ولا شك أيضاً - أيها الاخوة - من الوصايا المهمة العمل بالعلم ؛ فإن هذا القران حجة لك أو حجة عليك ، فكل مرتبط بالقران لا بد أن يستشعر هذه المسئولية ، واخرج بن أبي شيبه في مصنفه عن أبي موسى - رضّي الله عنه - أنه قال عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال:" إن هذا القرآن كان لكم ذكرى ، وكان لكم أجراً ، أو كان عليكم وزراً ، فاتبعوا اللن ولا تتبعكم القرآن ؛ فإنه من يتبع القرآن يهبط على رياض الجنة ، ومن يتبعه القرآن ؛ فإنه يزخ في قفاه فيقذفه في جهنم" ؛ وهذا لا شك أيضاً من الأمور المهمة التي نحتاجها ، ولذلك كان دأب الصحابة - كما نعلم - من حديث أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال " حدثنا من كان يقرؤننا القرآن من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يقترئون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات ولا يأخذون من العشر الأخرى حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل فتعلمنا العلم والعمل معا " ، ولئن كان هذا الأمر غير متيسر ولا مأخوذ به فلا ضير أن تقرأ وأن تحفظ وأن تمكن وأن تراجع ، لكن لا تحرم نفسك من أن تستزيد وأن تتعلم وأنت ملزم قطعاً بأن تعمل بما علمت .
3 ـ طلب الآخرة
ومن الوصايا أيضاً أن تطلب بصلتك بالقرآن الآخرة لاالدنيا ؛ فإن أردت أن تحفظ فاجعل حفظك لله وإن علمت ودرست فاجعل تعليمك لله فإن من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة قارئ القرآن لم يرد به وجه الله ، فقد روى أبوهريرة - رضي الله عنه - قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:" إن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم ، وكل أمة جاثية ، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل قتل الجهاد ورجل كثير المال ، فيقول الله للقاريء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ ، قال : بلى ، فيقول الله له:كذبت ،وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان قارئ وقد قيل " رواه الترمذي والحاكم .
فأرد وجه الله - عز وجل - بقراءتك وتلاوتك وحفظك وتدريسك ، فهذا أبو إياس معاوية بن قرة كما أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه يقول : " كنت نازلا على عمرو بن النعمان بن مقرن فلما حضر رمضان جاءه رجل بألفي درهم من قبل مصعب بن الزبير فقال : أن الأمير يقرئك السلام ويقول : إنا لا ندع قارئاً شريفاً إلا وقد وصل اليه منا معروف فاستعن بهذين على نفقة شهرك هذا ، فقال عمرو : اقرأ على الأمير السلام وقل له والله ما قرأنا القرآن نريد به الدنيا ، ورد عليه ما آتاه " فهكذا كان أهل القران .
وفي حديث عمران بن حصين أنه مرّ على قاصٍّ قرأ ثم سأل - كما يصنع بعض الناس اليوم عندما يقرأون قراءات التطريب والتنغيم ثم يبسطون أرديتهم ليضع الناس فيها أموالا يكتسبون منها بتلاوة القران - فاسترجع - أي قال: إنا لله وإنا اليه راجعون - وقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( من قرأ القرآن فليسأل الله عزوجل به ؛ فإنه سيجيء أقوام يقرأون القران يسألون به الناس ) ، فلا تكن هذا الذي ذمّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبر انه كائن في امته في آخر هذا الزمن .
4 ـ تحسين الصوت وحسن التلاوة
قال الإمام النووي في [ التبيان في آداب حملة القرآن ] : " أجمع العلماء – رضي الله عنهم - من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من علماء الأمصار أئمة المسلمين على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ، وأقوالهم وأفعالهم مشهورة نهاية الشهرة " ، فاجتهد في ذلك ما استطعت ، فقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن يجهر به ) رواه البخاري ومسلم .
و نعلم أن النبي قال لأبي موسى الأشعري : ( لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود ) متفق عليه .
فاجعل من أهدافك أن تحسن بالقران صوتك ، وأن تزين صوتك بالقران ؛ فإن ذلك مما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك أحاديث كثيرة ، ومنها حديث البراء بن عازب عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : ( زينوا القرآن بأصواتكم ) .
ومن ذلك أيضاً ما روي عن أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلة فإذا هو بأبي بكر وهو يصلي يخفض صوته ، ومرّ بعمر بن الخطاب وهو يصلي رافعاً صوته، فلما اجتمعا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر : يا ابا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض من صوتك ، قال : قد اسمعت من ناجيت ، وقال لعمر : مررت بك يا عمر وأنت ترفع صوتك فقال : يا رسول الله أوقظ الوسنان واطرد الشيطان، فقال النبي لأبي بكر : ارفع من صوتك شيئاً ، وقال لعمر اخفض من صوتك شيئا" ، فكن بين وبين وحسن بهذا القران صوتك واسمعه الناس كما كان ابن مسعود يغشى به مجالس أهل الكفر كفار مكة حتى يسمعهم كلام الله عزوجل .
6 ـ الارتباط والدفاع عن القرآن(164/8)
إذا كنت من أهل القرآن لا بد ان تكون من الدعاة للقرآن ومن المدافعين والمنافحين عنه، فلا ينبغي لك أن تسكت عمن يتهجم على القرآن أو يستهزئ به ، أو لا يكترث به ؛ لأنه إن كان ذلك حالك فلست في حقيقة الأمر من أهل القرآن لأن من قدّر القرآن وجمعه في صدره وحفظه في قلبه فانه يعز عليه ان يهجر الناس القران فضلا من ان يقتحموا أو يتجهموا أو يعتدوا عليه ، وحسبك في ذلك مواقف الصحب الكرام - رضوان الله عليهم - ومن ألطف وأظهر ذلك ما كان من عمر - رضي الله عنه - كما في صحيح البخاري أنه قال:" سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكدت أساوره في الصلاة ، فتصبرت حتى سلّم ، فلببته بردائه فقلت : من أقرأك هذا السورة التي سمعتك تقرأ ، قال أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: كذبت ؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقرأنيها على غير ما قرأت ، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ،فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :كذلك أنزلت، ثم قال اقرأ ياعمر، فقرأت القراءة التي أقرئني فقال - صلى الله عليه وسلم - : كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه " .
7- التميز والإتقاء
لا شك أن من الأمور المهمة التميز في الشخصية ، فأنت تحمل بن جنبيك كلام الله عزوجل وقد استدرجت النبوة بين جنبيك وقد أخذت المعجزة العظيمة وقد مر بك ما ذكر لك من القدر والمنزله لصاحب القرآن، فلا ينبغي لك أن تكون مثل غيرك وحسبنا في ذلك ما ورد عن ابن مسعود ( ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون وبنهاره إذا الناس مفطرون وبحزنه إذا الناس يفرحون وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون وبخشوعه إذا الناس يختالون ) .
وهكذا ينبغي ان يكون كما قال النووي " ومن آدابه أن يكون على أكمل الاحوال وأكرم الشمائل وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه إجلالا للقران وان يكون مصونا عن دنيء الاكتساب شريف النفس مرتفعا على الجبابرة والجفاة من أهل الدنيا ومتواضعا للصالحين واهل الخير والمساكين وان يكون متخشّعاً ذا سكينة ووقار" وهكذا يقول الفضيل بن عياض " ينبغي لحامل القرآن ان لا يكون له حاجه إلى احد من الخلفاء ومن دونهم " وعنه انه قال " حامل القرآن حامل راية الاسلام لا ينبغي له ان يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيماً لحق القرآن " وانتبه لهذه الوصايا فإنها مما نبه اليها سلف الامة وعن الحسن انه قال : ان من كان قبلكم رأوا القرآن رسالة من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها في النهار .
ثانياً : الوصايا الخاصة
أولاً نبدأ الطلاب ثم بعد ذلك بالحفاظ ثم نتم بوصايا المدرسين وهذه الوصايا ليست امراً جديداً ولا غريباً وإنما هي أمور للتذكرة وفيها بعض ما يستنبط من الخبرة والتجربة .
وصايا الطلاب
1 ـ المواظبة والإستمرار
وكثيراً ما ينقطع هذا الخير ويتوقف رصيد الحفظ بل تذهب الايات والسور المحفوظه شيئاً فشيئاً بسبب الانقطاع وخير الاعمال أدومها وإن قل وكان من دأب النبي عليه الصلاة والسلام الذي فرضه على نفسه وفرضه عليه الله عزوجل انه ما انشأ طاعة ثم تركها وفي ترجمة الإمام احمد عن ابراهيم الحربي انه قال " صحبت ابن حنبل اربعين سنه فما رايته في يوم الا وهو ازيد من الذي قبله " فكيف تنقص وتنقطع وبالاستمرار تنال النتائج وتقطف الثمار، واما الانقطاع فهو مظنه الضياع وهذه حكمة احفظها والزمها لعلها ان تنفع ان شاء الله .
2 ـ الوقت المناسب(164/9)
فلا تضحك على نفسك فتخصص خمسا من الدقائق أو عشرا أو تخصص ساعة نصفها يذهب في لغو ولعب وانصراف ذهن فانك حينئذ لم تأتي بالأمر على تمامه وهذا يقع من طلبة التحفيظ فيأتي احدهم بعد صلاة المغرب متأخرا ثم يصلي السنة مطولا ثم يلتفت متحدثا ثم يجلس متلفتا ثم يردد مع المؤذن في إذان العشاء ويقول قد قضيت الوقت وداومت وواظبت فما صنع هذا شيئا ينفعه وإنما ضحك لنفسه وأغرى به شيطانه فينبغي له ان يفطن إلى ذلك وينبغي له كذلك ان يختار الاوقات المناسبة فلا يجعل حفظه ومراجعته في اردأ الاوقات بعد ان ينهي كل الواجبات ويقضي كل المصالح والاعمال فيأتي وقد كل ذهنه وتعب جسمه فمهما اعطى من وقت فانه لا ينتفع وقد قال الخطيب البغدادي " اجود وقت الحفظ الاسحار ثم نصف النهار ثم الغداة وحفظ الاول انفع من حفظ النهار ووقت الجوع انفع من وقت الشبع واجود اماكن الحفظ كل موضع بعيد عن الملهيات وليس الحفظ بمحمود بحضرة النبات والخضرة وقوارع الطريق لانها تمنع جلو القلب وينبغي ان يصبر على ذلك " إلى اخر ما قال رحمه الله .
3 ـ الإصغاء والتلقي
بعضهم يسرع ويتحمس ويسابق قبل أن يستمع ويتلقى ويتقن، وقد جاء في القرآن الكريم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسابق جبريل خوفاً ان يتفلت منه القرآن من شدة حرصه فنزل قول الحق سبحانه وتعالى ( ان علينا جمعه وقرآنه ) وبعض الطلبة يريد إذا جاء المدرس ان يلقنه وان يقرأ عليه الدرس الجديد ويظن انه قد بلغ المنزلة والوضع الذي لا يحتاح معه إلى هذا التلقي فلا يصغي له بإذنه ولا يلقي له سمعه ولا يحضر معه قلبه ويتبرم بذلك ويريد الانصراف ثم إذا به يخطئ فيما كان ينبغي ان يتلقاه وان يتعلمه وهذا كثيرا مما يقع فيه الطلاب فيخطئون في الحفظ ويكون حفظهم الاول حفظاً خاطئاً فيرسخ بذلك الخطأ ويصعب إصلاحه فيما بعد، ولو أحسن الإصغاء، وأجاد التلقي ما وقع في الزلل .
4 - الجد والاجتهاد
فإن أمر الحفظ أو المراجعه أو أمر علوم القران ليس أمراً ينال بالتمني ولا بالاحلام ولا بالاوهام ولا بكثرة الطعام ، ولا مع كثرة الراحه والمنام ، بل هو أمرٌ قد شمّر له المشمرون ، وتسابق فيه المتسابقون ، ونافس فيه المتنافسون ، ووصل فيه السابقون ليلهم بنهارهم ، وكانوا يقرأونه في حلهم وترحالهم ، بل كانوا يرددونه وهم على صهوات الخيول وقت المعارك والجهاد والسيوف تسمع قعقعتها ، والغبار يملأ الاجواء والميدان يفيض بالأشلاء وتعلو منه رائحة الدماء ، فقد كانوا يبذلون فيه جهداً عظيماً ، ولذلك ينبغي أن تدرك ذلك ومع هذا لا يهولنك الأمر ؛ فإن بعض الطلاب إذا بدأ الحفظ أبصر عقبة كؤوداً وطريقاً وعرة فتحطمت نفسهوكلت همته وانقطع به الأمر دون مقصده ومراده ولو علم معنى قوله الحق : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر } لهان عليه العسير وسهل عليه الكثير قال المارودي رحمه الله " من اعجاز القران تيسره على جميع الالسنه حتى حفظه الاعجمي الابكم ودار به لسان القبطي الابكم ولا يحفظ غيره من الكتب كحفظه ولا تجري به السنه البكم كجريانه وما ذلك إلا بخصائص إلهيه فضله بها على سائر كتبه " ، فكيف تزعم أنك لا تستطيع حفظه وتزعم الصعوبة وأنت ترى من لا يحسن العربية ولا يعرفها قد حفظ ومكّن وجود فإذا نطق بكلام آخر غير القرآن لم يستطع أن يقيم منه حرفاً ولم تستطع أن تفهم منه كلمة ، ولهاذ في وقائع الحياة شواهد ظاهرة وأحوال باهرة تدل على معجزة تيسير القرآن للذاكرين ، وتدك مزاعم الخاملين ، ومن قصد أمراً وحرص عليه تهون عنده المتاعب وتلذ من أجله المصاعب وفي تذكر الأجر والمثوبة سلوة لكل مريد .
5 - الإغتنام للفرص
وهذا حديث النبي - عليه الصلاة والسلام - وصية ( اغتنم خمسا قبل خمس ) نعرفها ونحفظها ، فاحرص على الحفظ والتلقي في سن الصغر ، واحرص على ذلك في سن الطلب في أوقات الدراسة قبل أن تتخرج وتصبح موظفاً ثم رباً لأسرة عليك من الالتزامات الكثيرة ، واعلم أنك إذا عجزت في الأول فأنت في الثانية أعجز ، ولذلك ينبغي أن تغتنم الفرص قدر استطاعتك .
6 - الاستفاده من الزملاء بالمدارسة والمذاكرة والتشجيع والمنافسة
بعض الطلاب ليس له باخوانه وزملائه صلة الا صلة الود والمحبة والانس والمصاحبه والاحاديث والمفاكهة والنزهات والرحلات ، لكنه قلّ ما تجده إذا جالسهم اشتغلوا بمراجعة أو استذكار ، وهذا يدل على حبٍّ كاذب ، وصحبة زائفة ، ولذلك عليك أن تستغل لقاء الإخوة في مراجعة القرآن فالمرء كثير بإخوانه منتصر بأعوانه .
7 - توقير القرآن ومعلمه
فإن بعض الطلبه لا يلتزمون هذا الادب المهم وقد ذكر أبو شامة في أول شرحه مع الشاطبيه بعض هذه الآداب التي ينبغي أن يلتزمها الطالب .(164/10)
ومنها ان يلتزم مع شيخه الوقار والتأدب والتعظيم وقد قيل : " بقدر اجلال الطالب العالم ينتفع الطالب بما يستفيده من علمه " ، وينبغي ان يعتقد أهلية ورجحان معلمه وذلك أقرب إلى أن ينتفع به ، وأن يكون مجلا له حافظا لهيبته ، ومن آدابه ان يتحرى رضا معلمه وإن خالف ذلك هوى نفسه ، ومن ذلك أن يدخل إلى حلقة القرآن بكامل الهيئة ، فارغ القلب من الشواغل ، متطهراً متنظفاً بسواك ، وقد قص شاربه وظفره وتطيب وأزال رائحته الكريهة ومن تلك الآداب الا يترك القرآن لأي عارض بسيط من العوارض ، أو لأي عذر يسير مما قد يمكن احتماله وهذه جمله يسيرة من الوصايا نفع الله بها .
الوصايا الخاصة بالحفاظ
ولا شك أن الحفاظ يحتاجون إلى مزيد العناية والرعاية ، فكما يحتاجون إلى الوصايا العامة ويدخلون تحت مسمى الطلاب في وصاياهم ، لهم وصايا خاصة تخصهم دون غيرهم .
أولاً- إحكام التمكين
فلا بد بعد الفرح بختمك وحفظك أن تمكن وأن تراجع وأن تديم هذه المراجعة في أول الأمر خاصة ؛ لأن القران سريع التفلت في البداية فلابد أن تجعل لك ورداً يومياً للمراجعة والتمكين ، ولو أن تراجع في اليوم عشرة أجزاء فتختم في ثلاث ، وهو الحد الذي أثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لايفقه من قرأه في أقل منه .
ثانياً- دوام التلاوة
وذلك لتعاهد القرآن خوف نسيانه ، فعن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" تعاهدوا القران فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً- وفي رواية تفصياً- من قلوب الرجال من الإبل من عقلها " وروي كذلك عن ابن عمر - رضّي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" إنما مثل صاحب القران كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وان أطلقها ذهبت" ، ولذلك لا بد من دوام التلاوة بالليل والنهار في الحل والترحال في الصلاة وخارجها ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في مسلم عن عائشة رضي اللع عنها :" يذكر الله على كل أحيانه " ، وفي حديث علي – رضي الله عنه – قال :" كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن ويأكل معنا اللحم ولم يكن يحجبه أو قال يحجزه عن القران شيء ليس الجنابة " ، وفي حديث عائشة قالت:" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتكئ في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن " متفق عليه .
فعليه أن يقرأه ويديم تلاوته قائماً وقاعداً ومستلقياً وإن كان متطهراً - أي متوضئاً أو غير متوضئ- لا يمنعه من تلاوة القران الا الجنابة وكما قال ابن الجزري في طيبة النشر :
فليحرص السعيد في تحصيله **** و لا يملّ قط من ترتيله
و ليجتهد فيه وفي تصحيحه **** على الذي نقل من صحيحه
و هذا لاشك أنه من الأمور المهمة ، كما ذكر الإمام النووي - رحمه الله - في التبيان أنه قال :" ينبغي أن يحافظ على تلاوته ويكثر منها ، وكان السلف - رضي الله عنهم - لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه ، روي عن أبي داود عن بعض السلف - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة واحدة ، وعن بعضهم في كل شهر ختمة ، وعن بعضهم في كل عشر ليال ، وعن بعضهم كل ثمان ليالٍ ، وعن الأكثرين في كل سبع ليال وعن بعضهم كل ست ليال ، وعن بعضهم كل خمس ليال ، وعن بعضهم كل أربع ليال ، وعن الأكثرين في كل ثلاث ليال ، وعن بعضهم في كل ليلتين ، وختم بعضهم في كل يوم وليلة ، ومنهم من كان يختم في كل يوم وليلة ختمتين ، ومنهم من كان يختم ثلاثاً ، وختم بعضهم ثمان ختمات أربعاً بالليل وأربعاً في النهار" .
ثالثاً- إتقان التجويد
فلئن طلبت ذلك من الطالب فإنه من الحافظ آكد وألزم ؛ فإن الحافظ يُعد ويُرجى أن يكون مدرساً ومعلماً، فلا بد أن يعتني بالتجويد ، وبعض الناس يقولون بأن التجويد لا أهمية بل هو فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين ، وهذا كلام يسهل رده ؛ فإنه يلزم من كل صاحب علم إجادة ما هو فيه ، وإلا ما قامت فروض الكفايات ، وهذا صاحب العلم ، فيلزمه إتقان التجويد ، فيدرس متناً في التجويد ، ويعرف شرحه ويقصد شيخاً مجازاً ليقرأ عليه ويتصل سنده عنه فينال بهذا شرفاً عظيماً .
رابعاً - العمل بالتدريس في القرآن
فإن هذا من أكثر أسباب العون على دوام التلاوة والمدارسة ، مع ما فيها من الأجر والمثوبة ، والدخول في خيرية تعليم القرآن ونشره .
خامساً - الإستزادة من القرآن
فإذا حفظ جوّد ، وإذا جود طلب الاجازه في قراءته ، فإذا وجد في نفسه مكنه انتقل يجمع القراءات السبع أو العشر فيجمعها من طرقها المتعددة ؛ لأن هذا يربطه بالقران ، وينيله ما ذكر من القدر والمنزلة والشرف ، إضافه إلى قيامه بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يكون سبباً من أسباب حفظ القران بكل حروفه التي نزل بها، والتي بلغها صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
سادساً- أن يفرح بنعمة الله - عزوجل - فرحاً مشروعاً(164/11)
فلئن فرح الناس بتخرجهم من الجامعة أو حصولهم على الدكتوراة. فإن حفظ القران أعظم وأشرف { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } ، أُثر في بعض التفاسير أن ذلك الفرح إنما هو الفرح بكتاب الله - عزوجل - وقد ذكر الآجري في كتابه [ أخلاق حامل القرآن ] ما ينبغي للحافظ من بعض الآداب التي لا نطول الحديث بذكرها .
وصايا المدرسين
وهم أولى الناس بالوصايا، لأنهم مظنة الإصلاح :
يا أيها القراء يا ملح البلد **** ما ينفع البد إذا الملح فسد
فمن تلك الوصايا :
اولاً : الحرص على تلقين الطلاب
فينبغي للمدرس أن لا يجعل طالباً يحفظ إلا بعد أن يتلقى ويسمع منه ، وذلك على سبيل الدوام قدر الاستطاعة ولا يكن المدرس متهاوناً في ذلك فيسري هذا التهاون إلى الطالب فيظن نفسه قد أجاد فيحفظ حفظاً خاطئاً .
ثانياً : حسن التوزيع والترتيب في الوقت
بعض المدرسين ينشغل بطالب يمضي نصف الوقت معه ثم يمضي النصف الثاني من الوقت مع العشرين الباقين ، وهذا أمر فيه تخليط ، فينبغي له ان يحسن توزيع الأوقات بين تسميع وتلقين ومراجعة حتى يستطيع أن يفيد كل الطلاب ويحقق الغاية التي تُرجى ان شاء الله تعالى .
ثالثاً : التدقيق في الحفظ والمراجعة
فلا ترخص ولا تساهل، سيما في الحفظ الجديد كما ذكرنا، فلابد أن يحرص على إتقان الطالب وتمكنه من حفظه بأكمل وأتم صورة حتى يضمن له أساساً صحيحاً يمكن البناء عليه، وكذلك أمر المراجعة لا يفرط فيها .
رابعاً : البذل للمقبلين
فإن من الطلبة أصحاب همم عالية حباهم الله – عزوجل – إياها ، فلا تقتصر - أخي المدرس - على الوقت المقرر ، فاذا جاء هذا وقد حفظ نصف جزء، أو خمس صفحات، أو غير ذلك، قلت له إلى يوم غد ان شاء الله، ويأتي الغد فيضيق الوقت إلى ما بعد غد فكلما نشط كسلته وكلما انطلق اعقته وكلما زاد نقصته فكنت سبباً في عدم انتقاعه ، فينبغي إذا كان صاحب همة أن يشجع فإذا أراد في الليل فمن الليل أو في النهار ففي النهار أو بعد الفجر أو قبله فلا بأس بذلك ، فقد ذكر أن أحدهم مضى إلى قارئ دمشق يقرأ القرآن عليه قال : فخرجت مع الآذان الاول حتى أسبق إلى الحلقة فجئت فإذا قبلي ثلاثون ، وهو جاء في الآذان الأول فمتى جاء أولئك الثلاثون ؟! تأمل وتدبر .
خامساً : حسن المعاملة للطلبة وترغيبهم
فلا تكن منفراً ولا تكن أيضاً مرخصاً ، فالأمر الوسط هو الأمر الحسن ، ومن ذلك أيضاً ان تكون ذا مظنة تستطيع أن تحوز بالوقت القليل والجهد القليل أكبر قدر من الفائدة ، فمن ذلك - على سبيل المثال - في أمر المراجعة أن تقوم بتقسيم الطلبة إلى اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة وتجعل ذلك التقسيم غير ثابت بل يتغير بين يوم وآخر أو بضعة أيام وأخرى بحيث يكون هذان الطالبان متلازمان فبعد أن ينهي كل منهما حفظه يرجع إلى صاحبه فيتدارسان ما يحفظاه ويسمع كل منهما للآخر وكل ذلك تحت إشراف المعلم وبصره ؛ حتى يتأكد من سير الأمور سيراً حسناً ثم يغير الطلبة حتى لا يرخص أحدهم لزميله أو يتجاوز الاول للثاني فكل مرة يغير هذا مع هذا وذاك مع هذا حتى بين فترة وأخرى يستطيع إن شاء الله أن يضبط أولئك جميعاً ولا شك طبعا ان هناك وصايا كثيرة مذكورة في مواضعها من الآداب وإخلاص النية والحذر من كراهة قراءة أصحابه على غيره كما يقول النووي رحمه الله عليه :" وكما يقع من بعض المعلمين الجاهلين أنه يمنع طلابه من الانتفاع بغيره فإذا قصد تلميذه شيخاً آخر لمزيد علم أو معرفة أو حكم أو عظيمة فائدة غضب عليه ، بل يزجره ويتهدده وهذا لا شك أنه غير لائق ودليل على سوء النية وفساد الطوية ".
ثم أختم الحديث بوصايا تتعلق بحلقات التحفيظ وأذكر بعض الملامح التي أرى أنها تجعل من الحلقة حلقة المثالية .
اولاً : العدد ما بين خمسة عشر طالباً إلى عشرين لا يزيد حتى يؤتى العمل ثمرته .
ثانياً : الوقت ما بين ساعة ونصف إلى ثلاث ساعات كل يوم - أي زمن الحلقة لا يقل عن ساعة ونصف عملياً وليست نظرياً - لأن الناحية النظرية ما بين المغرب والعشاء ساعة ونصف ، لكن هل كل هذا الزمن يستفاد منه عملياً ؟!.
ثالثاً : التعاون بين الآباء والمدرسين اكبر معين لتحقق الثمرة المرجوة .
رابعاً : دعم المجتمع لذلك وتعريف ومعرفتهم بهذه الفضائل والثمار حتى يكون هناك التشجيع العام الذي يشجع المدرس والطالب ويعين .
خامساً : إكرام المدرس وتشجيع الطالب : فلا ينبغي أن يكون حافظ القران ومدرسه ومعلمه ينظر إليه نظرة فيها شيء من الإزدراء والاحتقار ، أو أنه أدنى منزلة أو أقل مالاً ونحو ذلك ؛ فإن هذا مما يعيق نشر القرآن ، وكذلك تشجيع الطلاب فلا ينظر إلى من اشتغل بالقران انه أدنى اشتغل بغيره من العلوم الكونية وغير ذلك .(164/12)
فهذه أيضاً بعض الملامح العامة التي نسأل الله – عزوجل - أن يكون فيها بعض النفع والفائدة وأسأله - جل وعلا - أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته ، نسأل الله التوفيق والسداد وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
--------------------------------------------------------------------------------
هذا المقال من: إسلاميات
http://islameiat.com/doc
عنوان المقال
http://islameiat.com/doc/article.php?sid=357(164/13)
إلى متى الغفلة؟!
عمر بن محمد السبيل
مكة المكرمة
13/5/1422
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر.2- آثار ومظاهر حب الدنيا على الناس.3- البحث عن الجاه والمال ولو من الحرام.4- وسائل الإعلام ودورها في الطغيان.5- سبب ذل الأمة وهوانها في هذا الزمان.6- أفلا نعتبر بالموت واليوم الآخر.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق التقوى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
عباد الله، عنوان سعادة المرء ودلائل توفيقه إنما يكون في إنابته، لربه واستقامته على شرع الله ودينه في أيام حياته، وعلى كل حالاته، وإقباله على الله تعالى بنية خالصة وعبودية صادقة، وأن لا تشغله الحياة الدنيا والسعي في تحصيل ما يؤمل منها عن الاستعداد للحياة الباقية والتزود للدار الآخرة، فذلك سبيل الصالحين، ونهج المتقين ممن وصفهم الله عز وجل في محكم التنزيل بقوله: رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصلاةِ وَإِيتَاء الزكاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاْبْصَارُ [النور:37].
فإن هؤلاء الصالحين على الرغم من اشتغالهم بالبيع والشراء، وما يحتاجون من عرض الدنيا، إلا أن ذلك لم يكن حائلاً بينهم وبين استحضار عظمة الله جل جلاله، استحضاراً يحمل على تقوى الله عز وجل وخشيته على الدوام، والقيام بعبوديته حق القيام، وهكذا شأن المؤمن حقاً، يغتنم أيام العمر وأوقات الحياة بجلائل الأعمال الصالحة، ويبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة؛ لعلمه أن هذه الحياة الدنيا ما هي إلا وسيلة للفوز بالحياة الباقية والظفر بالسعادة الدائمة، لا أنها غاية تبتغى، ولا نهاية ترتجى، بل إنما هي عرض زائل، وظل آفل، يأكل منها البر والفاجر، وأنه مهما طال فيها العمر، وفسح فيها للمرء الأجل، فسرعان ما تبلى، وعما قريب تفنى، وليس لها عند الله شأن ولا اعتبار، وإنما هي قنطرة إلى الجنة أو النار، يقول عز وجل: اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الاْمْوالِ وَالاْوْلْادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحياةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء)) [رواه مسلم في صحيحه][1].
وعن سهل بن سعد الساعدي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح][2].
وروى الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: ((مرّ النبي بشاة ميتة قد ألقاها أهلها، فقال: والذي نفسي بيده، للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها))[3].
وإن في هذه النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية – يا عباد الله -؛ لأبلغ بيان وأوضح تصوير لحقيقة هذه الحياة الدنيا، وما يجب أن يكون عليه حال المرء فيها من الإقبال على الله جل وعلا، والأخذ بالنفس في دروب الصلاح والتقى، ومجانبة الشهوات والهوى، والحذر من الاغترار بالدنيا، غير أن من عظيم الأسف أن يظل الكثيرون منا في غفلة وتعامٍ عن ذلك؛ حتى غلب عليهم طول الأمل، وران على قلوبهم سوء العمل، وكأن لا حياة لهم إلا الحياة الدنيا.
وإذا استولى حب الدنيا على قلب المرء أنساه ذكر ربه؛ وإذا نسي المرء ذكر ربه أنساه تعالى نفسه؛ حتى يورده موارد العطب والهلاك، وقد قال في بيان شؤم ذلك وخطره على دين المرء: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح][4].
وجاء في الأثر: (حب الدنيا رأس كل خطيئة)، وقال بعض السلف: "من أحب الدرهم والدينار فليتهيء للذل".
ولما نظر الإمام الحسن البصري – رحمه الله – إلى بعض أهل زمانه ورأى تكالبهم على الدنيا، وغفلتهم عن الآخرة قال: "أمؤمنون بيوم الحساب هؤلاء؟! كلا، كذبوا ومالك يوم الدين".
وإن من مظاهر غلبة حب الدنيا على القلوب، واستيلائها على النفوس لدى البعض، أن لا يكون لهم همّ إلا البحث عن الجاه العريض، والشهرة الواسعة، وإن كان على حساب الدين والفضيلة، وآخرون ليس لهم همّ سوى جمع الأموال، وتضخيم الثروات؛ حتى سلكوا في تحصيل ذلك مسالكاً مشبوهة، وسبلاً محرمة.(165/1)
وقد روي عنه أنه قال في معرض التحذير من ذلك، وبيان عاقبته على صاحبه: ((والذين نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)) [رواه الطبراني وغيره][5].
وكم من المجتمعات المسلمة – يا عباد الله – من طغى عليهم حب الدنيا؛ فاستجابوا لداعي الهوى، والنفس الأمارة بالسوء والفحشاء؛ حتى أدى بهم ذلك إلى شرب المسكرات، وتعاطي المخدرات، واقتراف الفواحش والمنكرات، يساعد على ذلك ويذكيه في نفوسهم واقع الإعلام المعاصر، وما تبثه وسائل الاتصال وكثير من القنوات، مما فيه تزيين للباطل، وإغراء بالفتنة، وخروج على القيم والفضيلة؛ حتى غدا كثير من المسلمين – ولا سيما الناشئة – محاكين للأعداء في كثير من أنماط حياتهم وسلوكهم، حتى صدق على كثير منهم قول الحق جل وعلا: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59].
وما أوقعهم في ذلك إلا طغيان حب الدنيا على نفوسهم حتى آثروها على الآخرة.
وهذا الداء – يا عباد الله – هو الذي أودى بأمة الإسلام في عصورها المتأخرة إلى ما هي عليه الآن من ضعف وهوان، وتفرق ونزاع؛ حتى تحكم الأعداء في كثير من قضاياها، واستحوذوا على كثير من خيراتها، واستولوا على بعض بلادها، وساموا بعض الشعوب المسلمة سوء العذاب، وألحقوا بهم أصنافاً من النكال.
وإن ما يحدث الآن على أيدي اليهود الغاصبين، والشرذمة المفسدين، ضد إخواننا المستضعفين في الأرض المباركة فلسطين، من عدوان أثيم على الأنفس والأموال والحرمات، وتدنيس المقدسات – ولا سيما المسجد الأقصى المبارك – أولى القبلتين، وثالث المسجدين الشريفين: إنما مرده ما عليه حال كثيرين من أمة الإسلام من إقبال على الدنيا، وزهد في الآخرة وإعراض عن طاعة الله ورسوله؛ حتى ابتلوا بهؤلاء الأعداء الحاقدين، ومن شايعهم من الكفرة الظالمين، الذين استهانوا بالمسلمين، واسترخصوا دماءهم وحرماتهم، وهذا مصداق لما أخبر عن وقوعه في الأمة، حين تقبل على الدنيا، وتخلد إليها، ويضعف تمسكها بدين الله، وتدع الجهاد في سبيل الله، حيث قال : ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)) [رواه أبو داود وغيره][6].
وروى الإمام أحمد وأبو داود أن رسول الله قال: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصتعها، قال: قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاءً كغثاء السيل، تنتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت))[7].
فلتحذروا – عباد الله – من التمادي في الغفلة والإعراض عن الله، وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، فلقد ندد الحق جل وعلا بالغافلين، وأشاد بالمتقين الذين جانبوا هوى النفس، وعملوا للدار الآخرة، فقال سبحانه مبيناً حال كل فريق وجزاءه: فَأَمَّا مَن طَغَى وَءاثَرَ الْحياةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى [النازعات:37-41].
فاتقوا الله – عباد الله – ولا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (2742).
[2] سنن الترمذي (2320).
[3] مسند الإمام أحمد (1/329)، ورواه الترمذي من حديث المستورد بن شداد (2321) وقال: حسن.
[4] سنن الترمذي (2376).
[5] الأوسط للطبراني (7/255)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (1071).
[6] رواه الإمام أحمد (2/28)، وأبو داود (3462)، وصححه الألباني بمجموع طرقه (السلسلة الصحيحة :11).
[7] رواه الإمام أحمد (5/278)، وأبو داود (4297)، وصححه الألباني بمجموع طرقه (السلسلة الصحيحة: 958).
الخطبة الثانية
الحمد لله على ترادف آلائه ونعمائه، والشكر له على سابغ فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(165/2)
فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ولا تكونوا ممن استولت عليهم الغفلة، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله والدار الآخرة، وغرتهم الأماني الباطلة، والآمال الخادعة؛ حتى غدوا وليس لهم همّ إلا في لذات الدنيا وشهواتها، فكيف حصلت حصّلوها، ومن أي وجه لاحت أخذوها، وإذا عرض لهم عاجل من الدنيا لم يؤثروا عليه ثواباً من الله ورضواناً، يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].
أفلا نتعظ – يا عباد الله – بقوارع التنزيل وآياته؟! ونعتبر بما حل بالماضين من أهل القرون الخالية، ومن نشيع كل يوم إلى الدار الآخرة في رحلات متتالية، يذهب فيها أفراد وجماعات، وآباء وأمهات، وأبناء وبنات، وملوك ومماليك، وأغنياء وصعاليك، ومؤمنون وكفار، وأبرار وفجار، يودَعون القبور، وينتظرون يوم النفخ في الصور، والبعث والنشور، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:43-44].
فاتقوا الله – عباد الله – وتذكروا قرب الرحيل من هذه الدار إلى دار القرار، ثم إلى جنة أو نار، فأعدوا لهذا اليوم عدته، واحسبوا له حسابه، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحياةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
ألا وصلوا وسلموا – عباد الله – على الهادي النذير، والسراج المنير، كما أمركم بذلك العليم الخبير، فقال سبحانه قولاً كريماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل:90-91].
فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر(165/3)
إليك أيها الحاج
إعداد : أسامة سليمان
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن الحج أحد أركان الإسلام، تتجلى فيه مظاهر العبودية لله عز وجل، ويبدو ذلك واضحًا في كل أعماله، والعبودية لله سبحانه فيها سكينة القلب وطمأنينة النفس وراحة البال، والذل لله والخضوع لمقتضى أمره ونهيه فيشعر المرء بحلاوة ذل العبودية.
وقد فرض الحج على المكلف مرة واحدة في عمره وما زاد فهو تطوع وهذا من رحمة الله بنا، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ قال: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم" {أخرجه مسلم}.
ولقد جاءت فرضية الحج مقرونة بالاستطاعة في قوله سبحانه ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، وهو من العبادات البدنية المالية، حيث لابد من توافرهما معًا لتحقيق شرط الاستطاعة، فضلا عن ترك الحاج لأهله وأولاده ما يكفيهم من طعام وكسوة ونحوهما حتى يعود من حجه، ففي الحديث "كفي بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت" {أخرجه أبو داود وحسنه الألباني} فعلى المسلم أن يبادر بأداء تلك الفريضة ولا يؤخر أداءها فقد يمرض الصحيح وتعطب الدابة وفي حديث أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما "من أراد الحج فليتعجل".
وعلى الحاج قبل سفره بعض الواجبات والمستحبات التي يجب عليه أداؤها منها.
1 التوبة والإخلاص: فإذا شاء الله للمسلم الحج فعليه أولا أن يقلع عن كل الذنوب، ويعزم على عدم العودة إليها، ويندم على فعلها، وأن يرد الحقوق إلى أهلها، فيخرج من مظالم العباد، ويرد الأمانات إلى أهلها، ويؤدي الديون إذا حان وقت سداداها، أما إذا قرب وقت أدائها فعليه أن يستأذن أصحابها لإمهاله وإنظاره إلى أن يعود من حجه، وأن يتحلل ممن اغتابهم ويكثر الاستغفار لهم، ويسأل الله أن يرحمه ويرضي خصماءه عنه، ويتقبله في الصالحين، وأن يخلص النية في عمله لله رب العالمين، فلا يبتغي بذلك رياءً ولا سمعة فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.
2 المشورة والنصيحة: ويستحب للحاج أن يطلب النصيحة والمشورة ممن يثق في دينهم وعلمهم، وأن يكتب وصية قبل سفره ويشهد عليها ويوكل غيره في أداء حقوق العباد إذا حان وقت أدائها أثناء سفره فضلا عن حقوق رب العباد كالزكاة وغيرها.
3 تحري المال الحلال في نفقة حجه وعمرته، وقد ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن الحج لا يجزيه إذا حج من مال حرام، إذ المال الحرام يعظم به الوزر ويزداد به الإثم.
4 تعلم مناسك الحج وأحكامه قبل السفر ، فالعلم مقدم على العمل فطلب العلم فريضة ولا سيما إذا تعلق بالفروض العينية، وكم شاهدنا من مسائل هي من بدهيات الحج يقع فيها الحاج بسبب عدم علمه بالمناسك، وعلى الدعاة أن يبينوا للحجاج قبل سفرهم كل ما يعملونه في تلك الرحلة المباركة.
5 أن يودع أهله وإخوانه قبل سفره، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل سفره يودع أصحابه ويقول: "استودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم" {رواه أحمد والترمذي} وفي صحيح البخاري أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أريد السفر فزودني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "زودك الله التقوى"، قال: زدني، قال: "وغفر ذنبك"، قال: زدني، قال: "ويسر لك الخير حيثما كنت" وقال له رجل: إني أريد سفرًا، فقال: أوصيك بتقوى الله والتكبير على كل شَرَف فلما ولى قال: "اللهم ازْوِ له الأرض، وهوِّن عليه السفر".
{رواه البخاري}
6 المحافظة على أدعية السفر:
فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر، كبر ثلاثًا، ثم قال: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطْوِعَنَّا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل". {رواه مسلم}، ومقرنين أي مطيقين والوعثاء هي الشدة، والكآبة تعني تغير النفس، والمنقلب هو المرجع والمآب.
7 التكبير إذا صعد مرتفعًا والتسبيح إذا هبط منخفضًا، فقد ثبت في البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قومًا يهللون ويكبرون إذا أشرفوا على وادٍ يرفعون أصواتهم بذلك فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أَصَمَّ ولا غائبًا، إنه معكم، إنه سميع قريب". متفق عليه. أربعوا على أنفسكم أي ارفقوا بها.(166/1)
8 الصحبة الصالحة: فالرفقاء إن كانوا على غير الصلاح أفسدوا الطريق وقد يفسدون الصديق، فالصديق قبل الطريق، والصاحب ساحب، فليتحر الحاج اختيار الرفقة المؤمنة، فالمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل، والجليس الصالح كحامل المسك، وشرف الزمان والمكان لا يحتمل سوء الخلق وصحبة السوء.
9 الحذر من المعاصي والتفريط في الواجبات: فمن العجب أن ترى من أحرم والسجارة في فمه، ولسانه يغتاب وينم ويكذب ويضيع الصلوات ويجلس أمام الشاشات لمشاهدة المنكرات وكذا المرأة تحرم في ملابس تجسد عورتها أو ملابس زينة وتخالط الرجال وتخضع بالقول، فمتى يقلع العبد عن المعاصي إن لم يقلع في هذا الزمان وهذا المكان الذي تنزل فيه الرحمات وتعتق فيه الرقاب من الهلكات وتضاعف فيه الحسنات.
فعجل أخي بالحج لتُكَفَّر لك الذنوب وتُستَر لك العيوب، فالحج المبرور جزاؤه الجنة، والحج والعمرة ينفيان الفقر كما تنفى النار خبث الحديد وهو أفضل الجهاد للمرأة.
وإليك أخي ما قال شيخ الإسلام عندما سئل عن أيهما أفضل إيثار الفقراء أم الحج؟
ماذا يقول أهل العلم في رجل
آتاه ذو العرش مالا حج واعتمرا
فهزه الشوق نحو المصطفى طربا
أترون الحج أفضل أم إيثاره الفقرا
أم حجه عن أبيه ذاك أفضل أم
ماذا الذي يا سادتي ظهرا
فأفتوا محبًا لكم فديتكمو
وذكركم دأبه إن غاب أو حضرا
فأجاب:
نقول فيه إن الحج أفضل من
فعل التصدق والإعطاء للفقرا
والحج عن والديه فيه برهما
والأم أسبق في البر الذي ذكرا
لكن إذا خص الأب كان إذًا
هو المقدم فيما يمنع الضررا
كما إذا كان محتاجًا إلى حلةٍ
وأمه قد كفاها من برى البشرا
هذا جوابك يا هذا موازنةً
وليس مفتيك معدودًا من الشعرا
والله من وراء القصد.(166/2)
إمام المسجد ورمضان !!
"الشيخ/ محمد بن إبراهيم السبر"1
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده وبعد،،
فهذه كلمات يسيرات أوجهها إلى إخوتي أصحاب الفضيلة أئمة المساجد والجوامع بمناسبة قدوم شهر رمضان المبارك .. وهي كلمات النصيحة دافعها، والمحبة في الله رائدها، والإخلاص وقودها .. فآمل أن تجد لديك أخي الإمام قبولاً وأن تفتح لك في مهمتك آفاقاً ..
أخي إمام المسجد: أهنئك بدخول شهر رمضان المبارك جعلني الله وإياك ممن يصوموه ويقوموه إيمانا واحتساباً، وأن يوفقنا وإياك فيه لصالح العمل ..
أخي الإمام .. كما إن شهر رمضان هو شهر الصيام والقيام والصدقة ، وشهر القرآن والطاعة والعبادة ، فهو أيضاً شهر الدعوة والاحتساب خاصة لأئمة المساجد والجوامع ، هو فرصة للتربية وتزكية النفوس .. لأن الناس يقبلون على المساجد ويؤمون الجوامع للصلاة والتراويح والاعتكاف ونفوسهم مهيئة لتقبل الخيرات وعمل الصالحات ، وهذه من نعمة الله على عباده .. ولاشك أن الداعية الناجح يهتبل الفرص ويغتنمها وهذا منهج نبوي أمثلته كثيرة ليس هذا مجال طرقها ..
نعم أخي في الله : رمضان فرصة للإمام الجاد في وظيفته المهتم بخطبته الحريص على جماعته وصلاته وقيامه ولا شك أن شهراً بعظمة رمضان يتطلب من الإمام جهداً لاغتنامه لنفسه والحرص على النفع المتعدي..
ولذا أوجه هذ الوصايا والوقفات عل الله ان ينفعني وإياك بها..
الوصية الأولى: تقوى الله جل وعلا في السر والعلن وماتأتي وما تذر، والإخلاص في القول والعمل فهما سبب التوفيق والنجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، قال ابن الجوزي: " إنما يتعثر من لم يخلص". فاخلص نيتك في إمامتك ودعوتك وصلاتك ودعائك ، والرجل كما قيل : إنما يُعطى على قدر نيته.
الوصية الثانية: وأنت تستعد للعمل والدعوة في رمضان ولاشك أن ذلك عبء كبير لمن يحملون هم الإسلام استعن بالله جل وعلا وتوكل عليه وسل ربك أن ييسر أمرك ويبارك في إمامتك ودعوتك ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، قال الله تعالى عن موسى عليه السلام وقد جاءه التكليف بالدعوة وتبليغ الرسالة : { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي*يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه:25،28).
الوصية الثالثة: الإمامة أمانة.. فالله الله في أداء الأمانة بالحرص على أداء الصلاة في وقتها ، وعدم التخلف عنها إلا لعذر شرعي وإنابة من تبرؤ به الذمة حال الغياب الضروري فأنت قدوة في قولك وعملك فكيف تريد من الناس المحافظة على الصلاة وأنت لا تحافظ عليها أو تتخلف عن أدائها..
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
الوصية الرابعة : احرص بارك الله فيك على تعاهد المسجد وتهيئته للمصلين والمتهجدين والمعتكفين وذلك بتطيبه والعناية بنظافته وتنظيم أثاثه والاهتمام بدورات المياه وصيانتها والحفاظ على محتوياته ، والعناية بالصوتيات والاعتدال في ذلك.
الوصية الرابعة: احرص على الاستعداد العلمي لرمضان بمعرفة أحكام الصيام والقيام والاعتكاف وزكاة الفطر وأحكام العيد والست من شوال حيث إنك تحتاج لذلك لتقوم بعبادتك على الوجه المطلوب ، والناس سيسألونك – ولاشك - عن ذلك ، ويستطيع الإمام أن يتفقه في ذلك بقراءة الكتب الفقهية عن الصيام أو قراءة فتاوى العلماء الكبار في ذلك أو الملخصات الفقهية المعتمدة أو سماع الدروس العلمية التي تتحدث عن الصيام وأحكامه ومخالفاته مثل: الملخص الفقهي للشيخ صالح الفوزان، الصيام آداب وأحكام للدكتور عبد الله الطيار ، مخالفات الصيام للشيخ / عبد العزيز السدحان.
الوصية الخامسة : احرص على القراءة على المصلين في الوقت الذي تراه مناسباً لحال جماعتك، واحرص على الاختصار مع التحضير للدرس والتعليق المفيد إن اقتضى الأمر ومن الكتب المفيدة في هذا الباب " على سبيل المثال لا الحصر ": مجالس شهر رمضان للعلامة ابن عثيمن رحمه الله ،أحاديث الصيام آداب وأحكام للشيخ عبد الله الفوزان، فتاوى رمضان لمجموعة من العلماء جمع أشرف عبد المقصود، دروس رمضان لعبد الملك القاسم، رمضان دروس وعبر للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد وغيرها.
الوصية السادسة: احرص على إتباع السنة في صلاة التراويح والاقتصاد في الدعاء وعدم الاعتداء واحذر من السرعة في الصلاة قال أهل العلم : إنه يكره للإمام أن يسرع بالجماعة سرعة تمنعهم من فعل ما يُسن فكيف بفعل ما يجب..
الوصية السابعة : يكثر سفر بعض الأئمة للعمرة في رمضان فيتركون المسجد أياماً أو يختمون مبكرين في أول العشر الأواخر وبذهبون إلى مكة ويقولون نحن وكلنا من يقوم بالمهمة على أكمل وجه، وهذا خطأ لأن أداء العمرة سنة والقيام بالإمامة واجب فكيف يقدم النفل على الفرض ، ثم إن العمرة نفع قاصر والإمامة والصلاة نفع متعد وهو مقدم.(167/1)
الوصية الثامنة : الدعوة في الحي أثناء رمضان وهناك بعض الأعمال الدعوية التي لها ثمارها المجربة في رمضان ومنها:
1- هداية رمضان: فالهدية تفتح القلوب وطريق للدعوة ووسيلة سهلة ميسرة للتواصل مع الناس مع مراعاة أحوال الجماعة فمنهم الصالحون ومنهم دون ذلك وهم يختلفون بحسب حرصهم على الصلاة ومحافظتهم على أسرهم ومَنْ تحت ولايتهم فيراعى في الهدية ذلك..
2- طرح المسابقات الهادفة لأهل الحي ومراعاة المراحل العمرية ووضع عليها جوائز رمزية وقيمة.
3- زيارة المقصرين في بيوتهم لمناصحتهم عما هم واقعون فيه من ترك للصلاة أو تفريط في تربية البنين والبنات أو تركيب للدشوش والقنوات الماجنة وغير ذلك من المخالفات .
4- استضافة العلماء والدعاة لإلقاء الدروس والكلمات بعد التراويح أو غيرها .
5- استغلال حضور المصليات وتوزيع المفيد عليهنَّ من الأشرطة والكتب والمطويات، وإعطائهن نصيباً من التوجيه والاهتمام باستضافة الداعيات وطالبات العلم.
6- تعاهد لوحة إعلانات المسجد والإشراف التام عليها مع الحرص على تنوع مادتها وتجديدها بين الحين والآخر.
7- إعداد برنامج للعيد وتنسيق اجتماع للجيران بعد صلاة العيد في المسجد لبذل السلام وإشاعة روح التعاون والمودة والتواصل بين الجيران والإصلاح بين المتخاصمين.
الوصية التاسعة: وعلى الإمام أن يكلل هذه الأمور كلها بدعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة والرفق وعدم التعنيف والحرص على هداية الناس كما كان النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ... } (آل عمران:159) وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل:125).
الوصية العاشرة : تفطير الصائمين في هذا الشهر الكريم وتهيئة المكان لذلك وحث لجماعة على المساهمة في ذلك ، وإن كان هناك وافدون وهم الأغلب فاجعل مع غذاء البدن غذاء الروح وهذا - بحمد لله - متوفر عند مكاتب دعوة الجاليات فهم يمدونك بالكتيبات والدعاة وبجميع اللغات.
الوصية الحادية عشرة : العناية بفقراء الحي وتفقدهم فهم أولى بالمعروف وذلك إعداد برنامج لجمع الزكاة وتوزيعها على فقراء الحي وإعانة محتاجهم وسد فاقتهم وستر خلتهم أو السعي لدى من يعينهم.
وفي الختام :
أخي إمام المسجد : إن أهل الباطل يتسابقون لخطف رمضان وهدم روحانيته وإفساد حلاوته بالمسلسلات الطائشة والأفلام الماجنة والفوازير الهازلة , فلابد أن نسعى للحفاظ على هيبة رمضان وجلاله وذلك بالحرص على أن نقدم برامج تكون بدائل مزاحمة لهذا الإعلام الملوث وإحياء دور المسجد وتفعيله ..
وفقني الله وإياك لما يحب , وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
00000000
1 - إمام وخطيب جامع الأميرة موضي السديري بالعريجاء بالرياض(167/2)
إمامة الرجل في سلطانه
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله محمد وآله وصحبه، أما بعد:
المقصود بإمامة الرجل في سلطانه: أن الرجل أحق أن يؤم المصلين فيما هو تحت سلطته وملكه، ومثاله: لو كان لإنسان بيتٌ أو دارٌ كبير أو مزرعة أو غير ذلك، فزاره ناس وحضر وقت الصلاة فصلوا، فلا يجوز أن يتقدم منهم أحد ليصلي بهم إلا صاحب السلطان، أي صاحب الدار أو المزرعة أو البيت... إلا أن يأذن لمن يريد.. حتى لو كان من يصلي بهم أفضل منه قراءة وتلاوة وعلماً وسناً وهجرة.. وذلك أن في غير هذه الحالة يجب تقديم الأقرأ فالأقرأ، ثم الأسن فالأسن، فإن كانوا في السن سواء فالأقدم إسلاماً وهجرة، كما هو المنصوص عليه في كتب الفقه.. فإن وجد ولي أمر المسلمين أو نائبه فهو الأحق بالإمامة.
وعلى هذا اتفقت مذاهب العلماء ولم يعلم مخالف –والله أعلم- وهو المنصوص عليه في كتب الفقه، ولهم في ذلك أدلة..
ولكن نذكر بعض كلام علماء المذاهب الإسلامية:
قال ابن نجيم -رحمه الله-:
(أما إذا كان في بيت إنسان فإنه يكره أن يؤم ويؤذن وصاحب البيت أولى بالإمامة إلا أن يكون معه سلطان أو قاض فهو أولى؛ لأن ولايتهما عامة1).
وقال الخرشي -فقيه مالكي-:
(ثم إن لم يكن سلطان ولا نائبه فرب المنزل المجتمع فيه، ولو كان غيره أفقه منه وأفضل2)
والمقصود أنه إذا حضر السلطان إلى البيت مع الزائرين أو نائبه كالقاضي ونحوه فإنه الأحق بالإمامة، فإن لم يوجد السلطان أو الأمير فصاحب المنزل هو المقدم في الإمامة، ولو كان من في المنزل أفضل منه أو أفقه أو أقرأ.
وقال أبو إسحاق الشيرازي الشافعي:
(فإن اجتمع هؤلاء مع صاحب البيت فصاحب البيت أولى منهم3)
وقال مصطفى الرحيباني الحنبلي:
(وصاحب البيت وإمام مسجد ولو عبداً أحق من غيره، فتحرم إمامة غيرهما بلا إذنهم4)
وقد اشترط الرحيباني شرطاً وهو أن يكون صاحب البيت أهلاً للإمامة5.
إذن أتضح من خلال نقل كلام أئمة المذاهب أن صاحب البيت والسلطان أولى بالإمامة من غيره إلا إذا وجد أمير أمر الأمة أو نائبه فإنه الأولى بإمامة القوم؛ وذلك لأن إمامة السلطان أعم من إمامة الرجل لمنزله أو ملكه..
الأدلة:
لا شك أن اتفاق المذاهب على هذا يرجع إلى مستند وقفوا عليه وأخذوا منه هذا الحكم الشرعي، ومن الأدلة على ذلك:
الدليل الأول: عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سِلْماً، ولا يَؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد على تكْرِمته إلا بإذنه) رواه مسلم.وقوله: سلماً: أي إسلاماً، وفي رواية: سِنّاً. وقوله: تكرمته، أي مكان جلوسه في بيته.
ووجه الاستدلال: أن الرسول نهى أن يؤم الرجلُ الرجلَ في سلطانه، وبيته وملكه هو سلطانه الذي يملكه، فلا يجوز التقدم عليه، وهو الأولى بالإمامة إلا أن يأذن لغيره..
الدليل الثاني: عن مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من زار قوماً فلا يؤمهم، ولْيؤمهم رجل منهم)6.
وقد ورد الحديث بقصته وسبب وروده، فعن بديل قال: حدثني أبو عطية -مولىً منا- قال : كان مالك بن الحويرث يأتينا إلى مصلانا هذا، فأقيمت الصلاة، فقلنا له: تقدم فصَلِّهْ، فقال لنا: قدموا رجلاً منكم يصلي بكم، وسأحدثكم لِمَ لا أصلي بكم: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من زار قوماً فلا يؤمهم ولْيؤمهم رجل منهم). قال الترمذي بعد ذكر الحديث: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، قالوا : صاحب المنزل أحق بالإمامة من الزائر، وقال بعض أهل العلم: إذا أذن له فلا بأس أن يصلي به، وقال إسحاق بحديث مالك بن الحويرث، وشدد في أن لا يصلي أحد بصاحب المنزل وإن أذن له صاحب المنزل! قال: وكذلك في المسجد لا يصلي بهم في المسجد إذا زارهم يقول: ليصل بهم رجل منهم. انتهى كلام الترمذي.
الدليل الثالث: قال أبو سعيد مولى أبي أسيد: تزوجت وأنا عبد، فدعوت نفراً من أصحاب رسول الله فأجابوني، فكان فيهم أبو ذرٍّ وابن مسعود وحذيفة –رضي الله عنهم أجمعين-، فحضرت الصلاة وهم في بيتي، فتقدم أبو ذرٍّ ليصلي بهم، فقالوا له: وراءك ! فالتفت إلى ابن مسعود فقال: أكذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: نعم، فقدموني وأنا عبد، فصليت بهم) رواه صالح بن الإمام أحمد -رحمهما الله- في مسائله، ورواه عبد الرزاق والبيهقي.
ووجه الاستدلال واضح وهو: تأخر أبا ذر وتقديم أبي سعيد المولى صاحب الدار للصلاة بهم؛ مع أنهم من أعظم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-.
الحكمة في تقديم صاحب المنزل بالإمامة على غيره:
علَّل العلماء ذلك التقديم بتعليلين:(168/1)
1. أن في التقدم عليه احتقار له وازدراء به بين عشيرته وأقاربه، وذلك لا يليق بحسن الخلق؛ لأنه صاحب البيت، فهو فيه كالسلطان على قومه..
2. أنه أدرى بقبلته.. فالزائر قد لا يعرف اتجاه القبلة، ويضيع الوقت، ويحصل الإحراج بتحديد القبلة، وقد لا يعلمها كما يعلمها صاحب المنزل.. وسواء عرفت الحكمة أم لا فهذا حكم رباني وجب التسليم له والإذعان إليه.. فإن ظهرت لنا منه بعض الحكم فإنما تزيد إيماننا إيماناً ويقيننا يقيناً.
وخلاصة ما تقدم أنه إذا زار الرجل قوماً سواء كانوا غريبين عنه أو أصحابه ورفقاءه أو غيرهم، وحضرت الصلاة فليصل بهم صاحب البيت، ولا يتقدم أحد حتى يأذن له صاحب المنزل؛ إتباعاً للرسول -صلى الله عليه وسلم-، واحتراماً لصاحب المنزل، وتأدباً معه؛ ولأنه أعلم بالمكان والقبلة.
تنبيه: ويشترط كون صاحب المنزل قادراً على أداء أركان الصلاة، ومن ذلك: قراءة الفاتحة قراءة صحيحة؛ حيث لا يكون لَحَّاناً يحيل المعنى عن حقيقته، وكذا ألا يكون مبتدعاً بدعة مكفرة؛ لأن صلاته لا تصح، فضلاً عن إمامته كما تقدم. والله الموفق للصواب..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،،
________________________________________
1 - البحر الرائق 1/369.
2 - الخرشي على مختصر خليل 2/43,
3 - المهذب 1/106.
4 - الكافي 1/186.
5 - وهذه الشروط هي: أن يكون مميزاً فلا تصح إمامة الطفل غير المميز. وأن يقدر على قراءة الفاتحة بحيث لا يكون أبكم ولا يلحن لحنا يحيل المعنى عن حقيقته، ولا يكون كافراً فصلاة الكافر باطلة فضلاً عن إمامته. وأن لا يكون مشهوراً بالفسق والمجون.
6 - رواه أبو داود النسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح وهو حديث صحيح صححه الألباني.(168/2)
إمامة الصبي
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والشكر له شكراً جزيلاًَ على توفيقه وامتنانه، اختار من شاء من خلقه لحمل رسالته وتبليغها إلى الناس، وجعل العلماء من بعد الأنبياء ورثة لهم في علمهم ورسالتهم الخالدة، والصلاة والسلام على رسول الله محمد خاتم النبيين، ما ترك من خير إلا بينه وحث على فعله، وما ترك شراً إلا بينه وحذر منه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.. أما بعد:
أخي القارئ-وفقك الله-: اعلم أن مسائل الفقه الإسلامي العظيم قد حصل فيها خلاف بين العلماء؛ لحكمة يعلمها الله، فما على المسلم إلا أن يتأدب بأدب الخلاف كما تأدب به السابقون.. وما نشأ التنازع والخصام في الفروع إلا من جهلة الناس أو من دعاة الفقه، وهم أجهل من العوام بقداسة العلم لتعصبهم، وكان الأولى بهم اتباع الدليل، مع ترك المخالف وشأنه بعد نقاشه بأدب ووقار، فإذا لم يحصل الاتفاق ترك كل وشأنه، مع التآلف والتسامح بين المسلمين.. هذه مقدمة وجيزة لرفع ما قد يعتري القارئ الكريم من إشكال في مسائل الخلاف أو ضيق صدر بسبها..
وإمامة الصبي للقوم إما أن تكون في صلاة نفل أو فرض.
المسألة الأولى: إمامته في الفرض: اختلف العلماء فيها على قولين:
الأول: أن إمامته صحيحة. وبه قال الإمام الشافعي,وهو رواية عن أحمد اختارها الآجري وصاحب الفائق، ولهم على ذلك أدلة وهي:
ما ثبت عن عمرو بن سلمة-رضي الله عنه-أن النَّبيَّ-صلى الله عليه وسلم-,قال لأبيه: (وليؤمكم أكثركم قرآناً) فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني؛ لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين).1
فالصحابة-رضي الله عنهم-قدموا عَمراً وهو صبيٌّ، وكان ذلك في حياةِ النَّبيِّ-صلى الله عليه وسلم-فلو كانَ غيرَ جائزٍ لبينه؛إذ لا يصحُّ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ، فكانَ ذلك إقراراً لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودليلهم الثاني : ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-,قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقُّهم بالإمامةِ أقرؤهم).2
فبيَّن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنَّ الأحقَّ بالإمامة هو الأقرأ، ويدخل في ذلك البالغ والصبي المميز؛ لأنه قد يكون أقرأ من البالغين.
القول الثاني: أن إمامته غير صحيحة. وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة، وأدلتهم على ذلك:
حديث:(إنما جُعِلَ الإمامُ ليُؤتمَّ به؛فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا:ربنا لك الحمد..)الحديث.3,فالنَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم-نهى عن الاختلاف على الإمام، وصلاةُ الرجالِ فرضٌ,بينما هي في حقِّ الصَّبيِّ نفلٌ؛لأنه غيرُ مُكلَّفٍ، فحصلَ الاختلافُ بينَ الإمامِ والمأمومِ,وهُو منهيٌّ عنْهُ، فدلَّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ إمامةِ الصَّبيِّ.
واستدلوا كذلك بحديث عليٍّ-رضي الله عنه-,قال:قال رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-:(رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ).4
قالوا: بيَّن النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم-أنَّ القلمَ رُفِعَ عن الصَّبيِّ حتى يبلغَ، فلا تصح خلفَ من رفع القلم عنه كالمجنون.
والرَّاجِحُ قولُ الشافعيِّ-رحمه الله-لموافقتِهِ لحديث عمرو بن سلمة الصحيح الصريح في صحة إمامة الصبي، ولأنَّ ما استدلَّ به أصحاب القول الثاني لا يدل على مسألتنا، فأمَّا حديث إنما جعل الإمام.. فهو نهي عن الاختلاف في أفعال الصلاة الظاهرة؛ ولهذا أمر النبي-صلى الله عليه وسلم-بموافقة الإمام في الركوع والرفع وغير ذلك.وأما حديث علي -رضي الله عنه-في بيان رفع القلم عن الصبي فالمقصود رفع التكليف والإيجاب، وليس نفي صحة الصلاة.5
المسألة الثانية: إمامة الصبي في النفل:
جَرَى الخلافُ في هذه المسألةِ كسابقتِها، حيث اختلفَ العلماءُ فيها على قولين:
الأولُ: تصحُّ إمامتُهُ.وهو قولُ الإمامِ مالكٍ والشافعيِّ وأحمد,واختارها أكثرُ أصحابِهِ.
وأدلتهم على ذلكَ:
أدلة الشافعية: الأدلة التي سبقت عنهم في مسألة إمامة الصبي في الفرض، فالنفل أولى.
وأما الحنابلة والمالكية الذين يمنعون من إمامة الصبي في الفرض، فعللوا لجواز إمامته في النفل بأن صلاة النفل يدخلها التخفيف.6
القول الثاني: لا تصح إمامته.. وهو قول الأحناف. ودليلهم على ذلك:
أنه لا فرق بين النفل والفرض في عدم الصحة، واستدلوا بنفس الأدلة في المسألة السابقة.
والراجح صحة إمامته في النفل؛ لأنها إذا صحت في الفرض ففي النفل من باب أحرى..
والله أعلم، وصلى الله على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
________________________________________
1- رواه البخاري في صحيحه (4302) في كتاب المغازي، باب مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة زمن الفتح.(169/1)
2- صحيح مسلم (672) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة.
3- رواه البخاري في مواضع عديدة من صحيحه برقم (378) و (688) و (689) و (722) و (732) و (733) و (734). ومسلم في كتاب الصلاة باب ائتمام المأموم بالإمام رقم (414).
4- رواه أحمد (943)، والترمذي (1423)، وأبو داود (4398)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041)، والدارقطني (2296). وصححه غير واحد من أهل العلم منهم الألباني في صحيح الجامع (3512).وفي غيره.
5- انظر المجموع للإمام النووي –رحمه الله- (4/131).
6- انظر الشرح الكبير (1/408).(169/2)
إمامة النساء
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد: فقد شرع الله صلاة الجماعة لحكم كثيرة منها: الاجتماع والألفة، وبقاء المجتمعات متماسكة، تربطها رابطة الإسلام، بأحكامه وشرائعه اليومية، والأسبوعية، والشهرية، والسنوية، والعمرية، فمن الشرائع اليومية التي تكرر في اليوم والليلة خمس مرات: الصلاة، ولذا كانت أجل الشعائر وأعظمها، وقد أكثر الله من ذكرها في القرآن، ومدح أنبياءه بالمحافظة عليها والأمر بها، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من صلى هذه الصلوات في جماعة فإن صلاته تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة، وأوجب صلاة الجماعة، وهدد من يصليها وحده في بيته أو في أي مكان. ولمكانة صلاة الجماعة من الدين يجدر بنا أن نتعرف على بعض أحكامها، ومن تلك الأحكام:
إمامة النساء، هل يصح أن تؤم المرأة النساء لصلاة الفريضة أو النافلة؟
هذه المسألة من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين العلماء، ولكن الأحاديث والآثار تدل على جواز ذلك، بل إن ذلك مستحب لما فيه من الاجتماع والترابط وزيادة الأجر، لكن الأحناف يرون كراهة إمامة المرأة للنساء، أما المالكية فقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حيث قالوا: إن ذلك محرم، وإذا صلَّت بهن جازت، ومعنى كون ذلك حرام: أنها تأثم بفعلها ذلك وصلاتهن صحيحة، وعللوا التحريم بالآتي:
1. لأن إمامة المرأة بالنساء لا تخلو من مُحرَّم، وهو قيام الإمام وسط الصف.
2. أنها لا تخلو عن نقص واجب أو مندوب، فإنه يُكره لهن الأذان والإقامة، وتقدم الإمام عليهن.. وهذه التعليلات لا اعتبار لها في مقابلة الأحاديث والآثار التي دلت على استحباب صلاة النساء جماعة، ومن أدلة الاستحباب:
عن أم ورقة الأنصارية -رضي الله عنها-(أن رسول الله كان يقول: ((انطلقوا بنا إلى الشهيدة فنزورها)) وأمر أن يُؤَذن لها وتقام، وتؤم أهل دارها في الفرائض)1.
وهذا الحديث واضح في استحباب صلاة النساء جماعة، وأن المرأة تؤم النساء.
الدليل الثاني: عن عائشة -رضي الله عنها-: (أنها أَمَّتْ نساءً في الفريضة في المغرب، وقامت وسطهن، وجهرت بالقراءة)2.
الدليل الثالث: عن ريطة الحنفية -رحمها الله-: (أن عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- أَمَّتْهُن في صلاة الفريضة)3.
الدليل الرابع: عن أم الحسن بن أبي الحسن البصري -رحمها الله-: ( أن أُمَّ سلمة أُمَّ المؤمنين -رضي الله عنها- كانت تؤمهن في رمضان، وتقوم معهن في الصف)4.
الدليل الخامس: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ( تؤم المرأة النساء في التطوع، تقوم وسطهن)5.
الدليل السادس: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- (أنه كان يأمر جارية له تؤم نساءه في ليالي رمضان)6.
فهذه الآثار عن الصحابة تدل على استحباب صلاة الجماعة للنساء، ولم ينقل مخالف لهم من الصحابة الكرام7.
ففي هذا الادلة دلالة أن النساء يستحب لهن أن يصلين جماعة، في بيوتهن أو مساجدهن، وأن ترفع من تؤمهن صوتها بالقرآن، بشرط أن لا يسمع الرجال تلاوتهن، وهذا يحسن من النساء في الصلوات المفروضات وفي صلاة التراويح، وغير ذلك من الصلوات، وذلك لتبلغ المرأة أجر صلاة الجماعة التي تضاعف عن صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة..
نسأل الله التوفيق وقبول الأعمال، ونسأله العون على القيام بأحكام ديننا على أكمل وجه، إنه على كل شيء قدير.
________________________________________
1- رواه الحاكم والدارقطني وابن خزيمة. ورواه أبو داود ولم يذكر قوله صلى الله عليه واله وسلم: (( انطلقوا بنا إلى الشهيدة فنزورها)) ولم يذكر أيضاً: وتؤم أهل دارها في الفرائض. وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم ( 552 ).
2- أخرجه ابن حزم في ( المحلى) محتجاً به ( 3 / 171 ).
3- رواه البيهقي والدارقطني وابن حزم في (المحلى) محتجاً به، وصحح النووي إسناد الدارقطني والبيهقي في المجموع ( 4 / 84 ).
4- أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، وأخرجه ابن حزم في (المحلى) واحتج به.
5- أخرجه ابن حزم في ( المحلى) محتجاً به.
6- أخرجه ابن حزم في ( المحلى).
7- استفدنا الموضوع من كتاب( أحكام الإمامة والائتمام).(170/1)
إمامة ناسي الحدث
الحمد لله حق الحمد،والشكر لله على كل نعمة أنعم بها علينا في قديم أو حديث،أو عامة أو خاصة،أو سر أو علانية،والصلاة والسلام على من علمنا الحكمة،وأرشدنا إلى صراط الله المستقيم،وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد:
أخي الكريم: اعلم أن أهم ما يعتني به المسلم من الأمور هو الصلاة،تلك الشعيرة العظمى التي فرضت في السماء،وهي عمود الدين، وأول ما يُحاسَبُ عليه العبد من أعماله يوم القيامة، وكما تَعلم أن للصلاة أحكاماً وشُرُوطاً ومستحباتٍ ونواقضَ ومكروهاتٍ، ولما كنا في زاوية الإمام والمأموم من هذا الموقع كان الأجدر بنا وبك أن نتعرف على أمر مهم يتعلق بصلاة الجماعة، ألا وهو حكم إمامة ناسي الحدث، هل تصح صلاة المأمومين بعده إذا صلى بهم وهو محدث-أي: عليه جنابة أو انتقض وضوؤه بأي ناقض-؟ أم أن صلاتهم غير صحيحة وعليهم الإعادة؟
الصحيح من قولي أهل العلم أنَّ صلاة المأمومين خلف مَن نسي حدثه، ثم ذكره بعد الصلاة صحيحة،ولا إعادة عليهم،وعليه الإعادة وحده،وهو قول الإمام مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه،وبه قال الحسن البصري، وسعيد بن جبير، والأوزاعي.
والأدلة على ذلك:
حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-عنه أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم).1
فدل الحديث على أن الإمام إذا أخطأ في صلاته فعليه خطؤه، وللمأمومين صلاتهم، والذي نسي حدثه يكون خطؤه عليه فيعيد صلاته، وليس على المأمومين إعادة؛ لأن صلاتهم صحيحة.
ومن الأدلة: (أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-صلى بالناس وهو جنب فأعاد،ولم يأمرهم أن يُعيدوا)2.
ومنها:عن عثمان بن عفان-رضي الله عنه-:(أنه صلى بالناس صلاة الفجر فلما أصبح وارتفع النهار،فإذا هو بأثر الجنابة فقال: كَبُرت والله، كَبُرت والله، فأعاد الصلاة، ولم يأمرهم أن يعيدوا).3
ومن الأدلة -أيضاً-: ما قاله علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-:(إذا صلى الجنب بالقوم فأتم بهم الصلاة،آمره أن يغتسل ويعيد،ولا آمرهم أن يعيدوا).4
ومنها: أن ابن عمر صلى بالناس الصبح، ثم ذكر أنه صلى بغير ضوء،فأعاد ولم يُعيدوا.5
فهذه الأدلة تدلُّ على أنَّ صلاة المأمومين خلف من نسي حدثه، ثم ذكره بعد الصلاة صحيحة،ولا إعادة عليهم،وأنَّ الإمامَ يُعيد صلاته.
وقد ذهب أبو حنيفة وأصحابه،وحماد بن أبي سليمان، إلى أن صلاة المأمومين خلف ناسي الحدث غير صحيحة،وتجب عليهم الإعادة. واستدلوا على ما ذهبوا إليه بما يأتي:
عن سعيد بن المسيب،قال: صلى رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-بأصحابه مرة،وهو جُنُبٌ،فأعادَ بهم.6
وعن عاصم بن ضمرة ،عن علي-رضي الله عنه-أنه صلى بالقوم وهو جنب فأعاد، ثم أمرهم فأعادوا.7
فهذه أدلتهم، وقد أعلها علماء الحديث كالدارقطني والنووي - فانظر ذلك في الحاشية.
وإذا ثبت ضعف ما استدلَّ به أصحاب القول الثاني؛ترجَّحَ القولُ الأولُ، وهو صحة صلاة المأمومين خلف الإمام الذي نسي حدثه،وأنه لا يجب عليهم إعادة تلك الصلاة،وأن على الإمام الإعادة وحده.
ربنا علِّمنا ما ينفعنا،وانفعنا بما علمتنا،واغفر لنا ذنوبنا،إنك أنت الغفور الرحيم.
والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1- رواه البخاري (694) وأحمد (8449) وعنده زيادة (فإن أصابوا فلكم ولهم) ولم ترد عند البخاري (ولهم).
2- رواه الدارقطني والبيهقي في سننهما، وقال ابن عبد البر في التمهيد (1/181-182): وحسبك بحديث عمر في ذلك.. إلى أن قال: وهذا في جماعتهم من غير نكير. وقال المجد في المنتقى (ص230): وصح عن عمر أنه... فذكر أثر عمر.
3- رواه الدارقطني والبيهقي في السنن. وقال المجد بعد أن ذكر أنه قد صح عن عمر صلاته بالناس وهو جنب ولم يأمرهم أن يعيدوا.. وكذلك عثمان. (المنتقى 2/45).
4- رواه ابن أبي شيبة (2/45).
5- رواه ابن أبي شيبة والدارقطني.
6- رواه عبد الرزاق في مسنده (2/350) وابن أبي شيبة(2/44) والبيهقي في السنن والدارقطني في السنن. وقال الدارقطني بعد أن ذكره: هذا مرسل، وأبو جابر البياضي –أحد الرواة- متروك الحديث. وضعفه النووي في المجموع وذكر أقوال أهل العلم في جابر البياضي. انظر المجموع (4/141).
7- رواه الدارقطني في سننه (1/364) وقال: عمرو بن خالد هو أبو خالد الواسطي، وهو متروك الحديث، رماه أحمد بن حنبل بالكذب.(171/1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
ـ أما بعد ـ
إخوتاه
من أشراط الساعة ظهور الربا وفشوها .
فعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بين يدي الساعة يظهر الربا والزنى والخمر ". [ قال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح ]
والأمر لا يتوقف عند هذا الحد فحسب ، بل إن الذي لا يتعامل بها لابد أن يجد شيئا من غبارها .
ففي مستدرك الحاكم وسنن أبي داود وابن ماجه والنسائي وغيرهم عن الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليأتين على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا فإن لم يأكله أصابه من غباره "
[ قال الحاكم : وقد اختلف أئمتنا في سماع الحسن عن أبي هريرة فإن صح سماعه منه فهذا حديث صحيح ] .
وقبل أن نخوض في هذه البلية الخطيرة ، نذكر أولا بأمور :
أولا : إن الله غيور ، يغار أن تنتهك محارمه ، فاتق غيرة الله .
ثانيا : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، فقد جعل الله للناس سعة من أمرهم ، فلم يكلفهم بما لا يطيقون ، حتى لا يظن من انغمس في هذه المصيبة أن ترك الربا شيء لا يمكن حدوثه في العصر الحديث ، ثم بعد ذلك يحاول أن يجعله من الضرورات التي لا يمكن الاستغناء عنها .
ثالثا : إن الله قد هدانا وأرشدنا إلى سبيل الحق ، ثم الناس بعد ذلك إما شاكرا وإما جاحدا ، " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " ، " فالحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات ومن اتق الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " فيجب على المؤمن تحري الحلال وترك الحرام ، وحري به أن يتورع عما اختلف فيه من المشتبهات حفظا لدينه وعرضه .
رابعا : أساس شريعة الله قائم على تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم ، ولا يمكن بحال أن يجعل الله العز والمنعة والتقدم والحضارة لقوم بمعصيته جل وعلا، فما عند الله لا ينال إلا بطاعته .
خامسا : أن سبيل النجاة واضح جلي لمن أراد الله والدار الآخرة ، ولا يظنن ظان أن في اتباعه لسبيل الله جل وعلا العنت والمشقة ، فالله رفع عن الناس الحرج ، وقد أرشدهم لنجاتهم بأن يحصنوا أنفسهم ويبتعدوا عن المهالك ومواطن الشبهات ، ويتحصنوا بسترة من الحلال تكفيهم مغبة الوقوع في الحرام .
• عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال " [ صححه الشيخ الألباني ]
سادسا : المعصوم من عصمه الله ، ومن وجد الله كافيه مثل هذه البلايا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، ألا ترى هذه الصيحات التي تعلو بين حين وآخر طالبة النجاة من وحل هذه البلية ، لكن هيهات بعد أن تستحكم الأمور وتبدو الأمور على صورتها الحقيقية ، ويتبين للناس أن شرع الله هو الحق وأن ما دونه هو الباطل ولابد ، ولكن الناس لا يوقنون .
لأجل ذلك ينبغي أن نعلم أن طلب الحلال أمر لازم وفريضة من أعظم الفرائض، وأن ذلك هو الحصن الحقيقي من شرور هذه البلايا والفتن .
تحري الحلال
قال الله تعالى " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم" .
قال القرطبي : سوى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام ، ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى: "إني بما تعملون عليم" صلى الله على رسله وأنبيائه. وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم .
وقد حثنا الشرع الحنيف إلى طلب الحلال وترك الحرام
• عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " طلب الحلال واجب على كل مسلم " [ قال الهيثمي في المجمع : رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن ]
فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين يزرق من يشاء بغير حساب وهو أعلم بالشاكرين
• أخرج الحاكم في المستدرك وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع " لا تستبطئوا الرزق، فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغه آخر رزق هو له، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب: أخذ الحلال، وترك الحرام "
وفي تحري الحلال وترك الحرام فوائد عظام :
1. أكل الحلال صلاح للقلوب ، وأكل الحرام من أخطر مهلكات القلوب ومبددات الإيمان .
أما ترى رسول الله حين قال " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات …….. عقب ذلك بقوله " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "
قال المناوي : فهو ملك والأعضاء رعيته ، وهي تصلح بصلاح الملك ، وتفسد بفساده وأوقع هذا عقب قوله " الحلال بين " إشعاراً بأن أكل الحلال ينوره ويصلحه والشُّبه تقسيه .(172/1)
2. أكل الحلال نجاة من الهلاك .
ومن وقع في الحرام فهو داخل في قوله تعالى : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " إذ هو في مظنة الهلكة إلا أن يتغمده الله برحمته فيتوب عليه .
قال سهل بن عبد الله : النجاة في ثلاثة : أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي صلى اللّه عليه وسلم .
وقال : ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم ، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال : الربا والحرام والسحت والغلول والمكروه والشبهة .
3. ومن أكل الحرام حرم لذة الإيمان فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا
قيل : من أكل الحلال أربعين يوما نور الله قلبه وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه .
قال بعضهم : من غض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشهوات ، وعمر باطنه بالمراقبة وتعود أكل الحلال لم تخطئ فراسته .
4. ما نبت من حرام فالنار أولى به
عن كعب بن عجرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي ، فمن غَشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ، ولا يرد علي الحوض ، ومن غشي أبوابهم أو لم يغش فلم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض .
يا كعب بن عجرة : الصلاة برهان ، والصوم جنة حصينة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
يا كعب بن عجرة : إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به .
[ قال الترمذي :حديث حسن غريب وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي (501) ]
فشو الحرام
إذا علمت هذا فاعلم أن النبي أخبرنا أن الحرام سيطغى في آخر الزمان ، حتى لا يتبين الناس ولا يستوثقون من حل وحرمة أموالهم .
ففي البخاري ومسند الإمام أحمد قال صلى الله عليه وسلم " ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال ، أمن حلال أم من حرام " .
وفي لفظ عند النسائي " يأتي الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام " .
أما ترى أن هذا هو زماننا ورب العزة ، أما ترى تكالب الناس من أجل تحصيل مغريات الدنيا التي تتفتح عليها أعينهم ليل نهار ، فلا يبالون بشيء سوى جمع المال من أي وجه ، حلال أو حرام لا يهم ، المهم هو جمع المال للحصول على المحمول والدش والسيارات الفارهة وقضاء الأوقات في ديار الفجور والعربدة و…….و…….و,,,,, الخ
من أجل ذلك تعقدت الأمور ، وصار الناس في حيرة من أمرهم ، فما يمر يوم إلا وتجد من يسألك عن هذا الذي يبيع الدخان أو الخمور أو يعمل في شركة سياحة أو يعمل في بنك ربوي أو يتعامل بالربا ، أو الذي بنى ثروته من البداية بتجارة المخدرات ويريد أن يتوب ولا يعلم ماذا يصنع في ماله ، وذاك الذي يعمل كوافيرا أو يبيع ملابس النساء العارية التي يعلم أن التي ستلبسها ستفتن بها شباب المسلمين في الشوارع ، وهذا الذي يعمل في السينمات والمسارح والكباريهات و … و … الخ رب سلم سلم
ومن المؤسف والمخجل أنك تستمع للأولاد وهم لا يدرون كيف يأكلون من مال أبيهم وهم يعلمون أنه حرام ، وتجدك في كل مرة تبحث لهؤلاء عن مخرج وقد ضيق الناس على أنفسهم سبل الخير والحلال ، ومن هنا شاعت الفتاوى عن المال المختلط وأحكامه وغيرها مما هو على هذه الشاكلة .
أما كان السبيل رحبا واسعا فضيقتموه باتباع الهوى واللهث وراء المال من غير وجه حله ، " أما يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين "
أنواع من البيوع الفاسدة
ولعلنا هنا مضطرون أن نتكلم سريعا عن بعض المعاملات المالية الفاسدة التي شاعت بين الناس ، ولا ينتبه إليها أحد . لكن على وجه الإجمال دون التوسع والإلمام بطرف ليناسب ما نحن بصدده .
فمن ذلك :
1) ما يسمى شرعا ببيع النجش .
وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليخدع غيره ، ويجره إلى الزيادة في السعر .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لا تناجشوا " إذ هذا نوع من الخداع ولا شك ، وقد قال صلى الله عليه وسلم " المكر والخديعة في النار " وأنت تجد هذه الصورة متكررة في المزادات ، ومعارض بيع السيارات ، وبعض المحال التجارية وهذا كسب خبيث لو يعلمون .
2) ما يسمى ببيع الغرر
ومثاله أن يبيع المجهول كاللبن في الضرع ، والسمك في البحر ، والمحصول قبل جنيه ، أو ما يسمى ببيع الثُنَيَّا كأن يقول لك : خذ هذا البستان إلا بعض الزرع من غير تحديد فهذا المستثنى مجهول ، أما إذا كان معروفا فلا حرج .
3) بيع المحرم والنجس
ومثال ذلك : بيع الخمور والمخدرات ، وبيع أشرطة الأغاني ، بيع المجلات الفاسدة المروجة للأفكار الخبيثة والصور الخليعة والعارية(172/2)
ويدخل في ذلك ـ مثلا ـ من يبيع السلاح في وقت الفتنة ، أو من يبيع العنب لمن يستخدمه في صناعة الخمور ، وهكذا خذها قاعدة هنا كل ما أدى إلى حرام فهو حرام ، وقد قال الله تعالى " وتعاونوا إلى البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وقال العلماء : الوسائل تأخذ حكم المقاصد فتنبه ، لأن المقولة الشائعة الآن أن يقال لك : ما لي أنا ، أنا أعطيتها الفستان ولا أدري هل ستستخدمه في الحلال لزوجها أو تتكشف به في الشوارع ، والمرأة أمامه متبرجة وهو يدري تماما أن ما هذا إلا لمعصية الله " بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره " أو هذا الذي في البنك يقول : وأنا مالي أ أنا الذي تعاملت بالربا ، أنا فقط مضطر لأن أعمل في البنك لأطلب الرزق .
والكل يتنصل من المعصية ، وكأنه لا دور له في إيقاعها فلو تعاون الناس على فعل الخيرات وترك المنكرات لما وصل الحال إلى ما نحن فيه الآن ، فالكل مشترك في المعصية فليتأمل مثل ذلك .
4) بيع المسلم على بيع أخيه ، أو سومه على سوم أخيه
مثاله : أن يذهب الرجل للبائع فيقول له : رد هذه المال على صاحبه وأنا سأشتري منك هذه السلعة بأزيد من سعرها ، أو العكس يذهب للمشتري ويقول له بكم اشتريتها ؟ فيقول له : بكذا ، فيقول له : ردها عليه وأنا أعطيك إياها بأقل من ثمنها .
أو يزايد ويساوم أخاه في سلعة لم توضع للمزايدة والمساومة بعد .
وأظن أن هذه الصورة منتشرة بشكل واسع وقد قال صلى الله عليه وسلم " لا يبع الرجل على بيع أخيه " [ متفق عليه] [1]
5) بيع العربون
وهو أن يدفع المشتري من ثمن السلعة التي يريدها جزءا على ألا يرد عند الفسخ . بمعنى أنك تذهب للبائع وتعطيه جزءا من المال فإن كان من ثمن السلعة فلك أحقية رده عند الفسخ وهذه الصورة لا شيء فيها ، وإنما الصورة الممنوعة أن يكون هذا العربون غير قابل للرد .
5) بيع العينة
مثل أن يبيع سلعة بأجل ، ثم يقوم هو بشرائها نقدا أو أحد عماله احتيالا ليأخذها بأقل من ثمنها .
صورتها : أن تبيع ثلاجة مثلا بألف جنيه تدفع بعد سنة ، فتذهب أنت أو أحد أعوانك المهم تعود لتشتري نفس الثلاجة بأقل من ثمنها نقدا وفي الحال فتشتريها بـ 800 جنيه مثلا . فهذه الصورة حرام لا تجوز .
6) البيع عند النداء الأخير لصلاة الجمعة
هذا البيع حرام وهو منتشر للأسف لا سيما في الأسواق ، وقد قال الله تعالى " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون " .
7) بيع السلعة قبل قبضها
مثاله : إذا اشترى إنسان سلعة من مخزن أو دكان مثلا وجاء صاحب المخزن أو الدكان وبين له السلعة بعينها واتفقا ، فلا يجوز للمشتري أن يبيعها في محلها بمجرد هذا البيان والاتفاق ، ولا يعتبر ذلك تسلما ، بل لابد لجواز بيع المشتري لها من حوزه للسلعة إلى محل آخر
روى الإمام أحمد عن حكيم بن حزام أنه قال : قلت : يا رسول الله إني أشتري بيوعا ما يحل لي منها وما يحرم علي .
قال : إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه .
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم .
ولما رواه أحمد ومسلم عن جابر رضي الله عنه أنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه " .
وفي رواية لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يكتاله .
من المعاملات المالية المحرمة المنتشرة أيضاً :
8) التأمين
وقد صدرت الفتاوى الشرعية من المجامع الفقهية المختلفة لتؤكد عدم جواز التأمين التجاري بكل صوره ، لأنها عقوده مشتملة على الضرر والجهالة والربا والمقامرة وما كان كذلك فهو حرام بلا شك .
ومن ذلك شهادات الاستثمار وصناديق التوفير وفوائد القروض الربوية والتي سيأتي الحديث عنها في موضوع الربا .
وهاكم بيان لحقيقة الربا وخطورتها ، وما توعد الله به من يقع في مثل هذه المعاملات .
الربا من أخطر البلايا التي تهدد المجتمع المسلم(172/3)
قال الله تعالى " الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {275} يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ {276} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {277} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {278} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ {279} وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {280} وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ {281}
ما الربا ؟
الربا في اللغة : الزيادة مطلقا .
قال القرطبي : ثم إن الشرع قد تصرف في هذا الإطلاق فقصره على بعض موارده .
فمرة : أطلقه على كسب الحرام .كما قال الله تعالى في اليهود : "وأخذهم الربا وقد نهوا عنه" [النساء: 161]. ولم يرد به الربا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا وإنما أراد المال الحرام ، كما قال تعالى: "سماعون للكذب أكالون للسحت" [المائدة: 42] يعني به المال الحرام من الرشا، وما استحلوه من أموال الأميين حيث قالوا : " ليس علينا في الأميين سبيل " [آل عمران: 75]. وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأي وجه اكتسب.
والربا الذي عليه عرف الشرع : الزيادة في أشياء مخصوصة ( يعنون بذلك الأموال الربوية كما سيأتي) .
أنواع الربا
1) ربا الفضل :
وهو البيع مع زيادة أحد العوضين المتفقي الجنس على الآخر .
• فالأصل أن الشيئين ( العوضين) إذا كانا من جنس واحد واتفقا في العلة [ كانا موزونين أو مكيلين ] لابد لذلك من شرطين :
أ ) التساوي وعلم المتعاقدين يقينا بذلك .
ب ) التقابض قبل التفرق .
• وإذا كانا مختلفين في الجنس ومتحدين في العلة كبيع قمح بشعير مثلا فلا يشترط إلا التقابض وتجوز المفاضلة .
• أما إذا اختلفا في الجنس والعلة كأن تبيع قمحا بذهب أو فضة فلا يشترط فيه شيء من ذلك .
عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب. والفضة بالفضة. والبر بالبر. والشعير بالشعير. والتمر بالتمر. والملح بالملح. مثلا بمثل. سواء بسواء. يدا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد ". [ أخرجه مسلم (1587) ك المساقاة ، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا ]
2) أما ربا النسيئة : فهو زيادة الدين في نظير الأجل ، وهو ربا الجاهلية الذي كانوا يتعاملون به ، فكان الرجل إذا أقرض آخر على أجل محدد ، فإذا جاء الأجل ولم يستطع الأداء قال له : تدفع أو ترابي فيزيده في نظير زيادة الأجل.
خطورة الربا
1) أكل الربا يعرض صاحبه لحرب الله ورسوله ، فيصير عدوا لله وسوله
قال الله تعالى " فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون " .
قيل المعنى :إن لم تنتهوا فأنتم حرب لله ولرسوله ، أي أعداء.
فهي الحرب بكل صورها النفسية والجسدية ، وما الناس فيه الآن من قلق واكتئاب وغم وحزن إلا من نتاج هذه الحرب المعلنة لكل من خالف أمر الله وأكل بالربا أو ساعد عليها ، فليعد سلاحه إن استطاع ، وليعلم أن عقاب الله آت لا محالة إن آجلا أو عاجلا ، وما عهدك بمن جعله الله عدوا له وأعلن الحرب عليه رب سلم سلم .
2) آكل الربا وكل من أعان عليه ملعون .
قال صلى الله عليه وسلم " آكل الربا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهداه ، إذا لمسوا ذلك ، والواشمة، والموشومة للحسن ، ولاوي الصدقة ، والمرتد أعرابيا بعد الهجرة، ملعونون على لسان محمد يوم القيامة "[2] واللعن هو الطرد من رحمة الله تعالى .
3) أكل الربا من الموبقات
قال الله تعالى : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس "(172/4)
قال ابن عباس في قوله : " الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش " قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله عز وجل ، قال الله عز وجل " ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة " ثم قال : وأكل الربا لأن الله عز وجل يقول " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " [ قال الهيثمي في المجمع : رواه الطبرانى وإسناده حسن ] .
وحقيقة الكبيرة أنها كل ذنب ورد فيه وعيد شديد ، وقد جاء مصرحا بهذا في الصحيحين وغيرهما فعد رسول الله أكل الربا من السبع الموبقات . قال صلى الله عليه وسلم " اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله ، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " [3]
4) عقوبة آكل الربا أنه يسبح في نهر دم ويلقم في فيه بالحجارة
وعن سمرة بن جندب قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال من رأى منكم الليلة رؤيا قال فإن رأى أحد قصها فيقول ما شاء الله فسألنا يوما فقال هل رأى أحد منكم رؤيا قلنا لا قال لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة وفي سياق القصة قال ـ صلى الله عليه الصلاة والسلام ـ : " فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم على وسط النهر وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان ثم فسر له هؤلاء بأنهم آكلوا الربا " . [ رواه البخاري ] .
5) ظهور الربا سبب لإهلاك القرى ونزول مقت الله
قال صلى الله عليه وسلم " إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله " [ أخرجه الطبراني في الكبير الحاكم في المستدرك عن ابن عباس ، صححه الألباني في صحيح الجامع [679] ] .
6) مآل الربا إلى قلة وخسران .
عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة " [ رواه ابن ماجه والإمام أحمد وصححه الشيخ الألباني ] .
7) أكل الربا من أسباب المسخ .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن غنم وأبي أمامة وابن عباس " والذي نفس محمد بيده ليبيتن ناس من أمتي على أشر وبطر ولعب ولهو فيصبحوا قردة وخنازير باستحلالهم المحارم والقينات وشربهم الخمر وأكلهم الربا ولبسهم الحرير" [ رواه عبد الله بن الإمام أحمد في المسند وكذا ابن أبي الدنيا كما ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفان ]
الربا شقيقة الشرك .
" الربا سبعون بابا، والشرك مثل ذلك " وفي رواية لابن ماجه " الربا ثلاثة وسبعون بابا " [ أخرجه البزار عن ابن مسعود وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (3538) ، (3540) ]
8) الربا أشد من ستة وثلاثين زنية
• قال صلى الله عليه وسلم " درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم ، أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية " [أخرجه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير عن عبد الله بن حنظلة وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (3375) ]
• وفي لفظ عند البيهقي من حديث ابن عباس " درهم ربا أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية ومن نبت لحمه من سحت فالنار أولى به " .
• وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أنس قال: " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الربا وعظم شأنه، فقال: إن الرجل يصيب درهما من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " .
9) أدنى الربا ذنبا كمثل من زنا بأمه .
عن ابن مسعود قال : قال صلى الله عليه وسلم : " الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم "
[أخرجه الحاكم في المستدرك وصحح الحافظ العراقي في تخريج الإحياء إسناده وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (3539) ]
وعن البراء بن عازب مرفوعا " الربا اثنان وسبعون بابا ، أدناها مثل إتيان الرجل أمه ، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه "
[ أخرجه الطبراني في الأوسط وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع “3537” ]
قال الطيبي : المراد إثم الربا ، ولا بد من هذا التقدير ليطابق قوله أن ينكح " ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " .
قال الطيبي : إنما كان الربا أشد من الزنا لأن فاعله حاول محاربة الشارع بفعله بعقله قال تعالى " فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله " أي بحرب عظيم فتحريمه محض تعبد وأما قبيح الزنا فظاهر عقلاً وشرعاً وله روادع وزواجر سوى الشرع فآكل الربا يهتك حرمة اللّه ، والزاني يخرق جلباب الحياء .
بيان حكم الشرع في بعض المعاملات الشائعة
أولا : الفوائد المصرفية
صدرت الفتاوى المتتابعة من علماء العصر والصادرة عن المجامع الفقهية بحرمة أخذ فوائد البنوك .(172/5)
1) فمن ذلك فتوى الشيخ بكري الصدفي مفتي الديار المصرية (سنة 1325هـ 1907م ) عن دار الافتاء المصرية .
2) وكذا الشيخ عبد المجيد سليم (سنة 1348هـ 1930م ) بتحريم استثمار المال المودع بفائدة البتة ، والفتوى الصادرة عنه (سنة 1362هـ 1943م ) بأن أخذ الفوائد عن الأموال المودعة حرام ولا يجوز التصدق بها ، ( وسنة 1364هـ 1945م ) بأنه يحرم استثمار المال المودع في البنك بفائدة ، وأن في الطرق الشرعية لاستثمار المال متسع للاستثمار .
3) وأصدر الشيخ الدكتور / عبد الله دراز بحثه (سنة 1951م) بأن الإسلام لم يفرق بين الربا الفاحش وغيره في التحريم . [ محاضرة ألقاها في مؤتمر القانون الإسلامي بباريس وهي مطبوعة باسم الربا في نظر القانون الإسلامي ]
4) كما أفتى الشيخ / محمد أبو زهرة (1390هـ 1970) بأن الربا زيادة الدين في نظير الأجل وأن ربا المصارف هو ربا القرآن وهو حرام ولا شك فيه ، وأن تحريم الربا يشمل الاستثماري والاستهلاكي في رد دامغ للذين يرددون أن الضرورة تلجئ إلى الربا [ بحوث في الربا ، ط دار البحوث العلمية 1970م ].
5) وأفتى الشيخ / جاد الحق علي جاد الحق مفتي الديار المصرية (سنة 1399هـ 1976م ) بأن سندات التنمية وأذون الخزانة ذات العائد الثابت تعتبر من المعاملات الربوية المحرمة ، وأن إيداع المال بالبنوك بفائدة ربا محرم سواء كانت هذه المصارف تابعة للحكومة أو لغيرها .
6) كما صدر عن المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي بالكويت (سنة 1403هـ 1983 م ) بحضور كوكبة من أبرز العلماء والاقتصاديين بيانا بأن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين هو من الربا المحرم .
7) ناهيك عن الفتاوى الصادرة عن المجمع الفقهي بمكة المكرمة ، واللجنة الدائمة للإفتاء والإرشاد بالمملكة العربية السعودية .
ثانيا: شهادات الاستثمار وصناديق التوفير
صدرت عن مفتي الديار المصرية فضيلة الشيخ / جاد الحق علي جاد الحق (سنة 1400هـ 1979 م ) الفتوى بأن فوائد شهادات الاستثمار وشهادات التوفير من الربا المحرم ، وأنها لا تعد من قبيل المكافأة أو الوعد بجائزة .
و(سنة 1401هـ 1981م) بأن شهادات الاستثمار (أ ، ب ) ذات الفائدة المحددة المشروطة مقدما زمنا ومقدارا داخلة في ربا الزيادة المحرم .
و(سنة 1980 م) بأن الفائدة المحددة على المبالغ المدخرة بصناديق التوفير بواقع كذا في المائة ، فهي محرمة لأنها من باب الربا (الزيادة المحرمة شرعا ) .
ومن أراد أن يتثبت من هذا كله فليراجع فتاوى دار الإفتاء المصرية كل في سنته وتاريخه .
------------------
[1] أخرجه البخارى (5142) ك النكاح ، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع ، ومسلم (1412) ك البيوع ، باب تحريم بيع الرجل على بيع الرجل وسومه على سوم أخيه – واللفظ له -
[2] أخرجه النسائي عن ابن مسعود ، و صححه السيوطي والألباني “صحيح الجامع [5] “ ، “ تخريج الترغيب 3/49 “ }
[3] متفق عليه أبو داود النسائي عن أبي هريرة ، وهو في صحيح الجامع [144] ، “ الإرواء/ 1202 ، 1335 ، 2365 “ }
وكتبه
محمد بن حسين يعقوب(172/6)
إنه دعوة للخلود
محمد بن شاكر الشريف
هناك من الأمور ما يُنظر إليها من عدة أوجه بعضها أظهر من بعض، ويلمس كثير من الناس المعنى الأكثر ظهوراً بحكم الاستعمال أو القرب، في حين أن المعنى الأقل ظهوراً قد يكون هو المعنى الأشد لصوقاً وتأثيراً وقوة؛ فعندما يتأمله الناس حق التأمل أو حينما يشرحه شارح أو يفسره مفسر يتعجبون كيف خفي عليهم ذلك، ولم يدركوه مع أن النصوص قد تناولته وبينته.
ينطبق هذا الأمر بشدة على لفظ (الجهاد) في سبيل الله تعالى؛ فكثير من الناس، بل أكثرهم في عصرنا الحاضر ما إن يطْرُق سمعهم هذا اللفظ حتى يستدعي في ذهنه وخياله، صورة نمطية ترسخت في وجدانه؛ حيث يطِنُّ في أذنيه هدير المدافع وأزيز الطائرات وفرقعات القنابل، ويرتسم أمام ناظريه ميدان المعركة بلونه الأحمر القاني؛ حيث تتطاير الرؤوس وتتقطع الأعضاء وتسيل الدماء، وتُدَكُّ الحصون وتُخرَّب الدور العامرة، فيقتَل الرجال وتترمل النساء ويتيتم الأطفال، وتفسد الزروع والثمار.
وإذا كان هذا حظ المفسدين المضلِّلين من أعداء الإسلام، ومن تبعهم من الضالين من أبناء جلدتنا، الذين لا يرون في (الجهاد) إلا هذه الصورة دون غيرها مع قطعها عن كل ما يلامسها؛ فإن المؤمنين الصادقين يعلمون أن (الجهاد في سبيل الله) فريضة دينية لتكون كلمة الله هي العليا في واقع الحياة ودنيا الناس، كما هي العليا في حقيقتها وإن كفر بها الناس.
والقتال باستخدام آلاته المعروفة، وإن كان أعلى مراتب الجهاد، إلا أن الجهاد لا ينحصر في القتال، بل هو أعم من ذلك وأوسع بكثير؛ فالقتال ما هو إلا صورة متقدمة من صور الجهاد، والجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ في معناه الأعم الأشمل هو المبالغة في استفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل في سبيل الله تعالى. قال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: (حَقِيقَتُهُ الاجْتِهَادُ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِن الإيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَمِنْ دَفْعِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ)(1)، وقال الكاساني: (الجهاد في اللغة: (عبارة عن بذل الجُهد ـ بالضم ـ وهو الوسع والطاقة، أو عن المبالغة في العمل من الجَهد ـ بالفتح ـ وفي عُرف الشرع يستعمل في بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله ـ عزـ وجل ـ بالنفس والمال واللسان، أو غير ذلك، أو المبالغة في ذلك)(1) فالجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ أنواع، وله وسائل متعددةٌ القتالُ أحدها، وليس الوسيلة الوحيدة.
فالجهاد منه: جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، وجهاد باللسان، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم»(2)، والأدلة على تنوع كيفيات الجهاد ووسائله كثيرة جداً. وقد فرض الله ـ تعالى ـ الجهاد على المسلمين وجعله فرضاً دائماً عليهم إلى قيام الساعة، وأكده بأنواع متعددة من التأكيدات، حتى غدا الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ من أكثر الفرائض الدينية والتكليفات الشرعية التي استفاضت في ذكرها نصوص الشريعة من الكتاب والسنة، وبينت فرضها وفضلها؛ فالجهاد مطلوب على جميع مستوياته، ومطلوب من المسلمين المكلفين جميعهم، لا يُعفى من ذلك أحد، ومن لم يقدر على نوع فإنه يقدر على نوع آخر، ولا يُعْذر أحد في ترك الجهاد بالكلية. قال الله ـ تعالى ـ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 91]، فمن كان ضعيفاً أو مريضاً لا يقدر على الجهاد بنفسه، أو كان لا يجد نفقة يخرج بها للجهاد؛ فإن هؤلاء لا حرج عليهم في عدم الخروج، ولكنَّ نفي الحرج مقيد بشرط وهو قوله ـ تعالى ـ: {إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}، والنصح: إخلاص العمل من الغش.(173/1)
وتكون النصيحة بأمور منها: تعلُّق قلوبهم بالجهاد، والدعوة للمجاهدين بالنصر والتأييد، ومنها خلافة المجاهدين في أهليهم بخير، ومنها عدم الإرجاف بالناس أو التثبيط لهم، وقد تضافرت أقوال أهل العلم على ذلك، فقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «{إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}: إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه، وأبغضوا أعداءه»(3)، وقال الآلوسي: «{إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}: بأن أرشدوا الخلق إلى الحق»(4)، وقال أبو حيان: «وشرط في انتفاء الحَرَج النصح لله ورسوله، وهو أن تكون نياتهم وأقوالهم سراً وجهراً خالصة لله من الغش، ساعية في إيصال الخير للمؤمنين، داعية لهم بالنصر والتمكين»(5)، وقال الشوكاني: «ويدخل تحت النصح لله دخولاً أولياً: محبة المجاهدين في سبيله، وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد، وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه»(6)، وقال الرازي: «إنه ـ تعالى ـ شرط في جواز هذا التأخير شرطاً معيناً، وهو قوله: {إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}، ومعناه أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إلقاء الأراجيف، وعن إثارة الفتن، وسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا، إما بأن يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم، وإما بأن يسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم؛ فإن جملة هذه الأمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد»(7). فمع قيام الأعذار المانعة للخروج إلى الجهاد، فإن الله ـ تعالى ـ لم يضع عنهم الحَرَج إلا بقيد النصح لله ورسوله.
وقد بلغ من فضل الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً له: «دلني على عمل يعدل الجهاد!» فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «لا أجده» فكأن الصحابي من كثرة ما سمع عن منزلة الجهاد وفضله، وربما لم تكن لديه القدرة على الجهاد فأراد ـ حباً في الخير ـ أن يعوِّض عن هذا النقص بعمل مكافئ للجهاد، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، بيَّن له أنه لا يجد عملاً يكافئ الجهاد، ثم قال له وكأنه يبين له ما يمكن أن يكافئ الجهاد: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تَفْتُر، وتصوم ولا تُفطِر؟» فقال الرجل: «ومن يستطيع ذلك؟»(8). وفي رواية قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، وقال في الثالثة: مَثَل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى»(9) قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وفي هذا الحديث عظيم فضل الجهاد؛ لأن الصلاة والصيام والقيام بآيات الله أفضل الأعمال، وقد جعل المجاهد مثل من لا يفتر عن ذلك في لحظة من اللحظات؛ ومعلوم أن هذا لا يتأتى لأحد، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: لا تستطيعونه. والله أعلم»(10).
وقد يعجب الإنسان من هذا الفضل العميم والثواب العظيم، فيحدوه ذلك إلى البحث عن السبب الذي لأجله وقع الجهاد من الدين هذا الموقع العظيم، وقد أجاب عن هذا التساؤل ابن دقيق العيد باختصار فقال: «الْقِيَاس يَقْتَضِي أَنْ يَكُون الجِهَاد أَفْضَل الأعْمَال الَّتِي هِيَ وَسَائِل، لِأَنَّ الجِهاد وَسِيلَة إِلَى إعْلان الدِّين وَنَشْره، وَإِخْمَاد الْكُفْر وَدَحْضه، وَفَضِيلَته بِحَسْب فَضِيلَة ذَلِكَ، وَاَللَّه أَعْلَم»(11)، ومعرفة سبب تفضيل الجهاد، أو الحكمة من تفضيله أمر ذو فائدة كبيرة، حيث تجعل المسلم في جهاده عاملاً على تحقيق ذلك، ولا يكون مجرد عمل آلي.
وسوف نحاول بإذن الله ـ تعالى ـ أن نفصل ما اختصره ابن دقيق ـ رحمه الله تعالى ـ في الكلمات التالية:(173/2)
1 ـ الجهاد دعوة للحياة وليس للموت: فهو دعوة للحياة الحقيقية التي يعبد الإنسان فيها ربه خالقه ورازقه، لا يشرك به شيئاً، حياة حقيقية يشعر فيها بالكرامة التي أكرمه الله بها، والمنزلة التي رفعه إليها، فيقوم بنشر الفضائل وإقامة العدل وعمارة الأرض، لا الحياة الحيوانية الشهوانية التي لا يكون للإنسان فيها من همٍّ سوى إشباع متطلبات بطنه وفرجه، ثم لا يلوي على شيء بعد ذلك. قال الله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12]. وقد بين القرآن الكريم أن الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ هي دعوة إلى الحياة الحقيقية ذات القمة السامقة التي لا تدانيها حياة، فقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]؛ فهذا نداء من الله العلي الكبير للمؤمنين أن يستجيبوا لدعوة الله ورسوله لهم لما يحييهم. قال عروة بن الزبير: «أي للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقوّاكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم»(1)، وقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «إلى ما يحييكم، أي يحيي دينكم ويعلمكم، وقيل: أي إلى ما يحيي به قلوبكم فتوحدونه، وهذا إحياء مستعار؛ لأنه من موت الكفر والجهل. وقال مجاهد والجمهور: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهٍ؛ ففيه الحياة الأبدية، والنعمة السرمدية، وقيل: المراد بقوله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} الجهاد؛ فإنه سبب الحياة في الظاهر؛ لأن العدو إذا لم يُغْزَ غزا، وفي غزوه الموت، والموتُ في الجهادِ الحياةُ الأبدية. قال الله ـ عز وجل ـ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] والصحيح العموم كما قال الجمهور»(2).
وعلى كِلا القولين؛ فالآية دالة على أن الدعوة للجهاد دعوة للحياة؛ فإن كان الصواب قول من قال: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} الجهاد، كان هو المطلوب، وإن كان الصواب القول بالعموم، فإن الجهاد هو أحد أفراد العموم، ولذلك قال ابن جرير ـ رحمه الله تعالى ـ: «استجيبوا لله وللرسول بالطاعة، إذا دعاكم الرسول لما يحييكم من الحق؛ وذلك أن ذلك إذا كان معناه، كان داخلاً فيه الأمر بإجابتهم لقتال العدو والجهاد، والإجابة إذا دعاكم إلى حكم القرآن، وفي الإجابة إلى كل ذلك حياة المجيب، أما في الدنيا؛ فبقاء الذكر الجميل، وذلك له فيه حياة، وأما في الآخرة، فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها»(3).
والجهاد دعوة للحياة؛ إذ يخرج به كثير من الناس من دائرة الأموات إلى دائرة الأحياء؛ فالكافر ميت وإن لم يكن في جوف الأرض مع أنه يدب عليها ويأكل من خيراتها. قال الله ـ تعالى ـ: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]؛ فبالجهاد يهتدي كثير من الناس ويدخلون في دين الله تعالى. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «عَجِبَ الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل»(4)؛ فهؤلاء قوم من الكفار وقعوا في الأسر بين أيدي المسلمين فهداهم الله ـ تعالى ـ للإسلام.
والجهاد دعوة لحياة طائفتين: المجاهِدين، والمجاهَدين. فأما المجاهَد فإنه إذا قَبِلَ دعوة الله واستجاب لها نفعه الله ـ تعالى ـ بها، وكان ذلك حياة له وإحياء لنفسه.
وأما المجاهِد فإن جهاده حياة له في كِلا الحالين: النصر على الأعداء، أو الشهادة في سبيل الله. وحياته بالجهاد في الدنيا بعد النصر أعظم من حياته قبل الجهاد وأكمل، وأما إن قُتِلَ المجاهد في سبيل الله ـ تعالى ـ فهو حي أيضاً، حتى وإن كان تحت التراب أو في بطون السباع. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، وقد أكد القرآن حياتهم بقوله: يرزقون؛ لأن الرزق للأحياء دون الأموات، لكن لما كانت حياة الشهداء في سبيل الله غير مدرَكة بالحواس؛ فقد يظن بعض الناس أنهم موتى كغيرهم، وقد جاء النهي من الله ـ تعالى ـ بقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154] فهم أحياء لكننا لا نشعر بحواسنا بحياتهم، وإنما نعلم ذلك بإخبار الله لنا.(173/3)
والجهاد ليس دعوة لحياة الأفراد فحسب، بل دعوة لحياة المجتمعات والأمم؛ لأنه باهتدائها تمتنع أسباب انهيارها وهلاكها وزوالها؛ فعن زينب بنت جحش ـ رضي الله تعالى عنها ـ زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فَزِعاً يقول: «لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شر قد اقترب! فُتِحَ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه. وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها. قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم! إذا كثر الخَبَث»(5)، فكثرة الخبث مُؤْذِنة بهلاك المجتمعات ودمارها حتى وإن كان فيها صالحون، وإنما يقلُّ الخبث في المجتمعات وينقص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو أحد صور الجهاد.
والجهاد دعوة للحياة في كِلا نوعي الجهاد: جهاد الطلب، وجهاد الدَّفْع. فجهاد الطلب يُنقِذ الكفار من كفرهم، ويهديهم ـ بإذن ربهم ـ إلى الحياة الحقيقية، وجهاد الدفع ينقذ المسلمين من كفر الكافرين؛ فالكفار إذا غزوا المسلمين في ديارهم فإما أن يقتلوهم وإما أن يردُّوهم عن دينهم، وكِلا الأمرين موت، وقد تناهى إلى أسماعنا ما حدث من مقتل أكثر من مائة ألف من العراقيين عندما غزت أمريكا وبريطانيا ديارهم. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] فالدعوة إلى جهادهم في كِلا الحالين: الطلب والدفع، دعوة للحياة.
وفي الجهاد دعوة للحياة وإطالة عمر الدنيا؛ فبدوام الجهاد تظل الطائفة المنصورة باقية، ووجود المؤمنين أمان من هلاك الدنيا ودمارها؛ فإذا تغلب الكفار على العالم وطبَّق الكفر الأرض كلها؛ فقد حان قيام القيامة ودنت الساعة؛ فبقاء الدنيا رهين بوجود من يعبد الله، حتى إذا لم يوجد من يعبد الله ـ تعالى ـ ويقول: «الله الله» قامت القيامة. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله»(1)، وكون الجهاد مع ما يوجد فيه من القتال دعوة للحياة؛ فهذا من عظيم تقدير الله وحكمته الذي جعل في الموت طريقاً وسبيلاً للحياة.
2 ـ ومن أسباب تفضيل الجهاد كونه طريقاً لبقاء الدين محفوظاً من التغيير والتبديل: فلولا الجهاد في سبيل الله لتصدع بنيان الدين وتهدمت أركانه، وهذا الأصل تبينه سُنَّة الله ـ تعالى ـ في المدافعة. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، وقال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وقد بين القرآن أن الجهاد يتحقق به جعل الدين كله لله، قال الله ـ تعالى ـ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإنِ انتَهَوْا فَإنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39]؛ ولهذا يقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: «لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتِلُ عليه عصابةٌ من المسلمين حتى تقوم الساعة»(2).
3 ـ نصرة المستضعفين وإخراجهم من إذلال الظالمين: الجهاد في الإسلام فريضة دينية، وهو في الوقت نفسه عمل أخلاقي أصيل؛ فهو ليس عملاً للمغنم أو السيطرة بالباطل أو العلو في الأرض بغير الحق، وليس رغبة في احتلال أراضي الناس وسرقة خيرات بلادهم، وإنما هو جهاد في سبيل نصرة المستضعفين وحمايتهم وإنقاذهم من ظلم الظالمين وبطش المعتدين، فإن كان هؤلاء المستضعفون من المسلمين فقد جاءهم بهذه النصرة العز والتمكين والتأييد، وإن كان المستضعفون من الكافرين؛ فقد أزيل عنهم بطش الظالمين وسلطان المتجبرين الذين يصدونهم عن معرفة الحق والاهتداء به، ثم لا يجبرهم المسلمون بعد ذلك على الإسلام فإنه: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] وإنما يبينون لهم الحق ويدعونهم إلى اتباعه؛ فمن شاء منهم الإيمان آمن، ومن رفض تُرك ودينَه وأَمِن على ماله ونفسه وعرضه.
وهذه شهادات التاريخ ومدوَّناته قائمة موجودة ليس فيها حالة إكراه على دخول الدين، ثم الواقع أيضاً شاهد على ذلك؛ فلو كان الناس يُكْرَهون على الدخول في دين الإسلام بعد فتح البلدان لتحولت شعوب البلدان المفتوحة إلى الإسلام، ولم نجد في بلاد المسلمين يهودياً أو نصرانياً، ولا شك أن وجود أهل الكتاب من اليهود والنصارى في بلاد المسلمين منذ بدأ الإسلام إلى يومنا هذا لهو الدليل الواقعي الذي لا يمكن جحده على أنه لم يكن هناك إكراه في الدين. لقد كان الجهاد لمنع إكراه الكفار على البقاء على الكفر من قِبَل أنظمتهم الظالمة، وليس على إكراههم على الدخول في دين الإسلام.(173/4)
وإذا كان هذا هو العمل الأخلاقي في قيام المسلم بفرض الجهاد؛ فإنه لمن العجب ما يقوله أناس من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا يقولون: إن الجهاد في الإسلام هو جهاد الدفع فقط، أي جهادٌ من أجل الدفاع فقط عن أنفسنا وأوطاننا؛ فأي أنانية هذه التي يريد هؤلاء أن يلصقوها بديننا وأخلاقنا! وهل من النبل والشهامة والرجولة والخُلُق الحسن أن يرى المسلمون الأرض وهي تعج بالكفر والظلم والقهر والاستعباد لخلق الله، ثم لا يحرك المسلمون ساكناً لا لشيء إلا لأنه لم يصبهم من ذلك شيء، وأن هذا الطغيان لم ينلهم؟ فأي خسة ودناءة ولؤم طبع هذه التي يلصقها بنا هؤلاء!
إن الأمة الإسلامية أمة ذات رسالة تحمل الأمانة، وعلى عاتقها تقع مسؤولية نشر التوحيد والعدل في الأرض، ومنع الظلم والطغيان. قال الله ـ تعالى ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، فقد استمدت الأمة خيريتها من كونها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس قاصراً أو محدوداً بالمجتمع الإسلامي، ولكنه عامٌّ يشمل كل أرض يمكن أن يصل إليها المسلمون؛ فهو يشمل الأمر بالتوحيد في مجال الإيمان، والعدل في مجال الحياة، في مقابل النهي عن الشرك والظلم. قال أبو هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام»(1)؛ فهم خير الناس للناس وليس لأنفسهم فقط.
وإنه لمن الشيء الغريب من بعض هؤلاء أنك تجدهم يقبلون مثل هذا التصرف من دولة مثل أمريكا بزعمهم الدفاع عن حقوق الإنسان والعمل على نشر الديمقراطية، فيقبلون منها تدخلها في شؤون الدول بهذه الحجة، ويرفضون قيام المسلمين بواجبهم الديني والأخلاقي تجاه المظلومين والمقهورين في العالم بزعم أن هذا تدخل في حرية واختيار الآخرين! وأمريكا اليوم تنقل عشرات الآلاف من جنودها وآلياتها تقطع بهم آلاف الكيلو مترات، وينتقلون بين القارات ويقطعون الفيافي والقفار، وتجوب سفنهم البحار والمحيطات يحملون معهم كل أسلحة الدمار، يغزون البلاد ويحتلون الأرضين، ويزهقون الأنفس المعصومة من الرجال والنساء والولدان، ويزيلون الأنظمة، وينشرون الفساد؛ كل ذلك بزعم الدفاع عن حقوق الإنسان، وقد أثبتت الوقائع والأحداث أنه لا يحركها لذلك غير المطامع، والاستيلاء على ثروات البلاد، واستغلال خيراتها وفرض إرادتها وثقافتها على الشعوب، والعلو في الأرض بغير الحق. كيف لا تستحي أمريكا ولا من يؤيدونها من القتال تحت مبادئ هم اخترعوها بغير حجة صحيحة، ولا برهان مستقيم، بينما يستحي أناس من بني جلدتنا من الجهاد التزاماً بحكم شرعي شرعه رب العباد للعباد؟
إن خروج المسلمين من ديارهم تاركين أهليهم وأموالهم ومصالحهم قاصدين ديار الكفار لهدايتهم ودعوتهم إلى دين الله، وإزالة الأنظمة التي تحول بينهم وبين الاستجابة لدعوة الحق، وإدخالهم إلى السعادة الأبدية التي لا تنتهي بنهاية الحياة الدنيا، مع ما يتعرض له المسلمون من جراء ذلك من البلاء والشدة بل والقتل، لهو عمل يكشف بكل وضوح عن الخُلُق الإسلامي النبيل، وعن الوجه الحضاري المتميز لفريضة الجهاد في سبيل الله تعالى، كما يكشف عما رباه الإسلام في نفوس أتباعه في أنهم لا يعيشون لأنفسهم وكفى.
4 ـ وفي الجهاد منافع وفضائل أخرى: قال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «والأمر بالجهاد وذكر فضائله في الكتاب والسنة أكثر من أن يُحصَر، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة ومن الصلاة التطوع والصوم التطوع كما دل عليه الكتاب والسنة... وهذا باب واسع لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه، وهو ظاهر عند الاعتبار؛ فإنَّ نَفْعَ الجهاد عامٌّ لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة؛ فإنه مشتمل من محبة الله ـ تعالى ـ والإخلاص له والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله سائر أنواع الأعمال، على ما لا يشتمل عليه عمل آخر.
والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائماً: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة؛ فإن الخَلْق لا بد لهم من محيا وممات؛ ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما؛ فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قله منفعتها؛ فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد، وقد يرغب في ترفيه نفسه حتى يصادفه الموت، فموت الشهيد أيسر من كل ميتة، وهي أفضل الميتات.(173/5)
وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزَّمِن ونحوهم فلا يُقتَل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم مالاً للمسلمين، والأول هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله»(2).
5 ـ عون الله ومدده للمجاهدين في سبيله: وقد وعد الله ـ تعالى ـ المجاهدين في سبيله بالإعانة والمدد، فقال ـ سبحانه ـ: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]، وقال ـ تعالى ـ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، وجعل في ذلك المدد البُشرى والطمأنينة للمجاهدين؛ فقال ـ تعالى ـ: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10].
والقتال يكون جهاداً مشروعاً يحبه الله ويرضى عن القائمين به إذا كان في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا. والجهاد عمل منظم لا يكون فوضى، وإنما لا بد فيه من الأمير وإذن ولي الأمر إذا كان جهاد طلب، أما إذا كان الجهادُ جهادَ دَفْعٍ لدفع العدو الذي غزا بلاد المسلمين ونزل بساحتهم فلا يُشترَط شيء من ذلك، ويُدفَع كيفما أمكن الدفع، حتى تخرج المرأة بغير إذن زوجها والولد بغير إذن والديه. قال في الهداية: «فإن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع: تخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن المولى؛ لأنه صار فرض عين»(3).
إن من أكبر الخيانة وإضاعة الأمانة الحيلولة بين الأمة وبين إعداد العدة للجهاد الحق الذي جعل الله ـ تعالى ـ فيه حياة الأمة وعزها، وما لم تستعد الأمة لمثل هذا الأمر؛ فكأنما سلمت عنقها لعدوها باختيارها.
______________
(1) مجموع الفتاوى ابن تيمية 2/363.
(1) بدائع الصنائع للكاساني 6/57.
(2) أخرجه النسائي كتاب الجهاد رقم 3045، وأبو داود كتاب الجهاد رقم 2143، وأحمد رقم 11798، والدارمي كتاب الجهاد رقم 2324.
(3) تفسير القرطبي 8/225. (4) تفسير الآلوسي.
(5) التفسير المحيط. (6) فتح القدير للشوكاني.
(7) مفاتيح الغيب. (8) أخرجه البخاري كتاب الجهاد رقم 2785.
(9) أخرجه مسلم كتاب الإمارة رقم 3490. (10) شرح صحيح مسلم 13/35.
(11) فتح الباري.
(1) تفسير ابن كثير 2/298.
(2) تفسير القرطبي 7/389.
(3) تفسير ابن جرير 12/463.
(4) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد رقم 10/30.
(5) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء رقم 3346.
(1) أخرجه مسلم كتاب الإيمان رقم 221.
(2) أخرجه مسلم كتاب الإمارة رقم 2546. عصابة: جماعة.
(1) أخرجه البخاري كتاب تفسير القرآن رقم 4557.
(2) مجموع الفتاوى 28/352. (3) الهداية 1/378.(173/6)
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا
- متى نتحرك لرفع الذل عنا؟ متى؟
- متى تتحرك جيوش المسلمين؟
إنه في غياب النظام السياسي الحامي للمسلمين وبلادهم وفي حالة الصراع والصدام بين أهل الإيمان والكفر، وبحال أن أمريكا وبريطانيا ويهود يديرون اللعبة ويهيمنون على النظم بما يوافق ويحقق لهم غاياتهم ومآربهم.. في هذا الحال كثرة قضايا المسلمين وتفرعت القضية وكثرت المسائل ونزلت على المسلمين المصائب تترى، فما من يوم إلا وفيه مصيبة أو نازلة.. فكثر الجلادون وزادت سياطهم في أجسادنا عاملة.. تجلدنا أمريكا والنظم الحاكمة، يجلدنا يهود والسلطة الخائنة المنشغلة بتجميل قبيح وجهها في إصلاحات وانتخابات لتمعن في خيانتها وتآمرها على الأرض والمقدسات والسجناء... مصائب علينا نازلة بفعل حكام أجرموا بحق الله والكتاب والسنة.. خانوا أمانة الله وعهده.. وتنظموا في صفوف أعداء الله.. فها هي أمريكا توظفهم في وكالة المخابرات المركزية وها هي بريطانيا تشغلهم في دوائر الأسكويندريارد وها هي دوائر الارتباط توظفهم في مكاتب الشباك.. وهل يرجى خيرا فيمن قال فيهم الله ? ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ? هل يتوقع من نصارى ويهود وأدواتهم لأمة الإسلام غير العذابات والإجرام والقتل والسجن والسجان.. فسبحان الله.. هذه دنيا المسلمين.. سجن في شرق بلادي وسجن في غرب بلادي، سجن هي كل بلادي.. يعذب شباب الإسلام في سجون الأردن وسجون لبنان وسجون سوريا وسجون اليمن وسجون باكستان وسجون تركيا وسجون السلطة الفلسطينية ودوائرها الأمنية ومؤسساتهم الرئاسية تمارس كل صنوف الأذى والملاحقة والمطاردة والتهديد والوعيد لأبناء الأمة المخلصين....
نعم أيها الأخوة الكرام..
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول "فكوا العاني وأطعموا الجائع وعودوا المريض" البخاري. ويقول "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" ابن عمر.
فهذه سجون في السر وسجون في العلن وخيرة أبناء الأمة الكريمة يقبعون في غياهب سجون جوانتناموا وأبو غريب وجسليق.. اغتصبوا في السجون وتعروا في السجون وجوعوا في السجون وأعدموا في السجون..
نعم أيها الأخوة الكرام.. مع توالي الأحداث وتكالب الأمم على أهل الإسلام، تعرضت الأمة الإسلامية لأكثر من نكبة وأزمة ألمت بها، مصائب جسام وكوارث عظام ومن هذه الفظاعات وقوع المئات بل مئات الآلاف من أحرار المسلمين في الأسر والمعتقلات وزُج بهم خلف القضبان الحديدية في معتقلات لا ترعى حقوقا ولا تراعي حرما. ولا شك في أن معاناة المسلمين اليوم أمر جلل لم يسبق له مثيل عبر تاريخهم الطويل، حيث تداعت عليهم الأمم متكالبة ونابذتهم العداء متحالفة، وتجمع في الحملة الهوجاء عليهم أهل الأرض قاطبة من يهود ونصارى ووثنيين فضلا عمن والاهم وتجند في صفوفهم من حكام خونة مجرمين.. ومن أشنع ما أسفرت عنه هذه الحرب الضروس على الإسلام والمسلمين تمكين الأعداء الحاقدين من رقاب أولياء الله الصالحين حتى باتوا يعملون فيهم القتل والتنكيل والأسر.. فضجت هذه السجون وتلك الزنازين والمعتقلات من الإجرام والقتل المنظم بقيادة أمريكا الكافرة ومن خلفها من مرتزقة.. فهذا طاغية اليمن يقودها حربا طاحنة على أبناء المسلمين.. وذاك العميل في باكستان يسلم الموحدين لا أبقاه الله في العمالة والدنيا أما شيوخ النفط وملوك العهر في الأردن والمغرب والبحرين حماة اليهود فحدث ولا حرج.. فقاتل الله الأمريكان أنى يؤفكون.. قاتل الله الإنجليز أنى يمكرون وقاتل الله حكام سوريا ومصر وتركيا أنى يخونون ويجرمون.. قاتلهم الله ما أسوأهم.. قاتلهم الله ما أحقدهم على الإسلام والمسلمين.. أحرقهم الله بكفرهم وظلمهم.. نعم يا أيها الأمريكان القادم من الأيام بيننا وبينكم.. ويعرف رجال الإسلام كيف الرد عليكم والإغارة عليكم ? وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون? .
أيها الأخوة الكرام.. إن هذه المعاناة والقهر والحرمان إنما هو بسبب الحكام وتآمرهم مع أعداء الله فلأن حال الحاكم منهم أنه مستعد لاعتقال نصف شعبه واعتقال النصف الآخر حرصا على سلطته وتنفيذا لأمر السيد في البيت الأبيض فالذي علينا أن نعرفه العمل الواجب الجاد لوقف هذه المعاناة ببيعة شرعية للحكم بما أنزل الله واستئناف الحياة الإسلامية واستئناف الحياة الإسلامية.(174/1)
نعم أيها الأخوة.. إن دولة الإسلام هي المسؤولة أمام الله عز وجل عن فكاك أسر كل مسلم بل وكل ذمي يحمل التابعية من سجون الكفر والظلم.. فتجيش الجيوش وتوجه الركب وتعلن الحرب لتخليص مسلم كريم شريف من سجون الكفر والطغيان ولا يتركوا في عالم النسيان، فنحن أمام الله مسؤولون عن واجب إقامة الدولة الإسلامية.. الدولة التي في أميرها المعتصم مثال لما حرك جيشا لنجدة امرأة مسلمة وقعت أسيرة في سجون الكفار.. فلن يترك أبناءنا إلى صليب أحمر أو اتفاقيات جنيف الرابعة الظالمة ولا بقانون دولي باطل، فالأمر لأمير الجهاد ولكتائب النصر المبين.. فصبرا جميل يا أسود في القيود..
أيها الأخوة الكرام... يقول تعالى ? ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولانصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطأ يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يطيع أجر المحسنين?. أما خطابنا لأبنائنا وإخواننا وأخواتنا في سجون القهر والظلم ... خطابنا إليكم يا رجال الخلافة والإسلام.. إنه بالرجاء لا بالألم، وباليقين لا بالقنوط، بالثقة لا باليأس، بالعزيمة لا بالخوار، بالإصرار والتحدي لا بالتراجع... نبعثها صرخة مدوية ورسالة تشق جدار الصمت والموت وتنير دياجير الظلام.
رسالة إلى الصابرين رغم قهر الجلاد إلى الثابتين رغم العذاب إلى الأباة في زمن الخضوع والخنوع إلى الشامخين في زمن الانبطاح إلى الرافضين ذل العبيد إلى من أبى الركوع والسجود إلا للواحد القهار.. إليكم يا من أبيتم العيش إلا بعزة وكرامة يا من أبيتم القعود عن مواجهة من اعتدى على ديننا وعقيدتنا وأعراضنا ومقدساتنا.. إليكم يا من أبيتم العيش في ذل وهوان.. رفضتم إلا أن تكونوا أعزاء والعزيز يصارع الأهوال ويركب الصعاب لتحققون عزته ولو لم يكن إلا الموت ثمنا لتلك العزة ... فصبرا اخوتي في سجون يهود في سجون لبنان وعمان وسجون مصر وبغداد في سجون أوزبكستان وأنقرة.. صبرا اخوتي.. لن نهنأ بشراب ولن نستلذ بطعام ولن يغمض لنا جفن وكيف ذلك وأنتم تسامون سوء العذاب وتلاقون ألوان الأذى على أيدي الأنجاس وأراذل الخلق من الحكام و امريكان...
نعم إن لكم إخواني في الأنبياء ومن سار على هديهم وطريقهم أسوة وقدوة حسنة فهذا نبي الله موسى يدخل حياة النفي والمطاردة والخوف والترقب سنين طويلة لتكون له بعد ذلك العاقبة على فرعون وملئه.
وهذا نبي الله يوسف يدخل مدرسة السجن ظلما وزورا ليخرج منها ملكا على خزائن الأرض، وهذا الحبيب المصطفى محمد يدخل الحصار الجائر ثلاث سنوات ليخرج فاتحا منتصرا يرى الناس يدخلون في دين الله أفواجا...
ونحن اخوتي في أسر الغربة وقيودها وحياة الخوف والترقب وأنتم اخوتي في الأسر والقيود كلنا يحترق ليضيء للإسلام، ويخسر ليربح الإسلام ويضحي ليتمكن الإسلام ويجوع ويموت ليحيا الإسلام ويخاف ليأمن أهل الإسلام و? إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب? ;.
فكونوا اخوتي متفائلين فالمستقبل لهذا الدين وكونوا مستبشرين فالنصر للإسلام وكونوا واثقين فالعاقبة للمتقين، كونوا مستيقنين فالله لا يضيع أجر المحسنين. فغدا سنبصر طلعة الأمجاد، غدا سنمتع ناظرينا بشمس الإسلام.. غدا ستدور دائرة الزمان، غدا فجر الخلافة يبزغ ولن نبكي ظلمة السجان، غدا بجيش الخلافة نكسر الأغلال...
نعم اخوتي الكرام.. توكلوا على الله وكونوا للخلافة أنصارا، كونوا للتحرير عمالا، انصروا فكرة الخلافة لتكونوا الجنود الميامين، فعلى بركة الله يا اهل الشام نسير، فسيروا بإخلاص لله خالص، فالمرجعيات للنجف والبصرة والقدس ورفح خاذلة وأقول متآمرة خانعة وحكام العرب شياطين، ولا قول فيهم إلا أننا لعروشهم بالحجارة راجمون بإذن الله قبل الحج وبعد الحج وحين الحج فصبرا أخي في غوانتناموا صبرا أختي في أبو غريب صبرا ولدي في جسليق" صبرا أخي في قيود يهود.
فاللهم اشف صدورنا بقتل كريموف وأمثاله وأسياده من يهود ، وعجل لنا بقيام دولة الإسلام التي يعز فيها أهل التقوى والإيمان ويذل أهل الفجور والعصيان ، وترد الغائبين والمأسورين إلى أهلهم سالمين غانمين . وما ذلك على الله بعزيز . اللهم آمين آمين.
: أيمن أبوخلف(174/2)
ابن آدم مرضت فلم تعدني
25
الآداب والحقوق العامة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
انتظام الإسلام كل وجوه البر – من محاسن الشريعة المحافظة على حقوق الأخوة وآدابها - عيادة المريض , أثرها وفضلها , وآدابها وحكمها – بعض العادات الخاطئة التي تعوق عن زيارة المريض
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ، فبتقوى الله تُنال الدرجات، وتزكو الأعمال، وأكثروا من ذكره وشكره، فبذكره تطمئن القلوب، وبشكره تحفظ النعم، وتزودوا من الصالحات فخير الزاد التقوى.
معاشر الإخوة، الخير في الإسلام ينتظم كل وجوه البر، ويشمل كل عمل صالح، ويتناول كل خلق كريم، طاعةً لله عزَّ وجلَّ، وحباً في الفضائل في إخلاصٍ وصدقٍ حسنٍ.
ففي الحديث قولٌ جميلٌ، وفي البلاء صبرٌ جميلٌ، وعند الخلاف صفحٌ جميلٌ.
أقوالٌ وأفعالٌ تغرس المحبة، وتورث المودة، وتوثق الروابط، نجدةٌ وإغاثة، وتراحمٌ وملاطفةٌ، وإخلاصٌ ووفاءٌ، مشاركةٌ في السراء، ومواساة في الضراء، كل ذلك من توجيهات الإسلام، ونواميس الأخلاق.
أيها الإخوة، ويتجلى صفاء الدين، وتظهر محاسن الشريعة، أكثر ما تتجلى في خلقٍ كريمٍ، وسلوكٍ مستقيم، ينتهجه المسلم مع إخوانه، القريب منهم والبعيد.
إنها أخلاقٌ كريمة، ولكنها في ذات الوقت حقوقٌ محفوظة، عُني الإسلام بها وحثَّ عليها، ودعا إليها، ورسم منهاجها، وأوضح آدابها.
وفي مثل ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ((حق المسلم على المسلم ستٌ)) قيل: ما هنَّ يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّتْه، وإذا مرض فعُدْه، وإذا مات فاتبعه))[1] في حقوق أخرى كثيرة حفلت بها سنة المصطفى قولاً وعملاً وتوجيهاً.
ولقد كان من أدب السلف ـ رضوان الله عليهم ـ إذا فقدوا أحداً من إخوانهم سألوا عنه، فإن كان غائباً دعوا له، وخلفوه خيراً في أهله، وإن كان حاضراً زاروه، وإن كان مريضاً عادوه.
يقول الأعمش رحمه الله: كنا نقعد في المجلس، فإذا فقدنا الرجل ثلاثة أيام سألنا عنه، فإن كان مريضاً عدناه.
وفي عيادة المريض ـ أيها الإخوة ـ يتجلى سموُّ الخلق، وحفظ الحق حين يكون أخوك في حالةٍ من العجز، وانقطاعٍ عن مشاركة الأصحاب، حبيس المرض، وقعيد الفراش.
في عيادة المريض إيناسٌ للقلب، وإزالة للوحشة، وتخفيفٌ من الألم، وتسليةٌ للنفس والأقارب.
وفي توجيهات المصطفى حثٌّ عظيمٌ على حفظ هذا الحق، والالتزام بهذا الخلق، ومراعاة آدابه.
أخرج الإمام أحمد ومسلمٌ واللفظ له والترمذي عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرفة الجنة حتى يرجع)) قيل: يا رسول الله، وما خُرفة الجنة؟ قال: ((جناها))[2] – أي: ثمارها.
وفي حديث قدسي يقول الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة: ((يا بن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟))[3].
و((ما من مسلم يعود مسلماً غدوةً، إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية، إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريفٌ في الجنة))[4].
وفي موطأ مالك بلاغاً ومسند أحمد مسنداً واللفظ له، ورواته رواة الصحيح، والبزار، وابن حبان في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من عاد مريضاً لم يزل يخوض في الرحمة حتى يرجع، فإذا جلس اغتمس فيها))[5] وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((من عاد مريضاً ناداه منادٍ من السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً))[6] أخرجه الترمذي وحسنه، وابن ماجه، واللفظ له.
ومن أدب الزيارة أن يقف عند رأسه ويضع يده على جبينه أو على مكان الألم ويقول: ((لا بأس طهور إن شاء الله))[7] فقد كان نبيكم محمد يفعل ذلك.
كما كان عليه الصلاة والسلام يرشد إلى ما يتعوذ به من الألم. يقول عثمان بن أبي العاص الثقفي قدمت على النبي وبي وجع قد كان يبطلني فقال لي النبي : ((اجعل يدك اليمنى عليه وقل: بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر. سبع مرات)) فقلت ذلك فشفاني الله[8].
وينبغي أن يجتهد له في الدعاء، ومما ورد في ذلك: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرار: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا عافاه الله من ذلك المرض))[9].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا جاء الرجل يعود مريضاً فليقل: اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدواً، أو يمشي لك إلى جنازة))[10]، وفي رواية((صلاة))[11]. ويقول: ((اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً))[12].(175/1)
وقد عاد جبريل النبي وقال: ((بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفسٍ أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك)) رواه مسلم من حديث أبي سعيد[13].
ومن الآداب المرعية: ألا يطيل الزيارة، ولا يثقل بكثرة المساءلة، وإطالة الحديث، ولا يذكر له ما يحزنه، أو يزيده وجعاً إلى وجعه، ولا يذكر صديقاً له بما يكره، أو عدواً له بما يحب، ولا يتحدث عن أهله وأولاده إلا بكل خير، رفقاً به وملاطفةً له.
وإن في الإطالة إثقالاً على المريض، ومنعاً له من تصرفاتٍ قد يحتاج إليها.
قال بعض الظرفاء لقوم عادوه في مرضه، فأطالوا الجلوس: المريض يعاد، والصحيح يزار.
ودخل رجلٌ على عمر بن عبد العزيز يعوده في مرضه فسأله عن علته فأخبره، فقال الزائر: إن هذه العلة ما شفي منها فلان، ومات منها فلان. فقال عمر: إذا عدت مريضاً فلا تنع إليه الموتى، وإذا خرجت عنا فلا تعد إلينا. ويقول سفيان الثوري: حماقة العائد أشر على المرضى من أمراضهم، يجيئون من غير وقتٍ، ويطيلون الجلوس.
وإذا كان المريض يحب تكرار الزيارة، ولا مشقة عليه فلا بأس، ومردُّ ذلك إلى الطبائع ومقتضيات الأحوال، وقد يأنس ببعضٍ من قريب أو صديق حميم، ويملُّ آخرين. وإذا طمع الزائر في شفاء المريض صبَّره وبشَّره، وساعده في التمريض وإحضار الطبيب، وفي قضاء حوائجه التي يعجز عن الوصول إليها، وطيَّب نفسه وسعى في إدخال السرور عليه، وفتح أبواب الأمل لديه.
وقد وصف الحسن رحمه الله المريض فقال: أما والله ما هو بِشَرِّ أيام المسلم، قورب أجله، وذكِّر فيه ما نسي من معاده، وكُفِّر فيه عن خطاياه.
وكان إذا دخل على مريض قد عوفي قال له: يا هذا، إن الله قد ذكَّرك فاذكره، وأقالك فاشكره.
فهذه الأسقام والبلايا كفاراتٌ للذنوب، ومواعظ للمؤمنين، يرجعون بها عن كل شرٍَ كانوا عليه.
ويقول الفضيل: إنما جعلت العلل ليؤدب بها العباد.
ليس كل من مرض مات. وعُدَّ من ذلك قوله تعالى: أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126].
وإذا يئس من حاله ذكَّره بالله، ورغَّبه فيما عنده، وحسَّن ظنه بربه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
ومن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة، ويفتح له أبواب التوبة، واغتنام الوقت بالذكر والقراءة والتسبيح والاستغفار، وكل ما يقرب إليه، ويذكره بالوصية، فهي لا تقطع أجلاً، وإنما تحفظ بها الحقوق، وتقضى بها الديون، ويَتوصل بها أهل الحقوق إلىحقوقهم.
لما طعن عمر جعل يألم، فقال له ابن عباس ـ وكأنه يجزعه ـ: ((يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت أبابكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت صحبتهم[14] فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون. قال: أمَّا ما ذكرت من صحبة رسول الله ورضاه فإنما ذاك منٌّ من الله جلَّ ذكره منَّ به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منٌّ من الله جلَّ ذكره منّ به علي، وأما ما ترى من جزعي؛ فهو من أجلك وأجل أصحابك. والله لو أن لي طلاع الأرض[15] ذهباً لافتديت به من عذاب الله عزّ وجلَّ قبل أن أراه)) رواه البخاري من حديث المسور بن مخرمة[16].
وفي البخاري أيضاً من حديث القاسم بن محمد أن عائشة – رضي الله عنها – اشتكت؛ فجاء ابن عباس فقال: ((يا أم المؤمنين، تقدمين على فَرَط صدق، على رسول الله وعلى أبي بكر))[17].
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واحفظوا لإخوانكم حقوقهم، قوموا بها على وجهها، راعوا آدابها، وحققوا مقاصدها، يعظمِ الأجر، ويصلحِ الشأن، ويفشُ الخير، وتَسُدِ المودة.
اللهم تب على التائبين، واغفر ذنوب المذنبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، واغفر لنا حوبنا وخطايانا يا رب العالمين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجنائز – باب الأمر باتباع الجنائز، حديث (1240).
[2] صحيح، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل عيادة المريض، حديث (2568)، مسند أحمد (5/283).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل عيادة المريض، حديث (2569).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (1/81)، والترمذي: كتاب الجنائز – باب ما جاء في عيادة المريض، حديث (969) وقال: حسن غريب، وأبو داود :كتاب الجنائز – باب في فضل العيادة على وضوء، حديث (3098) وقال: أُسند هذا عن علي عن النبي من غير وجه صحيح. وصححه الحاكم (1/341-342)، وصحح إسناده الضياء في الأحاديث المختارة (2/231)، وقال في المجمع: رجال أحمد ثقات (3/30).(175/2)
[5] صحيح، موطأ مالك: كتاب العين – باب عيادة الريض والطيرة، حديث (1694)، مسند أحمد (3/304)، مسند البزار، حديث (620)، صحيح ابن حبان: كتاب الجنائز – باب المريض وما يتعلّق به – ذكر خوض عائد المريض الرحمة... حديث (2956)، وصححه الحاكم (1/349-350)، وصحح إسناده الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (2/260).
[6] حسن، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في زيارة الإخوان، حديث (2008)، وقال: حسن غريب. سنن ابن ماجه: كتاب ما جاء في الجنائز – باب ما جاء في ثواب من عاد مريضاً، حديث (1443)، وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (2/354)، وصححه ابن حبان (2961) وقوّاه الحافظ في الفتح وقال: له شاهد عند البزار من حديث أنس بسند جيد. وحسنه الألباني، صحيح سنن الترمذي (1633).
[7] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المناقب – باب علامات النبوة في الإسلام، حديث (3616).
[8] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب السلام – باب استحباب وضع يده على موضع الألم... حديث (2202) دون قوله: ((فشفاني الله))، وأخرجه ثمامه: الترمذي: كتاب الطب – باب ما جاء في دواء ذات الجنب، حديث (2080)، وقال: حسن صحيح، وأبو داود: كتاب الطب – باب كيف الرقى، حديث (3891)، وابن ماجه: كتاب الطب – باب عَوّذ به النبي وما عُوّذ به، حديث (3522) واللفظ له.
[9] صحيح، أخرجه أحمد (1/239)، والترمذي: كتاب الطب – باب ما جاء في التداوي بالعسل، حديث (2083) وقال: حسن غريب. وأبو داود: كتاب الجنائز – باب الدعاء للمريض عند العيادة، حديث (3106)، وصححه ابن حبان (2975) من فعل النبي ، وصححه الحاكم (1/342) والسيوطي. الجامع الصغير (8106)، والألباني، صحيح سنن الترمذي (1698).
[10] حسن، أخرجه أبو داود: كتاب الجنائز – باب الدعاء للمريض عند العيادة، حديث (3107)، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (1304).
[11] حسن، أخرجه أحمد (2/172)، وابن حبان: كتاب الجنائز – باب المريض وما يتعلق به – ذكر ما يستحب للمرء أن يدعو لأخيه العليل... حديث (2974)، والحاكم (1/344)، وانظر السلسلة الصحيحية للألباني (1304).
[12] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب – دعاء العائد للمريض، حديث (5675)، ومسلم: كتاب السلام – باب استحباب رقية المريض (2191) واللفظ له.
[13] صحيح، صحيح مسلم: كتاب السلام – باب الطب والمرض والرقى، حديث (2186).
[14] أي أصحاب النبي وأبي بكر رضي الله عنه.
[15] طلاع الأرض: أي ملء الأرض.
[16] صحيح، صحيح البخاري: كتاب المناقب – باب مناقب عمر بن الخطاب... حديث (3692).
[17] صحيح، صحيح البخاري: كتاب المناقب – باب فضل عائشة رضي الله عنها، حديث (3771).
الخطبة الثانية
الحمد لله، ربط بين المؤمنين برابطة الإيمان، فكانوا إخوةً متحابين، يشد بعضهم بعضاً، كالمرصوص من البنيان. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، سيد ولد عدنان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ معاشر المسلمين ـ واعلموا أن زيارة المريض مستحبةٌ، ولو كان مغمىً عليه، ((فقد زار النبي وأبو بكر – رضي الله عنه – جابر بن عبد الله، ووجداه مغمىً عليه))[1]، وفي مثل هذه الزيارة جبرٌ لخاطر أهله مع ما يرجى من إجابة الدعاء.
مرِض يحيى بن خالد فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا دخل عليه يعوده – وهو مغمىً عليه – وقف عند رأسه ودعا له ثم يخرج؛ فيسأل مرافقه عن منامه وشرابه وطعامه، فلما أفاق يحيى، قال: ما عادني في مرضي إلا إسماعيل بن صبيح.
ومما ينبه إليه في هذا المقام ـ أيها الأخوة ـ أن بعض الناس يثقلون على أنفسهم؛ فيحملون إلى المريض هدايا وغيرها، وقد يحملون أموراً من عادات غير أهل الإسلام، وهذا ليس من آداب الزيارة في شيء، بل هو تكلُّف ظاهر، ومجاملات ثقيلة، تقليد أعمى، وهو قد يدفع من لا قدرة لهم إلى التقاعس عن الزيارة الشرعية التي أمر الله بها ورسوله.
وحاجة المريض إلى الدعاء، والكلمات الطيبة، والملاحظات الرقيقة أولى من هذه المحمولات.
أما ما كان صدقةً لفقير، أو مساعدة لمحتاج، فهذا له شأن آخر لا ينبغي أن يكون مربوطاً بالزيارة أو شرطاً فيها.
فاتقوا الله؛ يرحمكم الله؛ والتزموا بهدي نبيكم محمد فهو أقوم هديٍ وأسلم نهجٍ.
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الوضوء – باب حب النبي وضوءه، حديث (194)، وكتاب تفسير القرآن – باب قوله: ((يوصيكم الله...)) حديث (4577)، ومسلم: كتاب الفرائض – باب ميراث الكلالة، حديث (1616).(175/3)
إبن سبأ اليهودي مؤسس الديانة الشيعية بسم الله الرحمن الرحيم إن من أكبر الفِرَق التي كانت و ما تزال وبالاً و شراً على المسلمين على طول تاريخهم و في جميع مراحل حياتهم ، هي فرقة الشيعة على تعدد طوائفها و اختلاف نحلها ، بدءاً بالسبئية أتباع بعد الله بن سبأ اليهودي ، الذي كان رأساً في إذكاء نار الفتنة والدس بين صفوف المسلمين ، و الذي وصل الأمر بهم إلى تأليه علي رضي الله عنه ، و قبل أن أبدأ بالموضوع لابد من مقدمة توضح الموضوع و تشرح المضمون .
أصل ابن سبأ و منشأه :- اختلف أصحاب المقالات والتاريخ في هوية عبد الله بن سبأ ، و من ذلك اختلفوا في بلده و قبيلته ، يذكر القلقشندي في قلائد الجمان (ص 39 ) : أن يعرب بن قحطان ولد يشجب ، و ولد ليشجب ( سبأ ) و اسم سبأ هذا عبد شمس ، و قد ملك اليمن بعد أبيه ، و أكثر من الغزو والسبي ، فسمي ( سبأ ) وغلب عليه حتى لم يسم به غيره ، ثم أطلق الاسم على بنيه .. و هم الوارد ذكرهم في القرآن .
على أن المصادر التاريخية لا تذكر شيئاً واضحاً عن أصل السبأيين ، و الذي ينتسب إليهم عبد الله بن سبأ ، و من المحتمل أنهم كانوا في الأصل قبائل بدوية تتجول في الشمال ثم انحدرت نحو الجنوب إلى اليمن حوالي ( 800 ق م ) ، و هي عادة العرب في التجوال ، أو نتيجة ضغط الآشوريين عليهم من الشمال ، واستقروا أخيراً في اليمن وأخذوا في التوسع . راجع : محاضرات في تاريخ العرب للدكتور صالح العلي (1/21) .
و منهم من ينسب ابن سبأ إلى ( حمير ) ، و هي قبيلة تنسب إلى حمير بن الغوث بن سعد بن عوف بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير بن سبأ الأصغر بن لهيعة بن حمير بن سبأ بن يشجب هو حمير الأكبر ، و حمير الغوث هو حمير الأدنى و منازلهم باليمن بموضع يقال له حمير غربي صنعاء . أنظر : معجم البلدان لياقوت الحموي (2/306) .
ومن الذين قالوا بذلك : ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء ( 5/46) ، حيث يقول : والقسم الثاني من فرق الغالية يقولون بالإلهية لغير الله عز وجل ، فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبأ الحميري .
أما البلاذري في أنساب الأشراف (5/240) ، و الأشعري القمي في المقالات والفرق (ص 20) ، والفرزدق في ديوانه ( ص 242-243) فينسبون ابن سبأ إلى قبيلة ( همدان ) ، و همدان بطن من كهلان من القحطانية و هم بنو همدان ابن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان ، و كانت ديارهم باليمن من شرقيه . معجم قبائل العرب لرضا كحالة (3/1225) . فهو ( عبد الله بن سبأ بن وهب الهمداني ) كما عند البلاذري ، و ( عبد الله بن سبأ بن وهب الراسبي الهمداني ) كما عند الأشعري القمي ، أما عن الفرزدق فقد ذكر نسبة ابن سبأ إلى همدان في قصيدته التي هجا فيها أشراف العراق و من انضم إلى ثورة ابن الأشعث في معركة دير الجماجم سنة (82هـ ) و يصفهم بالسبئية حيث يقول :
كأن على دير الجماجم منهم حصائد أو أعجاز نخل تقعّرا
تَعَرّفُ همدانية سبئية و تُكره عينيها على ما تنكّرا . إلى آخر القصيدة .
و يروي عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق ( ص 235) ، أن ابن سبأ من أهل ( الحيرة ) ، قال : إن عبدالله بن السوداء كان يعين السبأية على قولها ، و كان أصله من يهود الحيرة ، فأظهر الإسلام .
و يروي ابن كثير في البداية والنهاية (7/190) ، أن أصل ابن سبأ من الروم ، فيقول : و كان أصله رومياً فأظهر الإسلام و أحدث بدعاً قولية و فعلية قبحه الله .
أما الطبري و ابن عساكر ، فيرويان أن ابن سبأ من اليمن . قال الطبري في تاريخه (4/340) : كان عبدالله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء . و قال ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 29/3) : عبد الله بن سبأ الذي ينسب إليه السبئية وهم الغلاة من الرافضة أصله من أهل اليمن كان يهودياً .
و الذي أميل إليه و أرجحه هو : أن ابن سبأ من اليمن ؛ و ذلك أن هذا القول يجمع بين معظم أقوال العلماء في بلد ابن سبأ ، و لو نظرنا في الأقوال السابقة لم مجد تعارضاً بين هذا القول و بين القول الأول الذي ينسب ابن سبأ إلى قبيلة ( حمير ) ، و القول الثاني الذي ينسبه إلى قبيلة ( همدان ) ، إذ القبيلتان من اليمن ، و لم يخالف في أن أصل ابن سبأ من اليمن إلا البغدادي الذي ينسبه إلى ( الحيرة ) ، و ابن كثير الذي ذكر أنه ( رومي ) الأصل .
أما البغدادي فقد اختلط عليه ابن السوداء بابن سبأ ، فظن أنهما شخصان ، يقول : و قد ذكر الشعبي أن عبد الله بن السوداء كان يعين السبأية على قولها .. ثم تحدث عن ابن السوداء و مقالته في علي رضي الله عنه ، إلى أن قال : فلما خشي – أي علي رضي الله عنه – من قتله – أي ابن السوداء – و من قتل ابن سبأ الفتنة التي خافها ابن عباس ، نفاهما إلى المدائن ، فافتتن بهما الرعاع . الفرق بين الفرق ( ص 235) .(176/1)
والذي ذكر أنه من أهل الحيرة هو عبد الله بن السوداء و لم يتعرض لابن سبأ بشيء ، لهذا لا يمكننا أن نجزم بأن البغدادي نسب ابن سبأ المشهور في كتب الفرق و مؤسس فرقة السبأية إلى الحيرة ، فلعله قصد شخصاً آخر غيره ، و مما يدل على أنه لا يعني ابن سبأ ، أنه قال عند حديثه عن عبد الله بن السوداء : ( كان يعين السبأية على قولها ) ، فدل على أنه غير مؤسس السبأية .
أما ابن كثير فلا أعلم أحداً من المؤرخين وأصحاب المقالات وافقه في نسبة ابن سبأ إلى ( الروم ) ، و قد جاء في بعض النسخ المطبوعة من البداية والنهاية كلمة ( ذمياً ) بدل ( رومياً ) أنظر الطبعة الثانية ( 7/173) ، فلعل أصل الكلمة ذمياً و لكن حدث في الكلمة تصحيف من قبل النساخ ، وكون ابن سبأ ذمياً لا ينافي ما تناقله العلماء من كونه يهودياً . و لهذا لا يعارض قوله هذا ما اشتهر نقله في كتب التاريخ والفرق من أن أصل ابن سبأ من اليمن .
فترجح بهذا أن ابن سبأ من اليمن و نحن لا نقطع بنسبته إلى قبيلة معينة لعدم توفر الأدلة على ذلك . و الله أعلم .
و قد اختلف المؤرخون وأصحاب المقالات أيضاً في نسبة ابن سبأ لأبيه ، فمنهم من ينسب ابن سبأ من جهة أبيه إلى ( وهب ) كما عند البلاذري في أنساب الأشراف (5/240) ، و الأشعري القمي في المقالات والفرق ( ص 20) والذهبي في المشتبه في الرجال (1/346) و المقريزي في الخطط (2/356) .
أما من قال أنه : ( عبد الله بن وهب الراسبي ) كما هو عند الأشعري القمي في المقالات ( ص 20) ، فلعل ذلك وقع نتيجة الخلط بين عبدالله بن سبأ هذا و بين عبد الله بن وهب الراسبي صاحب الخوارج ، و هناك فرق بين الشخصيتين ما لا يخفى على مطلع ، فعلى حين يكتنف شخصية ابن سبأ الغموض في المنشأ و الممات ، نجد شخصية الراسبي واضحة المعالم ، فهو رأس الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه ، شرح صحيح مسلم للنووي (7/172) ، و هو المقتول في وقعة النهروان ، العبر في خبر من غبر للذهبي (1/44) ، و قبل ذلك فقد عرفت حياته أكثر من ابن سبأ ، فقد شارك في الفتوح – فتوح العراق – وكان مع علي ثم خرج عليه خروجاً صريحاً . أنظر آراء الخوارج لعمار الطالبي (ص 94) .
و مما يؤكد الفرق بين الاسمين ما نص عليه السمعاني في الأنساب (7/24) بقوله : ( عبدالله بن وهب السبئي رئيس الخوارج ، و ظني أن ابن وهب هذا منسوب إلى عبد الله بن سبأ ) .
و هناك من ينسب ابن سبأ من جهة أبيه أيضاً إلى حرب ، كما فعل الجاحظ في البيان والتبيين (3/81) ، و هو ينقل الخبر بإسناده إلى زحر بن قيس قال : ( قدمت المدائن بعد ما ضرب علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه ، فلقيني ابن السوداء و هو ابن حرب .. ) .
ومعظم أهل العلم ينسبون ابن سبأ من جهة أبيه إلى سبأ ، فيقولون : ( عبد الله بن سبأ ) ، ومن هؤلاء البلاذري في أنساب الأشراف (3/382) ابن قتيبة في المعارف ( ص 622) و الطبري في التاريخ (4/340) وأبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين (1/86) ، والشهرستاني في الملل والنحل (1/174) ، والذهبي في الميزان ( 2/426) وابن حجر في لسان الميزان (3/290) ، وابن عبد ربه في العقد الفريد (2/405) و شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/483) ، وابن حبان في المجروحين ( 2/253) والجوزجاني في أحوال الرجال (ص38) و المقدسي في البدء والتاريخ (5/129) والخوارزمي في مفاتيح العلوم (ص 22) وابن حزم في الفصل في الملل والنحل ( 4/186) و الأسفرايني في التبصرة في الدين ( ص 108 ) وابن عساكر في تاريخ دمشق ( 29/3) ، والسمعاني في الأنساب (7/24) و ابن الأثير في اللّباب (2/98) ، و غيرهم الكثير . و من الرافضة : الناشئ الأكبر في مسائل الإمامة ( ص 22- 23 ) ، و الأشعري القمي في المقالات والفرق ( ص 20 ) و النوبختي في فرق الشيعة (ص 22 ) .
أما نسب ابن سبأ ( لأمه ) فهو من أم حبشية ، كما عند الطبري في التاريخ (4/326-327) و ابن حبيب في المحبر (ص 308 ) ، و لذلك فكثيراً ما يطلق عليه ( ابن السوداء ) ففي البيان والتبيين ( 3/81) : ( ... فلقيني ابن السوداء ) و في تاريخ الطبري ( 4/326) : ( و نزل ابن السوداء على حكيم بن جبلة في البصرة ) ، وفي تاريخ الإسلام للذهبي (2/122) : ( ولما خرج ابن السوداء إلى مصر ) ، و هم بهذا يتحدثون عن عبد الله بن سبأ ، و لذلك قال المقريزي في الخطط ( 2/356) : ( عبد الله بن وهب بن سبأ المعروف بابن السوداء ) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (29/8) من قول علي رضي الله عنه : ( من يعذرني من هذا الحميت الأسود الذي يكذب على الله ورسوله يعني ابن السوداء ) . و مثل هذا كثير ...
وكما وقع الخلط والإشكال في نسبة ابن سبأ لأبيه ، وقع الخلط و تصور من غفلوا عن هذه النسبة لأمه ، أن هناك شخصين : ابن سبأ ، وابن السوداء ، ففي العقد الفريد لابن عبد ربه (2/241) : ( .. منهم عبد الله بن سبأ نفاه إلى ساباط ، و عبد الله بن السوداء نفاه إلى الخازر ) .(176/2)
و يقول الاسفرايني في التبصرة ( ص 108) : ( و وافق ابن السوداء عبد الله بن سبأ بعد وفاة علي في مقالته هذه ) .
ومثل هذا وقع عند البغدادي في الفرق بين الفرق ( ص 235 ) : ( فلما خشي علي من قتل ابن السوداء وابن سبأ الفتنة نفاهما إلى المدائن ) .
والذي يترجح من مناقشة الروايات : أن ابن سبأ غير ابن وهب الراسبي ، وأنه هو نفسه ابن السوداء ، والله أعلم .
و مما يحسن ذكره هنا أيضاً أن ابن سبأ كان أسود اللون ، و هذا يرجح كون أمه من الحبشيات ، ذكر ابن عساكر في تاريخه ( 29/7-8 ) : عن عمار الدهني قال : سمعت أبا الطفيل يقول : رأيت المسيب بن نجبة أتى به ملببة – أي ملازمه - يعني ابن السوداء و علي على المنبر ، فقال علي : ما شأنه ؟ فقال : يكذب على الله وعلى رسوله ، و جاء من طريق زيد بن وهب عن علي قال : ما لي ومال هذا الحميت الأسود ، و من طريق سلمة قال : سمعت أبا الزعراء يحدث عن علي ، قال : ما لي ومال هذا الحميت الأسود ، و جاء أيضاً من طريق زيد قال : قال علي بن أبي طالب : ما لي ولهذا الحميت الأسود ، يعني عبد الله بن سبأ وكان يقع في أبي بكر و عمر .
و يبقى بعد ذلك الأصل اليهودي لابن سبأ ، هل هو محل اتفاق أم تتنازعه الآراء ؟
يفترض المستشرق Hodgeson أن ابن سبأ ليس يهودياً في أغلب الاحتمالات ، مشايعاً في ذلك للمستشرق الإيطالي Levi Della Vida الذي يرى أن انتساب ابن سبأ إلى قبيلة عربية هي ( همدان ) كما في نص البلاذري الذي وقف عنده ( ليفي ديلا فيدا ) يمنع من أن يكون يهودياً . و هو كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في مذاهب الإسلاميين ( 2/30) : ( استنتاج لا مبرر له ، فليس هناك من تناقض بين أن يكون المرء يهودياً وأن يكون من قبيلة عربية .
وابن قتيبة رحمه الله أشار إلى يهودية بعض القبائل كما في المعارف ( ص 266 ) حيث يقول : ( كانت اليهودية في حمير و بني كنانة و بني الحارث بن كعب و كندة .
و فوق ذلك فإن الاتجاه الغالب في يهود اليمن أن أكثرهم من أصل عربي ، كما قال الدكتور جواد علي في تاريخ العرب قبل الإسلام ( 6/26) .
و مع ذلك فليس مقطوعاً بانتساب ابن سبأ إلى همدان – كما مر معنا – و حتى لو قطع بذلك ، فهل هذا الانتساب لهمدان ، انتساب على الحقيقة أم بالولاء ؟!
