنها تخرج الإنسان من أصله الكبير، أخوة الإيمان إلى أمر حقير ذليل، إنها الأنانية القبيحة التي تظهر في هذه العصبية؛ لأنها تحيل إلى أمر قبيح نهاهم عنه نبيهم ، وأعلمهم أنه منتن، وهو الصادق المصدوق .
إن الافتخار بالآباء والاعتزاز بالانتماء القبلي قد يدفع المرء إلى النار التي حذرنا الله منها، ذلك أنه قد يفتخر بالكفرة من آبائه وأجداده، وما دفعه لذلك إلا العصبية الجاهلية، وتعالوا بنا نسمع هذا الحديث الذي [أخرجه أحمد (5/128) بإسناد صحيح] عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: انتسب رجلان على عهد رسول الله فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان، فمن أنت لا أم لك. فقال رسول الله : ((انتسب رجلان على عهد موسى عليه السلام، فقال أحدهما: أنا فلان ابن فلان حتى تسعة، فمن أنت لا أم لك؟ قال: أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، قال: فأوحى الله إلى موسى عليه السلام: أن هذين المنتسبين، أما أنت أيها المنتمي إلى تسعة من النار، فأنت عاشرهم، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة)).
لقد لقن رسول الله هذا المفاخر بآبائه درساً يردعه، ويردع أمثاله عن هذا الباطل، فقد حدثهم أن رجلين من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام اختلفا وتنازعا فافتخر أحدهما بالآباء العظام، وعدد تسعاً من آبائه، ثم واجه صاحبه محقراً موبخاً له قائلاً: فمن أنت لا أم لك؟ إن افتخاره بآبائه واحتقاره لمخاطبه يدل على مرض خبيث كان يسري في كيان هذا الرجل وأمثاله، فهو يرى أن أصوله تعطيه قيمة ترفعه على غيره، وتجعله يمتاز بأولئك الآباء، وأن غيره ممن لا يشاركه في تلك الأصول لا يستحق أن يساوى به، ولذا فهو في مرتبة دونه، وقد كان الرجل الآخر صالحاً، فقال منتسباً: أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، رفض أن يمدح نفسه بغير هذا الدين القويم الذي يفتخر به كل عاقل حصيف، وهذا يذكرنا سلمان الخير، سلمان الفارسي – رضي الله عنه – لما سئل عن نسبه قال: أنا ابن الإسلام. ولما بلغ عمر مقولته هذه بكى، وقال: أنا ابن الإسلام.
إن الفخر بالآباء أو القبيلة أو بالعصبية الجاهلية مع غمز الآخرين والطعن فيها، وأنهم لا يساوونه في النسب مرض فتاك قاتل، يخبث النفس، ويشعل العداوة، ويفرق الجماعة، ويوجد البغضاء والعداوة بين أفراد المجتمع الواحد، وقد يؤدي إلى تمزيق المجتمع وجعله أحزاباً وطوائف.(/1)
لقد اشتد النبي في محاربة هذا الداء العضال، ونهى أمته عن الوقوع فيه، وبين لهم حقيقة أمرهم ليكونوا على بصيرة من ذلك. أخرج الترمذي (23955) بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لينتهن أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرء بأنفه، إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية – أي كبرها ونخوتها – إنما هو مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب)) إنه تحذير نبوي كريم من آثار الجاهلية التي جاء الإسلام ليحطمها، ويقيم عليها البناء الشامخ القوي. إنها أخوة الإسلام التي لا ترقى إليها العصبية، ولا تؤثر فيها الجاهلية.
إخوة الإسلام: ولقد ترعرعت العصبيات في هذا القرن، وتعددت وفرقت جماعة المسلمين، وأصبحت معولاً لهدم الأمة الإسلامية، لقد فشت في المجتمعات الإسلامية العصبيات القومية والقبلية والإقليمية، بل والعصبية المبنية على اللون والجنس، واشتعلت هذه العصبيات واكتوى الناس بنارها، وذاقوا منها المر والعلقم، وأوقعهم في ذلك تركهم للنهج النبوي الكريم الذي حذرهم فيه من الجاهلية، وأعرضوا عن أمر ربهم حينما أمرهم بالأخوة الإيمانية إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
فعودوا – إخوة الإسلام – إلى الدين الحق والمنهج القويم، فإن الإنسان إنما يسعد بحبه لأخيه، وإيثاره له، ويشقى بالفرقة الاختلاف والتنازع والعصبية. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم اسلك بنا طريقك المستقيم، وارزقنا الاتباع لسنة خير المرسلين، واجعلنا متآلفين متحابين، وحقق بيننا أخوة الإيمان على النهج المستقيم. أقول ما تسمعون واستغفروا الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. . أما بعد:
إخوة الإسلام:
حقيقة عظمى يجب على الناس أن يعوها، هذه الحقيقية كون البشر جميعاً من أصل واحد، إن هذه الحقيقة يجب أن تكون القاعدة التي يتعامل الناس على أساسها، لكن هذه الحقيقة قد تغيب عن العقول والقلوب، فترى البشر على مستوى الأفراد والأسر والمجتمعات يبغي بعضهم على بعض، ويزعم كل فريق أنه الأفضل والأكمل والأحسن، ويرد هذا الفضل إلى جنسه أو لونه أو مدينته أو قبيلته، وتراه – بناء على ذلك – يمدح من ينتسب إليهم، ويعتز بهم، ويذم غيرهم، ويصفهم بالأوصاف القبيحة التي لا تليق بالإنسان فضلاً عن المؤمن.
إن اعتزازه هذا إنما يقوم على العصبيات الجاهلية القائمة على أصول عفنة قذرة، قال عنها الرحمة المهداة: ((دعوها فإنها منتنة)) لكن بعض الجهلاء تأبى نفوسهم المريضة إلا العيش في العفانة. إنها تأبى أن تعيش في الطهر والصفاء والنقاء.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واربؤوا بأنفسكم عن النعرات الجاهلية والافتخار بالأنساب والألقاب، فإن الفخر الحقيقي والنسب الناصح هو الإسلام، فبه نحيا، وعليه نموت، وإليه ننتسب.
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(/2)
التحذير من صحبة السوء
إعداد- صلاح عبد المعبود
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد:
فإن المرء على دين خليله، والمرء يُعرف من صديقه، لأن الأشباه تجتمع وتتقارب، والطيور على أشكالها تقع، ولا أنفع للإنسان ولا أضر عليه من البيئة والصحبة، ولذلك أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي".
وأخرج مسلم في صحيحه، قصة رجل من الأمم السابقة قتل تسعًا وتسعين نفسًا، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض- بغية التوبة- فدلوه على عابد، فأتاه وأخبره أنه قتل تسعًا وتسعين نفسًا فهل له من توبة؟ فقال له: ليست لك توبة فقتله فأكمل به المائة- لكن الشعور بالذنب والندم على فعله والخوف من الله والإنابة إليه والحنين إلى التوبة، كل ذلك تحرك في قلبه، وجاشت في صدره العودة والرجوع إلى الله خوفًا من عذابه وطمعًا في جنته، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدلوه على عالم، فأتاه وأخبره أنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة، فقال له: نعم ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكنك في أرض سوء يُعبد فيها غير الله، فاذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قومًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، فحمل متاعه وخرج من قريته وبينا هو في منتصف الطريق أتاه ملك الموت فقبض روحه، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قالت ملائكة الرحمة: إنه رجع إلى الله تائبًا، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل حسنة قط، فأرسل الله إليهم ملكًا ليُحَكِّموه بينهم، فقال لهم: قيسوا ما بين القريتين فإلى أيتهما كان أقرب فخذوه إليها، فأوحى الله عز وجل إلى الأرض الطيبة أن تقاربي، وإلى الأرض الخبيثة أن تباعدي، فلما قاسوا ما بين القريتين وجدوه إلى الأرض الطيبة أقرب فأخذته ملائكة الرحمة إلى الجنة.
إنها قصة عظيمة النفع، أرشد فيها هذا العالمُ الرجل التائب إلى عدة أمور من أهمها:
1- تغيير البيئة بالانتقال من أرض السوء إلى الأرض الطيبة.
2- تغيير الصحبة السيئة إلى صحبة طيبة تعين على طاعة الله.
فالإيمان يزيد في البيئة النقية، وفي جوار الصالحين والمتقين، ولذلك كان من دعاء سليمان عليه السلام: "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين".
وكل فساد وبلاءٍ وانحراف إنما ينشأ من أعوان الشيطان وجنوده من الأنس الذين يفتحون على العبد أبواب الغفلة والشهوات ولا يعينون على فعل الطيبات والصالحات، وكم من عبد قد احتوشه قرناء السوء وأصحاب الشهوات، فزينوا له الباطل وأَعْمَوْا بصره وبصيرته عن رؤية الحق ومشاهدة مواطن الخير والفضل، وثبطوا همته عن التشمير عن ساعد الجد ومواصلة السير في طريق الجنة وسبل الخير، ولقد نهانا ربنا عن مصاحبة الأشرار، وبين أنهم يوم القيامة سيتبرأ بعضهم من بعض وسيلعن بعضهم بعضًا، وسيتهم كل منهم الآخر أنه كان وراء ضلاله وإفساده قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون (38) وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون.
أما المؤمنون الصادقون فقد نزع الله من صدورهم الغل وجعلهم إخوانًا على سرر متقابلين في جنات النعيم: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (68) الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين.
ولقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى من تجب مصاحبته وملازمته، وذكر سمات الجليس الصالح والجليس السوء، فقال: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد: لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثة". {البخاري: 2049}.