و لئن كان هذا الشك في يهودية ابن سبأ عند بعض المستشرقين ، إنما جاء نتيجة اعتراض يقيني بأن ابن سبأ في تصوراته عن المهدي كان متأثراً بالإنجيل أكثر من تأثره بالتوراة ، و هو اعتراض قد يقلل من يهودية ابن سبأ ، إلا أن هذا الاعتراض يضعف حينما نتبين رأي بعض الباحثين في طبيعة اليهودية في بلاد اليمن – في تلك الفترة – وأنها امتزجت فيها المسيحية بالموسوية ، و كانت يهودية سطحية ، وأن يهودية ابن سبأ ربما كانت أقرب إلى يهودية ( الفلاشا ) و هم يهود الحبشة ، و هذه اليهودية شديدة التأثر بالمسيحية الحبشية . مذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي (2/28) .
و هذا الأصل اليهودي لابن سبأ لم يكن محل خلاف في الروايات التاريخية ، أو لدى كتب الفرق ، و في آراء المتقدمين ، أمثال : الطبري وابن عساكر وابن الأثير والبغدادي وابن حزم ، وأمثال شيخ الإسلام ، عليه رحمه الله .
سبب الاختلاف في تحديد هوية ابن سبأ :- لا غرابة أن يحدث هذا الاختلاف الكبير بين أهل العلم في تحديد هوية و نسب ابن سبأ ، فعبد الله بن سبأ قد أحاط نفسه بإطار من الغموض والسرية التامة حتى على معاصريه ، فهو لا يكاد يعرف له اسم ولا بلد ، لأنه لم يدخل في الإسلام إلا للكيد له ، و حياكة المؤامرات والفتن بين صفوف المسلمين ، و لهذا لما سأله عبد الله بن عامر والي البصرة لعثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال له : ما أنت ؟ لم يخبره ابن سبأ باسمه و اسم أبيه ، و إنما قال له : إنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام و رغب في جوارك . تاريخ الطبري (4/326-327 ) .
و في رأيي أن تلك السرية التامة التي أطبقها ابن سبأ على نفسه سبب رئيسي في اختلاف المؤرخين والمحققين في نسبة ابن سبأ ، و غير مستبعد أن يكون ابن سبأ قد تسمى ببعض هذه الأسماء التي ذكرها المؤرخون ، بل واستعمل بعض الأسماء الأخرى المستعارة لتغطية ما قام به من جرائم و دسائس في صدر الدولة الإسلامية .
نشأة ابن سبأ :- على ضوء ما تقدم من المعلومات السابقة – في المقال السابق - ، أمكننا الوقوف على الأجواء التي نشأ فيها ابن سبأ ، و نستطيع أن نحدد عدد من النقاط :-
1- بتغليب الروايات السابقة نجد أن ابن سبأ نشأ في اليمن ، سواء كان من قبيلة حمير أو همدان ، ولا نستطيع الجزم بأيهما .(176/3)
2- كان لليهود وجود في اليمن ، غير أنه لا نستطيع أن نحدد وقته على وجه الدقة ، و قد رجح بعض الأساتذة أنه يرجع إلى سنة (70م ) و ذلك حينما نزح اليهود من فلسطين بعد أن دمرها الإمبراطور الروماني ( تيتوس ) و حطم هيكل ( أورشليم ) وعلى إثر ذلك تفرق اليهود في الأمصار و وجد بعضهم في اليمن بلداً آمناً فالتجأوا إليه ، و بعد أن استولى الأحباش على اليمن سنة (525م ) بدأت النصرانية تدخل اليمن . اليمن عبر التاريخ لأحمد حسين (ص 158- 159) .
3- على إثر هذا امتزجت تعاليم ( التوراة ) مع تعاليم ( الإنجيل ) و كانت اليهودية في اليمن يهودية سطحية . مذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي (2/28) .
4- و لكن اليهودية و إن ضعفت في اليمن بدخول الأحباش فيها ، فإنها بقيت مع ذلك محافظة على كيانها ، فلم تنهزم و لم تجتث من أصولها . تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي (6/34) .
و لعلنا من خلال تلك الإشارات ، نستطيع أن محدد المحيط الذي نشأ فيه عبد الله بن سبأ ، والبيئة التي صاغت أفكاره ، خاصة في عقيدة ( الرجعة ) و ( الوصية ) حينما قال : ( لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع و يكذب بأن محمداً يرجع ، و قد قال الله عز وجل إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى ، و إنه كان ألف نبي و وصي و كان على وصي محمد ، ثم قال : محمد خاتم الأنبياء و علي خاتم الأوصياء .. ) . تاريخ الطبري (4/340) .
على كل حال فهي معلومات ضئيلة لا تروي غليلاً ، ولا تهدي سبيلاً ، و لعل مرد ذلك إلى المصادر التي بين أيدينا ، فهي لا تكاد تبين عن نشأة ابن سبأ ، كما أن المعلومات عن فتوة ابن سبأ قبل ظهوره غير موجودة ، و نحن هنا مضطرون للصمت عما سكت عنه الأولون حتى تخرج آثار أخرى تزيل الغبش و تكشف المكنون .
ظهور ابن سبأ بين المسلمين :- جاء في تاريخ الطبري (4/340) و الكامل لابن الأثير (3/77) و البداية والنهاية لابن كثير(7/167) و تاريخ دمشق لابن عساكر (29/ 7-8 ) و غيرهم من كتب التاريخ ضمن أحداث سنة (35هـ ) : أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً من أهل صنعاء وأنه أسلم زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، و أخذ يتنقل في بلاد المسلمين يريد ضلالتهم ، فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم بالشام ، فلم يقدر على شيء فيها ، فأتى مصر واستقر بها و وضع لهم عقيدتي الوصية و الرجعة ، فقبلوها منه و كوّن له في مصر أنصاراً ممن استهواهم بآرائه الفاسدة .
لكن أين و متى كان أول ظهور لعبد الله بن سبأ بين المسلمين ؟
جاء في البداية والنهاية لابن كثير (7/183) ضمن أحداث سنة (34هـ ) ، أن عبد الله بن سبأ كان سبب تألب الأحزاب على عثمان . ثم أورده في أحداث سنة (35هـ) مع الأحزاب الذين قدموا من مصر يدعون الناس إلى خلع عثمان . البداية والنهاية (7/190) .
أما الطبري (4/331) وابن الأثير(3/147) فنجد عندهما ذكر لابن سبأ بين المسلمين قبل سنة ( 34هـ ) في الكوفة ، ( فيزيد بن قيس ) ذلك الرجل الذي دخل المسجد في الكوفة يريد خلع عامل عثمان ( سعيد بن العاص ) إنما شاركه وثاب إليه الذين كان ابن السوداء يكاتبهم .
و هذا يعني ظهور ابن سبأ قبل هذا التاريخ ، و تكوين الأعوان الذين اجتمعوا إلى يزيد بن قيس ، و تأكيد ذلك عند الطبري ( 4/326) وابن الأثير(3/144) ، ففي سنة ( 33هـ ) و بعد مضي ثلاث سنين من إمارة بعد الله بن عامر على البصرة يعلم بنزول ابن سبأ على ( حكيم بن جبلة ) و تكون المقابلة بين ابن عامر وابن السوداء والتي ذكرتها في بداية الموضوع .
ونستمر في الاستقراء فنجد ظهوراً لابن سبأ بين المسلمين قبل هذا التاريخ ، ففي الطبري (4/283) و ابن الأثير (3/114) ، و ضمن حوادث سنة (30هـ ) يرد ابن السوداء الشام ، و يلتقي بأبي ذر و يهيجه على معاوية – و سنأتي على تحقيق القول في قضية تأثير ابن سبأ على أبي ذر فيما بعد - .
ابن سبأ في الحجاز :- لما كان ظهور ابن سبأ في الحجاز قبل ظهوره في البصرة والشام ، فلابد أن يكون قد ظهر في الحجاز قبل سنة ( 30هـ ) ، لأن ظهوره في الشام كان في هذا التاريخ ، و في الحجاز لا تكاد تطالعنا الروايات التاريخية على مزيد من التفصيل ، و لعل في هذا دلالة على عدم استقرار أو مكث لابن سبأ في الحجاز ، عدا ذلك المرور في طريقه التخريبي ، لكنه كما يبدو لم يستطع شيئاً من ذلك فتجاوز الحجاز إلى البصرة . تاريخ الطبري ( 4/340-341) .(176/4)
ظهوره في البصرة :- و في البصرة كان نزول ابن سبأ على ( حكيم بن جبلة العبدي ) ، و خبره كما ورد في الطبري (4/ 326 ) : ( لما مضى من إمارة ابن عامر ثلاث سنين بلغه أن في عبد القيس رجلاً نازلاً على حكيم بن جبلة ، و كان حكيم رجلاً لصاً إذا قفلت الجيوش خنس عنهم ، فسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ، و يتنكر لهم و يفسد في الأرض و يصيب ما يشاء ثم يرجع ، فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان ، فكتب إلى عبد الله بن عامر أن احبسه و من كان مثله فلا يخرج من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً ، فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها ، فلما قدم ابن السوداء نزل عليه ، و اجتمع إليه نفر فطرح لهم ابن السوداء ولم يصرح ، فقبلوا منه واستعظموه .
و بقية خبر الطبري يفيدنا أنه لقي آذاناً صاغية في البصرة ، و إن كان لم يصرح لهم بكل شيء ، فقد قبلوا منه واستعظموه ، و شاء الله أن تحجم هذه الفتنة و يتفادى المسلمون بقية شرها و ذلك حينما بلغ والي البصرة ابن عامر خبر ابن سبأ ، فأرسل إليه و دار بينهما هذا الحوار : ( ما أنت ؟ فأخبره أنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام والجوار ، فقال ابن عامر : ما يبلغني ذلك ! اخرج عني ، فأخرجه حتى أتى الكوفة . تاريخ الطبري (4/326-327) .
ظهوره في الكوفة :- الذي يبدو أن ابن سبأ بعد إخراجه من البصرة وإتيانه الكوفة ، لم يمكث بها طويلاً حتى أخرجه أهلها منها ، كما في بقية خبر الطبري (4/327) : ( فخرج حتى أتى الكوفة ، فأخرج منها فاستقر بمصر و جعل يكاتبهم و يكاتبونه ، و يختلف الرجال بينهم ) .
لكنه وإن كان قد دخل الكوفة ثم أخرج منها سنة ( 33هـ ) ، إلا أن صلته بالكوفة لم تنته بإخراجه ، فلقد بقيت ذيول الفتنة في الرجال الذين بقي يكاتبهم و يكاتبونه . الطبري (4/327) وابن الأثير (3/144) .
ظهوره في الشام :- في ظهور ابن سبأ في الشام يقابلنا الطبري في تاريخه نصان ، يعطي كل واحد منهما مفهوماً معيناً ، فيفيد النص الأول أن ابن سبأ لقي أبا ذر بالشام سنة (30هـ ) و أنه هو الذي هيجه على معاوية حينما قال له : ( ألا تعجب إلى معاوية ! يقول المال مال الله ، كأنه يريد أن يحتجزه لنفسه دون المسلمين ؟ وأن أبا ذر ذهب إلى معاوية وأنكر عليه ذلك ) . تاريخ الطبري (4/283) .
بينما يفهم من النص الآخر : أن ابن سبأ لم يكن له دور يذكر في الشام ، وإنما أخرجه أهلها حتى أتى مصر ، بقوله : ( أنه لم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام ) تاريخ الطبري (4/340) .
و يمكننا الجمع بين النصين في كون ابن سبأ دخل الشام مرتين ، كانت الأولى سنة (30هـ ) ، و هي التي التقى فيها بأبي ذر ، و كانت الثانية بعد إخراجه من الكوفة سنة ( 33هـ ) ، و هي التي لم يستطع التأثير فيها مطلقاً ، و لعلها هي المعنية بالنص الثاني عند الطبري .
كما و يمكننا الجمع أيضاً بين كون ابن سبأ قد التقى بأبي ذر سنة (30هـ ) ، و لكن لم يكن هو الذي أثر عليه و هيجه على معاوية ، و يرجح هذا ما يلي :-
1- لم تكن مواجهة أبي ذر رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه وحده بهذه الآراء ، و إنما كان ينكر على كل من يقتني مالاً من الأغنياء ، و يمنع أن يدخر فوق القوت متأولاً قول الله تعالى { والذين يكنزون الذهب والفضة } [التوبة 34]
2- حينما أرسل معاوية إلى عثمان رضي الله عنه يشكو إليه أمر أبي ذر ، لم تكن منه إشارة إلى تأثير ابن سبأ عليه ، و اكتفى بقوله : ( إن أبا ذر قد أعضل بي و قد كان من أمره كيت و كيت .. ) . الطبري (4/283) .
3- ذكر ابن كثير في البداية (7/170 ، 180) الخلاف بين أبي ذر ومعاوية بالشام في أكثر من موضع في كتابه السابق ، و لم يرد ذكر ابن سبأ في واحد منها ، و إنما ذكر تأول أبي ذر للآية السابقة .
4- ورد في صحيح البخاري ( 2/111) الحديث الذي يشير إلى أصل الخلاف بين أبي ذر و معاوية ، و ليس فيه أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد إلى ابن سبأ ، فعن زيد بن وهب قال : ( مررت بالربذة ، فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه ، فقلت له ما أنزلك منزلك هذا ؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } قال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : نزلت فينا و فيهم ، فكان بيني و بينه في ذلك ، و كتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني ، فكتب إليّ عثمان أن اقدم المدينة ، فقدمتها ، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان ، فقال لي : إن شئت تنحيت فكنت قريباً فذاك الذي أنزلني هذا المنزل .. ) .
5- و في أشهر الكتب التي ترجمت للصحابة ، أوردت المحاورة التي دارت بين معاوية وأبي ذر ثم نزوله الربذة ، و لكن شيئاً من تأثير ابن سبأ على أبي ذر لا يذكر . الاستيعاب لابن عبد البر (1/214) و أسد الغابة لابن الأثير (1/357) والإصابة لابن حجر (4/62) .(176/5)
6- وأخيراً فإنه يبقى في النفس شيء من تلك الحادثة ؛ إذ كيف يستطيع يهودي خبيث حتى و لو تستر بالإسلام أن يؤثر على صحابي جليل كان له من فضل الصحبة ما هو مشهود .
ظهور ابن سبأ في مصر :- على ضوء استقراء النصوص السابقة ، يكون ظهور ابن سبأ في مصر بعد خروجه من الكوفة ، و إذا كان ظهوره في البصرة سنة ( 33هـ ) ، ثم أخرج منها إلى الكوفة ، و من الكوفة استقر بمصر ، فإن أقرب توقيت لظهور ابن سبأ في مصر يكون في سنة ( 34هـ ) ، لأن دخوله البصرة و طرحه لأفكاره فيها و تعريجه على الكوفة ثم طرده منها ، واتجاهه بعد ذلك إلى مصر .. كل هذا يحتاج إلى سنة على الأقل ، و يؤكد هذا ابن كثير في البداية والنهاية (7/284) ، فيضع ظهور ابن سبأ في مصر ضمن أحداث سنة (34هـ ) ، و تابعه في ذلك السيوطي أيضاً في حسن المحاضرة (2/164) ، حيث أشار إلى دخول ابن سبأ مصر في هذا التاريخ .
عبد الله بن سبأ حقيقة أم خيال؟ إن تشكيك بعض الباحثين المعاصرين في عبد الله بن سبأ وأنه شخصية وهمية وإنكارهم وجوده لا يستند إلى الدليل العملي ، ولا يعتمد على المصادر المتقدمة ، بل هو مجرد استنتاج يقوم على أراء وتخمينات شخصية تختلف بواعثها حسب ميول واتجاهات متبنيها ، ويمكن القول إن الشكاك والمنكرين لشخصية ابن سبأ هم طائفة من المستشرقين ، وفئة من الباحثين العرب ، وغالبية الشيعة المعاصرين .
ومن العجب أن هؤلاء المستشرقين وذيولهم من الرافضة والمستغربين في عصرنا أنكروا شخصية عبد الله بن سبأ ، وأنه شخصية وهمية لم يكن لها وجود ، فأين بلغ هؤلاء من قلة الحياء والجهل ، وقد ملأت ترجمته كتب التاريخ والفرق ، وتناقلت أفعاله الرواة وطبقت أخباره الآفاق .
لقد اتفق المؤرخون والمحدثون وأصحاب كتب الفرق والملل والنحل والطبقات والأدب والأنساب الذين تعرضوا للسبئية على وجود شخصية عبد الله بن سبأ الذي ظهر في كتب أهل السنة - كما ظهر في كتب الشيعة - شخصية تاريخية حقيقية. و لهذا فإن أخبار الفتنة ودور ابن سبأ فيها لم تكن قصرا على تاريخ الإمام الطبري و استنادا إلى روايات سيف بن عمر التميمي فيه ، و إنما هي أخبار منتشرة في روايات المتقدمين و في ثنايا الكتب التي رصدت أحداث التاريخ ألإسلامي ، و آراء الفرق و النحل في تلك الفترة ، إلا أن ميزة تاريخ الإمام الطبري على غيره أنه أعزرها مادة وأكثرها تفصيلا لا أكثر. و لهذا كان التشكيك في هذه الأحداث بلا سند وبلا دليل ، إن يعني الهدم لكل تلك الأخبار ، والتسفيه بأولئك المخبرين والعلماء ، وتزييف الحقائق التاريخية .
فمتى كانت المنهجية ضربا من ضروب الاستنتاج العقلي المحض في مقابل النصوص الروايات المتضافرة؟ و هل تكون المنهجية في الضرب صفحاً و الإعراض عن المصادر الكثيرة المتقدمة و المتأخرة التي أثبتت لابن سبأ شخصية واقعية!
و في ما يلي ذكر عدد من المحاور والتي تدور حول ورود أي ذكر لعبد الله بن سبأ أو السبئية – طائفته - في الكتب والمصادر المتقدمة ( السنية والشيعية ، المتقدمة منها والمعاصرة ) ؛ لأن ورود أي ذكر للسبئية دليل على انتسابها له ، و هذا دليل بدوره على وجود ابن سبأ في الحقيقة ، مع الرد على محاولات التشكيك في وجود عبد الله بن سبأ ، و ما ينسب إليه من أعمال ، و سأتّبع فيه الترتيب الزمني للأحداث :-
أولاً : من أثبت وجود عبد الله بن سبأ من الفرقين : أ – عبد الله بن سبأ عند أهل السنة :- 1- جاء ذكر السبئية على لسان أعشى همدان ( ت 84هـ ) في ديوانه (ص 148) و تاريخ الطبري (6/83) و قد هجى المختار بن أبي عبيد الثقفي و أنصاره من أهل الكوفة بعدما فرّ مع أشراف قبائل الكوفة إلى البصرة بقوله :(176/6)
اتبعوا ولا تبتدعوا
17
الاتباع
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
إكمال الله عز وجل لدينه – لا يُقبل من العمل إلا ما وافق السنة – خطورة البدعة وأثرها في الخصومة والعداوة – طريقة أصحاب البدع في الاستدلال – اهتمام السلف بالاتباع وإنكارهم على المبتدعين
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، والزموا سنة نبيكم محمد تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون، لقد أكمل الله هذا الدين ورضيه وأتمَّ به نعمته . . كتاب الله، وسنة رسوله محمد لم يتركا في سبيل الهداية قولاً لقائل، ولم يدعا مجالاً لمتشرِّع، العاقد عليهما بكلتا يديه، مستمسك بالعروة الوثقى، ظافر بخيري الدنيا والأخرى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
روى الطبراني بإسناد صحيح عن النبي أنه قال: ((ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به، وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه))[1].
كل عبادات المتعبدين يجب أن تكون محكمة بحكم الشرع في أمره ونهيه، جارية على نهجه، موافقة لطريقته، وما سوى ذلك فمردود على صاحبه: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))[2]، ((ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))[3]. بذلك صح الخبر عن الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة والسلام.
يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله في السنن الراشدة: سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستعمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تغيير فيها، ولا النظر في رأي يخالفها، من اقتدى بها فهو مهتدٍ، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.
أيها المؤمنون: إن غير سبيل المؤمنين نزعاتٌ وأهواءٌ، وضلالٌ عن الجادة، وشقٌ لعصا الطاعة، ومفارقةٌ للجماعة.
لقد رسم الشرع للعبادات والتكاليف طرقاً خاصة على وجوه خاصة زماناً ومكاناً، وهيئة وعدداً، وقصر الخلق عليها أمراً ونهياً، وإطلاقاً وتقييداً، ووعداً ووعيداً، وأخبر أن الخير فيها، والشر في تجاوزها وتعدِّيها وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
والرسل برحمة الله إلى خلقه مرسلون، ومن رام غير ذلك، وزعم أن ثمَّة طرقاً أُخَر، وعَبَدَ الله بمستحسنات العقول؛ فقد قدح في كمال هذا الدين، وخالف ما جاء به المصطفى الأمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وكأنه يستدرك على الشريعة نقائص.
يقول ابن الماجشون: سمعت مالكاً رحمه الله يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنةً؛ فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]. فما لم يكن يومئذٍ ديناً؛ فلا يكون اليوم ديناً.
الابتداع وتلمُّس المسالك والطرق معاندةٌ للشرع ومشاقةٌ له. وهو محض اتباع الهوى فليس ثمَّة إلا طريقان:
إما طريق الشرع، وإما طريق الهوى... يقول الله عزّ وجلَّ: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].
لقد حصرت الآية الكريمة الحكم في أمرين لا ثالث لهما: إما الاستجابة للمصطفى، وإما اتباع الهوى.
ولئن قصد صاحب البدعة ـ أيها الإخوة ـ ببدعته التقرب إلى الله والمبالغة في التعبد؛ فليعلم أن في هذا مداخل للشيطان عريضة في مسالك ملتوية ووسوسات مميلة، ولم يرضَ هذا المبتلى بما حدَّه الشارع وقدَّره؛ فخرج عن هذه الضوابط وتفلَّت من هذه القيود، وقد يصاحب ذلك عُجبٌ وحبٌّ في الظهور، مع ميول النفس بطبعها إلى قبول الجديد الذي لم تعهده قطعاً للسآمة والملل.
إن القيام بالتكاليف الشرعية فيه كُلفةٌ على النفس؛ لأن فيه مخالفةً للهوى، ومنازعةً للرغبات، فيثقلُ هذا على المبتدع، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها.
وكلُّ بدعة فإن للهوى فيها مدخلاً؛ لأنها راجعة إلى رغبات مخترعها ومبتدعها، ومتمشيةٌ مع هواه وميول نفسه ليست نابعةً من الشرع وأحكامه وأدلته.(177/1)
ومن هنا فإنه قد يظهر من صاحب البدعة اجتهادٌ في العمل والعبادة، وما هذا إلا لخفة يجدها، ونشاطٍ يشعر به لما فيه من موافقة الهوى. ولقد كان الرهبان من النصارى ينقطعون في صوامعهم وأديرتهم على غير طريق الحق وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ [الغاشية:2، 3]. قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]. أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].
وإنَّ قصداً في السنة خير من اجتهاد في بدعة.
وبسبب البدع وأهلها – أيها المؤمنون – يكثر الجدل بغير الحق، وبغير التي هي أحسن، وتحصل الخصومة في الدين. وقد قال قتادة رحمه الله في قوله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ [آل عمران:105]. قال: هم أهل البدع.
وقال بعض أهل العلم: كل مسألة حدثت في الإسلام واختلف الناس فيها، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة؛ فهي من مسائل الإسلام.
وكل مسألة حدثت أو طرأت؛ فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة ليست من أمر الدين في شيء.
وأصحاب البدع يتبعون المتشابه، ويتعسفون في التأويل حتى فسِّر قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]. بأنهم أهل البدع والأهواء.
وحينما قال أهل التحكيم لعليٍّ رضي الله عنه: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ [الأنعام:57]. قال: كلمةُ حقٍّ أريد بها باطل.
وقد تأكد في الأخبار النبوية أنه ما قامت بدعة إلا وأميتت سنة.
أخرج أحمد والبزار من حديث غضيف بن الحارث مرفوعاً: ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسكٌ بسنةٍ خير من إحداث بدعة))[4].
وأخرج أحمد أيضاً والطبراني والبزار من حديث غضيف عن النبي أنه قال: ((ما من أمة ابتدعت بعد نبيها في دينها بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة))[5]، فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن في ظهور البدع انطماساً للسنن، فالسعيد من عضَّ على السنة بالنواجذ، فأحياها ودعا إليها، فردَّ الله بها مبتدعاً، وهدى بها زائغاً وأنقذ بها حائراً.
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى عدي بن أرطاة بشأن بعض القدرية: (أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه ، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت به سنة، فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارضَ لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصرٍ نافذٍ كفوا، وهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضلٍ كانوا فيه أحرى، إنهم هم السابقون، تكلَّموا بما يكفي، وصفوا ما يشفي، فما دونهم مقصِّر، وما فوقهم محسِّر، لقد قصَّر فيهم قوم فجفَوا، وتجاوز آخرون فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم)[6].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
[1] صحيح، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: كتاب الجامع – باب القدر، حديث (20100)، وابن أبي شيبة: كتاب الزهد – باب ما ذكر عن نبينا في الزهد (8/129)، والطبراني في المعجم الكبير، حديث (1647)، قال الهيثمي في المجمع: ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، وهو ثقة (8/264).
[2] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الأقضية – باب نقض الأحكام الباطلة... حديث (1718).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلح – باب إذا اصطلحوا على صلح جور... حديث (2697)، ومسلم: كتاب الأقضية – باب نقض الأحكام الباطلة... حديث (1718).
[4] ضعيف، مسند أحمد (4/105)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث (1/188)، قلت: وفيه أيضاً بقية بن الوليد مدلس وقد عنعن. وانظر صلاح المساجد من البدع والعوائد للقاسمي بتعليق الألباني (ص49)، ولم أجده في المطبوع من مسند البزار.(177/2)
[5] ضعيف، لم أجده في المسند ولم يعزه الهيثمي له حيث قال في المجمع: رواه الطبراني في الكبير، وفيه أبو بكر بن أبي مريم، وهو منكر الحديث (1/188)، قلت: أخرجه الطبراني في الكبير (18/99)، والبزار (131)، وفي إسناده أيضاً محمد بن عبد الرحيم ضعفه الدارقطني وشريح بن العمان، قال أبو حاتم: شبه المجهول، انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/334) وفيض القدير (5/471)، إصلاح المساجد للقاسمي بتعليق الألباني (ص13)، وضعيف الجامع (5155).
[6] أخرجه أبو داود في: السنة، باب: لوزم السنة (4612).
الخطبة الثانية
الحمد لله، له الحمد في الأولى والآخرة، أحمده وأشكره على نعمه الباطنة والظاهرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، هدى بإذن ربه القلوب الحائرة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه نجوم الدجى والبدور السافرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اتبعوا رحمكم الله ولا تبتدعوا، فقد كفيتم. يقول حذيفة رضي الله عنه: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله فلا تعبَّدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً.
أخرج الدارمي بسند صحيح أن أبا موسى الأشعري قال لابن مسعود رضي الله عنهما جميعاً: (إني رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟؟ ثم أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، وَيْحَكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم؛ هؤلاء أصحابه متوافرون. وهذه ثيابه لم تبلَ، والذي نفسي بيده أنتم لعلى ملةٍ هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه؟)[1].
وروي أن رجلاً قال لمالك بن أنس: من أين أُحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله . قال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وأي فتنة في ازدياد الخير؟؟ فقال مالك: فإن الله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خُصصت بفضل لم يخص به رسول الله ؟!
فاتقوا الله – يرحمكم الله – وخذوا بالنهج الأول، وعليكم بالاتباع، وابتعدوا عن الابتداع.
[1] إسناده حسن، أخرجه الدارمي في المقدمة – باب في كراهية أخذ الرأي، حديث (204) وهو حسن الإسناد لأن فيه الحكم بن المبارك قال فيه ابن حجر، صدوق ربما وهم، التقريب (1466).(177/3)
احتياجات المسجد
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى أله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن المساجد من أشرف البقاع وأفضلها على الإطلاق، وهي من أحب الأماكن إلى الله، بل لعلو قدرها وشرفها أضافها الله إليها، قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } 1 .
وقد جعل الله السعي في تخريبها، ومنع الناس من ذكر الله فيها من أعظم الظلم وأشنعه؛ قال الله – تعالى - : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } 2 .
وفي المقابل أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ كما في حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنة "3.
ولعل المقصود بالبناء هنا البناء الحسي، وذلك يشمل توفير جميع احتياجات ومتطلبات المسجد، والتي يمكن ذكر بعضها في نقاط رئيسية:
1- ينبغي على من موّل مسجداً من ماله، أو سعى في بنائه تعين إمام وخطيب للمسجد، وعليه أن يتقي الله ويتحرى في تعين ذلك الإمام أو الخطيب أهليتهما للقيام بتوصيل رسالة المسجد إلى الناس كما ينبغي ، فلا يعين إماماً أو خطيباً مبتدعاً ضالاً أو جاهلاً .كما يضع في حسابه أن ذلك الخطيب أو الأمام لابد لهما مما يقتاتان به وأهلهما فإذا كان الباني أو القائم على بناء المسجد ممن يجد سعة من المال فلا مناص في تعينه لذلك الإمام أو الخطيب من أن بجعل لهما راتباً شهرياً، وهذا من دليل كمال بنائه للمسجد.
2- بناء مرافق للمسجد من سكن للإمام والخطيب والمؤذن، والبواب، ومخزن للممتلكات وأدوات المسجد الخاصة به.
3- بناء مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، وتعليم السنة النبوية، وذلك يستدعي تفريغ معلمين ومعلمات لتعليم القرآن والسنة للفتيان والفتيات.
4- إنشاء مكتبة مقروءة وأخرى مسموعة، ويوفر فيها الكتب والكتيبات والمطويات العلمية ، والأشرطة العلمية والدعوية النافعة، ويحبذ أن تكون في مؤخرة المسجد.
5-توفير جميع ما يمكن أن تكون به المحافظة على نظافة المسجد من موظفين ولوازم للنظافة ؛ مكانس ومنظفات وغير ذلك .
6- وضع صندوق خاص للفتاوى، وآخر للمقترحات والملاحظات.
7- تعين جهات خاصة بصيانة الإعطاب في الأنوار وأجهزة الصوت وغيرها أو إحضار الجهات المؤهلة للقيام بذلك .
والله نسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
والحمد لله رب العالمين.
-------
1 - سورة الجن(18)
2 - سورة البقرة(114).
3 - رواه البخاري ومسلم.(178/1)
احذر الفتن !
كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه! وولد لا يعذره! وجار لا يأمنه! وصاحب لا ينصحه! وشريك لا ينصفه! وعدو لا ينام عن معاداته! ونفس أمارة بالسوء! ودنيا متزينة! وهوى مردٍ! وشهوة غالبة له! وغضب قاهر! وشيطان مزين! وضعف مستولٍ عليه.. فإن تولاه الله وجذبه إليه انبهرت له هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة..!
لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة، والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الإكتفاء بهما، وعدلوا إلى الإستحسان والقياس، وتقليد الشيوخ- في الحكم بغير شرع الله... عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم،وعمتهم هذه الأمور، وغلبت عليهم، حتى ربى فيها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكراً ، فجاءتهم دولة أخرى، قامت فيها البدع مقام السنن ، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل.. فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور، وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلها هم المشار إليهم..
فيا أخي: إذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت، وراياتها قد نصبت، وجيوشها قد ركبت.. فبطن الأرض – والله – خير من ظهرها، وقلل الجبال خير من السهول، ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس!
يا الله عفوك... اقشعرت الأرض.. وأظلمت السماء.. وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة.. وذهبت البركات.. وقلت الخيرات... وهزلت الوحوش.. وانكدرت الحياة من فسق الظلمة.. وبكى ضوء النهار، وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش!! وغلبة المنكرات والقبائح! وهذا – والله – منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه.. فاعزلوا عن طريق السبيل بتوبة نصوح، مادامت التوبة ممكنة، وبابها مفتوح، وإلا كأنك بالباب وقد أطبق، وبالرهن وقد أغلق، وبالجناح وقد أعلق (( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ )) { الشعراء227 .
فيا من ضيع عمره في الأماني .. اشترِ نفسك اليوم فإن السوق قائمة، والثمن موجود، والبضائع رخيصة، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لاتصل فيها إلى قليل ولا كثير.. ذلك يوم التغابن، يوم يعض الظالم على يديه:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى وأبصرت يوم الحشر من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
تزينت الدنيا لعلي، فقال: أنت طالق ثلاثاً، لا رجعة لي فيك! وكانت تكفيه واحدة للسنة؛ لكنه جمع الثلاث لئلا يتصور للهوى جواز المراجعة!! ودينه الصحيح، وطبعه السليم يأنفان المحلل1.. كيف وهو أحد رواة حديث (لعن الله المحلل).2
ويا مسكين ... احذر أن يبعدك الله عنه بسبب المعاصي فقد لعن إبليس وأهبط من منزل العز بترك سجدة.. فما نفعه بعدها رجوع ولا نجدة.. وأخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها.. فيا صريع الهوى كم من لقم أكلتها من ورشوة، وظلم، وضريبة، وربا، .. ثم مع كل هذا لا تخاف أن يطردك الله من رحمته!! وأمر الله بقتل الزاني أشنع القتلات، بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحل، وأمر بإيساع الظهر سياطاً بكلمة قذف أو بقطرة من سكر، وأبان عضواً من أعضائك بثلاثة دراهم.. فلا تأمنه أن يحبسك في النار بواحدةٌ من معاصيه , قال عليه الصلاة والسلام:( دخلت امرأة النار في هرة)،3 وقال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب))4.وقال: ((وإن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة، فإذا كان عند الموت جار في الوصية فيختم له بسوء عمله فيدخله النار))5.
كيف فلاحك بين إيمان ناقص... وأمل زائد.. ومرض لا طبيب له ولا عائد.... ساهياً في غمرتك.. عَمِهاً في سكرتك.. سابحاً في لجة جهلك... مستوحشاً من ربك.. مستأنساً بخلقه ، ذكر الناس فاكهتك وقوتك.. وذكر الله حبسك وموتك..6.
كم جاءك الثواب يسعى إليك فوقف بالباب! فرده بوَّاب: سوف ولعل وعسى..
فيا هذا الغفلة الغفلة، فتفوتك الفرص ... والنجاة النجاة ، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل
وفي الأحباب مختص بوجد وآخر يدعي معه اشتراكا
إذا اشتبهت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
-------------------
1- المحلل: هو أن يتزوج المطلقة ثلاثاً، ثم يطلقها لتحل للزوج الأول باتفاق بينهما، وهذا حرم لا يجوز.. والمقصود في مقام الوعظ هنا، أن علياً رضي الله عنه طلق الدنيا ثلاثاً ولا يمكن أن يعود إليها كما يفعل المحلل والمحلل له.
2- حديث صحيح رواه أبو داوود وابن ماجة، والترمذي وغيرهم.
3- رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
4- رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
5- حديث صحيح رواه أبو داوود والترمذي وغيرهما.(179/1)
6- كل ما سبق من كلام ابن القيم من كتابه (الفوائد) بتصرف وزيادات قليلة ومداخلات.(179/2)
احذرأقوال وأفعال واعتقادات خاطئة
إعداد/ طلعت ظهران
1 ـ تبادل الذهب بالذهب مع أخذ أو دفع الفرق:
فإن هذا لا يجوز؛ لقوله صلى الله عليه
وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، إلا وزنًا بوزن، مثلاً بمثل،
سواءً بسواء».
[صحيح رواه مسلم 7213]
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلاً بمثل - يعني الذهب بالذهب». [صحيح -
رواه مسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر
بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يدًا بيد،
فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء».
[صحيح - رواه مسلم
3446]
وثبت في «الصحيحين» وغيرهما في قصة بلال رضي الله عنه، أنه جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم بتمر جيد فقال له: «أكلُّ تمر خيبر هكذا ؟» قال: لا، ولكننا
نبتاع الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «أوّه لا تفعل ! عين الربا عين الربا، بع الجمع بالدراهم، ثم اشترِ
بالدراهم جنيبًا». أي تمرًا جيدًا.
2 ـ العمل في تفصيل ملابس النساء الخارجية
الضيقة والقصيرة والشفافة والمفتوحة من الخلف أو الأمام:
كل هذا لا يجوز؛ لأن
هذا يعمل على إظهار المفاتن ويشجع على الإثارة والفاحشة، قال تعالى: إن
الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم
عذاب أليم في الدنيا والآخرة[النور: 19].
3- بيع ما لا
تملكه:
فلا يجوز للإنسان أن يبيع شيئًا لا يملكه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
«لا تبعْ ما ليس عندك».
[صحيح]
فمثلاً: رجلٌ يريد شراء سلعة وليس عنده ثمنها،
فيذهب إلى من عنده المال فيشتريها له، ثم يأخذ منه الثمن مؤجلاً أكثر من ثمنها،
حيلةٌ على الربا واضحة جدًا، وهي صورة من بيع العينة، قال تعالى: يمحق
الله الربا ويربي الصدقات <<[البقرة: 276]
أما إذا اشتراها وتسلمها
ودخلت في ملكه وضمانه ثم باعها نسيئة فلا حرج.
4 ـ أكل أموال الناس بالباطل من
أخذ رشوة أو خلو الرجل - أو الهدايا لإنهاء مصلحة - أو أخذ مبلغ من المال نظير
ختم الاستمارات بالختم الرسمي، أو استخدام السيارات الحكومية للتكسب منها:
قال
صلى الله عليه وسلم: «كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به».
قال صلى الله عليه
وسلم: «يأتي على الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال؟ من حلال أو
حرام». [صحيح: رواه النسائي 8003]
وقال تعالى: وليخش الذين لو
تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم
فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا[النساء: 9].
5 ـ الإقراض
أو الاقتراض بفائدة:
قال الله تعالى: الذين يأكلون الربا لا
يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من
المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا
وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من
ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد
فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون[البقرة: 275].
وعن
جابر رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: آكل الربا، وموكله،
وكاتبه، وشاهديه». وقال: «هم سواء». [مسلم برقم 1597]
وعن سمرة بن جندب رضي
الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت الليلة رجلين أتياني
فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى
وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج
رمى الرجل بحجر في فيه فَرُدَّ حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر
فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا ؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا». [البخاري
برقم 2085]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة». [سنن ابن ماجه 2/765 برقم
2279، وقال الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 5/120: حديث صحيح]
وعن أبي
هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ليأتين على الناس زمان
لا يبالي المرء بما أخذ المال أمِن الحلال أم مِنَ الحرام». [البخاري مع الفتح
4/313 برقم 2083 و4/296، برقم 2059 باب من لم يبال من حيث كسب المال]
أخبر
النبي صلى الله عليه وسلم بهذا تحذيرًا من فتنة المال، فهو من بعض دلائل نبوته
صلى الله عليه وسلم بإخباره بالأمور التي لم تكن في زمنه، ووجه الذمّ من جهة
التسوية بين الأمرين، وإلا فأخذ المال من الحلال ليس مذمومًا من حيث هو، والله
أعلم.
[الفتح 4/297]
ورُوِي عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، أنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشدُّ من ستٍّ
وثلاثين زنية».
[السلسلة الصحيحة 2/29 برقم 1033]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما
قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترى الثمرة حتى تطعم، وقال: «إذا
ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلّوا بأنفسهم عذاب الله».
[أخرجه الحاكم وصححه
ووافقه الذهبي 2/37]
إلى اللقاء في الحلقة القادمة(180/1)
احذروا الرياء
إعداد/ صلاح نجيب الدق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الرياء داء عضال، يغضب الرب ويحبط الأعمال حذر منه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة، لسوء عاقبته، وخدشه للتوحيد، عافانا الله من خطره وشره.
معنى الرياء: الرياء مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة ليراها الناس فيحمدوا صاحبها. [فتح الباري جـ11 ص443]
التحذير من الرياء وصية ربانية: إن الله حذرنا من الرياء في الأقوال والأفعال وذلك في كثير من آيات القرآن الكريم، وبين لنا سبحانه أن الرياء يحبط الأعمال الصالحة.
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر [البقرة:462].
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ عند تفسيره لهذه الآية: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كما تبطل صدقة من راءى بها الناس فأظهر لهم أنه يريد وجه الله، وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة، ليُشكر بين الناس أو يُقال إنه كريم جواد ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، ولهذا قال سبحانه: ولا يؤمن بالله واليوم الآخر.
[ابن كثير جـ2 ص364]
وقال سبحانه: إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [النساء:241].
قال ابن كثير في هذه الآية: لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله، بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة، ولهذا يتخلفون كثيرًا عن الصلاة التي لا يُرون فيها غالبًا كصلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس. [تفسير ابن كثير جـ4 ص813]
فاحذر أخي المسلم من الرياء لأنه من صفات المنافقين الذين قال الله عنهم في كتابه العزيز إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا [النساء:541].
وقال سبحانه وتعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [الكهف:011].
قال ابن كثير في قوله تعالى: فليعمل عملا صالحا أي ما كان موافقًا لشرع الله، وقوله ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وهو الذي يُراد به وجه الله تعالى وحده لا شريك له.
[ابن كثير جـ9 ص502]
وقال جل شأنه: وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون [الزمر:74].
قال مجاهد في معنى هذه الآية: عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات، وقال سفيان الثوري في هذه الآية: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم.
[الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ51 ص452]
وقال سبحانه موضحًا عقوبة المرائين يوم القيامة: فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون (5) الذين هم يراءون (6) ويمنعون الماعون [الماعون:4-7].
الرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا من خطورة الرياء
إن النبي صلى الله عليه وسلم يحب لنا الخير ويحرص على إرشادنا لما فيه سعادتنا في الدنيا والآخرة، قال تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [التوبة:821].
من أجل ذلك حذرنا في كثير من أحاديثه الشريفة من الرياء لأنه يحبط الأعمال الصالحة ويجعلها هباءً منثورًا.
روى أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر». قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء. يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: «اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤن في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً؟». [صحيح، صحيح الجامع حديث 5551]
روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً، أشرك فيه معي غيري تركتُهُ وشِرْكه». [مسلم حديث 5892]
روى الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سَمَّع، سَمَّعَ الله به، ومن يرائي يرائي الله به». [البخاري 9946، مسلم 6892]
قال الخطابي في معنى هذا الحديث: من عمل عملا على غير إخلاص، إنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جُوزي على ذلك بأن يشهره ويفضحه، فيبدو عليه ما كان يبطنه ويُسرُّه من ذلك. [الكبائر ص751]
روى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تعلَّم علمًا مما يُبتغى به وجه الله، لا يتعلمُهُ إلا ليصيب به عَرَضًا من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يومَ القيامة». عَرْف الجنة: ريحها.
[حديث صحيح، صحيح أبي داود 2113]
روى الترمذي عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار».
[حديث حسن، صحيح الترمذي 9312](181/1)
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول الناس يُقضى عليه، رجل استشهد فَأَتى به فعرَّفه نِعمهُ فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال قاتلت فيك حتى استشهدتُ. قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يُقالَ جَريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقِيَ في النار. ورجل تعلم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأُتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمتُ العلم وعلمتُهُ وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليُقالُ عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسَّعَ الله عليه وأعطاه من أصناف المال كُلِّه، فأُتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جَوَاد. فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار. [مسلم 5091]
أقوال السلف في ذم الرياء: إن لسلفنا الصالح أقوالاً وأفعالاً تدل على ذمهم الرياء، سوف نذكر طرفًا منها:
1 ـ عمر بن الخطاب: نظر عمر إلى رجل يطأطئ رقبته، فقال له: يا صاحب الرقبة: ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوق في القلوب. [الكبائر للذهبي ص951]
2 ـ علي بن أبي طالب: قال علي رضي الله عنه: للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط في الناس، ويزيد في العمل إذا أثنى عليه وينقص إذا ذم به. [الكبائر 951]
3 ـ أبو أمامة الباهلي: أتى أبو أمامة على رجل وهو ساجد يبكي في سجوده، ويدعو فقال له: أنت! أنت لو كان هذا في بيتك.
[الكبائر ص951]
4 ـ الحسن البصري: قال الحسن: المرائي يريد أن يغلب قدر الله فيه، هو رجل سوء يريد أن يقول للناس هو صالح، فكيف يقولون وقد حَلَّ من ربه محل الأردياء. [الكبائر ص851]
5 ـ قتادة بن دعامة: قال قتادة: إذا راءى العبد، يقول الله: انظروا إلى عبدي كيف يستهزئ بي. [الكبائر ص951]
6 ـ الفضيل بن عياض: قال الفضيل: ترك العمل لأجل الناس شرك، والعمل لأجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
[الكبائر ص951]
7 ـ محمد بن المبارك الصوري: قال محمد بن المبارك الصوري: أظهر السمت بالليل، فإنه أشرف من إظهاره بالنهار، لأن السمت بالنهار للمخلوقين، والسمت بالليل لرب العالمين.
[الكبائر ص951]
مَثَلُ الرياء: قال بعض الحكماء: مثل من يعمل رياء وسمعة كمثل من ملأ كيسه حصى ثم دخل السوق ليشتري به، فإذا فتحه بين يدي البائع، افتضح وضرب به وجهه فلم يحصل له به منفعة سوى قول الناس: ما ملأ كيسه، ولا يُعطى به شيئًا، فكذلك من عمل للرياء والسمعة، لا منفعة له في عمله سوى مقالة الناس ولا ثواب له في الآخرة.
قال تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [الفرقان:32].
أي الأعمال التي قصد بها غير ربه تعالى، يبطل ثوابها، وصارت كالهباء المنثور وهو الغبار الذي يُرى في شعاع الشمس.
[الزواجر لابن حجر الهيثمي جـ1 ص08]
أقسام العمل مع الرياء:
القسم الأول: عمل فيه رياء خالص:
إن العمل تارة يكون رياءً خالصًا، بحيث لا يُراد به سوى مراآة المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم، وهذا الرياء الخالص لا يكاد يصدر من مسلم في فرض الصلاة والصيام ولكن قد يصدر منه في الصدقة الواجبة أو الحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
[جامع العلوم والحكم جـ1 ص08]
القسم الثاني: عمل لله مع رياء:
وتارة أخرى يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه في أصله، فالنصوص الصحيحة من السنة تدل على بطلان هذا العمل وحبوطه ثوابه. [جامع العلوم والحكم جـ1 ص08]
القسم الثالث: عمل يخالطه غير الرياء:
إن العمل إذا خالطه شيء غير الرياء لم يبطل بالكلية، فإن خالط نية الجهاد مثلا نية أخرى غير الرياء، مثل أخذ أجرة للخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر المجاهد ولم يبطل بالكلية.
[جامع العلوم والحكم جـ1 ص28]
روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثُلُثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تمَّ لهم أجرهم». [مسلم 6091]
القسم الرابع: عمل خالص لله ثم تطرأ عليه نية الرياء:(181/2)
إذا كان أصل العمل لله وحده ثم طرأت عليه نية الرياء، فإن كان خاطرًا ودَفَعهُ فلا يضره بغير خلاف بين العلماء، فإن استرسل معه، فهل يَحبطُ عمله أم لا يضره ذلك ويُجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف، قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، ورجَّحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازي بنيته الأولى، وهذا القول مروي عن الحسن البصري وغيره، وذكر ابن جرير الطبري أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج فأما ما لا ارتباط فيه كالقراءة والذِّكر وإنفاق المال، ونشر العلم، فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة، ويحتاج إلى تجديد نية. [جامع العلوم والحكم جـ1 ص38-48]
القسم الخامس: عمل لله يصاحبه ثناء الناس:
إذا كان عمل المسلم عملا خالصًا لوجه الله تعالى ثم ألقى الله له الثناءَ الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، ففرح المسلم بفضل الله ورحمته واستبشر به لم يضره ذلك.
[جامع العلوم والحكم جـ1 ص48-58]
روى مسلم عن أبي ذر قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجلَ يعملُ العمل من الخير، ويَحْمَدُهُ الناس عليه؟ قال: «تلك عاجل بُشرى المؤمن». [مسلم 2462]
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(181/3)
احذروا غضب الله
قال الله تعالى : ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير . قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير . يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد ) [سورة آل عمران : الآيات : 28- 30] .
يحذر الله تعالى عبادَه غضبَه وعقابَه، فإن المصير إليه، والحساب والجزاء ملك يديه، وإنما التحذير من أمرين، هما سبب سخط الله تعالى على مرشتكبهما:
أولهما: اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين. ويشمل هذا التحذير عامة المسلمين وخاصتهم، فلا يجوز لأي مسلم سواء أكان من المحكومين أم من الحكام، أن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وهو للحكام أخص وأكثر، إذ من قبلهم يكون التأثير أشد وأكبر على مصالح الإسلام والمسلمين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار فيتخذوهم أولياء". فما بالنا بمن يعينهم على مسلم أو فئة من المسلمين!!
إن هذا التحذير يطالكم أيها العملاء، يا من بعتم دينكم وأنفسكم بعرض زائل من الدنيا.
ويطالكم أيها الحكام والقادة إذا اشتريتم رضا أمريكا والصهاينة بسخط الله تعالى، واعلموا أن المضطر منكم معذور شرط أن يكون قلبه مطمئن بالإيمان، وما لم يسفك دم مسلم ، وإنما يتقى الكفار (إلا أن تتقوا منهم تقاة) لدفع مفسدة أكيدة تصيب الإسلام والمسلمين العامة، خاصة في حال ضعفهم. أما أن يتقى شر الكفار بالتضييق على المسلمين تارة وبقتل بعضهم تارة أخرى فهذا موالاة ومشاركة لا تقية.
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد البغضاء من أفواههم وما تخيف صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) فبينت الآية الكريمة أسباب حرمة اتخاذ غير المؤمنين (يهود، ونصارى، ومنافقين) بطانة للحكام والقادة المسلمين، فهم لا يدخرون وسعا لإفساد المسلمين، يودون عنتكم (ما يشق عليكم).
وثانيهما: العمل السيئ، إذ لا تخفى على الله خافية، فكل أعمال العباد حاضرة مدونة، فهو عليم بذات الصدور، فإنك مهما اجتهدت في إخفاء سيئتك فإن الله تعالى يعلمها، وقادر على إحضارها، وقادر على فضيحتك في الدنيا والآخرة، وقادر على مجازاتك بأشد العذاب، ولكنه سبحانه وتعالى يعطيك فرصة تلو أخرى لأنه (رءوف بالعباد)، بعباده الذين أقروا له بالعبودية، والعبودية من أعظم المقامات، وأجل القربات. فالرأفة لن تطال الجاحدين بعبادة الله تعالى المستكبرين عليها.
عباد الله ...
ستجد كل نفس أعمالها حاضرة بين يدي الله تعالى يوم القيامة، كل أعمالها، حسنها وقبيحها، فانظر أيها المسلم بأي عمل تريد أن تقابل الله تعالى؟
والسؤال يتجه لأصحاب السلطة قبل غيرهم، كيف ستقابلون الله تعالى، بل كيف ستبررون ما أصاب شعوبكم من بلاء وشدة وذلة ومهانة ؟
لقد أصبح العرب والمسلمون في بلاد الغرب محلا للمارسات العنصرية السيئة، فقد طالعتنا الصحافة السويدية بهذا الخبر العجيب :
إجبار ثلاثة ركاب عرب على مغادرة طائرة سويدية
الركاب شعروا بالقلق من وجود العرب الثلاثة وقائد الطائرة ارتاب في قيامهم بحجز التذاكر في آخر لحظة فطلب منهم مغادرة الطائرة .
14 أكتوبر/ تشرين أول- جود نيوز - قالت صحيفة سويدية يومية أن ثلاثة سويديين من أصل عربي أُجبروا على مغادرة طائرة قبل إقلاعها من ستوكهولم بعد أن شعر عدد من الركاب بالقلق من وجودهم.
وذكرت صحيفة داجنز نيهتير أن الثلاثة ذكروا انهم اشتروا تذاكرهم في آخر لحظة لان ثمنها يكون أرخص في ذلك الوقت.
ولم يواجه الثلاثة مشاكل أثناء إجراءات التفتيش ولدى دخول الطائرة التي كانت متجهة إلي جزر الخالدات (كناريا) في المحيط الأطلسي. إلا إن قائد الطائرة الذي اخبره الطاقم أن بعض الركاب أعربوا عن مخاوفهم من "السلوك الغريب" المزعوم لهم ارتاب بسبب حجزهم التذاكر في آخر لحظة وطلب منهم مغادرة الطائرة. ونقلت الصحيفة عن متحدث باسم الشرطة قوله "قائد الطائرة هو الملك وله الحق في أن يقرر طرد ركاب". وقال أحدهم ويدعى إسماعيل فودة للصحيفة "هذا أمر مثير للاشمئزاز". أضاف انه يعتزم تقديم شكوى إلى سلطات مكافحة التمييز.
توصيات :
الدعاء والقنوت لرفع هذه النوازل الشديدة التي ألمت بالعالم الإسلامي أجم(182/1)
احفظ الله يحفظك ( 1-2)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على الهادي البشير، والسراج المنير، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
فإن الله تعالى فعَّال لما يريد، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، وهو سبحانه لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا مفر من قبضته، ولا غنى عن رحمته، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، يجزي المحسن على إحسانه قرباً، والمسيء على إساءته بعداً، وإليه المنقلب والمآل، وعليه الاعتماد والاتكال.
نص الحديث:
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف " 1 . وفي رواية غير الترمذي: " احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أنّ النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسرِ يسراً " 2.
أهمية الحديث :
هذا حديث عظيم من جوامع كَلِمه صلى الله عليه وسلم تضمن قواعد جامعة، ووصايا نافعة، قال ابن رجب: وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة، وقواعد كلية من أهم أمور الدين، حتى قال بعض العلماء: تدبَّرتُ هذا الحديث، فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه 3.
الشرح:
الصحابي الجليل عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ترجمان القرآن، وحبر الأمة، وعالم من علماء الصحابة، وهو صاحب التفسير المعروف، وكان من الصحابة الذين يردفهم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، فكان ذات يوم راكباً خلف النبي صلى الله عليه وسلم فناداه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " يا غلام " والغلام يطلق على من لم يبلغ خمس عشرة سنة.
قوله: " احفظ الله " أي حفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره، ونواهيه، وحفظ ذلك: هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله، الذين أثنى عليهم في كتابه، قال تعالى : {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} 4. وفُسِّر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامر الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها.5
قوله: " يحفظك " أي أن حافظ حدود الله، وراعي حقوقه، يحفظه الله في الدنيا من الآفات والمكروهات، وفي الأخرى من أنواع العقاب والدركات، لأن الجزاء من جنس العمل، ونظير هذا في كتاب الله عز وجل : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } 6 . وقوله تعالى : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }7 . وقوله تعالى: { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ } 8.
بل من حفظ حدود الله وراعى حقوقه في صباه فإنه يُحفظ عند شيخوخته وكِبَره، قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله.ثم ذكر أن بعض العلماء كان قد جاوز المائة سنة، وهو ممتع بقوته وعقله، فوثب يوماً وثبة شديدة، فعوتب في ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر. وعكس ذلك أن بعض السلف أتى شيخاً يسأل الناس، فقال: إن هذا ضيع الله في صغره، فضيعه الله في كبره 9.
بل ليس في حفظ حدود الله ومراعاة حقوق الله حفظ الحافظ لها في شيخوخته وكبره فحسب، بل يتعدى ذلك حفظ لذريته بعد موته، قال الله تعالى:{ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}10 . قال ابن عباس رضي الله عنه: إنهما حُفظا بصلاح أبيهما. وقال سعيد بن المسيب لابنه: لأزيدنّ في صلاتي من أجلك رجاء أن أُحفظ فيك، ثم تلا هذه الآية. { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } 11. وقال عمر بن عبد العزيز- رحمه الله - : ما من مؤمن يموت إلا حُفظ اللهُ في عقبه وعقب عقبه. وقال ابن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده، والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر.
وبالجملة فإنَّ من اتقى الله فقد حفظه الله من كل أذى، قال بعض السلف: من اتقى الله فقد حفظ نفسه، ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه، والله الغني عنه 12.(183/1)
قال تعالى : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا} 13. قال القاسمي - رحمه الله - : في الآية إشارة إلى إرشاد الآباء الذين يخشون ترك ذرية ضعافاً بالتقوى في سائر شؤونهم حتى تحفظ أبناؤهم بالعناية منه تعالى. وإشارة إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع 14. ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية حافظة له من الأذى، كما جرى لسفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كُسر به المركب ، وخرج إلى جزيرة، فرأى الأسد ، فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق، فلما أوقفه عليها، جعل يهمهمُ كأنّه يودّعه، ثم رجع عنه، ورؤي إبراهيم بن أدهم نائماً في بستان وعنده حية في فمها طاقة نرجس، فما زالت تذب عنه حتى استيقظ.
وعكس هذا أن من ضيع الله ضيعه الله، فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجوا نفعه من أهله وغيرهم؛ كما قال بعض السلف: إني لأعصي الله، فأعرف ذلك في خُلُق خادمي ودابَّتي 15.
قوله: " احفظ الله تجده تجاهك " أي أن من حفظ حدود الله، وراعى حقوقه فإن الله معه في كل أحواله، يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده، قال تعالى:{ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}16. قال قتادة: من يتق الله يكن معه، ومن يكُن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام،، والهادي الذي لا يضل 17.
قوله : " تعرف إلى الله في الرخاء؛ يعرفك في الشدة " يعني أن العبد إذا اتقى الله، وحفظ حدوده، وراعى حقوقه في حال الرخاء، فقد تعرّف بذلك إلى الله، وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة، فيعرفه ربه في حال الشدة، وهذه معرفة خاصة تقتضي قرب العبد من ربه، ومحبته له، وإجابته لدعائه 18. وقد جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يستجيب الله له عن الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء " 19. وهذا نبي الله يونس - عليه السلام - لماَّ كان من المؤمنين الذاكرين لله في حال الرخاء استجاب لله له في حال الشدة، وأخرجه من ظلمات ثلاث: ظلمة الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل، قال الله تعالى : { فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 20. وقال تعالى : { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} 21. وفرعون لماَّ كان من الكافرين المتكبرين، أرداه في الهالكين، وجعله عبرة للمعتبرين، ولذلك لما أدركه الغرق، قال : آمنت، فقال الله تعالى : {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} 22 . وأعظم الشدائد والكرب عند نزول هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ثم سؤال منكر ونكير، ثم الوقوف في العرصات، ثم الحساب، ثم الميزان، ثم تطاير الصحف، ثم المرور على الصراط، ثم الحسرة والكرب الذي ما بعده حسرة ولا كرب وهو التدحرج إلى النار- والعياذ بالله - . وبالتالي فلا خلاص من تلك الشدائد والكرب إلا بتقوى الله، وذكره في حال الرخاء قبل فوات الآوان، قال ابن رجب - رحمه الله - : فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه، واستعد حينئذٍ للقاء الله بالموت وما بعده، ذكره الله عند هذه الشدائد، فكان معه فيها، ولطف به، وأعانه، وتولاَّه، وثبته على التوحيد، فلقيه وهو عنه راض، ومن نسي الله في حال صحته ورخائه، ولم يستعد حينئذ للقائه، نسيه الله في هذه الشدائد 23.
قوله: " إذا سألت فاسأل الله " هذا مصداق قوله تعالى:{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ } 24 . وقد تضمنت هذا الفقرة أن لا يُسأل إلا الله جل وعلا ، ولا يسأل غيره. والله سبحانه قد أمر بسؤاله دون غيره، فقال الله تعالى:{ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ} 25 . وفي المقابل نهى عن سؤال المخلوقين في أحاديث كثيرة، فقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم يسقط سوطه أوخطام ناقته، فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه؛ فعن عوف بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال:" ألا تبايعون رسول الله ؟ ". وكنا حديث عهد ببيعة. فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟! قال: " على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا - وأَسرَّ كلمة خفية - ولا تسألوا الناس شيئاً " 26 .(183/2)
قوله: " وإذا استعنت فاستعن بالله " هذا مصداق قوله تعالى: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 27. وقد تضمنت هذه الفقرة أن لا يستعان إلا بالله وحده لا شريك له. ولماذا يُستعان عبدٌ عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضاره، ويترك الاستعانة بالقادر على كل شيء؟! ومن ترك الاستعانة بالله، واستعان بغيره، وكله إلى من استعان به، ومن وكله الله إلى نفسه أو إلى أحد من خلقه فهو مخذول، ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم مَن أصابه كرب أن يدعو الله فيقول:" اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت" 28.
قوله: " واعلم أنّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك " . وقد دل القرآن على مثل هذا، قال الله تعالى: { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }29 وقال تعالى: { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } 30. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لكل شيءٍ حقيقة، وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه " 31. وهذه الفقرة من الحديث عليها مدار الحديث، فهي لب هذه الوصية، قال ابن رجب : وأعلم أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل، وما ذكر قبله وبعده، فهو متفرع عليه، وراجع إليه، فإنَّ العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر، ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير المقدور غير مفيد البتة، علم حينئذٍ أن الله وحده هو الضار النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه جل وعلا ، وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوه، فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله من يعبد ما لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عن عابده شيئاً، فمن علم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يمنع غير الله، أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعاً، وأن يتقى سخطه، ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً، وإفراده بالاستعانة به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدة، وحال الرخاء، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاصه الدعاء له عند الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء من يرجون نفعه من دونه، قال تعالى:{ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 32.
قوله : " رفعت الأقلام وجفت الصحف " كناية عن تقدم كتابة المقادير كلها، والفراغ منها من أمدٍ بعيد، وقد دل الكتاب والسنة على ذلك، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}33 . وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة " 34 . إلى هنا نكون قد انتهينا من شرح الحديث بالرواية التي رواها الترمذي .
. والله نسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه .
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
________________________________________
1 - رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح. والحديث ورد بألفاظ متعددة وقد صححه الألباني، انظر صحيح الجامع الصغير (2/ 1318) برقم (7957).
2 - رواه أحمد.
3 - جامع العلوم والحكم (1/462).ط: مؤسسة الرسالة. الطبعة الرابعة(1412هـ) تحقيق شعيب الأرناؤوط و إبراهيم باجس.
4 - ق(32)(33).
5 - جامع العلوم والحكم (1/462) .
6 - البقرة(40)
7 - البقرة(152).
8 - محمد(7).
9 - جامع العلوم والحكم (1/466).
10 - الكهف(82).
11 - الكهف(82).
12 - انظر جامع العلوم والحكم (1/467).
13 - النساء(9).
14 - انظر محاسن التأويل (5/47). دار الفكر – بيروت – الطبعة الثالثة (1398هـ).
15 - جامع العلوم والحكم (1/468).
16 - النحل(128).
17 - جامع العلوم والحكم (1/471).
18 - المصدر السابق (1/472- 473) باختصار.
19 - رواه الترمذي. وصححه الألباني في الصحيحة رقم (593).
20 - الصافات(143- 144).
21 - الأنبياء (87 - 88).
22 - يونس (91)(92).
23 - جامع العلوم (1/ 476).
24 - الفاتحة(5).
25 - النساء(32).
26 - روا ه مسلم وأبو داود والنسائي.
27 - الفاتحة (5).
28 - رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (4246).
29 - التوبة(51).
30 - آل عمران(154).(183/3)
31 - رواه أحمد، وصححه الألباني في الصحيحة رقم ( 2471).
32 - الزمر(38). وانظر جامع العلوم والحكم (1/ 484 – 485).
33 - الحديد(22).
34 - رواه مسلم والترمذي.(183/4)
اختبار المؤمن
150
الفتن
عبد الله بن محمد بن زاحم
المدينة المنورة
3/3/1401
المسجد النبوي
ملخص الخطبة
1- كل شيء إنما تظهر جودته إذا اختبر 2- الابتلاء اختبار لإيمان المؤمن 3- ماذا يصنع المسلم إذا أصيب بالمصيبة 4- لماذا يُبتلى الإنسان في الدنيا 5- جزاء الصبر في الدنيا والآخرة
الخطبة الأولى
أما بعد، فأوصيكم وإياي بتقوى الله ـ تعالى ـ، فلا سعادة ولا صلاح إلا بالتقوى.
عباد الله: إذا أراد الإنسان أن يشتري مصاغاً من الجواهر، ذهب به إلى المختبر ليتأكد من جودته وسلامته من الغش، فإذا كان مغشوشاً لم يقبله. وإذا أراد الإنسان أن يلتحق بالوظيفة أرسل للمختبر الصحي للتأكد من لياقته طبياً للخدمة، وإذا لم يصلح لم يوظف. وإذا دخل الطالب في سلك المدرسة اختبر لمعرفة نشاطه وحرصه على العلم والتحصيل، فإذا لم ينجح أدى الأمر إلى طرده من المدرسة، أفلا يختبر من أراد دخول الجنة؟!
وأمامنا اختبار أهم من اختبارات الدنيا، اختبار عام شامل، فيه نجاح وتفوق وقبول، وفيه رسوب وطرد، وإبعاد، وأسئلته مقدمة قبله مفتوحة معلومة للناس، حرصاً من المختبر على النجاح رحمة بالحريصين على السبق، وكأني بسائل يسأل: ما هو موضوع هذا الاختبار؟ وما هي درجة النجاح؟ وما فائدته وثمرته؟.
فأما موضوع الاختبار فهو الإيمان. كما قال ـ تبارك وتعالى ـ: بسم الله الرحمن الرحيم: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1، 2].
وأما الأسئلة فهي المذكورة في قوله ـ سبحانه ـ: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الاْمَوَالِ وَالاْنفُسِ وَالثَّمَراتِ [البقرة:155].
وقوله: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]. فأخبر قبل وقوعها بأنها اختبار وابتلاء وامتحان.
وأما مكان الاختبار، فهو هذه الحياة الدنيا، فما دام الإنسان حياً فيها فهو تحت الاختبار، فيأخذ حذره واستعداده.
وأما أسباب النجاح فهي المذكورة في قوله ـ تعالى ـ: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ [البقرة:153].
وقوله: وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعون [البقرة:155، 156]. فالصبر والصلاة وتفويض الأمر لله وشكر النعمة هي أسباب النجاح.
وأما تقدير النجاح فهي قوله ـ تعالى ـ: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صلاتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157].
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صلاتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ تقدير ممتاز.
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ درجة الشرف الأولى.
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – -: نعم العدلان ونعمت العلاوة: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صلاتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ فهذان العدلان: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ فهذه العلاوة. أعطوا ثوابهم وزيدوا عليه أيضا.
وأما فائدة الاختبار، فكما قال ـ سبحانه ـ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]. وقوله: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:11]، لمعرفة القلوب الطيبة النظيفة المستنيرة بنور الإيمان التي تصلح لتحمل أمانة الله والعمل بها وتبليغ رسالة نبيه – - والدعوة إليها.
وأما ثمرته فالاختبار كسب درجة عالية في الإيمان، والحث على تطهير النفس، وإزالة الغشاوة عن العيون وإزالة الران عن القلوب، كما يمحو السيئات، ويشد العزائم، ويصفي العقائد، ويقوي الصلة بالله، فيكون المؤمن طاهراً نقيا، مؤهلاً لأن يكون في خدمة الله ومن حزب الله، من أولياء الله، من المقربين إلى الله، فمن كان مع الله وصبر على بلاء الله، وشكر نعم الله، كان الله معه يوفقه، ويسدده ويحفظه، ويوجهه لكل خير، ويصرفه عن كل شر، ينير الطريق أمامه، وهذه حال المؤمن الحقيقي، المؤمن الصادق.
قال : ((عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) [رواه مسلم][1]. خير عام شامل في أمور الدين والدنيا، هذا له في هذه الدنيا.
أما الآخرة. فكما قال ـ سبحانه ـ: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، لا يقدر له قدر، ولا يحد له أجر، إنما هو من فضل الجواد الواجد الكريم.(184/1)
ذكر ابن كثير في تفسيره: أن علي بن الحسين زين العابدين ـ رضي الله عنهما ـ قال: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد: أين الصابرون؟ ليدخلوا الجنة قبل الحساب. قال: فيقوم عنق من الناس – أي جماعة – فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون: إلى الجنة. فيقولون: قبل الحساب؟ قالوا: نعم. قالوا: ومن أنتم؟ قالوا: نحن الصابرون. قالوا: وما صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا على معصية الله، حتى توفانا الله، قالوا: أنتم كما قلتم، ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين). ويشهد لهذا قوله ـ تعالى ـ: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
فاتقوا الله – أيها المؤمنون –. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ % وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الاْمَوَالِ وَالاْنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صلاتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون [البقرة:153-157].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم ح (2999).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، قلوب العباد بين إصبعيه يقلبها كيف يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واتبع ملته.
أما بعد، فأوصيكم وإياي بتقوى الله، واعلموا أن مدار التقوى على صلاح القلب، فبصلاح القلب تصلح الجوارح والأعمال، وبفساده تفسد الجوارح والأعمال، والقلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، ففي الصحيحين عن النعمان بن بشير – - قال: سمعت رسول الله - - يقول: ((إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))[1].
ولا صلاح للقلوب حتى تستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته، ولا صلاح لأهل الأرض إلا بالإيمان بالله ورسوله – - وبصلاح الرعاة تصلح الرعايا. فاتقوا الله أيها المسلمون.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
[1] أخرجه البخاري ح (52)، ومسلم ح (1599).(184/2)
... ... ...
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ... ... ...
سعود الشريم ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- دور الوازع الديني في المحافظة عل الأخلاق الفاضلة. 2- الجاهلية وصور من خلوها من الرحمة الإنسانية. 3- بعثة النبي لتمام مكارم الأخلاق. 4- رحمة رسول الله بأمته. 5- الراحمون يرحمهم الرحمن. 6- رحمة النبي بالبهائم. 7- حين تغيب الرحمة تعيش البشرية حياة الذئاب. 8- نماذج من رحمة السلف. 9- صيام يوم عاشوراء. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
فيا عباد الله، قرة عين المؤمن وطمأنينة قلبه تبدو واضحة جلية في تقواه لربه؛ فإن تقوى الله هي أساس كل صلاح، وسلوان كل كفاح، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ [النساء:131].
أيها المسلمون، الأخلاق المثلى عماد الأمم وقوام الشعوب، وهي باقية ما بقيت أخلاقهم، هذه حقيقة مسلمة، لا ينازع فيها إلا مريض لم ينقه، أو مغرض لا يفقه، إن تدهور الأخلاق ناجم عن نقص الوازع الديني في النفوس، والوازع الديني الزاجر، والمنجي من النهابر[1]، الوازع الديني الذي يملك عنان النفس، ويسيطر عليها فيكبح جماحها، ويهتن دمعها، ويغسلها بالنقاخ[2]، الذي يبرد الفؤاد.
وإن من أعظم الأخلاق المندوبة، والسجايا المطلوبة، خلق الرحمة والتراحم بين المسلمين، ولا غرو؛ إذ هو مفتاح القبول لدى القلوب، ولا جرم، أن فقدان الرحمة بين الناس، فقدان للحياة الهانئة، وإحلال للجاهلية الجهلاء، والأثرة العمياء.
ولقد نالت الجاهلية من الرحمة أقسى منال، حتى وكأنما وأدتها في مهدها، ولقد كشف الله في كتابه عن فئام من الناس والأمم، ممن فقدوا الرحمة، وكأنما قدَّت قلوبهم من صخر صلد، تمثلت هذه الغلظة والقسوة، في أصحاب الأخدود، الذين أضرموا النيران، وخدوا الأخاديد في أفواه السكك، وجنبات الطريق، وكان ذلك حينما آمن الناس بما جاء به الغلام المؤمن، فكان من لم يرجع عن دينه يقحم في النار، فتنهش جسده نهشا، حتى لا يرى إلا فحمة أو رمادا، ولقد جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع في النار، فقال لها الغلام: (يا أماه، اصبري فإنك على الحق) [القصة رواها مسلم في صحيحه][3].
قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [الفجر:4-8].
لقد كشف الله في كتابه عمن فقد الرحمة وانقض عليها، فلم يرعَ حق أُم ولا رضيع، ولم يدع صغيرا ولا كبيرا في عافية، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4].
وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:10-14].
قال أبو رافع: أوتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحا عظيمة حتى ماتت إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ [القصص:8]. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ [القصص:41].
لقد كشف الله في كتابه العزيز عن ممارسات شاذة، ممن فقدوا الرحمة أو أماتوها، وعن مكائد خبث، يصنعها يهود بني إسرائيل الذين هم أكثر البشر قسوة وفظاعة، وقلوبهم كالحجارة الصماء، بل هي أشد قسوة منها ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74]. فكشف الله خبثهم، وبين أنهم قتلة ومردة من قديم الزمان وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادرَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:72]. وبما فعله يهود يحكم الله عليهم باللعنة والحرمان من الرحمة، فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ [المائدة:13].(185/1)
عباد الله، إن الله ـ جل وعلا ـ حينما بعث رسله جعل تمكين الأخلاق الفاضلة في النفوس أصلا من أصول رسالاتهم، وأساسا من أسس دعواتهم، وخاتم الأنبياء والمرسلين هو من قال فيه ربه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]. لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ [التوبة:128].
وقال : ((إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق)) [رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم وصححه][4].
لقد تجلت رحمة المصطفى ، في جوانب كثيرة من حياته، حتى لقد أصبحت سمة بارزة، لا يحول دونها ريبة أو قتر، في كل شأن من شئونه، فهو عطوف رحيم أرسله إلى البشرية رحمن رحيم، وأنشز لحمه وَبَلَّ عروقَه إملاجُ حليمة السعدية له، فكان له من اسمها الحلم والسعادة.
أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله تلا قول الله: رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [إبراهيم:36]. وتلا قول عيسى ـ عليه السلام ـ: إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]. فرفع رسول الله يديه وقال: ((اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله ـ عز وجل ـ: يا جبريل اذهب إلى محمد ـ وربك أعلم ـ فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل ـ عليه السلام ـ فسأله، فأخبره بما قال ـ وهو أعلم ـ فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)) [5]. الله أكبر! ما أعظم المصطفى !، وما أرحمه بأبي هو وأمي!.
لقد تجلت رحمة المصطفى بأمته، حتى بلغت تعليم الجاهل، وتوجيه الغافل، ومناغاة العيال والصبيان، أقسمت بنت من بناته ليأتينها لأجل ابن لها قبض، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله الصبي، ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ قال: ((هذه رحمة، جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) [رواه البخاري][6].
إن رحمة المصطفى لم تقف عند هذا الحد فحسب، بل لقد حوت رحمته طبقات المجتمع كلها، أراملَ وأيتاماً، نساءً ومساكينَ، صغارا وكبارا، ولم يقتصر ذلك على فعله، بل عداه بقوله: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) [رواه أبو داود والترمذي][7].
وقال : ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) [رواه مسلم][8]. وقال في التحذير من عدم الاشقاق على الناس، ونزع الرحمة عنهم، والنغرة عليهم: ((اللهم من ولي من أمر المسلمين شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر المسلمين شيئا فرفق بهم فارفق به)) [رواه مسلم][9].
لقد تجلت رحمة المصطفى بالخلق، فتعدت نطاق البشرية إلى نطاق الحيوانات العجماوات، فلقد دخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبيَ حن الجمل وذرفت عيناه؛ فأتاه رسول الله فمسح ذفراه فسكت، فقال: ((من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟)) فجاءه فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله فقال له: ((أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبُه[10])) [رواه أبو داود][11].
فيا لله العجب! حتى البهائم ألهمت أن الرسول رحمة الله مهداة، وأنه نبي المرحمة، فأين أنتم ـ عباد الله ـ من قصة هذا الجمل؟ أين أنتم من إيذاء تلك البهائم؟ ناهيكم عن إيذاء البشر والاستخفاف بهم، أين أنت يا راعي الغنم؟ أين أنت يا سائق الإبل؟ أين أنت يا راعي الأسرة؟ أين أنت يا راعي المدرسة؟ وأنت يا راعي الوظيفة؟ اتقوا الله جميعا فيمن استرعاكم، ولئن كان المصطفى قد مات، فلا تصل البهيمة بالشكوى إليه، أو البشر بطلب النصرة منه، فإن ربه حي لا يموت، يراكم ويسمعكم، ولكن يؤخركم إلى أجل لا ريب فيه ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيها المسلمون، بتجلى خلق الرحمة في ذات المصطفى عالج محو الجاهلية، وقطع ظلالها بأنوار الرحمة والعطف، فكفكف من نزوات الجاهلية وقسوة قلوبها، وأقام أركان المجتمع، على دعائم الرحمة والشفقة وحسن التخلق، واستنشاق النفنف[12] من محاسن الشريعة. وإن كمال العلم في الرحمة، ولين الكلام مفتاح القلوب، يستطيع المسلم من خلاله، أن يعالج أمراض النفوس، وهو مطمئن القلب، رخي البال، وإلا انفض الناس من حوله، فعاشوا جهالا وماتوا جهالا، وذلك هو الشقاء، وهو سببه وعلته.(185/2)
عباد الله، في طوايا الظلام، تدرس الأخلاق كما يدرس وشي الثوب، بلهَ ما كان في الصالحين المخلصين، لقد طغى طوفان المادة الجافة، فأغرق جسوم الرحمة إلا ما انملص منه، ولقد بدت نواعير الحياة عند البعض: (إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، وإن لم تجهل يجهل عليك، وإن لم تتغدى بزيد تعشى بك) بل لقد صور العالم لدى البعض، أنه دنيا فسيحة، يحدها من الشرق الرغيف، ومن الغرب الدينار، ومن الشمال الجاه، ومن الجنوب الشيطان.
لقد رجعت بعض النفوس منداة الجسم بعرق القسوة والغلظة، وإذا تندت الجسوم، وجب نزع المبلول، وإلا فهي العلة ما منها بد، وهي شاغلة النفوس.
ما أشده مضضا ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم! إن أمرها ليذهب فرطا، وإن الغفلة قد بلغت من الناس مبلغ من يظن أنه حي في الحياة، فلا تجد إلا قلبا وصدرا وحرا، ولسانا ولقا ينصنص، إلا من عصم ربي، وقليل ما هم.
لقد مضى عهد السلف الصالح، فسخفت الحياة من بعدهم، وصاروا ككتب قد انطوت على حقائقها، وختمت كما وضعت، لا يستطيع أحد أن يخرج للناس من حقيقتهم نصف حقيقة، ولا شبه حقيقة، ولا تزويرا على حقيقة، إنما هي لا غير، الحقائق كلها قد اكتنفوها. ولقد أثبتوا بتجلي الرحمة في قلوبهم، بأنه ليس في نفوسهم وطباعهم إلا الإخلاص، وإن كان حرمانا إلا المذق، وإلا المروءة، وإن كانت مشقة، وإلا محبة الصادقين وإن كانت ألما، وإلا الجد وإن كان عناء، وإلا القناعة وإن كانت فقرا.
إن من النجاة الفكر في البلاء، والتنطس في الأمور، وإذا نبهت العزيمة تغلغل أثرها في البدن كله، فيكون علاجا يحدث به النشاط، ويرهف منه الطبع، وتجم عليه النفس، وإن هذا لهو الدواء إذا استشرى الداء، وهو النصر حين تخذل القوة.
إن النفس ينبغي أن تَعْنَتَ بعد كل كمال فيما هو أكمل منه، وبعد المهاه فيما هو الإحسان، تستحث من كل هجعة راحة بفجر نصب جديد.
ولو أدرك المسلم أن أول حق للمسلمين عليه، أن يحمل في نفسه معنى الناس، لا معنى نفسه، لعلم أن من فاق الناس بنفسه الكبيرة دون تميس، كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة.
إن الناس أحرار، متى حكمتهم معاني الرحمة والشفقة، والتواد والتعاطف، تحت ظل الإسلام الوارف، قال : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [رواه مسلم][13].
وبذلك كله يتصل ما بين العظيم والسوقة، وما بين الغني والفقير، اتصال الرحمة في كل شيء، أما ربط الرحمة والتراحم بالدينار والدرهم، في مقابل استبعاد تلك المعاني الحيوية، التي ينبغي أن تسود المجتمع، فهو المائج بالحياة بعضها في بعض، وهو الذي يقلب الموازين، ويجعل الصحيح والفاسد، في ملك الإنسان لا في عمله، وتكون المنفعة الذاتية، هي الآمر الناهي، فيرى كل إنسان كأنما ديناره ودرهمه، أكبر قيمة من دينار الآخر ودرهمه، فإذا أعطى نقص فغش، وإذا استنض زاد فسرق، ويتعامل الناس في التعاطف والتراحم على أساس من المعدة لا من الروح، وتكون يقظة التاجر من غفلة الشاري.
فإذا عظمت الأمة الدينار والدرهم، فإنما تمزمز النفاق والطمع والقسوة، وإنما هيبة الإسلام في الرحمة بالنفس لا بالمال، وفي بذل الحياة، لا في المعك فيها، وفي أخلاق الروح، لا في أخلاق اليد، وفي وضع حدود الفضائل بين الناس، لا في وضع حدود الدراهم، وفي جعل أول الثروة الرحمة والشفقة، لا الذهب والفضة، هذا هو الإسلام الذي غلب الأمم؛ لأنه قبل ذلك غلب المطيطاء[14] والقسوة والجشع.
والسلف الصالح خير من ترجم معاني الرحمة إبَّان عيشهم، فها هو الصديق أبو الصديقة، خليفة رسول الله ، وثاني اثنين إذ هما في الغار، الذي جبل نفسه على الرحمة والتراحم، منذ نعومة أظفاره، وما سمي بالعتيق، إلا لكثرة ما يعتق من العبيد رحمة بهم، وإنقاذا لهم من سطوة غلاظ الأكباد وشرار الخلق، كان يتعهد امرأة عمياء في المدينة، يقضي لها أشغالها سرا، إبان خلافته للمسلمين، كما أنه كان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة، قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا. فسمعها فقال: بلى لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه.
ولقد بلغت الرحمة مجلاة أوج صورها، في الخليفة الفاروق ، الذي بلغ من القسوة والغلظة في جاهليته أعظمها، فلما ذاق طعم الإيمان، انقلبت نفسه رأسا على عقب، وكأنه لم يكن قط قاسي النفس، غليظ القلب، فلما ولي الخلافة، خطب الناس مطمئنا لهم قائلا:
(اعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا، أو يعتدي عليه، حتى أضع خده وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك، أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف)، فرحم الله عمر الفاروق ورضي عنه وعن الصحابة أجمعين.(185/3)
فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن المرء المسلم، مطالب بالرحمة والتراحم بما استطاع من تحلم وتصبر، وعليه أن يترفق أولا في أهله، وثانيا في رعيته وجيرانه ومواطنيه وموظفيه، فلا يكون عونا لزوجته على النشوز، ولا لأبنائه على العقوق، ولا لجيرانه على الإساءة، ولا لرعيته على التمرد، ولا للناس كافة على هجره ومباغضته.
واعملوا بمثل قول المصطفى : ((إن من إجلال الله ـ تعالى ـ، إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)) [رواه أبو داود][15]. وحذارِ من الوقوع فيما حذر منه المصطفى بقوله: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)) [رواه أبو داود][16].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم...
[1] النَّهابِر : المهالك ، وجهنم - أعاذنا الله – تعالى – منها . (القاموس ، مادة نهبر).
[2] النُّقاخ: الماء البارد العذب الصافي والخالص ، (القاموس ، مادة نقخ).
[3] صحيح مسلم ح (3005).
[4] صحيح ، مسند أحمد (2/381) ، الأدب المفرد ح (273) ، مستدرك الحاكم (2/613) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. ولفظه عندهم كلهم : ((....صالح الأخلاق)).
[5] صحيح مسلم ح (202).
[6] صحيح البخاري ح (1284) ، كما أخرجه مسلم ح (923).
[7] صحيح ، سنن أبي داود ح (4941) ، سنن الترمذي ح (1924) وقال : حسن صحيح.
[8] صحيح مسلم ح (2319).
[9] المصدر السابق ح (1828).
[10] تُدئبُه: يعني تُكدّه وتُتعبه . معالم السنن للخطابي (3/387).
[11] صحيح ، سنن أبي داود ح (2549).
[12] النفنف: الهواء.
[13] صحيح مسلم ح (2586) ، وأخرجه أيضاً البخاري ح (6011).
[14] المطيطاء: التبختر.
[15] حسن ، سنن أبي داود ح (4843).
[16] صحيح ، سنن أبي داود ح (4943) ولفظه : ((من لم يرحم صغيرنا ، ويعرف حق كبيرنا فليس منا)). ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأتباعه وإخوانه.
أما بعد:
فيا أيها الناس، لقد تجلت رحمة الله ـ تعالى ـ بالبشرية في شهر الله المحرم، بأن نجى الله كليمه موسى من كيد فرعون وجنوده، فنبذه الله في اليم وهو مليم، وكان ذلك في اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو يوم له فضيلة عظيمة، وحرمة قديمة، شرع المصطفى صيامه. وقد صامه موسى ـ عليه السلام ـ؛ شكرا لله ـ عز وجل ـ، وصامه نبينا وأمر بصيامه.
ففي الصحيحين عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قدم النبي المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله : ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه، فقال رسول الله : ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم))، فصامه وأمر بصيامه وقال عنه : ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) [رواه مسلم][1].
وتأصيلا لقاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهي مخالفة اليهود والنصارى والمشركين، وقطعا لمادة التشبه بهم من كل طريق، عزم المصطفى في آخر عمره على أن لا يصومه مفردا مخالفة لأهل الكتاب فقال: ((فإذا كان العام المقبل ـ إن شاء الله ـ صمنا اليوم التاسع))، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله . ر[رواه مسلم][2].
فيستحب لكم أيها المسلمون صيام هذا اليوم، اقتداء بالنبي ، وكل خير في اتباع ما جاء به، وكل شر في ابتداع ما لم يأت به.
هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية...
[1] صحيح مسلم ح (1130).
[2] المصدر السابق (1134). ... ... ...
... ... ...
... ... ...(185/4)
أزهد في الدنيا
المقدمة:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى أله وصحبه ومن اقتفى.
أما بعد:
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعطي جوامع الكلم؛ كما أخبر بذلك في السنة الصحيحة.
ومن تلك الأحاديث التي تعد من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم
الحديث الذي يرويه سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه- وسلم - فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد بما في أيدي الناس يحبك الناس"[1].
الوصية الأولى:
"ازهد في الدنيا يحبك الله".
قال ابن رجب- رحمه الله - اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين: الزهد في الدنيا، وأنه مقتض لمحبة الله – عز وجل- لعبده. والثانية: الزهد فيما في أيدي الناس، وأنه مقتضى لمحبة الناس[2].
في الوصية الأولى يجيب النبي - صلى الله عليه وسلم - على سؤال الصحابي الذي وجهه إليه، حينما قال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس؟.
والآيات والأحاديث في مدح الزهد وأهله، وذم الدنيا والرغبة فيها وأهلها كثيرة جداً، ومنها:
قوله تعالى: ((بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خيرٌ وأبقى)) الأعلى 16-17.
وقال: (( تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة)) الأنفال 67.
وقال: ((ما عندكم ينفذ وما عند الله باق)) النحل 96.
وقال: ((اعلموا أنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينة...)) الحديد 20.
وقال: (( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى...)) النساء 77.
وقال تعالى في قصة قارون: ((فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)) إلى قوله تعالى:((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )) القصص (79)-(83) .
وقال تعالى: (( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) طه(131) .
وقال حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه: ((وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)) غافر(38)-(39) .
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بسوق والناس كنفته، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله، فأخذ بإذنه فقال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟" فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: " أتحبون أنه لكم؟" فقالوا: والله لو كان حياً عيباً فيه؛ لأنه أسكُ، فكيف وهو ميت؟ فقال: "والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم"[3].
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء"[4]
وعن المستورد الفهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بماذا ترجع"[5].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له"[6].
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : "يدخل فقراء المسلمين الجنة، قيل أغنيائهم بنصف اليوم، وهم خمسمائة عام"[7].
والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جداً.
درجات الزهد:
قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله- : الزهد على ثلاثة أوجه:
الأول: ترك الحرام: وهو زهد العوام.
والثاني: ترك الفضول من الحلال: وهو زهد الخواص.
والثالث: ترك ما يشغل عن الله: وهو زهد العارفين.
وجاء نحوه عن أبي إسماعيل الهروي – رخمه الله - حيث قال: وهو – أي الزهد في الدنيا-: على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الزهد في الشبهة، بعد ترك الحرام، بالحذر من المعتبة، والأنفة من المنقصة، وكراهة مشاركة الفساق.
قال ابن القيم – رحمه الله - : "أما الزهد في الشبهة" فهو ترك ما شبه على العبد هل هول حلال أم حرام؟ فالشبهات برزخ بين الحلال والحرام، ولا يكون ترك الشبهة إلا بعد ترك الحرام، وتركه للشبهة حذراً من توجه عتب الله عليه، وأنفسه لنفسه من نقصه عند ربه وسقوطه من عينه، لا أنفته من نقصه عند الناس، وسقوطه من أعينهم.(186/1)
قلت: رحم الله ابن القيم حيث نبه على مسألة مهمة وهي أن بعض الناس قد يترك الدنيا ويزهد فيها وليس زهداً حقيقاً، وإنما خوفاً من نقص منزلته ومرتبته عند الناس، وذلك كأن يكون صاحب وجاهة أو ولاية على أناس فيتظاهر بالزهد الكاذب من أجل المحافظة وجاهته وولايته عندهم أو عليهم.
ثم يقول ابن القيم: " وكراهة مشاركة الفساق" يعني أن الفساق يزدحمون على مواضع الرغبة في الدنيا، ولتلك المواقف بهم كظيظ من الزحام، فالزاهد يأنف من مشاركتهم في تلك المواقف، ويرفع نفسه عنها، لخسة شركائه فيها؛ كما قيل لبعضهم: ما الذي زهدك في الدنيا؟ قال: قلة وفائها، وكثرة جفائها، وخشية شركائها.
إذا لم أترك الماء اتقاءً تركت لكثرة الشركاء فيه
إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجنب الأسود ورود ماء إذ كان الكلاب يلغن فيه
الدرجة الثانية:" الزهد في الفضول" وهو ما زاد على المسكة والبلاغ من القوت، باغتنام التفرغ إلى عمارة الوقت، وحسم الجأش، والتحلي بحلية الأنبياء والصديقين".
قال ابن القيم: "الفضول": ما يفضل عن قدر الحاجة. "والمسْكة": ما يمسك الإنسان من القوت والشراب واللباس والمسكن والمنكح إذا احتاج إليه. و" البلاغ" هو البُلغة من ذلك يتبلغ به المسافر في منازل السفر، فيزهد فيما رواء ذلك، اغتناماً لتفرغه لعمارة وقته.
قال صلى الله عليه وسلم: "إن أمامكم عقبة كئوداً، لا يجوزها إلا المثقلون" [8].
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب"[9]
وقال عليه الصلاة والسلام: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"[10].
قال ابن القيم- رحمه الله- : إن الزهد لأهل هذه الدرجة أعلى وأرفع، وهو اغتنام الفراغ لعمارة أوقاتهم مع الله؛ لأنه إذا اشتغل بفضول الدنيا، فاته نصيبه من انتهاز فرصة الوقت، فالوقت سيفٌ إن لم تقطعه قطعك.
وأما "حسم الجأش": فهو قطع اضطراب القلب المتعلق بأسباب الدنيا، رغبة ورهبة وحباً وبغضاً وسعياً، فلا يصحُّ الزهد للعبد حتى يقطع هذا الاضطراب من قلبه، بأن لا يلتفت إليها، ولا يتعلق بها في حالتي مباشرته لها وتركه، فإن الزهد زهد القلب، لا زهد الترك من اليد، فهو تخلي القلب عنها لا خلو اليد منها.
وأما "التحلي بحلية الأنبياء والصديقين" فإنهم أهل الزهد في الدنيا حقاً، إذ هم مستمرون إلى علم قد رفع لهم غيرها، فهم زاهدون، وإن كانوا لها مباشرين.
الدرجة الثانية: "الزهد في الزهد": وهو بثلاثة أشياء: استحقار ما زهدت فيه، واستواء الحالات فيه عندك، والذهاب عن شهود الاكتساب، ناظراً إلى وادي الحقائق. للاستزادة انظر مدارج السالكين 2/19-20.
وقال الغزالي - رحمه الله -: أعلم أن الزهد في نفسه يتفاوت بحسب تفاوت قوته على درجات ثلاث:
الدرجة الأولى: وهي السفلى منها: أن يزهد في الدنيا وهو لها مشته، وقلبه إليها مائل، ونفسه إليها ملتفتة، ولكنه يجاهدها ويكفُّها، وهذا يسمى المتزهد، وهو مبدأ الزهد، والمتزهد على خطر عظيم، فإنه ربما تغلبه نفسه وتحذبه شهوته، فيعود إلى الدنيا.
الدرجة الثانية: الذي يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها؛ بالإضافة إلى ما طمع فيه، كالذي يترك درهماً لأجل درهمين، فإنه لا يشق عليه ذلك.
لكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويتلفت إليه، فيكاد يكون معجباً بنفسه وبزهده، ويظن في نفسه أنه ترك شيئاً له قدره، لما هو أعظم قدراً منه وهذا أيضاً نقصان.
والدرجة الثالثة وهي العليا: أن يزهد طوعاً، ويزهد في زهده فلا يرى زهده، إذ لا يرى أنه ترك شيئاً، إذ عرف أن الدنيا لا شيء، فيكون كم ترك زخرفة وأخذ جوهرة فلا يرى ذلك معاوضة، ولا يرى نفسه تاركاً شيئاً، والدنيا بالإضافة إلى الله تعالى ونعيم الآخرة، أخسُّ من زخرفة بالإضافة إلى جوهرة، فهذا هو الكمال في الزهد[11].
الزهد المشروع:
قد يظن ظان أويتخيل متخيل أن الزهد ترك الدنيا كاملة، والإقبال على الاعتكاف في المساجد وترك العيال والأولاد يتكففون الناس، أو أن الزهد لبس الثياب الخشنة، أو تعذيب النفس وتجويعها، كما يفعله بعض المتصوفة أو.. وليس الأمر كذلك.
إنما الزهد المشروع في الدنيا هو ما فسره به بعض السلف، فقد سئل بعضهم – ولعله الإمام أحمد- عمن معه مال: هل يكون زاهداً؟ قال: إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه، أو كما قال.
وقال أحمد بن أبي الحواري: قلت لسفيان بن عيينة: من الزاهد في الدنيا؟ قال: من إذا أنعم عليه شرك وإذا ابتلي صبر، فقلت: يا أبا محمد قد أنعم عليه فشكر وابتلي فصبر، وحبس النعمة، كيف يكون زاهداً؟ فقال: اسكت، من لم تمنعه النعماء من الشرك، ولا البلوى من الصبر، فذلك الزاهد.
وقال ربيعة: رأس الزهاد جمع الأشياء بحقها ووضعها في حقها.
وقال ابن القيم: ومتعلق الزهد ستة أشياء، لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها، وهي:
1. المال
2. والصور
3. والرياسة
4. والناس
5. والنفس
6. وكل ما دون الله.(186/2)
وليس المراد رفضها من الملك، فقد كان سليمان وداود - عليهما السلام - من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء ما لهما.
وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - من أزهد البشر على الإطلاق وكان له تسع نسوة.
وكان علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان – رضي الله عنهم - من الزهاد، مع ما كان لهم من الأموال.
وكان الحسن بن علي من الزهاد، مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحاً لهن وأغناهم.
وكان عبد الرحمن بن المبارك من الأئمة الزهاد مع مال كثير.
وكذلك الليث بن سعد من أئمة الزهاد، وكان له رأس مالٍ، يقول: لولا هو لتمندل بنا هؤلاء.
ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن البصري أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة – إذا أصبت بها- أرغب منك فيها لو لم تصبك.
يقول ابن القيم: فهذا من أجمع الكلام في الزهد وأحسنه.[12]
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - عن رجل تفقه وعلم ما أمر الله به وما نهى عنه، ثم تزهد وترك الدنيا والمال والأهل والأولاد خائفاً من كسب الحرام والشبهات، وبعث الآخرة وطلب رضا الله ورسوله، وساح في أرض الله والبلدان، فهل يجوز أن يقطع الرحم ويسيح كما ذكر أم لا؟
فأجاب: الحمد لله وحده.
الزهد المشروع : هو ترك كل شيء لا ينفع في الآخرة، وثقة القلب بما عند الله. كما في الحديث الذي في الترمذي: "ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهد أن تكون ما في يد الله أوثق بما في يدك، وأن تكون في ثواب الله المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك"[13]؛ لأن الله – تعالى- يقول: ((لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)) الحديد23 . فهذا صفة القلب.
وأما في الظاهر فترك الفضول التي لا يستعان بها على طاعة الله من مطعم وملبس ومال وغير ذلك، كما قال الإمام أحمد:" إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وصبر أيام قلائل.
وجماع ذلك خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ؛ كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول: "خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"[14]وكان عادته في المطعم أنه لا يرد موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، ويلبس من اللباس ما تسير من قطن وصوف وغير ذلك، وكان القطن أحب إليه، وكان إذا بلغه أن بعض أصحابه يريد أن يتعدي فيزيد في الزهد، أو العبادة على المشروع. ويقول: أينا مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ؟! يغضب لذلك، ويقول: "والله إني لأخشاكم لله، وأعلمكم بحدود الله - تعالى-"[15]. وبلغه أن بعض أصحابه قال: أما أنا فأصوم فلا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم فلا أنام، وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال آخر: أما أنا فأقوم فلا أنام، فقال صلى الله عليه وسلم: "لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني"[16].
فأما الإعراض عن الأهل والأولاد فليس مما يحبه الله ورسوله، ولا هو من دين الأنبياء، بل قد قال الله: ((ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلتا لهم أزواجاً وذرية)) والإنفاق على العيال والكسب لهم يكون واجباً تارة ومستحباً أخرى، فكيف يكون ترك الواجب أو المستحب من الدين؟!
وكذلك السياحة في البلاد لغير مقصود مشروع؛ كما يعانيه بعض النساك أمر منهي عنه.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: كيف لا أحب دينا قدر لي فيها قوت أكتسب به حياة أدرك بها طاعة أنال بها الآخرة[17].
أقسام الزهد في الدنيا:
لقد اختلفت عبارات السلف في تفسير الزهد في الدنيا، وبيان أقسامها، ولكن أجمعها ثلاثة أقسام:
أحدهما: أن يكون العبد بما يد الله أوثق منه بما في يد نفسه، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته، فإن الله ضمن أرزاق عباده، وتكفل بها، كما قال: (( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها)) هود 6. وقال: (( وفي السماء رزقكم وما توعدون)) الذاريات22. وقال: ((فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه)) العنكبوت17.
قال الحسن: إنَّ من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله - عز وجل-.
وروي عن ابن مسعود قال: إن أرجى ما أكون للرزق إذ قالوا ليس في البيت دقيق. وقال مسروق: إن أحسن ما أكون ظناً حين يقول الخادم: ليس في البيت قفيز من قمح ولا درهم.
وقال الإمام أحمد: أسرُّ أيامي إليّ يوم أصبح وليس عندي شيء...
والثاني: أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة في دنياه من ذهاب مال أو ولد، أو غير ذلك، أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه في الدنيا أن يبقى له، وهذا أيضاً ينشأ من كمال اليقين.(186/3)
وقد روي عن ابن عمر أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا" وهو من علامات الزهد في الدنيا، وقلة الرغبة فيها، كما قال علي - رضي الله عنه- : من زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات.
والثالث: أن تستوي عند العبد حامده وذامُّه في الحق، وهذا من علامات الزهد في الدنيا، واحتقارها، وقلة الرغبة فيها، فإن من عظمت الدنيا عنده أحبّ الممدح وكره الذم، فربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذمّ، وعلى فعل كثير من الباطل رجاء المدح، فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق، دل على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه، وامتلائه من محبة الحق، وما فيه رضا مولاه، كما قال ابن مسعود: اليقين أن لا ترضى الناس بسخط الله.
وقد مدح الله الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم[18].
الوصية الثانية:
"وازهد بما في أيدي الناس يحبك الناس".
ويروى عن سهل بن سعد مرفوعاً: "شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس"[19].
وقال الحسن: لا تزال كريماً على الناس، أولا يزال الناس يكرمونك مالم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك وأبغضوك.
وقال أبو أيوب السختياني: لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عما يكون منهم.
وكان عمر يقول في خطبته على المنبر: إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وأن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه.
قال ابن رجب الحنبلي: وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم- بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم، فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه، لأن المال محبوب لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك.
وأما من كان يرى المنة للسائل عليه، ويرى أنه لو خرج له عن ملكه كله، لم يف له ببذل سؤاله له وذلته له، أو كان يقول لأهله: ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم، ودوابكم تحت غيركم أحسن منها تحتكم، فهذا نادرٌ جداً من طباع بني آدم، وقد انطوى ببساط ذلك من أزمان متطاولة.
وأما من زهد فيما في أيدي الناس، وعف عنهم، فإنهم يحبونه ويكرمونه ولذلك ويسود به عليهم، كما قال أعرابي لأهل البصرة: من سيَّد أهل هذه القربة؟ قالوا: الحسن، قال: بما سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم[20].
وما أحسن قول بعض السلف في وصف الدنيا وأهلها:
وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همُّهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________________________________
[1] - قال النووي: حديث حسن رواه ابن ماجة وغيره بأسانيد حسنة. وتكلم على الحديث ابن رجب - رحمه الله - وقال محققا جامع العلوم والحكم – شعيب الأرناؤوط- إبراهيم باجس رواه ابن ماجة (4102)، وابن حبان في روضة العقلاء ص 141، والطبراني في الكبير (5972) والقضاعي في مسند الشهاب (643)، وأبو نعيم في الحلية( 3/252-253 و7/136) وفي تاريخ أصبهان (2/244-245)، وابن عدي في الكامل( 3/902)، والعقيلي في الضعفاء (2/11)، والحاكم ( 4/313) من طرق عن خالد بن عمرو القرشي، عن سفيان الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد.
وكأنهما يضعفانه وذلك استنباطاً من قولهما في التحقيق للمتابعات التي ذكرها ابن رجب في الشرح حيث يقولا مثلاً: وهاتان المتابعتان أيضاً لا يفرح بهما.
ولكن الإمام المحدث الألباني يصححه انظر صحيح الجامع برقم (922).
[2] - جامع العلوم 2/177.
[3] - رواه مسلم.
[4] - رواه الترمذي وابن ماجة، وقال محققا جامع العلوم والحكم (2/178) : حديث صحيح.
[5] - رواه مسلم.
[6] - رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (651).
[7] - رواه أحمد والترمذي وابن ماجه ، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (8076).
[8] - رواه الحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2001.
[9] - رواه الطبراني في الكبير عن خباب وصححه الألباني في صحيح الجامع 2384.
[10] - رواه البخاري عن ابن عمر.
[11] - إحياء علوم الدين (4/239-241).
[12] - انظر مدارج السالكين 2/12-13.
[13] - ضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجة برقم (393).
[14] - رواه مسلم.
[15] - رواه مسلم بزيادة " وأعلمكم بما أتبع ".
[16] - روه البخاري ومسلم.
[17] - مجموع الفتاوى (10/641).
[18] - جامع العلوم والحكم 2/180- 183 ملخصاً.(186/4)
[19] - قال محققا جامع العلوم والحكم: رواه أبو نعيم في الحلية 3/253، والقضاعي في مسند الشهاب (151) وصححه الحاكم 4/324-325، ووافقه الذهبي مع أن فيه زافر بن سليمان وهو ضعيف، ولذا قال أبو نعيم: غريب، ورواه العقيلي في الضعفاء 2/37-38. ومن حديث أبي هريرة، وقال: هذا يروي عن الحسن وغيره من قولهم وليس له أصل سند. والحديث حسنه الألباني في الصحيحة برقم(831).
[20] - جامع العلوم والحكم (2/205-206).(186/5)
استجيبوا لله والرسول
الحمد لله القوي الجبار، المنتقم القهار، مذل الجبابرة، قاصم الأكاسرة، مهلك القياصرة، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والصلاة والسلام على قائد المجاهدين، محب الاستشهاديين، مبغض المنافقين، وعلى آله وصحبه الطيبين المجاهدين.
وبعد ,,,
آيات خالدة من كتاب الله تعالى، كأنها نزلت فينا اليوم.
آيات رسمت الطريق للمؤمنين، وفضحت المنافقين المتخاذلين.
فهلموا إلى مائدة الرحمن ننهل من معينها الذي لا ينضب:
قال الله تعالى: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين . وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون)
كأن الآيات تتحدث عن مواجهة المجاهدين الأبطال في أرض الإسراء المحتلة مع أشد الناس عداوة لنا اليهود، فتخبرنا أن هذه المعارك إنما تدور بقضاء الله وقدره الحكيم ليميز الله الخبيث من الطيب، فالمؤمنون هم الثابتون في مواجهة أعداء الله وأعدائهم، والمنافقون هم الذين ارتدوا على أدبارهم فلم ينصروا المؤمنين بل فروا هاربين (كما حدث من ابن سلول ومن معه من المنافقين يوم أحد)، المنافقون الذين رفضوا حتى ما هو أقل من القتال، رفضوا البقاء مع المؤمنين لتكثير سوادهم !!
ويبدو أن ابن سلول موجود في كل عصر! وأعذارهم جاهزة حسب الظرف، فمن قائل لا نستطيع قتالهم، ومن قائل لا مجال لمقاطعتهم سياسيا فضلا عن قتالهم !! إلى هؤلاء نقول احذروا قول القوي الجبار: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) فهذا كلام يشبه كلام الكافرين فاحذروا مغبته. إنهم يستنكرون العدوان في الظاهر، أما الباطن فأعمالهم تظهره بوضوح، فلا عمل جاد حتى في الإعداد للقتال (إن سلمنا بأن الظرف غير مناسب للحرب)، إنهم يمنعون الشعوب من التعبير عن رأيهم فيقمعون كل مظاهرة تطالب بنصرة الفلسطينيين وبرد عدوان يهود !! احذروا يا سادة أن يكون استنكاركم من باب (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) فالله عز وجل عالم بكل خافية، والتاريخ لن يرحم المنافقين فإن الله تعالى يفضحهم في الدنيا قبل الآخرة.
لقد تعالت بعض الأصوات المشبوهة تطالب الفلسطينيين بوقف (العمليات الاستشهادية) التي يسمونها الانتحارية!! وأخرى طالبت بوقف المقاومة والاكتفاء بالنضال السياسي ! فالموازين الآن غير متكافئة، وعليه فإن هذه المقاومة هي انتحار ينبغي تحاشيه، إلى هؤلاء نقول أفيكم نزلت هذه الآية ؟ (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) .
أيها المسلمون ...
لا تأسفوا على كثرة الشهداء الذين يسقطون يوميا في فلسطين المباركة دفاعا عن كرامة الأمة ومقدساتها، بل كل الأسف على الذين لم يلحقوا بركبهم، ويعملوا بهديهم، إنهم الأحياء دوننا، هم أصحاب الحياة الكريمة العزيزة عند ربهم، أما المتخاذلون فإنهم بلا ريب أصحاب الحياة المهينة الذليلة في الدنيا، أما في الآخرة فكل الويل لهم، وأحسب أن جهنم تستعر انتظارا لهم.
لا تأسفوا على الشهداء، فالشهادة اصطفاء، وتأملوا قول الحق تبارك وتعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون . فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين)
فهل نلحق بركبهم، ونهتدي بهديهم ؟
هل نستجيب لله والرسول ؟
(الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرعظيم) والقرح: الجراح، وما أكثر جراحات أمتنا (في فلسطين وفي أفغانستان وفي الشيشان وغيرها) ، ولكن كثرة الجراح (التي قد تكون جراحا سياسية أو اقتصادية أو عسكرية) لا تمنع المؤمن من الاستجابة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. إن الذين يستجيبون لله والرسول اليوم يخوفهم الغرب بصورته البشعة الجديدة التي تزعم محاربة الإرهاب، ويخوفهم مصاص الدماء، مدنس المقدسات، المجرم الخبيث شارون اللعين، ولكنهم لا يخافونهم، فيستجيبون إلى نداء الجهاد كما فعل الصحابة بعد جراحاتهم يوم أحد فاستجابوا لنداء الله والرسول وتجمعوا على الرغم من شدة جرحهم في حمراء الأسد، فلنردد كما ردد الصحابة الكرام قول الحق سبحانه : (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) ولنردد دائما: حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المسلمون ...(187/1)
جهادُ المعتدين وردعُهم هو نداء الله ورسوله، أما نداء الشيطان وأتباعه فهو تخويف المسلمين من حشود أوليائه لهم، لذا يحذرنا الله تعالى فيقول: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) أي يخوف بأوليائه (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين).
وإلى المجاهدين في سبيل الله داخل الأرض المباركة المحتلة بأنفسهم وأموالهم، وخارج الأرض المحتلة بأموالهم ودعائهم وألسنتهم، يقول الله تعالى : (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم . إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم . ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين . ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب...) .
وأقسم بالله العظيم ... إن الذين يحرصون على رضوان أمريكا من دون الله إنما هم يسارعون في الكفر. وإن الذين يوالون الكافرين من دون المؤمنين هم يسارعون في الكفر. وإن الذين لا يعملون لتحرير مقدسات المسلمين المحتلة هم يسارعون في الكفر.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون ...
احرصوا أن تكونوا في المعسكر الصحيح، معسكر المؤمنين الذين يستجيبون لله والرسول، واحذروا عاقبة عدم المشاركة في الجهاد بما تستطيعون، وإلى البخلاء الذين يقبضون أيديهم يقول الله الغني العزيز: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير). فجودوا من مال الله الذي آتاكم تنجوا، ولا تكونوا كاليهود الذين قالوا: (إن الله فقير ونحن أغنياء).
ولنتذكر (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور).
توصيات :
القنوت في صلاة الجمعة لدفع الضر عن المستضفين في فلسطين.
دعوة المصلين لصيام جماعي يوم الإثنين أو الخميس والدعاء في المسجد قبل الإفطار لنصرة المجاهدين في فلسطين.
وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم
د. إبراهيم مهنا(187/2)
استخلاف الإمام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
الاستخلاف معناه في موضوعنا هنا: أن يخلف الإمامَ إنسانٌ آخر لإكمال الصلاة، إذا حصل له طارئ أثناء الصلاة.
حكم الاستخلاف: اختلف العلماء فيه-في الجملة- على قولين:
الأول: أنه جائز، وبه قال عمر بن الخطاب وعلي وعلقمة وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه وقول الشافعي في الجديد وأصحابه وأحمد وأكثر أصحابه. أي قول جماهير العلماء..
واستدلوا بفعل عمر بن الخطاب حينما طعن: أنه أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه؛ فأتم بهم الصلاة) رواه البخاري.
القول الثاني: لا يجوز الاستخلاف.. وهو قول الشافعي في القديم ورواية عن أحمد.
وتعليلهم: بأنه لا ولاية للإمام إذ هو نفسه بمنزلة المنفرد، فلا يملك النقل إلى غيره، وكذا القوم لا يملكون النقل.
والصحيح قول الجمهور؛ لفعل عمر، ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة..
ويرد على تعليلهم: بأن للإمام الولاية على المأمومين في الصلاة هي ولاية المتبوعية، فهم يتابعونه في أفعال الصلاة، ولا يختلفون عليه، فهو دليل على ولايته عليهم.. ثم إن استخلافه لغيره معناه: إكمال الصلاة جماعة وعدم اختلال الأمور على المأمومين، فلا حرج في ذلك، بل إن ذلك من مقاصد الشريعة.
متى يشرع الاستخلاف؟!
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:-
القول الأول: أن الاستخلاف يجوز في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: إذا خاف الإمام من تلف مالٍ له أو لغيره، كانفلات دابة أو ولد أو مجنون أو أعمى أن يقع في بئر أو نار.
الموضع الثاني: إذا حصل للإمام طارئ أثناء الصلاة، يمنعه من إتمام الصلاة، كالرعاف أو سبق حدث أصغر أو أكبر، أو تذكر حدث.
الموضع الثالث: إذا طرأ على الإمام ما يمنع الإمامة لعجز عن ركن، كعجزه عن الركوع أو القراءة في بقية الصلاة.
القول الثاني: يجوز له الاستخلاف لحدوث مرض للإمام، أو حدوث خوف، أو حدوث حصر له عن قول واجب، كقراءة وتشهد وتسميع وتكبير وتسبيح ركوع وسجود ونحوه؛ لوجود العذر، مع بقاء صلاته وصلاة المأمومين وهو مذهب الحنابلة.
ولو سبق الإمام الحدث أو فعل ما يبطل الصلاة كالكلام والضحك بقهقهة فصلاتهم باطلة - على مذهب أكثر الحنابلة- وفي رواية لأحمد أن ذلك يصح فيه الاستخلاف.
القول الثالث: كل مبطل لصلاة الإمام يجوز الاستخلاف لأجله، سواء لحدث تعمده أو سبقه أونسيه أو بسبب آخر أو بلا سبب، وبه قال الشافعية.
القول الرابع:- أن يكون الحدث سماوياً لا اختيار للعبد فيه، ولا في سببه، غير موجب لغسل ولا نادر وجود كإغماء وقهقهة، وكذا إذا حصر عن قراءة قدر المفروض، وهو قول الحنفية.
والراجح – والله أعلم- أن الإمام إذا كان معذوراً في هذا المبطل لصلاته كأن سبقه الحدث، فإن صلاة المأمومين لا تبطل فيجوز الاستخلاف، وأما إذا تعمد الحدث أو المبطل فلا.
والخلاصة: أنه إذا خاف الإمام من هلاك نفس أو مال، أو عجز عن ركن قولي كالقراءة فإنه يجوز الاستخلاف، وإذا حصل مبطل من مبطلات صلاة الإمام وهو معذور في ذلك بأن سبقه الحدث أو ذكر أثناء الصلاة أنه محدث، سواء كان حدثاً أكبر أو أصغر، فإنه يجوز أن يستخلف، أما إذا تعمد الحدث أو أي مبطل من مبطلات الصلاة كالقهقهة والكلام العمد فإنه لا يجوز الاستخلاف لبطلان صلاة المأموم كالإمام.[1] وكذا لو حصل إغماء أو غيره فمن باب أولى أن يستخلف.
والله أعلم.
شروط الاستخلاف:
الشرط الأول: كون المستخلف صالحاً لإمامة هؤلاء المصلين.
فلا يجوز أن يستخلف أمياً ولا امرأة للرجال ونحو ذلك ممن لا تصح إمامته.. وهذا الشرط نصت عليه المذاهب الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي.
الشرط الثاني: إذا حصل مبطل الصلاة كخروج ريح أو غيره فإنه لا يجوز أن يفعل الإمام ولا المأمومون ركناً بعد حصول المبطل للصلاة، والسبب أن ذلك الركن لو فعل بعد حصول المبطل لكان خارجاً عن الإمامة، إنما هو من فعل المنفردين لفوات ذلك الركن دون اقتداء.
ومثاله:- إذا أحدث الإمام في الركوع فلا يجوز له القيام بعد الحدث، بل لا بد أن يستخلف وهم راكعون؛ لأنه بمجرد الحدث بطلت إمامته فهو كعدمه، وإذا رفع المأمون لوحدهم أو رفعوا مع رفع الإمام بطلت صلاتهم؛ لأنهم فعلوا ركناً بدون اقتداء، وعلاج ذلك الأمر: أن يقدم الإمام رجلاً وهم راكعون ليتم الصلاة بهم.. هذا الشرط ذكره الحنفية والشافعية.
الشرط الثالث: أن يكون الاستخلاف قبل خروج الإمام من المسجد، وهذا الشرط نص عليه الحنفية؛ لأن خروج الإمام من المسجد قبل الاستخلاف يجعل المأمومين بدون إمام فتبطل صلاتهم.
إلى هنا.. وبالله التوفيق..
0000000000
[1]- انظر (أحكام الإمامة والائتمام في الصلاة) للمنيف ط1 1407هـ.(188/1)
استطالة الألسن في أعراض العلماء والدعاة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} سورة آل عمران: 102. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} سورة النساء:1 . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} سورة الأحزاب،:70-71، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد عباد الله:
أيها المسلمون:
خطورة اللسان أنه سلاح ذو حدين، يأخذ بصاحبه إلى الجنة أو النار واستطالة بعض الألسنة في أعراض المسلمين، قضية عظيمة جداً؛ وسنتكلم في هذه الجمعة المباركة عن استطالة الألسنة في أعراض العلماء والقدح فيهم وأن ذلك من عظائم الأمور. ونتكلم عن هذا الأمر بسبب ذيوعه وانتشاره بين أوساط بعض المسلمين نسأل الله لنا ولهم الهداية!!.
إن المسيء إلى العلماء والطاعن عليهم بغياً وعدواً قد ركب متن الشطط، ووقع في أقبح الغلط؛ لأنه بطعنه في العلماء قد طعن في الدين فهم حملة العلم وورثته.. وهم أئمة الأنام وزوامل الإسلام الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله, الذين قال فيهم الإمام أحمد - رحمه الله -: (يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى. يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه)1. قال ميمون بن مهران - رحمه الله -: ( العلماء هم ضالتي في كل بلد، وهم بغيتي إذا لم أجدهم، وجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء). وقد تواردت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة المطهرة على الإشادة بفضل العلماء، والإشارة إلى علو مقامهم، فمن ذلك قول الله - تعالى-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} سورة المجادلة:11. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات). وعن أبي أمامة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله وملائكته، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير" .2
والعلماء هم أولوا الأمر الذي أوجب الله طاعتهم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} سورة النساء: 59. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يعني أهل الفقه والدين وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني دينهم ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، فأوجب الله سبحانه طاعتهم على عباده.
وعن أبي الأسود قال: ليس شيء أعز من العلم، وذلك أن الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك.3
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم – وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس في دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم فيما يرجع إليهم من العلم والدين، وهؤلاء هم أولوا الأمر، وتجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله التي هم أولوا أمرها.4(189/1)
وقال تلميذه الإمام المحقق ابن القيم - رحمه الله – واصفاً العلماء: هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } سورة النساء: 59.
ورحم الله القائل:
الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
فإن لم يكن لهم في أصلهم نسب يفاخرون به، فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ولقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم – للعلماء منزلة عالية جداً؛ حيث قال كما في حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: " فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً. ولكنهم ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر"5. وإن الواجب على الأمة أن تتأدب مع علماءها، وأن توقرهم وتجلهم.
وانظروا إلى أدب السلف الصالح رحمهم الله - تعالى- مع علمائهم فعن موسى بن يسار قال: كان رجاء بن حيوه وعدي بن عدي ومكحول في المسجد فسأل رجل مكحولاً عن مسألة فقال مكحول: سلوا شيخنا وسيدنا رجاء بن حيوة. وعن عبيد الله بن عمر قال: كان يحيى بن سعيد يحدثنا فيسحّ علينا مثل اللؤلؤ. قال عبيد الله: فإذا طلع ربيعة قطع يحيى حديثه إجلالاً لربيعة وإعظاماً له.6
وقيل لأبي وائل: أيكما أكبر؛ أنت أم الربيع بن خثيم؟ قال أنا أكبر منه سناً، وهو أكبر مني عقلاً، وجاء يحيى بن معين إلى أحمد بن حنبل فبينا هو عنده، إذ مر الشافعي على بغلته فوثب أحمد يسلم عليه وتبعه، فأبطأ، ويحيى جالس، فلما جاء قال يحيى: يا أبا عبد الله ما هذا؟ فقال: دع عنك هذا؛ إن أردت الفقه فالزم ذنب البغلة.7
عباد الله:-
لقد سمعنا ورأينا إلى آداب العلماء مع بعضهم البعض وقد طالعنا فيما سلف أحوال السلف الصالح الذين تأدبوا بآداب الشرع الشريف، فإذا أطللنا إطلالة على واقع بعض طلبة العلم في زماننا تمثلنا قول ابن المبارك - رحمه الله -:
لا تعرضن بذكرهم مع ذكرنا ليس الصحيح إذا مشا كالمقعدِ
إذ ترى أناساً انسلخوا من أخلاق السلف كما تنسلخ الحية من جحرها، لا يراعون لشيخ حرمة، ولا يوجبون لطالبٍ ذمة، يتوجع أحد الدعاة من أمثال هؤلاء فيصفهم بأنهم، أناس فضوليون، يكثر لغطهم، ويقل عملهم، وتنصبغ مجالسهم بصيغة الغيبة وخشونة الألفاظ، حتى تكون تهورات اللسان أمراً مستساغاً، وتغتال فضائل المجالس الإيمانية اغتيالاً، ويصبح الداعية المشارك فيها قليل الاحترام لعناصر الرعيل الأول، كثير الجرأة عليها... وليس ذلك عرف المؤمنين أبداً، ولا سمتهم الذي ورثناه؛ إنما ورثنا الحياء، وعفاف اللسان، واحترام الكبير، وتبجيل السابق، والتأول الحسن، وترجيح العذر، وجمال اللفظ، والاستغفار للذين سبقونا بالإيمان، وتكرار الدعاء للمربي والحادي.8 ويتضجر آخر من مسلكهم قائلاً:(.. حتى إن المتحدث منافي أي مسألة من مسائل العلم لا يعدم مخالفاً له، أو ناقداً، أو ناقماً، أو واضعاً اسم المتحدث في ملف صنف فيه الناس أصنافاً، ووصم كل واحد منهم بوصمة تجريح وتشريح).9
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وعلى آله وصحبه وسلم ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون:
إن الجناية على العلماء خرق في الدين، فمن ثمَّ قال الطحاوي في عقيدته: (وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين – أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر- لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل)10.
قال ابن المبارك: من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته11 وقال أحمد بن الأذرعي: الوقيعة في أهل العلم ولا سيما أكابرهم من كبائر الذنوب.12
وقال أبو سنان الأسدي: إذ كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين يتعلم الوقيعة في الناس من يفلح؟!!.13(189/2)
والطاعنون في العلماء لا يضرون إلا أنفسهم، وهم يستجلبون لها بفعلتهم الشنيعة أخبث الأوصاف { بئس الاسم الفسوقُ بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون }. الحجرات: 11. وهم من شرار عباد الله، بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فعن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت" .14
والطاعنون في العلماء هم مفسدون في الأرض، وقد قال تعالى: { إن الله لا يصلح عمل المفسدين }. يونس: 81. وهم عرضة لحرب الله - تعالى- القائل في الحديث القدسي: " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"15 وهم متعرضون لاستجابة دعوة العالم المظلوم عليهم، فدعوة المظلوم – ولو كان فاسقاً- ليس بينها وبين الله حجاب، فيكف بدعوة ولي الله الذي قال فيه: " ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" .16
قال الإمام الحافظ أبو العباس الحسن بن سفيان لمن أثقل عليه: ما هذا؟! قد احتملتك وأنا ابن تسعين سنة، فاتق الله في المشايخ، فربما استجيبت فيك دعوة).17
ولما أنكر السلطان على الوزير نظامه في صرف الأموال الكثيرة في جهة طلبة العلم أجابه: (أقمت لك بها جنداً لا ترد سهامهم الأسحار). فاستصوب فعله، وساعده عليه.18
وقيل: إن أولاد يحيى – أي بن خالد البرمكي- قالوا له: وهم في القيود مسجونين:
يا أبة صرنا بعد العز إلى هذا؟! قال: يا بَنيَّ دعوة المظلوم غفلنا عنها لم يغفل الله عنه19
ونختم هذه الخطبة بقول الحافظ ابن عساكر - رحمه الله – قال: واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته – أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم – مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمر عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم)20، وقال أيضاً - رحمه الله -: ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله - تعالى- قبل موته يموت القلب {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة النور 63.
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة فاعدل فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوماً على جبل لاندك منه أعاليه وأسفله
وفقنا الله لما يحبه ويرضاه، وجعلنا من أهل الخير والصلاح والاستقامة. والحمد لله رب العالمين...
________________________________________
1- اللاالكائي (1/9).
2- رواه الترمذي وقال (حسن صحيح).
3- جامع بيان العلم (1/275).
4- مجموع الفتاوى (11/551).
5- أخرجه أحمد والدارمي والترمذي
6- مناقب الشافعي للبيهقي (2/252) سير أعلام النبلاء 10/(86-87).
7- مناقب الشافعي للبيهقي (2/252) سير أعلام النبلاء 10/86-87.
8- فضائع الفتن بتصرف ص17.
9- صفحات في آداب الرأي ص5.
10- شرح الطحاوية تحقيق الأرناؤوط 2/740.
11- سير أعلام النبلاء (8/408).
12- الرد الوافر ص197.
13- ترتيب المدارك (2/14-15).
14- رواه الإمام أحمد وهو محتمل للتحسين، انظر غاية المرام للألباني رقم (434).
15- روه البخاري.
16- رواه البخاري.
17- سير أعلام النبلاء (14/159).
18- المنهاج النبوي ص74.
19- سير أعلام النبلاء (9/90).
20- المعيد في أدب المفيد والمستفيد ص71.(189/3)
استغلال الحدث للموعظة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
فإن من سنن الله -تعالى- في الحياة تكرر الحوادث، وتجدد المواقف، واستمرارها إلى قيام الساعة..
وقد ذكر الله -تعالى- في كتابه العظيم كثيراً من الحوادث والأمور العظام التي أمر المؤمنين أن يأخذوا العبرة منها، فليست تلك القصص والمواقف والأحداث مجرد حكايات تقال أو قصص تنقل أو تسمع دون أن تحدث في النفوس أثراً يغير مجرى الحياة إلى الأفضل..
وفي كل يوم نسمع حدثاً هنا وهناك، أحداث جسام وكوارث تصيب الأمم، ومصائب تقع على من قدرها الله عليه..
فينبغي للإمام الموفق، والخطيب الحاذق، وكل داعية إلى الله -تعالى- أن يكون على علم بهذه الأحداث حين وقوعها أو بعده بزمن يسير، ليبين للناس ما يجب عليهم تجاه مثل تلك الحوادث.. و من المعيب في حق الأئمة والخطباء أن تمر بالأمم الحوادث العظام وهم آخر من يعرف عنها!
بل إن بعض أئمة المساجد وخطبائها لا يعلم أنه حصل في البلد الفلاني كذا وكذا إلا بعد أن يكمل الخطبة التي تحدث خلالها عن موضوع بعيد عن مستوى الحدث!! فيبلغه أحد الحاضرين، لماذا يا شيخ لم تتكلم عن ذاك الحدث أو تلك النازلة؟ فيكون الجواب: عفواً لم أدرِ بها..!
المقصود أن متابعة ما يحدث في هذه الأرض من أمور وتقلبات ينبغي على الإمام والخطيب أن يوليها عناية مهمة؛ ليغرس من خلال ذلك الحدث مفاهيم تربوية وإيمانية..
ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستغل الأحداث في تربية الناس وتزكيتهم،
فمن ذلك كسوف الشمس وخسوف القمر.. فهو من الأحداث العظيمة التي تسبب تغيراً عجيباً لكوكب الشمس والقمر.. إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يدع هذه الأحداث تمر دون أن يغرس في نفوس أصحابه -رضي الله عنهم- معاني إيمانية، وتحذيرات شديدة من الوقوع في معاصي الله -تعالى-..
فقد ثبت عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: (خسفت الشمس في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام، وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد، ثم فعل في الركعة الآخرة مثل ذلك، ثم انصرف وقد تجلت الشمس، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يُخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا) ثم قال: (يا أمة محمد ! والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد ! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً !).1
وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: (خسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والناس معه، فقام قياماً طويلاً نحواً من سورة البقرة، ثم ركع ركوعاً طويلاً... (إلى أن قال): ثم أنصرف وقد تجلت الشمس فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يُخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله). قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت؟ فقال: (إني رأيت الجنة (أو أُريت الجنة)، فتناولت منها عنقوداً، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر كاليوم منظراً قط! ورأيت أكثر أهلها النساء). قالوا: لِمَ يا رسول الله؟ قال: (بكفرهن). قيل: يكفرن بالله؟! قال: (يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط!).2 ومعنى تكعكعت أي: تأخرت إلى الوراء..
وسواء كان هذا الكسوف قد حدث مرة واحدة أو مرتين فإن في فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك تذكيراً للناس بما ينبغي عليهم فعله، وما يجب عليهم تركه واجتنابه.
وفيه تذكير لهم بيوم الحساب الذي هو كألف سنة مما يعد الناس، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطال القيام والركوع والسجود، وكل ذلك يذكر الناس بالقيام الطويل لله رب العالمين (يوم يقوم الناس لرب العالمين). ثم لما كان كسوف الشمس يذكر الناس بالنار والجحيم –أجارنا الله من النار- جمع لهم إلى رؤية الشمس إخباره إياهم بأنه رأى الجنة والنار.. وأنه ما رأى كيومه ذلك منظراً قط -صلى الله عليه وسلم-.
ولو استعرضنا الحديثين بالتنبيه لما ورد فيهما من إشارات ومواقف تربوية لطال الموضوع. لكن المقصود في هذا الدرس ذكر نموذج للتنبيه إلى أهمية استغلال الحوادث في موعظة الناس..
وفي زماننا تتجدد الحوادث، وتظهر في الكون أمور جسيمة، ومظاهر عجيبة، فمن زلازل إلى أعاصير وفيضانات تأخذ الأمم، إلى حروب مدمرة تسقط أقواماً وترفع آخرين، وغير ذلك..(190/1)
ولا ننسى ما حدث في جنوب شرق آسيا في (زلزال تسونامي المدمر) من هلاك كثير من الناس قدروا بمئات الآلاف، وكذلك ما حدث في مدينة (بم) الإيرانية التي دمرت بالكامل وأصبحت خاوية على عروشها، وقتل فيها أكثر من سبعين ألفاً !!.
وكذلك من آخر الأعاصير والفيضانات التي دمرت بعض ولايات أمريكا مثل أعصار (كاترينا) التي قتل فيه آلاف الاشخاص، ولا زالت الأعاصير المدمرة تهدد كثيراً من تلك الدول..
فينبغي تذكير الناس بقدرة الله -تعالى-، وتلاوة الآيات التي تبين عقوبة الله للعصاة والمجرمين، وأن الله يهلك الناس بسيئاتهم وظلمهم إذا لم يتوبوا منها، ولتكن في تلك المصائب التي حلت بالأمم دافعاً قوياً لكل مسلم إلى فعل الطاعات والإكثار منها، واجتناب المعاصي والحذر من عقوباتها..
وليكن ما أصاب تلك الأمم عبرة لنا، قبل أن يصبح العاصي والفاجر عبرة لغيره..
فنسأل الله أن يعيننا على تبليغ رسالاته، وأن يجزينا على ذلك الجنة، إنه هو العزيز الرحيم..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
0000000000
1- رواه الإمام مالك بهذا اللفظ، ورواه البخاري ومسلم.
2- رواه البخاري ومسلم.(190/2)
استغلال الحدث للموعظة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
فإن من سنن الله -تعالى- في الحياة تكرر الحوادث، وتجدد المواقف، واستمرارها إلى قيام الساعة..
وقد ذكر الله -تعالى- في كتابه العظيم كثيراً من الحوادث والأمور العظام التي أمر المؤمنين أن يأخذوا العبرة منها، وليست تلك القصص والمواقف والأحداث مجرد حكايات تقال أو قصص تنقل أو تسمع دون أن تحدث في النفوس أثراً يغير مجرى الحياة إلى الأفضل..
وفي كل يوم نسمع حدثاً هنا وهناك، أحداث جسام وكوارث تصيب الأمم، ومصائب تقع على من قدرها الله عليه..
فينبغي للإمام الموفق، والخطيب الحاذق، وكل داعية إلى الله -تعالى- أن يكون متتبعاً لتلك الأحداث، يبين للناس ما يجب عليهم تجاها.. و من المعيب في حق الأئمة والخطباء أن تمر بالأمم الحوادث العظام وهم آخر من يعرف عنها!
بل إن بعض أئمة المساجد وخطبائها لا يعلم أنه حصل في البلد الفلاني كذا وكذا إلا بعد أن ينتهي زمن حسن استغلاله. وهو قد تحدث عن موضوع بعيد عن مستوى الحدث!! فيبلغه أحد الحاضرين، لماذا يا شيخ لم تتكلم عن ذاك الحدث أو تلك النازلة؟ فيكون الجواب: عفواً لم أدرِ بها..!
المقصود أن متابعة ما يحدث في هذه الأرض من أمور وتقلبات ينبغي على الإمام والخطيب أن يوليها عناية مهمة؛ ليغرس من خلال ذلك الحدث مفاهيم تربوية وإيمانية..
ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستغل الأحداث في تربية الناس وتزكيتهم،
فمن ذلك كسوف الشمس وخسوف القمر.. فهو من الأحداث العظيمة التي تسبب تغيراً عجيباً لكوكب الشمس والقمر.. إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يدع هذه الأحداث تمر دون أن يغرس في نفوس أصحابه -رضي الله عنهم- معاني إيمانية، وتحذيرات شديدة من الوقوع في معاصي الله -تعالى-..
فقد ثبت عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: (خسفت الشمس في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام، وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد، ثم فعل في الركعة الآخرة مثل ذلك، ثم انصرف وقد تجلت الشمس، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يُخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا) ثم قال: (يا أمة محمد ! والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد ! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً !).1
وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: (خسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والناس معه، فقام قياماً طويلاً نحواً من سورة البقرة، ثم ركع ركوعاً طويلاً... (إلى أن قال): ثم أنصرف وقد تجلت الشمس فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يُخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله). قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت؟ فقال: (إني رأيت الجنة (أو أُريت الجنة)، فتناولت منها عنقوداً، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر كاليوم منظراً قط! ورأيت أكثر أهلها النساء). قالوا: لِمَ يا رسول الله؟ قال: (بكفرهن). قيل: يكفرن بالله؟! قال: (يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط!).2 ومعنى تكعكعت أي: تأخرت إلى الوراء..
وسواء كان هذا الكسوف قد حدث مرة واحدة أو مرتين فإن في فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك تذكيراً للناس بما ينبغي عليهم فعله، وما يجب عليهم تركه واجتنابه.
وفيه تذكير لهم بيوم الحساب الذي هو كألف سنة مما يعد الناس، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطال القيام والركوع والسجود، وكل ذلك يذكر الناس بالقيام الطويل لله رب العالمين {يوم يقوم الناس لرب العالمين}. ثم لما كان كسوف الشمس يذكر الناس بالنار والجحيم –أجارنا الله من النار- جمع لهم إلى رؤية الشمس إخباره إياهم بأنه رأى الجنة والنار.. وأنه ما رأى كيومه ذلك منظراً قط -صلى الله عليه وسلم-.
وفي زماننا تتجدد الحوادث، وتظهر في الكون أمور جسيمة، ومظاهر عجيبة، فمن زلازل إلى أعاصير وفيضانات تأخذ الأمم، إلى حروب مدمرة تسقط أقواماً وترفع آخرين..
كالذي حدث في جنوب شرق آسيا في (إعصار تسونامي المدمر) من هلاك كثير من الناس قدروا بمئات الآلاف، وكذلك ما حدث من زلزال في إيران دمرت فيعه مدينة بالكامل وأصبحت خاوية على عروشها، وقتل فيها أكثر من سبعين ألفاً !!.(191/1)
وكذلك من آخر الأعاصير والفيضانات التي دمرت بعض ولايات أمريكا ومنها مدينة (كاترينا) التي قتل فيها أكثر من عشرة آلاف شخص، ولا زالت الأعاصير المدمرة تهدد كثيراً من تلك الدول..
فينبغي تذكير الناس بقدرة الله -تعالى-، وتلاوة الآيات التي تبين عقوبة الله للعصاة والمجرمين، وأن الله يهلك الناس بسيئاتهم وظلمهم إذا لم يتوبوا منها، ولتكن في تلك المصائب التي حلت بالأمم دافعاً قوياً لكل مسلم إلى فعل الطاعات والإكثار منها، واجتناب المعاصي والحذر من عقوباتها..
وليكن ما أصاب تلك الأمم عبرة لنا، قبل أن يصبح العاصي والفاجر عبرة لغيره..
فنسأل الله أن يعيننا على تبليغ رسالاته، وأن يجزينا على ذلك الجنة، إنه هو العزيز الرحيم..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
---
1- رواه الإمام مالك بهذا اللفظ، ورواه البخاري ومسلم.
2- رواه البخاري ومسلم.(191/2)
استقبال شهر رمضان يحيى بن موسى الزهراني ...
الحمد لله ذي الفضل والإنعام ، أوجب الصيام على أمة الإسلام ، وجعله أحد أركان الدين العظام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وصام ، وخير من أطاع أمر ربه واستقام ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام ، وسلم تسليماً كثيراً . . . أما بعد :
فإن شهر رمضان هو أفضل شهور العام ، لأن الله سبحانه وتعالى اختصّه بأن جعل صيامه فريضة وركناً رابعاً من أركان الإسلام ، ومبنىً من مبانيه العظام ، قال صلى الله عليه وسلم : " بُني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلاّ الله وان محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت " [ متفق عليه ] .
وسنّ النبي صلى الله عليه وسلم قيام ليالي شهر رمضان ، لأن فيها ليلة عظيمة خير من عبادة ثلاث وثمانين سنة وثلاثة أشهر تقريباً .
قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله فرض عليكم صيام رمضان ، وسننت لكم قيامه ، من صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " [ رواه النسائي وصححه الألباني ] .
ولكن في الحديث المتفق على صحته قال صلى الله عليه وسلم " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ".
فينبغي على المسلم أن يستقبل هذا الشهر العظيم بالفرح والسرور ، والغبطة وشكر الرب الغفور ، الذي وفقه لبلوغ شهر رمضان وجعله من الأحياء الصائمين القائمين الذين يتنافسون فيه بصالح الأعمال ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان فيقول : " جاءكم شهر رمضان شهر بركة ، يغشاكم الله فيه ، فينزل الرحمة ، ويحط الخطايا ، ويستجيب الدعاء ، ينظر الله إلى تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته ، فأروا الله من أنفسكم خيراً ، فإن الشقي من حُرم فيه رحمة الله " [ رواه الطبراني في الكبير ] .
إنه شهر عظيم الخيرات ، كثير البركات ، فيه فضائل عديدة وفوائد جمّة ، ينبغي للمسلم أن يغتنمها ويقتنصها ، قال صلى الله عليه وسلم : " إذا كانت أول ليلة من رمضان فُتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب ، وغُلقت أبواب جهنم فلم يُفتح منها باب ، وصُفدت الشياطين ، وينادي منادٍ : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة " [ رواه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم ] .
وقال صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى : " كل عمل ابن آدم له ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلاّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه من أجلي ، للصائم فرحتان ، فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " [ متفق عليه ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة باباً يُقال له الريّان يدعى يوم القيامة يقال : أين الصائمون ؟ ، فمن كان من الصائمين دخله ، ومن دخله لم يظمأ أبداً " [ رواه البخاري ومسلم واللفظ لابن ماجة ] .
إن شهر هذه بركاته وهباته حريٌ بكل مسلم أن يستقبله بفعل الطاعات واجتناب المعصيات وأن يُقبل على ربه سبحانه بالتوبة النصوح وأن يرد المظالم إلى أهلها وأن يبرئ نفسه من ذنب ومعصية ، وينتهز هذه الفرصة العظيمة ، فيجتهد في العبادة حتى يألفها مدى عمره وطول أجله .
وعلى العبد أن يُجاهد نفسه فيمنعها عمّا حرم الله عليه من الأقوال والأعمال ، لأن المقصود من الصيام هو التقوى وطاعة المولى ، وتعظيم حرماته سبحانه ، وكسر هوى النفس ، وتعويدها على الصبر لأن الصبر ضياء وأجر عظيم ومثوبة كبرى .
وليس المقصود من الصيام مجرد ترك الطعام والشراب وسائر المفطرات فقط .
قال صلى الله عليه وسلم : " الصيام جنّة فإذا كان يوم صوم أحدكم ، فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنيّ صائم " [ رواه البخاري ] .
وقال عليه الصلاة والسلام " من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " [ رواه البخاري ] .
وينبغي على المسلم أن يحذر ممّا حرمه الله عليه كي لا ينقص أجر صومه أو يذهبه بالكلية ، وعلى المسلم أن يحرص في هذا الشهر أن يبرّ والديه وأن يصل رحمه ، وأن يتعاهد إخوانه الفقراء والمحتاجين والمنكسرين والمعوزين والأرامل والأيتام ، وأن يُحسن إلى جيرانه ويتعاهدهم بالزيارة والنصح والتوجيه والإرشاد ، فهو في شهر الجِنان والبعد عن النيران ، شهر الإقبال على الحسنات والطاعات والبعد عن السيئات والمعصيات .(192/1)
وعلى المؤمن أن يكثر فيه من أعمال البر والخير وقراءة القرآن بتعقل وتدبر ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والإكثار من الباقيات الصالحات من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير ، وأن يحافظ ويداوم على الاستغفار ، وأن يتعاهد إخوانه المرضى وغير ذلك من الأعمال الصالحة التي تقرب العبد من ربه سبحانه ، بل ولا ينبغي أن تكون هذه الأعمال في رمضان فقط ، بل لا بدّ أن تكون هي الشغل الشاغل للمسلم في رمضان وغيره . وفي رمضان آكد .
قال صلى الله عليه وسلم : " من تقرب فيه _ في رمضان _ بخصلة من خصال الخير كان كمن أدّى فريضة فيما سواه ، ومن أدّى فيه فريضة كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه " [ رواه ابن خزيمة وفيه مقال ] .
شهر رمضان شهر الخير والبركات والعِبر والعظات ، شهر يستبشر بقدومه المسلمون في كل مكان ، لما فيه من حُسن الجزاء من الله تبارك وتعالى لعباده ، ولما فيه من عظيم المثوبة ، وجزيل الأجر ، فهو شهر أوله رحمة ، وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول لأصحابه : " قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك ، كتب الله عليكم صيامه ، فيه تفتَّح أبواب الجنة ، وتغلق أبواب الجحيم ، وتغل الشياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم " [ أخرجه أحمد والنسائي ، وصحح إسناده حمزه الزين في تحقيقه على المسند 9/70 ] ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً : " أتاكم رمضان ، شهر بركة ، يغشاكم الله فيه ، فينزل الرحمة ، ويحط الخطايا ، ويستجيب فيه الدعاء ، ينظر إلى تنافسكم فيه ، ويباهي بكم ملائكته ، فأروا الله من أنفسكم خيراً ، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله " [ أخرجه الطبراني ورواته ثقات ] ، وعن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال : " اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان " [ أخرجه البزار والطبراني في الأوسط وفيه !
زائدة بن أبي الرقاد وفيه كلام وقد وثق ] ، وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سيد الشهور شهر رمضان ، وأعظمها حرمة ذو الحجة " [ رواه البزار وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي ] ، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأفضل الملائكة جبريل عليه السلام ، وأفضل النبيين آدم ، وأفضل الأيام يوم الجمعة ، وأفضل الشهور شهر رمضان ، وأفضل الليالي ليلة القدر ، وأفضل النساء مريم بنت عمران " [ رواه الطبراني في الكبير وفيه نافع ابو هرمز وهو ضعيف ] ، وعن عبد الله بن مسعود قال : " سيد الشهور شهر رمضان ، وسيد الأيام يوم الجمعة " [ رواه الطبراني في الكبير وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه ] ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطها أمة قبلهم : خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا ، ويزين الله عز وجل كل يوم جنته ثم يقول : يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة ويصيروا إليك ، وتصفد فيه مردة الشياطين ، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره ، ويغفر ل!
هم في آخر ليلة ، قيل يا رسول الله : أهي ليلة القدر ؟ قال : لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله " [ رواه أحمد والبزار وفيه هشام بن زياد أبو المقدام وهو ضعيف ] وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان ، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان ، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة ، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم ، هو غنم للمؤمنين يغتبنه الفاجر " وفي رواية : " إن الله عز وجل ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله ، ويكتب أجره وشقاءه من قبل أن يدخله " [ رواه أحمد والطبراني في الأوسط ] ، وعن ابن مسعود أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول ، وقد أهل رمضان : " لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان " فقال رجل من خزاعة : حدثنا به ؟ قال : " إن الجنة تزين لرمضان من رأس الحول إلى الحول حتى إذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح من تحت العرش فصفقت ينوي الجنة فنظر الحور العين إلى ذلك فقلن يا رب إجعل لنا في هذا الشهر من عبادك أزواجا تقر أعيننا بهم وتقر أعينهم بنا فما من عبد يصوم رمضان!(192/2)
إلا زوج من زوجة الحور العين في خيمة من درة مجوفة مما نعت الله حور مقصورات في الخيام على كل امرأة منهن سبعون حلة ليس فيها حلة على لون الأخرى ويعطى سبعون لونا من الطيب ليس منها لون على ريح الآخر لكل امرأة منهن سبعون سريرا من ياقوتة حمراء موشحة بالدر على كل سرير سبعون فراشا بطائنها من إستبرق وفوق السبعين فراشا سبعون أريكة لكل امرأة منهن سبعون الف وصيف لحاجاتها وسبعون ألف وصيف مع كل وصيف صحفة من ذهب فيها لون طعام يجد للآخر لقمة منه لذة لا يجد لأوله ويعطي زوجها مثل ذلك على سرير من ياقوته حمراء عليه سواران من ذهب موشح بياقوت أحمر هذا لكل يوم صام رمضان سوى ماعمل من الحسنات " [ رواه أبو يعلى وفيه جرير بن أيوب وهو ضعيف ] ، وعن أبي مسعود الفنايري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وقد أهل شهر رمضان : " لو يعلم العباد ما في شهر رمضان لتمنى العباد أن يكون شهر رمضان سنة " فقال رجل من خزاعة : يا رسول الله حدثنا : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الجنة لتزين لشهر رمضان من رأس الحول إلى رأس الحول حتى إذا كان أول ليلة هبت ريح من تحت العرش فصفقت ينوي الجنة فنظرت الحور العي!
ن إلى ذلك فقلن يا رب اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجا تقر أعيننا بهم وتقر أعينهم بنا وما من عبد صام شهر رمضان إلا زوجه الله زوجة في كل يوم من الحور العين في خيمة من درة مجوفة مما نعت الله به الحور العين المقصورات في الخيام على كل امرأة منهن سبعون حلة ليس منها حلة على لون الأخرى ويعطي سبعون لونا من الطيب ليس منهن لون يشبه الآخر وكل امرأة منهن على سرير من ياقوت موشح بالدر على سبعين فراشا بطائنها من إستبرق وفوق السبعين فراشا سبعون أريكة ولكل امرأة منهن سبعون وصيفا لخدمتها وسبعون للقيها زوجها مع كل وصيف صحفة من ذهب فيها لون من الطعام يجد لآخرة من اللذة مثل الذي لأوله ويعطى زوجها مثل ذلك على سرير من ياقوتة حمراء عليه سواران من ذهب موشح بالياقوت الأحمر هذا لكل يوم صامه من شهر رمضان سوى ما عمل من الحسنات " [ رواه الطبراني في الكبير وفيه الميباح بن بصطام وهو ضعيف ] ، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صام يوماً من رمضان محتسباً كان له بصومه ما لو أن أهل الدنيا اجتمعوا منذ كانت الدنيا إلى أن تنقضي لأوسعهم طعاماً وشراباً لا يطلب إلى أهل شيئاً من ذلك " [ رواه الطبراني في الكبير وفيه الوليد بن الوليد القلانسي وثقه أبو حاتم وضعفه جماعة ] ، وعن أنس بن ملك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا رمضان قد جاء تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتغل فيه الشياطين ، بعداً لمن أدرك رمضان فلم يغفر له ، إذا لم يغفر فيه فمتى " [ رواه الطبراني في الأوسط وفيه الفضل ابن عيسى الرقاشي وهو ضعيف ] ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنان كلها فلم يغلق منها باب إلى آخر الشهر ، وسلسلت مردة الشياطين ، ولله عتقاء عند كل فطر يعتقهم من النار " [ رواه الطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه كلام وبقية رجاله رجال الصحيح ] ، وعن أنس بن ملك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ماذا استقبلكم ، وماذا تستقبلون ؟ ثلاثاً ـ يعني قالها ثلاثاً ـ قال فقال عمر بن الخطاب : أوحي نزل أم عدو حضر ؟ قال فقال : " إن الله يغفر في أول ليلة من شهر رمضان لكل أهل هذه القبلة " قال : فقال رجل بين يديه وهو يهز رأسه بخ بخ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه ضاق صدرك ؟ قال : لا ولكن ذكرت المنافق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المنافق كافر وليس لكافر في ذلك شيء " [ رواه الطبراني في الأوسط وفيه خلف أبو الربيع ] .(192/3)
وعن سلمان رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان قال : " يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك شهر فيه ليلة خير من ألف شهر شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعا ، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه ، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة ، وشهر المواساة وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه ، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره أن ينقص من أجره شيء " ، قالوا يا رسول الله : ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على تمرة أو على شربة ماء أو مذقة لبن ، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار ، من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار ، واستكثروا فيه من أربع خصال : خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لا غناء بكم عنهما : فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم : فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه ، وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما : فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار ، ومن سقى صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة " [ رواه ابن خزيمة في صحيحه ثم قال صح الخبر ورواه من طريق البيهقي ورواه أبو الشيخ ابن حبان في الثواب باختصار عنهما ] .
جاء شهر رمضان بالبركات فأكرم به من زائر آت
شهر رمضان شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن وشهر العتق من النيران ، وشهر الغفران ، شهر الصدقات والإحسان ، الشهر الذي تقال فيه العثرات وتجاب فيه الدعوات ، وتُرفع فيه الدرجات ويزاد في الحسنات وتغفر فيه السيئات .
ويا خسارة من خرج رمضان ولم يستزد فيه من الصالحات ، ويا ندامة من خرج رمضان ولم يتمسك فيه من الدين بالعروة الوثقى ، ويا لهفاً على من خرج رمضان وحاله كما هي قبل رمضان ، من ذنوب وعصيان .
شهر رمضان شهر يجود الله فيه سبحانه على عباده بأنواع العبادات والكرامات ، ويُجزل الله سبحانه فيه لأوليائه العطايا ، ويعفو فيه عن الرزايا .
فينبغي على المسلمين تعظيمه بالنية الصالحة والاجتهاد في حفظ الصيام والقيام والمسابقة إلى الخيرات ، والمسارعة إلى الطاعات ، ليفوز المسلم بالكرامة والأجر العظيم من رب الأرض والسموات .
وينبغي على المؤمن أن يحفظ صومه من الأوزار والآثام ، حتى يحفظ صومه من كل شائبة .
وممّا يجب على المؤمن في شهر رمضان وغيره وفي رمضان آكد ، أن يحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والوقيعة في أعراض المسلمين ، لأن ذلك مُذهب لأجر الصيام ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله . قال صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان وعرف حدوده وتحفظ مما ينبغي له أن يتحفظ منه كَفّرَ ما قبله " [ رواه الإمام أحمد ] . وقبل ذلك قال الله تعالى في تحريم الغيبة والنميمة : " ولا يغتب بعضكم بعضاً أيُحب أحدكم ان يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه " ، وقال صلى الله عليه وسلم " لا يدخل الجنة نمّام " [ متفق عليه ] ، وقال صلى الله عليه وسلم " ما صام من ظلّ يأكل لحوم الناس " [ رواه ابن شيبة 2 / 273 ] . وفي مسند الإمام أحمد بسند ضعيف : أن امرأتين صامتا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكادتا تموتا من العطش ، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأعرض عنهما ، ثم ذُكرتا له ، فدعاهما ، فأمرهما أن تتقيئا ، فقاءتا ملء قدح ، قيحاً ودماً وصديداً ، ولحماً عبيطاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما ، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما ، جلست إحداهما إلى الأخرى ، فجعلتا تأكلان لحوم الناس " [وظائف شهر رمضان 22 ] ، وقال جابر بن عبدالله رضي الله عنه : " إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار وليكن عليك وقار وسكينة ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء " [ رواه ابن شيبة 2 / 272 ] ، هكذا ينبغي للمسلم أن يستقبل شهر رمضان وينبغي له أن يكون فيه ، فهي مواسم قد لا تتكرر وقد لا يُدركها الإنسان كل عام ، فينبغي أن يغتنمها ويستثمرها في الطاعة .
وليس معنى الصيام أن الإنسان يبقى طوال اليوم عابس الوجه ، ضيق الخلق ، عنيف التعامل ، شديد الطباع ، قاسي الكلام ، غليظ القلب ، بل الصيام يعلم حسن الخلق ، وحسن التصرف مع الناس ، وبشاشة الوجه ، وطلاقة المحيا ، لأن الصيام يضيق مجاري الشيطان من ابن آدم ، فيكون الصائم طيب الكلام ، يتحمل ما يأتيه من شتائم وسباب ، وإذا شتم أو تعرض للسب ، فعليه أن يرد بقوله : " إني امرؤ صائم " أو : " إني صائم " . ويجب على الصائم أن يقدر شعور الآخرين ، ويحترم جميع الصائمين وغير الصائمين ، ويعاملهم بحسن الخلق والأدب الجم ، فهو في شهر التعود والصبر والمصابرة على فعل الخيرات .(192/4)
وما نراه اليوم من تهافت الناس على البقالات ، ومحلات الأدوات المنزلية لشراء الأطعمة والأشربة ، والأواني ، ما هو إلا نتيجة لعدم فهم نصوص الشريعة ، وعدم فهم لما من أجله شرع صيام شهر رمضان ، فالله تبارك وتعالى بين للمسلمين ذلك بياناً واضحاً لا يخفى حكمه على أحد إلا ممن ترك العمل بكتاب الله ، وهجر قراءته ، وابتعد عن تدبره ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " إن الغاية التي من أجلها شرع الله تبارك وتعالى صيام شهر رمضان هي التقوى ، لأن الصيام عمل بين العبد وربه ، فمن الناس من يفطر حقيقة بالأكل والشرب وسائر المفطرات إذا خلا بنفسه ، ومن الناس من يفطر مجازاً لا حقيقة فتراه يأكل لحوم البشر بلسانه ، ومن الناس من يجرح صومه بمشاهدة ما حرم الله أو سماع الحرام من أغان وموسيقى وغيبة ونميمة ، فسماع ذلك كم فعله ، إن التقوى جماع الإيمان ، ولقد أمر الله عباده بها ، وحثهم عليها ، لأنها سبيل إلى الجنة ، فكم هم المتقون اليوم ، لقد فهم الناس اليوم الصوم فهماً خاطئاً حتى زلت الأقدام عن حقيقة الصوم ، فنكست الطباع ، وغيرت الأوضاع ، وأصبح الناس في ضياع ، عندما اختلت موازين فهم صيام شهر رمضان ، تدفق الناس جماعات وفرادى إلى الأسواق ، وتنقبت النساء في الأسواق وأثناء الخروج إلى المساجد ، وغصت الأسواق والمحلات التجارية بالمسلمين ، وكأنهم في شهر الأكل والشرب ، بل وكأنهم قادمون على شهر مجاعة ، وكثر الخصام ، وزاد الجدال ، وانعدم الوئام ، كل ذلك بسبب الفهم الخاطئ لما شرع له شهر رمضان ، فلا بد من فهم صائب ، وتصحيح للمفاهيم ،
فليس شهر رمضان شهر أكل وشرب وسهر ونوم ولهو ، ومشاهدة للفضائيات ، وإكثار من شرب الدخان ، بل هو أعظم من ذلك بكثير ، فهو شهر صبر وترويض للنفس البشرية وكبح لجماحها ، وكسر لشهواتها ، وكبت لملذاتها ، شهر رمضان شهر أنزل الله فيه القرآن ، فهو شهر تلاوة القرآن ، فينبغي على العبد أن يستزيد فيه من الطاعات ، والإكثار من الحسنات بتلاوة كتاب الله العزيز آناء الليل والنهار ، فعلى المسلم الصادق الذي عرف الغاية من شهر رمضان أن يُكثر فيه من ختم كتاب الله تعالى ، وعليه أن يحرم ما حرم الله ورسوله من مشاهدة النساء عبر الشاشات ، أو سماع المحرمات ، وكذلك المرأة المسلمة ينبغي أن توزع أوقاتها ، فلا تقضيها بين أربعة جدران حبيسة المطبخ ، لتتفنن في أنواع الطهي والطعام ، ثم بعد ذلك تخلد للراحة ومشاهدة المسلسلات ، ثم تعود لتزاول مهنة الطهي للسحور ، هذا فهم قبيح لشهر الصوم ، فالمرأة العاقلة هي التي تعرف كيف تجعل من شهر رمضان شهر عبادة وتقوى وطاعة للمولى جل وعلا ، فتوزع الأوقات ما بين إعداد لطعام الإفطار وليكن ذلك في وقت مبكر ، ثم تقرأ كتاب ربها ، أو تستمع للأشرطة والمواعظ ، وتجلس مع رب الأسرة والأولاد لدراسة بعض أحكام الصيام ، من الكتب التي تعني بذلك ، كفتاوى هيئة كبار العلماء ، ومختصر الوظائف للشيخ / عبدالرحمن بن قاسم ، وغيرها من الكتب المفيدة ، وعلى المسلمة أن تحذر في هذا الشهر من القيل والقال ، وكثرة الزيارات التي لا فائدة فيها ، ولا طائل منها .
والله أسأل أن يؤلف قلوب المسلمين ، وأن يجعلهم اخوة متحابين ، وأن يهديهم سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، وأن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح ، وأن يبلغنا شهر رمضان ونحن بصحة وعافية ، والإسلام من نصر إلى نصر ، وقد أقرت أعيننا بعودة أراضي المسلمين إليهم ، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام الجامع الكبير بتبوك
...
صيد الفوائد
...(192/5)
استقلال الجزائر
محمد البشير الإبراهيمي
الجزائر
5/6/1382
كتشاوا
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- استَهَلّ ببيان سُنّة الله في نُصرة الحق وإزهاق الباطل 2- ثم دعا لشهداء الثورة ولغيرهم ممن أبلى في ذلك بلاءً حسناً 3- ثم ذكّر بنعمة الله العظيمة على الشعب الجزائري 4- مقارنة بين الأمس واليوم 5- عدوان الاستعمار على الجزائر 6- وظيفة المسجد 7- الاستعمار كالشيطان 8- نصيحة بالتعاون والتكافل 9- التحذير من الغرور 10- واجب النصح لولاة الأمور
الخطبة الأولى
ونستنزل من رحمات الله الصيبة، وصلواتها الزاكية الطيبة لشهدائنا الأبرار ما يكون كفاء لبطولتهم في الدفاع عن شرف الحياة وحرمات الدين وعزة الإسلام كرامة الإنسان وحقوق الوطن.
واستمد من الله اللطف والإعانة لبقايا الموت وآثار الفناء ممن ابتلوا في هذه الثورة المباركة بالتعذيب في أبدانهم والتخريب لديارهم والتحيف لأموالهم.
وأسأله تعالى للقائمين بشؤون هذه الأمة، ألفة تجمع الشمل، ووحدة تبعث القوة، ورحمة تضمد الجراح، وتعاونا يثمر المنفعة، وإخلاصا يهون العسير، وتوفيقا ينير السبيل وتسديدا يقوم الرأي ويثبت الأقدام، وحكمة مستمدة من تعاليم الإسلام وروحانية الشرق وأمجاد العرب، وعزيمة تقطع دابر الاستعمار من النفوس، بعد أن قطعت دابره من الأرض.
ونعوذ بالله ونبرأ إليه من كل داع يدعو إلى الفرقة والخلاف، وكل ساع يسعى إلى التفريق والتمزيق وكل ناعق ينعق بالفتنة والفساد.
ونحي بالعمار والثمار والغيث المدرار هذه القطعة الغالية من أرض الإسلام التي نسميها الجزائر، والتي فيها نبتنا، وعلى حبها ثبتنا، ومن نباتها غذينا وفي سبيلها أوذينا.
أحييك يا مغنى الكمال بواجب وأنفق في أوصافك الغر أوقاتي
يا أتباع محمد عليه السلام هذا هو اليوم الأزهر الأنور وهذا هو اليوم الأغر المحجل، وهذا هو اليوم المشهود في تاريخكم الإسلامي بهذا الشمال، وهذا اليوم هو الغرة اللائحة في وجه ثورتكم المباركة، وهذا هو التاج المتألق في مفرقها، والصحيفة المذهبة الحواشي والطرر من كتابها.
وهذا المسجد هو حصة الإسلام من مغانم جهادكم، بل هو وديعة التاريخ في ذممكم، أضعتموها بالأمس مقهورين غير معذورين واسترجعتموها اليوم مشكورين غير مكفورين وهذه بضاعتكم ردت إليكم، أخذها الاستعمار منكم استلابا، وأخذتموها منه غلابا، بل هذا بيت التوحيد عاد إلى التوحيد، وعاد إليه التوحيد فالتقيتم جميعا على قدر.
إن هذه المواكب الحاشدة بكم من رجال ونساء يغمرها الفرح، ويطفح على وجوهها البشر لتجسيم لذلك المعنى الجليل، وتعبير فصيح عنه، وهو أن المسجد عاد إلى الساجدين الركع من أمة محمد، وأن كلمة لا إله إلا الله عادت لمستقرها منه كأن معناها دام مستقرا في نفوس المؤمنين، فالإيمان الذي تترجم عنه كلمة لا إله إلا الله، هو الذي أعاد المسجد إلى أهله، وهو الذي أتى بالعجائب وخوارق العادات في هذه الثورة.
وأما والله لو أن الاستعمار الغاشم أعاده إليكم عفوا من غير تعب، وفيئة منه إلى الحق دون نصب، لما كان لهذا اليوم ما تشهدونه من الروعة والجلال.
يا معشر الجزائريين إذا عدت الأيام ذوات السمات، والغرر والشيات في تاريخ الجزائر فسيكون هذا اليوم أوضحها سمة وأطولها غرة وأثبتها تمجيدا، فاعجبوا لتصاريف الأقدار، فلقد كنا نمر على هذه الساحة مطرقين.
ونشهد هذا المشهد المحزن منطوين على مضض يصهر الجوانح ويسيل العبرات، كأن الأرض تلعننا بما فرطنا في جنب ديننا وبما أضعنا بما كسبت أيدينا من ميراث أسلافنا، فلا تملك إلا الحوقلة والاسترجاع، ثم نرجع إلى مطالبات قولية هي كل ما نملك في ذاك الوقت، ولكنها نبهت الأذهان، وسجلت الاغتصاب، وبذرت بذور الثورة في النفوس حتى تكلمت البنادق.
أيها المؤمنون: قد يبغي الوحش على الوحش فلا يكون ذلك غريبا، لأن البغي مما ركب في غرائزه، وقد يبغي الإنسان على الإنسان فلا يكون ذلك عجيبا لأن في الإنسان عرقا نزاعا إلى الحيوانات وشيطانا نزاغا بالظلم، وطبعا من الجبلة الأولى ميالا إلى الشر، ولكن العجيب الغريب معا، والمؤلم المحزن معا، أن يبغي دين عيسى روح الله وكلمته على دين محمد الذي بشر به عيسى روح الله وكلمته.
يا معشر المؤمنين إنكم لم تسترجعوا من هذا المسجد سقوفه وأبوابه وحيطانه، ولا فرحتم باسترجاعه فرحة الصبيان ساعة ثم تنقضي، ولكنكم استرجعتم معانيه التي كان يدل عليها المسجد في الإسلام ووظائفه التي كان يؤديها من إقامة شعائر الصلوات والجمع والتلاوة ودروس العلم النافعة على اختلاف أنواعها، من دينية ودنيوية، فإن المسجد كان يؤدي وظيفة المعهد والمدرسة والجامعة.
أيها المسلمون: إن الله ذم قوما فقال: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، ومدح قوما فقال: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة، ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين .(193/1)
يا معشر الجزائريين، إن الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما دون ذلك))، فهو قد خرج من أرضكم ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
يا معشر الجزائريين: إن الثورة قد تركت في جسم أمتكم ندوبا لا تندمل إلا بعد عشرات السنين، وتركت عشرات الآلاف من اليتامى والأيامى والمشوهين الذين فقدوا العائل والكافل وآلة العمل فاشملوهم بالرعاية حتى ينسى اليتيم مرارة اليتم وتنسى الأيم حرارة الثكل وينسى المشوه أنه عالة عليكم، وامسحوا على أحزانهم بيد العطف والحنان فإنهم أبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم.
يا إخواني: إنكم خارجون من ثورة التهمت الأخضر واليابس، وإنكم اشتريتم حريتكم بالثمن الغالي، وقدمتم في سبيلها من الضحايا ما لم يقدمه شعب من شعوب الأرض قديما ولا حديثا وحزتم من إعجاب العالم بكم ما لم يحزه شعب ثائر، فاحذروا أن يركبكم الغرور ويستزلكم الشيطان، فتشوهوا بسوء تدبيركم محاسن هذه الثورة أو تقضوا على هذه السمعة العاطرة.
إن حكومتكم الفتية منكم، تلقت تركة مثقلة بالتكاليف والتبعات في وقت ضيق لم يجاوز أسابيع، فأعينوها بقوة، وانصحوها فيما يجب النصح فيه بالتي هي أحسن، ولا تقطعوا أوقاتكم في السفاسف والصغائر، وانصرفوا بجميع قواكم إلى الإصلاح والتجديد، والبناء والتشييد، ولا تجعلوا للشيطان بينكم وبينها منفذا يدخل منه، ولا لحظوظ النفس بينكم مدخلا.
وفقكم الله جميعا، وأجرى الخير على أيديكم جميعا، وجمع أيديكم على خدمة الوطن، وقلوبكم على المحبة لأبناء الوطن، وجعلكم متعاونين على البر والتقوى غير متعاونين على الإثم والعدوان.
قال تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم وهو الغفور الرحيم.(193/2)
اعترافات عاشق
الحمد لله الذي جمع قلوب أهل حبه على طاعته.. وأورثهم من الخيرات ما نالوا به كرامته..
أحمده سبحانه فهو الذي جعل محبتة إلى جنته سبيلاً..
وأبغض العصاة وأورثهم حزناً طويلاً..
وسبحان من نوع المحبة بين محبة الرحمن.. ومحبة الأوثان.. ومحبة النسوان والصبيان.. ومحبة الألحان.. ومحبة القرآن..
والصلاة والسلام..
أما بعد أيها الأخوة والأخوات :
فهذه جلسة مع العاشقين والعاشقات.. من الشباب والفتيات..
لا لأزجرهم وأخوفهم.. وإنما لأعدهم وأبشرهم..
حديث إلى أولئك الشباب.. الذين أشغلوا نهارهم بملاحقة الفتيات.. في الأسواق وعند أبواب المدارس والكليات.. وأشغلوا ليلهم بالمحادثات الهاتفية.. والأسرار العاطفية..
وحديث إلى أولئك الفتيات.. اللاتي فتنت عيونهن بالنظرات.. وغرّتهن الهمسات.. فامتلأت حقائبهن بالرسائل الرقيقة.. وصور العشيق والعشيقة..
فلماذا أتحدث مع هؤلاء ؟!..
أتحدث معهم..
لأن كثيراً من العاشقين والعاشقات وقعوا في شراك العشق فجأة.. بسبب نظرة عابرة.. أو مكالمة طائشة.. فأردت أحدهم قتيلاً.. وأورثته حزناً طويلاً.. ولم يجد من يشكو إليه..
نعم.. أتحدث معهم..
لأن التساهل بالعشق.. والتمادي فيه.. يجر إلى الفواحش والآثام.. ومواقعة الحرام.. ويشغل القلوب عن علام الغيوب..
وكم أكبت فتنة العشق رؤوسا في الجحيم..
وأذاقتهم العذاب الأليم..
كم أزالت من نعمة.. وأحلت من نقمة..
فلو سألت النعمَ.. ما الذي أزالك ؟
والهمومَ والأحزان.. ما الذي جلبك ؟
والعافيةَ.. ما الذي أبعدك ؟
والسترَ.. ما الذي كشفك ؟
والوجهَ.. ما الذي أذهب نورك وكسفك ؟
لأجابتك بلسان الحال :
هذا بجناية العشق على أصحابه.. لو كانوا يعقلون..
نعم.. أتحدث عن العشق..
لأن انتشار العلاقات المحرمة.. لا يضر الفاعلين فقط.. فقد جرت سنة الله أنه عند ظهور الزنا يشتد غضب الجبار..
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا أذن الله بإهلاكها..
وفي الحديث الحسن الذي عند ابن ماجة وغيره ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لم تظهر الفاحشة في قوم قط ، حتى يعلنوا بها ، إلا فشا فيهم الطاعون ، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا )..
وكم من فتاة ضيعت شبابها.. وفضحت أهلها.. أو قتلت نفسها بسبب ما تسميه العشق..
وكم من فتى أشغل أيامه وساعاته.. وأضاع أنفاس حياته.. فيما يسميه العشق..
وما كيس في الناس يحمد رأيه * فيوجد إلا وهو في الحب أحمق
وما أحد ما ذاق بؤس عشية * فيعشق إلا ذاقها حين يعشق
ونحن في زمن كثرت فيه المغريات.. وتنوعت الشهوات..
وترك المفسدون في قنواتهم ومجلاتهم.. مخاطبةَ العقول والأفهام.. ولجئوا إلى مخاطبة الغرائز وإثارة الحرام..
فأصبح الشباب والفتيات حيارى.. بين مجلات تغري.. وشهوات تسري.. وقنوات تُعرّي.. وأفلام تزين وتجرّي..
فاشتغل الشباب والفتيات بعضُهم ببعض.. واغتروا بالصحة والفراغ.. { كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى}..
وإلا فلو كان أحدهم فقيراً معدماً.. أو مريضاً مقعداً.. لما وجد في عقله مكاناً لفلان أو فلانة..
ومن طريف ما يستشهد به على أن الترفه والتنعم الزائد.. مع عدم الدين.. يوقع في مثل هذه التوافه..
أن رجلاً كان يسكن في إحدى الدول المجاورة التي يظهر فيها السفور.. وكان هذا الرجل غنياً منعّماً.. فطلبت منه ابنته الجامعية أن يشتري لها سيارة خاصة.. فقال لها : السيارة مفتاح شرّ.. وتزيد اختلاطك بالرجال.. وأخوك تحت يدك يذهب بك إلى ما تريدين..
فأصرت الفتاة.. وبكت.. حتى اشترى لها السيارة.. وبدأت تذهب وتجيء كيفما شاءت..
فلما جاءت العطلة..
قالت لأبيها : أريد أن أقضي الإجازة في بريطانيا لدراسة اللغة الإنجليزية !!
فقال الأب المسكين : لا ضرورة لذلك..
فأصرّت عليه وتباكت..
فاقترح أن تذهب العائلة كلها معها..
فغضبت.. وقالت : أنا واثقة في نفسي.. ولا يمكن أن أتعرض لمكروه..
فأبى عليها..
لكنها تعرف دواءه.. بكت.. وأقفلت على نفسها في غرفتها.. وأضربت عن الطعام والشراب..
حتى رق لها قلبه.. ودمعت عينه.. وقال : اخرجي من عزلتك وسوف تسافرين إلى بريطانيا.. ففرحت الفتاة.. وبدأت تجمع حقائبها..
ورفع الأب سماعة الهاتف واتصل بقريب لهم.. يسكن في المملكة في مدينة تقع على طريق مكة المكرمة..
اتصل به وقال له : يا فلان !! هل تذكر فلان ابن عمنا.. الذي يسكن في خيمة في البر ؟
قال صاحبه : نعم.. وهو لا يزال على حاله في البر.. يرعى الغنم.. وعنده إبل.. ويشتغل ببيع السمن.. والإقط..
فسأله صاحبنا : هل تزوّج ؟
قال : لا.. ومن يزوّجه.. وهو لا يقرّ له قرار.. يرحل بخيمته كل حين..
فقال : حسناً.. أنا آتٍ إلى مكة بعد يومين.. وسوف أتغدى عندك.. وأريد أن أراه..
ثم ودعه وأقفل الهاتف..
وجاء الأب إلى ابنته وقال : سوف نذهب للعمرة بالسيارة.. ثم تسافرين إلى بريطانيا بالطائرة عن طريق مطار جدة..(194/1)
فلما انطلقوا.. وانتصف بهم الطريق إلى مكة توجه الأب إلى مدينة صاحبه وقال لأهله : نرتاح قليلاً في بيت فلان.. ونتغدى.. ثم نكمل السفر..
ونزلت النساء عند النساء.. ودخل هو عند الرجال..
ورأى صاحبه راعي الإبل والغنم.. فتحدث معه طويلاً.. ثم عرض عليه أن يزوجه ابنته !! فوافق فوراً.. ثم عُقد النكاح..
وخرج الأب ونقل حقائب البنت.. - العروس -.. من إلى سيارة زوجها..
ثم صاح بأهله ليخرجوا.. فخرجت زوجته بأطفالها..
وخرجت البنت الرقيقة.. تنفض يديها من غبار هذا المنزل.. وتتأفف من ذبابه وحشراته..
فلما ركبت مع أبيها.. زفَّ إليها بشرى زواجها.. فظنت أنه يمزح..
لكنه بدا جاداً.. وأمرها بالنزول مع زوجها.. فأبت.. وبكت..
فذهب الأب إلى الزوج وقال : زوجتك تستحي أن تأتي لتركب معك.. فتعال أنت وخذها..
فنزل الرجل فرحاً مستبشراً.. وفتح سيارة أبيها.. وحملها معه.. ومضى بالسيارة إلى خيمة السعادة.. وشق الصحراء.. وغاب بين كثبان الرمال..
أما الأب فقد كان حازماً.. وتغلّب على بكاء الأم وتوسلاتها..
ورجع ببقية العائلة إلى بلده.. وبعد أسبوع.. اتصل الأب بصاحبه الذي في المدينة وسأله عن الأخبار.. فقال : هما بخير.. قد رأيتهما في السوق قبل يومين..
ومضت الأيام والشهور.. والأب يتلقى الأخبار من صاحبه هاتفياً.. فلما مضت سنة.. اتصل به صاحبه وبشره بأنه أصبح جَداً.. وأن ابنته رزقت بغلام..
وبعد شهور.. ذهبت العائلة لزيارة ابنتهم.. فلما أقبلوا على خيمتها فإذا بامرأة حامل وبجانبها طفل صغير.. فاقتربوا.. فإذا هي ابنتهم.. فرحبت.. وحيّت..
وصاحت بزوجها.. وجاء وأكرمهم..
فتأملوا حال هذه الفتاة.. وكيف صار زواجها من هذا الأعرابي.. خيراً لها من بريطانيا..
مع التنبيه إلى أن تزويج البنت بغير رضاها لا يجوز.. لكني أوردت القصة مستشهداً بها على عاقبة الترفه والفراغ..
أيها العاشقون والعاشقات..
لقد كان العشاق قديماً يكتفي أحدهم بتذكر محبوبه.. وإنشاد الأشعار فيه.. دون أن يخلو به أو يراه.. قال عمرو بن شبة : كان أحدهم إذا أحب امرأة دار حول بيتها سنة.. لعله يرى من رآها.. أما اليوم فإن الرجل إذا عشق امرأة جهدها وكأنما أشهد على نكاحها أبا هريرة..
وبعض الناس يسمع عن العشق والعشاق.. ويجالس العاشقين.. ويقرأ أخبارهم.. ويصل إلى درجة يشعر معها انه عاشق وهو ليس كذلك..
فيجتهد في البحث عن معشوق أو معشوقة.. ثم يبدأ يتغنى بالعشق والغرام وهو ليس من أهله..
كما ذكروا أن أعرابياً مرَّ بمسجد فجلس مع قوم صالحين يتذاكرون التعبد في الليل.. وكل واحد منهم يذكر فضل نوع من العبادات.. فهذا يذكر الصلاة.. وذاك يمدح الاستغفار.. والأعرابي ساكت.. فالتفتوا إليه.. وقالوا له :
هل تنام طوال الليل أم أنك تقوم..
فقال : كلا.. بل أقوم..
قالوا : فماذا تفعل ؟
فقال : أبول.. ثم أرجع وأنام..
وقد يزين الشيطان للفتى أو الفتاة أنه جميل جذاب.. وأن الطرف الآخر معجب به أشد الإعجاب..
وإذا مشى في الأسواق.. أو ضاحك الرفاق.. ظن أنه يلفت الأنظار.. ويفتن الواقف والمارّ.. فيدفعه ذلك للتعرض والتبذل.. ويحتال عليه أصحاب الشهوات حتى يعبثوا به أو بها.. فإذا قضوا شهواتهم منه أو منها.. ذهبوا يبحثون عن فريسة أخرى..
ولو أنه ترفع عن ذلك.. واشتغل بما خلق من أجله.. لكان أسلم لدينه وعقله..
وتأمل في حال يوسف عليه السلام.. الذي أوتي من البهاء والحسن والجمال.. ما يفوق الخيال..
تراوده الملكة.. وهو عبد مملوك.. اشتراه زوجها بثمن بخس.. ليخدمها..
وهو إلى ذلك غريب لا يخشى فضيحة..
شاب أعزب تشتاق نفسه إلى مثلها.. وهي ذات منصب وجمال..
وهي تتوعده بالسجن والصغار..
وتراوده.. وتبذل كلَّ ما عندها لإغرائه..
أسرعت إلى أبوابها فغلقتها.. وإلى ثيابها فجملتها.. وإلى فرشها فزينتها..
ثم قالت في تغنج ودلال : هيت لك..
فيصرخ بها العفيف عليه السلام.. { معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون }..
بل تأمل في حاله عليه السلام..
لما جمعت امرأة العزيز زوجات الكبراء.. وحليلات الأمراء.. ووضعت لهن أطايب الفاكهة.. وآتت كل واحدة منهن سكيناً.. ثم جعلت يوسف يمرّ أمامهن..
فلما رأينه.. ما تحملن النظر إليه.. وغابت عقولهن من حسنه وبهائه.. فقطعن أيديهن بالسكاكين.. وقلن { ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم }..
فهل التفت يوسف إليهن ؟ أو اغترّ بشبابه وجماله ؟
.. كلا.. بل صاح بأعلى صوته وقال..{ ربِّ السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين } قال الله : { فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم } ..
نعم السجن خير له من الفاحشة..
قارن ذلك.. بما ذُكِر..
عن شاعر الغزل عُمرَ بنِ ربيعة..
أنه مرَّ بامرأة في الطريق.. فحكت عينها بيدها..
فظن أنها تغازله.. فوقع في حبها.. وأنشد متغزلاً يقول :
أَشَارَتْ بِطَرْفِ العَيْنِ، خِيفَةَ أَهْلِها ** إشارَةَ مَحْزونٍ وَلَمْ تَتَكَلَّم(194/2)
فَأَيْقَنْتُ أَنَّ الطَّرْفَ قَدْ قَلَ مَرْحَباً ** وَأَهْلاً وَسَهْلاً بِالحَبِيبِ المُتَيَّمِ
فقارن حال يوسف بهذا.. أو قارنه إن شئت..
بذلك الشاب الذي خرجت مرة من المسجد.. فإذا هو ينتظرني عند سيارتي.. بجسم نحيل.. ووجه شاحب.. ومظهر مخيف.. فلما رأيته فزعت.. فقلت له ماذا تريد ؟
فقال لي : أنا يا شيخ.. قررت أن أتوب..
فظننت أنه سيتوب من تهريب المخدرات.. أو قطع الطريق.. أو القتل.. إذا أن مظهره قد يوحي بذلك..
لكني سألته وقلت : تتوب من ماذا ؟
فقال : من مغازلة الفتيات !!
فعجبت.. لكني سكتُّ.. وقلت له مشجعاً : نعم.. الحمد لله على أن وفقك للتوبة..
فصاح بي قائلاً : ولكن هناك أمر يمنعني من التوبة !!
قلت له : وما هو ؟!!
فقال : إذا مشيت في السوق.. البنات ما يتركنني.. يغازلنني في كل زاوية..!!
مع أنني أجزم أنه لو غازل عجوزاً شمطاء لما التفتت إليه..
وهذا الشاب يذكرني بما ذُكر أن أحد المفتونين بمغازلة الفتيات.. تعرف على فتاة من خلال الهاتف..فأعجبه صوتها..وتمنى أن يراها..
فما زال هو والشيطان بها حتى قابلته في طريق.. فلما كشفت غطاء وجهها ليراها.. فإذا وجه قبيح بشع..
فصاح بها : أعوذ بالله.. ما هذا الوجه..
فقالت له : أصلاً.. أهم شيء الأخلاق !!
ما شاء الله..
الأخت تقول : أهم شيء الأخلاق..!!!
وأي أخلاق بقيت.. وقد سلكت هذا السبيل..
أيها الأخوة والأخوات..
أسباب المحبة كثيرة.. فقد تحب أحداً لأنه قوام لليل.. أو صوام للنهار.. أو حافظ للقرآن.. أو داعياً إلى الله.. فهذه المحبة لله.. وأنت مأجور عليها.. والمتحابون في الله.. ولأجل الله.. يوم القيامة يكونون على منابر من نور يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء..
هذا هو النوع الأول من أسباب المحبة وهو نوع نافع بلا شك في الدنيا والآخرة..
أما نفعه في الدنيا فهو ما يقع من تعاون على الخير.. ومحبة صادقة..
وأما نفعه في الآخرة فهو الاجتماع في جنات النعيم.. ( الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم )..
وقد تحب شخصاً.. لجمال وجهه.. أو رقة كلامه.. أو تغنجه ودلاله.. دون أن تنظر إلى صلاحه وطاعته لله..
فهذه المحبة لغير الله.. ولا تزيد من الله إلا بعداً..
وقد هدد الله أصحابها وقال : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوٌ إلا المتقين }..
وفي الآية الأخرى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً }..
بل إن هؤلاء المتحابين الذين اجتمعوا على ما يغضب الله يعذبون يوم القيامة.. وينقلب حبهم إلى عداوة.. كما قال تعالى عن فريق من العصاة { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار }..
نعم.. مأواهم النار..
ولماذا لا يكون جزاؤهم كذلك..
وهم طالما اجتمعوا على الحرام.. وتحدثوا عن الحب والغرام..
لعبت بهم الشهوات.. وولغوا في الملذات..
فهم.. يوم القيامة يجتمعون.. ولكن أين يجتمعون ؟
في نار.. لا يخبوا سعيرها.. ولا ينقص لهيبها.. ولا يبرد حرها..
{ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين * ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون }..
وتلك لعمر الله الفتنة الكبرى.. والبلية العظمى..
التي استعبدت النفوس لغير خلاقها.. وملَّكتِ القلوبَ لعُشّاقها..
فأحاطت القلوب بمحنة.. وملأتها فتنة..
فالمحب بمن أحبه قتيل.. وهو له عبد خاضع ذليل..
إن دعاه لباه.. وإن قيل له ما تتمنى ؟ فهو غاية ما يتمناه..الجواب الكافي ( 494 – 496 )
أيها الأخوة والأخوات :
هذا هو العشق المحرم.. الذي يكون الدافع إليه.. ليس هو صلاح المحبوب.. وإنما جماله وملاحته..
ومن أكبر أسباب وقوعه..
النظر إلى الأفلام الهابطة.. التي يختلط فيها الرجال بالنساء.. حتى يقع في قلب الناظر إليها أن الاختلاط أمر عادي.. فيبدأ في البحث عن عشيق أو عشيقة..
وأعظم من ذلك إذا كانت هذه الأفلام يقع فيها الحب والغرام.. واللمسات والقبلات.. فإذا رآها الشباب والفتيات حركت فيهم الساكن.. وأظهرت الباطن.. ونزعت الحياء.. وقرّبت البلاء..
فمن رأى صور الفسق الفجور.. ومشاهد العهر والمجون.. اندفعت نفسه إلى تقليدها في كل حين.. في السوق.. وعلى فراشه.. وفي مكتبه.. ولا يزال الشيطان يدعوه إليها.. ويحثه عليها..
لذلك لما أمر الله تعالى بحفظ الفروج عن الزنا أمر قبل ذلك بغض البصر فقال سبحانه :
{ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم } ..
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم : ( العين تزني وزناها النظر )..(194/3)
فجعل النظر إلى الحرام نوعاً من الزنا.. يأثم عليه صاحبه..
كما أن كثرة الكلام عن العشق والحب.. في مجالس الشباب والفتيات.. أو في المدارس والكليات.. يهيج النفوس إليه.. بل.. ويُشعِر العفيف الذي صان نفسه عن هذه الأمور أنه شاذّ بينهم.. فيبدأ في البحث عن خليل.. أو خليلة..
فعلى العاقل أن يجتنب هذه المجالس.. التي لا تكاد تحفها الملائكة.. ولا تغشاها الرحمة.. بل هي طريق للحسرة والندامة على أصحابها يوم القيامة..
ومن أسباب التعلق بهذا العشق.. الاستماع إلى الأغاني.. نعم.. هذه الأغاني التي حرّمها الله تعالى من فوق سبع سماوات بقوله { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلَّ عن سبيل الله }..
الأغاني.. هي صوت العصيان.. وعدوّة القرآن..
بل هي مزمار الشيطان.. الذي يزمر به فيتبعه أولياؤه.. قال تعالى : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك }.. وقال ابن مسعود : الغناء رقية الزنا.. أي أنه طريقُه ووسيلتُه..
عجباً.. هذا كان يقوله ابن مسعود لما كان الغناء يقع من الجواري والإماء المملوكات.. يوم كان الغناء بالدفّ والشعر الفصيح.. يقول هو رقية الزنا..
فماذا يقول ابن مسعود لو رأى زماننا هذا.. وقد تنوّعت الألحان.. وكثر أعوان الشيطان.. فأصبحت الأغاني تسمع في السيارة والطائرة.. والبر والبحر..
وما يكاد يُذكر فيها إلا الحب والغرام.. والعشق والهيام..
بالله عليكم..
هل سمعتم مغنياً غنى في التحذير من الزنا ؟ أو غض البصر ؟
أو حفظ أعراض المسلمين ؟!!
كلا.. ما سمعنا عن شيء من ذلك.. بل كل إناء بما فيه ينضح.. امتلأ قلب هذا المغني بالشهوات.. وتعلقت نفسه بالملذات.. فبدأ ينفق مما عنده..
كما أن من أسباب العشق.. المؤدي غالباً إلى الفاحشة..
التساهل بمخالطة الخادمات في المنازل.. أو الخلوةِ بهن عند غياب أهل البيت.. وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما..
والتساهل كذلك.. باستعمال شبكة الإنترنت.. والمحادثات التي تتم من خلالها بين الشباب والفتيات.. وقد يصاحب ذلك نقلُ الصوت والصورة.. أو إرسالُ الصور من خلال البريد الإلكتروني..
ومع الأسف.. أن بعض الآباء يوفر لأولاده هذه الشبكة.. ولا يدري والله ما يقع فيها..
كما أن من أسبابه قراءة الروايات العاطفية.. والقصص الغرامية..
فمن تساهل بهذه الأسباب.. وقع في العشق المذموم.. وحلت عليه الكرب والهموم..
أيها العاشقون والعاشقات..
وقد يزعم البعض أن وقوعه في هذا العشق أمر اضطراري لا يستطيع التخلص منه..
كما قال :
يلومونني في حب سلمى وإنما ** يرون الهوى شيئاً تيممته عمداً
ألا إنما الحب الذي صدع الحشا ** بلاء من الرحمن يبلو به العبد
بل قد كتب إليَّ أحد العاشقين.. رسالة يلومني فيها على إثارة هذا الموضوع.. وسطر فيها أبياتاً بلهجته العامية.. ولا بأس أن انقل لكم شيئاً منها.. يقول..
لو يتداوى كل يا شيخ من حب * وش لون ابلقى لي وليف نصوحي
لي صاحب بالحب شاطر مدرب * ما اظن من شافه يصد ويروحي
عن الهوى لا تنشد إلا مجرب * تلقى دوى العشاق كان انت توحي
وانت لو انك يالعريفي تكهرب * في حب مجمول شحوح مزوحي
كان اعترفت وقمت يا شيخ تقلب * عنوان درسك بالعنا والجروحي
ومهما زعم هؤلاء أن العشق يأسر قلوبهم بغير اختيارهم.. فهذا باطل..
بل هم الذين يستدعونه.. ويتسابقون إليه.. ويمنون أنفسهم به حتى يقعوا فيه..
نعم..
وقد يتساهل الفتى أو الفتاة.. حتى يقع في المرض الأعظم.. والخطب الأطم..
وهو تعلق الشاب بشاب مثله.. وافتتان الفتاة بفتاة أخرى..
لأن ظاهر هذه العلاقة.. أنها صداقة سليمة نظيفة.. لكن باطنها على غير ذلك..
وقد يعترض البعض ويقول :
أنت تشدد علينا.. فأنا لي مكالمات.. ونظرات.. لكنها كلها علاقات بريئة..
كما كتب إليَّ أحد العاشقين مشكلته مع عشيقته..في رسالة طويلة..
وكان مما قال فيها : وأنا يا شيخ آخذها معي في السيارة.. ونمضي الساعات الطوال ونحن نتمشى.. ووالله يا شيخ لا يقع بيننا شيء يغضب الله.. لكن الجلسة لا تخلو من القبلات الشريفة !!
ولا أدري ما معنى القبلات الشريفة.... لعلها من وراء حجاب..
وهذا مسكين.. فإن مجرد الخلوة بينهما محرّمة.. وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما )..
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال : ( إياكم والدخول على النساء ).. يعني الخلوة بهن..
بل أمر الله المرأة بالتستر حتى لا يراها الرجال.. فقال { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين }..
بل قد نهى الله الصحابة جميعاً عن الاختلاط بالنساء.. فقال :
{ وإذا سألتموهن متاعاً } يعني إذا سألتم أزواج النبي وهن أطهر النساء..
{ فاسألوهن من وراء حجاب } .. لماذا..؟؟
{ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن }..
وحسبك بالصحابة طاعة وخوفاً وتعبداً..
فكيف الحال اليوم مع شبابنا.. وفتياتنا.. وقد فسد الزمان ؟..
فكيف يخلو اليوم شاب بفتاة.. ويقولان صداقة بريئة..(194/4)
عجباً..
قال سفيان الثوري لرجل صالح من أصحابه : ( لا تخلون بامرأة ولو لتعلمها القرآن )..نعم أيها الأخوة والأخوات..
هذا ديننا.. ليس فيه تساهل مع الأعراض..
وحتى يعرف الشاب والفتاة.. الفرق بين المحبة المحرمة المبنية على العلاقات العاطفية.. وبين المحبة العادية.. أذكر بعض الضوابط في ذلك :
تجد أن المحِب العاشق لا يهتم بدين محبوبه.. ولا بصلاحه.. وإن اهتم بذلك فهو يهتم به ظاهرياً ليبعد اللوم عن نفسه..
وأكثر ما يعجبه في محبوبه.. نظراته.. وحركاته..
بل قد يضل ويقع في الآثام من أجل موافقة محبوبه..
كما قال أحدهم وقد أحب امرأة فاسقة..
فإن تُسْلِمي نُسْلِم وإنْ تَتَنْصَّري يُعَلق رجالٌ بين أعينهم صُلْبا
وتجد أن هذا العاشق.. ينبسط انبساطاً زائداً.. عند وجوده في مجلس مع معشوقه..
وينشرح صدره.. ويكثر كلامه وضحكه.. ويحاول أن يجذب الأنظار إليه..
بل ويحاول الجلوس بجانبه دائماً.. والمشي معه.. مع قبض اليدين على بعضهما.. ونحو ذلك..
وكذلك تجد أنه يديم إحداد النظر إليه..ولا يكاد يصرف عنه بصره
مع الغيرة الشديدة على من يحب.. فإذا رآه مع غيره.. ضاق صدره.. ويحس أن ذلك الإنسان اعتدى على بعض خصوصياته..
ولا يصبر عنه أبداً.. بل إما أن يراه كل يوم.. أو يتصل به بالهاتف.. أو ينظر إلى صوره.. أو يقرأ رسائله..
فمن كانت عنده هذه الأعراض.. فليسارع إلى علاج نفسه.. فإنه مبتلى..
يا من يرى سقمي يزيد * وعلتي أعيت طبيبي
لا تعجبن فهكذا * تجني العيون على القلوب
فما هو السبب الأول.. والداهية العظمى.. والمصيبة الكبرى.. الذي يوقع في هذا الداء ؟!
إنها السهم المسمومة.. إنها جناية العين..
كل الحوادث مبداها من النظر * ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها * فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها * في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته * لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
نعم هي جناية العين..
بل.. إنها عقوبة المخالفة لقوله تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم }..
وقوله للمؤمنات : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن )..
ما زلت تتبع نظرة في نظرة * في إثر كل مليحة ومليح
وتظن ذاك دواء قلبك * وهو في التحقيق تجريح على تجريح
نعم.. قد أفسد قلبه وجرّحه..
ومستفتحٌ باب البلاء بنظرة * تزوّد منها قلبه حسرة الدهر
فوالله لا تدري أيدري بما جنت * على قلبه أم أهلكته ولا يدري
قال ابن القيم رحمه الله :
إن الله تعالى لما أمر بغض البصر أعقب ذلك بالأمر بحفظ الفرج.. ليدلّ بذلك على أن من أطلق بصره.. أداه ذلك إلى إطلاق فرجه..
نعم.. أيها الأخوة والأخوات..
وفي الحديث الذي أخرجه الحاكم وصححه ( النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه جل و عز إيماناً يجد حلاوته في قلبه )..
وفي الصحيحين : ( إن الله كتب على بن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة.. فزنا العين النظر.. وزنا اللسان المنطق.. والنفس تمنى وتشتهي.. والفرج يصدق ذلك.. أو يكذبه ) .
فتأمل كيف بدأ بالعين.. وختم بالفرج.. ليدل أن إطلاق البصر.. هو طريق الزنا..
قال ابن القيم : دافع الخطرة فإن لم تفعل صارت فكرة..
وصدق رحمه الله..
فإن المرء إذا تساهل بالسهم الأولى وهي النظرة.. أصابته السهم الثانية وهي النظر بالقلب فيتفكر ويتمنى..
ثم يتدخل الشيطان فيزين ويوسوس.. يقول له : افعلها وتب.. كل الشباب هكذا.. تمتع بحياتك..
فتتحول هذه الفكرة إلى عزيمة وهم.. فيبدأ يفكر ويخطط.. فإن لم يدافع ذلك.. صار فعلاً.. فإذا هتك الستر بينه وبين ربه.. هانت المعصية على النفس.. وتعودت على المعصية..
لكنه لو تعوذ بالله من أول نظرة.. وصاح بها كما صاح يوسف.. ويقول : { معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون }..
نعم..
هذا حال الأبرار المتقين..
{ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون }..
وإطلاق البصر في الشهوات سبب لسوء الخاتمة والعياذ بالله..
هل سمعتم بالرجل الذي قيل له عند موته قل لا إله إلا الله.. فجعل يقول : أين الطريق إلى حمام منجاب ؟
ذاك رجل.. كان واقفاً بازاء داره.. وكان بابها يشبه باب هذا الحمام..
فمرت به جارية لها منظر.. فقالت : أين الطريق إلى حمام منجاب ؟
فأشار إلى باب بيته وقال : هذا حمام منجاب..
فدخلت الدار ودخل وراءها فلما رأت نفسها في داره.. وعلمت أنه قد خدعها.. أظهرت له البشر والفرح باحتماعها معه.. وقالت : خدعة منها له وتحيلاً لتتخلص مما أوقعها فيه.. وخوفاً من فعل الفاحشة.. يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقرّ به عيوننا..
فقال لها : الساعة آتيك بكل ما تريدين..
وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها.. فأخذ ما يصلح ورجع.. فوجدها قد خرجت.. فهام الرجل.. وأكثر الذكر لها.. وجعل يمشي في الطرق ويقول :(194/5)
يا رب قائلة يوماً وقد تعبت * أين الطريق إلي حمام منجاب
فبينا يقول ذلك وإذا بجاريته أجابته قائلة :
هلا جعلت سريعاً إذ ظفرت بها *حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب
فازداد هيجانه ولم يزل هذا البيت حتى مات..
وذكر ابن القيم أن رجلا قيل له عند موته قل : لا إله إلا الله فصاح بأعلى صوته وقال :
أسلمُ يا راحة العليل * ويا شفاء المُدْنف النحيل
حبك أشهى إلى فؤادي * من رحمة الخالق الجليل
هذا شاب.. عشق شخصاً فاشتد كلفه به وتمكن حبه من قلبه.. حتى وقع ألما به ولزم الفراش بسببه.. وتمنع ذلك الشخص عليه واشتد نفاره عنه.. فلم تزل الوسائط يمشون بينهما حتى وعده أن يعوده.. فأخبر بذلك البائس ففرح واشتد سروره.. وانجلى غمه وجعل ينتظر للمعياد الذي ضربه له فبينا هو كذلك إذ جاءه الساعي بينهما..
فقال : إنه وصل معي إلى بعض الطريق.. ورجع فرغبت إليه وكلمته..
فقال : إنه ذكرني وبرح بي ولا أدخل مداخل الريب ولا أعرض نفسي لمواقع التهم.. فعاودته فأبى وانصرف..
فلما سمع البائس ذلك أسقط في يده.. وعاد إلى أشد مما كان به.. وبدت عليه علائم الموت فجعل يقول في تلك الحال :
أسلمُ يا راحة العليل * ويا شفاء المُدْنف النحيل
حبك أشهى إلى فؤادي * من رحمة الخالق الجليل
فقلت له : يا فلان.. اتق الله..
قال : قد كان.. فقمت عنه فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت.. فعياذا بالله من سوء العاقبة وشؤم الخاتمة..
وذكر ابن القيم في كتابه الجواب الكافي.. أن مؤذناً كان ببغداد..
نعوذ بالله من مثل هذا الحال..
لذا..
كان للسلف في الحرص على غض البصر شأن عجيب..
خرج حسان بن أبي سنان يوم عيد..
وكان محمد بن واسع يأتي إلى صديق له فإذا طرق الباب.. صاحبك الأعمى..
نعم.. هؤلاء كان لهم أبصار.. وعندهم غرائز.. ونفوسهم تشتهي الملذات..
لكنهم.. يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار..
ومن تساهل بالنظرة الأولى.. ولم يسارع إلى علاج نفسه..
وقع في الداهية العظمى وهي تعلق القلب.. فإذا تمكن المحبوب من القلب بدأ المحب يستحسن كل ما يقع منه.. وتعجبه حركاته.. وتثيره ضحكاته..
ويفتن بابتسامته.. ويأنس بمجالسته..
بل.. ويُعجب منه بكل شيء وإن كان قبيحاً..
كما ذكروا أن رجلاً كان يحب امرأة سوداء.. فلما تمكن حبها من قلبه.. صار كل سواد يذكره بها.. فأحب كل شيء أسود.. وكان يتغزّل بها ويقول :
أُحِبُّ الكلاب السودَ من أجل حُبها *** ومن أَجْلِها أحببتُ ما كان أسوداً
ومن تساهل بالنظر أوقعه ذلك في أحد الخطرين.. إما عشق النساء.. أو عشق الغلمان.. فيصرفه ذلك عن طاعة الرحمن.. إلى وسوسة الشيطان..
كما كتب إليَّ أحدهم يشرح فيها قصة وقوعه في العشق.. وضمنها أبياتاً نظمها بلهجته العامية.. ولا بأس أن أسوق لكم شيئاً منها.. يقول :
بسم الله الرحمن بابدا كلامي واكتب على بيض الورق كل ما اخفيت
بعد اذنكم باشرح حكاية غرامي والعذر منكم كان بالهرج زليت
يا شيخ أنا والله ما ادري علامي حبيت مدري ليه يا شيخ حبيت
لو ادري ان الحب هم وهيامي ما كان لا حبيت ولا تعنيت
علقني بحبه وزاد اهتمامي ودارت بي الدنيا وقفا وقفيت
واليوم عقب الهجر عفت المنامي مغير افكر فيه لاصبحت وامسيت
وان جيت ابنسى قلت هذا حرامي لا يمكن انسى صحبته لو تناسيت
يا اهل الهوى ما في المحبة ملامي اما شقا ولا دموع وتناهيت
نعم.. هي شقاء.. ودموع.. وتناهيت..
ولا يزال الشيطان بهذا العاشق حتى يقع في الفاحشة عياذاً بالله..
وقد عظم الله هذه الفاحشة وقرنها بالشرك والقتل فقال : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } ..
ثم ذكر الله تعالى عذاب من فعل ذلك يوم القيامة فقال : { ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا } ..
ثم دعاهم الكريم الرحيم إلى رحمته فقال : { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيماً * ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متاباً }..
ونفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني فقال كما في الصحيحين : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) .
وسبيل الزنا هو شر السبل.. لذا قال عز وجل :
{ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً }..
وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه في المنام آتيان فابتعثاه معهما.. فاطلع على أنواع من عذاب العصاة..
قال صلى الله عليه وسلم : فانطلقنا فأتينا على مثل التنور ( والتنور هو نقبٌ مثلُ الحفرة يشعل فيه الخباز النار ويطرح الخبز على جدرانها حتى ينضج )
قال : فأتينا على مثل التنور.. فإذا فيه لغط وأصوات فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة.. وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم.. فإذا أتاهم ذلك اللهب.. ضوضوا ( أي صاحوا ).. فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم فزع من حالهم.. وسأل جبريل عنهم..
فقال جبريل : هؤلاء هم.. الزناة والزواني..(194/6)
وفي رواية ابن خزيمة بإسناد صحيح قال صلى الله عليه وسلم : ( ثم انطلق بي فإذا بقوم أشد شيء انتفاخاً.. وأنتنُه ريحاً.. كأن ريحهم المراحيض.. قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الزانون والزواني ) .
وذكر الههيتمي أنه مكتوب في الزبور : إن الزناة يعلقون بفروجهم في النار.. ويضربون عليها بسياط من حديد.. فإذا استغاث أحدهم من الضرب.. نادته الملائكة :
أين كان هذا الصوت وأنت تضحك.. وتفرح.. وتمرح.. ولا تراقب الله ولا تستحي منه..!!
وفي الصحيحين في خطبته صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف أنه قال : ( يا أمة محمد.. والله إنه لا أحد أغير من الله.. أن يزنى عبده.. أو تزني أمته.. يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم.. لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ) .
نعم.. كم من لذة ساعة.. أورثت حزناً عظيماً.. وعذاباً أليماً..
وليس ربهم والله بغافل عنهم.. { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون }..
فليس بعد مفسدة الشرك والقتل أعظم من مفسدة الزنا..
ولو بلغ الرجلَ أن ابنته قتلت.. كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت..
فأفٍّ للزنا.. ما أقبح أثرَه.. وأسوء خبرَه..
وكم من شهوة ذهبت لذتها.. وبقيت حسرتها..
وأول من يشهد على الزناة والزواني.. أعضاؤهم التي متعوها بهذا الزنا..
رجله التي مشى بها.. ويده التي لمس بها.. ولسانه الذي تكلم به..
بل تشهد عليه.. كل ذرة من جلده.. وكل شعرة من شعراته..
قال الله { ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون * وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون * وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون * وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين * فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين }..
نعوذ بالله من هذا الحال..
وفي الدنيا..
أمر الله بتغليظ العقوبة على الزاني والزانية..وإن كانا شابين عزبين..
ونهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة.. وأمر أن يكون الحد بمشهد من الناس..
قال عز وجل { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين }..
هذا غير عقوبات الدنيا التي تتتابع على الزاني..
كالفقر الذي ينزله الله به ولو بعد حين..
والبلاء والكرب المبين..
ضيقُ الصدر.. وتعسّرُ الأمر..
هذا غير.. دعاء الصالحين عليه..
فكم من يدٍ في ظلمة الليل بسطت.. تدعوا عليه وعليها..
وكم من جبهة بين يدي الله سجدت..تستنزل العذاب عليه وعليها..
وكم من عين دمعت.. ودعوة رفعت.. تستعدي رب العالمين.. على المفسدين..
فكيف يتلذذ عاقل بمتعة هذه عاقبتها.. وشهوة هذه نهايتها..
تلكم – أيها الشباب والفتيات - عاقبة الزنا في الدنيا..
وأول طريق الزنا خطوة.. ونظرة.. وضحكة.. وتبرج وسفور..
وبعض الفتيات.. إذا مشت في السوق أو الشارع صارت كأنها بغي تدعو الناس إلى فعل الفاحشة..
وإلا.. فبماذا تفسرون..
تبرج بعض الفتيات في عباءتها.. وإخراجها كفيها وقدميها.. بل ووجهها أحياناً.. وقد تخرِج غير ذلك..
وبماذا تفسرون وضعها للطيب.. وهي تمشي بين الرجال فيشمون ريحها..
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد والنسائي : ( أيما امرأة استعطرت ثم مرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية )..
وبماذا تفسرون تبرجها في لباسها أو عباءتها..
إضافة إلى تكسرها في مشيتها.. وجرأتها في مخاطبة الرجال.. والله يقول : { ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله }..
وإنك لتعجب.. وتعجبين.. إذا علمت أن قوله تعالى للمؤمنات : { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن }..
معناه : أن لا تضرب المرأة برجلها الأرض بقوة وهي لابسة خلاخل في قدميها.. حتى لا يسمع الرجال صوت الخلاخل فيفتنون..
عجباً..
إذا كان هذا حراماً.. فما بالكِ بمن تحادث شاباً الساعات الطوال في الهاتف.. أو ترفع صوتها بالضحكات.. والهمسات.. وتنظم القصائد الشعرية.. وتكتب الرسائل العاطفية..
ومثل ذلك بعض الشباب الذين لا همَّ لهم إلا التزين.. والتسكع في الأسواق..
وهذا كله من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.. وقد توعد الله من فعل ذلك بقوله : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون}..
وهذا الوعيد في الذين يحبون أن تشيع الفاحشة.. فقط مجرد محبة.. لهم عذاب أليم.. فكيف بمن يعمل على إشاعتها..(194/7)
بل قد تقع هذه العاشقة أو العاشق.. فيما هو أكبر من مجرد الشهوة.. إذ قد يفعلون ما يخل بالعقيدة.. من التشبه بالكفار.. والاحتفال بأعيادهم التي هي من مظاهر دينهم.. كالاحتفال بعيد الحب.. بأي صورة من الصور كإرسال الهدايا.. أو الرسائل العاطفية.. أو غير ذلك..
ولو رأينا مسلماً أو مسلمة قد علق صليباً على صدره.. أو رسم على لباسه نجمة اليهود السداسية.. لأنكرنا عليه..
وهذا لا يختلف كثيراً عمن يحتفل بعيد الحب الذي هو عيد القسيس فالن تاين.. إذ كلاهما قد أحيا مظهراً من مظاهر الكفار..
ومن ادعى أنه يكلم الفتيات.. أو ادعت أنها تكلم الشباب.. لمجرد الصداقة والتسلية.. فقد وقع في الحرام.. فقد قال تعالى في حق المؤمنات :{ محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان }.. وقال في حق الرجال : { محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان }.. والخدن هو العشيق والعشيقة..
نعم.. هذا حال الفساق..
أما أهل العفاف.. الذين غضوا أبصارهم عن الحرام.. فليبشروا..
فإن من حفظ لسانه وفرجه دخل الجنة..
وبشر النبي صلى الله عليه وسلم النساء خاصة فقال : ( أيما امرأة اتقت ربها.. وأحصنت فرجها.. وأطاعت زوجها.. قيل لها يوم القيامة : ادخلي من أي أبواب الجنة شئت ) .
وللعفيفين والعفيفات.. مع العفة أخبار وأسرار..
يصيح أحدهم بالفتنة إذا عرضت له.. ويقول :
والله لو قيل لي تأتي بفاحشة * وأن عقباك دنيانا وما فيها
لقلت لا والذي أخشى عقوبته * ولا بأضعافها ما كنت آتيها
فهم قوم عفوا عن المحرّمات.. فكشف الله عنهم الكربات.. واستجاب لهم الدعوات..
ولا يخفى عليكم.. حديث الثلاثة.. الذين قص النبي صلى الله عليه وسلم علينا خبرهم..
وأنهم..
نعم.. هنا تظهر العبودية لله.. ويبرز الخوف من الله.. فيعظم قدر المرء عند ربه..
وليبشر من عف عن المحرمات بظل عرش الرحمن يوم القيامة.. فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله..
وهذا ليس خاصاً بالرجل.. بل حتى المرأة.. التي تُزين لها الفاحشة فتتركها خوفاً من الله.. هي في ظل عرش الرحمن يوم القيامة..
تعرضت امرأة لأحد الصالحين.. فجعلت نفسه توسوس له أن يقع في الفاحشة ثم يتوب.. وكان أمامه سراج فيه فتيلة تشتعل..
فقال : يا نفس أدخل أصبعي في هذا السراج فإن صبرت على حر هذه النار..مكنتك مما تريدين.. ثم وضع أصبعه على لهيب النار.. فاضطرب من حرّ النار.. وسحب أصبعه.. فقال : يا نفس.. لم تصبري على حر هذه النار التي خففت سبعين مرة عن نار الآخرة.. فكيف تصبرين على عذاب الله..!!
نعم..
فكم ذي معاص نال منهن لذة * ومات فخلاها وذاق الدواهيا
تصرم لذات المعاصي وتنقضي * وتبقى تباعات المعاصي كما هيا
فيا سوأتا والله راء وسامع * لعبد بعين الله يغشى المعاصيا
ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه..
ذكر الدمشقي في كتابه \" مطالع البدور \"..
عن أمير القاهرة في وقته شجاع الدين الشِّرَزي.. قال :
بينما أنا عند رجل بالصعيد.. وهو شيخ كبير شديد السمرة.. إذ حضر أولاد له بيض حسان.. فسألناه عنهم.. فقال : هؤلاء أمهم إفرنجية.. ولي معها قصة.. فسألناه عنها.. فقال :
ذهبت إلى الشام وأنا شاب.. أثناء احتلال الصليبيين له.. واستأجرت دكاناً أبيع فيه الكتان.. فبينما أنا في دكاني إذ أتتني امرأة إفرنجية زوجة أحد قادة الصليبيين.. فرأيت من جمالها ما سحرني.. فبعتها وسامحتها في السعر..
ثم انصرفت.. وعادت بعد أيام فبعتها وسامحتها.. فأخذت تتردد عليَّ.. وأنا أتبسط معها فعلمت أني أعشقها..
فلما بلغ الأمر مني مبلغه.. قلت للعجوز التي معها :
قد تعلقت نفسي بهذه المرأة فكيف السبيل إليها ؟
فقالت : هذه زوجة فلان القائد.. ولو علم بنا.. قتلنا نحن الثلاثة..
فما زلت بها.. حتى طلبت مني خمسين ديناراً.. وتجيء بها إليَّ في بيتي..
فاجتهدت حتى جمعت خمسين ديناراً.. وأعطيتها إياها..
وانتظرتها تلك الليلة في الدار.. فلما جاءت إليَّ أكلنا وشربنا..
فلما مضى بعض الليل.. قلت في نفسي : أما تستحي من الله !! وأنت غريب.. وبين يدي الله.. وتعصي الله مع نصرانية !!
فرفعت بصري إلى السماء وقلت : اللهم إني أشهدك أني عففت عن هذه النصرانية.. حياءً منك وخوفاً من عقابك..
ثم تنحيت عن موضعها إلى فراش آخر.. فلما رأت ذلك قامت وهي غضبى ومضت..
وفي الصباح.. مضيت إلى دكاني..
فلما كان الضحى.. مرت عليَّ المرأة وهي غضبى.. ووالله لكأن وجهها القمر..
فلما رأيتها.. قلت في نفسي : ومن أنت حتى تعفَّ عن هذا الجمال..؟ أنت أبو بكر.. أو عمر.. أم أنت الجنيد العابد.. أو الحسن الزاهد..
وبقيت تحسّر عليها.. فلما جاوزتني.. لحقت بالعجوز.. وقلت لها : ارجعي بها.. الليلة..
فقالت : وحق المسيح.. ما تأتيك إلا بمائة دينار..
قلت : نعم..
فاجتهدت حتى جمعتها.. وأعطيتها إياها..(194/8)
فلما كان الليل.. وانتظرتها في الدار . جاءت.. فكأنها القمر أقبل عليَّ.. فلما جلست.. حضرني الخوف من الله.. وكيف أعصيه مع نصرانية كافرة.. فتركتها خوفاً من الله..
وفي الصباح.. مضيت إلى دكاني.. وقلبي مشغول بها..
فلما كان الضحى.. مرت عليَّ المرأة وهي غضبى..
فلما رأيتها.. لُمْتُ نفسي على تركها..
وبقيت أتحسّر عليها.. فسألت العجوز..
فقالت : ما تفرح بها.. إلا بخمسمائة دينار.. أو تموت كمداً..
قلت : نعم.. وعزمت على بيع دكاني.. وبضاعتي.. وأعطيها الخمسمائة دينار..
فبينما أنا كذلك.. إذ منادي النصارى ينادي في السوق.. يقول :
يا معاشر المسلمين إن الهدنة التي بيننا وبينكم.. قد انقضت.. وقد أمهلنا من هنا من التجار المسلمين أسبوعاً..
فجمعت ما بقي من متاعي وخرجت من الشام وفي قلبي الحسرة ما فيه..
ثم أخذت أتاجر ببيع الجواري.. عسى أن يذهب ما بقلبي من حب تلك ما فيه..
فمضى لي على ذلك ثلاثُ سنين..
ثم جرت وقعة حطين.. واستعاد المسلمون بلاد الساحل..
وطُلب مني جارية للملك الناصر.. وكان عندي جارية حسناء.. فاشتروها مني بمائة دينار..
فسلموني تسعين ديناراً.. وبقيت لي عشرة دنانير.. فقال الملك :
امضوا به إلى البيت الذي فيه المسبيات من نساء الإفرنج.. فليختر منهن واحدة بالعشرة دنانير التي بقيت له..
فلما فتحوا لي الدار.. رأيت صاحبتي الافرنجية.. فأخذتها..
فلما مضيت إلى بيتي.. قلت لها : تعرفيني ؟! قالت : لا..
قلت : أنا صاحبك التاجر.. الذي أخذت مني مائة وخمسين ديناراً.. وقلت لي : لا تفرح بي إلا بخمسمائة دينار.. هاأنا أخذتك مِلكاً بعشرة دنانير..
فقالت : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله..
فأسلمت وحسن إسلامها.. فتزوجتها..
فلم تلبث أن أرسلت أمها إليها بصندوق.. فلما فتحناه.. فإذا فيه الصرتان التي أعطيتها.. في الأولى الخمسون ديناراً.. وفي الأخرى المائة.. وفيه لباسها الذي كنت أراها فيه.. وهي أم هؤلاء الأولاد.. وهي التي طبخت لكم العشاء..
نعم.. ومن ترك شيئاً لله.. عوّضه الله خيراً منه..
فهذا طرف من أخبار أهل العفة..
وهذه الطائفة لعفتهم أسباب :
أقواها إجلال الجبار.. ومراقبته في السر والعلن.. والخوف من الله تعالى.. فهو الذي وهبهم القوى والأسماع والأبصار..
والعبد قد يختفي من الناس.. ولكن أنى له أن يختفي من الله.. وهو معه..
والمرأة العفيفة.. لا تهتك سترها.. ولا تدنس عرضها.. وإن كان في ذلك فقدان حياتها..
ذكر الخطاب في كتابه \" عدالة السماء \" :
أنه كان ببغداد قبل قرابة الأربعين سنة.. رجل يعمل جزاراً يبيع اللحم.. وكان يذهب قبل الفجر إلى دكانه.. فيذبح الغنم.. ثم يرجع إلى بيته.. وبعد طلوع الشمس يفتح المحل ليبيع اللحم..
وفي أحد الليالي بعدما ذبح الغنم.. رجع في ظلمة الليل إلى بيته.. وثيابه ملطخة بالدم.. وفي أثناء الطريق سمع صيحة في أحد الأزقة المظلمة.. فتوجه إليها بسرعة.. وفجأة سقط على جثة رجل قد طعن عدة طعنات.. ودماؤه تسيل.. والسكين مغروسة في جسده..
فانتزع السكين.. وأخذ يحاول حمل الرجل ومساعدته.. والدماء تنزف على ثيابه..
لكن الرجل مات بين يديه..
فاجتمع الناس.. فلما رأوا السكين في يده.. والدماء على ثيابه.. والرجل فزع خائف..
اتهموه بقتل الرجل.. ثم حكم عليه بالقتل..
فلما أحضِر إلى ساحة القصاص.. وأيقن بالموت..
صاح بالناس.. وقال :
أيها الناس أنا والله ما قتلت هذا الرجل.. لكني قتلت نفساً أخرى.. منذ عشرين سنة.. والآن يقام عليَّ القصاص..
ثم قال :
قبل عشرين سنة كنت شاباً فتياً.. أعمل على قارب أنقل الناس بين ضفتي النهر..
وفي أحد الأيام جاءتني فتاة غنية مع أمها.. ونقلتهما..
ثم جاءتا في اليوم التالي.. وركبتا في قاربي..
ومع الأيام.. بدأ قلبي يتعلق بتلك الفتاة.. وهي كذلك تعلقت بي..
خطبتها من أبيها لكنه أبى أن يزوجني لفقري..
ثم انقطعت عني بعدها.. فلم أعد أراها ولا أمها..
وبقي قلبي معلقاً بتلك الفتاة.. وبعد سنتين أو ثلاث..
كنت في قاربي.. أنتظر الركاب.. فجاءتني امرأة مع طفلها..
وطلبت نقلها إلى الضفة الأخرى.. فلما ركبت.. وتوسطنا النهر..
نظرت إليها.. فإذا هي صاحبتي الأولى.. التي فرق أبوها بيننا..
ففرحت بلقياها.. وبدأت أذكرها بسابق عهدنا.. والحب والغرام..
لكنها تكلمت بأدب.. وأخبرتني أنها قد تزوجت وهذا ولدها..
فزين لي الشيطان الوقوع بها.. فاقتربت منها.. فصاحت بي.. وذكرتني بالله..
لكني لم ألتفت إليها.. فبدأت المسكينة تدافعني بما تستطيع.. وطفلها يصرخ بين يديها..
فلما رأيت ذلك أخذت الطفل.. وقربته من الماء وقلت إن لم تمكنيني من نفسك.. غرقته.. فبكت وتوسلت.. لكني لم التفت إليها..(194/9)
وأخذت أغمس رأس الطفل فإذا أشفى على الهلاك أخرجته.. وهي تنظر إليّ وتبكي.. وتتوسل.. لكنها لا تستجيب لي.. فغمست رأس الطفل في الماء.. وشددت عليه الخناق.. وهي تنظر.. وتغطي عينيها.. والطفل تضطرب يداه ورجلاه.. حتى خارت قواه.. وسكنت حركته.. فأخرجته فإذا هو ميت.. فألقيت جثته في الماء..
ثم أقبلت عليها.. فدفعتني بكل قوتها.. وتقطعت من شدة البكاء..
فسحبتها بشعرها.. وقربتها من الماء.. وجعلت أغمس رأسها في الماء.. وأخرجه.. وهي تأبى عليَّ الفاحشة..
فلما تعبت يداي.. غمست رأسها في الماء.. فأخذت تنتفض حتى سكنت حركتها..
وماتت.. فألقيتها في الماء.. ثم رجعت..
ولم يكتشف أحد جريمتي.. وسبحان من يمهل ولا يهمل..
فبكى الناس لما سمعوا قصته.. ثم قطع رأسه.. { ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون }..
فتأملوا في حال هذه الفتاة العفيفة.. التي يقتل ولدها بين يديها.. وتموت هي.. ولا ترضى بهتك عرضها..
فأين هذه العفة.. من فتيات اليوم.. تبيع إحداهن عرضها بمكالمة هاتفية.. أو هدية شيطانية.. وتنساق وراء كلام معسول من فاسق.. أو تنجرّ وراء شبهة من منافق..
ثم الرغبة في دار الأخرى.. فيها متع عظيمة..
التفكر في الحور الحسان في دار القرار.. فإن من صرف استمتاعه في هذه الدار إلى ما حرم الله عليه منعه من الاستمتاع هناك.. قال صلى الله عليه وسلم : ( من يلبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة.. ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة )..
فلا يكاد يُجمع للعبد بين لذائذ الدنيا المحرمة.. ولذائذ الآخرة الدائمة..
لذة شرب الخمر ولبس الحرير والتمتع بما حرم الله عليه من النساء والصبيان في الدنيا.. خُشي أن يحرم من مُتع الآخرة..
ومن تعلقت نفسه بالجنة وما أعدَّ الله فيها من المتع هانت عليه متع الدنيا..
وكذلك من اشتاقت نفسها إلى الجنة وما فيها من زيادة حسن وجمال لها.. لم تدنس عرضها في الدنيا..
ويكمل الجمال ويزين.. للمؤمنات في الجنة..
تكون المؤمنة في الجنة أكمل وأجمل..
نعم.. إذا كان الله تعالى قد وصف الحور العين بما وصف..
وهن لم يقمن الليل.. ولم يصمن النهار..
فما بالك بجمالك أنت.. وحسنك.. وبهائك..
وأنت التي طالما خلوت بربك في ظلمة الليل.. يسمع نجواك.. ويجيب دعاك..
طالما تركت لأجله اللذات.. وفارقت الشهوات..
{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم }..
فعلق نفسك بجمال آخر في الجنة.. وعلقي نفسك به..
واسمع.. واسمعي..
صفات عرائس الجنات ثم اختر لنفسك يا أخا العرفان
حور حسان قد كملن خلائقا * ومحاسنا من أجمل النسوان
كملت خلائقها وأكمل حسنها * كالبدر ليل الست بعد ثمان
والشمس تجري في محاسن وجهها * والليل تحت ذوائب الأغصان
حمر الخدود ثغورهن لآلأ * سود العيون فواتر الأجفان
والبرق يبدو حين يبسم ثغرها * فيضيء سقف القصر بالجدران
ولقد روينا أن برقا ساطعا * يبدو فيسأل عنه من بجنان
فيقال هذا ضوء ثغر ضاحك * في الجنة العليا كما تريان
لله لاثم ذلك الثغر الذي * في لثمه إدراك كل أمان
وروى ابن أبي الدنيا والخطيب في تاريخه : عن يزيد الرقاشي قال بلغني أن نورا سطع في الجنة لم يبق موضع في الجنة إلا دخل من ذلك النور فيه فقيل ما هذا قيل حوراء ضحكت في وجه زوجها..
هذا جمال ثغرها.. وتلك حلاوة بسمتها..
والمعصمان..
فإن تشأ شبههما * بسبيكتين عليهما كفان
كالزبد لينا في نعومة ملمس أصداف در دورت بوزان
لا الحيض يغشاه ولا بول ولا * شيء من الآفات في النسوان
وإذا يجامعها تعود كما أتت * بكرا بغير دم ولا نقصان
أقدامها من فضة قد ركبت * من فوقها ساقان ملتفان
والريح مسك والجسوم نواعم * واللون كالياقوت والمرجان
وكلامها يسبي العقول بنغمة * زادت على الأوتار والعيدان
بكر فلم يأخذ بكارتها سوى المحبوب من انس ولا من جان
يعطى المجامع قوة المائة التي اجتمعت لأقوى واحد الانسان
وأعفهم في هذه الدنيا هو الأقوى هناك لزهده في الفاني
فاجمع قواك لما هناك وغمض العينين واصبر ساعة لزمان
ما هاهنا والله ما يسوى قلا مة ظفر واحدة ترى بجنان
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فان * تفعل رجعت بذلة وهوان
.... .
وإذا بدت في حلة من لبسها * وتمايلت كتمايل النشوان
تهتز كالغصن الرطيب وحمله * ورد وتفاح على رمان
وتبخترت في مشيها ويحق ذا * ك لمثلها في جنة الحيوان
ووصائف من خلفها وأمامها * وعلى شمائلها وعن أيمان
كالبدر ليلة تمه قد حف في * غسق الدجى بكواكب الميزان
فلسانه وفؤاده والطرف في * دهش وإعجاب وفي سبحان
فالقلب قبل زفافها في عرسه * والعرس إثر العرس متصلان
حتى إذا ما واجهته تقابلا * أرأيت إذ يتقابل القمران
فسل المتيم هل يحل الصبر عن * ضم وتقبيل وعن فلتان
وسل المتيم أين خلف صبره * في أي واد أم بأي مكان
وسل المتيم كيف عيشته إذا * وهما على فرشيهما خلوان(194/10)
وسل المتيم كيف مجلسه مع المحبوب في روح وفي ريحان
وتدور كاسات الرحيق عليهما * بأكف أقمار من الولدان
يتنازعان الكأس هذا مرة * والخود اخرى ثم يتكئان
فيضمها وتضمه أرأيت معشوقين بعد البعد يلتقيان *
غاب الرقيب وغاب كل منكد * وهما بثوب الوصل مشتملان
أتراهما ضجرين من ذا العيش لا * وحياة ربك ما هما ضجران
ولا يمل أحدهما من الآخر :
ويزيد كل منهما حبا لصا * حبه جديدا سائر الأزمان
ووصاله يكسوه حبا بعده * متسلسلا لا ينتهي بزمان
فالوصل محفوف بحب سابق * وبلاحق وكلاهما صنوان
هذا هو والله النعيم الحقيقي..
أما نعيم الدنيا ومتعتها.. فمهما طالت فهي منقطعة..
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الذل والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
قال الله : { أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون * وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون * ذكرى وما كنا ظالمين }..
هذا هو النوع الأول من العاشقين والعاشقات..
الذين تعلق كل جنس منهم بالجنس الآخر..
أما النوع الثاني من العشاق..
فهم من شذوا عن الفطرة.. فعشق الشاب شاباً مثله..
والفتاةُ فتاةً مثلها..
وهؤلاء.. أعظم شذوذاً.. وأكثر ضلالاً..
وقد ذكر الله خبرهم في القرآن.. وأن لوطاً صاح بهم وقال { أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين } ..
وإذا وقعت هذه الفاحشة.. كادت الأرض تميد من جوانبها.. والجبال تزول عن أماكنها..
ولم يجمع الله على أمة من العذاب ما جمع على قوم لوط.. فإنه طمس أبصارهم.. وسوّد وجوههم.. وأمر جبريل بقلع قراهم من أصلها ثم قلبها عليهم.. ثم خسف بهم.. ثم أمطر عليهم حجارة من سجيل..
قال عز من قائل : { فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل }..
فجعلهم آية للعالمين.. وموعظة للمتقين.. ونكالا للمجرمين..
إن في ذلك لآيات للمتوسمين..
أخذهم على غرة وهم نائمون.. فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون..
نعم..
ذهبت اللذات.. وأعقبت الحسرات.. وانقضت الشهوات..
تمتعوا قليلاً.. وعذبوا طويلاً.. وأعقبهم عذابا أليماً..
ندموا والله ولا ينفع الندم.. وبكوا بدل الدموع الدم..
فلو رأيتهم والنار تشوي وجوههم..
وتخرج من أفواههم وأنوفهم..
وهم بين أطباق الجحيم.. يشربون كؤوس الحميم..
ويقال لهم وهم على وجوههم يسحبون.. ذوقوا ما كنتم تكسبون..
{ إصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون }
وما هي من الظالمين ببعيد..
نعم.. هذا حال هؤلاء الفساق..
وبعض الشباب قد يتساهل بمثل ذلك.. بل قد يظهر منه ما يدلّ على استدعائه لذلك..
فكم نرى من الشباب المائعين في حركاتهم.. وضحكاتهم.. بل وأسلوب الكلام.. وطريقة المشي..
إضافة إلى لبس الثوب الضيق المخصّر.. واستعمال العطورات المنوّعة.. والاعتناء الزائد بالمظهر.. وقصة الشعر..
نرى أحياناً هذه المظاهر في بعض المدارس.. وفي الشوارع..
فلماذا يفعل هذا الشاب ذلك..
أيا ناكح الذكران تهنيكم البشرى * فيوم معاد الناس إن لكم أجرا
كلوا واشربوا وازنو ولوطوا واكثروا * فان لكم زفا الى ناره الكبرى
فاخوانكم قد مهدوا الدار قبلكم * وقالوا الينا عجلوا لكم البشرى
وها نحن أسلاف لكم فى انتظاركم * سيجمعنا الجبار في ناره الكبرى
ولا تحسبوا أن الذين نكحتموا * يغيبون عنكم بل ترونهم جمرى
ويلعن كلٌ منهم لخليله * ويشقى به المحزون في الكرة الاخرى
يعذب كل منهم بشريكه * كما اشتركا في لذة توجب الوزرى
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صح عنه فيما رواه الترمذي : ( إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط )..
وصح فيما رواه ابن حبان : ( لعن الله من عمل عمل قوم لوط.. لعن الله من عمل عمل قوم لوط.. لعن الله من عمل عمل قوم لوط )..
وصحّ في مسند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به )..
أما الصحابة فكانوا يحرقون اللوطية بالنار..
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : اللوطي إذا مات من غير توبة مسخ في قبره خنزيراً..
ومن كان قد أسرف على نفسه.. ووقع في شيء من ذلك.. فليسارع إلى التوبة والاستغفار.. والإنابة إلى العزيز الغفار..
{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله.. }..
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لله عز وجل أفرح بتوبة أحدكم من رجل خرج بأرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه وزاده وما يصلحه فأضلها فخرج في طلبها حتى إذا أدركه الموت ولم يجدها قال أرجع إلى مكاني الذي أضللتها فيه فأموت فيه فأتى مكانه فغلبته عينه فاستيقظ فإذا راحلته عند رأسه عليها طعامه وشرابه وزاده.. فأخذها ثم قال : اللهم أنت عبدي وأنا ربك.. أخطأ من شدة الفرح )..
والتوبة أمرها يسير.. ولا يلزم من وقع في الفاحشة أن يسلم نفسه.. ليقام عليه الحد.. بل يتوب بينه وبين ربه.. ويستتر بستر ربه..(194/11)
وإن كانت الفتاة.. قد وقع لها صور أو تسجيل.. تهدد بها.. فلا يمنعها ذلك من التوبة.. بل تستعين بثقة من أهل العلم والدين.. ولا تستجيب للتهديد والوعيد.. وحتى لو وقعت الفضيحة.. فإن خزي الدنيا أهون من خزي الآخرة..
هذه أنواع المحبة..
ولا ننسى..
أقواماً من المحبين.. سمت نفوسهم عن التعلق بمحبة الخلق.. إلى التعلق بمحبة الخالق جل جلاله.. يحبهم ربهم ويحبونه..
ربهم أحبّ إليهم من أهلهم وأموالهم وأنفسهم.. طالما تملقوا إليه في الأسحار.. وبكوا من خشيته في النهار.. اشتاقوا إلى رؤيته.. وتقطعت قلوبهم من عظم محبته..
فليتك تحلو والحياة مريرة * وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر * وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الودّ فالكل هين * وكل الذي فوق التراب تراب
وكيف لا تتعلق القلوب بمن حياتها بنعمه.. وطعامها وشرابها بكرمه.. ومرضها وشفاؤها بأمره.. وموتها بقضائه وقدره..
هؤلاء الصالحون لهم شهوات.. نعم.. لهم شهوات.. وفيهم غرائز.. لكنها سمت وارتفعت عن المعاصي.. قال محمد بن سيرين : ما غشيت امرأة في يقظة ولا منام غير أم عبد الله.. وإني أرى المرأة في المنام فتعجبني فأذكر أنها لا تحلّ لي فأصرف بصري عنها..
فكن من هؤلاء القوم تفلح.. وإنما الدنيا ساعة فاجعلها طاعة..
وختاماً.. أيها العاشقون والعاشقات..
ما هو العلاج من هذا الداء ؟
العلاج سهل ميسور.. لكنه يحتاج إلى جزم وإصرار..
أول العلاج : أن تعلم أنه لا اختيار لك في إطلاق بصرك.. نعم لا اختيار لك.. هل تنظر أم لا تنظر.. بل يجب عليك أن تصرف بصرك فوراً.. فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.. وإطلاق البصر باب من أبواب النار..
ثانياً : مجاهدة النفس لترك هذا الفعل المحرم.. وصرف النفس عن التفكير فيه.. وتذكر ما يبغضك في هذا المعشوق..
قال عبد الله بن مسعود : إذا أعجبت أحدكم امرأة فليتذكر مناتنها..
يعني : يتذكر رائحة فمها الكريهة.. وغائطها.. وبولها.. وقيئها الذي يملأ فمها.. ومخاطها الذي يقذر أنفها.. ويتخيل حالها لو أصابها جدري أو جذام..
واعلم أن الشيطان يزين لك المعشوق.. وإن كان قبيحاً..
ذُكر أن أحد الشعراء كان فاسقاً ماجناً....
ما أبغضك في الحلال.. وألذك في الحرام !!
وذكر ابن الجوزي في المواعظ :
أن شاباً فقيراً كان بائعاً يتجول في الطرقات.. فمرّ ذات يوم ببيت..فأطلت امرأة وسألته عن بضاعته فأخبرها.. فطلبت منه أن يدخل لترى البضاعة.. فلما دخل أغلقت الباب..
ثم دعته إلى الفاحشة.. فصاح بها.. فقالت : والله إن لم تفعل ما أريده منك صرخت.. فيحضر الناس فأقول هذا الشاب.. اقتحم عليَّ داري.. فما ينتظرك بعدها إلا القتل أو السجن..
فخوّفها بالله فلم تنزجر.. فلما رأى ذلك..
قال لها : أريد الخلاء..
فلما دخل الخلاء : أقبل على الصندوق الذي يُجمع فيه الغائط.. وجعل يأخذ منه ويلقي على ثيابه.. ويديه.. وجسده..
ثم خرج إليها.. فلما رأته صاحت.. وألقت عليه بضاعته.. وطردته من البيت..
فمضى.. يمشي في الطريق والصبيان.. يصيحون وراءه : مجنون.. مجنون..
حتى وصل بيته.. فأزال عنه النجاسة.. واغتسل..
فلم يزل يُشمُّ منه رائحة المسك.. حتى مات..
وكذلك من العلاج الإقبال على الله تعالى ومصاحبة الصالحين.. وتقوية العلاقة بالله.. بالإكثار من قراءة القرآن.. والمحافظة على صلاة الوتر.. وحضور مجالس الذكر.. وقد قال تعالى في الحديث القدسي : ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل.. )..
ومن أهم العلاج :
الابتعاد عما يذكرك بهذه المعاصي.. فلا تجالس أهلها.. وإن كان عندك صور تذكرك بها فأتلفها.. وأحرق كل ما لديك من رسائل وأشرطة..
ومن العلاج.. الابتعاد عن الأماكن التي يختلط فيها الرجال بالنساء.. سواء في الأسواق أو الجامعات أو غير ذلك.. ولا تكن ممن يبيع دينه بعرض من الدنيا..
ومن العلاج :
الابتعاد عن المثيرات.. من الأفلام.. والصور الفاتنة.. والقصص والروايات التي تذكر العشق والغرام..
ومن العلاج : إدامة ذكر الله على جميع الأحوال.. في الصباح والمساء.. وعند النوم..
ومن العلاج : مفارقة بلاد المحبوب.. والسفر إلى بلد آخر.. فإن البعيد عن العين بعيد عن القلب.. وإن كان المحبوب زميلاً في مدرسة أو كلية أو وظيفة.. فابحث عن مكان آخر.. ومن يتق الله يجعل له مخرجاً..
ومن العلاج.. ملء وقت الفراغ.. بالنافع المفيد..
ومن العلاج : الزواج.. فإنه الطريق الشرعي لحماية الفطرة.. ونشر لفضيلة.. ولا تقل لا أريد إلا فلانة.. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أعجبت أحدكم امرأة فليأت أهله.. فإن معها مثل الذي معها )..
وأنبه هنا إلى أمر مهم.. وهو أن تقصير أحد الزوجين في حق الآخر.. وعدم مشاركته في عواطفه.. يجعله يبحث عن بديل.. فيبدأ الرجل يتطلع إلى من يفرغ فيه عواطفه.. وتبدأ المرأة تميل مع كل من يتلطف معها.. أو يلين لها الكلام..
ولا بأس من استعمال الطب في العلاج.. من الزنا.. ومن اللواط خاصة..(194/12)
فابدأ حياة جديدة من هذه الساعة..
قبل أن تقوم قيامتك.. وجهنم قد سعرت.. والأغلال قد نصبت.. والزبانية قد أعدت ؟!
وأنت تبكي وتقول :
كيف كنت أتتبّع الشهوات.. وأواقع اللذات..
قد غرّني فيما مضى شبابي.. وجمال سيارتي وثيابي..
وقد عظمت كربتك.. وذهبت قوتك..
آهٍ.. إذا زلت يوم القيامة القدم.. وارتفع البكاء وطال الندم..
والله لو علمت ما وراءك لما ضحكت ولأكثرت البكا
قد حفت الجنة بالمكاره والنار بالذي النفوس تشتهي
وإن عملت سيئاً فاستغفر وتب إلى الله بداراً يغفر
وبادراً بالتوبة النصوح قبل احتضار وانتزاع الروح
أسأل الله تعالى أن يخلص محبتنا له وفيه عز وجل.. وأن يعيذنا جميعاً من الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.. وأن يجعل حبنا له سبحانه فوق كل حب.. وطاعتنا له فوق كل طاعة.. وأن يجعلنا ممن يتبعون الحق إذا تبين لهم.. آمين..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتبه :
د. محمد بن عبد الرحمن العريفي(194/13)
اعتقاد أهل السنة في الصحابة
الحمد لله الكريم الرحمن، جزيل العطايا والإحسان، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير الأنام، وعلى آله وصحبه الغر الكرام، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم بإحسان.
أما بعد:
إن اعتقاد أهل السنة في الصحابة يمثل الركيزة الرئيسية لدراسة تاريخهم-رضي الله عنهم-، ولا بد أن يحصل الانحراف والتشويه لتاريخهم إذا درس بمعزل عن العقيدة، وذلك لأن بعض الطوائف قد ضلت ضلالاً مبيناً من هذا الجانب، لهذا نجد عامة كتب الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة تبين هذا الموضوع بشكل جلي، ولا يمكن أن نجد كتاباً من كتب أهل السنة التي تبحث جوانب العقيدة المختلفة إلا ونجده يبحثه.
ونحن هنا – إن شاء الله - سنذكر في هذا المبحث عدة نقاط وهي كالتالي:
1- أدلة عدالة الصحابة من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة.
2- منزلة الصحابة لا يعدلها شيء.
3- أنواع سبهم، وحكم كل نوع. والفرق بين السب الذي يطعن في عدالتهم وما دون ذلك، وكذلك من سب من تواترت النصوص بفضله، وما دون ذلك، ومن سبهم جملة أو سب بعضهم، وحكم من سب أم المؤمنين عائشة بما برأها الله منه، ومن ثم أحكام بقية أمهات المؤمنين 1.
1- من أدلة عدالتهم في الكتاب والسنة:
إن عدالتهم عند أهل السنة من مسائل العقيدة القطعية أو مما هو معلوم من الدين بالضرورة ويستدلون لذلك بأدلة لا تحصى من الكتاب والسنة.
عدالتهم في القرآن: قال تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ لسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}الفتح: 18. قال جابر بن عبد الله- رضي الله عنه-: (كنا ألفاً وأربعمائة)2هذه الآية ظاهرة الدلالة على تزكية الله لهم تزكية لا يخبر ولا يقدر عليها إلا الله، وهي تزكية بواطنهم وما في قلوبهم ومن هنا رضي عنهم (ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر، لأن العبرة بالوفاء على الإسلام، فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام، وأما من علم موته على الكفر فلا يمكن أن يخبر الله تعالى بأنه رضي عنه)3.ومما يؤكد هذا ما ثبت في صحيح مسلم من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:(لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها) الحديث 4. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً.. فكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له، فلو علم أنه يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك)5.
وقال ابن حزم: (فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم، ورضي الله عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، أو الشك فيهم البتة)6 .
ومن الأحاديث الواردة في عدالتهم ما يلي:
1- عن أبى سعيد قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:(لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)7رواه مسلم.
قال ابن تيمية في الصارم المسلول: (...وكذلك قال الإمام أحمد وغيره: كل من صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة أو شهراً أو يوماً أو رآه مؤمناً به فهو من أصحابه، له من الصحبة بقدر ذلك) 8.
2- وروى أبو موسى الأشعري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:(النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يوعدون)9.
2- منزلة الصحابة لا يعدلها شيء:(195/1)
لا بد من تعظيم الصحابة ومعرفة أقدارهم ولو كان اجتماعهم به -صلى الله عليه وسلم- قليلاً. قال الحافظ ابن حجر ذاكراً ما يدل على ذلك: (فمن ذلك ما قرأت في كتاب أخبار الخوارج تأليف محمد بن قدامة المروزي، قال: كنا عنده (أي أبى سعيد) وهو متكئ فذكرنا علياً ومعاوية فتناول رجل معاوية، فاستوى أبو سعيد الخدري جالساً-فذكر قصته حينما كان في رفقة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها أبو بكر ورجل من الأعراب - إلى أن قال (أبو سعيد): ثم رأيت ذلك البدوي أتى به عمر بن الخطاب وقد هجا الأنصار فقال لهم عمر: لولا أن له صحبة من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أدري ما نال فيها لكفيتكموه)10 قال الحافظ: ورجال هذا الحديث ثقات. فقد توقف عمر رضي الله عنه عن معاتبته فضلاً عن معاقبته لكونه علم أنه لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي ذلك أبين شاهد على أنهم كانوا يعتقدون أن شأن الصحبة لا يعدله شيء. روى البزار في مسنده بسند رجاله موثوقون من حديث سعيد بن المسيب عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(إن الله اختار أصحابي على الثقلين سوى النبيين والمرسلين)،حدثنا وكيع قال: سمعت سفيان يقول: في قوله تعالى:{قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَذِينَ اصْطَفَى}11 قال: هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم12. فهذا الاصطفاء والاختيار. أمر لا يتصور ولا يدرك ولا يقاس بعقل ومن ثم لا مجال لمفاضلتهم مع غيرهم مهما بلغت أعمالهم. قال ابن عمر: (لا تسبوا أصحاب محمد، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره)، وفى رواية وكيع: (خير من عبادة أحدكم أربعين سنة)، رواه أحمد في فضائل الصحابة وابن ماجة وابن أبى عاصم بسند صحيح قاله الألباني13.
ومن كل ما سبق ذهب جمهور العلماء إلى أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أما من اتفق له الذب عنه والسبق إليه بالهجرة أو النصرة أو ضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده، لأنه ما من خصلة (إلا للذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده، فظهر فضلهم)14
قال الإمام أحمد رحمه الله في عقيدته: (فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن الذين لم يروه ولو لقوا الله بجميع الأعمال)15. وقال النووي: (وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل ولا تنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)16. أيضاً التزكية الداخلية لهم من الله عز وجل العليم بذات الصدور مثل قوله تعالى:{فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}وقبول توبتهم:{لَقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ والْمُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ}الآية، ورضاه عنهم:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}..الآية، كل ذلك اختصوا به، فأنَّى لمن بعدهم مثل هذه التزكيات؟ لكن يقول قائل17: لقد وردت بعض الروايات الدالة على خلاف ما ذكرت مثل قوله-صلى الله عليه وسلم- في حديث أبى ثعلبة:(تأتى أيام للعامل فيهن أجر خمسين، قيل: منهم أو منا يا رسول الله ؟ قال: بل منكم)18 . وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أحد خير منا ؟ أسلمنا معك،وجاهدنا معك، قال:(قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني)19. فكيف الجمع بين هذه الروايات وما ذكر سابقاً ؟.
أجاب العلماء عن ذلك بعدة أجوبة أهمها:
1-حديث (للعامل فيهن أجر خمسين) لا يدل على الأفضلية لأن مجرد زيادة الأجر على بعض الأعمال لا يستلزم ثبوت الأفضلية مطلقاً.
2- أن المفضول قد توجد فيه مزايا وفضائل ليست عند الفاضل ولكن من حيث مجموع الخصال لا يساوي الفاضل.
3- وكذلك يقال الأفضلية بينهما(إنما هي باعتبار ما يمكن أن يجتمعا فيه وهو عموم الطاعات المشتركة بين سائر المؤمنين، فلا يبعد حينئذ تفضيل بعض من يأتي على بعض الصحابة في ذلك، أما ما اختص به الصحابة رضوان الله عليهم وفازوا به من مشاهدة طلعته -صلى الله عليه وسلم- ورؤية ذاته المشرفة المكرمة، فأمر من وراء العقل إذ لا يسع أحد أن يأتي من الأعمال وان جلت بما يقارب ذلك فضلاً عن أن يماثله) 20.
4-أما حديث أبى جمعة فلم يتفق الرواة على لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية كما تقدم، ورواه بعضهم بلفظ قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً؟ أخرجه الطبراني. قال الحافظ في الفتح: (وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة، وهي توافق حديث أبي ثعلبة وقد تقدم الجواب عنه، والله أعلم).
وأخيراً ينبغي التنبيه في آخر هذه الفقرة إلى أن الخلاف بين الجمهور وغيرهم في ذلك لا يشمل كبار الصحابة من الخلفاء وبقية العشرة ومن ورد فيهم فضل مخصوص كأهل العقبة وبدر وتبوك.. إلخ. وإنما يحصل النزاع فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة ولذلك استثنى الإمام ابن عبد البر أهل بدر والحديبية 21.
3- أنواع سب الصحابة -رضي الله عنهم- وحكم كل نوع:(195/2)
السب: هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف، وهو ما يفهم من السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن والتقبيح و نحو هم22. وسب الصحابة رضوان الله عليهم دركات بعضها شر من بعض، فمن سب بالكفر أو الفسق، ومن سب بأمور دنيوية كالبخل وضعف الرأي، وهذا السب إما أن يكون لجميعهم أو أكثرهم، أو يكون لبعضهم أو لفرد منهم، وهذا الفرد إما أن يكون مما تواترت النصوص بفضله أو دون ذلك. وإليك تفصيل وبيان أحكام كل قسم:
1-من سب الصحابة بالكفر والردة أو الفسق جميعهم أو معظمهم فلا نشك في كفر من قال بذلك لأمور من منها:
أ- أن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وبذلك يقع الشك في القرآن والأحاديث لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول.
ب- لأن في ذلك إيذاءً له -صلى الله عليه وسلم- لأنهم أصحابه وخاصته فسب أصحاب المرء وخاصته والطعن فيهم يؤذيه ولا شك، وأذى الرسول -صلى الله عليه وسلم- كفر كما هو مقرر.
ج- أن في هذا تكذيباً لما نص عليه القرآن من الرضى عنهم والثناء عليهم (فالعلم الحاصل من نصوص القرآن والأحاديث الدالة على فضلهم قطعي)23، ومن أنكر ما هو قطعي فقد كفر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً حكم هذا القسم: (.. وأما من جاوز ذلك إلى
أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضاً في كفره لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين.. إلى أن قال:... وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام) 24.
وقال الهيثمي رحمه الله: (... ثم الكلام (أي الخلاف)إنما هو في سب بعضهم أما سب جميعهم، فلا شك في أنه كفر)25. ومع وضوح الأدلة الكلية السابقة ذكر بعض العلماء بعض الأدلة التفصيلية ومنها:
1- استنبط الإمام مالك رحمه الله من الآية الأخيرة من سورة الفتح{مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ}.. إلى قوله:{لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ}الآية؛ كفر من يبغضون الصحابة لأن الصحابة يغيظونهم ومن غاظه الصحابة فهو كافر، ووافقه الشافعي وغيره26.
2- وفى الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:(آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار) وفى رواية:(لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق).. ولمسلم عن أبى هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:(لا يبغض الأنصار رجل آمن بالله واليوم الآخر)... فمن سبهم فقد زاد على بغضهم فيجب أن يكون منافقاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر27.
3-ومن ذلك ما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه ضرب بالدرة من فضّله على أبي بكر ثم قال عمر: أبو بكر كان خير الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كذا وكذا ثم قال عمر: من قال غير هذا أقمنا عليه ما نقيم على المفتري28. وكذلك قال أمير المؤمنين علي بن أبى طالب: لا يفضلني أحد على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري29.
(فإذا كان الخليفتان الراشدان عمر وعلي -رضي الله عنهما يجلدان حد المفتري من يفضل علياً على أبي بكر وعمر، أو من يفضل عمر على أبى بكر مع أن مجرد التفضيل ليس فيه سب ولا عيب، علم أن عقوبة السب عندهما فوق هذا بكثير)30..
2- ومن سب بعضهم سباً يطعن في دينهم كأن يتهمهم بالكفر أو الفسق وكان مما تواترت31 النصوص بفضله (كالخلفاء) فذلك كفر-على الصحيح -لأن في هذا تكذيباً لأمر متواتر. روى أبو محمد بن أبى زيد عن سحنون قال: من قال في أبى بكر وعمر وعثمان وعلي أنهم كانوا على ضلال وكفر قتل، ومن شتم غيرهم من الصحابة بمثل ذلك نكل النكال الشديد32. وقال هشام بن عمار: سمعت مالكاً يقول: من سب أبا بكر وعمر قتل، ومن سب عائشة - رضي الله عنها قتل، لأن الله تعالى يقول فيها:{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}فمن رماها فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل33. أما قول مالك في الرواية الأخرى: (من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم ؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن)34. فالظاهر- والله أعلم -أن مقصود مالك-رحمه الله - هنا في سب أبي بكر -رضي الله عنه- فيما دون الكفر، يوضحه بقية كلامه عن عائشة -رضي الله عنها حيث قال: من رماها فقد خالف القرآن. فهذا سب مخصوص يكفر صاحبه (ولا يشمل كل سب)، وذلك لأنه ورد عن مالك القول بالقتل فيمن كفَّر من هو دون أبى بكر35.
قال الهيثمي مشيراً إلى ما يقارب ذلك عند كلامه عن حكم سب أبى بكر:
(.. فتلخص أن سب أبى بكر كفر عند الحنفية، وعلى أحد الوجهين عند الشافعية، ومشهور مذهب مالك أنه يجب به الجلد فليس بكفر، نعم، قد يخرج عنه ما مر عنه في الخوارج أنه كفر، فتكون المسألة عنده على حالين إن اقتصر على السب من غير تكفير لم يكفر وإلا كفر)36.(195/3)
وقال أيضاً: (... وأما تكفير أبى بكر ونظرائه ممن شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة فلم يتكلم فيها أصحاب الشافعي، والذي أراه الكفر فيها قطعاً..)37 .وقال الخرشي: (من رمى عائشة بما برأها الله منه...، أو أنكر صحبة أبى بكر، أو إسلام العشرة، أو إسلام جميع الصحابة، أو كفر الأربعة أو واحداً منهم كفر)38 .
وقال البغدادي: (وقالوا بتكفير كل من أكفر واحداً من العشرة الذين شهد لهم النبي-صلى الله عليه وسلم-بالجنة، وقالوا بموالاة جميع أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأكفروا من أكفرهن أو أكفر بعضهن)39
وقال ابن تيمية: (قال إبراهيم النخعي: كان يقال شتم أبي بكر وعمر من الكبائر وكذلك قال أبو إسحاق السبيعي: شتم أبي بكر وعمر من الكبائر التي قال الله تعالى:{إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}.. الآية وإذا كان شتمهم بهذه المثابة فأقل ما فيه التعزير لأنه مشروع في كل معصية ليس فيها حد، ولا كفارة.. وهذا مما لا نعلم فيه خلافاً بين أهل الفقه والعلم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعين لهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة فإنهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم والاستغفار لهم والترحم عليهم.. وعقوبة من أساء فيهم القول)40.
وقال القاضي (عياض): وسب أحدهم من المعاصي الكبائر، ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه يعزر ولا يقتل … 41. وقال عبد الملك بن حبيب:
(من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدباً شديداً، ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت... )42 .
فلا يقتصر في سب أبى بكر -رضي الله عنه- على الجلد الذي يقتصر عليه في جلد غيره لأن ذلك الجلد لمجرد حق الصحبة، فإذا انضاف إلى الصحبة غيرها مما يقتضي الاحترام لنصرة الدين وجماعة المسلمين، وما حصل على يده من الفتوح وخلافة النبي -صلى الله عليه وسلم-وغير ذلك كان كل واحد من هذه الأمور يقتضي مزيد حق موجب لزيادة العقوبة عند الاجتراء عليه43، وعقوبة التعزير المشار إليها لا خيار للإمام فيها بل يجب عليه فعل ذلك. قال الإمام أحمد رحمه الله: (لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً عن مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا بنقص، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن ثبت عاد عليه بالعقوبة وخلّده الحبس حتى يموت أو يراجع) 44. فانظر أخي المسلم إلى قول إمام أهل السنة فيمن يعيب أو يطعن بواحد منهم ووجوب عقوبته وتأديبه. ولما كان سبهم المذكور من كبائر الذنوب -عند بعض العلماء- فحكْم فاعله حكْم أهل الكبائر من جهة كفر مستحلها. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مبيناً حكم استحلال سب الصحابة:(.. ومن خص بعضهم بالسب فإن كان ممن تواتر النقل في فضله وكماله كالخلفاء فإن اعتقد حقية سبه أو إباحته فقد كفر لتكذيبه ما ثبت قطعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم-، ومكذبه كافر، وإن سبه من غير اعتقاد حقية سبه، أو إباحته فقد تفسق لأن سباب المسلم فسوق وقد حكم البعض فيمن سب الشيخين بالكفر مطلقاً والله أعلم) 45. وقال القاضي أبو يعلى تعليقاً على قول الإمام أحمد رحمه الله حين سئل عمن شتم الصحابة، فقال: ما أراه على الإسلام، قال أبو يعلى: (فيحتمل أن يحمل قوله: ما أراه على الإسلام، إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف، ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي) ثم ذكر بقية الاحتمالات (46). يتلخص مما سبق فيمن سب بعضهم سباً يطعن بدينه وعدالته وكان مما تواترت النصوص بفضله أنه يكفر - على الراجح - لتكذيبه أمراً متواتراً، أما من لم يكفره من العلماء فأجمعوا على أنه من أهل الكبائر ويستحق التعزير والتأديب ولا يجوز للإمام أن يعفو عنه ويزاد في العقوبة على حسب منزلة الصحابي، ولا يكفر- عندهم -إلا إذا استحل السب، أما من زاد على الاستحلال كأن يتعبد الله عز وجل بالسب والشتم فكفر مثل هذا مما لا خلاف فيه ونصوص العلماء السابقة واضحة في مثل ذلك.
اللهم إنا نشهدك أنَّا نحبك ونحب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونحب الصحابة جميعهم ونترضى عليهم فاحشرنا معهم يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1- هذا المقال مستفاد من مجلة البيان العدد 25 ص 38 مقال بعنوان: اعتقاد أهل السنة في الصحابة لمحمد بن عبد الله الوهيبي بتصرف.
2 - فتح الباري: 7 / 1 34 - 2 34، صحيح مسلم، رقم 856.
3- الصواعق المحرقة، ص 316.
4- مسلم بشرح النووي: 16 / 58.
5- الصارم المسلول، ص 577 - 578.
6 - الفصل في الملل والنحل: 4 / 148.
7 - شرح مسلم: 6 1 / 2 9-93.
8 - الصارم المسلول، ص 581.
9 - رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب بيان أن بقاء النبي-صلى الله عليه وسلم-أمان لأمته.
10 - الإصابة 1 / 12.(195/4)
11 - من الآية : 59. من سورة النمل.
12- المرجع السابق 1 / 12.
13 - فضائل الصحابة 1 / 57، 60 ، شرح الطحاوية، 531.
14- فتح الباري 7 / 7.
15- شرح أصول اعتقاد أهل السنة: اللالكائي 1 / 160.
16- مسلم بشرح النووي 16 / 93.
17-من أشهر من قال بذلك الإمام ابن عبد البر والاستدلال المذكور هو من أقوى استدلالاته، والجمهور على خلاف قوله كما أشرنا.
18- رواه أبو داود: (41، 43) والترمذي 2 / 77 1، وابن ماجة (4041) وابن حبان (1850) قال الترمذي: حديث حسن.
19- رواه احمد والدارمي والطبراني وصححه الحاكم، قال ابن حجر: إسناده حسن، الفتح 7 / 6.
20- الصواعق المحرقة، 321.
21 - الفتح، 7/7.
22- الصارم المسلول، 566.
23 - الرد على الرافضة، 19.
24- الصارم المسلول، 591، 592.
25- الصواعق المحرقة، 379.
26- الصواعق المحرقة، 317، تفسير ابن كثير 4 / 204.
27- الصارم المسلول، 586.
28- فضائل الصحابة 1/300، وصححه ابن تيمية، الصارم: 590.
29- فضائل الصحابة 1 / 82، والسنة لابن أبي عاصم2 /5 7 5.
30- الصارم المسلول / 591.
31- (*) بعض العلماء يقيد ذلك بالخلفاء والبعض يقتصر على الشيخين ومن العلماء من يفرق باعتبار تواتر النصوص بفضله أو عدمها ولعله الأقرب والله أعلم، وكذلك البعض ممن يكفر ساب الخلفاء يقصر ذلك على رميهم بالكفر، والآخرون يعممون بكل سب فيه طعن في الدين.
32- الشفا للقاضي عياض: 2 / 1109.
33- الصواعق المحرقة / 384.
34- الشفا: 2/ 1109.
35- المصدر نفسه: 2/ 1108.
36- ا لصواعق/386.
37- المصدر نفسه/385.
38- الخرشي على مختصر خليل: 8/74.
39 - الفرق بين الفرق/360.
40 - الصارم المسلول: 582 - 583.
41 - مسلم بشرح النووي: 16/93.
42 - الشفا: 2/1108.
43 - الصواعق المحرقة / 387.
44- طبقات الحنابلة: 1 / 24.
45 - الرد على الرافضة / 19.
46 - الصارم المسلول / 576، وراجع أيضاً: 574 - 575.(195/5)
اغتنام الأوقات التوبة, الموت والحشر
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه عليها المعوَّل، وعليكم بما كان عليه سلف الأمة والصدر الأول، واشكروه على ما أولاكم من الإنعام وطوَّل، وقصروا الأمل، واستعدوا لبغتة الأجل، فما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها المسلمون، إن الشهور والأعوام، والليالي والأيام مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، تنقضي جميعاً وتمضي سريعاً، والليل والنهار يتعاقبان لا يفتران، ومطيَّتان تقربان كل بعيد، وتدنيان كل جديد، وتجيآن بكل موعود إلى يوم القيامة، والسعيد لا يركن إلى الخُدَع، ولا يغترُّ بالطمع، فكم من مستقبل يوماً لا يستكمله، وكم من مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدركه، وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11].
أيها المسلمون، هذا عام من أعماركم قد تصرّمت أيامه، وقُوِّضت خيامه، وغابت شمسه، واضمحل هلاله، إيذانا بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأن ما بعدها دارٌ إلا الجنة أو النار، فاحذروا الدنيا ومكائدها، فكم غرّت من مُخلِد فيها، وصرعت من مكبّ عليها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) أخرجه البخاري[1].
عباد الله، ذهب عامكم شاهداً لكم أو عليكم، فاحتطبوا زاداً كافياً، وأعدوا جواباً شافياً، واستكثروا في أعماركم من الحسنات، وتداركوا ما مضى من الهفوات، وبادروا فرصة الأوقات، قبل أن ينادي بكم منادي الشتات، ويفجأكم هادم اللذات، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي يعظ رجلاً ويقول له: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، فما بعد الدنيا من مستعتب ولا بعد الدنيا دارٌ إلا الجنة أو النار)) أخرجه الحاكم[2].
فيا من قد بقي من عمره القليل، ولا يدري متى يقع الرحيل، يا من تُعد عليه أنفاسه استدركها، يا من ستفوت أيامه أدركها، نفسك أعزُّ ما عليك فلا تهلكها، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها)) رواه مسلم[3].
ويا من أقعده الحرمان، يا من أركسه العصيان، كم ضيّعت من أعوام، وقضيتها في اللهو والمنام، كم أغلقت باباً على قبيح، كم أعرضت عن قول النصيح، كم صلاةٍ تركتها، ونظرة أصبتها، وحقوق أضعتها، ومناهي أتيتها، وشرور نشرتها، أنسيت ساعة الاحتضار؟! حين يثقل منك اللسان، وترتخي اليدان، وتشخصُ العينان، ويبكي عليك الأهل والجيران، أنسيت ما يحصل للمحتضر حال نزع روحه؟! حين يشتد كربه، ويظهر أنينه، ويتغيّر لونه، ويعرق جبينه، وتضرب شماله ويمينه، هذا رسول الله ، وليس أكرم على الله من رسوله، إذ كان صفيه وخليله، حين حضرته الوفاة، كان بين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يُدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)) رواه البخاري[4].
عباد الله، أين من عاشرناه كثيراً وألفنا، أين من ملنا إليه بالوجدان وانعطفنا، كم أغمضنا من أحبابنا جَفْناً، كم عزيز دفنّاه وانصرفنا، كم قريب أضجعناه في اللحد وما وقفنا، فهل رحم الموت منا مريضاً لضعف حاله وأوصاله؟! هل ترك كاسباً لأجل أطفاله؟! هل أمهل ذا عيال من أجل عياله؟! أين من كانوا معنا في الأعوام الماضية؟! أتاهم هادم اللذات، وقاطع الشهوات، ومفرّق الجماعات، فأخلى منهم المجالس والمساجد، تراهم في بطون الألحاد صرعى، لا يجدون لما هم فيه دفعاً، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ينتظرون يوماً الأمم فيه إلى ربها تُدعى، والخلائق تُحشر إلى الموقف وتسعى، والفرائص ترعد من هول ذلك اليوم والعيون تذرف دمعاً، والقلوب تتصدع من الحساب صدعاً.(196/1)
فيا من تمرّ عليه سنة بعد سنة، وهو في نوم الغفلة والسِنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام، وقد غرق في بحر الخطايا وهام، قل لي بربك لأي يوم أخرت توبتك؟! ولأي عام ادخرت أوبتك؟! إلى عام قابل، وحول حائل، فما إليك مدة الأعمار، ولا معرفة المقدار، فبادر التوبة واحذر التسويف، وأصلح من قلبك ما فسد، وكن من أجلك على رصد، وتعاهد عمرك بتحصيل العدد، وفرَّ من المجذوم فرارك من الأسد، فقد أزف الرحيل وقرب التحويل، والعمر أمانة، سيُسأل عنه المرء يوم القيامة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تزول قدما ابن ادم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم)) رواه الترمذي[5]، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما ندمتُ على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي).
أيها المسلمون، أين الحسرات على فوات أمس؟! أين العبرات على مقاساة الرمس؟! أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشمس؟! فتوبوا إلى ربكم قبل أن يشتمل الهدم على البناء، والكدر على الصفاء، وينقطع من الحياة حبل الرجاء، وقبل أن تخلو المنازل من أربابها، وتؤذن الديار بخرابها، واغتنموا ممرَّ الساعات والأيام والأعوام، وليحاسب كل واحد منكم نفسه، فقد سعد من لاحظها وحاسبها، وفاز من تابعها وعاتبها. وهلموا إلى دار لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا يتغير حُسنها، يقول النبي : ((من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه)) أخرجه مسلم[6].
فيا عبد الله، استدرك من العمر ذاهباً، ودع اللهو جانباً، وقم في الدجى نادباً، وقف على الباب تائباً، بلسان ذاكر، وجفن ساهر، ودمع قاطر، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) أخرجه مسلم[7].
فأحسن فيما بقي، يُغفر لك ما مضى، فإن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وبما بقي.
ياأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً [الانشقاق:6-15].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6416).
[2] هو في مستدركه (4/341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وليس فيه الجزء الأخير، وقال : "صحيح على شرط الشيخين" ، ولم يتعقبه الذهبي ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355) ، لكن ذكر له البيهقي في الشعب علّة (7/263) وهي أن الصحيح أنه من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلاً ، كذا أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص2) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/77) ، وصححه الحافظ في الفتح (11/235).
[3] أخرجه مسلم في الطهارة (223).
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6510) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2416) وقال : "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي إلا من حديث الحسين بن قيس ، وحسين بن قيس يضعّف في الحديث من قبل حفظه ، وفي الباب عن أبي برزة وأبي سعيد" ، وله شاهد أيضاً من حديث معاذ رضي الله عنه ، ولذا حسنه الألباني في الصحيحة (946).
[6] أخرجه مسلم في الجنة (2836) من حديث أبي هريرة.
[7] أخرجه مسلم في التوبة (2759).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، إن الأيام تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تبلى، والسعيد من طال عمره وحسن عمله، والشقي من طال عمره وساء عمله، فعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: ((من طال عمره وحسن عمله))، قال: فأي الناس شر؟ قال: ((من طال عمره وساء عمله)) رواه الترمذي[1].(196/2)
فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، والأعمال بالخواتيم، والمرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه. فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يُبعث كل عبد على ما مات عليه)) أخرجه مسلم[2].
أيها المسلمون، هذا باب التوبة مفتوح، وقوافل التائبين تغدو وتروح، فالبدار البدار إلى توبة نصوح، قبل الممات والفوات، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً [التحريم:8]، وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
وصلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد...
________________________________________
[1] أخرجه الترمذي في الزهد (2330) ، وقال : "حديث حسن صحيح" ، وأخرجه أيضاً أحمد (5/48) ، والبزار (3623) ، والحاكم (1/489) وصححه المنذري في الترغيب (5091) ، وعزاه الهيثمي في المجمع (10/203) للطبراني في الصغير والأوسط وقال: "إسناده جيد". وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3363).
[2] أخرجه مسلم في الجنة (2878).(196/3)
اغتيال (باسييف) لن يوقف الجهاد
بدأ الاحتلال الروسي للدول الإسلامية لِمَا كان يعرف بـ (ما وراء النهر) منذ عهد بطرس الأول منذ عام (1188هـ ـ 1714م) واستمر الروس في ابتلاع أراضي الشعوب الإسلامية والتي تشكل العديد من (القوميات) أمثال الأوزبك والكازاخ والطاجيك والشيشان والأبخاز.. إلخ، حيث حكمت بالحديد والنار، وقتلوا عشرات الألوف من المسلمين، واتبعوا سياسة التجزئة، وهجَّروا الألوف منهم إلى المناطق النائية وبخاصة الجليدية للقضاء عليهم. وقد نشطت الحركات الجهادية للدفاع عن الإسلام ضد المحتلين النصارى ثم الشيوعيين، وقدموا صوراً رائعة للجهاد نادرة المثال، وبعد تفتت الاتحاد السوفييتي استمرت المقاومة رغماً عن استمرار البعضٍ في العمالة للروس ومقاومة إخوانهم في الدين، وعرف الجهاد الشيشاني بعد إعلان الزعيم المجاهد (جوهر دوداييف) الاستقلال، وقام الروس المحتلون بالحرب ضد المجاهدين باغتيال قادة الجهاد آمثال (باندراييف) و (مسخادوف) و (عبد الرحيم اللاييف) بعد أن أبلوا بلاءً حسناً وكبدوا الروس آلاف الضحايا؛ فما زادت تلك الحرب المجاهدين إلا قوة ومضاءً.
وأخيراً أعلنت وكالة الأنباء الروسية (إيتار تاس) نبأ اغتيال القائد المجاهد (شامل باسييف) في عملية سرية للقوات الأمنية الروسية في مساء الإثنين 14/6/1427هـ الموافق 10/7/2006 بالقرب من أنجوشيا بغرب الشيشان والذي وصفته الوكالة الروسية أنه القائد لأعنف حركة مقاومة شيشانية.
وقال (علي الخانوف) رئيس الحكومة الشيشانية العميلة للروس إن مقتل (باسييف) خطوة كبيرة إلى الأمام في مواجهة المجاهدين الشيشان في إشارة إلى أهمية ذلك القائد البارز ودوره العظيم في مواجهة المحتلين الروس؛ فقد كان له عمليات مقاومة أثخنت الجسد الروسي من أشهرها (عملية احتجاز الرهائن في مدينة بودينوفسك) وحصار (مسرح موسكو). وهذا القائد العظيم ـ رحمه الله ـ تدرب في الجيش السوفييتي السابق أداءً لخدمته العسكرية، ثم أنضم إلى (الوحدة العسكرية التابعة لكونفدرالية الشعوب) القوقازية، وشارك في الجهاد الأفغاني ضد الروس، وعمل قائداً للقوات الشيشانية، وقاوم الجيش الروسي، ثم استقال من القوات الشيشانية وترشح للرئاسة، واحتل المرتبة الثانية، ثم عينه الرئيس السابق (مسخادوف) رئيساً للوزراء، ثم استمر في الجهاد والمقاومة حتى اغتياله. ولا شك أن استشهاده ـ رحمه الله ـ كارثة على الجهاد الشيشاني؛ لكن ذلك لن يفت في عضد المجاهدين ـ بإذن الله ـ فالشعب الشيشاني المجاهد قادر ـ بإذن الله ـ على إخراج أمثال ذلك المجاهد الكبير الذي ما زال مؤمناً بدينه ومستمراً في شجاعته ونبله لاسترداد حريته وكرامته؛ ومن ثم لن يوقف الجهادَ اغتيالُ فرد من ذلك الشعب المؤمن المجاهد.(197/1)
اقتحام العدو رغبة في الشهادة ونكاية فيه
لازالت فئة من الناس بين الفينة والأخرى لا تجد ما تشغل بها أنفسهم فتجدهم وهم في فراغهم مشتغلون يناقشون أمور المجاهدين وأحوالهم ويبدأ الانتقاص للحقوق المجاهدين والتشكيك بهم وبنواياهم تعلوا به أصواتهم – كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا- ويا ليتهم صمتوا وتركوا المجاهدين يقررون الفتوى لأنفسهم بعيدا عن مزايدة هذا أو تنظير ذاك.
ومن هنا إخوة الإسلام لابد لنا من المرور على بعض الروايات والقصص وآراء العلماء في هذه المسألة فقد قال الله تعالى : {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}.
ولقد علم أصحاب النبي المفهوم الحقيقي لهذه الآيات فهذا صهيب الرومي رضي الله عنه كان قد أسلم بمكة ولما هاجر المسلمون إلى المدينة لحق بهم مهاجرا , فلحق به نفر من المشركين ليثنوه عن الهجرة فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته وأخذ قوسه وقال لهم : لقد علمتم أني من أرماكم و أيم الله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم بعد ذلك ! قالوا لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا , ولكن دلنا على مالك بمكة ونخلي عنك ففعل , فلما قدم على رسل الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى الآية :{ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد}, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ربح البيع أبا يحيى وتلا عليه الآية.
ومع أن الآية نازلة في صهيب رضي الله عنه إلا أنها ليست خاصة به, قال الحافظ بن كثير في تفسيره: وأما الأكثر ون فحملوا ذلك على أن الآية نزلت في كل مجاهد يبيع نفسه لله ويجاهد في سبيله وذلك لقوله تعالى :{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : { ومن الناس يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} : المجاهدون قد شروا أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله والقيام بحقه حتى هلكوا ولقوا الله .
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحملون على الأعداء بائعين أنفسهم لله:
حمل هشام بن عامر الأنصاري رضي الله عنه بين الصفين وأنكر عليه بعض الناس فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة رضي الله عنهما وغيرهما وتلوا هذه الآية : {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله}.
قال مدرك بن عوف الأحمسي : كنت عند عمر رضي الله عنه إذ جاءه رسول النعمان بن مقرن رضي الله عنه فسأله عمر عن الناس فقال : أصيب فلان وفلان وآخرون لا أعرفهم!فقال عمر لكن الله يعرفهم , فقال يا أمير المؤمنين ورجل شرى نفسه لله , فقال مدرك بن عوف : ذاك والله خالي يا أمير المؤمنين وقد زعم الناس أنه ألقى بيده إلى التهلكة! فقال عمر: كذب أولئك ولكنه ممن اشترى الآخرة بالدنيا.
خرج ابن أبي شيبة في المصنف قال : جاءت كتيبة من كتائب الكفار من قبل المشرق , فلقيهم رجل من الأنصار , فحمل عليهم فخرق الصف حتى خرج ثم كر راجعا صنع ذلك مرة أو مرتين أو ثلاثا .
خرج الحاكم في المستدرك عن أبي إسحاق السبيعي قال : سأل رجل البراء بن عازب رضي الله عنه قائلا: يا أبا عمارة: قوله تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} هل هو في الرجل يلقى العدو فيقاتل حتى يقتل ؟ قال :لا ولكن الآية في الرجل يذنب الذنب فيقول لا يغفره الله لي !
وفي رواية أخرى قال رجل للبرء بن عازب رضي الله عنه : إن حملت على العدو وحدي فقتلوني , أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة ؟ قال: لا, فإن الله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك}, إنما هذه الآية في النفقة.
وروى الترمذي وأبو داود والحاكم وابن حبان عن أسلم بن يزيد التجيبي-أبي عمران- قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد , فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل بينهم فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال : أيها الناس : إنكم لتأولون هذا التأويل وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار , لما أعز الله الإسلام , وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا ضاعت وإن الله أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها ! فأنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم يرد علينا : { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الغزو!
فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم !.
وقد أورد البيهقي الحادثة وبوب لها ( باب جواز انفراد الرجل والرجال بالغزو في بلاد العدو, استدلالا بجواز التقدم على الجماعة وإن كان الأغلب أنها ستقتله) .(198/1)
روى البيهقي عن مجاهد قال :{ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود وخبابا سرية وبعث دحية الكلبي بن خليفة الكلبي سرية وحده , وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية ورجلا من الأنصار سرية وبعث عبد الله بن أنيس سرية وحده} .
روى البخاري ومسلم عن يزيد بن أبي عبيد قال {: قلت لسلمة بن الأكوع رضي الله عنه : على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : على الموت }.
وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : {غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر , فقال : يا رسول الله : غبت عن أول قتال قاتلت المشركين , لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع , فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني المسلمين – وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم للمعركة فاستقبله سعد بن معاذ فقال : الجنة ورب النضر , إني أجد ريحها دون أحد , قال سعد : فما استطعت يا رسول الله أن أعرف ما صنع , قال أنس : فوجدنا به بضعة وثمانين ضربة بسيف , أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه وكنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه من المؤمنين : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ----}.}
وروى ابن أبي شيبة أن معاذ بن عفراء رضي الله عنه قال : {يا رسول الله : ما يضحك الرب من عبده ؟ قال : غمسه يده في العدو حاسرا , فألقى درعا كانت عليه وقاتل حتى قتل!.
وروى أحمد وابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عجب ربنا من رجلين : رجل عن وطأته ولحافه من بين أهله وحبه إلى صلاته فيقول الله عز وجل : انظروا عبدي ثار عن فراشه ووطأته من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي , ورجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه وعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع فرجع حتى أريق دمه فيقول الله : انظروا إلى عبدي رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أريق دمه }.
وإليكم أخوة الإسلام أقال بعض العلماء في الموضوع :-
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله ( في إحياء علوم الدين) أثناء كلامه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : (لا خلاف في أنه يجوز للمسلم الواحد أن يهجم على صف الكفار وأن يقاتلهم وإن علم أنه يقتل وكما أنه يجوز أن يقاتل الكفار حتى يقتل , يجوز له أن يفعل ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )
ونقل الإمام النووي اتفاق العلماء على انغماس المجاهد في الكفار وعلى التعرض للشهادة , فلا شك في أن ذلك جائز وأنه لا كراهة فيه!
وقال الإمام الشافعي : قد بورز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم , وحمل رجل من الأنصار حاسرا على المشركين يوم بدر , بعدما أعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في ذلك من الخير .
وبعد هذا العرض البسيط لشيء مما تناوله الفقهاء والعلماء لهذه المسألة وذكر الأدلة المؤيدة لذلك هل لا زلنا نجد ونسمع من ينظر على المجاهدين ويتتبع عوراتهم ؟!
أفما آن لنا أن نبحث عن السبل التي تكفل للمجاهدين استمرارهم ؟!
أفلا ينبغي علينا أن نبحث عن المسائل والآراء التي تؤيد المجاهدين وتثبت قلوبهم بدلا من التشكيك فيهم ؟!
أفلا يكفي المرجفين ما فعلوه ويفعلوه وإلى متى سيبقى العدو مرتاحا لتولي بعض المنافقين الدفاع عنه وعن آرائه ؟!
أما أنتم أيها المجاهدون في فلسطين فحسبكم أن الله هو الذي سيحاسبكم ويجزيكم على تضحياتكم ....
حسبكم أنكم وضعتم أقدامكم على الطريق الذي أردتموه بأنفسكم .....
حسبكم أنكم تختارون بينما لا يستطيع الاختيار غيركم ......
حسبكم أن الله تعالى تكفل بهدايتكم وأضل غيركم ......
{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} صدق الله العظيم(198/2)
الأباء القتلة للشيخ أحمد الشاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل لكم من انفسكم ازواجا وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات ، واشهد ان الله لا اله الا هو وحده لا شريك له يعلم ما في الارض وما في السموات ، واشهد ان محمدا عبده ورسوله وحد الله به الامة وجمعها من شتات،صلى الله عليه وعلى اصحابه وكل من سلك سبيل النجاة وسلم تسليما، اما بعد فانه من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ويجعل له فرقانا فاتقوا الله عباد الله.
عندما يقدم اب على قتل احد ابناءه بسفك دمه ظلما وعدوانا فان ذلك عند الله وعند الناس عظيم ، وحينما يلقي اب ابن من ابناءه في نار تلظى، يصطلي بحرها ويحترق بسعيرها فتلك في ميزان الشرع والعقل وعند الناس احدى الكبر، وهذه وتلك لا يختلف على شناعتها اثنان ولا ينتصح فيها عنزان، وهي مما اجمع عقلاء البشر عليها ،لكن، لكن الناس يغفلون عن فئة من الاباء القتلة ممن لا يلقون على جرمهم نكيرا ولا يعدون جرمهم خطيرا فئة من الاباء القتلة لم يسفكوا من ابناءهم دما ولم يبخلوا بمال ولم يقصروا في طلب. يلبون لابناءهم ما يريدون وياتون لهم بما يشتهون ،بهم يرأفون، وعليهم يعطفون، يسهرون على ابنائهم اذا مرضوا، ويقلقون عليهم اذا تغيبوا،ويمنحونهم اذا طلبوا. فلماذا هم قتلة؟
اما انهم لم يتقلوا نفسا معصومة ، ولم يسفكوا دما حراما،لكنهم قتلوا في ابنائهم ما هو اخطر واكبر. قتلوا في ابنائهم اعظم المعاني وانبل الخلال واجمل الخصال. قتلوا انسانيتهم وعقولهم وسفكوا دم الحياء من وجوههم وسلبوا ارواحهم ، وانت بالروح لا بالجسم انسان.قتلوا ايمانهم وحيائهم حينما اسلموا تلك الارواح البريئة والنفوس الطاهرة والعقول الناضجة لتكون فريسة للقنوات الهابطة والاغاني الساقطة تصنع منهم جيلا ضعيف الصلة بالله هامشي التفكير منزوع الارادة مهزول الكرامة للشهوات يحيا وعليها يموت .لقد ابتلي مسلون بالتساهل بمشاهدة القنوات الفضائية بحجة الاخبار والحوارات وجلبوها الى بيوتهم لينقلوا داءها وينشروا وباءها في اجواء بيوتهم المعطرة بالمحافظة والاستقامة ويدسوا سمها في قلوب ابنائهم وبناتهم . تلك القلوب المستنيرة ، تلك القلوب المستنيرة بنور الفطرة تلك القلوب المستنيرة بنور الفطرة . قاتل والله ذلك الاب الذي ينصب طبقا فوق سطح بيته، يجلب العار ويقود الى النار ويقضي على بذرة الحياء وشجرة الايمان . انني اسائلكم ايها الاباء ولنكن صرحاء . ماذا تحوي هذه القنوات؟ وماذا تقدم لروادها؟ اليس كثير من برامجها يعد مخالفة صارخة وصريحة لمباديء الاسلام وعقيدة المشاهد المسلم ؟ اليست تحوي صورا فاتنة وحركات مثيرة واغاني هابطة ؟ الم تروا الى اثارها على المجتمع وسلوك افراده؟ من اين تعلم شبابنا الرقص وانواع القصات والرقصات؟ من اين جاءت نسائنا بهذه الالبسة الفاضحة والتسريحات المضحكة المبكية؟ الم تروا كيف اشتد سعار الشهوات فكانت النتيجة صورا من الانحرافات الجنسية والمخالفات الاخلاقية ؟ اليست تعلم اولادنا التناقض في حياتهم ؟ الاولاد يعيشون مع اباءهم المتعلقين ببرامج هذه القنوات في حالة من التناقض والفصل الكامل بين القول والعمل ؟اذ يسمع الولد من ابيه عبارات الامر بالمعروف وحب الفضائل والامر بها واجتناب الرذائل والنهي عنها ، ثم يراه قد عكف على هذه البرامج يشاهد النساء المتبرجات ويتحدث عن جمالهن وينهمك في متابعة احداث تلك القصص المثيرة ويستمع الى غناء خليع فاحش دون ان تصدر منه عبارات التذمر اوعدم الرضا عن هذه المخالفات
ان هذا الاب لا يمكن ان يؤثر في اولاده تاثيرا ايجابيا ،يدفعهم الى الفضيلة ويباعدهم عن الرذيلة، بل ربما فاق الاولاد اباءهم في الانحراف اذا كبروا ، فلا يقبلون منه امرا ولا نهيا. ان مشاهدة الابناء لمثل هذه القنوات المترمية الى الغناء الفاحش وتبرج النساء خاصة في مراحل الطفولة المتاخرة تثيره جنسيا وربما دفعته لممارسة نوع من انواع الحب او الغزل مع احدى قريباته او جاراته. ومشاهدته لشيء من خفايا علاقة الرجل بالمراة يدفعه الى ممارسة ذلك مع اقرب بنت اذا سنحت له فرصة ولا تحتقروا الصغار. وربما دفعته هذه الاثارة في اقل الاحوال الى ممارسة العادة السرية ، فاذا حدث شيء من ذلك فان الاب هو المسؤول الاول عن هذه الجرائم قبل الولد لانه هو موقد النار ومشعل الفتيل.(199/1)
يا معشر الاباء القتلة يوم ان قتلتم ايمان اولادكم وحيائهم وعقولهم بتهيئة القنوات الهابطة لهم ، فانما تتجهون بهم نحو الانحلال والتميع ، وتهددون الاجواء الاخلاقية بالدمار، وتستثيرون الغريزة الهمجية وتشجعونهم على الهبوط الى درك الانحراف والشرب من مستنقع الفحشاء فتميتون في داخلهم نبتات الشرف والصيانة وتغلفون ضمائرهم الاخلاقية بادران الخلاعة والاجرام ، ثم يتسع الخرق على الراقع ولا سيما في عصرنا الحاضر الذي نبت في ساحته من يتاجر في الغرائز، ويسابق في انتاج كل هابط من الافلام. واذا كانت هذه القنوات تفتك باخلاق الكبار وتعصف باخلاق الرجال وتذهب بهم كل مذهب مرذول ، فكيف يكون حال المشاهدين من المراهقين والاطفال . ولا مراء ان هذه الصور والحركات المقيتة ستنطبع انطباعا في اذهانهم ، وسيكون لذلك ردود فعل مدمرة للبناء الاخلاقي في المستقبل القريب .
اذا كان ديننا امرنا ان نفرق بين الاولاد في المضاجع وهم اخوة واخوات انجبهم صلب واحد فكيف تستسيغ ضمائنا ان ندعهم يشاهدون عبر الفضائيات اوغيرها افلاما ساقطة يتراقص فيها فتيات مدربات على اثارة الرجال في الحركات المغرية والكلمات المتغنجة والعري الفاضح . اذا كان المراهق يستثيره الخيال وتهيجه الامنيات فكيف بمشاهد مرئية مسموعة تغري بهارجها . افلا تتقون
لن استرسل معكم ايها الاباء العقلاء في ذكر اخطار هذه القنوات ومن قبلها التلفاز الذي مهد الطريق لها ومن بعدها الانترنت . فان كثيرا من برامج هذه القنوات تتضمن افكارا واراء مخالفة لدين الاسلام حيث تستغل كثير من برامجها ومسرحياتها في نشر وبث هذه الافكار وترويجها باسم الفن ، ومن هذه الافكار التي يروج لها الاعلام بقنواته قضية فصل الدين عن حياة الناس وعن الدولة وجعله قضية شخصية ، او الدعوة الى التاخي بين المسلمين والكفار، او المناداة بتحرير المراة ومساواتها بالرجل في جميع شؤون الحياة ، او مقت مشروعية تعدد الزوجات وقذف المعددين بالجريمة والظلم وغيرها مما لا يخفى على من كان له قلب او القى السمع وهو شهيد
الم تسمعوا يا معشر الاباء عن حالات من الشذوذ الجنسي والانحراف الخلقي من تعد على المحارم واغتصاب للقاصرات واختطاف للصغار وتحرش بالخادمات ، كان وقودها فلما هابطا وشرارتها اوقدت في استراحة او بيت تلطخ بهذا الطبق الهابط ،ولولا ان تشمئز قلوبكم وتضيق نفوسكم ولولا الخشية ان اتهم بالتهويل والاثارة لاوردت لكم قصصا من الواقع ولكن المؤمن الحر تكفيه الاشارة ، فهل تغيرون من حالكم وتعتبرون بغيركم ، ام تنتظرون حتى تحل الكارثة ببيوتكم وعلى ايدي ابنائكم وبناتكم . ان المفترض في هذه القنوات ان تتوجه نحو الالتزام بمنهج الاسلام فيما يعرض ويسمع ، وان تتعاضد مع المؤسسات التربوية الاخرى لاخراج جيل يعيش بالاسلام وللاسلام قولا وعملا واعتقادا وتطبيقا. ولكن ريثما يحدث هذا التوجه الاعلامي نحو التزام منهج الاسلام فان الحل الامثل والافضل للاب المسلم لحماية اولاده وحراسة اخلاقهم هو اقصاء هذه الاجهزة الفاسدة طاعة لله عز وجل الذي امرنا بقوله (( قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم)) وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم القائل عن نظر الفجاة(( اصرف بصرك)) والبصر هو الباب الاكبر الى القلب واعمر طرق الحواس اليه. وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه وغضه واجب عن جميع المحرمات وكل ما يخشى الفتنة من اجله ، واذا تبين ذلك فانه ليس بغريب ان تكثر الفتاوى الصريحة من علماء الامة المخلصين ضد هذه القنوات ومن قبلها جهاز التلفاز، خاصة وان بعض رجال الغرب من العقلاء قد تنادوا بمثل ذلك . فهذا احدهم يقول ربما لا نستطيع ان نفعل أي شيء ضد الهندسة الوراثية او القنابل النيترونية ولكننا نستطيع ان نقول لا للتلفزيون ونستطيع ان نلقي باجهزتها في مقلب الزبالة حيث يجب ان تكون . ان التلفزيون لا يتقبل الاصلاح عادة ان مشاكله كامنة في التقنية نفسها تماما كما ان العنف كامن في البنادق انتهى.
ان الاب الذي يقتنع بوجوب الاستغناء عن هذه الاجهزة الفاسدة والقنوات الهابطة وقد تعلق اولاده بها فانه سيواجه مشقة وعنتا شديدا . ولكن عزاؤه الوحيد استحضار قول الحق (( يا ايها الذين امنوا قو انفسكم واهليكم نارا وقودها الناس والحجارة))(( يا ايها الذين امنوا ان من ازواجكم واولادكم عدوا لكم فاحذروهم)) فالازواج والاولاد يمكن ان يكونوا وبالا على الاباء يدفعونهم بعواطفهم الجياشة نحو ارتكاب المعاصي والمحرمات وفي الحديث (( الولد محزنة مجبنة مجهلة مبخلة))(199/2)
يا معشر الاباء . الوقاية خير من العلاج. وقبل ان تقدم على الخطوة الاخيرة فكر. وقبل ان تقدم على الخطوة الخطيرة فكر في عواقبها على اولادك وبيتك وسمعتك وفي اثارها على دينك وعلاقتك بربك . العاقل هو من اتعض بغيره والمسكين من اصبح موعظة لغيره . وانك لا تجني من الشوك العنب . ومن حام حول الحمى يوشك ان يقع فيه والله خير حافظا وهو ارحم الراحمين
ان الحديث عن هذه القضية الخطيرة حديث ذو شجون وما اكثر الهالكين المتبعين لاهوائهم المعرضين عن هدي ربهم ، ورب قائل مسكين هذا المتحدث يتكلم بمثل هذا في زمن الانفتاح والعولمة والتقاء الحضارات في زمن اصبح التلفاز جزءا اساسيا من حياة البيوت . وانا اقول ان الباطل سيظل باطلا والذنب سيبقى ذنبا والحمار سيبقى حمارا ولو طوق بالذهب و الباطل سيبقى باطلا ولو غلف باغلفة براقة وحينما تقف بين يدي الله فردا ويسالك ليس بينك وبينه ترجمان .؟ قدم هذا الاعتذار وانظر هل يغني عنك من الله شيئا . انني لا املك العصى السحرية التي يسوقوا بها الاباء القتلة ليعودوا لرشدهم وينقذوا بيوتهم من حريق مرتقب وانهيار متوقع . ولكنني ابث من قلب محب كلمات تحمل في طياتها النصح وحب الخير . فيا معشر الاباء استمعوا اني لكم من الناصحين . يوم ان تساهلتم بمشاهدة القنوات تحت أي حجة واعتذار فانما تقتلون انفسكم, وتردون بها موارد الهلكة , تقتلون معاني الايمان والغيرة والحمية لدين الله ، اسالوا قلوبكم عن حالها مع خوف الله ورجاءه وعن شانها مع الخشوع والدعاء ، واسالوا انفسكم عن حالها مع الصلاة وقراءة القران . ستجيبكم عيونكم الجامدة وقلوبكم القاسية وهممكم الضعيفة . فلم تقتلون انفسكم؟ لا تقتلوا انفسكم ان الله كان بكم رحيما . واذا ابيتم الا ان تقتلوا انفسكم بمشاهدة هذه القنوات وما فيها من هبوط واسفاف فاني اناشدكم الله الا تمتد يد القتل الى ذريتكم، اني اناشدكم الله الا تمتد يد القتل الى ذريتكم البريئة فتحملوا اثقالكم واثقالا مع اثقالكم ، وتنوؤوا باوزاركم واوزار الذين تظلونهم بغير علم الا ساء ما تزرون.
يا معشر الاباء والاولياء ان الله سائل كل راع عما استرعاه ، حفظ ذلك ام ضيعه ، حتى يسال الرجل عن اهل بيته فماذا انتم قائلون . يا معشر الاباء ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته الا حرم الله عليه الجنة، واي غش اكبر من افساد الاخلاق والدين ، افلا تذكرون. يا معشر الاباء اننا لا نعدمكم الثقة باولادكم وانتم الذين تبذلون وتكدحون في سبيل راحتهم وجلب السعادة لهم ، ولكن الثقة لا تعني ابدا فتح الابواب والدروب دون رقابة او اهتمام ، ولا تعني ابدا ترك عود الثقاب مشتعلا قرب الوقود، ولا تعني ابدا اثراء المنزل بما يشتهي الابناء ويطلبونه من ملذات على حساب الجوهر الذي خلقوا من اجله
ايها الاب المبارك . هل رايت يوما قاربا صغيرا تصارعه امواج البحر في عتو واستكبار؟ وهل ابصرت زهرة ندية تقاوم على ضعفها سطوة اعصار ؟ وهل لمحت طائرا ضعيفا مكسور الجناح تطارده سباع وضباع في نهم وسعار؟ ان ابناءك يا اخي اضعف من هؤولاء جميعا في جو الفتن والشهوات الذي يعيشونه ليلا ونهارا، فالعين لا ترى الا ما يسحرها ، والاذن لا تسمع الا ما يطربها، والجوارح لا تعيش الا ما يغريها، والقلب لا يشعر الا بما يفتنه. عندما ادخلت الى بيتك اجهزة الفساد وقنوات الافساد فانما هيئت لذريتك جو المعصية واحطتهم بسياج الخطيئة ، فتنفسوا رائحة الشهوة في الشهيق فاخرجوا ذلك معصية لله تعالى في الزفير. ان قنوات التلقي عندهم لا تلتقط الا ما يفتن فاصبح البث ممزوجا بالخطايا والرزايا والبلايا . القيت ابناءك في بحر الشهوات ولم تلبسهم طوق النجاة. ثم تريدهم بعد ذلك ان يكونوا بررة اتقياء . هيهات هيهات،
القاه باليم مكتوفا وقال له اياك اياك ان تبتل بالماء
يا ايها الاب المبارك لا اظنك الا ممن ينشد الولد الصالح الذي يبره في حياته ويدعوا له بعد مماته ، الولد الحافظ للقران ، الذي يلبس والداه تاج الوقار يوم القيامة ، الولد الذي يرفع راس والديه واهليه ويصنع لوحة الشرف والمجد لعائلته . فهل ستجد هذا الولد في اجواء ملوثة بغرقد الشهوات التي زرعتها حينما ادخلت الى بيتك طبقا اطبق على الاخلاق والدين فافسدها ؟ اتريد ان يكون ابناءك خصمائك يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون ؟ وانت الذي تعبت من اجلهم وبذلت لراحتهم(199/3)
يا معشر الاباء والاولياء ابنائكم وبناتكم امانة في اعناقكم، وانت مسؤولون عنهم امام الله ، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته، فاعدوا للسؤال جوابا ينجيكم من هول القيامة والشجع بها . يا معشر الاباء والاولياء والله الذي لا رب غيره اني لكم ناصح امين . ها انا ذا احمل يراع التذكير لاسطر لكم ما يدور في خلدي وما يحتبس في اعماقي وما تحتويه جوانحي . يا من تحملتم امانة عظيمة ومسؤولية جسيمة ابت حملها السموات والارض والجبال واشفقن منها ومن تبعاتها . لا تخونوا الله والرسول وتخونوا اماناتكم وانتم تعلمون . يا من اعطاكم الله الزينة فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا وابتلاكم بالفتنة انما اموالكم واولادكم فتنة وخصكم بالوصية يوصيكم الله باولادكم وحذركم من العداوة (( ان من اولادكم وازواجكم عدو لكم فاحذروهم)) اتقوا الله في ذريتكم . اتقوا الله في ذريتكم فهم فلذات اكبادكم ومنشا اصلابكم وامتداد انسابكم . هم احلام الماضي الغابر وسعادة الحاضر وامال المستقبل السائر .
وانما اولادنا بيننا اكبادنا تمشي على الارض
لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمض
خذوا بحججهم عن النار ، وغذوهم بالحلال فانهم يصبرون على الجوع ولا يصبرون على النار . وثقوا ان من كان جادا وصادقا في قراره سيلقى من الله عونا وتوثيقا وسيجد من البدائل المباحة ما يغني عن الحرام . اكرر النداء والمناشدة لكل اب تورط في قتل معاني الخير والشهامة والحياء في اولاده عندما ادخل عليهم قاتل الدين وذراع المفسدين، قوا انفسكم واهليكم نارا وقودها الناس والحجارة، وتداركوا بيوتكم من قبل ان يشتمل الهدم على البناء والكدر على الصفاء، ومن قبل ان تقول نفس يا ليتني قدمت لحياتي ، ومن قبل ان يتعلق الابناء بالاباء قائلين ربنا هؤلاء اضلونا . يا ايها الاب المتنور قم فقرر وبيتك فطهر والرجز فاهجر ولربك فاصبر وحينها ابشر ثم ابشر . ومن ارضى الله بسخط الناس رضي الله عليه وارضى عنه الناس، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجا ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه ، ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين))
اللهم اصلح نياتنا وذرياتنا ، وهب لنا من ازواجنا وذرياتنا قرة اعين واجعلنا للمتقين اماما، اللهم صلي وسلم على من بلغ الرسالة وادى الامانة ونصح الامة وجاهد في الله حق جهاده ، وارضى اللهم عن صحابته اجمعين ، وعمنا معهم بعفوك ورحمتك يا ارحم الراحمين
اللهم اعز الاسلام وانصر المسلمين، واذل الشرك ودمر المشركين ،وانصر عبادك المجاهدين ، اللهم انصرهم في العراق وفلسطين والشيشان وفي كل مكان ، اللهم قوي عزائمهم وثبت اقدامهم وانزل نصرك العاجل عليهم . اللهم عليك بام الكفر امريكا ومن شايعها . اللهم اجعل كيدهم في ثباب وسعيهم الى خراب ، اللهم اشدد عليهم وطأتك ، وارفع عنهم ما بيدك . اللهم تابع عليهم النكبات واجعل اعمالهم عليهم حسرات. اللهم امنا في دورنا واصلح ولاة امورنا. اللهم وفقهم للحكم في كتابك وسنة نبيك ، وارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين. اللهم عليك بمن يحارب دينك ويصد عن سبيلك ويريد نشر الفاحشة في الذين امنوا من المنافقين والمنافقات . اللهم عليك بهم، اللهم لا ترفع لهم راية ولا تحقق لهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم اية، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
الصوت الإسلامي ...(199/4)
الأبعاد الثلاثة لمسألة القضاء والقدر
* محمد مهدي الآصفي
لكي يتضح لنا رأي الدين في القضاء والقدر لابد أن نشرح نقاطاً ثلاثة تعتمد عليها النظرية، في الاطار الذي يرسمه الاسلام لها:
1 ـ من رأي الدين ان الأحداث الاجتماعية بمجموعها تنشأ عن قضاء وقدر إلهي، ولا يمكن أن تخرج عن علم الله، أو يحدث شيء من ذلك من دون مشيئة الله. فإن الله سبحانه مبدأ كل شيء، وليس من شيء أو حدث يخرج عن علم الله ومشيئته.
يقول القرآن الكريم في ذلك: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير) الحديد/ 22.
(يقولون هل لنا من الأمر شيء. قل إن الأمر كله لله) آل عمران/ 154.
2 ـ تنفذ المشيئة الإلهية في الكون ضمن سلسلة طويلة من الأسباب والعلل، ويتحكم مبدأ العلية في كل شيء في هذا الكون.
فإن الأحداث الكونية والاجتماعية تنشأ عن أسبابها وعللها التي لا يمكن أن تتخلف عنها بحال من الأحوال. ولكل حدث علته التي تحتم وجوده (القضاء)، وتحدد شكله وتقدر حدوده (القدر).
ولا يمكن أن يتخلف قانون العلية هذا، ولا أن يحدث شيء دون سبب وعلة؛ موجبة له.
فإذن يتم قضاء كل شيء وقدره في مرحلة وجود علته وسببه. وعلة كل شيء هي التي تقضي وجوده، وتقدر شكله ونوعه. ولا ينافي هذا الأصل الأصل المتقدم من إسناد الأحداث إلى قضاء الله وقدره ومشيئته وعلمه.
فإن الله، تعالى، هو مبدأ هذه السلسلة الطويلة من الأسباب والعلل في النظرية الدينية، وإليه تنتهي هذه السلسلة الممتدة من الأسباب والعلل.
وكلما يجوز إسناده إلى هذه العلل يجوز إسناده إلى الله تعالى كذلك، بالحقيقة. فهو مبدأ هذه السلسلة من العلل وخالقها، والمهيمن عليها.
3 ـ ويملك الانسان حرية الاختيار والتصرف، فهو يستطيع باختياره أن يضع نفسه أي موضع يشاء من هذه الأسباب والعلل، وله ملؤ الحرية في هذا الاختيار والتصرف وإن كان لا خيار له بعد ذلك فيما يترتب على هذا السبيل أو ذاك من خير أو شر.
فإن الإنسان يواجه في حياته مجموعة من العوامل والأسباب المختلفة، وكل عامل من هذه العوامل يقود الانسان إلى نتيجة حتمية، حسب قانون العلية.
ويقف الانسان على مفترق الطرق بين هذه العوامل والأسباب ليختار لحياته مسلكاً من هذه المسالك المختلفة، بحرية، ودون أن يرغمه على هذا الاختيار شيء.
وليس بين هذا الاختيار وحتمية النتائج التي يؤدي إليها اختياره من تناف.. فإن حتمية النتائج لا تؤدي إلى سلب اختيار الانسان في اختيار هذا السبيل أو ذاك من سبل. الحياة، وفي اختيار هذه الجهة أو تلك من هذه الجهات الكثيرة التي تعرض للانسان، وإن كان الانسان لا يملك بعد الاختيار أن يتجنب النتائج الحتمية التي يؤدي إليها اختباره.
فإن كل سبيل من هذه السبل علة لنتيجة محدودة وحتمية لا يمكن أن تتخلف عن سببها (بموجب قانون العلية).
وإنكار الاختيار في الانسان، واعتباره أداة متحركة بفعل عوامل خارجة عن إرادته واختياره، كما يتحرك الحيوان، وكما يتحرك النبات والجماد بتأثير من عوامل خارجة عنها.. شيي يرفضه الوجدان.
فإن الكائنات الأخرى من غير الانسان ليس أمامها إلا سبيل واحد تسلكه، دون أن يكون لها اختيار في هذا السلوك، وتنتهي إلى نتائجها الحتمية بقانون العلية.
بينما الانسان يجد من نفسه بوضوح أنه يواجه دائماً أكثر من طريق واحد، ويقف دائماً على مفترق طرق كثيرة، في كل شؤون حياته وتحركاته، وأنه يملك ملء الحرية والاختيار في اختيار هذا السبيل أو ذاك، وفي اختيار هذه الجهة أو تلك.
وبذلك فليس من تناف بين (حتمية النتائج) التي هي نتيجة طبيعية لقانون العلية، وأساس لفكرة القضاء والقدر، وبين حرية الانسان (واختياره).
- شواهد على القضاء والقدر:
والقضاء والقدر بهذا المعنى أمر شائع عند الناس، ومفهوم لديهم، قبل أن يكون من قضايا الدين والفلسفة.
فإن القائد الذي يسعى لتطوير جيشه، وتزويده بأحدث ما يمكن من أسلحة، وتدريبه على أفضل الأساليب في الحرب ويأخذ لجيشه بالمبادرة في الحرب، ويختار له الموضع العسكري المناسب، بصورة أفضل وأقوى من العدو يكسب المعركة (بصورة حتمية).
بينما لو تقاعس القائد عن ذلك، ولم يهيئ لجيشه فرصاً وامكانات أفضل من فرص العدو وامكاناته، وكان العدو يتفوق عليه في متطلبات المعركة.. فسوف ينهزم في المعركة بصورة حتمية أيضاً.
وليس بين هذه الحتمية وذلك الاختيار تعارض أو تناف مطلقاً، وكسب المعركة في الحالة الأولى والهزيمة في الحالة الثانية كلاهما من قضاء الله وقدره.
إلا أن هذه الحتمية والقضاء الإلهي لا يعني أن القائد لم يكن يملك الاختيار في الحالتين معاً في تغيير أسلوبه في الإعداد للمعركة والتهيؤ لها.
- القضاء الإلهي في الأمم والجماعات:
ولا يختلف الأمر عما تقدم حينما نستعرض مسألة القضاء والقدر على صعيد اجتماعي.(200/1)
فمن قضاء الله أن الأمة عندما تكون واعية لما يراد بها من ظلم واستغلال، وحينما تكون مدركة لمسؤولياتها، وحينما تتحرك في استرداد حقوقها تسترجع مكانتها، وترد عن نفسها الظلم والاستغلال حتماً. وهذا قضاء الله.
وحينما تكون فاقدة للوعي، غير مدركة لمسؤولياتها، خامدة خاملة وراكنة إلى الظلم.. تتعرض لكثير من الظلم والاستغلال والاستبداد والنهب، وهذا أيضاً قضاء من الله.
وللانسان أن يختار بمليء حريته أياً من القضائين. والدين، بعد ذلك يأمر باختيار نوع من هذا القضاء، وينهي عن اختيار نوع آخر منه.
فهو يوجه المجتمع إلى الوعي والإدراك والتحرك والصمود، وينهى عن الجبن والتخاذل والركون للظلم.
(فاستقم كما أمرت، ومَن تاب معك، ولا تطغوا، انه بما تعملون بصير، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) هود/ 11-112.
وهذه الحقيقة يذكرها القرآن في أوضح وأوجز ما يكون من بيان.
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد/ 11.
فلا يغير الله ما بقوم من نعمة وعدل إلا أن يبدأ الناس أنفسهم بالظلم والإفساد، ولا يغير ما بهم من فساد إلى صلاح إلا أن يبدأ الناس أنفسهم باصلاح واقعهم.
- نتيجة البحث:
ومما تقدم من حديث في استعراض قضية القضاء في الدين يتبين لنا أمران:
أولاً: ان الإيمان بنشوء الأحداث الاجتماعية مطلقاً عن قضاء وقدر من الله سبحانه وتعالى لا يعني اعطاء تبريرات دينية، كما يقول ماركس، لهذه الأحداث.
فلا يبرر القضاء والقدر وجود فوارق وامتيازات طبقية في مجتمع ما، كما لا يبرر الإيمان بالقضاء والقدر تخلفاً اقتصادياً أو عسكرياً، أو هزيمة في الحرب، أو رسوباً في الامتحان، أو فشلاً في الحياة.
وإنما مهمة النظرية، كما تقدم، هي اعطاء تفسير كامل للأحداث الكونية والاجتماعية في تسلسلها الطبيعي وربطها بالقضاء والقدر في تسلسل هذه الأسباب وتعاقبها. فهو تفسير متكامل للأحداث الاجتماعية، وليس تبريراً.
ثانياً: ان الدين يفترض أن الانسان مزود بحرية الاختيار بين أنحاء قضاء الله وقدره، وعليه تقع تبعية الاختيار ومسؤوليته، فإن الحرية بقدر ما ترفع عن كاهل الانسان الإجبار والاضطرار تضع على عاتقه مسؤولية الاختيار وتبعاته.
(إنا هديناه السبيل إما شاكراً، وإما كفوراً) الدهر/ 3.
(فمن شاء فليؤمن، ومَن شاء فليكفر) الكهف/ 29.
فلا يعني الإيمان بالقضاء والقدر رفض المسؤولية، والغاءها من حياة الانسان، فإن الإيمان بالقضاء والقدر لما كان لا يسلب الانسان حريته، فإنه يضعه وجهاً لوجه إزاء مسؤولية أعماله واتجاهاته وتصرفاته، وما يؤول إليه أمره من شقاء وبؤس.(200/2)
الأبعاد السلبية للذنوب
* مهدي الفتلاوي
ان كل ما اعتبره الاسلام ذنباً أو جرماً، أثبت الواقع أنه بطبيعته داع إلى فساد الانسان وشقائه، وهو بالتالي أما ينتهي بضرر مباشر أو غير مباشر على الحياة الفردية أو الاجتماعية.
وهكذا تجد العلم دائماً يلتقي مع الدين، وإن كان بعد حين، فاذا تصفحنا النصوص الاسلامية التي تحدثت عن أضرار المعاصي سوف نجدها دائماً تعلل جميع المآسي والمشاكل والنكبات الفردية والجماعية بالجرائم والذنوب التي يرتكبها الناس، وهذا ما يدلل على أن الاسلام يطرح من خلال هذه النصوص، نظرية متكاملة وقانوناً ثابتاً يرى على ضوئه أن جميع ما يواجهه الانسان في حياته من أضرار مادية ومتاعب نفسية ما هي إلا نتيجة تخلفه عن القوانين الإلهية التي تتجسد في رسالات السماء للانسان، قال الله سبحانه وتعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) الشورى/ 30.
وفي حديث للإمام محمد الباقر (ع)، قال فيه: (ما من نكبة تصيب العبد إلا بذنب).
فلكل ذنب إذاً ضرر خاص على الانسان، فالزنا والسرقة، والكذب والبهتان والظلم والخيانة، والتجاوز على حقوق الآخرين، والغيبة والفتنة والنميمة، كل هذه المحرمات تشبه الجراثيم التي تصيب الانسان وتؤدي إلى هلاكه عندما لا يعالجها..
- أثر الذنوب على القلب:
للذنوب أثر كبير في تلويث النفس وأمراضها، والإكثار منها يحدث قسوة وظلمة في القلب وهذه القسوة كثيراً ما تؤدي بالانسان إلى الجرأة على ارتكاب أبشع الجرائم وأكثرها خطراً على حياة الفرد والمجتمع، وأوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة، فقال: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة..) البقرة/ 74.
وروي عن الإمام الصادق (ع) كذلك، أنه قال: (ما من شيء أفسد للقلب من خطيئته، أن القلب ليواقع الخطيئة، فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله).
لذلك أمر الاسلام (المسلم أن لا يستهين بذنب، ولا يستصغر معصية، وأن يحاسب نفسه ويستغفر الله كلما أذنب أو عصى لتتسع المسافات والأبعاد النفسية بينه وبين المعصية وليبقى) نقي القلب طاهر السريرة، فلا تترك المعاصي الطارئة عليه أثراً في قلبه وضميره.
- اقتراف الذنوب ينسي العلم:
روي عن رسول الله (ص)، أنه قال: (اتقوا الذنوب، فانها ممحقة للخيرات، ان العبد ليذنب الذنب فينسى به العلم الذي كان قد علمه..).
ولهذا قال علمائنا الأبرار: (ينبغي لطالب العلم أن يحسن نيته، ويطهر قلبه من الأدناس ليصلح لقبول العلم وحفظه واستمراره).
- ارتكاب الذنوب يسلب الخشوع:
أما فيما يتعلق بدور المعاصي في سلب الخشوع من قلب الانسان وأثرها في إبعاده عن العبادات والأعمال الصالحة، فان الروايات عن أهل البيت (ع) كثيرة جداً بهذا الصدد، فقد روي عن النبي الأعظم (ص)، أنه قال: (اتقوا الذنب فانها ممحقة للخيرات، أن العبد ليذنب الذنب فينسى به العلم الذي كان قد علمه، وان العبد ليذنب الذنب فيمنع به من قيام الليل، وان العبد ليذنب الذنب فيحرم به الرزق، وقد كان هنيئاً له).
ومما يذكر في هذا الموضوع، ان رجلاً جاء إلى الإمام علي (ع) وقال له: (إني قد حرمت الصلاة بالليل، فقال له الإمام: أنت رجل قد قيدتك ذنوبك).
- الذنوب تمنع استجابة الدعاء:
ذكر علماؤنا الأعلام أن من أهم شروط استجابة الدعاء ـ بعد إخلاص النية ـ هو ترك الذنوب، وقد استدلوا على ذلك بروايات رويت عن أئمة أهل البيت (ع)، منها قول الإمام محمد بن علي الباقر (ع): (ان العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجب قريب أو إلى وقت بطيء، فيذنب العبد ذنباً، فيقول الله تعالى للملك: لا تقض حاجته، وأحرمه إياها، فانه تعرض لسخطي واستوجب الحرمان مني).
- ارتكاب الذنوب يزيل النعم:
وقد ذكر القرآن ذلك، فقال: (.. كفروا بآيات الله، فأخذهم الله بذنوبهم، ان الله قوي شديد العقاب، وذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وان الله سميع عليم) الأنفال/ 52-53.
وينقل عن الإمام جعفر الصادق (ع)، أنه سمع أباه يقول: (ان الله قضى قضاء حتماً ألا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة).
وروي عنه كذلك أنه قال: (الذنب يحرم العبد الرزق).
- ارتكاب الذنوب ينزل البلاء:
قال الله سبحانه في كتابه الكريم: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) النور/ 63.
وروي عن الإمام محمد الباقر (ع) أنه قال: (ما من نكبة تصيب العبد إلا بذنب).
وهكذا يتضح لنا أن اقتراف الذنوب عمل مهدد لحياة الانسان بكل جوانبها .. ولهذا كان الأئمة من أهل البيت (ع) دائماً يحثون المؤمنين بأساليبهم التربوية الخاصة على ضرورة تربية الذات ومحاربة النفس الأمارة بالسوء، وقطع الطرق المؤدية بها إلى المعصية.(201/1)
الأحداث بين المبادئ والأهواء
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى :
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
الأحداث بين المبادئ والأهواء .. موضوع حديثنا نقف فيه مع بعض الأحداث ؛ لنرى مقتضى المبدأ مستنداً إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحقيقة الفعل منطلقا من الأهواء والمصالح والشهوات بما تشتمل عليه من ظلم وعدوان وفساد وإفساد، ولا شك أن مرادنا من ذلك أن نعيش واقعنا في ضوء منهجنا، وأن نقوم مواقفنا بالاستناد إلى مصادر تشريعنا، وأن نعرف مواطن أقدامنا بالنظر والتأمل والاقتفاء لخطوات ومواقف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لسنا نريد شريط أنباء ولا رواية أخبار، غير أنا نريد جوهر الأمر الذي نخلص منه في الآخر إلى توجيه ينبغي أن ننتفع به وأن نستفيد منه على مستوى كل فرد وعلى مستوى المجتمع والأمة كلها.
محاولة الإجرام الإرهابية الفاشلة لتفجير منشآت نفطية في المنطقة الشرقية ؛ حدث كان في الجمعة الماضية، لا شك أن الباحث له عن أي مبدأ ومستند في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجد ما تقوم به حجة ولا يستقيم به دليل ، بل ولا تظهر فيه آثار شبهة ، بل حتى لو رجع إلى مبادئ بشرية أو قوانين وضعية فلن يجد لهذا الفعل مبرراً أو مستندا يسوغه بحال من الأحوال.
أما ديننا فنحن نعلم كيف يجرم ويحرم ويعظم الدم المسلم، ومال المسلمين، وأمنهم وأمانهم واستقرار أحوالهم، كل ذلك نعرفه ونعرف ما كان يرجف به كثير من الناس ويلبسون به على الناس، إن كنتم أو إن كان مثل هذا الفعل في سابق أمره يقول إنه يستهدف الكفار غير المسلمين الذين فيهم وفيهم ومنهم ومنهم، لكننا رأيناه من بعد وهو يتوجه إلى رجال الأمن بدعوى أنهم يحرسون ذلك، وأنهم يدافعون عنه فاستحقوا العقوبة مثله لكنا وجدنا بعد ذلك أن الحقيقة تتضح وأن الخرق يتسع ، وأن الرؤيا الظالمة المظلمة، وأن الفكر الجانح الخاطئ الذي يشتمل على تكفير كثير من الناس وعلى تفسيق المجتمعات، وعلى تبديع وإنكار سائر الأحوال يحلل ويبرر قتل كل أحد وإتلاف كل مال وإخلال كل وضع مستقر ومستتب، وتأتي هذه المحاولة اليائسة ضمن هذا الإطار والسياق.
ولسنا في حاجة إلى أن نقول إن هذا الأمر بمقتضى الشرع والدين في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وفقه الفقهاء، واستنباط العلماء، محرم لا شك في حرمته، بل إننا ندرك من كتاب ربنا أن الأمر فيما هو أيسر من ذلك معظم تعظيما كبيرا، كما جاء في قول الله عز وجل في قصة ابني آدم:
{ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين }
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من نفس تقتل إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها )
قتل واحد خسارة عظمى، والتقدم في هذا الصدد وكون الفاعل قدوة، جريرة يتضاعف وزرها، ويتعاظم إثمها وتتكاثر سيئاتها ظلمات بعضها فوق بعض ، ( إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها) كما صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحق جل وعلا يقول: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } ؛ لأن ذلك ذريعة لاستحلال الدماء ، وإباحة إزهاق الأرواح واختلال الأمن وانفراط عقد الجماعة، وانحلال هيبة ونظام الدولة والأمة وكلها مفاسد عظيمة، حتى قال ابن بطال رحمه الله في المنع الذي وردت به أحاديث كثيرة عن الخروج على الإمام أو ما يؤدي إلى ذلك قال : " المنع منه فيه تسكين الدهماء ومنع إراقة الدماء " .
ونجد كذلك التعظيم الذي ندركه ونعرفه في قتل امرئ مسلم واحد فيما جاء في كتاب الله: { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً }
حتى قال بعض أهل العلم - وإن كان القول مرجوحا-: " إن القاتل للمسلم لا توبة له"
وأما ما وراء ذلك من إتلاف الأموال واختلال الأمن فحسبنا في ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الأعظم في يوم الحج الأكبر، في يوم الحشد الأشمل الذي كان يقرر النبي صلى الله عليه وسلم فيه مبادئ الإسلام العظمى ويؤكد حرماته الكبرى فيقول : ( ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ألا هل بلغت اللهم فاشهد )
ذلك تقرير واضح .
ثم للنظر أيها الأخوة إلى المخاطر الأخرى ؛ فإن وضوح الرؤية في هذا الأمر بعد صدور فتاوى العلماء ووضوح رأي العقلاء ؛ فإنه لا مجال لتعلق بوهم خاطئ ولا بتبرير بعيد غير سائغ لأن مثل هذا هو نوع من الضلال والانحراف في الفهم الصحيح لحقائق وشرائع وأحكام الإسلام وهو من جهة أخرى قد يكون ذريعة من ذرائع ترويج هذا الأمر والفكر وما ينبني عليه من قبائح الأعمال الفاسدة المفسدة، ولذلك نستحضر هنا حديث أبي هريرة عند ابن ماجة في سننه بسند فيه رجل مضعف، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله وهو منه براء ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم .(202/1)
ولفظ رواية ابن ماجه : ( لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله ) والحديث فيه ضعف شديد لكن المعنى من خلال نصوص الآيات من حيث التحذير والوعيد فيه دلالة عظيمة.
ومن هنا ينبغي لنا الانتباه إلى هذا القضية ولننظر إلى جوانب أخرى لنرى مزيداً من الأضرار التي تلحق بأمة الإسلام من مثل هذه الأفعال، فبعيداً عن الحرمة والفساد والإفساد التي يترتب على مثل هذا الفعل لننظر إلى النتائج الأخرى بينما الأمة في أعظم صور توحدها وتجمعها انتصارا لرسولها صلى الله عليه وسلم، وبحثا لشئونها لكي ترجع إلى كتاب الله سنة رسوله وتحسن مواجهة أعداءها والانتصار لدينها تأتي مثل هذه الحادثة لتكون فتّاً في العضد وتشويها للسمعة وذريعة للأعداء لمزيد لمواصلة حملات الإعلام المشوهة المغرضة، وتأتي كذلك لتكون سببا في إرباك الأعمال التي يمكن أن تكون خيرا للإسلام والمسلمين عندما تمضي أو يمضي بها الأخيار والأبرار من العلماء والدعاة والمصلحين في أمة الإسلام .
ننظر كذلك وإذا بها أي مثل هذه الحادثة تبعد الضوء عن فضائح الأعداء التي تتوالى اليوم في فضائح التعذيب في العراق وفي فضائح الجرائم في أرض الإسراء وفي غيرها، فإذا بالأنظار تتوجه هنا ويقال هذا هو الإسلام أو يقال هذا هو الإرهاب الإسلامي أو يقال كذا وكذا ليغطى بعد على تلك الجرائم، وغير ذلك مما يمكن أن ينظر فيه فنبرأ إلى الله عز وجل من مثل هذا الفعل أو تسويغه أو النظر إليه بوجه من الوجوه التي لا تجعله في ما هو عليه على وجه الحق والصواب الذي بينه أهل العلم في خطأه وجرمه وحرمته وضلاله وزيغه وبعده عن حقيقة الإسلام وحقيقة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أننا ها هنا بحاجة أيضا إلى شكر الله عز وجل وحمده على نعمته التي يسرها وأجرى قدره بها بهذا الحفظ على يد من سخرهم من رجال الأمن الساهرين على حفظ الأمن ولهم بذلك أجر الله عز وجل ومثوبته بما كانت في قلوبهم من نية وما بذلوا من جهد وما عرضوا له أنفسهم من خطر، ولا شك أن مثل هذا الحادث لو كان قد وقع لكانت له أضرار عظيمة جسيمة خطيرة، لا يعلم إلا الله عز وجل مداها، وتلك نعمة ينبغي حمدها وشكرها، ولا شك أن حمد النعم وشكرها قولاً وفعلاً هو بالتزام الدين والتمسك به واقتفاء السنة والاعتصام بها ، والحرص على الوحدة والائتلاف والبعد عن الفرقة والاختلاف، فذلك الذي يحفظ علينا وحدة أمتننا وقوة دولتنا وانتظام أحوالنا واستمساكنا الذي نريد أن يكون دائما وأبدا بديننا.
وقفة أخرى وحدث آخر - وليس للأحداث ترابط تاريخي غير أنها قريبة عهد بعضها ببعض - يحدثنا الأعداء كثيرا عن الديمقراطية، صمّوا بها آذاننا، وقالوا اجعلوا الحرية والاختيار للشعوب واجعلوا كل من يصل إلى سدة الحكم يكون وصوله إليها عبر صندوق الاقتراع الذي قالوا إنه الحكم الفصل، ولكنا رأينا بعد أن وصلت حركة الحماس الإسلامية الإرهابية كما يزعمون إلى سلطة، أو إلى سدة السلطة في أرض الإسراء أو في جزء من تلك السلطة التي تقوم الآن قالوا: كلا هذه الديمقراطية خاطئة وليست هي التي نريدها، وليس هذا فحسب، بل كل ما وقع وجرى من الانتخابات تقريبا بلا استثناء في كل الدول بعد الحادثة الشهيرة التدميرية في الولايات المتحدة، كلها كان الفوز فيها كما يقولون بمن يسمون بالاتجاه الإسلامي أو الإسلاميين، وليس ذلك إلا مصطلحا ربما يفهمه أو يريد أن يذكي فيه النار بعض الناس، ليقول هل الناس مسلمين وغير مسلمين، وليس هذا مرادنا، لكني أقول هنا، هنا تتضح المسائل، هل هي مبادئ أم أهواء ؟ هل هي قيم وأعراف وقوانين محترمة معتبرة مطبقة في كل حال وآن ؟ أم هي الموازين المختلة والمكاييل المختلفة ؟ ونحن بحمد الله عز وجل معاشر أمة الإسلام لدينا ما يعصمنا من الميل مع أهواءنا والسير مع مقتضى مصالحنا وإن ظلمنا أو جرنا فالقرآن يخاطبنا { ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}
هذا الذي يقوله لنا إسلامنا إن أبغضنا الكافرين أو المعتدين فإن بغضهم لا يحملنا على ظلمهم، بل ننصف ونعطي الحق لصاحبه وقدوتنا في ذلك رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، يوم قالوا في يوم فتح مكة : اليوم يوم الملحمة ، فقال: ( بل يوم المرحمة )
ويوم سأل عن سيد بني شيبة بعد الفتح وسلمه مفاتيح البيت وقال: (اليوم يوم الوفاء) تلك هي مبادئ الإسلام، تلك هي قيمه الرفيعة، ذلك هو تاريخه المضيء، وتلك هي حضارته السامية، فأين الغرب وأين الأمم المعاصرة لتقول لنا، هل وضعت مبادئها تحت أقدامها، أو رمتها وراء ظهورها، الواقع يقول ذلك ويصدقه، أما ديننا العظيم ؛ فإنه يبين لنا الحقائق التي ينبغي أن نكون عليها {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } .(202/2)
هل مثل هذا النداء في التربية الإيمانية والاستقامة المنهجية والاستمساك بالمبدأ في كل ظرف وحال كما قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم : ( والعدل في الغضب والرضا ) .
كان ذلك من دعاءه عليه الصلاة والسلام ، وتاريخ أمة الإسلام يخبرنا عن ذلك، وإلى يومنا هذا ؛ فإن الذين يستمسكون بالإسلام يعصمون أنفسهم من ذلك، ولكننا هنا نقول إن هذه الأمور تكشف الحقائق وتعري الحضارة المعاصرة والقوى الكبرى والعظمى التي تدعي أنها ترفع شعارات وتقوم بمبادرات لإقرار الحق وإقامة العدل وإعطاء حقوق الإنسان ، وهم أول جناتها وأعظم المخالفين لها والذين يستثنون أنفسهم من القوانين الدولية التي تشمل كل العالم ثم تستثني الدولة الكبرى، ولا يعلم أحد حتى ولو كان من الجاهلين أو الحمقى أن هذا الاستثناء له مبرر معقول أو منطقي إلا أنه لا يفهم منه إلا معنى واحد وهو أنني سأرتكب الجرم ولا أريد أن أعاقب كغيري، وهذا واضح ظاهر لم يعد اليوم خفيا، ليست معتقلات غوانتنامو ولا معتقل أبوغريب وإنما هو أكثر من ذلك، فالحقيقة ظاهرة تكشفها بعض السوءات القبيحة لكن الأمر هو كله سوأة في جملته.
ووقفة ثالثة أيضا في الحدث الذي لا زلنا نعيشه، ولا زلنا وينبغي أن نظل نعيشه وننتبه له أمر المقاطعة الاقتصادية التي كانت مع هبة الغضبة الإسلامية لنصرة خير البرية صلى الله عليه وسلم، من البضائع الدنمركية وغيرها قالوا لنا إن هذا نوعا من التطرف وشيئا من التمييز وتصرفات هوجاء وغير ذلك مع أننا نعلم أن نص القانون الدولي الذي يعظمونه ويقدسونه كأنه وحي منزل يقول: إن الأمم المتحدة تتخذ العقوبات الاقتصادية وسيلة من الوسائل القانونية لردع من يخالف التوجهات أو المصالح العالمية، بل وتشتمل المقاطعة على حظر الطيران وعلى حظر الاستيراد وعلى حظر النشاطات الاقتصادية وقد طبق ذلك ورأينا ثماره المجرمة في أثناء حصار العراق قبل الحرب، يوم كان الأطفال يموتون كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف، ويوم كان الحصار الجائر على ليبيا كذلك، ورأينا كل هذا وكان انتصارا للحق والعدل، وكان تطبيقا للقانون واحتراما له، فلما جاء المسلمون بعفوية شعبية يريدون أن يحموا دينهم وأن يرفعوا رؤوسهم وأن يعتزوا بقيمها وأن يفدوا رسولهم صلى الله عليه وسلم بكل ما يستطيعون، يقال لهم إن هذا كذا وكذا أو غير ذلك عجيب أمر هذا.
ولعلي هنا أن أقف وقفة مع آية أتمنى أن نتأمل فيها كثيرا وأن نعود إلى قراءتها وقراءة تفسيرها، وليست آية واحدة بل جملة من الآيات من سورة الشورى، إنها في الحقيقة تمثل صورة مشرقة عظيمة، وهي واحدة من كل الصور المشرقة في كتاب ربنا وشريعة إسلامنا تأملوا هذه الآيات في وصفكم معاشر المسلمين الذين يلتزمون دينهم: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}
وسنتم بقية الآيات، الله عز وجل يصف، صورة من الكمال كما قال ابن السعدي في تفسيره، قال:
"وصفهم بالكمال والاستجابة لأمر الله، وإقامة الصلاة والشورى فيما بينهم والإنفاق والبذل بالإحسان للخلق، وكمل ذلك {وإذا أصابهم البغي هم ينتصرون}، إن وقع الظلم عليهم أو حل الجور بهم، أو نزل العدوان في أرضهم فإنهم لا يرضون ذلا ولا يغضون عن عدوان، ولا يطأطئون رؤوسهم ولا يرجعون إلى الخلف فارين ولا هاربين، ولكن كما قال الله عز وجل:{والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}"
قال ابن كثير رحمه الله:
"أي فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ليسوا بعاجزين ولا أذلة بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا " .
وساق ابن كثير هنا مواقف عظيمة من عفو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم عن كثير ممن توجهوا بالإساءة إليه، لكن العفو لم يكن إلا بعد أن قدر عليهم وبعد أن كان في موقف العزة وبعد أن أظهر عظمة الدين والحمية الإيمانية والغيرة الإسلامية، والحادثة معروفة في الرجل الذي اختطف السيف والرسول نائم تحت الشجرة وقال: من يمنعك مني يا محمد، فأجاب بلسان اليقين وبثبات المؤمنين:
(الله) فارتعد المعتدي وسقط السيف من يده وأخذه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وأصبح القادر العزيز، قال: (من يمنعك مني ) ، قال: كن خير آخذ يا محمد صلى الله عليه وسلم، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تتمة الآيات في هذا المعنى : {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر من بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس بغير الحق وأولئك لهم عذاب عظيم * ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور } .
هنا أمران، إذا ما بغي عليهم وأصابهم البغي ينتصرون، ثم آيات فيها المغفرة وفيها العفو.(202/3)
قال ابن العربي رحمه الله في بيان هذا كلاما نفيسا يستحق أن نعرفه وأن نفهمه وأن نطبقه كذلك، قال: " هما حالتان - ثم بين فقال:- كل واحدة راجعة إلى حال، إحداهما: أن يكون الباغي معلنا بالفجور وقحا في الجمهور مؤذيا للصغير والكبير فيكون الانتقام منه أفضل"
وفي مثله قال إبراهيم النخعي رحمه الله: " كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق "
والحالة الثانية: أن تكون الفلتة - يعني غلطة عابرة - ويقع ذلك ممن يعترف بالزلة ويسأل المغفرة فالعفو هنا أفضل - ثم ساق من الآيات ما يدل على ذلك - {وأن تعفو أقرب للتقوى} {فمن تصدق به فهو كفارة له} بعد أن يكون لك الحق في أخذ القصاص تندب للعفو" .
{وليعفوا وليصفحوا ألا يحبون أن يغفر الله لهم} في قصة أبي بكر الشهيرة.
إذاً ونحن في هذا الموقف في موقف الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم، ينبغي أن نتحقق لهذا، أصابنا البغي، نعم! أصابنا البغي ليس من هؤلاء فحسب، بل ممن قبلهم من اليهود الصهاينة الغاصبين في أرض فلسطين، ومن يعينهم ومن وراءهم من القوى الكبرى التي تدعمهم سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وهؤلاء الذين أساءوا إلى خير الخلق صلى الله عليه وسلم وإساءتهم لا تضره فهو أكرم وأشرف من أن يصله إساءة من أحد بل من الخلق كلهم لأن الله عز وجل أكرمه ورفع قدره وعظم شأنه عليه الصلاة والسلام ولكننا نقول إنه لا بد لنا أن نتحقق بقول الله: {والذين إذا أصابهم البغي هن ينتصرون } .