فالصاحب الصالح هو المطيع لربه المستقيم على أمره، الأمين على دينه، العاقل الذي يقهر هواه، فلا خير في مصاحبة الأحمق السفيه الخائن الفاجر، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أمارات النفاق وحذر أمته من شعبه بقوله: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر". متفق عليه.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "عليك بإخوان الصدق فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يقلبك منه، واعتزل عدوك، ولا تصاحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمورك الذين يخشون الله تعالى...".(/1)
فلا بد من صحبة الأخيار والعيش معهم، فإن العبد وحده ضعيف أمام الأوامر والتكاليف، ولذلك فإن الجماعة رحمة وعون على الطاعة والاستقامة، والفرقة عذاب وشؤم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : "عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، وذلك يتأكد بالحث الدائم على صلاة الجماعة في المسجد حيث تذوب الفوارق وسط الجماعة بين المؤمنين، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من سره أن يلقى الله تعالى غدًا مؤمنًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف".
فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، والشيطان يفترس العبد إذا كان وحده وهو عليه أشد بصحبة السوء وأعوان الشر، ومن ثَمَّ فعلى العاقل أن يتخير أقرب الناس إليه والملتصقين به، فإنه يُعرف بهم، ومن أحب قومًا حُشر معهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم، ومن أدخل نفسه مدخلاً يتهمه الناس فيه فلا يلومن إلا نفسه، فقد سبق بذلك الإنذار والوعيد والأمر والنهي.
إن صحبة السوء عدوٌ مبين، وبطانة خبيثة، وجنود حاضرة للشيطان أينما يوجهها تسير وتعمل، ولذلك فلا خير إلا في صحبة المؤمن، والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
والله من وراء القصد.(/2)
التحذير من وسائل التنصير
اللجنة الدائمة للافتاء بالسعودية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين، خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا ورسولنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فغير خافٍ على كل من نَوَّرَ الله بصيرته من المسلمين، شدة عداوة الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم للمسلمين، وتحالف قواهم، واجتماعها ضد المسلمين؛ لِيرُدْوُهم وليلبسوا عليهم دينهم الحق، دين الإسلام، الذي بعث الله به خاتم أنبيائه ورسله، محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين، وإن للكفار في الصد عن الإسلام وتضليل المسلمين، واحتوائهم، واستعمار عقولهم، والكيد لهم، وسائل شتى، وقد نشطت دعواتهم وجمعياتهم وإرسالياتهم، وعظمت فتنتهم في زمننا هذا، فكان من وسائلهم ودعواتهم المضللة بعث نشرة تُبعث للأفراد والمؤسسات والجمعيات عبر صناديق البريد، متضمنة هذه النشرة برامج دراسية عن طريق المراسلة، وبطاقة اشتراك بدون مقابل في كتب: "التوراة، والزبور، والإنجيل"، وعلى ظهر هذه النشرة مقتطفات من هذه الكتب.
هذا وإن من عاجل البشرى للمسلمين استنكار هذا الغزو المنظم، والتحذير منه بجميع وسائله، وكان من هذه المواقف المحمودة: وصول عدد من الكتابات والمكالمات إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء؛ آملين صدور بيان يقف أمام هذه النشرات، ويحذر من هذه الدعوات الكفرية الخطيرة على المسلمين، فنقول وبالله التوفيق:
منذ أشرقت شمس الإسلام على الأرض، وأعداؤه على اختلاف عقائدهم ومللهم يكيدون له ليلاً ونهارًا، ويمكرون بأتباعه كلما سنحت لهم فرصة، ليخرجوا المسلمين من النور إلى الظلمات، ويقوضوا دولة الإسلام، ويضعفوا سلطانه على النفوس، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى إذ يقول: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم {البقرة: 105}، وقال سبحانه: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق {البقرة: 109}، وقال جل وعلا: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين {البقرة: 109}.
وكان من أبرز أعداء هذا الدين: "النصارى الحاقدون"، الذين كانوا ولا يزالون يبذلون قصارى جهدهم، وغاية وسعهم لمقاومة المد الإسلامي في أصقاع الدنيا، بل ومهاجمة الإسلام والمسلمين في عقر ديارهم، لا سيما في حالات الضعف التي تنتاب العالم الإسلامي كحالته الراهنة اليوم، ومن المعلوم بداهة أن الهدف من هذا الهجوم هو زعزعة عقيدة المسلمين، وتشكيكهم في دينهم، تمهيدًا لإخراجهم من الإسلام، وإغرائهم باعتناق النصرانية، عبر ما يعرف خطأً ب "التبشير" وما هو إلا دعوة إلى الوثنية في النصرانية المحرفة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونبي الله عيسى عليه السلام منها براء.
وقد أنفق النصارى أموالاً طائلة، وجهودًا كبيرة في سبيل تحقيق أحلامهم، في تنصير العالم عمومًا، والمسلمين على وجه الخصوص، ولكن حالهم كما قال الله سبحانه: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون {الأنفال: 36}، وقد عقدوا من أجل هذه الغاية مؤتمرات عدة، إقليمية وعالمية، منذ قرن من الزمان، وإلى الآن توافد إليها المنصرون العاملون من كل مكان لتبادل الآراء والمقترحات حول أنجع الوسائل، وأهم النتائج، ورسموا لذلك الخطط ووضعوا البرامج، فكان من وسائلهم:
1- إرسال البعثات التنصيرية إلى بلدان العالم الإسلامي، والدعوة إلى النصرانية من خلال توزيع المطبوعات من كتب ونشرات تعرف بالنصرانية، وترجمات للإنجيل، ومطبوعات للتشكيك في الإسلام، والهجوم عليه، وتشويه صورته أمام العالم.
2- ثم اتجهوا أيضًا إلى التنصير بطرق مغلفة، وأساليب غير مباشرة، ولعل من أخطر هذه الأساليب ما كان:
عبر التطبيب، وتقديم الرعاية الصحية للإنسان، وقد ساهم في تأثير هذا الأسلوب عامل الحاجة إلى العلاج، وكثرة انتشار الأوبئة والأمراض الفتاكة في البيئات الإسلامية، خصوصًا مع مرور زمن فيه ندرة الأطباء المسلمين، بل فقدانهم أصلاً في بعض البلاد الإسلامية.
ومن تلك الأساليب أيضًا: التنصير عن طريق التعليم، وذلك إما بإنشاء المدارس والجامعات النصرانية صراحة، أو بفتح مدارس ذات صبغة تعليمية بحتة في الظاهر، وكيد نصراني في الباطن؛ مما جعل فئات من المسلمين يلقون بأبنائهم في تلك المدارس رغبة في تعلم لغة أجنبية، أو مواد خاصة أخرى، ولا تسل بعد ذلك عن حجم الفرصة التي يمنحها المسلمون للنصارى حين يهدون فلذات أكبادهم في سن الطفولة والمراهقة، حيث الفراغ العقلي والقابلية للتلقي، أيًا كان الملقي، وأيًا كان الملقَى.(/1)
ومن أساليبهم كذلك: التنصير عبر وسائل الإعلام، وذلك من خلال الإذاعات الموجهة للعالم الإسلامي، إضافة إلى طوفان البث المرئي عبر القنوات الفضائية في السنوات الأخيرة، فضلاً عن الصحف والمجلات والنشرات الصادرة بأعداد هائلة، وهذه الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة كلها تشترك في دفع عجلة التنصير من خلال مسالك عدة:
أ- الدعوة إلى النصرانية بإظهار مزاياها الموهومة، والرحمة والشفقة بالعالم أجمع.
ب- إلقاء الشبهات على المسلمين في عقيدتهم وشعائرهم وعلاقاتهم الدينية.
ج- نشر العري والخلاعة، وتهييج الشهوات؛ بغية الوصول إلى انحلال المشاهدين، وهدم أخلاقهم، ودك عفتهم، وذهاب حيائهم، وتحويل هؤلاء المنحلين إلى عباد شهوات، وطلاب متع رخيصة، فيسهل بعد ذلك دعوتهم إلى أي شيء، حتى لو كان إلى الردة والكفر بالله والعياذ بالله، وذلك بعد أن خَبَتْ جذوة الإيمان في القلوب، وانهار حاجز الوازع الديني في النفوس إلا من رحم الله.
3- وهناك وسائل أخرى للتنصير، يدركها الناظر ببصيرة في أحوال العالم الإسلامي، نتركها اختصارًا، إذ المقصود هنا التنبيه لا الحصر، وإلا فالأمر كما قال الله عز وجل: ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين {الأنفال: 30}، وكما قال سبحانه: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون {التوبة: 32}.
4- تلك مكائد المنصرين، وهذا مكرهم لإضلال المسلمين، فما واجب المسلمين تجاه ذلك؟ وكيف يكون التصدي لتلك الهجمات الشرسة على الإسلام والمسلمين؟
لا شك أن المسئولية كبيرة ومشتركة بين المسلمين أفرادًا وجماعات، حكومات وشعوبًا؛ للوقوف أمام هذا الزحف المسموم، الذي يستهدف كل فرد من أفراد هذه الأمة المسلمة كبيرًا كان أو صغيرًا، ذكرًا أو أنثى، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ويمكننا القول فيما يجب أداؤه على سبيل الإجمال- مع التسليم بأن لكل حال وواقع ما يناسبه من الإجراءات والتدابير الشرعية- ما يلي:
1- تأصيل العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين من خلال مناهج التعليم وبرامج التربية بصفة عامة مع التركيز على ترسيخها في قلوب الناشئة خاصة، في المدارس ودور التعليم الرسمية والأهلية.
2- بث الوعي الديني الصحيح في طبقات الأمة جميعًا، وشحن النفوس بالغيرة على الدين وحرماته ومقدساته.
3- التأكيد على المنافذ التي يدخل منها النتاج التنصيري من أفلام ونشرات ومجلات وغيرها بعدم السماح لها بالدخول، ومعاقبة كل من يخالف ذلك بالعقوبات الرادعة.
4- تبصير الناس وتوعيتهم بمخاطر التنصير وأساليب المنصرين وطرائقهم للحذر منها وتجنب الوقوع في شباكها.
5- الاهتمام بجميع الجوانب الأساسية في حياة الإنسان المسلم، ومنها الجانب الصحي والتعليمي على وجه الخصوص، إذ دلت الأحداث أنهما أخطر منفذين عبر من خلالهما النصارى إلى قلوب الناس وعقولهم.