أظهروا عزتكم واصلوا مقاطعتكم، واصلوا كل ما من شأنه أن يثبت تمسككم بدينكم واعتزازكم بإيمانكم واستعلاءكم على كل أعداءكم، لئن لم نملك شيئا من أسباب المادة أو بعض القوى العسكرية فنحن نملك الإيمان الراسخ، ونملك الإسلام الكامل ونملك الهداية والقدوة العظيمة في سيرة خير الخلق صلى الله عليه وسلم، نملك ما لا تملكه تلك الشعوب كلها التي فقدت مقومات كثيرة في مبادئها وقيمها، بل هي اليوم كما نقول تكسر هذه المبادئ وتطؤها بأقدامها وتلعنها بأفعالها، وتتعرى في حقيقتها كما هي فينبغي لنا أن ندرك ذلك ولا ينبغي لنا أن نبادر بعفو قبل أن يكون هناك ما يستدعيه مما هو مبني على بيان تلك الزلة والاعتذار منها وطلب العفو منها، وإلا فما قيمة ما فعل.
وهنا تنبه لقول الله عز وجل : { فمن عفا وأصلح } .
قال أهل التفسير: "معنى أصلح أن يكون العفو مؤديا إلى تحقيق مصلحة وليس إلى غيرها"
أن تعفو عن ظالم ما زال ظالما ومازال يقول إنه ظالم، ومازال يعلن إنه ظالم وما زال يقول إنه سيظلم، ومازال يعد عدة لظلمه، أي عفو هذا؟ وأي سلام هذا؟ إنه الحمق الذي ليس وراءه حمق، وهو الذل الذي ليس وراءه ذل، فنربأ بأنفسنا والله عز وجل قد وصفنا بهذا الوصف العظيم من الاستجابة والصلاة والشورى والإنفاق والانتصار من بعد البغي والظلم نسأل الله عز وجل أن يعظم الإيمان في قولبنا والحمية في نفوسنا والعزة بإيماننا والاستمساك بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم .
أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
والأحداث أحبتي الكرام كثيرة ومن هذه المبادئ وتلك الأهواء نرى صوراً عجيبة ولست بقادر أن أذكر ما أحب من الأحداث، غير أني أقف وقفة سريعة في حدث عابر حديث أيضا ليخلص إلى ما تريدونه، وتسألون عنه وهو لما تحدثنا عن هذه الأمور، ليست لنا بها صلة ليست لنا فيها تأثير .
أقول حدث في ندوة في بلادنا في ظل الثقافة وفي ظل المعرفة وفي ظل القراءة والكتاب، ندوة تشن مرة أخرى حملات شنيعة على مناهج تعليمنا، وذلك في شيء ظاهر أو غير ظاهر يتعرض لبعض ثوابت ديننا، ويظهر ذلك أيضا بين المبدأ والهوى بين الوطنية ومراعاة المصالح الاجتماعية للبلاد والمجتمع، وبين الأهواء التي تسير مع الشرق والغرب وتحذو حذو القذة بالقذة من ليس من أهل ديننا ولا ملتنا، كأنما نستحضر ونخشى أن يتحقق حديث النبي صلى الله عليه وسلم، يوم قال : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: فمن) أي فمن غيرهم.
كم نرى من يتكلم بألسنتنا لكنه يقول كلام أعداءنا، كم نرى من ينتقد أوضاعنا لكنه يرمي بسهام أعداءنا، ولذلك نقول: الخلاصة التي نريدها، لم نتحدث عن ذلك، لنقول إننا في حاجة إلى أمرين مهمين:
الأمر الأول: اليقين التام والجزم القاطع بأن مخرجنا من كل فتنة وبأن قدرتنا على مواجهة كل خطب، إنما هو بالاستمساك بديننا، ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي ) .(202/4)
لا بد أن نوقن بذلك لن نخرج من أي مشكلة عندما نبحث عن هذا الحل من الشرق أو تلك المسألة من الغرب بحال من الأحوال، وينبغي أن نقول ذلك ليس على سبيل الإجمال بل على سبيل التفصيل، في هذه الخطبة وغيرها عندما كنت أريد معالجة أمر من الأمور التي تقع أبحث في الآيات وأجتهد فكأنما أرى الآيات تنزلت اليوم تخبرنا عن هذا الذي رأيناه، أليس تحدثنا من قبل عن شأن المقاطعة فوجدنا ما يدل على تشريعها بنص واضح في أمور كثيرة متصلة بهذا كقوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب والكفار من قبلكم أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } .
أليس هذا نص واضح أليست هذه القضايا التي نتحدث عنها { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } .
تحكي واقعاً وتحكي صوراً، ونراها تفسيراً ونقرأها سيرة فكأنما نحن على بصيرة من أمرنا في كل شيء كأنما وقع اليوم وكأنما تنزلت آياته اليوم.
وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم فيها كل جانب من جوانب الحياة إذا وقع وجدنا فيه نوراً وإضاءة وإرشاداً ومنهجاً، ولذلك لا بد أن يكون هذا هو الذي يستقر في أذهاننا ويسكن في قلوبنا ويرى في واقعنا ، والذين يقولون بغير هذا والذين يصفون مثل هذا بأنه نوع من الرجعية أو نوع من الجمود، فنقول إن كان هذا على بصيرة العلماء وعلى بيان الكتاب والسنة هو ذلك الذي تقولونه فنحن نفتخر بأننا رجعيون وجامدون إن كان جمودنا هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللذين جعلهما الله عز وجل صريحة صالحة لكل زمان ومكان وحفظهما من التغيير والتبديل لعلمه بأن هذه هي الرسالة الخاتمة وأن هذا المصطفى صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين وبأن هذا الإسلام هو دين الله عز وجل للعالمين إلى قيام الساعة.
والأمر الثاني أيتها الأخوة الأحبة: أن نحرص على تحقيق ذلك، أي على تحقيق الاستمساك بالدين وذلك بالحرص على الائتلاف والوحدة والابتعاد عن الاختلاف والفرقة.
النظر إلى أقوال أهل العلم المخلصين، والتشبث بما يجيء عن الدعاة العاملين حتى نكون قلبا واحدا، لا ينبغي أن تفرقنا الأهواء لا ينبغي كذلك أن نسير وراء كل ناعق، ينبغي أن نحرص على وحدة أمتنا ومجتمعنا، وعلى أمن دولتنا وحكومتنا ؛ لأننا بذلك نحفظ ما يستقيم به أمرنا وما يمكن أن نتمسك بديننا، فعلينا لكي نحقق ذلك، أن نحفظ الحق المشروع لولاة الأمر، وأن نعرف الواجب المطلوب لأهل العلم، وأن نلتزم في أنفسنا بما يجب علينا في ذلك، علّ الله عز وجل أن يتداركنا برحمته وأن يعمنا بفضله، وأن يجعل لنا في كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل فتنة عصمة ومن كل بلاء عافية.(202/5)
الأخطاء قواعد ومطالب
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
المقدمة
نعرج فيه على بعض قواعد الفهم ، ومطالب العمل في شأن الأخطاء التي تقع من الناس عموماً على اختلاف مراتبهم ، وعلى اختلاف قدرهم من العلم وحظهم والتقوى ، ونبدأ بتعريف يسير للخطأ حتى يكون مدخلاً لما بعده .
الخطأ لغة : ضد الصواب ، ويقولون في الخطأ أنه : " ما وقع على غير الصواب من غير تعمد" ، وأما الخِطأ فهو الذي يكون فيه التعمد ، وقال بعضهم : " المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره ، والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي " ، وأيضاً هذا المعنى واضح في أن الخطأ هو الذي يكون في غالب الأحوال من غير عمد ، ويكون سهواً ، ويقولون خَطِأ إذا تعمد ، وأخطأ إذا لم يتعمد .
الخطأ اصطلاحا : قال الجرجاني : " هو ما ليس للإنسان فيه قصد" ، أي العمل الذي يقع من الإنسان من غير قصده لذاته ، إما أن يكون قاصداً غيره فيخطئ ، أو لم يكن قاصداً لشيء فيقع منه الخطأ ، أو هو يقصده وهو يظنه خيراً وصواباً وهو على غير ذلك ، وقال في تتمة كلامه : " وهو عذر صالح في سقوط حق الله إذا حصل عن اجتهاد ويصير شبهة في العقوبة ، أي مما تدرأ في الحدود في بعض الأحوال " .
القسم الأول : القواعد المهمة المتعلقة بذات الخطأ وطبيعته
القاعدة الأولى : كل ابن آدم خطاء
وهذه قاعدة مأخوذة من نص نبوي كريم ، تدل عليها نصوص كثيرة ، ويشهد لها الواقع في كل زمان ومكان ، ويشهد لها الواقع في حال كل فرد في تقلبات أحواله ، وفلتات لسانه ، وأعمال جوارحه ونحو ذلك .
ومن شواهد الأدلة على ذلك قوله سبحانه وتعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافاً كثيراً } ، فهذه الآية تتعلق بأخطاء الأقوال ، والآية في عمومها أن كل كلاماً ، وكل قول وكل حكم غير ما كان عن الله عز وجل ، وما كان تبليغاً عنه سبحانه وتعالى ؛ فإنه لا يسلم من المعارضة والمناقضة ووجود الخطأ ، قال الشافعي رحمه الله : " قد ألَّفَت هذه الكتب ولم آلوا فيها جهداً - أي قد اجتهدت فيها مبلغ غايتي - ولابد أن يوجد فيها الخطأ لأن الله يقول : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } " . والمزني تلميذه وصاحبه قال : " لو عورض كتابٌ سبعين مرة - أي مراجعة وتدقيقاً وتحقيقاً - لوجد فيه خطأٌ ، أبى الله أن يكون كتاب صحيحٌ غير كتابه " .
وهذا له كما قلنا شواهد كثيرة ، وقد قاله الأئمة والعلماء ، ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : { كل ابن آدم خطّاء } ، وقد رواه الإمام أحمد في مسنده ، والترمذي في سننه وحسنه ، وابن ماجة بسند حسن ، وقال الترمذي - رحمه الله - في تعليقه على بعض المعاني المتصلة بهذا الحديث : " لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم ، مع ما كانوا عليه من العلم والحفظ والضبط ، لا يسلم أحد من الوقوع في الغلظ والخطأ " وهذه أدلتها كثيرة .
ومن شواهد ذلك أيضاً ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء الله بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر الله لهم ) ، والحديث أخرجه الإمام مسلم ، والشاهد منه أنه لا بد من وقوع الذنب ، ولكن المطلوب الاستغفار ، وليس هذا تبرير للذنوب ، ولا دعوة إليها عن ما فطر عليه الناس وعن ما قضاه سبحانه من النقص والقصور ، وما يترتب على ذلك من حِكَم جليلة من كون العبد يفتقر إلى مولاه ، ويحتاج إليه ، وتظهر عليه - كما ذكر ابن القيم ، وكما ذكر ابن أبي العز والعلماء - تظهر كثير من أسماء الله الحسنى ومدلولاتها ، كالتواب والرحيم والغفار كلها بدلالة ، أو من خلال وقوع الخطأ من الناس وعودتهم إلى الله سبحانه وتعالى ، ومما قاله ابن القيم أيضاً في هذا المعنى : " كيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوماً جهولاً " ، أي بيّن الله أن الإنسان في طبعه ظلومٌ وجهولٌ ، فكيف يكون مبرأ من الوقوع في الخطأ ، وسئل الإمام أحمد عن بعض الأئمة أيغلط ؟! فقال : " أليس هو من الناس ما دام من الناس ؛ فإنه لا يأمن من الخطأ ولا يسلم منه " ، وعن الإمام مالك : " من ذا الذي لا يخطئ " .
وكما قال القائل :
من ذا الذي ما ساء قط **** ومن له الحسنى فقط
وهذه مسألة من المسائل أو قاعدة مهمة ، فهمها ينبغي أن يكون حاضراً في الأذهان ؛ حتى لا يكون هناك مبالغة وشدة في غير موضعها ، والصحابة قد أعلموا أنهم قد يقعون في الخطأ أمام مجامع الناس ، فهذا أبو بكر في خطبته عندما تولى الخلافة قال : " أطيعوني ما أطعت الله فيكم ؛ فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم " ، ومعلوم أنه لا يقصد أنه يعصي الله - عز وجل - إلا عن خطأ أو غلبة ظن أو نحو ذلك ، وعمر رضي الله عنه كان يقول : "إذا رأيتموني اعوججت فقوموني " وهذه شواهد كثيرة .
القاعدة الثانية : خير الخطّائين التوّابون(203/1)
وهذه قضية مهمة أن من تاب تاب الله عليه ، ومن صدق نيته وأخلص لله فالله يقبله ، و إن كان الحق متعلقاً بين العبد وربه ؛ فإن تاب واستغفر وأناب فأمره إلى الله إن قبل منه ، أو عذّبه بقدر ذنبه ، فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى ، ومن تاب وعلِمنا منه تغير حاله من خطأ إلى صواب أو من منكر إلى معروف ، أو من سيئة إلى حسنة ؛ فإنه لا يسوغ حينئذ أن نشهر به بخطأه ، ولا أن نقع في إلزامه بهذا الخطأ ، وأن تبرأ منه وإن أعلن رجوعه عنه ؛ فإن من تاب تاب الله عليه ، ومن أناب إلى الله عز وجل قبله وإذا كان الله تعالى يقبله ويتوب عليه ، ثم يأتي الخلق الذين ليس لهم شيء من الأمر فلا يقبلون التوبة أو يكون في صدورهم حرج ! فيقولون : " وإن تاب فإنه قد فعل " ، سبحان الله ! والله سبحانه وتعالى في كثير من الآيات عندما ذكر مغبة الأمور من الأخطاء وعقابها ؛ فإنه كان كثيراً يأتي بالاستثناء : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } وقال جل شأنه : { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك يتوب الله عليهم } ويقول : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً } ، هذه آيات قرآنية ليس لأحد مطلقاً أن يعترض عليها ، ولا أن يقف في معانيها ومدلولاتها ، ولا أن يكون في نفسه حرج من عدم التسليم بموجبها ، والله سبحانه قد قص علينا في القرآن أن الاستغفار والتوبة هي التي تغسل الذنوب ، وتمحو آثارها ن وتزيل الأخطاء ، وتقيل عثرتها ، وفي قصة يوسف - عليه السلام - في شأن امرأة العزيز : { استغفري لذنبك } ، وقالت : { وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم } ،وحديث النبي – صلى الله عليه وسلم - في الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ، ثم سئل عن أعبد أهل الأرض فدلّ على راهب فاستفتاه في شأنه ، فقال له : " وأنى يتوب الله عليك ! " فقتله ، فكمل به المائة ، ثم سئل عن أعلم أهل الأرض فدلّ عليه فاستفتاه في شأنه ، وأنه قتل مائة نفس ، فقال له : " ومن يحول بينك وبين التوبة ! لكنك بأرض سوء فالحق بأرض فيها قوم صالحون يعبدون الله فالزمهم " فمضى فأدركته الوفاة في الطريق ، فكان أن قبله الله من التائبين .
ونحن نعلم أن من الصحابة من أسلم ومات ، ولم يركع لله ركعة ، والإسلام يجبّ ما قبله ، والتوبة تمحوا ما سبقها بإذن الله عز وجل ، وبعض الناس - كما قلت - لا تطيب نفوسهم ، ولا تطمئن قلوبهم ، وإن قال الإنسان إني تبت ، كيف وقد فعل ؟ فهذه مسألة مهمة أيضاً ، ويدخل فيها أمر بالغ الأهمية ، وهي أن الكفّارات مطهِّرات ، من أتى ذنباً ثم استغفر وأناب ، وأخذ العقوبة الشرعية إن كانت قد وجدت متطلباتها في حقه ؛ فإنه لا شيء عليه .
وقد وجد بعض هذا التحرج والأذى من التائب من المعصية في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيّن في حينها أنه لا وجه له أن يشمأز أو يتحرج التائب عن المعصية .. ففي قصة الغامدية التي زنت واعترفت ، وكانت مراقبتها لله عز وجل ، وندمها هو الذي ساقها إلى ذلك فقال : اذهبي حتى تضعي حملك ، ثم جاءت فقال : لها اذهبي حتى تفطمي رضيعك ، فجاءت بعد عامين والطفل يأكل كسرة خبز ، ثم أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجمت فجاء بعض شيء من دمها على خالد بن الوليد فقال -كما ورد في بعض الرويات الصحيحة - : لعنها الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لقد تابت توبة لو وزعت على سبعين منكم لوسعتكم ) ، وإن كان هذا الحد يقام على من أخطأ ؛ فإنه إن علمنا أنه تاب وشهدت الشواهد والقرائن بذلك ؛ فإنه يكون في النفس شيء من أنه قد أقيلت عثرته ، ومحيت زلته ، وقبلت - إن شاء الله تعالى - عند المولى توبته ، وقصة ماعز الأسلمي أيضاً شاهد في هذا والرواية في الصحيح ، وهذا أيضا أمر مهم من الأمور التي ينبغي معرفتها .
القاعدة الثالثة : ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم
وهذه مسألة مهمة ، من ارتكب حرام أو وقع في الإثم وهو جاهل ولا يعلم، وهو غافل لا يقصد ، وهو مريد للخير ولكن تلبس الأمر عليه فكيف لنا ـ وقد عافاه الله من الجُناح ورفع عنه الإصر والإثم وأزال عنه الذنب - أن نحمله نحن ما رفعه الله عز وجل عنه ؟! نعم يحتاج إلى تبيين ، ويحتاج إلى تعليم ، ثم تقام عليه الحجة إن عاد بعد العلم ، وإن قارف بعد البيان ، ولكن كما أخبر الحق عز وجل : { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ، ولكن ما تعمدت قلوبكم } والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليها ) ، أي رفع ما يترتب على الوقوع في الذنب خطأً أو نسياناًَ .(203/2)
وعندنا لذلك شواهد كثيرة من أحاديث كثيرة .. ( من شرب أو أكل ناسياً فإنه يتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه ) وكم من خطأ وقع من الصحابة - كما سنذكر من سياق حديثنا هذا - ما كانوا يقصدونه ، أو ما كانوا يعرفونه ، فلما جاء البيان رجعوا عنه وأفاءوا إلى الحق والتزموه . وقد ذكر أهل العلم في هذا كثيرٌ من المسائل الأصولية والفقهية المترتبة عليه ، ينبغي كما قلنا أن لا تغيب عن الأذهان .
القسم الثاني : القواعد المتعلقة بالمفاهيم
القاعدة الأولى : الأخطاء ولوازمها
وهذه مسألة مهمة ؛ فإن لبعض الأقوال لوازم ، وأهل العلم من أهل السنة يقولون : " إن لازم القول ليس بلازم لقائله إلا أن يلتزمه " ، أي لو قال كلمة وهذه الكلمة تدل بمدلولاتها على معانٍ فيها أخطاء كبيرة ، وهو لم يكن يقصد هذه ولا يلتزمها ؛ فإنه لا يلزم بهذه الأقوال ولا بتوابعها ، بل كثيراً ما يكون هذا الأمر مهم جدا أن نعرفه .
أنه لا بد من لفصل الفعل بطبيعته والقول في لفظه ، وبين ما قد يترتب عليه من أمور أخرى لم تخطر على بال الفاعل ، ولم ترد في ذهن القائل ، ومن الخطأ الذي يقع في التعامل مع الأخطاء أننا نقول : فلان قال ، ومعنى ذلك أنه يقول بمذهب كذا ومذهب كذا ، وأنه يرى كذا وكذا ، ونجعل من هذه تسلسلات كثيرة ، لا يعني ذلك نوع من الإغضاء عن الأخطاء ، وإنما معاملتها بموجب القاعدة الصحيحة والنظر في أمرها .
ومن ذلك حديث الرجل الذي كان يشرب الخمر ثم أتي به فجلد ، ثم عاد فجلد ، ثم أتي به أكثر من مرة فقال بعض الصحابة : " لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ) ، فأثبت له النبي صلى الله عليه وسلم الفضل في حبّه لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام ، وهذا خبر وحي ، وليس لنا أن نقول هذا في كل أحد ، ولكن الشاهد عدم التلازم بين الفعل ، وكل لوازمه إلا أن يكون في ذلك أصل بين أو قرينة تدل على هذا ، وقال في هذا الشأن شيخ الإسلام ابن تيمية : " ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعيِّن ما قام به ما يمنع من لحوق اللعنة به " ، إذا وجدنا أن هناك قرينة تدل على أنه لا يقصد ذلك ، أو لم يفعله عن معرفة بخطورته وعن حكمه ؛ فإننا نصرف عنه هذا القول .
وهذه أيضاً -كما قلنا - مسائل دقيقة تعرض لها أيضاً الشيخ الحكمي في كلامه على مسائل العقيدة عندما ذكر بعض ما يقوله بعض الناس من مقالات وهم لا يدركون مراميها ، ولا يعرفون مدلولاتها فقال : " ولكن هؤلاء منهم من عُلم أن عين قصده هدم الدين ، وقواعد الدين ، وتشكيك أهله فيه ، فهذا مقطوع بكفره ، وآخرون مغررون ملبس بهم ، فهؤلاء إنما يحكم بكفرهم بعد إقامة الحجة عليهم وإلزامهم بها " ، و كما قال أهل العلم : " فإن لازم القول ليس بلازم لصاحبه " .
خطوات في إلزام الخطأ
أولاً : أن يذكر اللازم للقائل فيلتزمه
ونقول أن كلامك هذا - مثلاً - يظهر منه أو يدل أنك تنكر فرضية الصلاة ! لو كان واحد يؤخِّر الصلاة - ولا شك أن هذا خطأ وإثم - ونقول أنت تؤخر الصلاة ، ومن لوازم ذلك أنك تستهين بها ، وأنك تستهين بالآيات الواردة في شأن ذلك ، والأحاديث الواردة في ذلك ، وممكن أن يكون قاصد هذا كافراً ، نحن نقول : " إن فعلك هذا يؤدي أو يلزم منه كذا وكذا ؛ فإن قال : نعم أنا أعرف هذا وألتزمه ،فهذا اللازم لازم له وإن نفاه فلا يكون لازم له .
ثانياً : أن يذكر اللازم للقائل فينفي التزامه به
إذا قلنا له إن قولك هذا يؤدي إلى كذا ، قال : " لا أنا لا أقصد هذا ، وإنما قلت هذا ولا أظنه كذلك " فلا نُلزمه به .
ثالثاً : إن كان اللازم مسكوت عنه
وهو أن يقول القول ولم يقل له أحد هل تقصد كذا هل تقصد كذا ، فلا يلزم به ، ولا يمنع ولا ينبغي أن ينسب إليه ، وفي هذا كما قال شيخ الإسلام : " الصواب أن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه ؛ فإن كان أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبٌ عليه " ، وهذا أيضاً قاله الشيخ السعدي عندما قال : " والتحقيق الذي يدل عليه الدليل أن لازم المذهب الذي لم يصرح به صاحبه ، ولم يشر إليه ولم يلتزمه ليس مذهباً ؛ لأن القائل غير معصوم وعِلْم المخلوق مهما بلغ فإنه قاصر ، فأي برهان يلزم القائل ما لم يلتزمه ويقوِّله ما لم يقل ؟! " ، فهذه قضية مهمة وأساسية .
القاعدة الثانية: الأخطاء ومدلولاتها
لا بد أن نعرف مدلول الكلام ، ومدلول الفعل ، وهو الذي يجعلنا بعد ذلك ننظر فنقول : " هل تفهم هذا ؟ هل تلتزمه ؟ " لكن كثيراً من الناس كما قالوا : " وما آفة الأخبار إلا رواتها " .. يرى فعلاً فهو في اجتهاده ، أو بقصور علمه ، أو بعدم حسن فهمه يظنه من الأمور التي يقع بها الجرح ، ويترتب عليها في تصوره ما يترتب عليه من أمور وليس كذلك ، ولعلنا نضرب أمثلة بمسائل مشابهة ، وأيضاً بعد ذلك نمثل بوقائع كثيرة من الأمثلة .(203/3)
عند أهل العلم وعند علماء الحديث في مسائل الجرح والتعديل ، هناك ما يجرح عند العلماء في ثقة العالم ، أو في عدالته ، وهناك ما لا يجرح ، فبعضهم قد يرى أمراً يجرح فإذا كُشِف عنه رأي أنه ليس بجارح .
فينبغي أن نعرف ما الذي يؤثر من القول والعمل ، ونفهم مدلوله ؛ حتى نستطيع أن نحكم به .. الشافعي سمع رجلاً يجرح رجلاً فسأله ، فقال: رأيته يبول قائماً ، وما في ذلك ما يوجب الجرح ـ قد يكون فيه مخالفة للسنة .. قد يكون عنده عذر .. قد يكون به مرض وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال عند سباطة قوم قائما ـ فقال : لأنه قد يقع عليه الرشش على ثوبه ثم يصلي ، قال : هل رأيته يصلي قال : لا ولكني أظنه سيفعل .. اترك ظنك لك ، ولا تسترسل في المسائل ومدلولاتها ، وتكبرها دون أن يكون هناك ما يستدعي هذا الأمر ، وكما قيل :
وكم من عائب قولاً صحيحاً **** وآفته من الفهم السقيم
وهناك مقالة لابن تيمية تبيِّن هذا وتدل عليه : " كثير من الناقلين ليس قصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف به مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم " هو يقول لك : " فلان أفتى بكذا " هل سمعته يقول ؟ يقول : "نعم سمعته "، إذاً أعطنا نص كلامه ، فإذا أعطاك نص كلامه ربما وجدت أن نص عكس ما كان ينقله أو ينسبه ، فلا ينقل قولاً بغير لفظه ، ثم يخطّئ به ، ولم يفهم بعد مراده ، وكم سمعنا أن فلاناً من العلماء أفتى بكذا ، فإذا ذهبت تقرأ نص كلامه ، م تجد فيه ما فهمه هذا المستنبط ، أو هذا الذي طالع مثل هذه الفتوى ، وقال السبكي : " كثيراً من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها فيُغير على الكتاب والمؤلف ومن عاشره ومن استن بسنته " ، كما يقال لا يبقى منهم ولا يذر ، مع أن المؤلف لم يرد ذلك الوجه الذي وصل إليه هذا ، وهذه مسائل بدأت تكثر وتشيع عند من لا يتأنّى ولا يتروَّى ومن ليس عنده علم ، وليس قضية التخطئة ، أو الحكم بالصواب والخطأ كلأ مباح لكل أحد ، ينبغي أن تكون لأهل العلم ، وينبغي لأهل العلم الغزير ، ولأهل العلم الغزير من أهل العمل منهم ، وأهل العمل من أهل التقوى منهم ، كل هذا ؛ حتى نستطيع أن نأخذ الأمور على قواعدها السليمة ، ومن مظانّها الصحيحة ، وكما قال سحنون : " يكون عند الرجل باب واحد من أبواب العلم فيظن العلم كله عنده " ، هذه أحد أهم المشكلات .. هو قرأ مسألة واحدة أو كتاباً واحداً ، ثم ما لم يرد في هذا الكتاب فهو عنده خطأ ، وما خالفه فهو عنده خطأ ، ومن ثم تتسع دائرة مفهومه للأخطاء ، وهي ليست كذلك ، ومن هذه المسائل الخطأ فيما هو من أمور الاجتهاد .. فهناك أمور ومسائل اجتهادية - أي الإجتهاد فيما هو سائغ والخلاف فيها معتبر والأدلة فيها متكافئة ، والقائلون بها من أهل العلم هنا وهنا كثر - فلا ينبغي أن يكون هناك أيضا تخطئة ؛ لأنه لا بد أن يعلم مدلول هذه المسألة هل هي بنص وإجمال ، فالمخالف فيها ينبغي أن يكون له تنبيه أو تذكير ، حتى ولو كان هناك تأديب يستلزم ذلك أو زجر ؛ فإن كانت من مسائل الاجتهاد ، فمسائل الاجتهاد عند أهل العلم ليست من مسائل الإنكار ، كما قال سفيان: " ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من أخواني أن يأخذ به " ، فإذا وثق برأي العالم واطمئن له فلا إشكال عليه ، وكما قال أيضاً : إذا رأيت الرجل يعمل العمل مما اختلف فيه وأنت ترى غيره ، فلا تنهه ، لكن لك أن تناظره وتجادله لإصابة الحق ، أو لترجيح قولك ، وهذا أمرٌ أيضاً من قضايا المدلولات مهم . ونحن - كما قلت - نريد أن نأخذ أصول المسائل وقواعدها ، وليس كل مدلولاتها ، ونذكر بعض الأمثلة، مدلول الخطأ مهم أن نفهمه ابتداء قبل أن نتعجل فيه .
أمثلة ومواقف نبوية عن الأخذ بمدلول الخطأ
1 ـ قصة معاوية بن الحكم الأسلمي
قصة معاوية بن الحكم الأسلمي الذي جاء فصلّى ثم عطس فحمد الله بصوت عال ، قال : فجعلوا يحدون النظر إليّ ـ أي الصحابة ينكرون عليه ، قال بعض أهل العلم وكان هذا قبل النهي في الإلتفات في الصلاة ـ فلما رأيتهم كذلك قلت : واثكل أماه ما لكم تنظرون إليّ ، قال : فجعلوا يضربون على أفخاذهم ، فعلمت أنهم يسكتونني فسكت ، فلما قضيت صلاتي ناداني النبي - صلى الله عليه وسلم ـ بأبي هو وأمي ، والله ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن منه قط ، فوالله ما نهرني ولا كرهني ولكن قال : ( إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس ) . هنا علّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مثل هذا ينبغي أن نعرف ما هو أمره ، وما هو حاله ، وما هي الملابسات التي حوله .. وهذه المسائل تطول .(203/4)
ولعلنا نشير إشارة إلى مسألة أن الإنسان قد يخطئ ؛ لأنه لم يبلغه الدليل ، أو لأنه بلغه ولم ير فيه ما يُستنبط دلالة على التحريم أو المنع ، وقد يجد أن في هذا دلالة ولكن يرى أن هناك دليل آخر ، ولكن قد يحمله أو ينسخه ، أو قد يكون أيضا هناك أمور أخرى تعرض للإنسان .. ينبغي أن نعرفها ، وأن نعرف مدلوله عندما عمل هذا الأمر ، وهذا له تفصيلات كثيرة ، ولعل رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية [ رفع الملام عن الأئمة الأعلام ] فيها بعض التدرج في هذا ، وذكر الأمثلة المهمة .
2 ـ قصة حاطب بن أبي بلتعة
وفيها نوع من الترويّ ، وعدم التعجل الذي يحسن بنا أن نأخذ به وأن نتنبّه له ؛ فإن الحادثة التي نقلت عنه كبيرة وجسيمة ، ولكن مع ذلك ينبغي أن نعرف مراده وماذا كان مقصده منها، فلما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك دعاه ثم قال له : ما حملك يا حاطب على ما صنعت ؟ فقال في نحو كلامه أنه ما خان الله ، ولا خان رسوله ، ولكن كان له أهل وعيال وأراد أن يكون له يد عند قريش يحفظ بها أبناءه ، وهو يعلم أن الله ناصرٌ رسوله ، وأن هذا لا يضر .. هذا اجتهاده وتقديره ، ومن ثمّ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم ) .
3 ـ قصة صاحب السنبلة
وروى النسائي - رحمه الله - في سننه بسند صحيح ، أن رجلاً دخل على حائطٍ ، ففرك سنبلة منه ، فجاء صاحب الحائط فأخذ كسائه وضربه ، فأتى الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعدي عليه - يعني يريد أن يأخذ له حقه - فأرسل إلى الرجل فقال له : ما حملك على هذا ؟! قال : دخل حائطي فأخذ سنبلة وفركها ، فقال صلى الله عليه وسلم : أما علّمته إذ كان جاهلاً و أطعمته إذ كان جائعاً ! اردد عليه كسائه ، ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوسق أو بنصف وسق .
4 ـ قصة عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم
سمع عمر بن الخطاب وهو يصلي خلف هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير القراءة التي أقرأها له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فكدت أساوره في الصلاة ، فتصبّرت حتى قضى الصلاة ، فلما قضى الصلاة ، لبّبته بردائه ـ عمر رضي الله عنه شديد في الحق ـ ، فقال له : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ ، فقال : الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال كذبت ؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقرأنيها على غير ما قرأت ، فانطلق به يقوده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيه ، وفي بعض الروايات قال النبي صلى الله عليه وسلم : أرسله يا عمر ، اقرأ يا هشام - يعني ما زال عمر قابضاً به – فقرأ ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : هكذا أُنْزِلت ، ثم قال لعمر: اقرأ يا عمر ، فقرأ ، فقال هكذا أُنْزِلت ، ثم قال : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرؤوا ما تيسر منه . فهذه حادثة تدل على ضرورة فهم المدلولات .
القاعدة الثالثة: الأخطاء وتفاوتها
ليس كل خطأ كبير ، وليس كل خطأ ليست له توبة ، وليس فيه مخرج لا بد أن نعرف أن هناك مراتب الله جل وعلا يقول : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ، فالذنب الأكبر هو الشرك بالله ، وهذا أيضا قد يكون أحياناً عن جهل يحتاج إلى تعليم ، أليس بعض الناس من حديثي العهد بالإسلام قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، وما كان من بني إسرائيل مع موسى عليه السلام ، فلا بد أولاً من بيان الحق ، وأن هذا الأمر فيه شرك حتى ينتبه ويرتدع ، وقد يظن هو جهلاً أو متابعةً لغيره أن الأمر ليس كذلك ، فالمسألة ينبغي أن تكون ذات وضوح وبينة .
هناك أخطاء في المسائل الكبيرة المجمع عليها والمعلومة من الدين بالضرورة ، سواء كانت من مسائل الاعتقاد أو من مسائل العمل كالصلوات وتحريم الخمر وغير ذلك مما تواترت به الأدلة ، وأصبح موضع الإجماع ومعلوم من الدين بالضرورة ، ودون ذلك المسائل الفرعية ، وغير المسائل الفرعية المسائل الاجتهادية ، ثم جانب الشخص يتفاوت الخطأ منه ، فجاهل يحتاج إلى تعليم ، وغافل يحتاج إلى تذكير ، ومقصر يحتاج إلى نصح وتنبيه ، وصاحب هوى وشهوة يحتاج إلى زجر وغير ذلك ، وهناك أيضاً تفاوت الخطأ في الحقوق .. هناك خطأ في حق الله عز وحل ، وهناك خطأ في حقوق الآدميين ، الخطأ في حق الله مع جلالته وعظمته يكفي فيه التوبة والاستغفار لسعة مغفرته ، إن كانت صادقة وإن كانت خالصة لله عز وجل أي التوبة .(203/5)
وحقوق العباد يستلزم لها حقوق أخرى ، فلا بد أن نعرف ذلك وندركه، فلا ينبغي أن نعامل الخطأ الكبير كالخطأ الصغير ، فشعب الإيمان أعلاها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، فليس من الحكمة أن تنكر على من قصّر في أدنى شعب الإيمان بمثل الإنكار على من أخطأ في مسائل التوحيد أو انحرف في أمور الاعتقاد ، أو ارتكب كبائر محرمة تحريماً قطعياً بنصوص صريحة صحيحة ونحو ذلك ، وهذا أمر بيّن .
وهناك فرق بين مخطئ مجاهر ، وبين مخطئ مستتر .. الذي يجاهر بالخطأ يختلف حاله عن الذي يستتر به ، فالمستتر يكون عنده إقرار بالخطأ لو نصح ، وأن الخطأ عنده خطأ وأن المنكر منكر ، ولا زال فيه بقية حياء من الناس ، وعنده شيء من الخوف من الأمور التي فيها انتشار الخطأ ، وأما المجاهر أمر مختلف عن المستتر ، إذن هناك أمور متفاوتة ، فلا بد من التنبيه لها ومعرفتها .
القسم الثالث : بعض المطالب في العمل والتعامل مع الأخطاء
أولاً : ضرورة تمام التثبت(203/6)
فإنه كثير ما ينسب إلى القائل خطأ ، وليس بواقع فيه أو قائل له ، وإنما سمعنا ما سمعنا ، ونقلنا ما نقلنا من غير تثبيت ولا تحري ، لا بد أن نعرف أن التبيّن والتثبّت أمر مشروع بنص القرآن الكريم : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } ، وورد في قراءة متواترة قرأ بها خلف والكسائي وحمزة { فتثبّتوا } بدلاً من { فتبيّنوا } ، قال الشوكاني رحمه الله : " المراد من التبيّن التعرف والتفحص ، ومن التثبت الأناة وعدم العجلة ، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر " وليست هذه الآية هي الوحيدة وإن كانت أظهر الآيات في هذا . بل قد قال الله : { يا أيها الذين إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا } تنبيه لا بد أن ننتبه له ، ويدل على هذا عموم قوله سبحانه وتعالى في آية عظيمة جليلة : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً } بل قد وردت في الآيات القرآنية ما يدل على الأثر السيئ ، والعاقبة الوخيمة ، عند عدم التثبت ، وعند إشاعة القول على عواهنه ، وعند إطلاق المسائل ونسبتها إلى الناس دون بيان وإيضاح ، أو دون استفسار واستبيان ، قال الله جلّ وعلا : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ، يكون من هؤلاء إجحاف وإرجاف ، وأيضاً وقوع اتهام غير صحيح ، وتعدّي في غير موضعه ، وظلم لغافل عنه ونحو ذلك من الأمور ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بئس مطية الرجل زعموا ) ، والحديث عند أبي داود وهو صحيح، ومعنى قوله ( بئس مطية الرجل زعموا ) أي قول زعموا كذا أو قالوا كذا .. هل سمعته منه ؟ هل رأيته يفعله ؟ يقول : لا ولكن قالوا ، قال أحد المشائخ حفظه الله : " هذه وكالة يقولون ، وكالة باطلة في القرآن " واستشهد بقول الله عز وجل : { ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله } فهذه " يقولون " لا ينبغي أن تطلق إلا بعد أن يتثبّت أو يتحقق بنفسه ولا يكفيه ؛ لأنه مسئول بين يدي الله عز وجل : { كل نفس بما كسبت رهينة } ، والأمر في هذا يطول ، والآثار فيه كثيرة جداً ، ولعلنا نذكر قصة أبي سعيد الخدري لما جاء فاستأذن على عمر ثلاثاً ثم مضى ، ولحقه عمر فقال له : مالَكَ ! ، قال : استأذنت ثلاثاً ثم مضيت ، فقال عمر : ولمَ ؟، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (من استأذن ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع ) ، فقال له عمر : أما إنك لو لم تأتني بمن يشهد أنه سمع مثلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعلتك نكالاً ، فذهب أبو سعيد إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه شيء من الخوف ، فلما قال ذلك للأنصار ، فقالوا كلنا يشهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، فقال له عمر بعد ذلك : أما إني لم أتهمك ولكنه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. تثبت كان بين الصحابة مع أنهم أهل صدق ، وأهل حق وأهل تثبت ، وأهل ترويّ ، لكن المسألة تحتاج إلى مثل هذا ، وقد قال أهل العلم أنه هذه صفة لازمة للمؤمن التقي الورع ، وأنها إذا غابت فهي صفة غائبة عن الأحمق الغر الجاهل ، وقال الطبري -رحمه الله – فيما يدل على أن هذه الخصلة تدل على أنها من صفات أهل الإيمان ، قال : " خص الله بذلك القوم الذين يوقنون ؛ لأنهم أهل التثبت في الأمور والذين يطلبون حقائق الأشياء على يقين وصحة " ، والحسن البصري يقول : " المؤمن وقاف حتى يتبين " ، و من المقالات الجميلة في هذا، تصلح أن يفصل فيها للاستفادة والتوقي من الوقوع في بعض الأحوال والأخطاء ، يقول ابن حبان : " من علامات الحمق التي يجب للعاقل تفقدها ممن خفي عليه أمره :
1 ـ سرعة الجواب .
2 ـ ترك التثبت .
3 ـ الإفراط في الضحك .
4 ـ كثرة الإلتفات .
5 ـ الوقيعة في الأخيار .
6 ـ الاختلاط بالأشرار . "
خذ كل واحدة منها على حدة - والتي تصلح أن تكون باباً مستقلاً - ثم تفقّد نفسك ؛ حتى لا يلصق عليك هذا الوصف ، أو أن تكون فيه خصلة من خصال الحمقى .(203/7)
ويقول الشيخ السعدي : " من القول الخاطئ الخطر قبول قول الناس بعضهم في بعض ، وما يبني عليه السامع حباً وبغضاً ، ومدحاً وذماً ، لحصل بهذا الغلط أمور كانت عاقبتها الندامة " ، فكم أشاع الناس عن غيرهم أموراً لا حقائق لها ، ولا أصل لها ، فالواجب على العاقل التحرّز والتنبه وعدم التسرع ، وبهذا يعرف دين العبد ورزانته وعقله ، دينه يعرف به ؛ لأنه يعرف أن التسرع سوف يلصق تهمة بآخر أو يظلم فيها إنسان ، أو يحمل على إنسان ويبغضه وهو غير مستحق ذلك منه ، ويعرف به رزانته وعقله ؛ لأن التسرع طيش وحمق كما مر بنا ، ويقول مصطفى السباعي كلمة جميلة تدلنا على بعض طبائع الناس ، وبعض ما قد يشيع فيهم فيقول : " لا تصدق كل ما يقال ، ولو سمعته من ألف فم ؛ حتى تسمعه ممن شاهده بعينه ، ولا تصدق من شاهد بعينه ؛ حتى تتأكد من تثبته فيما يشاهد ، ولا تصدق من تثبت فيما يشاهد حتى تتأكد من خلوه من الغرض والهوى " ، وهذه مقالته لو أردنا أن ننقل مقالات أهل العلم في الجرح والتعديل مثلها لوجدنا هناك عشرات المقالات ، وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك في بعض دروس سابقة ، فلا نزيد في هذا القول ولا نكثر منه .
وأيضاً في شأن التثبت ، مسألة وهي قضية العزو .. من أين لك هذا ؟ من أين جئت به ؟ من أخبرك به ؟ وأما الغمغمة والهمهمة فلا تكفي في هذا ، وأما التوثيق على الجهالة فأصلاً عند أهل الحديث غير مقبول ؛ فإنك تسأل بعض الناس من أخبرك بهذا ؟ يقول : أخبرني من لا أتهمه ، قد تقول له : من ليس متهماً عندك متهماً عند غيرك ! ويقول : أخبرني من أثق به ، فنقول : من هو حتى يعرف حاله ؟ فهذه مسألة مهمة ، ولقد قال أهل العلم كلاماً جميلاً ، وأشير إلى مقدمة صحيح مسلم فإن فيها نقولاً نفيسة في هذا الباب ، ومنها قول عبد الله بن المبارك - رحمه الله - عندما قال : " الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ، لك أن تقول قال فلان ، ولكن إذا جئت نريد أن تعطينا الخطام والزمام ، قل من قال هذا ومتى قاله لك ؟ وكيف قاله لك ؟ حتى نعرف ، أما أن ترسل القول هكذا فلا ينبغي أن يقال هذا .
وقد قال ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى : " من أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسم القائل والناقل وإلا فكل أحد يقدر على الكذب " ، حتى في أهل الباطل ، لا بد أن تنسب القول لهم ، وأن تتحرى أن هذا القول هو قولهم ، وأن هذا المذهب هو مذهبهم ، وان تعزوه إلى كتبهم، وأن تسنده إلى علمائهم ثم بعد ذلك تقول هذا القول ، ولعل الأمثلة في هذا شهيرة في بعض المسائل التي تنسب إلى الأئمة، وقد نبه بعض هذا الشيخ أبو بكر أبو زيد في كتابه : " التعالم في الفكر و الكتاب " ، وذكر مسائل مشهورة تنسب إلى أبو حنيفة أو تنسب إلى الشافعي ، ثم عزا المسألة إلى قائلها ، وبحث عن نصه فيها ، فلم يدل النص على التصريح والنص بهذه المسألة ، والعمل هو العزو والإسناد إلى القائل الأول ، أشار مثلاً إلى مسألة التصريح بالنية ، أو ذكر النية قبل الصلاة عند الشافعية ، ثم جاء بنص الشافعي قال : " والصلاة تختلف عن غيرها فلا بد فيها من إعلام الذكر أو شيء من هذا " ، قال ومقصوده في سياق الكلام أنه لا بد فيها من تكبيرة الإحرام عند إستحضار النية ولا يقصد هذا . وأشار إلى مسائل أخرى يرجع إليها، عن أبي حنيفة أو غيره .
ومن هذا في التثبيت معرفة حال الناقل : وهذه مسألة مهمة أيها الأخوة ، فبعض الناس يقبلون في أهل الصلاح قول أهل الفساد ، وفي أهل الدعوة قول أهل الشهوة ، سبحان الله نستمع إلى أهل الباطل من علمانيين أو شيوعيون وقولهم في أهل الدعوة ونسمع قولهم ، ونسلم به ونقول نعم ، فيهم كذا وفيهم كذا وهذا كذا ، وهذه المسائل كثيرة ، وقواعد الجرح والتعديل فيها مَرَدَّ ، والخلط الذي يقع من بعض الناقلين الذين ليسوا مجروحين في عدالتهم ، ولكنه مخلط في حفظه ، مضطرب في رأيه ، ضعيف في فهمه ، ساذج في تصوره، لا أقبل نقله بحال حتى وإن كان مصلياً .
فمثلاً أن يكون صالحاً ولا يؤخذ منه الحديث ، كما قال مالك رحمه الله : أدركت سبعين كلهم يستسقى بدعائه ، لا يؤخذ منه الحديث يقال ليس من أهله .
عند بعض الناس خلط عبر عنه شاعرٌ تعبيراً لطيفاً فقال :
أقول له سعد فيسمعها بكراً **** ويحفظها زيد ويكتبها عمراً
وآخر وأولها وأوسطها كلها خلط ؛ لأنه لا يجيد ولا يضبط ولا يتقن ، وهذا أمر مهم جداً ينبغي أن ننتبه له ، وقد قال أهل العلم في هذا كثير من المقالات ، في سياقنا هذا نكتفي بقليل منها من ما أشرنا إليه .
ثانياً : من أحوال التثبت
أولاً : التثبت والأقران والمتنافسين(203/8)
ومن مسألة الاحترازات والتثبت مسائل الأقران ، والذين يكونون متنافسين حتى من أهل العلم والخير والصلاح والتقى ؛ فإن النفوس أحياناً يكون فيها مغاضبة أو فيها منافسة ، فإذا سمعت قولاً من قرين في قرينه ، فخذ قاعدة قالها أهل العلم : " كلام الأقران يطوى ولا يروى " ، وقد قال بعض أهل العلم في هذا كلاماً نفيساً، قال : " دع عنك ما قاله فلان في فلان، وفلان مع فلان، وفلان مختلف فيه ؛ فإنهم كانوا أهل علم وأمرهم إلى الله عز وجل " ، وأما أنت فتدخل فلا تعرف فقال السبكي رحمه الله في هذا : " إياك إلى ما كان بين أبي حنيفة والثوري وبين مالك وابن أبي ذئب ، وبين أحمد بن صالح والنسائي ، وبين أحمد بن حنبل والمحاسبي وهلم جرّا ، ثم قال فإنك إذا اشتغلت بذلك خفت عليك الهلاك ؛ فإن القوم أئمة أعلام ، ولكلامهم محامل ، وربما لم نفهم بعضها، ولا يسعنا إلا الترضيّ عليهم والسكوت عن ما جرى بينهم " .
ثانياً : التثبت وأهل الاختصاص
وبحث المسائل لإصابة الحق لا بد أن يكون من المختصين بالعلم من أهل العلم ، وطلبته بقواعد أهل العلم وهناك مسائل كثيرة تعترض هذا ، هناك غضب يعتري النفوس أحياناً ، فما أقوله وأنا غاضب ، أو عندما استثار بقول قائل أو بفعل معين ، فلا يأخذ هذا القول ويسلم ويعتبر ، وإنما ينبغي مراعاة هذه الأحوال كلها ، وأيضاً لا بد كما قلنا حال الناقل وحال المنقول فيه ، فإن كان المنقول عنه القول أو المنقول عنه هذا الفعل .. نعلم خيره وكثرة صلاحه ، ونعلم ويغلب على ظننا أنه ما يقصد مثل هذه الأمور من الشر أو الفساد ، إن هذا لها أثره في التثبت ؛ حتى نتمم هذه القواعد الكاملة في هذا ، ولا بد أيضاً من البيان كما قال ابن جرير رحمه الله : " لو كان كل من اُدِّعِيَ إليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك للزم ترك أكثر محدثي الأمصار ؛ لأنه ما منهم إلا ونسب إليه إلى ما يرغب به عنه " ، إما لاختلاف هوى أو للتنافس ، أو لاجتهاد خاطئ . وما من واحد من الأئمة إلا وأنت واجد أنه قيل فيه قولاً عظيماً ، حتى نسب كثير من أهل العلم كالشافعي إلى التشيع ، وعبد الرزاق والحاكم وغيرهم من أئمة كبار ، ولو أنك تأخذ هذا من غير هذا التثبت الذي قلناه ، لوقعنا في كثير من الأمور الخطيرة التي ينبغي التنبه لها .
ثالثاً : التثبت وإحسان الظن
مسألة إحسان الظن ، وهي مسألة مهمة قد نكون قد ألممنا ببعض الأمور فيها ، ولكننا نفصل القول فيها قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم } قضية مهمة ، وقد أشرنا مراراً إلى حديث أبي هريرة : ( إجتنبوا الظن فإن الظن أكذب الحديث ) ، ذكر ابن حجر رحمه الله : " لما جعل الظن أكذب الحديث مع أن الكذب من أكبر الكبائر ؟ فجعل الظن أكبر هذا الكذب ؛ لأن الظان ظن السوء يظن أنه يحسن صنعاً ، وهو لا يرى أنه أخطأ ، أما الكاذب فهو يكذب وهو يعلم أنه مخطئ " ، أيضاً هذه المسائل دقيقة ، وفيها دقائق من أمور المراقبة ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في تهذيب وتنبيه وتذكير للمخالفين في هذا الباب : ( يا معشر من آمن بلسانه ولمّ يدخل الإيمان قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم ، تتبع الله عورته , ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته ) وفي رواية في جوف رحله ، رواه أبو داود في السنن .
لماذا ذكرنا الحديث الذي ذكر أمر التتبع ؛ لأن تسلسل الظن أنه يقول ظننت ثم يقول أريد أن أتحقق ، وقد ورد النهي عن هذا ، وقد جاء كلام السلف في هذا مؤيداً لكلام الفاروق رضي الله عنه ، لا تظنن على كلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيراً ، وأنت تجد لها في الخير محملاً ، وهذا كله يتعلق بسلامة الصدر ، وإحسان الظن بأهل الإيمان يحتاج إلى نقاء النفس وطهارة القلب .
ثالثاً : ما يدخل تحت حسن الظن
أ- عدم التعرض للنوايا(203/9)
من هذا الجانب وهذا الباب من إحسان الظن عدم التعرض للنوايا ، يقول القائل قولاً فنقول يقصد به كذا ، وهل شققنا عن قلبه ؟ لم تكن هناك قرائن كثيرة محتفَّة ، وشواهد كثيرة ظاهرة ، وألفاظ صريحة ناطقة ، فما لنا نحمل القول ما لم يحتمل ، ونحمِّل أنفسنا من الإثم المتوقع ما لا نحتاجه ، والأصل في هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري في حديث الرجل الذي جاء واعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : اتق الله واعدل ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ! ، ثم ولّى فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله دعني أضرب عنقه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم ، وهذا أيضاً حديث أسامة بن زيد المشهور في بعثه في صحيح مسلم والذي قال فيه : فهويت بالسيف ، فقال لا إله إلا الله ، فقتلته ، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قال : أقتلته بعد أن قال لا اله إلا الله ، فقال أسامة : إنما قالها متعوذاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هلاّ شققت عن قلبه ! .
فما في القلوب لا يعلمه إلا الله ، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا ) . رواه النسائي بسند صحيح .
ب - التماس العذر
لا يكون إلا مع حسن الظن ، وخاصة إن وقع الخطأ من أهل علم أو أهل صلاح ؛ فإنه يغلب على الظن أنه وقع منه سهواً أو بغير قصد أو نحو ذلك ، ومن هذا الباب أمر مهم وهو المقارنة بالمثل والمقياس بالنفس ، وإن كنت تقول إن هذا وقع منه كذا ، فهل أنت مثله أو دونه تستجيز على نفسك أن تقع في هذا الخطأ أو تقوم بهذا الخطأ ، فتقول معاذ الله ؛ فإن نفيت عن نفسك فانف عن أخيك ؛ فإن هذا من باب ما تحب لأخيك ما تحب لنفسك .. { لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً } ، وهذه المسألة نعلم قصتها في حديث عائشة - رضي الله عنها - في حادثة الإفك ، وأن الله - سبحانه وتعالى - خاطب أهل الإيمان ، وبيّن لهم أنه ينبغي أن نقيس بأنفسنا ، قصة أبو أيوب في هذا الشأن لما خاطب أم أيوب قال: أو كنت فاعلته ؟ قالت : معاذ الله ! فقال : فعائشة هي خير منك ، ولَرسول الله صلى الله عليه وسلم خير مني .
فهذه مسائل مهمة ينبغي أن ينصف فيه من نفسه ، وأن يعذر فيه من وقع فيه الكلام بسوء الظن ، وكما قال أهل العلم : " إن التماس العذر لأهل الخير أمر راجح لا مرجوح " ، قال السبكي : " إذا كان الرجل مشهودٌ له بالإيمان والاستقامة ، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تعود منه ومن أمثاله ، بل ينبغي التأويل الصالح وحسن الظن به وبأمثاله ، ومثله هذا أيضاً ما وقع من بعض الأئمة في بعض الأمور والاجتهادات .. علي بن المديني رحمه الله إمام كبير ، شيخ البخاري من أقران الامام أحمد ، لكنه في مسألة خلق القرآن أجاب بقول في شيء يصرف عن نفسه الأذى ، فماذا حصل ماذا كان فالتمسوا له العذر قال علي بن المديني لابن عمار الموصلي : ما يمنعك أن تكفر الجهمية ، وكنت أنا أولاً لا أكفرهم أي ابن عمّار ، وهذه مسألة قديمة يعني القائلين بخلق القرآن ، فلما أجاب عليّ في المحنة فأجاب وقال القول الذي يريدون ، كتبت إليه أذكِّره بقوله السابق ، قال فأخبرني الرجل بأنه بكى ، وأنه ليس في قلبه شيء مما قاله ، ولكنه اضطرار قدرته ، يقول : ولكني خفت أن أقتل ، وتعلم ضعفي أني لو ضربت سوطاً واحداً لمت أو نحو هذا ، وقال الذهبي " هذا أمر ضيّق فلا حرج على من أجاب في المحنة بخلق القرآن ، ولا حرج على من قال بصريح الكفر عملاً بالآية " ، هذا هو الحق وهذه مسائل فيها ما فيها من مثل هذه الأمثلة ، ومقارنة النفس أمر يهون هذا وييسره علينا ويبيّنه لنا ، ونختم بأن المسألة تطول والوقت يدرك .
القسم الرابع : القواعد والمطالب المتعلقة بالتعامل مع المخطئ
وتأتي هذه القواعد بعد أن يكون قد أحسنّا الظن والتمسنا العذر، لكن إذا حصل الخطأ وكان خطأ واضحاً كيف نتعامل معه ؟
أولاً : النصح مع الستر(203/10)
وأهل العلم بيّنوا هذا في كثير من مقالاتهم ، وفرّق ابن رجب بين النصيحة والتعيير ، هناك نصيحة وهناك فضيحة كما يقولون ، والنصيحة مهمة، ومن أهم أسباب تفشي الأخطاء، أننا لا نأخذ في سبيل النصح، ولا نسير في طريق الغيرة على الحرمات كما ينبغي ، وكلما عظمت محبة أخيك عندك ، كلما كثر نصحك له ، وبعض الناس يأخذ القاعدة على العكس ، كلما عظمت محبتي لأخي تغاضيت عن خطأه ، ولم أحرص على نصحه ، عجباً للإنسان كيف ينصح البعيد ولا ينصح القريب ؟ وكيف ينصح البغيض ولا ينصح الحبيب ؟ هذا قسمة ضيزى ، ومقياس مرجوح وميزان مختل ، ينبغي أن يكون التواصي بين أهل الحق والإصلاح والإرشاد والدعوة أكثر ، وهذا جرير يقول : ( بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم ) ، وفي بعض الرويات ، فزادني : ( النصح لكل مسلم ) ، قال بلال بن سعد في شأن هذه النصيحة وأهميتها بالنسبة للإنسان : " وأفضل الناس صديق إذا لقيك أخبرك بعيب فيك ، خير من صديق إذا لقيك وضع في يدك درهمين " ، فهذه مسألة مهمة ، ولا بد أن يكون النصح للرفق وبالتيسير ، وحتى إذا ما زادت الصلة كان النصح أقوى ، وربما أحياناً ربما يكون أغلظ ؛ لأن ما بينك وبينه من المودة يكون عاصماً عن النفرة بإذن الله عز وجل ، وهذا عمر بن عبد العزيز يقول لعمر ابن المهاجر يطلب منه النصح يقول : " إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلابيبي ثم قل لي ماذا تصنع ؟ " ، وهذا أمر واضح وبيّن .
ثانياً : اليسر لا العسر
المسألة تحتاج إلى اللطف لا الشدة ، واللين لا الغلظة ، واليسر لا العسر ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع منه إلا شانه ) ، وقصة النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما كان يلقي اليهود في مكان التحية قولهم : " السام عليكم " ، يقصدون الموت ن ويدعون على النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت عائشة تغضب وترد عليهم فوراً فتقول : " بل الموت عليكم واللعنة " ، وكان من النبي صلى الله عليه وسلم تنبيه عائشة على الحكمة في الرد حين أمرها بأن تكتفي بقولها " وعليكم " .
وقصة الأعرابي الذي بال في المسجد ، والذي قام عليه الصحابة يزجروه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم : ( لا تزرموه ) أي لا تقطعوا عليه بوله ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف : ( إن مثلي ومثلكم كمثل رجل ندّت له ناقة فجاء هذا يسوقه من هنا وهذا من هنا فجاء صاحبها وقال خلوا بيني وبينها ثم أخذ يتقرب إليها بشيء من خشاش الأرض ، حتى استطاع أن يتألفها ويردها إليه ) ، وقصة الرجل الذي واقع أهله في نهار رمضان ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة بصيام شهرين متتابعين ، فقال لا أستطع ثم أمره بإطعام ستين مسكيناً فقال لا أجد ، حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من تمر الصدقة ، فقال خذ هذا وتصدق به ، فقال على أفقر مني ، والله ما بين لابتيها من هو أفقر مني ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم تمر الصدقة وضحك النبي حتى بدت نواجذه . ثم قال : أطعمه أهلك .. ما دمنا عرفنا الخطأ فلا بد أن يكون هناك رفق في علاجه .
ثالثاً : التعليم والإرشاد
فلا يكفي الرفق وحده ، بل لا بد أن نعلمه ونفقهه هذا الخطأ ونعلمه أن الخطأ هو كذا ونرشده ، والنبي - صلى الله عليه وسلم في قصة المسيئ صلاته ماذا صنع ؟ ، قال له ارجع فصل ثم لم يحسن الصلاة ، فقال له : أعد ، ثم لم يحسن حتى بعد ذلك علمه خطوات الصلاة واحدة واحدة ، وكيف يحسن صلاته وأهمية الطمأنينة . وقصة جبير بن نفيل، وأنه قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر له بوضوء فتوضأ فبدأ بفيه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تبتدئ بفيك فإن الكافر يبتدئ بفيه ) ثم علمه الوضوء .
رابعاً : التأديب والزجر
إذا علمناه واتبعنا النصح مع التستر ، واتبعنا اللين دون العنف ، واتبعنا التعليم والإرشاد ، فبعد ذلك يأتي التأديب والزجر ؛ فإن كانت لك عليه ولاية أو بينك وبينه مودة ، فأدّبه وازجره عن خطأه ، وقد يصل الأمر إلى رفع أمره إلى ولي الأمر إذا كان الأمر يستدعي ذلك ؛ حتى لا يستمر في الخطأ ، ويكون هذا رادع له عن الرجوع إلى الخطأ ، وهذه المسائل ينبغي أن يكون فيها تدرج .
وينبغي أن نذكر مسألة هامة وهو أنه إذا كان يحب هذا المنكر نحاول أن نقدم له البديل ، والبديل من الحلال في كثير من الأمور ميسر ، ولكن ليس لكل حرام لا بد له بديل ؛ لأن ديننا ليس مرقّع بل أصيل ، لكن مثلاً شهوة الفرج تقضى بالزنا ، إذا وجدت من يقع في هذا المنكر ، هيأ له فرصة وساعده وأعانه على أن يتزوج ، فتكون قد ساهمت في تقويم الخطأ وإخراجه من هذا المأزق ، ويرجى بعد ذلك عدم الرجوع إلى ارتكابه مرة أخرى إن شاء الله تعالى .(203/11)
قلنا : مسألة إعانته على الحق والصواب لئلا يرجع في المعصية والخطأ ، ومثال آخر لو كان إنسان تعامل بالربا ، لماذا تعامل به ؟ هو في نظره اضطر إليه للحاجة للمال ، نصده عنه بنصحه وإرشاده وتحذيره ونقوم بكل الخطوات ، ثم نحاول إذا استطعنا أن نهيأ له الفرصة البديلة، كقرض ليس فيه ربا ، أو أن نهيأ له المشاركة يحقق بها غرضه ، فليس مهمتنا أن نقول هذا خطأ ، ولكن مهمتنا أن نقوّم بإزالة هذا الخطأ لأسباب كثيرة .
فوائد إزالة المنكر والقضاء على الأخطاء
الفائدة الأولى : عدم وجود الخطأ الذي تترتب عليه الآثار والأضرار على مستوى المجتمع والمجموع لا على مستوى الفرد ؛ لأن الخير يخص ، والشر يعم .. { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } .
الفائدة الثانية : أن يكون وجوده مشجع على تكراره .
الفائدة الثالثة : السعي لتخليص الواقع فيه من آثاره من الإثم والذنب .. نحن نحب إخواننا ولا نحب لهم الوقوع في الإثم والذنب ، فنحن نسعى لتخليصهم من الخطأ من محبتنا لهم ، ومن رغبتنا في إرادة الخير له .
فإن أهل العلم قد قالوا : " إن رأيت قاصداً لفعل منكر أو واقعاً فيه ، واستطعت أن تمنعه منه قبل وقوعه فيه ، مثلاً رأيت إنسان يتسلل ليسرق شيء لك ، فلا تقول الآن سأضبطه متلبساً ثم تتبعّه وتهيأ له الفرصة وتترك الأبواب مفتوحة حتى تقبض عليه بالجرم المشهود ، بل عليه أن يبادر إلى متاعه فيأخذه حتى لا يقع أخوه في جريمة السرقة ، لماذا لا نريد أن نوقع الناس في الأخطاء ، وليس من رغبتنا أن نشيع الخطأ ثم نقول أن فلان سرق ، بل الأصل هو عدم ذلك .
خامساً : علاج الخطأ بالصواب
علاج الخطأ بالصواب ، وليس علاج الخطأ بالخطأ ، فينشأ عن الخطأ خطأ في العلاج ، وينشأ عن مجموع الخطأين أخطاء أخرى ، وهذه قضية خطيرة تكلم عنها العلماء إذا كان الإنكار يترتب عليه منكر أكبر ؛ لأن الأسلوب كان غير موفق أو الظروف والملابسات لم تكن مناسبة ، فيكون التصويب أو هذا الإنكار خطأ في حد ذاته ، وهذه مسألة دقيقة لا بد من مراعاتها ، ولها أمثلة كثيرة .. قصة ابن تيمية مع بعض التتار عندما مر عليهم مع نفر من أصحابه ، وهم يشربون الخمر فأراد بعض أصحابه أن ينكر عليهم ، فدعاهم ابن تيمية إلى ترك نصحهم ؛ لأنه إذا تركوا هذا الشرب التفتوا لقتل المسلمين ، وهذا منكر أكبر من شربهم الخمر . فهذه مسائل تحتاج إلى بصر وبصير .
سادساً : الرجوع عن الخطأ فضيلة(203/12)
وهذه مسألة مهمة بعض الناس تنازعه نفسه بأنه يقول أنه أخطأ ، أو يظهر له الحق فتأبى نفسه أن تقر به ، أو يلوح له الصواب فيستكبر أن يتابعه ، إما أن القائل بالصواب دونه في المرتبة والفضل وإن كان محقاً ، وهذه مسألة خطيرة دقيقة ، وهي من المسائل النفسية التي متى وقع المسلم أو المؤمن فريسة لها ولم يتخلص منها ؛ فإنها تورد صاحبها إلى المهالك والمخاطر العظيمة ؛ لأن الاستكبار عن الحق والتعالي عليه بعد وضوحه أمر ليس هيّناً ، ولعلنا نشير بذلك إلى حديث مسلم أن الرجل كان يأكل بشماله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : كل بيمينك ، فقال له : لا أستطيع - لعله تكبر أن يغير أمام الناس أن يستجيب للنبي صلى الله عليه وسلم أمام الناس - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا استطعت ، فما استطاع أن يرفع يده إلى فمه . وهذه قضية دقيقة ولنا من أمثلة السلف واعترافهم بالحق شيء عظيم ، أمثلة تدل على تجردهم عن الهوى وعلى إذعانهم للحق يقبلونه ممن كان صغيراً أو كبيراً ؛ فإن الحق عندهم أكبر من كل الناس ، والحق أكبر من كل كبير والحق من كتاب الله ، وسنة رسوله حاكم وليس محكوم ، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من هو كان يستشير أصحابه ، وربما ابتدأوا بالمشورة فمضى بقولهم وأخذ بمشورتهم ، ولم يستنكف عن ذلك ولم يستكبر عليه الصلاة والسلام ، فكيف بمن دونه وليس بأمر اختياري بل في خطأ وقع وثبت ، فلا بد من الرجوع للحق ، كما أوصى عمر في وصيته الشهيرة التي أقام عليها ابن القيم رحمه الله فصولاً كثيرة في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين كان من وصيته التي قال فيها : " لا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق ؛ فإن الحق قديم لا يبطله شيء ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل " ، والرجوع للحق فضيلة كما يقولون . ويقول الشوكاني رحمه الله : " من آفات التعصب الماحقة لبركة العلم أن يكون طالب العلم قد قال بقول في مسألة كما يصدر ممن يفتي أو يصنف يناظر غيره ويشتهر ذلك القول عليه ؛ فإنه يصعب عليه الرجوع إلى ما يخالفه وإن علم أنه الحق ، وتبين له فساد ما قاله ، ولا سبب لهذا الاستصعاب إلا تأثير الدنيا على الدين ؛ فإنه قد يسول له الشيطان أو قد تسول له نفسه الأمارة بالسوء ، أن ذلك ينقصه ويحط من رتبته ، ويخدش في تحقيقه ويغض من رئاسته وهذا تخيل مختل وتسويل باطل ؛ فإن الرجوع للحق يوجب له من النبالة والجلالة وحسن الثناء ما لا يكون في التصميم على الباطل ، بل ليس في التصميم على الباطل إلا محض النقص والإزراء بصاحبه ، والاستصغار لشأنه ؛ فإن منهج الحق واضح كالمنار يفهمه أهل العلم ويعرفون براهينه ، وقد قال أهل العلم في ذلك مقالات كثيرة ومن شأن الصحابة في مشورتهم ، وقصة عمر - رضي الله عنه - في المرأة التي ماتت وتركت زوجاً وأماً وأخوة لأم وأخوة أشقاء في الميراث ، فقضى للأم بالثلث فاحتج عليه الإخوة الأشقاء ، وقالوا : إن الأخوة من الأم ورثوا لأمهم وهي أمنا وهب أن أبانا كان حماراً أو كان حجراً ملقاً في اليم أي كأنه ما كان ، فما كان من عمر إلا أن أشرك بينهم ، فقيل له قد قضيت في أول العام بخلاف هذا ، فقال : ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي .
الشافعي له قديم في المذهب ، وجديد لما عرف بعض الأدلة والأقوال رجع عن ما قاله ، وللإمام أحمد وغيره كثير من المسائل قال فيها بقول يخالف قول سابق له في هذه المسألة ، ورأى إيثار الحق على الباطل والرجوع له ، وهذه أمهات في هذه المسألة والقول فيها كما قلنا قد يكون أكثر من هذا ، وحسبنا القليل نتبعه ويكون حجة لنا لا علينا(203/13)
الأخلاق في الإسلام
إعداد/ أسامة سليمان
الحلقة الأولى
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده... وبعد:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق». [سنن البيهقي وصححه الألباني في الصحيحة (54)]
فكأن مكارم الأخلاق بناء شيده الأنبياء، وُبعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتم هذا البناء. فيكتمل صرح مكارم الأخلاق ببعثته صلى الله عليه وسلم، ولأن الدين بغير خلق كمحكمة بغير قاضي، وكذا فإن الأخلاق بغير دين عبث، والمتأمل في حال الأمة اليوم يجد أن أزمتها أزمة أخلاقية، لذلك نتناول في هذه السلسلة بعض المفاهيم الأخلاقية، وبعض محاسن الأخلاق التي يجب على المسلم أن يتحلى بها ومساوئ الأخلاق التي يجب على المسلم أن يتخلى عنها.
مفهوم الأخلاق لغة واصطلاحًا
الخلق لغة: هو السجية والطبع والدين وهو صورة الإنسان الباطنية، أما صورة الإنسان الظاهرة فهي الخلق، لذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «... واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت». [مسلم (177)]
ويوصف المرء بأنه حسن الظاهر والباطن إذا كان حسن الخلق والخلق.
والخلق اصطلاحًا: عبارة عن هيئة في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ولا روية، وهذه الهيئة إما أن تصدر عنها أفعال محمودة وإما أن تصدر عنها أفعال مذمومة، فإن كانت الأولى كان الخلق حسنًا وإن كانت الثانية كان الخلق سيئًا.
هناك فرق بين الخلق والتخلق إذ التخلق هو التكلف والتصنع وهو لا يدوم طويلاً بل يرجع إلى الأصل، والسلوك المتكلف لا يسمى خلقًا حتى يصير عادة وحالة للنفس راسخة يصدر عن صاحبه في يسر وسهولة، فالذي يصدق مرة لا يوصف بأن خلقه الصدق ومن يكذب مرة لا يقال إن خلقه الكذب بل العبرة بالاستمرار في الفعل حتى يصير طابعًا عامًا في سلوكه.
الأخلاق الإسلامية والأخلاق النظرية
تختلف الأخلاق الإسلامية عن الأخلاق النظرية في جوانب متعددة، منها:
1- أن الأخلاق الإسلامية أخلاق عملية هدفها التطبيق الواقعي وبيان طرق التحلي بها خلافًا للأخلاق الفلسفية التي تركز على الجانب النظري فقط.
2- مصدر فمصدر الأخلاق الإسلامية الوحي، ولذلك فهي قيم ثابتة ومثل عليا تصلح لكل إنسان بصرف النظر عن جنسه وزمانه ومكانه ونوعه، أما مصدر الأخلاق النظرية فهو العقل البشري المحدود أو ما يتفق عليه الناس في المجتمع «العرف»، ولذلك فهي متغيرة من مجتمع لآخر ومن مفكر لآخر.
3- مصدر الإلزام في الأخلاق الإسلامية هو شعور الإنسان بمراقبة الله عز وجل له، أما مصدر الإلزام في الأخلاق النظرية فهو الضمير المجرد أو الإحساس بالواجب أو القوانين الملزمة.
خصائص الأخلاق الإسلامية
تتصف الأخلاق الإسلامية بصفات تميزها عن سواها من الأخلاق النظرية المادية منها:
1- واقعية توائم بين الروح والجسد فلا تصادر حاجة الجسد من الشهوات والرغبات بل تضعها في إطارها الشرعي، فرغبة البدن لابد من إشباعها بضوابط شرعية، ولذلك فالقرآن عبر عن مصادرة رغبة البدن بأنها رهبانية مبتدعة: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، فالآيات توضح حق الإنسان في إشباع رغباته بالضوابط الشرعية مع إشباع الروح بالذكر والطاعة والعبادة، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
2- عامة صالحة لكل إنسان ولكل زمان ومكان مع اتصافها بالسهولة واليسر ورفع الحرج يقول سبحانه: وما جعل عليكم في الدين من حرج، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
3- لا تحكم على الأفعال بظاهرها فقط ولكن تمتد إلى النوايا والمقاصد والبواعث التي تحرك هذه الأفعال الظاهرة يقول صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات».
4- مبادئها تقنع العقل وترضي القلب والوجدان، فما من نهي شرعي إلا معه مسوغات ودوافع تحريمه يقول سبحانه: ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا، يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه إلى قوله تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، وكذلك الأخلاق الإسلامية تقبلها الفطرة السليمة ولا يرفضها العقل الصحيح.
غاية الأخلاق الإسلامية(204/1)
نقصد بالغاية الهدف الأقصى للأخلاق الإسلامية، فلكل سلوك إنساني غاية، إلا أن الغاية العظمى للمؤمن هي تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة، ولا تتحقق السعادة في الدنيا إلا بالإيمان وفعل الواجبات وترك المحرمات، عند ذلك يشعر العبد برضا ربه عليه، فليست السعادة في كثرة المال ولا في الملك أو الشهرة والمكانة الاجتماعية والحالة الصحية، وإنما السعادة الحقيقية في رضا الله عن العبد، أما في الآخرة فتتحقق السعادة للعبد في أسمى درجاتها بدخول الجنة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين.
وهكذا تتضافر الآيات لتوضح الغاية للمؤمن في الدنيا والآخرة، أما أصحاب الغايات الدنيوية فحالهم كحال من يسعى وراء السراب حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه، يقول جل شأنه: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى.
والسعادة هي الشعور بالارتياح والأمن والسكينة والطمأنينة والنعيم والرضا، وهذه السعادة تتفاوت في أصحابها على حسب ما يتوفر لهم من أسبابها.
والله من وراء القصد.
قرار إشهار
رقم 1590 بتاريخ 91/01/5002م
تشهد مديرية الشئون الاجتماعية بالشرقية بأنه قد تم إشهار جمعية أنصار السنة المحمدية بناحية بهنبا مركز ديرب نجم وذلك طبقًا لأحكام القانون 84 لسنة 2002م بشأن الجمعيات والمؤسسات الخاصة واللائحة التنفيذية لذلك القانون(204/2)
الأخوة الإسلامية
لفضيلة الشيخ/ علي عبد الرحمن الحذيفي ـ إمام المسجد النبوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فاتَّقوا الله وأطيعوه، واخشوا يومًا يجازِي الله فيه كلاًّ بعمله، فلا تظلَم نفس شيئًا وإن كان مثقالَ حبّة ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [فاطر:18].
أيّها النّاس، إنَّ الإسلامَ مبنيٌّ على أن لا نعبدَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، فلا نشرِك معه أحدًا في أيٍّ نوع من أنواع العبادةِ الظاهرة والباطنَة، قالَ الله تعالى: ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير [هود:2]، ومبنِيٌّ كذلك على أن لا نعبدَ الله إلاّ بما شرَع، لا نعبده بالبِدَع والمحدثاتِ، قال الله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [الحشر:7]، وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رَسول الله : «مَن عمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ»، و«من أحدَث في أمرنا هذَا ما ليس منه فهو ردّ» رواه البخاري ومسلم.
ألاَ وإنَّ مِن أصول الدّين أخوّةَ الإسلام، فأخوّةُ الإسلام رابِطةٌ متينَة ودرع حصينَة ونُصرة مبينة، أخوَّةُ الإسلام بها يتواصَل المسلمون، وبها يتناصرون ويقوَون، وبها يتراحمون ويتعاطَفون، وبها يتوارَثون، وبها يتعاوَنون، وبها يتناصَحون، ذكرها الله تعالى بعد الأمرِ بتقواه فقال عزّ وجلّ: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [الأنفال:1]، وقال تعالى: إنما المؤمنون إخوة [الحجرات:10]، وقال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله [التوبة:71]، وعن النّعمانِ بن بشير رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم مثَلُ الجسد إذا اشتَكى منه عضوٌ تداعى له الجَسَد بالحمَّى والسّهَر» رواه البخاري ومسلم، وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيانِ يشدُّ بعضه بعضًا» [رواه البخاري ومسلم]، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تحاسَدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابَروا، ولا يبع بعضكم على بيعِ بَعض، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلِم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدرِه ثلاث مرّات ـ، بحسب امرِئٍ من الشّرِّ أن يحقرَ أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرَام: دمه وماله وعِرضُه» رواه مسلم.
ومن عنايةِ الله العظمى بأخوَّة الإسلام أنَّ الله أمر بالإصلاحِ بين المسلمين إذا شجَر بينَهم خلافٌ والقضاءِ على النزاعِ الذي يقع بينَهم بالعدل والحقِّ والقِسط، ومن بغى واعتَدَى على الأخوَّةِ الإسلاميّة أمَر الله مَن له قدرةٌ أن يقاتِلَه بقدر ما يندَفِع به بغيُه وعدوانه حتى يرجعَ إلى حكم الله تعالى ويدخلَ في حِصن الأخوة الإسلاميّة، قال الله تَعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [الحجرات:9، 10].
ولِعِظَم أمر الأخوَّة الإسلاميّة آخَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين المهاجرِين والأنصارِ أخوّةً عامّة وأخوّةً خاصّة، فكان يؤاخِي بين المهاجريِّ والأنصاريّ أوّلَ قدومِه إلى المدينة النبويّة، وكانوا يتوارثون بهذه الأخوَّة الإيمانيّة، ثم نسِخَ التوارث بالأخوّة الإسلاميّة فصار التوارُث بالقرابة، وأخبرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّ كمالَ الإيمان أن يحبَّ المسلم لأخيه ما يحبّ لنفسه، فقال : «لا يؤمِن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» رواه البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه.
أيّها المسلمون، إنَّ الله تعالى لم يؤكِّد على تقويةِ أواصرِ الأخوّة بين المسلِمين ويقوِّ رَوابِطَها إلاّ لإعزازِ دينِ الله تعالى وحمايةِ مصالح المسلمينَ الدينيَّة والدنيويّة؛ ولذلك أمر الله بالاجتماعِ والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلافِ، فقال تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [آل عمران:103]، وقالَ تعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين [الأنفال:46]، ويقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «وكونوا عبادَ الله إخوانًا».
وإذا اجتمع المسلمون لبحثِ قضاياهم ومشكلاتهم بتوجيهٍ وحضٍّ من دينِهم فهم لا يريدون الظلمَ والعدوان على أحدٍ؛ لأنّ الإسلامَ ينهى عن العدوان وينهى عن الظلمِ كما قال تعالى: ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [البقرة:190].(205/1)
والإسلام لا يريد للبشريةِ إلاّ الخير والصلاحَ، والمؤمنون خير الناس للناسِ، وأرحمُ الناسِ بالناس. وأخوّةُ الإسلام يحمِي الله بها العدوانَ على الإسلام، وينصر بها الحقَّ والعدلَ، ويحفظ بها المصالحَ العامّة والخاصّة، قال الله تعالى: وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم [الأنفال:62، 63]؛ لأن الناسَ لا تأتلِف قلوبهم ولا يجتَمِعون إلاّ على الحقِّ الذي بعَث الله به محمَدًا صلى الله عليه وسلم ، ويقول تعالى: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون [الأنبياء:92]، ويقول صلى الله عليه وسلم : «المسلِمون تتكافَأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتِهم أدناهم، وهم يدٌ على من سِواهم».
في وقتٍ تضعضَع فيه حالُ أمّة الإسلام، وهانت على غيرها من الأمَم، وتفرَّقت كلِمتها، وأُهملت قضاياها في المحافِلِ الدوليّة، واشتدَّ الهجومُ على دينِها الإسلاميّ دينِ العدل والرحمة والخيرِ والسلام للبشريّة، وألصِقَ به ما ليس منه، في هذا الوقت تتطلَّع شعوب العالم الإسلاميّ إلى قادة هذه الشعوب أن يقفوا صفًّا واحدًا لصدِّ الهجماتِ الشّرِسة الحاقِدة على عقيدةِ أمّة الإسلام التي هي عقيدةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقيدَةُ الصحابةِ رضي الله عنهم والتابِعين لهم بإحسانٍ ومن تبعهم بإحسان، وأن يدافعوا عن هذه العقيدةِ النقيّة المضيئة، وأن يدافعوا عن أخلاق الأمّة أخلاق الفضائل الإسلاميّة والمكرُمات المحمّدية وأن يظهِروا وجهَ الإسلام الحقيقيّ لغير المسلمين بما ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه وبالاستقَامَة على دينه، ويبرِّئوه من كلّ فريةٍ وبدعة مخالفةٍ لكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والشّعوب الإسلاميّة تتطلَّع إلى الأفضلِ في كلّ شيء، والإصلاح لا يكون إلاّ من داخل الشعوب الإسلاميّة، نابعٌ من القرآن والسنة، بِتعاون المجتمعاتِ مع حكّامِها وتوافُقهم على مصالحِ الأمّة وتفاهُمِهم، مَع حذَرِهم من العُنف والفِتن المدمِّرة التي لا تخدم إلاّ أعداءَ الإسلام، ومع الحِرص على تحكيم الشريعةِ الإسلاميّة في كلّ صغيرة وكبيرةٍ.
وللشعوبِ الإسلاميّة أملٌ ومطلب أن يرحِّب قادَتُها بنصحِ العلماء ومشورَتِهم وتقريبِهم في كلِّ ما يخدم الدين والمجتَمَع، ومِن التَّحدُّثِ بنِعمة الله علَينا أنَّ بابَ المناصحةِ مفتوح بين العلماءِ وبين ولاةِ الأمر في بلادنا وفَّقهم الله، بل بينهم وبين أفرادِ الرعيّة عبرَ قنوات متعدِّدَة، فتحقَّق بذلك مَصالحُ عظيمَة واندفَع مفاسِدُ جسيمة ولله الحمد؛ لأنَّ الشريعةَ توجب ذلك، وهِي مرجِع الجميع، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «الدّين النصيحة، الدِّين النصيحة، الدّينُ النصيحة»، قلنا: لمن؟ قال: «للهِ ولكتابه ولرسولِه ولأئمّة المسلمين وعامَّتِهم».
[رواه مسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه]
ونَدعوا علماء المسلمين أيضًا إلى تبصيرِ الناسِ بمنهَج سلفِ الأمّة منَ الصحابة والتابعِين ومَن تبعهم بإحسان، والدّعوة إلى الله بالحِكمة والموعظة الحسنَة والمجادلة بالتي هي أحسن، وتفقيه الناس وتعليمهم الإسلامَ بالأدلَّة من القرآن والسنّة، فلن يصلح آخرُ هذه الأمة إلاّ بما صلح به أوّلُها، قال الله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون [آل عمران:104-107].
أيّها المسلِمون، إنَّ الله تبارك وتعالى ربَط مصالِحَكم كلَّها وسعادةَ دنياكم وآخرتكم بدينِكم واستِقامتكم عليه، قال الله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه [الطلاق:2،3]، وقالَ تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [الأحقاف:13]، وعَن سفيانَ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: «قل: آمنت بالله، ثم استقم» رواه مسلم. واجتماع كلمة المسلمين تتحقَّق بها المصالح كلُّها، وتنتفي معها المفاسد كلّها، ويندَحِر بها كيدُ أعداءِ المسلمين.
عبادَ الله، إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]، وقد قال : «مَن صلّى عليَّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا».
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين. والحمد لله رب العالمين(205/2)
الأخوة الدينية
98
الولاء والبراء
عبد العزيز بن عبد الرحمن المقحم
غير محدد
غير محدد
ملخص الخطبة
1- أعظم رابطة إنسانية هي أخوّة الدين 2- الأخوة الإسلامية نعمة وهبة ربانية 3- تشريعات الإسلام تُحرّم كل ما يَخدش الأخوة الإسلامية في غِش وهجر وخصومة 4- تشريعات الإسلام تأمر بكل ما يُوثّق الأخوة من إفشاء للسلام وسعي في الإصلاح و.. 5- الولاء حق للمسلمين 6- المرء يوم القيامة مع من أحب
الخطبة الأولى
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
عباد الله : كم من الحقوق ضيعتموها وكم من المحظورات ركبتموها، وأنتم مع ذلك تعلمون ما أمر الله به فيها، فإلى متى نظل مهملين وحتى متى نبقى مفرطين :
ألا نفوس أبيات لها همم أما على الخير أنصار وأعوان
أيها الناس: قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام:104] ، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
أيها المسلمون: إن أعظم رابطة تجمع الناس هي رابطة الدين ، ليس بين المسلمين فحسب ، بل بين كل قوم يجمعهم دين واحد ، ولكن المسلمين يمتازون عن غيرهم بأنهم على الحق وأنهم على صراط مستقيم من الله تعالى .
وإن تفريق الناس حسب أديانهم لهو التفريق الحق، والفاصل المتين بين كل ذوي نحلة وأخرى الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة :67] وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73] يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة :71].
في الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وأهل النيل جيراني
وأينما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني
لقد جعل الله بين المؤمنين أخوة هي أعظم من أخوة النسب ورابطة هي أقوى من رابطة الدم ، وشرع المولاة على ذلك ورغب في كل ما يزيد منها ويقويها؛ لأن بها قيام الدين وتعاون المسلمين ، ونهى عن كل ما يخل بها؛ لأن في اختلالها فساد الدين وشتات أمر المسلمين: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ % وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا [آل عمران : 102،103].
فانظر كيف قرن الله سبحانه الامتنان على عباده بتينك النعمتين العظيمتين وهما نعمة التأليف بين قلوب المؤمنين ونعمة إنقاذهم بهذا الدين من السقوط في النار ، كما امتن تعالى بذلك على رسوله الأمين فقال: هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ % وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال :62،63].
أجل إن التأليف بين القلوب لا يملكه أحد إلا الله جل وعلا ولذا بين سبحانه أنه لا يمكن أن يكون حتى لو أنفق كل ما في الأرض من أجله إلا أن يشاء الله رب العالمين ، وذلك بأن المشاعر من الحب والأنس والارتياح وكذا البغض والوحشة والنفرة لا يملكها إلا الله – عز وجل – وهو الذي يجعلها حيث يشاء ويصرفها كيف يشاء وإنه ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء كما صح في الحديث .(206/1)
بل لقد أكد الله – جل وعلا – تلك الأخوة في حال قيام فريق من المؤمنين بقتال فريق آخر منهم ، وليس في حال السلم والود فقط ، فقال سبحانه: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] حتى قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].
نعم إنها أخوة باقية ثابتة راسخة حتى بين هذين الفريقين المتحاربين من المسلمين كما جاء بذلك التنزيل المطهر فكيف بتلك الأخوة في حالة مجرد الديار، أو تباعد الأزمان أو في حالة السلم؟ أو حتى في حال خلاف شخصي؟ على أمر من الأمور جليل أو حقير؟
الجواب من عند الله تعالى ليس من عند فلان ولا فلان، ولا نشأ عن مواثيق دولية ولا أعراف قبلية وهو قوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]. إنما المؤمنون إخوة .
وكما نَطَق بذلك وحكم به رسوله فقال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه))[1]، وقال عليه الصلاة والسلام : ((لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا . . ))[2]، أو كما قال وليس ذلك فقط بل على حين ترى هذا الدين يجمع الأبيض والأسود والعربي والعجمي إذا كانوا من أهله وحملته فإنه يفرق بين الولد وأبيه والأخ وأخيه والقريب وقرابته إذا لم يكونوا على هذا الدين الإسلامي العظيم، أوَما سمعت قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [التوبة:23] ، وقوله جل ثناؤه: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، أوَتظن أمة المسلمين أمرًا سهلاً؟ ، كلا ثم كلا، إنه يجمعهم اشتراكهم في أفضل أمة، وخير كتاب، وأفضل رسول، فربهم واحد، ودينهم واحد، وطريقهم واحد، وهدفهم واحد .
وإن تلك الألفة والأخوة لتبقى معهم في دنياهم وفي برزخهم كما رُوِى أن أرواح المؤمنين تتزاور في البرزخ، بل يجدونها يوم القيامة حين يشفع بعضهم لبعض عند الله فيشفعه في أخيه
الأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67].
أوَلا ترى أن الله حرم التهاجر والتدابر بين المسلمين فإن تخاصم المسلمان فلهما فسحة من الوقت بقدر ما يكفي لبرود نار الغضب وزوال حمى الخلاف وذلك ثلاثة أيام فقط ثم يحرم على كل منها أن يهجر أخاه ويدخلا جميعًا في حيز الإثم ودائرة المعصية حتى إن أعمالهما لتحبس فلا تعرض على الله سبحانه لأجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام))[3]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((تعرض الأعمال على الله تعالى كل يوم اثنين وخميس فيغفر لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا))[4].
لماذا ؟ لأنهما خدشا خدشًا سهلاً في بناء تلك الأخوة، وتنافر قلباهما، وجعل كل منهما يبغض الآخر متناسيين ما بينهما من أخوة الدين وما ألزم الله به بين المؤمنين فكان جزاء ذلك أن تحبس أعمالهما معًا، فإذا سلّم أحدهما ولم يرد الآخر برئ المُسلّم وحار الإثم على صاحبه .
أوَما ترى كيف جعل الله سلامة الصدر على المؤمنين وعدم إيصال الغش والحقد والحسد على أحد منهم سببًا عظيمًا للفوز بالجنة التي هي مبتغى كل مسلم، فقد أخرج الإمام؟ في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: بينما كنت عند رسول الله قال: ((يطلع عليكم من هذه الثنية رجل من أهل الجنة)) فلما كان من الغد قال مثل ذلك، فلما كان من الغد قال مثل ذلك، فتبعته لأنظر كيف بلغ ما قال رسول الله، فبت عنده فما رأيت له صلاة فوق صلاتنا ولا قراءة فوق قراءتنا ، فسألته كيف بلغت ما قال رسول الله؟ فقال : إني لا أبيت ليلة وفي قلبي غش ولا حقد ولا حسد على مسلم. فانظر – يا رعاك الله – إلى هذا العمل ليس إنفاق بيض الأموال وحمرها ولا تقطيع ساعات الليل بالقيام ولا حبس النفس في الهواجر على الصيام ولكنه أعظم وأشق إلا على من يسره الله عليه بل أخبر رسوله أن تمام الإيمان رهن بقوة تلك الأخوة فإيمانك بقدر ما تجد في نفسك لإخوانك المسلمين ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))[5]، أرأيت؟ فكيف تجد نفسك تجاه ما كسبه بعض إخوانك المسلمين؟ وماذا عليك لو أرحت قلبك ولم تحرق أحشاءك ورضيت بما كتب الله لهم وهو العليم الخبير؟ بل ماذا عليك لو رغبت ذلك وأحببته لهم كما تحبه لنفسك؟(206/2)
عباد الله : إن أمر تلك الأخوة عظيم وغفلة المسلم عنها أعظم ، لقد أخرج رسول الله من المسلمين كل من غشهم في معاملته فقال: ((من غشنا فليس منا))([6]) ، بل أخرج منهم من لم يُجل كبيرهم ويرحم صغيرهم؛ لأن ذلك الرجل ضعفت عنده تلك الأخوة فلم يعد يشعر بأن من حوله أخوة له يأنف أن يغشهم وتنقاد نفسه راضية طيعة لإجلال كبيرهم ورحمة صغيرهم.
إن مدار ذلك على شعور المرء أنه بين إخوة له يحبهم ويحبونه ويحب لهم ما يحب لنفسه ، أو شعوره أنه فرد غريب في وسط غابة من الوحوش وعالم من الأشباح فلا يدخر وسعًا في إظهار نفسه عليهم مهما كانت السبل لذلك ولا يجد غضاضة في تحقير كبارهم أو الغلظة على صغارهم، ولذا قال عليه الصلاة والسلام عن مثل ذلك الشخص ((ليس منا)).
إنك ترى في حديثين اثنين – نذكرهما الآن – ما يبين لك حرص هذه الشريعة الغراء على بناء الأخوة الدينية بين المسلمين والحفاظ على قوتها وتماسكها، وفي المقابل دحر كل ما يضعفها أو يخالف نهجها .
أرأيت قول رسول الله : ((إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره أنه يحبه))[7]، فأي أخٍ هذا أتراه أخاه في النسب أم في الوطن أم زميله في العمل أو في تشجيع فكرة معينة أو ناد رياضي هلك به المخذولون؟ كلا وليس ذلك ولا قريبًا من ذلك ولكنه أخوه في الدين الذي أحبه لما يرى منه من طاعة الله ولزوم أمره حين ذاك ينبغي لهذا الشعور الباطن الخفي أن يخرج ويصرح به فيقول: (إني أحبك) وهو موعود على ذلك بوجوب محبة الله له كما قال سبحانه فيما رواه عنه رسوله : ((وجبت محبتي للمتحابين في))[8].
أرأيت ؟ إن الجزاء على ذلك ليس مالاً ولا عقارًا ولا ولدًا، لكن الجزاء أن يحبك الله جل وعلا فلله أي جزاء هذا ؟!
وفي المقابل ترى قول رسول الله : ((من تعزى عزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا))[9]، وحيث قال رجل عند أبي بن كعب: يا لبني فلان، قال له أبي: اعضض أير أبيك. فقال الرجل : ما عهدناك فاحشًا يا أبا المنذر! قال: بهذا أمرنا رسول الله . فانظر كيف كان ممنوعًا على المسلم أن يجعل لنفسه عصبية الإسلام وحمية لغير المسلمين وعزاء بغير الإسلام من نعرات الجاهلية والقومية والقبلية أو غيرها .
ثم تعاهدت شريعة الإسلام هذا البناء الذي قام بين المسلمين، فجعل الله أعظم الأجر والثواب في رأب صدعه وإصلاح ما فسد منها وشد ما ضَعُف؛ إذ قد أخبر رسول الله أن الساعي في إصلاح ذات البين له أجر الصائم القائم قال: ((فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ))[10].
فتَبصَّر – بَصّرك الله بالحق – كيف جعل قيام بناء الأخوة وتحققها في قلوب المؤمنين أساسًا لقيام الدين وسلامته وجعل فساد ذات بينهم ونفرة قلوب بعضهم من بعض لا تُضْعِف الدين فقط بل تحلقه كما يحلق الشعر. فأي أمر غفلنا عنه وأي رابطة فرطنا فيها ؟ وأي عروة أطلقتها أيدينا؟!!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . . . . إلخ.
[1]أخرجه البخاري :2/89.
[2]أخرجه مسلم : (البر والصلة).
[3]أخرجه البخاري :4/130، ومسلم : 8/9.
[4]أخرجه مسلم ( البر والصلة:36).
[5]أخرجه البخاري (الإيمان :7) ، ومسلم (الإيمان :71).
[6]أخرجه مسلم (الإيمان:164).
[7]رواه أبو داود والترمذي ، وقال الألباني : وإسناده صحيح (مشكاة المصابيح:5016) .
[8]رواه أحمد (21021)- الموطأ (1503).
[9]رواه أحمد (5/136). سلسلة الأحاديث الصحيحة:ص269.
[10]رواه الترمذي (صفة القيامة :2433) ، وأبو داود (الآداب :4273) ، وأحمد (26236) ، قال الألباني : صحيح (صحيح أبي داود:ص1411).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]. إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره ، واتبع سنته إلى يوم الدين.(206/3)
إذا رأيت – يا أخي – تشييد ذاك البناء القلبي والرباط الشعوري العظيم والحرص على كل ما يقويه ودحر كل ما يوهنه فإن خلال ذلك ما يكون مقويًا ومخذلاً، ولذا رغب الله ورسوله في نفع المسلمين ما تيسرت لذلك سبيل ووعد من نفّس عن مُسلم كربة من كرب الدنيا أن يُنَفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة، كما جاء في الصحيح وكما روى الدارقطني من قوله : ((أحب العباد إلى الله تعالى أنفعهم للناس ، وأعظم الأعمال عند الله تعالى سرور تدخله على قلب مسلم أو تفرج عنه كربًا أو تقضي عنه دينًا))[1].
وفي المقابل يقول : ((من خذل مؤمنًا في موقف يحتاج نصرته خذله الله في موقف يحتاج فيه نصرته))[2] أو كما قال .
وكما أوجب الله محبته لمن أحب فيه فقد أذن بحربه من عادى أولياءه المتقين فقال تعالى فيما رواه رسوله : ((من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب))[3].
عباد الله : إننا حين نشكو من تسلط الأعداء وانتشار المعاصي والسكوت عليها بين المسلمين وعدم اهتمام بعضهم ببعض، بل قل سعي بعضهم ضد بعض لنتساءل كيف بالمسلمين لو قامت بينهم تلك الأخوة؟ كيف بهم لو كان أحدهم يرى العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه مثل بيته وينظر إلى المسلمين كما ينظر إلى أسرته ويحمل في قلبه المودة والحب والدعاء في ظهر الغيب لجاره المسلم وإن خاصمه كما يحمل ذلك كله لإخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها . بل حتى من لم يجمعهم به زمن واحد فماتوا قبله أو جاءوا بعده وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر :10].
كيف ستكون حاجة أحدهم وهم كالبينان يشيد بعض بعضًا، وكيف تكون مأساة أحدهم وهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، كما وصفهم نبيهم وكيف سيكون الأعداء أمام أمة بهذه الصفة لا يجدون فيها مطمعًا ولا في رجالها مدخلاً ((فهم سواسية يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم))[4]، كما وصفهم نبيهم .
كثيرًا منا قصر في ذلك، وإن آخرين يفعلونه، ولكن ربما فعلوه عادة أو حياءً أو لأمر آخر وربما غابت عنهم نية العبادة واحتساب الأجر، ولو نوى ذلك واحتسبه لكان له من الله أجزل الثواب هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [الكهف :44] ، ولا ينبغي أن يحملها الإنسان أو يأتيها وهو يجهل مداها وأبعادها، فتلك الأخوة أمر تعبدي شرعه الله ورسوله، ووعد الله عليه أعظم الجزاء في الدنيا والآخرة، وإن آثاره لترى وتعمل في آحاد المسلمين ومجتمعاتهم ومن مات منهم ومن سيأتي بعدهم، كما ترى في أعدائهم ودخلائهم الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، بل إنك إذا أقمت ذلك الشعور في نفسك وعملت به فإن نفعه أكثر ما يكون لك، لا لغيرك فانظر – مثلا – حبك لسلف الأمة أتراه ينفعهم أو ينفعك؟ وماذا تستطيع أن تقدم لهم وقد ماتوا من أزمنة سحيقة غير دعائك – ونعما هو –؟ لكن نفعه لك أعظم وأجدى ولعله أن يلحقك بهم كما في الصحيح من حديث أنس قال : ((جاء أعرابي إلى رسول الله فقال : متى الساعة؟ قال : ما أعددت لها؟ قال: إني ما أعددت كثير صلاة ولا عمل غير أني أحب الله ورسوله، فقال : المرء مع من أحب)). قال أنس : (فوالله ما فرحنا بمثل هذه البشارة، فإنا نحب رسول الله وأبا بكر وعمر ولم نعمل مثل أعمالهم)[5].
وخذ مثلا آخر: تعاطفك مع المسلمين هنا وهناك، في البوسنة أو كشمير أو غيرهما، فهل ترى شيئا من وجدك وحرقتك قد رحل لينصرهم غير ما تدعو لهم به ولكنه ينفعك أنت إذ ما أحببتهم في دينهم ولا أسيت لهم إلا من أجل ما تسحب به من أخوة دينية قوية نحوهم وذلك خليق أن يحقق لك أوثق عرى الإيمان ففي الحديث: ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله))[6]، فأين لنا من يقول:
أنا عالمي ليس لي أرض أسميها بلادي
وطني هنا أو قل هنالك حيث يرفعها المنادي
فالفقر أحلى من رياض في رباها القلب صادي
اللهم أعز الإسلام والمسلمين . . . إلخ .
[1]حديث حسن (صحيح الجامع الصغير :ص176).
[2]رواه أبو داود كما في الترغيب:3/148.
[3]أخرجه البخاري (الرقاق:38).
[4]رواه أحمد :913، وأبو داود (الديات ك3927) ، قال الألباني : صحيح .(صحيح الجامع الصغير :ص6712).
[5]متفق عليه .
[6]رواه الطبراني :3/125، والبغوي :3/429، قال الألباني : ضعيف جدا ، ولكن له شواهد عدة يتقوى بها. (سلسلة الأحاديث الضعيفة: ص998).(206/4)
... ... ...
الأخوة فى الله ... ... ...
محمد حسان ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- حقيقة الأخوة في الله 2- حقوق الأخوة 3- الطريق إلى الأخوة ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أحبتى فى الله …
إننا اليوم على موعد مع موضوع من الأهمية القصوى بمكان وهو بعنوان ((الأخوة فى الله)) وكما تعودنا دائماً سوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان الرقيق فى العناصر التالية:-
أولاً: حقيقة الأخوة فى الله.
ثانياً: حقوق الأخوة.
ثالثاً: الطريق إلى الأخوة.
فاسمحوا لى أن أقول: أعرونى القلوب والأسماع والوجدان، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم ألوا الألباب.
أولاً: حقيقة الأخوة.
أحبتى فى الله: لقد أصبحت الأمة اليوم كما تعلمون غثاء كغثاء السيل، لقد تمزق شملها وتشتت صفها، وطمع فى الأمة الضعيف قبل القوى، والذليل قبل العزيز، والقاصى قبل الدانى، وأصبحت الأمة قصعة مستباحة كما ترون لأحقر وأخزى وأذل أمم الأرض من إخوان القردة والخنازير، والسبب الرئيس أن العالم الآن لا يحترم إلا الأقوياء ،والأمة أصبحت ضعيفة، لأن الفرقة قرينة للضعف، والخذلان، والضياع، والقوة ثمرة طيبة من ثمار الألفة والوحدة والمحبة، فما ضعفت الأمة بهذه الصورة المهينة المخزية إلا يوم أن غاب عنها أصل وحدتها وقوتها ألا وهو ((الأخوة فى الله)) بالمعنى الذى جاء به رسول الله فمحال محال أن تتحقق الأخوة بمعناها الحقيقى إلا على عقيدة التوحيد بصفائها وشمولها وكمالها، كما حولت هذه الأخوة الجماعة المسلمة الأولى من رعاة للغنم إلى سادة وقادة لجميع الدول والأمم، يوم أن تحولت هذه الأخوة التى بنيت على العقيدة بشمولها وكمالها إلى واقع عملى ومنهج حياة، تجلى هذا الواقع المشرق المضىء المنير يوم أن آخى النبى ابتداءً بين الموحدين فى مكة، على الرغم من اختلاف ألوانهم وأشكالهم، وألسنتهم وأوطانهم، آخى بين حمزة القرشى وسلمان الفارسى وبلال الحبشى وصهيب الرومى وأبى ذر الغفاري، وراح هؤلاء القوم يهتفون بهذه الأنشودة العذبة الحلوة.
أبى الإسلام لا أبَ لى سِوَاهُ إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ راحوا يرددون جميعاً بلسان رجل واحد قول الله عز وجل:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10]. هذه هى المرحلة الأولى من مراحل الإخاء.
ثم آخى النبى - ثانيا - بين أهل المدينة من الأوس والخزرج، بعد حروب دامية طويلة، وصراع مر مرير، دمر فيه الأخضر واليابس!!
ثم آخى رسول الله بين أهل مكة من المهاجرين وبين أهل المدينة من الأنصار، فى مهرجان حُبٍّ لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً، تصافحت فيه القلوب، وامتزجت فيه الأرواح، حتى جسد هذا الإخاء هذا المشهد الرائع الذى جاء فى الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى النبى بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أنى من أكثرها مالاً، سأقسم مالى بينى وبينك شطرين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك، فأطلقها حتى إذا حَلَّتْ تزوجْتَها. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك فى أهلك. دلونى على السوق، فلم يرجع يومئذٍ حتى أستفضَلَ شيئاً من سَمْنٍ وأقطٍ، فلم يَلْبث إلا يسيراً حتى جاء رسول الله وعليه وَضَرٌ من صُفرةٍ فقال له رسول الله ((مَهْيَمْ؟)) قال: تزوجتُ امرأةً من الأنصار قال: ((ما سقت إليها؟)) قال: وزن نواة من ذهب أو نواةٍ من ذهب فقال: ((أولم ولو بشاة)) ([1]) وقد نتحسر الآن على زمن سعد بن الربيع ونقول أين سعد بن الربيع الذي أراد أن يشاطر أخاه ماله وزوجه؟!!
والجواب: ضاع. وذهب يوم أن ذهب عبد الرحمن بن عوف.
فإذا كان السؤال: من الآن الذى يعطى عطاء سعد؟! فإن الجواب: وأين الآن من يتعفف بعفة عبد الرحمن بن عوف؟!!
لقد ذهب رجل إلى أحد السلف فقال: أين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً [ البقرة: 274 ]فقال له: ذهبوا مع من لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [ البقرة: 273 ].
هذا مشهد من مشاهد الإخاء الحقيقى بمعتقد التوحيد الصافى بشموله وكماله، والله لولا أن الحديث فى أعلى درجات الصحة لقلت إن هذا المشهد من مشاهد الرؤيا الحالمة.
هذه هى الأخوة الصادقة، وهذه هى حقيقتها، فإن الأخوة فى الله لا تبنى إلا على أواصر العقيدة وأواصر الإيمان وأواصر الحب فى الله، تلكم الأواصر التى لا تنفك عراها أبداً.
الأخوة فى الله نعمة جمة من الله، وفضل فيض من الله يغدقها على المؤمنين الصادقين ،الأخوة شراب طهور يسقيه الله للمؤمنين الأصفياء والأزكياء.(207/1)
لذا فإن الأخوة فى الله قرينة الإيمان لا تنفك عنه، ولا ينفك الإيمان عنها فإن وجدت أخوة من غير إيمان، فاعلم يقيناً أنها التقاء مصالح، وتبادل منافع، وإن رأيت إيمان بدون أخوة صادقة فاعلم يقيناً أنه إيمان ناقص يحتاج صاحبه إلى دواء وعلاج لمرض فيه، لذا جمع الله بين الإيمان والأخوة فى آية جامعة فقال سبحانه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [ الحجرات: 10 ].
فالمؤمنون جميعاً كأنهم روح واحدة حل فى أجسام متعددة كأنهم أغصان متشابكة تنبثق كلها من دوحة واحدة، بالله عليكم أين هذه المعانى الآن؟!!
ولذلك لو تحدثت الآن عن مشهد كهذا الذى ذكر آنفا ربما استغرب أهل الإسلام هذه الكلمات، وظنوها كما قلت من الخيالات الجميلة والرؤيا الحالمة لأن حقيقة الأخوة قد ضاعت الآن بين المسلمين، وإن واقع المسلمين اليوم ليؤكد هذا الواقع الأليم، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فلم تعد الأخوة إلا مجرد كلمات جوفاء باهتة باردة لا حرارة فيها إلا من رحم الله.
فإن الأخوة الموصلة بحبل الله المتين نعمة امتن بها ربنا جل وعلا على المسلمين الأوائل فقال سبحانه:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 102-103].
فالأخوة نعمة من الله امتن بها الله على المؤمنين وقال تعالى: فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ وقال تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ الأنفال: 63 ].
ثانيا: حقوق الأخوة فى الله.
الحق الأول: الحب فى الله والبغض فى الله.
ففى الحديث الذى رواه أبو داود والضياء المقدسي وصححه الشيخ الألباني من حديث أبى أمامة الباهلي أنه قال ((من أحبَّ لله، وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان))([2]).
وفى الصحيحين من حديث أنس أنه قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار ))([3]).
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة أن النبى قال: ((سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ فى عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا فى الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال، فقال: إنى أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه))([4]). هل فكرت فى هذا الحديث النبوى الشريف ؟!! يومٍ تدنو الشمس من الرؤوس، والزحام وحده يكاد يخنق الأنفاس، فالبشرية كلها - من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه الساعة - فى أرض المحشر، وجهنم تزفر و تزمجر، قد أُتِىَ بها ((لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها))([5]) فى ظل هذه المشاهد التى تخلع القلب، ينادى الله عز وجل على سبعة ليظلهم فى ظله يوم لا ظل إلا ظله - سبحانه وتعالى - ضمن هؤلاء السبعة السعداء: رجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، يالها ورب الكعبة من كرامة!!
وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أن النبى قال: ((إن رجلاً زار أخاً له فى قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته، ملكاً فلمَّا أتى عليه قال: أين تريد؟ فقال: أريد أخاً لي فى هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تَرُبّها؟ قال: لا. غير أنى أحببته فى الله عز وجل، قال: فإنى رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه))([6])
وفى موطأ مالك وأحمد فى مسنده بسند صحيح، والحاكم ،وصححه ووافقه الذهبى أن أبا إدريس الخولانى رحمه الله قال: دخلت مسجد دمشق فإذا فتى شابٌ برَّاق الثَّنايا والناس حوله فإذا اختلفوا فى شىء أسندوه إليه، وصدروا عن قوله و رأيه. فسألت عنه؟ فقيل: هذا معاذ بن جبل فلما كان الغد هجَّرت، فوجدته قد سبقنى بالتهجير، ووجدته يصلى، فانتظرته حتى قضى صلاته ثم جئته من قِبَل وجهه، فسلَّمت عليه. ثم قلت: والله إنى لأحبُّك فى الله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله. فقال: آلله؟ فقلت: آلله. فقال: آلله؟ فقلت: آلله. قال: فأخذ بحبوة ردائى، فجبذنى إليه، وقال: أبشر، فإنى سمعت رسول يقول: ((قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتى للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ))([7])(207/2)
وفى الحديث الذى رواه مسلم وأبو داود أنه قال: ((والذى نفسى بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شىء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))([8]).
فسلم على أخيك بصدق وحرارة، لا تسلم سلاماً باهتاً بارداً لا حرارة فيه.
إننا كثيراً لا نشعر بحرارة السلام واللقاء ولا بإخلاص المصافحة. . لا نشعر أن القلب قد صافح القلب.
ففى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة قال عليه الصلاة والسلام: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم فى الإسلام خيارهم فى الجاهلية إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ))([9]).
قال الخطابى: فالخَيِّر يحنو إلى الأخيار والشرير يحنو إلى الأشرار هذا هو معنى ما تعارف من الأرواح ائتلف، وما تنافر وتناكر من الأرواح اختلف، لذا لا يحب المؤمن إلا من هو على شاكلته من أهل الإيمان والإخلاص، ولا يبغض المؤمن إلا منافق خبيث القلب، قال الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [ مريم: 96 ].
أى يجعل الله محبتة فى قلوب عباده المؤمنين، وهذه لا ينالها مؤمن على ظهر الأرض إلا إذا أحبه الله ابتداءً. كما فى الصحيحين من حديث أبى هريرة قال رسول الله : ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إنى أحب فلاناً، فأحبه قال: فيحبه جبريل، ثم يُنادى فى السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء. قال ثم يوضع له القبول فى الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إنى أُبغض فلاناً فأبغضه فقال: فيبغضه جبريل ثم يُنَادى فى أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه. قال: فيبغضونه. ثم توضع له البغضاء فى الأرض))([10])
أيها الأحباب الكرام:
المرء يوم القيامة يحشر مع من يحب، فإن كنت تحب الأخيار الأطهار ابتداءً من نبيك المختار وصحابته الأبرار والتابعين الأخيار، وانتهاء بإخوانك الطيبين فإنك ستحشر معهم إذا شاء رب العالمين، وإن كنت تحب الخبث و الخبائث وأهل الفجور واللهو واللعب كنت من الخاسرين فتحشر معهم إذا شاء رب العالمين.
ففى الصحيحين من حديث أنس بن مالك : ((أن رجلاً سأل النبى عن الساعة. فقال: يا رسول الله متى الساعة. قال: ((وما أعددت لها؟)). قال: لا شىء، إلا أنى أحب الله ورسوله. فقال: ((أنت مع من أحببت)) قال أنس: فما فرحنا بشىء فرحنا بقول النبى : ((أنت مع من أحببت)). قال أنس فأنا أحب النبى وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بُحبِّي إياهم وإن لم أعمل بعملهم))([11]).
ونحن نشهد الله أننا نحب رسول الله وأبا بكر، وعمر، وعثمان وعليّ وجميع أصحاب الحبيب النبي، وكل التابعين لنهجه وضربه المنير، ونتضرع إلى الله بفضله لا بأعمالنا أن يحشرنا معهم جميعاً بمنّه وكرمه، وهو أرحم الراحمين.
ولله در القائل:
أتحب أعداء الحبيب وتدعى حباً له، ما ذاك فى الإمكان
وكذا تعادى جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان
إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصانِ
فلئن ادعيت له المحبة مع خلاف ما يحب فأنت ذو بهتان
لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفرُ
وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصرُ
فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هناك تذكرُ
مباينة الكفار فى كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر
وتخضع بالتوحيد بين ظهورهم تدعوهم لذاك وتجهر
ومن السُّنَّة إذا أحب الرجل أخاه أن يخبره كما فى الحديث الصحيح الذى رواه أبو داود من حديث المقدام بن معد يكرب أن النبى قال: ((إذا أحب الرجل أخاه فيلخبره أنه يحبه ))([12]).
وفى الحديث الذى رواه أبو داود من حديث أنس: أن رجلاً كان عند النبي فمر به رجل فقال: يا رسول الله! إنى لأحب هذا. فقال له النبى : ((أعلمته؟)) قال: لا. قال: ((أعلمه)) قال: فلحقه، فقال: إنى أحبك فى الله. فقال: أحبك الذى أحببتني له([13]).
وفى الحديث الذى رواه أبو داود وأحمد وغيرهما من حديث معاذ بن جبل أن النبي أخذ بيده وقال: ((يا معاذ والله إني لأحبك)).
فقال معاذ: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، فوالله إنى لأحبك. فقال : ((أوصيك يا معاذ فى دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعنى على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك ))([14]).
وامتثالاً لأمر النبى الكريم ،فإنى أشهد الله أنى أحبكم جميعاً فى الله، وأسأل الله أن يجمعنى مع المتحابين بجلاله فى ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولى ذلك والقادر عليه.
أقول قولى هذا، و أستغر الله لي ولكم.
([1]) رواه البخاري رقم ( 3781 ) فى مناقب الأنصار ، باب إخاء النبي بين المهاجرين
والأنصار ، ومسلم رقم ( 1427 ) في النكاح ، باب الصداق ، وجواز كونه تعليم القرآن
وخاتم حديد ، والموطأ ( 2/ 545 ) في النكاح ، وأبو داود رقم ( 2109 ) ، والترمذي
رقم ( 1094 ) ، والنسائي ( 6/ 119 ، 120 ) .(207/3)
([2]) رواه أبو داود رقم ( 4681 ) فى السنة ، باب الدليل على زيادة الإيمان ، وأخرجه أيضاً أحمد
فى المسند ( 3/ 438 ) ، وهو في صحيح الجامع ( 5965 ) .
([3]) رواه البخاري رقم ( 16 ) في الإيمان ، باب حلاوة الإيمان ، ومسلم رقم ( 43 ) في الإيمان ،
باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان .
([4]) رواه البخاري ( 1423 ) في الزكاة ، باب الصدقة باليمين ومسلم ( 1031 ) في الزكاة
باب فضل إخفاء الصدقة ، والموطأ ( 2/ 952 ) في الشعر ، باب ما جاء في المتحابين في
الله ، والترمذى رقم ( 2392 ) في الزهد ، والنسائي ( 8/ 222 ، 223 ) في القضاء .
([5]) رواه مسلم رقم ( 2842 ) في صفة الجنة ، باب في شدة حر نار جهنم ، والترمذي رقم
( 2576 ) في صفة جهنم ، باب ما جاء في صفة جهنم .
([6]) رواه مسلم رقم ( 2567 ) في البر و الصلة ، باب فضل الحب في الله ، وأخرجه أحمد في
المسند رقم ( 408 – 463 / 2 )
([7]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ ( 2/ 953 ، 954 ) في الشعر ، باب ما جاء في المتحابين
فى الله وأحمد في المسند ( 5/ 229 ) وإسناده صحيح وصححه الحاكم ( 4/ 168 ، 169)
على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ، وابن حبان فى صحيحه ( 2510 موارد ) وقال ابن
عبد البر : هذا إسناد صحيح .
([8]) رواه مسلم رقم ( 54 ) فى الإيمان ، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأن محبة
المؤمن من الإيمان ، وأبو داود رقم ( 5193 ) فى الأدب ، باب فى إفشاء السلام
والترمذي رقم ( 3689 ) في الاستئذان .
([9]) رواه مسلم رقم ( 2638 ) في البر والصلة ، باب الأرواح جنود مجندة ، وأبو داود رقم
( 4834 ) في الأدب ، باب من يؤمر أن يجالس. وهو في صحيح الجامع ( 6797 ) .
([10]) رواه البخاري رقم ( 3209 ) في بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم ،
ومسلم ( 2637 ) في البر والصلة ، باب إذا أحب الله عبداً حببه إلى عبادة ومالك في أو
الموطأ ( 2/ 953 ) في الشعر ، والترمذي رقم ( 3160 ) في التفسير .
([11]) رواه البخاري رقم ( 3688 ) في فضائل أصحاب النبى ، باب مناقب عمر بن الخطاب
، ومسلم رقم ( 2639 ) في البر والصلة ، باب المرء مع من أحب ، وأبو داود رقم
( 5127 ) في الأدب ، والترمذي رقم ( 1386 ) في الزهد .
([12]) رواه أبو داود ( 5124 ) في الأدب ، باب إخبار الرجل الرجل بمحبته إليه ، والترمذي رقم
( 2393 ) في الزهد ، باب ما جاء في إعلام الحب وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 279 )
([13]) رواه أبو داود رقم ( 5125 ) في الأدب ، باب إخبار الرجل بمحبته إليه ، وحسنه الألباني
في صحيح سنن أبى داود ( 4274 ) .
(13) رواه أبو داود رقم (1522) في الصلاة ، باب الاستغفار ، والنسائي ( 3/53) في السهو
باب نوع آخر من الدعاء ، والحاكم فى المستدرك ( 3/ 273-274 ) ، وقال صحيح
الإسناد ولم يخرجاه ، ووفقه الذهبي وهو في صحيح الجامع ( 7969 ) . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ،وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ،وأشهد أن محمداً عبد ورسوله اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله، وأصحابه، وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد أيها الأحبة الكرام.
الحق الثانى: أن لا يحمل الأخ لأخيه غلاً ولا حسداً ولا حقداً.
أحبتى فى الله:
المؤمن سليم الصدر، طاهر النفس، نقى، تقى القلب، رقيق المشاعر رقراق العواطف، فالمؤمن ينام على فراشه آخر الليل - يشهد الله فى عليائه - أنه لا يحمل ذرة حقد، أوغل، أو حسد لمسلم على وجه الأرض البتة ، والنبى يقول كما فى الصحيحين من حديث أنس بن مالك : (( لا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تنافسوا، وكونوا عباد الله إخوانا ))([1]).
إن الحقد والحسد من أخطر أمراض القلوب والعياذ بالله، فيرى الأخ أخاه فى نعمة، فيحقد عليه ويحسده، ونسي هذا الجاهل ابتداءً أنه لم يرض عن الله الذى قسم الأرزاق، فليتق الله وليعد إلى الله سبحانه وتعالى، وليسأل الله الذى وهب وأعطى أن يهبه ويعطيه من فضله، وعظيم عطائه، ويردد مع هؤلاء الصادقين: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [ الحشر: 10 ].
وردد مع هؤلاء بصفاء، وصدق، وعمل، فقد قال الله فيهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ الحشر: 9 ].(207/4)
ففى مسند أحمد بسند جيد من حديث أنس قال كنا جلوساً عند النبى فقال المصطفى: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه فى يده الشمال، فلما كان الغد قال النبى مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبى مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبى ، تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إنى لا حَيْتُ أبى فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤينى إليك حتى تمضى فعلت؟ قال: نعم، قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالى الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار- أى انتبه فى الليل - وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله غير أنى لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث ليالٍ وكدت أن أحتقر عمله، قلت يا عبد الله إنى لم يكن بينى وبين أبى غضب ولا هجر ثَمَّ ولكن سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك، فأقتدى بك، فلم أرك تعمل كثير عمل فما الذى بلغ بك ما قال رسول الله ؟! قال: ما هى إلا ما رأيت. قال: فلما وليت دعانى فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد فى نفسى لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التى بلغت بك، وهى التى لا نطيق. ([2])
إن سلامة الصدر من الغل والحسد بلغت بهذا الرجل أن يشهد له رسول الله بالجنة، وهو فى الدنيا..يا لها من كرامة.
الحق الثالث: طهارة القلب والنفس.
إن من حقوق الأخوة فى الله أنك إن لم تستطع أن تنفع أخاك بمالك فلتكف عنه لسانك، وهذا أضعف الإيمان، فإن تركنا الألسنة تُلقى التهم جزافاً دون بينة أو دليل، وتركنا المجال فسيحاً لكل إنسان أن يقول ما شاء فى أى وقت شاء، فإنما ينتشر بذلك الفساد والحسد، والبغضاء، فإن اللسان من أخطر جوارح هذا الجسم، قال الله جل وعلا : مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ ق: 18 ].
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ [ النور: 19 ].
وقال جل فى علاه: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:23-25 ].
تورع عن إخوانك، أمسك عليك لسانك، واتق الله، فوالله ما من كلمة إلا وهى مسطرة عليك فى كتاب عند الله لا يضل ربي ولا ينسى.
ففى الصحيحين من حديث أبى هريرة أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت))([3]).
وفى الصحيحين من حديث أبى موسى قال:قلت: ((يا رسول الله أى المسلمين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده))([4]).
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة واللفظ للبخارى أنه قال: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقى لها بالا، فيرفعه الله بها فى الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، فيهوى بها فى جهنم))([5]).
وفى حديث ابن عمر أن النبى قال: ((الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل فى عِرْضِ أخيه))([6]).
وأختم هذه الطائفة النبوية الكريمة بهذا الحديث الذى يكاد يخلع القلب والحديث رواه الإمام أحمد فى مسنده ،وأبو داود فى سننه من حديث يحيى بن راشد قال : ((من قال فى مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال))([7]). وردغة الخبال: عصارة أهل النار، والرَّدغة – بفتح الدال وسكونها- الماء والطين.
والله لو نحمل فى قلوبنا ذرة إيمان ونسمع حديث من هذه الأحاديث للجم الإنسان لسانه بألف لجام قبل أن يتكلم كلمة، ولكن لا أقول ضعف إيمان، بل إنا لله وإنا إليه راجعون.
الحق الرابع: الإعانة على قضاء حوائج الدنيا على قدر استطاعتك.(207/5)
واسمع إلى هذا الحديث الذى تتلألأ منه أنوار النبوة: عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: أن رجلاً جاء إلى النبى فقال: يا رسول! أى الناس أحب إلى الله؟ وأى الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله : ((أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل، سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربه، أو يقضى عنه دينا، أو يطرد عنه جوعاً، ولأن أمشى فى حاجة أخى المسلم أحب إلىّ من أن اعتكف فى المسجد شهراً - يعنى: مسجد المدينة -، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه – ولو شاء أن يمضيه أمضاه – ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله قدمه يوم تَزِلُّ الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل))([8]).
فمن حق المسلم على المسلم إن استطاع أن يعينه في أمر من أمور الدنيا أن لا يبخل عليه، فأنت يا مسلم لئن مشيت فى حاجة أخيك المسلم أفضل عند الله تعالى من أن تعتكف فى المسجد شهراً وثبت الله قدمك يوم تزل الأقدام.
وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة يقول المصطفى : ((من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله فى الدنيا والآخرة، والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه...))([9]).
فيا أخى المسلم، يا منْ منَّ الله عليك بمنصبٍ أو جاه. إن استطعت أن تنفع إخوانك فافعل ولا تبخل، وبالمقابل يجب على المسلمين، أن لا يكلفوا إخوانهم بما لا يطيقون، وإن كلفوهم فعجزوا فليعذروهم قال تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [ البقرة: 286 ].
وما أجمل أن يقول الأخ لأخيه: أسأل الله أن يجعلك مفتاح خير، وهذه حاجتى إليك، فإن قضيتها حمدت الله ،ثم شكرتك، وإن لم تقضها لى حمدت الله ثم عذرتك، هذه هى الأخوة.
الحق الخامس: بذل النصيحة بصدق وأمانة.
ففى صحيح مسلم من حديث تميم الدارى t أن رسول الله قال: ((الدين النصيحة)) قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))([10]).
لكن أتمنى من الله أن يعي إخوانى الضوابط الشرعية للنصيحة.
قال الشافعى: من نصح أخاه بين الناس فقد شانه، ومن نصح أخاه فيما بينه وبينه فقد ستره وزانه.
والناصح الصادق: رقيق القلب، نقى السريرة، مخلص النية، يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإن رأى أخاه فى عيب دنا منه بحنان، وتمنى أن لو ستره بجوارحه لا بملابسه، ثم قال له حبيبى فى الله. ثم يبين له النصيحة بأدب ورحمة ،وتواضع ،فلتُشْعِر أخاك وأنت تنصحه: بحبك له، وبتواضعك وخفض جناحك له، فقد سطر الله فى كتابه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ … [ الفتح: 29 ].
جلس رجل فى مجلس عبد الله بن المبارك فاغتاب أحد المسلمين، فقال له عبد الله بن المبارك: يا أخى هل غزوت الروم؟! قال: لا. قال: هل غزوت فارس؟! قال: لا. فقال عبدالله بن المبارك: سلم منك الروم وسلم منك فارس، ولم يسلم منك أخوك!!
والذى بُذِلَ له النصيحة عليه أن يحسن الظن بأخيه الناصح ولا تأخذه العزة بالإثم، وأن يتقبلها منه بلطف، وأدب، وتواضع، وحب، ويشكره عليها، ويدعو له بظاهر الغيب.
ورحم الله من قال: رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي.
الحق السادس: التناصر
عن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله : ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله أنصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ فقال : ((تأخذ فوق يديه))([11]).
انصر أخاك فى كل الأحوال، إن كان ظالماً خذ بيده عن الظلم، وإن كان مظلوماً وأنت تملك أن تنصره انصره، ولو بكلمة، وإن عجزت فبقلبك، وهذا أضعف الإيمان.
الحق السابع: أن تستر عيب أخيك المسلم وتغفر له زلاته:
وهذا من أعظم الحقوق: فالأخ ليس مَلَكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، فإن زل الأخ فى هفوة فهو بشر، فاستر عليه.
قال العلماء: الناس صنفان. صنف اشتهر بين الناس بالصلاح والبعد عن المعاصى، فإن زل ووقع وسقط فى هفوة من الهفوات على المسلمين أن يستروا عليه، ولا يتبعوا عوراته.
ففى الحديث الصحيح الذى رواه أحمد وأبو داود من حديث أبى برزة الأسلمى أنه قال: ((يا معشر من آمن بلسانه، ولما يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه فى بيته))([12]).
نسأل الله أن يسترنا وإياكم بستره الجميل.
والصنف الثانى من الناس: يبارز الله بالمعاصى ويجهر بها، ولا يستحى من الخالق، ولا من الخلق، فهذا فاجر، فاسق، لا غيبة له.
وأخيراً: الطريق إلى الأخوة.
وأنا أعتقد اعتقاداً جازماً أن الطريق قد وضع فى ثنايا المحاضرة، ولكننى أجمل هذا الطريق فى خطوتين اثنتين لا ثالثة لهما.
أما الخطوة الأولى: العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين.(207/6)
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا فلنعد إلى هذه الأخلاق السامية التى ينفرد بها الدين الإسلامى لتعود لنا الأخوة الصادقة فى الله، تعود الأخوة الحقيقة. لتلتئم الصفوف، وتضمد الجراح، وتلتقى الأمة على قلب رجل واحد.
فوالله ثم والله لا ألفة، ولا عزة، ولا نصرة، ولا تمكين، إلا بالعودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين، وإن شئت فقل العودة الصادقة إلى أخلاق سيد المرسلين، فلقد لخصت عائشة رضي الله عنها أخلاق النبى في كلمات قليلة ولكنها عظيمة فقالت: ((كان خلقه القرآن))([13]) نعم والله إنه كان قرآناً يمشيعلى الأرض في دنيا الناس.
أيها الأحبة: قد يكون من اليسير جداً –كما أقرر دائماً – تقديم منهج نظري في التربية والأخلاق، بل إن المنهج هذا موجود بالفعل وسُطِّر في بطون الكتب والمجلات، ولكن هذا المنهج لا يساوى قيمة الحبر الذى كتب به، إن لم يتحول فى حياة الأمة مرة أخرى إلى واقع عملى وإلى منهج حياة فإن البون شاسع بين منهجنا المنير المضىء ووقعنا المر المرير الأليم.
الخطوة الثانية: نتحرك لدعوة المسلمين إلى هذه الأخلاق بالحكمة والموعظة الحسنة.
بعد أن نحوِّل هذه الأخلاق النظرية إلى واقع عملى منير مضىء فى حياتنا يجب علينا بعد ذلك أن نتحرك لدعوة المسلمين إلى هذه الأخلاق بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة، والكلمة الرقيقة الرقراقة، والرفق والحلم، فهذا هو مقام دعوة الناس إلى الله فى كل زمان ومكان قال الله تعالى : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125].
وقال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [ آل عمران: 159 ].
أسأل الله أن يربط قلوبنا برباط وثيق رباط الحب فى الله، حتى نعود مرة أخرى إلى عزتنا وكرامتنا وسيادتنا وتتحقق السنن الربانية فينا بحوله ومدده إنه ولي ذلك والقادر عليه.
([1]) رواه البخارى رقم ( 6065 ) فى الأدب ، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر ، ومسلم
( 2563 ) في البر والصلة ، باب تحريم الظن والتحسس والتنافس ، و مالك فى الموطأ
( 2/ 907 ، 908 ) في حسن الخلق وأبو داود ( 4882 ، 4917 ) في الأدب ، باب
في الغيبة ، والترمذي ( 1928 ) في البر والصلة ، باب ما جاء في شفق المسلم على المسلم .
([2]) رواه أحمد في المسند ( 3/ 166 ) رقم ( 12633 ) وقال محققه إسناده صحيح ، ووراه
أيضاً الترمذي رقم ( 694 ) والطبراني فى الكبير ( 10/ 206 ) ، والحاكم في المستدرك
وصححه ووافقه الذهبي .
([3]) رواه البخاري رقم ( 6138 ) في الأدب ، باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه ، ومسلم
رقم ( 48 ) في الإيمان ، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير
وكون ذلك كله من الإيمان ، والموطأ ( 2/ 929 ) في صفة النبى .
([4]) رواه البخاري رقم ( 11 ) في الإيمان ، باب من سلم المسلمون من لسانه ويده ، ومسلم
رقم ( 42 ) في الإيمان ، باب بيان تفاضل الإسلام ، والترمذي رقم ( 2506 ) في
صفة القيامة ، والنسائي ( 8/ 106، 107 ) في الإيمان .
([5]) رواه البخارى رقم ( 6478 ) في الرقاق ، باب حفظ اللسان ، ومسلم رقم ( 2988 )
في الزهد ، باب التكلم بالكلمة يهوى بها فى النار ، والموطأ ( 2/ 985 ) في الكلام
، والترمذي فى الزهد ، باب فيمن تكلم بكلمة ليضحك بها الناس .
([6]) رواه الطبراني في الأوسط ( 1/ 143 ) وقال الألباني في الصحيحة ( 1871 ) : والحديث
بمجموع طرقه صحيح ثابت ، وهو في صحيح الجامع ( 3537 ) .
([7]) أخرجه أحمد في المسند ( 2/ 70 ) وقال الشيخ شاكر : إسناده صحيح ، وأبو داود رقم
( 3597 ) في الأقضية ، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها وصححه
الألباني في الصحيحة ( 437 ) .
([8]) رواه ابن أبى الدنيا في قضاء الحوائج ص 80 رقم 36 وحسنه الألباني في الصحيحة
( 906 ) وهو في صحيح الجامع ( 176 ) .
([9]) رواه مسلم رقم ( 2699 ) في الذكر والدعاء ، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن
وعلى الذكر وأبو داود رقم ( 4946 ) في الأدب ، باب من المعونة للمسلم ، والترمذى
( 1425 ) في الحدود ، باب ما جاء في الستر على المسلم ، وهو في صحيح الجامع ( 6577 ) .
([10]) رواه مسلم رقم ( 55 ) في الإيمان ، باب بيان أن الدين النصيحة ، والترمذي رقم
( 1927 ) في البر والصلة من حديث أبي هريرة .
([11]) رواه البخاري رقم ( 2444 ) فى المظالم ، باب أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً ، والترمذي
رقم ( 2256 ) في الفتن .
([12]) رواه أبو رقم ( 4880 ) في الأدب ، باب في الغيبة ، ورواه أيضاً أحمد في المسند ( 4/ 421 ) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ( 4083 ) .(207/7)
([13]) رواه مسلم رقم ( 746 ) في صلاة المسافرين ، باب جامع صلاة الليل ، ومن نام عنه أو مرض . ... ... ...
... ... ...
... ... ...(207/8)
الأدب مع المصحف
الحمد لله الكريم المنان، ذي الطول والفضل والإحسان الذي هدانا للإيمان، وفضل ديننا على سائر الأديان، ومن علينا بإرساله إلينا أكرم خلقه عليه، وأفضله لديه، حبيبه خليله وعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فمحا به عبادة الأوثان، وأكرمه بالقرآن المعجزة المستمرة على تعاقب الأزمان، التي يتحدى بها الإنس والجان، وأفحم بها جميع أهل الزيغ والطغيان، وجعله ربيعاً لقلوب أهل البصائر والعرفان، لا يخلق على كثر التردد وتغير الأحيان، ويسّره للذكر حتى استظهره صغار الولدان، وضمن حفظه من تطرق التغير إليه والحدثان... أما بعد:
فإن الله منَّ على هذه الأمة بالدين الذي ارتضاه، وأرسل إليها خير الأنام، وأكرمها بكتابه أفضل الكلام، وجمع فيه جميع ما يحتاج إليه من أخبار الأولين والآخرين والمواعظ والأمثال والآداب وضروب الأحكام، والحجج القاطعات في الدلالة على وحدانيته وغير ذلك مما جاءت به رسله صلوات الله عليهم، وضاعف سبحانه الأجر في تلاوته وأمرنا بالاعتناء به والإعظام، وملازمة الآداب معه وبذل الوسع في الاحترام. وكما قيل: من عرف الشيء عرف قدره، ومن علم أن القرآن كلام الله تعالى المولى القدير خالق السماوات والأرضين، عظم كلامه، وأعطاه حقه من المهابة والإجلال، وقد ذكر أهل العلم آداباً يتأدب بها المسلم مع كلام الله القرآن:
وأول أدب من هذه الآداب: هو إجلال وإعظام القرآن في القلوب، فهو كلام علام الغيوب، فإذا عرف الإنسان أن هذا كلام خالقه وخالق هذا الكون وعظم مولاه فإنه سيعظم كلامه.
ومن الآداب ما ذكره الإمام النووي رحمه الله في كتابه التبيان, قال: وينبغي إذا أراد القراءة أن ينظف فاه بالسواك وغيره، ويستحب أن يقرأ وهو على طهارة فإن قرأ محدثاً جاز بإجماع المسلمين، وأما الجنب والحائض فإنه يحرم عليهما قراءة القرآن سواء كان آية أو أقل منها، ويجوز لهما إمرار القرآن على قلبيهما من غير تلفظ به، ويجوز لهما النظر في المصحف وإمراره على القلب، وأجمع المسلمون على جواز التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأذكار للجنب والحائض، ويجوز لهما أن يقولا عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون إذا لم يقصدا القرآن.
قال: ويستحب أن تكون في مكان نظيف مختار ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد لكونه جامعاً للنظافة وشرف البقعة، ومحصلاً لفضيلة أخرى وهي الاعتكاف.
وأما القراءة في الطريق، فالمختار أنها جائزة غير مكروهة إذا لم يلته صاحبها فإن التهى كرهت. وإذا أراد الشروع في القراءة استعاذ فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وينبغي أن يحافظ على قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة سوى براءة، وإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة، فالتدبر هو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب قال تعالى: { كتاب أنزلناه إليك مباركٌ ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} ص:29.
قال: وينبغي أن يرتل قراءته. وقد اتفق العلماء على استحباب الترتيل قال تعالى: {ورتل القرآن ترتيلاً} المزمل: 4. ومما يعتنى به ويتأكد الأمر به احترام القرآن من أمور قد يتساهل فيها بعض الغافلين القارئين فمن ذلك: اجتناب الضحك واللغط، والحديث في خلال القراءة إلا كلاماً يضطر إليه. ومن ذلك النظر إلى ما يلهي ويبدد الزمن، وأقبح من هذ النظر إلى ما حرم الله تعالى.
قال: وقراءة القرآن من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر قلب؛ لأن النظر في المصحف عبادة مطلوبة، فتجمع القراءة والنظر.
ويستحب تحسين الصوت بالقراءة، وقد أجمع العلماء رضي الله عنهم من السلف والخلف على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، والأدلة على هذا كثيرة مشهورة من ذلك حديث أمامة: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا)1 وغيرها من الأحاديث. قال أهل العلم: يستحب تحسين الصوت بالقراءة وترتيلها مالم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن أفرط حتى زاد حرفاً أو أخفاه فهو حرام. والقراءة بالألحان كذلك إذا أفرط صارت حراماً. قال النووي:و هذا القسم الأول من القراءة بالألحان المحرمة مصيبة ابتلي بها بعض الجهلة والطغام الغشمة الذين يقرؤون على الجنائز وفي بعض المحافل، وهذه بدعة محرمة يأثم كل مستمع لها. ويجب على المسلمون صون المصحف، قال:وقد أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه.
ولو ألقاه مسلم في القاذورة والعياذ بالله تعالى صار الملقي كافراً، قالوا: ويحرم توسده. ويحرم المسافره بالمصحف إلى أرض العدو إذا خيف وقوعه في أيديهم للحديث المشهور في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، ويحرم بيع المصحف من ذمي، ويمنع المجنون والصبي الذي لا يميز من مس المصحف مخافة انتهاك حرمته، وهذا المنع واجب على الولي وغيره ممن رآه يتعرض لحمله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(208/1)
المرجع: التبيان ي آداب حملة القرآن للإمام النووي بتصرف.
-------------------
1 رواه أبو داود وصححه الألباني.(208/2)
الأذان الأذان شعار أهل الإسلام 2- 3
( التوحيد والأذان )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
فالأذان ليس مجرد وسيلة لإبلاغ الناس بوقت الصلاة؛وإنما يشتمل على معان متعددة، قال ابن حجر رحمه الله: قال القرطبي وغيره: الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة لأنه بدأ بالأكبرية وهي تتضمن وجود الله وكماله، ثم ثنى بالتوحيد ونفي الشريك، ثم بإثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم دعا إلى الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة لأنها لا تعرف إلا من جهة الرسول، ثم دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم وفيه الإشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيداً. ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت، والدعاء إلى الجماعة، وإظهار شعائر الإسلام.1
إن الأذان يعد تلخيصاً لدعوة الإسلام، فهو متضمن للشهادتين ، والإسلام كله قائم على أساسين عظيمين: أن يعبد الله وحده، وتلك شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن يعبد بما جاء به رسوله وتلك شهادة أن محمداً رسول الله.
وكما أن في الأذان : أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمد رسول الله، ففيه: حي على الصلاة ، والصلاة من أولها إلى آخرها تصديق عملي بالشهادتين، ففيها يقول المسلم في الفاتحة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } حي على الفلاح وتلك شهادة (أن لا إله إلا الله) وفيها يقول: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } وتلك شهادة "أن محمداً رسول الله".
"فالهداية هي البيان والدلالة ثم التوفيق والإلهام وهو بعد البيان والدلالة ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق..."2
لقد كان المتلفظ بالشهادتين في عصر الرسالة يعرف أنه يجتاز عالماً بأكمله ويدخل إلى عالم جديد يجتاز عالم الجاهلية بمبادئه وأخلاقه وعاداته ويعبر إلى الإسلام. إن العربي إبان البعثة كان يفهم مدلولات لغته ولذلك تحضرت في ذهنه كل المعاني التي يستعمل لها لفظ الإلهية بل وما تقتضيه من عمل عندما يقال له:قل: لا إله إلا الله.
وإن من أخطر ما تصاب به أركان الاعتقاد هو: أن تبقى في أذهان الناس ألفاظ جوفاء لا حقيقة لها في واقع حياتهم وهو ما حصل بالفعل في واقع الأمة اليوم حين صار المسلمون ينطقون الشهادتين ويرددونها في الأذان والإقامة والتشهد..و و، من غير فهم لمعناها الصحيح، ومن غير أن يثمر ذلك النطق واقعاً عملياً في حياتهم لما تقتضيه تلك المعاني.
تفسير ألفاظ الأذان:
إن الشهادتين ثلاث أقسام: الأول : فعل (أشهد) والثاني (لا إله إلا الله) والثالث: (محمد رسول الله) .
أولاً: (أشهد): هذا الفعل يأتي في اللغة بمعان ثلاثة أولها: أرى وأشاهد، ومنه قوله تعالى: { يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ }(المطففين 2). والثاني: الشهادة: وهي القول بما تعلم ومنه قوله تعالى: { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } (الطلاق: 2). وثالثها: الحلف ومنه الحديث: (على مثل الشمس فاشهد أو ذر)3.
فيكون معنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً سول الله أني شاهدت بقلبي، وشهدت بلساني وأيقنت يقين الحالف أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ثانياً : (لا إله إلا الله) : لقد كان العرب يعتقدون أن آلهتهم التي يشركونها مع الله تعالى أو من دونه تحميهم وتنصرهم وتجيرهم وتقضي حاجاتهم؛ ولذلك عبدوها دون أن ينكروا وجود الله أو ينكروا أنه الخالق والرازق، فلم يكن نزاع النبي صلى الله عليه وسلم معهم حول وجود الله تعالى وربوبيته، وإنما كان حول التسليم بالوحدانية والألوهية لله وحده. إن المشركين العرب الذي خوطبوا بـ (لا إله إلا الله) كانوا يعتقدون أن آلهتهم المزعومة لها قداسة بها استحقت العبادة ، فعمد القرآن إلى هذا الاعتقاد وأبطله؛ وأبطل كل شرك موجود أو متوقع، وبين بياناً حاسماً، أنه لا سلطة لأحد في الكون مع الله عز وجل فالألوهية والربوبية كلها لله، فهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله.
لقد قال القرآن الكريم لهؤلاء المشركين: إن من خلق الكون ويملك السلطة فيه هو الإله المستحق للعبادة فهذا الأمر غير قابل للتجزئة، إذ لا يكون الخلق في يد إله، والرزق في يد آخر. والحكم في يد ثالث {إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } (المؤمنون: 91)(209/1)
ثالثاً: (محمد رسول الله): هذا الشطر الثاني من الشهادتين يعني ثلاثة أمور: الأول: أن محمد رسول الله حقاً فهو من جهة ليس إلهاً ، وليست فيه أي صفة من صفات الألوهية ، ومن جهة ثانية : ليس كذاباً ولا ساحراً ولا كاهناً ولا مجنوناً ولا سامراً، فالذي يشترك فيه مع الناس هو البشرية، والذي يتميز به عنهم هو الوحي والنبوة، كما قال سبحانه: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ }(فصلت: 6). وقد قامت على صدق نبوته دلائل كثيرة : فمنها صفاته، ومنها معجزاته ومنها نبوءاته ، ومنها بشارات به في الكتب السابقة ، ومنها ثمرات دعوته في الأرض إلا أن أعظم آية تشهد له بالنبوة هي القرآن الكريم قال تعالى:{ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الحاقة: 43.) والرسول في اللغة هو: المبعوث، وإضافته إلى الله يعني أنه مبعوث الله إلى الناس، فالرسول رجل بعثه الله ليبلغ الناس، وأيده بالآيات الدالة على صدقه.
أما المعنى الثاني لشهادة أن محمداً رسول الله فهو: أن ما أخبر به من أمور الغيب حق يجب تصديقه فيه، وهذا الغيب يشمل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. وتصديقه في دعوى النبوة والرسالة يفضي إلى التسليم له بهذا العلم الذي أخبر به، لأنه ليس من عنده، بل من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة.
والمعنى الثالث: أن ما أمر به من أمور الشرع عدل وخير يجب إتباعه فيه، وقد أمر بشرع فيه صلاح الأفراد والأسر والمجتمعات، فإتباعه فيه بغير قيد ولا شرط من تمام الشهادة له بالنبوة والرسالة.
هذه المعاني الثلاث مترابطة؛ فالطاعة تتفرع عن المحبة ،والمحبة تتفرع عن المعرفة؛ إذ لا يمكن أن تطيع شخصاً لا تعرفه أو تتبع شخصاً لا تحبه. إن لا إله إلا الله محمد رسول الله ، اختيار في الحياة ، يحدد التصور الذي يعيش به المرء والسلوك الذي يتصرف به، والنطق بهما يعني تحولاً على المستوى الفكري والواقعي، فبهما يتحدد مصدر التلقي وبهما تتحدد الغاية والهدف وتلك الربانية : ربانية المصدر وربانية الغاية، فيعيش العبد بعلم الله تعالى المنزل يصوغ تصوراته كما يصوغ تصرفاته.
الله أكبر ، الله أكبر:
هذا النداء الذي افتتح به الأذان واختتم به، فيه تكبير الله عز وجل فهو سبحانه { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ }(الرعد: 9). وحيث أن الصلاة دعوة منه سبحانه ينقلها المؤذن عبر الأذان ، ناسب افتتاحها بالتكبير ليعلم الناس أن الله تعالى أكبر من شيء يصدهم عن دعوتهم، أو يشغلهم عن إجابة ندائه { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }(الجمعة:1).
حي على الصلاة ، حي على الفلاح:
هاتان الجملتان تعقبان الشهادتين في الأذان، وذكر الصلاة عقب الشهادتين يوافق الترتيب الذي رتبت به أركان الإسلام في الأحاديث. وحيث أن الإنسان مجبول على تقديم العاجلة على الآجلة ، وتفضيل النقد على النسيئة ، وبما أن الدنيا عرض حاضر، والآخرة وعد صادق، فالدنيا يراها والآخرة يسمع عنها فالذي يحدث غالباً أن الإنسان ينشغل بما يرى عما يسمع، ويقبل على العرض الحاضر ويغفل عن الوعد الصادق فيأتي في الأذان (حي على الصلاة، حي على الفلاح) لينادي على الناس وهم في أسواقهم يبيعون ويشترون، أو في أعمالهم يصنعون ويعملون، أو في بيوتهم يأكلون ويشربون،ليوازنوا في حياتهم بين الدنيا والآخرة قال تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ( ) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ }(النور 36-37). فقد أثنى عليهم ليس لكونهم تفرغوا للصلاة ولازموا المساجد ولا يبرحونها؛ بل لكونهم أصحاب تجارات وأعمال لا تلهيهم عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.(209/2)
إن نداءآت المؤذن : "حي على الصلاة ، حي على الفلاح" على رأس وقت كل صلاة إعلان عن وسطية الإسلام وجمعه بين الدين والدنيا ، فالمسلم في عبادة قبل الحضور إلى المسجد ، وهو في عبادة عندما يحضر بعد سماع الأذان ، وهو في عبادة عندما ينصرف بعد الصلاة إلى أشغاله وأعماله . ثم إن النداء ، بـ"حي على الصلاة حي على الفلاح" إيذان بانطلاق جولة جديدة من معركة الإنسان مع الشيطان، فهذا العدو سيسعى جهده ليصده عن ذكر الله ، وعن الصلاة، وإجابة النداء، والذهب إلى المسجد معناه كسب هذه الجولة الجديدة، وتحقيق الانتصار فيها، فالأذان يصل إلى الجميع ولكن الناس يختلفون : فمنهم منتصر ومنهم منهزم، فمنهم من يسمعه فيدع ما كان فيه ويجيب النداء ، وآخر يصلي في بيته في الوقت ، وثالث يؤخرها عن وقتها ، ورابع يتركها ولا يصليها وبهذا يستخرج ما في القلوب من إيمان أو كفر ونفاق ، ويكشف لكل عبد درجة إيمانه فإن الإيمان يعرف عند الطاعات.
أخيراً : إن من سوء ما يبتلى به المسلمون أن تجرد شعائر دينهم من معناها ، وتفرغ رموز دينهم من دلالتها ، فتتحول إلى رسوم وأسماء، والواجب أن نقول ذلك بقوة لتبقى لهذه الرموز دلالتها، وتستعيد ما كان لها من معنى يوم شرعت أول مرة، وهذا يفرض علينا إحياء طريق السلف في تلقين أحكام الدين حتى لا تقصر على جانب واحد؛ فإذا تناولنا أحكام الأذان على سبيل المثال لا نقتصر على بيان ألفاظه والأدعية التي تكون بعده وما يشترط في المؤذن ، بل نجمع إلى ذلك ما ذكر في هذا الموضوع ونفعل مثل هذا في دراسة الصلاة والزكاة والحج والصيام وسار شعائر الإسلام.4
والحمد لله رب العالمين
________________________________________
1 - فتح الباري 2/92.
2 - مدارج السالكين 1/9
3 - أخرجه الحاكم في المستدرك.وضعفه الألباني في إرواء الغليل.
-4 نقلاً عن مقال في مدجلة البيان العدد: 95 ص 32 وما بعدها بتصرف.(209/3)
الأذان شعار أهل الإسلام
(1- 3)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
نتكلم في ثنايا هذه الأسطر القليلة عن شعار أهل الإسلام ورمزهم، إنه ذلك النداء العظيم الذي يصدح من على مآذن المساجد في اليوم خمس مرات معلناً كلمة التوحيد، مبيناً أنه ليس هناك شيء أكبر من الله تبارك وتعالى.
من منا لم يسمع الأذان؟ ومن منا لم تطرق كلماته المتميزة أذنيه؟! إن كلمات الأذان بحمد الله تعالى تتردد في كل بلد مسلم، وترتفع كل يوم خمس مرات من آلاف المآذن والمساجد المنتشرة في المدن والقرى بحيث يمكن القول: إن عدد المرات التي يسمع فيها المسلم الأذان في حياته يفوق أي كلمات أخرى تتكرر على سمعه.
الأذان هو ذلك النداء الذي يعرفه كل مسلم، ويحفظ كلماته منذ طفولته وصباه، فهو شعار من شعائر الدين المشهور؛ لكن هذه الشهرة التي يتمتع بها الأذان بين المسلمين لا تعني بالضرورة أن المعاني والحقائق التي ينادى بها معروفة لكل الناس، فشهرة الكلمات تقابلها غربة المعاني والمضامين. إن معظم المسلمين يعرفون الأذان بوصفه أداة تجمعهم على الصلوات في المساجد، وقد يعرف بعضهم المعنى اللغوي لكلمات وألفاظه،ولكنهم يتفاوتون في معرفة المعاني الشرعية التي تحملها تلك الكلمات، مما يجعل لهذا الموضوع أهمية كبير؛ لأنه يحاول إحياء هذه المعاني والإشارة إلى هذه الحقائق حتى إذا سمع المسلم الأذان حضرت في قلبه وذكرها في نفسه، وهي حقائق لا يجوز أن تغيب عنه، فيتولى الأذان تذكيره بها بصفة مستمرة.
وقد شرع الأذان في السنة الأولى بعد الهجرة، بينما فرضت الصلاة قبله بعدة شهور في ليلة الإسراء والمعراج، ويبدوا أن تشريع الأذان تأخر إلى ما بعد الهجرة؛ لأنه لم يكن للمسلمين بمكة مسجد يجتمعون للصلاة فيه، فلما هاجروا إلى المدينة وبنوا المسجد احتاجوا إلى أداة تجمعهم في وقت واحد لإقامة الصلوات المكتوبة.
وكانت الأدوات التي يدعي الناس بها إلى الصلوات والطقوس الدينية هي: النفخ في البوق كما عند اليهود، والضرب على الناقوس كما عند النصارى، وإشعال النار كما عند المجوس، وأعطى الله هذه الأمة بدلاً عن تلك الأمور السابقة كلمات الأذان، والملاحظ أن الفرق بين هذه الطرق الثلاث وبين رفع الأذان هو: أن هذا الأخير كلماته مركبة في جمل لها معنى يرددها إنسان، ويرفع بها صوته، فيفهمها من له معرفة باللغة العربية أو من ترجمت له معانيها ونقلت إليه باللغة التي يتكلمها؛ بينما النفخ في البوق أو الضرب على الناقوس لا ينشئ كلاماً له معنى، وإنما يحدث أصواتاً صماء غاية ما تدل عليه هو الهدف الديني الذي وضعت له لكنها لا تحمل إلى السامع معاني أخرى عبر الصوت الذي يصل إلى مسامعه، وهذا الذي ذكرناه عن النفخ في البوق والضرب على الجرس ينطبق على إشعال النيران.
ولقد كان سبب مشروعية الأذان رؤيا رآها الصحابي الجليل عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس ليضرب به الناس في الجمع للصلاة –وفي رواية وهو كاره لموافقته للنصارى- طاف وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: ماذا تصنع به؟ قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك ؟ قال: فقلت له: بلى. قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله".
ثم استأخر غير بعيد ثم قال: تقول إذا أقيمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر ، الله أكبر، لا إله إلا الله" فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت . فقال: (إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتاً منك)، قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به. قال: فسمع بذلك عمر وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي أرى قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم (فلله الحمد). وفي البخاري من حديث نافع أن ابن عمر كان يقول: "كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها. فتكلموا يوماً في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بلال قم فناد بالصلاة). إذن لم يكن الأذان اقتراحاً من بعض الصحابة أو اتفاقاً بينهم؛ بل رؤيا رآها أحدهم، وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها رؤيا حق).(210/1)
إن مما يدل ويؤكد أن الأذان يتجاوز في مقاصده مجرد الإعلام بدخول وقت الصلاة ما يقول المسلم عندما يسمعه، فقد ندب الإسلام المسلم إذا سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول ووعده على ذلك بالجزاء والعطاء. وهذا يقتضي أن يقبل على الأذان فكلما سمع منه جمله رددها بلسانه ، فتتاح لقلبه فرصتان لتدبر معناها: الأولى: عندما سمعها ، والثانية : عندما يقولها ومعلوم أن الإسلام إذا أمر المسلم أن ينصت إلى كلام أو يردده فإنه يقصد استماع القلب لا استماع الأذن فحسب. إن توقف اللسان عن الاستمرار في الكلام الذي كان يقوله ، وانصرافه إلى متابعة كلمات الأذان من غير أن يسابق المؤذن بها، ومن غير أن يتأخر عنه، دليل آخر يؤكد أن الأذان للإعلام بدخول الوقت، وهو أيضاً تذكير بحقائق معينة لا بد أن الناس مسلمهم وكافرهم بحاجة إلى التذكير بها،ما هي هذه المعاني والحقائق؟ هذا ما سنذكره إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ،،،(210/2)
الأذان للصلاة المعادة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
هناك مسألة لا بد من توضيح أقوال العلماء فيها، وهي إذا صلّى فرد أو جماعة صلاة بأذان وإقامة في الوقت، وتبين فساد تلك الصلاة، وأرادوا إعادتها في الوقت، فهل يعاد الأذان والإقامة لها أم لا؟. هذا هو السؤال الذي يشكل على كثير من الناس اليوم.
والجواب: أن الفقهاء-رحمهم الله-لهم في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يُعاد الأذان والإقامة لها، وهو مذهب الحنابلة، وظاهر مذهب الشافعيّة(1)، ويتبين مذهب الشافعيّة من قول الزركشي:" من شرع في عبادة تلزمه بالشروع ثم أفسدها فعليه قضاءها على الصفة التي أفسدها مع الإمكان".(2) وهذا الكلام يفيد أن إعادة الأذان والإقامة مطلوبة للصلاة المعادة(3).
وأدلتهم على ذلك ما يلي:
أولاً من الآثار:
ما روي أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: أنه صلّى بالناس فلم يقرأ شيئاً، فقال له أبو موسى الأشعري-رضي الله عنه-: يا أمير المؤمنين أقرأت في نفسك، قال : لا، فأمر المؤذنين فأذّنوا وأقاموا وأعاد الصلاة بهم(4).نقل عن الإمام الشافعي تضعيف هذا الأثر لكونه مرسلاً.
ثانياً : من المعقول:
أن في الأذان والإقامة للصلاة المُعادة إعلام للناس ليجتمعوا للإعادة(5).
القول الثاني: أنه لا يعاد الأذان والإقامة لها، إلّا إن طال الفصل فتعاد الإقامة، وهو مذهب الحنفيّة(6).
القول الثالث: أنه تعاد الإقامة لها، ولو قرب، ويجوز الأذان، وهو مذهب المالكية(7).
وهذا القول هو أقرب الأقوال للصواب في حالة عدم تفرّق القوم وذلك لما يلي:
1- الأثر الذي استدلّ به أصحاب القول الأول ضعيف، كما تقدّم من أنه نقل عن الشافعي رحمه الله- تضعيف الأثر لكونه مرسلاً.
2- الأصل في الأذان أنه لإعلام الغائبين وقد حصل، أما الإقامة فهي لاستنهاض الحاضرين.
فإن تفرّق الناس وطال الفصل، فالقول بإعادة الأذان والإقامة أرجح، لحاجتهم حينئذٍ لكِلَا الإعلامين(8).
هذا والله أعلى وأعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين،،،،
________________________________________
1 -بدائع الفوائد لابن القيم ص(404).
2 - المنثور في قواعد الزركشي(2/152).
3 - أحكام الأذان والنداء والإقامة (346).
4 -أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/353). ونقل عن الإمام الشافعي تضعيف هذا الأثر لكونه مرسلاً.
5 - بدائع الفوائد ص(404).
6 -البحر الرائق(1/276).
7 - الخرشي على مختصر خليل(1/236).
8 - راجع: أحكام الأذان والنداء والإقامة ص(347).(211/1)
الأذان للمنفرد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن وآلاه. أما بعد:
فقد اتفق الفقهاء-في الجملة-على مشروعيّة الأذان والإقامة، للمنفرد والجماعة ممن صلى في المصر1 في غير المسجد كمن صلّى في بيته, أو في المؤسسات التي تقام فيها الصلاة، والإقامة آكد من الأذان في ذلك2.
واختلفوا في وجوبهما على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنهما لا يجبان، وهو رأي الجمهور من الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنابلة3.
أدلة أصحاب هذا القول: استدلّ الجمهور على عدم وجوب الأذان والإقامة، بما يلي:
أولاً من السنة:
1- حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- في الأعرابي المسيء صلاته حيث قال له النبي-صلى الله عليه وسلم-:" إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن..." 4 ووجه الدلالة من الحديث أن النبي-صلى الله عليه وسلم-أمر الأعرابي بأركان الصلاة وواجباتها، ولم يذكر معها الأذان والإقامة، فدلّ على عدم وجوبهم5.
ثانياً من الآثار:
1- ما روي أن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-صلّى بعلقمة، والأسود بغير أذان ولا إقامة، وقال : يجزئنا أذان الحيّ وإقامتهم6. ووجه الدلالة في الأثر إشارة إلى أن أذان الحيّ وإقامتهم وقع لكل واحد من أهل الحيّ7.
2- ما روي عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أنه قال: إذا كنت في قرية يؤذّن فيه ويقام أجزأك ذلك8.
3- ما روي عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما-أنه كان لا يقيم بأرض تقام فيها الصلاة"9.
ثالثاً من المعقول:
1- أن الأذان لإعلام الناس حتى يجتمعوا، وذلك غير موجود هنا، فأشبه قوله:"الصلاة جامعة"10.
2- أن مقصود الأذان حصل بأذان غيره11.
قال الشيخ العثيمين-رحمه الله-وهو يتكلم على شروط إقامة الأذان، فذكر منها الجماعة، قال: "بخلاف المنفرد فإنه سنة في حقه؛ لأنه ورد فيمن يرعى غنمه ويؤذن للصلاة أن الله يغفر له ويثيبه على ذلك, والحديث عن عقبة بن عامر –رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول:يعجب ربك من راعي غنم على رأس الشَّظِيَّة12 للجبل يؤذن للصلاة ويصلي، فيقول الله: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم للصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة13وهذا يدل على استحباب الأذان للمنفرد وليس بواجب14.
وقال الشوكاني-رحمه الله تعالى-بعد أن ذكر حديث عقبة بن عامر، وغيره من الأحاديث التي تدل على فضل رفع الأذان :"وفيه دليل على أن الأذان يسن للمنفرد وإن كان بحيث لا يسمعه أحد"15.
القول الثاني: أنهما يجبان وهو رواية عند الحنابلة16.
أدلة أصحاب القول: استدلّ من قال بوجوب الأذان والإقامة، بما يلي:
أولاً من السنة:
1- حديث مالك بن الحويرث-رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال لهما:... فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم17. ووجه الدلالة من الحديث أنه-صلى الله عليه وسلم- أمر بالأذان، والأمر يقتضي الوجوب18. ولا جماعة معهم19.
2- حديث أبي الدرداء-رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يقول:ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان...20. ووجه الدلالة: أن الترك الذي هو نوع من استحواذ الشيطان يجب تجنّبه21.
ثانياً من الآثار:
عن عطاء بن أبي رباح قال: دخلت مع عليّ بن الحسين على جابر بن عبد الله فحضرت الصلاة، فأذَّن وأقام22.
القول الثالث: أن الإقامة تجب دون الأذان، وهو رأي لبعض المالكية23.
أدلة أصحاب هذا القول: استدلّ من يرى وجوب الإقامة دون الأذان، بما يلي:
أولاً من السنة:
حديث الرجل المسيء صلاته، فقد جاء في رواية:... فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد فأقم ثم كبر...24. ووجه الدلالة من الحديث أن النبي-صلى الله عليه وسلم- أمره بالإقامة ضمن أركان وواجبات وشروط الصلاة، ولم يذكر الأذان، فدلّ على وجوبها دون الأذان.
الراجح- والله أعلم-هو القول الأوّل القائل بعدم وجوب الأذان والإقامة للمنفرد, ولمن صلّى في المصر في غير المسجد، وذلك لقوة الأدلة والآثار الثابتة، ودلالة المعقول الذي استدلّ به، وسلامتها من المعارضة25.
اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل، والله الموفق إلى سواء السبيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - المصر: البلدة
2 - راجع: المبسوط(1/133)، وبدائع الصنائع (1/152).
3 -المصادر السابقة.
4 - متفق عليه.
5 - المجموع(3/89)، مغني المحتاج(1/133)، والمغني (2/74).
6 - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف(1/199). والبيهقي واللفظ له في السنن الكبرى(2/166) وهو في صحيح مسلم بلفظ:" فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة"، صحيح مسلم بشرح النووي (5/15).
7 - بدائع الصنائع(1/653).
8 - البيهقي في السنن الكبرى(2/167).
9 - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف(1/200). والبيهقي في السنن الكبرى(2/167).
10 - المبسوط(1/133).
11 - المجموع (3/93).(212/1)
12 - الشظية. القطعة المرتفعة من الجبل وهي بالظاء المعجمة.
13 - أبو داود في الصلاة باب الأذان في السفر..وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (1062)، وصحيح الجامع رقم(8102).
14 - راجع: الشرح الممتع على زاد المستقنع (2/41-42).
15 - نيل الأوطار.(2/43).
16 - المستوعب(2/49)، والمبدع(1/312).
17 - متفق عليه.
18 - مغني المحتاج(1/134).
19 - الأوسط(3/60).
20 - أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم(5701).
21 - نيل الأوطار(2/33).
22 - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف(1/199).
23 - المدونة(1/182).
24 - سنن أبي داود رقم (861).
25 - انظر أحكام الأذان والنداء والإقامة ص(345).(212/2)
الأذان والإقامة في مسجد سبقت في الجماعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن وآلاه أما بعد:
إذا أقيمت جماعة في مسجد بأذان وإقامة- كما هو مشروع- ثم حضر قوم لم يصلوا وأرادوا أن يصلوا جماعة، فهل يشرع لهم الأذان والإقامة؟ اختلفت أقوال المذاهب في هذه المسألة على النحو التالي:
أولاً : الحنفية:
ولهم تفصيل في هذه المسألة، فقالوا: إن كان المسجد له أهل معلوم، وصلّى فيه غير أهله بأذان وإقامة، لا يكره أن يعيدوا الأذان والإقامة.
وإن صلّى فيه أهله بأذان وإقامة أو بعض أهله يكره لغير أهله, وللباقين من أهله أن يعيدوا الأذان والإقامة.
فإن كان المسجد ليس له أهل معلوم بأن كان على الطريق لا يكره تكرار الأذان والإقامة فيه(1).
ثانياً المالكية:
يكره لهم الأذان دون الإقامة(2).
ثالثاً: الشافعية:
يسنّ لهم الأذان والإقامة على الصحيح من المذهب، لكن الأولى أن لا يرفع الصوت لخوف اللّبس، سواء كان المسجد مطروقاً أو غير مطروق.
والوجه الثاني: أنه لا يسنّ الأذان(3).
رابعاً الحنابلة:
يستوي الأمر، فإن شاؤوا أذَّنوا وأقاموا، وإن شاؤوا صلّوا بغير أذان ولا إقامة، فإن أذّنوا فالمستحبّ أن يخفي الصوت ولا يجهر به ليغرَّ الناس بالأذان في غير محلّة(4).
أدلّة من قال بالجواز أو السنية:
أولاً: من الآثار:
ما روي أن أنساً –رضي الله عنه- دخل المسجد وقد صلوا، فأمر رجلاً فأذّن وأقام فصلّى بهم جماعة(5).