6- أن يتمسك كل مسلم في أي مكان على وجه الأرض بدينه وعقيدته مهما كانت الظروف والأحوال، وأن يقيم شعائر الإسلام في نفسه ومن تحت يده حسب قدرته واستطاعته، وأن يكون أهل بيته محصنين تحصينًا ذاتيًا لمقاومة كل غزو ضدهم يستهدف عقيدتهم وأخلاقهم.
7- الحذر من قبل كل فرد وأسرة من السفر إلى بلاد الكفار، إلا لحاجة شديدة، كعلاج أو علم ضروري لا يوجد في البلاد الإسلامية، مع الاستعداد لدفع الشبهات والفتنة في الدين الموجهة للمسلمين.
8- تنشيط التكافل الاجتماعي بين المسلمين، والتعاون بينهم، فيراعي الأثرياء حقوق الفقراء، ويبسطوا أيديهم بالخيرات والمشاريع النافعة؛ لسد حاجات المسلمين، حتى لا تمتد إليهم أيدي النصارى الملوثة، مستغلة حاجاتهم وفاقتهم.
وختامًا نسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجمع شمل المسلمين على الحق، وأن يؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويهديهم سبل السلام، وأن يحميهم من مكائد الأعداء، ويعيذهم من شرورهم، ويجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه أرحم الراحمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسواء فاشْغَلْهُ بنفسه، واردد كيده في نحره، وأدر عليه دائرة السوء، إنك على كل شيء قدير، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين(/2)
التخويف من الدَّين
152
الآداب والحقوق العامة, الديون والقروض
علي بن عبد الله النمي
الرياض
خبيب بن عدي رضي الله عنه
ملخص الخطبة
1- حرمة المسلم في دينه وعرضه وماله 2- التحذير من عاقبة الغلول 3- تحذير رسول الله من الدّيْن بامتناعه عن الصلاة على المَدين 4- أمر المدين بحُسن الأداء 5- قصة في وفاء الدّين 6- قصة أصحاب الغار 7- آداب للدّين 8- فضيلة التجاوز عن المُعسر 9- تفضيل بعض أهل العلم القرض على الصدقة
الخطبة الأولى
أما بعد:
اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا – عباد الله – من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى، واعلموا أنكم يوم الحشر مجموعون، وبين يدي الله – عز وجل – موقوفون وعن كل كبيرة وصغيرة مسؤولون.
ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً [الكهف:30].
معشر المسلمين: يقول الله – عز وجل -: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [البقرة:188].
إن كثيرا من الناس عظم بطنه، ونبت لحمه، بمال غيره، أكلها بالباطل.
إن استدان دينا جحده، وإن استقرض قرضا تظاهر أنه نسيه، فسبحان ربي!. كيف يهنأ بالطعام والشراب والمنام، من ذمته مشغولة.
عباد الله: يقول النبي – -: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه))[1]رواه مسلم.
وفي الصحيحين عن أبي بكرة – -: أن النبي – - قال: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم))[2].
اتقوا الله – عباد الله – وأدوا ما في ذممكم من مال، ولو كان اقل من ريال ولو ثمن خبزة أو بيضة أو أقل من ذلك. فإن ميزان الله – عز وجل – يحصي مثاقيل الذر. وليس ثمت دينار ولا درهم. إنما هي الحسنات والسيئات وحقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة فقط، بل لابد من ردها إلى أهلها.
وأنت مسؤول عن صغيرها وكبيرها وقليلها وكثيرها، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه، ولو كان يسيرا، قال – -: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) رواه البخاري[3].
ولا تنتظر ممن أقرضك ماله أن يأتيك فيسألك حقه، فلربما منعه الحياء، أو وكل أمرك إلى الله – عز وجل -.
نامت عيونك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
وبعض الناس يتقال الذي في ذمته، ثم لا يؤديه، ولا يستسمح صاحبه، وهذا خطأ عظيم.
روى البخاري [4]، عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: كان على ثقل رسول الله – - رجل يقال له (كركرة ) يعنى مولى لرسول الله – - فمات، فقال رسول الله – -: ((هو في النار))، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها.
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: حدثني عمر قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا :فلان شهيد. فقال رسول الله : ((كلا إني رأيته في النار في بردة غلها، أو في عباءة غلها)) رواه مسلم[5].
وعن أبي هريرة - - قال: خرجنا مع رسول الله إلى خيبر ،ففتح الله علينا ..قال: فلما نزلنا الوادي قام غلام – رسول الله – - يحل رحله فرمي بسهم فكان فيه حتفه فقلنا: هنيئا له قال رسول الله – -: ((كلا، والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم، لم تصبها المقاسم، قال: ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال: أصبت يوم خيبر فقال رسول الله – - شراك من نار، أو شراكان من نار)) متفق عليه [6].
وعن زيد بن خالد- - أن رجلا من أصحاب النبي – - توفي يوم خيبر فذكروا لرسول الله – - فقال: ((صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا خرز من خرز يهود لا يساوي درهمين))[7]. رواه أحمد وغيره.
وفي الصحيحين[8]. عن عائشة – رضي الله عنها – إن النبي – - قال: ((تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا))، فإذا كان الله – عز وجل – قطع عضوا من أهم الأعضاء عند الإنسان في ربع دينار فكيف يأمن الإنسان على نفسه وعقوبة الدين الذي في ذمته وإن قل.
فالدين أمره عظيم وخطره جسيم، يقول النبي – -: ((يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدًين)) رواه مسلم[9].
فإذا كان الدين لا يغفره الله لمن قتل في سبيله فكيف بمن هو دون ذلك وفي حديث أبي قتادة أن رجلا قال: يا رسول الله! أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله – -: ((نعم وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر إلا الدين)) رواه مسلم[10].(/1)
وعن محمد بن جحش – - قال: كنا جلوسا عند رسول الله – - فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع راحته على جبهته، ثم قال: ((سبحان الله! ماذا نزل من التشديد؟ فسكتنا وفزعنا. فلما كان من العد سألته: يا رسول الله! ما هذا التشديد الذي نزل؟ فقال: والذي نفسي بيده، لو أن رجلا قتل في سبيل الله، ثم أحيي، ثم قتل، ثم أحيي، ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه)) رواه احمد[11].
وقد امتنع رسول الله من الصلاة على من مات وعليه دين، كما روى سلمة بن الأكوع – - قال: كنا جلوسا عند النبي – - إذا أتي بجنازة، فقالوا: يا رسول الله صلي عليها، قال: ((هل ترك شيئا؟)) قالوا: لا، قال: ((فهل عليه دين؟)) قالوا: ثلاثة دنانير. قال: ((صلوا على صاحبكم)) قال أبو قتادة: صلي عليه يا رسول الله وعلي دينه، فصلى عليه)) رواه البخاري[12].
وفي رواية الحاكم في حديث جابر: فجعل رسول الله إذا لقي أبا قتادة يقول: ((ما صنعت الديناران[13]؟ حتى كان آخر ذلك أن قال: قد قضيتهما يا رسول الله، قال: الآن حين بردت عليه جلده)).
قال ابن حجر: وفي هذا الحديث أشعار لصعوبة أمر الدين وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة.
وفي المسند أن النبي – - قال: ((إن صاحبكم محبوس عن الجنة بدينه))[14]. وعن أبي هريرة – - أن النبي – - قال: ((نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي عنه))[15].
ومن الأحاديث الدالة على خطورة الدين وشدته:
ما رواه أبو داود[16]. عن أبي موسى الأشعري – - عن رسول الله – - أنه قال: ((إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء)).
فهذه الأحاديث العظيمة القاطعة بعظم ذنب من مات وعليه دين كفيلة بردع كل قلب يشم رائحة الإيمان، ومحذرة كل التحذير أن يأخذ المسلم مال أخيه لا يريد أداءه، روى أبو هريرة – - أن النبي – - قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله))[17].
وكيف تسمح للإنسان نفسه أن يجحد سلف أخيه، أو يماطله في ذلك، والمقرض فعل ذلك إحسانا وقربه، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [الرحمن:60].
يقول النبي – -: ((إنما جزاء السلف الحمد والأداء)) رواه النسائي[18].
وقال – -: ((خيار الناس أحسنهم قضاء)) متفق عليه [19].
وكان رسول الله – - يقضي الدائن بأكثر مما استدان منه، ويضاعف له الوفاء، ويدعو له، كما قال جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -: كان لي على النبي – - دين، فقضاني وزادني[20].
وقال عبد الله بن أبي ربيعة: استقرض مني النبي – - أربعين ألفا، فجاءه مال، فدفعه إلي، وقال: ((بارك الله تعالى في أهلك ومالك)) رواه النسائي[21].
فهذا هدى رسول الله – - في قضاء الدين. ولنا فيه أسوة حسنة كما قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر [الأحزاب:21].
وأين نحن من ذلكم الرجل الذي قص لنا رسول الله – - خبره، عن أبي هريرة – - عن رسول الله – -: ((أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: أئتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا، قال فأتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم ألتمس مركبا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، لم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانا ألف دينار، فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضي بك، وسألني شهيدا فقلت: كفى بالله شهيدا، فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي أسلفه، ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا الخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار، فقال: والله مازلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي آتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدا)) رواه البخاري[22].
ما أعظمها من قصة جمعت بين الإحسان، وحسن الأداء، والأمانة والرضا بالله شهيدا وكفيلا.
فاقصص القصص لعلهم يتفكرون [الأعراف:176].(/2)
روى عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – حديث رسول الله – - في قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة. فذكر النبي- - توسلهم بأعمالهم الصالحة. فذكر قصة البار لوالديه (ففرج لهم فرجة) ثم قصة الرجل مع ابنة عمه (ففرج لهم فرجة) ثم ذكر قول الثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله! أدِّ إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك: من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: لا استهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون[23]. متفق عليه.
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجةً واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
عباد الله: يقول النبي – -: ((من جاء يوم القيامة بريئا من ثلاث، دخل الجنة: الكِبر، والغلول، والدين))[24].
اللهم أنت الأول فلا شيء قبلك، وأنت الآخر فلا شيء بعدك، نعوذ بك من شر كل دابة ناصيتها بيدك، ونعوذ بك من الإثم، والكسل، ومن عذاب القبر، ومن فتنة الغنى، ومن فتنة الفقر، ونعوذ بك من المأثم والمغرم. آمين يا رب العالمين.
[1] مسلم (2564) من حديث ابي هريرة – - .
[2] البخاري :1/145، ومسلم :1679.
[3] تحت رقم : (2317) ، من حديث :أبي هريرة – - .
[4] تحت رقم : (2909).
[5] تحت رقم (114).
[6] البخاري (3993) ومسلم (115)، وأبو داود (2711) والنسائي (3858) والموطأ (25).
[7] احمد :5/192، وأبو داود :2710، والنسائي:1/278، وابن ماجة :2848، والبيهقي :9/101، والحاكم :2/127، وصححه ووافقه الذهبي .
[8] والبخاري :8/199، ومسلم :1684، وأبو داود : 4384، والترمذي : 1445، والنسائي :4922، وابن ماجة :2585، وأحمد ، 6/36، وغيرهم .
[9] تحت رقم : (1886) ،عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -.
[10] تحت رقم (1885)، والترمذي (1712)، والنسائي (6/34)، ومالك في الموطأ2/461.
[11] أحمد :5/289، والنسائي :4684، والطبراني في الكبير :19/248، والبيهقي في الكبرى :5/355، والبغوي في شرح السنة :2145، والحاكم :2/25 ، وصححه ووافقه الذهبي .
[12] تحت رقم : (2168).
[13] في حديث جابر: (ديناران ).
[14] احمد :5/20، وابو داود :3341، والنسائي :4689، والبخاري في التاريخ الكبير ، والحاكم :2/25، وصححه.
[15] احمد :2/440،والترمذي :1079، وابن ماجة :2413، والشافعي :2/226، الدارمي:2/262، والبغوي في شرح السنة :2148، وقال : حديث حسن ، والحاكم :2/27، وصححه على شرطهما ، ووافقه الذهبي .
[16] تحت رقم (3342).
[17] البخاري :3/152، احمد :2/361، ابن ماجة :2411، البيهقي :5/354، البغوي في شرح السنة :214.
[18] تحت رقم : (4683).
[19] البخاري :4/394، ومسلم :1600،وأبو داود :3347، والترمذي :1318، والنسائي :4621، وابن ماجة :2285.
[20] ابو داود :3347، والنسائي :4594.
[21] تحت رقم : (4683).
[22] تحت رقم : (2169)، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الاشراف :13630.
[23] البخاري :4/369، ومسلم :2743.
[24] احمد : 5/281، والترمذي :1573، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الاشراف : 2/140، وابن ماجة :2412، والبيهقي في الكبرى :5/355، والدارمي :2/262، وصححه ابن حبان : 198والإحسان ، والحاكم :2/62 ووافقه الذهبي ، من حديث ثوبان – -.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيرا طيبا مباركا فيه، غير مكفيِّ ولا مودع، ولا مستغنى عنه ربنا.
أما بعد:
عباد الله: من استقرض منكم قرضا فليؤده، ولا يماطل صاحبه، فإن مطل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته ومن استقرض قرضا يريد أداءه، فإن الله عون له كما قال : ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه))[1].
وعن عائشة –رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله – -: ((من حمل من أمتي دينا ثم جهد في قضائه ثم مات قبل أن يقضيه فأنا وليه)) رواه أحمد[2].
وفي حديثها الآخر: ((ما من عبد كانت له نية في أداء دينه إلا كان له من الله عون)) رواه أحمد[3].
وإذا عجز أحدكم عن أداء ما عليه من دين في حينه، فليستسمح صاحبه فإنه أطيب لخاطره وأركد لباله.
ولا يبيت أحدكم وفي ذمته دين قليل كان أو كثيرا، إلا كتبه في وصيته.
لحديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – - قال: ((ما حق امرئ مسلم، له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)) متفق عليه[4].
ولا يذل أحدكم نفسه يستدين ثم يستدين حتى يعجز عن الأداء، وقد كان رسول الله – - يستعيذ من الدين.
وأيما رجل حل وفاء دينه، وكان على معسر يعجز سداده، فيحرم عليه مطالبته به حتى يجد ميسرة، كما قال تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وإن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون [البقرة:280].(/3)
وفي حديث بريدة – - قال: قال رسول الله – -: ((من أنظر معسرا كان له بكل يوم مثله صدقة )). قال: ثم سمعته يقول: ((من أنظر معسرا فله بكل يوم مثليه صدقة)). فقلت: يا رسول الله! إني سمعتك تقول: فله بكل يوم مثله صدقه، وقلت: الآن فله بكل يوم مثليه صدقة. فقال: ((أنه ما لم يحل الدين فله بكل يوم مثله صدقة، وإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة)) رواه أحمد[5].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة – - أن رسول الله – - قال: ((أن رجلا لم يعمل خيرا قط، وكان يداين الناس، وكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله يتجاوز عنا فلقي الله فتجاوز عنه))[6].
واعلموا – عباد الله – أن فضل القرض عظيم، فوسعوا على إخوانكم، تلقوا ذلك عند ربكم.
وفي حديث فيه ضعف: ((الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر)) رواه ابن ماجة[7].
وبعض العلماء يفضل القرض على الصدقة؛ لأن الصدقة يأخذها المحتاج وغيره، أما القرض فلا يطلبه إلا من أحتاج إليه.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديْناً إلا قضيته. . .
[1] تقدم تخريجه .
[2] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/132): رواه أحمد ، وأبو يعلى ، والطبراني في الأوسط ، ورجال أحمد رجال الصحيح .
[3] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/132): رواه أحمد ، والطبراني في الاوسط ، ورجال أحمد رجال الصحيح ، إلا أن محمد بن علي بن الحسين لم يسمع من عائشة ، واسناد الطبراني متصل ، الا ان فيه سعيد بن الصلت ، عن هشام بن عروة ، ولم اجد الا واحدا يروي عن الصحابة فليس به ، والله اعلم . وصححه الحاكم :2/22.
[4] البخاري :5/264، ومسلم :1627.
[5] قال في الدر المنتور (2/114): أخرجه أحمد ، وابن ماجة ، والحاكم ، وصححه والبيهقي في شعب الايمان.
[6] البخاري :1972، ومسلم :1562، واحمد :2/361، والنسائي :7/318، الحاكم :2/28، وابو نعيم في الحلية :8/326، وابن حبان :5042[الاحسان)، والطيالسي :2514، والبغوي :2136، والبيهقي في الكبرى :5/356، والخطيب في تاريخ بغداد :5/170.
[7] تحت رقم :2431، وضعفه البوصيري في الزوائد:854.(/4)
التدخين
عبدالحميد التركساني
ملخص الخطبة ... ... ... ...
1- انتشار التدخين بين المسلمين. 2- أضرار التدخين الطبية. 3- حكم التدخين. 4- أسباب انتشار التدخين. 5- حكم الاتجار بالدخان. ... ... ... ...
... ... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ... ...
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واشكروه أن أغناكم بحلاله عن حرامه وأباح لكم من الطيبات ما تقوم به مصالحكم الدينية والبدنية وحرم عليكم الخبائث لأنها تضركم ولا تنفعكم.
أيها الإخوة: إن التغذي بالطيبات يكون له أثر حميد في صحة الإنسان وسلوكه لأنها تغذي تغذية طيبة، والتغذي بالخبائث يكون له أثر خبيث في الأبدان والسلوك لأنها تغذي تغذية خبيثة.
ألا وإن من الخبائث التي ابتلي بها مجتمع المسلمين اليوم هذا الدخان الخبيث الذي فشى شربه في الصغار والكبار وصار شرابه يضايقون به الناس ويؤذون به الأبرياء من غير خجل ولا حياء بحيث أن أحدهم يملأ فمه منه ثم ينفثه في وجوه الحاضرين من غير احترام لهم ولا مبالاة بحقهم، فيخيم على الحاضرين حوله سحابة قاتمة من الدخان الخانق الملوث بالريق القذر والرائحة الكريهة ومصدر ذلك كله فم المدخن البذيء لا يراعي لمجالسه حرمة، ولا يفكر في وخيم فعله ولو أن إنسانا تنفس في وجه هذه المدخن أو امتخط أمامه كم يكون تألمه واستنكاره لهذا الفعل وهو يفعل أقبح من ذلك بمجالسه، فنفخ الدخان في وجوه الناس أعظم من ذلك بأضعاف ولكن الأمر كما جاء في الحديث: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
ومع تنوع أضرار الدخان وآفاته وعدم الفائدة والمنفعة فيه ولو من أبعد الوجوه فقد أكب عليه الجماهير في مشارق الأرض ومغاربها وأصبح مما يتفكّه به ويتلذذ بشربه وتعبق بأنتانه المجالس والمجتمعات وذلك ما حملني على تحرير هذه الخطبة واختيار الكتابة في هذا الموضوع وتأليف ما اجتمع لديّ فيه من معلومات قياما ببعض ما أوجب الله من النصيحة والبيان، ورجاء الانتفاع والتأثر والله ولي التوفيق.
نقل الشيخ محمد بن إبراهيم عن الأطباء قولهم: والدخان مكون من مادة التبغ وهو نبات حشيش مخدر مرّ الطعم وبعد التحقيق والتجربة ظهر أن التبغ بنوعيه، التوتون، والتنباك، من الفصيلة الباذنجانية، التي تشمل على أشر النباتات السامة كالبلادونا والبرش والبنج وهما مركبان من أملاح البوتاس والنوشادر ومنه مادة صمغية ومادة حريقة تسمى: نيوكتين. قالوا: هي من أشد السموم مفعولاً، والمدخن يعتبر الدخان مكملا للرجولة وحبا لتقليد نجوم السينما عندما يراهم يشربون الدخان ومجالسة للأصدقاء فتبدأ السيجارة الأولى ثم الإدمان.