ثانياً: من المعقول:
أن الدعوة الأولى تمّت بالإجابة الأولى(6).فاستحبّ النداء ثانيةً.
أدلّة القائلين بالمنع:
أولاً: من الآثار:
ما روي أن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-صلّى بعلقمة والأسود بغير أذان ولا إقامة، وقال: "يجزئنا أذان الحيّ وإقامتهم"(7).
ثانياً من المعقول:
أن أذان وإقامة الجماعة الأولى في المسجد تجزئ عمّن جاء بعدهم(8)؛ لأن كل واحد من الجمع مدعوّ بالأذان الأوّل مجيب(9).
والراجح والله أعلم- هو القول بسنية الأذان والإقامة للجماعة الثانية، ولكن يلاحظ عدم رفع الصوت إذا خيف اللبس، وذلك لوجاهة ما استدلّوا به؛ ولأن الأذان والإقامة فيهما ذكر لله وفضل عظيم فلا يمنع من ذكر الله، وما روي عن ابن مسعود من قوله:"يجزئنا أذان الحيّ وإقامتهم"، فهو لبيان الجواز(10).
والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - المبسوط(1/135). بدائع الصنائع(1/153).
2 - المدونة(1/182).
3 - المجموع(3/93).
4 - المغني (2/48).
5 - ذكره البخاري معلقاً في كتاب الأذان باب فضل صلاة الجماعة.
6 - الوسيط(2/48).
7 - ابن أبي شيبة في المصنف(1/199)، والبيهقي واللفظ له في السنن الكبرى(2/166).، واصله في صحيح مسلم بلفظ:" فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة" صحيح مسلم بشرح النووي (5/15).
8 - المغني(2/80).
9 - الوسيط (2/48).
10 - أحكام الأذان والإقامة والنداء (343-345).(213/1)
الأذان والإقامة للصلوات الخمس
في السفر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد اتفق الفقهاء على استحباب الأذان والإقامة في السفر للمنفرد والجماعة، إلا ما ذكره بعض المالكية عن الإمام مالك بعدم استحباب الأذان للمسافر(1). وقد استدلّ الفقهاء على استحباب ذلك بأدلّة، منها ما يلي:
1- حديث مالك بن الحويرث-رضي الله عنه-قال: "أتى رجلان إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-يريدان السفر، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-:(إذا أنتما خرجتما فأذنا، ثم أقيما، ثم ليؤمكما أكبركما)(2).
2- حديث عقبة بن عامر-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يقول: (يعجب ربك- عزوجل-من راعي غنم في رأس شظية بجبل يؤذن للصلاة ويصلي....) (3).
3- حديث سلمان الفارسي-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- :(إذا كان الرجل بأرض قِيٍّ(4)فحانت الصلاة فليتوضأ، فإن لم يجد ماءً فليتيمم، فإن أقام صلى معه ملكاه، وإن أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يُرى طرفاه)(5).
4- حديث أبي قتادة-رضي الله عنه-:"سرنا مع النبي-صلى الله عليه وسلم-ليلة، فقال بعض القوم: لو عرَّست(6) بنا يا رسول الله!، قال: (أخاف أن تناموا عن الصلاة)، قال: بلال: أنا أوقظكم، فاضطجعوا، وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ النبي-صلى الله عليه وسلم- وقد طلع حاجب(7) الشمس، فقال: (يا بلال! أين ما قلت؟) قال: ما ألقيت علي نومة مثلها قط. قال: (إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء, يا بلال قم فأذن بالناس بالصلاة), فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابياضت قام فصلى"(8).
5- حديث عبد الرحمن بن أبي صعصعة-رضي الله عنه- أن أبا سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال له النبي-صلى الله عليه وسلم-: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك-أو باديتك-فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن, ولا إنس, ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة) قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله-صلى الله عليه وسلم-(9).
6- حديث أنس بن مالك، في قصة سماعهم لأذان صحاب المعز, والذي فيه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-كان يغير إذا طلع الفجر, وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار، فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (على الفطرة)، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (خرجت من النار)، فنظروا فإذا هو راعي معزى"(10).
وأما ما نقل عن الإمام مالك فقد استدلّ له بما يلي:
1- ما روي عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنه- أنه كان لا يزيد على الإقامة في السفر إلّا في الصبح فإنه كان ينادي فيها، ويقيم، وكان يقول: "إنما الأذان للإمام الذي يجتمع الناس إليه"(11).
2- ما روي عن عليّ بن أبي طالب-رضي الله عنه-أنه قال في المسافر: "إن شاء أذّن وأقام وإن شاء أقام"(12).
الترجيح:
يلاحظ من هذه الأدلة أن مذهب جمهور الفقهاء من استحباب الأذان والإقامة مطلقاً هو الراجح، وذلك لما يلي:
1- أن الأحاديث دلّت على أن الأذان والإقامة من شأن الصلاة لا يدعها مسافر ولا حاضر(13).
2- أثبتت تلك الأحاديث أن من سنّة النبي-صلى الله عليه وسلم- الأذان والإقامة للصلوات في السفر، وأثبتت أيضاً أمره بذلك(14).
3- أن المقصود من الأذان لم ينحصر في الإعلام، بل كل منه ومن الإعلام بهذا الذكر نشراً لذكر الله ودينه في أرضه, وتذكيراً لعباده من الجنّ والإنس الذين لا يرى شخصهم في الفلوات من العباد(15).وإظهاراً لشعائر الإسلام(16). فدلّ على إبطال قول من زعم أنه لا معنى له إلا ليجمع الناس، بل له فضل كثير جاءت به الآثار(17).
إن ترك المسافر الأذان دون الإقامة، لم يكره باتفاق جمهور الفقهاء القائلين باستحباب الأذان والإقامة في السفر(18).
أما من تركها جميعاً أو ترك الإقامة فقد صرّح بكراهة ذلك فقهاء الحنفية، وهو الظاهر من كلام المالكية والحنابلة(19).
وعلّلوا ذلك بما يلي:
1- أنَّ من ترك الأذان والإقامة في السفر، فقد خالف الأمر المذكور في حديث مالك بن الحويرث(20).
2- ما روي عن عليّ-رضي الله عنه-أنه قال في المسافر: "إن شاء أذّن وأقام وإن شاء أقام".
ووجه الدلالة من ذلك:
أن عليَّا-رضي الله عنه-لا يرى بأساً بترك الأذان في السفر، دون الإقامة.
3- أن السفر سبب الرخصة وقد أثر في سقوط شطر، فجاز أن يؤثر في سقوط أحد الأذانين، إلا أن الإقامة آكد ثبوتاً من الأذان فيسقط شطر الأذان دون الإقامة(21).
4- أن الأذان للإعلام بدخول وقت الصلاة ليحضروا، والقوم في السفر حاضرون، والإقامة للإعلام بالشروع في الصلاة وهم إليها محتاجون(22).
5- أن الأذان والإقامة من لوازم الجماعة، والسفر لا يسقط الجماعة فلا يسقط ما هو من لوازمها الشرعية(23)"(24).(214/1)
والله أعلم والهادي إلى سواء السبيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد, والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - بدائع الصنائع(1/153).
2 - البخاري، كتاب الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد رقم(630).
3 - أبو داود في الصلاة باب الأذان في السفر..وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (1062)، وصحيح الجامع رقم(8102).
4 - الأرض القفر الخالية.
5 - أخرجه عبد الرزاق في المصنف(1/510) برقم(1955)، وابن أبي شيبة موقوفاً على سلمان(2/198).برقم (2277)، والبيهقي في السنن الكبرى(2/165).برقم(1946). وصحح وقفه ثم قال: " وقد روي مرفوعاً، ولا يصحّ رفعه).
6 - التعريس: نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة.(النهاية(3/186).)
7 - ناحية منها (لسان العرب(3/51).)
8 -متفق عليه.
9 - البخاري، كتاب الأذان، باب رفع الصوت بالنداء رقم(609).
10 - مسلم في كتاب الصلاة ، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان رقم(382).
11 - مالك في الموطأ(1/69)رقم(160)، والبيهقي في السنن الكبرى(2/177). رقم (1983).
12 - البيهقي في السنن الكبرى(2/178).
13 - التمهيد(3/58).
14 - شرح موطأ الإمام مالك للزرقاني(1/224).
15 - فتح القدير(1/254).
16 - مواهب الجليل للحطاب(1/450).
17 - شرح موطأ الإمام مالك للزرقاني(1/225).
18 - بدائع الصنائع (1/153).
19 -بدائع الصنائع(1/153).
20 - فتح القدير(1/255).
21 - المبسوط(1/132).
22 - بدائع الصنائع(1/153).
23 -فتح القدير(1/255).
24 - راجع: أحكام الأذان والنداء والإقامة ص(301-304).(214/2)
الأذان والإقامة للنساء
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:
اتفق جمهور الفقهاء على أنه ليس على النساء أذان ولا إقامة، سواءً كان أذانهنّ أو إقامتهنّ لجماعة النساء أو لنفسها منفردة(1).
ويرى بعض العلماء أن النساء كالرجال في الأذان والإقامة، وفي ذلك يقول الشوكاني-رحمه الله- :" ثم الظاهر أن النساء كالرجال؛ لأنهن شقائق الرجال، والأمر لهم أمر لهنّ، ولم يرد ما ينتهض للجة في عدم الوجوب عليهنّ، فإن الوارد في ذلك في أسانيده متروكون ولا يحل الاحتجاج بهم، فإن ورد دليل يصلح لإخراجهن فذلك وإلّا فهن كالرجال"(2). واختار هذا الرأي الشيخ محمد صديق خان، كما في الروضة الندية شرح الدرر البهية(3).وتبعه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، كما في السلسلة الضعيفة والموضوعة(2/271).
فإن أذّنت المرأة وأقامت لجماعة النساء أو لنفسها، فقد اختلفت أقوال الفقهاء في حكم ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول: يكره لهنّ الأذان والإقامة، وهو مذهب الحنفية، ورأي لبعض المالكية، ووجه للشافعية، ومذهب الحنابلة.
والكراهة عند المالكية هنا تحمل على المنع، وصرّح بعض الحنابلة بعدم صحتهما منهنّ.
أدلتهم : استدلّ من قال بكراهة الأذان والإقامة للنساء، بما يلي:
أولاً: من السنة:
1- حديث أسماء بنت أبي بكر –رضي الله عنه-قالت: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(ليس على النساء أذان ولا إقامة ولا جمعة، ولا اغتسالٌ، ولا تقدمهن امرأة ولكن تقوم في وسطهن)(4).
2- عن أم ورقة الأنصارية: أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-جعل لها مؤذناً يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها"(5). ووجه الدلالة : أن النبي-صلى الله عليه وسلم-لما أذن لها أن تؤمّ أهل دارها لم يأمرها أن تؤذن هي ، أو امرأة من أهل دارها، بل جعل لها مؤذناً، فلو كان الأذان مشروعاً للمرأة لما أمرها باتخاذ مؤذن رجل.
ثانياً: من الآثار:
1- ما روي عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنه-أنه قال: "ليس على النساء أذان ولا إقامة"(6).
2- ما روي عن عائشة أنها قالت:" كنا نصلي بغير إقامة"(7).
3- ما روي عن أنس أنه سُئل هل على النساء أذان وإقامة قال: "لا، وإن فعلن فهو ذِكر"(8).
ثالثاً من المعقول:
1- أن الأذان في الأصل يشرع للإعلام، ولا يشرع للمرأة ذلك.(9).
2- أن الأذان يشرع له رفع الصوت, ولا يشرع للمرأة رفع الصوت، لما فيه من الفتنة(10)، ومن لا يشرع في حقه الأذان لا يشرع في حقه الإقامة، كغير المصلي، وكمن أدرك بعض الجماعة.(11).
3- لأنه ليس على النساء الجماعة بل إن جماعتهنّ غير مستحبّة، فلا يكون عليهنّ الأذان والإقامة(12).
القول الثاني: يكره لهنّ الأذان وتستحبّ الإقامة، وهو المشهور والمعتمد في مذهب المالكية، والصحيح عند الشافعيّة، ورواية عند الحنابلة.
إلّا أن الشافعية قالوا: لو أذّنت ولم ترفع صوتها لم يكره، وكان ذكراً لله، وإن رفعت وثم أجنبيّ حرم.
أدلتهم:
استدلّ أصحاب هذا القول بما يلي:
أولاً : من الآثار:
ما روي عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنه-أنّه قال: " تقيم المرأة إن شاءت"(13).
ثانياً: من المعقول:
1- أن الأذان مشروع للإعلام بدخول الوقت وحضور الجماعة، ومشروعية الإقامة لإعلام النفس بالتأهب للصلاة فطلبت من الجميع ولو صبيّاً(14).
2- أن في الأذان ترفع المرأة صوتها فيكره لما فيه من الفتنة، وأمّا في الإقامة فلا ترفع صوتها؛ لأنها لاستنهاض الحاضرين(15).
القول الثالث: يستحبّ لهن الأذان والإقامة، وهو وجه عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة، دون رفع الصوت عند الشافعيّة. أمّا الحنابلة فعلى روايتين: الأولى مطلقاً, والثانية مع خفض الصوت.
استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1- ما روي عن عائشة-رضي الله عنها-:" أنها كانت تؤذن وتقيم، وتؤم النساء وتقوم وسطهن"(16).
2- ما روي عن ابن عمر أنه سئل هل على النساء أذان فغضب، وقال: ( أنا أنهى عن ذكر الله!!"(17). وجه الدلالة أن الأثر دل على أن الأذان والإقامة ذكر لله، وذكر الله لا يمنع منه أحد.
القول الرابع: يباح لهنّ الأذان والإقامة، مع خفض الصوت، وهو رواية عند الحنابلة.
أدلة أصحاب هذا القول:
يمكن أن يستدلّ له بالجمع بين الآثار الواردة عن عائشة وابن عمر-رضي الله عنهما-حيث نُقل عن عائشة الفعل والترك، وأمّا ابن عمر فنقل عنه النفي وعدم النهي، فدلّ على جواز الأمرين.
قال الإمام البيهقي-بعد ذكره الأثرين الواردين عن عائشة-رضي الله عنه-:" وهذا إن صح مع الأوّل فلا ينافيان، لجواز فعلها ذلك مرّةً وتركها أخرى لجواز الأمرين جميعاً"(18).
و القول الرابع القائل بالإباحة، وأنه لا يسنّ للمرأة أذان ولا إقامة، يراه بعض أهل العلم وجيها لأسباب منها :(215/1)
1- أن أبرز ما شرع له الأذان هو إعلام الناس كي يجتمعوا للصلاة والمرأة غير مطالبة بإجابة هذا النداء إذا سمعته، والأفضل لها أن تصليّ في بيتها، فلهذا لا يسنّ لها أذان ولا إقامة(19).
2- أنه لم ينقل أن النبي-صلى الله عليه وسلم-ندب النساء إلى الأذان والإقامة أو علمهن ذلك، ولو كان مشروعاً في حقهنّ لعلمهن كما علمهن كيفية غسل الحيض والجنابة(20).
3- أنه بهذا القول يمكن الجمع بين الآثار الواردة عن بعض الصحابة في ذلك.(21).
والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - الإفصاح لابن هبيرة(1/64-65). المبسوط(1/133).
2 - السيل الجرار(1/197-198).
3 - الدرر البهية(1/216).
4 - أخرجه البيهقي في السنن(2/169)، رقم(1960). وابن عدي في الكامل (2/620).
5 - أبو داود، وأحمد والحاكم،
6 - البيهقي في السنن الكبرى، وصحح إسناده ابن حجر في التلخيص الحبير(1/521).
7 - البيهقي في السنن الكبرى(2/170).
8 - ابن أبي شيبة في المصنف(2317).والبيهقي في السنن(2/170).
9 - المغني(2/80).
10 - المبسوط(1/133).
11 - المغني (2/80).
12 - بدائع الصنائع (1/152).
13 - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف(1/203)(2329).
14 - المغني(2/80).
15 - مغني المحتاج(1/135).
16 -أخرجه عبد الرزاق في المصنف(3/126) (5016)، وابن أبي شيبة، والبيهقي في السنن الكبرى. والحاكم في المستدرك.
17 -أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف(1/202)(2324).
18 - السنن الكبرى للبيهقي(2/170).
19 - راجع: الإحكام فيما يختلف فيه الرجال والنساء من الأحكام.
20 - المصدر السابق.
21 - أحكام الأذان والنداء والإقامة ص(356).(215/2)
الأذان والنداء بالصلاة في الرَّحال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد,وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ:
لم يكن النداءُ بالصَّلاةِ في الرَّحالِ بعيداً عن كلامِ الفُقهاء، فقد اتفقَ الفقهاءُ على مشروعيَّةِ قولِ المؤذِّنِ عندَ المطرِ أو الرِّيحِ أو البردِ:"ألا صلُّوا في رِحَالِكم"، أو " الصلاة في الرِّحَال"(1)، استدلُّوا على ذلك بأدلَّةٍ,منها:
1- ما رُوي عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنه-:" أنه أذَّن بالصلاة- في ليلة ذات برد وريح-ثم قال: ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم –كان يأمر المؤذن –إذا كانت ليلة ذات برد ومطر- يقول:"ألا صلوا في الرحال"(2).
2- حديث أسامة الهذلي-رضي الله عنه-:" أنَّ يوم حُنين كان يوم مطرٍ, فأمر النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم –مناديه أن الصلاة في الرحال"(3).
3- وعن أسامة الهذلي-رضي الله عنه-أنه قال:"لقد رأيتنا مع رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-يوم الحديبية وأصابتنا سماء لم تبلَّ أسافل نعالنا، فنادى منادي رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:"صلوا في رحالكم"(4).
موضع قول المؤذن "الصلاة في الرحال" من الأذان:
اختلف الفقهاء في موضع هذه الجملة: "الصلاة في الرحال"أو" ألا صلّوا في رحالكم" بعد اتفاقهم على مشروعيتها، هل تُقال أثناء الأذان أم بعد الفراغ منه؟ على أربعة أقوال:
1- أنها تقال في أثناء الأذان بدلاً من الحيعلة، وهو وجه للشافعية وظاهر مذهب الحنابلة(5).
أدلتهم:
أ - عن عبدِ اللهِ بنِ الحارثِ,قالَ:"خطبنا ابنُ عبَّاس في يوم ردغ(6)، فلمَّا بلغ المؤذنُ حي على الصلاة فأمره أنْ يُنادي: الصلاة في الرِّحَال، فنظر القومُ بعضُهم إلى بعضٍ، فقالَ: فعل هذا مَنْ هو خيرٌ منهُ وإنها عَزمة"(7).
ب - وفي روايةٍ:" أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أنَّ محمداً رسولُ الله، فلا تقُلْ: حي على الصلاة، قل: "صلُّوا في بيوتكم"(8)، وجه الدلالة أنَّ الحديثَ صريحٌ في أنها تقال بدلاً من الحيعلة،حيث قال له:" فلا تقلْ حيّ على الصلاة"(9).
2- أنها تقال في أثناء الأذان,ولكن بعد الحيعلة(فيجمع بينها وبين الحيعلة) وهو وجه للشافعية(10).
أدلتهم:
أ - حديث نعيم بن النحام، قال: سمعت مؤذن النبي-صلى الله عليه وسلم-في ليلة باردة وأنا في لحاف فتمنيت أن يقول: صلوا في رحالكم، فلما بلغ حي على الفلاح، قال: صلوا في رحالكم، ثم سألت عنها فإذا النبي- صلى الله عليه وسلم- كان أمر بذلك(11). وفي رواية قال: فقلت: " ليت المنادي قال: ومن قعد فلا حرج ، فلما قال" الصلاة خير من النوم" ، قال : " ومن قد فلا حرج".
ب - عن رجل من ثقيف: " أنه سمع منادي النبي-صلى الله عليه وسلم-يعني في ليلة مطيرة في السفر- يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح، صلُّوا في رحالكم"(12) وجه الدلالة من هذينِ الحديثينِ أنهما صريحان في الجمع بين الحيعلةِ وقول المؤذِّن" صلُّوا في رحالِكم"(13)
3- أنَّها تُقال بعد الفَرَاغِ من الأذانِ، وهُو مذهبُ الحنفيَّةِ والمالكيَّةِ، ووجهٌ للشافعيَّةِ(14).
أدلتهم:
عن نافع قال:" أذن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان(15)، ثم قال: " صلوا في رحالكم، فأخبرنا أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم–كان يأمر مؤذناً يؤذن ثم يقول على إثره: ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر"(16). وجه الدلالة أن قوله" ثم يقول على إثره"، صريح في أن القول المذكور كان بعد فراغ الأذان"(17).
4- أن الأمر في هذا واسع، سواء قالها في أثناء الأذان أو بعد الفراغ منه فكله جائز، ولكن الأولى أن يكون بعد الفراغ منه، وهو رأي لبعض الحنفية، ومذهب الشافعية(18).
أدلتهم :الأحاديث المتقدمة في أدلة الأقوال الأخرى- ولكن قوله بعد الأذان أحسن ليبقى نظم الأذان على وضعه"(19).
خلاصة المسألة:
أن الأمر في هذا واسع، فقد ثبت في السنّة جميع ما قيل في الأقوال السابقة، ولا منافاة بين الأحاديث الواردة في ذلك؛ لأن هذا جرى في وقت, وذلك في وقت، والكلُّ صحيحٌ(20).
والله الموفق،،
________________________________________
1 - المجموع(3/136). وعمدة القاري(5/128).
2 - البخاري(666).
3 - رواه أبو داود(1057).،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود(1/292).
4 - رواه ابن ماجه(936). وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه.
5 - انظر : فتح الباري(2/117).
6 - جمع ردغة وهو : طين ووحل كثير.(النهاية (2/197).
7 - البخاري(616).
8 - مسلم (699).
9 - أحكام الأذان والإقامة(104).
10 - راجع: نهاية المحتاج(1/304).
11 - رواه أحمد.
12 سنن النسائي (652).
13 - أحكام الأذان والإقامة ص (106).
14 - عمدة القاري(5/128).
15 - جبل بناحية مكة.
16 - البخاري(632).، ومسلم(697).
17 - فتح الباري(2/134).
18 -المجموع(3/136).
19 - شرح مسلم للنووي(5/207).
20 - انظر: شرح مسلم للنووي(5/207).(216/1)
الأرباح والخسائر
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
الأرباح والخسائر .. موضوع حديثنا ، ورغم أننا في شهر رمضان ، وفي فريضة الصيام ، إلا أنني لن أذكر شيئاً يتعلق بذلك ، بل سأذكر أموراً وأجوراً وفضائل أخرى ؛ ليلتفت النظر إلى عظمة الأرباح ، وكذلك إلى فداحة الخسائر من جهة أخرى .
قال يحيى بن معاذ رحمه الله : " الدنيا حانوت المؤمنين ، والليل والنهار رؤوس أموالهم ، وصالح الأعمال بظائعهم ، وجنة الخلد أرباحهم ، ونار الأبد خسرانهم " . ذلك إيجاز من مؤمن عابد عالم ..
" الدنيا حانوت المؤمنين " الدنيا كلها ليست شهراً من عامها ، ولا وقتاً من أوقاتها ، ولا حالاً من أحوالها ، ولا بَلَداً من بلادها ..
الدنيا حانوت المؤمنين ، وأين رأس المال ؟ الليل والنهار ، الأيام والأعوام ، كل لحظة من اللحظات ، كل ساعة من الساعات .. كلها رأس مالٍ يمكن أن تنفقه وتأخذ كسباً ، أو تبدده وتعود بخسران ..
فما هي هذه البضائع التي نعمل فيها ؟ إنها صالح الأعمال ، إنها الأعمال الصالحة لا تقتصر على زمانٍ ، ولا تختص بمكان ..
ثم ما هي النتيجة الآخرة ؟
إما الربح فجنة عرضها السماء والأرض ، أُعدّت للمتقين ، وإما الخسارة فهي أفدح خسارةٍ ، وأعظمها نار وقودها الناس والحجارة .. نسأل الله عز وجل السلامة .
هذا الحديث وهذه الكلمات نتبعها بأخرى ، فيها وصية نجعلها مفتاح لحديثنا هذا ..
خذ العمر في أوله ، وعمل منه في أفضله ، وائت باجتهادك بأتمه وأكمله ، واسعى سعي من يخاف أن ينقطع عن المنزل ويُحبس عنه فلا يصل ، قبل أن ينقل جلدك ويبلى ويفنى ، ويضعف جدك ، ويكد زندك ، ويحبسك الكبر ، ويفنيك الهرم ، وتندم وأنّى ينفعك الندم ، ومن سعى في الشباب وجد ذلك في الكبر أمامه ، وكان إلى كل نجاه أمامه ..
وهذه وصية اغتنام للحصول على الأرباح ، ولتجنب الخسائر ؛ فإن التسويف والتأثير والتأجيل مظنة فوات الربح ومظنة انقطاع العمل ، ومظنة عروض الشواغل ، ومظنة حصول الخسران .. نسأل الله عز وجل السلامة .
وهذه رسالة أخرى بعث بها الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز .. إمامٌ عالم إلى حاكم عادل ، فانظروا ماذا كانت الأقوال ؟ وفي أي شيء كان في الوصايا ؟ كتب له فكان مما كتب : " أما بعد فإنه من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر " قبل أن أمضي أقول تذكروا هذا القول كله بعيداً عن هذا الشهر العظيم ، وخارجاً عن إطار هذه الفريضة الجليلة ؛ فإن الحياة أوسع من رمضان ، وإن العام أطول منه ، وهو في أحد عشر ضعفاً من أضعافه .. يقول : أما بعد ؛ فإن من حاسب نفسه ربح ، ومن غفل عنها خسر ، ومن نظر في العواقب نجا ، ومن أطاع فهو أفضل ، ومن حلم غنم ، ومن اعتبر أبصر ، ومن أبصر فهم ، ومن فهم علم ؛ فإن زللت فارجع ، وإذا ندمت فأقلع ، وإذا جهلت فاسأل ، وإذا غضبت فأمسك ، واعلم أن أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفس " .
ودخل رجلٌ على الجنيد وهو يصلي - وقد أطال صلاته - والرجل ينتظر ، فلما قضى صلاته قال للجنيد : قد كبُرت سنك ، ووهن عظمك ، ورقّ جلدك ، وضعفت قوّتك فلو اختصرت .. لِمَ هذه الإطالة ؟ ولأي شيء تلك المشقة ؟ ولِمَ هذا التحمّل ؟ فقال : " اسكت طريق عرفنا به ربنا لا ينبغي لنا أن نقتصر منه على بعضه ، ومن ترك طريق القرب يوشك أن يسلك به طريق البعد " .
فطريق معرفة الله ليس في رمضان ، وموسم طاعته ليس مقتصراً على ثلاثين يوماً في العام ، " طريق عرفنا فيه مرضات الله عز وجل ، طريقٌ عرفنا به ربنا لا ينبغي أن نقتصر منه على بعضه ، ومن ترك طريق القرب يوشك أن يسلك به طريق البعد " ، ومن ترك طريق القرب ؛ أي من الطاعات والمواظبة عليها في سائر الأيام والساعات فيوشك أن يسلك به طريق البعد ، وبعد هذه الخواطر الإيمانية ، والمواقف الروحية والتذكرات العلمية .. ترى هل نحن الآن نفكر في حياتنا تفكيراً صحيحاً في الأرباح والخسائر ؟
تعالوا أنتقل بكم إلى هذا الموسم العظيم الذي نحن فيه ؛ لتروا أموراً كلها بلا استثناء ليست مقتصرة عليه ولا خاصة به ، ولذا قد اخترت أن لا أتحدث عن شيءٍ من فضائل الشهر ولا فريضة الصوم ، فقد سمعتم وستسمعون وسنقول - وقلتم قبل ذلك وبعده - كثير منه ، لكنني هنا أحب أن أشير إلى أمور قد نعرف كثيراً منها ، لكننا في واقع الأمر لا نحرص عليها ، ولا نتشبث بها ، ولا نقوم بأدائها ، ولا نستشعر أهميتها ، ولا نتذوق لذتها ، ولا نتواصى ونتعاهد عليها ، وينالنا منها حظ أوفر ، ونصيب أكبر في هذا الشهر العظيم !
أول ذلك وأعظمه ، وأوكده : الصلاة(217/1)
وأنتم جميعاً ترون هذه المساجد وهي تمتلئ بالمصلين ؛ وخاصةً في الوقت الذي في غالب الأمر لا يحتمل فيه العذر ، وأن الناس كلهم في بيوتهم ، فإما أنهم شهدوا الفجر والصلاة فملئوا المساجد ، وإما إنهم ناموا وتخلفوا .. فانظر الفجر اليوم كم تمتلئ به المساجد ، وانظر المساجد وهي تشكوا إلى الله قلة روادها ، والساعين إليها ، والمصلين فيها ، والمشاءين في الظلم إليها في غير هذا الشهر الكريم !
من حديث أبي هريرة ، عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال : (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه ) متفق عليه .
هل تعرفون أن هذا الحديث مختصّ برمضان ؟ هل هذه الأرباح التي نجنيها اليوم بحمد الله عز وجل وفضله ونفرح بها ونسعد .. ألا نفكر كم خسرنا منها في غير رمضان ، عندما لا تتحرك الأقدام إلى المساجد ، عندما لا تصطف الأجساد في هذه الصفوف .
واستمع كذلك إلى كثير وكثير من هذه الأرباح العظيمة ، والفضائل الجليلة ، التي هي مبذولة من رحمة الله مبسوطة من فضل الله ليس في وقت ولا زمان بعينه .
من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحوا سيئة وخطوة تكتب له حسنة ذاهباً وراجعاً ) رواه أحمد في مسنده والطبراني وابن حبان في صحيحه .
أيضاً هل هذا مختصّ برمضان ذاهباً وآئباً ؟! فما بالك قعيدٌ في بيتك !وما بالك لاهٍ في سوقك وما بالك نائم في سريرك ، وتاركٌ لفريضة ربك ، وغافلٌ عن حقيقة ربحك ، ومستوجبٌ لعظمة خسرانك .. نسأل الله عز وجل السلامة .
وهذا عثمان بن عفان يروي عن المصطفى عليه الصلاة والسلام : ( من توضأ فأسبغ الوضوء ، ثم مشى إلى صلاة مكتوبة فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه ) رواه ابن خزيمة في صحيحة وروى مسلمٌ نحوه .
ومن حديث أبي هريرة : ( لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوئه فيصبغه ، ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة إلا تبشبش الله إليه ما يتبشبش أهل الغائب بطلعته ) رواه ابن خزيمة في صحيحه .
ربك يفرح بك إذا أتيت إلى بيتك ، إذا أقبلت على صلاتك .. فهل أنت مستغنٍ عن ذلك ، ومقتصرٌ عنه في شهرٍ من اثني عشر شهراً ، وفي أيامٍ معدوداتٍ ، من ضمن مئات من الأيام ، وانظر كذلك إلى حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام الأبعد ، فالأبعد من المسجد أعظم أجرى أي لكثرة الخطى إلى المساجد ( من غدا أو راح إلى المسجد أعدّ الله له في جنة نزلاً كلما غدا أو راح ) ليس هذا شيءٌ ، وليس من هذه كلها شيءٌ مختص برمضان ، فإذا ربحنا ونحن بحمد الله رابحون في هذا الشهر ، فلو حسبنا أرباحنا ، وانشرحت بها صدورنا .. فلتبك أعيننا دماً لا دمعاً على أيامٍ متواليات ، وشهور متعاقبات ، وأعوامٍ منصرمات .. كلها لن يكن لنا فيها شيء من هذا الربح ، بل ربما كان الخسران كان هو الأكثر والأظهر ( بشر المشاءين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ) رواه عن المصطفى عليه الصلاة والسلام ستة عشر صحابياً .
أين الذين يمشون إلى المساجد في الظلم في صلاة الفجر في غير رمضان ؟ هل هم مستغنون عن هذا النور ؟ هل هم يعتقدون أنهم إذا ربحوا شهراً وخسروا دهراً أن الصفقة في كل الأحوال رابحة ؟ وهل يدرك أو يقول بذلك عاقل ؟ وهل يرضى بذلك منصف ومحب لنفسه ؟
كيف بك إذا قيل لك إن الموسم في هذا العام ربحه مليون ولكنه على مدى العام ، وإن لم يكن موسماً فإنك تجني منه مثله أو أكثر منه ! فلم يقولوا إن تاجراً لا يبسط في عمله ولا يفتح حانوته إلا في الموسم ويغلق بقية الموسم وينام ! هل رأيتم أحداً يصنع ذلك ؟! هل في الدنيا طالب لا يدرس إلا شهراً من العام ؟! هل في العالم كله تاجراً لا يعمل إلا شهراً في العام ؟! هل في كل مهنةٍ أو عملٍ يمكن أن يقتصر على شهرٍ من العام ؟!
كيف حال الناس إذا كان لا يتم علاجهم في المستشفيات إلا شهراً في العام ! كيف حالهم إذا لم تفتح المدارس إلا شهراً في العام ! كيف حال الناس إذا لم تفتح الأسواق إلا شهراً في العام ! كيف حال المؤمنين إذا لم يقبلوا على الله إلا شهراً في العام ! إذا لم يحرصوا على الحسنات إلا شهراً في العام ! إذا لم يتذكروا الفضائل إلا شهراً في العام ؟! إذا لم يدخلوا إلى المساجد إلا شهراً في العام ! إذا لم يقرأوا القرآن ويلتزموه ويتلوه ويتدبروه إلا شهراً في العام! إذا لم تخرج أموالهم إنفاقاً في سبيل الله وتقرباً إليه إلا شهراً في العام !(217/2)
وقيسوا على ذلك ما شئتم ، وسلوا من الأسئلة من هنا إلى الصبح ما شئتم ؛ فإن خسائرنا عظيمة فيما نفرط فيه من طاعة الله ، ومن الخير الذي ساقه إلينا ، ومن الأجر الذي أتاحه لنا ، ليس شهراً في العام وإنما الشهر فيه الأضعاف المضاعفة وغيره ما زال خيره عظيمٌ وأجره وفيرٌ ، والله سبحانه وتعالى لا تنفذ خزائنه ، والله جل وعلا عظمته دائمة ، والله سبحانه وتعالى استحقاقه بالعبادة والمحبة ، وصدق الإنابة ودوام الذكر واستمرار الدعاء دائمٌ ، ليس مختصاً بحال دون حال { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } .
تشهده الملائكة كما روى أبو هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيصعدون إلى ربهم فيسألهم - وهو أعلم بهم - : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون .. ) ترفع الشهادات ، تسجّل الأسماء في صحف الملائكة لترفع إلى رب الأرباب سبحانه وتعالى .. فأين ذكرك ؟ وأين اسمك فيما يأتي من الأيام والليالي على مدى الأعوام في غير شهر رمضان ؟
هل نفكر كم هي خسارتنا ونحن كأنما نركل النعم بأقدامنا ، كأنما نعرض عنها ونعطيها ظهورنا ، كأنما قد صمّت آذاننا ، فلا نسمع تلك الآيات ، ولا نعرف تلك الأحاديث .. كأن قلوبنا ليس فيها شيء يبعثها إلى الترغب وإلى التحبب وإلى العمل بهذه الطاعات رغبة في تلك الأجور ، وتأملاً في تلك الأرباح العظيمة .
ولو مضينا لوجدنا فيما وراء ذلك شيء عظيم وهو في أمورٍ كثيرة ؛ ولعلي أخص بعضاً منها أكثر لأن التقصير والتفريط فيه في غير رمضان أشهر وخاصةً أداء الصلوات في الجماعات ؛ وخاصةً صلاة الفجر ( من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله ، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء ) أنت في أمان الله .. أنت في جوار الله .. أنت في حفظ وحصن الله عز وجل ما أديت الصلاة الفجر في جماعة .. كيف بك وأنت تخرج من غير أمانٍ ولا جوارٍ ولا حماية من الله ، تنتهبك الشياطين ، وتفترسك الوساوس ، ويحيط بك أبالسة الإنس والجن ؛ لأنك لم تأخذ حصناً من طاعة الله ، ولم تأخذ وقايةً من هذه الصلاة ومن ذلك الإقبال عند انبثاق الفجر ، وعند بداية اليوم وعند رجوع النفس إلى روحك تحمد الله عز وجل بالطاعة .
كيف بك والكدر على وجهك ، والثقل في نفسك ، والغم على قلبك في كل صباح .. لماذا ؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا فقال : ( يضرب الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب على كل واحدة منها فيقول : نمْ عليك ليل طويل فارقد ، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة ، فإذا توضأ انحلت الثانية ، فإذا صلى الصبح انحلت عقده كلها ، وأصبح نشيط النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) ألا نرى أحوالنا عندما لا نكون في هذا الشهر ، وعندما لا نلتزم مثل هذه الفرائض .. إنها ليست تطلعات ، إنها ليست مجرد ترغيب في أمور من الصلوات والتطوعات الزائدة عن الفرائض ، بل هي رأس المال الأساسي في هذه الفرائض العظيمة .
ولو مضينا في أمر أيضاً أحب أن أخصه بهذا الحديث تذكيراً وترهيباً وهو :أمر قيام الليل وأمر أداء الوتر
وكم نحن بحمد الله عز وجل في هذا الشهر ، في هذا الموسم العظيم ننال حظاً كبيراً في هذا الفضل والأجر ، وهذا الأمر العظيم الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم فيه بفضائل كثيرة ؛ لعل من أشهرها وأجلها حديث أبي هريرة عن المصطفى عليه الصلاة والسلام : ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا إذا بقي الثلث الأخير من الليل فيقول : هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من سائل فأعطيه ؟ )
وجل الناس في هذا الوقت في هذه الأيام في وقت السحر مستيقظون لسحورهم ، أو استعداداً لأداء صلاتهم ، أو قياماً لصلاة وترهم .. فينالون هذا الوقت الغالي الثمين ، ويفوزون بالخير العميم من هذه الفرصة الثمينة المتكررة في كل يوم بلا استثناء في رمضان وفي غير رمضان . قال تعالى : { أمن هو قانت آناء الليل قائماً وساجداً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه } .
هذا لا يستوي مع غيره من الغافلين النائمين ، أو من المستيقظين اللاهين العابثين .. نسأل الله عز وجل السلامة .
وفي حديث مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن في الليل ساعةً لا يوافقها رجلٌ مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه ) .
وفي حديث أبي أمامه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام : ( عليكم بقيام الليل ؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وهو قربة إلى ربكم ، وتكفير للسيئات ومنهاة عن الإثم ) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
ولو مضينا في هذا لوجدنا أبواباً كثيرة .. انظروا إلى بابٍ آخر وهو : باب الذكر والدعاء والتلاوة(217/3)
( لا أقول الم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف ) وغير ذلك .. الدعاء مخ العبادة ، والدعاء يجاب أو يدفع عنه من البلاء أو يدخر له في يوم القيامة .. وكل ذلك نحن نجني منه أرباح عظيمة .. نسأل الله عز وجل أن يقبلها منا في هذا الشهر العظيم .. فأين نحن من هذه الأرباح المبسوطة المبذولة المشرعة في كل وقت وآن ؟
ثم أمضي كذلك لما تعلمونه من أجر الإنفاق في سبيل الله
قال تعالى : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } .
وذلك ليس مختصاً برمضان .. لكن رمضان فيه مزيد ومزيد من فضل الله عز وجل .
وفي حديث مصطفى صلى الله عليه وسلم : ( ما من يوم يصبح فيه العباد .. ) وانتبهوا ما من يومٍ ؛ أي من كل الأيام ليس مختصاً برمضان ( ما من يومٍ يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقولان : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، وأعط ممسكاً تلفاً ) .. فهل نحن نتعرض لهذا الدعاء الملائكي بأن ننفق في كل يومٍ ولو قليلاً .. هل نريد ونحرص على أن نجعل كل هذه الأعمال الخيّرة التي نفزع إليها ونرتبط بها ، ونحرص عليها في هذا الشهر أن يبقى لنا من الحظ الأدنى على أقل تقدير إن لم يكن أكثر من ذلك ، وهذا مبعثه هو أن نتفكر في حقيقة دنيانا ، وفي حقيقة الأرباح والخسائر ، وفيما ينبغي أن ننتبه له ، وأن نحرص عليه في يومنا وليلتنا ، في كل أيامنا ، وفي سائر أعمالنا .. وذلك ما لعله ينبغي لنا أن نتواصى به .
إننا حين نوصي الناس في رمضان وفي هذا الشهر بالإقبال على الخير وبالاستكثار من الصالحات ؛ فإن الأمر في هذا هيّن ، فالشياطين مصفدةٌ والناس على الخير مقبلة ، وموسم الرحمة عام .. لكننا نقول - ونحن في هذا الشهر ، ونحن في هذا الموسم الذي تسعد فيها القلوب ، وتأنس فيها النفوس ، وتشفّ فيها الأرواح ، وتسموا فيها الهمم وتعلوا فتقوى فيها العزائم ..
نقول : انتبهوا وإن كنا في أوله - لأني قد أقول ومتحفظاً - سئمنا من أننا نقبل في شهرٍ وندبر في أشهر ، وأننا ننتبه إلى أمر ونترك أموراً ، وأننا في حقيقة أمرنا إذا فرطنا وقصرنا لم نفقه حقيقة عظمة ربنا ، ولم نفقه حقيقة معنى العبادة ، ولم نشعر ولم نتذوق ولم نعش حقيقة روح هذه الطاعات والعبادات في نفوسنا وقلوبنا وأرواحنا ..
أسأل الله عز وجل أن يردنا إليه مرداً جميلاً ..
الخطبة الثانية :
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم ما يقدم به العبد على مولاه ، ونحن في موسم التقوى .. قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } .
فلنأخذ زادنا عظيماً وفيراً إلى ما بعد هذا الشهر كذلك .
ولعلّ لي وقفةً أخيرةً في شأن الأرباح التي نجنيها .. ولِمَ لا نتعلق بها ونستر عليها وهي قضية مهمة ؛ لعلنا ونحن ما زلنا في أول الشهر أن نحرص عليها ، وأن نجاهد أنفسنا فيها ، وأن نجتهد في تحصيل الأسباب لها ..
ذلكم أيها الإخوة المؤمنون هو أمر الإخلاص لله عز وجل ، وأمر صدق التعلّق به ، وحقيقة الإقبال عليه ؛ حتى نصل إلى المبتغى والمراد والغاية من هذا الإقبال عليه ، ومن تلك الطاعة له .. ومن صور العبادة الذي نجتهد فيها ، وهي أن تخلص إلى قلوبنا فنشعر بالسعادة ، وإلى نفوسنا فنتذوق اللذة .. وحينئذٍ تصبح قلوبنا مشدودة إلى الطاعة ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله .. ( ورجل قلبه معلّق بالمساجد ) إذا خرج منها رجع إليها .. انظروا إلى هذا التشوق الذي يذكره لنا المؤمنون الصادقون المخلصون ، الذين يبينون لنا حقيقة مهمة ، وهي أنه إذا خلصت لنا روح العبادة ؛ فإننا حينئذٍ سيكون لنا بها تعلّق وارتباط ليس في كل العام فحسب بل في كل لحظة وسكنه ، وفي كل ظرفٍ وحال .
ولذلك سئل أحد الصالحين : ما أفضل عملك ؟ فأجاب إجابة حريٌ بنا أن نصغي إليها بقلوبنا .. قال : " ما أتتني صلاة قط إلا وأنا مستعد لها ، ومشتاق إليها ، وما انصرفت من صلاة قط إلا كنت إذا انصرفت منها أشوق إليها مني حين كنت فيها ، ولولا أن الفرائض تقطع لأحببت أن أكون ليلي ونهاري قائماً راكعاً ساجداً " .(217/4)
أعيد هذا القول لنتأمله " ما أتيت صلاة قط إلا كنت مستعد لها ومشتاقاً إليها " حبٌ وتعلق وهيام ولذة نفسٍ ، وطمأنينة قلب ، وراحة بالٍ وأنس في الإقبال على الله عز وجل يفسره لنا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( أرحنا بها يا بلال ) ويفسره لنا فعله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة ، وتفسره لنا نداءات القرآن : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة } وتفسره لنا الصورة المثلى لرسولنا صلى الله عليه وسلم عندما قال : ( جعلت قرة عيني في الصلاة ) ونفهم منها حاله حينما كان يصلي فيقوم حتى تتفطر قدماه عليه الصلاة والسلام .. لماذا ؟
لأنه يشعر بلذة المناجاة ؛ لأنه لا يشعر بثقل الوقوف ، ولا بشدة المعاناة ؛ لأن حلاوة المناجاة تغلب شدة المعاناة ، فلا يكاد يشعر بشيء ونحن وحالنا إلا من رحم الله على غير ذلك إن أطال الإمام في آيةٍ أو آيتين شكا الناس شكوى عظيمة ، وإن صلوا مرةً وزادوا رأيتهم وهم يفرقعون أصابعهم ، ويتفقدون ركبهم ، وينظرون إلى حالهم .. وربما ارتاحوا وتمددوا بضعف ما كانوا عليه في وقت الصلاة .. لماذا ؟
نحتاج أن نتأمل .. نحتاج أن نتدبر .. نحتاج أن نعيش في روح هذه العبادات ؛ فإننا إن فعلنا كان لذلك أثره الأعظم في استمرارنا فيما يأتي من أيامنا في غير هذا الشهر الكريم .
ولعلنا كذلك نتذوق لذة تلاوة القرآن ، ونستعجب حلاوة التضرع والانكسار بين يدي الله ، ونرى روحاً عظيمةً مؤثرة في كل دعوة إلى الله عز وجل ندعوها ، ونستشعر أنساً وراحةً في كل إنفاق ننفقه وفي كل سرورٍ على مسلم ندخله ..
دعونا نعيش في روح هذه العبادات وهذه الطاعات ؛ ليكون أجرنا من الله عز وجل عظيماً ومن جهة أخرى لتكون السعادة وهي جزء من الأجر مقدّم .. كما قال أهل العلم من العلماء والعاملين والعابدين : " والله إننا لفي لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك ثم لم يجدوا إلا أن يجالدونا عليها بالسيوف لفعلوا " .
تلك هي اللذة العظيمة .. لذة الإيمان ، لذة الطاعة ، لذة العبادة .. أخبر فيها أيضاً بعضه فقال : " مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها " قيل : وما أطيب ما فيها ؟ قالوا " لذة العبادة والطاعة والمناجاة " .
نحن نشعر بهذه اللذة في هذه الأيام ؛ فلنحرص على أن نعيش روح العبادة .. حضور قلبٍ ، وخشوع جوارحٍ ، وتفكر عقلٍ ، ونزول دمعٍ ، وحياةٍ يمارسها في واقع أعمالنا كلها ، ونتذكر كذلك كل أمر من الأمور التي نجنيها في هذا الشهر من إمساك اللسان ، ومن إنفاق المال ومن غيرها مما تعظم به الأرباح .
وأريد أن أؤكد مرة أخرى على لونين من الخسائر
الخسارة الأولى : هي أن كل هذا الربح المتاح في غير رمضان إذا لم نأخذ منه حضاً فنحن خاسرون إذا كانت الأموال مبذولة ، والأرباح سهلة ، ثم لم نعمل لها .. فنحن قطعاً خاسرون ، ونحن بصورة أو بأخرى حمقى أو مغفلون !
وخسارة عظيمة أخرى فهي خسارة الذين في الموسم يخسرون ولا يكسبون .. الذين في شهر رمضان وفي فريضة الصيام ؛ رغم أن كل كلامنا عن فعلٍ نحمد الله عليه ، ونربح به أجر مثوبته إلا أن هناك من هو شقي أو محروم .. نسأل الله عز وجل السلامة ..
ونرى أيضاً في أنفسنا - إلا من رحم الله - قصوراً وضعفاً وتخلفاً وتأخراً .. انظروا إلى الصلوات ما زال التبكير إليها والحرص على إدراك التكبير قليل .. انظروا كيف يتأخر الناس ليطعموا الطعام ، ويزيدوا لقمة أو لقمتين ، ولا يدركون تكبيرة الإحرام في صلاة المغرب ؛ فتجد أن أكثر من ثلثي كل مسجد يقومون يقضون الركعات .. لماذا ؟ لأجل لقيمات .
هل تلك اللقيمات أفضل أو أعظم من تلك الصلوات والركعات ؟
ينبغي أن نوازن .. انظروا إلى يوم جمعتنا هذه .. بدأ الخطيب والمسجد وليس فيه أقل من نصفه أو أكثر بقليل ! أين بقية الناس ؟ نائمون يغذون الخطى كأنما يسحبون أرجلهم سحباً ، وقد يقول بعضهم إن هذه الخطب قد تطول أو ذلك الوقت قد يعظم ،وإن وراءنا عملاً أعظم أو ورائنا مهمات أكبر .. ولا أقول ذلك حتى يكون هذا شاهداً على من يسمعه فحسب بل هو بلاغ لنا جميعاً لنبلغه لأنفسنا ولأهلنا ولكل أحد من حولنا ..
والمحرومون كثير فإن الكثير يسهرون ليله لا في صلاة ولا في وترٍ ولا في دعاء سحر ، وإنما في الأسواق ، وإنما أمام الشاشات ، وإنما بعضهم كذلك لا يدرك هذه الصلوات التي ذكرنا فضلها وأجرها ، بل هم نائمون أو مقصرون ، وهناك من يلعب ويلهو ، وهناك من يفطرون ، وهناك من يشغلون أوقاتهم بالغيبة والنميمة ، وهناك وهناك فإذا برئنا من هذا وتعرضنا لطاعة الله ، وأخذنا هذه الأرباح فلنتذكر أننا خاسرون من جهة أخرى في غير رمضان ، إذ لم نقبل على هذه الأعمال الصالحة ، ولم نرتبط بتلك الفرائض المفروضة .
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلا ..(217/5)
الأسرة المسلمة بعد رمضان
إعداد جمال عبدالرحمن
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبرحمته تكفر السيئات وتقال العثرات، والصلاة والسلام على البشير النذير، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فها هو رمضان قد مضى وتصرمت أيامه، ربح فيه الرابحون وخسر من عظمت موبقاته وآثامه، فيا أيها الرابح هنيئًا لك، ويا أيها الخاسر ما أجهلك، ولا نعلم من الرابح فنهنؤه، ومن الخاسر فنعزيه، لكن الله يعلمهم، فعلم الغيوب إليه سبحانه، عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا {الجن:26}.
أيها المحسن في رمضان
يا من اجتهدت وصمت وقمت، تقبل الله منك، وزادك هدى، وآتاك تقواك، فإن كنت ممن وفقهم الله تعالى للطاعات في رمضان فقد بقي أن تدعو الله تعالى أن يقبل العمل ويجعله خالصًا، ويثيبك عليه الأجر العظيم، فإن من صفات الصالحين أنهم لا يغترون بعمل، ولا يلهيهم أمل، بل في قلوبهم وجل، يخافون بغتة الأجل.
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله؛ قول الله عز وجل: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة... {المؤمنون:60} أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله عز وجل؟ قال: "لا؛ ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله عز وجل". {الحاكم في المستدرك ج2 ح3486}
فيا أيها المجتهد؛ هذا حالك مهما بلغ اجتهادك، تخاف أن لا يقبل منك، تخشى أن يكون قد خالط قلبك ما قد علمه الله جل وعلا، فابذل فيما بقي من عمرك المزيد عسى أن تفوز يوم المزيد لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد {ق:35}.
وعليك أيها المجتهد أن تكون حذرًا كما قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم... {النساء:70} فالحذر من مسببات الهلاك التي تجتمع على العبد حتى تهلكه، ومن هذه المسببات احتقار الذنب، واستصغار الخطيئة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه". {رواه أحمد} وفي رواية الحاكم: "فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه". {صحيح الجامع 2686}
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من صغائر الذنوب لأن صغارها أسباب تؤدي إلى ارتكاب كبارها، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها، وإن الله يعذب من شاء على الصغير، ويغفر لمن شاء الكبير ويعفو عن كثير. وضرب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مثلاً كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء أحدهم بعود، وغيره بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه، يعني أن الصغائر إذا اجتمعت ولم تُكَفَّر أهلكت، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم الكبائر لندرة وقوعها من الصدر الأول وشدة تحرزهم عنها، فأنذرهم مما قد لا يكترثون به، والصغيرة تصير كبيرة بأسباب منها الاستصغار والإصرار، فإن الذنب كلما استعظمه العبد صغر عند الله، وكلما استصغره عظم عند الله، لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهته له، وذلك النفور يمنع من شدة تأثره به، واستصغاره يصدر عن الألفة به وذلك يوجب شدة الأثر في القلب المطلوب تنويره بالطاعة، والمحذور تسويده بالمعصية. وقد كان السلف رضوان الله عليهم مع تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم لهم شديدي الاحتراز من الصغائر، إيمانا منهم بما قاله الله جل وعلا: وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم {النور:15} قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر؛ وإن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات". {البخاري ج5 ح6127}
وعن بلال بن سعد قال: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت".
{سير أعلام النبلاء 5-91}
يقول ابن القيم رحمه الله: "وها هنا نكتة دقيقة يغلط فيها الناس في أمر الذنب؛ وهي أنهم لا يرون تأثيره في الحال، وقد يتأخر تأثيره فيُنسى، وسبحان الله كم أهلكت هذه النكتة من الخلق! وكم أزالت من نعمة؟ وكم جلبت من نقمة؟ وما أكثر المغترين بها من العلماء والفضلاء، فضلاً عن الجهال، ولم يعلم المغتر أن الذنب ينقض ولو بعد حين، كما ينقض السم، وكما ينقض الجرح المندمل على الغش والدغل. وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه: اعبدوا الله كأنكم ترونه، وعدوا أنفسكم في الموتى، واعلموا أن قليلاً يغنيكم خير من كثير يطغيكم، واعلموا أن البر لا يبلى، وأن الإثم لا يُنسى، هذا مع أن للذنب نقدًا معجلا لا يتأخر عنه، قال سليمان التيمي: إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته، وقال ذو النون: من خان الله في السر هتك الله ستره في العلانية". {الجواب الكافي}
فانتبه يا من وُفِّقْتَ في رمضان للطاعة من الشيطان أن يغتالك، وعن الطاعة يجتالك.
أيها المسيء في رمضان(218/1)
إن من رحمة الخالق الجليل أن منحنا مهلة للتوبة قبل أن يقوم الكرام الكاتبون بإثبات المعصية، وتدوين الخطيئة. قال صلى الله عليه وسلم : "وإن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة". {السلسلة الصحيحة 1201}
فلا تكن ممن لا يرجون لله وقارًا، فيعصونه بأنواع الذنوب ليلاً ونهارًا، فهيا إلى التوبة النصوح، فباب التوبة مفتوح، وراقب الله أينما تغدو وتروح، ولا تقنط من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا، فأسرع ولا تتردد، ولا تقل: ذنوبي كثيرة لا يصلح معها التوبة، فلم أدع نوعًا من الفواحش إلا اقترفته، ولا ذنبا إلا ارتكبته، فإن الله يجيبك بقوله: "يا ابن آدم؛ لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني؛ غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم؛ لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة".
{صحيح الجامع}
بل إن الله تعالى يفرح بتوبة العاصي إليه مهما كان معاندًا شقيًا، وجبارًا عتيًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، والله؛ لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا ومن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أقبل إليَّ يمشي أقبلت إليه أهرول". {مسلم} فهنيئًا لك التوبة إذا صدقت الله وأخلصت له.
امرأة حائرة
ما أكثر الحيارى، والله وحده الهادي إلى سواء السبيل، وحائرتنا هذه المرة تذكر أنها خرجت من رمضان بروح إيمانية عالية، وعرفت أن بر الوالدين من أفضل الأعمال، وهي ترجو الله أن يعينها على ذلك، لكنها تذكر أن هناك مشكلة تواجهها تحيرت فيها ولا تدري كيف تبر أهلها فيها وخاصة أمها.
تقول: زوجتني أمي بابن أخيها ومضى على زواجي منه خمس سنوات ولم أنجب حتى الآن، وبالكشف الطبي عُرف أن زوجي مريض بعقم يحتاج إلى وقت طويل في علاجه، وأمي الآن تطلب مني أن أسأل زوجي الطلاق والفراق، وأنا مشفقة عليه، فهو إنسان أحسبه يراقب الله تعالى في سائر عمله وفي معاملتي كزوجة، وليس من السهل عليَّ فراقه، وأمي مصرة على أن أفارقه لأتزوج غيره حتى لا يضيع شبابي ولا أجد من يتزوجني بعد ذلك فماذا أصنع؟!
والجواب بحول الوهاب مسبب الأسباب؛ أن هذه القصة ما أشبهها بقصة الرجل الذي أتى أبا الدرداء فقال: إن أمي لم تزل بي حتى تزوجْتُ، وإنها تأمرني الآن بطلاقها، فقال أبو الدرداء: ما أنا بالذي آمرك أن تعقها، ولا أن تطلق، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فاحفظ وإن شئت فضيِّع".
{أحمد والترمذي وقال: صحيح}
والمعنى أن بر الوالد سبب لدخول الجنة من أوسط أبوابها وبر الأم سبب لذلك من باب أولى.
فلا يقال لهذه المرأة: سلي زوجك الطلاق، ولا يقال لها: عقي والدتك. بل أحسني إليها، والإحسان مفصل في كتاب الله جل وعلا كما قال: وبالوالدين إحسانا وفي التفصيل بعدها قال: إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما (23) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا {الإسراء:23}.
فهذا التفصيل في البر هو الذي تُنصح به هذه المرأة، وليس منه طاعتها فيما فيه مضرة بالبنت أو بزوجها، وعلى البنت أن تقول لأمها قولاً كريمًا بأن تصبر صبرًا جميلاً و سيجعل الله بعد عسر يسرا ، ومن أصدق من الله قيلا وعلى الأم ألا تستعجل وتدَّعي قراءة المستقبل، فعلم الغيب إلى علام الغيوب وحده جل وعلا. فالصبر والدعاء من أعجب الدواء، وعلى الله قصد السبيل ورفع الداء.
أنين الأطفال اليتامى
هل يليق بأسرة التوحيد أن تكون الأم متخلية؛ عن واجب التربية، والأب جدًا مشغول؛ بالمشروب والمأكول؟ وهل يرضى الله سبحانه أن تصبح مهمة الأب في البيت أن يكون موردًا للمال، ودور الأم الانشغال خارج البيت بالسوق والأعمال؟ حتى ضج الأولاد صارخين إلى أبيهم قائلين:
يا والدي كأننا سكانُ في أحَدِ الفنادقْ
صِرْنا نعيشُ حياتَنا ما بين خادمةٍ وسائقْ
كانت لنا أمنيَّةٌ أن نلتقي والجوُّ رائق
ونراكما في بيتِنا يا والدي ولَوْ دقائق
والأب لا يستجيب لهذه الصرخات، فقد علمه أهل الفساد أن سعادة الأولاد، في جمع المال وتأمين بيت في البلاد، وكذلك الأم قد علمها أبواها أن تحافظ على السلاح في يدها، فلربما طلقها زوجها أو غدر بها أو مات عنها فلا تجد نفسها في الشارع والله المستعان، ولقد مَلَّ الشاعر شوقي من هذه الحياة البائسة ففاضت قريحته بعد أن قلقت راحته فقال آسفا:
ليس اليتيم من انتهى أبوا
هُ مِن هَمِّ الحياة وخلَّفاه ذليلا
إن اليتيم له تجد أُمًّا تَخَلْ
لَت في الحياة أو أبا مشغولا(218/2)
نعم إن اليتيم الذي فقد حقا والده بموته، وهذا قد أوصى الله تعالى به؛ فهو في الناس ذليل ضعيف كسير، ما أسرع أن تحنو عليه قلوب المحبين للخير، الراغبين في الأجر، لأنهم يعلمون أن أباه قد واراه التراب. أما مَنْ يُرى له أبوان يدخلان ويخرجان، يغدوان ويروحان، يُلبسان أولادهما أنيق الثياب وهم عراةٌ من خير الثياب، ولباس التقوى ذلك خير فمثل هؤلاء لا يلتفت أحد إليهم مع غفلة أبويهم عنهم.
إن رعاية الأبناء ليست طعامًا وملبسًا وشرابًا وحسب، إنما رعايتهم تربيتهم على الفضائل وصحبة الأخيار، ووقايتهم يوم القيامة عذاب النار، وكذلك بث الحنان بين جوانحهم وترطيب قلوبهم بالعاطفة الرحيمة، ولا يكون ذلك إلا من أب رحوم وأم رءوم.
فالأب يرحم ضعف أولاده، والأم تترأم وتتعطف على ولدها، وإن أساس رحمة الأولاد الخوف عليهم يوم التناد، يوم يولي الناس مدبرين ما لهم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد.
أيها الموحدون من آباء وأمهات ينبغي أن تكونوا قد خرجتم من رمضان، بنية العمل والإحسان، وإتباع الحسنة بأختها، ومن أعظم الأعمال رعاية النشء رعاية إسلامية "وكفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت" كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم .
{(حسن) صحيح الجامع عن ابن عمرو}
ولا تضييع أكثر ولا أعظم من أن يهمل الأبوان تربية الأولاد فيهلكوا مع الهالكين.
طفلنا المسلم
نتابع معك رحلتنا مع أبناء السلف الذين حفظوا الحديث بعد القرآن وجلسوا لتلقي العلوم الشرعية في سن مبكرة، وقد وقفنا في عدد رجب السابق عند الحديث عن ابن شاذان، ونكمل معك إن شاء سيرة هؤلاء الأطفال العظماء:
7 ابن اللبان:
العلامة أبو محمد عبد الله..... ابن عالم أصبهان النعمان بن عبد السلام التيمي.
عظَّمهُ الخطيب وقال: كتبنا عنه، وكان أحد أوعية العلم، ثقة وجيز العبارة مع تدين، وعبادة وورع بَيِّن، سمعته يقول: حفظت القرآن ولي خمس سنين، وأُحضرت مجلس ابن المقرئ ولي أربع سنين.
قال الخطيب: لم أر أحسن قراءة منه، أدرك رمضان ببغداد فصلى التراويح بالناس، ثم أحيا بقية الليل صلاة، فسمعته يقول: لم أضع جنبي للنوم في هذا الشهر ليلا ولا نهارًا.
{سير أعلام النبلاء (17-654}
الله أكبر؛ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها {فاطر:2}. له أربع سنين من العمر ويجلس في مجلس العلماء، ويحفظ القرآن حتى ختمه في الخامسة من عمره المبارك. فلا غرابة أن لا يضع جنبه في رمضان ليلا ولا نهارًا.
8 أبو القاسم التيمي:
ومَثَلٌ عظيم آخر هو: التيمي الحافظ الكبير شيخ الإسلام أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشي التيمي الملقب بقوام السنة، صاحب الترغيب والترهيب وغير ذلك، ولد سنة 457.
قال أبو القاسم: وسمعت العلم وأنا ابن أربع سنين.... {تذكرة الحفاظ (4-1277)}
9 ابن كرامة:
ابن كرامة الإمام المحدث الثقة أبو جعفر محمد ابن عثمان بن كرامة، حدث عنه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا وغيرهم، ويحيى بن صاعد ومحمد بن مخلد والسراج وجماعة. قال أبو حاتم وغيره: صدوق. قال: قرأت على علي بن محمد الفقيه وجماعة سمعوا عبد الله بن عمر ولي أربع سنين.
{سير أعلام النبلاء (12-296)}
10 أبو عمر القاضي:
أمَّا أبو عمر القاضي الإمام الكبير.. ابن إسماعيل ابن عالم البصرة حماد بن زيد، كان يذكر أن جده لقنه حديثًا فحفظه وله أربع سنين؛ والحديث عن وهب بن جرير عن أبيه عن الحسن قال: لا بأس بالكحل للصائم.
قال الخطيب: هو ممن لا نظير له في الأحكام عقلاً وذكاءً واستيفاءًا للمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة. {سير أعلام النبلاء (14-555)}
11 منصور بن عبد المنعم الفراوي:
قال ابن نقطة: كان شيخًا ثقة مكثرًا صدوقًا، سمعت منه صحيح البخاري، وصحيح مسلم وسمَّعه مرارًا، ورأيت سماعه بالمجلد الأول والثاني والثالث بصحيح مسلم في سنة ثمان وعشرين وهو ابن أربع سنين وخمسة أشهر. انتهى.
فهؤلاء خمسة علماء من الأحد عشر الذين ذكرتهم؛ كلهم سمع العلم وحضر مجالسه في سن أربع سنوات، فابن اللبان، وأبو القاسم التيمي، وابن كرامة، وأبو عمر القاضي، ومنصور بن عبد المنعم. إنها حجة الله على الناس، فإن الذي لا ينشأ في عبادة الله، ومن لم يتعلم العلم في الصغر، قد حُرِم خيرًا كثيرًا، وفاته من العلم وافر الحظ.
12 الخطيب البغدادي:
وهذا الخطيب الإمام الأوحد، العلامة المفتي الحافظ الناقد، محدث الوقت أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي صاحب التصانيف وخاتمة الحفاظ، كان أبوه أبو الحسن خطيبًا بقرية درزيجان، فحض ولده أحمد على السماع والفقه فسمع وهو ابن إحدى عشرة سنة وارتحل إلى البصرة وهو ابن عشرين سنة، وإلى نيسابور وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وإلى الشام وهو كهل، وإلى مكة وغير ذلك، وكتب الكثير.
{سير أعلام النبلاء (18-270)}
فهل رأينا كم أضعنا من أعمارنا وأعمار أبنائنا.
وهل عرفنا أننا نهدر ثروة غالية بدعوى أن الأولاد صغار؟(218/3)
نعم قد لا يتيسر في كثير من البلاد تلقي العلم والرحلة إلى العلماء في زمننا هذا بنفس الصورة التي كانوا عليها هؤلاء السلف، لكن لا يعني هذا التخلي عن طلب العلم الشرعي كليةً أو إهماله، أو ترك حلقات تحفيظ القرآن الكريم والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا {العنكبوت:69} فعلى الآباء الاجتهاد والله تعالى لا يضيع أجر المحسنين.
والله المستعان. والحمد لله رب العالمين.(218/4)
الأسرة المسلمة في ظلال التوحيد
إعداد : جمال عبدالرحمن
الحمد لله الذي مَنَّ علينا بتوحيده، وذلك من فضل الله علينا وعلى عبيده، والصلاة والسلام على خاتم أنبياء الله ورسله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
الثبات على التوحيد:
فعن أبي الدرداء يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشرك بالله شيئًا وإن قُطعت وحُرقت ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدًا فمن تركها متعمدًا فقد برئت منه الذمة، ولا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر".
{صحيح: انظر صحيح الجامع حديث رقم: 7339}
وهكذا يشحذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم همم المسلمين للثبات على الحق، والممات على التوحيد الخالص.
وعن بيان ما ينبغي لرب البيت وراعي الأسرة المسلمة من حماية جناب التوحيد، ووقاية أهله من الوقوع في الشرك ومفارقته، نعرض ما حدث مع هذا النموذج الجليل داخل أسرة مسلمة بين جدران بيت مسلم، هذا النموذج وهذا البيت هو بيت الصحابي التقي الورع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جاء ذلك في روايات؛ منها: الرواية الأولى أخرجها ابن حبان في صحيحه (13-6090) عن يحيى بن الجزار قال: دخل عبد الله على امرأته وفي عنقها شيء معوذ فجذبه فقطعه ثم قال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، ثم قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك". قالوا: يا أبا عبد الرحمن هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة؟ قال: شيء يصنعه النساء يتحببن به إلى أزواجهن. والرواية الثانية رواية ابن ماجه عن زينب قالت: كانت عجوز تدخل علينا ترقي من الحمرة، وكان لنا سرير طويل القوائم، وكان عبد الله إذا دخل تنحنح وصوت، فدخل يومًا فلما سمعتْ صوته احتجبتْ منه، فجاء فجلس إلى جانبي، فمسني فوجد مس خيط، فقال: ما هذا؟ فقلت: رقي لي فيه من الحمرة، فجذبه فقطعه فرمى به وقال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك". قلت: فإني خرجت يومًا فأبصرني فلان فدمعت عيني التي تليه فإذا رقيتها سكنت دمعتها وإذا تركتها دمعت، قال: ذلك الشيطان إذا أطعته تركك، وإذا عصيته طعن بإصبعه في عينك، ولكن لو فعلت كما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان خيرًا لك وأجدر أن تشفين تنضحين في عينك الماء وتقولين: "أذهب البأس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاءَ إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا".
{سنن ابن ماجه 2-ص1166، وقال الألباني: صحيح}
وأما الرواية الثالثة: فهي رواية الحاكم وذُكر فيها اسم المرأة التي كانت ترقي زينب امرأة عبد الله بن مسعود، كما ظهر في الرواية شدة ابن مسعود على امرأته لما رأى عليها مظهرًا من مظاهر الشرك، وجذبه إياها حتى كادت تقع على وجهها.
عن أم ناجية قالت: دخلتُ على زينب امرأة عبد الله أعوذها من حمرة ظهرت بوجهها وهي معلقة بحرز فإني لجالسة دخل عبد الله فلما نظر إلى الحرز أتى جذعًا معارضًا في البيت فوضع عليه رداءه ثم حصر عن ذراعيه فأتاها فأخذ بالحرز فجذبها حتى كاد وجهها أن يقع في الأرض فانقطع ثم خرج من البيت فقال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك، ثم خرج فرمى بها خلف الجدار، ثم قال: يا زينب أعندي تعلقين؟ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نُهي عن الرقى والتمائم والتِّولة". فقالت أم ناجية: يا أبا عبد الرحمن، أما الرقى والتائم فقد عرفنا؛ فما التولة؟ قال: التولة ما يهيج النساء. {المستدرك 4-241}
قال السيوطي: قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط:
1- أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته.
2- باللسان العربي وما يُعرف معناه.
3- أن يُعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى. {فتح المجيد ص145}
قال المناوي رحمه الله: والرقى أي التي لا يُفهم معناها، إلا التعوذ بالقرآن ونحوه فإنه محمود. و"التمائم" جمع تميمة وأصلها خرزات تعلقها العرب على رأس الولد لدفع العين. و"التولة" بكسر التاء وفتح الواو كعنبة؛ ما يُحَبِّبُ المرأة إلى الرجل من السحر، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك شركًا لأن المتعارف فيها في عهده ما كان معهودًا في الجاهلية وكان مشتملاً على ما يتضمن الشرك، أو لأن اتخاذها يدل على اعتقاد تأثيرها ويفضي إلى الشرك. ذكره القاضي رحمه الله.
وقال الطيبي: المراد بالشرك: اعتقاد أن ذلك سبب قوي وله تأثير، وذلك ينافي التوكل. اه.
والمقصود بالحمرة التي ظهرت بوجهها حُمرة الوجه، وهي حمرة تعلو الجسد من المرض، وكل هذه الأشياء من الرقى والتمائم والتولة، كلها باطلة لإبطال الشرع إياها؛ لأن اتخاذها يدل على اعتقاد تأثيرها وهو يفضي إلى الشرك. ذكره القاري.
ومما سبق يتبين أن رجل البيت المسلم يجب أن ينصح أهله ويعلمهم ويدلهم على ما ينجيهم عند الله من عذابه، فيغير المنكر الذي يراه على أهله، ويرشدهم إلى المعروف الذي ينفعهم في دينهم ودنياهم.(219/1)
همم عالية وطموحات جليلة
أيها المسلم، ما هي طموحاتك وأغلى أمانيك؟ وإذا عُرض عليك تحقيق أمنية عظيمة لك؛ فماذا ستختار؟ غالبًا ستحتار، فتعلم من هؤلاء الأخيار:
عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: "سل". فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: "أو غير ذلك؟" قلت: هو ذاك. قال: "فأعنى على نفسك بكثرة السجود". {صحيح مسلم 1-353}
وعنه رضي الله عنه قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم نهاري، فإذا كان الليل أويت إلى باب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فبت عنده فلا أزال أسمعه يقول: "سبحان الله سبحان الله ربي" حتى أمل أو تغلبني عيني فأنام، فقال يومًا: "يا ربيعة؛ سلني فأعطيك". فقلت: أنظرني حتى أنظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت: يا رسول الله، أسألك أن تدعو الله أن ينجيني من النار ويدخلني الجنة، فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم قال: "من أمرك بهذا؟" قال: قلت: ما أمرني به أحد، ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية، وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه، فأحببت أن تدعو الله قال: إني فاعل فأعني بكثرة السجود.
قلت: في الصحيح بعضه رواه الطبراني في الكبير وفيه ابن إسحاق، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (2-249).
وهذا نموذج آخر من رجال مدرسة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "سلني يا معاذ". قال: قلت: حدثني يا رسول الله عن عمل يدخلني الجنة، قال: "بخ بخ، قد سألت عن عظيم إلا أنه يسير، تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتعبد الله وحده". ثم أقبلت عليه أسأله قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل الصلاة بعد الصلاة؟ قال: "لا ونِعْم ما هي". قلت: يا رسول الله، الزكاة بعد الزكاة المفروضة؟ قال: "لا ونِعم ما هي". قلت: يا رسول الله، فالصيام بعد الصيام المفروض، قال: "لا، ونعم ما هو". قال: "ألا أخبرك يا معاذ برأس هذا الأمر وقوامه وذروة السنام منه؟" قلت: نعم يا رسول الله، قال: "رأس هذا الأمر تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن قوامه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن ذروة السنام منه الجهاد في سبيل الله، والذي نفسي بيده ما تغبرت قدما عبد قط ولا وجهه في عمل أفضل عند الله بعد الصلاة المفروضة من جهاد في سبيله، ألا أخبرك يا معاذ بأملك الناس من ذلك؟" قلت: نعم، فوضع إصبعه على لسانه، فقلت: يا رسول الله، أو كلما نقول بألسنتنا يُكتب علينا؟ فضرب منكبي الأيسر بيده اليمنى حتى أوجعني ثم قال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".
{المعجم الكبير20-ص75}
وهذا الشهيد الصالح عبد الله والد جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر: "ألا أبشرك عما لقي أبوك؟ إن الله كلم أباك من غير حجاب". فقال له: "عبدي، سلني، فقال: يا رب رُدني إلى الدنيا حتى أقتل فيك". قال: "فإني قد قضيت عليهم ألا يرجعوا". قال: يا رب فأبلغهم عنا، فأنزل الله عز وجل: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وعبد الله هو عبد الله بن عمرو بن حرام، قُتل يوم أحد شهيدًا. {أخرجه الترمذي وغيره، وحسنه الألباني}
رحم الله تعالى هؤلاء الأخيار، وجمعنا بهم في خير دا(219/2)
الأسرة المسلمة في ظلال التوحيد
إعداد/ جمال عبد الرحمن
الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم، معلم التوحيد، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاهم، وبعد..
1ـ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الأدب مع الله
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال». [صحيح مسلم ج3 ص0431]
وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: شتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، وكذبني وما ينبغي له أن يكذبني، أما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدا!! وأنا الله الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوًا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: ليس يعيدني كما بدأني!! وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته.
[صحيح، انظر حديث رقم:3234 في صحيح الجامع]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار».
[صحيح، انظر حديث رقم 3434 في صحيح الجامع]
عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بصاقًا في جدار القبلة أو مخاطًا أو نخامة فحكه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد فأقبل على الناس فقال: «ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه؟ أيحب أحدكم أن يُستقبَل فيُنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا» فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض.
[صحيح مسلم ج1 ح/983]
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه العراجين (والعراجين جمع عرجون وهو عذق البلح) أن يسمكها بيده فدخل المسجد ذات يوم وفي يده واحد منها (أي من العراجين) فرأى نخامات في قِبلة المسجد فحتهن حتى أنقاهن ثم أقبل على الناس مغضبًا فقال: «أيحب أحدكم أن يستقبله رجل فيبصق في وجهه؟ إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه، والمَلَكُ عن يمينه فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه وليبصق تحت قدمه اليسرى أو عن يساره، فإن عجلت به بادرة فليقل هكذا في طرف ثوبه» ورد بعضه في بعض.
[صحيح ابن خزيمة ج2 ح/64]
ولتعظيم أمر الأدب مع الله سبحانه وتعالى حال الوقوف بين يديه، عاقب النبي صلى الله عليه وسلم رجلا كان إمامًا يصلي بالناس بحرمانه من الإمامة مرة أخرى، بسبب أنه بصق في القبلة وهو يؤم الناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر فقال صلى الله عليه وسلم حين فرغ: «لا يصلي لكم» فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (نعم) وحسبتُ أنه قال: «إنك آذيت الله ورسوله».
[سنن أبي داود 184 وحسنه الألباني]
ومن الأدب ألا يعرضوا اسم الله لليمين الكاذبة
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُذِنَ لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض وعنقه مثنية تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظمك! فيرد عليه جل وعلا لا يعلم ذلك من حلف بي كاذبًا».
[صحيح، انظر حديث رقم4171 في صحيح الجامع]
عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين وهو فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان»، قال: فقال الأشعث بن قيس: فِيَّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألك بينة»؟ قال: قلت: لا، قال: فقال لليهودي: احلف» قال: قلت: يا رسول الله، إذن يحلف ويذهب بمالي، قال: فأنزل الله تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم [آل عمران:77]». [صحيح البخاري ج2 ح6532]
مؤمنة في بيت فرعون
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». [متفق عليه]
قال الله تعالى: وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين [التحريم:11]، وكذلك مريم بنت عمران؛ ترغيبًا في التمسك بالطاعة والثبات على الدين. وقيل هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة، أي لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى فرعون، وكانت آسية آمنت بموسى، وقيل هي عمة موسى آمنت به.(220/1)
قال أبو العالية اطلع فرعون على إيمان امرأته فخرج على الملأ فقال لهم: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها، فقال لهم: إنها تعبد ربًّا غيري، فقالوا له: اقتلها، فأوتد لها أوتادا وشد يديها ورجليها، فقالت: رب ابن لي عندك بيتا في الجنة، ووافق ذلك حضور فرعون فضحكت حين رأت بيتها في الجنة، فقال فرعون: ألا تعجبون من جنونها؟ إنا نعذبها وهي تضحك، فقُبض روحها. وقال فيما روى عنه عثمان النهدي: كانت تعذب بالشس فإذا أذاها حر الشمس أظلتها الملائكة بأجنحتها، وقيل سمر يديها ورجليها في الشمس ووضع على ظهرها رحى، فأطلعها الله حتى رأت مكانها في الجنة يُبنى... ولما قالت: ونجني نجاها الله أكرم نجاة، فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتتنعم، ومعنى من فرعون وعمله تعني بعمله الكفر، وقيل من عمله: من عذابه وظلمه وشماتته، وقال ابن عباس: الجماع. ونجني من القوم الظالمين أهل مصر، قال مقاتل: القبط. قال الحسن وابن كيسان: نجاها الله أكرم نجاة ورفعها إلى الجنة فهي فيها تأكل وتشرب.
[تفسير القرطبي ج81 ص302]
وكان من قضاء الله في خلقه أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن لكل نفس ما كسبت، إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة فاستجاب الله لها فبنى لها بيتًا في الجنة.
قال القاسم بن أبي بزة: كانت امرأة فرعون تسأل مَن غَلبَ؟ فيقال غلب موسى وهارون، فتقول: آمنت برب موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها فإن مضت على قولها فألقوها عليها، وإن رجعت عن قولها فهي امرأته، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت بيتها في السماء فمضت على قولها فانتزع الله روحها، وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح... قوله: وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون وكان أعتى أهل الأرض على الله وأبعده من الله، فوالله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها لتعلموا أن الله حكم عدل لا يؤاخذ عبده إلا بذنبه، وقوله: ونجني من فرعون وعمله تقول: وأنقذني من عذاب فرعون ومن أن أعمل عمله. وذلك كفره بالله. [تفسير الطبري ج82 ص171]
طفلنا المسلم
إن من الأطفال من آتاه الله سبحانه هبة الحلم والتؤدة والهدوء بحيث تراه ـ على صغره ـ يسأل ويستفسر ويتعلم، وينتقد ويراجع وهذا بلا شك شجاعة وثبات نود أن نراه في أولادنا بنين وبنات.
تعال معي طفلنا المسلم لنرى:
أبناء السلف والحوار الهادئ من أجل التعليم
لقد تربى أبناء السلف على الصفات الحميدة؛ فكلامهم هادف، ونقدهم بناء، وسؤالهم بريء.
فعن أبي بردة بن أبي موسى قال: شهدت أبا موسى وهو في بيت أم الفضل، فعطسَتْ فشمتها، وعطستُ فلم يشمتني، فلما جئت إلى أمي أخبرتها، فلما جاءها أبو موسى قالت له: عطس عندك ابني فلم تشمته، وعطسَتْ امرأة فَشَمَّتَّها، فقال: إن ابنك عطس فلم يحمد الله فلم أشمته، وأنها عطست فحمدت الله فشمتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، وإذا لم يحمد الله فلا تشمتوه». قالت: أحسنت.
[أخرجه الحاكم (4/0967)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد]
وعن مصعب بن سعد قال: كان أبي إذا صلى في المسجد تجوَّز وأتم الركوع والسجود، وإذا صلى في البيت أطال الركوع والسجود والصلاة. قلت: يا أبتاه، إذا صليت في المسجد جَوَّزْتَ، وإذا صليت في البيت أطلت، قال: يا بني، إنا أئمة يقتدى بنا. [رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (1/281)]
أبناء السلف وصحبة الأخيار وحضور مجالس الكبار
إن من أهم الأمور وأوكدها في بناء الطفل المسلم، وتنشئته النشأة الصحيحة؛ أن يجنب رفاق السوء ويبعد عن صحبة الأشرار، وينشأ على صحبة الأخيار، ومجالسة الكبار، الذين يفيدونه علمًا وخبرة، وأدبًا وتجربة، فربما كان الغلام ذا موهبة من الله في علمه وعقله؛ فسبق بذلك من رافقوه، ولحق من سبقوه، وأفاد من جالسوه، فسَعِد وسعد معه أبوه ومُرَبُّوه.
وهذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لِمَ تُدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم، قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني، وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في قوله تعالى: إذا جاء نصر الله والفتح (1) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا [النصر:1-2] حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئًا، فقال لي: يا ابن عباس، كذلك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، علمه الله إذا جاء نصر الله والفتح ـ فتح مكة ـ، فذاك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم.
[الطبراني في المعجم الكبير (01/71601)](220/2)
وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما كان حاضرًا في مجلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم به شيوخ، وكان منتبهًا لما يدور في المجلس؛ يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء لا يسقط ورقها ولا يتحات». فقال القوم: هي شجرة كذا، هي شجرة كذا، فأردت أن أقول هي النخلة وأنا غلام شاب، فاستحييت فقال: «هي النخلة».
[البخاري (5/1775)، ومسلم وغيرهما]
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يحدث عن حضوره مجالس الكبار وهو غلام فيقول: «شهدت وأنا غلام حلفًا مع عمومتي المطيبين، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه». [أخرجه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (3/819) عن عبد الرحمن بن عوف، وأبو يعلي عن ابن عباس، وأحمد، وهو صحيح]
أبناء السلف يكرمون العلماء؛ أدبًا وتوقيرًا وحياءً
إذا كانت صحبة الصغار للعلماء وللكبار؛ فقد صح الاختيار، ولكن للعلماء وللكبار حقوق على الصغار، منها: التأدب معهم واحترامهم وتوقيرهم والحياء عندهم، وعدم التقدم في الكلام عليهم. يظهر ذلك في سلوك هذا الشاب الصغير الذي تربى على هذه الفضائل..
قال سمرة بن جندب: لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامًا، فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن ههنا رجالا هم أسن مني، وقد صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وسطها. [مسلم (2/469)] فانظر أخي إلى الاحترام والأدب.
وهذا ابن عمر يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء لا يسقط ورقها ولا يتحات». فقال القوم: هي شجرة كذا هي شجرة كذا، فأردت أن أقول هي النخلة وأنا غلام شاب، فاستحييت، فقال: «هي النخلة». فالذي منعهم من الحديث حياؤهم ممن هم أكبر منهم.
والحمد لله رب العالمين(220/3)
الأسرة المسلمة في ظلال التوحيد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
فإن أعظم كلمة نُعِدها لدنيانا وأخرانا «لا إله إلا الله» وقد قال سيد البشر صلى الله عليه وسلم : «خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير». ولعظمة هذه الكلمة عُصِمت بها دماء، وحُفِظت بها فروج وأموال، وفُصِل بها بين ملة الإسلام وسائر الملل، وعُرف بها المسلم من الكافر، ولعظمتها أمر الإسلام بتعظيمها وصيانتها.
النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه تعظيم كلمة لا إله إلا الله
عن المقداد بن عمرو الكندي رضي الله عنه وكان حَلِيفًا لبني زهرة، وكان ممن شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيتَ إن لقيتُ رجلا من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يديَّ بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله! أقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقتله». فقال: يا رسول الله؛ إنه قطع إحدى يدي ثم قال ذلك بعد ما قطعها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقتله؛ فإن قتلتَه فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال». [صحيح البخاري ج4 ح7246] ومعنى لاذ مني: تحيَّل في الفرار مني واستتر خلف شجرة واعتصم بها. ومعنى فإنه بمنزلتك: أي محقون الدم يُقتل قاتله قصاصًا. ومعنى وإنك بمنزلته: أي مُهدَر الدم تُقتَل قصاصًا لقتلك مسلمًا.
فسبحان الله! هذا المقداد بن عمرو على مكانته الاجتماعية ومنزلته في الأمة الإسلامية؛ فهو ممن شهد بدرًا، وقد غفر الله تعالى لكل من حضر وقعة بدر، ولم تُغن كل هذه السوابق والمنازل عن إحقاق الحق، وإلزامه بالقسط؛ بتطبيق شرع الله وإعمال النصوص الشرعية بعيدًا عن الاجتهادات المقابلة للنص، وبمعزل عن الظنون والترجيحات، والعواطف والانفعالات.
ومع أن كل شواهد هذه القصة المفترضة تشير إلى ذلك الرجل الكافر الذي افترض المقداد أنه ضرب يده فقطعها عدو للمقداد وللدين والملة؛ وما قال قولته وشهد شهادته إلا تعوُّذًا واستجارة من القتل وخوفًا؛ إلا أنه يبقى أقوى شاهد من بين هذه الشواهد وهو قول الرجل: لا إله إلا الله، والذي يُعَد صدقه فيها وإيمانه بها من أضعف الاحتمالات؛ ومع هذا حكم به النبي صلى الله عليه وسلم وجعل موته بعد قولها موتًا على الإسلام؛ ولذلك قال المقداد: «فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله». ومعلوم أن منزلة المقداد قبل قتله الرجل أنه كان معصوم الدم لكونه مسلمًا، ثم صار مهدَر الدم مثل الرجل قبل أن يقول لا إله إلا الله.
أما قصة أسامة وهي مثل هذه القصة فإنها حدثت حقيقة:
فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بَعَثَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرقة (حي من أحياء العرب)، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله؛ فكف الأنصاري عنه، فطعنْتُه برمحي حتى قتلتُه، فلما قدمنا بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أسامة؛ أقتلتَهُ بعد ما قال لا إله إلا الله»؟ قلت: كان متعوذًا، فما زال صلى الله عليه وسلم يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
[صحيح البخاري ج4 ح1204 ومسلم وغيرهما]
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: «.. لِمَ قتلته؟ قال: يا رسول الله؛ أوجع في المسلمين وقتل فلانًا وفلانًا - وسمى له نفرًا - وإني حملْتُ عليه، فلما رأى السيف قال لا إله إلا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أقتلته»؟ قال: نعم، قال: «فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة»؟ قال: يا رسول الله: استغفر لي، قال: «وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة»؟ قال: فجعل لا يزيد على أن يقول: «كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة»؟ [صحيح مسلم ج1 ح79]
وفي هذا النص يظهر مدى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكلمة الحق «لا إله إلا الله» وعدم قبوله من أسامة أي شيء يضادها، كما يظهر استجابة أسامة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعرفته خطأه وإقراره به واعتذاره عنه، حتى أنه قال: يا رسول الله؛ استغفر لي.
وفي النص دلالة عظمى على عدم تحكيم العواطف وتقديمها على النصوص، أو تغليب الظنون على أمر الله العظيم.
وهذا النص عبرة واضحة وهدي مبين للذين يدفعهم حماسهم إلى تجاهل النص المبين ظنًا منهم أن الزيادة في الحماس والإفراط في الغيرة، ونية العمل للإسلام ومصلحة الدعوة؛ كل ذلك يشفع في تجاوز النصوص وتخطِّيها وإهمالها، والله غفور رحيم! والصحيح: فاستقم كما أمرت و إنما يتقبل الله من المتقين.(221/1)
ـ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: حدثني محمود بن الربيع رضي الله عنه قال: قدِمْتُ المدينة فلقيت عتبان بن مالك فقلت: حديث بلغني عنك، قال: أصابني في بصري بعض الشيء، فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذه مصلى، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله من أصحابه فدخل وهو يصلي في منزلي، وأصحابه يتحدثون بينهم (أي في ما يلقون من المنافقين)، ثم أسندوا عُظْم ذلك وكِبْره (أي نسبوا شدة أفعال المنافقين) إلى مالك بن دخشم قالوا: وَدُّوا أنه (أي النبي ِ) دعا عليه فهلك، وودوا أنه أصابه شر، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة وقال: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟» قالوا: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، قال: «لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تَطْعَمه». قال أنس: فأعجبني هذا الحديث فقلت لابني: اكتبه فكتبه. فكانوا يتذاكرون المنافقين وقبيح فعالهم فذكروا منهم مالك بن الدخشم فصحح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القول فيه وأن قلبه مؤمن. [صحيح مسلم ج1 ص16]
أما رواية البخاري فهي توضح زيادة في سبب صلاة عتبان في بيته؛ فمع إصابته في بصره فهو يعالج الأمطار والسيول في الوادي وهي تحول بينه وبين مسجد قومه، قال أنس: أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري أن عتبان بن مالك وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرًا من الأنصار أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ قد أنكرتُ بصري وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سأفعل إن شاء الله» قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت له فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: «أين تحب أن أصلي من بيتك؟» قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبَّر فقمنا فصففنا فصلى ركعتين ثم سلم، قال: وحبسناه على خُزَيْرة (لحم يُقطَّع قطعًا صغارا) صنعناها له، قال، فثاب في البيت رجال من أهل الدار ذوو عدد فاجتمعوا، فقال قائل منهم: أين مالك بن الدخيشن أو ابن الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقل ذلك؛ ألا تراه قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟ » قال: الله ورسوله أعلم، فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله». [صحيح البخاري ج1 ح514]
ويلحق بما تقدم ما يحدث من غيبة بعض الناس والخوض في أعراضهم وسيرتهم وسبهم والتهكم منهم وعليهم، والتندر بأفعالهم في المجالس بزعم أنهم أصحاب كيد وألاعيب، يبدر منهم دائمًا القبيح المعيب. وبالنظر فيما سبق من الأحاديث يُعرف مدى التجاوز للهدي النبوي بغيبة الناس والوقوع في أعراضهم. وقد يكون المرء حقيقة لا يساوي شيئًا في ميزان العدل والحق والخُلُق؛ لكن ظاهر الإسلام يحرم دمه وماله وعرضه، فلا حاجة أن نكسب الآثام فيمن لا يساوي في نظرنا شيئًا، ما دام يلفظ بلا إله إلا الله ويأتي بظاهر الإسلام والله حسيبه، وحسابه عليه، وإلا فكيف نصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!
الاستسلام لأمر الله تعظيم لكلمة لا إله إلا الله(221/2)
ومن تعظيم كلمة لا إله إلا الله التسليم لله سبحانه باتباع أمره واجتناب نهيه. قال تعالى: ...وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون [هود:41]. وقد حرم الإسلام التبني ونهى عن نسبة الولد لغير أبيه فحرم ذلك تحريمًا قاطعًا وعلى كل من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله أن يعلن التسليم له جل وعلا فيكون حاله ومقاله سمعنا وأطعنا، تعظيما لحرمات الله، ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج:03] ولا يصلح أن يكون ضعف الإيمان عند كثير من الناس وقلة خبرتهم بالشريعة الغراء ورغباتهم الشخصية والنفسية حائلاً ومانعًا من تنفيذ شرع الله أو على الأقل إجراء تعديلات وتحسينات على النصوص الشرعية بدعوى المصلحة والحالة النفسية كما حدث مع مثل هذه المرأة التي تقول: ليس عندي أولاد، وقد توفي زوجي، وأريد أن أتبنى طفلة صغيرة أربيها وأكتسب فيها أجرًا عند الله تعالى، لكني أخشى عندما تكبر هذه البنت وتكتشف أنها ليست ابنتي ولا ابنة زوجي المتوفى، سيكون في ذلك تدمير لنفسيتها في وسط مجتمع لا يقدر فيه كثيرون ظروف أمثالها، وعليه فأريد أن أسجلها في الأوراق الرسمية باسم زوجي أو اسم والدي مع تغيير بسيط في الاسم الأخير أو الاسم قبل الأخير بحيث لا أكون سميتها باسمنا كاملاً، ولا جعلتها تشك في نسبتها إلينا عند كبرها وبذلك لا تتعرض في المجتمع للأزمات النفسية التي تحطم مستقبلها وتدمر شخصيتها، والله سبحانه وتعالى يعلم بِنِيَّتِي أنني لم أنسبها إليّ كأم ولكنها مجرد أوراق لتحقيق مصلحة هذه البنت.
والجواب والصواب في هذه الحالة وأمثالها أن تحري الشرع وتنفيذه هو السبيل لحل كل مشكلة تواجه المرء في حياته، خاصة وأن مثل هذه المشكلة نزل بشأنها قرآن، وأثيرت في عصر نزول القرآن بصورة واسعة، وحسم القرآن فيها القول، ورفض رفضًا تامًا تسمية الدعيّ ولدًا كما أنه لا تكون الزوجة أبدًا أُمّا. وقد امتثل المسلمون الأوائل لهذا الأمر الرباني فآمنوا به وحكموا به على أنفسهم ولم يكن في صدورهم حرج مما قضى الله وسلموا تسليما، علما منهم ويقينًا أن الله يعلم وهم لا يعلمون، وهو عليم حكيم خبير، أرحم منهم بخلقه، والحنان من لدنه أعظم وأكمل من حنانهم على أنفسهم، وما أصابنا من الحسنات والخير فمنه سبحانه، وما أصابنا من مصيبة فبما كسبت أيدينا. فحرم الله تعالى التبني حرمة يقينية أبدية لا يحلها تغير أخلاق الناس وبُعدهم عن شرع الله، ولا يبيحها عاطفة جياشة أو الشفقة على الآخرين. قال الله تعالى: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (4) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما [الأحزاب:4-5]. والحمد لله رب العالمين.(221/3)
الأسرة المسلمة في ظلال التوحيد
إعداد/ جمال عبد الرحمن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللَّه
وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، وبعد:
فإن اللَّه تعالى أرسل رسوله يتلو آيات
اللَّه علينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، لتصلح أحوال الناس والأسر والمجتمعات،
وهو القائل صلى الله عليه وسلم : «أنا لكم كالوالد أعلمكم».
[حسنه الألباني في صحيح
الجامع]
النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المسلمين تعظيم اللَّه والعبودية له
عن ابن عباس رضي
الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللَّه جل وعلا: «الكبرياء ردائي، والعظمة
إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار».
[صحيح: أخرجه أحمد عن أبي
هريرة]
وفي رواية عند الطيالسي قال: «إن العز إزاري، والكبرياء ردائي فمن
نازعني فيهما عذبته».
[صحيح عن علي، في صحيح الجامع]
معناه أن العظمة والكبرياء
من الصفات التي تختص بالله جل وعلا ولا تنبغي لأحد غيره كما أنّ رداء الإنسان
وإزاره يختص به لا يشارَك فيه، وفيه تحذير شديد من الكبر الذي من آفاته بطر
الحق وعمى القلب عن معرفة آيات اللَّه وفهم أحكامه، والمقت والبغض من اللَّه،
وإن خصلة تثمر لك المقت من اللَّه، والخزي في الدنيا والنار في الآخرة، وتقدح
في الدين؛ لحريّ أن تتباعد عنها، وقد قيل: عجبًا للمتكبر وهو يعلم عجزه وذلته،
وفقره لجميع الموجودات، وأن قرصة النملة تؤلمه، والمرحاض يطلبه لدفع ألم البول
والأذى عنه، ويفتقر إلى كسرة خبز يدفع بها ألم الجوع عن نفسه، فمَن صفته هذه كل
يوم وليلة كيف يصح أن يدخل قلبه كبرياء ؟
النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الثناء على
اللَّه
واللجوء إليه سبحانه وقت الشدة
كان يومُ غزوة أحد يومَ شدةٍ وكربٍ على
المسلمين، أصيبوا فيه إصابات بالغة، استحر فيهم القتل، وأثخنتهم الجراح، وجُرح
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقُتل عمه حمزة أسد اللَّه وسيد الشهداء، وكان الغم الأشد لما
أشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قُتل، وبثباته صلى الله عليه وسلم بعد حفظ اللَّه سبحانه له، وثبات ثلة من عظماء
أصحابه حوله؛ يئس المشركون من القضاء عليهم فرجعوا إلى مكة خائبين.
يقول عبيد
اللَّه بن رفاعة الزرقي رضي الله عنه: لما كان يوم أُحد وانكفأ المشركون؛ أي
مالوا ورجعوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفًا،
فقال: «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا
هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا
مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك
ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول (يتحرك) ولا يزول، اللهم
إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما
أعطيتنا وشر ما منعت، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير
خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك،
واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق».
[رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح. قاله الهيثمي في مجمع الزوائد
(6/121)]
وهذا عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه تسلط
الشيطان عليه في صلاته ووسوسته له فيها، فألجأه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللَّه يستعيذ به،
فأذهب اللَّه عنه كيد الشيطان.
قال عثمان: يا رسول اللَّه، إن الشيطان قد حال
بيني وبين صلاتي وقراءتي يُلبسها عليّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ذاك شيطان يقال له
خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثًا». قال: ففعلت ذلك
فأذهبه اللَّه عني.
طفلنا المسلم:
ومن عناية رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بفلذة أكباد الأسر
وقرة أعيانها دعاؤه لهم ومسحه على رءوسهم فهاهم:
أبناء السلف يتعلمون الأذكار
وينطقون بالحكمة
فهذا ابن عباس رضي اللَّه عنهما؛ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعبد اللَّه
بن عباس ثلاث عشرة سنة، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يفقهه اللَّه في الدين ويعلمه
التأويل، قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: مسح النبي صلى الله عليه وسلم رأسي ودعى لي
بالحكمة.
فأبناء السلف كانوا محل اهتمام آبائهم ومن يلي أمرهم، ولقد حرص أهلوهم
أن يعلموهم ذكر اللَّه ودعاءه، فبذكر اللَّه تطمئن القلوب، وبدعائه تنفس الكروب
وتهون الخطوب، لذا فقد تعلم أبناء السلف الاستعاذة بالله من سوء الفعال، ورديء
الخصال، ومن فتنة الدنيا وعذاب الآخرة، وطلبوا من اللَّه هدايته، وعافيته
وولايته، والبركة في عطيته، والوقاية من سوء القضاء، فالله أهل لكل مدح
وثناء.
عن مصعب بن سعد قال: كان سعد يعلمنا خمسًا يذكرهن النبي صلى الله عليه وسلم : «اللهم إني
أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أُرَد إلى أرذل العمر،(222/1)
وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر». [مسند أبي يعلى 2/716]
وقال
الحسن بن علي رضي اللَّه تعالى عنهما: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في
الوتر: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك
لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذل من
واليت، تباركت ربنا وتعاليت».
[أخرجه الترمذي: 2/464، وقال: هذا حديث حسن]
وهذا
الجنيد رحمه اللَّه يقول كلامًا عظيمًا في معنى الشكر لا يقوله إلا من أُلهم
الحكمة.
قال الجنيد: كنت بين يدي السري ألعب وأنا ابن سبع سنين، فتكلموا في
الشكر، فقال: يا غلام، ما الشكر؟ قلت: أن لا يعصى اللَّه بنعمته، فقال: أخشى أن
يكون حظك من اللَّه لسانك. قال الجنيد: فلا أزال أبكي على قوله. [سير أعلام
النبلاء 14/66]
وحينما وَلِيَ الخلافة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، وفدت
عليه الوفود من كل بلد لتُبيِّن حاجتها وللتهنئة، فوفد عليه الحجازيون، فتقدم
غلام هاشمي للكلام، وكان حدثَ السن، فقال عمر: لِينطق مَن هو أسَنُّ منك، فقال
الغلام: أصلح اللَّه أمير المؤمنين، إنما المرء بأصغرَيْهِ، قلبه ولسانه، فإذا
منح اللَّه عبدًا لسانًا لافظًا وقلبًا حافظًا؛ فقد استحق الكلام، وعرف فضله
مَن سمع خطابه، ولو أن الأمر يا أمير المؤمنين بالسن؛ لكان في الأمة مَن هو أحق
بمجلسك هذا منك، فقال عمر: صدقْتَ، قُل ما بدا لك. فقال الغلام: أصلح اللَّه
أمير المؤمنين، نحن وفد تهنئة، لا وفد مُرْزِئَة، وقد أتيناك لمنِّ اللَّه الذي
مَنَّ علينا بك، ولم يُقْدِمْنا إليك رغبةٌ ورهبة، أما الرغبة فقد أتيناك من
بلادنا، وأما الهيبة فقد أمنَّا جورَك بعدلك. فقال عمر: عظني يا غلام! فقال
الغلام: أصلح اللَّه أمير المؤمنين، إن ناسًا من الناس غرَّهم حلم اللَّه عنهم،
فزلَّت بهم الأقدام فهَوَوْا في النار، فلا يغرَّنَّك حِلم اللَّه عنك، وطول
أملك، وكثرة ثناء الناس عليك، فتزلَّ قدمك، فتلحق بالقوم، فلا جعلك اللَّه
منهم، وألحقك بصالحي هذه الأمة، ثم سكت. فقال عمر: كم عمر الغلام ؟ فقيل: هو
ابن إحدى عشرة سنة، ثم سأل عنه، فإذا هو من ولد الحسين بن عليّ رضي اللَّه
عنهم، فأثنى عليه ودعا له. [التمهيد 23/304]
نعم، والبلد الطيب يخرج نباته بإذن
ربه.
أختنا المسلمة:
المرأة المسلمة مُبَلِّغة للنساء حديث النبي صلى الله عليه وسلم
قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «بلَّغوا عني ولو آية». [البخاري (ح5451)] وها هي امرأة ممن بايعن رسول الله
صلى الله عليه وسلم على الإسلام وعلى ألا يعصين في معروف، توضح للمسلمات شيئًا مما أُخذ عليهن من
المعروف الذي لا تعصي فيه المرأة فتقول: «ألا نخمش وجهًا(أي عند المصيبة)، ولا
ندعوا ويلاً على الميت، ولا نشق جيبًا، وألا ننشر شَعرًا». [صحيح أبي داود
ح5862]
والدعاء بالويل هو النياحة، وشق الجيب أي شق الثياب.
إنها تقول ذلك لأن
كثيرًا من النساء إذا أصباتها مصيبة لطمت الخدود وشقَّت الجيوب، ودعت بدعوى
الجاهلية، والأمثلة من المسلمات المبلغات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تُحصر، لكن
يكفي أن تعلم المبلّغة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لها بأن ينضر الله وجهها يوم تُنضر
الوجوه، فقال: «نضّر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني، فرب حامل فقه
غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».
[صحيح ابن حبان ج2، ح086]
المرأة
المسلمة تتجنب الفتنة وتصمد عند وقوعها
وهذه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ـ
رضي الله عنها ـ أسلمت بمكة وبايعت ولم يتهيأ لها هجرة إلى سنة سبع، وكان
خروجها ـ إلى المدينة ـ زمن صلح الحديبية، فخرج في إثرها ـ خلفها ـ أخواها
الوليد وعُمارة، فما زالا حتى قدما المدينة، فقالا: يا محمد «فِ» (أي: أَوْفِ
لنا) لنا بشرطنا ـ وكان من الشروط في صلح الحديبية أن يرد النبي صلى الله عليه وسلم من جاءه
مسلمًا إلى الكفار ـ فقالت أم كلثوم: أتردني يا رسول الله إلى الكفار يفتنونني
عن ديني ولا صبر لي، وحال النساء في الضعف ما قد علمت؟ فأنزل الله تعالى:
إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله
أعلم بإيمانهن [الممتحنة:01]، فكان صلى الله عليه وسلم يمتحن النساء، فيقول: «آلله
ما أخرجكن إلا حب الله ورسوله والإسلام؟ ما خرجتن لزوج ولا مال؟» فإذا قلن ذلك
لم يرجعهن إلى الكفار».
[سير أعلام النبلاء (2/672)]
فأم كلثوم خشيت من الكفار
أن يفتنوها في دينها، وأكدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خشيتها بضعف النساء المعلوم، فأيد
الله تعالى رأيها ورحم حالها وبارك فِعَالها وأنزل الفرج: فإن
علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار.
لكن
إذا وقعت الفتنة فما على المسلمة إلا الصبر والاستعانة بالله العظيم.
فها هي
سميَّة أم عمار بن ياسر، سابعة سبعة في الإسلام، عذبها أبو جهل وطعنها في(222/2)
قُبُلها بحربة، فماتت، فكانت أول شهيدة في الإسلام، فكانوا يعذبونها وهي تأبى
غير الإسلام، حتى قتلوها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بعمار وأمّه وأبيه ياسر وهم
يُعذبون بالأبطح ـ مكان في أعلى مكة ـ في رمضاء مكة حرها الشديد ـ فيقول:
«صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة». [الطبقات الكبرى لابن سعد (4/631)]
سمُيةُ
لا تبالي حين تَلقَى
عذاب النُّكر يومًا أو تهونا
وتأبى أن تردِّدَ ما
أرادوا
وكانت في عِداد الصابرين
نساء خالدات في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها
إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني،
وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب. [متفق عليه]
لماذا جاءت
البشرى ببيتٍ من قصب؟ ولماذا القصب بالذات؟
قال ابن حجر: قصب بفتح القاف: قال
ابن التين: المراد به لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر المنيف. قلت: عند الطبراني في
«الأوسط» من طريق أخرى عن ابن أبي أوفي؛ يعني: قصب اللؤلؤ. وعنده في «الكبير»
من حديث أبي هريرة: «بيت من لؤلؤة مجوفة». وأصله في «مسلم»، وعنده في «الأوسط»
من حديث فاطمة قالت: قلت: يا رسول الله، أين أمي خديجة؟ قال: «في بيت من قصب».
قلت: أمن هذا القصب؟ قال: «لا، من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت».
قال
السهيلي: النكتة في قوله: (من قصب) ولم يقل: من لؤلؤ؛ أن في لفظ القصب مناسبة
لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها، ولذا وقعت هذه
المناسبة في جميع ألفاظ هذا الحديث. اهـ. [فتح الباري (7/171، 271)]
وفي القصب
مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه، وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس
لغيرها، إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن، ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع
لغيرها.
وأما قوله: «ببيت»، فقال أبو بكر الإسكاف في فوائد الأخبار: المراد به
بيت زائد على ما أعد الله لها من ثواب عملها، ولهذا قال: «لا نصب فيه» أي لم
تتعب بسببه.
قال السهيلي: لذكر البيت معنى لطيف؛ لأنها كانت ربة بيت في الإسلام
منفردة به، فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم بيت إسلام إلا بيتها،
وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضا غيرها.
قال: وجزاء الفعل يذكر غالبًا بلفظه، وإن
كان أشرف منه، فلهذا جاء الحديث بلفظ البيت دون لفظ القصر. اهـ.
قال المناوي:
البيت عبارة عن القصر، وتسميته الكل باسم الجزء معلوم في لسانهم، ويلوح الجزاء
من جنس العمل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا صخب فيه ولا نصب»، فالصخب: الصياح والمنازعة
برفع الصوت، والنصب: التعب.
قال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين ـ أعني
المنازعة والتعب ـ أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابته خديجة طوعًا، فلم تحوجه
إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل
وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة
المقابلة لفعلها. اهـ. [فتح الباري (7/271)]
كانت الطاهرة أمنا خديجة ـ رضوان
الله عليها ـ من وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم تشد أزره، وتشاركه في حمل الأذى من قومه بنفس
راضية صابرة محتسبة، حتى قضى الله تعالى قضاءه في المقاطعة الظالمة المريرة
التي مكثت سيفًا مصلتا على أعناق المحاصرين المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم أثناء
الحصار الذي فرضته قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
انتهى الحصار، وخرجت الطاهرة
خديجة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ من الحصار ظافرة بثمرة صبرها لتتابع مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرها في الحياة زوجة أمينة مستظلة بظل الوفاء وصدق الإيمان وحسن
الصبر، فواسته صلى الله عليه وسلم حين تعب، آزرته لما جهد، فاستحقت أن يرسل إليها رب العالمين
سلامًا خاصا مع الروح الأمين.
والحمد لله رب العالمين(222/3)
الأسرة المسلمة في ظلال التوحيد
إعداد/ جمال عبد الرحمن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول
اللَّه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، وبعد:
لا يزال حديثنا عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم
موصولا وممدودًا يبث التربية الإيمانية بنواة أهل ويربي الناشئة المسلمة على
معاني الإيمان بالغيب وكما وصف ربنا سبحانه أهل الإسلام أنهم يؤمنون
بالغيب ويقيمون الصلاة فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يحدث المسلمين عن هذا
الغيب بما يأذن له الله بمعرفته والتحديث به.
فكثيرًا ما كان يقول: «أُذِن لي
أن أُحدّث عن... كذا وكذا» من المغيبات التي لا يعلمها الله تعالى، وأَذن بأن
يعلمها من ارتضاه الله تعالى من رسول، وها هو صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن القبر؛ ذلك الصندوق
المغلق المظلم الذي لا يعلم عنه أحد شيئًا ولا يرى فيه شيئًا إلا ما أذن الله
بعلمه ورؤيته.
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الإسلام من فتنة القبور
كان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فيقال له: قد تذكر الجنة والنار فلا تبكي
وتبكي من هذا؟ فيقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا
منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما
رأيت منظرًا إلا والقبر أفظع منه».
[المستدرك على الصحيحين ج1 ص526]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قُبر أحدكم أو الإنسان أتاه
ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير، فيقولان له: ما كنت
تقول في هذا الرجل محمد؟ فهو قائل ما كان يقول، فإن كان مؤمنًا قال: هو عبد
الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقولان له: إن
كنا لنعلم إنك لتقول ذلك، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين ذراعًا،
وينوَّر له فيه، فيقال له: نم؛ فينام كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله
إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، وإن كان منافقًا قال: لا أدري، كنت أسمع
الناس يقولون شيئًا فكنت أقوله، فيقولان له: إن كنا لنعلم أنك تقول ذلك، ثم
يقال للأرض: التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف فيها أضلاعه فلا يزال معذبًا
حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك».
[صحيح ابن حبان ج7 ح3117]
بركات التوحيد
ويوضح لهم صلى الله عليه وسلم أن من الموحدين من سيدخل النار بذنوبه، ثم يخرجه إلى الجنة توحيده:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يدخل الله أهل الجنة الجنة،
يدخل من يشاء برحمته، ويدخل أهل النار النار، ثم يقول: انظروا من وجدتم في قلبه
مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون منها حِمَمًا قد امتحشوا فيلقون
في نهر الحياة أو الحيا فينبتون فيه كما تنبت الحبة إلى جانب السَيل، ألم تروها
كيف تخرج صفراء ملتوية؟. [صحيح مسلم ج1 ح184]
ومعنى «حمما» أي فحمًا، قد امتحشوا أي احترقوا.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل
النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناسًا أصابتهم
النار بذنوبهم، أو قال بخطاياهم فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحمًا أذن
بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر (ضبائر أي جماعات متفرقة) فبُثوا على أنهار
الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل
السيل فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان بالبادية. [مسلم ج1 ح158]
قال النووي رحمه الله: فالظاهر والله أعلم من معنى هذا الحديث: أن الكفار الذين هم
أهل النار والمستحقون للخلود لا يموتون فيها ولا يحيون حياة ينتفعون بها
ويستريحون معها، كما قال الله تعالى: لا يقضى عليهم فيموتوا
ولا يخفف عنهم من عذابها [فاطر:36]. وكما قال تعالى: ثم
لا يموت فيها ولا يحيى [الأعلى:13] وهذا جارٍ على مذهب أهل الحق أن
نعيم أهل الجنة دائم وأن عذاب أهل الخلود في النار دائم، أما قوله صلى الله عليه وسلم: «ولكن
ناسًا أصابتهم النار..» إلى آخره: فمعناه أن المذنبين من المؤمنين يميتهم الله
تعالى إماتة بعد أن يعذبوا المدة التي أرادها الله تعالى، وهذه الإماتة إماتة
حقيقية يذهب معها الإحساس، ويكون عذابهم على قدر ذنوبهم، ثم يميتهم ثم يكونون
محبوسين في النار المدة التي قدرها الله تعالى، ثم يخرجون من النار موتى قد
صاروا فحمًا، فيُحملون ضبائر كما تُحمل الأمتعة، ويلقون على أنهار الجنة، فيُصب
عليهم ماء الحياة فيحيوْن وينبتون نبات الحبة في حميل السيل في سرعة نباتها
وضعفها، فتخرج لضعفها صفراء ملتوية، ثم تشتد قوتهم بعد ذلك ويصيرون إلى منازلهم
وتكمل أحوالهم، فهذا هو الظاهر من لفظ الحديث ومعناه.
وعن عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثم إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها،(223/1)
وآخر أهل الجنة دخولا الجنة؛ رجل يخرج من النار حبوًا فيقول الله تبارك وتعالى
له: «اذهب فادخل الجنة»، فيأتيها فيخيلَ إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب؛
وجدتها ملأى. فيقول الله تبارك وتعالى له: «اذهب فادخل الجنة» قال: فيأتيها
فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب؛ وجدتها ملأى، فيقول الله له: «اذهب
فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك عشرة أمثال الدنيا» قال:
فيقول: أتسخر بي أو أتضحك بي وأنت الملك؟» قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى
بدت نواجذه، قال: فكان يقال: ذاك أدنى أهل الجنة منزلة. [صحيح مسلم ج1
ح186]
نساء حول الرسول صلى الله عليه وسلم
(الحجاب وعدم الاختلاط بالرجال)
لا يجوز جلوس الرجال والنساء واجتماعهم في مجلس واحد مختلطين ينظر بعضهم إلى بعض. قالت أم سلمة رضي
الله عنها: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعدما
أمرنا بالحجاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «احتجبا منه» فقلنا: يا رسول الله! أليس هو أعمى
لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟». [صحيح
ابن حبان 5575/12]
وأخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. وضعفه الشيخ
الألباني رحمه الله وقال: ضعيف؛ في سنده نبهان وفيه جهالة.
وقد علق عليه الحافظ
ابن حجر بقوله: وفيه دليل على أن النساء محرم عليهن النظر إلى الرجال إلا أن
يكونوا لهن بمحرم، سواء أكانوا مكفوفين أو بصراء. [فتح الباري 37/12]
وهذا لا
يتعارض مع أمره صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس لما طلقها عمرو بن حفص البتة (ثلاثًا) أن تعتد
في بيت ابن أم مكتوم. لِما قاله القرطبي: قال ابن العربي: وإنما أمرها
بالانتقال من بيت أم شريك إلى بيت ابن أم مكتوم لأن ذلك أولى من بقائها في بيت
أم شريك، إذ كانت أم شريك مؤْثَرة بكثرة الداخل إليها فيكثر الرائي لها، وفي
بيت ابن أم مكتوم لا يراها أحد، فكان إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك وأولى فرخص
لها ذلك والله أعلم». [تفسير القرطبي 228/17]
ولذلك أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تكون
عند أم شريك؛ قال: «تلك امرأة يغشاها أصحابي؛ اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل
أعمى، تضعين ثيابك عنده، وفي رواية: «انتقلي إلى أم شريك» ـ وأم شريك امرأة
غنية من الأنصار عظيمة النفقة في سبيل الله ينزل عليها الضيفان ـ، فقلت سأفعل،
فقال: «لا تفعلي؛ إن أم شريك امرأة كثيرة الضيفان، فإني أكره أن يسقط خمارك أو
ينكشف الثوب عن ساقيك فيرى القوم منك بعض ما تكرهين، ولكن انتقلي إلى ابن عمك
عبد الله بن أم مكتوم [الأعمى] ـ وهو من البطن الذي هي منه ـ فإنك إذا وضعْتِ
خمارك لم يرك» فانتقلتْ إليه. [صحيح]
وقد يسأل سائل هنا: لماذا منع النبي صلى الله عليه وسلم
فاطمة أن يراها الناس عند أم شريك في الوقت الذي صرح فيه بأن أم شريك امرأة
يغشاها أصحابه المحتاجين إلى نفقتها وضيافتها؟ والجواب: قال ابن عبد البر أبو
عمر : وأما قوله: يغشاها أصحابي فمعلوم أنها عورة كما أن فاطمة عورة، إلا أنه
علم أن أم شريك من السترة والاحتجاب بحال ليست بها فاطمة، ولعل فاطمة من شأنها
أن تقعد بزينتها في البيت ولا تحترز كاحتراز أم شريك، ولا يجوز أن تكون أم شريك
وإن كانت من القواعد أن تكون بزينتها، ويجوز أن تكون فاطمة شابة ليست من
القواعد وتكون أم شريك من القواعد فليس عليها جناح ما لم تتبرج بزينة، فهذا كله
فرق بين حال أم شريك وفاطمة، وإن كانتا جميعا امرأتين؛ العورة منهما واحدة،
ولاختلاف الحالتين أُمِرت فاطمة بأن تصير إلى ابن أم مكتوم الأعمى حيث لا يراها
هو ولا غيره في بيته. اهـ [التمهيد 156/19]
ولم يعلق العلماء على انتقال فاطمة
إلى بيت ابن عمها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه هل في ذلك خلوة أم لا؟ لأن هذا الأمر معلوم
عندهم بالضرورة، فلا يصح أبدًا أن ينقلها النبي صلى الله عليه وسلم من الرمضاء إلى النار ـ بمعنى
أنه لا يمنعها من نظرة فينقلها إلى خلوة وإنما ينقلها إلى حيث الأمان من الخلوة
ومن النظر وغيره.
لكن يجوز أن تنظر المرأة المسلمة إلى الرجال للحاجة من السير
الطبيعي في الطرقات، أو أثناء البيع والشراء، مع استصحاب الضابط الشرعي وقل
للمؤمنات يغضضن من أبصارهن [النور:31] وأن النظرة الأولى
لك والثانية عليك، كما يجوز أن تنظر إلى الرجال وهم يلعبون ألعابًا غير محرمة،
بشرط ألا يظهر من الرجال شيء من عوراتهم، وبشرط ألا يترتب على هذا النظر فتنة.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون في حِرابهم
في المسجد يوم العيد، وعائشة رضي الله عنها تنظر من ورائه وهو يسترها منهم، حتى
ملت ورجعت، والمرأة الصالحة تدرك أن عائشة رضي الله عنها كانت مختفية خلف جسم
النبي صلى الله عليه وسلم مستترة به، فتراهم من حيث لا يرونها.(223/2)
وقد ذكر العلماء سبب سماح النبي صلى الله عليه وسلم
لعائشة برؤية الأحباش وهم يلعبون بحرابهم في المسجد أن عائشة كانت ذلك الوقت
والله أعلم غير بالغة، لأنه نكحها صبية بنت ست سنين أو سبع، وبنى بها بنت تسع،
ويجوز أن يكون قبل ضرب الحجاب مع ما في النظر إلى السودان مما تقتحمه العيون،
وليست الصبايا كالنساء في معرفة ما هنالك من أمر الرجال. قاله ابن عبد البر في
التمهيد.
وبالجمع بين الضوابط الشرعية التي تأمر بغض النظر وتجنب الفتنة وبين
إذن النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة برؤية لعب الأحباش نرى أن السماح بمثل هذا كان في أضيق
الحدود ولذلك لم يسمع حدوثه عن عائشة أو نساء السلف غير هذه المرة فليتق الناس
ربهم عند الاستفادة مما أبيح ألا يكون ذريعة للوصول إلى المحظور ثم إلى الوقوع
فيه.
وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟
قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف،
فادع الله لي؛ قال: «إن شئت صبرْت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك»
فقالت: أصبر، قالت: وإني أتكشف فادع الله ألا أتكشف فدعا لها». [متفق
عليه]
وعند البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما في نحو هذه القصة أنها قالت: إني
أخاف الخبيث ـ الشيطان ـ أن يجردني؛ فدعا لها». [فتح الباري 5338/5]
فلتنظر كل
امرأة مسلمة تخشى الله إلى إصرار تلك المرأة على أن تتستر ولا ينكشف منها شيء،
وتخشى أن يجردها الشيطان الخبيث إذا صرعها رغم أنها سوداء ربما لا يشتهيها أحد،
وفي ذلك عبرة لمن تقول: لن أتحجب لأنني لست جميلة.
فيا للعجب! امرأة تصر على
التستر حتى وهي معذورة ومريضة، وتصبر على الصرع والمرض ولا تصبر على التكشف،
وامرأة أخرى لا تصبر على الحجاب ولا تحبه، وتتكشف وهي راضية غير مكرهة بل راغبة
حريصة على سفورها وتبرجها، فكيف الفرق بين المرأتين؟ والفرق واضح شديد وبعيد
فالأولى قال ابن عباس عنها: امرأة من أهل الجنة، والثانية قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم
إنها صنف من أهل النار: «ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة
البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا
وكذا».
طفلنا المسلم فقيه في الدين
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه
في الدين»، فالفقه خير كله، وفلاح عند من لا ظل إلا ظله، وهذا نموذج ومثال
لفقيه من الفقهاء الصغار؛ أبناء السلف الأبرار.
عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما قال: كان عمر رضي الله عنه يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لِمَ تُدخل
هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم، قال: فدعاهم ذات يوم
ودعاني معهم، قال: وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني (يعني فقهي وعلمي)،
فقال: ما تقولون في: إذا جاء نصر الله والفتح (1) ورأيت
الناس يدخلون في دين الله أفواجا (2) فسبح بحمد
ربك واستغفره إنه كان توابا فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد
الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، ولم يقل بعضهم
شيئًا، فقال لي: يا ابن عباس، أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه الله له إذا جاء نصر الله والفتح ـ فتح مكة ـ، فذاك علامة
أجلك، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا. قال عمر: ما أعلم منها إلا ما
تعلم. [البخاري 4043/4]
بل ويستنبطون الأحكام الشرعية، وهو نفسه رضي الله عنه
يستنبط حكمًا يصير هديًا للمسلمين بعد، وهو حكم المرور بين الصفوف خلف الإمام
أثناء صلاة الجماعة.
يقول ابن عباس: أقبلت راكبًا على حمار أتان (أنثى الحمار)
وأنا يومئذ قد ناهزت (أي: قاربت) الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إلى غير
جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلتُ فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف لم
ينكر ذلك عَلَيَّ أحد. [البخاري 823/1]
وهو يستنبط هنا من عدم إنكار أحد عليه
جواز ذلك.
وصبية أخرى من بنات السلف؛ قال عنها أبو الفرج بن الجوزي في كتابه
«صفوة الصفوة»:
أمير بلدة اجتاز على باب دار فاستقى ماءً، فلما شرب رمى إليهم
شيئًا من المال فوافقه أصحابه، ففرح أهل الدار سوى بنية صغيرة، فإنها بكت، فقيل
لها: ما يبكيك؟ فقالت: مخلوق نظر إلينا فاستغنينا، فكيف لو نظر إلينا الخالق
سبحانه وتعالى؟
فهي رحمها الله تريد أن تعلم من حولها أنه إذا كان العبد يفرح
بفضل مخلوق عليه؛ فالفرح بفضل الله أولى وأعظم، فهو مسبغ النعم، ومزيل النقم،
سبحانه.
وعن خزيمة أبي محمد قال: قال بنات رجل لأبيهن: يا أبه؛ لا تطعمنا إلا
الحلال، فإن الصبر على الجوع أيسر من الصبر على النار، فبلغ ذلك سفيان الثوري،
فقال: ما لهن رحمهن الله. [صفوة الصفوة 443/4]
فاحذر أخي أكل الحرام، فما نبت
منه جسم إلا كانت النار أولى به.
والحمد لله رب العالمين(223/3)
الأسرة المسلمة في ظلال التوحيد
إعداد/ جمال عبد الرحمن
الحياء من الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعد
فإن الحياء من أعظم الأخلاق التي يتخلق بها المسلم ، بل هو قرين الأعمال جميعًا، ولذلك أكد عليه الإسلام ، ونبه عليه الشرع في مواضع عديدة ، والله تعالى لا يستحيي من الحق ، والرسول صلى الله عليه وسلم كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، والحياء خلقٌ يبعث على فعل الحسن وترك القبيح.
وهو قسمان غريزي ومكتسب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغريزي أشد حياءً من العذراء في خدرها، وفي المكتسب في الدروة العليا.
الله جل وعلا حيي ستير
- عن يعلى بن أمية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يغتسل بالبراز بلا إزار فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله عز وجل حيي ستير يحب الحياء والستر فإذا اغتسل أحدكم فليستتر».
[أخرجه أحمد وصححه الألباني برقم : 1756 في صحيح الجامع]
وعن سلمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين».
[أخرجه أحمد والترمذي وصححه الشيخ الألباني برقم : 1757 في صحيح الجامع]
كما أن الحياء خلق كل دين : عن أنس وابن عباس مرفوعا إن «لكل دين خلقا»، وإن خلق الإسلام الحياء. [حسنه الألباني برقم : 2149 في صحيح الجامع]
كيف نستحيي من الله؟
عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «استحيوا من الله تعالى حق الحياء، من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى وليحفظ البطن وما حوى وليذكر الموت والبِلَى ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء».
[أخرجه أحمد والترمذي وحسنه الشيخ الألباني برقم : 935 في صحيح الجامع]
وقوله صلى الله عليه وسلم : «استحيوا من الله حق الحياء» أي حياء ثابتا ولازمًا صادقًا، قاله المناوي، وقيل: أي اتقوا الله حق تقاته «قلنا يا نبي الله إنا لنستحيي» لم يقولوا حق الحياء اعترافًا بالعجز عنه (والحمد لله) أي على توفيقنا به (قال: ليس ذاك) أي ليس حق الحياء ما تحسبونه، بل أن يحفظ جميع جوارحه عما لا يرضي (ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس أي عن استعماله في غير طاعة الله بأن لا تسجد لغيره، ولا تصلي للرياء، ولا تخضع به لغير الله ولا ترفعه تكبرًا. (وما وعى) أي ما جمعه الرأس من اللسان والعين والأذن كل ذلك يُحفظ عما لا يحل استعماله، (وتحفظ البطن) أي عن أكل الحرام (وما حوى) أي ما اتصل اجتماعه به من الفرج والرجلين واليدين والقلب فإن هذه الأعضاء متصلة بالجوف، وحفظها بأن لا تستعملها في المعاصي بل في مرضاة الله تعالى (وتتذكر الموت والبلى) بكسر الباء من بَلِيَ الشيء إذا صار خَلقًا متفتتًا يعني تتذكر صيرورتك في القبر عظامًا بالية (ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا) فإنهما لا يجتمعان على وجه الكمال حتى للأقوياء قاله القارىء.
وقال المناوي لأنهما ضرتان فمتى أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى (فمن فعل ذلك) أي جميع ما ذكر فقد استحيا من الله حق الحياء.
[تحفة الأحوذي (جزء 7 - صفحة 131 )]
الحياء أحد شعب الإيمان
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول : لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان».
[مسلم عن أبي هريرة]
ü لماذا ذكر الحياء من بين الشعب جميعا؟ والجواب لأن جميع الشعب من الحياء والحياء منها فكان الإيمان قرين الحياء يبقى ببقائه ويذهب بذهابه .
- عن ابن عمر مرفوعًا: «إن الحياء و الإيمان قُرِنا جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر».
[صححه الشيخ الألباني برقم : 1603 في صحيح الجامع]
ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم فَقْد الحياء مسوغًا لارتكاب أي منكر . روى أبو مسعود البدري مرفوعًا :«إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ماشئت». [رواه البخاري]
- وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دعه فإن الحياء من الإيمان». [متفق عليه]
الحياء لا يمنع من السؤال في الدين
ـ وعن عائشة أن أسماء بنت يزيد سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض قال : «تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر إلى أن قال: ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها». قالت أسماء : وكيف أتطهر بها؟ قال: سبحان الله تطهري بها. . وسألته عن غسل الجنابة فقال: تأخذين ماءك إلخ فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. [أخرجه مسلم](224/1)
- عن عائشة أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال: «فرصة ممسكة» قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: «سبحان الله تطهري بها واستتري بثوب» وزاد وسألته عن الغسل من الجنابة فقال : «تأخذين ماءك فتطهرين أحسن الطهور وأبلغه ثم تصبين على رأسك الماء ثم تدلكينه حتى يبلغ شؤون رأسك ثم تفيضين عليك الماء» قال: وقالت عائشة نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن عن الدين وأن يتفقهن فيه. [قال الشيخ الألباني: (حسن)]
وعن أم سلمة أن امرأة قالت : يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة غسل إذا احتلمت؟ قال : «نعم إذا رأت الماء» فضحكت أم سلمة فقالت : أتحتلم المرأة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ففيم يشبهها الولد؟» [متفق عليه]
الحياء ويوم البعث
قالت عائشة قلت يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة؟ قال: «حفاة عراة» قلت والنساء قال: والنساء قلت يا رسول الله فما يستحيا؟ قال يا عائشة الأمر أهم من أن ينظر بعضهم إلى بعض.
[(صحيح) وأخرجه البخاري ومسلم]
فوائد الحياء
1- الحياء في الجنة:
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار».
[ حديث رقم: 3199 في صحيح الجامع للألباني]
2- الحياء زينة:
عن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه».
[حديث رقم : 5655 في صحيح الجامع للألباني]
3- الحياء خيرٌ كله:
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : «الحياء لا يأتي إلا بخير». [متفق عليه]
4- الحياء يجلب رضا الله لأن الله يحب الحياء:
عن أشج بني عصر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن فيك لخلتين يحبهما الله عز وجل». قال قلت: وما هما؟ قال: «الحلم والحياء» قال قلت: قديمًا كانتا فيَّ أم حديثًا قال: «قديمًا» قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله عز وجل.
[إسناده صحيح على شرط الشيخين إلى أشج بني عصر وهو صحابي نزل البصرة ومات بها، ويقال أشج عبد القيس واسمه المنذر بن عائذ بن المنذر]
- عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قيل: إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها»، قيل: إذا كان أحدنا خاليا؟ قال: الله أحق أن يستحيا منه من الناس». [أخرجه أحمد والحاكم وحسنه الشيخ الألباني برقم : 203 في صحيح الجامع]
أمثلة في الحياء ( حياء النبي صلى الله عليه وسلم )
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها.
[صحيح البخاري ومسلم]
(العذراء) البكر سميت بذلك لأن عذرتها وهي جلدة البكارة باقية. (خدرها) سترها وقيل الخدر ستر يجعل للبكر في جانب البيت . والتشبيه بالعذراء لكونها أكثر حياء من غيرها والتقييد بقوله (في خدرها) مبالغة لأن العذراء يشتد حياؤها في الخلوة أكثر من خارجها لأنها مظنة وقوع المعاشرة والفعل بها .
حياء الأبكار
قالت عائشة: يا رسول الله إن البكر تستحي قال: «رضاها صماتها». [متفق عليه]
حياء عثمان رضي الله عنه
4385 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ؟ - يعني عثمان -
[أخرجه مسلم وأحمد]
حياء المرأة السوداء
عن عطاء بن أبي رباح قال : قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي، قال: «إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك». فقالت: أصب، فقالت إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها. [أخرجه البخاري ومسلم]
(امرأة) قيل اسمها سعيرة الأسدية وقيل شقيرة (أصرع) يصيبني الصرع وهو علة في الجهاز العصبي تصحبها غيبوبة في العضلات وقد يكون هذا بسبب احتباس الريح في منافذ الدماغ وقد يكون بسبب إيذاء الكفرة من الجن (أتكشف) أي فأخشى أن تظهر عورتي وأنا لا أشعر(صبرت) على هذا الابتلاء (ولك الجنة) أي درجة عالية فيها بمقابل صبرك.
وهذه عبرة للنساء، فهي امرأة رغم مرضها وعذرها سعت واجتهدت في ستر نفسها وبدنها، والعجيب أن نساءً يجتهدون في كشف عوراتهن بلا عذر، فأيتهما تستحق الجنة؟
حياء فاطمة بنت عتبة بن ربيعة
عن عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت عتبة بن ربيعة تبايع النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها أن لا يشركن بالله شيئا ولا يزنين الآية قالت: فوضعت يدها على رأسها حياءً فأَعجب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما رأى منها فقالت عائشة: أقري أيتها المرأة فوالله ما بايعنا الا على هذا قالت: فنعم إذا فبايعها بالآية.
[مسند أحمد بن حنبل]
دور المرأة المسلمة في المجتمع(224/2)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «بلِّغوا عني ولو آية». [صحيح البخاري (3/5721)]. وها هي امرأة ممن بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وعلى ألا يعصين في معروف، توضح للمسلمات شيئًا مما أُخذ عليهن من المعروف الذي لا تعصي فيه المرأة فتقول: «ألا نخمش وجهًا (أي عند المصيبة)، ولا ندعو ويلاً (وهي النياحة على الميت)، ولا نشق جيبًا (أي ثوبًا)، وألا ننشر شعرًا». [صحيح أبو داود ح5862] إنها تقول ذلك لأن كثيرًا من النساء إذا أصابتها مصيبة لطمت الخدود وشقَّت الجيوب، ودعت بدعوى الجاهلية.
والأمثلة من المسلمات المبلغات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تُحصر، لكن يكفي أن تعلم المبلّغة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لها بأن ينضر الله وجهها يوم تُنضر الوجوه، فقال: «نضّر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».
[صحيح ابن حبان ج2، ح680، وانظر صحيح الجامع رقم (5675)]
المرأة المسلمة وتجنُّبُها الفتنة، وثباتها عند وقوعها
هذه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ـ رضي الله عنها ـ أسلمت بمكة وبايعت ولم يتهيأ لها هجرة إلى سنة سبع، وكان خروجها ـ إلى المدينة ـ زمن صلح الحديبية، فخرج في إثرها ـ خلفها ـ أخواها الوليد وعُمارة، فما زالا حتى قدما المدينة، فقالا: يا محمد «فِ» (أَوْفِ لنا) لنا بشرطنا ـ وكان من الشروط في صلح الحديبية أن يرد النبي صلى الله عليه وسلم من جاءه مسلمًا إلى الكفار ـ فقالت أم كلثوم: أتردني يا رسول الله إلى الكفار يفتنونني عن ديني ولا صبر لي، وحال النساء في الضعف ما قد علمت؟ فأنزل الله تعالى ـ الرحيم ـ: إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن... [الممتحنة: 01]، فكان صلى الله عليه وسلم يمتحن النساء، فيقول: «آلله ما أخرجكن إلا حب الله ورسوله والإسلام؟ ما خرجتن لزوج ولا مال؟» فإذا قلن ذلك لم يرجعهن إلى الكفار. [سير أعلام النبلاء (2/672)]
فأم كلثوم خشيت من الكفار أن يفتنوها في دينها، وأكدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خشيتها بضعف النساء المعلوم، فأيد الله تعالى رأيها ورحم حالها وبارك فِعَالها وأنزل الفرج: فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار .
لكن إذا وقعت الفتنة فما على المسلمة إلا الصبر والثبات والاستعانة بالله العظيم.
فها هي سميَّة أم عمار بن ياسر، سابعة سبعة في الإسلام، عذبها أبو جهل وطعنها في قُبُلها بحربة، فماتت، فكانت أول شهيدة في الإسلام، فكانوا يعذبونها وهي تأبى غير الإسلام، حتى قتلوها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بعمار وأمّه وأبيه ياسر وهم يُعذبون بالأبطح ـ مكان في أعلى مكة ـ في رمضاء مكة ـ حرها الشديد ـ فيقول: «صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة». [الطبقات الكبرى لابن سعد (4/631)]
سميةُ لا تبالي حين تَلَقى
عذاب النُّكر يومًا أو تلبينا
وتأبى أن تردِّدَ ما أرادوا
وكانت في عِدَاد الصابرينا
صبياننا الصغار
العلم خادم للدعوة إلى اللَّه
ومن أهداف أبناء السلف النبيلة في طلب العلم خدمة الدعوة الإسلامية:
فلما كان طلبهم العلم من أجل اللَّه وإعزاز دينه، وإعلاء كلماته وخدمة الدعوة الإسلامية؛ جعل اللَّه تعالى البركة في علمهم وعملهم، فأنجزوا في الأوقات اليسيرة المهام الشاقة العسيرة.
فعن زيد بن ثابت قال: أمرني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كتاب يهود، قال: «إني والله ما آمن يهود على كتابي» قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له. قال: فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم.
[الترمذي (5172/5)]
ومما لا يخفى أن هذا الصحابي زيد بن ثابت الضحاك الأنصاري الخزرجي النجاري المقرئ الفرضي كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم ، قُتِل أبوه يوم بعاث - حرب كانت بين الأوس والخزرج - قبل الهجرة، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وزيد صبي ذكي نجيب وعمره إحدى عشرة سنة، فأسلم وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم خط اليهود، فجود الكتابة، وكتب الوحي، وحفظ القرآن، وشهد الخندق وما بعدها، استدعاه الصديق لجمع القرآن فتتبعه؛ ثم عَيَّنه عثمان لكتابة المصحف، وثوقًا بحفظه ودينه وأمانته وحسن كتابته، قرأ عليه القرآن جماعة؛ منهم ابن عباس وأبو عبد الرحمن السلمي. [تذكرة الحفاظ (1 / 30)]
فلينظر الآباء كيف يعمل الصبي لخدمة دينه إذا وُجه توجيهًا صحيحًا، وتمت الاستفادة من طاقته منذ الصغر.
فاللهم ارحمهم رحمة واسعة، واجعل لأبنائنا في الأسوة بهم أوفر الحظ.
وهذا الصابوني الإمام العلامة القدوة المفسر المحدث شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن... النيسابوري الصابوني، ولد سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، وأول مجلس عقده للوعظ إثر قتل أبيه في سنة ثنتين وثمانين وهو ابن تسع سنين.(224/3)
قال أبو بكر البيهقي: حدثنا إمام المسلمين حقًّا وشيخ الإسلام صدقًا أبو عثمان الصابوني، ثم ذكر حكاية.
وقال عبد اللَّه المالكي: أبو عثمان ممن شهدت له أعيان الرجال بالكمال في الحفظ والتفسير.
وقال عبد الغافر في السياق: الأستاذ أبو عثمان إسماعيل الصابوني، شيخ الإسلام المفسر المحدث الواعظ، أوحد وقته في طريقه، وعظ المسلمين سبعين سنة، وخطب وصلى في الجامع نحوًا من عشرين سنة، وكان حافظًا كثير السماع والتصانيف، حريصًا على العلم، سمع بنيسابور وهراة وسرخس والحجاز والشام والجبال، وحدث بخراسان والهند وجرجان والشام والثغور والحجاز والقدس، ورُزِق العز والجاه في الدين والدنيا، وكان جمالاً للبلد، مقبولاً عند الموافق والمخالف، مُجْمَعًا على أنه عديم النظير، وسيف السنة ودامغ البدعة، وكان أبوه الإمام أبو نصر من كبار الواعظين بنيسابور، فَفُتك به لأجل المذهب وقتل، فأُقعد ابنه هذا ابن تسع سنين بمجلس الوعظ وحضره أئمة الوقت.
[سير أعلام النبلاء (18 / 40)]
يُرى مما سبق أن علم هذا الإمام ومنزلته كان نتيجة جهد ورعاية منذ الصغر.
فلينظر طلبة العلم إلى رحلة هذا الشاب الإمام في طلب العلم وتحصيله، ثم في تحديثه وتدريسه، وكم طاف هذا الفتى العالِم بالبلدان العديدة يطلب العلم، ثم بعد ذلك طاف أيضًا بالأقطار الكثيرة محدثًا وداعية وواعظًا، وحدَّث الأئمة في عصره ووعظهم وله من العمر تسع سنين.
فلا إله إلا اللَّه! ما هذه الهمة العالية والانقطاع للعلم من أجل خدمة الدعوة الإسلامية.
ولقد أعزه اللَّه تعالى ورفع ذكره، فكان له العز والجاه في الدنيا والدين، وأتته الدنيا وهي راغمة. قال تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [المجادلة: 11].
والحمد لله رب العالمين.(224/4)
الأسرة المسلمة في ظلال التوحيد
إعداد جمال عبد الرحمن
الحمد لله الذي أرسل إلينا خير رسله، وجعل له أصحابًا كالنجوم من حوله، صدقوا ما عاهدوا اللَّه
على فعله، فارتفعت بهم رايات الدين كله، والصلاة والسلام على خير البرية وسيد
البشرية، وعلى الآل والصحب والذرية، وبعد:
فإن توحيد اللَّه تعالى حقه التسليم،
فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين
[الحج]، وأهل الإسلام الذين آمنوا بالله واعتصموا به وأخلصوا دينهم لله؛ لا
تغيب عن قلوبهم وأرواحهم هذه الحقيقة، فهم خُلقوا من أجلها، وعاشوا في ظلها،
ولقوا اللَّه مؤمنين بها.
أولا: رجال الإسلام ينصرون السنة وصاحبها صلى الله
عليه وسلم:
أخرج ابن حبان في صحيحه 10/415 من حديث معقل بن يسار رضي اللَّه عنه
قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وأنا أرفع غصن الشجرة
عن وجهه، فبايعناه على ألا نفر، لم نبايعه على الموت، فقيل له: كم كنتم ؟ قال:
ألف وأربع مائة، وقال بعضهم: الصحيح: ألف وخمسمائة.
يَا لَسَعَادَةَ من يميط
الأذى عن وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، ونفسي له الفداء،
وَيَا لَفَوْزَ من يزيح البدعة من طريق السنة.
ولقد كان سلف هذه الأمة رضوان
اللَّه عليهم حول رسولهم صلى الله عليه وسلم خير من قام بنشر السنة والذَّبِّ
عنها، وكانوا جادين في ذلك إلى أن بلغ بهم الأمر إلى الجدية في والذَّبِّ الحسي
من طريق المسلمين، الذي هو شعبة من شعب الإيمان وإن كانت أدنى الشعب؛ لكنهم
حافظوا على الأدنى والأعلى والقليل والكثير.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه
وسلم أحاديث متعددة في فضل إماطة الأذى عن الطريق كما ثبت في صحيح مسلم 1/63 من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان
بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا اللَّه، وأدناها إماطة
الأذى عن الطريق».
وفي سنن أبي داود (4/219): «وأدناها إماطة العظم عن
الطريق».
وفي صحيح ابن خزيمة (2/276) من حديث أبي ذر قال: قال النبي صلى الله
عليه وسلم: «عُرضت عليَّ أعمال أمتي؛ حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها
إماطة الأذى عن الطريق». الحديث.
وفي كتاب الأذان من صحيح البخاري عن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي بطريق وجد
غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر اللَّه له، فغفر له».
أين من هذه الآداب أبناء
الإسلام في أيامنا، وقد كثرت قماماتهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن
شمائلهم وأمام بيوتهم ومدارسهم وسككهم وأمام بيوت اللَّه، بل وفي داخل بيوت
اللَّه، وأما عن الأماكن العامة فحدث ولا حرج، ولا تدل هذه المناظر المؤذية إلا
على فساد في الطبع وسوء في الخلق، والله سائل كل امرئ عما كسب وعما تسبب في
وجود الأذى في طرقات المسلمين.
إن أهل الإسلام الحق يعملون بسنة نبيهم صلى الله
عليه وسلم الذي كان قدوة في النظام والنظافة، وقد أمر بإخراج رجل من المسجد
عليه ريح الثوم والبصل، وسأله آخر فقال: يا رسول اللَّه؛ أحدنا يحب أن يكون
نعله حسنًا وثوبه حسنًا، فقال: «إن اللَّه جميل يحب الجمال». وقال مرة: «إذا
استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاث مرات قبل أن يدخلها في الإناء فإن أحدكم
لا يدري أين باتت يده».
أخرج الدارمي في سننه 2/132 عن الحسن قال: كان معقل بن
يسار يتغدى فسقطت لقمته فأخذها فأماط ما بها من أذى ثم أكلها، فجعل أولئك
الدهاقين (تجار أعاجم) يتغامزون به، فقالوا له: ما ترى ما يقول هؤلاء الأعاجم ؟
يقولون: انظروا إلى ما بين يديه من الطعام، وإلى ما يصنع بهذه اللقمة، فقال:
إني لم أكن لأدع ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول هؤلاء الأعاجم،
إنا كنا نؤمر إذا سقطت من أحدنا لقمة أن يميط ما بها من اذى وأن يأكلها.
قال في
«مصباح الزجاجة» بعد ذكر هذا الحديث: «هذا إسنادٌ رجاله ثقات غير أنه منقطع».
قال أبو حاتم: «الحسن لم يسمع من معقل بن يسار». انتهى.
ورواه مسدد في مسنده عن
يزيد بن زريع بإسناده ومتنه، وله شاهد في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر بن عبد
اللَّه وأنس بن مالك. اهـ.
وفيما فعله معقل - رضي اللَّه عنه - حثٌ للناس
جميعًا أن يحرصوا على العمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو سخر بهم
الناس، فإن العمل بالسنة دليل على الإيمان وقوة العقيدة في القلوب، وتركُ السنة
لأجل سخرية الناس وضحكهم دليل على ضعف الإيمان، لذا فالواجب على المسلم أن يعتز
بإسلامه، ويظهر شعائر دينه ويذر الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، وغرتهم
الحياة الدنيا، فإنه على الحق، ومن كان على الحق لم يضره اجتماع الناس كلهم
ضده؛ لأن اللَّه - تعالى - معه بتأييده ونصره، وأما أولئك الساخرون من المؤمنين
فإنهم يكونون يوم القيامة في أحط الدركات، لما كانوا يفعلونه من الاستهزاء
بالمؤمنين، قال اخسئوا فيها ولا تكلمون (108) إنه كان(225/1)
فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا
وارحمنا وأنت خير الراحمين (109) فاتخذتموهم
سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون (110)
إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون
[المؤمنون: 108-111].
ثانيًا: المرأة المسلمة توالي رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم
هذه هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، وصفوها بأنها من عاقلات النساء، كانت
قبل إسلامها لا تكره أحدًا مثلما كانت تكره بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد
أن أسلمت لم تكن تحب أهل بيت مثلما أحبت بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وها هي
تصارح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بتلك الحقيقة التي تحمل في طياتها
اعتذارًا عن شقِّها بطن عمه حمزة رضي اللَّه عنه وهو مقتول بمعركة أُحد،
وإخراجها كبده ومضغه تشفيًا وكراهية، وهي تعلم أن ذلك أثر في نفس النبي صلى
الله عليه وسلم، فلما أن أرادت بعد إسلامها أن تثبت صدقها في حبها آل بيت النبي
صلى الله عليه وسلم؛ قدمت أولاً بأنها لم تكن تكره بيتًا أشد من بيته صلى الله
عليه وسلم، واعترافها بهذا راضية غير مكرهة وصدقها فيه يدل على صدقها في الأخرى
وهي حب آل بيته صلى الله عليه وسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها قالت:
جاءت هند بنت عتبة رضي اللَّه عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا
رسول اللَّه، والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليَّ أن يُذَلُّوا من
أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليَّ أن يُعزُّوا من
أهل خبائك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأنا أيضًا والذي نفسي بيده».
الحديث [البخاري 3/3613]، رحم اللَّه هند بنت عتبة ورضي عنها.
لقد عفا عنها
النبي صلى الله عليه وسلم وقبل منها وقابلها بنفس شعورها وأقسم على ذلك رغم ما
فعلته مع عمه حمزة رضي اللَّه عنه، لكنها كانت قد فعلت ذلك تحت وطأة الكفر الذي
يكن للإنسان كل عداوة، ثم بعد ذلك أسلمت، والإسلام يجب ما قبله، أي يمحو كل ما
سبقه من انحراف، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جاء ليدخل الناس في الإسلام
لا لينتقم منهم لنفسه، فلذلك لم يصبح أهل بيت أحب إلى قلب هند من أن يُعزوا من
بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الولاء لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
طاعته واتباع أمره واجتناب نهيه:
ثالثًا: أبناء الإسلام وتعظيم رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم
وخدمته وبيعته وحب صحابته
عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي آخر الليل، فقمت وراءه، فأخذني فأقامني
حذاءه - بجواره - فلما أقبل على صلاته انخنست (أي رجعت إلى الوراء)، فلما انصرف
قال: «ما لك أجعلك حذائي فتخنس؟» قال: قلت: ما ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت
رسول اللَّه، فأعجبه، فدعا اللَّه أن يزيدني فهمًا وعلمًا.
[الحاكم 3/6279،
وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين]
ومعلوم أن ابن عباس في ذاك الوقت كان دون
العاشرة أو فوقها بقليل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولابن عباس من
العمر ثلاث عشرة سنة.
قلت: وليس معنى إعجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بقول ابن
عباس رضي اللَّه عنهما أن ابن عباس علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أين يقف
المصلي المفرد بجواره، فهذا علم ثابت راسخ عند النبي صلى الله عليه وسلم من قبل
ابن عباس ومن بعده، لكن محل إعجاب النبي صلى الله عليه وسلم كان من إدراك هذا
الغلام الحدث لهذا المعنى الدقيق؛ أنه لا ينبغي أن يحاذي النبي صلى الله عليه
وسلم وهو رسول اللَّه تعالى، فهل يدركها أصحاب الشهادات المسماة عالية، وأصحاب
الأسماء اللامعة والشهرة الواسعة، من الذين يقدمون بين يدي اللَّه ورسوله،
ويحاولون جاهدين أن يجعلوا من أهوائهم ونظرياتهم هديًا أفضل من هدي النبي محمد
صلى الله عليه وسلم ؟
فانظر يا ابن الإسلام إلى هذا التعبير العظيم والفهم
الواعي عند ابن عباس الشاب الصغير لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعجب
بهذا الفهم وذلك التعبير حتى دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالمزيد من العلم
والفقه.
وهذا أنس بن مالك بن النضر الخزرجي النَّجَّاري، أتت به أمه أم سليم
رضي اللَّه عنها وهو ابن عشر سنين فأهدته إلى النبي صلى الله عليه وسلم: يخدمه،
فخدم نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وانتقل من المدينة بعد أن
بُصِّرت البصرة أيام عمر بن الخطاب وسكنها، وكان يصفِّر لحيته بالورس، توفي في
سنة إحدى وتسعين وكنيته أبو حمزة. [مشاهير علماء الأمصار 1/37]
قلت: فكان عُمُر
أنس يوم أن بدأ يخدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين وهذا يرشدنا إلى
الاستفادة من صغار النابغين في خدمة الصالحين كي يستفيدوا منهم، وينقلوا عنهم -
بل ويحرص الشباب على بيعته صلى الله عليه وسلم وهي بيعة الإسلام واتباع هدي خير
الأنام.
وليست بيعة للمجاملة والقرب والتزلف وتحقيق المصالح، بل بيعة أخذ العهد
والميثاق على توحيد اللَّه وعدم الشرك به والتزام شرعه.
عن هشام بن عروة عن(225/2)
أبيه قال: خرجت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها حين هاجرت إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهي حامل في عبد اللَّه بن الزبير فنفسته، فأتت به النبي صلى
الله عليه وسلم ليحنكه، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره،
وأتى بتمرة فمصها ثم مضغها ثم وضعها في فيه فحنكه بها، فكان أول شيء دخل بطنه
ريق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قالت: ثم مسحه رسول الله صلى الله عليه
وسلم وسماه عبداللَّه.
ثم جاء بعدُ وهو ابن سبع سنين أو ابن ثمان سنين ليبايع
النبي صلى الله عليه وسلم، أمره أبوه الزبير بذلك، فتبسم النبي صلى الله عليه
وسلم حين رآه مقبلاً وبايعه، وكان أول من وُلد في الإسلام بالمدينة مَقْدِم
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكانت اليهود تقول: قد أخذناهم فلا يولد لهم
بالمدينة ولد ذكر، فكبر أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين ولد عبد
اللَّه.
ولأن شباب السلف كانوا صادقين في بيعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم،
فكانوا يفدونه بأعز ما لديهم، (أرواحهم) فيقاتلون من يؤذي أو يسب رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
فعن عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر،
فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثةٌ أسنانهما (يعني
صغيرين) تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما: فقال: يا عم؛ هل تعرف
أبا جهل ؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي ؟ قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيتُه لا يفارق سوادي سواده حتى يموت
الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى
أبي جهل، يجول في الناس، قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه
(عاجلاه) بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخبراه، فقال: «أيكما قتله ؟» قال: كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال:
«مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا، فنظر في السيف فقال: «كلاكما قتله». وقضى بسلبه
لمعاذ بن عمرو بن الجموح. وكانا معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن
الجموح.
[أخرجه البخاري 3/2972، ومسلم وغيرهما]
والسبب في أن النبي صلى الله
عليه وسلم قضى بسلب أبي جهل لمعاذ بن عمرو دون معاذ بن عفراء؛ كما قال النووي
رحمه اللَّه: قال أصحابنا: اشترك هذان الرجلان في جراحته، لكن معاذ بن عمرو بن
الجموح أثخنه أولاً فاستحق السَّلب، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«كلاكما قتله» تطييبًا لقلب الآخر، من حيث إن له مشاركةً في قتله، وإلا فالقتل
الشرعي الذي يتعلق به استحقاق السلب هو الإثخان. اهـ. والإثخان هو المبالغة في
القتل.
[شرح النووي 12/63]
فانظر أخي إلى هذين الصبيين، ينقضان انقضاض الأسود
على طاغية قريش أبي جهل، وسط حرب ضروس مستعرة بتلك الهجمة الفدائية التي لو
سُئِلَ عنها بعض أهل زماننا لقال: عملية انتحارية وإلقاء باليد إلى التهلكة
؟!
وأختم هذا الكلام السديد في ذلك الجيل الفذ الفريد، بهذا المطلب الرشيد؛ هل
نسعى لتربية جيل يحمل هذه العقيدة ؟ وهي أنه لا ينبغي أن يساوي أحد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولا يحاذيه قولاً وعملاً وامتثالاً، وحبًا وتعظيمًا
وإجلالاً، ولا يُقَدِّمُ قولاً على قوله ولا فعلاً على فعله صلى الله عليه
وسلم، والله على ذلك المستعان. والحمد لله رب العالمين.(225/3)
الأسرة المسلمة في ظلال التوحيد
إعداد الشيخ / جمال عبدالرحمن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه... وبعد:
فإن الله سبحانه خلق الناس من ذكر وأنثى وجعل من أنفسهم أزواجًا، وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة، وأمر بالشكر على هذه النعم، فكل ذلك من إنعام الله تعالى على عباده، قال جل شأنه: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون {النحل}.
فالأسرة المسلمة زوج وزوجة، وبنون وحفدة، والجميع ينعم بنعمة الله تعالى ويحيا الحياة الطيبة ويأكل من رزقه: كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور {سبأ}.
والقائم على أمر هذه الأسرة المسئول عن دنياهم وأخراهم هو الأب الذي جعل الله تعالى القوامة إليه: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم {النساء}، "والرجل راعٍ في أهله وهو مسئول عن رعيته". هذا الراعي مسئول عن تعليم أهله وولده التوحيد الخالص، والطاعة لله القوي القاهر، والخضوع لأمره سبحانه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وحثهم على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وتجنبيهم ما يضرهم أيضًا في دينهم ودنياهم، كذلك عليه أن يعلمهم الحرص على صلاح القلوب فإنها أوعية التقوى، وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد وإذا فسدت فسد سائر الجسد.
أيها المربي:
إن أي إنسان إذا علم بأي مرض عضوي في مضغة قلبه كارتخاء شريان أو انسداده أو خفقان أو ثقب في جدار القلب؛ فإنه يفزع من ذلك فزعًا شديدًا ويسارع بكل ما أوتي إلى التداوي من هذا المرض المفزع رغم أنه قد يعيش أعوامًا عديدة على حاله هذا دون خطر على عقله وسلوكه، لكن العجيب أن يصاب القلب بأخبث الأمراض وأشدها فتكًا وتأثيرًا على السلوك والخلق والعبادة والمعاملة، ثم لا يسعى إلى إصلاح ما فسد منه وعرضه للهلاك والخطر، ولو تأملنا سير الأولين في ترقب تغيرات القلب والتربص لما يطرأ عليه من علل وأمراض لوجدنا عجبًا.
يقول عمرو بن ميمون بن مهران: خرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة، فمررت بجدول، فلم يستطع الشيخ أن يتخطاه، فاضطجعت له فمر على ظهري، ثم قمت فأخذت بيده فدفعنا إلى منزل الحسن، فطرقت الباب، فخرجت جارية فقالت: مَن هذا؟ فقلت: هذا ميمون بن مهران أراد لقاء الحسن، فقالت: ميمون بن مهران كاتب عمر بن عبد العزيز؟ قلت لها: نعم. قالت: يا شقي؛ ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء؟ فبكى الشيخ فسمع الحسن بكاءه فخرج إليه فاعتنقا، ثم دخلا، فقال ميمون: يا أبا سعيد؛ إني قد آنستُ من قلبي غلظة، فَاسْتَلِنْ لي ( يعني صِف لي شيئًا يليِّن قلبي)، فقرأ الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم: أفرأيت إن متعناهم سنين (205) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون (206) ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون {الشعراء}، قال عمرو: فسقط الشيخ فرأيته يفحص برجله ما تفحص الشاة المذبوحة، فأقام طويلاً ثم أفاق (يعني أغمي عليه ثم أفاق )، فجاءت الجارية فقالت: قد أتعبتم الشيخ ( تعني الحسن )؛ قوموا تفرقوا، فأخذتُ بيد أبي فخرجتُ به، ثم قلت له: يا أبتاه؛ هذا الحسن قد كنت أحسب أنه أكثر من هذا، قال: فوكز أبي في صدري وقال: يا بني، لقد قرأ علينا آية لو تَفهمتَها بقلبك لأُلفِيَ لصافيه كلوم (أي جروح)، يعني: لو تدبرت هذه الآية وفهمتها لشقت كبدك وجرحت قلبك. {تهذيب الكمال: 29-225}.
فسبحان الله، انظروا كيف تأثر ذلك الشيخ بكلام الجارية وبكى وهي تقول له: ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء؟ فبكى أنه عاش حتى أدرك الشر فقسا قلبه، وانظروا إليه كيف غُشِيَ عليه عند سماع هذه الآيات العظيمة من كتاب الله فسقط على الأرض وهو يفحص برجله كالشاة المذبوحة، والعجيب أنه جاء يشكو للحسن أنه آنس من قلبه غلظة، وجاء يطلب مُلَيِّنًا لقلبه، وانظروا إلى سرعة استجابة قلبه للدواء الشافي- القرآن العظيم- إنها قلوب حية سليمة: يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم {الشعراء}، الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد {الزمر}.
أيتها المربية:(226/1)
هل تحبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وما معنى هذا الحب في عقيدتك؟ ينبغي أن يكون هذا الحب مفضيًا إلى طاعته صلى الله عليه وسلم والاستجابة لأمره، فلقد كانت نساء السلف رضوان الله على الجميع تحب النبي صلى الله عليه وسلم حبًا يفضي إلى فدائه بالنفس والنفيس، فها هي أم عمارة رضي الله عنها تقول: رأيتني وانكشف الناس عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فما بقي إلا نفر قليل ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه نَذُبُّ عنه (أي ندافع عنه) والناس يمرون منهزمين، ورآني ولا تُرسَ معي- وهو درع يحمي المقاتل من الضربات- فرأى رجلاً موليًا- هاربًا- ومعه تُرس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ألق ترسك إلى مَنْ تقاتل"، فألقاه فأخذته فجعلتُ أُتَرِّس به عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رَجَّالة (أي على أرجلهم مثلنا) أصبناهم إن شاء الله، فيُقبل رجل على فرس فيضربني، وترَّستُ له بالدرع فلم يصنع شيئًا وولى، فأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح: "يا ابن أم عمارة، أمَّك، أمَّك" أي: أدركها وعاوِنْها على قتل الرجل، قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شَعُوب ( اسم للموت). {سير أعلام النبلاء: 2-279}. ما شاء الله.
ولو كان النساء كمن ذُكِرْن
لفُضِّلَتِ النمساءُ على الرجالِ
ولكن أيتها المربية، هل تعرفين لماذا هذا الحب كله والفداء كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ السبب هو إدراك نساء السلف للمنزلة الحقيقية للنبي صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين.
لما فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنْ دفْن شهداء أُحد انصرف راجعًا إلى المدينة، فخرجت النساء تتفقد أحوال المسلمين، فمر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار، وقد أصيب أي قُتل زوجها وأخوها وأبوها بأُحد، فلما نُعُوا إليها ( أي بُلغت بموتهم ) قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه- وكانت لا تعرفه- فأشير إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جَلل- أي هينة- سبحان الله! تلك المرأة من بني دينار يُقتل زوجها وأخوها وأبوها ولا تبالي وكل همها الاطمئنان على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلما رأته بعينها سالمًا معافى سكن روعها وهدأت نفسها، نعم لقد كان أصحاب رسولنا يعرفون حقّا قدره ومنزلته عند الله وعندهم ففدوه بأنفسهم وأزواجهم وآبائهم وإخوانهم، لكن لما ضعُف الإيمان وقلت الهمة وخارت العزيمة تجرأ البعض على أمره ونهيه وعلى سنته، بل على شخصه الجليل، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
طفلنا المسلم... طفلتنا المسلمة:
طفلنا الجليل، ألا تحب وترغب أن تكون مثل هؤلاء العظماء؟ ألا تحب معالي الأمور، فإن الله يحبها، قال صلى الله عليه وسلم : "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها". {صحيح الجامع}.
وإليك بعض الأمثلة من سلفنا الكرام في طفولتهم لترى الفرق بينك وبينهم في حرصهم على الهمة العالية والرحلة الشاقة الطويلة من أجل العلم الشرعي، فهذا أبو بكر محمد بن يحيى بن إبراهيم، قال عنه أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل: هو من أظرف المشايخ الذين لقيناهم وأكثرهم سماعًا وأصولاً، بلغ عدد شيوخه 500 شيخ، وكان يروي عن قريب من خمسين وسمع مسموعات أبيه، وخرج إلى العراق والحجاز وفارس، وأملى ببغداد مجالس وحضر مجلسه أكثر من 500.
أما الشيخ تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم التميمي السمعاني المروزي صاحب التصانيف فقد مات أبوه سنة 510ه وتربى مع أعمامه وأهله وحفظ القرآن والفقه، ثم حبب إليه هذا الشأن وعني به، ورحل إلى الأقاليم النائية وسمع العلم بأصبهان وبغداد والكوفة ودمشق وبخارى وسمرقند وبلخ، وعمل المعجم في عدة مجلدات، وكان ذكيًا فَهِمًا سريع الكتابة مليحها، درس وأفتى ووعظ وأملى وكتب عمن دب ودرج، وكان ثقة حافظًا حجة واسع الرحلة، عدلاً دينًا جميل السيرة، حسن الصحبة كثير المحفوظ.
قال ابن النجار: سمعت من قال إن عدد شيوخه سبعة آلاف، وهذا شيء لم يبلغه أحد.
وكان مليح التصانيف كثير الأناشيد والنثور، لطيف المزاح ظريفًا حافظًا واسع الرحلة ثقة صدوقًا دينًا، سمع من مشايخه وأقرانه. رحمهم الله جميعًا رحمة واسعة.
زواج
تحدثنا في العددين السادس والسابع لشهري جمادى الآخرة ورجب عن أسس اختيار الأزواج من الرجال والنساء.(226/2)
واليوم نتحدث عن ثبوت حق المشورة للبنت في اختيار شريك حياتها، فإذا أراد الشاب أن يتزوج أو بلغت البنت سن الزواج، وجاءها خاطب؛ فإن حقها الشرعي أن تستشار، ولا يُلغى حقها في القبول من عدمه، فتُستأذن البكر وتُستأمر الثيب، كما روى ذلك البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تُنكح الأيم حتى تُستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن" قالوا: يا رسول الله؛ وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت". أما الثيب فيحتاج أبوها أو وليها إلى موافقتها الصريحة على الزواج، وهذا معنى قوله: "تُستأمر". والبكر يُطلب منها الإذن بالعقد، ولا تكلف بالجواب الصريح الذي يعبر عن الرضا والموافقة؛ بل يكفي السكوت لأنها تخوض التجربة لأول مرة، وقد تستحي من التصريح، وقد عبَّرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: يا رسول الله؛ إن البكر تستحي، فقال: "رضاها صِماتها" أي سكوتها. {رواه البخاري ومسلم}
وإنما ينبغي التأكيد على أن يكون السكوت عن رضا حقيقي، لا عن رفض، وولي الأمر قادرَ على فهم الحالين، فهو أدرى ببناته. كما أن موافقة ولي الأمر أيضا شرط أساسي في الزواج، فهو أحرص الناس على ابنته أو مولاته، وهو الأعرف بالرجال منها، فموافقته بذلك شرط في النكاح، وعليه أن يتقي الله فيما ولَّاه الله.