أيها المسلمون: إن شرب الدخان حارق للبدن والدين والمال والمجتمع ومعلوم أن نوعا واحدا من هذه المضار كافٍ وسوف نتكلم عنها واحدة واحدة:
أما ضرره على البدن: فهو يضعفه بوجه عام ويضعف القلب ويسبب مرض سرطان الرئة ومرض السل ومرض السعال في الصدر ويجلب البلغم والأمراض الصدرية، ويضعف العقل بحيث يصبح المدخن ذا حماقة ورعونة غالبا، ويسبب صداع الرأس ويقلل شهوة الطعام ويفسد الذوق والمزاج، ويفتر المجموع العصبي ويضعف شهوة النكاح، ويشوه الوجه بحيث يجعله كالا وتظهر على صاحبه زرقة وصفرة تعم بدنه.
ولقد ذكر الأطباء السبب في إحداثه لهذه الأمراض ونحوها وهو اشتماله على المادة السامة وهي النيكوتين، بل إن الشركات المصنعة تحذر وتقول: تحذير رسمي التدخين يضر بصحتك ننصحك بالابتعاد عنه، ومع هذا نجد الإصرار ممن يتعاطونه، ولا تقتصر مضار التدخين على ما ذكر، فقد أظهرت التجارب المجراة على الأرانب المسممة بالنيكوتين تأثر المخ والمخيخ فضلا عن اضطراب العصب السمباتي، لذلك يشكو مدمنو التدخين الأرق والقلق والتحسس والكآبة ووهن الإرادة وضعف الذاكرة وقد يظهر عليهم الكسل والخمول والتعب والنصب وغير ذلك من العاهات المصاحبة له.
ولقد أكثر الأطباء والحكماء الكتابة في التدخين، وما ينتج عنه وانتشرت أقوالهم وطبعت مؤلفاتهم وكلها تدندن حول أضراره الصحية للبدن.
وأما ضرره في الدين:
قال تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فذكر الله تعالى من أسباب تحريم الخمر والميسر الصد عن الذكر وعن الصلاة وهذه العلة تتحقق في الدخان فإن شاربه في العادة يهرب عن حلق الذكر والقراءة ويألف اللهو والباطل عادة، وهو غالبا السبب الرئيسي لبعد المدخنين عن حضور المساجد إلا من شاء الله وهكذا سائر العبادات وبالأخص الصيام فإنه أثقل على المدخنين من غيره لأنهم به ينفطمون عن لذتهم وسلوتهم ولهذا يفطر كثير منهم بالتدخين وبعضهم لا يصبر بل يشربه في نهار رمضان بلا مبالاة وخشية من الله.
وما كرّه العبد للخير فهو شر، وكذلك فهو يدعو متعاطيه إلى مخالطة الأراذل والسفهاء والابتعاد عن الأخيار فهذا يكون سببا لما هو أكبر منه وهو تعاطي المخدرات نسأل الله السلامة.
وأما ضرره في المال:(/1)
فاسأل من يتعاطاه كم ينفق فيه من الريالات في كل يوم وقد يكون فقيرا ليس عنده قوت يومه وليله ومع هذا فهو يقدّم الدخان على شراء غيره، من الضروريات ولو ركبته الديون الكثيرة ولو فكر هذا المسكين في ما ينفق في هذا السم الخبيث وصرف هذا المال لمستحقيه لإخوانه المنكوبين ليجدوا لقمة يسدون بها رمقهم لكسب بذلك الأجر والمغفرة من الله والمثوبة ولكن من يتذكر ويتعظ؟
وأما ضرر شرب الدخان في المجتمع:
فإن شارب الدخان يسيء إلى مجتمعه ويسيء إلى كل من جالسه وصاحبه بحيث ينفخ الدخان في وجوه الناس فيخنق أنفاسهم ويضايقهم برائحته الكريهة حتى يفسد الجو من حولهم وامتد هذا الأذى فصار يلاحق الناس في المكاتب والمتاجر وفي السيارات والطائرات حتى عند أبواب المساجد بل إن بعضهم ما إن يخرج حتى يشعل السيجارة عند باب المسجد، بل إن التدخين يؤذي الملائكة الكرام ففي الصحيحين عن جابر أن النبي قال: ((إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم))، ومن مضار الدخان الاجتماعية أنه يستنزف ثروة الأمة وينقلها إلى أيدي أعدائها من الشركات التي تصدر هذا الأذى الخبيث.
ومن مضاره أنه يسبب الحرائق المروعة التي تذهب بالأموال وتخرب البيوت، فكم حصل بسبب أعقاب السجائر التي تلقى وهي مشتعلة من إضرام حريق أتى على الأخضر واليابس وأتلف أموالا وأنفسا بغير حق، تولى كبرها ذلك المدخن الذي قذف بسيجارته دون مبالاة.
هذه بعض أضرار التدخين الاجتماعية والبدنية والدينية والمالية فهل يستطيع المدخنون أن يذكروا لنا فائدة واحدة أو بعض فائدة في شرب الدخان تقابل هذه المضار؟ فيا أسفاه كيف غابت عقولهم وسفهت أحلامهم وضاقت صدورهم من قبول الحق، بل إن التدخين ليس له حسنة واحدة يمكن أن تقال فيه، بل على العكس فكله مضار كما ذكرنا والتدخين في الحقيقة هو سفه ودناءة ولو رأى أحدنا إماما أو واعظا أو رجلا من أهل القدر والرفعة يشرب الدخان لاستنكر هذا الفعل ولشهّر به في المجالس ويقول منتقدا: رأيت الشيخ فلان يشرب الدخان وما ذاك إلا لأنه ليس من مقام المروءة ومكارم الأخلاق، ومن رأى مجالس المدخنين ومن يرتادها ومجالس الصالحين ومن يحضرها لعرف الفرق.
ومن أهم أسباب انتشار التدخين أقولها باختصار نظرا لضيق الوقت:
أولا: وسوسة الشيطان.
ثانيا: رفقاء السوء.
ثالثا: المقاهي والاستراحات العامة ولا إشكال في ذلك لأن من أقامها أناس قليلو الديانة والأمانة لا يهمهم سوى جمع المال بأي وسيلة.
رابعا: الآباء والمربون وخاصة إذا كانوا يتعاطون الدخان فإنهم يؤثرون فيمن يربونهم ولابد.
وأخيرا فما هو حكم التدخين أو الدخان.
ولعلك أيها المسلم بتحكيم عقلك وتفكيرك في شيء اتصف بالضرر على الدين والبدن والمال وتعدّى ضرره إلى الغير وعدمت فيه المنفعة أصلا لا تتوقف في تحريمه قبل أن تسمع النصوص النقلية ولكن لتقوية مدلول العقل تحقق أن الشرع قد نص على التحريم إجمالا وتفصيلا ولا شك أن الشرع هو الدليل القاطع في مسألة النزاع وبهذه النظرة العامة يتضح أن استعمال التدخين محرم وممنوع شرعا ولا يباح بحال من الأحوال وأما كلام العلماء وقولهم بالتحريم وأدلتهم فأكثر من أن تحصره وقد قال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية سابقا رحمه الله في فتواه: (مما يعلم كل أحد تحريمنا إياه نحن ومشايخنا ومشايخ مشايخنا ومشايخهم، وكافة المحققين من أئمة الدعوة وسائر المحققين سواهم من العلماء في سائر الأمصار من له من وجوده بعد الألفِ بعشرة أعوام إلى يومنا هذا) انتهى كلامه.
وفي الختام أعتذر إليكم أيها المدخنون إذا قسوت عليكم فما أردت إلا تخليصكم من عدو عنيد قد تسلط عليكم وفتك بكم وأبعدكم عن الخير وأهله وقربكم من الشر وأهله.
فيا من ابتليت بشرب الدخان أسأل الله لنا ولك العافية إنني أدعوك بدافع النصيحة الخالصة أن تبادر بالتوبة منه وأن تتركه طاعة لربك وحفاظا على صحتك، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ثم لا تنسى أيها المدخن أنك ستكون قدوة سيئة لأولادك إن كنت والدا ولتلاميذك إن كنت مدرسا ولأصحابك ومخالطيك فتكون قد جنيت على نفسك وغيرك وإذا تركته وتبت منه صرت قدوة حسنة لغيرك فكن قدوة في الخير ولا تكن قدوة في الشر.
والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ولا يحملنك التقليد الأعمى والمجاملة الخادعة أن تتعاطى هذا الدخان وقد عافاك الله منه أو تستمر فيه وقد عرفت أضراره وأمامك باب التوبة مفتوح فبادر قبل أن يغلق.
وأحب أن أنبه إلى أن الشيشة تأخذ نفس الحكم في الحرمة لمن يتعاطاها فلا يجوز شربها ولا اقتناؤها بالمنزل ولا الجلوس في المقاهي من أجل شربها والله أعلم. ... ... ... ...
... ... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ... ...
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه أما بعد:(/2)
أيها المسلمون: وكما يحرم شرب الدخان يحرم بيعه والاتجار به واستيراده فثمنه سحت والاتجار به مقت وقد قال : ((إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) رواه الإمام أحمد وأبو داود وهو صحيح، وعلى هذا فالاتجار به لا يجوز وثمنه يحرم أكله كثمن الخمر ومن تاجر فيه أي باعه بعد معرفته بالتحريم ففيه شبه من اليهود؛ لما حرمت عليهم الشحوم إذابوها فباعوها وأكلوا ثمنها فاستحقوا اللعن على هذا الفعل، فالذي يبيع هذا الدخان قد ارتكب جريمتين عظيمتين:
الأولى: أنه عمل على ترويجه بين المسلمين فجلب إليهم مادة فساد.
الثانية: أن بائع الدخان يأكل من ثمنه مالا حراما ويجمع ثروة محرمة، فالحرام لا يدوم وإن دام لا ينفع وقد شاهد الناس أن كل متجر فيه دخان وإن استدرج ونما ماله في وقت ما فإنه يبتلى بالقلة في آخر أمره وتكون عواقبه وخيمة.
فاتقوا الله عباد الله وانظروا في العواقب فإن في الحلال غنية عن الحرام وقد وردفي الحديث عنه قوله: ((إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لا يطلب إلا بطاعته)). ... ... ... ...(/3)
التربية الذاتية ومسؤولية هم الأمّة
عبد العزيز بن عبد الله الحسيني
واقع أمتنا مرير، وأمرها عظيم، وخطبها جسيم، ومسؤوليتنا إزاء ذلك ضخمة، وأعباء إخراجها من وهدتها التي اركتست فيها جسيمة، و يخطئ كثيراً من يظن أن تلك مسؤولية الحكام، أو العلماء، أو الدعاة، أو المجامع العلمية، أو الهيئات الشرعية...، ونحو ذلك فحسب. والحقيقة التي يجب أن نقف عندها طويلاً: أن كل مسلم مسؤول ـ أيضاً ـ أمام الله ـ تعالى ـ، وهذا هو قَدَرُه، وليس له خيار في قبول ذلك أو رفضه، قال ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]. وقال: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى * وَأَنَّ إلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} [النجم: 38 - 42]، فكل إنسان وُلد فرداً، وكُلف فرداً، وسيُقبر فرداً، ثم يبعث فرداً، وسيقف بين يدي الله ـ تعالى ـ فرداً ليس بينه وبين الله ترجمان، وسيُسأل كل فرد: ماذا عمل، وماذا قدم؟ قال ـ تعالى ـ: {إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95].
هذه المسؤولية تفرض على كل فرد أن يبادر إلى الدعوة والعمل ـ كلٌ في مجاله ـ دون الالتفات إلى الآخرين، هل عملوا أم لم يعملوا؟ هل أدّوا واجبهم أم تراخوا؟ هل قاموا بالأمانة أم تكاسلوا؟
فكل هذا لا يضير الداعية ما دام أنه مسؤول عن ماذا قدم فقط؟ وماذا عمل فحسب؟ ومن رحمة الله أنه ـ سبحانه ـ لم يُكلف الداعية بالثمرات والنتائج، وإنمّا بالاحتساب والعمل على قدر الوسع والاستطاعة، قال ـ تعالى ـ: {فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إنْ عَلَيْكَ إلاَّ الْبَلاغُ} [الشورى: 48]، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [البقرة: 272].
وحينما نتحدث عن واجب الفرد في تجاوز الهزيمة والنهوض بالأمة؛ فإننا لا نقصد أن يعمل فوق طاقته وإمكاناته؛ وإنما المقصود: الإسهام حسب الوسع والاستطاعة؛ فما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَكُ جُلُّه، وإذا كان ذلك يحتاج إلى جهود جبارة، وهمم عالية؛ فإنه يحتاج قبل ذلك إلى إعداد النفس وتهيئتها لهذه المهمة العظيمة.
ü الإعداد الذاتي:
التربية الذاتية (الفردية) ليست هينة ولا هي سهلة، فهي تحتاج إلى الصبر على شوائب الطريق وفقد الرفيق، والمثابرة على إعداد النفس، والسير على ذلك بخطىً ثابتة متدرجة متكاملة، حتى يصبح للشخص في مستقبله شأن أي شأن، ويكون له في هداية غيره نصيب أي نصيب.
ولا منهج في تربية النفس وإعدادها مثل منهج المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ فسيرته أصل من أصول التربية الذاتية التي ينبغي الرجوع إليها، واستلهام الدروس والعبر منها لإعداد النفس وتربيتها تربية ذاتية جادّة، مبنية على أسس شرعية متوازنة، بعيداً عن الاجتهاد الممزوج بالعواطف والحماس في الإعداد والتكوين.
وإن المتأمل للسيرة النبوية، يجد أن الله ـ تعالى ـ قد أعدّ رسوله وهيأه منذ بزوغ فجر الدعوة وبداياتها الأولى، لتكون الأساس والمنطلق له، ولمن آمن معه، ولمن بعده إلى قيام الساعة.
ü أسس التربية الذاتية:
وليتبين لك أهمية دراسة السيرة واستلهام المنهج التربوي الذاتي منها؛ تأمل سيرته -صلى الله عليه وسلم- وكيف أعد الله ـ تعالى ـ رسوله لحمل راية هذا الدين، من خلال الآيات الأولى التي أُنزلت عليه في صدر سُوَرِ (اقرأ ـ المزمل ـ المدثر)؛ لتقف على أهمية هذه الآيات في الإعداد والتهيئة والتكوين، وأنها بمثابة الأساس المتين الذي يقوم عليه البناء الفردي لكل مسلم يريد تكوين نفسه وإعدادها لحمل راية هذا الدين، والعمل على رفع ثقة الأمة بنفسها وبدينها، لرفع آثار الهزيمة النفسية التي أحبطت معنوياتها، وجعلتها تعيش على هامش العالم وفي ذيل القائمة، وإن من أهم هذه الأسس في إعداد النفس وتكوينها ما يأتي:
الأساس الأول: الإعداد العلمي:
يذكر البخاري ـ رحمه الله ـ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما كان يخلوا بغار حراء «جاءه جبريل، فقال: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني، فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 1 - 3](1).
وتأمل أول كلمة أُنزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- تجد أنها كلمة «اقرأ»! ثم انظر كيف تكررت تلك الكلمة، وتساءل: لماذا كانت كلمة (اقرأ) أول كلمة أُنزلت من القرآن الكريم؟ ولماذا التربية على العلم أولاً؟ ولماذا هي المحطة الأولى في إعداده وتكونيه -صلى الله عليه وسلم-؟(/1)
وفي هذا مغزى كبير ودلالة واضحة على أهمية العلم وأثره، وأنه الأساس الذي يُبنى عليه كل إصلاح: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] ، فالعلم أولاً ثم يأتي العمل بعد ذلك. ولهذا فقد وضع الإمام البخاري عنواناً لباب العلم فقال: «باب العلم قبل القول والعمل»(2)، وهذا من تمام فقهه رحمه الله.
وعليه؛ فإن كل عمل وكل دعوة لا تقوم على العلم دعوة ناقصة فيها من الخلل والقصور الشيء الكثير، وقد تُفِسدُ أكثر ممّا تُصلِح، وقد تجلب على الدعوة عواقب وخيمة وآثار موجعة. ولهذا فقد أكَّد -صلى الله عليه وسلم- على أهمية العلم وأثره في صحة العمل فقال: «من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين»(3).
والفقه في الدين يتطلب نفساً جادة طموحة، تتحمل مشاق تعلمه، ومعاناة طلبه، وتعب تحصيله. وهو مطلب ضروري ومُلِحٌّ للبناء الذاتي للشاب المسلم.
والتحصيل العلمي مطلب لا غنى عنه لأي داعية يُعِدُّ نفسه ويُهيئها لنفع أمته؛ ليكون بصيراً في دعوته، عالماً بما يدعو إليه، قوياً في حجته، مثمراً في عمله، ناجحاً في أسلوبه، ثابتاً في مسيرته...، ولهذا يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «تفقهوا قبل أن تسودوا»(4).
وإذ كان ثمة قدر من العلم الشرعي لا غنى عنه لمن يتصدى لأمر الدعوة، فإن كل علم بعد ذلك يمكن أن ينفع هذه الأمة ويعلي شأنها هي بأشد الحاجة إليه، وإذا كانت أمتنا بحاجة إلى العلم الشرعي، فإنها بحاجة ـ أيضاً ـ إلى العالِم في الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والفلك والذرّة وغيرها...، وتلك العلوم وأمثالها ضرورة لا غنى عنها لنهضة الأمة وتقدمها، والكل على ثغر من ثغور الإسلام بحسب مكانه وأثره.
الأساس الثاني: الاستعانة على عقبات الطريق بالعبادة:
الاستقامة على هذا الدين بلا تردد ولا انحراف، والصبر على عقباته وتكاليفه يحتاج إلى زاد ووقود يشحن الطاقات ويغذي القلوب للاستمرار والثبات، ولا وقود كقيام الليل وترتيل القرآن بالأسحار.
ولهذا فقد هيأ الله ـ تعالى ـ رسوله -صلى الله عليه وسلم- لذلك، وأوجب عليه ومن آمن معه قيام الليل وقراءة القرآن بالأسحار، فقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 1 - 5].
وتأمل! الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بداية دعوته، ويأتيه الأمر السماوي: {قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} أي: «قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك... قم للجهد والنصب والكد والتعب... قم فقد مضى وقت النوم والراحة... قم فتهيأ لهذا الأمر... قم للاستعانة على ما سيواجهك من أعباء الدعوة ومشكلاتها بالعبادة المتواصلة.
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه -صلى الله عليه وسلم- من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ لتدفع به في الخِضَمِّ بين الزعازع والأنواء، بين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً؛ ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير... فماله والنوم؟ وما له والراحة؟ وما له والفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح؟! ولقد عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقيقة الأمر، وقدّره حق قدره؛ فقال لخديجة ـ رضي الله عنها ـ وهي تدعوه أن يطمئن وينام: «مضى عهد النوم يا خديجة». أجل مضى عهد النوم، وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق»(1).
ومنذ أن أتاه التكليف بـ: {قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} ظلَّ قائماً هو وأصحابه الكرام حولاً كاملاً، كل فرد منهم كان يقوم حتى تتورم قدماه، ويحدودب ظهره، وكان واجباً عليهم في البداية، حتى خُفف عنهم إلى التطوع ـ كما في نهاية السورة ـ ومع ذلك استمر قيامهم، ولم نسمع أو نقرأ أن أياً منهم قد توقف عن هذا الإعداد والزاد، لعلمهم ويقينهم بأثره وقيمته في مواصلة الطريق، وفي تحمل المصاعب والمشاق بكل ثبات وعزيمة.