وتُمكن البنت المخطوبة من رؤية خاطبها، وتنظر إليه كما ينظر إليها، فلها الحق في رؤية من سيشاركها حياتها، ويُفهَّم الجميع أحكام الخطبة بعد الموافقة على صاحب الدين والخلق وصاحبة الدين والخلق أيضا، كما يُبيَّن لهم أن الخِطبة والرؤية والنظر إنما هو من أجل المعرفة وحصول الموافقة فقط بين الطرفين، لكن ذلك لا يحل حرامًا ولا يحرِّم حلالا، ولا يُجيز خلوة، أو خروجًا وصحبة، أو اختلاطًا وتعارفًا ودراسة وتجربة وغير ذلك مما يفعله الغاوون. فليتق أهل الملة ربهم في حدود الله وأحكام شريعته.
محاذير
في الوقت الذي يجوز فيه للزوج ذكر بعض أحواله لمن سيتزوجها ويجوز لها ذلك أيضا إذا لزم الأمر؛ كما قالت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا حللتِ فآذنيني، فخطبها معاوية بن أبي سفيان، وأبو الجهم بن ضحير وأسامة بن زيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما معاوية فرجل يَرْبٌ لا مال له، وأما أبو الجهم فرجل ضراب للنساء ولكن أسامة فقالت بيدها هكذا: أسامة أسامة: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "طاعة الله وطاعة رسوله خير لك، فتزوجته فاغتبطت به" {حديث صحيح}
بالرغم من هذا فإنه لا يجوز أن يسأل الخاطب مخطوبته: هل خطبك أحد غيري؟ ولماذا تركك، وماذا دار بينك وبينه، وهذا لا شك إحراج وهتك للأسرار وهو من الأمور القبيحة، بل إن البعض أحيانا يفسخ الخطبة بحجة أنه اكتشف أن مخطوبته خطبت لأحد قبله ولم تخبره بذلك. هدى الله شبابنا وشاباتنا إلى ما يحبه ويرضاه وللحديث بقية والحمد لله رب العالمين.(226/3)
الأسرة في الإسلام ـ أحكام المولود ـ
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ التهنئة بالمولود ذكرًا كان أم أنثى. 2 ـ حكم الأذان والإقامة في أذن المولود. 3 ـ التحنيك بعد الولادة. 4 ـ العقيقة عن الغلام والجارية وأحكامها. 5 ـ حلق رأس المولود
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فما زلنا مع بعض الأحكام المتعلقة بالأولاد في الإسلام، والتي يلزم المسؤلان عن الأسرة المسلمة ـ أي الأب والأم ـ العلم بها ليقوما بتربية أبنائهم على ضوء منها، وليحسن إعدادهم لدورهم المنتظر منهم، واستكمالاً لما مضى من الكلام على البشارة بالمولود أقول:
كان الناس في الجاهلية يهنئون بولادة الذكر وبوفاة الأنثى دون ولادتها، وكانوا يقولون للزوج عند بناءه بزوجه: (بالرفاء والبنين) أي يدعون له بالالتحام والاتفاق، وبأن يُرزق البنين دون البنات، فيُهنئون بالبنين دون البنات، وقد تقدم ذكر قول الله تعالى في سورة النحل وفي سورة الزخرف إنكارًا على هؤلاء الذين كانوا يستبشرون بالذكر، وتسود وجوههم إذا بشروا بالأنثى، قال الله تعالى: وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ .
وندب رسول الله المسلمين إلى أن يقولوا بدلاً من "بالرفاء والبنين" تلك التهنئة الجاهلية ندبهم إلى أن يقولوا: ((بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير)).
هكذا يُدعى للزوج.
وأما عن البشارة بالمولود فذلك يكون في حينه عندما يولد له فيبُشر سواء ولد له ذكر أو أثنى، ولهذا ذكر ابن المنذر عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أن رجلاً هنأ رجلاً جالسًا عنده بالمولود الذكر فقال له: هنيئًا لك بالفارس أو كلمة نحوها. وعندها ظن الحسن البصري رحمه الله أن في الرجل بقية وآثارًا من الجاهلين ولهذا استعمل هذه التهنئة المبالغ فيها، فقال له، عندها خشية من الذين يهنئون بالذكر ويبالغون في ذلك ولا يهنئون بالأنثى، فقال له الحسن: "وما يدريك فارس هو أو حمار؟ فقال له: فكيف نقول؟ قال: قولوا: بورك في الموهوب، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورُزقت بره" هذا هو آخر ما يتعلق بالبشارة بالمولود، ويبشر من ولد له بالولد الذكر أو الأنثى على السواء، ثم اعلموا أيها الأخوة الكرام رحمكم الله:
أنه يستحب التأذين في أذن الصبي اليمنى عند ولادته وقد جاء في ذلك حديث صحيح أذكره بعد قليل، وأما الإقامة فقد ورد فيها حديثان ضعيفان، فحديث الأذان هو القوي وهو الصحيح، وقد أخرجه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: "حديث صحيح" عن أبي رافع رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله أذن في أُذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى عن التأذين وحكمته وسره قال:
"وسر التأذين والله أعلم أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته (أي كلمات الأذان) لا الطبول ولا الغناء ولا الموسيقى ولا الزغاريد ولا نحو ذلك من الأساليب التي اعتادها المسلمون في أعصارهم الأخيرة، التي طال العهد بينها وبين الصدر الأول خير القرون قرن رسول الله والقرنين اللذين بعده.
وسر التأذين والله أعلم أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب (الله أكبر الله أكبر) وعظمته، والشهادة التي أول ما يُدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يُلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها، فكما هو من المسنون من رسول الله أن يُلقن المحتضر كلمة لا إله إلا الله عند خروجه من الدنيا لتكون كلمة الشهادة آخر ما يتوفى عليه المرء. فكذلك يُلقنها المولود عند دخوله إلى هذه الدنيا".(227/1)
ثم يقول رحمه الله: "وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به وإن لم يشعر، لا يستنكر أن يصل أثر التأذين إلى قلب ذلك الصبي وأن يتأثر بذلك وإن لم يعرف ولم يدرك معنى ما يُصنع به ويُفعل به، مع ما في ذلك من فائدة أخرى، وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد فيقارنه (كان الشيطان ينتظره حتى يولد ليقارنه) للمحنة التي قدرها الله وشاءها (من خروج الأبوين وهبوطهما من الجنة إلى الأرض، وإنظار إبليس إلى يوم القيامة، وهو الذي حلف ليجتهدن في إضلال بني آدم، إلا عباد الله المخلصين، فينتظر الشيطان المولود ليقارنه) فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه، (وهو الأذان) أول تعلقه به وفيه معنى آخر (أي في التأذين معنى آخر وما زال الكلام لابن القيم رحمه الله) وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دين الإسلام وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان (يؤذن في أذنه حتى يُدعى فورًا إلى الله الأكبر وأنه لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله يدعى إلى ذلك قبل أن يدعوه الشيطان ليكون من جنده وأحزابه وأولياءه). كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها سابقة على تغيير الشيطان لها، ونقله عنها ولغير ذلك من الحكم".
ثم يستحب تحنيك الصبي وذلك أيضًا في لحظاته الأولى قبل أن ينزل إلى جوفه شيء يستحب أن يتولى من يُعرف بالصلاح مضغ تمرة في فمه ثم يضعها في فم الصبي ويديرها فيه ليكون ريقه أول ما يخالط ريق هذا الصبي[1] وذلك لما جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: وُلد لي غلام فأتيته النبي فسمّاه إبراهيم وحنّكه بتمرة. زاد البخاري رحمه الله: "ودعا له ودفعه إلي" وكان أكبر ولد أبي موسى رضي الله عنه.
ولما جاء في الصحيحين من حديث أنس ابن مالك في قصة الولد عبد الله بن أبي طلحة أخي أنس ابن مالك لأمه أم سليم، هذا الولد الذي حملت به أمه في ليلة مات لها فيها ولدٌ كان مريضًا وكان صغيرًا، وهو الطفل الذي كان رسول الله عليه وسلم يداعبه، ويقول له: أبا عمير، ما فعل النُفير؟ كان هذا الطفل يلعب بطائر يقال له النُفير وكان رسول الله الرحيم الرقيق اللطيف إذا مَرّ بذلك الطفل يداعبه ويلاطفه ويقول له: أبا عمير ما فعل النُغير؟ ثم توفي هذا الولد، وفي الليلة التي مات فيها لم يكن أبوه موجودًا فلما عاد سأل عنه فعرضّت أم سليم ـ لم تُجب صراحة ولكن عرّضت وفي المعاريض مجال وبديل عن الكذب، يقال كلام ويُحمل على أكثر من معنى فيكون صاحبه وقائله صادقًا ـ قال لها: كيف حال الغلام؟ فقالت له: هو أسكن ما يكون الآن. وأرجو أن يكون قد استراح (إلى آخر ما جاء من الروايات في الكلام الذي عَرّضت به) ثم هيأت له نفسها فجامعها. ثم قالت له بعد ذلك: وارِ الغلام: أي ادفنه. فذهب إلى رسول الله وقص عليه الخبر فدعا له النبي بأن يبارك الله لهما في ليلتهما، فولد له من هذه الليلة التي قدر فيها هذا المولود، ولد منها عبد الله هذا الولد الصغير الذي ثبت أن رسول الله حنكه بتمرة ودعا له وهو الذي كان قد دعا له قبل أن يخرج إلى الدنيا في ليلة قدره الله تعالى حملاً. ودعا له بعد خروجه إلى الدنيا، قال الرواة: فرؤيَ له تسعة من الأولاد كلهم يحفظون كتاب الله القرآن الكريم لعبد الله هذا المولود الذي عوض الله به أبويه عن أبي عمير الطفل الذي مات.
والشاهد أن رسول الله حنكه عند ولادته بتمرات، وكذلك روى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء رضي الله عنها أنها حملت بعبد الله بن الزبير في مكة وولدته في قباء فجاءت به إلى الرسول في المدينة، ووضعته في حجره فتفل رسول الله في فيه وحنكه بتمرة، وهذا هو الذي يعم الجميع[2] وأما التفل بفعل رسول الله لا ينبغي أن يتفل أحد بعده في فم أحد أو على رأس أحد أو في وجه أحد احتجاجًا بفعل رسول الله فهذه خصوصيات له عليه الصلاة والسلام لا تتأتى لغيره، أمّا التحنيك فهو ثابتٌ للجميع. حنكه رسول الله بتمرة ودعا له بالبركة، فرح المهاجرون بعبد الله فرحًا شديدًا لأنه كان أول مولود يولد للمهاجرين في المدينة وكان قد قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم، فلما ولد لهم هذا المولود استبشروا خيرًا وفرحوا به فرحًا شديدًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] والصحيح أن التبرك بالريق من خصوصيات النبي ، ولا يشاركه فيها أحد مهما بلغت درجة صلاحه، لكن لو فعل ذلك بقصد تليين التمر كما تفعله الأم لولدها إذا أرادت أن تطعمه فهو أمر آخر ليس من هذا الباب ولا شك في جوازه (المنبر).
[2] انظر التعليق السابق.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:(227/2)
ويستحب أيها الأخوة الكرام أن يُعق عن المولود يوم سابعه بشاتين إن كان ذكرًا وبشاة إن كانت أُنثى لما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: وهذا الأمر الذي لا خلاف فيه عندنا. أمر العقيقة لا خلاف فيه عندنا في المدينة.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري رحمه الله:" أدركت الناس وما يدعون العقيقة عن الغلام والجارية، وهذا هو قول أئمة أهل الحديث قاطبة وفقهاءهم وجمهور أهل السنة، وإليه ذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد وإسحاق فثبتت بذلك السنة، وإذا ثبتت السنة وجب القول بها بما أخرجه الإمام البخاري عن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دمًا واميطوا عنه الأذى)).
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كره تسميتها بالعقيقة في بعض الآثار. قال: ((لا أحب العقوق)). وإذا استبدلت بكلمة نسيكه كان أفضل إعمالاً لهذه الآثار.
((فأهريقوا عنه دمًا)) أي ذبيحة ـ نسيكه، ((وأميطوا عنه الأذى)) يفسر ذلك بحلق شعر رأسه يوم سابعه كما سيأتي ثم أخرج أهل السنن كلهم عن سمرة ابن جندب، وقال الترمذي حسن صحيح قال: قال رسول الله : ((كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه)) رهينة بعقيقته أي حبيس الشيطان، وحبيس الشيطان لكي يفك أسره ولكي لا يستولى عليه الشيطان ينبغي أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بدم يذبح عنه قربانًا وشكرانًا على هذه النعمة المتجددة وفداءً من أسر الشيطان واستيلاءه، وصدقة على الفقراء والمساكين مع ما يقدم للأصحاب والأهل والأقارب في حضور الدعوة للعقيقة، وما في ذلك من إطعام الطعام الذي هو علامة المسرات .
((رهينه بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه)) في اليوم السابع من ولادته فإن لم يستطع فيتحرى كل أسبوع يتم على ولادته فيه إن تيسر الأمر.
وجاء عن عائشة رضي الله عنها: "أنه إن لم يكن في الأسبوع الأول ففي الثاني فإن لم يكن ففي الثالث".
وقال بعض العلماء: "بل يكون في أي أسبوع من ولادته عندما يتيسر المال الذي يشتري به ما يذبح للمولود ذكرًا كان أو أنثى تذبح عنه يوم سابعه، ويُسمى فيه ويُحلق رأسه".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ((عن الغلام شاتان متكافأتان وعن الجارية شاة)) عن الجارية ـ يعني عن الأنثى يقال عنها الجارية. أخرجه أحمد والترمذي. وقال الترمذي: حديث صحيح.
وفي رواية أخرى أخرجها الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أمرنا رسول الله أن نعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتين.
وعن أم كُرز الكعبية رضي الله عنها أنها سألت رسول الله عن العقيقة فقال: ((عن الغلام شاتين وعن الأنثى واحدة ولا يضركم ذكرانًا كن أو إناثًا)) أي لا يضركم أن يكون المذبوح ذكرًا أو أنثى ليس هذا بمشترط ولا مهم.
والوقت الذي يستحب فيه العق قد تقدم الكلام عنه منذ قليل، ولا يصح الاشتراك في العقيقة. فلا يذبح بعير مثلاً عن سبعة من الأولاد كما يكون في الأضحية فإنه بكل عضو من الذبيحة يفتدي عضو من المولود من أثر الشيطان واستيلاءه عليه، لهذا وجب تخصيصه بذبيحة لا يُشترك فيها، والذبيحة خير من الصدقة بثمنها ولو زاد الثمن على ثمن الذبيحة لما عرفتم من أثر الذبح في التخلص من أثر الشيطان على الأولاد.
ثم إنه يستحب كذلك أن يدُعى إليها الجيران والأهل والأحباب، ويتصدق بشيء منها على الفقراء ويقال عند ذبحها ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((بسم الله اللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان ابن فلان)) ومن ذبح سابقًا ولم يقل ذلك يكفيه النية في أنها عقيقة عن فلان هذا.(227/3)
هذا بعض ما تيسر من أحكام العقيقة وهي كثير، والكلام عليها كثير ومُتشعب غاية التشعب. ثم إنه يُسن حلق رأس الصبي يوم سابعه أيضًا، وهذا هو المراد بقوله في حديث سلمان ابن عامر في البخاري ((وأميطوا عنه الأذى)) وهو صريح في حديث سمرة ((ويحلق رأسه)) وذلك لما فيه من الأثر الطيب على مسام الرأس، وخروج الأبخرة من الدماغ، وتقوية بصره وسمعه وشمه وظاهر هذا أنه لا فرق بين الذكر والأنثى لعموم هذه الفوائد في حق الجميع، وأما ما قاله بعض أهل العلم من التفريق بينهما فإنهم ذهبوا إلى أن الأنثى ترفل في الزينة وتنشأ في الزينة ومن تمام زينتها أن يترك شعرها. لكن الظاهر أن يسوى بينها وبين الذكر لهذه الفوائد المعلومة في حلاقة الرأس. وإلى هنا أتوقف عن ذكر بعض الأحكام الخاصة بالأولاد وعلى أمل اللقاء في جمعة قادمة لاستكمال ما بقى منها، وأهم ما ينتظره الجميع من الكلام على الأولاد وهو تربيتهم وكيفية هذه التربية والاعتناء بهم، فسوف يأتي بعد قليل إن شاء الله وقدَّر، ربما بعد جمعتين على الأكثر، وإنما أردت أن أذكر هذه الأحكام ولو بشيء من الاختصار لبيان العناية التي حظي بها المولود في الإسلام، ومن خلال ذكر هذه الأحكام يتبين لكم، كيف اعُتني بهذا الطفل وبهذا المولود من أول أيامه. بل منذ اللحظة الأولى التي يُرجى فيها وجوده عندما أوصى الإسلام بضرورة الاعتناء بالرجل الذي يزوج من مولياتنا وبناتنا وضرورة الاعتناء بالمرأة التي يختارها الرجل، كل هذا من الأسباب الممهدة للأولاد لكي يكونوا على أحسن حال، وأحسن وجه يؤهلهم للقيام بدورهم في عبودية الله تعالى والدعوة إليه والقيام بشريعته على الوجه الذي أمر به سبحانه، وأرشدت إليه الرسل والأنبياء، وأرشد عليه خاتمهم رسولنا وإمامنا محمد صلى الله عليه وسلم.(227/4)
الأسرة في الإسلام ـ الختان ـ
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ معنى الختان ومقداره. 2 ـ أول من اختتن إبراهيم. 3 ـ خصال الفطرة. 4 ـ حكم الختان. 5 ـ المقدار الذي يقطع في الختان. 6 ـ متى يسقط الختان. 7 ـ يبعث الناس يوم القيامة غرلاً. 8 ـ كثرة وفيات حوادث السيارات.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فهذا حكم آخر نضيفه إلى ما تقدم من أحكام الأولاد في الإسلام، هو حكم ختان المولود، وأتكلم عليه في اثنتي عشرة نقطة:
أولاً: في معنى الختان واشتقاقه ومسمّاه.
ثانيًا: في ختان إبراهيم الخليل والأنبياء من بعده عليهم صلوات الله وسلامه.
ثالثًا: في مشروعية الختان وأنه من أصل الفطرة.
رابعًا: في اختلاف أهل العلم في وجوبه واستحبابه.
خامسًا: في وقت وجوبه.
سادسًا: في اختلاف أهل العلم في الختان يوم السابع من الولادة. هل هو مكروه أم لا. وحجة الفريقان.
سابعًا: في بيان حكمة الختان وفوائده.
ثامنًا: في القدر الذي يؤخذ في الختان.
تاسعًا: في بيان أنه يعُم الذكر والأنثى.
عاشرًا: في المسقطات لوجوبه.
حادي عشر: في ختان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والاختلاف فيه هل ولد مختونًا أم لا ومتى خُتن؟
ثاني عشر: في الحكمة التي من أجلها يُبعث الناس يوم القيامة غرلاً غير مختونين.
أولاً: في معنى الختان واشتقاقه ومسمّاه:
فالختان اسم فعل الخاتن، وهو مصدر كالنزال والقتال، ويسمى به موضع الختن أيضًا، ومنه الحديث الصحيح: ((إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)).
ويُسمى في حق الأنثى خفضًا. يقال: ختنت الغلام ختنًا وخفضت الجارية خفضًا, والجارية كما سبق وأن أشرنا: كلمة لا تطلق على الأمة فحسب، ولكن تُطلق على الأنثى بصفة عامة. وتُعرف إن كانت أمة أو حرة بالقرينة وأكثر ما تُستعمل على العموم للصغار لصغار الإناث. ويقال لغير المختون الأقلف، والقُلفه والغرلة: هي الجلدة التي تُقطع. فختان الرجل بأن تُقطع الجلدة التي فوق الحشفة من فرجه، وختان المرأة بأن يُقطع جزء من الجلدة التي هي كعرف الديك فوق فرجها. والمقصود أن الختان اسم للمحل الذي يبقى بعده قطع الجلدة من الرجل والمرأة، واسم للفعل أيضًا وقد يطلق الختان على الدعوة إلى وليمته، كما تطلق العقيقة على ذلك أيضًا.
وأما عن ختان إبراهيم الخليل عليه السلام والأنبياء من بعده، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم)) قال البخاري رحمه الله: والقدوم مخففة وهو اسم موضع، وقال غيره: إنه اسم للآلة.
فالختان كان من الخصال التي أمر الله بها إبراهيم خليله فأتمهن وأكملهن، فجعله إمامًا للناس. وقد رُوي أنه عليه السلام أول من اختتن ولكن الذي في الصحيح لا يفيد ذلك، فإن فيه: ((اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة)) أخرجه البخاري (3356)، ومسلم (2270).
ثم استمر الختان بعده في الرسل وأتباعهم حتى في المسيح، فإنه اختتن والنصارى تُقر بذلك ولا تجحده، كما تُقر بأنه حرّم لحم الخنزير وحرم كسب السبت, وصلى إلى الصخرة ولم يصم خمسين يومًا، وهو الصيام الذي يسمونه الصوم الكبير. لم يصمه عليه السلام، وفي جامع الترمذي وقال عنه حسن غريب ومُسند الإمام أحمد عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : أربع من سنن المرسلين: الحياء (وهذه الكلمة غلَّطها الإمام الشيخ الحافظ أبو الحجاج المزي وقال: بل هي الختان وليست الحياء ولا الحناء؛ لأن الحياء خلق والحناء ليست من السنن، ولا ذكرها رسول الله في خصال الفطرة بخلاف الختان، وقد روى المحاملي هذا الحديث عن الشيخ الذي رواه عنه الترمذي بعينه بلفظ الختان فوقعت النون في الهامش فذهبت واختلف في اللفظة فالصحيح الختان إذن: ((أربع من سنن المرسلين: الختان، التعطر، السواك، النكاح)).
وأما عن كون الختان مشروعًا وأنه من أصل الفطرة:
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط)).(228/1)
فجعل الختان رأس خصال الفطرة وإنما كانت هذه الخصال من الفطرة؛ لأن الفطرة هي الحنيفية ملة إبراهيم، وهذه الخصال أمر بها إبراهيم عليه السلام، وهي من الكلمات التي ابتلاه ربه بهن كما ذكر عبد الرزّاق عن معمر عن أبي طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية، قال في تفسير الكلمات التي ابتلى الله عز وجل بها إبراهيم خليله، قال: ابتلاه بالطهارة، خمسٌ في الرأس وخمس في الجسد. التي في الرأس: قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظافر وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء) انتهى كلام ابن عباس، والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب وهي معرفة الله ومحبته وإيثاره على ما سواه، وهذا مما فطر الله الناس عليه، لولا أن الناس بدلوا بعد ذلك فمنهم من هودّ أبناءه، ومنهم من نصرّهم، ومنهم من مجسّهم.
وفطرة عملية: وهي هذه الخصال.
فالأولى تزكي الروح وتطهر القلب، والثانية تطهر البدن، وكل منهما تُمد الأخرى وتقويها. وكان رأس فطرة البدن: الختان.
وأما عن اختلاف أهل العلم في وجوبه واستحبابه: فقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال الشعبي وربيعة، والأوزاعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، والشافعي، وأحمد: هو واجب، وشدّد مالك في ذلك حتى قال: "من لم يختتن لم تصح إمامته، ولم تُقبل شهادته".
وقال الحسن البصري وأبو حنيفة: "لا يجب بل هو سُنة"، وقال ابن أبي موسى من أصحاب أحمد: هو سنة مؤكدة، واحتج الموجبون بوجوه بلغت خمس عشرة وجهًا لا تتسع هذه الخطبة لبسطها كلها، فأذكر أول هذه الوجوه وأهمها، ثم أشير إلى خُلاصة بقيتها.
أما الوجه الأول الذي احتج به الموجبون على أن الختان واجب، فهو قوله تعالى في الآية الثالثة والعشرين بعد المائة من سورة النحل: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] والختان من ملته لما تقدم.
وخلاصة خمس وجوه أُخر أحاديثُ مرفوعات وموقوفات ومراسيل يشهد بعضها لبعض أن النبي أمر بالختان، والأمر للوجوب إذا لم تصرفه قرينة إلى أمور أخرى كالاستحباب والإباحة والإرشاد ونحو ذلك.
من المرفوعات: ما رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق ورواه أبو داود عن محمد بن مخلد عن عبد الرزاق ثم عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني عثيم بن كليم عن أبيه عن جده أنه جاء إلى النبي فقال: قد أسلمت فقال: ((ألق عنك شعر الكفر)) أي احلق.
قال: وأخبرني آخر أن النبي قال لآخر: ((ألقِ عنك شعر الكفر واختتن))، ومن الموقوفات ما روى وكيع وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الأقلف ـ وهو غير المختون كما عرفنا ـ لا تُقبل له صلاة ولا تُؤكل ذبيحته.
ومن المراسيل قول الزهري قال رسول الله : ((من أسلم فليختتن وإن كان كبيرًا)).
فهذه خلاصة خمس وجوه احتج بها الموجبون، وخلاصة ثلاث وجوه أخر: أنهم قالوا: الختان من أظهر الشعائر التي يُفرق بها بين المسلم والنصراني وغير النصراني من الكفار عباد الصليب وعُبّاد النار وغيرهم.
ولهذا قال الخطابي في أحد الوجوه: إن الختان وإن كان قد ذُكر في جملة السنن، إلا أنه عند كثير من العلماء على الوجوب لأنه من شعار الدين، وبه يُفرق بين المسلم والكافر. وعدم الاختتان من شعار عُبّاد الصليب وعُبّاد النار، والختان من شعار الحنفاء، وقد عرفنا أن إمامهم إبراهيم عليه السلام قد اختتن، فقال: شعارًا للحينفية، وتوارثه عنه بنو إسماعيل، وبنو إسرائيل صلوات الله على أنبياءه جميعًا وسلامه.
فلا يجوز موافقة عباد الصليب القَلْف في شعار كفرهم. ورد القائلون بالاستحباب على هذه الأدلة بكلام لا يدفعها واستدلوا هم أيضًا بأدلة منها:
ما يروى عن ابن عباس موقوفًا بإسناد ضعيف: "الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء" وقد عرفتم أنه يروى بإسناد ضعيف موقوفًا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
فأدلة الموجبين أظهر وقولهم في المسألة هو الحق إن شاء الله وقدّر.
وأما عن وقت وجوبه فهو عند البلوغ:عند التكليف بالعبادة، فلا يجب قبل البلوغ، ولما كان الواجب يؤدي إلى أن تتم أمور من باب تمامه، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. لما كان ذلك كذلك. كان من الأفضل أن يتم الختان قبل البلوغ. فإن أمر النبي لأصحابه أن يعلموا أبناءهم وأن يأمروهم بالصلاة لسبع وأن يضربوهم عليها لعشر دال على أنه لم يكن يسوع لهم ترك ختانهم حتى يجاوزا البلوغ، والله أعلم.
وأما عن الاختلاف في الختان يوم السابع من الولادة هل هو مكروه أم لا؟ وحجة الفريقين فالحق أنه لم يرد نهي عن الختان يوم السابع من الولادة يشهد لكراهة من كره ذلك من بعض أهل العلم.(228/2)
ولم يرد في استحبابه خبر يرجع إليه؟ فبقي الأمر على التخيير والإباحة، غير أنه إذا فعل في ذلك اليوم (يوم السابع) من الولادة كان أرفق بالصبيان وكان تحريًا لبعض الصحابة الذي ورد أنهم ختنوا أبناءهم في هذا اليوم. وإذا تُرك الأولاد حتى تتقدم سنهم شق ذلك عليهم، وهذا معروف ومُجرب.
وأما عن حكمة الختان وفوائده:
فالختان من محاسن الشرائع التي شرعها الله سبحانه لعباده. وكمّل به محاسنهم الظاهرة والباطنة وهو مكمل الفطرة التي فطرهم عليها سبحانه، ولهذا كان من تمام الحنيفية ملة إبراهيم.
ولهذا قال هشام ابن العاص رضي الله عنه في وقعة أجنادين التي جرت بين المسلمين والروم: يا معشر المسلمين، إن هؤلاء القلف لا صبر لهم على السيف (أي الروم) وذكر المسلمين بشعار دينهم وصليبهم القلف: عدم الختان. وجعله مما يوجب إقدام الحُنفاء عليهم وتطهير الأرض منهم.
والمقصود أن صبغة الله هي الحنيفية التي صبغت القلوب بمعرفته ومحبته والإخلاص له وعبادته وحده لا شريك له، وصبغت الأبدان بخصال الفطرة من الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الآباط والمضمضة والسواك، ونحو ذلك من خصال الفطرة وظهرت فطرة الله على قلوب الحنفاء وأبدانهم، هذا مع ما في الختان من الطهارة والنظافة والتنزيه والتزيين وتحسين الخلقة، وتعديل الشهوة، التي إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوان، وإن عُدمت بالكلية ألحقته بالجمادات. هذا مع ما فيه أيضًا من بهاء الوجه وضياءه وفي تركه من الكسفة التي تُرى عليه.
وأما عن القدر الذي يؤخذ في الختان فتقدم أن ختان الرجل يكون بأن تٌقطع الجلدة التي تغطي الحشفة من فرجه، وأما في النساء فيقطع جزء منها ويبقى على جزء، لما رواه أبو داود عن أم عطية أن النبي أمر ختّانة تختن، وقال لها: ((إذا ختنتي فلا تنهكي فإنه أحظى للمرأة وأحب للبعل))[1].
ففي هذا إشارة كافية إلى القدر الذي يؤخذ في الختان، والمرأة في حاجة إلى ما الرجل في حاجة إليه من فوائد الختان، وبهذا تأتي النقطة التاسعة، وهي أن الحكم يعم الذكر والأنثى؛ لأنه قد جاء في الحديث الصحيح عن النبي ((إذا التقى الختانان)) ولا يقال ختان للمرأة إذا إذا خُتنت فعلاً، وهذا يدل على أن النساء كُن يختتن، والمرأة في حاجة إلى ما الرجل في حاجة إليه من فوائد الختان.
والنقطة العاشرة في مسقطات وجوب الختان: متى يسقط؟
يسقط لأربعة أمور مختصرة من أمور كثيرة: أولاً: أن يولد الصبي لا قُلفة له فهو مستغنٍ عن الختان إذ لم يُخلق له ما يجب ختانه، وهذا متفق عليه بين العلماء.
ثانيًا: ضعف المولود عن احتماله بحيث يخاف عليه من الختان، ويستمر به الضعف كذلك، فهذا يُعذر في تركه، إذ غايته أنه واجب فيسقط بالعجز عنه كسائر الواجبات.
ثالثًا: أن يسلم الرجل كبيرًا فيخاف على نفسه منه فيسقط عنه وهذا عند الجمهور وإن قال البعض بضرورة ختانه عملاً بما جاء من الأقوال والأحاديث المرفوعات والموقوفات والمراسيل، إلا أن الجمهور على أنه إذا خيف على نفسه من التلف إذا أسلم كبيرًا فإنه يسقط عنه.
رابعًا: الموت، فلا يجب ختان الميت باتفاق الأمة، وهل يُستحب ؟ الجمهور على أنه لا يستحب، حتى الاستحباب لا يذهب إليه جمهور أهل العلم، وهو قول الأئمة الأربعة أنه لا يستحب ختان من مات من المسلمين ولم يكن قد اختتن. وذهب بعض الأئمة المتأخرين إلى أنه يُستحب وقاسوا على إزالة شارب الميت إذا كان شاربه طويلاً، ولم يكن قد قصّه قبل وفاته، قاسوا على إزالة شاربه وحلق عانته وتقليم أظافره ونتف إبطه قاسوا الختان على هذه الأمور، وهذا مخالف لما عليه عمل الأمة، فهو قياس فاسد لأنه إزالة الشارب وحلق العانة تقليم الأظافر ونتف الإبط لتكميل الطهارة وإزالة: وسخه ودرنه، وأما الختان فهو قطع عضو من أعضاءه، والمعنى الذي شُرع لأجله في الدنيا قد زال بالموت، فلا مصلحة في ختانه، والله أعلم.
وأما ما جاء في ختان نبينا محمد والاختلاف في ذلك، هل ولد مختونًا أم لا؟ ومتى ختن؟
فالأحاديث التي وردت في أنه ولد مختونًا ضعيفة لا تصح، وتكلم العلماء فيها كلامًا وافيًا، وليس في ولادته عليه الصلاة والسلام مختونًا فضيلة أو خاصية يختص بها عليه الصلاة والسلام؛ إذ قد وجد من الناس من ولد مختونًا، ولو كان فضيلة أو خاصية لما شاركه فيها أحد ثم إن الختان ابتلاء وقد ابتلي به إبراهيم، وهو لرفع الدرجات ودرجته أعلى من درجات الأنبياء جميعًا فلا يخص عليه الصلاة والسلام من هذا البلاء لأنه من قبيل رفع درجاته .
وقال بعض أهل العلم قد ورد في بعض الروايات على ما فيها من ضعف أو كلام أو مقال أن عبد المطلب جد النبي ختنه في يوم سابعه وصنع له مأدبة ودعا إليها الناس وسماه محمدًا .
ثم قال هؤلاء العلماء: وهذا أشبه بالصواب وأقرب إلى الواقع والله أعلم.(228/3)
ثم النقطة الأخيرة أيها الأخوة الكرام في الحكمة التي لأجلها يبعث الناس يوم القيامة غرلاً غير مختونين، فقد وعد الله تبارك وتعالى ـ وهو صادق الوعد ـ الذي لا يخلف وعده إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ[آل عمران: 9] وعد أنه يعيد الخلق كما بدأهم أول مرة، ومن صدق وعده أن يعيده على الحالة التي بدأه عليها كما قال في الآية الرابعة بعد المائة من سورة الأنبياء: يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء كَطَىّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] وقال في الآية الثلاثين من سورة الأعراف: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأنعام: 29].
وأيضًا: فإن القلفة لا حاجة إليها في الجنة؛ لأن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون، فليست هناك نجاسة يُصب الغُرلة فيلزم التحرز منها، وليست القلفة مما يعوق لذة الجماع ويمنعه، ثم إن هذا كله إن قُدّر استمر الخلق على ما يبعثون عليه بعد خروجهم من قبورهم فإنه من المعروف أنه تغير أحوالهم وتمد في خلقهم ويزاد في خلق أهل الجنة وخلق أهل النار في الصحيحين وغير الصحيحين، يُمد في الخلق ويزاد فيه لتكمل متعة أهل الجنة بالنعيم مع ضخامة أجسامهم بخلاف ما هم عليه عندما ماتوا فيبعثون على خلق أبيهم آدم (على طوله) على ثلاثة وستين ذراعًا وغير ذلك من الأوصاف، وأنهم يحشرون على صورة القمر، أول زمرة تدخل الجنة وجوههم على صورة القمر، ومن بعدهم وجوههم على صورة أضوأ كوكب دري في السماء, أهل النار يزاد في خلقهم كذلك حتى يصير الضرس كالجبل ليزداد إحساسهم بالعذاب إذا جحدوا وكفروا وفسقوا ولم يستجيبوا للفطرة التي فطرهم الله عليها، فإنَّ الناس يحشرون حفاة عراة، وبعد ذلك يكسون ويزاد ويمد في خلقهم فمن الجائز أيضًا أن تزال الغرلة والقلفة بعد ذلك ومن الممكن أن تستمر وتدوم، وليس هناك خبر يُعلم يجب المصير إليه في هذه المسألة والله سبحانه وتعالى، أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] رواه أبو داود
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أحتاج إلى أن أنبه إخواني أهل السنة الذين هم حريصون على سماع الحق والعمل به إلى ضرورة الاحتراز مما يبتدع في النصف من شعبان من الصلوات التي ليس عليها دليل من كتاب الله ولا من سنة رسوله ، ولا من فعل أصحابه رضي الله عنهم، فإن في الحديث الذي جاء فيه نزول الله عز وجل ليلة النصف من شعبان على القول بتحسينه عند بعض العلماء لا يبرر هذه العبادات التي ليس عليها دليل يرجع إليه ويُستند إليه، فمدار العبادات أيها الأخوة الكرام على الاتباع وليس على الابتداع.
ثم أحب أن أنبه أيضًا إلى أن الإحصاءات في الوفيات قد أفادت أن خمسة وثمانين بالمائة ممن يتوفون، يموتون بسبب حوادث السيارات في هذا البلد، وخمسة عشر بالمائة منهم يموتون بأسباب أخرى، فأوجه إخواني إلى أن يراعوا القواعد المرعية في قيادة السيارات وألا يلقوا بأنفسهم في المهالك إلقاءً ، وأن يراعوا أن أحوال هذه الآلات لا تنضبط ولا تضمن، فالأولى بهم أن يحافظوا على أنفسهم وأن يسيروا على القدر الذي يسمح لهم بتدارك الأمور إن حدث خلل. نسأل الله أن يُسلم الجميع من الشرور والبلايا، ونسأل الله تعالى لنا ولكم حيثما كنا من أرض الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأمننا في أوطاننا ودورنا، وانصر اللهم المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في أفغانستان وفلسطين وفي كل مكان يجاهد فيه في سبيلك يا رب العالمين، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا، وعليك بمن عادانا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(228/4)
أحتاج إلى أن أنبه إخواني أهل السنة الذين هم حريصون على سماع الحق والعمل به إلى ضرورة الاحتراز مما يبتدع في النصف من شعبان من الصلوات التي ليس عليها دليل من كتاب الله ولا من سنة رسوله ، ولا من فعل أصحابه رضي الله عنهم، فإن في الحديث الذي جاء فيه نزول الله عز وجل ليلة النصف من شعبان على القول بتحسينه عند بعض العلماء لا يبرر هذه العبادات التي ليس عليها دليل يرجع إليه ويُستند إليه، فمدار العبادات أيها الأخوة الكرام على الاتباع وليس على الابتداع.
ثم أحب أن أنبه أيضًا إلى أن الإحصاءات في الوفيات قد أفادت أن خمسة وثمانين بالمائة ممن يتوفون، يموتون بسبب حوادث السيارات في هذا البلد، وخمسة عشر بالمائة منهم يموتون بأسباب أخرى، فأوجه إخواني إلى أن يراعوا القواعد المرعية في قيادة السيارات وألا يلقوا بأنفسهم في المهالك إلقاءً ، وأن يراعوا أن أحوال هذه الآلات لا تنضبط ولا تضمن، فالأولى بهم أن يحافظوا على أنفسهم وأن يسيروا على القدر الذي يسمح لهم بتدارك الأمور إن حدث خلل. نسأل الله أن يُسلم الجميع من الشرور والبلايا، ونسأل الله تعالى لنا ولكم حيثما كنا من أرض الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.(228/5)
الأسس المنهجية للبرمجة العملية
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
المحتويات
• التمهيد
• فوائد البرمجة العملية
• الأسس الشرعية
• الأسس الاجتماعية
• الأسس الإحصائية
• الأسس الإدارية
• تشييد وتهديد
• ومضات سريعة على الناحية العملية
الأسس المنهجية للبرمجة العملية
التمهيد :
أول ما نبدأ به في هذا التمهيد معنى المنهج أو المنهاج ، ومعنى البرنامج فالمنهاج في أصل اشتقاقه من النهج ، وهو الطريق الواضح وطرق نهجه - أي واضحة - ومنه قوله - جلا وعلا - { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } - أي طريقاً واضحاً ، ومنهجاً بيناً - ، وفي المعجم الوسيط - وهو متأخر- يدرج المعاني التي استحدثت ويبين دلالات المصطلحات ، قال في معنى المنهج : " هو الخطة المرسومة كمنهاج الدراسة أو التعليم ونحوها والجمع مناهج " . فنحن نقول منهج الجامعة هو كذا وكذا يعني الخطة الدراسية للمرحلة الجامعية.
وأما البرنامج فأصلها كلمة فارسية عربت فهي بالفارسية برنامه ، ومعناها : الورقة الجامعة للحساب ولذلك يسمون التقاويم رزمانه أو برمانه ، لأنها تشتمل على هذا المعنى . وفي تاج العروس معنى آخر ذكره لمعنى البرنامج وهو : " زمام يرسم فيه متاع التجار وسلعهم يعني قيد تسجل فيه البضاعة والسلع فهو كذلك نوع من الإدراك للمعلومات في صورة منظمة يتوصل بها إلى المقصود ويعرف بها الموجود " . وفي المعجم الوسيط قالوا في البرنامج هو: " النسخة التي يكتب فيها المحدث أسماء رواته وأسانيد كتبه " وهذا قد اشتهر قديماً عند العلماء والمحدثين ، فصنفوا في هذا كتب ذكروا فيها أسماء شيوخهم والكتب التي رووها عنهم ويسمون ذلك برنامجاً كبرنامج ابن جابر الوادي آشي . ويطلق ذلك أيضاً عند العلماء .
بعد تلك الفترة صاروا يستخدمون الفهرسة فيقولون : " فهرسة فلان " يعني : ثبت شيوخه واستخدموا الثبت بعد ذلك وهو كذلك الذي يستخدم فيه اسم المعجم أو المشيخات . المهم أنه أيضاً رصد وجمع منظم لمعلومات مقصودة يتوصل بها إلى التحصيل والإنجاز الذي تم خلال مرحلة من الزمن ، مفصل على أماكنه التي تم تحصيله فيها، وعلى مصادره التي تم استقاءه منها.
وأخيراً في معنى البرنامج في المعجم الوسيط : " الخطة المرسومة لعمل ما كبرامج الدرس والإذاعة " ونحن نسمع هذه الكلمة دائماً تستخدم لهذا المعنى .
والمقصود إذاً في مثل هذا الحديث الذي نحن بصدده ، أننا نريد أن نتحدث عن أسس واضحة - يعني منهجية- ، والمنهجية تشتمل كذلك مع الوضوح على ترتيب وتنظيم يكون فيه التدرج ، وإمكان التطبيق ، فنحن نبحث عن أسس واضحة للبرمجة العملية - أي بوضع خطط مرسومة للأعمال التي نريد أن ننفذها في حياتنا- وكثيرة هي الأوقات التي تمضي دون عمل ، وكثيرة هي المدد المتطاولة التي تمضي دون إنجاز ، ومن فضل الله - عز وجل - أننا في هذه الأوقات نرى فوائد متجددة تتجلى ربما في جانبين :
الأول منهما : الالتزام الشرعي الذي يعظم المسؤولية في النفوس تجاه الوقت والبدن ، وكل نعم الله - عز وجل - مما يدفع إلى حسن اغتنامها واستثمارها.
والأمر الثاني : هو اتساع دائرة الاهتمام بالموضوعات الإدارية والتنظيمية ، واكتساب المهارات في القدرات وتطوير الطاقات ، وحسن إدارة الأوقات ونحو ذلك وقد شاع هذا كثيراً ، وكثرت فيه الدورات ، وأعدت فيه الدراسات وطبعت فيه الكتب ، وعقدت فيه الندوات وصار موضع اهتمام كثير من الناس عموماً ، وشباب الأمة خصوصاً ، وأعني ذلك الشباب الجادين من الملتزمين الحريصين على الإنجاز . ونحن نريد في محاولة متواضعة أن نعطي هذا الموضوع مفاتيحه الأولى ونخطو فيه الخطوات الأولية بإذن الله - عز وجل - .
وأبدأ بفوائد البرمجة العملية وقد فهمنا مدلولها ومعناها ببساطة برمجة عملية - أي إنني أريد أن أنجز شيئاً فأضع له جدولاً وخطة مرسومة موزعة على الأوقات حتى أحقق الهدف وأستطيع أن أنجز المطلوب - وهذه فوائد عديدة :
فوائد البرمجة العملية
1- الفكرة
وأعني بها اعتماد مبدأ التفكير والتركيز ، فإن الذي يتوجه إلى وضع البرنامج لابد أن يكون مريداً وقاصداً ، وآخذ بمبدأ التفكير والتركيز ، لأنه سيبحث في أمور كثيرة حتى يصل إلى وضع هذا البرنامج ، أما الذي ليس في قاموس حياته أن يضع برنامجاً وجدولاً ، فهذا غالباً ما لا يجهد فكره ، ولا يركز في أي أمر من الأمور ، بل يأخذ الأمور سبهللاً - كما يقولون - ، وتمر عليه الأوقات أو السنوات أو الفرص دون أن يفكر فيها كيف يغتنمها ؟ أو كيف يصنع بها؟ أو نحو ذلك ، إذن فأول فائدة للبرمجة أنها تعودنا على التفكير والتركيز، بدلاً من البلادة والتشتت الذي نراه . فلا هو أخذ بعلم فأصاب منه حظاً ، ولا هو أتقن عملاً فنال منه كسباً ، ولا هو اشتغل بعبادة فزكى بها نفسه ، وطهّر قلبه ، ولا هو قدح في الدنيا فعف نفسه ، وعال أهله ،(229/1)
كثيرون هم الذين يتشتتون هنا وهناك ، وكما يقولون : يخوضون في كل بحر ، ويدخلون في كل باب ، فلا يكادون يحصلون على شيء ، ويكون حظه - كما قيل - : من كل بحر قطرة ، ومجموع هذه القطرات يكاد لا يروي غليلهم ولا ينفعهم.
2- القوة
وأعني بذلك قوة الإرادة ، ومقاومة الاستسلام ؛ فإن الذي يتوجه لوضع البرنامج يشعر أنه لابد أن يقاوم الفوضى الاجتماعية ، وأن يقاوم نفسه المتكاسلة ، وأن يقاوم عاداته السيئة ، وأن يقاوم بيئته المثبطة. إنه يكتسب من هذه البرمجة قوة إرادة تجعله يتحدى الواقع الذي هو فيه ولا يستسلم له ، ويبدأ في السير وغذ الخطى ، وإن كان في اتجاه ضد التيار . لأن هذا يجعله يجتهد وينتفع كما لا يكون بغير هذه الوسيلة.
3- الحرص
فإن البرمجة هي الاستغلال الأمثل للوقت ، ومن كان آخذاً بمبدأ البرمجة ؛ فإنه دائماً يتعود على الحرص والظن بوقته ، والحرص مذموم إلا في الوقت ، فالحرص على الوقت ممدوح ومطلوب ، فلا ينبغي أن يكون فيه أي تفريط لأي سبب من الأسباب . قال إبراهيم الحربي - رحمه الله - :" صحبت الإمام أحمد بن حنبل أربعين سنة فما رأيته في يوم إلا وهو زائد على الذي قبله " . وهذا من شدة حرصه .. يرى أنه اغتنم في هذا اليوم خمس ساعات فلابد في الذي بعده خمس ساعات وقليل ولو دقيقة أو خمس ، فمع الزمن فإذا كل يوم يزيد جديداً فإذا به يصبح أكثر حرصاً، وأكثر كسباً بإذن الله عز وجل.
4- الذكاء
وأعني به اكتشاف واستثمار الطاقة ؛ فإن كثير من الناس لا يعرف ما عنده من نعمة الله - عز وجل – عليه ، فإن قلت له - على سبيل المثال - : ضع برنامجاً لتحفظ شيئاً من القرآن أو شيئاً من العلم قال: أنا ذاكرتي ضعيفة ، وإمكانياتي العقلية محدودة ، ولا أستطيع أن أحفظ . هو قال ذلك لأنه لم يضع أو لم يدخل نفسه في البرمجة ، ولم يبدأ بشيء من خطواتها ، ولو فعل لاكتشف في نفسه ما كان جاهلاً به ، ولو قلت له : لما لا تحاول أن تقرأ حتى تكتسب لغة جيدة وبلاغة رائعة ونحو ذلك . قال : هذا أمر بعيد المنال ، فأنا لا أحسن الكلام ولا النطق، فضلاً عن أن أكون من البلغاء الفصحاء ، ولو أنه أيضاً أخذ بشيء من الأسباب لاكتشف في نفسه وفي لسانه طلاقة ، وفي عقله إبداعاً وخيالاً ونحو ذلك من الأمور . فلذلك الذي يدخل في عالم البرمجة هو الذكي الذي يبدأ يفتق طاقاته ، ويكتشف مهاراته ويرى من نفسه ما لم يكن به من قبل عالماً .
5- الإنتاج
فالذي يأخذ بأسباب البرمجة هو الذي يحقق كثرة الإنجازات ، وتحقيق الطموحات ، ورفع المعنويات .
معنى ذلك أنه يضع القليل مع القليل ؛ فإذا به ينجز الكثير ، ولا يمكن أن تكون هناك إنتاجية عالية ، ولا طموحات محققة ، ولا معنويات مرتفعة ما لم يكن هناك برمجة وتركيز في هذا المعنى ، ولعلنا نأخذ مثالاً حتى ندرك أن هذه البرمجة وتوزيع الأوقات وحسابها ودقتها - كما سنرى - هو الذي يمكن أن يثمر، قطاف يسير من ترجمة الإمام النووي . في ترجمته أنه كان يقرأ في كل يوم - في كل يوم ليس أسبوعاً ، ولا شهراً - كان يقرأ في كل يوم اثنا عشر درساً ، درسين في كتاب " الوسيط" - وهو الوسيط للغزالي في الفقه الشافعي - والثالث في كتاب " المهذب " للشيرازي ، الذي شرحه بعد ذلك النووي في كتابه الضخم " المجموع " ودرساً في كتاب الجمع بين الصحيحين ، ودرساً في صحيح مسلم ، ودرساً في كتاب " اللمع " لابن جندي في النحو ودرساً في كتاب " إصلاح المنطق " لابن السكيت في اللغة ، ودرساً في التصريف ، ودرساً في أصول الفقه تارة في " اللمع " بأبي إسحاق ، وتارة في المنتخب للفخر الرازي ، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين ، ولا أظن أن من صنع مثل هذا ليس عنده برمجة ! لا أظنه لا يكون أحد هذه الدروس قبل الفجر ، والثاني بعد الفجر ، والثالث في الضحى ، والرابع بعد العصر- أي إنها موزعة - وبالتالي انظر إلى هذه الكتب التي درسها الإمام النووي - رحمه الله -إذا بشروحه فيها أعظم شروح انتهى إليها طلب وغاية وأمل أهل العلم ، فلما درس صحيح المسلم شرحه . وهو إلى يوم الناس هذا هو أعظم الشروح وأجلّها ، ولما درس المجموع شرحه ، إلى آخر ما نعرف من تصنيفاته ومؤلفاته رحمه الله .
6-الخبرة
والبرمجة يستفيد منها المرء تعميق الخبرة ، وتحسين التجربة ، والقدرة على المتابعة والتقييم والتعديل ، وتلافي الأخطاء . والذي يضع الأمور و الأعمال في برامج وجداول يكتسب خبرة في تطبيقها ما الذي يبدأ به . .
ما هي العوائق التي تكون ؟ كيف يتجاوزها إذا وقع له كذا ماذا يصنع ؟(229/2)
هذه البرمجة وتطبيقها تكسبه دقة متناهية في تحديد أموره ومتطلباته ، وحسابها ثم تكسبه تجربة في الممارسة العملية إن كان البرنامج للحفظ ، أو كان البرنامج للعمل الخيري ، أو كان البرنامج للتعليم ، أو كان في غير ذلك سوف يكتسب خبرة رائعة ، وتجربة عميقة ، ويصبح أيضاً بهذه البرمجة دائماً متعوداً على المتابعة والتقويم ، لأن البرنامج لا بد أن يكون فيه متابعة وتقويم ، ولا بد أن ينظر إليه .ز كان من المفترض أن ينتهي كذا .. في تاريخ كذا.. هل انتهى ؟ لا . لماذا لم ينتهي ؟ لأنه كذا وكذا . ماذا يصنع ؟ لا بد أن يعوض . نتعود على هذه السمة التي تعودنا على الدقة والمهارة في تعاطي الأمور ، وخبرة الحياة ، أما كثير من الذين لا ينتبهون إلى ذلك ، ولا يأخذون به ، وليس عندهم تجارب ، ولا خبرات وليس عندهم شيء من هذه النفسية التي تحاسب وتعدل ، والتي تكون دائماً في وضع أفضل وأحسن .
7- التنظيم
وأعني بذلك أن الذي يأخذ بالبرمجة يكتسب مهارة التخطيط والتنظيم وتطوير الملكات ، وهي مهارة مهمة لأن الذي يكتب على الورق ويحسب - كما سنرى - لا يأخذ الأمور جزافاً . تقول له : متى تصنع هذه الأمور ؟ يقول لك : إن شاء الله خلال شهر أو سنة . ماذا شهر إلى سنة ! أي تقدير هذا ! وأي تفريط وفوضى ليست فيها أهمية للوقت ولا تقدير للجهد ولا معرفة بالواقع ولا شيء من ذلك ! أما الذي يأخذ بالبرمجة فهو إنسان يكتسب مهارة التنظيم . إن قلت له : أريد منك أن تصنع ذلك متى تفعل ؟ يقول لك انتظر لحظة ، أو لا يجيبك فيعطيك بعد ذلك إجابة دقيقة يقول: أستطيع أن أنجزه إذا كنت تريده بالطريقة المبدئية فأحتاج إلى أسبوع ، وإن كنت تريده أن يكون منتهياً بطريقة كاملة فهو يحتاج إلى شهر ، وإن كنت تريده قابلاً لأن يخرج للناس أو أن يطبع أو ينشر فإنه يحتاج إلى كذا .. هذه الدقة تنبني على هذه التجربة العملية في البرمجة فالإنسان يكتسب بذلك مهارة مهمة تجعله دائماً في غاية من قدرته على الانتفاع والاستفادة .
8- العطاء
وأعني بذلك القدرة على الإفادة والتوريث والعطاء . ماذا ستعطي لأبنائك ؟ وماذا سيستفيد منك أقرانك ؟ وأي شيء سيجنيه تلاميذك إن لم تكن لك تجربة في هذه البرمجة ولم يكن لك إنجاز؟ إن كنت قد جربت وجدولت الأعمال وحققت الأهداف فإنك ستقول للناس: إذا أردت أن تحفظ فاصنع كذا وكذا وكذا وإذا أردت أن تعمل فطريقك هو أولاً وثانياً وثالثاً سوف تكون لك قدرة على أن تفيد من حولك من أبنائك ومجتمعك أم أن تكون هكذا كما يقولون كالطبل الأجوف تمر في هذه الحياة وتنتهي منها وتخرج وتطوى صحيفتك دون أن يكون لك شيء يذكر بك ، ولا توريث ، ولا عطاء أبقيته ، حتى في أبنائك لكي تكون قد غرست غرساً ما تزال ثماره تينع مرة بعد أخرى.
9- التفوق
وأعني بذلك أن البرمجة تدفع الإنسان إلى منافسة الأقران ، ومواجهة الأعداء ، والتفوق عليهم . إن الذي يأخذ بمبدأ البرمجة إذا كنا في بيئة برمجة ، فهذا أعد برنامجاً ليحفظ جزءاً من القرآن في شهر ، وذاك أعد ليحفظ في نصف شهر ، فيكون هنا تنافس ، ثم ماذا تصنع الأمم المتقدمة - كما تسمى اليوم - إن إنجازها ودقة حرصها على وقتها في الحياة العملية بما قرروه على أنفسهم من الإنجاز و الحرص على المادة أصبحوا مضرب مثل في ذلك .
وفي دراسة موجزة ، عملت على مدى كفاءة الإنتاج والاستغلال لوقت العمل ثمان ساعات في كل يوم . وجد إن أعلى استغلال هو عند اليابانيين ثم درجات درجات .. وفي ضمن هذه النماذج دولة عربية مسلمة كبرى ووجد أن الذي يستغل حقيقة من الساعات الثمان كلها لا يتجاوز 37 دقيقة وليس في هذا مبالغة وسيأتي ما قد يشير إلى هذا ، دراسة أخرى أشير إليها نقلاً عن إحدى الصحف المحلية الطرق التي يقضي بها الشباب أوقاتهم من عينة معينة 75% في مشاهدة التلفزيون 52% كرة القدم 75% قراءة مجلات ودوريات 32% استماع إذاعة 32% التمشي بالسيارات 31% زيارة الأصدقاء 27% الرحلات 24% لعب الورق 18% السباحة 16% كرة طائرة 11% المقاهي 11% الموسيقى 10% الرسم 9% التمشي على الأقدام في الشوارع 9% جمع الطوابع ... وانظروا إليها وفكروا فيها .(229/3)
معدل ما يجلسه كثير من الشباب أمام التليفزيون في السنة 1000 ساعة وإذا طلبت من هؤلاء شيئاً قال لك : لا أجد وقتاً ماذا يمكن أن ينجز في 1000 ساعة تعرفون الساعة كم ؟ 60 دقيقة احسبوا كم دقيقة واحسبوا كم ثانية واحسب كم يكون من هذا هذه إحصائية قديمة منشورة في عام 1408 هـ البث التلفزيوني سنوياً يصل إلى أكثر من 64 ألف ساعة وأظنها اليوم لو زدنا عليها صفراً لكان الرقم قليلاً . يمكن تكون اليوم 640 ألف ساعة بث إذاعي .الدراسة في الجامعات 6 آلاف ساعة يعني بمقدار ما يجلس أمام التلفزيون 6 سنوات يكون تخرج من الجامعة ، أو درس منهج الجامعة كله تعرفون ماذا يتخرج الطالب ! يدرس 132 ، 136 ، 140 ساعة ويتخرج من الجامعة 140 ساعة طبعاً قد تضرب في 3 على عدد أيام الأسبوع يعني في آخر الأمر كله 600 ساعة ، 700 ساعة يدرس ويتخرج من الجامعة . الساعة ليست شيئاً تافهاً حتى لا يكترث بها النوّم يتراوح ما بين 2100 إلى3500 ساعة ، ثم معدل ما يقضيه المسلم في الصلاة كم ساعة في السنة ؟ دراسة 500 ساعة في السنة كلها يعني في اليوم ساعة وشيء لأن السنة كم يوم ؟ 365 يوم . ساعة وربع طبعاً هذا للذي يصلي ويأتي مبكراً وكذا . أما الذي يعني يمكن أن يكون في نصف هذا الوقت فاحسب ترى أننا نحتاج إلى البرمجة حتى نتفوق .
10- الراحة
ولعل هذا يكون فيه غرابة كيف تكون البرمجة العملية راحة وصحة وكفاءة ! وهي كذلك لأن الذي يبرمج عمله يستطيع أن ينجزه وفق برمجته ، ويستغل الأوقات فلا يكون مضغوطاً ، ولا متحملا لعبء كثير في وقت قصير ، ومثاله البسيط "الفرق بين الطالب المجد والطالب المهمل " الطالب المجد يذاكر أولاً بأول نصف ساعة في اليوم .. ساعة في اليوم . فيأتي وقت الاختبار وهو مرتاح ، وخلاف هذه الأيام كلها لا يرهق ، لأنه يأخذ القليل في المدى الطويل فلا يرهق فإذا جاء الاختبار كان مستعداً فلا يرهق في الاختبار لكن الطالب المهمل لا يذاكر ، ثم بعد ذلك ماذا يصنع يتعب أيام الاختبارات ، وربما يمرض ويدخل المستشفى ، وربما يرهق فينام فلا يحضر الاختبار ! النتيجة كلها كوارث في كوارث ، وضياع في ضياع وهذا يدلنا على أن البرمجة تفيدنا في هذا كثيراً .
ننتقل الآن إلى الأسس التي نريد أن نتحدث عنها وسنجعلها أيها الأخوة في صورة برقيات قصيرة لأن لا يدركنا الوقت ونحاول - إن شاء الله - أن نغطي ونمر على جميع هذه النقاط التي نريدها: ـ
أولاً : الأسس الشرعية
هل لهذه البرمجة أساس في الشرع من حيث المبدأ أو من حيث التطبيق ؟ نقول نعم وانظر إلى هذا في نقاط سريعة :
1- تعظيم قسم
الله - جل وعلا - عظم الوقت والزمن ، إذ أقسم به في كتابه ، ولا يقسم إلا بم هو عظيم ويريد - جل وعلا - به أن يلفت النظر إلى عظمته - أي في عظمة هذا الذي يقسم به -في القدرة الإلهية وعظمته أيضاً في النعمة الربانية على الخلق والله - جل وعلا - أقسم بالزمن في أوقات كثيرة متنوعة { والفجر * وليال عشر } ، { والضحى * والليل إذا سجى } ، { والعصر * إن الإنسان لفي خسر } ، { والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس }
كل الأوقات المتنوعة ذكرت في سياق القسم الرباني ، تعظيماً لها ، ولفتاً لعظيم المنة بها فكلها معنى ذلك أنها نعمة من الله وكلها معنى ذلك أنها ينبغي أن تغتنم وكلها أي لكل منها ما يتناسب معه { وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا } .
2- خسارة نعمة
وذلك ظاهر في حديث النبي - صلّى الله عليه وسلم – المشهور: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ )، وأعظم الوسائل المعينة على اغتنام الوقت البرمجة العملية ، فإنه يكون خاسراً نعمة عظيمة من أجل نعم الله سبحانه وتعالى عليه وهي نعمة لا تعوض كل شيء يمكن تعويضه واستدراكه إلا الوقت المال إذا خسرت مائة ثم ربحت المائتين فقد عوضت الذي فات وهكذا في كثير من الأشياء إلا الوقت فإنه لا يمكن تعويضه ولا يمكن أيضاً التحكم فيه لكن يمكن إدارته واستغلاله هذا الذي نتحدث عنه.
3- جسامة مسؤولية
وذلك ظاهر أيضاً في حديث المصطفى - صلّى الله عليه وسلم – ( لن تزول قدم عبداً يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ما عمل فيه)، فهذا الزمن مسؤول عنه وهذه الحياة الممتدة محاسب عليها وهذا يدلنا على أن الشرع يريد منا أن لا نجعل هذه الأوقات حججاً علينا وأن لا نجعلها مدعاةً لكي تكون إثماً يطوق أعناقنا ، أو سيئات تسود صحائفنا.
4- إقامة حجة(229/4)
وذلك في حديث أبي هريرة عند البخاري عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم – ( أعذر الله إلى امرأ أخر عمره حتى بلغ الستين )، أي أن من مد له في العمر ، وأخذ فرصة الحياة الطويلة ، فإنه قد أقيمت عليه الحجة وأنقطع منه العذر ، ومعنى ذلك أنه يستحق العقاب على تفريطه في عمره ، وتفويته لزمانه ، وتضييعه لمهمته ورسالته ، وهذا أيضاً يعظم عندنا هذا الأمر ، ويدعونا لأن نكون نحن معاشر المسلمين أغنم الناس اغتناماً للأوقات وانتفاعاً بها ، وإنجازاً فيها لا أن تكون أمتنا وشبابنا وكثير من أجيالنا ، أمهر الناس في تبديد الأوقات وأكثرهم تضييع للفرص رغم كثرة ما يحيط بهم من النعم مع وجود الوقت تكون هناك الراحة ومعها الأمن وإتاحة الفرص ، وكثرة أبواب الخير وبعد ذلك لا يكون عمل ولا إنجاز فإن الحجة قائمة ، والعذر منقطع نسأل الله عز وجل السلامة.
5- دعوة غنيمة
ولو قيل لنا تعالوا اليوم أو غداً أو في ساعة بعينها إلى مكان ما ، فإننا سوف نقسم عليكم فيها غنائم فإن أكثر الناس لن يتخلف ، لأن كل واحد يحب أن يكسب ، ويريد أن يغنم ويشتهي أن يكون لديه من الماء أو العطاء ، ما يحب أن يفرج به عن نفسه ، أو ينتفع به في حياته ، والغنيمة في الوقت أعظم من ذلك لأن الوقت هو الذي تعمل فيه فتأخذ المال والوقت ، وهو الذي تطلب فيه العلم وتحصل المهارة التي تعمل بها والتي تستطيع أن تكتسب بها ، والوقت هو الذي تصنع فيه كل شيء يعود عليك بالنفع الدنيوي والأخروي ، ومن هنا نفقه حديث النبي- صلّى الله عليه وسلم – الذي يقول فيه ( اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك ) . هذه فرص مدعوون لاغتنامها، فإن لم تكن غنيمة كان ما يقابل ذلك سئل نافع مولى ابن عمر ما كان ابن عمر يصنع في منزله ؟ قال : " الوضوء لكل صلاة والمصحف بينهما " هذا الذي يريد الغنيمة يعرف كيف لا يفوت صحة قد لا يستطيع إذا مرض أن يعمل ما يريد، ولا يفوت كما قلنا حياة ولا شباب ولا غير ذلك مما أخبر به - عليه الصلاة والسلام - .
6- راحة عمل
وكما قلت هذا قد يكون غير متصور عند بعض الناس ، هل يرتاح الإنسان في العمل؟ وهل وقت الراحة يكون للعمل؟ ونقول في حس المسلم نعم . فإن الراحة بمعنى الفراغ المبدد للوقت ليست في قاموس المسلم حتى الراحة التي يرتاحها بنية خالصة تكون عمل لأنها تهيئة لعمل، ولذلك تأمل في قول الله - عز وجل - [ فإذا فرغت فأنصب ]، قال أهل التفسير إذا فرغت من شئون دنياك ، فانصب لعبادة ربك ، فليس هناك فراغ بمعنى الوقت الذي لا تصنع فيه شيئاً ، حتى الراحة إذا عنيتها فإنك قد وضعتها في جدولك أن هذا وقت للراحة فهو جزء من العمل- تحديد وقت للراحة - يعني أن الراحة جزء من العمل استمع إلى شريح القاضي وهو يحكي قصته ويروى عنه أنه خرج على قوم من الحاكة - خياطين أو أصحاب المهنة والخياطة -في يوم عيد وهم يلعبون فقال : ما لكم تلعبون ؟ قالوا : إنا تفرغنا عندنا إجازة فراغ ، فقال أو بهذا أمر الفارغ ثم تلا عليهم قوله - جلا وعلا – { فإذا فرغت فأنصب * وإلى ربك فأرغب} . وفي ترجمة أبي القاسم قيل :" لم يشتغل منذ أربعين سنة إلا بالجمع والتصنيف والتسميع ، حتى في نزهه وخلواته " لا بأس بالراحة من العمل الجاد يكون فيها عمل لا يحتاج إلى كثير من الإعداد ، لكن ليس هناك راحة ليس فيها عمل .
7- تحذير عوائق
وهو في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( بادروا بالأعمال سبعاً هل تنتظرون إلا فقراً منسياً ، أو غناً مطغياً ، أو هرماً مفنداً ، أو مرضاً مقعداً ، حتى قال أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر ) .
8- تنظيم حياة
والله - جلا وعلا - جعل لنا في شرعه ، وفي ديننا وفرائضنا ما ينظم الأوقات ، ويبرمج الحياة { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا } هذا التوقيت الدقيق في دخول أوقات الصلاة وخروجها ينقلنا من مرحلة إلى مرحلة ، وتوزيع هذه الصلاة العجيبة من وقت انبثاق الفجر وبزوغ أول الضياء ، إلى غروب الشمس ودخول الليل ، كل هذا ونحن نتقلب في الطاعات ، ونجزئ الأوقات، ونقسم هذا اليوم ، ونقسم جزء من الليل ، ونعرف أن بقيته للراحة والاستعداد للطاعة ، وكأن هذه الصلوات قد نظمت الأوقات ، وقد أوجدت الأسس لبرمجة هذه الحياة ولم سئل النبي – صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن مسعود عن أفضل الأعمال إلى الله - عز وجل – قال: ( الصلاة على وقتها ) . دقة معرفة ، مبادرة ، وعمل فيكون هذا نوع من الإنجاز والبرمجة للحياة ، ونرى ذلك في سير أسلافنا- رضوان الله عليهم ورحمهم الله - .(229/5)
فهذا الحافظ عبدالغني المقدسي نموذج ليوم من حياته، مقسم على نهاره وليله في ترجمته عند الذهبي في السير :" كان لا يضيع شيء من زمانه بلا فائدة ، فكان يصلي الفجر ، ويلقن القرآن وربما أقرأ شيء من الحديث تلقيناً ، ثم يقوم فيتوضأ فيصلي ثلاثمائة ركعة بالفاتحة والمعوذتين إلى قبل الظهر ، وينام نومةً ثم يصلي الظهر - نومته راحة ضمن الجدول وهي عمل يهيئه لعمل - ويشتغل إما بالتسميع أو النسخ إلى المغرب ، فإن كان صائماً أفطر وإلا صلّى من المغرب إلى العشاء ، ويصلي العشاء وينام إلى نصف الليل أو بعده ، ثم قام كأن إنسان يوقظه فيصلي لحظة ثم يتوضأ فيصلي إلى قبل الفجر وربما توضأ سبع مرات أو ثماني في الليل " .
وهذا أيضاً حماد بن سلمة في ترجمته أنه " كان يقسم الليل أثلاثا كان مشغولاً إما أن يحدث أو يقرأ أو يسبح أو يصلي قد قسم النهار على ذلك " هكذا كان فعل أسلافنا . وفي ترجمة أبي النظر الطوسي قال: " جزأت الليل أثلاثاً فثلث أصنف ، وثلث أنام ، وثلث أقرأ القرآن" والشافعي - رحمه الله – جزأ الليل أثلاثاً ثلثه الأول يكتب ، وثلثه الثاني يصلي ، وثلثه الثالث ينام، فهذه أيضاً أسس واضحة في حياة أسلافنا من خلال قرآن ربنا .
9- نقصان عمر
فإضاعة الوقت نقصان في العمر، وهذا ابن مسعود - رضي الله عنه – يقول: " ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت فيه شمسه ، نقص فيه أجلي ، ولم يزد فيه عملي " وهذا الفقه هو الذي يستنبط من كل ما سبق .
10- إلحاح دعاء
باغتنام الأوقات وتنظيمها في سيرة الإمامين الجليلين الصحابيين العظيمين أبي بكر وعمر فمن دعاء أبي بكر – رضي الله عنه – " اللهم لا تدعنا في غمرة ، ولا تأخذنا على غرة ، ولا تجعلنا من الغافلين " ومن دعاء الفاروق عمر- رضي الله عنه – " اللهم إنا نسألك صلاح الساعات، والبركة في الأوقات " وهكذا نرى أسس الدين في القرآن والسنة وأفعال الصحابة تدعونا إلى هذا.
ثانياً: الأسس الاجتماعية
وهي مهمة - أيها الأخوة - لأن أكثر ما يفسد برامجنا وأعظم ما يضيع أوقاتنا اجتماعيات مبددة للأوقات ، تكسبنا الكثير من سيئ العادات ولذلك أقول هذه الأسس مهمة لابد من أخذها لمن أراد أن ينتفع في وقته ويبرمج أعماله :
1- إظهار صبغة
لابد أن تظهر صبغتك وشخصيتك على أنك رجل حريص على الوقت ، لا تقبل تضييعه ، ولا تمالئ في ذلك أو تجامل على حساب هذه الغنيمة ، أو هذه الثروة العظيمة وهي الوقت ، ولذلك لابد أن تشعر الناس بهذا بعض الناس يأخذون عنك هذا ولا تظن أنه صفة سيئة ، دعهم يقولون : فلان دائماً حريص على وقته في كل مكان معه كتاب ، أو في كل وقت تجده جاداً ، وهم يقولون ذلك على سبيل التذمر . أقول هذه سمات حسنة ومعنى ذلك أنك وصلت إلى نتيجة ، هي أن تعرف الناس بشخصيتك ، وأن تعلن صبغتك بأنك بهذه الطريقة ، واستمع إلى ابن الجوزي في قصته المشهورة وهو يتذمر من تلك المفاجآت الاجتماعية غير السارة في الزوار الثقلاء المبددين للأوقات ، الذين يأتون إليك يقولون" جئنا نزور ونسلم " وإذا بهم كما يقولون : يكونون على قلبك مثل الهم الذي لا يزول ولا يزاح . يقول ابن الجوزي: " فجعلت من المستعد للقائهم بري الأقلام ، وحزم الدفاتر فإن هذه الأشياء لابد منها ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب فجعلتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي " .
فإذاً لابد أن تعرف الناس وتظهر في بيئتك الاجتماعية بهذه الصبغة وبهذه الصيغة كما يقولون .
2- تقنين التقنية
ونحن نعرف أن التقنية من الأسباب الميسرة التي من المفترض أن تختصر الأوقات ، فالهاتف ما هو إلا اختصار للوقت. بدل أن تذهب اتصل به لكن أسألكم كيف يستخدمون الناس الهاتف اليوم؟ وخاصة مع الجوال والنقال والمحمول والأسماء التي يسمى بها كيف يستخدم؟ أصبح من أكثر مبددات الأوقات ، ومشغلات الفكر والقواطع التي تحول دون العمل والإنجاز ، ولو أردت أن تسير مع النواحي أو مع البيئة الاجتماعية لاستطعت أن لا يكون عندك أي وقت إلا وأنت ترد على الهاتف ، وترد على هذا مكاتبة ، وتسلم على هذا مصافحة ، وتزور هذا مجاملةً ، ثم ترجع إلى بيتك في آخر يومك لم تصنع شيئاً ، لم تسبح تسبيحاً ، لم تقرأ قرآناً ، لم تحصّل علماً ، لم تنجز عملا ،ً ولذلك نقول : تقنين التقنية لابد أن تقنن هذه الوسائل وتجعل لها ضوابط وأحب أن أذكر أمور عملية حتى نبين أن هذه الأمور أيضاً يمكن أن تساعد فيها .(229/6)
بعض الكتب فيها أساليب جديدة منها : إذا رن الهاتف فلا تعتقد بأن من الواجب أن ترد إذا كان عندك عمل، ولم يكن هناك شيء متوقع ، لأن ردك عليه في كل وقت فمعنى ذلك أنك محبوس له ، هو الذي يقطع عليك وقتك ، هو الذي يفرض عليك برنامجه ، هو الذي يدخلك في المتاهات التي يريد ، ويمضي بك حيث يشاء ، وهذه مشكلة كبيرة ! خذ وسائل على سبيل المثال: إن كنت رجلاً كثير الأشغال وعندك علاقات كثيرة فأتخذ - إن كنت صاحب عمل - من يرد عن الهاتف بدلاً عنك ، فيختصر لك الكثير من ذلك ويكون لبقاً مرناً ، وهذا عمله الذي يؤديه في هذا الوقت ، فيخلصك من تسعين في المائة من المكالمات التي ليس لها ضرورة ، ويختزن لك الوقت ، حتى إذا حول لك المكالمة يكون مهد للذي معه فيقول له : إنه مشغول الآن لكنني سأطلب منه أن يتحدث معك لدقيقتين ، فيفهم أن المسألة ليست مفتوحة . لأن هناك مكالمات تستغرق وتمتد أكثر من ساعة ماذا يقول الإنسان في ساعة؟ في ساعة كاملة هذا درس كامل ! أو محاضرة كاملة ! فهل أحد يأخذ محاضرات على الهاتف بهذه الطريقة التي نراها في حياة الناس؟ استخدم إذا استطعت الهواتف التي يمكن أن تستخدم فيها السماعة و الذي يمكن أن تأخذه بيدك فتتحرك فتذهب إلى هنا فتقرأ أو إلى هنا فتكتب – أي تتكلم مع عمل آخر مناسب – تستطيع في هذه الحالة أن تنجز شيئاً آخر . استخدم جهاز التسجيل للمكالمات لا ترد ، دعهم يسجّلون وأنت تكتب أو تقرأ ، ثم أنظر من كان مهماً أن ترد عليه أو بينك وبينه عمل والآخرين يقولون لك في الرسالة السلام عليكم ورحمة الله قل له : وعليكم السلام وجزاءهم الله خيراً . وليس هذا في كل مرة ، لأن بعض الناس مستعد أن يتصل بك في اليوم خمس مرات كالصلوات الخمس في كل مرة يصبح ويمسي وكذا دون فائدة .
نحن لا ندعو إلى مقاطعة الناس وإنما أن تستخدم هذه على أسلوب مباشر مثلاً " أريد أن أصنع شيئاً " وأنت تريد ذلك - حتى يهتم ويعتني – " لن أكون هنا بعد قليل سوف أخرج " إذن يعني لا بد أن يفهم أنه لا بد أن يوجز ، وأن يأتي بالمهم وهكذا... وأحياناً يمكن أن تسأله هل مكالمتك طويلة ؟ هل عندك موضوع طويل ؟ إذن اتركه في وقت آخر لأنني الآن مشغول وهكذا ... وهناك لااات لطيفة وأحب أن أقرأها لكم في هذا الباب بالذات الهاتف . لأنه مضيعة للوقت كثيراً لا تفترض أنك يجب أن تقوم بالرد على كل مكالمة هاتفية . لا تفترض أن كل متصل شخص مهم - هناك أناس عندهم شهوة إذا دق التليفون حتى عند غيرهم مباشرة يرفع في بيت غيره متعود كأنما ينتظر هذا الهاتف حتى يروي غلته في الحديث والكلام الذي لا يفيده - لا تخف من أن تصرفك لتوفير وقتك سيهين محدثك - بعض الناس يقول طيب ماذا أقول له يا أخي - لا تنسق نحو الفضول لمعرفة كل شيء . لا تقم بتحويل الهاتف إلى لقاء للمناسبات الاجتماعية . لا تسرف وتؤجل المهام غير المحببة لك بالهروب للمكالمات الهاتفية . لا يجب أن تكون موجوداً على الدوام أخل بنفسك واحتجب عن الآخرين لبعض الأوقات بلا هاتف ، بلا رنين ، بلا أي شيء في هذا الأمر هناك أيضاً أشياء كثيرة متعلقة بهذا الجانب ينبغي أن ينتبه لها الإنسان .
3- لباقة الاعتذار(229/7)
فكثيرة هي الأمور الاجتماعية والدعوات والزيارات والمناسبات . هذا جاءه مولود ، وهذا مات له إنسان ، وهذا عنده من يتزوج وهذا جاءه زائر وكل هذا ليس كله داخل في باب الإجابة للدعوة ، وليس كله داخل في باب إدخال السرور على المسلم ، وإذا زاد ذلك أيضاً لا بد أن يكون له حدود فلذلك لا بد من حسن الاعتذار ، ويساعد عليه النقطة الأولى ، وهي صبغة الانشغال والجدية في قضاء الأوقات ، لأن بعض الناس أحياناً يقول لك كنا نود أن نزورك لكننا نعلم أنك كثير الأشغال ، هذه حسنة وهذا أمر إلى حد ما جيد ، ولذلك أقول بعض الناس لماذا يكثر الناس عليه المناسبات الاجتماعية ؟ لأنهم يرونه فارغ إذا عنده دعوة لأي مناسبة فإن فلان على رأس قائمة المدعوين ، لأنه يحب ذلك إذا أراد أن يذهب إلى مكان لا يقول ارفع السماعة أو أنا ذاهب للمكان... أمر بك حتى تصطحبني أو حتى أصطحبك .. نعم مباشرة ، كأنما هو منتظر لمثل هذا ! أقول لا بد أن يكون عند الإنسان اعتذار ، ولا بد أن يحلل حالات أو الأشياء التي تقطعه عن أعماله ، وتعيقه عن إنجازها ، ويقسمها إلى قسمين: قسم لا يمكن تجنبه ، وقسم يمكن تجنبه . القسم الذي لا يمكن تجنبه: إجابة دعوة من أب أو من أخ أو من قريب في شيء مهم ، وهو لا يريد ، لكن هنا يحسن أن يجعل هذا في أضيق دائرة وفي أقل وقت ممكن ، مثلاً : الدعوات التي توجه لك الآن في مناسبات الأفراح والزواج ، أحياناً يكتبون فيها في تمام الساعة التاسعة والنصف ، فتذهب التاسعة والنصف أو العاشرة والنصف ولم يأت أصحاب الدعوة بعد لماذا تذهب مبكراً ؟ إذا كان ولا بد أن تذهب أو ما من مناص من الذهاب أجّله واجعله في وقت مناسب ، أو قدمه واعتذر في الانصراف ، وهكذا أجب وحقق ما لا يمكن تجنبه بأقل الخسائر الممكنة، وهكذا يمكن أن ينجز الإنسان شيئاً من هذا .
4- الاحتياط المثمر
دائماً كن مستعداً ومحتاطاً ، فإن الناس متفنون في تبديد الأوقات ، وليس عندهم أدنى اكتراث بهذا حتى إلى اجتماع عمل ، فاصطحب معك عملاً إضافياً ، لأنك قد تذهب ولا يأتي المجتمعون إلا بعد نصف ساعة أو ساعة من الوقت .
إذا ذهبت إلى الطبيب في الساعة التاسعة وموعدك في التاسعة بالضبط ، فتوقع أن لا يكون الطبيب قد أتى أو أن يكون هناك اختلال في المواعيد ، لأن هذه سمة غالبة فاحتط لنفسك بمصحف تقرأ فيه ، أو بأمر تكتبه ، أو بكتاب تلخصه ، أو بمهاتفة أو مكالمة تنجزها ...
وثق تماماً أن كثير من المهمات غير الكبيرة لا تحتاج أن تخصص لها وقتاً ، بل يمكن فيما بين هذه الأوقات أن تنهيها .
ثالثاً : الأسس الإحصائية
الحساب نعمة
معرفة الحساب - أيها الأخوة – نعمة ، فنحن عندما لا نحسب نظن أننا نرتاح وأننا نحقق نعمة أو نحقق فائدة . كلا ! بعض الناس يقول لك: يا أخي لا تحسب ، وتحمل هم اتركها لله ... كيف ؟ والحساب نعمة من الله - عز وجل - علمنا وذكر لنا في الآيات حساب دقيق في كثير من الأوقات ، وبين لنا مواقيت الشهور والأيام والأعوام ، وذكر في القرآن الساعة ، وذكر اليوم وذكر الشهر وذكر العام .. كل هذا لماذا ؟ لأنه ينبغي أن نعرف أن هذا الحساب نعمة من الله - سبحانه وتعالى - فإذن الإحصاء والحساب نعمة ، لا بد أن نأخذ بها ، سأقول نقاط هكذا رأيت أن أختم ..
وأظنها معلومة بديهية لأن خمسة + خمسة = عشرة . فالجمع إضافة ، لكنني أريد أن أقول : إنك إن جمعت الأوقات مثلاً الفارغة ثم أضفتها إلى بعضها وجدت وقتاً كبيراً مثمراً ، وبعض الناس مثلاً يقول: أنا عندي في بعض الأوقات هنا ربع ساعة ، انتظرت فلم يأت أحد ، وهنا ربع ساعة كم سوف يجمع من هذا ؟ ساعة أو ساعتين ! وهو يريد أن يقرأ جزء من القرآن في كل يوم يقول لا أجد الوقت لو جمع هذه الأوقات لزاد عما يريد أن ينجزه لزاد الوقت عن المهمة التي يريد إنجازها فلذلك أقول لا بد في العمل على البرمجة من الحساب والجمع .
وسيقول أيضاً : وهو أن الضرب مضاعفة ، بعض الناس لا يحسب الحساب إلا في الوقت القصير لكن لو استخدم الضرب يأتيه وقت كثير ، وكنت قد ذكرت لكم مرة إحصائية عندما نقولها بعد الضرب تكون ضخمة وهائلة الذي أذكره الآن نشرت قديماً عن الوقت الذي يقضى في حلاقة الذقن يومياً للذين يصنعون ذلك يومياً كم يأخذ في كل يوم ؟ قالوا أنه في العام يقضي 14 يوم ! تخيلوا واحد 14 يوم يحلق غريب !! لكن نحن نقول بالمضاعفة أحسب ربع ساعة في اليوم ،اضربها في سبعة أيام سوف يكون هذا المجموع كذا ، اضربها في ثلاثين مثلاً سيعطيك في الشهر، اضرب الأشهر في 12 في السنة ، اضرب في عدة سنوات سوف تجد أن الرقم في الأخير شيء مذهل، وهو خطير .(229/8)
أيضاً في المقابل النقطة التي بعدها : القسمة تجزئة ، نقول له اقرأ كتاب كذا و500 صفحة ، قسمها على 500 يوم كل يوم صفحة ، القسمة أيضاً تقسم لك الأعمال ، وتجزئها لماذا ننظر دائماً إلى العمل بحجمه الكبير ، الذي يريد أن يحفظ القرآن يقول 30 جزء نقول خذه في 30 سنة أليس منا من كان عمره 20 سنة ، وتمنى أن يحفظ القرآن ، وصار عمرة 60 أو 70 سنة ولم يحفظ شيئاً منه ، لماذا ؟ لأنه كل مرة يقول القرآن ثلاثين جزءاً طيب.. والزمن كيف هو ؟ أليس هو أيضاً كبير القسمة ؟ وهذا يدلنا على أننا في الحساب وفي الجدولة نستطيع أن نصنع في هذا شيئاً كثيراً ، نستفيد فائدة لطيفة ولذلك كما قلت في كثير من الأوقات جزئ الأعمال الكبيرة على الأوقات العديدة ، سوف تستطيع أن تؤدي شيئاً ضخماً هائلاً بإنجاز لا يتصور من غير هذه البرمجة . كما قلت دائماً أقول لمن يريد أن يقرأ ، قل لي كم صفحة تريد أن تقرأ في اليوم وقل الحد الأدنى في ذلك ماذا سيختار ؟ ليختر أحد أي واحد يختار كم يقول 5 صفحات ! 10 صفحات .. 5 صفحات كثير أو قليل ؟ طيب بعض الناس طبعاً سيقول يا أخي قليلة 5 صفحات يعني خمس صفحات يعني تريد على الأقل 5 صفحات تظنني طفل صغير لا نقول لو 5 صفحات فقط في الشهر كم صفحة ؟ 1800 صفحة ، لو قلت لك الآن اقرأ 1800 صفحة ، وجئتك بكتاب ثلاث مجلدات سوف يوضع على طاولتك أو في مكتبتك ولن تقرأ منه في العام كله ولا 18 صفحة .
الضرب مضاعفة والقسمة تجزئة وأخيراً : الطرح احتياط ، ومعنى ذلك عندما تحسب الأوقات لا تحسبها بالدقة ، لأن هناك أشياء تفرض عليك احسب دائماً خصومات احتياطية ، وأوقات إضافية وخصم الأمور الجانبية حتى لا تصاب بخلل في الحساب والإحصاء ، فتقول قدرت أن أحفظ في اليوم كذا أو أن أقرأ في اليوم كذا ، ثم اختلطت الحسبة واضطربت الأرقام عندي ، لا دائماً اجعل هناك شيئاً مخصوماً ، قل قدرت كذا مثلاً كما قلنا 1800 صفحة اخصم 300 صفحة على الحساب احتياط خليها 1500 صفحة سوف يكون ذلك أيضاً إنجاز جيد .
رابعاً :الأسس الإدارية
1- الأهداف الواضحة
لا يمكن أن يكون عندك برنامج عملي بدون أهداف واضحة ، أكثر مبددات الأوقات الافتقار إلى الأهداف لماذا ؟ لأن الإنسان متى يعمل برنامج إذا كان يريد أن ينجز شيئاً معيناً ، يريد أن يقرأ كتاباً ، يريد أن يحضر لاختبار ، يريد أن يحصل على شهادة ، فإذا كان عنده هدف أصبح عنده مهمة ، وبالتالي يحتاج إلى أن يبرمج العمل ، لكن إذا ما كان هناك شيء من هذا فإنه تمر الأوقات دون أن يكون هناك أي شيء يحتاج إليه ، وهذه قضية مهمة وأساسية ، ولذلك لا نريد أن نخوض فيما يفصله الإداريون ، لكن الأهداف مهمة جداً وتحديدها هو أول وأهم الخطوات وأكثرها استحقاقاً أو استجلاباً للنجاح بإذن الله - عز وجل - .
طبعاً هناك أهداف قريبة ، وهناك أهداف بعيدة ، وهناك كما يسمونها أهداف تكتيكية - يعني مرحلية - وأهداف استراتيجية - يعني التي تمتد طول الحياة - ولا بد هنا من أمور كثيرة : منها أن تكتشف ميولك ومواهبك في أي مجال ، لأن الإنسان إذا لم يحاول أن يصنع ذلك سوف يضع أهدافاً بعيدة ، مثلاً كرجل أعور أو ضعيف البصر أعمش ويريد هدفه أن يكون مثلاً خبيراً في البكتيريا والكائنات الدقيقة لا يتناسب مع طاقاته لأنه لا بد أن يعرف نفسه أين هو وما هي ملكاته حتى لا يضع أهدافاً تتعارض مع ملكاته ، أو مع واقع البيئة المحيطة وهي مهمة أيضاً في تحديد الأهداف ، فقد يحدد أهدافاً ليست في بيئته أبداً ، ليست موجودة وليس هناك إمكانية لتحقيقها ، لا بد أن تكون الأهداف قابلة للتحقيق وهذا أمر كما قلت يطول أمده .
2- أولويات مرتبة
لأن الأهداف قد تكون كبيرة ، تحتاج بعدها إلى تحديد المهمات وترتيبها . مثلاً أنت تريد أن تطلب العلم الشرعي ، هذا هدف لكن هناك أولويات ، وهناك مهمات أخرى عندك أيضاً تريد أن تطلب العلم الشرعي ، وتريد أن تتوظف وتعمل ، وتريد أن تتزوج ، وتريد أن تعبد الله - عز وجل - كثيرة هي الأمور .. أيها أولى وأهم كم تريد أن تجعل حصة من الوقت ؟ لهذا نصف الوقت ، ولهذا ربع الوقت، ولهذا ثلث الوقت ، كيف تريد أن تبرمج هذا وترتبه ؟ نعم هناك أهداف كثيرة يمكن أن تعرض لك في كل الأوقات لكن إذا لم تحددها فإن هذا الأمر يختلط عليك ومرة تبدأ بهذه المهمة ثم ترى أنك أضعت فيها وقتاً وعندك شيء أهم فتبدأ به فتقطع الأولى وتبدأ في الثانية فلا تكاد تنجز هنا شيئاً ولا هناك أيضاً شيئاً آخر .
3- مواعيد محددة(229/9)
كل مهمة هدف حددته ثم وضعت المهمات وأولوياتها مرتبة ، لا بد أن تجعل لكل مهمة موعد محدد ، لا تقل أنا أريد أن أحفظ القرآن ، طيب ممتاز .. وحفظ القرآن عندي أهم الأولويات ، طيب نعم جيد لكنني أقول لك: متى ستنتهي من ذلك ؟ هل ستحفظ القرآن وتجعل آخر آية تحفظها قبل آخر نفس في حياتك ؟ متى تعرف متى تنتهي حياتك ؟ أريد أن أقرأ عشرة كتب ، أو أريد أن أقرأ في فن علوم الحديث ، طيب كم كتاباً ستقرأ ؟ حدد عشرة في كم ؟ في عشرة أشهر لأن هذا هو الذي يجعلك صاحب برنامج ، وإلا ستبقى صاحب دعاوى وأمنيات ليس لها خطاب ولا زمام كما يقال وهذا ينبهنا إلى هذه المعاني كلها ونحتاج إليها .
4- شخصية منظمة
وهو مهم جداً لا بد أن تكون صاحب شخصية تنظم طبيعة حياتك ، أنك إنسان تضع كل شيء في مكانه فإن بحثت عنه وجدته ، ولا تخلط بين الأمور فتستطيع أن تؤدي المطلوب هناك شخصيات مختلفة لا تتسق مع البرمجة ، لأن طبيعتها فيها نوع من التغير من هذه الشخصيات مثلاً الإنسان المتسرع الذي دائماً يتخذ قراراً سريعاً ويبدأ في العمل دون تفكير ، فماذا يحصل له غالباً يكون عنده خلل ومن طبيعة هؤلاء الأشخاص أنهم لا يعملون الأعمال إلا عندما تتأزم الأمور ، وأحياناً يكونون من الأشخاص الذين يتأثرون عاطفياً ، فلأن فلان هو الذي سيعمل كذا فهم يدخلون في هذا العمل ، أو لأن فلان هو الذي سيلقي الدرس إذن لا بد أن يكون هذا الدرس ممتعاً ومفيداً ونافعاً ، وإن كان هو ليس في مجاله وليس مما يحبه أو مما يقدر عليه وهكذا الإنسان أيضاً المشتت الذي دائماً عنده عدم قدرة على التركيز في شيء واحد يترك الواجبات والأعمال وهي غير منجزة ، يصنع شيء وباقي شيء يتركه يترك الشيء في منتصفه ، وأيضاً هناك الإنسان المتردد ، الذي دائماً لا يكاد يعزم على شيء يبدأ ثم يتردد .
كل هذه الشخصيات لا تنفع ، ولذلك نقول الشخصية المنظمة تساعد - مثلاً على سبيل المثال - السفر حالة من حالات الإنسان ، تعرض له خذ فرقاً أو نموذجاً بين إنسان منظم شخصيته منظمة وآخر ليس كذلك . المنظم يكون قد حجز الرحلة مبكراً وعرف وقته وتهيأ قبله لماذا سيسافر ؟ سيسافر للقاء أشخاص في عمله ، يكون قد اتصل بهم وأعد معهم البرنامج ، ماذا سيصنع يريد أن يبحث معهم مهمة معينة ، سيأخذ الأوراق معه لكن غيره ماذا سيصنع ؟ ستجده لم يحجز وجاء في وقت متأخر وليس هناك مكان ، ثم أخذ المكان ووجد الرحلة على عجل ، ثم لم يتصل بهم بل ذهب إليهم ، يذهب إلى البلد فلا يجد الذين يريد أن يقابلهم ، قد يكونون مشغولين أو مسافرين أو ذهب إليهم ووجدهم ولم يكن معه ما يريد أن يتناقش معهم لأجله ، فتجده دائماً في حيرة واضطراب ، ويعني عنده كثير من التشويش الذي يعيقه عن إنجاز أعماله بشكل منظم وواضح في الوقت نفسه .
أيضاً هناك وسائل مساعدة . ونعني بهذه الوسائل المساعدة أن الإنسان لا بد أن يأخذ بالكتابة بالذات ، وبالإحصاء الذي قلنا فيه وأن يضع أموره واضحة أمامه .
ومن الوسائل المساعدة الاستفادة من خبرات الآخرين دون أن يكون مقلداً لهم ، لأن كل إنسان في آخر الأمر هو شخص بذاته ، ليس بالضرورة أن يكون نسخة من غيره . ومن الوسائل المساعدة - كما قلنا - منع الصوارف التي تعيق عن العمل ، وأيضاً منها القدرة على الاستعانة بالآخرين لإنجاز المهمات أو لإنجاز الأعمال غير المهمة ، وهذه مسألة مهمة ليس بالضرورة أن تصنع كل شيء بنفسك ، إن كان عندك أبناء أو أصدقاء أو هناك موظفين أو إنسان يمكن أن يساهم معك في عمل ما فيقضي عنك حاجة معينة وهو غير منتدب لأمور عظيمة ، فتستطيع أن تنجز من هذا وتستفيد به بإذن الله - عز وجل - .
تشييد وتهديد
أخيراً أحب أن أشير إلى نقطتين أجمل بهما البرنامج الذي نريده ، أو كيف يكون هذا البرنامج الذي نعده لأي أمر ناجح . جعلت ذلك تحت عنوان " تشييد وتهديد " ، تشييد البرنامج أو التهديد الذي يعترضه .
وهو أيضاً في نقاط واحدة وواضحة تشمل كثيراً مما ذكرناه من هذه الأسس مجتمعة .
أولاً : تحديد الهدف
لأي أمر وعمل لا بد أن يكون له هدف .
ثانياً : تحديد الإنجاز
يعني الكم الذي تريده في هذا ، الأمر كما قلت تقول هدفي أن أزيد من إطلاعي وقراءتي كم تريد ؟ عشرة كتب.. خمسة كتب .. إلى آخره .
ثالثاً : تحديد الزمن
زمن محدد لهذه الأعمال ، في شهر في أسبوع في ساعات معينة وتكتب ذلك .
رابعاً : اعتماد الإحصاء
حتى تقول : هذه المهمة تحتاج إلى 50 ساعة متى سآخذها ليس عندي من أوقاتي الآن متاح إلا ثلاث ساعات في الأسبوع ، إذن سوف أحسب وأوزع بناءً على هذا الإحصاء ، والتقسيم المناسب .
خامساً : دراسة الوسائل(229/10)
هل سأصنع هذا بنفسي ؟ هل أريد أن أقرأ بنفسي ؟ أم أريد أن أسمع أشرطة مقروءة مسموعة ؟ هل أريد أن أصنع هذا وحدي أو سأكون مشاركاً مع غيري ؟ هل أريد أن أحفظ القرآن منفرداً أو سأذهب إلى حلقة المسجد ؟ هل أستطيع أن أفهم هذا الكتاب وحدي أم أنني أحتاج إلى مدرس يدرسني هل أريد هذا مباشرة أو أني سأحتاج فيه إلى تصوير أوراق أو إلى إعداد أشياء معينة حتى لا تقول أريد أن أنفذ شيء وليس هناك الوسيلة التي تستعين بها .
سادساً : إعداد الجداول
يعني جمع هذا كله ، ما هي المهمة والزمن والإحصاء والوسائل ؟ وجعلها في الجدول لأن هذا الجدول ، هو الذي يساعدك على أن تحدد التحديد الدقيق إلى النهاية وأن يكون هذا الجدول إما أمامك أو في جيبك أو في جهاز الحاسوب عندك ، حتى تستطيع باستمرار أن تراه وأن تنظر إليه .
سابعاً : تحديد آلية المتابعة
ولتكن في الجدول إشارة أو خانة هل أنجز ؟ فتضع إشارة "صح " أو لم ينجز فتضع إشارة "خطأ" وهكذا.. حتى تستطيع أن تقوّم هذا العمل ومدى الإنجاز الذي فيه .
ثامناً : الحلول البديلة
بمعنى أنك إذا كنت قد حددت وقتاً بعد الفجر- مثلاً- ثم اتفق ذلك اليوم أن كان هناك صلاة جنازة لإنسان جار أو قريب تريد أن تشهدها فلن يكن هذا الوقت موجوداً إذن لا بد أن يكون لديك باستمرار بدائل معينة ، موجودة بالذهن أو موجودة مكتوبة في نفس هذا البرنامج حتى تستطيع باستمرار أن لا تضيع الفرصة في الإنجاز .
تاسعاً : المكافأة والعقاب
كافئ نفسك إذا أنجزت ، وعاقبها إذا أخلفت كيف تكافئها ؟ لن تعطي نفسك أموالاً لكن كافأ نفسك بالتشجيع كافأ نفسك بأن تعطي لنفسك مع كل إنجاز فرصة من الفرص النفسية التي تشجع فيها نفسك وتقول – مثلاً- إذا كنت تريد أن ترتاح راحة من النوع الذي قلناه ، فتقول إذا قطعت نصف أو حفظت نصف القرآن فسوف أصنع كذا وكذا لنفسي أو سوف يعني أقوم بهذه المهمة أ وهذا العمل أو أرتاح بطريقة ما ، والعقاب مهم جداً ، وأهم أنواع العقاب، العقاب بمضاعفة التكليف ، فما فات في اليوم يعوض في اليوم الذي يليه فيكون اليوم الذي يليه فيه ضعفي ما في اليوم الذي قبله ، و العقاب هذه قضية مهمة لأننا في كل مرة نبدأ وكثيرة هي الوعود التي قطعناها على أنفسنا والبرامج التي وضعناها في أذهاننا وبدأناها ثم كل خلل أو كل تقصير لا يكون له عقاب ، إذا تأخرت عن دوامك في العمل ألا تعاقب ألا يخصم منك أم يقولوا لك لا بأس في كل يوم لا بأس لا لابد أن يكون هناك عقاب وهذا العقاب هو الذي يجعلك تلتزم أو يدفعك إلى هذا الالتزام ويكون معيناً لك فيه .
عاشراً : الاقتباس مع التفرد
اقتبس من خبرات الآخرين وتجاربهم وجداولهم وكيف حققوا هذا الإنجاز ؟ وكيف أدوا هذه المهمة ؟ وكيف استطاع هذا أن يحصل العلم ؟ وكيف استطاع هذا أن يتفوق في الكسب ؟ وكيف؟ وكيف ؟ دون أن تذوب في شخصياتهم فإن هذا يعينك على إعداد برامج جيدة .
أما التهديد
أولاً : التسويف والتأجيل
وهذا أخطر الأمراض وكما يقول القائلون في هذا - على سبيل الدعابة – "إذا زرعت لو في وادي عسى ينبت يا ليت " كلها كلمات في التأجيل والتسويف ليس لها معنى ، لذلك هنا قائمة تجيب على هذا السؤال لماذا تؤجل وتسوّف ؟ خذ هذه الإجابات وسوف تجد أنها تنطبق كثيراً على واقع حياتنا ، أؤجل المهام التي لا أرتاح لها ولا أحب أدائها وهذا كثيراً ما يحصل للطالب يريد أن يذاكر فيقول :ليس اليوم غداً إن شاء الله . لماذا؟ لأن المذاكرة عنده غير محببة . الميل إلى التردد والرغبة في أن نكون دائماً على صواب ودون أخطاء " لا أريد أن أفعل هذا لا حتى أراجع أو حتى أستعد حتى كذا " ثم لا يراجع ، ولا يستعد ، ولا ينجز العمل لا بصواب ولا بخطأ ! عدم الثقة بالنفس والذات ، عدم الرغبة في الشعور بالفشل يقول أنا إذا بدأت سوف لن أنجح، وبذلك سأفشل ، وبذلك سوف يصيبني الإحباط ، وهذا كما يقولون يعني أغلق الباب قبل أن يدخل مباشرة الخوف من المجهول ومن الأخطاء التي يرتكبها كثير من الناس أنهم يؤجلون لأنه الواحد منهم لا يريد أن يخطئ ، وليس هناك أحد منزه عن الخطأ ولا يخطئ إلا من عمل ، أما الذي لا يعمل لا يخطئ ، لأنه لم يكن هناك عمل أصلاً ، وأيضاً عدم القدرة على الرفض - كما قلنا - عدم اللباقة في الاعتذار يريد أن يقرأ جاءته دعوة ، يريد أن يعاود القراءة جاءه اتصال هاتفي ، يريد أن يصنع جاءه زائر... وهو لا يقول لا كما يقولون .
وهكذا لكن كيف نعالج ذلك ؟ كيف نتوقف عن التأجيل والتسويف ؟ .
العلاج
1- عالج نفسك
فإن هذا التسويف إذا كان كثيراً فهو مرض نفسي يحتاج إلى العلاج بنوع من التدرب على العمل والإنجاز .
2- تيقن أن التأجيل ليس حلاً لأي مشكلة ، ولا علاج لأي قضية
لأن القضية التي أمامك هي الاختبار لو أجلت المذاكرة اليوم فالاختبار قائم ، لو أجلت إلى بعد غد الاختبار موجود ، لن تستطيع أن تفتك منه ، فالتأجيل لن يحل المشكلة بل سيعقدها .(229/11)
3- قم بتفتيت المهمات والمشكلات الكبيرة إلى أجزاء صغيرة
كما قلنا : القسمة تجزئة تساعدك على ألا تؤجل ، خذ قليلاً ثم واصل إلى الكثير ، نفذ أول مهمة وأنهها حتى تشعر بأنك أنجزت شيئاً ، إذا أردت أن تقرأ خذ كتاباً من 20 صفحة وقل أنهيت كتاباً ، يشجعك هذا على ما ورائه لا تؤجل عاقب نفسك إذا لم تنجز المهمة ابدأ بأصعب جزء في المهمة ، حتى إذا حققت فيه نجاحاً شعرت أن ما وراءه سيكون أسهل ، وهكذا أعد النظر في الأجواء التي تحقق فيها الأعمال مثلاً أنت تريد أن تذاكر وأنت مثلاً في مكان هناك أو في العمل مكان الشاي وكذا ، فكل دقيقة تذهب وتؤجل ، لا حاول أن تغير البيئة التي تحقق فيها عملك ، بما لا يدعوك إلى التسويف والتأجيل ، وما يمنع عنك هذه الجوانب المهمة التي كما قلنا فيها قد تطرأ لك في حياتك .
ثانياً : التردد والتخوف هو سبب أيضاً كبير من أسباب فشل البرامج التي يقوم بها الناس .
ثالثاً : المقارنات الماضية
كثيراً ما يريد أن يصنع شيئاً ويبدأ في برنامج يقول قد فعلت قبل ذلك عشرات من البرامج كلها فشلت طيب هل معنى ذلك أننا سنضيف فشلاً إلى الفشل السابق ، أم أننا نريد أن نغير الفشل إلى نجاح جديد ، أو إلى نجاح مبدئي نبدأ به لا ينبغي أن يكون الإنسان دائماً أسيراً لماضيه ، لأن الماضي ينبغي أن تأخذ منه زاداً وتجربة للمستقبل ، وليس أن يكون هو عائقاً ومثبطاً عن المستقبل .
رابعاً : الهزيمة السريعة
بعض الناس يبدأ في أول يوم من برنامجه الجديد قال : أريد أن أبدأ بعد الفجر ، أول يوم بعد الفجر أصابه نعاس قليل ، إذن لا يمكن صعب جداً سوف أترك هذا البرنامج أو بدأ يقرأ قال القراءة مملة ومرهقة للذهن إذن سأترك ...
الهزيمة السريعة هذه هي أهم أسباب الفشل لا تستسلم كن مقاوماً ، كن جندياً شجاعاً، اثبت في مكانك ورابط ، ما هي إلا جولة أو جولتين أو ثلاث ثم ستجد أنك استطعت أن تتجاوز كل هذه الأمور الحسية والنفسية ، لأن كثير منها نفسي وليس حسي ، دائماً يقول بعض الناس أنا أشعر بالإرهاق وكذا ويقول هذا لنفسه كثيراً حتى يصدق نفسه وهو ليس مرهقاً ولو أنه اضطر الآن في ظرف طارئ أن يقوم بعمل يعني مرهق فإنه سيعمل هذا العمل ويكتشف بعد أن ينجزه أنه كان مرهقاً قبله كيف استطاع أن يصنع كثير من هذه الأمور؟ هذه أمور نفسية .
خامساً: المجاملات المضيعة للأوقات
وهذه أكبر مدمر ومهدد لأي برنامج تريد أن تقوم بها.
أخيراً : ومضات سريعة على الناحية العملية
- حاول أن تعتمد على الكتابة .
- ضع قوائم للأشياء التي تريد إنجازها .
- استخدم الساعة الهادئة ، لكي تحدد المطلوب في ضوء وهدوء وسكينة .
- لا تحاول أن تكتب في الأوقات التي تكون مشغولاً فيها .
- في وقت السكينة حدد ما تريد ، اجمع المهام المتشابهة معاً ،حتى لا تضيع الوقت لو كانت مهمة مشابهة لأخرى فاجعلهما في وقت واحد لأنك تستطيع أن تصنعهما في الوقت نفسه أيضاً .
- حدد المواقع والأماكن والبيئات ، بدل من أن تذهب لمكان تدرس مثلاً أو أن تأخذ درساً في المسجد ثم بجواره مكان تريد أن تصنع فيه مهمة ولكنك لم تضعها في هذا الوقت وبعد أن ترجع إلى بيتك تريد أن ترجع مرة أخرى لزيارة هذا الصديق حتى التقسيم الجغرافي يعينك على هذا .
- حاول أن تنظم الأوقات وتنظم الأوراق وتنظم الأشياء التي تحتاجها باستمرار ودائماً .
- احرص على استحضار النية الصالحة والإخلاص لله عز وجل .
- ثم احرص كذلك على دوام الدعاء لله- سبحانه وتعالى - بالبركة في الأوقات والمهمات(229/12)
الأسهم حديث الساعة
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
اسمحوا بي أن أنتقل بكم أو أنتقل معكم إلى مجلس من مجالس رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، يروي لنا خبره وقصته الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، كما جاء في صحيح البخاري ، عن أبي سعيد أنه قال: جلس النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله، قال: فقال صلى الله عليه وسلم: ( إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ) ، فقام رجل فقال: يا رسول الله وهل يأتي الخير بالشر ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ضرب مثلاً ثم قال: ( إن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل - قال الراوي أو كما قال صلى الله عليه وسلم- وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيدا عليه يوم القيامة ) .
مجلسٌ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد الخلق يتحلّق حوله وأمامه أصحابه، قلبه الرحيم شفقته على أمته أنطقته بقوله: ( إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ) .
الصحابة يتعلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيسأل أحدهم متعجباً مستفسراً : كيف تكون الدنيا وزهرتها والخير والمال شيء يخشى منه ! قال: " يا رسول الله هل يأتي الخير بالشر ؟ " ، فسكت النبي - حتى يلفت أنظار الناس - ثم ضرب مثلاً طويلاً في شأن الدابة والإبل عندما تأكل ثم تجتر ثم تستقبل الشمس إلى غير ذلك، ثم بين إن هذا المال خضرة حلوة، نفس تحبه تتعلق به، تشتاق إليه، تحرص عليه، تفكر فيه، تجتهد في جمعه، تسهر الليل في تحصيله، تشقى النهار لأجله، تكاد في بعض الأحيان أن تنقطع له، ولا يكون لها هم سواه، كما وصف سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في صورة أخرى عندما قال: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)
لِمَ سمّاه عبدا للدينار أو عبدا للدرهم أو عبد للخميصة أو عبدا للخميلة كما ورد في الحديث، لأنه إذا كان القلب معلقا به والفكر منشغلا فيه والجهد مبذولا له والوقت مستغرقا لأجله، فأي شيء بقي ؟
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقة عظيمة، قال : ( ومن يأخذه بغير حقه يكون كمن يأكل ولا يشبع ويكون شهيدا عليه يوم القيامة ) .
من كان همه الجمع والحرص والحب والاستكثار من غير نظر إلى حلال أو حرام، من غير نظر إلى حق الله في المال، من غير نظر إلى أمور كثيرة، سنجثو جميعاً على ركبنا لنتعلمها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كمن يأكل ولا يشبع، صورة غير موجودة في الواقع المحسوس، من أكل امتلأت بطنه وشبع، لكن البطن التي لا تمتلئ هي البطن التي تريد أن تأخذ أو تأكل كل شيء من حل وحرمة، {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} .
تأملوا هذا الحديث، هذه القصة البسيطة، وانتقلوا معي إلى حديث صحيح آخر، يصف فيه النبي صلى الله عليه وسلم طبيعة النفس البشرية وصفاً دقيقاً، وهو وصف يتضمن توجيهاً وتنبيهاً وتعليماً وتربية وتذكيراً, روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حبه المال، وطول العمر ) .
وفي رواية مسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان : حب الحرص على المال والحرص على العمر ) .
السن يتقدم الجسم يضعف، لكن الشباب مستمر ومتجدد في حب المال وحب الحياة، وفي رواية من حديث أبي هريرة عند مسلم في صحيحه قال: ( يشب الشيخ على حب اثنتين: طول الحياة وحب المال ) .
فهذه أيضاً صورة وصفية دقيقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنتقل إلى صورة أخرى لأني أريد أن أريكم صورا أحسب أنها اليوم في واقعنا كأنما هي ضرب من الخيال، لو أن أحداً جمع الناس كجمع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم بذلك الحديث الذي أوردناه لعجبوا منه عن أي شيء تتحدث؟! هل تريد أن تخيفنا من الدنيا وزهرتها ونعيمها ؟ لا داعي لذلك التخويف، نحن نأخذ المال نحن ننفقه نحن نعرف حق الله، فهل كان أصحاب محمد لا يعرفون ذلك؟ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم ويعلم الأمة ؛ لأن المزالق كثيرة وما رأينا زيغاً وانحرافاً في كثير من الجوانب إلا ومرده ذلك المرتع الوخيم، الذي يبدأ يسيرا ثم يعظم في التعلق بالمال وحبه.(230/1)
أنتقل بكم إلى قصة أخرى، أعلم أنكم لو سمعتموها كقصة وليست حديثا لضحكتم وتندرتم من قائلها وقلتم له قصص عجيبة وغريبة، لكن القصة مروية في صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قص النبي صلى الله عليه وسلم فيها عن رجل من بني إسرائيل جاء إلى أخ له فستقرضه دينا فأعطاه ألف دينار، فقال له: ائتني بالشهود، فقال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، قال: فمضى صاحبه فركب البحر، فلما آن الأوان لسداد المال، لم يجد مركبا يركب فيه، وحار في أمره، ولم يرد أن يتخلف عن أمر أشهد الله فيه وجعل الله كفيله فيه، فأخذ خشبة فنخر فيها، فوضع فيها المال ومعه ورقة، ثم قذف بها في البحر، فجاء صاحبه من الجهة الأخرى فوجد الخشبة فأخذها حطبا لأهله، فلما مضى إلى بيته نشرها فوجد فيها المال فأخذها، ثم من بعد ذلك جاء المقترض وجاء بماله مرة أخرى، وقال: ما أخرني عنك إلا أني لم أجد مركبا، فقال له: هل بعثت شيئا قال: أقول إني: لم أجد مركباً، إلا يومي هذا، قال: فهل وضعت مالا في الخشبة، قال: نعم، قال: فقد أدى الله عنك .
قصة عجيبة خرافية عند من لا يؤمنون بخبر الأنبياء، قصة ربما للتلهي أو لتلهية الناس عن أمور أخرى، لما أوردها هنا لنقول إن من يتعامل في دنياه وفي تجارته وماله مع الله وبمراقبة الله، تكون أموره مختلفة، وأحواله على غير الأمور التي يعرفها الناس وينسجون حولها أو يتعاطونها، ولو قلنا لأحد اليوم افعل مثل هذا، لقال: وهل تراني مجنونا حتى أضع مالا في خشبة أو أقذف به في البحر، أو أي صورة من الصور الأخرى التي قد تكون مماثلة، لماذا؟ لأنه قد ضعف اليقين في القلوب والإيمان في النفوس، وصار الاعتماد على المادة والأمور المحسوسة أعظم من الاعتماد أو الظن واليقين في الأمور الغيبية التي يجري بها قدر الله عز وجل الذي هو يقدر الأقدار ويصرف الأكوان سبحانه وتعالى.
ثم أمضي بكم أيضا إلى صورة ثالثة ذكرها أيضا البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري، قال: كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من الأعراب راكبا يلتفت يمينا ويسارا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له –يعني من كان عنده دابة يركبها زائدة فليعطها غيره ممن ليس عنده دابة- ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا شيء له ) قال أبو سعيد: فذكر من المال ما شاء الله أن يذكر -يعني عدد من كان له فضل مال من كان له فضل لباس من كان له فضل طعام- قال: حتى رأينا أن لا حق لأحد منا في فضل)
يعني كأن ما زاد عن حاجتك أخرجه لغيرك ممن يحتاجه .
ومرة أخرى نركب الصور ونجمعها، كيف نتخلص أو نحذر مما خوفنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه التوكل على الله الذي جعل الرجل يقذف بماله في ماء البحر، وإنه النظر إلى الإنفاق في سبيل الله لئلا تتشبث به النفس ويتعلق به القلب، ويصبح هو الهم الأعظم الأكبر، ويتحقق الوصف الرباني الذي هو في طبيعة الإنسان، إن لم يهذبه الإيمان، كما قال سبحانه وتعالى: {وإنه لحب الخير لشديد}
قال أهل التفسير: الخير هنا هو المال، وإنه لحب الخير أي المال، {لشديد} حبه شديد للمال، قال ابن كثير: "في الآية معنيان إنه أي الإنسان حبه للمال شديد أي عظيم، أو المقصود بشديد، أنه بخيل، أي أن حبه للمال جعله شديدا حريصا بخيلا، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الوصف العجيب الذي أخبر فيه عن طبيعة النفس التي فيها جود وبذل وسخاء وعطاء وطبيعة النفس التي فيها قبض وبخل وشح، عندما أخبر أنه مثل بالرجل الذي يلبس حلة من حديد، قال: فإذا أنفق أسبغت عليه ووفرت، وعفت أثره - أي محت ذنوبه من بعده - وإلا - أي البخيل- ضاقت عليه حتى ضاقت على ترقوته كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم"
وقد أخبرنا : ( اللهم أعط منفقا خلفا، اللهم أعط ممسكا تلفا ) .
تلك صورة قرآنية وضحها الحق سبحانه وتعالى، ولو أردنا أن نفقه كيف نعالج الأمر فلنتمم الآية التي بعدها {وإنه لحب الخير لشديد * أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور} .
إلى أين سيمضي بك حب المال ؟ هل ستبقى مخلدا في الدنيا ؟ ألا تعلم ألا توقن ألا تتذكر بأن الحال سيؤول إلى موت وقبر وحفرة مظلمة ليس فيها طول ولا عرض إلا بقدر ذلك الجثمان { أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور } .
يوم يقف المرء بين يدي الله عز وجل فيسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، كل ريال لو علمت أنك تسأل عنه : من أين جاء وكيف خرج .. لطال فكرك في تحصيله ، ولأسرعت كثيراً في إنفاقه صور كثيرة مازالت يصورها لنا النبي صلى الله عليه وسلم ..
ولعل بعضكم الآن يسأل لم نورد هذه الصور المتكاثرة، وسأزيد من هذه الصور والأحاديث والآيات وأجعل علتها من بعد.(230/2)
في الصحيح أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ من المال أمن حلال أم من حرام)
انظر يميناً انظر يساراً، تذكر بعض من حولك .. تذكر بعض ما رأيت، في ثوان معدودة أجزم أن كلا منكم ستدور في ذهنه عشرات من الأحوال والأعمال والصور التي رأى فيها المال ينهب من حرام وصاحبه مطمئن القلب باسم الثغر كأنه لا شيء من الخطر عليه مطلقاً، كأنه لم يسمع مثل هذا الحديث الذي يذكره النبي على سبيل الإخبار، ولكنه يتضمن الوعيد لأنه قد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به ) .
والله جل وعلا قد أخبرنا فقال : {.. فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } .
صور ليس فيه تحريم لحلال قطعاً، لكن فيها تنبيه وتحذير من أخذ المال من حرمة، أو عدم التورع من شبهة، أو التساهل في أمر كما قال الحسن رحمه الله، قال : " أدركت أقواما كانوا يدعون ما لا بأس فيه مخافة أن يكون فيه بأس، ولقد أصبحت في أقوام يأخذون ما فيه بأس رجاء أن لا يكون فيه بأس " .
مال لا شك في حله يتركونه خوفا من أن يكون فيه شبهة حرام، ومال يغلب الظن على حرمته يؤخذ اليوم ليقال فيه قول أو لعل فيه مخرجا، أو نأخذه ثم نفكر من بعد ما هو حكمه.
وأنتقل بكم أيضا إلى صورة ثالثة أو رابعة، لحكيم بن حزام رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأعطاه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، قال ثم جئت ثانية –أي في وقت آخر- فسألته فأعطاني، قال: ثم جئت ثالثة فسألته فأعطاني، ثم قال: ( يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه ) .
(من أخذه بطيب نفس) نفسه سمحة، جاء المال.. جاء، ذهب.. ذهب، تأخر.. تأخر، ليست معنية به وليست تجعله هو همها الأعظم، وأما من كانت النفس عنده مستشرفة، يبيت ليله ينتظر الصباح الذي يأتيه بالمال، يخطط أحيانا أو يتمسكن أو ربما يكذب أو ربما يحتال، يترقب المال ويستشرف له ويستكثر منه لم يبارك له فيه، وهل تظنون المال بكثرته أم ببركته، كم من أموال كثيرة عند أصحابها محقت بركتها، فكان كثيرها أقل من القليل، وكم من قليل مبارك نفع الله به حتى فاض مع قلته، هذا هو اليقين الإيماني، هذا هو الذي جعل محمداً صلى الله عليه وسلم وهو خير الخلق الذي نزل عليه ملك الجبال يقول : ( لو شئت أن أقلب لك الصفا والمروة ذهبا لفعلت، فيقول: لا ولكن أجوع يوما وأشبع يوما ) .
هذا الذي جعل سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يموت ودرعه مرهونة عند يهودي، هذا الذي جعله عليه الصلاة والسلام يصلي ثم يسرع في صلاته ثم ينفتل فيخرج إلى بيته ثم يرجع من بعد فيتعجب أصحابه فيقول: ( ذكرت شيئا من تبر فخشيت أن يحبسني فأنفقته في سبيل الله ) .
كان المال يأتي يمر فيخرج ليس هناك تعلق قلبي ولا انشغال فكري ولا هم ولا غم ولا ترقب ولا تحسب ولا حزن ولا بكاء ولا مرض ؛ لأن القلوب معلقة بما هو أسمى وأعظم، لأن اليقين والتوكل على من هو أكبر وأجل وأعز وأعظم سبحانه وتعالى، من عنده خزائن السماوات والأرض من إذا قال لشيء كن فيكون، ومع ذلك نتأمل في هذا الحديث، أعطاه ثم أعطاه ثم أعطاه، ثم نبه هذا التنبيه العظيم الذي قال له به، يا حكيم لا تجعل المال شغلا يشغلك في كل وقتلك، فماذا صنع حكيم هذه الكلمات ماذا أثرت فيه، هل بقي على حاله، كلا، قال :
"فما سألت بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من بعده شيئا"، حتى كان عمر في زمانه يعطيه من حقه فيرده ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري في صحيحه أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان صائماً في يوم من الأيام، ثم عند طعام الإفطار جاءوا له بصنفين من الطعام، وعبد الرحمن من أثرياء المسلمين، لكن ثراؤهم كان يختلف، يختلف كثيرا عن أحوال كثير من أثريائنا، لما جيء له في الإفطار بنوعين من الطعام بكى رضي الله عنه، فقالوا: ما يبكيك يا عبد الرحمن، قال: "ذكرت مصعب بن عمير مات يوم أحد لم نجد ما نكفنه به إلا بردة إن غطينا رأسه بدت قدماه، وإن غطينا قدماه بدا رأسه، وأخشى أن نكون قد عجلت لنا طيباتنا" .
كان يخشى أن يكون هذا نعيم الدنيا يحرمه من نعيم الآخرة، أولا يكون له من النعيم قدر عظيم فقد عجل له نعيم في الدنيا كثير، كل نعيم كان في الدنيا، كانوا ينظرون إليه في الآخرة، هل سيحرمهم؟ هل سيمنعهم؟ هل سيكون فيه حرمة تستوجب عقوبتهم ؟
وكلنا يعلم ما روى الترمذي أيضا وأهل التفسير في قوله عز وجل: { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم }(230/3)
يوم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته بسبب شدة الجوع، فلقي أبا بكر، قال: يا أبا بكر ما أخرجك في هذه الساعة، قال: الجوع يا رسول الله، فقال: ما أخرجني إلا الذي أخرجك، ثم مضيا فلقيا عمر الفاروق، ما أخرجك يا عمر، قال: الجوع، فمضى الثلاثة حتى أتوا رجلا من الأنصار، ففرح بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلا شاة فذبحها وطبخها، ثم استعذب الماء وقدمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه فأكلوا وشربوا، فقال عليه الصلاة والسلام: ( والله لتسألن عن نعيم هذا اليوم ) .
كم من نعيم كهذا في كل يوم من أيامنا، ولذا أعيد بكم إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ينبهنا في واقع حالنا اليوم، وهو يتحدث إلينا كأنه بيننا صلى الله عليه وسلم، ويقول –كما ثبت في الحديث الصحيح أيضا عليه الصلاة والسلام من رواية أبي هريرة- (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه) .
وفي رواية مسلم قال: (ممن فضل عليه) .
أي فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه، كم يقول اليوم الناس الحال سيئة .. انظر فلان كم راتبه، انظر فلان ماذا عنده، هلا نظرت إلى من هو دونك، هلا نظرت إلى الصور التي تراها على الشاشات لأهل إفريقيا الذين تصيبهم المجاعة فيموتون ويتساقطون كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف.
كنت بالأمس مع طبيب مختص في جراحة القلب للأطفال، فقال لي بالحرف الواحد: ما كنت أشعر بمعنى قوله عز وجل {أو مسكيناً ذا متربة} حتى ذهبت إلى إفريقيا فرأيت الناس على الأرض يبحثون في التراب طعاما أو يأكلون التراب، أفلا نحمد الله على نعمته، أفلسنا نتنبه إلى هذه المعاني كلها، والله جل وعلا يقول: { وتأكلون التراث أكلا لمّاً * وتحبون المال حباً جمّاً}
والتراث هو الميراث، أو ما خلف من المال .
قال ابن كثير : " أي ما حصل منه من حل أو من حرام "
{وتحبون المال حبّاً جمّاً } ؛ أي شديدا حلاله وحرامه .
وكل هذا الذي نقوله، هو منهج الإسلام، لكنه قطعا ليس فيه تحريم لما أحل الله، ليس فيه تحريم للطيبات ولا للتجارات ! لكنه تهذيب للنفس من التعلق بهذه الدنيا على النحو الذي نراه .. سعار عجيب ، وتعلق غريب، وانشغال تام، وانهيارات عصبية وجلطات دماغية، وسكتات قلبية، لأجل الأسهم إذا صعدت أو نزلت، ولا ننظر إلى أسهم الإيمان صاعدة أو نازلة، ربما تصل إلى أسفل سافلين والناس يضحكون ملء أشداقهم ، وينامون ملء عيونهم .. لكن إن سقطت الأسهم نسبة محدودة في المائة ما ناموا ليلهم، ولا وقفوا نهارهم عن الحركة والدأب، ولا فترت ألسنتهم من الشكوى ولا قلوبهم من الغم والهم، لا حرمة لشيء مما أحل الله .
قال عمرو بن العاص كما روى الإمام أحمد في مسنده: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وهو يتوضأ فقال: اذهب والبس ثيابك وسلاحك ثم ائتني، فأتيته فنظر إلي فقال: إني باعثك على جيش ويسلمك الله وتغنم وأرغب لك في مال صالح، فقال عمرو بن العاص: يا رسول الله ما أسلمت على مال وإنما أسلمت لأكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) .
هكذا هو المنهج المتزن المعتدل .. ذاك لم يكن متعلقا بالمال ، ورسوله صلى الله عليه وسلم يقول خذ من المال ما هو صالح وتكون صالحا تنفقه في مكانه ومحله .
وروى النسائي في سننه كذلك عن عمرو بن تغلب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن من أشراط الساعة أن يفشو المال ويكثر ، وتفشو التجارة ، ويظهر الجهل ويبيع الرجل البيع فيقول لا حتى أستأمر تاجر بني فلان ويبحث عن الرجل الكاتب في الحي العظيم فلا يجد ) .
قال السندي في شرحه في هذا الحديث في قوله: (يفشو المال ويكثر وتفشو التجارة ويظهر الجهل) قال: "أي بسبب اهتمام الناس بأمر الدنيا"
من يطلب العلم اليوم، وإذا عكف عليه عاكف، قالوا مغفل ضيع دنياه، وإذا تفرغ له أحد أو أعطاه شيئا من وقته، أو قل بسببه شيئا من دخله قالوا إنه أحمق يقرأ كتبا ويأخذ علما ما عسى أن ينفعه في المال، ولو حصل على أعلى الشهادات في الشريعة فلن توظفه ولن يدخل سوق العمل، وكأن سوق العمل دخول إلى الجنة، وكأنه ضمان من عذاب الله عز وجل.
قال السندي رحمه الله في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويبيع الرجل البيع فيقول لا حتى أستأمر تاجر بني فلان) قال: " إشارة لبيان كثرة اهتمام الناس بالدنيا وحرصهم على إصلاحها"
وكل يوم نستمع إلى العشرات من خبراء الأسهم والهواتف تشتغل متى نشتري ومتى نبيع، لا تحريم لما أحل الله، لكن المنهج الإيماني يقتضي غير هذا وهذا هو الذي بينته من حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
نسأل الله عز وجل أن يعلّق قلوبنا بطاعته ومرضاته، وأن يعلقها بعبادته وكثرة ذكره وأن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا منتهى أملنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(230/4)
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون :
الأسهم حديث الساعة يتكلم فيها الرجال والنساء، ويتحدث عنها الصغير والكبير، وتتصدر صفحات الصحف والإذاعات والفضائيات والقنوات، عمت قضية الاهتمام بها والتعلق بها كل أحد، والأمر الذي تحدثت عنه قد يراه بعض الناس موعظة في غير محلها، أو تذكيرا بعصر قد سلف ومضى، وهل سنكون كذلك العصر، ولكنني أقول معتقدا وجازما باعتقادي وبما أحسبه صحيحاً، هل يا ترى سنعالج في المنبر أو حتى في أي دائرة خلل السوق ونقومه ونرشد الناس إلى طريقة الصفق في الأسواق، هم بها أخبر مني ومن غيري، لكننا نقول من خلال هذا العرض الموجز انتبهوا معاشر المسلمين ليست الدنيا كل شيء ليس المال كل شيء وأنا متيقن كذلك أن هذه الحركة العظيمة الهائلة بالأموال الكثيرة المتكاثرة فيها كثير من ارتكاب المحرمات والتجاوز في كثير من المعاملات والسؤال الذي يسأل بين خلط ونقاء وغير ذلك، كثير من الناس لا يلقي له بالا ويتجاوز فيه ويأخذ بالأدنى في كل شيء، بل قد غير كل تفكيره في حياته ومع أسرته وربما حتى في شؤونه الخاصة والعامة، حتى جعلها مربوطة بهذا دون أن يكون له التفات حقيقي إلى الأمر الذي خلق له، والغاية التي يعيش لأجلها، والدين الذي ينبغي أن يعتني بها وبأسهمه أن تكون صاعدة لا هابطة، والله عز وجل قد بين لنا ذلك وحذّر منه وبين الحقائق كلها، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد من رواية كعب بن مالك عن أبيه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم أفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) .
تلك صور كثيرة وهي ومضات قليلة، أقول في ختامها:
أولاً: اقدروا الدنيا قدرها واجعلوا لها حظها دون أن تكون هي الأولى والآخرة، دون أن تكون هي التي تسد الأفق فلا ترون غيرها ولا تعرفون سواها ولا تنظرون إلى غيرها، وتلك مصيبة كبرى إذا دخلت إلى القلوب والنفوس والعقول والأفكار والأحاديث والصحف والمجلات نسينا كل شيء .. نسينا كل جرح من جراح المسلمين .. نسينا كل مصيبة من مصائب الأمة .. نسينا كل اعتداء على الدين .. نسينا كل تجاوز على الحرمات .. نسينا كل تقصير في الواجبات، وانشغلنا بالأسهم كأن حياتنا التي خلقنا لأجلها هي هذه الأسهم .
والأمر الثاني: أين التوكل على الله، أين صدق التوكل على الله الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا )
الطيور تخرج من أوكارها مع الفجر بطونها خاوية وتعود في آخر النهار بطونها ممتلئة، لم تأخذ دورات في الأسهم، ولا تعرف الهبوط والصعود ولا غير ذلك.
وأخيراً : أين الرضا بقدر الله ؟ كيف لم تفكر عندما كانت الأرباح تتعاظم والأموال تكثر لم تفكر ولم تسأل ! وعندما جاء الهبوط جاء التذمر وجاء الاعتراض وجاء غير ذلك ..
ثم أيضا ننتبه إلى مسألة أخيرة : هل نحن منتبهون إلى الحل والحرمة وإلى الإنفاق تحدثاً بنعمة الله كلما زاد الخير الذي عندنا أم ما نزال نستكثر ونستكثر حتى يصدق فينا - والعياذ بالله - حديث النبي صلى الله عليه وسلم كمن يأكل ولا يشبع، ومضة من حياة النبوة ومن توجيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم علها تردنا إلى صوابنا ، وتلم شعث قلوبنا ونفوسنا، وتعيدنا إلى حقيقة ما يملأ هذه النفوس من الغنى غنى الإيمان ومن اللذة لذة الطاعة ومن الراحة راحة الإقبال والتعلق بالله عز وجل، إلى غير ذلك مما نعلمه.
أسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً ، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا ، وأن يرزقنا رزقاً حلالاً طيباً، وأن يبارك لنا فيه.(230/5)
الأصوات والمساجد
بنيت المساجد لعبادة الله -تعالى- مع ما يحصل فيها من اجتماع الناس، وتآلف قلوبهم، ومصافحة بعضهم بعضاً وحل المشاكل في أمور الحياة المختلفة...
لكن ما نراه اليوم من مخالفة كثير من الناس لهذه الأهداف العالية- والتي قال الله فيها :{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (36) سورة النور- لأمر يحزن القلوب، حيث نرى ونسمع ارتفاع الأصوات والتشويش على المصلين ... وهذا كله من البدع والمخالفات التي تحدث في عصرنا...
يقول الإمام ابن الحاج: ينبغي أن يمنع من يرفع صوته في المسجد في حال الخطبة وغيرها؛ لأن رفع الصوت في المسجد بدعة... وقال: ينبغي أن ينهى الذاكرون جماعة في المسجد قبل الصلاة أو بعده أو في غيرهما من الأوقات؛ لأنه مما يشوش بها، وفي الحديث (( لا ضرر ولا ضرار ))1 فأي شيء كان فيه تشويش منع . ذكره القاسمي في (إصلاح المساجد).
ومن تلك الصور التي ترفع بها الأصوات:
1- إقامة حلقات للكلام والثرثرة في أمور الدنيا لدون سبب شرعي ينفع المسجد، وإنما لمجرد القيل والقال، وذكر الناس وغيبتهم، وهذا قد اشتمل على محرمات كثيرة ومنها الغيبة، إضافة إلى حرمة التشويش والخروج عن أهداف المساجد..
2- وإذا اجتمع إلى ذلك الاتفاق على عقد بيع، أو جرد حسابات بين الناس في المسجد، كان الأمر أشد حرمة لقوله -صلى الله عليه وسلم-في الحديث الذي يرويه أبو هريرة ((من رأيتموه يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح الله تجارتك)) 2
3- إنشاد الضالة في المسجد : والضالة هي أي شيء يضيع على إنسان، كمال أو متاع أو بطاقة أو جواز سفر ونحوها... لأن المساجد لم تبن لهذا ..وإنما تنشد في أما كن الأسواق، والمحلات العامة، وأماكن الاجتماعات غير المساجد.. وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في تكملة حديث أبي هريرة السابق:(( من رأيتموه ينشد ضالة في المسجد فقولوا: لا وجدتها.. ثلاثاً ))
4- ما يفعله بعض أهل الابتداع من إلقاء القصائد الغزلية، والموشحات المحرفة، أو إقامة الحفلات والأسمار التي تشتمل على غناء ورقص وغيرها.. كما يفعله بعض الصوفية ، والذين يتخذون من المساجد أماكن لجعلها صالات للأفراح، أو ما يسمى الاحتفال بعيد الميلاد الذي كله بدعة وضلالة ...
لكن الكلام الهادئ الذي لا إزعاج فيه أوبأن لا يكون في المسجد مصلون فإن ذلك الكلام لا بأس به...
قال النووي: ( يجوز التحدث بالحديث المباح في المسجد, وبأمور الدنيا وغيرها من المباحات وإن حصل ما فيه ضحك ونحوه ما دام مباحا،ً لحديث جابر بن سمرة: ( كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح ؛ حتى تطلع الشمس , فإذا طلعت قام , قال: وكانوا يتحدثون في أمر الجاهلية , فيضحكون ويبتسم )) رواه مسلم.. (ذكر ذلك سيد سابق في فقه السنة).
ومن الأمور التي ينبغي مراعاتها عدم رفع الصوت حتى بالقراءة والذكر، إذا كان بحضرة القارئ من يصلي، لأن المصلي يحتاج إلى التدبر والخشوع، والقارئ يشغله برفع صوته؛ ولهذا يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-(( أيها الناس كلكم يناجي ربه, فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة )) رواه أحمد وسنده صحيح. وسبب ورود الحديث هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقراءة .
أخي المسلم الكريم: رعاك الله-كما سبق أن عرفت أن رفع الأصوات والتشويش على الناس من الأمور الممنوعة شرعاً، ولابد من احترام المساجد، ورفعها عن الأمور المنافية لآدابها كالصخب والصياح..
ونخلص إلى أن الأصوات في المساجد تنقسم إلى أقسام عدة:
1- القراءة والذكر: لا يجوز التشويش على المصلين بالقراءة، والأصل في الذكر الإسرار إلا التلبية ،كما ذكر ذلك عن بعض العلماء، وحتى إذا كان الناس كلهم يقرؤون فلا يرفع بعضهم على بعض ؛ فكيف لو كان الواحد منهم يصلي صلاة سرية والآخر يرفع... لاشك أن هذا أعظم في التشويش.
2- رفع الصوت بسبب مشاكل بين المتخاصمين فهذا من الأمور الممنوعة .
3- إنشاد الضالة وهذا لا يجوز.
4- التحدث في المسجد مع رفع الأصوات بشدة لا يجوز؛ لأن ذلك يذهب قداسة المسجد .
5- ما يفعله المبتدعة من الأذكار المبتدعة وإقامة الرقص أو الغناء في المساجد، فهذا محرم، وإذا كان الكلام لأمر هام أو لحاجة ماسة في المسجد أو كلاماً في أمور الدنيا بأصوات معتدلة، فإن ذلك لا حرج فيه لما سبق من حديث جابر بن سمرة... والله أعلم .
6- الكلام الهادئ الذي لا يؤذي مصلياً ولا قرئاً ، أو الكلام المرتفع بعدم حضرة مصلين بشرط ألا يذهب بهيبة المسجد..
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
0000000000000
1- رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما, وصححه الألباني.
2 - رواه الترمذي برقم (1242)والنسائي وابن خزيمة والحاكم.(231/1)
الأضحية
أولاً: تعريف وبيان:
- تعريفها لغة.
- تعريفها شرعاً.
ثانياً: فضلها.
ثالثاً: الأدلة على مشروعيتها.
- الكتاب.
- السنة.
- الإجماع.
رابعاً: الحكمة من مشروعيتها.
خامساً: حكمها.
سادساً: شروطها.
سابعاً: آداب متعلقة بالأضحية.
1- عدم أخذ المضحي من شعره ولا بشرته.
2- تسمين الضحايا.
ثامناً: مسائل متعلقة بالأضحية:
1- هل ذبح الأضحية أفضل أم التصدق بثمنها؟
2- أيها أفضل الأضحية بالإبل أو البقر أو الغنم؟
3- حكم الاشتراك في الأضحية.
4- عمّن تجزئ الأضحية الواحدة؟
5- طروء العيب على الأضحية بعد التعيين.
6- الاستدانة من أجل الأضحية.
7- توزيع الأضحية.
8- الأضحية عن الميت.
9- ذبيحة المرأة والصبي.
تاسعاً: آداب متعلقة بذبح الأضحية.
عاشراً: بدعٌ ومخالفات.
أولاً: تعريف وبيان:
الأضحية في اللغة: بضم الهمزة وكسرها، وبتخفيف الياء وتشديدها، وجمعها أضاحيّ، وأضاحي. ويقال: ضَحية بفتح الضاد وكسرها، وجمعها ضحايا، وأضحاة بفتح الهمزة وكسرها، وجمعها أضحىً منونة، ومثله أرطى جمع أرطاة([1]). والأصل في هذه التسمية: الذبح وقت الأضحى، ثم أطلق ذلك على ما ذبح في أي وقت كان من أيام التشريق.
وهي شرعًا: ما يذبح من بهيمة الأنعام في أيام النحر تقرباً إلى الله تعالى([2]).
([1]) انظر: الصحاح (6/2407). ولسان العرب. مادة (ضحا) (14/477).
([2]) انظر: شرح الرسالة (1/366)، مغني المحتاج (4/282)، كشاف القناع (2/615)، الشرح الممتع (7/453).
ثانيًا: فضلها:
قد وردت أحاديث في فضلها لكن لا يصح منها شيء.
نقل الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله عن بعض أهل العلم ـ وأبهمه ـ أنه لا يصح في الضحايا شيء([1]).
فمن تلك الأحاديث:
ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا))([2]).
وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا فاطمة، قومي إلى أضحيتك فاشهديها؛ فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه...)) الحديث([3]).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ أَضْحَى : " مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ فِي هَذَا الْيَوْمِ ، أَفْضَلَ مِنْ دَمٍ يُهَرَاقُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَحِمًا مَقْطُوعَةً تُوصَلُ " *([4]).
([1]) التحديث بما قيل: لا يصح فيه حديث (ص209).
([2]) أخرجه الترمذي في الأضاحي (1493)، وابن ماجه في الأضاحي (3126)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/222)، وتعقبه الذهبي والمنذري، وضعف هذا الحديث الألباني في الضعيفة (526).
ثالثًا: الأدلة على مشروعيتها:
قال ابن قدامة رحمه الله: "الأصل في مشروعية الأضحية الكتاب والسنة والإجماع"([1]).
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الصلاة: المكتوبة، والنحر: النسك والذبح يوم الأضحى)([2]).
وعن عكرمة وعطاء والحسن وقتادة ومجاهد: أي إذا صليت يوم الأضحى فانحر([3]).
قال ابن قدامة: "قال بعض أهل التفسير: المراد به الأضحية بعد صلاة العيد"([4]).
قال ابن كثير رحمه الله: "والصحيح القول الأول: أن المراد بالنحر ذبح المناسك؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد ثم ينحر نسكه"([5]).
وقال ابن سعدي رحمه الله: "خص هاتين العبادتين بالذكر لأنهما أفضل العبادات، وأجل القربات... وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من الأضاحي، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به"([6]).
أما السنة: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين ([7]).
أما الإجماع: فقد نقله غير واحد.
قال ابن قدامة رحمه الله: "وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية"([8]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "ولا خلاف في كونها من شرائع الدين"([9]).
وهي مشروعة في جميع الملل([10]).
([1]) المغني (13/360).
([2]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (12/722).
([3]) أخرجه عنهم ابن جرير في تفسيره (2/722-723).
([4]) المغني (13/360).
([5]) تفسير القرآن العظيم (4/597-598).
([6]) تفسير الكريم الرحمن (7/679-680).
([7]) أخرجه البخاري في الأَضاحي، باب: في أضحية النبي صلى الله عليه وسلم (5553) واللفظ له، ومسلم في الأضاحي (1969).
([8]) المغني (13/360).
([9]) فتح الباري (10/3).
([10]) انظر: تحفة المودود لابن القيم (ص65)، والشرح الممتع (7/453).
رابعًا: الحكمة من مشروعيتها:(232/1)
قال ابن عثيمين رحمه الله: "وهي من نعمة الله على الإنسان أن يشرع الله للمسلم ما يشارك به أهل موسم الحج؛ لأن أهل الموسم لهم الحج والهدي، وأهل الأمصار لهم الأضحية، ولهذا نجد من فضل الله ورحمته أنه جعل لأهل الأمصار نصيباً مما لأهل المناسك، مثل: ترك الأخذ من الشعر والظفر في أيام العشر من أجل أن يشارك أهل الأمصار أهل الإحرام بالتعبد لله تعالى، بترك الأخذ من هذه الفضولات، ولأجل أن يشاركوا أهل الحج في التقرب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي، لأنه لولا هذه المشروعية لكان ذبحها بدعة، ولَنُهِيَ الإنسان عنها، ولكن الله شرعها لهذه المصالح العظيمة"([1]).
وكذلك "شرع الله الأضحية لتحقيق الحكم التالية:
1- اقتداء بأبينا إبراهيم عليه السلام، الذي أمر بذبح فلذة كبده، فصدَّق الرؤيا، ولبّى، وتلّه للجبين، فناداه الله وفداه بذبح عظيم، وصدق الله العظيم إذ يقول: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يابُنَىَّ إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:102-107]، ففي ذبح الأضاحي إحياء هذه السنة، وتضحية بشيء مما أفاء الله على الإنسان، شكراً لصاحب النعمة ومُسديها، وغاية الشكر محض الطاعة بامتثال الأمر.
2- توسعة على الناس يوم العيد، فحين يذبح المسلم أضحيته يوسع على نفسه وأهل بيته، وحين يهدي منها إلى أصدقائه وجيرانه وأقاربه فإنه يوسع عليهم، وحين يتصدق منها على الفقراء والمحتاجين فإنه يغنيهم عن السؤال في هذا اليوم الذي هو يوم فرح وسرور"([2]).
([1]) الشرح الممتع (7/454-455).
([2]) أحكام العيدين وعشر ذي الحجة، لعبد الله الطيار (ص65-66).
خامسًا: حكمها:
اختلف العلماء في حكم الأضحية إلى قولين هما:
القول الأول: الوجوب على المقيم الموسر، وبه قالت الحنفية([1]) واستظهره شيخ الإسلام ابن تيمية([2])، والشيخ ابن عثيمين([3]) رحمهما الله.
ومما استدلوا به:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له سعة ولم يضحِّ فلا يقربن مصلانا))([4]).
وعن مخنف بن سليم رضي الله عنه قال: كنا وقوفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، فقال: ((يا أيها الناس، إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة)) الحديث([5]).
وعن جندب بن سفيان رضي الله عنه أنه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر صلى ثم خطب فقال: ((من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح فليذبح بسم الله))([6]).
القول الثاني: أنها سنة مستحبة، وهو قول المالكية([7])، والشافعية([8])، والحنابلة([9])، وإليه ذهب أبو محمد بن حزم([10])، رحم الله الجميع.
ومما استدلوا به:
حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمسن من شعره وبشره شيئاً))([11]).
قالوا: علق الذبح على الإرادة، والواجب لا يعلق على الإرادة([12]).
وعن جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل من منبره، وأتى بكبش فذبحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي))([13]).
قالوا: فمن لم يضح منا، فقد كفاه تضحية النبي صلى الله عليه وسلم، وناهيك بها أضحية([14]).
وعن أبي سريحة أو أبي سريج الغفاري قال: أدركت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، كانا لا يضحيان، في بعض حديثهم: كراهية أن يقتدى بهما([15]).
واستدل بعضهم بالبراءة الأصلية، وأنه لا دليل صحيح صريح يعتمد عليه الموجبون.
وذهبت اللجنة الدائمة للإفتاء إلى أنها: سنة كفاية([16]).
([1]) انظر: بدائع الصنائع (5/62).
([2]) انظر: مجموع الفتاوى (23/162).
([3]) انظر: الشرح الممتع (7/455).
([4]) أخرجه أحمد (2/321)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: الأضاحي واجبة هي أم لا؟ (3123)، والدارقطني (4/285)، والبيهقي (9/260)، والحاكم (4/231 ـ 232) والحديث اختلف في وقفه ورفعه. قال البيهقي (9/260): "بلغني عن أبي عيسى الترمذي أنه قال: الصحيح عن أبي هريرة موقوفًا". وممن رجح الوقف أيضًا المنذري في الترغيب (2/155).(232/2)
([5]) أخرجه أحمد (4/215)، والترمذي في الأضاحي، باب: الأذان في أذن المولود (1518)، والنسائي في الفرع والعتيرة (4224)، وأبو داود في الضحايا، باب: ما جاء في إيجاب الأضاحي (2788)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: الأضاحي واجبة هي أم لا؟ (3125) من طريق ابن عون عن أبي رملة عامر عن مخنف بن سليم، وأبو رملة لا يعرف، والحديث فيه اضطراب. وقال الترمذي: "حسن غريب ولا نعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه"، وضعفه القرطبي في المفهم (5/350)، ونقل التضعيف عن أبي محمد عبد الحق وغيره.
([6]) أخرجه البخاري في التوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها (7400) واللفظ له، ومسلم في الأضاحي (1960).
([7]) انظر: بداية المجتهد (1/415)، القوانين الفقهية (ص186)، الشرح الكبير (2/118)، المفهم (5/348).
([8]) انظر: الأم (2/345)، المهذب (1/237)، المجموع (8/385) ، مغني المحتاج (4/282).
([9]) انظر: المتسوعب (4/355)، المغني (13/360)، الإنصاف (4/14).
([10]) انظر: المحلى (7/355).
([11]) أخرجه مسلم في: الأضاحي، باب: نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة... (1977).
([12]) انظر: المغني لابن قدامة (13/361)، والمحلى (7/355).
([13]) أخرجه الترمذي في الأضاحي، باب: العقيقة بشاة (1521)، وأبو داود في الضحايا، باب: في الشاة يضحى بها عن جماعة (2810)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: أضاحي رسول الله صلى الله عليه وسلم (3121). قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، والعمل على هذا عند أهل العلم". وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2436).
([14]) انظر: شرح الزركشي (8/386).
([15]) أخرجه البيهقي (9/295). وصححه الألباني في الإرواء (1139).
([16])انظر: فتاوى اللجنة (11/394).
سادساً: شروطها:
1- أن تكون من بهيمة الأنعام، وهي: الإبل والبقر والغنم([1]).
قال تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ} [الحج:28].
قال القرطبي رحمه الله: "والأنعام هنا: الإبل والبقر والغنم"([2]).
ونقل بعضهم الإجماع على ذلك([3]).
2- أن تكون قد بلغت السن المعتبر شرعاً.
لحديث البراء وفيه: فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح، فقال: عندي جذعة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اذبحها، ولن تجزئ عن أحد بعدك))([4]).
وهذا يدل على أنه لا بد من بلوغ السن المعتبر شرعاً([5]).
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن))([6]).
فلا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا ما كان مسنة، سواء كان ذكراً أم أنثى.
والمسن من الإبل: ما أتم خمس سنين ودخل في السادسة.
والمسن من البقر: ما أتم سنتين ودخل في الثالثة.
والمسن من المعز: ما بلغ سنة ودخل في الثانية.
ويجزئ الجذع من الضأن وهو: ما بلغ ستة أشهر ودخل في السابع([7]).
3- أن تكون سالمة من العيوب المانعة من الإجزاء المنصوص عليها في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: ماذا يُتَّقى من الضحايا؟ فأشار بيده، وقال: ((أربعٌ: العرجاء البيّن ظلعها، والعوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعجفاء التي لا تنقي))([8]).
قال الخطابي رحمه الله: "قوله: ((لا تنقي)) أي: لا نِقْي لها، وهو المخ، وفيه دليل على أن العيب الخفيف في الضحايا معفو عنه، ألا تراه يقول: ((بيّن عورها)) و((بيّن مرضها)) و((بيّن ظلعها))، فالقليل منه غير بيّن فكان معفواً عنه"([9]).
وقال شمس الحق العظيم آبادي رحمه الله: "((بيّن)) أي: ظاهر ((عورها)) ـ بالعين والواو المفتوحتين وضم الراء ـ أي: كما هي في عين، وبالأولى في عينين، ((والمريضة)) هي التي لا تعتلف، ((بيّن ظلعها)) ـ بسكون اللام ويفتح ـ أي: عرجها، وهو أن يمنعها من المشي"([10]).
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "((العجفاء)) وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، فالمخ مع الهزال يزول، ويبقى داخل العظم أحمر، فهذه لا تجزئ؛ لأنها ضعيفة البنية كريهة المنظر"([11]).
وعن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بعضباء الأذن والقرن. قال قتادة: فذكرت لسعيد بن المسيب، قال: العضب النصف فأكثر من ذلك([12]).
قال ابن عثيمين رحمه الله: "وعلى كل حال ينبغي أن نقسم العيوب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما دلت عليه السنة على عدم إجزائه، وهي أربع: العوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن ظلعها، والعجفاء التي لا تنقي، فهذه منصوص على عدم إجزائها، ويقاس عليها ما كان مثلها أو أولى منها، وأما ما كان مثلها فإنه يقاس عليها قياس مساواة، وأما ما كان أولى منها فيقاس عليها قياس أولوية.(232/3)
القسم الثاني: ما ورد النهي عنه دون عدم الإجزاء، وهو ما في أذنه أو قرنه عيب من خرق، أو شق طولاً، أو شق عرضاً، أو قطع يسير دون النصف، فهذه ورد النهي عنها في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن هذا النهي يحمل على الكراهة، لوجود الحاصر لعدم المجزئ بأربعة أصناف.
القسم الثالث: عيوب لم يرد النهي عنها، ولكنها تنافي كمال السلامة، فهذه لا أثر لها، ولا تكره الأضحية بها ولا تحرم، وإن كانت قد تعد عند الناس عيباً مثل: العوراء التي عورها غير بيّن، ومثل: مكسورة السن في غير الثنايا، وما أشبه ذلك، ومثل: العرجاء عرجاً يسيراً، فهذه عيوب لكنها لا تمنع الإجزاء، ولا توجب الكراهة لعدم وجود الدليل، والأصل البراءة"([13]).
4- أن تكون ملكاً للمضحي، أو مأذوناً له فيها، فلا تصح التضحية بالمغصوب والمسروق، والمشترك بين اثنين إلا بإذن الشريك.
5- ألا يتعلّق بها حق الغير، فلا تصح التضحية بالمرهون، ولا بالموروث قبل قسمته.
6- أن تقع الأضحية في الوقت المحدد شرعاً، فإن ذبحت قبله أو بعده لم تجزئ.
وقد اتفق الفقهاء رحمهم الله على أن أفضل وقت التضحية هو يوم العيد قبل زوال الشمس؛ لأنه هو السنة، لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء))([14]).
كما أنهم اتفقوا على أن الذبح قبل الصلاة أو في ليلة العيد لا يجوز عملاً بالحديث السابق وحديث جندب بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي – أو نصلي – فليذبح مكانها أخرى))([15]).
ولكن اختلفوا في بدء وقت الذبح عند من يصلي العيد، على أقوال هي:
القول الأول: أن الذبح يبدأ من بعد الفراغ من الصلاة. وبه قالت الحنفية([16])، والحنابلة([17]).
القول الثاني: أن الذبح يبدأ من بعد مضي قدر الصلاة وخطبتين، سواء صلى الإمام أم لا. وإليه ذهبت الشافعية([18])، وبه قال ابن حزم([19]).
القول الثالث: أنه من بعد ذبح إمام صلاة العيد أو قدره إن لم يذبح لعذر، فإن لم يذبح لغير عذر فمن بعد فعل الصلاة([20]).
واختلفوا في بداية وقت الذبح عند من لا يصلي العيد كأهل البوادي والمسافرين ونحوهم على أقوال هي:
القول الأول: يذبح من بعد طلوع الفجر من يوم النحر، وبه قالت الحنفية([21]).
القول الثاني: من بعد ذبح أقرب الأئمة إليه. وبه قالت المالكية([22]).
القول الثالث: من بعد مضي قدر الصلاة والخطبة بعد دخول الوقت. وإليه ذهبت الشافعية([23])، وقال به ابن حزم([24]).
القول الرابع: من بعد مضي قدر الصلاة بعد دخول الوقت. وهو قول الحنابلة([25]).
وأما آخر وقت ذبح الأضحية فاختلف أهل العلم في ذلك على أقوال، أصحها قولان:
القول الأول: هو يوم النحر ويومان بعده، وهو قول الحنفية([26])، والمالكية([27])، والحنابلة([28]).
ومما استدلوا به آثار عدة عن جمع من الصحابة منها:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (الأضحى يومان بعد يوم الأضحى) ([29]).
وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: (الذبح بعد النحر يومان)([30]).
القول الثاني: يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة تبع ليوم العيد، وبه قالت الشافعية([31])، ورواية عن أحمد([32])، واختيار ابن تيمية([33])، وابن القيم([34]) رحم الله الجميع.
ومما استدلوا به ما يلي:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب))([35]).
قالوا: فجعل حكمها واحداً أنها أيام أكل لما يذبح فيها، وشرب، وذكر لله عز وجل([36]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل أيام التشريق ذبح))([37]).
وقالوا: إنها كلها يشرع فيها التكبير المطلق والمقيد، ولم يفرق أحد من العلماء فيما نعلم بين هذه الأيام الثلاثة في التكبير، فهي مشتركة في جميع الأحكام، وإن كانت كذلك فلا يمكن أن نخرج عن هذا الاشتراك وقت الذبح([38]).
وقد ذهبت اللجنة الدائمة للإفتاء([39])، وكذلك ابن عثيمين([40]) إلى هذا القول.
وهذا القول قوي من حيث النظر، لولا ما عارضه مما ثبت عن غير واحد من الصحابة كابن عباس وابن عمر وأبي هريرة من غير اختلاف عليهم في ذلك، وهو مما يقوي مذهب الجمهور، قال الطحاوي: "ولم يروَعن أحد من الصحابة خلافه، فثبت حجتُه، وأيضا فإن مثله لا يقال من جهة الرأي، فدل على أنه توقيف"([41]).
([1]) انظر: مختصر اختلاف العلماء للطحاوي (3/224)، والمعونة (1/658)، المجموع (8/393)، المغني (13/368).
([2]) الجامع لأحكام القرآن (12/44).
([3]) انظر: بداية المجتهد (2/435)، وسبل السلام (4/176).
([4]) أخرجه البخاري في الأضاحي، باب: سنة الأضحية (5545)، ومسلم في الأضاحي (1961).
([5]) انظر: الشرح الممتع (7/459).
([6]) أخرجه مسلم في الأضاحي، باب: سن الأضحية (1963) من حديث جابر رضي الله عنهما.
([7]) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (11/414-415).(232/4)
([8]) أخرجه أحمد (4/284)، والترمذي في الأضاحي، باب: ما لا يجوز من الأضاحي (1497)، وأبو داود في الضحايا (2802)، والنسائي في: الضحايا، باب: العجفاء (4371)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: ما يكره أن يضحى به (3144). وقال الترمذي: "حسن صحيح...، والعمل على هذا عند أهل العلم". وصححه ابن الجارود (907)، وابن خزيمة (2912)، وابن حبان (5889)، والحاكم (1/467)، والألباني في صحيح الترمذي (1211).
([9]) معالم السنن (4/106).
([10]) عون المعبود (7/357).
([11]) الشرح الممتع (7/466).
([12]) أخرجه أحمد (1/83)، وأبو داود في الضحايا، باب: ما يكره من الضحايا (2805) واللفظ له، وصححه ابن خزيمة (2913) وضعفه الألباني في الإرواء (1149).
([13]) الشرح الممتع (7/476-477).
([14]) أخرجه البخاري في الأضاحي، باب: سنة الأضحية (5545)، ومسلم في الأضاحي، باب وقتها (1961).
([15]) أخرجه البخاري في الذبائح والعيد، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فليذبح)) (5500)، ومسلم في الأضاحي، باب: وقتها (1960) واللفظ له.
([16]) انظر: اللباب (3/333)، بدائع الصنائع (5/108-109) تكملة شرح فتح القدير (9/525-526).
([17]) انظر: الشرح الكبير (2/283).
([18]) انظر: الأم (2/223)، المجموع (8/387) وما بعدها.
([19]) انظر: المحلى (7/377).
([20]) انظر: المدونة (2/2)، مواهب الجليل (3/243).
([21]) انظر: مجمع الأنهر (2/518).
([22]) انظر: المدونة (2/2)، الكافي لابن عبد البر (1/423).
([23]) انظر: الأم (2/223).
([24]) انظر: المحلى (7/377).
([25]) انظر: المبدع (3/283).
([26]) انظر: المبسوط (12/9).
([27]) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/43).
([28]) انظر: الفروع (3/546).
([29]) أخرجه مالك في الموطأ (ص365)، والبيهقي في الكبرى (9/297)من طريق نافع عنه، وهذا من أصح الأسانيد.
([30]) أخرجه البيهقي (9/297) من طريق قتادة عن أنس، وعلّقه ابن حزم في المحلى (7/377)، وصححه. وفيه عنعنة قتادة، وشيخ البيهقي أبو نصر بن قتادة متكلم فيه.
([31]) انظر: الأم (2/217)، المجموع (8/390).
([32]) انظر: الإنصاف (4/87).
([33]) انظر: الاختيارات (ص120).
([34]) انظر: زاد المعاد (2/292).
([35]) أخرجه مسلم في الصيام ، باب : تحريم صوم أيام التشريق (1141) من حديث نبيشة الهذلي رضي الله عنه.
([36]) انظر: الشرح الممتع (7/499).
([37]) أخرجه أحمد (4/82)، والبزار (8/364)، وابن حبان (3854)، والطبراني في الكبير (2/138)، والبيهقي (5/239) من حديث جبير بن مطعم، وفيه اختلاف واضطراب، والصحيح فيه أنه منقطع، وقال البزار: "وحديث ابن أبي حسين هذا هو الصواب، وابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم، وإنما ذكرنا هذا الحديث لأنا لم نحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: في كل أيام التشريق ذبح"، وانظر: التمهيد (23/197).
([38]) انظر: الشرح الممتع (7/500).
([39]) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (11/406).
([40]) انظر: الشرح الممتع (7/499).
([41]) انظر: مختصر اختلاف العلماء (3/218).
سابعاً: آداب متعلقة بالأضحية:
من ذلك:-
1- عدم الأخذ من الشعر والبشرة إذا دخلت العشر لمن أراد أن يضحي.
لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يلمس من شعره وبشره شيئاً))([1]).
قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما يجتنب الرجل إذا أراد أن يضحي؟ قال: "لا يأخذ من شعره، ولا من بشره"([2]).
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن من أراد التضحية، ودخل يوم العشر فلا يأخذ من شعره وبشره شيئاً"([3]).
قال النووي رحمه الله: "قال أصحابنا: والحكمة من النهي أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار، وقيل: التشبه بالمحرم. قال أصحابنا: وهذا غلط؛ لأنه لا يعتزل النساء، ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم"([4]).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "والحكمة من ذلك: أن الله سبحانه وتعالى برحمته لما خص الحجاج بالهدي، وجعل لنسك الحج محرمات ومحظورات، وهذه المحظورات إذا تركها الإنسان لله أثيب عليه، والذين لم يحرموا بحج ولا عمرة شرع لهم أن يضحوا في مقابل الهدي، وشرع لهم أن يتجنبوا الأخذ من الشعور والأظفار والبشرة، كالمحرم لا يأخذ من شعره شيئاً، يعني لا يترفه فهؤلاء أيضاً مثله، وهذا من عدل الله عز وجل وحكمته"([5]).
وهذا الحكم خاص بمن يضحي لا يتناول من يضحى عنهم.(232/5)
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ظاهر التحريم خاص بمن يضحي، وعلى هذا فيكون التحريم مختصاً برب البيت، وأما أهل البيت فلا يحرم عليهم ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكم بمن يضحي، فمفهومه: أن من يضحى عنه لا يثبت له هذا الحكم، وكان صلى الله عليه وسلم يضحي عن أهل بيته، ولم ينقل أنه قال لهم: لا تأخذوا من شعوركم وأظافركم وأبشاركم شيئاً، ولو كان ذلك حراماً عليهم لنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وهذا هو الراجح"([6]).
2- الأفضل في الأضحية صفةً ما توافرت فيها صفات التمام والكمال من بهيمة الأنعام، ومنها: السُّمن، كثرة اللحم، كمال الخلقة، جمال المنظر، غلاء الثمن.
عن يحيى بن سعيد قال: سمعت أبا أمامة بن سعد قال: (كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسنمون)([7]).
([1]) أخرجه مسلم في الأضاحي، باب: نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة... (1977)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
([2]) السؤالات (ص76).
([3]) زاد المعاد (2/320).
([4]) شرح مسلم (13/138-139).
([5]) الشرح الممتع (7/529).
([6]) الشرح الممتع (7/529-530).
([7]) أخرجه البخاري معلقاً في الأضاحي، باب: أضحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكبشين أقرنين، وقد وصله أبو نعيم في المستخرج كما قال الحافظ في الفتح (10/10).
ثامنا: مسائل متعلقة بالأضحية:
1- هل ذبح الأضحية أفضل أم التصدق بثمنها؟
التضحية أفضل من الصدقة بثمنها؛ لأنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل المسلمين من بعده.
قال ابن تيمية رحمه الله: "والأضحية والعقيقة والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك"([1]).
وقال ابن القيم رحمه الله: "الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه، ولو زاد، كالهدايا والضحايا، فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، فإنه عبادة مقرونة بالصلاة، كما قال تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]"([2]).
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "والأفضل أن تضحي، فذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وأفضل من شراء لحم بقدرها أو أكثر ليتصدق به؛ وذلك لأن المقصود الأهم في الأضحية هو التقرب إلى الله تعالى بذبحها لقوله تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج:37]"([3]).
وقال أيضا: "والذي يدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها عمل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فإنهم كانوا يضحون ولو كانت الصدقة بثمن الأضحية أفضل لعدلوا إليه، بل لو كانت تساويه لعملوا بها أحياناً؛ لأنها – أي الصدقة – أيسر وأسهل...، وأيضاً لو عدلوا إلى الصدقة لتعطلت شعيرة عظيمة نوه الله عليها في كتابه في عدة آيات"([4]).
2- أيها أفضل الأضحية بالإبل أو البقر أو الغنم؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أفضل الأضحية الإبل ثم البقر ثم الغنم، وهو قول الحنفية([5])، والشافعية([6]) والحنابلة([7])، وبه قال أبو محمد بن حزم([8])، رحم الله الجميع.
ومما استدلوا به:
حديث أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها))([9]).
قالوا: والإبل أغلى ثمناً من البقر، والبقر أغلى ثمناً من الغنم.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن))([10]) الحديث.
قالوا: وجود المفاضلة في التقرب إلى الله بين الإبل والبقر والغنم، ولا شك أن الأضحية من أعظم التقرب إلى الله تعالى، ولأن البدنة أكثر ثمناً ولحماً ونفعاً([11]).