ولماذا قيام معظم الليل بالصلاة والتهجد؟ ولماذا كان واجباً على كل فرد بعينه في البداية؟ ولماذا الإكثار من ترتيل القرآن؟ ولماذا الذكر الخاشع؟ ولأي شيء يُعدّهم له؟ ولأي شيء يُربيهم عليه؟ كل هذا تهيئة وتربية وإعداد للقول الثقيل: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5]، وسيترتب عليه من الدعوة إليه من العقبات والمشكلات والكيد والتنكيل والإيذاء ما يحتاج إلى هذا الإعداد وهذه التربية وهذا الزاد: {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
الأساس الثالث: المثابرة في الدعوة:(/2)
هذا الإعداد بالعبادة المتواصلة من (الذكر وقراءة القرآن وقيام الليل) كان بمثابة الزاد والوقود المُعين للاستمرار على الطريق، وتَحَمُّل الكيد والإيذاء الذي ينتظر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن معه. ولهذا فقد كُلف -صلى الله عليه وسلم- أثناء هذا الإعداد بالنبوة. يقول -صلى الله عليه وسلم-: «بينا أنا أمشي، إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني. فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 10](2).
ولما رأت زوجه خديجة ـ رضي الله عنها ـ فزع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذته إلى ابن عمِّها (ورقة بن نوفل) الذي قال له: «هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك». فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَوَ مخرجيَّ هم؟!» قال: «نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي...»(3). وهذا من سنن الله الجارية في تمحيص الدعوة والدعاة، فكل من سيدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر سيتعرض لشيء من الإيذاء والتضييق، ولهذا فقد أوصى لقمان ابنه؛ فقال له: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]، ولن يثبت على ذلك إلا من كان لديه زاد يعينه على تحمل عقبات الطريق ومشاقّه.
وقد شاء الله ـ تعالى ـ أن يكون هذا هو طبيعة الطريق، فهو طويل وشاق، مملوء بالأشواك والصعاب «تعِب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبِيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتزها أنت باللهو واللعب!»(4). فهذا الطريق لا تتحمله إلا نفوس الرجال، ولا تقوم به إلا همم الصادقين الأبطال.
وتأمل مطلع سورة المدثر، تلك الآيات التي تضمنت النداء العلوي بانتداب النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الدعوة والجهاد والكفاح والمشقة. ومنذ أن قال الله ـ تعالى ـ لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {قُمْ فَأَنذِرْ} قام بالأمر خير قيام، فبلّغ ودعا وأدّى الأمانة التي أشفقتْ منها وأبت أن تحملها السماوات والأرض، وحملها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وظل قائماً بعد ذلك لأكثر من عشرين عاماً... لم يسترح، ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله... قام وظل قائماً على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به... عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض... عبء البشرية كلها... عبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى...، وعَلِمَ عِلْمَ يقين أنه لم يعد هناك راحة أو نوم، وأن هناك تكليفاً ثقيلاً وجهاداً طويلاً(5)، فدعا إلى الله ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، سلماً وحرباً، وكان يقطع المفاوز والقفار، ويتسلق الجبال، وينزل الوديان طمعاً في إسلام رجل أو بضعة رجال، وواجه في سبيل ذلك أنواع الإيذاء والصدود، والعناد والرفض، والإيذاء والضرب؛ بل والعذاب وقتل الأصحاب... فصبر واحتسب، ولم يفتر أو يلين، أو يضعف أو يستكين.
ü صفاء الابتداء:
تلك الأصول المهمة في التربية والإعداد الفردي تدل دلالة أكيدة على أهمية البدايات الأولى في الإعداد والتنشئة. ومن القواعدة المسلّم بها: أن المقدمات إذا صحت؛ أعقبها نتائج مثمرة باهرة.
فالتربية الذاتية الناجحة متعلقة في بداياتها، وإذا صحت تلك البدايات وروعيت أولوياتها؛ أعقبتها نتائج مشرقة. وكما قيل: من كانت بدايته متعبة كانت نهايتة مشرقة.
أما الإعداد الفوضوي الذي لا يلتزم بسلم الأولويات ولا يقوم على أسس ثابتة منهجية، فهو إعداد عاطفي هش، لا يحقق غاية ولا ينتج ثمراً، وسرعان ما يمل ويفتر صاحبه. ولهذا قيل: الفتور بعد المجاهدة من فساد الابتداء(/3)
التربية الذاتية
محمد الدويش
المحتويات
مقدمة
ماذا نعني بالتربية الذاتية
لماذا التربية الذاتية؟
1. أولاً: مبدأ المسؤولية الفردية
2. ثانياً: الحساب الفردي يوم القيامة
3. ثالثاً: الإنسان أعلم بنفسه
4. رابعاً: البرامج الجماعية تفتقر إلى تفاعل الفرد معها
5. خامساً: تجاوز سلبيات المربي
جوانب التربية الذاتية
وسائل التربية الذاتية
التربية الذاتية ومفاهيم خاطئة
1. أولاً: استقلال النفس
2. ثانياً: التفريط في الدعوة
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبدالله ورسوله، أما بعد:
فأول مسؤوليات الإنسان هي مسؤوليته عن نفسه، ومن ثم فحري به أن يعنى بتربيتها وإصلاحها، لذا كان لابد من الحديث عن التربية الذاتية، وهو موضوع حديثنا هذه الليلة.
ماذا نعني بالتربية الذاتية
عندما نتحدث عن التربية الذاتية أو عن دور الشاب في تربية نفسه فإننا نقصد بها ذلك الجهد الذي يبذله الشاب من خلال أعماله الفردية، أو من خلال تفاعله مع برامج عامة وجماعية لتربية نفسه؛ فهي تتمثل في شقين: الأول : جهد فردي بحت يبذله الشاب لنفسه، الثاني :جهد فردي يبذله من خلال تفاعله مع برامج عامة، وسيأتي مزيد توضيح لهذا الجانب.
لماذا التربية الذاتية؟
عندما نطالب الشاب بأن يدرك مسؤوليته عن تربية نفسه، ونطالب الشاب بأن يقوم بجهد في تربية نفسه، فلماذا هذه المطالبة؟ وما المبررات والمسوغات للحديث عن هذه التربية الذاتية؟
إننا نقول لكل شاب، بل نقول لكل مسلم صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً كان أم أنثى: لابد أن تتحمل مسؤوليتك في تربية نفسك، فالذي يدفعنا لذلك مبررات عدة، منها:
1. أولاً: مبدأ المسؤولية الفردية
إن المسلم بل كل إنسان في هذه الحياة مسؤول مسؤولية فردية يقول - جل وعلا - [ ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى] ، ويقول سبحانه [كل نفسٍ بما كسبت رهينة] . إنك حين تقرأ في نصوص القرآن الكريم أو في نصوص السنة النبوية تجد التأكيد الواضح على أن كل فرد مسؤول مسؤولية خاصة عن نفسه، حتى ذاك الفرد يتعرض إلى الإضلال والغواية من خلال الضغط الذي يمارسه عليه غيره، سواء أكان ضغطاً نفسياً أم ضغطاً اجتماعيّاً -أيّاً كان مصدر هذا الضغط- لا يعفيه ذلك من المسؤولية، ونقرأ في القرآن الكريم في آيات عدة نماذج من الحوار الذي يدور يوم القيامة بين الذين اتَّبَعوا وبين الذين اتُّبِعوا، أو بين الذين استضعفوا والذين استكبروا، فيأتي المستضعفون يطالبون أولئك المستكبرين الذين كانوا سبباً في إضلالهم وغوايتهم أن يتحملوا عنهم جزءاً من العذاب [ وقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواءٌ علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص] ،[ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار].
وقال صلى الله عليه وسلم:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان له من الوزر مثل أوزار من تبعه غير أنه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً". وفي الحديث الآخر: "ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً".
فهذا فلان من الناس اتبع زميله أو صديقه أو أباه، وسار وراءه وأصبح ظلاًّ له، حتى قاده إلى طريق الضلالة والانحراف سيأتي يوم القيامة هذا الذي أضله يحمل وزر نفسه ووزر هذا الذي أضله [ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون] ولكن هذا المستضعف لن يعفيه ذلك من المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى، ولن يغنيه أن يتلفت يمنة ويسرة، تارة يطالب صاحبه الذي أضله ، وتارة يرجو منه أن يتحمل عنه جزءاً من العذاب ]إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار] ومع ذلك لا يعفيه من العذاب، أليس هذا وحده دال على المسؤولية الفردية للإنسان، في أي بيئة وفي أي مجتمع وجد، وحتى لو سار وراء صاحبه وهو يظن أنه يحسن صنعاً فإن ذلك لا يعفيه أمام الله عز وجل، أرأيتم هذا القطيع الهائل الذي يسير وراء مشايخ أهل الضلال والخرافة، أو وراء غيرهم من أصحاب البدع والانحراف والضلال، كم يظن أولئك أنهم يحسنون صنعاً؟ وكم يظن هؤلاء أن أسيادهم وعلماءهم وأئمتهم يقودونهم إلى الطريق المستقيم الذي لا طريق سواه، إنهم ممن قال الله تعالى فيهم [قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً * الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً].(/1)
لنأخذ مثالاً من السيرة يجلي لنا هذه الصورة تجلية واضحة، فحين نقض بنو قريظة العهد في غزوة الأحزاب، سار إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله سبحانه وتعالى حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فحكم عليهم سعد رضي الله عنه أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم، فكانوا يكشفون عن عوراتهم فمن وجدوه قد أنبت قتلوه، فهل قتل ذاك الشاب الذي لايزال في العقد الثاني من عمره ظلماً؟ كلا لم يقتل ظلماً وقد شهد عليه الصلاة والسلام على هذا الحكم بأنه حكم الله من فوق سبع سماوات، إن هذا الشاب ولد في بيئة تربيه على الكفر والضلال، أبوه يهودي وأمه يهودية، وسائر أقاربه وجيرانه كذلك، ومع ذلك فهو يتحمل المسؤولية عن نفسه، كان عليه أن يبحث عن طريق الهداية والنجاة، وعن طريق الحق والخير، وما كان ربك ليظلم أحداً سبحانه وتعالى وهو أحكم الحاكمين، فإذا كان هذا الشاب الذي عاش في هذا المجتمع الغارق في الانحراف والغواية تمارس تجاهه كل وسائل التضليل، وتطمس عليه الحقائق وتصور له بغير صورها، ومع ذلك لم يكن معذوراً فغيره من باب أولى.