القول الثاني: أن الأفضل الغنم ثم البقر ثم الإبل. وهو قول المالكية([12]) رحمهم الله.
ومما استدلوا به:
حديث أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين، وأنا أضحي بكبشين([13]).
قالوا: وما كان صلى الله عليه وسلم يختار لخاصته ولا يفعل إلا الأفضل.
وأجاب عن ذلك ابن حزم رحمه الله بأنه محمول على التخفيف لرفع المشقة([14]).
واعلم أن كلام الجمهور محمول على من ضحى عن نفسه وأهل بيته ببعير أو بقرة، لا سبع بعير أو سبع بقرة، وإلا فالغنم في هذه الحالة أفضل([15]).
3- حكم الاشتراك في الأضحية:
اختلف أهل العلم رحمهم الله في جواز الاشتراك في الأضحية على قولين:
القول الأول: جواز الاشتراك، وبه قالت الحنفية([16])، والشافعية([17])، والحنابلة([18])، وبه قال ابن حزم([19])، رحم الله الجميع.
ومما استدلوا به:
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة([20]).(232/6)
قالوا: وتقاس عليه الأضاحي.
وقالوا: إن اشتراك السبعة في الجزور أو البقرة هو المشهور عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم([21]).
القول الثاني: أنه لا يجوز الاشتراك في الأضحية وهو قول المالكية([22])، وإليه ذهب جمع من أئمة الدعوة كعبد الله بن عبد اللطيف، وعبد الله أبا البطين، ومحمد بن إبراهيم([23])، رحم الله الجميع.
ومما استدلوا به:
أن الأصل عدم جواز التشريك، والقياس لا يصح([24]).
وقالوا: إنه حيوان يضحى به، فلم يجزئ إلا عن واحد، كالشاة، ولأن كل واحد يصير مخرجاً للحم بعض بدنة أو بقرة، وذلك لا يكون أضحية، كما لو اشترى لحماً، ولأن كل إنسان مخاطب بفعل ما يسمى أضحية، وهذا الاسم ينطلق على الدم دون اللحم، ولأنه اشتراك في دم، فوجب ألا يجزئ مريد القربة([25]).
4- عمن تجزئ الأضحية الواحدة؟
وتجزئ الأضحية الواحدة عن الرجل وأهل بيته، وإن كثروا.
لحديث أبي أيوب رضي الله عنه قال: كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون([26]).
قال ابن القيم رحمه الله: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن الشاة تجزئ عن الرجل، وعن أهل بيته ولو كثر عددهم"([27]).
5- طروء العيب على الأضحية بعد التعيين:
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: إذا تعيبت بعد أن أوجبها فإنها تجزئ إذا لم يكن ذلك العيب بفعله أو تفريط منه. وهو قول المالكية([28]) في الأضاحي دون الهدي، والشافعية([29])، والحنابلة([30]).
ومما استدلوا به:
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ابتعنا كبشاً نضحي به، فأصاب الذئب من أليته أو أذنه، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم: فأمر أن نضحي به([31]).
قالوا: وذلك لأن فقد الألية عيب يمنع الإجزاء، لكنه لما كان هذا العيب بعد التعيين وليس بتفريط منه ولا بفعله فإنه أمين، ولا ضمان عليه([32]).
وبحديث ابن عباس، قال موسى بن سلمة الهذلي: انطلقت أنا وسنان بن سلمة معتمرين، قال: وانطلق سنان معه ببدنة يسوقها، فُأزحِفت عليه بالطريق فَعَيِيَ بشأنها، إن هي أُبدِعَت كيف يأتي بها، فقال: لئن قدمت البلد لأستحفينّ عن ذلك، قال فأضحيت فلما نزلنا البطحاء قال: انطلق إلى ابن عباس نتحدث إليه، قال: فذكر له شأن بدنته فقال: على الخبير سقطت، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بست عشرة بدنة مع رجل وأمَّره فيها، قال: فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله، كيف أصنع بما أُبْدِع عليَّ منها؟ قال: ((انحرها، ثم اصبغ نعليها في دمها، ثم اجعله على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك))([33]).
القول الثاني: أنها لا تجزئ، وإليه ذهبت الحنفية([34]).
لأن الأضحية عندهم واجبة، فلا يبرأ منها إلا بإراقة دمها سليمة، كما لو أوجبها في ذمته ثم عينها فعابت.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما إذا اشترى أضحية، فتعيبت قبل الذبح، ذبحها في أحد قولي العلماء، وإن تعيبت عند الذبح أجزأ في الموضعين"([35]).
6- الاستدانة من أجل الأضحية:
سئل ابن تيمية رحمه الله عمن لا يقدر على الأضحية، هل يستدين؟
فقال: "الحمد لله رب العالمين، إن كان له وفاء فاستدان ما يضحي به فحسن، ولا يجب عليه أن يفعل ذلك، والله أعلم"([36]).
7- توزيع الأضحية:
يستحب للمضحي أن يأكل من أضحيته، ويهدي، ويتصدق، والأمر في ذلك واسع، من حيث المقدار، ولكن المختار عند أهل العلم أن يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث([37]).
ولا فرق في جواز الأكل والإهداء من الأضحية بين أن تكون تطوعاً، أو واجبة، ولا بين أن تكون عن حي أو ميت أو وصية.
ويحرم بيع شيء من الأضحية من لحمها، أو جلدها، أو صوفها، ولا يعطي الجزار منها شيئاً أجرة على ذبحه؛ لأن ذلك بمعنى البيع([38]).
8- الأضحية عن الميت:
قال ابن تيمية رحمه الله: "وتجوز الأضحية عن الميت، كما يجوز الحج عنه، والصدقة عنه، ويضحى عنه في البيت، ولا يذبح عند القبر أضحية ولا غيرها"([39]).
وقال رحمه الله: "والتضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها"([40]).
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "مسألة: هل الأضحية مشروعة عن الأموات أو عن الأحياء؟
الجواب: مشروعة عن الأحياء، إذ لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة فيما أعلم أنهم ضحوا عن الأموات استقلالاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات له أولاد من بنين أو بنات في حياته، وماتت له زوجات وأقارب يحبهم، ولم يضح عن واحد منهم، فلم يضح عن عمه حمزة ولا زوجته خديجة، ولا عن زوجته زينب بنت خزيمة، ولا عن بناته الثلاث، ولا عن أولاده، ولو كان هذا من الأمور المشروعة لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته قولاً أو فعلاً، وإنما يضحي الإنسان عنه وعن أهل بيته.(232/7)
وأما إدخال الميت تبعاً فهذا قد يستدل له بأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عنه وعن أهل بيته، وأهل بيته يشمل زوجاته اللاتي متن واللاتي على قيد الحياة، وكذلك ضحى عن أمته، وفيهم من هو ميت، وفيهم من لم يوجد، لكن الأضحية عليهم استقلالاً لا أعلم لذلك أصلاً في السنة. ولهذا قال بعض العلماء: إن الأضحية عنهم استقلالاً بدعة ينهى عنها، ولكن القول بالبدعة قول صعب؛ لأن أدنى ما نقول فيها أنها من جنس الصدقة، وقد ثبت جواز الصدقة عن الميت([41]).
وقال رحمه الله: "وأما الأضحية عن الأموات فهي ثلاثة أقسام: الأول أن تكون تبعاً للأحياء كما لو ضحى الإنسان عن نفسه وأهله وفيهم أموات، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي ويقول: ((اللهم هذا عن محمد وآل محمد)) وفيهم من مات سابقاً.
الثاني: أن يضحي عن الميت استقلالاً تبرعاً فقد نص فقهاء الحنابلة على أن ذلك من الخير وأن ثوابها يصل إلى الميت وينتفع به، قياساً على الصدقة عنه، ولم ير العلماء أن يضحي أحد عن الميت إلا أن يوصي به، لكن من الخطأ ما يفعله كثير من الناس اليوم يضحون عن الأموات تبرعاً، ثم لا يضحون عن أنفسهم وأهليهم الأحياء فيتركون ما جاءت به السنة، ويحرمون أنفسهم فضيلة الأضحية، وهذا من الجهل، وإلا فلو علموا بأن السنة أن يضحي الإنسان عنه وعن أهل بيته فيشمل الأحياء والأموات، وفضل الله واسع.
الثالث: أن يضحي عن الميت بموجب وصية منه تنفيذاً لوصيته فتنفذ وصيته كما أوصى بها بدون زيادة ولا نقص"([42]).
وذهبت اللجنة الدائمة للإفتاء إلى جواز ذلك([43]).
9- ذبيحة المرأة والصبي:
عن كعب بن مالك رضي الله عنه ، أن امرأة ذبحت شاة بحجر ، فسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك ، فأمر بأكلها([44]).
قال ابن حجر رحمه الله: "وفيه جواز أكل ما ذبحته المرأة سواء كانت حرة أو أمة، كبيرة أو صغيرة"([45]).
وكان أبو موسى يأمر بناته أن يذبحن نسائكهن بأيديهن([46]).
وعن إبراهيم النخعي قال في ذبيحة المرأة والصبي: "لا بأس إذا أطاق الذبيحة وحفظ التسمية"([47]).
قال ابن المنذر رحمه الله: "أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي"([48]).
([1]) مجموع الفتاوى (26/304).
([2]) تحفة المودود (ص65).
([3]) الشرح الممتع (7/521-522).
([4]) رسالة الأضحية (ص5).
([5]) انظر: الدر المختار وحاشيته (5/226) وما بعدها، بدائع الصنائع (5/80).
([6]) انظر: الأم (2/49) مغني المحتاج (4/285).
([7]) انظر: المغني (13/366)، كشاف القناع (2/615).
([8]) انظر: المحل (7/370).
([9]) أخرجه البخاري في العتق ، باب : أي الرقاب أفضل (2518).
([10]) أخرجه البخاري في الجمعة، باب: فضل الجمعة (881)، ومسلم في الجمعة، باب: الطيب والسواك يوم الجمعة (850).
([11]) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (11/359).
([12]) انظر: الكافي لابن عبد البر (ص421)، المعونة على مذهب عالم المدينة (1/658)، المنتقى (3/88).
([13]) أخرجه البخاري في الأضاحي، باب: في أضحية النبي صلى الله عليه وسلم (5553)، واللفظ له، ومسلم في الأضاحي (1966).
([14]) انظر: المحلى (7/374).
([15]) انظر: مغنى المحتاج (6/127).
([16]) انظر: بدائع الصنائع (5/105).
([17]) انظر: المجموع (8/397).
([18]) انظر: المغني (13/392).
([19]) انظر: المحلى (7/381).
([20]) أخرجه مسلم في الحج، باب: الاشتراك في الهدي، وإجزاء البقرة والبدنة (1318).
([21]) انظر: شرح معاني الآثار (4/175)، والمحلى (7/382).
([22]) انظر: المعونة (1/663)، المنتقى (3/95).
([23]) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (11/397).
([24]) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (11/396).
([25]) من كلام القاضي عبد الوهاب في المعونة (1/663).
([26]) أخرجه الترمذي في الأضاحي، باب: ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت (1505)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: من ضحى بشاة عن أهله (3147)، ومالك في الموطأ في الضحايا (1050)، قال الترمذي: "حسن صحيح". وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1216).
([27]) زاد المعاد (2/323).
([28]) انظر: المدونة (2/504).
([29]) انظر: الأم (2/352).
([30]) انظر: مسائل صالح (ص281)، شرح الزركشي (4/301).
([31]) أخرجه أحمد (3/32) وابن ماجه في الأضاحي، باب: من اشترى أضحية صحيحة فأصابها عنده شيء (3146)، والبيهقي (9/289) وفيه جابر الجعفي وله شاهد عن جابر عند أحمد (3/78)، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه (679).
([32]) انظر: الشرح الممتع (7/516).
([33]) أخرجه مسلم في الحج، باب: ما يفعل بالهدي إذا عطب في الطريق (1325).
([34]) انظر: بدائع الصنائع (5/76).
([35]) مجموع الفتاوى (26/304).
([36]) مجموع الفتاوى (26/305).
([37]) انظر: مجموع الفتاوى ابن تيمية (26/309).
([38]) انظر: تحفة الفقهاء (3/135)، شرح مسلم (13/130)، المغني لابن قدامة (11/109).
([39]) مجموع الفتاوى (26/306).(232/8)
([40]) الاختيارات (ص120).
([41]) الشرح الممتع (7/455-456).
([42]) رسالة الأضحية (ص51).
([43]) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (11/417).
([44]) أخرجه البخاري في الأضاحي ، باب : ذبيحة المرأة والصبي (5504).
([45]) فتح الباري (9/633).
([46]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/389) وصححه الحافظ في الفتح (10/19).
([47]) عزاه ابن حجر لسعيد بن منصور، وصححه (9/632).
([48]) انظر: المغني (8/581)، ومغني المحتاج (6/124-125).
تاسعاً: آداب متعلقة بذبح الأضحية:
1- حدّ السكين، وإراحة الذبيحة:
عن شداد بن أوس، قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم بأحسنوا الذبح، وليُحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته))([1]).
2- يستحب إمرار السكين بقوةٍ وتحامل ذهاباً وعوداً، ليكون أوجى وأسهل.
3- استقبال الذابح القبلة بأضحيته، لفعل ابن عمر رضي الله عنهما([2])، ولأنها أولى الجهات بالاستقبال([3]).
4- أن ينحر البعير قائماً على ثلاث قوائم، معقول الركبة، وإلا فباركاً. لقول ابن عمر رضي الله عنهما: ابعثها قياماً مقيدة سنةَ محمد صلى الله عليه وسلم...([4]).
والبقر والغنم يستحب أن يضجعها على الجنب الأيسر([5]).
5- ويستحب أن يذبحها بيده ويضع رجله على صفاحها، ويقول: بسم الله الله أكبر، اللهم هذا عني وعن آل بيتي، أو عن آل فلان، لقول أنس رضي الله عنه: ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، فرأيته واضعاً قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر، فذبحهما بيده([6]).
قال ابن حجر: "وفيه استحباب التكبير مع التسمية، واستحباب وضع الرجل على صفحة عنق الأضحية الأيمن، واتفقوا على أن إضجاعها يكون على الجانب الأيسر، فيضع رجله على الجانب الأيمن ليكون أسهل على الذابح في أخذ السكين وإمساك رأسها بيده اليسار"([7]).
ولحديث عائشة وفيه: ثم ذبحه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد)) ثم ضحى به([8]).
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما الأضحية فإنه يستقبل بها القبلة، فيضجعها على الأيسر، ويقول: بسم الله، والله أكبر، اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك"([9]).
([1]) أخرجه مسلم في العيد والذبائح، باب: الأمر بإحسان الذبح والقتل (1955).
([2]) أخرجه مالك في الموطأ في الحج، باب: العمل في الهدي حين يساق (854) من طريق نافع عن ابن عمر.
([3]) انظر: الكافي لابن قدامة (1/651).
([4]) أخرجه البخاري في الحج، باب: نحر الإبل مقيدة (1713)، ومسلم في الحج، باب: نحر البدن قياماً مقيدة (1320).
([5]) انظر: المجموع (8/408).
([6]) أخرجه البخاري في الأضاحي، باب: من ذبح الأضاحي بيده (5558) واللفظ له، ومسلم في الأضاحي (1966).
([7]) فتح الباري (10/18).
([8]) أخرجه مسلم في الأضاحي، باب: استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل (1967).
([9]) مجموع الفتاوى (26/308-309).
عاشراً: بعض البدع والمخالفات الشرعية في الأضحية:
1- لطخ الجباه بدم الأضحية:
جاء في أجوبة اللجنة الدائمة للإفتاء ما نصه:
لا نعلم للطخ الجباه بدم الأضحية أصلاً لا من الكتاب ولا من السنة، ولا نعلم أن أحداً من الصحابة فعله، فهو بدعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، وفي رواية: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، متفق على صحته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء([1]).
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن قعود | عبد الله بن غديان | عبد الرزاق عفيفي | عبد العزيز ابن باز
2- الوضوء لذبح الضحية:
وجاء في أجوبتها أيضاً:
لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ بعد صلاة عيد الأضحى من أجل أن يذبح أضحيته، ولم يعرف ذلك أيضاً عن السلف الصالح، والقرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير، فمن توضأ من أجل ذبح أضحيته فهو جاهل مبتدع؛ لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، ولكنه إذا ارتكب ذلك بأن توضأ لذبح أضحيته فذبيحته مجزئة له ما دام مسلماً لا يعرف عنه ما يوجب تكفيره، ويجوز الأكل منها له ولغيره.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم([2]).
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن غديان | عبد الرزاق عفيفي | عبد العزيز ابن باز
3- ومن البدع أيضاً ما ذكره ابن عثيمين رحمه الله حيث قال: "وأما ما يفعله بعض العامة عندنا يسميها في ليلة العيد ـ أي: الأضحية ـ ويمسح ظهرها من ناصيتها إلى ذنبها، وربما يكرر ذلك: هذا عني، هذا عن أهل بيتي، هذا عن أمي، وما أشبه ذلك فهذا من البدع، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم"([3]).(232/9)
4- ومن البدع: ما يفعله "من يطوف حولها ـ أي الأضحية ـ، أو يتخطاها هو وأهل بيته قبل ذبحها، ومن يهلل ويكبر بصوت جماعي مع أهل بيته حال الطواف حولها، ونحو ذلك من المحدثات التي سببها انتشار الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام"([4]).
([1]) فتاوى اللجنة الدائمة (11/432).
([2]) فتاوى اللجنة الدائمة (11/433).
([3]) الشرح الممتع (7/493-494).
([4]) من: تنوير العينين بأحكام الأضاحي والعيدين، لمصطفى بن إسماعيل (ص556).
([3]) أخرجه الحاكم (4/222) وصححه، وتعقبه الذهبي، وضعفه الألباني في الضعيفة (528).
([4]) عزاه الهيثمي في المجمع (4/18) للطبراني في الكبير وقال: "فيه يحيى بن الحسن الخشني وهو ضعيف وقد وثقه جماعة"، وضعفه الألباني في الضعيفة (525).(232/10)
الأعمال المضاعفة
سليمان بن صالح الخراشي
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فكل مسلم منا حريص أشد الحرص على أن يطول عمره ليزداد فيه من الخير، كما قال لما سئل : { من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه } [رواه البخاري ومسلم].
2- حُسن الخلق: قال : { صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه } [رواه أحمد وابن ماجة].
4- صلاة الجماعة مع الإمام: لقوله لأم حميد – إحدى الصحابيات –: { قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي } [رواه أحمد]. فكانت رضي الله عنها بعد هذا تصلي في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، حتى لقيت الله عز وجل.
5- أداء النافلة في البيت: لقوله في الصحيح: { أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة } [رواه البخاري ومسلم].
6- التحلي ببعض الآداب يوم الجمعة: وهي ما ورد في قوله : { يُصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان تركعهما من الضحى } [رواه مسلم]. ومعنى " سُلامى " أي: مِفصل من مفاصل الإنسان، وهي ثلاثمائة وستون مفصلا.
وأفضل وقت لصلاة الضحى عندما يشتد الحر؛ لقوله : { تابعوا بين الحج والعمر، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة } [رواه الترمذي وصححه الألباني]. والإنسان قد لا يستطيع الحج كل سنة، فلا أقل من أن يحجج على حسابه من يستطيع من فقراء المسلمين.
9- صلاة الإشراق: لقوله : { من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجته } [رواه الطبراني وصححه الألباني].
11- الاعتمار في شهر رمضان: لقوله : { من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم } [رواه أبو داود وصححه الألباني].
فالأولى أن يخرج متطهرا من بيته، لا من دورات مياه المسجد، إلا لحاجة أو ضرورة.
13- أن يكون من أهل الصف الأول: لقول العرباض ابن سارية رضي الله عنه: { إن رسول الله : { إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول } [رواه أحمد بإسناد جيد].
14- الصلاة في مسجد قباء: لقوله : { المؤذن يُغفر له مدى صوته، ويُصَدِّقه من سمعه من رطب ويابس، وله أجر من صلى معه } [رواه أحمد والنسائي]. فإذا لم تستطع أن تكون مؤذنا فلا أقل من أن تكسب مثل أجره وهو:
16- أن تقول كما يقول المؤذن: لقوله : { من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر } [رواه مسلم]
18- صيام ثلاثة أيام من كل شهر: لقوله : { من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا } [رواه الترمذي وابن ماجة].
20- قيام ليلة القدر: لقوله تعالى: أي: أفضل من عبادة ثلاث وثمانين سنة تقريبا.
21- الجهاد: لقوله : { من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان له كأجر صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا له مثل ذلك من الأجر، وأجري عليه الرزق وأُمِّن الفتان } [رواه مسلم]. والفتَّان هو عذاب القبر.
23- العمل الصالح في عشر ذي الحجة: لقوله : { قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، و قل هو يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن } [رواه الطبراني وصححه الألباني].
25- الذكر المضاعف: وهو كثير، ومنه أن رسول الله : { مازلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم. فقال قال: { رآني النبي : { من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة } [رواه الطبراني وحسنه الألباني].
27- قضاء حوائج الناس: لقوله : { أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت: رجل مات مرابطا في سبيل الله، ورجل علَّم علما فأجره يجري عليه ما عُمِل به، ورجل أجرى صدقة فأجرها يجري عليه ما جرتْ عليه، ورجل ترك ولداً صالحاً يدعو له } [رواه أحمد والطبراني].
29- استغلال الوقت: بأن يعمر المسلم وقته بالطاعات: كقراءة القرآن، والذكر، والعبادة، واستماع الأشرطة النافعة، لكي لا يضيع زمانه هدرا، فيُغبن يوم لا ينفعه الغَبْن، كما قال FPRIVATE "TYPE=PICT;ALT=" : { نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس:الصحة، والفراغ } [رواه البخاري].
وفقنا الله جميعاً لإطالة أعمارنا في الخير، واستغلال الفرص المضاعفة التي يغفل عنها المفرطون، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=80 ...(233/1)
الأم المربية (1)
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
الأم المربية مصدر قوةٍ مؤثرة ، ومكمن تغييرٍ عظيم ، ومصنع تربيةٍ للأجيال ..
الأم المربية في واقع أمتنا الإسلامية اليوم قضيةٌ مهمة وجودها على الصورة المنشودة ، والمنهج المطلوب يعد مفتاح التغيير الإيجابي المنشود .
إن أهمية الأم المربية لا تقل - بل ربما تزيد - عن أهمية الجيوش العسكرية المدججة بالسلاح ، وأهمية إصلاح مناهج التعليم ، وتهذيب وسائل الإعلام ؛ لأن قوتها التأثيرية تستطيع أن تواجه كل ذلك ، وتستطيع - بإذن الله سبحانه وتعالى - أن تنتصر على كل ذلك إن كان مناوئاً لدينها وإسلامها .
وديننا العظيم ونهجنا الإسلامي القويم أعطى لهذه المهمة أولويةً عظمى ، ووفّر لها جميع الأسباب التي تعين على حسن أدائها ، واستمرار رسالتها ، ودوام عطائها ؛ لتكون المجتمعات مجتمعات إيمانٍ وإسلام من قعر البيوت .. من ثدي الأمهات .. من رحم المنجبات ؛ ليخرج حينئذٍ الجيل المؤمن في قلبه ويقينه ، ولتخرج الأيادي المتوضئة ، والجباه الساجدة .. تواجه كل فسادٍ وانحرافٍ يمكن أن تعج به المجتمعات .
ووقفتنا الأولى ومضة سريعة في المكانة والأهمية التي جعلها إسلامنا للأم ولدورها الرائد في التربية :
قال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً } . وقال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } .
قال ابن عطية في تفسيره : " ذكر الله الأم في هذه الآية في أربع مراتب ، والأب في مرتبة واحدة ، وجمعهما الذكر في قوله تعالى { بوالديه } ، ثم ذكر الحمل للأم ، ثم الوضع لها ، ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال ، وهذا يناسب ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر ، ووللأب الربع ، وذلك حين جاءه الرجل فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أبوك .
وهذا أمرٌ بينٌ واضح ، ودورٌ فطريٌ خلقيٌ ، أراده الله عز وجل لكمال البشرية ، ولحسن انتظام الحياة في هذه الدنيا .
وروى الترمذي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : يا رسول الله إني أصبت ذنباً عظيماً ، فهل لي من توبة ؟ فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام : هل لك من أمٍ ؟ قال : لا ! قال : هل لك من خالةٍ ؟! قال : نعم ! قال : فبرها . أي ذاك طريق توبةٍ وتكفير ذنبٍ .
ومن أظهر ذلك وأبلغه ما رواه أنسٌ رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله إني لأشتهي الجهاد ولا أقدر عليه - أي ربما كان من أهل الأعذار - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل بقي من والديك أحد ؟ قال : أمي ! قال : ( قابل الله في برها ، فإذا فعلت ذلك فأنت حاجٌ ومعتمرٌ ومجاهدٌ ؛ فإن رضيت عنك فاتق وبرها ) ذكره الهيثمي في المجمع ، وقال رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط والصغير ورجالهما رجال الصحيح ، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب ، وقال : إسنادهم جيد .
ومثل ذلك وأظهر منه حديث معاوية السلمي رضي الله عنه ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو منطلقٌ - فقلت : يا رسول الله إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يعلم أن له أماً تحتاج إليه - ارجع إلى أمك فالزمها ، قال : فجئته من قبل وجهٍ آخر ، فقلت : يا رسول الله إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة ، فقال : إلزم أمك ، فقلت له ثالثةً ، فقال : ويحك الزم رجلها فثم الجنة .
رواه النسائي وابن ماجة في سننهما بسندٍ صحيح وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي .
ذلكم أن الجنة تحت أقدام الأمهات .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ، فقال في سياق حديثٍ طويل : ( ودخلت الجنة فسمعت فيها قراءةً ، فقلت : قراءة من هذه ؟ فقيل لي : قراءة الحارث بن النعمان ، فقال : كذلكم البر .. كذلكم البر ، فكان الحارث من أبر الناس بأمه ) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
ومن هنا ندرك أن هذا المقام الجليل ، والمكانة الرفيعة ، والوجوب الشرعي لبر الأم إنما هو تقدير لدورها العظيم ، ورسالتها السامية ، واعترافٌ بأثرها البليغ في قوة الأمة ومتانة أجيالها ، وصنع أسباب المناعة والحماية والوقاية من الآثار السيئة ، ومن الشرور والأضرار الوخيمة .(234/1)
ولذلك أي شيءٍ يمكن أن يلفت النظر إذا رأيت ذلك الشاب التقي النقي الورع ، أو حتى رأيت ذلك الرجل العالم الداعي المصلح .. إن كثيراً من الناس يفكرون في جهده وتعليمه وشيوخه ، وينسون أن الأصل الأول ، وأن البصمة الأولى ، وأن البداية والانطلاقة إنما كانت من أمٍ مربية ..
خذوا كل من تشاءون من أمثلة الأئمة والعلماء في التاريخ .. نقبوا في صفحات حياتهم ، ارجعوا إلى أيام طفولتهم سترون وراءهم أماً عظيمةً مؤمنةً مربية .. سفيان الثوري ، إمام التابعين ، وعلم المحدثين ، ورمز الزاهدين ، ربّته أمه قالت له : " يا بني أطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي " كان أبوه ميتاً ، فجعلت عملها لكي تفرغه لطلب العلم ، كانت تعلم ما الخير وما الأفضل والأمثل ، ما الذي ينبغي أن تنشئ عليه صغيرها ، ما الطريق الذي ترسم له مساره فيه وتدرج به في خطواته الأولى عليه وتقول - وقد كانت تتخوله دائماً بالوعظ والتوجيه وهو في نعومة أظفاره - كانت تقول له : يا بني إذا كتبت عشر طرقٍ - أي من الحديث - انظر هل ترى في نفسك زيادةً في خشيتك وحلمك ووقارك ؛ فإن لم يزد ذلك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك " ، تريد أن تلقنه أن العلم إنما يكون للعمل ، وأن أثر العلم ينبغي أن يستقر إيماناً وتقى في القلب والنفس ، وأن ما لم يكن ذلك كذلك فلا نفع ولا جدوى ، بل ربما يكون ضررٌ وإثمٌ إذا قدر الله .. أليست هذه الأم كانت أياديها التربوية ومنهجيتها التعليمية هي البداية لذلك الإمام الجليل والعالم العظيم !
انظروا إلى الصحابيات من الأمهات المربيات كيف كان الأثر يغرس منذ نعومة الأظفار بذرة إيمانٍ في سويداء القلوب ، وسمات أخلاقٍ في أعماق النفوس .. الربيع بنت معوذ رضي الله عنها تقول : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء ، فقال : من كان صائماً فليتم صومه ، ومن لم يصم فليمسك - أي عندما بدأ بأمره أو توجيهه عليه الصلاة والسلام لصيامه - قالت : فكنا بعد ذلك نصومه ونصوّم أبناءنا - أي الصغار - فكنا نصومهم ونأخذهم إلى المسجد ، ونأخذ معنا لهم اللعبة من العهن ؛ فإن بكى أحدهم لهيناه بها حتى يتم صومه ويؤذن المغرب .
تلك هي التنشئة ، وتلك هي ملامح ومعالم التربية أخرجت جيل الأتقياء الأصفياء .. جيل لمجاهدين الأعزاء ، أخرجت جيل العلم والعلماء .. ويوم افتقدنا هذه الأم المربية ، ويوم خرجت إلى الأسواق لاهيةً عابثة ، ويوم شغلت بالأعمال وخلفت وراءها أبناء وبناتٍ ليس لهم من يرعاهم ولا يربيهم .. خرجت لنا أجيال لم يعد لها حظٌ من سمة الإيمان ، وصفة الإسلام ، واستغربت في فكرها ، وامتهنت في شكلها وهيئتها ، وذلّت في عزتها ، وضعفت في إيمانها .
ولعلي أمضي بكم إلى ساحةٍ أخرى أريد منها أن نؤكد أن هذا المعنى مهمٌ ومعترفٌ به حتى عند غير المسلمين من العقلاء والحكماء ؛ لأن بعضاً من أبناء جلدتنا قد التوت أعناقهم ، فلا يرون إلا جهة الغرب ، ولا يرون إلا المجتمعات المتحضرة - كما يقولون - وربما لا تكاد آذانهم تصغي أو تسمع إلا لقول أولائك ، ولا ترى النموذج والقدوة إلا في أفعالهم وأحوالهم، أما وقد أصبح ذلك حال بعضهم فلا حرج أن ننقل لهم أقوال القوم وأحوالهم ؛ لنريهم بعض ما يعيدهم إلى رشدهم وصوابهم ..
هذه كلماتٌ ومواقف ينبغي أن نلتفت إليها ، وسأذكر من بعد منهجاً عظيماً نحتاج إليه وإلى التذكير به .
أول ذلك ما ذكرته زوجةٌ لأحد رواد الفضاء الأمريكيين السابقين - وقد كانت ربة منزلٍ ، ليست موظفةً ولا عاملة وإنما مهنتها كما نكتب في مهن بعض أزواجنا " ربة بيت " وبعض نساءنا اليوم تطأطئ رأسها خجلاً إن سئلت : ما هو عملكِ ؟! وكأن هذه المهمة أصبحت شيئاً يستحيى منه ، أو مرتبةً لا تريد المرأة أن تكون فيها ! مع أنها أسمى المراتب وأعلاها ، وأعظم الوظائف وأكثرها أهميةً وجدوى حتى من الناحية الاقتصادية - تقول هذه المرأة الغربية : " أنا مسرورةٌ جداً من بقائي في البيت إلى جانب زوجي وأطفالي ؛ حتى في الأيام العصيبة التي كنا فيها في حاجةٍ إلى المال لم يطلب مني زوجي أن أعمل ، وكانت فلسفته أننا نستطيع أن نوفر حاجاتنا الضرورية ، إن قلّ المال لا تأكل هذا النوع وكُل هذا ، ولا تركب هذه السيارة واركب هذه ، يمكن تدبير الأمور .. ولكننا لا نستطيع أن نربي أبناءنا إذا أفلت الزمام من يدنا " .
ما هو البديل إن لم يكن في بيتك أمٌ مربية ؟ البديل خادمةٌ لم تحمل هذا الطفل في رحمها ،ولم تعاني في ولادته ، ولم تكن يوماً مرضعته ، ولا يهمها شأنه ، ولا يعنيها مستقبله ، ولا تنتمي إلى مجتمعه - بل ربما لا تنتمي إلى دينه ومعتقده - أو ما هو الحل الآخر : أن يسرح الأبناء إلى مؤسساتٍ هنا أو هناك كما هي في مجتمعات الغرب ، تكون كما يقول الرافعي رحمه الله : " للعشرين منهم أمٌ واحدة " أي موظفة ليست أماً فلا تعطيهم شيئاً من معاني الأمومة ؛ فضلاً أن تمنحهم شيئاً من معالم التربية .(234/2)
البدائل قضيةٌ مهمة قد نستطيع أن نسد ثغراتٍ هنا أو هناك .. الأعمال والوظائف فيها رجالٌ ونساء إن تخلينا أو اضطررنا إلى التخلي عن امرأةٍ في مكانٍ ما ! أفلسنا قادرين أن نأتي بغيرها من الرجال أو النساء بحسب الحال ؟! لكنك إن لم تجد في بيتك أماً مربية هل يمكن أن تكون أنت أيها الرجل أماً مربية - خاصةً في سن الصغر - هل يستطيع رجلٌ واحدٌ أن يحتمل البقاء مع طفلٍ في الثانية أو الثالثة من عمره أكثر من ساعةٍ أو ساعتين قبل أن يدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور ويصيح ويضيق ؛ لأنه لم يخلق لذلك ، ولم يكون في نفسه وفكره وطبيعته لذلك ، بينما هو يستطيع أن يحتمل الصعاب ، وأن يرابط الأوقات الطويلة في عمله دون كدرٍ أو ملل ؛ لأن الله جل وعلا قد ركّبه وخلقه على هيئةٍ تصلح لذلك .
ومن هنا أيضاً نقول من مقالات بعض القوم : " المرأة التي تشتغل خارج بيتها تؤدي عمل عاملٍ بسيط ولكنها لا تؤدي عمل امرأة " أي عمل الأم هناك يمكن أن تسد الثغرة ولكن أين المقابل والبديل ؟
أمرٌ آخر الفطرة التي فطر الله الناس عليها قد جعلها في هذه المرأة مناسبةً لهذه المهمة أولاً في الأصل الخلقي الطبعي .. هل رأيتم في حياتكم رجلاً يحمل ويلد - وإن كنا نقرأ أحياناً من الطرائف والعجائب والغرائب ما يكتب في بعض الصحف مثل هذا - ولست واقفاً عنده لكنني أقول : كل الناس - حتى الذين يرتقون إلى أعلى الدرجات في المطالبة بالمساواة - لم نسمع عن أحدٍ منهم أنه طالب أن يساوى الرجل بالمرأة في الحمل والوضع والولادة لماذا ؟
لو كان من الناحية النظرية لدعو إلى ذلك وطالبوا به ، لكن هذا محالٌُ بطبيعة الخلقة ! فإذا سلموا في هذا فلماذا لا يسلمون في طبيعة الفطرة والخلقة في ما وراء ذلك ؟
يقول أحد الغربيين أيضاً : " إن الرجل يبحث عن المرأة التي تعمر البيت بوجودها وحركتها وعملها ، وليست المرأة التي تملئ المعامل والمصانع والمكاتب والشوارع ، وتخلف ورائها بيتاً يفترسه الضياع والفساد بوسائله المباشرة وغير المباشرة " .
وأكمل لكم الثالثة : في بيان الأهمية والخطورة
فإن هذا الدور إذا اختل - ليس مجرد مناقضٍ للفطرة وليس مجرد أمرٍ - لن نستطيع أن نجد له بديلاً ، ولكنه كذلك خطوط حمراء ، وهو أحد المقاتل الخطيرة التي تضعضع كيان مجتمعاتنا الإسلامية ، ويوشك أن تعيث من خلالها أو أن يعيث من خلالها الفساد في ديارنا .
ومن هنا ؛ فإن النقطة الثالثة هي الهجوم العظيم المتعاظم المتنامي على الأسرة عموماً والمرأة خصوصاً ، وعلى دور الأم المربية بشكلٍ أخص .
البروتوكولات المنسوبة إلى اليهود يقولون فيها : " سوف ندمر الحياة الأسرية بين الأميين - أي غير اليهود - ونفسد أهميتها التربوية " .
ولما علم أولئك القوم أن سراً من أسرار قوتنا وترابطنا ، واستعصاء أجيالنا على مخططات التدجين والتهوين والتهويد إنما هو إلى أولئك الأمهات العظيمات المربيات ، قالوا : لا بد أن نلغي دور هذه الأم المربية ، والزوجة الراعية ، والبنت الحانية .. وأن نفسد هذه اللبنة القوية المتماسكة ..
وأنتم تعلمون كم تعقد الأمم المتحدة من المؤتمرات التي تحشد لها الأمم من شرق الأرض وغربها ، وأي شيءٍ تريد منها عناوين كذابة ، وشعاراتٌ براقة ، ومضامين فاسدةٍ مفسدة : الصحة الإنجابية ؛ أي كيف تمارس المرأة كل أنواع الفسق والفجور والزنا والخنا !
ثم تكون هناك بعض التعليمات والتوجيهات للوقاية من الأمراض ، وماذا يقولون ؟
كثيرٌ من الكلام تعلمونه .. لماذا كل هذا الجهد المبذول والتخطيط المتتابع منذ عقودٍ ، والأموال المصروفة المبذولة ؟
واليوم الدعوات التي نسمعها لإصلاح المجتمعات العربية والإسلامية في مقدمة هذا الإصلاح وضع المرأة - كما يقولون - ويروجونه وفق تصوراتهم ومناهجهم وآرائهم وأحوالهم ..
هذه قضية مهمة ؛ لعلي أقف وقفةً لا بد لنا أن نعيها نحن معاشر المسلمين :
المؤهلات الخلقية والفطرية للمرأة في التربية
أولها : الخصائص النفسية
فإن المرأة مجبولةٌ على العاطفة الفياضة ، والحنان المتدفق .. ألا ترون ذلك فيما صورته أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يبين هذه العاطفة ليس في الإنسان بل حتى في الحيوان !
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً - وقد كان يمر ببعض الأسرى - وامرأةٌ تأخذ وليدها فتضمه إلى صدرها ، فيقول :أرأيتم هذه طارحة ولدها في النار ؟! قالوا : يا رسول الله هي أرحم به من ذلك ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فالله أرحم بكم من هذه بولدها ) ، لكنه أراد أن يبين أن الرحمة الإنسانية في أعلى صورها إنما هي عند المرأة الأم .
وذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الذي كان من أقضية سليمان عليه السلام في امرأتين تنازعتا في طفلٍ ، كل واحدةٌ تدّعي أنها أمه ! فبأي شيءٍ حكم ؟(234/3)
قال : أحكم بأن يشق نصفين ، فتعطى كل واحدة نصف ، ولم يكن يريد أن يكون هذا حكماً منفذاً لكنه عندما قاله قالت إحداهما : لا تفعل هو لها - وهي أمه - فهل أقرت بهذا على أن تلك أمه ؟ كلا ! بل حكم لها بأن تأخذ هذا الابن ؛ لأنه أثبت أن رحمتها به آثرت حياته ولو كان بعيداً عنها ، ولو كان عند غيرها ، فأيقن أنها أمه .. هذه الصورة من الرحمة والعطف والحنان كيف ينشأ الأطفال إذا حرموا منها ؟ لماذا تشكوا المجتمعات الغربية اليوم ممن يسمونهم " التين آجرز " الذين هم أبناء ما فوق العاشرة والعشرين ؟
لماذا ترون هناك أبناء الخامسة عشر وهم ينفذون جرائم قتلٍ كاملة ؟ إنهم لم يجدوا حناناً ولا عطفاً من الأم ، عاشوا في بيئةٍ صحراوية من المشاعر والعواطف ، عاشوا في بيئةٍ ليست مستقرة في ظلال الأسرة الوارفة ، فخرجوا إلى المجتمع أشراراً لا يبغون فيه إلا فساداً ، وانظروا إلى الصبر والاحتمال وهو من الطبيعة النفسية عند المرأة على الصغار - كما قلت من قبل - هذه أمه طفلٌ ترضعه ، وآخر يحبوا تنتبه له ، وثالث يدرج توجهه ، وتعيش في هذه المملكة ما لو عاشه الرجل - كما قلت - ساعةً واحدة لكاد أن يساق إلى مستشفى المجانين ، كيف ذلك ؟ لأن الله جعل لها صدراً رحباً ، واحتمالاً عظيماً في هذا الباب ليس له نظير .
والأمر الثاني وهو مهمٌ كذلك : طبيعة الاستقرار في المرأة
والقرآن العظيم والمنهج الإسلامي القويم يتطابق مع أصل الخلقة والفطرة ، قال تعالى : { ألم نخلقكم من ماءٍ مهين * فجعلناه في قرارٍ مكين } ، قرار الرحم يستقر فيه كل واحدٌ منا قد استقر فيه تسعة أشهر ، هل لأحدٍ منكم أن يقول - أو أن يدعي - أنه لم تكن له أمٌ حملته ووضعته وأرضعته وغذته ورعته وربته ؟!
هذا الاستقرار هو من طبيعة المرأة ؛ ولذلك حتى المرأة العاملة هل تبقى في البيت وقتاً أطول من زوجها أو لا ؟ لأن في طبيعتها الاستقرار ؛ ومن هنا جاء التوجيه الرباني ، قال تعالى : { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } ليس ذلك تحريماً للخروج أو للعمل في صورته وصيغته الشرعية ! ولكنه ذكرٌ للطبيعة المناسبة للمرأة تغليباً .
ولذلك أنظروا إلى الرجال ألا ترونه في أيام العطل والإجازات إذا بقي في بيته لم يستطع أن يبقى إلا جزأً من الوقت ثم يخرج ؛ لأنه ليس من طبيعته الاستقرار ، بل هو متنقلٌ مرتحلٌ عاملٌ متغبرٌ .. هذه طبيعة الكبد والكدح والسير في هذه الحياة ، قال تعالى : { قل سيروا في الأرض } وهذا ضربٌ آخر يتناسب مع الرجل ، فإذاً طبيعة القرار والاستقرار جعلها الله لتكمل بها هذه الحياة .
وأخيراً : القرب والملابسة
من الأقرب إلى الأبناء ؟ بل من الأقرب إلى الأزواج ؟ من الأعرف بطبائعهم ؟ من الأقدر على اكتشاف أسرارهم .. أليست الأم التي تعرف ماذا يحب هذا وماذا يحب ذاك من الطعام والشراب ؟ أليست هي التي تغسل الملابس وتعرف ما قد يكون فيها ؟ أليس الأبناء - حتى أحياناً وإن كبروا - يسرون بأسرارهم ومشكلاتهم إلى أمهاتهم ، لماذا ؟
لأن هذه طبيعةٌ حانية ؛ ولأنه استقرار في كل وقتٍ يجده ، يبحث عن أبيه فمرةً في شرقٍ ، ومرةً في غرب ، وإذا كلمه وجد صرامة الوجه ، وتقطب الجبين والشدة التي يعرفها لا يتناسب ذلك لا يعني ذلك أنه ليس للأب دور في التربية ولكننا نذكر الدور الأساسي في المراحل الأولى ، وتبقى للأم أدوارٌ مستمرة فكل رجلٍ مهما بلغ من الكبر فهو طفلٌ عند أمه ، لا يكبر الإنسان على أمه هذه التربية هذه الأم هذا الدور لا بد أن نعنى به ، وأن نحرص عليه لنؤمل بيوتنا ، ولنعد أجيالنا نسأل الله عز وجل أن يحفظ نسائنا وزوجاتنا ..
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زادٍ يقدم بع العبد على مولاه .
وإن من الأمور المهمة العناية بدور الأم وتربيتها لأبنائها ؛ ولعلي أشير هنا إلى إشاراتٍ لا بد من ذكرها والتنبيه والتعويل عليها :
لفت نظرٍ إلى الأمهات العظيمات المربيات في أرض فلسطين .. ما الذي أخرج لنا هذا الجيل من الشباب الصغار في مقتبل العمر ، يكشفون صدورهم للرصاص ومدافع الدبابات وقصف الصواريخ ، وهم يبتسمون ويجددون قول أسلافنا " الله أكبر فزت ورب الكعبة " ؟!
ثم نرى من بعد الأم وهي تقول : " لا تعزوني ولكن هنئوني بشرف استشهاد أبناءي " ، ألم نرى ذلك ؟ ألم نعرف أن هذه القوة التي تواجه اليوم ألد أعدائنا وأحقرهم وأذلهم من اليهود - عليهم لعائن لله - إنما كان الدور العظيم بعد فضل الله عز وجل وأدوارٍ أخرى لأولئك الأمهات ..
ألسنا نعرف أن قوة الإنجاب وكثرته في أرض فلسطين أحد الأسلحة العظيمة التي تقلق أعداء الله عز وجل ، ثم يقال لنا قللوا نسلكم وأخرجوا نسائكم وضيعوا أجيالكم ومن بعد سوف تضيع كلمتكم وتذهب ريحكم ..(234/4)
أمثلةٌ عظيمة نراها وتؤكد لنا هذا المعنى ، ونحن وإن كنا نألم ونحزن لما يجري في أرض العراق وفي فلسطين ، ونتفاعل معه في الخطب لكننا كذلك نحتاج إلى أن نقف وقفاتٍ عملية ؛ لنؤدي دورنا ، ونقوم بواجبنا :
أحد الكتاب يقول مقالةً قويةً معبرة : " إن دور الأم في التربية أعظم من دور الثورة " ، نحن نريد ثورةً على الظلم لإقرار العدل ، وعلى الذل للتحلي بالعز .. نحن نريد ثورةً نغير بها الواقع في حياتنا ، وإن من أعظم أسباب هذه الثورة - دون أن تكون ثورةً حمراء ، ودون أن تكون ثورةً في مبتدئها ثورة دماء ، ودون أن تكون رعونةً رعناء - هو دور التربية ، مفتاح التغيير ، ومصدر القوة ، وإن أسلحة التربية في الأجيال المؤمنة أعظم وأفتك من الأسلحة الذرية وأسلحة الدمار الشامل الذين يكذبون على الناس بوجودها ، ويعرفون أن حقيقة قوتنا في إيماننا وإسلامنا وتربية أجيالنا ، فيحاربوننا في مكمن قوتنا ، ودعك من غير ذلك من الأضاليل والأكاذيب ! وإلا فلماذا هذه الدعوات من الديمقراطيات والإصلاحات وغيرها من المغالطات التي يروجونها وفق المنظور الغربي والحضارة الغربية ؟!
وأقول أيها الأخوة :
إن هذا المعنى مهمٌ جداً ، ونحن عندما نقول ونتحدث في هذا فلسنا نتحدث بعيداً عن واقعنا ! ولسنا لا نعي ما يجري حولنا ! ولكننا نريد أن نكون أصحاب عمل - وقد قلنا من قبل في حديثٍ مستفيضٍ عن خطة الإصلاح ومنهجه في القرآن ومبدئه من قوله عز وجل : { إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم } - وهذا الذي نتحدث عنه حديثٌ مهمٌ مكملٌ لهذا الدور العظيم ، الذي عبر عنه شاعر العراق الرصافي بقوله :
ولم أر للخلائق من محل **** يهذبها كحضن الأمهات
فحضن الأم مدرسة تسامت **** بتربية البنين أو البنات
وأخلاق الوليد تقاس حُسناً **** بأخلاق النساء الوالدات
وليس ربيب عالية المزايا **** كمثل ربيب سافلة الصفات
وليس النبت ينبت في جِنان **** كمثل النبت ينبت في الفلاة
فاعلم أن هذا الابن والشاب إذا كان صالحاً - أن وراءه في الغالب - أماٌ مربيةً صالحة .
ولقد كان القاسم وإبراهيم - من التابعين - يدخلان على عائشة رضي الله عنهما ، وكان أحدهما في لسانه لكنة - يلحن في العربية - فقالت : قد علمت من أين فصاحة هذا وعجمة هذا .. هذا ربته أمه ، وذاك ربته أمه " ، وكانت أمه أعجميةً ليست عربية ، فبقي أثر تربيتها ؛ حتى وإن كان رجلاً عالماً إلا أن بعض الأثر ما زال ظاهراً .
ولذلك مقولةٌ عظيمة تقول : " إذا علمت رجلاً فقد علمت فرداً ، وإذا علمت امرأةً فقد علمت جيلاً " .
نسأل الله عز وجل أن يحفظ بيوتنا وأبنائنا وبناتنا من كل الشرور والمفاسد ، وأن يعطينا الزوجات الراعيات ..(234/5)
الأم المربية 2)
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى :
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
الأم المربية في المجتمع المسلم صمام أمانٍ ، ومصدر قوة ومصنع جيلٍ ومعمل تربية كان لنا حديثٌ عن هذه الأم المربية ، ببيان مكانة الأم في هذا الدين العظيم ومنزلتها العالية ، التي تجعلها في مكانةٍ تؤدي دورها ، وتقدم رسالتها في إجلالٍ وتعظيم واحترامٍ وتكريم يعترف بفضلها ، ويقرّ ببرها ، ويسعى ويجتهد في الوفاء بحقها .
ومن هنا ؛ فإن هذه الأم المربية إذا غابت من واقع حياتنا أو ضعف دورها في بيوتنا ؛ فإن خطراً عظيماً يتهددنا ، وإن تفككاً في مجتمعاتنا ينتظرنا ، وإن ضعفاً في أجيالنا سوف يكون له أثره الذي لا نحبه ولا نرضاه .
الطريق إلى الأم المربية كيف نحرص ونوفر الأسباب لوجودها ؟
ذلكم مطلبٌ مهم ، وقضيةٌ كان من المفترض أن تعتني بها وسائل الإعلام ، ومناهج التربية على أعلى المستويات ، نبدأ ذلك بتربية البنات :
إن أم اليوم كانت بنتاً من قبل .. فكيف تُربى البنات ؟ وكيف تُعدّ البنت بمستقبل الحياة ؟ هل تعد وتربى وتعلم ؛ لتكون زوجةً راعية ، وأماً مربية ؟ هل تعرف دورها وتعلم رسالتها ؟ هل تُعان بما تحتاج إليه من العلم والمعرف ، ومن الخبرة والتجربة لتؤدي دورها ، أم أن مسار التربية الخاصة والتوجيه العام في وسائل الإعلام أو مناهج التعليم ينحو بها منحاً آخر ، ويريد منها مطالب أخرى غير هذه المهمة الشريفة ، وغير هذه المنزلة العظيمة ، وغير هذه المكانة الخطيرة في واقع المجتمع والأمة ؟ إنها مسألةٌ مهمة .
إن قضية التربية بعمومها - وقضية تربية البنات بخصوصها - مسألةٌ تحتاج إلى أن تحظى من المسلمين - جميعهم - بأعلى درجات الاهتمام ، وأن يوفروا لها كل أسباب النجاح .. والمعني بهذا هم أنتم أولاً - وبالدرجة الأولى - معاشر الرجال والأولياء - أرباب الأسر - القوامين على النساء .. إنها ليست مهمات تشريفٍ ، ولكنها مهمات تكليف .. إنها ليست مجرد فخرٍ أو اعتزازٍ وإنما هي مسؤوليات وتبعات .. إنها واجباتٌ مناطة بالأعناق ، وديونٌ محفوظة على الذمم ، وواجباتٌ شرعية مسئولٌ عنها بين يدي الله سبحانه وتعالى .
انظروا إلى رسل الله وأنبياءه القدوة في حياة الأمة المسلمة .. كيف كان همهم ، وكيف كان تفكيرهم منصباً ومتوجهاً إلى ذريتهم ، وما ينبغي أن يغرسوه في قلوبها من الإيمان ، وفي نفوسها من التزكية ، وفي أخلاقها من الفضائل ، وفي سلوكياتها من المحاسن ، وفي أفكارها من الرشد ، وفي قلوبها من الحب والفيض بما ينبغي أن يكون من المعاملات والصلات بين الناس .. يقول الله سبحانه وتعالى في قصة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل - وهما يقيمان البيت ويعليان بنيانه - : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } .. كانوا يدركون أن هذه مهمتهم ، فعندما كانوا يسألون الله لم تقتصر مسألتهم على أنفسهم ؛ بل كانوا يشملون من جعل الله عز وجل مسئوليتهم في رقابهم .
ولذلك كان هذا موضع الاهتمام في القلوب والأفكار والنفوس وينعكس حينئذٍ في الاهتمام العملي ، والتوجيه والإرشاد التربوي والرعاية الفائقة والعناية العظيمة التي ينبغي أن يوليها الآباء والأمهات لأبنائهم : {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } .
ما هي وصايا الآباء والأمهات لأبنائهم ؟ ما الذي يقولونه لهم ؟ ما الذي يحبذونه منهم ؟ ما الذي يرغبونهم فيه ؟ ما الذي يحثونهم عليه ؟ من ما الذي يدور في البيوت ؟ ما الذي يقال فيها ؟ ألسنا ونحن اليوم على أعتاب الاختبارات نرى أن كثيراً من الاهتمام - وإن كنا نريده ولا نعترض عليه - يكاد يستولي على كل ذهن الآباء والأمهات في سائر الأوقات " الدراسة والعلم والنتيجة " دون أن يكون ما وراء ذلك - أو معه أو فيه - ما يلفت النظر إلى حقائق الإيمان ، وأخلاق الإسلام ، ولزوم وجوب التربية والصلة بالله ونحو ذلك من الأمور العظيمة والمهمة .
والله سبحانه وتعالى يبين لنا أيضاً في تفسير الأنبياء في قصة يعقوب عليه السلام : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } .. في آخر لحظات الحياة أي شيءٍ كانت وصيته ؟ أي أمرٍ كان منصباً عليه اهتمامه ؟ هل هو البيوت والدور والتركات والمواريث ؟ هل هو العناية بالأمور الدنيوية والشكلية ؟(235/1)
إن قلبه الذي كان معموراً بالإيمان ، والذي كان مسكوناً بالتقوى ، وفكره الذي كان موصولاً بالله سبحانه وتعالى جعل أهميته وتركيزه في آخر لحظات حياته على قضية الإيمان والإسلام ، والتربية والاستقامة على منهج الله عز وجل .
إن من يذكر هذا في مثل تلك اللحظات الحرجة التي يفارق فيها دنياه ويودع الحياة بما فيها ، ومن فيها - لا شك - أنه كان ذاكراً لهذه المهمة ، ومعتنياً بها في كل أوقاته ، وذلك ما ينبغي أن يلفت نظرنا في هذه السير ، وفي هذه الآيات ، وليس هذا حديثاً إلى الرجال فحسب ؛ بل هو كذلك حديثٌ إلى النساء .. إلى الأمهات المربيات اللائي ننظر إليهن وإلى دورهن على أنه محوريٌ وأساسيٌ وجوهريٌ فيما نريد لأمتنا من الصلاح ، وفيما ننشده من تغيير أحوالنا إلى الأفضل والأمثل بإذن الله عز وجل .
وكما قلت إن دور تربية الأم في البيت هو أشد تأثيراً ، وأقوى نفعاً من كثيرٍ من الوسائل المادية ، والأسلحة العسكرية وغيرها .
ثم الالتفات إليكم - معاشر المؤمنين - بالخطاب الرباني ، بآيات الله عز وجل وكلامه سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } .
إن المسئولية ليست منوطة بك وحدك ، ولست مسئولاً عن نفسك فحسب ؛ بل إن الأهل من الزوجة والذرية - أبناءً وبناتاً - لهم حقٌ عليك ، وأمانةٌ في عنقك ، والأمر في هذا عامٌ ، والنداء لأهل الإيمان للرجال والنساء والآباء والأمهات معاً كلهم يجب عليهم أن يعملوا ، وأن يؤدوا من الواجبات ، وأن يحرصوا في تربية أبنائهم على ما يقيهم من أسباب الوقوع في سخط الله عز وجل ، واستحقاق عذابه نسأل الله عز وجل السلامة .
فهل استشعر كل مؤمنٍ ومؤمنة ، ومسلمٍ ومسلمة ، وأبٍ وأمٍ هذه المسئولية ، واستمعوا إلى عباد الرحمن الذين ذكر الله صفاتهم على أنهم قدوةً لنا ، ومثالٌ يحتذى .. ماذا كان في قولهم ؟
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} .
قال ابن جريرٍ في تفسيره : " أن يعبدونك ويحسنون عبادتك ، ولا يجرون علينا الجرائر " ، كيف يكون الأبناء قرة أعين إذا لم تعلمهم القرآن ؟ كيف تكون البنات قرة أعين إذا لم نلقنهن السنة ؟ كيف تكون الذرية صالحةً بارةً وفيةً ، تقدّم الخير للآباء والأمهات ما لم نسلك بها سبيل الصالحين والصالحات ؟
إننا اليوم نشكو ونعلم أن هذه الشكوى تتعاظم من عقوق الأبناء أو انحرافهم أو عدم اكتراثهم ، ونقول هاهنا بإيجاز القول في مثل العرب : " يداك أوكتا وفوك نفخ " ، إنما سبب ذلك مرده في غالب الأحوال إليك - أيها الأب - إليكِ - أيتها الأم - لما لم تحرصوا على التربية ؟ لما لم تنشئوا التنشئة الصالحة ؟ لما لم تعلموا القرآن والسنة ؟ لما لم تحدثوا بالسيرة وتراجم الأصحاب ؟لما لم تبثوا روح العزة ؟لما لم تحرصوا على أن يخرج من تحت أيديكم من هو خيرٌ منكم ، وأكثر علماً وفضلاً ، وأعظم إلى الخير سبقاً ثم تشكون - من بعد - وأنتم ما بذلتم جهداً ، ولا أعطيتم وقتاً ، ولا حرصتم على تربية ، ولا قدمتم علماً ، ولا بذلتم توجيهاً وإرشاداً .. مسألةٌ مهمة ، الدعاء موصولٌ لله عز وجل ولكن العمل مطلوب ، قال تعالى : { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } .
إن مسألة التربية وآثارها في المجتمع مهمةً جداً ، ليس في الحياة الدنيا فحسب ؛ بل في الحياة الأخرى .
إن كل مؤمنٍ يفكر في أخراه ، ويريد النجاة في أخراه ، ويريد السعادة فيما يؤول إليه أمره ومصيره ، قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } ، قال ابن عباسٍ رضي الله عنه في تفسير هذه الآية : " إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته ، وإن كانوا دون ذلك لتقر بهم عينه " .
هل تريد أن تنعم بإذن الله عز وجل بأبنائك وزوجك يوم القيامة أم تريد أن يحال بينك وبينهم ؟(235/2)
إن التنشئة والتربية الصالحة والسير على طريق الإيمان وهدى الإسلام وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم كفيلةٌ بأن تلحقهم بك ، وأن تنتفع منهم - بإذن الله عز وجل - كما ثبت في الصحيح : ( وولدٌ صالحٌ يدعو له ) ، وكما ورد كذلك بلفظٍ آخر في مسند الإمام أحمد .. إنها مسألةٌ مهمة ، وقضيةٌ خطيرة ، تتضح خطورتها في الجانب السلبي الآخر لمن فرط ، لمن ضيع ، لمن لم يؤدي الأمانة ، لمن لم يقم بالمسئولية ، لمن فرط في أولئك الذرية .. قال تعالى : { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } قال أهل التفسير في معناها : " يفرق بينهم ، فلا يجتمعون ؛ إما بأن يكون بعضهم في الجنة ، والآخرون في النار ، وإما - والعياذ بالله - أن يكونوا جميعاً في النار ولا يجمعون فيجتمع عليهم عذابٌ وحزنٌ لا سرور فيه " نسأل الله عز وجل السلامة .
كيف تربى البنات قضيةٌ مهمة في مسألة " الأم المربية " .
ألسنا اليوم نرى بناتٍ لا همّ لهن إلا موضات اللباس ، وألوان مكياج الزينة ، لا تفكر إلا في جوانب محدودةٍ معدودة من الأمور الدنيوية البهرجية .. وربما تعتني كثيراً بجانب التعليم - ولنا حديثٌ عنه - في فروعٍ من العلم لا تعود عليها بكثيرٍ من النفع والفائدة ، وربما إن كانت في هذا الجانب متقنة وفيه فائدة ؛ لكن المهمة الأولى من هو هذا الطفل ؟ ما نفسيته ؟ ما معنى التربية ؟ ما وسائلها ؟ ما مناهجها الإسلامية ؟ من يعلّم هذا للبنات ؟ من يعدهن ليكن المربيات ؟
مسألةٌ أساسيةٌ مهمة ، وواجبٌ خطير تؤكد ذلك علينا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتبينه سيرته العطرة عليه الصلاة والسلام : (كلكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته؛ فالأمير الذي على الناس راعٍ، وهو مسئولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسئولٌ عنهم، والمرأة راعيةٌ على بيت بعلها وولده، وهي مسئولةٌ عنهم، والعبد راعٍ على مال سيده، وهو مسئولٌ عنه، ألا فكلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته ) .
أين هذه الرعية ألسنا اليوم نرى الشعوب وهي تطالب حكامها والمسئولين عنها بأن يوفروا العدالة ، وأن يوفروا الأرزاق ، وأن يوفروا .. وأن يوفروا .. فأين مطالبات الرعية في بيوتنا ؟ وأين حقوقها المهضومة ؟ أين هذا الأب وتلك الأم من الحقوق في العدالة والتربية والتعليم والتزكية ؟ أين هذه المهمات الضائعة التي ليس لها من يطالب بها وننشغل بالمطالبة بما يوصف في بعض الأحوال بأنه من حقوق المرأة وهو بعيدٌ عن حقيقتها وطبيعتها وحقوقها ومكانتها كما أرادها الله عز وجل ؟ من الذي يطالب ؟ هل رأيتم في المحاضرات والندوات أو في وسائل الإعلام من يجعل هذه قضية لا بد أن نعنى بها ، وأن نطالب بها ، وأن نوفر الأسباب لحصولها ؟
ثم انظر إلى التركيز الخاص الذي يجعله النبي صلى الله عليه وسلم لتربية البنات على وجه الخصوص لما لتربيتهن من أثرٍ محمودٍ على الأجيال المستقبلية ، وقد أسلفت قول القائل : " إذا علمت رجلاً فقد علمت فرداً ، وإن علمت امرأةً فقد علمت جيلاً أو أمةً " ؛ لذلك يأتينا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلمٍ وغيرهما : (من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار ) لماذا ؟ لأنه يعدّ زوجةً صالحة ، وأماً مربية .. لأنه يعدّ للأمة من يخرّج أجيالاً مؤمنةً متوضئة .. مسألةٌ مهمة يؤكدها ويعضدها حديثه صلى الله عليه وسلم عند الشيخين أيضاً : ( ثلاثةٌ يؤتون أجرهم مرتين - وذكر منهم - الرجل تكون عنده الأمة فيعلمها ويحسن تعليمها ويؤدبها ويحسن أدبها ثم يعتقها فيتزوجها فله أجران ) ، لما خصها بالذكر ؟
لأن هذه التربية وذلك الأدب سيكون له عظيم الأثر .
الوسيلة الثانية : مناهج التعليم
مناهج التعليم للفتيات وللبنات .. هل تعطي هذه المهمة حقها ونصيبها ؟ هل يدرس في المناهج تخصصٌ اسمه تربية الأبناء ؟ قليلةٌ هي التخصصات التربوية ، وقليلٌ في التخصصات التربوية ما يختص بتربية الأبناء بتفصيل ! كأن هذه قضيةٌ ليست مهمة ! وكأنه تخصصٌ يقدم عليه غيره ! نعم لا ننكر وجود تخصصاتٍ نافعةٍ للمرأة .. هناك الاقتصاد المنزلي تدرس فيه الفتات الطبخ والتفصيل والخياطة وتنظيم المنزل والديكور وكل ذلك لمن ؟ إنه للإنسان للبشر ، فهل نحسن هذه الأمور المادية ولا نعلمها كيف تحسن تنظيم - ليس أثاثها - وإنما فكر ونفسية أبنائها ؟ كيف نعلمهم ؟ كيف تغذيهم بالطعام والشراب ولا تغذيهم بالإيمان والإحسان ؟ كيف نعلمها ؟ كيف تحسن تفصيل الملابس ولا تحسن تفصيل الأخلاق والسلوكيات ؟ ينبغي أن يكون ذلك مهماً .(235/3)
وبدراسةٍ إحصائية : " فإن النسب التي لها تخصصاتٌ مباشرةٌ في هذه قليلةٌ لا تتجاوز خمسة بالمائة من إجمالي ما يدرّس ويتخصص فيه الفتيات والطالبات في جوانب المعرفة المختلفة كلها " وهل نحن نريد منها أن تكون في ذلك الجانب أو هذا ؟ قد يكون لنا حاجةٌ بها طبيبة ، وحاجةٌ لها مدرسة ، وحاجةٌ لها كيميائية .. لست أنازع في هذا الآن لكن أولائي كلهن نحن في حاجةٍ إليهن زوجاتٍ ومربيات - وإن كن طبيباتٍ أو معلمات أو غير ذلك من المهمات - فإذاً لا بد في كل تخصصٍ أن يتمرس النساء هذا ؛ فضلاً عن أن يكون تخصصاً تنتدب له من تشاء من النساء والفتيات أن يكن مربياتٍ ومعلماتٍ لأخواتهن من بعد .. أين مناهج التعليم من هذا - وهي ما تزال اليوم وفي عصرنا الحاضر ، وفي الدعوات الملحة وعصر العولمة - ما تزال تنحوا بها إلى بعيدٍ وبعيدٍ عن هذا المجال ، وتتشعب في أمورٍ من التخصصات التي لا تقدم ولا تؤخر في أمر بناء الأمة وحسن تربيتها .
الثالثة : وسائل الإعلام
يصدق فيها أنها " ثالثة الأثافي " وسائل الإعلام هل ترون أنها تخرّج لنا وتؤدي لنا في آخر الأمر إلى امرأةٍ صالحةٍ مصلحة ! وإلى زوجةٍ راعيةٍ مؤدبة ! وإلى أمٍ مربيةٍ مسئولة ! ما هي صورة المرأة في وسائل الإعلام ؟ لا أقول أنا هذا وأنا قد أكون شيخاً أو داعية ! ولا تقولوه أنتم - وأنتم ربما من أهل الخير والصلاح في جملتنا - نسأل الله عز وجل أن نكون كذلك ؛ لكن يقول هذا أهل الإعلام أنفسهم ، في دراساتهم يقولون : " إن الإعلام يقدّم المرأة نموذجاً رجولياً كأنما هي تريد أن تكون نسخةً ولكنها - وللأسف - مشوهةٌ من الرجل ، تقدم المرأة وهي تمارس العنف ، وهي تمارس أدوار الإغراء والفتنة والإلهاء ، ما رأيناها في أكثر الأدوار وهي تؤدي دور التربية وحسن التعليم والتنشئة والقيام بالواجبات المهمة والرسائل العظيمة في حياة الأمة " .
هذه قضيةٌ مهمة .. نرى الندوات ونرى البرامج التلفزيونية فما نرى إلا حديثاً عن التجميل والجمال ! وما نرى - في غالب الأحوال - إلا حديثاً عن الطب والأمراض ! ولا نرى - بعد ذلك - إلا حديثاً عن الطبخ ! كل قنوات التلفاز في غالبها لا تخلو من برامج إعداد الأطعمة ، قد تفتح هذه القناة وتنتقل إلى الثانية ، وترجع إلى الثالثة .. وفي الصباح فلا ترى إلا أواني الطبخ من هذه على تلك ، ومن مطبخٍ إلى آخر .. أين ما وراء ذلك من ما هو أعظم أهميةً ؟
ونجد بعد ذلك الإعلام وهو يناقش حرية المرأة بمفاهيم غربية .. وهو يناقش استقلالية المرأة بمفاهيم غير إسلامية .. ويناقش هذا ويقدمه ؛ بل قد كتبت بعض الكاتبات من بلادنا تنقل عن امرأة غربية : " أنه لم تعد المرأة اليوم تحتاج إلى الرجل ! ليس لأنها تعمل وتكسب فهذا قد عفا زمانه ، وقد تقرر في كثيرٍ من المجتمعات ؛ بل تقول غنها اليوم تستطيع أن تأخذ بموجب التقنيات الحديثة من البنوك - التي تعرفون عنها -وتستطيع أن تنجب دون رجل ، فإذاً تستطيع أن تعيش حياتها دون رجل ! وتستطيع أن تكون منفصلةً عن دنيا الرجل ! ويكون ذلك كأنما هناك مجتمعين منفصلين ، وأمتين مختلفتين .. رجالٌ لا صلة لهم بنساء ، ونساء لا صلة لهن برجال " وتذكر هذا ولا تقول إنه تدعوا إليه لكنها تقول : " إن هذه القضايا ينبغي أن ننتبه لها ، والعالم من حولنا يتغير " ، فسبحان الله ! إن تغير الناس من إيمانٍ إلى كفرٍ فهل يعني ذلك أن نتبعهم ؟ وإن تحولوا من صلاحٍ إلى فساد ، ومن انضباطٍ إلى انحلال ، كما هو حال كثيرٍ من أصقاع العالم اليوم كله ؛ بل حتى أصقاع العالم الإسلامي .. فهل نحن نسير وراء القوم حيث ساروا ؟ ونمضي على حتفنا كما رأينا حتفهم رأي العين بأعيننا : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ؛ حتى لو دخلوا جحر ضبٍ خربٍ لدخلتموه ) قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟! قال : ( فمن ) ، أي فمن غيرهم !
وهذا في وسائل الإعلام لا نرى اليوم إلا المرأة الممسوخة في فطرتها ، التي تقدم - كما يقولون ويزعمون - ثقافة المرأة وعقلها وفكرها ، فننظر ونريد أن نصدقهم ، فلا نرى شيئاً يصدق ذلك ؛ لأنهم لا يعرضون لنا المرأة إلا بشعرها ونحرها ونهبها .. وغير ذلك مما تعلمونه وتسمعون عنه ، وربما تشاهدونه كذلك .
الأمر الرابع : محاضن الدعوة
وهي مسألةٌ مهمة .. " الدعوة للنساء " نحن نرى جهوداً كثيرةً تبذل للدعوة في المحاضرات والكتب وغير ذلك .. لكن كثيراً منها والقسم الأوفى منها للرجال دون النساء ، ما العناية بالمرأة في محاضن الدعوة ؟ ثم ما الموضوعات التي تلقى وتعرض على المرأة ؟
أكثر الموضوعات يحدثها عن الحجاب والاختلاط .. نعم هذه مسائل مهمة ! لكن لما نقتصر عليها ؟ أين دور المرأة في التربية ؟ أين توعيتها بالواقع المعاصر ؟ أين تعريفها بما يحاك للمرأة عموماً والمرأة المسلمة خصوصًا في مؤتمرات ومؤامرات الأمم المتحدة ، وما تدعوا إليه من الفساد والانحلال وغير ذلك ؟(235/4)
أين هي مما ندرسها ونعلمها إياه ، ونبثها إياه في شأن الداعيات المسلمات ؟ أين هي من تذكيرٍ لها بأم شريكٍ الأسدية رضي الله عنها ، التي ذكر ابن حجر في ترجمتها أنها كانت تخالف رجال قريشٍ إلى بيوتهم يخرجون فيصدون عن الإسلام ويؤذون محمداً صلى الله عليه وسلم ، ويواجهون المسلمين ، ثم تخالفهم إلى بيوتهم فتدعوا نسائهم حتى فشا الإسلام في بيوت قريشٍ ، فنذروا بها ، أي بدأوا يبحثون من الذي يجوس خلال الديار ! من الذي غيّر أفكار النساء فوجدوا أم شريك فأخذوها واعتقلوها وربطوها إلى آخر ما هو معلومٌ من قصتها ؟
أين هي أيضاً مما نشيعه عنها ولها في قصة أم سليمٍ رضي الله عنها ، وأم حرام بنت ملحان وغيرهن من النساء ؟
لماذا لا نكثف جهود الدعوة النسائية ؟ بل أين الداعيات من النساء ليتحدثن إلى بنات جنسهن ؟ قلةٌ ولذلك حينئذٍ ستأتي المنافسات غير المحمودة وسيخاطب المرأة غير أهل العلم والصلاح والتقى ؛ لأنها لم تعد تصغي إليهم .. إما لأن حديثهم إليها قليل وهو مصروفٌ إلى الرجال ، وإن حديثهم إليها مقصورٌ على جانبٍ أو جانبين قد عرفتهما وحفظتهما وتريد غيرهما ! وإما لأن طرائق هذه الدعوة وعرضها ليست مرغبةً ولا مشجعة !
ومسألةٌ مهمةٌ في هذا الباب أن يركز هذا الحديث كذلك في ميادين الأم المربية ، ومؤسسات المرأة الاجتماعية ، وهذه الجمعيات المختلفة للمرأة أين دورها في هذا ؟
نعلم أن كثيراً من الجمعيات تقوم بدوراتٍ في الحاسب الآلي ، وفي اللغة الإنجليزية ، وفي الطبخ ، وفي التفصيل .. وكل ذلك لا اعتراض عليه ! لكن أين حجم الدورات في التربية .. في معرفة نفسية الأطفال .. في معرفة علاج مشكلات الأطفال .. في معرفة علاج القضايا التربوية وجوانب التربية ، ووسائل التربية وغير ذلك ؟
ثقافةٌ محصورةٌ محدودةٌ تعطينا ثماراًً فجةً في نساءٍ وفتياتٍ لا نجد أنهن نماذج جيدة ليكنّ زوجاتً صالحات وأمهاتٍ مربيات ! قضية مهمة والحديث فيها يطول كثيراً ، ولذلك لا بد أن نوجه هذا الحديث إليكم معاشر الرجال ، وإلى النساء من قبلكم .. إلى هذه المرأة التي نريد منها أن تكون أماً مربية :
نقول أولاً : استشعار الأهمية
لا بد أن تستشعر المرأة المسلمة أهمية دورها في التربية ، وعظمة رسالتها في التنشئة ، وأن تدرك أن هذا أمرٌ مهم ، وأن تحمل همّه لا أن تحمل همّ في ماذا تلبس من الملابس ! وما تتزين من الزينة فحسب ! هذه مهماتٌ وأشياءٌ ثانوية - للأسف - بدأت تكون هي التي تشغل الاهتمام والتفكير ، وهي التي لأجلها توفر الأموال ، وتبذل الأوقات دون أن يكون حمل الهمّ في القضية المهمة الأساسية .
وثانياً : معرفة القيمة الحقيقية لهذه المهمة العظيمة
اليوم عندنا مشكلة ؛ وهي أنه إذا قالت المرأة أنها " ربة بيتٍ " كانت تستحي بذلك ، وتغض طرفها كأنها في منزلةٍ دونية ! وفي مرتبةٍ سفلية ؛ لأنها ليست موظفة .. لأنها ليست مدرسة .. لأنها ليست كذا .. كأن هذه المهمة مهمةٌ تافهة ! وكأن وجودها في البيت - كما يقول القائلون- عطلنا نصف المجتمع ! كأن المرأة في بيتها لا تعمل شيئاً ، ولا تؤدي دوراً ، وليس لها قيمة ولا لفعلها ولا لدورها مكانة قضيةٌ خطيرة يبثها اليوم - عن قصدٍ أو غير قصد - الإعلام ، وتشيعها كذلك البيئة الاجتماعية ؛ حتى غدت المرأة اليوم ترى أن دورها في التربية دوراً ثانوياً ينبغي أن تحرص على تركه أو على أن تجمع معه شيئاً آخر ؛ ليجعل لها مكانةً ، وهذه قضيةٌ مهمةٌ وخطيرة لا بد أن تعرف المرأة أن هذه المكانة لها هي المكانة السامية .. مكانة الأم الذي ذكرنا فضلها ، ومكانة المربية التي ذكرنا دورها ، ومكانة صمام الأمان الذي يحول بين أعداء الأمة وبين أجيالها .
وهي لذلك في أسمى مكانةٍ ، وفي أخطر موقعٍ من مواقع المواجهة مع أعداء الله عز وجل ، وفي أخطر موقعٍ من مواقع البناء وصناعة الأجيال ومواجه المستقبل بإذن الله سبحانه وتعالى .
وثالثاً : تحصيل العلوم الشرعية
لا بد للمرأة أن تحرص على أن تتعلم من الأحكام الشرعية ، ومن القرآن والسنة والسيرة ما يكون نفعاً لها ، وغذاءً لأبنائها .. اليوم نحتاج من الأم أن تربي صغارها على قصص الصحابة والتابعين ، وأجيال الأمة من الصالحين والصالحات .. اليوم نريد من الأم أن تحفظ أبناءها الصغار قبل أن يذهبوا إلى المساجد والمدارس آياتٍ من القرآن وأذكارٍ يقولونها في سائر جوانب حياتهم .. عند منامهم واستيقاظهم ، ودخولهم وخروجهم .. إلى غير ذلك .
كيف يكون ذلك والأم جاهلةً أمية لا تعرف القراءة والكتابة ؟ ولم تعلم شيئاً من أمور دينها ؟
إن تعليم المرأة كما رأينا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وحسن تأديبها يعطى الأجر مرتين ؛ لأن في هذا على حسن التأديب أجرٌ خاص ، وذلك في الأمر الثاني أمرٌ خاص لكننا نقول هذه القضية مهمة ، وعلى كل رجلٍ وأبٍ أن يتيح الفرصة لبناته ولزوجته أن يتعلمن ؛ لأن ذلك سيكون له أثره .(235/5)
ثم كذلك معرفة المتطلبات التربوية .. ليست كافية أن تتعلم العلوم الشرعية ؛ بل تربطها بالعلوم التربوية الإسلامية ؛ لتعرّف التنشئة ومشكلاتها والتربية ووسائلها وغير ذلك مما له أثرٌ محمود ومعروف .
ثم كذلك ممارسة الدعوة الإسلامية في صفوف النساء ؛ لمعرفة هذه الحقائق كلها .. فنسأل الله عز وجل أن يجعل نسائنا زوجات صالحات وأمهاتٍ مربيات ..
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زادٍ يقدم به العبد على مولاه .
وإن من تقوى الله عز وجل تقواه في الذرية والأبناء .. قياماً بمسئوليتهم ، وعنايةً بتربيتهم ، وحرصاً على تعليمهم ، وبذلاً لكل الجهد في صلاحهم وإصلاحهم .
وإن وراء هذا الحديث وهذا الموضوع تفريعات كثيرة ؛ لكنني أختم هذا المقام ببيان قضيةٍ أساسيةٍ موجزةٍ وهي : أن مهمة الأم المربية ربما ترتكز في ثلاثة جوانب رئيسة :
أولها : المحافظة على الفطرة
( فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) الدور الأكبر للأم في ذلك .
ثم ثانياً : جانب التعليم والتربية
بكل آفاق التعليم والعلوم والمعارف الإسلامية وغيرها ، ثم بكل آفاق التربية أخلاقيةً وإيمانيةً وسلوكيةً وإبداعيةً وفكريةً وغير ذلك .
ثم الجانب الثالث : وهو التحفيز والتنمية
وهو إعلاء الهمم ، ورفع شعور العزة وحماسة العمل ، والدفع بالقوة الإيجابية في هذه الحياة .
ذلك ما نسأل الله عز وجل أن يبصر به زوجاتنا وأمهاتنا ؛ حتى يكون لهن الدور الأعظم في تنشئة أجيالنا .
ولنا حديثٌ من بعد عن ما يقطع على هذه المهمة طريقها .. نسأل الله أن يوفقنا لطاعته ومرضاته ، وأن يسلك بنا سبيل الصالحين ، وأن يلبسنا ثياب المتقين ..(235/6)
الأم المربية
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
الأم المربية مصدر قوةٍ مؤثرة ، ومكمن تغييرٍ عظيم ، ومصنع تربيةٍ للأجيال ..
الأم المربية في واقع أمتنا الإسلامية اليوم قضيةٌ مهمة وجودها على الصورة المنشودة ، والمنهج المطلوب يعد مفتاح التغيير الإيجابي المنشود .
إن أهمية الأم المربية لا تقل - بل ربما تزيد - عن أهمية الجيوش العسكرية المدججة بالسلاح ، وأهمية إصلاح مناهج التعليم ، وتهذيب وسائل الإعلام ؛ لأن قوتها التأثيرية تستطيع أن تواجه كل ذلك ، وتستطيع - بإذن الله سبحانه وتعالى - أن تنتصر على كل ذلك إن كان مناوئاً لدينها وإسلامها .
وديننا العظيم ونهجنا الإسلامي القويم أعطى لهذه المهمة أولويةً عظمى ، ووفّر لها جميع الأسباب التي تعين على حسن أدائها ، واستمرار رسالتها ، ودوام عطائها ؛ لتكون المجتمعات مجتمعات إيمانٍ وإسلام من قعر البيوت .. من ثدي الأمهات .. من رحم المنجبات ؛ ليخرج حينئذٍ الجيل المؤمن في قلبه ويقينه ، ولتخرج الأيادي المتوضئة ، والجباه الساجدة .. تواجه كل فسادٍ وانحرافٍ يمكن أن تعج به المجتمعات .
ووقفتنا الأولى ومضة سريعة في المكانة والأهمية التي جعلها إسلامنا للأم ولدورها الرائد في التربية :
قال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً } . وقال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } .
قال ابن عطية في تفسيره : " ذكر الله الأم في هذه الآية في أربع مراتب ، والأب في مرتبة واحدة ، وجمعهما الذكر في قوله تعالى { بوالديه } ، ثم ذكر الحمل للأم ، ثم الوضع لها ، ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال ، وهذا يناسب ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر ، ووللأب الربع ، وذلك حين جاءه الرجل فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أبوك .
وهذا أمرٌ بينٌ واضح ، ودورٌ فطريٌ خلقيٌ ، أراده الله عز وجل لكمال البشرية ، ولحسن انتظام الحياة في هذه الدنيا .
وروى الترمذي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : يا رسول الله إني أصبت ذنباً عظيماً ، فهل لي من توبة ؟ فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام : هل لك من أمٍ ؟ قال : لا ! قال : هل لك من خالةٍ ؟! قال : نعم ! قال : فبرها . أي ذاك طريق توبةٍ وتكفير ذنبٍ .
ومن أظهر ذلك وأبلغه ما رواه أنسٌ رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله إني لأشتهي الجهاد ولا أقدر عليه - أي ربما كان من أهل الأعذار - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل بقي من والديك أحد ؟ قال : أمي ! قال : ( قابل الله في برها ، فإذا فعلت ذلك فأنت حاجٌ ومعتمرٌ ومجاهدٌ ؛ فإن رضيت عنك فاتق وبرها ) ذكره الهيثمي في المجمع ، وقال رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط والصغير ورجالهما رجال الصحيح ، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب ، وقال : إسنادهم جيد .
ومثل ذلك وأظهر منه حديث معاوية السلمي رضي الله عنه ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو منطلقٌ - فقلت : يا رسول الله إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يعلم أن له أماً تحتاج إليه - ارجع إلى أمك فالزمها ، قال : فجئته من قبل وجهٍ آخر ، فقلت : يا رسول الله إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة ، فقال : إلزم أمك ، فقلت له ثالثةً ، فقال : ويحك الزم رجلها فثم الجنة .
رواه النسائي وابن ماجة في سننهما بسندٍ صحيح وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي .
ذلكم أن الجنة تحت أقدام الأمهات .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ، فقال في سياق حديثٍ طويل : ( ودخلت الجنة فسمعت فيها قراءةً ، فقلت : قراءة من هذه ؟ فقيل لي : قراءة الحارث بن النعمان ، فقال : كذلكم البر .. كذلكم البر ، فكان الحارث من أبر الناس بأمه ) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
ومن هنا ندرك أن هذا المقام الجليل ، والمكانة الرفيعة ، والوجوب الشرعي لبر الأم إنما هو تقدير لدورها العظيم ، ورسالتها السامية ، واعترافٌ بأثرها البليغ في قوة الأمة ومتانة أجيالها ، وصنع أسباب المناعة والحماية والوقاية من الآثار السيئة ، ومن الشرور والأضرار الوخيمة .(236/1)
ولذلك أي شيءٍ يمكن أن يلفت النظر إذا رأيت ذلك الشاب التقي النقي الورع ، أو حتى رأيت ذلك الرجل العالم الداعي المصلح .. إن كثيراً من الناس يفكرون في جهده وتعليمه وشيوخه ، وينسون أن الأصل الأول ، وأن البصمة الأولى ، وأن البداية والانطلاقة إنما كانت من أمٍ مربية ..
خذوا كل من تشاءون من أمثلة الأئمة والعلماء في التاريخ .. نقبوا في صفحات حياتهم ، ارجعوا إلى أيام طفولتهم سترون وراءهم أماً عظيمةً مؤمنةً مربية .. سفيان الثوري ، إمام التابعين ، وعلم المحدثين ، ورمز الزاهدين ، ربّته أمه قالت له : " يا بني أطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي " كان أبوه ميتاً ، فجعلت عملها لكي تفرغه لطلب العلم ، كانت تعلم ما الخير وما الأفضل والأمثل ، ما الذي ينبغي أن تنشئ عليه صغيرها ، ما الطريق الذي ترسم له مساره فيه وتدرج به في خطواته الأولى عليه وتقول - وقد كانت تتخوله دائماً بالوعظ والتوجيه وهو في نعومة أظفاره - كانت تقول له : يا بني إذا كتبت عشر طرقٍ - أي من الحديث - انظر هل ترى في نفسك زيادةً في خشيتك وحلمك ووقارك ؛ فإن لم يزد ذلك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك " ، تريد أن تلقنه أن العلم إنما يكون للعمل ، وأن أثر العلم ينبغي أن يستقر إيماناً وتقى في القلب والنفس ، وأن ما لم يكن ذلك كذلك فلا نفع ولا جدوى ، بل ربما يكون ضررٌ وإثمٌ إذا قدر الله .. أليست هذه الأم كانت أياديها التربوية ومنهجيتها التعليمية هي البداية لذلك الإمام الجليل والعالم العظيم !
انظروا إلى الصحابيات من الأمهات المربيات كيف كان الأثر يغرس منذ نعومة الأظفار بذرة إيمانٍ في سويداء القلوب ، وسمات أخلاقٍ في أعماق النفوس .. الربيع بنت معوذ رضي الله عنها تقول : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء ، فقال : من كان صائماً فليتم صومه ، ومن لم يصم فليمسك - أي عندما بدأ بأمره أو توجيهه عليه الصلاة والسلام لصيامه - قالت : فكنا بعد ذلك نصومه ونصوّم أبناءنا - أي الصغار - فكنا نصومهم ونأخذهم إلى المسجد ، ونأخذ معنا لهم اللعبة من العهن ؛ فإن بكى أحدهم لهيناه بها حتى يتم صومه ويؤذن المغرب .
تلك هي التنشئة ، وتلك هي ملامح ومعالم التربية أخرجت جيل الأتقياء الأصفياء .. جيل لمجاهدين الأعزاء ، أخرجت جيل العلم والعلماء .. ويوم افتقدنا هذه الأم المربية ، ويوم خرجت إلى الأسواق لاهيةً عابثة ، ويوم شغلت بالأعمال وخلفت وراءها أبناء وبناتٍ ليس لهم من يرعاهم ولا يربيهم .. خرجت لنا أجيال لم يعد لها حظٌ من سمة الإيمان ، وصفة الإسلام ، واستغربت في فكرها ، وامتهنت في شكلها وهيئتها ، وذلّت في عزتها ، وضعفت في إيمانها .
ولعلي أمضي بكم إلى ساحةٍ أخرى أريد منها أن نؤكد أن هذا المعنى مهمٌ ومعترفٌ به حتى عند غير المسلمين من العقلاء والحكماء ؛ لأن بعضاً من أبناء جلدتنا قد التوت أعناقهم ، فلا يرون إلا جهة الغرب ، ولا يرون إلا المجتمعات المتحضرة - كما يقولون - وربما لا تكاد آذانهم تصغي أو تسمع إلا لقول أولائك ، ولا ترى النموذج والقدوة إلا في أفعالهم وأحوالهم، أما وقد أصبح ذلك حال بعضهم فلا حرج أن ننقل لهم أقوال القوم وأحوالهم ؛ لنريهم بعض ما يعيدهم إلى رشدهم وصوابهم ..
هذه كلماتٌ ومواقف ينبغي أن نلتفت إليها ، وسأذكر من بعد منهجاً عظيماً نحتاج إليه وإلى التذكير به .
أول ذلك ما ذكرته زوجةٌ لأحد رواد الفضاء الأمريكيين السابقين - وقد كانت ربة منزلٍ ، ليست موظفةً ولا عاملة وإنما مهنتها كما نكتب في مهن بعض أزواجنا " ربة بيت " وبعض نساءنا اليوم تطأطئ رأسها خجلاً إن سئلت : ما هو عملكِ ؟! وكأن هذه المهمة أصبحت شيئاً يستحيى منه ، أو مرتبةً لا تريد المرأة أن تكون فيها ! مع أنها أسمى المراتب وأعلاها ، وأعظم الوظائف وأكثرها أهميةً وجدوى حتى من الناحية الاقتصادية - تقول هذه المرأة الغربية : " أنا مسرورةٌ جداً من بقائي في البيت إلى جانب زوجي وأطفالي ؛ حتى في الأيام العصيبة التي كنا فيها في حاجةٍ إلى المال لم يطلب مني زوجي أن أعمل ، وكانت فلسفته أننا نستطيع أن نوفر حاجاتنا الضرورية ، إن قلّ المال لا تأكل هذا النوع وكُل هذا ، ولا تركب هذه السيارة واركب هذه ، يمكن تدبير الأمور .. ولكننا لا نستطيع أن نربي أبناءنا إذا أفلت الزمام من يدنا " .
ما هو البديل إن لم يكن في بيتك أمٌ مربية ؟ البديل خادمةٌ لم تحمل هذا الطفل في رحمها ،ولم تعاني في ولادته ، ولم تكن يوماً مرضعته ، ولا يهمها شأنه ، ولا يعنيها مستقبله ، ولا تنتمي إلى مجتمعه - بل ربما لا تنتمي إلى دينه ومعتقده - أو ما هو الحل الآخر : أن يسرح الأبناء إلى مؤسساتٍ هنا أو هناك كما هي في مجتمعات الغرب ، تكون كما يقول الرافعي رحمه الله : " للعشرين منهم أمٌ واحدة " أي موظفة ليست أماً فلا تعطيهم شيئاً من معاني الأمومة ؛ فضلاً أن تمنحهم شيئاً من معالم التربية .(236/2)
البدائل قضيةٌ مهمة قد نستطيع أن نسد ثغراتٍ هنا أو هناك .. الأعمال والوظائف فيها رجالٌ ونساء إن تخلينا أو اضطررنا إلى التخلي عن امرأةٍ في مكانٍ ما ! أفلسنا قادرين أن نأتي بغيرها من الرجال أو النساء بحسب الحال ؟! لكنك إن لم تجد في بيتك أماً مربية هل يمكن أن تكون أنت أيها الرجل أماً مربية - خاصةً في سن الصغر - هل يستطيع رجلٌ واحدٌ أن يحتمل البقاء مع طفلٍ في الثانية أو الثالثة من عمره أكثر من ساعةٍ أو ساعتين قبل أن يدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور ويصيح ويضيق ؛ لأنه لم يخلق لذلك ، ولم يكون في نفسه وفكره وطبيعته لذلك ، بينما هو يستطيع أن يحتمل الصعاب ، وأن يرابط الأوقات الطويلة في عمله دون كدرٍ أو ملل ؛ لأن الله جل وعلا قد ركّبه وخلقه على هيئةٍ تصلح لذلك .
ومن هنا أيضاً نقول من مقالات بعض القوم : " المرأة التي تشتغل خارج بيتها تؤدي عمل عاملٍ بسيط ولكنها لا تؤدي عمل امرأة " أي عمل الأم هناك يمكن أن تسد الثغرة ولكن أين المقابل والبديل ؟
أمرٌ آخر الفطرة التي فطر الله الناس عليها قد جعلها في هذه المرأة مناسبةً لهذه المهمة أولاً في الأصل الخلقي الطبعي .. هل رأيتم في حياتكم رجلاً يحمل ويلد - وإن كنا نقرأ أحياناً من الطرائف والعجائب والغرائب ما يكتب في بعض الصحف مثل هذا - ولست واقفاً عنده لكنني أقول : كل الناس - حتى الذين يرتقون إلى أعلى الدرجات في المطالبة بالمساواة - لم نسمع عن أحدٍ منهم أنه طالب أن يساوى الرجل بالمرأة في الحمل والوضع والولادة لماذا ؟
لو كان من الناحية النظرية لدعو إلى ذلك وطالبوا به ، لكن هذا محالٌُ بطبيعة الخلقة ! فإذا سلموا في هذا فلماذا لا يسلمون في طبيعة الفطرة والخلقة في ما وراء ذلك ؟
يقول أحد الغربيين أيضاً : " إن الرجل يبحث عن المرأة التي تعمر البيت بوجودها وحركتها وعملها ، وليست المرأة التي تملئ المعامل والمصانع والمكاتب والشوارع ، وتخلف ورائها بيتاً يفترسه الضياع والفساد بوسائله المباشرة وغير المباشرة " .
وأكمل لكم الثالثة : في بيان الأهمية والخطورة
فإن هذا الدور إذا اختل - ليس مجرد مناقضٍ للفطرة وليس مجرد أمرٍ - لن نستطيع أن نجد له بديلاً ، ولكنه كذلك خطوط حمراء ، وهو أحد المقاتل الخطيرة التي تضعضع كيان مجتمعاتنا الإسلامية ، ويوشك أن تعيث من خلالها أو أن يعيث من خلالها الفساد في ديارنا .
ومن هنا ؛ فإن النقطة الثالثة هي الهجوم العظيم المتعاظم المتنامي على الأسرة عموماً والمرأة خصوصاً ، وعلى دور الأم المربية بشكلٍ أخص .
البروتوكولات المنسوبة إلى اليهود يقولون فيها : " سوف ندمر الحياة الأسرية بين الأميين - أي غير اليهود - ونفسد أهميتها التربوية " .
ولما علم أولئك القوم أن سراً من أسرار قوتنا وترابطنا ، واستعصاء أجيالنا على مخططات التدجين والتهوين والتهويد إنما هو إلى أولئك الأمهات العظيمات المربيات ، قالوا : لا بد أن نلغي دور هذه الأم المربية ، والزوجة الراعية ، والبنت الحانية .. وأن نفسد هذه اللبنة القوية المتماسكة ..
وأنتم تعلمون كم تعقد الأمم المتحدة من المؤتمرات التي تحشد لها الأمم من شرق الأرض وغربها ، وأي شيءٍ تريد منها عناوين كذابة ، وشعاراتٌ براقة ، ومضامين فاسدةٍ مفسدة : الصحة الإنجابية ؛ أي كيف تمارس المرأة كل أنواع الفسق والفجور والزنا والخنا !
ثم تكون هناك بعض التعليمات والتوجيهات للوقاية من الأمراض ، وماذا يقولون ؟
كثيرٌ من الكلام تعلمونه .. لماذا كل هذا الجهد المبذول والتخطيط المتتابع منذ عقودٍ ، والأموال المصروفة المبذولة ؟
واليوم الدعوات التي نسمعها لإصلاح المجتمعات العربية والإسلامية في مقدمة هذا الإصلاح وضع المرأة - كما يقولون - ويروجونه وفق تصوراتهم ومناهجهم وآرائهم وأحوالهم ..
هذه قضية مهمة ؛ لعلي أقف وقفةً لا بد لنا أن نعيها نحن معاشر المسلمين :
المؤهلات الخلقية والفطرية للمرأة في التربية
أولها : الخصائص النفسية
فإن المرأة مجبولةٌ على العاطفة الفياضة ، والحنان المتدفق .. ألا ترون ذلك فيما صورته أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يبين هذه العاطفة ليس في الإنسان بل حتى في الحيوان !
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً - وقد كان يمر ببعض الأسرى - وامرأةٌ تأخذ وليدها فتضمه إلى صدرها ، فيقول :أرأيتم هذه طارحة ولدها في النار ؟! قالوا : يا رسول الله هي أرحم به من ذلك ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فالله أرحم بكم من هذه بولدها ) ، لكنه أراد أن يبين أن الرحمة الإنسانية في أعلى صورها إنما هي عند المرأة الأم .
وذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الذي كان من أقضية سليمان عليه السلام في امرأتين تنازعتا في طفلٍ ، كل واحدةٌ تدّعي أنها أمه ! فبأي شيءٍ حكم ؟(236/3)
قال : أحكم بأن يشق نصفين ، فتعطى كل واحدة نصف ، ولم يكن يريد أن يكون هذا حكماً منفذاً لكنه عندما قاله قالت إحداهما : لا تفعل هو لها - وهي أمه - فهل أقرت بهذا على أن تلك أمه ؟ كلا ! بل حكم لها بأن تأخذ هذا الابن ؛ لأنه أثبت أن رحمتها به آثرت حياته ولو كان بعيداً عنها ، ولو كان عند غيرها ، فأيقن أنها أمه .. هذه الصورة من الرحمة والعطف والحنان كيف ينشأ الأطفال إذا حرموا منها ؟ لماذا تشكوا المجتمعات الغربية اليوم ممن يسمونهم " التين آجرز " الذين هم أبناء ما فوق العاشرة والعشرين ؟
لماذا ترون هناك أبناء الخامسة عشر وهم ينفذون جرائم قتلٍ كاملة ؟ إنهم لم يجدوا حناناً ولا عطفاً من الأم ، عاشوا في بيئةٍ صحراوية من المشاعر والعواطف ، عاشوا في بيئةٍ ليست مستقرة في ظلال الأسرة الوارفة ، فخرجوا إلى المجتمع أشراراً لا يبغون فيه إلا فساداً ، وانظروا إلى الصبر والاحتمال وهو من الطبيعة النفسية عند المرأة على الصغار - كما قلت من قبل - هذه أمه طفلٌ ترضعه ، وآخر يحبوا تنتبه له ، وثالث يدرج توجهه ، وتعيش في هذه المملكة ما لو عاشه الرجل - كما قلت - ساعةً واحدة لكاد أن يساق إلى مستشفى المجانين ، كيف ذلك ؟ لأن الله جعل لها صدراً رحباً ، واحتمالاً عظيماً في هذا الباب ليس له نظير .
والأمر الثاني وهو مهمٌ كذلك : طبيعة الاستقرار في المرأة
والقرآن العظيم والمنهج الإسلامي القويم يتطابق مع أصل الخلقة والفطرة ، قال تعالى : { ألم نخلقكم من ماءٍ مهين * فجعلناه في قرارٍ مكين } ، قرار الرحم يستقر فيه كل واحدٌ منا قد استقر فيه تسعة أشهر ، هل لأحدٍ منكم أن يقول - أو أن يدعي - أنه لم تكن له أمٌ حملته ووضعته وأرضعته وغذته ورعته وربته ؟!
هذا الاستقرار هو من طبيعة المرأة ؛ ولذلك حتى المرأة العاملة هل تبقى في البيت وقتاً أطول من زوجها أو لا ؟ لأن في طبيعتها الاستقرار ؛ ومن هنا جاء التوجيه الرباني ، قال تعالى : { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } ليس ذلك تحريماً للخروج أو للعمل في صورته وصيغته الشرعية ! ولكنه ذكرٌ للطبيعة المناسبة للمرأة تغليباً .
ولذلك أنظروا إلى الرجال ألا ترونه في أيام العطل والإجازات إذا بقي في بيته لم يستطع أن يبقى إلا جزأً من الوقت ثم يخرج ؛ لأنه ليس من طبيعته الاستقرار ، بل هو متنقلٌ مرتحلٌ عاملٌ متغبرٌ .. هذه طبيعة الكبد والكدح والسير في هذه الحياة ، قال تعالى : { قل سيروا في الأرض } وهذا ضربٌ آخر يتناسب مع الرجل ، فإذاً طبيعة القرار والاستقرار جعلها الله لتكمل بها هذه الحياة .
وأخيراً : القرب والملابسة
من الأقرب إلى الأبناء ؟ بل من الأقرب إلى الأزواج ؟ من الأعرف بطبائعهم ؟ من الأقدر على اكتشاف أسرارهم .. أليست الأم التي تعرف ماذا يحب هذا وماذا يحب ذاك من الطعام والشراب ؟ أليست هي التي تغسل الملابس وتعرف ما قد يكون فيها ؟ أليس الأبناء - حتى أحياناً وإن كبروا - يسرون بأسرارهم ومشكلاتهم إلى أمهاتهم ، لماذا ؟
لأن هذه طبيعةٌ حانية ؛ ولأنه استقرار في كل وقتٍ يجده ، يبحث عن أبيه فمرةً في شرقٍ ، ومرةً في غرب ، وإذا كلمه وجد صرامة الوجه ، وتقطب الجبين والشدة التي يعرفها لا يتناسب ذلك لا يعني ذلك أنه ليس للأب دور في التربية ولكننا نذكر الدور الأساسي في المراحل الأولى ، وتبقى للأم أدوارٌ مستمرة فكل رجلٍ مهما بلغ من الكبر فهو طفلٌ عند أمه ، لا يكبر الإنسان على أمه هذه التربية هذه الأم هذا الدور لا بد أن نعنى به ، وأن نحرص عليه لنؤمل بيوتنا ، ولنعد أجيالنا نسأل الله عز وجل أن يحفظ نسائنا وزوجاتنا ..
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زادٍ يقدم بع العبد على مولاه .
وإن من الأمور المهمة العناية بدور الأم وتربيتها لأبنائها ؛ ولعلي أشير هنا إلى إشاراتٍ لا بد من ذكرها والتنبيه والتعويل عليها :
لفت نظرٍ إلى الأمهات العظيمات المربيات في أرض فلسطين .. ما الذي أخرج لنا هذا الجيل من الشباب الصغار في مقتبل العمر ، يكشفون صدورهم للرصاص ومدافع الدبابات وقصف الصواريخ ، وهم يبتسمون ويجددون قول أسلافنا " الله أكبر فزت ورب الكعبة " ؟!
ثم نرى من بعد الأم وهي تقول : " لا تعزوني ولكن هنئوني بشرف استشهاد أبناءي " ، ألم نرى ذلك ؟ ألم نعرف أن هذه القوة التي تواجه اليوم ألد أعدائنا وأحقرهم وأذلهم من اليهود - عليهم لعائن لله - إنما كان الدور العظيم بعد فضل الله عز وجل وأدوارٍ أخرى لأولئك الأمهات ..
ألسنا نعرف أن قوة الإنجاب وكثرته في أرض فلسطين أحد الأسلحة العظيمة التي تقلق أعداء الله عز وجل ، ثم يقال لنا قللوا نسلكم وأخرجوا نسائكم وضيعوا أجيالكم ومن بعد سوف تضيع كلمتكم وتذهب ريحكم ..(236/4)
أمثلةٌ عظيمة نراها وتؤكد لنا هذا المعنى ، ونحن وإن كنا نألم ونحزن لما يجري في أرض العراق وفي فلسطين ، ونتفاعل معه في الخطب لكننا كذلك نحتاج إلى أن نقف وقفاتٍ عملية ؛ لنؤدي دورنا ، ونقوم بواجبنا :
أحد الكتاب يقول مقالةً قويةً معبرة : " إن دور الأم في التربية أعظم من دور الثورة " ، نحن نريد ثورةً على الظلم لإقرار العدل ، وعلى الذل للتحلي بالعز .. نحن نريد ثورةً نغير بها الواقع في حياتنا ، وإن من أعظم أسباب هذه الثورة - دون أن تكون ثورةً حمراء ، ودون أن تكون ثورةً في مبتدئها ثورة دماء ، ودون أن تكون رعونةً رعناء - هو دور التربية ، مفتاح التغيير ، ومصدر القوة ، وإن أسلحة التربية في الأجيال المؤمنة أعظم وأفتك من الأسلحة الذرية وأسلحة الدمار الشامل الذين يكذبون على الناس بوجودها ، ويعرفون أن حقيقة قوتنا في إيماننا وإسلامنا وتربية أجيالنا ، فيحاربوننا في مكمن قوتنا ، ودعك من غير ذلك من الأضاليل والأكاذيب ! وإلا فلماذا هذه الدعوات من الديمقراطيات والإصلاحات وغيرها من المغالطات التي يروجونها وفق المنظور الغربي والحضارة الغربية ؟!
وأقول أيها الأخوة :
إن هذا المعنى مهمٌ جداً ، ونحن عندما نقول ونتحدث في هذا فلسنا نتحدث بعيداً عن واقعنا ! ولسنا لا نعي ما يجري حولنا ! ولكننا نريد أن نكون أصحاب عمل - وقد قلنا من قبل في حديثٍ مستفيضٍ عن خطة الإصلاح ومنهجه في القرآن ومبدئه من قوله عز وجل : { إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم } - وهذا الذي نتحدث عنه حديثٌ مهمٌ مكملٌ لهذا الدور العظيم ، الذي عبر عنه شاعر العراق الرصافي بقوله :
ولم أر للخلائق من محل **** يهذبها كحضن الأمهات
فحضن الأم مدرسة تسامت **** بتربية البنين أو البنات
وأخلاق الوليد تقاس حُسناً **** بأخلاق النساء الوالدات
وليس ربيب عالية المزايا **** كمثل ربيب سافلة الصفات
وليس النبت ينبت في جِنان **** كمثل النبت ينبت في الفلاة
فاعلم أن هذا الابن والشاب إذا كان صالحاً - أن وراءه في الغالب - أماٌ مربيةً صالحة .
ولقد كان القاسم وإبراهيم - من التابعين - يدخلان على عائشة رضي الله عنهما ، وكان أحدهما في لسانه لكنة - يلحن في العربية - فقالت : قد علمت من أين فصاحة هذا وعجمة هذا .. هذا ربته أمه ، وذاك ربته أمه " ، وكانت أمه أعجميةً ليست عربية ، فبقي أثر تربيتها ؛ حتى وإن كان رجلاً عالماً إلا أن بعض الأثر ما زال ظاهراً .
ولذلك مقولةٌ عظيمة تقول : " إذا علمت رجلاً فقد علمت فرداً ، وإذا علمت امرأةً فقد علمت جيلاً " .
نسأل الله عز وجل أن يحفظ بيوتنا وأبنائنا وبناتنا من كل الشرور والمفاسد ، وأن يعطينا الزوجات الراعيات ..
هذا المقال من: إسلاميات
http://islameiat.com/doc(236/5)
الأمة المنصورة منهجها وصفاتها
إعداد/ سيد عبد الحليم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فإن الأمة السعيدة القوية المنصورة المؤيَّدة لها منهج وصفات تخالف به الأمة
الخائرة الضعيفة المتخاذلة الشقية، وهذا ينبثق من تفضيل الله للإنسان وتكريمه
له، حيث قال سبحانه: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في
البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم
على كثير ممن خلقنا تفضيلا[الإسراء: 70].
فكرم الله - عز وجل - بني آدم بالنطق والتمييز، والعقل والمعرفة، والصورة، والتسلط على ما في
الأرض والتمتع به، ويسّر لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها وتحصيلهم
فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات.
لذلك حق عليهم أن يشكروا
هذه النعم، فيخلصوا العبودية للمتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده.
والمزية الكبرى، والنعمة العظمى التي وهبها الله الإنسان وفضله بها هي العقل والأدب:
ما وهب الله لامرئ هبة أفضل من عقله وأدبه
هما جمال الفتى فإن فقدا ففقده للحياة أجمل به
والمراد بالأدب هنا الأدب النفسي، وهو الخلق الحسن، وبه تتفاوت الأمم
ارتقاء وانحطاطًا، وقوة وضعفًا، وسيادة وعبودية.
فما من أمة كثر حظها من خلق
حسن إلا بلغت أوج الرقى، وغاية السعادية، وإن كانت قليلة العدد، أو كانت أرضها
ضيقة، أو قليلة الغناء والخير، غير صالحة للزرع والضرع، قليلة الحواصل،
والثمرات، ضعيفة الغلات، فإن جميع ما في الأرض من الخيرات والبركات يُحمل
إليها: وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة
يأتيها رزقها رغدا من كل مكان[النمل: 112].
يقول ابن عباس
في قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم
وأهليكم نارا <<. «اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم
بتقوى الله boldويقول قتادة: «تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن
تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية قذعتهم
عنها وزجرتهم عنها». وهكذا قال الضحاك ومقاتل: «حق على المسلم أن يعلم أهله من
قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه».
وفي معنى هذه
الآية الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك بن
الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا
الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها».
قال
الفقهاء: وهكذا في الصوم ليكون تمرينا على العبادة والطاعة، ومجانبة المعاصي،
وترك المنكر.
وقد عاش المسلمون السابقون العمل بالإسلام فوجدوه كفيلا بسعادة
الروح والبدن، وضابطا لمصالح الدين والدنيا... فالعجب من قوم يكون عندهم هذا
الدين الحنيف محفوظا خالصا، لا تشوبه شائبة، ويرون كيف سعد به أسلافهم، ثم
يتنكرون له، ويجهلونه، ويجهلون عليه، ويرددون أقوال أعدائه، وينشرونها بين
قومهم، مع ما فيها من الكذب والتدليس، والتمويه والتحريف.
قال الله سبحانه:
وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا
نحن نرزقك والعاقبة للتقوى[طه: 132].
يقول فيها العلامة
ابن كثير: استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت على فعلها، فإذا أقمت
الصلاة نرزقك من حيث لا تحتسب، قال النووي: «لا نسألك رزقًا، يعني لا نكلفك
الطلب». وقال ابن أبي حاتم بسنده إلى هشام عن أبيه: «أنه كان إذا دخل على أهل
الدنيا فرأى من دنياهم طرفًا، فإذا رجع إلى أهله فدخل الدار قرأ: ولا
تمدن عينيكإلى قوله: نحن نرزقكثم يقول: «الصلاة
الصلاة رحمكم الله».
وقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرغ
لعبادتي أملأ صدرك غنًى، وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً، ولم أسدّ
فقرك».
[أخرجه الترمذي برقم (6642) وصححه الألباني]
وروى ابن ماجه من حديث ابن
مسعود: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من جعل الهموم همًا واحدًا، همّ
المعاد كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبال
الله في أي أوديته هلك».
[صحيح بن ماجة برقم (207) صحيح الجامع برقم
(6189)]
وروى أيضًا من حديث ثابت رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه، فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه،
ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره، وجعل
غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة».
والعاقبة للتقوىأي وحسن
العاقبة في الدنيا والآخرة لمن اتقى.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: «رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع وأنَّا أُوتينا من رطب ابن
طاب، فأولت ذلك أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد
طاب».
وفي خطاب الآية الكريمة تزهيد له صلى الله عليه وسلم ولأمته في الدنيا(237/1)
وزخارفها. وإبعاد لهم عن الافتتان بزهرتها وزينتها؛ لأن من فتن بها أهلكته
وشغلته عن ذكر الله، وهذا مع العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان رئيس
الدولة، وكان يُعطي عطاء من لا يخاف الفقر، والأموال كلها بيديه، ولكنه كان
زاهدًا فيها، مفضّلاً التقشّف في المعيشة طوعًا واختيارًا، لا حاجة واضطرارًا،
فكان ينام على الحصير حتى يؤثر في جسده الشريف. وكان يمر الشهر والشهران لا
توقد النار في بيته، وإنما يعيش هو وأهله على الماء والتمر، كما في حديث عائشة
في الصحيحين، فكان عروة بن الزبير إذا دخل بيته يعظ نفسه وأهله بهذه الآية
وينادي فيهم: «الصلاة الصلاة» ففيها نعيم وقرة عين المتقين كما قال النبي صلى
الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة». أي الفرح والسرور، لأن الصلاة
تعين كل محتاج، وتفرّج كربه استعينوا بالصبر والصلاة <<.
وهذه سنة
سائر الأنبياء إذا نزل بهم أمر يكرهونه يفزعون إلى الصلاة فيدفع الله عنهم بها
كل مكروه، ويبدلهم بالعسر يسرا، وبالضيق سعة، وبالشدة رخاء، وهذا هو ديدن
المؤمنين الصادقين شبابا كانوا أم كهولا أم شيوخا - أن يفعلوا إذا نزل بهم
ما يكرهون، أن يستعينوا بالصبر والصلاة، فالصبر يهون المصائب، ويفتح باب الفرج،
والصلاة استغاثة واستعانة بالله تعالى.
إن في الحديث القدسي: «يا ابن آدم تفرغ
لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك».
لجواب للذين يسألون عن أوقات الصلاة إذا فرض فيها شغل دنيوي - كصلاة العصر
مثلا - هل يتفرغون لعبادة الله ويؤدون فريضتهم، ويدعون شغلهم جانبا، فإذا
فعلوا ذلك ملأ الله صدرهم، وأيديهم غنى، وأزال فقرهم الحسي والمعنوي، فالمعنوي:
هو فقر القلب وجزعه، وشغله بالتفكير في الرزق، أو في أي وسيلة يظن أن الرزق
يأتي بسببها، وإن هم لم يستجيبوا لدعوة الله، وتمادوا في شغلهم، وأعرضوا عن
الصلاة حتى يخرج وقتها، فحينئذ يمتلئ صدره غما وشغلا، وإنما مثلنا بصلاة
العصر لأن صلاة العصر تجيء عادة وسط الأشغال وبها يمتحن المؤمن، فإن كان صادق
العزم ثابت اليقين أوقف الشغل الدنيوي، وتفرغ لعبادة الله، واستجاب لدعوته،
فيزيده الله قوة إلى قوته، ويملأ صدره غنى وثقة به، وذلك هو الظفر والنصر
المبين، وإن كان خائر العزم، ضعيف الإرادة، كبر عليه ترك شغله، وخيل له أن في
تركه خسارة، لا تعوض، فيستمر في شغله عاصيا ربه، خائنا دينه، فحينئذ يمتلئ
صدره غما وشغلا يلازمانه أبدا.
أخرج البخاري في كتاب المواقيت من صحيحه عن
أبي المليج قال: «كنا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم فقال: «بكروا بصلاة
العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ترك صلاة العصر حبط عمله».
وأخرج
البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذي تفوته
صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله».
نفهم من الحديث الأول ومن غيره من الأحاديث
الصحاح، ومن الآيات البينات: أن من ترك صلاة العصر عمدا بلا عذر شرعي حتى يخرج
وقتها فقد بطل عمله الصالح كله، فإن تاب وعاهد الله عهدا صادقا أن لا يتعمد
ترك الصلاة المفروضة أبدا فإن الله يرد له ما حبط من عمله.
ومثل هذا قوله
تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن
أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين[الزمر:
52].
وحديث جابر الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بين الرجل
وبين الكفر ترك الصلاة». وإذا كان ترك الصلاة عمدًا كفر فلا إشكال في حبوط
العمل.
وأما الحديث الثاني: الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله؛ أي
خسر ماله وأهله، وبقي فردًا بلا أهل ولا مال، ومثل ذلك قوله تعالى: قل إن
الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة
ألا ذلك هو الخسران المبين[الزمر: 15]، وكل فريضة حدد وقتها
يجب على المسلم أن يترك كل شغله يشغله عن أدائها: يا أيها الذين
آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى
ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم
تعلمون (9) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض
وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم
تفلحون[الجمعة: 9- 10]. فحرّم الله على المسلمين أن يشتغلوا بالبيع
وغيره من أمور الدنيا بعد أذان الجمعة، وأوجب عليهم أن يسعوا إلى المسجد لأداء
صلاة الجمعة حتى إذا سلم الإمام من صلاة الجمعة فقد أذن الله لهم أن يخرجوا من
المسجد وينتشروا في الأرض، ليشتغلوا بأعمالهم التي تكفل لهم رزقهم.
ومثل ذلك
قوله تعالى: إن الإنسان خلق هلوعا (19) إذا مسه الشر
جزوعا (20) وإذا مسه الخير منوعا (21) إلا المصلين
(22) الذين هم على صلاتهم دائمون (23) والذين في
أموالهم حق معلوم (24) للسائل والمحروم (25)
والذين يصدقون بيوم الدين (26) والذين هم من
عذاب ربهم مشفقون (27) إن عذاب ربهم غير مأمون
(28) والذين هم لفروجهم حافظون (29) إلا على
أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين
(30) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (31)(237/2)
والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (32) والذين هم
بشهاداتهم قائمون (33) والذين هم على صلاتهم
يحافظون (34) أولئك في جنات مكرمون[المعارج: 16 -
35].
أخبرنا الله سبحانه أن الإنسان - يعني جميع الناس - خُلق هلوعًا، حصل من
طبعه الهلع، وهو الجزع وشدة الحرص. فتفسير «هلوعًا» هو ما بعده: وإذا
مسه الخيروهو الغنى والصحة والقوة والنصر وسائر النعم «منوعا» بخيلاً
لا ينفع غيره بشيء، ثم استثنى الله تعالى من الناس المجبولين مع ذلك الطبع
الخبيث المصلين، وأكّد وصفهم بقوله تعالى: الذين هم على صلاتهم
دائمونأي محافظون على أوقاتها وشروطها وأركانها وآدابها، ووصفهم بصفات
بدأها بالمحافظة على الصلاة، وختمها بالمحافظة عليها، وذكر بينهما صفات:
أولاً:
أن في أموالهم حقًا معلومًا للفقراء والمحتاجين، سواءٌ أكانوا من الذين يظهرون
فقرهم وحاجتهم ويسألون الناس، أم كانوا من المتعففين الذين يكتمون فقرهم، ولا
يسألون الناس، وهم القسم المعبر عنه بالمحروم؛ لأن أكثر الناس يحرمونهم
الصدقة.
ثانيًا: أنهم يُصدِّقون بيوم الدين، أي يؤمنون بيوم القيامة، وهو يوم
الجزاء، ويجعلونه نصب أعينهم، فيبعثهم ذلك على مراقبة الله تعالى فلا يفعلون ما
لا يرضيه.
ثالثًا: الخوف من الله تعالى، فهم يخافون عذابه ولا يأمنون مكره،
فإنه لا يأمنه إلا القوم الخاسرون.
رابعًا: أنهم يحفظون فروجهم عما حرَّم الله
ويقتصرون على ما أحل الله.
خامسًا: أنهم يحافظون على عهدهم إذا عاهدوا مسلمًا
أو ذميًا، أو معاهدًا أو مصالحًا لا ينقضونه أبدًا.
سادسًا: أنهم يقومون
بشهاداتهم فيؤدونها كما علموها، ولو كانت على الوالدين والأقربين، لا يزيدون
فيها ولا ينقصون، ولا يُبدِّلون ولا يغيِّرون، ولا يكتمون أبدًا، ومن يكتمها
فإنه آثم قلبه.
فهذه صفات المؤمنين الصادقين، لا جَرَم أن كل مجتمع سادت فيه
هذه الصفات يكون سعيدًا في دنياه وأخراه عزيزًا مؤيدًا منصورًا، جعلنا الله من
أهلها.
وللحديث بقية بإذن الله تعالى.(237/3)
الأمة في مواجهة الغمة
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
أحوال عصيبة وظروف رهيبة تحيط بأمتنا في هذه الأيام ، ونحن نقف هذه الوقفة مع الأمة في مواجهة الغمة ؛ ولعلنا نرى صوراً محزنة ، إذ نجد أن الأمة في مجموعها كأنها لا تملك من الأمر شيئاً ! وكأن الحال كما قال القائل :
ويقضى الأمر حين تغيب تيم **** ولا يستأذنون وهم شهود
ونرى أن الآراء مازالت متباعدة ، وأن الأفكار مازالت متباينة ، وأن الوحدة مازالت بعيدة ..
ومن جهة نرى صوراً من زيغ الفكر ، وضعف اليقين ، وانحراف السلوك ، بل نرى حقيقة النفاق والممالأة والمصانعة التي تزيد الأمة ضعفاً ووهناً ، والتي تزيد أعداءها تسلطاً وتمكناً .
وما من شك أن كل أحد منا عليه واجب ، وفي عنقه مسؤولية ، ليست المهمة قاصرة على دولة أو أخرى ، أو حاكم أو عالم أو مؤسسة ، بل كل أحد في عنقه أمانة ، وعلى كاهله مهمة ، ومن ثم ؛ فإننا ينبغي أن نعيد القول ونكرره ، وأن نعاود المدارسة والمذاكرة في أحوال أمتنا التي هي في حقيقة أمرها مجموع أحوالنا .
وإذا أردنا أن نقول ، وأن نؤكد هذه المعاني ، فينبغي لنا أن نكون صرحاء لا نستخدم التعمية الإعلامية ، ولا الألاعيب السياسية ، ولا المداهنات والمنافقات التي نجدها ، ليس في حياة الأمة على مستوى الدول والحكومات بل على مستوى الأفراد والتجمعات ، لابد أن نكاشف أنفسنا من خلال أنوار اليقين في كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. لابد أن نكتشف خللنا وعيوبنا من خلال النظر في سنن الله - سبحانه وتعالى - الماضية التي قرأناها ونقرأها في صفحات التاريخ الغابرة ، ونشاهدها ونراها في الوقائع المعاصرة .
وعندما نكون كذلك وربما يكون هذا أول الطريق ، وطريق للإصلاح ، ولا يمكن أن نتصور أن يكون طريقاً قصيراً ينتهي في غمضة عين وانتباهتها ، أو في أيام قلائل ، أو أعوام يسيرة ، ولا يمكن كذلك أن نعتقده طريقاً سهلاً مذللاً معبداً مفروشاً بالورود ! بل فيه عقبات عظيمة ، وهوائل جسيمة ، وفيه ابتلاءات ومحن وفتن لا يصبر لها ولا يجتازها إلا الخلص من المؤمنين الصادقين ، والملمين المستسلمين لرب العالمين ، وهذه وقفات كلية جامعة في الأمور المهمة لمواجهة هذه الملمة:
أولا: الإيمان واليقين
وقد نكرر القول ونزيده ، وليس في ذلك من ترف ولا سرف ، ولا شيء مملّ ، بل هو عين اليقين ؛ لأن ثوابتنا لا تتغير ، ولأن أسس ومناهج الحل والتغيير لا تتبدل ، ولأن بين أيدينا كتاب: { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت:42 ] .
وسنة هي وحي يوحى من رب العالمين ، ونحن قد قلنا في حديثنا عن القرآن - ولعل هذا الحديث يعد موصولاً به - إن واجبنا نحوه حسن فهمه ، وقوة اليقين به أن يحسن التدبر والتأمل والتفكر والمعرفة والعلم والتعليم لكتاب الله عز وجل ، وأن نرسخ الإيمان واليقين بكل حقائقه ، وبكل وعوده ، وبكل سننه ، وبكل أوامره ، وبكل نواهيه ليس شيء يندّ عن شيء : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [ البقرة: من الآية85 ] .
ذلك صفة أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا ، والذين كان إيمانهم زائغاً ، بل لم يكن إيماناً حقيقياً البتة !
الإيمان واليقين .. { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر:51 ] .
هل ثمة يقين بهذا ؟ وهل هو يقين راسخ ؟ وهل له أثر في الواقع ؟ أم أنه يمر على أطراف الألسنة ، وتكاد تنكره العقول ، وتكاد تتجافاه أو تتعافاه النفوس ، والله - جل وعلا – يقول : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الروم: من الآية47 ].
القائل رب الأرباب ، ملك الملوك ، مَن بيده ملكوت كل شيء ، مَن إليه يرجع الأمر كله ، وبيده الأمر كله ، ويقول - جل وعلا - متفضلاً ممتناً ، وهو المستغني عن الخلق والعباد يوجب على نفسه حقا: { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الروم: من الآية47 ] .
أفيكون الحق الذي أوجبه الحق على نفسه باطلاً ؟ حاشا لله جل وعلا !! ومن كان في نفسه ذرة شك في ذلك فليرجع إيمانه ويقينه ، وليتفقد إسلامه وحقيقة دينه ؛ فإن الأمر عظيم والخطب جليل:
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات:،172،171،173 ] .
ما بال النصر لا تخفق راياته ؟ ما بال جند الإسلام لا يظهر علوهم ولا تبدوا غلبتهم ؟ هل في ذلك شك مما جاء في كتاب الله ؟ أم أن ثمة ضعف في اليقين وقبل ذلك كذلك مخالفة لشروط ذلك النصر؟
{ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [ هود: من الآية49 ] .(238/1)
العاقبة نهاية الأمر لابد أن تكون لأهل الإيمان والتقوى ، رضي بذلك من رضي وشك فيه من شك ، لكن أهل الإيمان يوقنون به ، يرونه رأي العين ، يتأكدون أنه قادم لا محالة .. قد يتأخر يومه ، قد يعظم البلاء قبله لكنه قادم لا محالة ، كما أخبر الله - سبحانه وتعالى - وكما قص علينا ، وكما بيّن لنا فيما جرى على رسله وأنبيائه صفوة خلقه - عليهم الصلاة والسلام - حتى قال أتباعهم: { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة: من الآية214 ] .
ماذا يرى الناس اليوم ؟ وما الذي يتسرب إلى قلوبهم مما يرون ؟ أليسوا يرون أصحاب الباطل والكفر أصحاب سيطرة وهيمنة ؟ أصحاب قوة وهيبة ؟ أليست لهم الكلمة العليا في المشهد السياسي ؟ أليست لهم القوة العظمى في الواقع العسكري؟ أليست لهم الهيمنة القوية في الميدان الاقتصادي؟ يتسرب اليأس إلى النفوس ، ويدب الشك إلى القلوب ، أين هذا من هذه الآيات؟ أين هذا الواقع الذي لا يرى فيه لأهل الإيمان شوكة قوية ولا راية مرتفعة ؟
ويرى الناس ويسمعون ويشاهدون القول في الأحداث التي تتعلق بأهل الإسلام وبلاد الإسلام ، ويرون التفاعلات في الشعوب ، فلا يكادون يسمعون لساناً عربياً مبيناً ، ولا وجهاً مسلماً مشرقاً ، يرون المتحدثين في أمور الأمة وأحوالها كفرة فجرة من شرق وغرب فيدب إلى النفوس يأس ، ويسري إليها شك ، ينبغي أن يكون أول العلاج هو دفعه ونفيه ورفضه ومنعه بكل الأحوال ؛ لأنه لا مجال له عند أهل الإيمان واليقين ، وليكن يقين مقابل: { إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } [ يونس: من الآية81 ] .
إنها نظريات ثابتة قاطعة جازمة ، إنها بالتأكيد الذي تصدر بإن: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } [ يونس: من الآية81 ] .
والنفي ثابت مطّرد ، ويصبح صيغة مضارع مستمرة ، والإفساد واحد في كل مذهب وملة ونحلة ، ينقلب السحر على الساحر ، ويرد السلاح إلى نحر راميه ، لابد أن يكون يقيناً بذلك ، ومن بعده عمل نتحدث عنه ، والله - جل وعلا – يقول : {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } [ الشعراء: من الآية227 ] .
لقد قالها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم قبل بدر عندما خرج غير معدٍّ ولا مستعد ، ثم واجه جيشاً عدده ثلاثة أضعاف عدده وعدته ، أي شيء قاله رسول الله ؟! قال : ( والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ، هذا مصرع أبي جهل ، هذا مصرع أمية ، هذا مصرع عقبة بن أبي معيط .. ) ، فلم يخطئ واحد منهم المكان الذي عينه صلى الله عليه وسلم .
إنه اليقين بنصر الله قالها أبو بكر يوم رأى محمداً يرفع يديه ويلح في الدعاء ، حتى يسقط رداءه عن منكبيه ، ثم يقول: "حسبك يا رسول الله إن الله منجز لك ما وعد " أفليس هذا اليقين الذي نفتقده؟ أوليس هذا الإيمان الذي إذا غاب من قلوبنا لم يكن لنا بعد ذلك قيمة ولا أثر ولا وزن ولا كلمة ولا هيبة ولا عزة ؟ ينبغي أن ندرك حقائق الأمور.. { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [ القصص: 5،6 ] .
أي شيء كان بنو إسرئيل ؟ وأي قوة كانت مع موسى عليه السلام ؟ ألم يكن فرعون هو فرعون القائل: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } ؟
ألم يكن فرعون هو صاحب القوة والبطش والجبروت؟ لكن لما قال أصحاب موسى: { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء: من الآية61 ] .
نطق لسان الإيمان واليقين فقال موسى عليه السلام: { قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء:62 ] .
فانفلق البحر ، ونجى موسى ، وغرق فرعون ، وذهبت قوته بجند من جنود الله عز وجل .
أولم يقل أبو بكر رضي الله عنه يوم الغار: " لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا "، فقال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله معنا ) ، متى كان يقينه عظيما عليه الصلاة والسلام ؟ يوم كانت حباله بالله موصولة .. يوم كان قلبه بالله متعلقاً .. يوم كان توكله على الله صادقاً .. يوم كانت تقواه لله خالصة .. يوم كانت إنابته إليه دائمة ..
عندما يكون ذلك كذلك تتحقق الأمور : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } [ التوبة: من الآية51 ] .
أفليس لنا يقين بذلك ؟ أفنظن أنه سيصيبنا أمر إذا أرادت أمريكا أو روسيا أو غيرها ؟ كلا ! والله لا يبلغ أولئك القوم شيئاً إلا بإرادة الله وقدره الذي يشاؤه لحكمة يعلمها جل وعلا .(238/2)
ولننظر إلى وقائع هذا اليقين - ليس في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، بل في النخبة والصفوة الذين رباهم عليه الصلاة والسلام - في يوم الأحزاب - يوم الشدة - وقد كررنا المثل ؛ لأننا نمرّ بذات الحالة ، ولأننا نراهم يتداعون علينا ، ولأن الجيوش والجنود تحيط من كل جانب ، ولأن الأحزاب تتحزب وتتألب ، ماذا قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
{ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } [ الأحزاب: من الآية22 ] .
ويوم قال لهم القوم : " إن الناس قد جمعوا لكم " ذكرت لنا الآيات: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران:173 ] .
ولم يكن ذلك في عهد الأصحاب فحسب ، بل تاريخنا ينطق بذلك ، وقد أسلفنا القول فيه ، ألم يقل ابن تيمية في معركة شقحب عام اثنين وسبعمائة ، بعد سبعة قرون من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبشر الناس ويثبتهم : " والله إنكم لمنصورون " فيقولون: قل إن شاء الله ! فيقول : " إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً "؛ جزما بما يرى من اليقين ، وما يظهر من الإيمان ، وما يبدو من سمت الصلاح والاستقامة ، وذلك الذي نريد .
وانتبه إلى هذا ؛ فإنه هو الذي يثبتنا بإذن الله - عز وجل - إن هذا الإيمان واليقين يثبت لنا ويعطينا عدة أمور مهمة:
أولها: الإدراك والوعي والفهم
الذي ندرك به الحقائق ؛ لإنه إن كانت للباطل جولة - بل وألف جولة - فإن جولة الحق آخرها ، وإنها جولة إلى قيام الساعة ، وإننا لندرك حينما نكون على هذا الإيمان واليقين سنة الإبتلاء: { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْب } [ آل عمران: من الآية179 ] .
غيب الله فيه حكم ، وفيه ابتلاء عندما نكون موقنين ندرك أن هذه من صفحات الابتلاء تنقلب ويأتي بعدها النصر والرخاء : {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا } [ الشرح:5،6 ] .
وكذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } [ محمد: من الآية4 ] .
أفهذه القوى عزيزة أن تهزمها قوة الله جل وعلا؟ كلا ! إن رعبا في القلوب ، إن خلفاً في الصفوف ، إن ريحا تهب ، إن أرضاً تتزلزل ، إن بحراً ينشق ، إن أدنى شيء مما يجريه الله - عز وجل - يدمر كل تلك القوى ، ولكنها حكم الله - عز وجل - ينبغي أن نتأملها في الآيات والأحاديث والسنن .
ويأتينا من بعد ذلك: الثبات وعدم التراجع
وهو أمر مهم ، لا يثبت إلا مستيقن ، ولا يقف ولا يمضي في طريقه شامخ الرأس إلا مؤمن معتز بإيمانه ، ولذلك لا تستغربوا عندما ترون المواقف المخزية ؛ لأنها ليس لها رصيد من إيمان ، ولا أساس من يقين ، فأنّى نرتقب ممن خلت قلوبهم من الإيمان ونفوسهم من اليقين أن يقفوا مواقف عزة ، أو أن تكون لهم في المواجهة قوة !
ذلك تفسير واضح بدهي من خلال الفقه الإيماني في آيات الله سبحانه وتعالى.
والثالث: وهو الرجوع والالتجاء إلى الله
إن من عرف الخلل أدرك أنه لابد من الإصلاح بالرجوع إلى الله { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ } [ الذريات:50 ] .
كل شيء تخافه تفر منه إلا الله ، إن خفته فررت منه إليه ، لا ملجأ ولا منجأ لنا منك إلا إليك .
وعجبا يرى المرء هذه الأحوال العصيبة ، وما زال الفن رافعاً راياته ، والرقص ضارب دفوفه ، وما زالت الأمة كأنما هي نائمة نوماً لا تستفيق منه ، متى سيستيقظ أولئك الغافلون ؟ هل إذا طرقت أبوابهم؟ هل إذا وقعت السقوف فوق رؤوسهم ؟ هل إذا أصابتهم البلية في أنفسهم وأزواجهم وأموالهم ؟ هل بعد هذا كله ليس هناك مدكّر ولا معتبر ولا منزجر ولا راجع إلى الله سبحانه وتعالى ؟
ومن بعد ذلك: الثقة والقوة
ثقة بالله وقوة بقوة الله عز وجل ؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا به سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: الإصلاح والاستقامة
وهو أمر بدهي ، ونتيجة تلقائية للإيمان واليقين ، ألم نقل إنه يجعلنا نعي وندرك ؟ ألم نقل إنه يجعلنا نرجع ونلتجئ ؟ ألم نقل إنه يجعلنا نثق ونتقوى بالله ؟ إذاً أصلح حالك وحال أهلك ، وحال مجتمعك .. أصلح قلبك ونفسك ، أصلح فكرك وعقلك ، أصلح منطقك وقولك ، أصلح حالك وعملك يصلح الله - عز وجل - كل شيء من حولك ، وقد جعلها الله - عز وجل - أسبابا منوطة بأخرى : { إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } [ محمد: من الآية7 ] .(238/3)
أين نصر دين الله؟ أين هو في واقع حياتنا نحن الأفراد ؟ لا تنظروا إلى الأمم لا تنظرو إلى الحكومات انظروا إلى ذوات أنفسكم هل أقمتم الإسلام في نفوسكم ؟ هل جعلتموه سمة ظاهرة في بيوتكم ؟ من هي تلك المرأة المتبرجة؟ من هو ذلك الشاب الضائع؟ ما هي تلك المنكرات الظاهرة؟ ما هي تلك الكلمات الفاجرة؟ من أين تصدر في مجتمعاتنا وأممنا؟ إنها مني ومنك ، ومن هذا ومن ذاك ..
ونحن نعلم أن المعاصي حاجبة لرحمة الله مانعة لتنزل نصر الله ، ما يدريك - وهذا حق ويقين - أن تبرّج تلك المرأة ، وأن تسفل ذلك الشاب من أسباب تأخر النصر ، ومن أسباب تسلط الأعداء: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُم } [ آل عمران: من الآية165] .
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس } [ الروم: من الآية41 ].
كل كلمة نابية مخالفة لشرع الله ، كل منكر مرتكب مخالفاً لما حرم الله ، كل واجب متروك ممتنعا فيه عن الاستجابة لأمر الله هو من أسباب هذا التأخير للنصر ، ومن أسباب هذا الوهن في الأمة ، ومن أسباب تضييع النصر ، وتأخر التمكين ، وتسلّط الأعداء ويقول القائل: وماذا عساي أن أفعل؟ ولإن قال كلٌّ كذلك فنقول له خذ آيات القرآن:{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدثر:38 ].
ونقول له: { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء: من الآية36 ].
ونقول له: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ قّ:18 ] .
هل هذه تنوب عنك فيها الحكومات؟ أم يحملها عنك العلماء؟ أم يخفف وطأتها في حسابك الدعاة؟ إنك مسؤول بين يدي الله : (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ، ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر أمامه ، فإذا النار تلقاء وجهه ، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ) .. ( يافاطمة بنت محمد اعملي ، فوالله لا أغني عنك من الله شيئاً ) ..
كلٌّ مسؤول ، وهذه قضية مهمة ، وهي مبدأ الطريق ، ومفتاح الإصلاح والاستقامة ( لا يكن أحدكم إمعة يقول : إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت ، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم ) لمَ نكون مع الناس ؟ لمَ نلغوا مع اللاغين ؟ ونخوض مع الخائضين ؟ ولا يكون لنا ممانعة نسلم بها أنفسنا ، ونقوم بها بواجبنا تجاه أبنائنا ؟
إن شخصيتك إن كانت قرآنا يتلى ، وإن زوجتك إن كانت نموذجاً أمثل ، وإن ابنك إن كان تربية إسلامية صحيحة ، إن هذا كله يصب في خدمتك لأمتك ، ويصب في قيادتك لهذه الأمة .
ونحن نرى أحوالاً كثيرة ، كم هناك من خلل بين الأزواج والزوجات؟ كم من ظلم وبغي وتسلط بغير حق من الأزواج على الزوجات؟ وكم من تفريط وتقصير في حق من الزوجات إلى الأزواج؟ كم من عقوق من الأبناء للآباء ؟ وكم من تفريط وتضييع من الآباء للأبناء ؟ وكم من معاملات زائغة ؟ وكم من انحرافات فاجرة ؟ وكم .. وكم .. وكم .. ثم بعد ذلك نسأل : أين نصر الله ؟ ونسأل :لمَ يتسلط علينا أعداء الله ؟
وهذا مما ينبغي لنا أن نتأمله ، وأن نتدبر فيه ، وهذا هو الأمر المهم الذي نحتاجه ولابد لنا منه ، لا نريدك أن لا تكون إمعة ، بل نريدك أن تكون قائداً وزعيماً في الخير والحق ، والدعوة والإصلاح ، انفث في القلوب قوة وعزيمة ، ارشد العقول ببيان وتعليم ، حرّك الهمم والعزائم بأمثلة مضروبة لم لا يكون أحدنا كما قال الله - عز وجل - في دعاء عباده: { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [ الفرقان: من الآية74 ] .
كل منا لو كان قائداً في الحق ، ولو كان رائداً في الخير ، ولو كان سابقاً إلى المعالي لوجدنا هذه الروح وهي تلتهب والمنافسة ، وهي تشتعل والهمم ، وهي تعلو نحو التشبث بمرضاة الله ، وإصلاح أحوالنا وكلٌ مسؤول.
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
وثالث الأمور التي نتحدث عنها والمقام لا يتسع لها : العمل والإعداد
فإن الصلاح والاستقامة في ميادين العمل الذي يصلح به المرء نفسه في عبادته وطاعته ، وأما العمل والإعداد فعلى مستوى الأمة وهو الأمر الرباني : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُم } [ الأنفال: من الآية60 ] .
قال ابن كثير: " مهما أمكن ، والمقصود بذل أقصى الطاعة والقوة المقصود بها كل ما يتقوى به على العدو " .(238/4)
{ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ } ،قال الطبري: " تخزون به عدو الله " ، وقال ابن كثير: " تخوفون به عدو الله " ، وقال غيرهم: " الخوف مع الاضطراب هو حقيقة ذلك الإرهاب ".
{ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ } ، أي كل أعداء الإسلام ، وقد قيل لعنترة : بم نلت هذه الشجاعة حتى صار ذكر اسمك يرعب القلوب ؟ قال : " كنت أعمد إلى الرجل الرعديد الجبان فأضربه ضربة قوية ينخلع لها قلب الكمي الشجاع " ، فهناك يكون الامتثال والاعتبار بالأول لمن وراءه .
ولذلك ذكر الرازي - رحمه الله - في هذا الإرهاب الإسلامي المطلوب قرآنيا وجوهاً من الفوائد والمنافع:
أولها: ألا يجترئ الأعداء على ديار الإسلام
ومتى كان لهم في ذلك حلم لو كان هناك أهل إيمان وإسلام وأهل قوة وهيبة ولذلك نقول هذا.
وأيضاً - كما قال الرازي رحمه الله – أيضا : أنه ربما يقودهم الخوف إلى الإذعان من غير قتال ودفع الجزية مهادنة ومصالحة.
وهذه القوة والإرهاب قد تكون داعية لهم إلى الإيمان ؛ لأنهم يرون أصحاب الأيمان وهم أهل قوة وأهل بسط وأهل هيمنة وأهل عزة فيرون أن هذا ما يكون إلا لخير في هذا الدين فيؤمنون به.
وكذلك من الفوائد أنهم لا يعينون غيرهم من الكفار إن كانوا قد امتنعوا بأنفسهم ؛ فإن الرهبة من أهل الإيمان تمنعهم أن يكونوا سندا لغيرهم وقد كان ذلك كذلك في عصور الإسلام الزاهية.
ومن ذلك أيضا: الزينة في أهل الإسلام - كما قال الرازي - أن يثبت الإيمان في القلوب ، وأن يعتز المسلمون بإسلامهم .
اليوم والأحوال منقلبة ، والقوة ضائعة ، والرهبة لا وجود لها ، ترى كثيراً من المؤمنين وهم مطأطئين لرؤوسهم ، وهم يشعرون بشيء من الإحتقار والذلة لعدم يقينهم وإيمانهم الصحيح ، وعدم فهمهم ووعيهم التام ، لكن ذلك واقع في حقيقة الأمر .
ولذلك ينبغي لنا أن ننتبه إلى هذا الإعداد والقوة التي تؤمن المختارين لهذا الإسلام فلها فوائد عديدة أهل الإسلام والإيمان من يحمي بيضتهم؟ من يذب عن أعراضهم؟ من يمنع تدنيس مقدساتهم؟ من يحفظ أرواحهم وأموالهم؟ قوة الإسلام والإيمان.
الأمر الثاني: إرهاب أعداء الله عز وجل.
الأمر الثالث: أنها إقعاد عن مواجهة دعوة الإسلام فإذا عرف الناس قوة الإسلام تركوا له الطريق يمضي ، وإذا به يغزو القلوب بالحق واليقين والبرهان لا بالقوة والعنف والسنان كما يزعمون ، وإذا بنا أيضا نجعل القوة في آخر الأمر تحطيما للقوى الباغية الظالمة الجائرة التي تصد عن دين الله وتتسلط على خلق الله ، وتظلم عباد الله ، وحق لأهل الإسلام أن يتولوا ذلك ، وأن يكونوا أهله ، فذلك هو شأنهم ، وذلك هو سمتهم ، وذلك هو فرضهم وواجبهم ، ولقد قالها ربعي بن عامر في كلماته التي تحفظونها يوم خاطب القوى العظمى في زمانه : " جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة " .
واليوم نعرف أنه عالم القوة أي شيء يتحدث اليوم؟ هل هو العدل؟ كلا هل هو المنطق؟ كلا هل هو القوانين؟ كلا هل هي الإنسانية؟ كلا ! إن الناطق اليوم - شاء الناس أم أبوا - هو القوة ، والقوة وحدها ، فلا قول ولاكلمة إلا لصاحب قوة ، فينبغي لنا أن نعزز هذه الأسباب ، والأسباب من سنن الله عز وجل فينبغي الأخذ بها معنوياً ومادياً.
{ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } [ مريم:25 ] .
أمرت مريم امرأة ضعيفة حامل في وقت المخاض أن تهزّ جذع نخلة ، وما عسى أن تهز فيه ؟ لكنها أخذت السبب وجاءت النتيجة من الله - سبحانه وتعالى - والنبي قال: (اعقلها وتوكل) ، وهو - عليه الصلاة والسلام - ضرب المثل في هجرته ، فأخذ للأمر عدته وأهبته وتخطيطه الكامل التام ، ثم جاءت بعد ذلك عناية الله - عز وجل - لتجبر كل نقص في تدبير المسلم وكل خلل فيما أعده من الأسباب ، وذلك هو الذي نرتقبه ونأمله ، أما بلا إيمان ويقين وبلا صلاح واستقامة وبلا عمل ولا إعداد ؛ فإن سنن الله ماضية لا تحادي أحداً ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أولى خلق الله بأن تنكسر أو تتخلف سنن الله عز وجل في حياته ، ولكن لما خالف بعض أصحابه يوم أحد دارت الدائرة ، وشج وجهه ، وسال الدم على جبهته ، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه عليه الصلاة والسلام ، فلئن كان ذلك كذلك مع سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - فكيف بمن دونه ممن هو بعده.(238/5)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
صلاح البدير
الخطبة الأولى :
الحمد لله ، الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ، وجعل أمتنا خير أمة ، وبعث فينا رسولاً منا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة ، أحمده على نعمه الجمة ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، شهادة تكون لمن اعتصم بها خير عصمة ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله ربه للعالمين رحمة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تكون لنا نوراً من كل ظلمة وسلم تسليماً كثيراً ، عباد الله اتقوا الله فإن تقواه أفضل مكتسب وطاعته أعلى نسب { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . }
أيها المسلمون : إن المحافظة على حرمة الإسلام ، وصون المجتمع المسلم من أن تخلخله وتقوضه البدع والخرافات ، والمعاصي والمخالفات ، وحمايته من أمواج الشر الهائجة وآثار الفتن المائجة ، وتحذيره مزالق الشقوق ، ودركات الهبوط ، أصل عظيم من أصول الشريعة وركن مشيد من أركانها المنيعة ، يتمثل في ولاية الحسبة وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلك المهمة العظمى والأمانة الكبرى التي هي حفاظ المجتمعات وسياج الآداب والكمالات بها صلاح أمرها واستتباب أمنها وقوة ملاكها ومساكها مافقدت في قوم إلا زاغت عقائدهم وفسدت أوضاعهم وتغيرت طباعهم وما ضعفت في مجتمع إلا بدت فيه مظاهر الانحلال وفشت فيه بوادر الاختلال والأمة حين تكون سائرة في جادة الطريق محكمة شريعة الله بالتحقيق والتطبيق يكون من أول مهامها إقامة ولاية الحسبة ورفع لوائها وإعلاء بناءها وإعزاز أهلها لأن جميع الولايات تعود إليها ، يقول تبارك وتعالى{ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور .} ويقول تبارك وتعالى{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.
أمةٌ قائدة رائدة تحقق في المجتمع المسلم شرع الله وتصدع بالحق في وجوه النفوس المريضة الباغية إشباع شهواتها العابثة بأمن الأمة ومقدراتها ، يقول جل وعلا في وصف الأمة المحمدية وذكر أسباب الخيرية
{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }
أيها المسلمون :
إن المعاصي والمنكرات هي الداء العضال والوباء القتّال الذي به خراب المجتمعات وهلاكها وإن التفريط في تغيير المنكرات ومكافحتها والقضاء عليها من أعظم أسباب حلول العقاب ونزول العذاب ، فعن أم المؤمنين أم الحسن زينب جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً وهو يقول : لاإله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ويأجوج مثل هذه ـ وحلّق باصبعه الإبهام والتي تليها ـ فقلت يارسول الله أنهلك وفينا الصالحون .. قال صلى الله عليه وسلم : نعم إذا كثر الخبث ) متفق عليه . والخبث هو الفسوق والفجور .
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام : إن الله لايعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة . رواه أحمد .
ويقول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام : مامن قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لايغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب . رواه أبو داوود وغيره . وكتب عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى إلى بعض عماله أما بعد ، فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح بينهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنقمات ماقُمع أهل الباطل واستخفي فيهم المحارم.
أيها المسلمون :
إن الإدهان في الدين .. وعدم التناهي بين المسلمين من أعظم أسباب اللعن والطرد والإبعاد عن رحمة أرحم الراحمين ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن أول مادخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول ياهذا اتق الله ودع ماتصنع فإنه لايحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون } ثم قال صلى الله عليه وسلم : والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم . رواه أبو داوود والترمذي .(239/1)
لُعنوا في كتاب الله لعناً يتلى على مر الأيام والسنين وإلى أن يقوم الناس لرب العالمين ، فاحذروا عباد الله سبيلهم الوخيم وفعلهم الذميم ، فإنه لاصلة بين العباد ورب العباد إلا صلة العبادة والطاعة فمن استقام على شريعة الله استحق من الله الكرامة والرضوان ومن حاد عن سبيل الحق والهدى باء باللعن والخيبة والخسران .
يامن رضيتم بالله رباً .. وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً : أصيخوا سمعكم وأصغوا قلوبكم لقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان . رواه مسلم .
وانظروا وتساءلوا أين أثر تطبيق هذا الحديث في نفوسنا ومجتمعاتنا ؟ أين إيماننا الصادق ؟ وخضوعنا التام لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم !
من رأى منكم منكراً فليغيره بيده السلطان في سلطانه ، والأمير في إمارته ، والقائد في جيشه ، والرجل في أهل بيته ، وكل مسؤول فيما تحت ولايته ومسئوليته ، يقول عثمان رضي الله عنه : إن الله يزع بالسلطان مالايزع بالقرآن ) ويقول بعض السلف : ( ماقيمة حق لانفاذ له !
أيها الآباء والأمهات :
طهروا بيوتكم من جميع المنكرات ، وليكن بيت النبوة على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى السلام لكم في ذلك قدوة وأسوة تنتهجون نهجه وتحذون حذوه ، تقول عائشة رضي الله عنها : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة من جدران فيه تماثيل فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه وتلوّن وجهه وقال : ياعائشة أشد عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله تعالى متفق عليه
. تقول عائشة رضي الله عنها فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين
أيها المسلمون :
من عجز منكم عن الإنكار باليد والسلطان فلينكر باللسان والبيان ، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لاننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان وعلى أن نقول بالحق أينما كنا .. لانخاف في الله لومة لائم . متفق عليه
. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : ألا لايمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه رواه الترمذي وأحمد وزاد ، فإنه لايقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقال بحق أو يذكّر بعظيم وقال عليه الصلاة والسلام : لايحقر أحدكم نفسه قالوا يارسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال يرى أمراً لله عليه فيه مقال .. ثم لايقول فيه فيقول الله عز وجل له يوم القيامة : مامنعك أن تقول فيّ كذا وكذا فيقول خشية الناس ، فيقول الله جل وعلا : فإياي كنت أحق أن تخشى . رواه ابن ماجه .
أيها المسلمون :
إن الطامة الكبرى ، والمصيبة العظمى أن تتوالى الفتن على القلوب ويزيل خطر المعاصي في النفوس فيواقع الناس حدود الله وينتهكون أوامر الله ، ويصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً ، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم : تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة مادامت السموات والأرض ، والآخر أسود مربادّاً كالكوز مجخياً لايعرف معروفاً ولاينكر منكراً إلا ماأشرب من هواه . رواه مسلم .
وسُئل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه من ميت الأحياء ؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه : الذي لاينكر المنكر بيده ولابلسانه ولا بقلبه ، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مامن نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالايفعلون ويفعلون مالايأمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل
أيها المسلمون :
لم يفتأ أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين ومن سار في ركابهم من فسّاق الملة المستغربين يشنون على أمة الإسلام حملات متلاحقة عبر وسائل ورسائل لا يخفى مستواها ولا يُجهل فحواها ومحتواها غرضها زعزعة عقيدة الأمة وتدمير أخلاقيتها وطمس هويتها وتغييبها عن رسالتها
فبماذا واجه المسلمون تلك الحملات ؟ هل أوصدوا دونها الأبواب ؟ هل جاهدوها حق الجهاد ؟ هل قاموا بالضمانات الكافية من عدم انتشار الشر والفساد ؟ .(239/2)
لقد فتح كثير من المسلمين بسبب الغفلة عن دين الله وقلة التحفظ والتوقظ ، فتحوا بلادهم ومتاجرهم وبيوتهم وقلوبهم لتلك التيارات الوافدة وأسلموا مجتمعاتهم للأمة الكافرة المعاندة وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : لتتبعن سنن من كان قبلكم .. شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا يارسول الله : اليهود والنصارى ! فقال صلى الله عليه وسلم فمن ؟ ! رواه البخاري .
يقول بعض أهل العلم : إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ولاضجيجهم في الموقف من الضنك وإنما انظر إلى مواطاتهم أعداء الشريعة .
أيها المسلمون :
إنكم أغلى وأعلى وأعز وأكرم من أن تهبطوا من سماء عليائكم إلى التشبه بأمم كافرة فاجرة تعيسة بئيسة حائرة شاردة تلهث وراء شهوتها وتستهيج في سبيل متعتها ، فلقد شرفكم الله جل وعلا بأعظم دين ، وأكرمكم بأفضل رسول محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليكم خير كتاب فاشكروا الله على ماحباكم وأعطاكم ، وجابهوا جهود أعداءكم بجهود أقوى وأمضى قبل أن تشتد شوكتهم وتحتد شكتهم ، جهود تحفظ أمانة الدين الذي ائتمنكم الله عليه ، صونوه طاقتكم واحفظوه جهدكم { وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم .}
أيها المسلمون :
لقد استحكمت غربة الدين وعظمت المصيبة على كثير من المسلمين في كثير من البلاد بسبب إفشاء الفساد وإشهاره ومداهنة بعض الناس في إنكاره ، وإن أطمّ المصائب وأوضع المراتب أخذ المال السحت على الإقرار عليه وحماية فاعله من أن يتوصل للإنكار عليه .
فأين القائمون لله ؟ الذابون عن دينه ، الذائدون عن محارمه ، بمجاهدة عدوه وأهل معصيته .
عباد الله :
إن مما يبعث على الحرقة والأسى .. أن يرى المسلم في مجتمعه وأمام عينيه صوراً ممرضة وأحوالاً مرضة من المنكرات والمحرمات فلا يجد لذلك في نفسه نساً ولا حساً ولاتوجعاً ولا إلتياعاً ، فأي ركن قد وهى ؟ وأي نور للإمة قد ذهب واختفى ؟ نعوذ بالله من اندراس معالم هذه الشعيرة واستيلاء المداهنة على القلوب وذهاب الغيرة الدينية .
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ياخير أمة أخرجت للناس :
أين الحمية التي تتأجج في صدوركم لدين الله ؟؟ أين الغضب ؟؟ أين تمّعر الوجوه ؟؟ في انتهاك حدود الله ، تقول عائشة رضي الله عنها : ماضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا إمرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ومانيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل
رواه مسلم .
أيها المسلمون :
تعاقدوا وتعاهدوا أن تنصروا شريعة الرحمن وقوموا قومة تُعلي راية الإيمان وخذوا على أيدي سفهاءكم قبل استفحال الداء وإعواز الدواء واعلموا أن التواكل والتلاوم والتحسر والتضجر دون عمل وجد واجتهاد وأمر ونهي ودعوة وإرشاد لايغير من الواقع شيئاً ، بل هو داعية غم وهمّ وفتور وإحباط .
إننا لانريد غيرةً لاتعدوا أن تكون مجرد معان نتمناها بأذهاننا أو نحسها مجردة في مشاعرنا ، إننا نريدها باعثاً قوياً وواقعاً عملياً وعملاً إيجابياً لخدمة دين الله والانتصار لشرع الله وفق القيود الشرعية والضوابط المرعية.
أيها المسلمون :
إن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة جسيمة ذات أعباء لايقدر عليها إلا الكمّل من الرجال ، هي مهمة الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، مهمة تصطدم بشهوات الناس ونزواتهم وغرورهم وكبرياءهم وهبوط السفلة منهم ، ولابد أن ينال القائمين بها شيء من الاعتداء والأذى .
فصبراً صبراً ياأهل الحسبة ، فقد أوذي إمامكم وقائدكم خاتم الأنبياء وإمام الحنفاء محمد صلى الله عليه وسلم فصبر وصابر حتى نصره الله { ولا مبدّل لكلمات الله } { ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز .}
أيها المسلمون :
إن إيذاء المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أو الاعتداء عليهم أو الطعن فيهم أو تضخيم أخطاءهم وبث الإشاعات الكاذبة عنهم جرم عظيم وذنب كبير تصيب المرء مغبته ومعرّته ولو بعد حين ، يقول جل وعلا { إن الذي يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم .} وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى قال : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب
رواه البخاري .
فاحذروا من الانخداع بمقالات الجاهلين أو الانسياق وراء أكاذيب الحاقدين ومايدور على ألسنة المغرضين ، يقول جل وعلا : {يا أيها الذين آمنوا لاتكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً .}(239/3)
بارك الله لي ولك في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً
عباد الله :
اتقوا الله وراقبوه وأطيعوه ولاتعصوه { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين }
أيها المسلمون :
اعلموا أنه لا يجوز أبداً إجارة مركوب أو دار أو دكان لمن ينتفع بها في معصية الله ، أو يستخدمها لبيع ما حرم الله لما ينشأ عن تأجير هؤلاء من الأضرار المتعدية ونشر المنكر بين المسلمين
فاحذروا أن تساعدوهم أو تساندوهم أو تعاقدوهم أو تقاعدوهم واستجيبوا لقول المولى جل وعلا { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب }
عباد الله :
ارحموا أهل المعاصي والمنكرات ارحموهم وأرشدوهم ووجهوهم فالراحمون يرحمهم الرحمن ، أنقذوهم من الضلالة والعمى وبصّروهم طريق الرشاد والهدى ، واهجروا من أصر منهم على معاصيه وجاهر بفسوقه ومخازيه
.
يقول بعض أهل العلم :
وهجران من أبدى المعاصي سنة .. وقد قيل إن يردعه أوجد وأكد
وقيل على الإطلاق مادام معلناً .. ولاقه بوجه مكفهر مربد
عباد الله :
إن المعلوم بمقتضى النصوص والمشاهد بالواقع المحسوس أن هجران المجاهرين بالمعاصي والمنكرات المصرين على باطلهم وفسقهم وإقامة الحدود والتعزيزات عليهم له الأثر الأكبر والنصيب الأوفر في إضعاف المعاصي واضمحلالها .
يقول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : تحدث للناس أقضية على قدر ماأحدثوا من الفجور . وقد قيل : من استرخى لًبًبه ساء أدبه ومن أمن العقوبة أساء الأدب .
فلا بد من القوة والحزم مع ضرورة تجفيف منابع الشر وسبل الفساد وإلا انطبق علينا قول القائل :
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له .. إياك إياك أن تبتل بالماء
أيها القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
اعلم أن العلم إمام العمل ، فلتكن عالماً بما تأمر ، عالماً بما تنهى ، رفيقاً فيما تأمر ، رفيقاً فيما تنهى ، حليماً فيما تأمر ، حليماً فيما تنهى ، وليكن أمرك بالمعروف بالمعروف ، ونهيك عن المنكر بلا منكر .
عباد الله :
كونوا للحق أعواناً {ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } عباد الله :
إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربي وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ماتصنعون .
موقع مجلة الحرمين
http://www.alharamain.org/arabic/news23/top_09.html(239/4)
الأمر بالمعروف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وأذان صما وقلوب غلفا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا .
يا أمة الحق والآلام مقبلة متى تعين ونار الشر تستعر
متى الهواء وقد ضمت مصيبتنا متى الخلاص وقد لمت بنا العبر
متى يعود إلى الإسلام مسجده متى يعود إلى محرابه عمر
أكل يوم يرى للدين نازلة وأمة الحق لا سمع ولا بصر
عباد الله: ونحن نعيش زمنًا عصيبًا، ووقتا دقيقًا وحرجًا، يتعلق بمصير أمتنا، أقول: إن النجاة في انقيادنا لكتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فلقد كتب الله لهذه الأمة حين تحيد عن كتاب الله أن تتقلب في ثنايا الإهانات، وتتنقل من هزيمة إلى هزيمة، فلنرفع الغطاء عن أعيننا، ولنكن صرحاء مع أنفسنا، كفانا نكبات، وكفانا كوارث، وكفانا نكسات، وكفانا تلمس النصر في ثنايا البشر من دون الله، كفانا كوننا عن كتاب الله بعيدين، وعن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- حائدين، ولنعُد إلى الحق المبين، فاسمعوا إليه يوم يقول: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ)
ألا فاتقوا الله حق تقواه، يا عباد الله، واعلموا أن من أسباب النجاة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومن أسباب السقوط والهلاك: السكوت عن المنكرات، قال تعالى: (وأَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوءِ).
ألا فاعلموا: أن من أعظم خصائص أمتنا: أنها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وأن علماءها يغضبون إذا انتُهكت محارم الله، ودعاتها يشتاطون غيظًا وغضبًا لانتهاك حدود الله، فهي المأمورة بقوله: (وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ألا فلتكن طائفة تقف على حدود الله؛ ترعى المجتمع، تنظر لأحوال الأمة، لا تسمح للجريمة، غَضِبَ مَنْ غضب، ورَضِيَ مَنْ رضي، ليكن منكم علماء ودعاة يقفون أمام الشرور والمنكرات، يؤدون رسالة الله، ليرحمنا الله- عز وجل- (أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) ويوم يترك الأمر بالمعروف، فلنعلم أننا نحارب الله، ولنعلم أن غضب الله قد طوَّقنا، وأن سخط الله قد قرب منا، فإن تمادَتْ بنا الأهواء والخور؛ فهي العقوبة لا تُبقي ولا تذر.
ما نتيجة أن يقر الناس على الجريمة، ويسكت على الفاحشة، ويقدم العاصي، ويؤخر المؤمن المرضي الراضي، ما نتيجة ترك الصلوات؟ وتعاطي المخدرات؟ والركون إلى الذين ظلموا؟ وسماع الأغاني الماجنات؟ والجري وراء الشهوات؟ والمجاهرة بكل هذه المنكرات؟
ما نتيجة الرضا بكل هذه المنكرات؟ وما نتيجة السكوت على هذه المنكرات؟
إن نتيجة ذلك ومعناه سوف تختل الأمور، ويغضب الله وملائكته، معناه أن البركة نزعت؛ لأننا سمعنا ورأينا وفسدنا، فما حرَّكنا ساكنًا، وإلا لماذا كنا خير أمة أخرجت للناس؟، كنا كذلك بالأمر والنهي؛ نأمر بالمعروف بالمعروف، وننهى عن المنكر بالمعروف، وإلا فان العذاب والسوء ينتظرنا. في الأثر "أن الله- جل وعلا- أوحى إلى جبريل -عليه السلام-: أن اقلب مدينة <سبأ> على من فيها. -وجبريل كما تعلمون أعطاه الله قوة هائلة، يقتلع الجبال والوديان والثغور والأشجار والأحجار، له ستمائة جناح- بجناح واحد حمل أربع قرى، ورفعها إلى السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم رماهم، فجعل العالي سافلا، أرسله الله إلى هذه المدينة ليقلبها على من فيها، فقال: يا رب إن فيها عبدَك فلانًا، لم يعصِك طرفة عين، قال الله: فبه فابدأ؛ لأنه لم يتمعَّر وجهه فيَّ قط." لا إله إلا الله، يصلي ولم يعصِ الله طرفة عين، لكنه يرى المنكر فلا يغار، ويسكت عليه، فنزل جبريل، فأخذه بطرف جناح من معبده، فجعله في أول موكب المعذبين (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) لم لعنوا؟ (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)(240/1)
ذاك في بني إسرائيل، لكن والله قد وجد في مجتمعاتنا من يدعو إلى عدم التكلم عن الجرائم، والمنكرات، وعدم تشخيصها، وتحذير الأمة منها، ووالله ما حصل ذلك إلا وهلكت الأمة، وذهبت إلى الدمار، والعار، والنار، (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ) الزنى ودور الخمر فشت، وقطيعة الرحم والعقوق ذاعت، وتَفْوِيت الجماعات شاع، والتطفيف في المكيال والميزان زاد، والضغينة والمنكرات فاحت رائحتها، وعلماء بني إسرائيل ساكتون، صامتون، ملجمون، لماذا؟ سكتوا –والله- رغبةً أو رهبةً، والسكوت –دائمًا- إما رغبة وإما رهبة؛ إما رغبة في حطام فانٍ أو منازل ومناصب، أو وظائف لا تسمن ولا تغني من جوع، وإما رهبة من سوط وقسوة بعض الظلمة، فسكتوا، فماذا كان الجزاء؟ قال سبحانه: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)
قال أهل العلم: كان في الميثاق الذي أخذ عليهم: أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، صح عنه –صلى الله عليه وسلم- أنه قال –في حديث ابن مسعود، الذي رواه الترمذي-: "إنما دخل النقض على بني إسرائيل أنه كان إذا لقي أحدهم أخاه، وهو على الفاحشة، قال له: اتق الله، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك لعنهم الله، وعمَّهم بعقاب وغضب من عنده، كان- صلى الله عليه وسلم- متكئًا فتربع، وجلس، وقال: كلا والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم." لا إله إلا الله، نعوذ بالله من لعنة الله، وغضب الله، "لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم "لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم"، أترضون أن يعم الشر؛ فيُؤخَذ الصالح والطالح، وأن تنزل لعنة الله، وإذا تنزلت لا ترفع؟ أترضون أن يمقتنا الله من فوق سماواته؟، أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أما اتكلنا على غير الله، أما عمت الشعوذة والخرافة في بعض القرى والبوادي؟، أما انتشر الفحش؟ أما استبدل القرآن في بيوت كثير من الناس بالأغنية؟ أما عهد في متاع القرآن باللهو والمجون؟ أما ضيعت الصلوات- إلا في بيوت من رحم الله-؟ أما تُهُوِّنَ بالجماعات؟ أما انتشر الربا وسُكت عليه؟ أما قطعت الأرحام؟ أما أُعلن الإلحاد؟ أما سُبَّ الإله؟ أما سُبَّ محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ أما قُتل المسلمون؟ أما أُحييت الليالي على الماجنات من المغنين والمغنيات؟ أحييت على -هل رأى الحب سكارى مثلنا- ورفع ستار الخجل، وغيرها من الترهات والخزعبلات؟ أما أُخذ الميراث؟ أما عُقَّ الوالدان، ولم يؤخذ على أيدي هؤلاء، والدعاة مئات ومئات، والعلماء كذلك، والجامعات تخرج، والمعاهد والمدارس؟(240/2)
فيا طلبة العلم، ويا أيها العلماء، ويا دعاة الإسلام: هذا وقت الأمر والنهي، من يأمر وينهى إن لم تأمروا وتنهوا؟ إنا لا ندعو لمضاربة الناس، ولا لشتمهم، ولا لجرح شعورهم، ولا للتشهير بهم، حاشا وكلا لكن ندعو إلى إنقاذ الناس من الضلالة ندعو إلى إنقاذ الناس من النار ندعو إلى أخذ الناس بمركب النجاه ندعو إلى الأخذ بحبل الله؛ بكلمة الحق في أي مكان، بالنصيحة في الشارع، بالقدوة الحسنة، بالزيارات، يقول محمد –صلى الله عليه وسلم-: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان." وفي رواية" ليس بعد ذلك حبة خردل من إيمان" وعن [عبادة بن الصامت]- رضي الله عنه وأرضاه- قال:" بايعنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وأن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، ومنا من وفى بذلك؛ فأجره على الله"، ألا لا تأخذ المسلم في الله لومة لائم، يغضب مَنْ يغضب إذا رضي الله، ويسخط من يسخط إذا رضي الله، من أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عليه، وأرضى عليه الناس، والله إذا علم منك أنك تريد إرضاءه، أرضى عنك الناس، وحماك وسددك وكفاك وآواك، ألا فاحفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء، يعرفك في الشدة، صح عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال:" مثل القائم في حدود الله- أي الذي يأمر وينهى- والواقع فيها، كمثل قوم استهموا في سفينة، فكان قوم أعلاها، وقوم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على الذين في أعلاها، فظنوا أنهم آذوهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في الجانب السفلي لما آذينا الذين فوقنا" ثم قال- عليه الصلاة والسلام-: "فإذا تركوهم هلكوا، وهلكوا جميعًا، وإذا أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا."
وهذا مثل من يترك المفسدين الفجرة، الذين يلعبون بالأعراض والمبادئ والقيم، ويقول: نفسي نفسي، يصلي ويخرس كالشيطان الأخرس، من بيته إلى المسجد، ويرى الأمم، ويرى الأجيال، والشباب تائهين، ضائعين، حائرين، ثم لا يقول هذا هو الطريق ليبقى وديعًا، هادئ البال، مطمئنًا مرتاحًا، من كلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يرى الجرائم ولا يتكلم بكلمة، أما –والله- لو أن أحدنا أمر بأمر بسيط، أو نهى عن منكر في اليوم الواحد بالتي هي أحسن، لصلح حالنا، من ننتظر أن يصلح حالنا إذا ما لا أصلحنا؟ (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )
لكن يشترط فيمن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر شروط:
أولها: أن يكون أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، خالصًا لله، لا يبتغي الأجر إلا من الله، لا ليقال أمر ونهى؛ فإن الله سوف يرد عليه مقاصده، ولا يجعل لدعوته أثرًا ولا فائدة ولا نفعًا، وأن يكون ذا علم، وأن يكون ذا بصيرة وحكمة (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) وأن يكون عاملا بما يقول، وما أقبح من ينهى الناس، وهو واقع فيما ينهى عنه!، لن تقبل دعوته.
لا تنه عن خلقٍ وتأتيَ مثله *** عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
ابدأ بنفسك فانهها عن غَيِّها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
وأن تكون الدعوة بالتي هي أحسن؛ بالتحبب إلى القلوب، بشراء الأرواح، إن الذي يأتي ليغير منكرًا بمنكر، ما فعل شيئًا، بل أعان الشيطان على أخيه، إن من يجرح ويفضح الناس، ويشتم الناس، ويسب الناس، لن يجد أثرًا لدعوته، يقول [الإمام الشافعي] –وهو يعلن مبدأ عظيمًا من مبادئ الدعوة إلى الله-:
تعمدني بنُصحكَ في انفرادي *** وجَنِّبْنِي النَّصِيحةَ في الجماعة
فإن النصحَ بين الناسِ نوعٌ *** من التوبيخِ لا أرضى استماعَه
فإن خالفتني وعصيتَ أمري *** فلا تجزع إذا لم تُعْطَ طاعة(240/3)
ألا يا عباد الله: مروا بالمعروف، لا تخشوا إلا الله، لا خير فيكم إن لم تقولوا كلمة الحق، ولا خير فيمن لم يسمعها، ولا تظنوا أن الطريق مفروش بالورود لمن أمر ونهى، إنه طريق محمد -صلى الله عليه وسلم- أوذي فيه، ووضع سلا الجذور على ظهره، ووضع الشوك في طريقه، وأُدمي عقباه، وشُجَّ وجهه، وكسرت رباعيته؛ فما ضعف وما استكان، وما هان، وما كان له ذلك، وللدعاة من بعده، قدوة فيه –صلى الله عليه وسلم-. هاهو[ عبد الله بن علي]- الحاكم العباسي- عم [أبي جعفر المنصور]، يوم دخل لمصر محتلا، دخلها في يوم واحد، فقتل ثمانية وثلاثين ألف مسلم في ست ساعات، قتل هؤلاء كلهم، كان من جبابرة الدنيا، حتى أدخل الخيول في مسجد بني أمية، ثم دخل قصره، وقال: من يعارضني فيما فعلت؟ قالوا: لا يعارضك أحد، قال: أترون أحدًا من الناس يمكن أن ينكر علىَّ، قالوا: لا يمكن أن ينكر عليك أحد إلا – [الأوزاعي] –عالم الدنيا في ذلك الوقت، الزاهد، المحدث الكبير-، قال: عليَّ بالأوزاعي ، فلما نُوِدي الأوزاعي، علم أن الموت ينتظره، وأن الله أراد أن يبتليه؛ إما أن ينجح، أو يرسب رسوبًا ما بعده رسوب، علم أن الله أراد أن يمتحنه ليصبر، أولا يصبر، قالوا: للأوزاعى عبد الله بن علي يدعوك لمقابلته اليوم، الدماء تجري لا زالت لم تجف على أرض دمشق. فماذا كان من هذا العالم الزاهد؟ لبس أكفانه بعدما اغتسل، ثم لبس ثيابه من على أكفانه، ثم أخذ عصاه، وخرج من بيته، وقال: يا ذا العزة التي لا تُضام، والركن الذي لا يُرام، يا من لا تُهزَم جنوده، ولا يُغلب أولياؤه، اللهم أنت حسبي، ومن كنت حسبه فقد كفيته، ثم دخل، وقبل أن يدخل سمع عبد الله بن علي، فصف وزراءه وأمراءه ميمنة وميسرة، ليُرهب هذا العالم، ثم مد سماطين من الجلود، ثم أمرهم أن يرفعوا السيوف حتى التقت رؤوسها، ثم قال: أدخلوا الأوزاعي، فدخل من بين السيوف، فلما دخل، ووقف عند عبد الله بن علي، غضب هذا الأمير غضبًا حتى انعقد جبينه، قال: أأنت الأوزاعي؟ قال: يقول: الناس أنِّي الأوزاعي، قال: الأوزاعي في هذه اللحظة قال: والله ما رأيته إلا كأنه ذباب أمامي، يوم أن تصورت عرش الرحمن بارزًا يوم القيامة، وكأن المنادي ينادي: فريق في الجنة وفريق في السعير، والله ما دخلت قصره إلا بعت نفسي من الله- عز وجل- قال الأمير: ما ترى في هذه الدماء التي سفكنا؟ قال: حدثني فلان بن فلان عن فلان عن جدِّك عبد الله بن عباس، أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال:" لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"، فغضب حتى أصبح كالحية يتلظى، قال: ورأيت الوزراء يرفعون ثيابهم؛ لئلا يصيبهم دمي إذا قُتلت، قال: وأخذت أرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: فرفع رأسه، فقال: ما ترى في هذه الأموال التي أخذت، وهذه الدور التي اغتصبت؟ قال: قلت: سوف يجردك الله يوم القيامة، ويحاسبك عريانًا كما خلقك؛ فإن كانت حلالا فحساب، وإن كانت حرامًا فعقاب، قال: فتلمظ كالحية، ورأيت الناس يتحفزون لئلا يقع دمي عليهم. قال: وكنت أقول في نفسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم. قال: فما كان منه إلا أن قال: اخرج.قال فخرجت فما زادني ربي إلا عزة وكرامة. لما مات هذا الإمام، أتى عبد الله بن علي ذلك الجبار إلى قبره، وقال: والله إني كنت أخافك أخوف أهل الأرض، والله إني كنت إذا رأيتك رأيت الأسد بارزًا، لم خافه؟ لأنه صدق مع الله، واعتصم بحبل الله، وخاف الله فخوف الله منه كل شيء. و هاهو [الأسود العنسي]- طاغية اليمن- الكافر، الساحر، القبيح الظالم، يجتمع حوله اللصوص، وقطاع الطرق؛ ليكونوا فرقة للصد عن سبيل الله، ليذبحوا الدعاة إلى الله، ذبح من المسلمين من ذبح، وحرق من حرق، وطرد من طرد، وفر الناس بدينهم، أخذ يهتك الأعراض، ويعذب الدعاة، ومن بين هؤلاء الدعاة المخلصين [أبو مسلم الخولاني]- عليه رحمة الله ورضوانه- عذبه فثبت كثبات سحرة فرعون، حاول أن يثنيه عن دينه، وعن دعوته، وأمره ونهيه، فقال: كلا والذي فطرني لن أقف، فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، جمع الأسود الناس، وقال: أتعتقدون في داعيتكم أنه على حق؟ إن كان على حق، فسينجيه الحق، وإن كان على باطل فسترون، ثم أمر بالنار فأضرمت نار هائلة، تمر الطيور من فوقها فتسقط لعِظَمِ ألسنة لهب هذه النار، ثم ربط يديْ أبي مسلم ورجليه بالقيد، ووضعوه في مقلاع، ثم نسفوه بالمقلاع ليهوي في خضم لهيب النار، ولظاها، وجمرها، وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، كاد الموحدون أن تنخلع قلوبهم، وقف الناس ينظرون، وبدأت النار تخبو وتضعف، وإذ بأبي مسلم يخرج من طرفيها الأخر ماشيًا على قدميه، قد فكت النار وثاقه، عليه ثيابه لم تحترق، يدوس بقدميه الحافيتين الجمر، ويتبسم وينظر إلى الناس، ذهل الطاغية، وخاف أن يسلم من لم يسلم، فهددهم، وتوعدهم، ليصدهم عن سبيل(240/4)
الله، أما أبو مسلم فخرج من النار، وواصل مشيَه فارًا بدينه، والمؤمنون يتبعونه، حتى وصل إلى المدينة –في عهد أبي بكر، رضي الله عنه وأرضاه- دخل المسجد، وصلى ركعتين، وسمع به عمر –رضي الله عنه-، فجاء يَجِدُّ السير إليه، فلما رآه قال: أأنت أبو مسلم؟ قال: نعم، قال: أأنت الذي قذفت في النار، وخرجت منها سليمًا؟ قال: نعم، فاعتنقه عمر يبكي، ويقول: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- مثل إبراهيم الخليل -عليه السلام- ألا فادعوا الله أيها المسلمون، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واعتصموا بحبل الله، فوالله لو كادتكم السماوات والأرض ليجعلن الله لكم منها فرجًا ومخرجًا.
فاشدد يديْك بحبلِ الِله معتصمًا *** فإنه الركنُ إن خانتك أركانُ
و هاهو أحد الصالحين، ذكر أهل السير أنه دخل على [ابن مقلة]، وزير المجرم العباسي، سفك الدماء، ونهب الأموال، فاعترض عليه هذا الرجل الصالح، وأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر؛ فما كان منه إلا أن جلده عشر جلدات، فقال: أتجلدني يوم آمرك وأنهاك؟ أسأل الله أن يقطع يدك ولسانك. ويستجيب الله دعاء المخلصين الصادقين، ما مر عليه ستة أشهر حتى أُخِذت أمواله، وقطعت يده، وقطع لسانه، وأخذ يبكي، ويكتب على الحيطان:
ليس بعد الحياةِ لذةُ عيشٍ *** يا حياتي بانت يميني فبِيني
يبكي ويكتب على الحيطان:
إذا ما مات بعضك فابكِ بعضًا *** فإن البعضَ من بعضٍ قريبُ
يا عباد الله: الأمر والنهي من خصائصنا إن كنا نريد الخيرية والأمان والاطمئنان، ومتى تركناه فلننتظر الجوع، والدمار، والحرب، والخوف، والجفاف، والغضب، والمقت، واللعنة. هاهو أبو الدرداء لما فتح المسلمون جزيرة قبرص، رأى صراخ أهلها، وبكاء بعضهم إلى بعض، فبكى كثيرًا، قيل له: يا أبا الدرداء: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ويحكم، ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينما هم أمة ظاهرة طاهرة تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترون. ولا نذهب بعيدًا بل نقلب النظر إلى من كانوا في رغد من العيش، في هناء وسعادة، فطغى أمراؤهم، وسكت علماؤهم، وأُبْلس دعاتهم، فما تُكِلم بمعروف، وما نُهِي عن منكر، ولم يؤخذ على يد ظالم، فأمهلهم الله، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى إن أخذه أليم شديد وما هي من الظالمين ببعيد). إليكم خياريْن لا ثالث لهما: إما أمر بمعروف، ونهي عن منكر بقوة، وأخذ على يد الظالم. وإما ضرب للقلوب، ثم لعنة توجب طردًا وإبعادًا من رحمة الله- جل وعلا- أقول هذا إعذارًا بين يدي الله، وإقامة للحجة عليكم، وتحذيرًا من أن يقع بنا بأس الله؛ فإن بأس الله لا يُرد عن القوم المجرمين، بينما الأمم هانئة وادعة، تترك أمر الله، وترتكب نهيه، ولا آمِر، ولا ناهٍ، إذ بالجو يدلَهِمُّ، والدماء تجري، والخوف والقلق يعم، هذه سنة الله، يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. يا أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا يومه، بل هذه ساعته، هذا وقت البيان، آن الوقت لئلا تأخذ الأمة في الله لومة لائم، إن الأمر جد خطير، وإن الله ينذر، ثم ينذر، ثم ينذر، ونُذُرُ الله تأتي في صور متعددة؛ فإن ارعوى الناس، وآبوا، وعادوا، وإلا (وَإِنْ تَتَوْلَّوْا يَسْتَبِدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) أسأل الله أن يوفق الأمة وولاتها إلى القيام بمسئولية الأمر والنهي على الوجه الذي يرضي ربنا عنا، اللهم اجعلنا خير أمة أخرجت للناس بأمرنا ونهينا، كما كنا إنك على كل شيء قدير. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله –صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: قال الله- تعالى- مخاطبًا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَن ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ)(240/5)
هذه قصة قرية أُخِذت أخذ عزيز مقتدر، فضحها الله، وجعل أشخاصها قردة وخنازير، يوم تركوا أمره ونهيه، قرية كانت على الشاطئ مجاورة للبحر، حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فوقفوا لا يصطادون يوم السبت، فزاد الله ابتلاءهم ابتلاءً، وامتحن صدقهم وإخلاصهم، فجعل الأسماك يوم السبت تأتي سابحة إلى الشاطئ، وفي بقية الأيام لا تكاد تجد سمكة إلا قليلا، فانقسم الناس حيال أمر الله- عز وجل- إلى أقسام- وهم في كل زمان بهذه الأقسام:
قسم هم أهل الخبث والخيانة والفجور، قالوا: نجري جداول وأنهارًا إلى داخل الشاطئ، فإذا دخلت الأسماك سددنا عليها يوم السبت وأخذناها يوم الأحد، أَعَلَى الله يضحكون؟ أم على الله يمكرون؟ يخادعون الله وهو خادعهم.
وقسم أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وقال: لا تفعلوا هذا، بل اتقوا الله، وخافوا الله، واحفظوا الله، فلم يسمع لهذا القسم. وقسم آخر: قال اتركوهم. لِمَ تنهونهم؟ الله سيعذبهم، فقال الدعاة إلى الخير: نأمرهم معذرة أمام الله –عز وجل- يوم يجمع الأولين والآخرين، علهم أن يهتدوا، فنحن لا نعلم أن الله قد طبع على قلوبهم، بدأ أهل الخبث في تنفيذ خطتهم، وخداعهم، ومكرهم، فقام الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر-الذين يثقون بما يعد الله به- قاموا بجعل سور بينهم وبين الفجرة الماكرين؛ حتى لا يصيبهم من العذاب ما يصيب أهل السوء، وتركوا في الجدار نوافذ؛ ليتطلعوا أخبارهم من خلالها، ليكون لهم في ذلك عبرة.
أما القسم الآخر فسكتوا، ولم يمكروا، لكنهم، رضوا بالمنكر، والراضي كالفاعل، ويأتي صباح يوم من أيام الله، يوم يغضب الله، ويسخط على أعدائه، فيمسخ أولئك قردة وخنازير، فوجئ الدعاة، وإذ بالنوافذ ممتلئة خنازير وقردة، يقولون: من أنت؟ فيقول الرجل: أنا فلان، وهو على صورة خنزير، والمرأة تقول: أنا فلانة، وهي على صورة خنزير، وقعوا فيما يغضب الله، وتركوا الأمر والنهي؛ فصاروا قردة وخنازير، ثم أتى الله بأولئك الذين سكتوا، وما تكلموا، الذين يقولون في كل زمان: إن الدعوة تطرف وتزمُّت، أتى الله بهم فأدخلهم في الحظيرة، فحولهم قردة وخنازير، هم احتالوا على الله، لكنهم سكتوا على المنكر، والراضي كالفاعل، ولا يظلم ربك أحدًا، أما أولئك الدعاة الآمرون والناهون فسلموا في الدنيا، ولهم السلامة في الأخرى (وأَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) إن من يسكت، ويقول: نفسي نفسي، سيأخذه الله مع الطالحين (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى). تداعت علينا الأمم، ونحن كثرة كاثرة، لكن غثاء كغثاء السيل، أيقاظ نيام في الغالب، نؤمر فلا نأتمر، ونُنهى فلا ننتهي- إلا من رحم الله- وقليل ما هم، والحوادث شاهدة.
حلت بنا الأحداث، وطوقنا الأعداء، وخوفنا الله، فما زادنا ذلك إلا طغيانًا كبيرًا (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا)
أأخي: إن من الرجال بهيمة *** في صورة الرجل السميع المبصر
فطن لكل مصيبة في ماله *** وإذا أصيب لدينه لم يشعر
قلنا: لعل الحوادث توقظ قلوبنا فنعود إلى الله، نأمر وننهى، ونتوب ونعود، ونغير، ونبدل، فما حصل شيئ من ذلك- ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- أسألكم بالله: هل كان الذين يتخلفون عن الجماعة عادوا لحضور الجماعات أثناء هذه الحوادث؟ أسألكم: هل كان الذين كانت بيوتهم تعج بالمنكرات، والمغريات، والملهيات، هل خرج منها شيء من هذه المنكرات في أثناء هذه الحوادث؟ أسألكم عن الذين يصبح أولادهم على الرسوم المتحركة، ويمسون على الأغنية والفيلم، والمسلسل الرخيص، والتمثيلية التي تدعو إلى الرذيلة، هل غيَّر واحد من برنامجه أثناء هذه الحوادث؟ أسألكم عن المختلطين، والذي أصبح الاختلاط دينًا لهم في كل مناسبة، هل تركوا الاختلاط أثناء هذه الحوادث؟ هل اعتبروا؟ هل تفكروا؟ أسألكم عن أسواقنا، وعن المتبرجات، والمنكرات فيها، هل غير فيها شيء أثناء هذه الحوادث؟ هل نزل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر إلى تلك الأسواق؟ أسألكم هل مسلم لا زال فيه بعض الإسلام حركته هذه الحوادث، فقفل محلا من محلات الفيديو في هذه البلدة؟، أسألكم هل رجل صاحب تسجيلات للأغاني في هذه البلدة أقفلها؟ أو غيرها إلى تسجيلات إسلامية أثناء هذه الحوادث؟ ألا هل علم هؤلاء أصحاب الفساد، ألا هل علموا بأنهم يأكلون حرامًا؟ أسألكم هل اتجه الناس أثناء الحوادث إلى المساجد بدلا من اتجاههم إلى المقاهي والملاعب؟ أم زاد الاتجاه إلى الملاعب والمقاهي؟
أبالرياضة نبني مجد أمتنا *** أم بالفنون وبالأفلام ننتصرُ(240/6)
أسألكم: هل رأيتم مسلمًا أثناء هذه الحوادث رجع إلى الله، فأعفى لحيته بعد أن كان يحلقها، ورفع إزاره بعد أن كان مرخيًا له؟ أسألكم هل سمعتم بتاجر قد أخذ أمواله ووضعها في مصرف لا يتعامل بالربا أثناء هذه الفتن؟ بل أسألكم عن أهم شيء في مثل هذا الوقت: هل سمعتم بالناس يتحدثون عن الجهاد في سبيل الله أثناء هذه الحوادث؟ أسألكم هل تحرك الناس، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، أثناء هذه الحوادث؟ يموت الميت في هذه الحوادث فلا نرى مراسم العزاء البدعية أثناء هذه الحوادث تنتهي، ألا هل تغير شئ؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد ما تغير شيء في الغالب، بل ازداد الناس طغيانًا، وتوكلا على غير الله، وكأنهم يقولون: رب عجل لنا العذاب. المتخلف عن الجماعة لا زال، والمنكرات والملهيات بدأت تدخل البيوت بحجج واهية شيطانية، الراعي في بيته غش رعيته، فلم يأمرهم، ولم ينهَهم، أمسى على الأخبار، والصحف، والأفلام، والمجلة، والمسلسل، وما رفع يده، ورعيته إلى الله رب البرية، ما كأنه سمع قول محمد- صلى الله عليه وسلم-" ما من راعٍ استرعاه الله رعية فأمسى غاشًا لهم إلا لم يرد رائحة الجنة" الاختلاط كما هو، والأسواق تعج بالمنكرات، وما رأينا آمرًا وناهيًا، الفيديو والتسجيلات الغنائية تزيد يومًا بعد يوم، حلق اللحى يتضاعف، وإسبال الثياب كالنساء يفشو، والحديث عن الجهاد يخبو ويضعف، بل لا يذكر أبدًا، والسكوت عن المنكرات يزيد، لا إله إلا الله، ما أحلمك!، ما أكرمك!، تمهل الظالم حتى إذا أخذته لم تفلته! اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين. يا مسلمون، يا مؤمنون، يا عقلاء: أخاطب فيكم الإسلام، والإيمان، والعقل: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واصدقوا، وأخلصوا لله، من عنده علم فليخرجه قبل أن يُلجم بلجام من نار.
من عنده منكر فليخرجه وليتخلص منه، قبل أن يندم فلا ينفعه ندم. من عنده مال فليسخره للقضاء على المنكرات، وليسخره لدعم المسلمين في كل مكان، يا أيها التجار، يا من يملك مالا يا من ستسأل عن مالك، من أين اكتسبته؟ وفيما أنفقته؟ الميدان فسيح لك هذه الأيام، يا أيها التجار: اشتروا محلات الفيديو، اشتروا تسجيلات الغناء، واقلبوها إلى تسجيلات إسلامية، تكونوا بمالكم قد دعوتم إلى الله وأنتم في متاجركم، وقضيتم على المنكرات، يا أيها الشباب: لتنزلوا إلى الأسواق فتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر بالمعروف، يا من لا يستطيع هذا ولا ذاك: مر بالمعروف في بيتك، وانهَ عن المنكر، واعلموا يا عباد الله أن دين الله ليس عليه خطر، ولا على رسالة الله خوف. الله تكفل بحفظ دينه من دونكم، لكننا نحن بدين الله نحفظ أنفسنا وأمتنا، وجيلنا، نحن بحاجة إلى هذا الدين، فلنراجع أنفسنا، لا يزال الله يمهلنا، انهضوا، وعودوا، وتوبوا، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وبادروا إلى الخيرات لعلكم تنجون من عذاب الله القائل (أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوءِ) يا أيها الأخيار، يا أمراء القبائل، يا مشايخ القبائل: أنتم قدوة لمن أنتم رعاة لهم، بصلاحكم يصلح الله القرى والبوادي، كفى نومًا، وكفى طغيانًا، اجتمعوا مع الشباب، وادعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في قراكم، واقضوا على المنكرات؛ ليصلح الله لكم المجتمع، وليؤمنكم مما تخافون. إن السنن الإلهية لا تجامل أحدًا، بل تجري على كل من استحقها، ولو كان حرًا قرشيًا، ومن هذه السنن: أنه ما من بلدة أعلنت الحرب على الأمر بالمعروف، إلا جاءها عذاب الله بكرة أو عشية، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء. اللهم انصر من نصر الدين، واجعلنا من أنصاره، واخذل من خذل الدين، ولا تجعلنا ممن خذله. اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا. اللهم انصرهم، وسدِّدهم، وثبِّتهم، وأيِّدهم، يا قوي يا عزيز. اللهم فرِّق جمع أعداء المسلمين، اللهم رد كيدهم، وامكر بهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين. اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بسوء فاشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، ومزِّقه كل ممزق، يا قوي يا عزيز. اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، غير خزايا ولا مفتونين. اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك. اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقِّهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم ارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه. اللهم آنسْ وحشتنا في القبور، وآمِن فزعنا يوم البعث والنشور، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(240/7)
الأمة الأبية
الشيخ محمد صالح المنجد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبي الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
أيها الإخوة أيتها الأخوات : إن أمتنا هذه ، أمةٌ أبيَّةٌ ولله الحمد ، إنها أمةٌ لا ترضى الذل والهوان ، إنها أمةٌ تقاوم الذي يريد الاعتداء على مقدساتها وعقيدتها ، إن هذه الأمة فيها خيرٌ عظيم ، قال النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ [ مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره ] رواه الترمذي وقال الحافظ حديث حسن .
فالخير باقٍ في هذه الأمة ، كما كان من أولها ، فكما أن الدين كان محتاجاً إلى أول هذه الأمة لإبلاغة ، وكذلك هو محتاجٌ إلى القائمين به في آخر هذه الأمة ، والفضل للمتقدم قطعاًَ ، كما أن الزرع محتاجٌ إلى المطر الأول ، وإلى المطر الثاني ، ولكنَّ احتياجه إلى الأول آكد ، فإنه لولاه ما نبت في الأرض ولا تعلق أساسه فيها . ابن كثير رحمة الله .
قال شيخ الإسلام : ومعنى الحديث أنه يكون في آخر الأمة من يقارب أولهم في الفضل ، وإن لم يكن منهم ، حتى يشتبه على الناظر أيهما أفضل ، وذلك لأنه قال : لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره . حتى يشتبه على الناظر أيهما ، وذلك لأنه قال : لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره . ومن المعلوم أن الله يعلم ، أيهما خير ، وهذا فيه بشارةٌ عظيمةٌ لنا ، بأن الخير موجودٌ في هذه الأمة ، إلى قيام الساعة ، ألا ترى أن النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم رحمة الله : [ لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله فيهم وهم كذلك ] فهذه الطائفة المنصورة باقية إلى قيام الساعة ، تنافح عن دين الأمة ، تنافح عن عقيدة هذه الأمة ، تنافح عن شريعتها ، وعن أحكام ربها ، وعن مقدساتها ، بالسنان واللسان ، لا يضرهم من خالفهم ، حتى تقوم الساعة . قال النووي رحمه الله : في بيان أنه لا يلزم من هذه الطائفة أن تكون واحدة ، أو أن يكون واحداً قائماً بجميع الدين ، بل يمكن أن تكون الطائفة جماعةً متعددةً من أنواع المؤمنين ، ما بين شجاعٍ وبصيرٍ بالحرب وفقيهٍ ومحدثٍ ومفسرٍ وقائمٍ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وزاهدٍ وعابد ، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلدٍ واحد ، بل يجوز اجتماعهم في قُطْرٍ واحد ، وافتراقهم في أقطار الأرض ، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد ، وأن يكونوا في بعضٍ منه دون بعض ، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم ، أولاً فأولاً ، أي أنهم يقلون ، إلى أن لا يبقى إلى فرقة واحدة ، ببلدٍ واحد ، فإذا انقرضوا جاء أمر الله ، يعني قامة الساعة .
هذه الأمة لا يزال الله يغرس فيها غرساً ، إلى يوم القيامة ، لا يزال الله سبحانه وتعالى ، يظهر فيها من يظهر دينه ، قال عليه الصلاة والسلام :[ لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته ] رواه أحمد . وهو حديث صحيح .(241/1)
[ ويبعث لها على رأس كل مائة سنة ، من يجدد لها دينها ] حديث صحيح . يحيي من درس من الكتاب والسنة ، يدافع وينافح ، يبين الحق ويظهره ، يرد على أهل البدعة ، يرد على أعداء الدين ، وهكذا ظهرة في الأمة ، عمالقةٌ وجبال ، كلما مات سيدٌ قام سيدٌ ، وهكذا يتوالون ، والحمد لله بلا انقطاع ، وأنت ترى في هذا الزمان ، ولله الحمد ، من لا يزال ينافح عن الدين ، يرد على الأعداء ، ويصد كيدهم ، إن الإسلام كالشمس ، إن غربت من جهةٍٍ طلعت من أخرى ، فلا تزال طالعة ، وهذه الأمة ، قادرة ولله الحمد ، على الدفاع عن دينها ، إنهم يعملون بلا هوان ، (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139) ، إنهم يشعرون بالعزة ، التي تولدها فيهم هذا العقيدة ،(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ )(المنافقون: من الآية8) ، من اسم الله العلي : يستعلون على أعدائهم ، ويستمدون من العلي سبحانه وتعالى ، علوهم على غيرهم من أهل الأرض ، فأهل الحق ظاهرين ، ولله الحمد ، فأهل الحق ظاهرون ولله الحمد ، على من ناوأهم ، يكبتون من عاداهم ، ويسكتون من أراد أن يخرج على دينهم ، وكلما ظهرت بادرة من بوادر الشر ، قام لها واحدٌ يتصدى فأكثر ، من المسلمين ، ولما حاول أحد الذين يثيرون الشبهات ، في أول هذه الأمة ، أن يطوف بالمجالس ، ويسأل عن متشابه القرآن ، وسمع عنه عمر بن الخطاب ـ t ـ فدعاه وقد أعد .... النخل ، فسأله من أنت ؟ من أنت ؟ فأخبره باسمه ، فقال عمر : وأنا عبدالله عمر ......... على رأسه حتى سالة الدماء ، فقال حسبك يا أمير المؤمنين ، فقد ذهب الذي في رأسي ، وهكذا نفى صبيغَ بن عسلٍ ، خارج البلد ، إلى مكان بعيد ، حتى حوصر نفسياً ، فجعل يلتمس عن طريق ، أمير البلد ، من عمر ......... أن يفك عنه الحصار ، لأنه قد أمر الناس ....... لما ظهر أول أوائل الخارجية ، قام عبدالله ......... كثير من الصحابة .......... ، ولما خرج الخوارج قام علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس ، ولما قامت المعتزلة ، قام الإمام أحمد والبُوَيْصِي ، وغيرهم من أهل العلم ، يردون عليهم ، وهكذا أحمد بن نصر الخزاعي ، وطائفة من الأمة ، كلما رأيت لا يسكتون ، وأُلِفت المؤلفات الكثيرة ، في الرد على أعداء الدين ، وهكذا حتى ... الأعداء قد أصابهم الذل والهوان , لأنهم لم يُفْلحوا في طمس نور هذا الدين ، ولا يزال نوره قائماً ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشروكون ، ولوكره الكافرون ، وعندما ظهرت فرق أهل الشرك في هذه الأمة , قام أهل العلم بالرد عليهم , وقامت الحركات التجديدية , وقام أهل الجهاد في هذه الأمة , بالصد والرد , وهكذا تتوالا حلق الصراع بين الحق والباطل , وكل كيد الأعداء , في ظلال , (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (الفرقان:23) , وصار بعض هذه الأمة يعبد الأوثان , والقبور على الأضرحة , ويستغيث بالموتى من دون الله , ويتمسح بالقبور والأشجار والصخور ويطاف بها , وتعبد من دون الله , فقيض الله لهذه الأمة , من قام ليعيدها إلى التوحيد , ويبين للناس هذه الأعمال الشركية , وكلما قامت طائفة من أهل الشرك , على القبور , يدعون من دون الله , ويستغيثون بالأموات , تقوم طائفة من أهل الحق , بالرد عليهم , ويتحملون في سبيل ذلك ما يتحملون ما الأذى , إن روح المقاومة في هذه الأمة , فعلاً روحٌ عجيبة , تدعوا للإعجاب والفخر , لقد قامت الشيوعية , وعدوات القومية , والاشتراكية , والوجودية , وأنواع الإلحاد , والحداثة , وقيض الله في هذه الأمة , من يقوم بالرد عليهم , وبيان كفرهم , وصريح باطلهم , ولم يكن الأمر خاصَّاً بالعلماء , بل من طلبة العلم والدعاة , بل من عامة الناس , يرفظون الأجنبي عن هذه العقيدة , والأجنبي عن الدين , يرفظون كل ما هو أجنبي عن هذا الدين , ومن الأمثلة على ذلك في واقعنا المعاصر , لما قامت فرنسا باحتلال الجزائر , واختيرت عشر فتيات مسلمات , أدخلهن الفرنس الممدارس الفرنسية , وألبسن الملابس الفرنسية , حتى أصبحن كالفرنسيات تماماً , وبعد أحد عشر عاماً من الجهود , هُيئة حفلة تحرج لهن , ودعي لها الكبراء والمفكرون وأهل الصحافة , ولما ابتدأت الحفلة فوجأ الجميع بالفتيات يدخلن , بلباسهن الإسلامي , فثارت الصحف , وتسائلت ماذا فعلن إذاً في الجزائر ؟ وماذا أنجزن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً , فقام وزير مستعمارتهم لاكوستلي يقول : وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا , وفي عام ألف وتسعمائة وتسعة عشر , تولى أمان الله على بلاد الأفغان , خلفاً لأبيه , ويريدوا الاستقلال , وفي عام ألف وتسعمائة وثمانية وعشرين , قام بزيارة طويلة للخارج , استغرقت سبعة أشهر , يطوف على بلادان في الغرب والشرق , ليرجع إلى بلده ليبدأ رحلة التحرير , إعجاباً بالغرب وبما فعل ,(241/2)
واستناناً بأسان الترك , وأن يحذوَ حذوه , ويريد أن يفرض على الناس , أن .... الغربي , فأصدر تعليمات , بنزع الحجاب , وكذلك إلغاء الأزياء المحلية , ودعا الناس إلا ارتداء الأزياء الغربية , وذهب في الغلو مذهباً بعيداً , حتى أمر بتبادل التحية , على الطريقة الغربية , برفع قبعة الرأس ووضعها في مكانها , وأمر بتقييد أهل العلم , ونشاطهم , ولكن الله سبحانه وتعالى , قيض من علماء تلك البلاد , مع عامتهم , من قام عليه , وأزاله ولله الحمد , ورجعت البلاد إلى ما كانت عليه , أما أتان الترك , الذي قد كان نجح بالخدعة , في تركيا , في إزلة سلطان الحضارة الإسلامية عن تلك البلاد , وإلزامهم بنزع العمامة , وارتداء القبعة , ....... , فقام علمائها يبينون , وألف الشيخ عاطف , ............ ، قماشٌ , وهذا قماش , فأجابه الشيخ : انظر أيها القاضي , إلى هذا العلم المرفوع خلفك , يقصد علم تركيا , استبدله بعلم انجلترا مثلاً , فإن قبلت ولا فهي .... ، وإلا فهذا قماش وهذا قماش , فبهت القاضي , ومع ذلك فقد قتلوه , ..... قتلوه رحمه الله , لقد قامت المدارس الأجنبية , والمدارس المسمى بالعالمية , في بلاد المسليمن , فقام أهل العلم ببيان خطرها , وأن هذه مدارس البعثات , التنصيرية التي تريد إفساد دين الأمة , وعقيدتها , وتربية جيل من أبناء الكبراء .... , ليكونوا طليعة التخريب , ...... , ثم يسرعون بالعفن , ومع ذلك , فقد قامت طائفة من المسلمين , أمام تلك إحدى المدارس للبعثات التنصيرية , تطالب بتدريس مادة الدين الاسلامي , فيها , حتى كتب كبيرهم يقول : أنتم تعلمون ما هو السبب الذي أنشأت مدارسنا في بلادكم , فلماذا تحاولون إذاً المطالبة بتدريس الدين الإسلامي فيها , لقد أرادوا من وراء ذلك , إفساد الأديان , ولكن الله سبحانه وتعالى , كشف باطلهم , وقام أهل الإسلام , يحذرون من أثر هذه المدارس , وإفسادها , صحيح , لقد حصل لها تأثير سيء , وتربت عليها أجيال , من أهل الإفساد , ولكن لم تنجح , في تحويل بلاد الإسلام إلى بلاد كافرة ولله الحمد , وعندما قام المفسدون , بجلد ما عند الغرب , من كل إيجابيٍ وسلبيٍ ورذيلةٍ وصحيحٍ وخاطئٍ , قام في المسلمين , من ينادي بتنقيح العلوم , وعرضها على الكتاب والسنة , وخصوصاً ما يسمى بالعلوم الإنسانية , كالنفسانية , والإجتماعية , والإقتصادية , والتاريخية , والجغرافية , وغيرها . وتم التعليق على ما في تلك العلوم , من الأمور والجمل والعبارات , المخالفة للشريعة الإسلامية , وهكذا , أعيدة كتابة كثير من الكتب المؤلفة , باللغة الأجنبية , لتحذف العبارات المخالفة , للشريعة منها .(241/3)
ولما قام الكفار في هذا الزمان , بحربهم , من أجل تغير المناهج , في البلاد الإسلامية , قام في المسلمين من يدافع عن العقيدة والدين , ويبين أن الله سبحانه وتعالى , خلق البشر , (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)(التغابن: من الآية2) , وأن الله قسم الخليقة إلا قسمين , منهم المؤمن ومنهم الكافر , وأن الذي يرفض تكفير الكافر , فهو يعلم كفره ويأبى ذلك , فإنه كافر مثله , ولابد أن يحيى من حي عن بينة , ويهلك من هلك عن بينة , ولابد أن تقوم العلوم على أساس الدين ، وأن تنطلق منه , وأن لا تتعارض معه , وهكذا قام المخلصون بالمؤتمرات في التعليم الإسلامي , لتصحيح وتنقيح هذه الكتب , وعندما حاول بعض الذين يأخذون من الغرب , إزالة الإشارات التي فيها , تفريق الناس , إلى مؤمنين وكفار , وإزالة ما يدعوا , إلى البغض لهؤلاء الكفرة , وموالاة المؤمنين , فقط . قام بعض أهل العلم بالتصدي لهم , كما قال بعض هؤلاء الأفاضل , في رد الشبهات التي تعلق بها , الذين يحبون الكفار , ويريدون أن تزال كل العبارات والكلمات التي تأمر ببغضهم , استناداً إلى الآيات القرآنية , والأحاديث النبوية , وأنَّ هذه الآيات , والأحاديث تزال , وهذه الإشارات إلى حكم أؤلئك القوم , في شريعة الله تزال , قام أهل العلم بالبيان , وقالوا إن النصوص تدل على البراءة من الكفار كلهم , من حاربنا ومن لم يحاربنا , وإن زَعْم البعض , أن النصوص الشرعية , تدل على أن البراءة يكون فقط , ممن كفر وحارب , وليس ممن كفر وسالم , بَيَّنَ العلماء أن هذا القيد إنما جاء به من عند نفسه , وإن الله علق البراءة على الكفر مطلقاً , وقال تعالى : ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)(آل عمران: من الآية28) ، وقال تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)(المجادلة: من الآية22) , وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (التوبة:23) , فأما الذين كفروا ولم يحاربونا , فإننا نبغضهم والله ونكرهم , بدا بيننا وبينهم العداوة والبغضاء أبداً حتى يؤمنوا بالله وحدة , لكننا لا نظلمهم , ولا نعتدي عليهم , ولا نسرق أموالهم , ولا نسفك دمائهم , فإذا حاربونا فليس لهم منا إلا السيف والله , فيضاف إلى بغضهم , القيام بمحاربتهم , وهكذا يتبين الفرق , بين الكافر الذي حاربنا وبين الكافر الذي سالمنا , فالكافر الذي سالمنا نبغضه لكفره , لا لشكله , ولا لبلده , ولا لقبيلته , ولا لاسمه , ولا لأصله , ولكننا نبغضه لكفره , ما دام أنه كفر بالله فبغضه في قلوبنا قائم , لكننا لا نظلمه ولا نعتدي عليه , فإن كفر وحاربنا فإننا نحاربه بالإضافة إلى كرهه وبغضه , فإن قضية البغض قضية دينية بحته , من الإيمان الحب في الله والبغض في الله , وكذلك لما قام البعض يقول : لا تكفير في هذا الدين , قام أهل العلم من يرد عليهم , ويقولون لهم : إذا كان الله قد كفر قوماً فهل يجوز لنا أن نكفرهم , أو أن توقف فيهم , أو أن ندعي أنهم ليسوا بكفار , كيف هذا , وكان في المسلمين , روح المقاومة والبغض أن يتولا كافرٌ عليهم , ولما استوزر باديس صاحب باديس قرطانه , اليهودي الشهير بابن النغريلة , وأعظل دائه المسلمين , قام زاهد إلبيرا وقرناطة ، أبو اسحاق الأيبيري رحمه الله , بإلقاء قصيدته ا لنونية المشهورة التي يقول لأهل صنهاجة المسلمين فيها :
ألا قل لصنهاجة أجمعين ... بدور الزمان وأسد العرين ...
مقالة زينقةٍ مشفقٍ ( زينقة يعني محب ) ... صحيح النصيحة دنيا ودين ...
لقد زل سيدكم زلةً ... أقر بها أعين الشامتين ...
تخير كاتبه كافراً ... ولو شاء كان من المؤمنين ...
فعز اليهود به وانتخو ... وسادوا وتاهوا علىالمسلمين ...(241/4)
في قصيدةٍ طويلة ، أثارة أهل صنهاجة , على أؤلئك اليهود , فقتلوا منهم مقتلةً عظيمة , منهم ذلك الذي استوزر , وأراح الله منه البلاد والعباد , ولم تنس الأمة من والوْ أعدائها , وتقوم بتصفية حساباتها معهم , لقد كانت قريةً من القرى المنوفية تسمى ( دنشواي ) تشتهر بأدراج الحمام , التي تستقبلك إذا وصلت إلى حدودها , قام الإنجليز الذين احتلوا أرض الكنانة , بالعبث والفساد , وحصل أن ذهب بعضهم إلى تلك القرية للتسلية , لاصطياد الحمام , وقاموا بإطلاق النار على الحمام , فأصابة إحدى رصاصاتهم , أدران القمح , ونتج عن ذلك حريق , فتجمع رجال القرية يذودون عن ممتلكاتهم , وقاموا يطاردون أؤلئك المحتلين الإنجليز , فأصيب واحد بضربة شمس , ووقع الثاني على الأرض , مغشياً عليه , فكانت النتيجة , أن قام أؤلئك المحتلون , يريدون أن يأدبوا أهل هذه القرية , الذين تمردوا عليهم , وأُتي بهؤلاء القرويين المساكين للمحاكمة , وقام الجلداوي شيخ المحامين في ذلك الوقت لمحاكمة هزلية , أصدر فيها أحكاماً بإعدام أربعة , وجلد اثني عشر , وأشغالٍ شاقةٍ للباقين , واشترك في هذه الجريمة , بطرس غالي , الجهد الذي رأس المحكمة , وأحمد فتحي زغلول شقيق , سعد زغلول , فأما أحمد زغلول هذا , فقد أرسل له شوقي أبياتاً في احتفال أقيم لهذا الرجل , يقول له :
إذا ما جمعتم أمركم وهممتموا ... لتقديم شيء للوكيل سمين ...
خذوا حبل مشنوقٍ بذيل جبيرةٍ ... ............................ ...
ولا تعرضوا شعري عليهم ... فحسبي من الشعر حكمٌ خطه بيمين ...
لا يحتاج إلى هجاء , فيكفيه ما أصد على المسليمن من هذا الحكم الظالم , فأما الوالي فقد لقي مصرعه فقيد بعده بسنوات قليلة , والهيباوي عمر إلى ثلاثٍ وثمانين , ذاق خلالها أيام الذل والهوان , لم ينس له الناس ذلك الموقف السيء الذي ظلم فيه أهل بلده . وقام مرةً ليلقيَ كلمةً , فإذا بأحد الحاضرين من خلف يقول : فليسقط جلاد جنشواي , وهكذا قام الناس عليه , بصوتٍ واحدٍ , فمات في عام ألف وتسعمائة وأربعين [ 1940م] , وكان خلف جماهيريته من يقول :
أيها المدعي العمومي مهلاً ... بعض هذا فقد بلغت المراد ...
أنت جلادنا فلا تنس أنا ... قد لبسنا على يديك الحداد ...
ولما قام أتاني الترك بإلغاء دولة الخلافة , وإنشاء الدولة العلمانية الغربية , وكان عمره قد ..... , فقال عرفات أوركا أحد المعجبين به : قد اقتنع أن كفاحه يجب أن يوجهه إلى الدين , فإنه منافسه الأكبر , وكان يعتقد من صغره أنه لا حاجة إلى الله , تعالى الله عما كان عليه ذلك الظالم علواً كبيرا . وكان لا يؤمن إلا بالمشاهد المحسوس . وكان يبغض الإسلام والعقيدة الصحيحة , بغضاً شديداً , وكذلك فإنه قد حكم شرع الغرب , في قومه , وأزاح الشريعة الإسلامية , فقام أهل الإسلام في تلك البلاد بالبرد , وألَّف إسماعيل بن إبراهيم الأسعردي الأزهري : تحذير أهل الإيمان على الحكم بغير ما أنزل الرحمن , وكان المسلمون يظنونه في بداية الأمر , مجاهداً غازياً , لما حصل من التراجع الوهمي من جيوش الحلفاء أمامه , حتى سماه بعضهم [ الغازي مصطفى كمال ] وشاعة أخباره في البداية , حتى أن أحمد شوقي الشاعر اغتر به وكتب قصيدةً بعد انتصارٍ مزعومٍ , لذلك الرجل علىالحلفاء يقول
الله أكبر كم في الفتحٍ من عجبٍ ... يا خالد الترك جدد خالد العربي ...
ولكن حينما تبين أمره , وظهرة حقيقته , وألغى الخلافة الإسلامية , ونحى الشريعة الإسلامية , قال شوقي نفسه في قصيدةٍ ينعي فيها الخلافة :
عادة أغاني العرف رجع نواحي ... ونعيت بين معالم الأفراح ...
كفنت في ليل الزفاف بثوبٍ ... ودفنت عند تبلد الإصباح ...
شيعت من هلعٍ بعبرةِ ضاحكٍ ... في كل ناحيةٍ وسكرةِ صاحِ ...
ضجت عليك مآذنٌ ومنابرٌ ... وبكت عليك ممالكٌ ونواحِ ...
الهند والهت ومصر حزينةٌ ... تبكي عليك بمدمعٍ سحاحِ ...
والشام تسأل والعراق وفارس ... أمحى من أرض الخلافة ماحِ ...(241/5)
وهكذا صارت أغاني العرس نياحه , وهكذا صار الفرح نعياً , وكفنت تلك العروس بثوب الزفاف , فرجموه بعد موته , وكرهوه وأبغضوه , وانكشف أمره , ولكن كان في وقته على القلة من المسلمين , من بيَّن حاله ...... ، لقد كان في المسلمين من يقوم إلى الخديوي , ليقول له : يا أفندينا أليس المحاكم المختلطة , فتحت بقانون يبيح الربا , أليس الزنا برخصة ؟ أليس الخمر مباح ؟ أليس أليس وعدد له المنكرات , فكيف ننتظر النصر من السماء , فقال وماذا نصنع وقد عاشبنا الأجانب ؟ وهذه ميزانيتهم . فقال إذاً فما ذنب العلماء ؟ وكان الخديوي قد انتقد قراءة صحيح البخاري , فقال : وما ذنب العلماء وما ذنب البخاري إذن ؟ وعندما دخل عليه أحد أهل العلم يعضه ويتكلم عليه , وينصحه , ويرفع صوته , ويخفضه , وينكر المنكرات , حتى أن ذلك الخديوي , استشاط غضباً , وجعلى يفور ويغلي , وكان هذا العالم , جالساً بينه وبين الخديوي وسادة , فقال : ذلك الخديوي , ماذا تقول ؟ اسكت ! هل تعرف الفرق بينك وبين الحمار ؟ قال : هذه الوسادة .
ولما كتب الروايات في الحجوم على الدين , الروات التي فيها السبت لذات الإلهية , الروايا التي فيها التشكيك في الأحاديث النبوية , الروايات التي فيها نقد العبادات , قام علماء الإسلام والدعاة , والغيارى على الدين , بالرد عليها , وقام أهل الإسلام ببيان حكم الله في هؤلاء الذي يستهزؤن بشريعته , إن سلمان رشدي , لما كتب الآيات الشيطانية وغيرها , ورجع إلى بلده بومبي قام المسلمون في بومبي , بالتظاهر ضده , وأعلنوا أنهم يريدون قتله , وأنه يستحق الشنق , حتى اضطر إلى الهرب سراً , من فندق تاج محل , الذي كان يقيم فيه , مع عشيقته , فهرب محروساً مخفوراً , لا يلوي على شيء , عدا أن قام عليه المسلمون الذين عرفوا كفره وزندقته . وماجلان البحار المشهور , الذي يُكْبِرُه الكثيرون , وكان داعياً من دعاة النصرانية , لقد كان قتله على يد رجل مسلم , فقد ذهب مع الأسبان الذي وصلوا إلى جزر الصين في عام 927 م , يقودهم ماجلان الذي اكتشف رأس الرجاء الصالح , مع الأسف بمساعدة أحد البحارة المسلمين , الذين لعلهم لم يكونوا يدركون ما هو قصد هؤلاء , الأسبان , لقد كان الأسبان النصارى الغزاة , يبحثون عن طريقٍ بحريٍ , يهاجمون فيه البلاد , من بلاد جنوب شرق آسيا وغيرها , كالفلبين وأندنوسيا ونحوها , دون أن يمروا بالبحر الأبيض المتوسط , الذي كان فيه للمسلمين أساطير بحرية , فكانوا أن اهتدو إلى أؤلئك الطريق , الذي يمر بسواحل جنوب أفريقيا , ثم يتجه إلى تلك البلاد , دون أن يذهبوا إلى البحر المتوسط , نزلوا على أرض الفلبين يضنون أنها وثنية ، وأطلقوا عليها الفلبين نسبة إلى ملكهم ( فيليب الثاني ) الذي أرسل تلك الحملة الصليبية , لكن ما إن توغل الأسبان حتى فوجؤا بالمسلمين , في تلك البلاد , حتى أنهم صاحوا موروث , وهو الإسم الذي كان يطلقه الأسبان على المسلمين الأوائل , الذين فتحوا الأندلس , ومعناها السمر , نسبة إلى العرب والبربر , المسلمين الذي فتحوا الأندلس , فكان الأسبان يسمون المسلمين موروث , السمر , ففوجأ الأسبان بهم , ونشب صراع بين المسلمين والصليبين في جزيرة ( مندناو ) وارخبيل سولو بقوة المسلمين في تلك البقاع , وقد استطاع الأسبان ، أن يفرضوا النصرانية بالقوة على جزيرة ( لوزون ) , ثم عرض ماجلان على حاكمها , أن يتنصر مقابل تنصيبه على كافة جزر الفلبين , ثم اتجه إلى الجزر الجنوبية , وأراد أن يجتمع من ملكها المسلم ( لابو لابو ) , وقال له : إنني بعت المسيح , أطلب منك التسليم , ونحن العرق الأبيض أصحاب الحضارة , أولى منكم بحكم هذه البلاك , فرد عليه لابو لابو : إن الدين لله , وإن الإله الذي أعبده , هو إله جميع البشر , على اختلاف ألوانهم , ثم قام بنفسه , بقتل الصليب ماجلان , ..... الحقد والشر والانتقام , ثم عادوا بأساطل قوية عام 973م , واستطاع المسلمون ردهم عدة مرات عن جزر منجناو وسولو , حتى استولى الأسبان على الجزر الشمالية , وهكذا دخلوا في صراعات عظيمة , مع المسلمين , كان للمسلمين فيها نصرُ أحياناً , وتراجعُ آخر , وقامت حروب طاحنة , وبالرغم من استيلاء الأسبان على تلك البلاد , إلا أنهم لم يستطيعوا حكام السيطرة عليها كلياً , فاندلعت ضدهم عدة معارك جهادية من المسلمين , من أهمها ما كان في سنة 1290هـ , 1314 هـ , حتى عرفوا أنه لا مقام لهم في الفلبين , فرحلوا عنها , لكن بعد أن صار كثير من أهل تلك الديار من النصارى , ولكن ! لا زال أمر الدين قائم في تلك البلاد , والحمد لله , ولعل سرعة إسلام هؤلاء من أهل الفلبين , ترجع إلى أنهم يريدون العودة من حيث لا يشعرون إلا جذورهم الأصلية .(241/6)
أيها الإخوة : إن هذه المقاومة , لهؤلاء المحتلين الكافرين , وهذا الرفض , أن تحكم بلاد المسلمين من هؤلاء الكفار , يدل على تأصل روح العقيدة في المسلمين , وأنهم لا يرضون أبداً , أن يسيروا على منهج الكفر , وأصحاب الروايات التي تقدم ذكر بعضها , وغيرها [كوليمة أعشاب البحر ] التي اشتهرت قبل فترة وشاعة , وفيها سب الله عز وجل , سباً صريحاً مقنعاً , وقام ذلك الكاتب , الكافر المرتد الزنديق , بوصف الله عز وجل بصفات الذم , وشتم ربه , قام له علماء المسلمين , يبينون حكمه , وحكم روايته , وحكم قرائتها , وطباعتها , وترويجها , وتوزيعها , والإذن بها , وهكذا . وهو الذي كان يستهزأ بالله سبحانه وتعالى , استهزاءً عظيماً , ويقول عن ربه : فنان فاشل وسلحفاة , وهذا الكافر المرتد , لا يزال ولله الحمد ممقوتاً مبغوضاً من المسلمين , ولا يزال مستخفياً . ولما قام بعضهم أيضاً , بالهجوم على النبي ـ e ـ , وقام إليه من أهل العلم , في الأزهر وغيره , من يرد عليه , وبين أن عقد زواجه باطل , وأنه يجب التفريق بينه وبين زوجته , ولّا ولم يعقب , وهرب من بلده وذهب إلى من يواليهم , وهكذا تطاول عدة على الله عز وجل , وأنبيائه ورسله , وقالوا الكلام , الذي يتبين منه , ما في قلوبهم , من البغض , ومنه كلام تلك العجوز الشمطاء , التي لما قيل لها : هل تحبين أو تعترضين على من يقول لك يا حجة ؟ قالت : نعم لا أريد هذا الإسم فأنا لم أحج ولن أحج , وحجتي في شرفتي , وصلاتي في كتبي . ولذلك فإن أعداء الإسلام , لا يزالون يستضيفون هؤلاء في قنواتهم , ويفسحون لهم المجلات ليقولوا كفرهم , وسمهم ....... من كتب ، ممن كتب من أعطي جائزة نوبل للعهر والفساد ونشر الإنحلال , قام في المسلمين من يرد عليه , ويبينوا خطرة , ورذيلته , فأما سب النبي عليه الصلاة والسلام أيها الإخوة : فإن فيه بالذات عقوبة عظيمة جداً في الدنيا قبل الآخرة , فقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , في كتابه العظيم الصارم المسلول على شاتم الرسول , أنه يجب قتله ولو تاب , لأن للنبي عليه الصلاة والسلام حق , ولما مات عليه الصلاة والسلام , لا يمكن أن يتنازل عن حقه , فيقتل من سبه , ولو تاب , وتوبته لو كان صادقاً فيها تنفعه عند الله يوم القيامة , روى البخاري , روى أبو داود رحمه الله , روى أبو داود عن ابن عباس [ أن أعمى كانت له أم ولد , تشتم النبي ـ e ـ وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ وتشتمه فأخذ المغول ( سيف قصير ) فوضعه في بطنها وهو أعمى ذهب وقد أخفاه , حتى ضنة أنه سيأتيها فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها فلما أصبحا ذكر لرسول الله ـ e ـ فجمع الناس فقال أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حقٌ إلا قام فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي ـ e ـ فقال يا رسول الله : أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر ولي منها أبنان مثل اللؤلؤتين ( في الجمال ) وكانت بي رفيقةً ( يعني في الخدمة ) فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذة المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها فقال النبي ـ e ـ ألا اشهدوا أن دمها هدرٌ ] وصححه الألباني في صحيح أبي داود .(241/7)
ولما قام في المسلمين , تشبهٌ بالكفار , بالأخذ عنهم , وتقليدهم , وأخذت أفلامهم , وألعابهم , وسرت أعيادهم , وحصل التشبه بهم في أشياء كثيرة , قام في المسلمون من يغير هذا , ولما غزونا حتى في الألعاب , في البوكي مون وغيره , قام في المسلمين من يبين , حقيقة هذه الأشياء , لما غزونا بالبلنتاين وعيد الحب , قام في المسلمين من يبين , حكم هذه الأشياء , وأنه عيد بدعي لا أساس له في الشريعة , وأنه يشغل بالتفاهات , وأنه سبب فتح الباب الحرام , والتعارف , تعرف الرجل الأجنبي من امرأة أجنبية , وأن فيه التشبه بالكفار , وأنه يحرم على المسلم الإعانة عليه , بأكل أو شرب أو بيع أو شراء , أو صناعةٍ أو هدية ٍ , أو مواصلة أو مراسلة , أو إعلان أو غير ذلك , وأنه لا يجوز بيع هذه الهدايا والورود فيه , وما يعين على الإحتفال , لقوله تعالى : ( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة: من الآية2) , ولما قام بعض الأذناب بالوقوع , في بعض شرائع الإسلام , مثل تعدد الزوجات , وجعلوا يكتبون على صفحات مجلاتهم , من الخارج والأغلفة , نعم أو لا للزوجة الثانية , أيستفتى على الأحكام الشرعية , الأحكام الشريعية المقررة المنتهية , التي أجمع عليها العلماء , المذكورة في كتاب رب العالمين , من جعل الاسفتاء على شريعة رب العالمين , تقبل أو لا تقبل , قام العلماء يؤلفون في ذلك , وحكمة إباحة تعدد الزوجات , وفؤائد تعدد الزوجات , وتعدد زوجاته في إطار الضوابط الشرعية , وبين العلم والدين , وهكذا , لما قام في المسلمين , من ينادي بأخذ الحضارة الغربية , بِحُلْوِها ومُرِهَا , ويشكك في القرآن الكريم , وفي بلاغة القرآن الكريم , ومنهم المجرم ( طه حسين ) كما فعل في كتاب الشعر الجاهلي , وقال : للتوراة أتحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل , وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً , ولكن ورود هذين الإسمين في التوراة والقرآن لا يكفي من وجودهما التاريخي , إذاً عند طه حسين اسم إبراهيم وإسماعيل , وجوده في القرآن لا يكفي في إثبات وجوده في التاريخ , ما معنى ذلك ؟ أنه يمكن أن يكون في القرآن أباطيل وخرافات , وأشياء غير حقيقة , فضلاً عن إثبات هذه القصة , التي تحدثها بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة , ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة , نوعاً من الحيلة , سبحان الله ! ما ذكره الله في كتابه , وما ذكره النبي ـ e ـ في سنته , كما في صحيح البخاري , في هجرة إبراهيم لهاجر , وإسماعيل إلى مكة , وأن نزولهم فيها بأمر الله , ثم يأتي هذا ويقول : إن ذكرهم في القرآن لا يفيد أنها حقيقة تاريخية , قام العلماء بالرد عليه والأدباء كذلك , ومنهم مصطفى صادق الرافعي في تحت راية القرآن , ونقض كتاب الشعر الجاهلي لمحمد الخضر حسين , ومحاضرات في بيان الأخطاء العلمية تاريخية التي اشتمل عليها كتاب الشعر في الجاهلي للشيخ محمد الخضري , ونحو ذلك من الكُتَّاب المسلمين , من أهل العلم , والأدب , والفضل , ونحو ذلك , لقد قيض الله سبحانه وتعالى , من يكتب من المسلمين ويرد على أمثال هؤلاء , ويبين حقيقة أمثال جمال الدين الأفغاني , وغيره , من المنحرفين , والباطنية , والمندسين , الذين أرادوا أن يفسدو الدين , وألّف محمد محمد حسين حصوننا مهددة من داخلها , في الرد على أهل الحداثة وكان منهم , ثم تاب إلى الله , وألف كتابه هذا من باب توبته , لأن الله قال : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا )(البقرة: من الآية160) , فمن كان منهم ثم تاب إلى الله , فلا بد أن يرد عليهم , وهكذا كل من ذهب إلى هؤلاء العلمانيين والحداثيين , إذا تاب إلى الله لابد أن يرد عليهم , وأن يبين ما كتب إذا كان كتب شيئاً , أو نشر شيئاً , أن يعلن توبته على الملأ , كما نشر الباطل على الملأ , فإنه لا يكفي أن ينشر الباطل على الملأ , ثم يتوب بينه وبين ربه , دون أن يبين لأن الله قال : (وَبَيَّنُوا ) , وأيضاً : فإن هذه الأمة , ولله الحمد , لم تنسى من احتل شبراً من أراضيها , فقام عمر المختار , ضد هذه الحملات الصليبية على بلادة , وحافظ سلامة في بور سعيد في مصر , ضد اليهود , وسليمان الحلبي الذي قتل كليبر , الفرنسي الذي جاء مع نابليون , وخرج نابليون ليترك كليبر حاكماً عسكرياً على مصر , وكان سليمان الحلبي أحد طلبة العلم , في الجامع في الأزهر , في جامعة الأزهر , وكان عمره لما أزال ذلك الطاغية من الحياة أربعة عشر عاماً , وتقوم أحداث فلسطين , ويقوم هؤلاء اليهود بجرائمهم , قتلاً وسفكاً للدماء , وتدنيساً للمسجد الأقصى , فيقوم المسلمون بالرد عليهم , الأمة فيها خير , الأمة فيها مقاومة عجيبة , الأمة فيها صبر , إننا لنعجب فعلاً لهؤلاء المسليمن في فلسطين , أهم جنناً أم إنس , ........ ، يقومون بالعمليات ضد اليهود , إنه عجبٌ عجاب , والله , وهكذا لا يزال المسلمون , دائماً , كلما احتل الكفار يقومون بمقامة(241/8)
الكفار , إنه شيءٌ تاريخي ولله الحمد , لا يهود ولا صليبيين ولا غيرهم , لابد أن يقوم في المسلمين من يقاوم هؤلاء والحمد لله , بل تظهر قضية المقامة حتى في هذه المقاطعة , لبضائع الكفار حتى رصدوا انخفاض مبيعات إحدى الشركات الأجنية , في المشروبات الغازية , في بلد من البلدان العربية , 46% , وفي بلد آخر 20% , وإحدى شركات الوجبات السريعة , الأجنبية خسرة 35 % , وغيَّرة شركات أسمائها أيضاً , بل ربما غيرت أسماء المنتجات أيضاً , وتراجع الإقبال على بعض ما ينتجه الكفار , في عدد من المواضع والأماكن , حتى صارت الخسائر , بالمليارات حقيقةً , إن هذه المقاومة , وهذا التتبع للمحتل , والمعتدي , إنه شيءٌ يسري في الأمة , منذ عهدها الباكر , وحتى الآن , ولنأخذ قصة سلمة بن الأكوع , رضي الله تعالى عنه , كيف تبين هذه القصة , أن المسلم لا يرضى بالهوان , ولا يرضى بالإعتداء , وإنه يحارب ويطارد حتى النهاية .
روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال : [ قدما الحديبية مع رسول الله ـ e ـ ونحن أربعة عشرة ومائة , وذكر الحديث وفيه , ثم خرجنا راجعين إلى المدينة , فنزلنا منزلاً بيننا وبين بني لحيان , وكانوا مشركين , جبل , فاستغفر رسول الله ـ e ـ لمن رقي هذا الجبل الليلة , وكان يرقى ذلك الجبل , طليعةً وحِرَاسةً وحتى ينبه المسلمين , لو كان هناك شيئاً من جهة المشركين , فرقيت تلك الليلة , مرتين أو ثلاثاً , ثم قدما المدينة , فبعث رسول الله ـ e ـ بظهره يعني بالإبل , مع رباح , غلام رسول الله ـ e ـ , وأنا معه , وخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر , مع إبل المسلمين ومع الرعي , ويجعله في المرعى ويشرب من الماء , فإذا أصبحنا , إذا عبدالرحمن الفزاري , أي المشرك , قد أغار على ظهر أي على الدواب والإبل , رسول الله ـ e ـ , فاستاقه أجمع , يعني سلب إبل المسلمين إبل النبي عليه الصلاة والسلام , وقتل راعيه , قتل المسلم , فقلت : يا رباح خذ هذا الفرس , فأبلغه طلحة بن عبيدالله , هذه الأمانه يردها إلى صاحبها , وأخبر النبي ـ e ـ أن المشركين قد أغاروا على سرحه , ثم قمت على أكمة , فاستقبلت المدينة فنادية ثلاثاً , يا صباحاه , ينبأ المسلمين , ثم خرجت في آثار القوم , أرميهم بالنبل , وارتجز وأقول :
أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع ...(241/9)
فألحق رجلاً منهم , فأصك سهماً في رحله , حتى خلص نصل السهم إلى كتفه , قلت : خذها وأنا ابن الأكوع , واليوم يوم الرضع , قال : فوالله ما زلت أرميهم , وأعقر بهم , فهذا يجرحه , وهذا يزيله عن فرسه , وهذا يصيب فرسه , فإذ رجع إلي فارس , يعني منهم , رجع إليه , لكي يحاربه , أتيت شجرة فجلست في أصلها , ثم رميته فعقرت به , يعني السهم يصيب يصيب , حتى إذا تضايق الجبل , فدخلوا في تضايقه , مضيق في الجبل , علوة الجبل , فجعلت أرديهم بالحجارة , فما زلت كذلك أتبعهم , حتى ما خلق الله من بعير , من ظهر رسول الله ـ e ـ إلا خلفته وراء ظهري , استلقى إبل المسلمين كلها , وخلوا بيني وبينه , ثم اتبعتهم , هل انتهت القضية ؟ لا . المعتدي يجب مطاردته إلى النهاية , ثم اتبعتهم أرميهم , حتى ألقوْ أكثرمن ثلاثين برداً , وثلاثين رمحاً , يستخفون , يعني ليسهل هروبهم , ويسهل سيرهم , ولا يطرحون شيئاً , إلا جعلت عليه آراماً من الحجارة , يعرفها رسول الله ـ e ـ وأصحابه , علامات كل شيء مما أقلقاه المشركون , حتى أتوا متضايق من ثنية , فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري , يعني إعانه لهم , فجلسوا يتضحون , يعني يتغدون , وجلست على رأسِ قرنٍ , قال الفزاري : ما هذا الذي أرى ؟ قالوا : لقينا من هذا البرح , والله ما فارقنا منذ غلس , يوينا حتى انتزع كل شيءٍ في أيدينا , قال : فاليقم إليه نفرٌ منكم , أربعه , فصعدوا إلي منهم أربعة في الجبل , فلما أمكنوني من الكلام , قلت : هل تعرفوني ؟ قالوا : لا ! , ومن أنت ؟ قلت : أنا سلمة بن الأكوع , والذي كرم وجهه محمدٍ ـ e ـ , لا أطلب رجلٌ منكم إلا أدركته , ولا يطلبني رجل منكم فيدركني , قال أحدهم : أنا أظن , أن هذا صادق فعلاً في كلامه , فرجعوا فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله ـ e ـ , يتخللون الشجر , فإذا أولهم الأخرم الأسدي , على إثره أبو قتادة الأنصاري , على إثره المقدام بن الأسود الكندي , فأخذة بعنان الأخرم , فولوا مدبرين , قلت : يا أخرم احذرهم , لا يقتطعوك حتى يصل رسول الله ـ e ـ وأصحابه , وهكذا إلى أن قال : فوالذي كرم وجه محمدٍ ـ e ـ , لتبعتهم أعدوا على رجليَّ حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمدٍ ـ e ـ ولا غبارهم شيئاً , يعني سلمه سبق الخيل , سبق الخيل , يطارد الأعداء , حتى يعدلوا قبل غروب الشمس , إلى شعبٍ فيه ماء , يقال له ذو قرد , ليشربوا منه وهم عطاش , فنظروا إليَّ أعدوا ورائهم , فخليتهم عنه , يعني حتى الماء ما ذاقوه , أجليتهم عنه , فما ذاقوا منه قطرة , فيخرجون فيستدون في ثنية , فأعدوا فألحق رجلاً منهم , فأصكه بسهم , في نخب كتفه , في لوح الكتف , قلت خذها وأنا ابن الأكوع , واليوم يوم الرضع , قال : يا ثكلته أمه , أكوعه بكرة , ما لقينا مثل اليوم , من مثل هذا , قلت نعم يا عدوَّ نفسه , أكوعك بكرة , وأردوْ فرسين على ثنية , فجئت بهما أسوقها , إلى رسول الله ـ e ـ , حتى اجتمع مع النبي عليه الصلاة والسلام , قال : ولحقني عامر بسطيحة , فيها مذقة من لبن , وسطيحة فيها ماء , فتوضأت وشربت , ثم أتيت رسول الله ـ e ـ , وهو على الماء , الذي حلأتهم عنه , فإذا رسول الله ـ e ـ , قد أخذ تلك الإبل , وكل شيءٍ استنقذته من المشركين , وكل رمحٍ وبرده , وإذا بلال نحر ناقة من الإبل , الذي استنقذت من القوم , وإذا هو يشوي لرسول الله ـ e ـ , من كبدها رسول الله , فأنتخب من رجل , ...... ، فلا يبقى منهم مخبرٌ إلا قتلته , ..... ، مع أنه بعد هالتعب كله , تعب واصل المطاردة , فضحك رسول الله ـ e ـ , ....... ، كان خيرٌ فرساننا اليوم أبو قتادة , وخيرَ رجّالتنا سلمه , ثم أعطاني رسول الله ـ e ـ سهمين , سهم الفارس وسهم الراجل , فجامعهما لي جميعا , ثم أردفني على ناقته العضباء , راجعين إلى المدينة , لما اقتربوا جاء واحد قال لسلمة : أتسابقني إلى المدينة , قال : نعم ، قال : فسابقْتُهُ فسبِقتُهُ , فدخلة المدينة قبله , فهؤلاء إذاً , الذين كانوا لا يرضون أبداً , أن يسلب للمسلمين شيء , وهكذا لما , قالت امرأة هاشمية من بني هاشم : وا معتصماه وهي أسيرٌ في يدٍ الروم لما أهانوها , بلغ ندائُها الخليل المعتصم , فقال : لبيك , ونهض من ساعته , وصاح في قصره النفير النفير , وجمع العساكر , وأحضر قاضي بغداد , ومعه ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلاً من أهل العدالة , فأشهدهم على أمواله , فجعل ثلثاً لولده , وثلاثاُ لله تعالى , وثلثاً لمواليه , ثم جاهد ففتح عموريه , وعندما كتب , نقفور إلى هارون الرشيد , يقول له : من نقفور ملك الروم , إلى هارون ملك العرب , أما بعد : فإن الملكة التي كانت قبلي , أقامتك مقام الرخ , وأقامت نفسها مقام البيدق , طبعاً الرخ والبيدق , حجران من حجارة الشطرنج , الرخ : القلعة , والبيدق : هو هذا الجندي في المقدمة , وطبعاً البيدق ضعيف , والرخ أقوى , قال : الملكة التي كانت قبلي , من قومي , التي كانت(241/10)
تدفع لك مالاً , وجزية , ضعيفة , امرأة ضعيفة , أقامتك مقام الرخ , وأقامت نفسها مقام البيدق , فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيق بحمل أمثالها أمثاله إليها , وهذه طبعاً كبيرة , يقول لهارون : أنت الأولى أن تحمل الجزية تدفعها لنا , وذلك من ضعف النساء وحمقهن , فإذا قرأت كتابي هذا , فاردد إليَّ ما حملت إليك من الأموال , وافتدي نفسك به , وإلا فالسيف بيننا وبينك , فلما قرأ هارون الخطاب , أخذه الغضب الشديد , حتى لم يستطع أحدٌ أن ينظر إليه , ولا أن يخاطبه , وأشفق جلسائه عليه , ثم استدعى بدواة وكتب على ظهر الكتاب , بسم الله الرحمن الرحيم , من هارون أمير المؤمنين , إلى نقفور كلب الروم , قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة , والجواب ما تراه دون ما تسمعه , والسلام . ثم سار حتى نزل بباب هرقل , وفتحها وأخذ ابنة ملكها , وغنم من الأموال شيئاً كثيراً , وخرب وأحرق حتى طلب نقفور , الموادعه على خراج يؤديه إليه , في كل سنة , فأجابه الرشيد ورجع .(241/11)
كانت المواقف سوءاً على القدرة على جهادهم , أو عدم القدرة , قوية , وابن تيمية رحمه الله , لما ذهب إلى قازان , ملك التتر , لمقابلته , وخرج معه جماعة من دمشق , من علمائها وكبرائها , لما دخل ابن تيمية رحمه الله , على قازان , ملك التتر , جعل يكلمه ويرفع صوته ويخفض ويعض وينهى ويأمر , ويقول كيف أنت تدَّعي الإسلام , ومعك قاضٍ بزعمك , وإمام , ومؤذن , ثم تقتحم بلاد المسلمين , وتقتل , وتريد أن تقتحم دمشق , لما وضع الطعام , التتر لما وضعوا الطعام للوفد المسلم , أبى شيخ الإسلام أن يأكل , قالوا له : كل , قال : لا , قالوا لماذا ؟ قال : وهل هذا إلا ما سلبتموه من غنم المسلمين وأموالهم ؟ فإذا سلبتموه من غنم المسلمين وأموالهم , الآن تذبحوا لنا منه ونأكل , ما يجوز أكل المغصوب والنهوب , ولا المسروق , وجعل يعض ملك التتر , وقائد التتر , حتى وقعت هيبة شيخ الإسلام في قلب الملك , وسأل عن اسمه من هذا ؟ وجعل أصحاب ابن تيمية يجمعون ثيابهم مخافة , قالوا الآن يسقط رأس ابن تيمية , والدم ينضح علينا , فجعلوا يجمعون ثيابهم مخافة أن يصيبها دمه , ولكن الله عز وجل ألقى هيبة شيخ الإسلام ابن تيمية في نفس ملك التتر , فوعده خيراً وأنه لن يقتحم البلد , ورده مكرماً , قالوا : كدت والله أن تهلكنا ، يقول الذي خرجوا معه الوفد , كدت والله أن تهلكنا , يعني على هذه المواقف الجريئة , والله لا نصحبك بعدها أبداً , قال : فذهبوا من طريق آخر , قال : فأما شيخ الإسلام , فسمع أهل دمشق بما فعل من أجلهم , وكيف أنه كان يأمر وينهى ملك التتر , فخرجوا إليه واستقبلوه , واجتمع عليه الناس , وأكرموه , حتى دخل دمشق , وأما نحن فخرج علينا جماعة من اللصوص , فشلحونا , وكان في هذه الأمة والحمد لله , من يتصدى لواضعي الحديث النبوي , ولما جيأ بذلك الزنديق الذي وضع , أربعة ألاف حديث , فقال له الخليفة , يقرره بما فعل , قال : نعم وضعت على نبيكم , كذبت أربعة آلاف كذبه , صارت بين الناس , يعني الآن سواء قتلتني أو ما قتلتني , الأحاديث شاعت وانتشرت , أين أنت من أربعة آلاف حديث وضعتها , سارت بين الناس , قال : وأين أنت من عبدالله بن المبارك , وأبي إسحاق الفزاري , وفلان وفلان , ينخلانها حرفاً حرفا , يعني أن عندنا من علماء المسلمين , والمحدثين من يكشف هذه الأحاديث , ومن يبين أمرها للناس , وهكذا قاموا ببيان حال هذه الأحاديث , وتتبع المهدي رحمه الله , الزنادقه , حركة الزنادقة , وقام بتخليص المسلمين , من كثير من شرهم , لما قام في هذا الوقت , الآن , الهجوم على طريقة السلف , وعلى الدعوة السلفية المباركة , وعلى منهج إتباع القرآن والسنة , والأخذ بالأدلة الصحيحة من القرآن والسنة , وهي طريق السلف , ولزوم عقيدة السلف , بعيداً عن البدع , بعيداً عن التعصب , قام أعداء الإسلام الذين يعرفون الخطورة أين تكمن حقيقةً , وأن أشد الناس على أعداء الله , أتباع طريقة السلف , قاموا يشنون الحملات , على هذه العقيدة السلفية , والطريقة السلفية , وعلى رموزها وقادتها وعلمائها , كشيخ الإسلام ابن تيمية , ومحمد بن عبدالوهاب , وغيرهم , ولكن الله سبحانه وتعالى يقيض من هذه الأمة , من ينافح عن طريقة السلف , وعن عقيدة السلف , وعن منهج السلف , كتابةً وكلاماً وخطاباً في مجالات مختلفة , صحافةً وإذاعةً , وفي الفضائيات وغيرها , ولم يبق إلا السخفاء , الذين يلمزون ويطعنون , في هذه الدعوة السلفية المباركة , وفي علمائها , فهم أقزام يتزاحمون تحت أقدام شيخ الإسلام ابن تيمية , ومحمد بن عبدالوهاب وغيرهم , من علماء الإسلام , ولا شك أن من علماء هذه الدعوة المباركة , الشافعي رحمه الله , ومالك , وأحمد , وسفيان الثوري , والأوزاعي البيروتي وغيرهم من أهل العلم , الذين ساروا على طريقة السلف ، لقد تعرضت هذه الأمة لمحن كثيرة ، ومطاعن كثيرة ،ولكن تأبى أن تلين أو تهون ،
وكنا حين يأخذنا ولي ... بطغيان ندوس له الجبين ...(241/12)
ولما صارت في هذا الوقت المسلسلات التي تدخل بأهل الخير والصلاح ،وتحث المرأة على الخروج مع الأجانب ، وتعمل على توهين أحكام الشرع المطهر ، وتلمز المتصفين بالغيرة على محارمهم ونسائهم ، وتثير الشهوات وفيها الرعنات والسخرية وخوارم المروءة بأنواعها، ولمز النلس وكذلك إيثارت الرعنات والعصبيات الجاهلية ، ونشر الرذيلة والزور ، قام من علماء المسلمين من يبين حال هذه المسلسلات وأنه لا يجوز عملها ولا المشاركة فيها ولا تمويلها ولا عرضها ولا مشاهدتها ، وأيضاً فإن المطاعن لما توجهت على الحجاب الإسلامي كما حدث من قاسم أمين في كتاب تحرير المرأة وغيره ممن آزره ممن تقدموا وتأخروا ، قام أهل الإسلام يردون على قاسم أمين دعوته وألفت الكتب في ذلك ، ( السنة والكتاب في حكم التربية والحجاب ) لمحمد إبراهيم القاياسي ، ( الجليس الأنيس عما في تحذير المرأة من تلبيس ) لمحمد أحمد حسنين البولاقي ، ( خلاصة الأدب ) حسين الرافعي ، (نظرات في السفور والحجاب ) لسفر الغلايني ، (قولي في المرأة ) لمصطفى صبري ، ( رساله في مشروعية الحجاب ) لمصطفى نجا ، ( رسالة الفتاه والفتى ) لعبد الرحمن حمصي ، هذه الكتب كتبت طبعاً لرد على قاسم أمين ولعلها بعضها غير موجود الآن ولا يكاد يوجد ، ولكن الشاهد أنه وجد في الأمة من يقاوم هذا ، وتكلم حتى الشعراء
أغرك يا أسماء ما ظن قاسم ... أقيمي وراء الخدر فالمرء واهم ...
تضيقين ذرعاً بالحجاب وما به ... سوى ماجنت تلك الرؤى والمزاعم ...
سلامٌ على الأخلاق في الشرق كله ... إذا ماأستبيحت في الخدور الكرائم ...
ومن الأشياء العجيبة أن بعض الأماكن التي حدث بها الهجوم على الحجاب ، وقامت هدى شعراوي وغيرها بعملية حرق الحجاب ، ومايسمى بتحرير المرأة ، تحريرها من الدين والشريعة ومن أحكام الله سبحانه و تعالى ، لتكون بهيمه تسرح ، وتكون نعجه ينظر إليها هؤلاء ، ويشبعون غرائزهم أو ملذاتهم ،منها من العجائب أن المتولي في ذلك والوقت كانت زوجته التي تسمى ناضلي لم يسمح لها بالسفر إلى أوربا فيما مرة واحدة عندما أجمع الأطباء على ضرورة سفرها للعلاج وكان زوجها قد سافر إلى إحدى دول أوربا فرفض إ ن يصطحبها في تلك الزيارات ، واشترط أن تبقى محجبةً ،ورفض أن تكون معه على نفس الباخرة وأمرها بأن تسافر في مركب خاص ليتفادى سفرها في البواخر العاديه حتى لاتختلط بالرجال ، وأمر بأن يكون هناك طالب حراسة خاص أمام جناحه ، يعني سبحان الله بعض الذين يريدون نشر السفور هم في أنفسهم غير مقتنعين به في زوجاتهم وبناتهم ، حتى أن أحد الإخوان أخبرني أنه رأى شخص ممن يكتبون في الصحف والجرائد كلام فيه كان يريد به تحرير المرأة وإزاله شرع الله عن المرأة بأن تخرج المرأة ، وتختلط المرأة بالرجال وأن تفعل وتفعل وتفعل , قال رأيته مع زوجته , فإذا الحجاب الحجاب العظيم , فقلت له : وا عجباً لك , أنت تكتب الآن , في نقد الحجاب , وقضية التحرير , وقضية إعطاء المرأة الحرية الكاملة , وإخراج المرأة واختلاط المرأة , ووزجتك على هذه , قال ماذا نفعل , هذا هو التيار , هذا هو التيار , يعني هذا هو المقبول إذاً عندهم .
قالوا ارفعي عنك الحجاب ... أما كفاك به حجابا ...
واستقبلي عهد السفور ... اليوم واطرحي النقاب ...
عهد الحجاب لقد تبا ... عد يومه عنا وغاب ...
فأجبتهم والضحك ملؤ فمي ... ولم أعدم جوابا ...
مهلاً فما هذا الذي ... قدر غركي إلا سرابا ...
كم نظرة للوجه تورث ... في الحشا جمراً مذابا ...
إذ ترغبوا لناسئكم صوناً ... وعيشاً مستطابا ...
فدعوا السفور لأهله ... وأرخوا عليهن النقاب ...(241/13)
قبل عشرات السنين , قبل أكثر من خمسين سنة , في إحدى البلدان الإسلامية , أراد المسؤول عن الجامعة أن يحدث فيها الإختلاط , وأن يعلن ذلك في حفل عام , ودعي إليه الناس والكتاب , والصحفيون وغيرهم , وجاء أحد مشايخ البلد الأفاضل من القضاة الأدباء , رحمه الله , وحضر الحفل وطلب أن يلقي كلمة , فرفضوا , لأنهم يتوقين ماذا سيقول , فأصر وألح , حتى رضخوا له في النهاية , فخرج في هذا الحفل , ووجه خطابه إلى هذا الذي كان يريد إعلان الإختلاط في تلك الليلة , ليبدأ سريانه من الغد , وجعل يذكر بقول الله سبحانه وتعالى في الآيات التي تنهى المرأة عن السفور وتأمرها بالحجاب : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ)(النور: من الآية31) ، ( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ)(الأحزاب: من الآية32) ، (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ )(النور: من الآية31) ، (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ )(النور: من الآية31) ، ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ )(الأحزاب: من الآية53) ، بعد ذلك وجه إليهن خطاباً خاصاً , فقال له : ولقد علمت أن عليك مراقبين يراقبان حركاتك وسكناتك , وأنهما سيكتبان فيك تقريراً , فيرفعانه إلى محكمة تصدر فيك حكماً , لا يقبل النقض ولا الاستيناف , فثار وغضب , وقال : من الذي يراقبني ؟ ومن الذي يكتب عني تقريراُ ؟ ومن الذي سيصدر فيَّ إلى المحكمة ؟ أنا فلان , وأنا عندي كذا من القوة , وعندي كذا , قال : اسمع (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18) , (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ـ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ـ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (قّ:16 ، 17 ، 18) , فبهت , وأسكت القوم , وفشلة المآمرة في تلك الحفلة , وتفرقوا .
نعم , لقد حصل بعد ذلك هذا المنكر وقام , ولكن الشاهد , أنه كان من قام لله سبحانه وتعالى يقاوم وينافح , عن الدين , ويطالب ويرفض , هذا المنكر , وهكذا قام الخطباء والعلماء , والدعاة , باستنكار ما وقع في هذا المؤتمر الإقتصادي قريباً , دليلاً على وجود الغيرة والحميَّة , والإخلاص للدين , والسعي لتطبيع شريعة رب العالمين ,
أيها الإخوة : إن هذه الأمور , العظيمة , التي يريد اليوم الغربيون , جرنا إليها , وتحرير المرأة في زعمهم , والتركيز على قضية المرأة , ما لهم ولنسائنا , نحن نعرف كيف نتصرف ونتعامل , وعندنا قواعد في الشريعة , تحكم علاقة الرجال بالنساء , أفهم أعلم بمصالح نسائنا منا ؟ أو هم أغير على نسائنا منا , ولذلك فإن التصدي لهؤلاء , من أعظم القربات عند رب العالمين .(241/14)
أيها الإخوة : إن هذه الهجمات الشرسة التي تحدث اليوم , سواءً كانت مباشرة على المرأة المسلمة , سواء كان هؤلاء يشنونها صريحةً , أو ملفوفةً , إن التصدي لها من أعظم القربات عند رب العالمين , ولذلك فإنما يحدث اليوم , من إشاعة الإنحلال في بيوت المسلمين , عبر ما يسمى ببرامج " ستار أكدمي " " وستارز " " وبرق بذرز " وغيرها من البرامج التي يريدون فيها , إشاعة ثقافة الإنحلال , وجمع الفتيات مع الشباب , في بيوت فيها كاميرات , يريدون الإنتقال من التمثيليات إلى الحقيقة , كان التمثيل , كان نشر الفساد عن طريق التمثيل , تمثيلية فيها حب وحب وغرام , وواحد مع وحده , يمثل هذا عاشق مع معشوقه وكلام , وربما تنتهي في الزواج في النهاية , ذراً للرماد في العون , الآن يريدون الإنتقال , من التمثيليات المصورة سابقاً , إلى الحقيقة المنقولة حياً , الآن التوجه واضح , إلى الأستاذ عن طريق النقل المباشر , للعلاقات بدون تمثيل , والناس كثير منهم , سينجذبون إلى هذا , لأنهم يعرفون أن هذا ليس تمثيلاً , هذه حقيقة , هؤلاء جعلوا لكي يجربوا أنفسهم مع بعض , ويعيشوا مع بعض , ويقيموا العلاقات مع بعض , وهذا ليس تسجيلاً , قد صار سابقاً , ويذاع الآن , لا , هذا حي الآن ينقل من تلك الأكاديمية أكادمية الإنحراف والمجون والفسق والفجور والذعاره من ذلك المخور يبثون إلينا حياً "liveليف" وحقيقي وليس تمثيل , الآن هكذا صارت , ولابد أن يكون في المسلمين , من يقوم ويتصدى لهذه الأشياء , ويتكلم , المسألة تتعلق بأعراضنا , تتعلق بعفة فتياتنا , وشبابنا , وإن مثل هؤلاء الذين يخرجون , في هذه , اللقطات التي تبث لا حرمة لهم , بمعنى , أن غيبتهم جائزة , لأنهم أعلنوا الفسق , والمعلن بالفسق كما نص العلماء عليه , لا حرمة له ولا غيبة , ويشهر به ويطعن فيه على الملأ , ولذلك الشافعي رحمه الله , حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالنعال , وأن يطاف بهم على الدواب في البلد , وأن تسود وجوههم , التشهير , هذه عقوبة تعزيرية , معروفة عند علمائنا , والمجاهر بالفسق , لا غيبة له , ولذلك لو ذكر باسمه ونص عليه , فاضحاً له , بما يعمله , فإن هذا صحيح , ولا ينكر , ولا ينكر , لأن المسألة الآن خرجت عن نطاق الإستخفاء , والإستسرار , إلى النطاق العملي , وقد قال النبي ـ e ـ [كل أمتي معافى إلا المجاهرين] .
أيها الإخوة : من أدلة وجود الحياة في الأمة , روح الحياة , ومقاومة هذه الأشياء , ما حدث في فرنسا مثلاً , في أزمة الحجاب , عندما أرادوا منع المسلمات من الحجاب , في المعاهد والكليات والمدارس والمنشآت التعليمية إلخ , لقد عمت العالم الإسلامي , مشاعر الغضب والاستياء , من هذه القضية , وقام أهل العلم وتكلموا , والدعاة , ومواقع الإنترنت , وعملت للمسلمين مناسبات والإجتماعات كثيرة , وحصل الإنكار حتى على الذين ينتسبون إلى الإسلام , ممن أقر ذلك , وصارت عاطفة حتى بعض السافرات , مع المرأة المسلمة في فرنسا , ما معنى ذلك . ولما أراد أيضاً بعضهم , أن يجروا إلينا ويلات , مما يكون فيه مفاسد , من جهة سفور المرأة , وخروج المرأة , ونزع الحياء عنها , وجعلها تذهب طليقةً متمردةً على أهلها , لتكون سبباً في الفتنة , حتى وفي الزحام , قام في العلماء من يبين ذلك , وفي الدعاة وفي الناس وفي عموم الناس , والحمد لله القضية ليست مقتصرة على العلماء فقط , لقد تكلم عموم الناس في هذا الأمر , والحمد لله , وكان في خطاباتهم , ورسائل جوالاتهم , واتصالاتهم , حتى الإعلان بالإنكار , على القنوات وغيرها , وهذه من أعظم أبواب الأجر , والإحتساب في الإسلام , أن يقوم اليوم المتمكنون , بالإنكار والإتصال في القنوات , على هؤلاء الذين يروِّجون الفساد , للإنكار عليهم , وإن الوسائل والحمد لله , كثيرة , فنسأل الله ... أن ينصر دينه , وأن يعلي كلمته , ونسأله عز وجل , أن يجعلنا ممن نصر بهم الدين , ونسأله سبحانه , أن يعلي هذه الشريعة في العالمين , وأن يجعلنا من السمتمسكين بسنة محمدٍ النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين , سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(241/15)
الأيام العشر من ذي الحجة سعد بن سعيد الحجري
ملخص الخطبة
1- الله يصطفى ما يشاء ويختار من خلقه. 2- بركة الطاعة وفوائدها. 3- فضائل عشر ذي الحجة. 4- فضل يوم عرفة. 5- فضل يوم النحر. 6- أعمال يندب لها في عشر ذي الحجة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي يخلق ما يشاء ويختار، خلق السماوات واختار منها السابعة، وخلق الجنات واختار منها الفردوس، وخلق الملائكة واختار منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق البشر واختار منهم المؤمنين، واختار من المؤمنين الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين، واختار من الخليلين محمدا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، وخلق الأرض واختار منها مكة، وخلق الأيام واختار من أشهرها شهر رمضان، ومن أيامها يوم الجمعة، ومن لياليها ليلة القدر، ومن ساعاتها ساعة الجمعة، ومن عشرها عشر ذي الحجة.
والمسلم يعيش مباركاً في العمل وفي الزمن، وأعظم البركة في العمل الطاعةُ؛ إذ هي بركة على أهلها كما يقول تعالى: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، وكما يقول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن همَّ بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعلمها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن همَّ بسيئة فعملها كتبها الله سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك)).
وهذا يدل على أن الطاعة بركة في القول؛ إذ الكلمة الواحدة من الطاعة بعشر حسنات يكتب الله بها رضوانه، فيحفظ بها عبده حتى يُدخله الجنة، ويرضى عليه في الجنة فلا يسخط عليه أبداً.
والطاعة بركة في العمل؛ إذ الصلاة بعشر صلوات كما في الحديث القدسي: ((أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي)) فهي خمس في الفعل وخمسون في الأجر والثواب. وصوم رمضان بعشرة أشهر كما في الحديث: ((رمضان بعشرة أشهر، وست شوال بشهرين))، ((والصدقة بسبعمائة ضعف))، ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
والطاعة طهرة من الذنوب، فالصلاة طهرة من الذنوب كما في الحديث: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر على باب أحدكم يغتسل منه خمس مرات في اليوم والليلة، هل يبقى عليه من الدرن شيء؟!)). والصوم طهرة من الآثام كما في الحديث: ((جاءني جبريل فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له أبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين))، ومن صامه وقامه وقام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. و((الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)). و((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
والطاعة بركة في التعامل؛ إذ بالتعامل الحسن يدرك الإنسان درجة الصائم القائم، ويجاور الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحظى ببيت في أعلى الجنة، ويدخل الجنة، ويكمل إيمانه، ويثقل ميزانه.
وأعظم الزمن بركة، عشر ذي الحجة؛ إذ لها مكانة عظيمة عند الله تعالى، تدل على محبته لها وتعظيمه لها، فهي عشر مباركات كثيرة الحسنات، قليلة السيئات، عالية الدرجات، متنوعة الطاعات.
فمن فضائلها: أن الله تعالى أقسم بها فقال: وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:2]، ولا يقسم تعالى إلا بعظيم، ومما يدل على ذلك أن الله لا يقسم إلا بأعظم المخلوقات، كالسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح، ولا يقسم إلا بأعظم الأزمان، كالفجر والعصر والضحى والليل والنهار والعشر، ولا يقسم إلا بأعظم الأمكنة، كالقسم بمكة، وله أن يقسم من خلقه بما يشاء، ولا يجوز لخلقه أن يقسموا إلا به، فالقسم بها يدل على عظمتها ورفعة مكانتها وتعظيم الله لها.(242/1)
ومن فضائلها: أن الله تعالى قرنها بأفضل الأوقات، والقرين بالمقارن يقتدي، فقد قرنها بالفجر وبالشفع والوتر وبالليل. أما اقترانها بالفجر فلأنه الذي بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت، وتعود الأنوار بعد الظلمة، والحركة بعد السكون، والقوة بعد الضعف، وتجتمع فيه الملائكة، وهو أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، وبه يُعرف أهل الإيمان من أهل النفاق. وقرنها بالشفع والوتر لأنهما العددان المكوِّنان للمخلوقات، فما من مخلوق إلا وهو شفع أو وتر، وحتى العشر فيها شفع وهو النحر، وفيها وتر وهو عرفة. وقرنها بالليل لفضله، فقد قُدم على النهار، وذكر في القرآن أكثر من النهار، إذ ذكر اثنتين وسبعين مرة، والنهار سبعا وخمسين مرة، وهو أفضل وقت لنفل الصلاة، وهو أقرب إلى الإخلاص لأنه زمن خلوة وانفراد، وهو أقرب إلى مراقبة الرب تعالى إذ لا يراه ولا يسمعه ولا يعلم بحاله إلا الله، وهو أقرب إلى إجابة الدعاء وإلى إعطاء السؤال ومغفرة الذنوب إذ يقول الرب في آخره: ((هل من داعٍ فأجيبه، وهل من سائل فأعطيه، وهل من مستغفر فأغفر له))، مُيِّز به أهل الجنة في قوله تعالى: كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، وفي قوله: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]، وميِّز به عباد الرحمن في قوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:63، 64]، قال بعض السلف: "لولا الليل ما أحببت العيش أبدا"، وقال آخر: "لم يبق من لذة الدنيا إلا قيام الليل وصلاة الجماعة وصحبة الصالحين".
ومن فضائلها: أن الله تعالى أكمل فيها الدين؛ إذ تجتمع فيها العبادات كلها، وبكمال الدين يكمل أهله، ويكمل عمله، ويكمل أجره، ويعيشون الحياة الكاملة التي يجدون فيها الوقاية من السيئات، والتلذذ بالطاعات، ومحبة المخلوقات، وبكمال الدين تنتصر السنة، وتنهزم البدعة، ويقوى الإيمان، ويموت النفاق، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء لتكون نفساً مطمئنة تعبد الله كما أراد، وتقتدي بالأنبياء، وتصاحب الصالحين، وتتخلق بالأخلاق الحسنة، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على شيطانه الذي شط ومال به عن الصراط المستقيم، وينتصر على الهوى والشهوات. وقد كمل الدين حتى تركنا الرسول صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك شقي. وقد حسدنا اليهود على هذا الكمال، قال حبر من أحبار اليهود لعمر رضي الله عنه: آية في كتابكم، لو نزلت علينا معشر اليهود اتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، قال عمر: (إني أعلم متى نزلت، وأين نزلت. نزلت يوم عرفة في يوم جمعة).
وكمال الدين يدل على كمال الأمة وخيريتها.
ومن فضائلها: أن الله أتم فيها النعمة؛ إذ تنعم الأرواح بشتى أنواع الطاعات القولية والفعلية والتعاملية، ومن تمام النعمة أن الله فتح قلوب العباد للإسلام، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، إذ كان عددهم عند تمام النعمة أكثر من مائة ألف. ومن تمام النعمة أن الله أظهر الإسلام على جميع الأديان؛ إذ كان في الجزيرة أديان متنوعة منها: اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، والوثنية، والنفاق، فأبيدت بالإسلام، وظهر عليها الإسلام، قال تعالى: هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح:28]، ومن تمام النعمة منع الكفار من دخول الحرم واختصاص المسلمين بذلك، فتوحدت صفوف المسلمين حتى أصبحوا كالجسد الواحد، ووحدوا معبودهم، وتوحد دينهم، وتوحدت كلمتهم، وتوحد طريقهم، ويا لها من نعمة عظيمة أن ترى أهل الإيمان ظاهرين وأهل الكفر مهزومين.
ومن فضائلها: أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصدقة لمن حال عليه الحول فيها، وفيها الصوم لمن أراد التطوع، أو لم يجد الهدي، وفيها الحج إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء الذي تدل على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرف لها لا يضاهيها فيه غيرها ولا يساويها سواها.(242/2)
ومن فضائلها: أنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، دقائقها وساعاتها وأيامها وأسبوعها، فهي أحب الأيام إلى الله تعالى، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى، فهي موسم للربح، وهي طريق للنجاة، وهي ميدان السبق إلى الخيرات، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))، وهذا يدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس، وأفضل من الجهاد بالمال، وأفضل من الجهاد بهما والعودة بهما أو بأحدهما، لأنه لا يفضل العمل فيها إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال، وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال: (كان يقال في أيام العشر: بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم)، يعني في الفضل، وروي عن الأوزاعي قال: بلغني أن العمل في يوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله، يصام نهارها ويحرس ليلها، إلا أن يختص امرؤ بالشهادة.
ومن فضائلها: أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم معروف بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب، فهو يوم مجيد، يعرف أهله بالتوحيد، إذ يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله))، ويعرف الإنسان ضعف نفسه إذ يكثر من الدعاء ويلح على الله في الدعاء، وفي الحديث: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة))، ويعرف إخوانه المسلمين الذين اجتمعوا من كل مكان في صعيد واحد، ويعرف عدوه الذي ما رئي أصغر ولا أحقر منه في مثل يوم عرفة، ويعرف كثرة مغفرة الله في هذا اليوم لكثرة أسباب المغفرة من توحيد الله ودعائه وحفظ جوارحه وصيامه لغير الحاج، وهو يوم الحج الأعظم، قال صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة))، وصومه تطوعاً يكفر ذنوب سنتين: سنة ماضية وسنة مقبلة، وما علمت هذا الفضل لغيره فكأنه حفظ للماضي والمستقبل.
ومن فضائلها: أن فيها يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو أفضل الأيام كما في الحديث: ((أفضل الأيام يوم النحر))، وفيه معظم أعمال النسك من رمي الجمرة وحلق الرأس وذبح الهدي والطواف والسعي وصلاة العيد وذبح الأضحية واجتماع المسلمين في صلاة العيد وتهنئة بعضهم بعضاً.
وفضائل العشر كثيرة لا ينبغي للمسلم أن يضيِّعها، بل ينبغي أن يغتنمها، وأن يسابق إلى الخيرات فيها، وأن يشغلها بالعمل الصالح.(242/3)
ومن الأعمال المشروعة فيها: الذكر، يقول تعالى: لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الاْنْعَامِ [الحج:28]، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد))، قال الشيخ أحمد شاكر (7/224): "وإسناده صحيح"، وكان أبو هريرة وابن عمر ـ وهما أكثر الصحابة رواية للحديث وأكثر اتباعاً للسنة ـ إذا دخلت عشر ذي الحجة يخرجان إلى السوق يكبران كل على حدته، فإذا سمعهم الناس تذكروا التكبير فكبروا كل واحد على حدته، وهذا التكبير المطلق، ويُكثر مع التكبير من التسبيح والتهليل والتحميد والذكر، ويكثر من قراءة القرآن فإنه أفضل الذكر، وفيه الهدى والرحمة والبركة والعظمة والتأثير والشفاء، وليعلم المسلم بأن الذكر هو أحب الكلام إلى الله تعالى، وهو سبب النجاة في الدنيا والآخرة، وهو سبب الفلاح، وحفظ لصاحبه من الكفر ومن الشيطان ومن النار، به يذكر العبد عند الله، ويصلي الله وملائكته على الذاكر، وهو أقوى سلاح، وهو خير الأعمال وأزكاها وأرفعها في الدرجات، وخير من النفقة، به يضاعف الله الأجر، ويغفر الوزر، ويثقل الميزان، ومجالسه هي مجالس الملائكة ومجالس الرسل ومجالس المغفرة والجنة والإيمان والسعادة والرحمة والسكينة، وفضائله كثيرة، قرنه الله بالصلاة فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ [النساء:103]، وقرنه بالجمعة فقال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاةُ فَانتَشِرُواْ فِى الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ [الجمعة:10]، وقرنه بالصوم فقال: وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185]، وقرنه بالحج فقال: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، وقرنه بالجهاد فقال: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ [الأنفال:45]، ولا يتقيد بزمن ولا حال، أمر الله به على جميع الأحوال فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103].
ويكثر من نوافل الصلوات بعد الفرائض، كالرواتب التي قبل الفرائض وبعدها، وهي اثنتا عشرة ركعة، أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. ويواظب على النوافل المقيدة، مثل أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، وركعتان قبل المغرب، وصلاة الليل، وهي إحدى عشرة ركعة كما في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يواظب عليها ويقضيها وقت الضحى لو نام عنها، وصلاة الضحى ركعتان أو أكثر، فالمحافظة على النوافل سبب من أسباب محبة الله، ومن نال محبة الله حفظه وأجاب دعاءه، وأعاذه ورفع مقامه، لأنها تكمل النقص وتجبر الكسر وتسد الخلل.
ويكثر من الصدقة في العشر، إذ الصدقة فيها أفضل من الصدقة في رمضان، وما أكثر حاجات الناس في العشر من النفقة والاستعداد للحج وللعيد وطلب الأضحية ونحوها، وبالصدقة ينال الإنسان البر ويضاعف له الأجر ويظله الله في ظله يوم القيامة، ويفتح بها أبواب الخير ويغلق بها أبواب الشر، ويفتح فيها باب من أبواب الجنة، ويحبه الله ويحبه الخلق، ويكون بها رحيماً رفيقاً، ويزكي ماله ونفسه، ويغفر ذنبه، ويتحرر من عبودية الدرهم والدينار، ويحفظه الله في نفسه وماله وولده ودنياه وآخرته.
ويكثر من الصيام في أيام العشر، ولو صام التسعة الأيام لكان ذلك مشروعاً، لأن الصيام من العمل الصالح، ولأنه ثبت في الحديث أنه كان يصوم يوم عاشوراء، وتسع ذي الحجة، وثلاثة أيام من الشهر، وما ورد عن عائشة أنه ما صام العشر فالمراد إخبار عائشة عن حاله عندها، وهو عندها ليلة من تسع، ولربما ترك الشيء خشية أن يُفرض على أمته، ولربما تركه لعذر من مرض أو سفر أو جهاد أو نحوه، وإذا تعارض حديثان أحدهما مُثبت والآخر نافي فإننا نقدم المثبت على النافي، لأن عنده زيادة علم.
وينبغي للمسلم أن يسابق في هذه العشر بكل عمل صالح، ويكثر من الدعاء والاستغفار، ويتقرب إلى الله بكل قربة، وينبغي للمسلم إذا دخلت عليه العشر وهو يريد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئاً، وأما من يُضحَّى عنه فلو أمسك لكان حسناً باعتباره يضحي في الأصل بأضحية وليّه، وإن لم يمسك فلا حرج عليه.
المنبر(242/4)
الأَبْعَاد التَّرْبِويَةِ لأسْماء اللَّهِ الحُسْنَى
د. بدر محمد ملك د. لطيفة حسين الكندري
الفِهْرِسُ
المُقَدِّمَةُ 1
الْعِلْمُ بِأَسْمَائِهِ أَشْرَفُ الْعُلُومِ 3
بعض أسْماء اللَّهِ الحُسْنَى. 4
شَرْح بَعْض الأَسْمَاءِ الْحُسْنَى. 4
الأَبْعَاد التَّرْبِويَةِ لفهم الأَسْمَاءِ الْحُسْنَى. 6
الأدب مع الأسماء الحسنى. 8
الإيمان قوة محركة نحو العمل لا الكسل. 9
أطفالنا والأسماء الحسنى. 12
دور المعلم في بناء المعالم. 16
من شعر ابن قيم الجوزية 19
مع قواعد التصور الإسلامي للعقيدة 20
الخَاتِمَةُ 21
أهم الْمَرَاجِع. 22
مواقع ذات صلة 24
المُقَدِّمَةُ
إِنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (سورة آل عمران: 102)، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا" (سورة النساء: 1). "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" (سورة الأحزاب: 70-71). أَمَّا بعد، فإِنَّ أصول الدين هي مسائل العقيدة الكلية التي تعد من أشرف العلوم وأنفسها قاطبة.
الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى شجرة عظمى تحتوي على معاني جليلة نابعة من علم التوحيد لا يستغني المؤمن عن نَفَحات عطرها الفَوَّاح كي يشعر بالسلام والراحة مع نفسه وغيره كما يدرك من خلالها عظمة الخالق سبحانه وتعالى فيزداد المرء خشوعا له، واعتمادا عليه، وشوقا إليه. هذه الثقافة الإيمانية الرفيعة المستمدة من شجرة الأَسْمَاء الْحُسْنَى أَصْلُهَا ثَابِتٌ، وظِلّها وَارِفٌ إلى الأبد تهب القلب الطمأنينة، وتكسب الروح السكينة، وتعطي الخلق الفضيلة، وتمنح العقل الحكمة. نحتاج إلى فهم الأسماء والصفات الحسنى لعدة أمور منها تقوية الإيمان، وفهم القرآن، وتوجيه السلوك، وتنمية العقل، وتنزيه الخالق من النقص والمثيل والشبيه، والتقرب إلى الله سبحانه بأفضل الأدعية، وتكوين شخصية مؤمنة تنفع البشرية وتترجم جمال الإسلام إلى عمل موصول حتى نقول بفخر: هَذِهِ آثارُنَا المَيْمُونُة تَشْهَدُ عَلَيْنَا وعلى العَمَلِ الجَادِّ. إن نشر متضمنات الإيمان من أجل الأعمال التربوية وهو عمل عظيم مَنُوطٌ بِالمعلمين ورثة الأنبياء والمرسلين إلى يوم الدين.
إن الإنسان الذي يعرف أن الله رقيب على عمله لا شك أنه سيصلح من عمله وتصبح الرقابة الذاتية أساس تصرفاته وجوهر تحركاته. وهكذا فإن استشعار المعاني الإيمانية المبثوثة في الأسماء الحسنى من شأنها تنمية الإنسان بصورة جذرية تنجيه من شقاء الحال وسوء المآل.
إن الإيمان الصحيح أعظم طاقة لإنارة القلوب، وهداية النفوس، ورعاية العقول، وحماية المجتمع. وها نحن نعيش عصر الاختراعات والاكتشافات ونحن أبعد الناس عنها فلم تعد برامج التربية والتعليم في الغالب تشحن ذهن المتعلم المسلم بأن طلب العلوم الدنيوية والحياتية عبادة لا بد من إحيائها، والوفاء بحقها.
" فمن عرف الله عرف ما سواه، ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل، فعلى أساس العلم الصحيح بالله وأسمائه وصفاته يقوم الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص، وتنبني مطالب الرسالة جميعها" (التميمي، 2002 م).
إن الإنسان في صحته وسقمه ، وليله ونهاره، وسره وعلنه، وشبابه وهرمه يستطيع أن يعيش مع أنوار معاني أسماء الله الحسنى ذاكرا، ومتفكرا، ومهتديا.
تهدف هذه الرسالة إلى توجيه أنظار المربين نحو كنوز ثمينة نعرضها هنا برؤية تربوية بعيدة عن التفاصيل العقدية، والمناقشات المطولة، والخلافات العلمية، والنزاعات المذهبية. لقد انتبه المربون من أمثال الغزالي وابن قيم الجوزية وغيرهما إلى أهمية هذا الموضوع الجليل فظهرت كتابات كثيرة تغوص في بحر الأسماء الحسنى بحثا عن دررها الكامنة، ودروسها السامية، ودروبها الممهدة وتطبيقاتها العملية في الحياة اليومية. إن الثقافة الإيمانية النابعة من فيض أسماء الله الحسنى أمن للفرد، وأمان للأسرة، وسعادة للمجتمع، ورحمة للعالمين، وتعزيز لمعاني العقيدة الإسلامية في واقعنا المعاصر.
الْعِلْمُ بِأَسْمَائِهِ أَشْرَفُ الْعُلُومِ(243/1)
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :{وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (سورة الأعراف: 180). وَقَالَ
{لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (سورة الحشر: 24). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قال العلماء أن الحديث السابق يشير إلى مَنْ حَفِظَ أسْماء اللَّهِ الحُسْنَى عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ ، وقيل مَنْ عَرَفَ مَعَانِيَهَا وَآمَنَ بِهَا، وقيل مَنْ أَطَاقَهَا بِحُسْنِ الرِّعَايَةِ لَهَا ، وَتَخَلَّقَ بِمَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْعَمَلِ بِمَعَانِيهَا (انظر: الأذْكَارُ النَّوَويَّة للإِمام النَّوَوي) . ولعل الأمر يسع الجميع إن شاء الله تعالى كل على حسب طاقته. ويرى بعض العلماء أن ليس الهدف حفظ الأسماء ولكن المراد هو الإحاطة بها لفظاً ثم فهمها معنى وأخيرا التعبد لله بمقتضاها[1].
قال ابن الْعَرَبِيّ "فَإِنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ ، وَالْبَارِي أَشْرَفُ الْمَعْلُومَاتِ ؛ فَالْعِلْمُ بِأَسْمَائِهِ أَشْرَفُ الْعُلُومِ" . ويرى ابن القيم في كتابه الفوائد أن سورة الفاتحة تضمنت "أصول الأسماء الحسنى, وهي اسم ( الله والرب والرحمن). فاسم (الله) متضمّن لصفات الألوهيّة, واسم (الرب) متضمّن لصفات الربوبية, واسم (الرحمن) متضمن لصفات الإحسان والجود والبر. ومعاني أسمائه تدور على هذا". ويرى أنه لابد من إظهار آثار الأسماء الحسنى: كالعفو والغفور والتوّاب والحليم, لمن جاء تائبا نادما, والمنتقم والعدل وذي البطش الشديد لمن أصر على المعصية.
وقال بعض العلماء في بيان أهمية معرفة الأسماء الحُسنى : "أول فرض فرضه اللهُ على خلقه معرفته ، فإذا عرَفه الناس عبدوه ، وقال تعالى : "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ " )محمد: 19 (فينبغي للمسلمين أن يعرفوا أسماء الله وتفسيرها ، فيعظموا اللَّه حقَّ عظمته. ولو أراد رجل أن يتزوج إلى رجل أو يُزَوِّجه أو يُعامله طلب أن يعرف اسمه وكنيته، وسأل عن صغير أمره وكبيره ، فاللَّه الذي خلقنا ورزقنا أولى أن نعرف أسماءه ، ونعرف تفسيرها" (الأنصاري، باختصار).
وذكر العلماء أَيْضًا "أَنَّ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ اسْمًا لَمْ يَرِدْ فِي تَعْيِينِهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ" (انظر: ابن تيمية). وَقَدْ سُئِلَ الشَّافِعِيّ عَنْ صِفَاتِ اللهِ -تَعَالَى- فَقَالَ: "للهِ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ، جَاءَ بِهَا كِتَابُهُ، وَأَخْبَرَ بِهَا نَبِيُّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّتَهُ، لاَ يَسَعُ أَحَداً قَامَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ رَدَّهَا، لأَنَّ القُرْآنَ نَزَلَ بِهَا، وَصَحَّ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القَوْلَ بِهَا".
بعض أسْماء اللَّهِ الحُسْنَى
فيما يلي بعض أسْماء اللَّهِ الحُسْنَى:
الإِلَهُ الْوَاحِدُ ، اللَّهُ الرَّبُّ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، الْمَلِكُ ، الْقُدُّوسُ ، السَّلامُ ، الْمُؤْمِنُ ، الْمُهَيْمِنُ ، الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ ، الْمُتَكَبِّرُ الْخَالِقُ ، الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ، الأَوَّلُ الآخِرُ ، الظَّاهِرُ ، الْبَاطِنُ ، الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ التَّوَّابُ ، الْحَلِيمُ الْوَاسِعُ الْحَكِيمُ ، الشَّاكِرُ الْعَلِيمُ الْغَنِيُّ ، الْكَرِيمُ الْعَفُوُّ الْقَدِيرُ ، اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ السَّمِيعُ ، الْبَصِيرُ الْمَوْلَى النَّصِيرُ ، الْقَرِيبُ الْمُجِيبُ الرَّقِيبُ ، الْحَسِيبُ الْقَوِيُّ الشَّهِيدُ، الْحَمِيدُ الْمَجِيدُ الْمُحِيطُ ، الْحَفِيظُ الْحَقُّ الْمُبِينُ ، الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ الْخَلاقُ ، الْفَتَّاحُ الْوَدُودُ الْغَفُورُ ، الرَّءُوفُ الشَّكُورُ الْكَبِيرُ ، الْمُتَعَالُ الْمَقِيتُ الْمُسْتَعَانُ ، الْوَهَّابُ الْحَفِيُّ الْوَارِثُ ، الْوَلِيُّ الْقَائِمُ الْقَادِرُ ، الْغَالِبُ الْقَاهِرُ الْبَرُّ ، الْحَافِظُ ، الأَحَدُ الصَّمَدُ ، الْمَلِيكُ الْمُقْتَدِرُ الْوَكِيلُ ، الْهَادِي الْكَفِيلُ الْكَافِي ، الأَكْرَمُ الأَعْلَى الرَّزَّاقُ ، ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ، غَافِرُ الذَّنْبِ ، قَابِلُ التَّوْبِ شَدِيدُ الْعِقَابِ ، ذُو الطَّوْلِ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ، سَرِيعُ الْحِسَابِ ، فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، مَالِكُ الْمُلْكِ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ" (الْعَسْقَلانِي).
لقد اجتهد كثير من العلماء في عملية إحصاء الأسماء والصفات في مؤلفات متخصصة وهناك تفاوت في العدد ولا يوجد اتفاق تام في الموضوع ، والقدر المتفق عليه أنه لا يجوز أن نسمي الله سبحانه باسم لم يرد في ثبوته نص صريح صحيح .(243/2)
شَرْح بَعْض الأَسْمَاءِ الْحُسْنَى
بعض الشروح التالية مستقاة من المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بجمهورية مصر العربية مع تصرف يسير مع استفدنا كثيرا من كتاب معجم ألفاظ العقيدة لعامر عبدالله فالح وكتاب شرح أسماء الله الحسنى لسعيد بن وهف القحطاني.
1. اللهُ : الإلَهُ الْمَعْبُودُ بحَقٍّ.
2. الرَّقِيبُ : المطلع على ما أكنته الصدور ، القائم على كل نفس بما كسبت . والرقيب هو سبحانه الذي حفظ المخلوقات وأجراها ، على أحسن نظام وأكمل تدبير (القحطاني، وفالح، ص 204).
3. الْهَادِي : الذي يهدي العباد إلى الرشاد.
4. اللَّطيفُ : البَارُّ بِعِبَادِهِ الْمُحْسِنِ إِلَيْهِمْ.
5. الشَّهِيدُ : مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ الأُمُورِ.
6. السَّمِيعُ : "وكثيراً ما يقرن الله بين صفة السمع والبصر فكل من السمع والبصر محيط بجميع متعلقاته الظاهرة ، والباطنة فالسميع الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات، فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرّها وعلنها وكأنها لديه صوت واحد ، لا تختلط عليه الأصوات" (القحطاني).
7. الشَّافِي: هو الشافي من الأمراض والعلل وشفاؤه "نوعان: النوع الأول: الشفاء المعنوي الروحي وهو الشفاء من علل القلوب. النوع الثاني: الشفاء المادي: وهو الشفاء من علل الأبدان" (فالح، 2000م، ص 237).
8. البَصِيرُ: "الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسماوات، حتى أخفى ما يكون فيها فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقتها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك . فسبحان من تحيرت العقول في عظمته، وسعة متعلقات صفاته، وكمال عظمته، ولطفه، وخبرته بالغيب، والشهادة، والحاضر والغائب، ويرى خيانات الأعين وتقلبات الأجفان وحركات الجنان" (القحطاني).
9. ذُو الْجَلالِ: "من أسماء الله الحسنى المضافة. أي: ذو العظمة والكبرياء، وذو الرحمة والجود، والإحسان العام والخاص. المكرم لأوليائه وأصفيائه، الذي يجلونه ، ويعظمونه ويحبونه" (فالح، 2000 م، ص 191). قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وسَلَّم "ألِظُّوا بِيَاذَا الجلالِ والإكرامِ" رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ. أي الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها كما قال النووي في رياض الصالحين. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ " يَا ذَا الْغِنَى الْمُطْلَقِ ، وَالْفَضْلِ التَّامِّ (سبل السَّلام (للصتعاني) كِتَابُ الصَّلاةِ - بَابُ صِفَةِ الصَّلاةِ - اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ).
10. الْوَارِثُ: الباقي الدائم الذي يَرِثُ الخلائقَ، ويبقى بعد فنائهم.
11. الْحَفِيظُ: "لا يَعْزُب عن حفظه الأَشْياءَ كلَّها مِثقال ذرّة في السموات والأَرض، وقد حفِظ على خلقه وعباده ما يعملون من خير أَو شرّ، وقد حفِظ السمواتِ والأَرضَ بقدرته ولا يؤُده حفظهما وهو العليُّ العظيم" (ابن منظور، لسان العرب).
12. القَيُّومُ : الَّذي لا بَدْءَ لَهُ، وَالقَائِمُ بِذَاتِهِ وَلاَ نَظِيرَ لَهُ.
13. الْفَتَّاحُ : هُوَ الَّذِي يَفْتَحُ أَبْوَابَ الرِّزْقِ وَالرَّحْمَةِ لِعِبَادِهِ وَهُوَ الْحَاكِمُ.
14. العَظِيمُ: جَلِيلُ القَدْرِ.
15. الْجَبَّارُ : لذي يجبر الضعيف، والقهار لكل شيء، والعلي على كل شيء. فصار الجبار متضمناً لمعنى الرءوف القهار العلي (انظر القحطاني).
16. العَزِيزُ : الْمَنِيعُ القَادِرُ الَّذِي لاَ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.
17. الْغَنِيُّ : اِسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى الَّذِي لاَ يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ سِوَاهُ فِي شَيْءٍ.
18. الرَّزَّاقُ : (صِيغَةُ فَعَّال لِلْمُبَالَغَةِ) الَّذِي يَرْزُقُ كُلَّ كَائِنٍ حَيٍّ.
19. السَّلامُ: اِسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لِسَلاَمَتِهِ مِنَ النَّقْصِ وَالعَيْبِ وَسِيَادَةِ الطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ ويأتي منه الخير.
20. الْمُتَعَالِ: المستعلي على كل شيء بقدرته وقهره.
21. الْمَلِكُ: الْمَالِكُ الْمُطْلَقُ.
22. الدَّيَّانُ: الحكَم القاضي، والدَّيَّانُ : القَهَّار.
23. الرَّحِيمُ: كَثِيرُ الرَّحْمَةِ.
24. الوَاسِعُ: الَّذِي وَسِعَ رِزْقُهُ جَمِيعَ خَلْقِهِ، وَرَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ.
25. الكَبِيرُ: الأَعْلَى وَالأَسْمَى.
26. القُدُّوسُ: الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ.
27. الغَافِرُ: هُوَ الَّذِي يَعْفُو.
28. البَرُّ: العَطوفُ على خَلْقِهِ.
29. الصَّمَدُ : عَظِيمُ الْجَلاَلَةِ، الدَّائِمُ الْخَالِدُ والرفيعُ. والصّمَد السَّيِّدُ لأَنَّهُ يُقْصَدُ لقضاء الحاجات.
30. المُقِيتُ: هو الحافِظُ للشّيءِ، الشاهد لَهُ، المُقْتدرُ.(243/3)
31. الْمُهَيْمِنُ: الْمُؤْتَمَنُ الْمُسَيْطِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْحَافِظُ لَهُ.
32. الحَلِيمُ: " الذي يَدِرُّ على خلقه النعم الظاهرة والباطنة ، مع معاصيهم وكثرة زلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم" (القحطاني) ، ويقوم بإمهال العاصي وتأخير العقوبة عن العاصين.
33. الشَّكُورُ: الْمُثِيبُ الْمُنْعِمُ "ويزكو عنده القليلُ من أَعمال العباد فيضاعف لهم الجزاء، وشُكْرُه لعباده: مغفرته لهم. والشُّكر مثل الحَمْد، إلاَّ أنَّ الحمدَ أعمُّ منه، فإنك تَحْمَد الإنسانَ على صِفاَته الجميلة، وعلى مَعْرُوفه، ولا تشكره إلاَّ على مَعْرُوفه دُون صِفاَتِه. والشكرُ: مُقابَلةُ النِّعمَة بالقَول والفِعل والنيَّة، فيُثْنِى على المُنْعم بلِسانه، ويُذِيب نَفْسه في طاعتِه، ويَعْتَقِد أنه مُولِيها" (انظر لسان العرب لابن منظور).
قال تعالى {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (الحديد: 3). قال سعيد القحطاني شارحا الآية السابقة "هذه الأسماء الأربعة المباركة قد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً جامعاً واضحاً فقال يخاطب ربه : (( اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء)) (رواه مسلم)، ففسر كل اسم بمعناه العظيم ، ونفى عنه ما يضاده وينافيه . فتدبَّر هذه المعاني الجليلة الدالّة على تفرد الرب العظيم بالكمال المطلق والإحاطة المطلقة الزمانية في قوله ( الأول والآخر ) والمكانية في ( الظاهر والباطن ). فالأول يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن ، ويوجب للعبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية، إذ السبب والمسبب منه تعالى . والآخر يدل على أنه هو الغاية ، والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بتألهها، ورغبتها، ورهبتها، وجميع مطالبها ، ( والظاهر ) يدل على عظمة صفاته واضمحلال كل شيء عند عظمته من ذوات وصفات على علوه ، (والباطن ) يدل على إطلاعه على السرائر ، والضمائر، والخبايا، والخفايا، ودقائق الأشياء، كما يدل على كمال قربه ودنوه . ولا يتنافى الظاهر والباطن لأن الله ليس كمثله شيء في كل النعوت" .
الأَبْعَاد التَّرْبِويَةِ لفهم الأَسْمَاءِ الْحُسْنَى
· المساهمة في تعميق وتجديد الإيمان وتصفيته من ران الغفلة وأدران التسويف والجهل. ومِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَيْضًا "أَنَّ وَصْف أَسْمَائِهِ تَعَالَى بِالْحُسْنَى بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ صِفَاتِ الْجَلالِ وَالْعَظَمَةِ إذْ لا حُسْنَ يُوَازِيهَا وَلا جَمَالَ يُدَانِيهَا" (النَّفْرَاوِيُّ) .
· الاقتراب من فهم معاني القرآن الكريم فمن يَقْرَأ الْقُرْآنَ حَتَّى يَخْتِمَهُ يَسْتَوْفِي هَذِهِ الأَسْمَاءَ فِي أَضْعَافِ التِّلاوَةِ فيمر عليها ويحتاج إلى تدبرها.
· من أصل الفطرة للمؤمن الفَطن أن يزكي روحه، ويحمي نفسه، ويقترب من ربه، والأسماء الحسنى خير زاد لهذه الغاية السامية. "والفطرة تعني قابلية النفس لتلقي عقيدة التوحيد وحده" (الغزالي، 1997، نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، ص 117). قال الشاعر محمد القولي:
شَهِدَ الوُجُودُ بأَنَّ رَبِّي وَاحِدُ واَسْتَنْطَقَتْهُ وَأَيَّدتْهُ شَوَاهِدُ
يَا وَاحِدَاً فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ أَنْتَ الكَبِيرُ المُسْتَعَانُ الوَاحِدُ
· التدبر في عظمة الله سبحانه وتعالى. ومن أسباب الإيمان ودواعيه : "التفكر في الكون : في خلق السماوات والأرض ، وما فيهن من المخلوقات المتنوعة ، والنظر في نفس الإنسان وما هو عليه من الصفات ، فإن ذلك داعٍ قويٍّ للإيمان ، لما في هذه الموجودات من عظمة الخلق الدال على قدرة خالقها وعظمته وما فيها من الحسن والانتظام والإحكام الدال على سعة علم الله وشمول حكمته . وكذلك النظر إلى المخلوقات كلها ، واضطرارها إلى ربها من كل الوجوه ، وأنها لا تستغني عن الله طرفة عين .. وذلك يوجب للعبد كمال الخضوع. ويوجب له قوة التوكل على الله ، وشدة الطمع في بره ، وإحسانه. وبهذا يتحقق الإيمان ويقوى. وكذلك التفكر في كثرة نعم الله التي لا يخلو منها مخلوق طرفة عين" (القحطاني، باختصار).(243/4)
· استخدام الأسماء في حال الدعاء والمناجاة. "اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مُسْتَحَبٌّ لأَيِّ شَأْنٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }. وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ يَتَوَسَّلُ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسْمَائِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ مِنْهَا : حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ : يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ } وَمِنْهَا : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَك ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِك ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِك ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي ، وَنُورَ بَصَرِي ، وَجَلاءَ حُزْنِي ، وَذَهَابَ هَمِّي }" (الموسوعة الْفِقْهِيَّةِ - حرف التاء - تَوَسُّلٌ). قال الأستاذ الشيخ محمد الغزالي (1997م) "ولا شك أن الكمال والمجد والغني لله وحده، ونحن عند الحيرة ندعو الهادي، وعند الظلمة ندعو النور وعند الحاجة ندعو الغني ، أما المقطوعون عن الله فهم يدعون غيره ، أو يجهلون قدرة فهم ملحدون في أسمائه محجوبون عن ذاته!." "وليس هذا الذكر حركة لسان مع غفلة قلب وشرود ذهن. إن الذكر وعي مكتمل وهو من وظائف العقل قبل كل شيء ...وبهذا الذكر ينتظم المؤمن العابد مع الكون كله، وهو يسبح بحمد ربه" (ص 123، 125، نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم).
· حمد الله سبحانه عَلَى نِعَمِهِ الظَّاهِرَة وَالْبَاطِنَة.
· التخلق بالصفات المحمودة للعبد كالكرم والرحمة والستر. "وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : طَرِيقُ الْعَمَلِ بِهَا أَنَّ مَا كَانَ يَسُوغُ الاقْتِدَاءُ بِهِ كَالرَّحِيمِ وَالْكَرِيمِ فَيُمَرِّنُ الْعَبْدُ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يَصِحَّ لَهُ الاتِّصَافُ بِهَا ، وَمَا كَانَ يَخْتَصُّ بِهِ نَفْسَهُ كَالْجَبَّارِ وَالْعَظِيمِ فَعَلَى الْعَبْدِ الإِقْرَارُ بِهَا وَالْخُضُوعُ لَهَا وَعَدَمُ التَّحَلِّي بِصِفَةٍ مِنْهَا ، وَمَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْوَعْدِ يَقِفُ فِيهِ عِنْدَ الطَّمَعِ وَالرَّغْبَةِ ، وَمَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْوَعِيدِ يَقِفُ مِنْهُ عِنْدَ الْخَشْيَةِ وَالرَّهْبَةِ" (الصنعاني). "ومن علم أن الله سميع بصير استحي من ربه وتأدب معه بدوام المراقبة ومطالبة النفس بدقيق المحاسبة فلا يستهين بنظر الله إليه وإطلاعه عليه" (أدهمي، 1999 م، ص 63-64).
· إعمال العقل وتنمية مهارات التفكير والتحليل والاستنباط والبحث. وفي الحديث "تَفَكَّرُوا فِي آلاء الله، و لا تفكروا في الله عز و جل ". قال العلماء "أي تأمّلوا أَيْ فِي سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالتَّفَكُّرِ فِي دَوَرَانِ الْفُلْكِ وَارْتِفَاعِ هَذَا السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ بِغَيْرِ عَمَدٍ وَمَجَارِي هَذِهِ الْبِحَارِ وَالأَنْهَارِ. وتَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ كَالسَّمَوَاتِ بِكَوَاكِبِهَا وَحَرَكَتِهَا وَدَوَرَانِهَا فِي طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَالأَرْضِ بِمَا فِيهَا مِنْ جِبَالِهَا وَمَعَادِنِهَا وَأَنْهَارِهَا وَبِحَارِهَا وَحَيَوَانَاتِهَا وَنَبَاتِهَا وَمَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْجَوُّ بِغُيُومِهِ وَأَمْطَارِهِ وَرَعْدِهِ وَبَرْقِهِ وَصَوَاعِقِهِ فَلا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ مِنْهُ إلا وَلِلَّهِ تَعَالَى أُلُوفٌ مِنْ الْحِكْمَةِ فِيهَا شَاهِدَةٌ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ دَالَّةٌ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ. وَفِي النَّصَائِحِ: امْلأْ عَيْنَيْك مِنْ زِينَةِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ وَأَجْلِهِمَا فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْعَجَائِبِ مُتَفَكِّرًا فِي قُدْرَةِ مُقَدِّرِهَا .. " . وقَالَ الْغَزَالِيُّ لا عِبَادَةَ إلا بِتَفَكُّرٍ .. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفَكُّرَ قَائِدُ الإِنْسَانِ إلَى الْخَيْرِ وَدَلِيلُهُ إذَا كَانَ صَحِيحًا " (الخادمي، باختصار وتصرف). وقال الجنيد: أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد.
· الاعتماد على الله وحده وتوثيق الصلة به دائما.
· الأنس بالذكر والتسبيح، والسعادة بالقرب من الله سبحانه.
· المحافظة على نعم الله كالمياه والأشجار والأنعام والطيور ورعايتها .
· تكوين شخصية سوية متزنة تتمتع بالصحة النفسية وتستلهم طاقاتها وإبداعاتها ومسيرتها من عبادة الله الواحد الأحد.
· تنمية الذكاء اللغوي واكتساب المعاني الرفيعة، وتذوق لطائفها، وتوسيع نطاق المعرفة.(243/5)
· المساهمة في تثقيف المجتمع ثقافة إيمانية تكفل له التماسك والتكافل من خلال تطبيق معاني الرحمة والستر والعدل والتوكل على الله تعالى.
· تنويع الطرق التعليمية في معرفة صفات الله سبحانه وتعالى.
· تنزيه الخالق سبحانه من النقص فليس كمثله شيء. قال تعالى {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (سورة الشورى : 11).
· كلما عرف المؤمن أسماء وصفات الحق سبحانه، انشرح صدره وأدرك عجز البشر فازداد تواضعا للعباد، وخضوعا للخالق، وطلبا للعلم. قال تعالى {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } (طه114).
الأدب مع الأسماء الحسنى ومن الأمور المكروهة في هذا المقال كثرة القسم بالله وأسمائه لغير حاجة واضحة وبلا مصلحة راجحة. ولا بد أيضا من تعظيم أسماء الله تعالى وتجنب ذكرها في أماكن ومواقف لا تليق بجلالتها. قال تعالى {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ }، (سورة الحج: 32).
من الأدب أن لا نستغل اسم الله سبحانه لتصريف بضاعة وترغيب الناس في الشراء ولهذا يجب أن نتجنب إقحام اسم الله في مواضع لا تليق وفي الحديث النبوي الشريف "الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلرِّبْحِ"، وفي رواية "إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ". (صحيح مسلم بشرح النووي، للإمام محي الدين بن شرف النووي، تتمَّة كتاب المساقاة والمزارعة: باب النَّهي عن الحلف في البيع). ومن آفَاتِ اللِّسَانِ كَثْرَةُ الْحَلِفِ وَلَوْ عَلَى الصِّدْقِ لأنه سلوك غير لاق" وَانْتِهَاك حُرْمَةِ الْقَسَمِ وَاعْتِيَادِ اللِسَانِ عَلَى ذَلِكَ وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا حَلَفْت لا صَادِقًا وَلا كَاذِبًا" (الخادمي بتصرف يسير).
"قَالَ الطَّبَرِيُّ : إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ - أَدَّبَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَعْلِيمِهِ ذِكْرَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى أَمَامَ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ ، وَجَعَلَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ سُنَّةً يَسْتَنُّونَ بِهَا ، وَسَبِيلاً يَتَّبِعُونَهُ عَلَيْهَا ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إذَا افْتَتَحَ تَالِيًا سُورَةً ، يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ مُرَادَهُ أَقْرَأُ بِاسْمِ اللَّهِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأَفْعَالِ " (الموسوعة الْفِقْهِيَّةِ - حرف الْبَاءِ - بَسْمَلَةٌ). ولأن الهدي النبوي مِثَال يُحْتَذَى بِهِ نجد المشاريع الفكرية وغيرها تبدأ بالحمد والثناء فكتب العلماء كتبهم على هذه الشاكلة وفيما يلي مثال على ذلك من كتاب المستصفى للغزالي حيث جاءت الصفحة الأولى متألقة بالصفات العلى والأسماء الحسنى كمن مَدَّ نَظَرَهُ إِلَى الآفَاقِ طالبا من الله المَدَد والعَوْن: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الْقَوِيِّ الْقَادِرِ ، الْوَلِيِّ النَّاصِرِ ، اللَّطِيفِ الْقَاهِرِ ، الْمُنْتَقِمِ الْغَافِرِ ، الْبَاطِنِ الظَّاهِرِ ، الأَوَّلِ الآخِرِ الَّذِي جَعَلَ الْعَقْلَ أَرْجَحَ الْكُنُوزِ وَالذَّخَائِرِ ، وَالْعِلْمَ أَرْبَحَ الْمَكَاسِبِ وَالْمَتَاجِرِ ، وَأَشْرَفَ الْمَعَالِي وَالْمَفَاخِرِ ، وَأَكْرَمَ الْمَحَامِدِ وَالْمَآثِرِ وَأَحْمَدَ الْمَوَارِدِ وَالْمَصَادِرِ ؛ فَشَرُفَتْ بِإِثْبَاتِهِ الأَقْلامُ وَالْمَحَابِرُ ، وَتَزَيَّنَتْ بِسَمَاعِهِ الْمَحَارِيبُ وَالْمَنَابِرُ ، وَتَحَلَّتْ بِرُقُومِهِ الأَوْرَاقُ وَالدَّفَاتِرُ ، وَتَقَدَّمَ بِشَرَفِهِ الأَصَاغِرُ عَلَى الأَكَابِرِ ، وَاسْتَضَاءَتْ بِبَهَائِهِ الأَسْرَارُ وَالضَّمَائِرُ ، وَتَنَوَّرَتْ بِأَنْوَارِهِ الْقُلُوبُ وَالْبَصَائِرُ ".
الإيمان قوة محركة نحو العمل لا الكسل إن تناول الأسماء الحسنى من منظور تربوي عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ مِنَ الأهَمِّيَّةِ كي نصل إلى سلوك قويم، ونحصل على إيمان لا يتزعزع. قالَ محمد إقبال:
إذا الإيمانُ ضاعَ فلا أمانٌ ولا دنيا لمنْ لمْ يحيِ دينا
"إن غرس الرقابة في النفوس عبر تعريف العباد بصفات الله ، هي الضمان لبناء النفسية الإسلامية الأصيلة، التي تخاف الله وتخشاه، فلا تمتد اليد إلى الحرام ، ولا تنظر العين إلى الحرام، وإذا دخل الحرام جيب التقي رآه كالثعبان الذي أدخله في جيب قميصه، لا يهدأ له بال حتى يتخلص منه، وقد يزيد عليه كفارة لذنبه" (الأشقر، 2004م، ص 171).
قال أبو نُوّاس (146 - 198 هـ / 763 - 813 م):
رَحِمَ اللَهُ مُسلِماً ذَكَرَ اللَهَ فَاِزدَجَر
غَفَرَ اللَهُ ذَنبَ مَن خافَ فَاِستَشعَرَ الحَذَر(243/6)
وإذا التفتنا إلى حال فئة من المسلمين فإن الغلو في الذكر والتسبيح والتعبد أوجد ثقافة هشة تتخذ من الذكر ستارا للكسل والهروب من مسئولية تعمير الأرض، ومباشرة نشر الخير، وإعمال الرأي وهذا ينافي الإسلام ويجافي عقيدته السمحة التي جاءت لنهضة القلوب ويقظة العقول وتعميرها بأنوار العزيمة والصبر والعلم النافع والعمل الصالح والإيمان الراسخ.
إن التدين الكاذب ربط ذكر الله بالخمول والطلاسم ... رغم أن الذكر في حقيقته يسير عكس ذلك تماما فذكر الله بأسمائه الحسنى تحرير للعقل والقلب من الوهم والتصورات القاصرة كما أن المتشبث بالذكر الصحيح لا يستسيغ فكرة تغييب العقل والإغراق في مصطلحات تفسد صفاء الدين وبهاء التوحيد.
تشير نتائج الدراسات إلى أن الكثير من المدارس في الأقطار الإسلامية في الماضي " اهتمت بالعلوم الشرعية وخصوصاً القرآن الكريم ولم يكن منها للمهن المختلفة وهذا يعني عدم معرفة مقاصد الدين الإسلامي الذي ربط الدين بالحياة، والدنيا بالآخرة " (الحجار، 2003 م). مع الإسلام دين عمل ونشاط وتعمير.
الله سبحانه هو الْعَلِيمُ الذي أعلى من شأن العلم حتى قال الشافعي العلم نور ثم ها نحن نعيش في دياجير الظلمة بعيدا عن التنافس الحضاري بين الأمم المتمدنة.
يقول حاج محمد النخعي هو أحد رموز العمل الإسلامي، ويرأس مؤسسة الدعوة الإسلامية الماليزية "وحين كنت أقرأ في التراث تعجبت من وجود مجلدات عن العبادات الخاصة من الطهارة والصلاة والزواج.. ولم تكن هناك كتب متوفرة عن الحضارات والعلوم الإنسانية والكونية.. لقد ركزوا اهتمامهم على الاستعداد للموت دون الاستعداد للحياة".
إن الإيمان الخالص قوة عظمى لإنتاج الخير بكل صنوفه ولهذا فإن الإسلام يرفض تلك الاحتفالات الدينية التي تتخذ من الذكر والتسبيح والتهليل سلعة لتخدير العقول وعزلها عن الإبداع الثقافي والشهود الحضاري. والإسلام يوجه الأنظار والأفكار معا نحو الإحسان إلى الناس جميعا، فخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ كما في الحديث النبوي الشريف، فكل مجهود يبذله الإنسان لتحصيل منفعة مشروعة للآخرين هو عمل نبيل يحبه الله إذا كان مخلصا.
"وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ إلَى الْغَيْرِ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرَةِ ؛ لأَنَّ خَيْرَ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ فِي الْهِدَايَة إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَالتَّعْلِيمِ لِمَا يُصْلِحُهُمْ ، وَالْعَطْفِ عَلَيْهِمْ ، وَالتَّرَحُّمِ ، وَالإِنْفَاقِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِ الْخَلْقِ وَنَفْعِهِمْ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ عِلْمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ إشَارَةٍ أَوْ نُصْحٍ أَوْ دَلالَةٍ عَلَى خَيْرٍ أَوْ إعَانَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ وَغَيْرِهَا مِنْ الإِحْسَانَاتِ الأُخْرَوِيَّةِ ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ ، " (الخادمي، باختصار وتصرف). وَقَالَ الشافعي ": طَلَبُ العِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةِ النَّافلَةِ" (الذهبي).
إن مجالس الذكر الحقة هي التي تشحن الناس بالطاقة لحب الله والإحسان لمخلوقاته وتقديم صورة براقة عن الدين الذي أعلى من شأن التقدم والتنوير والتفكير والتدبير وأعطى الإنسان قدرة عظيمة للإحسان. قال أبو العَتاهِيَة (130 - 211 هـ / 747 - 826 م):
الخَلقُ كُلُهُمُ عِيا لُ اللَهِ تَحتَ ظِلالِهِ
فَأَحَبُّهُم طُرّاً إِلَي هِ أَبَرُّهُم بِعِيالِهِ
إن التدين المنحرف أنتج فئة من المسلمين تتصرف بتَعَسّف دونَ تَفْكِيرٍ وَلاَ رَوِيَّةٍ، ومغرمة بالرقص من أجل الفناء في ذات الإله والسكر في حبه كما يزعمون في رموز الخمريات الصوفية فاستحدث الأولياء كما يقولون فكرة إحياء الموالد، وتجديد الأحزان، وترديد أسماء الله تعالى عند القبور وغيرها بطريقة لا تخلو من العقد النفسية، والتجاوزات الدينية لتزيد الناس بؤسا على بؤس مما يقودهم إلى مأزق الهروب من التبصر بواقعهم الأليم الذي يعج بالأمية ، والأمراض، والفقر، والبدع، والتلوث وَاتَّبَعُوا في ذلك كله مَن لَّمْ يَزِدْهُ فكره وعمله إِلا خَسَاراً وَاِنْسِحاباً.
لما نصر على أن نكون مع زمرة الذين قيل عنهم "وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ" (البقرة102). إن الأمية بكافة أنواعها مصيبة وعندما نبررها باسم العبادة ونمارسها طواعية - بلا خجل أو وجل- تكون المصيبة أعظم لأنها أصابت الجذور.(243/7)
ونجد في كتاب عن محراب الحب الإلهي أن حديثا نبويا يقول "اتركوا الدنيا لأهلها..." أبمثل هذه الأحاديث - ننشرها في القرن الواحد العشرين - نعالج جهلنا ، ونحقق رسالتنا، ونتعبد ربنا؟ الرؤية الإسلامية المركزية تحث على توحيد الله وترسيخ القوة العلمية والثقافية والاقتصادية. والزهد أن نضع المال بأيدينا لنصرفها في وجوه الخير ولا نجعل لها سبيلا كي تتحكم في قلوبنا ... الزهد أن نكون مجتمعا قويا لا يفصل العلم عن الإيمان ... يتجلى حب الله في إخلاص العمل في البيت والمدرسة والمسجد والمعمل والمزرعة وتكفينا "الخمريات" التي ورثت العزلة والغفلة والضعف تحت اسم الدين! لا ننكر دور التصوف الصحيح في تزكية النفس ولكن الأمة اليوم تحتاج إلى جناحين لتطير عبادة صحيحة وعمل متقن. يريد البعض أن يتخذ من الأسماء الحسنى مدخلا لتخدير العقول وإحياء الليالي بخمريات خيالية خالية من تمكين المسلم في عالم الواقع، وأرض الحقيقة مما يعني ترسيخ أكبر وأعمق لمعاني الفقر والجهل والمرض والظلم في حياتنا العربية التي تئن من أصفاد التيه وأغلال الضياع.
ولا زالت الأساطير الواهنة عن الولي الذي يَمْشِي عَلَى المَاءِ، وفِي الهَوَاءِ تستحوذ بشكل أو بآخر على أذهان البسطاء رغم تغير الصفات والمسميات إلا أن العقلية الخرافية مازالت حاضرة. والكتب التي تبحث عن طعام الجن والأحلام تحقق رواجا واكتساحا في حين أن الأبحاث المعمقة والدراسات الأصيلة كاسدة لا يلتفت إليها إلا الندرة من أصحاب النفوس الراجحة المتحررة. من المؤلم حقا إقحام الدين في نشر تلك العقد الدفينة التي أخفقت الحركات الإصلاحية في وقف تفاقمها وعلاج آثارها الخطيرة بين أوساط الخاصة والعامة رغم أننا نعيش في عصر حقق العقل نصرا مؤزرا في ميادين شتى في دول الغرب.
" فالمسلمون ليسوا بحاجة ، لكي يستعيدوا فاعليتهم ، إلى تكوين الدين من جديد أو تجديد الدين ذاته ، لكنهم في حاجة إلى الوعي المعرفي والمنهجي ، الذي يمكنهم من توليد الإرادة والقدرة والعزيمة والفاعلية لتجديد مناهج الفهم وفقه التدين وإلى قدرة على تقويم مسيرة حياتهم العملية والسلوكية بأفكار قائمة على القاعدة العقدية ومصادر التدين (العلواني، 1998 م، ص 5).
يقول محمد الغزالي (2000م) في كتابه فقه السيرة وهو يحلل "مسالك المسلمين اليوم "إنَّ المدرس الذي ينشغل عن تعليم تلامذته، والتاجر الذي ينشغل عن تثمير ثروته، والموظف الذي ينشغل عن أداء عمله، لا يقبل الله من أحدهم عذراً أبداً في تضييع هذه الفرائض، ولو كان أحدهم قد عاقه عن واجبه أنه صلى مائة ركعة، أو قرأ ألف آية، أو عدَّ أسماء الله الحسنى سبعين ألف مرة، كما يفعل جهّال المتصوفة. ذلك أنه انشغال عن الفرائض المطلوبة بنوافل لم تطلب، وتعطيل لأمة يستحيل أن تنهض إلا إذا أجهدت نفسها في محاربة جهلها وفقرها وفوضاها.
ذلك أنه انشغال عن الفرائض المطلوبة بنوافل لم تطلب، وتعطيل لأمة يستحيل أن تنهض إلا إذا أجهدت نفسها في محاربة جهلها وفقرها وفوضاها" (ص 240).
وثمة طائفة أخرى وقعت في فخ التطرف أيضا حيث يريد العلمانيون إقصاء الدين تماما عن شئون الحياة ويعملون على حصر مفهوم الذكر والتسبيح في المساجد مع أن آثار الذكر والتهليل والتسبيح يجب أن تمد إلى حياة المسلم قولا وفعلا فالله العادل يحب أن يرى مظاهر العدل في كل مكان، والله العليم السميع الخبير يحب أن يتشبث العباد بمقتضيات هذا الإيمان في حياة الإنسان لينعم بالأمان وتصبح التقوى شعار المواطن، والعامل، والمسئول، والوزير والأمير. ذلك المنحى يتطلب أن نتَّخَذَ تَدابِيرَ صَارِمَةً وإِجْرَاءاتٍ لازمة لوقاية النشء من شقاوة الشرك وهاوية الإلحاد ، وحَمْأةِ الرَّذِيلَةِ. إن غرس رقابة الله في حس الناشئة وغيرهم أساس البناء القيمي الصحيح الذي يتحرى الخير ويتصدى للانحراف.
أطفالنا والأسماء الحسنى
1. تعليمهم وتعويدهم على حفظ الأدعية القصيرة التي تعطيهم القوة وأن الله وحده هو الحافظ. قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ في صَباحِ كُلّ يَوْمٍ وَمَساءِ كُلّ لَيْلَةٍ، باسْمِ اللَّهِ الَّذي لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا في السَّماءِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيم، ثَلاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَضُرَّه شَيْءٌ" (رواه الترمذي). من المؤسف أن يعتقد الآباء أن تخويف الطفل قبل نومه بأسماء حيوانات مخيفة وخيالية وسيلة مقبولة. إن الباحث في موروثاتنا الشعبية سيجد الكثير من الأسماء التي استخدمت لهذا الغرض فيقولون "حَكَتْ لَهُ جَدَّتُهُ قِصَّةَ الْغُولِ والْغُولِ حَيَوَانٌ خُرَافِيٌّ لاَ وُجُودَ لَهُ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَظْهَرُ للِنَّاسِ لَيْلاً فَيُهْلِكُهُمْ" (المعجم الوسيط بتصرف).(243/8)
2. التذكير بالله سبحانه لِتَسْكِينِ الغضب فنذكرهم بأن الله عفوا يحب العفو. يقول الماوردي (ت 450هـ = 1058 م) "وَاعْلَمْ أَنَّ لِتَسْكِينِ الْغَضَبِ إذَا هَجَمَ أَسْبَابًا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى الْحِلْمِ مِنْهَا : أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَدْعُوهُ ذَلِكَ إلَى الْخَوْفِ مِنْهُ ، وَيَبْعَثُهُ الْخَوْفُ مِنْهُ عَلَى الطَّاعَةِ لَهُ ، فَيَرْجِعُ إلَى أَدَبِهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَزُولُ الْغَضَبُ (أَدَبُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ - الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ - الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الْحُلْم وَالْغَضَب، باختصار).
3. انتقاء الأوقات اللائقة للتحدث عن آلاء الله التي تَتْرَى، ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. ولعل رؤية البرق ، وسماع الصَّوْت الْمُدَوِّيّ للرَّعْد إذا هَطَلَ الْمَطَرُ من الآيات الحية التي تستحق وقفات التأمل ، وجلسات الاستمتاع، وكلمات الثناء.
4. يقول عبدالله محمد عبدالمعطي (2000م) "فإن من المهم أن نربي أطفالنا على الحياة في رحاب أسماء الله الحسنى، يفهمون معانيها، ويدركون مراميها، ويعيشون في أنوارها، ويدورن في فلكها...ولكي يتحقق ذلك فإن من الواجب علينا أن نحسن الأخذ بيد الطفل نحو التعرف على أسماء الله الحسنى ، وخير ما يساعدنا على ذلك هو "المسرح المنزلي"، حيث يمكننا أن نقدم هذه الأسماء الحسنى في ثوب قصصي جميل يستهوي قلبه، وينشط عقله، ويزيد فهمه" (ص 321-322)، ولقد قام المؤلف بتقديم ثلاث نماذج للقصة في المسرح المنزلي ونعتقد أن المسرح المدرسي أيضا يمكنه الإفادة من هذه الوسيلة النافعة.
5. التأكيد على مفاهيم العفو والتسامح لا سيما بين الأشقاء كي يعاملنا الله على ذلك المنوال الرحيم. قال تعالى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (سورة النور: 22). وَيُسْتَحَبُّ قَوْل اللَّهُمَّ إنَّك عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ...
6. أن نكون قدوة أمامهم فنعظم شعائر الله وندعوه سبحانه ولا تتعلق قلوبنا بغيره وتردد ألسنتنا الأسماء الحسنى سائلة الراحة والطمأنينة. قال تعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } (الرعد: 28).
7. عندما نتناول الدواء دائما نؤكد على أنه سبب وأن الله سبحانه هو الشافي وهو رب الناس الذي يعافيهم وفي الحديث الصحيح " { أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي ، لا شَافِيَ إلا أَنْتَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا }. وفي الذكر الحكيم {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } (الشعراء: 80).
8. نعودهم على الصدقة عمليا لأن الله سبحانه هو الكريم ويحب الكرماء ورحيم يحب الرحماء كما أن نبينا عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ هو نبي الرحمة أَرْسَله الله رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ فعُرِفَ بِعَطَائِهِ للفقراء وَسَخَائِهِ للمساكين.
9. تعويده كلما لاحت الفرصة على السعي والتوكل الكامل عليه سبحانه وأن الله الرزاق يرزق الطيور ولكن عليها أولا أن تخرج بحثا عن الرزق. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : {لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا}. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ التَّوَكُّلَ يَكُونُ مَعَ السَّعْيِ ؛ لأَنَّهُ ذَكَرَ لِلطَّيْرِ عَمَلا وَهُوَ الذَّهَابُ صَبَاحًا فِي طَلَبِ الرِّزْقِ ، وَهِيَ فَارِغَةُ الْبُطُونِ ، وَالرُّجُوعُ وَهِيَ مُمْتَلِئَتُهَا . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لا يَقْعُدُ أَحَدُكُمْ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّمَاءَ لا تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلا فِضَّةً (انظر: الموسوعة الْفِقْهِيَّةِ - حرف التاء - تَوَكُّلٌ).
10. تحبيبهم بالأناشيد والقصص والصور والأفلام التي تحاول تبسيط المعاني الرفيعة في الأسماء الحسنى. من الأناشيد الجميلة التي تبرز المعاني الحميدة ذات الصلة في موضوعنا تلك الأبيات الشعرية للشاعر سليم عبدالقادر (2000م) المتخصص في أدب الأطفال حيث يقول:
نعم أنا الجبل رمز الثبات والأمل
كم جاءن الربيع زهره البديع
وطيره السريع برقة حياني
يظل قلبي ذاكرا لربه وشاكرا
ربا عظيما قادرا هو الذي سواني
نعم أنا الجبل رمز الثبات والأمل(243/9)
11. تشجيع الطفل عل تقدير العنصر الجمالي وحب الطبيعة فالله جميل يحب الجمال والله بديع السموات والأرض. وحب الطبيعة تعني المحافظة على خيراتها، ورعايتها، ودراسة قوانينها كي تكون دائما متألقة ونظيفة تسر الناظرين. "وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرِيمَ ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ ، فَنَظِّفُوا أَفْنَاءَكُمْ وَسَاحَاتِكُمْ .." ولذا قال العلماء وَلِلرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ أَثَرٌ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ فَإِنَّهَا غِذَاءُ الرُّوحِ ، وَالرُّوحُ مَطِيَّةُ الْقُوَى ، وَالْقُوَى تَزْدَادُ بِالطِّيبِ وَهُوَ يَنْفَعُ الأَعْضَاءَ الْبَاطِنَةَ كَالدِّمَاغِ وَالْقَلْبِ وَيَسُرُّ النَّفْسَ ، وَهُوَ أَصْدَقُ شَيْءٍ لِلرُّوحِ وَأَشَدُّهُ مُلاءَمَةً (ابن مفلح ، الآدَاب الشَّرْعِيَّة - فَصْل فِي حُكْمِ التَّدَاوِي مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ - فَصْلٌ فِي الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَفَائِدَتِهَا فِي الصِّحَّةِ).
12. يمكن استخدام أسماء الله الحسنى كأحد مداخل تعليم الطفل اللغة العربية وإثراء حصيلته كتابة ، ونطقا، ومحاورة.
13. تعويد الأطفال دائما على قراءة المعوذتين وآية الكرسي... وتبسيط معانيها وتقريبها. لا مجال في عالم اليوم لفكر الخرافة باسم الإسلام...إن من المهم أن ندرك أن المعوذتين هما في جوهرهما دعاء إلى الله تعالى لتحصين عقل المسلم وقلبه مما وقر فيهما لأي سبب من الأسباب من تدليس المشعوذين أو من الأوهام والأمراض النفسية". المعوذتان نهاية لفكر الخرافة واحتراف الشعوذة (أبو سليمان، 2000م، ص 196، 88).
إن أسماء الله الحسنى قوة حامية ، ونسمة حانية تملأ عقل الطفل شجاعة وحكمة قبل نومه وفي يقظته فيكون موصولا بالله سبحانه.
14. ربط أسماء الله الحسنى بالمهارات الحياتية والآداب الإسلامية فنعلم الأطفال آداب الطعام، وأداء السلام، وتنظيم وإدارة الوقت، وأصول النظافة، وخطوات تحقيق الأمن والسلامة في البيت، والمدرسة، والمرافق العامة،والمنطقة التي يعيشون فيها، وضوابط المزاح واللعب خاصة إذا أذن المؤذن "الله أكبر" ... ويمكن تعليم الحواس الخمس وعمل التجارب التوضيحية لنؤكد على أنها من نعم الله سبحانه وأن المحافظة عليها واجبة، ورعايتها من الأمور المؤكدة التي يحبها الله تعالى ثم يتدرب الأطفال عمليا على طرائق المحافظة على الفم والأسنان والوضوء مع التركيز على التسمية وفوائد هذه الآداب الجليلة والأخلاق النبيلة.
15. التعرف على مخلوقات الله سبحانه التي تدل على عظمته ويمكن تحقيق ذلك باللعب مباشرة ثم غرس القيم بطريقة غير مباشرة كأن نكتب على السبورة أنا أحب مخلوقات الله تعالى ونطلب من أبنائنا تقليد حركة أو صوت المخلوق مثل أن نقول لهم من يقلد صهيل الحصان، وصفير البلبل، وصياح الديك، ومواء القط ، وهبوب الريح، وصوت الرعد وموج البحر...
16. تنمية المهارات الحركية والفنية كالرسم والتصوير وعمل المعارض العلمية التي تستعرض مخلوقات الله وعظمتها. وكذلك الاهتمام بالخطوط العربية لتتفنن في كتابة أسماء الله الحسنى وهذا فن عزيز جم الفوائد وله تاريخه العريق ونتاجه الثمين في جميع المجتمعات الإسلامية عبر القرون. ورد في الموسوعة العربية العالمية (2004 م) "الخط العَرَبِي هو الفن الجميل للكتابة العربية التي ساعدت بنيتها وما تتمتع به من مرونة وطواعية وقابلية للمد والاستدارة والتشابك والتداخل والتركيب، على ارتقاء الخط العربي إلى فن جميل يتميز بقدرته على مسايرة التطورات والخامات... فرأيناه لينًا ينساب برشاقة وغنائية، ورأيناه صلبًا متزنًا يشغل حيزه بجلال يمتد إلى ما حوله، ورأينا الصلابة واللين يتبادلان ويتناغمان فيه. وهو في كل أحواله يشدّ الناظر ويمتعه بجمالياته الخاصة وتجريديته المتميزة التي عرفها بشكل مبكر وراقٍ، مما جعل له مكانة خاصة بين الفنون التشكيلية" (باختصار).
17. تشجيع اليافعين على استخدام التكنولوجيا الحديثة كالحاسب الآلي لنشر معاني أسماء الله الحسنى باللغة العربية وغيرها وبطرائق إبداعية مع رصد الجوائز التشجيعية وتوفير التغطية الإعلامية, والتطوير المستمر لمثل هذه المسابقات الثقافية وتوسيع نطاقها للبنين والبنات.
دور المعلم في بناء المعالم
يضيع دور المعلم إذا كرس حياته لنقل المعلومات، ورصد العلامات، والمباهاة بالدرجات دون أن يلتفت إلى مساعدة المتعلم في نموه الشامل القائم على كسب المهارات الحياتية وتعزيز الثقافة الإيمانية التي تقيه من العلل النفسية والنكبات الاجتماعية، والآفات الفكرية، والمزالق الأخلاقية.(243/10)
وظيفة المعلم إزاء تعميق أسماء الله الحسنى في سلوك الناشئة وظيفة عظيمة فالمعلم الجيد هو الذي يردد ويعدد أمامهم بعض تلك الأسماء ويربطها في عملية حب العلم، ونفع الناس، والعبادة، ورعاية الانجازات البيئية، والثقافية ، والاجتماعية ، والفكرية فتتجلى قوة استثمار الطاقة والموارد كما أراد المولى سبحانه. هذا من شأنه إيجاد العالم المسلم الباحث الذي إذا استعسرت عليه مسألة في مختبره ، أو استشكلت معه قضية علمية اجتهد الاجتهاد كله ولجأ إلى الفتاح العليم الوهاب الرزاق العظيم القوي المعطي كي يرزقه معرفة نافعة، وكذا القاضي والعامل والمزارع والصانع إذ كربه أمر فزع إلى أسماء الله الحسنى يستمد منها الصبر والمدد والفرج والعون والبركة فالله هو الكريم القريب الودود اللطيف الصمد المقيت المجيب العلام الوكيل. ولقد كان سلفنا الصالح يطبق تلك المفاهيم التربوية عمليا فجاءت مشاريعهم الطبية والقانونية والفلكية والجغرافية والتاريخية فتوحات ربانية أفادت البشرية. هكذا كان ابن سينا، وأبناء شاكر، وجابر بن حيان وغيرهم ممن أنجبتهم الحضارة العربية الإسلامية.
يفسد الاستبداد السياسي الحياة المجتمعية ويقلص من فرص الإبداع والانجاز ودور التربية السياسية أن تحد من غلو الفرد وتكبح الأنانية ولا يتحقق ذلك إلا بأفراد يؤمنون بأن الرزق بيد الله وحده وأنه هو لا سواه الجبار القاهر المتكبر وليس لبشر أن يلبس رداء التفرد. الحاكم والمحكوم يحتاجان إلى أخلاق تقيهما من مصارع السوء ومن الآليات الكفيلة بحسن العلاقة بين الطرفين التربية الواعية التي تأخذ بيد الحاكم كي يكون عادلا يصون حريات الناس ولا يهضم حقهم في المشاركة في إدارة شئونهم بالقسط. وكذا المحكوم يكون حليما في كل الأوقات لا سيما في الأزمات ويسعى دائما إلى الله الحكيم العليم الخبير لإصلاح شئونه بالحكمة دون أن يهاب سلطانا أو ملكا أو أميرا فلا يداهنهم في ممارسة الحقوق وأداء الواجبات.
المعلم الناجح يتخذ من أسماء الله الحسنى مستودعا لنشر الآداب الكريمة التي تعطي الحياة فرصا أكبر لمزيد من العدالة والتواضع والتعاون والشراكة الاجتماعية. ويمكن تحقيق ما سبق عبر آليات كثيرة منها:
1.إيجاد الحوافز المشجعة على التحلي بالخصال الحسنة والتنفير من أضدادها.
2.تقويه الوازع الديني والرقابة الذاتية فالذي يستشعر أن الله سبحانه هو الحسيب والرقيب يكون من أبعد الناس عن الغش والكذب والظلم.
3.استفتاح الأعمال الخيرة بالبسملة. كان الصالحون يستفتحون بعبارات كثيرة مقرونة بأسماء الله الحسنى الهادية لكل أمر جليل من مثل قولهم " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ يَا كَرِيمُ". وكذلك الختام يكون بالحمد والثناء.
4.تعويد الطالب على الاستعانة بترديد أسماء الله الحسنى إذا حزبه أمر أو داهمه اليأس وهو يواجه محن الحياة فالإيمان أعظم عاصم يجنبه السوء وينجيه من الهلاك.
5.التنمية الإنسانية بكافة أبعادها الهادفة يحبها الله ويمكن أن نتخذ من أسماء الله الحسنى أساسا لنشر مفاهيم مكافحة الظلم ، والفقر، والجهل ، والإلحاد، والحروب، والأمراض.
6.نشر معاني الخير والعدل والجمال فعَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- قَالَ: " إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). إن المعلمين والمعلمات في التربية الفنية والموسيقية والتدبير المنزلي يستطيعون تحويل المواهب والهوايات إلى مادة مؤثرة للإحساس بالحياة وتحمل المسئولية وتجويد الذوق الرفيع الذي يستمع بنعم الله السمعية والبصرية والحسية... وفي الحَدِيثِ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ }.
7.التذكير بالمعاني الجميلة لأسماء الله الحسنى وربطها بجميع المواد الدراسية الأدبية والعلمية والفنية كي ينظر المتعلم من خلالها النفس، والمجتمع ، والبشرية، والطبيعة.
8.تحبيب المتعلم بالأنس بالدعاء وطلب المَزِيدِ من كَرَمِهِ وَسَابِغِ مِنَّتِهِ في كل أمور الدنيا والآخرة.
9.استغلال القصص والأحداث الجارية لترسيخ متضمنات أسماء الله الحسنى ذات الصلة الوثيقة والدروس الواضحة وتحاشي الإقحام والتصنع والمبالغة فمن يتصنع شيئا لا علاقة له بالأمر قد يقع في عكس ما يرجوه فتضطرب المفاهيم وتستغلق الأذهان، وتضيع الحكم المقصودة. عرض الشيخ محمد الغزالي (1999م) في كتابه ركائز الإيمان قصة أصحاب الجنة المذكورة في سورة القلم ثم علق قائلا "وجمهرة العصاة والمفرطين تقع بين نسيان لله وريبة في وعدة، ولو صدقت معرفتهم، وطلع على نفوسهم شعاع من أسمائه الحسنى ، لتهذب سلوكهم ، وصلح عملهم" (ص 194).(243/11)