2. ثانياً: الحساب الفردي يوم القيامة
إن من لوازم المسؤولية الفردية أن كل إنسان سوف يحاسب يوم القيامة حساباً فرديّاً، قال عز وجل [واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون] وفي آية أخرى يقول عز وجل : [إن كل من في السموات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدهم عداً * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً] , فكل إنسان سيقدم على الله فرداً وحيداً، وسيحاسب محاسبة فردية؛ فلابد أن يتحمل مسؤولية نفسه في تربية نفسه وتزكيتها وقيادتها إلى طريق الخير والاستقامة.
وقال صلى الله عليه وسلم :"ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان؛ فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر تلقاء وجهه فيرى النار تلقاء وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة" . فلابد أن يصير المسلم إلى هذا الموقف وهو إما إلى إحدىحالين: إما أن يكون كما قال عليه السلام في حديث النجوى:"أما المؤمن فيدنيه ربه فيضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، فيقول: أتذكر ذنب كذا وكذا؟ حتى إذا ظن أنه قد هلك قال: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وأما الفاجر فينادى بذنوبه على رؤوس الخلائق" .
3. ثالثاً: الإنسان أعلم بنفسه
إن الإنسان أعلم بمداخل النفس، وأعلم بجوانب الضعف والقصور فها، ومن هنا فهو الأقدر على التعامل مع نفسه، إنه يتصنع أمام الناس ويتظاهر أمامهم بالخير، أو يدعوه لذلك الحياء والمجاملة، أما مافي نفسه فهو أعلم به من سائر البشر، حينئذ فهو أقدر من غيره على علاج جوانب القصور في نفسه.
4. رابعاً: البرامج الجماعية تفتقر إلى تفاعل الفرد معها
تتاح للإنسان مناسبات وفرص جماعية تحقق له قدراً كبيراً من الاستفادة، لكنه لا يمكن أن يستفيد منها ما لم يتفاعل معها، قال عز وجل :[أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها] فالماء النازل من السماء واحد، لكن الأدوية تتفاوت فيما تحمله منه؛ فكل واد يحمل على قدر سعته، وهكذا القلوب تتفاوت بما تتلقاه من وحي الله جل وعلا، وتتفاوت في أثر هذا الوحي عليها كما تتفاوت هذه الوديان.
وشبه النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الذي أتى به وتلقي الناس منه تشبيهاً قريباً من ذلك، فقال:"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
ويحدثنا القرآن الكريم عن نماذج من نتاج تخلف التربية الذاتية ]وضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين]. لقد كانت هاتان المرأتان زوجتين لنبيين من أنبياء الله، ولابد أن نوحاً ولوطاً عليهما السلام بذلا معهما جهداً في دعوتهما إلى الدخول في دين الله تعالى، ولكن حين لم يكن منهما مبادرة ذاتية لم ينتفعا بذلك الجهد وتلك الدعوة.
ويبذل الرسول صلى الله عليه وسلم جهده مع عمه أبي طالب حتى عند مرض الموت، وحين لم يكن من أبي طالب مبادرة ذاتية لم يستفد من الجهد الذي بُذل له.(/2)
وفي عصر النبي كان هناك فئة من المنافقين يصلون مع النبي الجمعة، ويشهدون معه مجالس الخير، ويذهبون معه في السفر والإقامة، ويشهدون معه بعض الغزوات؛ فيعيشون مع النبي كما يعيش معه سائر أصحابه، يتلقون من نفس القنوات التربوية التي يتلقى منها أصحاب النبي ، بل لعل بعض المنافقين كانوا أكثر حضوراً لمجالسه من بعض أصحابه، ومع ذلك لم ينتفعوا بشيء من ذلك أبداً.
فهب اليوم أن شابّاً وجد في مجتمع تربوي في القمة، فهو في بيت محافظ وعند أستاذ وشيخ يعتني به، لكنه لم يتفاعل ولم توجد منه مبادرة ذاتية، فلن يستفيد من هذه البيئة، بل ربما أصبحت وبالاً عليه.
5. خامساً: تجاوز سلبيات المربي
إن البشر أيّاً كانوا لا يخلون من سلبيات وجوانب من القصور، فهذا أستاذ لي أثق فيه وألازمه وأصاحبه وأحضر مجلسه وربما أصاحبه في سفر وذهاب وإياب وأرى فيه قدوة ظاهرة أمامي وأتمنى أن أكون مثله أو أن أسير على خطاه ….أيعني ذلك أن يسلم من القصور والضعف؟ فقد يكون لديه نوع من قسوة القلب، وقد يكون عنده نوع من سوء الخلق وعدم حسن التعامل مع الآخرين، قد يكون إنساناً متعجلاً ، لابد أن تكون فيه صفة سلبية وجوانب قصور.
وحينما يكون الشاب مجرد ظل لغيره، فإنه سيحمل سلبيات من يربيه، بالإضافة إلى سلبياته هو، فحين يكون الشاب يعاني من صفة سلبية كالكسل مثلاً، ووجد وتربى في بيئة يكثر فيها الهزل، فسيجمع بين الصفتين، وهكذا في سائر الأمراض جوانب القصور.
وحين يعتني بتربية نفسه تربية ذاتية، فإنه سيتجاوز كثيراً من سلبيات من يربونه، لتبقى لديه سلبياته وجوانب قصوره الشخصية.
ولا نزال نسمع شكوى كثير من الشباب اليوم، وتبريرهم لجوانب من القصور لديهم بأنهم نشأوا في أوساط تعاني من الضعف التربوي، أو تربوا على أيدي مربين قصروا في تربيتهم، ولذلك كان لبعض تلك الشكاوى نصيب من الصحة، فكثير منها إنما هي أسلوب إسقاط، وهروب من تحميل النفس المسؤولية.
وأيا كان الأمر هذا أو ذاك، فالشاب يتحمل مسئوولية نفسه، ولو كان جاداً لاعتنى بها منذ البداية، ولتجاوز سلبيات الآخرين ومشكلاتهم.
إن هذه المسوغات تؤكد على أهمية الاعتناء بالتربية الذاتية، وحين نعود إلى واقعنا اليوم نجد الوقوع في الإفراط والتفريط في هذه القضية، فتجد بعض الشباب يؤدي جهداً للآخرين، من خلال درس يلقيه، أو خطبة في المسجد، أو من خلال المشاركة في المركز الصيفي، تجد هذا الشاب ينشغل بالأمور الدعوية –ونعم ما انشغل به- لكنه يهمل نفسه وينساها، فيجد بعد فترة أن زملاءه وأقرانه قد فاقوه وأنه قد قصر في حق نفسه، هذه صورة.
والصورة المقابلة هي صورة ذاك الشاب الذي يرفض أن يقدم، ويرفض أن يعمل، ويرفض أن يعطي الآخرين من وقته بحجة أنه يريد أن يربي نفسه، وهذا هو الآخر قد جانب الصواب، فلابد من التوازن، لابد أن يقوم الشاب بمسؤوليته فيخصص جزءاً نفيساً من وقته يعلم غيره ويربي غيره ويفيد غيره ويسهم في حفظ وقت غيره، ومع ذلك لا ينسى حظ نفسه، فيعتني بتربية نفسه وتعليمها وإصلاحها.
جوانب التربية الذاتية
اتضح لنا فيما سبق أهمية التربية الذاتية، وحاجتنا للاعتناء بها، ولكن ما الجوانب التي ينبغي أن يعنى الشخص بتربية نفسه عليها؟ وسنشير هنا إشارة موجزة إلى أهم هذه الجوانب؛ إذ التفصيل يتطلب حديثاً موسعاً عن التربية لا يتسع له هذا الوقت المحدود:
الجانب الأول : الصلة بالله عز وجل: وهذا أهم الجوانب وآكدها، فكل مابعده إنما هو ثمرة ونتيجة له، ومن وسائل تحقيق ذلك: عناية الإنسان بالفرائض واجتناب المعاصي، ومحاسبة النفس على ذلك ومبادرتها بالعلاج حين التقصير، وبعد ذلك استزادته من النوافل كنوافل الصلاة، ونوافل الصدقة والصيام والتلاوة والذكر.
الجانب الثاني : العلم الشرعي: ووسائل تحصيله لا تخفى علينا إما من خلال الدراسة النظامية، أو من خلال مجالس العلم وحلقاته المقامة في المساجد، أو من خلال الأنشطة الشبابية حيث تقام فيها دروس علمية وحلقات علمية، أو من جانب البحث الفردي الذي يبذله صاحبه، من خلال القراءة والإطلاع، أو من خلال الاستماع للأشرطة العلمية والدروس العلمية .
الجانب الثالث : التربية على العمل: إن الإنسان في حياته الخاصة حين يريد إتقان نشاط أو حرفة معينة، كالسباحة، أو قيادة السيارة - على سبيل المثال- حين يريد ذلك فإنه لايقتصر على الجانب النظري، وعلى سؤال من يجيدونها، بل يعتني بالتدريب والممارسة، والمهارات الدعوية كذلك فهي تُتقن من خلال التدريب والممارسة .
وسائل التربية الذاتية
الوسيلة الأولى: الصلة بالله عز وجل: كما أن الصلة بالله عز وجل من الجوانب التي ينبغي أن يعنى بها المرء في تربيته لنفسه، فهي وسيلة من وسائل تربية النفس.(/3)